كتاب : المعتمد في أصول الفقه
المؤلف : محمد بن علي بن الطيب البصري

ما عداها تحتها نحو الشاهد الواحد لأنه داخل في جملة الشاهدين فقد تقدم القول فيه في تعليق الحكم بالعدد
فأما الصفة إذا علق عليها لفظة إنما وعلق عليها الحكم نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات فقد ذهب بعض الناس إلى أن لفظة إنما تقطع الحكم عما عدا المذكور قالوا لأن المفهوم من قول القائل إنما في الدار زيد أنه ليس فيها سواه ألا ترى أنك إذا قلت هل في الدار غير زيد فقيل لك في الجواب إنما في الدار زيد عقلت من ذلك أنه ليس فيها سواه وقال قوم إن ذلك لا يدل على نفي الحكم عما عدا الصفة لأن لفظة إنما مركبة من إن و ما ولو أن قائلا قال إن زيدا في الدار لم يدل ذلك على أن غيره ليس في الدار فكذلك إذا قال إنما في الدار زيد لأن لفظة ما دخلت في الكلام للتأكيد لا غير هذا هو المحكي عن أهل اللغة
واحتج القائلون بدليل الخطاب بأشياء
منها أن أهل اللغة فرقوا بين الخطاب المطلق والمقيد بصفة كما فرقوا بين الخطاب المرسل وبين الخطاب المقيد بالإستثناء فكما دل الاستثناء على أن حكم المستثنى غير حكم المستثنى منه كذلك تدل الصفة على أن حكم ما عداها بخلاف حكمها والجواب أنا نحن نفرق بين مطلق الخطاب وبين المقيد بالصفة فنقطع على ثبوت الحكم في مطلق الخطاب اختص بصفات أو لم يختص بها ولا نقطع على ثبوت الحكم في الخطاب المقيد بالصفة إلا مع وجود الصفة ونشك في ثبوته مع فقدها وفي مطلق الخطاب لا نشك في ثبوته مع فقدها وقولهم كما فرقوا بين الخطاب المرسل والمقيد بالاستثناء إن عنوا به أنهم فرقوا بين المطلق والمقيد او بين المرسل والمستثنى منه من كل وجه فلا نسلمه وإن أرادوا أنهم فرقوا بين المطلق والمقيد كما فرقوا بين المرسل والمستثنى منه من وجه دون وجه فذلك مسلم ولا يجيء منه ما يريدونه لأن

الخطاب المقيد بالصفة يقتضي ثبوت الحكم مع الصفة ولا يقتضي عما عداها والخطاب المستثنى منه يقتضي ثبوت الحكم فيما لم يتناوله الاستثناء فقد اشتركا من هذه الجهة وإن اختص الخطاب المستثنى منه بوجه زائد وهو الدلالة على انتفاء الحكم عن المستثنى وإنما انفرد بذلك لأن الاستثناء يخرج من الكلام شيئا ويقتضي نفي جكم الكلام عنه والصفة لا تنفي شيئا
ومنها قولهم يجب أن تدل الصفة على انتفاء الحكم عما عداها لتكون أعم لدلالتها والجواب أنه ليس يجب أن يجعل الحكم من مدلول اللفظة لتكثر فوائدها وتعم وإنما يجعل من مدلولنا إذا وضعت له أو وضعت لما يدل عليه مثل فحوى القول ألا ترى أنه لا يجوز أن يجعل قول الله سبحانه اقتلوا المشركين دليلا على قتل غيرهم لتكثر فوائده لما لم يكن ذلك موضوعا لغير المشركين
ومنها قولهم إن الحكيم إذا أتى بكلام عام لأنواع فلم يعلق به الحكم إلا بعد أن قيده بصفة تتناول بعض تلك الأنواع علمنا أن ذلك الحكم لا يعم تلك الأنواع إذا لو عمها لم يكن لتكلف ذكر الصفة فائدة والجواب أنه قد يكون في ذكرها فائدة غير انتفاء الحكم مع عدمها لما ذكرناه فيما تقدم
ومنها قولهم إن المقيد بالصفة يجري مجرى فحوى القول في الدلالة على غير ما تناوله اللفظ فكما دل قوله فلا تقل لهما اف على المنع من ضربهما إن لم يتناوله فكذلك يدل التقييد بالصفة على نفي الحكم مع عدمها والجواب أن هذا قياس بغير علة وأصحابنا يقولون إن قول الله سبحانه فلا تقل لهما أف موضوع للمنع من ضربهما ولا يسلمون أن الخطاب المقيد بالصفة موضوع لنفي الحكم عما عداها ومن قال إن قوله

ولا تقل لهما اف يمنع من ضربهما من جهة قياس الأولى يقول إنه إذا منع من اليسير فالأولى أن يمنع من الكثير وهذا غير قائم في دليل الخطاب لأنه ليس هو استدلال باليسير على الكثير
ومنها قولهم إن الأمة قد فهمت الأحكام من دليل الخطاب لأنها عقلت من قول الله سبحانه فلا تقل لهما اف إيجاب إكرامهما وقالت الصحابة إن قول النبي صلى الله عليه و سلم الماء من الماء منسوخ بقوله إذا التقى الختانان وجب الغسل فلو لم يدل عندها قوله الماء من الماء على نفي الغسل مما سوى الماء لم يجعل ذلك ناسخا لهذا لأنه لا تنافي بينهما وكذلك استدلال أبي بكر رضي الله عنه عن اختصاص قريش بالإمامة لقول النبي صلى الله عليه و سلم الأئمة من قريش واستدلال ابن عباس على أنه لا ربا في النقد لقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الربا في النسيئة والجواب إن وجوب إكرام الأبوين إنما فهم من قول الله سبحانه وقل لهما قولا كريما ولو فهم من قوله فلا تقل لهما أف لم يكن ذلك من قبيل دليل الخطاب لكنه من قبيل دلالة النهي عن الشيء على وجوب ضده وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم الماء من الماء فانه يقتضي ثبوت حسن الغسل وجمعه في الإنزال لأن لام الجنس تستغرق فلا يبقى غسل لغير الإنزال فاذا قال النبي صلى الله عليه و سلم إذا التقى الختانان وجب الغسل كان قد أثبت الغسل فيما نفاه الخطاب الأول وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله الأئمة من قريش يقتضي جعل جملة الأئمة وجميعهم من قريش فلا يبقى إمام من غيرهم فلهذا استدل أبو بكر رضي الله عنه على نفي الإمامة عن الأنصار وكذلك استدل ابن عباس بقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما الربا في النسيئة على أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا ماء إلا من الماء وهذا ينافيه قوله صلى الله عليه و سلم إذا التقى الختانان وجب الغسل فلذلك كان ناسخا

له وروي أيضا لا ربا إلا في النسيئة فلعله إنما نفي الربا في النقد لهذا الخبر
ومنها قولهم إن أبا عبيد القاسم بن سلام قال إن قول النبي صلى الله عليه و سلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يدل على أن لي غير الواجد لا يحل عرضه ولا عقوبته وهذا دليل الخطاب والجواب أن قوله وحده ليس بحجة ولعله إنما أراد أنا نعلم أن غير الواجد لا يحل عرضه وهذا صحيح لأن غير الواجد معذور ولا يحل عقوبة من لا يجد ولأن الأصل حظر العرض والعقوبة فلا تحل إلا لدلالة قالوا وقد روي عن أبي عبيد أنه قال إن قول النبي صلى الله عليه و سلم لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا يدل على أنه إذا لم يمتلىء بالشعر وكان فيه القليل كان مباحا قال ولا ينصرف ذلك إلى هجاء النبي صلى الله عليه و سلم لأن قليل ذلك وكثيره محظور والجواب أن قوله وحده ليس بحجة كما أن قول محمد بن الحسن والشافعي ليس بحجة وإنما عنى النبي صلى الله عليه و سلم بامتلاء القلب من الشعر أن يوجد فيه وحده كما يمتلىء الإناء بالماء إذا وجد الماء وحده في جميعه فيشغله الشعر عن قراءة القرآن والعبادة وهذا تناول هجاء النبي صلى الله عليه و سلم وغيره فأما إذا لم يمتلىء من الشعر فأمره موقوف يجوز أن يكون فيه وجه آخر يقتضي حظره ويجوز أن يقتضي إباحته فهجاء النبي صلى الله عليه و سلم نعلم حظر قليله وكثيره

باب في الأمر الوارد عقيب الامر بحرف عطف وبغير حرف عطف
اعلم أن القائل إذا قال لغيره افعل ثم قال له افعل لم يخل الأمر الثاني إما أن يتناول مثل ما تناوله الأمر الأول أو يتناول ما يخالف ما تناوله الأمر الأول فان تناول ما يخالفه لم يكن شبهة في اقتضائه مأمورا به آخر وهو ضربان أحدهما يصح اجتماعه معه يجب على المأمور فعلهما إما مجتمعين وإما

متفرقين إلا أن يدل دلالة على وجوب الجمع أو وجوب التفريق مثال ذلك قول القائل لغيره صل صم أو صل وصم وأما ما لايصح أن يجتمع مع الأول فضربان أحدهما لا يصح أن يجتمع معه في نفسه نحو الصلاة في مكانين والآخر لا يصح ذلك فيهما من جهة الشريعة نحو الصلاة والصدقة وكلا الضربين لا يصح الأمر بفعلهما مجتمعين ويصح مفترقين
فأما إن تناول الأمر الثاني مثل ما تناول الأول فلا يخلو إما أن يكون ذلك المأمور يصح التزايد فيه أو لا يصح التزايد فيه فان صح التزايد فيه فلا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون غير معطوف على الأول أو معطوفا عليه فان لم يكن معطوفا عليه فعند قاضي القضاة أنه يفيد غير ما يفيده الأول إلا أن تمنع العادة من ذلك أو يرد الأمر الثاني معرفا مثال ما تمنع منه العادة قول القائل لغيره اسقني ماء اسقني ماء فالعادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة في الأكثر ومثال ما يمنع منه التعريف الحاصل بالأمر الثاني قول القائل لغيره صل ركعتين فإنه إذا قال له صل الركعتين انصرف إلى تلك الركعتين لأن لام الجنس تنصرف إلى العهد المذكور ولهذا حمل ابن عباس قول الله سبحانه فان مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا على أن العسر الثاني هو الأول لما ورد معرفا ومثال ما يجري من كلا القسمين قول القائل لغيره صل غدا ركعتين صل غدا ركعتين ادفع إلى زيد درهما ادفع إلى زيد درهما فاستدل قاضي القضاة على أن الأمر الثاني يفيد غير ما يفيده الأول بأن الأمر يفيد الوجوب أو الندب فيجب أن يفيده وإن تقدمه أمر آخر لأنه ليس يتغير صيغة بتقدم أمر آخر
ولقائل أن يقول يفيد وجوب الفعل أو كونه ندبا وخلافنا في هل يفيد وجوب فعل آخر أم لا وليس في ظاهره أنه يفيد غير ما افاده الأول فان قيل الأمر الثاني لو انفرد لوجب الفعل لأجله فيجب ذلك وإن تقدمه أمر

آخر وإذا وجب الفعل لأجله لم يكن ذلك الفعل هو الذي تناوله الأمر الأول لأنه لو تناوله الأول لوجب لأجل الأول
ولقائل أن يقول إذا أردتم بقولكم يجب الفعل لأجله أنه دليل على وجوب الفعل فكذلك نقول وذلك لا يمنع من أن يجب لأجل دليل آخر وإن أردتم أنه لو انفرد الأمر لوجب الفعل لأجله لا لأجل الأمر الأول فصحيح غير أن يكون الفعل واجبا لا لأجل أمر آخر ليس هو من فائدة الأمر حتى يلزم أن يقتضيه وإن تقدمه أمر آخر لكن إنما يلزم ذلك لفقد أمر سواه وهذا قائم في مسألتنا
واستدل أيضا بأن المعقول من الأمر الثاني في الشاهد مأمور ثان وهذه دعوى لا يسلمها الخصم واستدل أيضا بأن الظاهر من تغاير الألفاظ تغاير المعنى وللخصم أن يمنع من ذلك فان قالوا إنما كان هذا هو الظاهر ليكون للكلام الثاني فائدة قيل فذلك رجوع إلى دليل آخر سنذكره
ويمكن أن يستدل في المسألة فيقال إن الغرض بالأمر هو استدعاء الفعل لأنه هو المطابق لصيغته فلا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون فعل لاستدعاء الفعل الأول أو لغيره فان فعل للاستدعاء الأول فقد فعل الغرض ما قد حصل بالأول وذلك عبث فوجب حمله على فعل آخر فان قيل ما أنكرتم أن يكون الغرض تأكيد الحث على الفعل واستدعائه قيل ليس في ظاهره التأكيد وإنما في ظاهره الفعل فحمله على التأكيد حمل على غير ظاهره فان قالوا وليس في ظاهره فعل ثان كما ليس في ظاهره التأكيد قيل نحن إذا حملناه على فعل ثان فقد حملناه على الفعل وذلك في ظاهره ولقائل أن يقول ونحن إذا حملناه على التأكيد فانا نحمله على فعل ايضا وبالجملة كل منا يحمله على فعل فأنتم تريدون فيه أن يكون الفعل ثانيا ونحن نريد فيه التأكيد وليس واحد منهما في ظاهر الأمر والأشبه أن يقال في ذلك بالوقف
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول فأنه إن لم يكن معرفا فانه

يفيد غير ما يفيده الأول لأن الشيء لا يعطف على نفسه ولا يجمع بينه وبين نفسه مثاله أن يقول القائل لغيره صل ركعتين صل ركعتين وقوله اسقني ماء واسقني ماء لأن الإنسان قد يقول ذلك إذا كان الإناء الذي يشرب فيه لا يكفيه دفعة واحدة ويخالف ذلك إذا لم يعطف الأمر الثاني على الأول لما ذكرناه من حرف العطف فأما إن كان الأمر الثاني معطوفا على الأول ومعرفا نحو قول القائل لغيره صل ركعتين وصل الصلاة فلقائل أن يقول يجب حمله على تلك الصلاة لأجل لام التعريف ولقائل أن يقول يجب حمله على صلاة أخرى لأجل العطف لأنا إن حملناه على التأكيد أخرجناه من كونه عطفا أصلا وإذا نفينا حكم العطف فانا لا نخرج اللام من أن يكون للتعريف وإن جعلناها لتعريف الجنس والأشبه أن يكون ذلك على الوقف لأنه ليس بأن يترك ظاهر العطف ويستعمل اللام على حقيقتها في تعريف العهد بأولى من أن يتمسك بظاهر العطف ويترك ظاهر اللام فأما إذا كان الأمر الثاني أمرا بمثل ما تناوله الأمر الأول وكان ذلك مما لا يصح فيه التزايد فلا يخلو إما أن لا يصح ذلك فيه في نفسه نحو قتل زيد أو صوم يوم وإما أن لا يصح فيه من جهة الحكم نحو عتق زيد فانه قد كان يجوز أن يتزايد عتقه ويقف تمام حريته على عدد كالطلاق وإذا لم يصح التزايد في المأمور به لم يخل الأمر إما أن يكونا عامين أو خاصين أو أحدهما عاما والآخر خاصا فان كانا عامين أو خاصين وجب كون مأمورهما واحدا ويكون الأمر الثاني تأكيدا للأول سواء ورد بحرف عطف أو بغير حرف عطف مثال العامين بحرف عطف قول القائل لغيره اقتل كل إنسان واقتل كل إنسان ومثاله بلا حرف عطف أن يسقط من الأمر الثاني حرف العطف ومثال الخاصين بحرف عطف وبغير حرف عطف قوله اقتل زيدا اقتل زيدا أو واقتل زيدا وأما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا سواء تقدم العام أو الخاص فلا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون معطوفا على الأول أو غير معطوف عليه فان كان معطوفا عليه فمثاله قول القائل صم كل يوم وصم يوم

الجمعة قال قاضي القضاة إن يوم الجمعة لا يكون داخلا تحت الكلام الأول ليصح حكم العطف والأشبه أن يكون الوقف لأنه ليس بأن يترك ظاهر العموم بأولى من أن يترك ظاهر العطف ويحمل على التاكيد
فأما إذا كان الأمر الثاني غير معطوف فمثاله قول القائل لغيره صم كل يوم صم يوم الجمعة فانا إذا قلنا في الأمرين بشيئين يصح فيهما التزايد أنهما على الوقف في اقتضاء الثاني للزيادة فانا لا نقف ها هنا لأن عموم أحد الأمرين دلالة على أن الآخر ورد تأكيدا لأنه لم يبق من ذلك الجنس شيء لم يدخل تحت العام ومن لم يقف فيما يصح الزائد فيه فانه يمكنه أن يقف ها هنا لأن ظاهر الأمر الثاني يفيد غير ما يفيده الأول على قوله وظاهر العموم في الأمر الأول يفيد الاستغراق فليس استعمال احد الظاهرين أولى من استعمال الآخر

باب في في شروط حسن الامر
اعلم أن الأمر لما كان صادرا من آمر إلى مأمور بمأمور به في زمان لم يمنع أن يرجع شروط حسنه إليه وإلى الآمر والمأمور والمأمور به والزمان
فالشروط الراجعة إلى المأمور به ضربان
أحدهما أن يكون صحيحا غير مستحيل في نفسه كالجمع بين الضدين وكنحو فعل الشيء في زمان متقدم أو فعله في حال هو فيها معدوم أو إيجاد الموجود أو فعل الأفعال الكثيرة في زمان لا يتسع لها وهذه الأقسام أيضا الداخلة في الشرائط الراجعة إلى الزمان وأما الضرب الآخر فان يكون للفعل صفة زائدة على حسنه إما أن يكون على صفة الندب أو الوجوب او يتعلق به نفع ودفع الضرر في الدنيا

وأما الشروط الراجعة إلى المأمور فضربان أحدهما يرجع إلى تمكنه والآخر يرجع إلى دواعيه أما الراجع إلى تمكنه فأن يكون متمكنا من الفعل بحصول جميع ما يحتاج الفعل إليه في الوقت الذي يحتاج الفعل أن يوجد فيه كان الشيء يجتاج الفعل إليه في وقت وجوده وجب وجوده في ذلك الوقت وإن احتاج إليه قبل وجوده أو في حال وجوده وقبل وجوده معا وجب وجوده كذلك وهذه الأشياء ضربان أحدهما يحتاج إليها جميع الأفعال كالقدر وفقد المنع والآخر يحتاج إليه فعل دون فعل فالفعل المحكم يحتاج إلى العلم فقد يحتاج وقوعه منا إلى إله والفعل الواقع على وجه دون وجه يجتاج عند أصحابنا إلى إرادة والمسبب يحتاج إلى السبب والعلم يحتاج في إيقاعه إلى دلالة ويحتاج الظن إلى أمارة ويجب أن يتقدم الدلالة قدرا من التمكن يمكن معه أن ينظر فيها الانسان فيعلم وجوب الفعل أو كونه ندبا او معربا لما وجب بالفعل ثم يفعل الفعل في الوقت الذي وجب إيقاعه فيه ولا فرق بين أن تكون الدلالة على ذلك أمرا أو غيره وكذلك القول في الأمارة
فأما الكلام في تقدم العلم والقدرة والإرادة وأقسام الآلات المتقدمة والمقارنة فليس مما يحتاج إليه في أصول الفقه وهذه الأشياء ضربان أحدهما لا يمكن الإنسان تحصيله لنفسه كالقدرة وكثير من الآلات فلا يجوز أن يفوض إلى الإنسان تحصيله والآخر يمكن الإنسان تحصيله كالعلم وكثير من الآلات فيجوز تكليف تحصيله إذا كان في ذلك مصلحة
وأما الراجع إلى دواعيه فأن يكون متردد الداعي بالألطاف وغيرها غير ملجأ ولا مستغنى
وأما الشرائط الراجعة إلى الأمر فأشياء
أحدها أن لا يكون ابتداء وجوده مقارنا لحال الفعل وذلك قد دخل فيما تقدم من الفعل الذي لا يمكن في نفسه

وأحدها أن يكون متقدما قدرا من التقدم ويحتاج إليه في الفعل وذلك داخل في تمكين المكلف
وأحدها أن لا يكون واردا على وجه يكون مفسدة
وأما الشرائط الراجعة إلى الآمر فتختلف بحسب الآمرين فان كان الآمر هو الله عز و جل وجب أن يعلم من حال المكلف والمأمور به والأمر ما ذكرناه وأن يكون غرضه تعريض المكلف للثواب وأن يكون عالما بأنه سيشيبه إن أطاع ولم تحبط طاعته وإن كان الآمر لا يعلم الغيب وجب أن يعلم حسن ما أمر به وثبوت غرض فيه إما له أو لغيره وأن يظن أن المكلف سيتمكن من فعل التمكن الذي ذكرناه والدلالة على اشتراط ما ذكرناه هو أن الله سبحانه مع حكمته لا يجوز أن يلزمنا المشاق مع إمكان إلزامه إيانا غير شاق إلا ليجعل في مقابلته الثواب وإلا جرى إلزامه الشاق مجرى ابتداء المضار من غير نفع ولا يكون غرضه ما ذكرناه إلا وهو سيثيب المطيع فاذا كان عالما بما يكون فهو عالم أنه يفعل ذلك ولا يكون غرضه ما ذكرناه إلا وقد أزاح علل المكلف بالتمكن وتردد الدواعي التي يزول معها الإلجاء ويدخل في ذلك الألطاف ورفع المفاسد فلذلك لم يرد الأمر منه تعالى على وجه المفسدة ولأنه إن لم يكن المكلف متمكنا من الأمور التي ذكرناها في الوقت الذي يحتاج إليه الفعل كان قد كلفه ما لا يطيقه وقد دخل في ذلك ما يجب أن يتقدم من التمكين والأدلة والأمارات وقد دخل تحت تمكن المكلف من الفعل أن يكون الفعل غير مستحيل في نفسه لأنه لا يجوز أن يتمكن القادر من فعل ما يستحيل في نفسه فقد دخلت الشرائط المذكورة تحت ما ذكرناه
وقد ذهب قوم إلى أن الأمر بالفعل مقارن لحال الفعل وأن ما تقدمه يكون إعلاما وعندنا أن الأمر لا يجوز أن يبتدىء به في حال الفعل بل لا بد من تقدمه قدرا من الزمن يمكن من الاستدلال به على وجوب المأمور به أو كونه مرعيا فيه ويفعل الفعل في حال وجوبه فيه ولا يجوز تقدمه على ذلك إلا

لغرض ويجوز أن يتقدم على ذلك الغرض مصلحة ولا فرق بين أن يكون المأمور متمكنا من الفعل من حين الأمر إلى وقت الفعل أو غير متمكن من حين الأمر
والدليل على وجوب تقدمه القدر الذي ذكرناه أنه لو لم يتقدمه هذا القدر لم يتمكن المكلف أن يعلم وجوب الفعل قبل وقته فيدعوه إلى فعله على نية الوجوب في الوقت الذي وجب عليه إيقاعه فيه وذلك تكليف ما لا يطاق وقولهم إن ما تقدم الفعل يكون إعلاما إن أرادوا أنه إعلام بحال الفعل فكذلك نقول وذلك لا يمنع من كونه أمرا ألا ترى أن أمر القرآن متقدم لأفعالنا وهو أمر لنا باتفاق والواحد منا يأمر غيره قبل حال الفعل فيسمى ذلك أمرا وإن أرادوا أنه إعلام بورود أمر آخر في حال الفعل فليس في ظاهر الأمر ذلك على أن ورود الأمر في حال الفعل عبث لأنه لا يتمكن أن يستدل به على وجوب الفعل ولا على أنه مرغب فيه ويشبه أن يكونوا أرادوا أن الأمر إذا تقدم حال الفعل لم يسم أمرا فاذا حضر زمان الفعل فحينئذ يسمى ما تقدم من الأمر أمرا وهذا باطل لإجماع المسلمين على أن الواحد منا مأمور بالصلاة قبل وجود وقتها والدلالة على قبح تقدم الأمر على القدر الذي ذكرناه لا لغرض وفائدة أن ما لا غرض فيه عبث والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدلالة على جواز تقدمه على هذا القدر الغرض أنه بذلك يخرج عن كونه عبثا ولهذا حسن تقديم الله سبحانه أمره إيانا بالصلاة والدلالة على حسن تقدمه وإن كان المكلف عاجزا في الحال إذا كان يتمكن وقت الحاجة أن تمكن المكلف في ذلك الوقت لا يحتاج إليه الفعل وكان وجوده وعدمه فيما يرجع إلى الفعل بمنزلة فحسن الأمر مع فقد التمكن كما يسحن مع وجوده إذا كان في ذلك مصلحة من وجه من الوجوه

الكلام في النواهي
اعلم أن النهي لما كان بعثا على الإخلال بالفعل كما كان الأمر بعثا على الفعل كان أكثر الكلام في الأمر يليق بالنهي غير أنا نفرد في النهي أبوابا منها ماهية النهي وما يشارك الأمر فيه النهي وما يخالفه فيه ومنها النهي عن الأشياء على وجه التخيير ومنها هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أم لا وما يتبع ذلك
باب في ماهية النهي وما يشارك الامر فيه وما يخالفه
أما النهي فهو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء إذا كان كارها للفعل وغرضه أن لا يفعل والدلالة على ذلك ما تقدم في الأمر
وأما ما يشارك الأمر فيه النهي فأمور منها أنه يجوز استعمال كل واحد منهما في خلاف ما تقتضيه صيغته فصيغة الأمر يجوز وجودها غير أمر وصيغة النهي يجوز وجودها غير نهي ومنها أن يكون كل واحد منهما إنما يوصف بما يوصف به بحال فاعله ومنها اعتبار الاستعلاء في كل واحد منهما ومنها أن كل واحد منهما إذا كان مقيدا بشرط وصفة كان مقصورا عليها ومنها اعتبار كثير من الشرائط في جنسهما نحو أن يكون غرض المكلف التعريض للثواب ويكون عالما باثابة المطيع وغير ذلك
فأما ما يفترقان فيه فأمور منها الصيغة ومنها ما يكون به كل واحد

منهما موصوفا بما يوصف به ومنها أن مطلق الأمر لا يقتضي التأبيد ومطلق النهي يقتضي ذلك ولهذا صح النظر في الأمر هل يقتضي التعجيل ولم يصح ذلك في النهي ومنها أن من شرط حسن النهي أن يكون المنهي عنه قبيحا ومن شرط حسن الأمر أن لا يكون المأمور به قبيحا

باب في النهي عن اشياء على جهة التخيير
اعلم أن النهي عن الأشياء إما أن يكون نهيا عنها على الجمع أو عن الجمع بينها أو نهيا عنها على البدل أو نهيا عن البدل
أما النهي عنها على الجمع فهو أن يعمد الناهي إلى اشياء فينهي عن جميعها فيقول الإنسان لا تفعل هذا ولا هذا ولا هذا فيكون موجبا للخلو منها أجمع
والأشياء التي نهي عن جميعها ضربان
أحدهما يمكن الإنسان الخلو منها والآخر لا يمكنه الخلو منها فالذي لا يمكنه الخلو منها لا يحسن النهي عن جميعها إيجاب للخلو منها وإيجاب ما لا يمكن قبيح ولا فرق بين أن يكون النهي إيجابا للخلو من الشيء ونفيه أو إيجابا للخلو من الشيء وضده مثال الأول أن يقول الإنسان لغيره لا تكن قائما ولا غير قائم ومثال الثاني أن يقول للقائم لا تفعل قياما ولا قعودا ولا حالة من حالات الإنسان وما يمكن الخلو منه ضربان
أحدهما يميز كونه فاعلا والثاني لا يميز كونه فاعلا فالذي لا يميزه نحو المضطجع لا يميز كونه فاعلا للسكون من نفسه ويجوز أن يخلو من فعله ومن فعل الحركة ولا يجوز أن ينهي عن الخلو منهما معا لفقد التمييز هذا على قول من جوز أن يفعل هذا المضطجع في جسمه سكونا فأما إذا ميز كونه

فاعلا فانه يجوز أن ينهي عنهما معا نحو ضرب زيد وعمرو وأما ما هو ملجأ إلى الجمع بينهما فانه لا يجوز النهي عن جميعه لأن في ذلك إيجاب الخلو منه مع أنه ملجأ إلى خلافه
وأما النهي عن الجمع بين أشياء فهو أن يقال للإنسان لا تجمع بين كذا وكذا وهما ضربان
أحدهما يمكن الجمع بينهما والآخر لا يمكن الجمع بينهما فما لا يمكن الجمع بينهما فالنهي عن الجمع بينهما قبيح لأنه عبث يجري مجرى نهي الهاوي من شاهق عن الاستقرار في الهواء وذلك أن ينهي الإنسان عن القيام والإخلال به أو أن يجمع بين القيام والقعود وإن أمكن الجمع بينهما فإما أن يمكن أن لا يجمع بينهما نحو الأكل والصلاة وإما أن لا يمكن ذلك بأن يكون ملجأ إلى الجمع بينهما فالأول يحسن النهي عن الجمع بينهما والثاني لا يحسن النهي عنهما لأنه كالنهي عما لا يطاق
فأما النهي عن الأشياء على البدل فهو أن يقال للإنسان لا تفعل هذا إن فعلت ذلك أو لا تفعل ذلك إن فعلت هذا وذلك بأن يكون كل واحد منهما مفسدة عند الآخر وهذا يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما
وأما النهي عن البدل فانه يفهم منه شيئان
أحدهما أن ينهي الإنسان عن أن لا يفعل شيئا ويجعله بدلا من غيره وذلك يرجع إلى النهي عن أن يقصد به البدل وذلك غير ممتنع والآخر أن ينهي عن أن يفعل أحدهما دون الآخر لكن يجمع بينهما وهذا قبيح إن تعذر الجمع ويجوز أن يحسن مع إمكانه وإمكان الإخلال به

باب في النهي هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا
اختلف الناس في ذلك فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب

الشافعي إلى أنه يقتضي فساده وقال غيرهم من الفقهاء لا يقتضيه وهو مذهب الشيخ ابي الحسن وابي عبد الله وقاضي القضاة وذكر أن ظاهر مذهب شيوخنا المتكلمين وأنا أذهب إلى أنه يقتضي فساد المنهي عنه في العبادات دون العقود والإيقاعات
وينبغي أن نذكر معنى وصفنا للشيء بأنه صحيح وجائز وفاسد وباطل وغير جائز فنقول إن معنى قولنا إن الفعل صحيح هو أنه قد حصل به الغرض المقصود به وإنما يكون كذلك إذا استوفيت شرائطه التي معها يحصل الغرض المقصود بالفعل وقولنا فاسد وباطل يفيد نفي ذلك وهو أنه لم يستوف شرائطه التي عليها يقف حصول الغرض بالفعل وقولنا إن الفعل مجزىء معناه أنه يكفي في تحصيل الغرض بالفعل ولا يكون كذلك إلا وقد استوفيت الشرائط التي يقف عليها حصول هذا الغرض وقولنا جائز في هذا الموضع يفيد ذلك أيضا وقوله إنه غير جائز ولا مجزىء يفيد نفي ذلك والأغراض الحاصلة بالفعل تختلف بحسب اختلاف الأفعال فالعبادات الغرض بفعلها إسقاط التكليف وتحصيل الثواب وإذا قلنا في العبادات إن الفعل غير مجزىء فمعناه أنه لم يسقط التكليف المتعلق به لأنه لم يستوف شرائطه التي معها يسقط التكليف فان كانت العبادة غير مؤقته لزم فعلها على الصحة وإن كانت موقتة والوقت باقيا لزم فعلها فيه وإن خرج الوقت جاز أن تدل دلالة على لزوم قضائها وأما البيع فالغرض به تحصيل الملك وكمال التصرف والغرض بالشهادة وجوب القضاء على الحاكم والغرض بالطلاق إيقاع الفرقة وتشعيث الوصلة والغرض بالعتق إيقاع الحرية فجواز هذه الأفعال وصحتها يفيد حصول هذه الأحكام وفسادها يفيد نفي هذه الأحكام
وذهب قاضي القضاة إلى أن معنى قولنا إن الصلاة فاسدة أنه يلزم قضاؤها ومعنى أنها صحيحة أنه لا يلزم قضاؤها ولقائل أن يقول وإن أراد لزوم القضاء في وقتها فذلك تابع لكون الصلاة فاسدة وأنه ما سقط عن

المكلف التعبد بها ونفي سقوط التعبد بها تابع لكون الشرائط غير مستوفاه ألا ترى أنا نقول إنما يجب على المصلي إعادة الصلاة في وقتها لأن ما فعله فاسد لم يستوف شرائطه فكان تفسير الفساد بما ذكرناه أولى وإن أراد لزوم القضاء ونفيه بعد خروج الوقت لزم إذا أمر الله سبحانه بصلاة بطهارة فصليناها بغير طهارة وخرج الوقت ولم تدل دلالة على وجوب قضائها فلم يلزمنا القضاء إذ القضاء فرض ثان أن تكون الصلاة صحيحة لأنه لم يلزم قضاؤها فلما ثبت الفساد مع نفي القضاء علمنا أن أحدهما ليس هو الآخر
فاذا ثبت ما ذكرناه فمتى اردنا أن ندل على أن النهي يدل على فساد المنهي عنه إذا كان من العبادات فانما نريد أن ندل على النهي إذا تجرد فالتكليف لا يسقط بفعل المنهي عنه والدلالة على ذلك هي أن المنهي عنه لم يتناوله التعبد وما لم يتناوله التعبد لا يسقط التعبد أما أن المنهي عنه لا يتناوله التعبد فلأن التعبد يتناول ما له صفة زائدة على حسنه والنهي يتناول ما ليس بحسن يبين ذلك أن الله سبحانه إذا قال لنا صلوا الظهر ثم قال لا تصلوها بغير طهارة فان هذا النهي يدل على أن الصلاة بغير طهارة قبيحة غير حسنة وغير مرادة والأمر يدل على أن الصلاة المأمور بها حسنة مرادة فأحدهما غير الآخر فصح أن المنهي عنه لم يتناوله التعبد وأما أن ما لم يتناوله التعبد فالتكليف لم يسقط به إذا تجرد النهي عن دلالة فلأن فاعله لم يفعل ما تعبد به فجرى مجرى أن يقول الله سبحانه لنا صلوا بطهارة في أنا إذا صلينا بغير طهارة لم يسقط التعبد عنا ويلزمنا أن نصلي ما بقي الوقت وجرى مجرى أن يأمر الله سبحانه بالصلاة فنتصدق في أن التعبد يكون باقيا لما كنا فاعلين لما لم يتناوله التعبد
فان قيل أليس يجوز أن يكون الفعل المنهي عنه مع قبحه يقوم مقام الواجب في وجه المصلحة وإنما لم يتناوله الإيجاب لاختصاصه بوجه من وجوه القبح ويجوز أن يخرج الواجب من كونه مصلحة عند فعل المنهي عنه نحو أن

تكون الصلاة مصلحة في رد وديعة فاذا فعلها في الدار المغصوبة خرجت الصلاة في الدار المملوكة من أن تكون لطفا في رد الوديعة ولهذا جاز أن يقول الله سبحانه لا تصلوا في الدار المغصوبة فان صليتم فيها فالفرض قد سقط عنكم قيل الذي ذكرته إن جاز فانا لا نتنبه إلا بدلالة زائدة ومتى لم يدل عليه دليل زائد وجب نفيه لأن الأمور الثابتة متى لم يدل عليها دليل وجب نفيها ألا ترى أن الصلاة السادسة يجب نفيها لما لم يدل على إثباتها دليل زائد فلو قال الله عز و جل إن صليتم في الدار المغصوبة أجزأتكم كان ذلك دليلا على سقوط الفرض ولا يجب لأجل ذلك تجويز سقوط الفرض بهذه الصلاة إذا لم يدلنا الله سبحانه على ذلك ألا ترى أنه كان يجوز أن يقول صلوا بطهارة فان صليتم بغير طهارة أجزأتكم ولا يدل ذلك على أنه لو لم يقل فان صليتم بغير طهارة أجزأتكم على أنها إن صلى الإنسان بغير طهارة أجزأه أو لا ترى أنه كان يجوز أن يقول صلوا فان تصدقتم قام ذلك مقام الصلاة ولم يلزم من ذلك تجويز قيام الصدقة مقام الصلاة إذا لم يقل الله ذلك فكذلك في مسألتنا
فان قيل فيجب على ما ذكرتم أن يكون الدال على فساد العبادة هو فقد دليل يدل على أن المنهي عنه مقام العبادة المأمور بها قيل إنه لا يصحل العلم بفساد الفعل إلا مع العلم بورود التعبد بالفعل وبالنهي عن إيقاعه على بعض الوجوه وبفقده دلالة تدل على أن المنهي عنه يقوم مقام العبادة ألا ترى أنه متى اختل واحد من ذلك اختل علمنا بالفساد وأما أن الدليل هو فقد دلالة تدل على أن المنهي عنه لا يقوم مقام العبادة أو أن الدليل على ذلك هو النهي فذلك كلام في عبارة ومرادنا بقولنا إن النهي يدل على فساد هو ما ذكرناه لا غير فأما إن فسر فساد الفعل بوجوب قضائه وأريد بذلك وجوب القضاء قبل انقضاء وقت العبادة فقد بينا أنا نعلم ذلك تبعا لعلمنا بفساد العبادة وإن أريد بذلك وجوب القضاء بعد خروج الوقت فالنهي لا يدل على ذلك لأن القضاء فرض ثان فليس فاعل العبادة على الوجه المنهي عنه بأسوأ حالا من

تاركها أصلا فاذا كان تاركها لا يلزمه إلا بدليل مستأنف ففاعلها على الوجه المنهي عنه أولى بذلك ولأن المنهي عنه كما أنه لم يدخل تحت الإيجاب فالقضاء أيضا لم يدخل تحت الإيجاب فلم يدل عليه
ومما احتج به في أن النهي يدل على فساد المنهي عنه أن النهي ضد الأمر ونقيضه والأمر يدل على إجزاء المأمور به فيجب أن يدل النهي على نفي إجزائه وإلا لم يكن ضده ونقيضه ولقائل أن يقول إن الأمر إذا دل على إجزاء المأمور به فيجب أن لا يدل النهي على إجزاء المنهي عنه فكذلك نقول لأنا وإن حكمنا بإجزائه فلسنا نحكم بإجزائه لمكان النهي
واحتجوا أيضا بأن المنهي عنه لو كان مجزئا لكان طريق إجزائه الشرع إما أمر أو إيجاب أو إباحة وكل ذلك يمنع منه النهي والجواب أنه قد يدل على الإجزاء غير ذلك نحو أن نقول إذا فعلتم ما نهيتكم عنه أجزأكم عن الفرض أو نقول إذا بعتم هذا على هذا الوجه فقد ملكتم به أو يكون إجزاء ذلك الفعل معلوما بالعقل وذلك كله لا يمنع منه النهي
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد قالوا والمنهي عنه ليس من الدين فيجب كونه مردودا ولو كان مجزئا ثبتت أحكامه لما كان مردودا والجواب أن الإنسان إنما يكون مدخلا للفعل في الدين إذا اعتقد أنه من الدين ألا ترى أن الزاني وفاعل المباح لا يكون مدخلا للزنا والفعل المباح في الدين فليس يخلو إما أن يعنوا أن الفاعل لما نهي عنه مدخل للفعل في الدين أو مدخل لأحكامه في الدين فان أرادوا الأول لم يثبت لأن المصلي في الدار المغصوبة لا يعتقد أن ذلك في الدين وإنما يقول إنه يسقط به الفرض وكذلك المطلق في حال الحيض لا يعتقد أن ذلك من الدين إذا اعتقد أن ذلك بدعة وإن أرادوا الوجه الثاني لم يسلم الخصم أن ذلك من الدين
فان قالوا فيجب إذا فعل ذلك الإنسان معتقدا بأنه من الدين أن يكون

مردودا عليه فلا يثبت أحكامه قيل إنما يجب أن يكون ردا من الدين لا غير وإنما يكون كذلك إذا جعلناه بخلاف ما اعتقده ألا ترى أن من قال من رام الدخول إلى داري فهو مردود أفاد أنه مردود من الدار وأجاب قاضي القضاة بأن لفظ الرد يفيد نفي استحقاق الثواب لأن الرد ضد القبول والقبول يفيد استحقاق الثواب قال فلفظه الرد كالنهي في اقتضائه القبح ونفي استحقاق الثواب قال ونحن نقول إن المنهي عنه لا يستحق عليه الثواب وأجاب أيضا بأن قال يجب أن نبين أن الحكم باجزاء الفعل ليس من الدين ثم نحكم برده وهذا إنما يتوجه إلى من قال في استدلاله إن الإجزاء ليس من الدين لا إلى من قال إن الفعل نفسه ليس من الدين ثم استدل بذلك على انتفاء حكمه وقال ايضا إن النهي أبلغ من لفظ الرد لأن طاعات الكافر مردودة وليست بمنهي عنها فاذا لم تظهر دلالة النهي على الفساد فلفظ الرد أولى بذلك وعلى أن هذا الخبر من أخبار الآحاد فلا يصح التعلق به في ذلك
واحتج الذاهبون إلى أن النهي لا يدل على فساد المنهي عنه بأشياء
منها أن فساد العبادة هو وجوب قضائها والنهي إنما يدل على قبحها وعلى كراهة الناهي لها وقبحها لا يقتضي وجوب قضائها لعلمنا بقبح أفعال كثيرة لا يلزم قضاؤها والجواب ما تقدم من أنه إن أرادوا وجوب القضاء مع بقاء الوقت أو وجوب القضاء إن لم تكن العبادة موقتة فقبح الفعل مع تقدم الأمر بالعبادة وفقد دليل يدل على أن الفعل المنهي عنه قائم مقام الواجب يدل على وجوب القضاء بعد خروج الوقت فلعمري لا يدل النهي عليه غير أنه ليس هو معنى الفساد
ومنها قولهم لو أفاد النهي الفساد لكان ما لم يفسد من الأفعال القبيحة نحو الوضوء بالمساء المغصوب غير منهي عنه على التحقيق لأنه لم يتعلق به ما هو نهي على التحقيق فيوصف بأنه منهي منه والجواب إنا لا نقول إن النهي موضوع في اللغة للفساد كما وضع لفظ العموم للاستغرق فيلزم ما ذكروه وإنما وضع عندنا لإيجاب الامتناع من الفعل والإخلال به أو على الكراهة له

وإنما يعلم فساد العبادة بالتدريج الذي ذكرناه ألا ترى أن اصحابنا لما قالوا ان الأمر وضع للإرادة وأنه يفيد الندب على ضرب من التدريج لم يالزمهم أن يكون الواحد منا إذا قال لغيره أظلم وأراد ذلك منه أن يكون الظلم ليس بمأمور به على الحقيقة ولا أن يكون قوله اظلم ليس بأمر على الحقيقة لأجل أن الظلم قبيح ليس بحسن
ومنها أن لفظ النهي لغوي وفساد العبادة شرعي فلا يجوز أن يكون موضوعا له والجواب انا لا نقول إنه وضع للفساد فيلزم ما ذكروه وإن علمنا عنده على التدريج المذكور كما يقولون إن الأمر وضع للندب على التدريج ولو قلنا إنه موضوع للفساد لم يبطل بما ذكروه لأن فساد الفعل هو انتفاء الأغراض المقصودة بالفعل عن الفعل أو وجوب إعادته على قول قاضي القضاة وذلك معقول قبل الشرع فلا يمتنع أن يوضع النهي له كما وضعوا له أن هذا الفعل يجب إعادته فان الأغراض لا تتعلق به مع أن هذه ألفاظ لغوية
فأما الأفعال التي يرجع فسادها إلى نفي أحكامها نحو البيع والطلاق والعتاق والشهادة فالنهي عنها لا يدل على فسادها لا بنفسه ولا بواسطة أما بنفسه فانه إنما يدل إذا صدر من حكيم فيدل على قبح الفعل ووجوب الإخلال به أو على كراهته له فقط وأما أنه لا يدل على ذلك بواسطة فهو أن الواسطة هي قبح وكونه مكروها والفعل قد يكون مكروها وحكمه ثابت نحو البيع في حال صلاة الجمعة والطلاق في حال الحيض ولأن قبح البيع لا ينافي ثبوت الملك به لا محالة لأنه قد ينهي الحكيم عن البيع لأن الملك لا يقع به ولأنه مفسدة في نفسه وإن وقع الملك به ولأنه يتشاغل به عن واجب نحو البيع مع تعين وجوب التحريمة وإذا أمكن كل ذلك لم نأمن أن يكون النهي عن البيع أو عن الطلاق وغيرهما كان لغرض سوى أن أحكامها لا تثبت ويفارق ذلك النهي عن العبادات لأنا قد بينا أن فسادها مفارق لفساد هذه الأفعال وإذا اختلف معناهما لم يجب أن يكون ما دل على أحدهما يدل على الآخر فاذا اثبت ذلك ونهي الله سبحانه عن أمثال هذه الأفعال فلا يخلو إما أن يكون الأصل

في العقل يفيد تعلق حكمه به كالبيع الذي يقتضي انتقال الملك به في العقل أو يكون العقل يمنع من تعلق الحكم به فالأول يحكم فيه بما يقتضيه العقل لأن النهي عنه لا يمنع من ذلك وأما الثاني فمثاله الحد إذا شهد بما يوجبه الشاهدان على وجه نهي الشاهدان عنه فانه ينظر فيه فان كان في الشرع دليل يدل في الجملة على تعلق الأحكام بتلك الأفعال حكم به والا لم يحكم به لأن الأصل نفيها وليس في الشرع ما يدل على ثبوتها إلا لأجل النهي
واحتج المخالف بأن الصحابة رضي الله عنها كانت إذا سمعت نهيا عن شيء قضت بفساده عند سماعها النهي فدل على أنها حكمت بالفساد لأجل النهي كما أنها لما حكمت بالأحكام عند خبر الواحد والقياس دل ذلك على أنها حكمت به لأجل خبر الواحد والقياس من ذلك حكمها بفساد بيع درهم بدرهمين ونكاح المحرم والشغار والمتعة والربا والجواب أنهم لما حكموا بذلك فانهم لم يحكموا بالفساد عند سماعهم أخبارا كثيرة في النهي كالنهي عن بيع حاضر لباد وتلقى الركبان وغير ذلك وليس لقائل أن يقول إنما لم يحكموا بالفساد لقرينة بأولى من أن نقول بل إنما حكموا بالفساد لقرينة فان قالوا لو حكموا بالفساد لقرينة لطلبها بعضهم من بعض ولاحتج بها بعضهم قيل لهم ولو كانوا إنما لم يحكموا بالفساد لأجل قرينة لاحتج بها بعضهم على بعض وأما فساد عقد الربا فيجوز أن يكون إنما عرفوه من قول الله سبحانه وحرم الربوا ومن إيجابه الاقتصار على رأس المال لأنه لو كان العقد صحيحا لما ساغ ذلك وأما خبر الواحد والقياس فان الصحابة عملت بها لمكانها على ما سنبينه في موضعه
ويمكن المخالف أن يحتج فيقول إنكم بفصلكم بين العبادات وبين العقود والإيقاعات قد قلتم ما لم يقله احد لأن الأمة مجمعة على التسوية بين الموضعين فمنهم من سوى بينهما في دلالة النهي على فسادهما ومنهم من جمع بينهما في دلالة النهي على نفي فسادهما والجواب أن الذين جمعوا بينهما في نفي دلالة النهي على فسادهما لم يعنوا بالفساد ما عنيناه وإنما أرادوا بالفساد وجوب

القضاء بعد خروج الوقت ولو فصل لهم ما فصلناه لما اختلفوا فيه ولو خالفوا لم يكن ما قلناه مخالفا للإجماع لأنه إنما يكون تفرقنا بين الموضعين مخالفة للإجماع إذا نظمت الموضعين طريقة واحدة وقد بينا أن ليس ينظمهما طريقة واحدة
فأما ما يدل على صحة ما أخبرناه هو أن الشرع اقتضى حمل ما تناوله النهي على الفساد ما لم تكن هناك دلالة تصرف عنه وهو حصول الإجماع المتقدم عليه لأن المعلوم من حال الصحابة والتابعين أنهم كانوا يحكمون بفساد العقود وغيرها لتناول النهي لها ويرجحون في الدلالة على فسادها إلى مجرد النهي الوارد عن الله تعالى وعن الرسول صلى الله عليه و سلم كرجوعهم إلى قوله صلى الله عليه و سلم لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا الخالة والعمة عليها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى في فساد هذا العقد من غير اعتبار أمر سواه وكرجوعهم إلى نهيه عن بيع الغرر وبيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عنده في فساد هذه العقود من غير اعتبار معنى سوى ذلك وكرجوعهم عند الاختلاف في حكم الربا نقدا ونسيئة إلى خبر أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت في النهي عنه نقدا ولما روي من رجوع ابن عباس عن مذهبه في ذلك حين روى له هذا النهي وهكذا رجع كثير منهم إلى نهيه صلى الله عليه و سلم عن نكاح المحرمة ونكاح الشغار في فساد هذين العقدين ولم يحك عمن خالف في هاتين المسألتين أنهم أنكروا على مخالفيهم الرجوع إلى النهي في ذلك والاستدلال به وإنما نازعوهم في ذلك واعترضوا استدلالهم بالنهي من وجوه أخر فصار هذا إجماعا منهم على أن النهي المتناول للافعال الشرعية من حقه أن يكون مقتضيا لفسادها ما لم تدل دلالة على خلاف ذلك
وفيه فان قيل إذا وجدناهم قد حكموا بفساد ما تناوله النهي في بعض المواضع وحكموا بصحته في موضع آخر فلم صار حكمهم بالفساد دلالة علىأن من حق النهي أن يقتضيه أن يحمل عليه أولى من أن يحكم بأن النهي بمجرده لا يقتضي الفساد استدلالا بفعلهم في المواضع الأخر الجواب أنه إذا ثبت أن الحكم بفساد المنهي عنه علقوه بالنهي فقط في الموضع الذي حكموا

به من دون اعتبار أمر آخر على ما بيناه وأوضحنا الحال فيه صار هذا أصلا فيما ذهبنا إليه ودلالة عليه فاذا وجدناهم في مواضع لم يحكموا بفساد المنهي عنه وجب أن يحمل ذلك على أنهم عدلوا عن هذا الأصل ولم يحكموا فيه بالفساد لدلالة دلت عليه كما يعدل عن مقتضى صيغة العموم إلى الحكم بالخصوص وعما تقتضيه حقيقة اللفظ إلى مجازها إذا دلت الدلالة عليه

باب في ما يفسد من الأشياء المنهي عنها وما لا يفسد
اعلم أنه ذكر في ذلك أشياء
منها قول الشيخ أبي عبد الله أن المنهي عنه إذا كان متى فعل على الوجه المنهي عنه انتفى عنه شرط من شرائطه الشرعية فانه يجب أن يفسد كبيع الغرر ومتى لم ينتف عنه شرط من شرائطه الشرعية لم يفسده ولقائل أن يقول إنما يجب أن يفسد ما انتفى عنه شرط شرعي متى كان ذلك شرطا في صحته لأنه لو لم يكن شرطا في صحته لم يجب أن يفسد وما هو شرط تقف عليه صحة الشيء فانه يجب بانتفائه فساد الشيء إذا لم يخلفه شرط آخر سواء كان ذلك الشرط شرعيا أو غير شرعي ولا معنى للتقييد بكونه شرعيا وايضا فاذا فسد لانتفائه شرطه الشرعي فأخبرونا أبالنهي علمتم أن ذلك الشرط الشرعي شرط في الصحة أم لا فان قلتم بالنهي قيل لكم ابظاهره علمتم ذلك أم بقرينة فان قلتم بظاهره فقد سلمتم أن ظاهر النهي يدل على ذلك الفساد وإن قلتم بل بنهي اقترفت به قرينة قيل لكم أخبرونا عن تلك القرينة حتى تكونوا قد أشرتم إلى الفرق بين ما يدل على الفساد من النهي وبين ما لا يدل على الفساد وإن قالوا علمنا أن ذلك شرط في الصحة بدليل غير النهي نحو أن نعلم أن الوضوء شرط في الصلاة ثم نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة بغير وضوء فتعلم أنها فاسدة بغير وضوء وقد أشار قاضي القضاة إلى ذلك في الشرح قيل لهم فنحن إنما نعلم الفساد بما دل على أن الوضوء شرط في صحة الصلاة ألا ترى أنا إذا علمنا ذلك علمنا فساد الصلاة إذا لم يكن

الوضوء سواء نهينا عن الصلاة بغير وضوء أو لم ننه عن ذلك فإن قالوا إنه لم يكن غرضنا أن نبين الفرق بين النهي الدال على الفساد وبين النهي الذي لا يدل على الفساد حتى يلزم ما ذكرتم وإنما غرضنا أن نفرق بين المنهي عنه الفاسد والمنهي عنه الذي ليس بفاسد قيل لهم فكأنكم قلتم المنهي عنه منه فاسد ومنه غير فاسد وأن الفاسد هو ما دل دليل على فساده نحو أن يدل دلالة على أنه قد أخل فيه بشرط من شرائط صحته وهذا قليل الفائدة لا يجوز أن يجعل أصلا في هذا الموضع
ومنها أن المنهي عنه الفاسد هو ما يوصل به إلى تحليل محرم في الأصل نحو أكل الميتة واستحلال الفروج والذي ليس فاسد هو ما لم يكن وصلة إلى محرم في الأصل وهذا باطل لأنهم إن أرادوا بقولهم إنه يوصل به إلى تحليل محرم أي صار الحرام به حلالا على التحقيق فذلك مناقضة لأنه إذا صار به حلالا فهو صحيح غير فاسد لأنه ليس معنى كون الوصلة صحيحة إلا أنها وصلة إلى تحليل هذا المحرم من الفروج وعلى أنا نريهم أمورا نهي عنها وهي وصلة إلى تحليل ما كان حراما وهي غير فاسدة نحو بيع حاضر لباد هو منهي عنه وقد صار به ملك الغير حلالا للمشتري وإن ارادوا بذلك أنه إذا توصل بالمنهي عنه إلى تحليل ما هو حرام في نفسه لا يجوز أن يصير حلالا كانوا قد عللوا للشيء بنفسه لأن معنى كون هذه الوصلة المنهي عنها فاسدة هو أنها لا توصل إلى تحليل هذا المحرم فكأنهم قالوا إنما لم يوصل إلى إباحة هذا المحرم لأنه لا يوصل إلى إباحته ثم يقال لهم بماذا علمتم أن ذلك الحرام لا يصير حلالا أبالنهي علمتم ذلك أم بغيره ويعود الكلام عليهم
ومنها أن النهي عن الفعل إذا كان لمعنى يختصه اقتضى فساده وإذا لم يكن لمعنى يحتصه لم يقتض فساده والأول بيع الغرر والثاني البيع في حال صلاة الجمعة ولقائل أن يقول إن المقتضي للفساد هو فقد شرط من شرائط الصحة وليس يمتنع أن يرجع ذلك تارة إلى الشيء المنهي عنه كما لا يمتنع أن يرجع إلى غيره ألا ترى أن بيع المحجور عليه منهي عنه لمعنى في العاقد لا في العقد وهو مع ذلك فاسد فان قالوا ما يختص بالعاقد والمعقود عليه يتعلق بالعقد

ويرجع عليه قيل فيجب أن يفسد بيع حاضر لباد لأن النهي عن ذلك إنما كان لمعنى في المتعاقدين
ومنها قول بعضهم ما نهي عنه لحق الغير فانه لا يفسد وما نهي عنه لشرط شرعي فانه يفسد وهذا باطل لأن الإنسان قد نهي عن بيع ملك غيره لحق ذلك الغير ألا ترى أنه لو أذن له في بيعه جاز ومع ذلك يفسد العقد إذا لم يأذن في المالك
ويدخل في هذا العقد اختلاف الناس في الصلاة في الدار المغصوبة فقال جل الفقهاء وأبو إسحاق النظام إن الصلاة في الدار المغصوبة مجزئة مسقطة للفرض وقال أبو علي وأبو هاشم وأبو شمر وأهل الظاهر والزيدية إنها غير مجزئة واستدل شيوخنا على أنها غير مجزئة بان الصلاة من حقها أن تكون طاعة لإجماع المسلمين على ذلك والصلاة في الدار المغصوبة غير طاعة بل معصية لأن الصلاة تشتمل على القيام والركوع والسجود والجلوس وهذه الأشياء تصرف في الدار المغصوبة وشغل لأماكنها وأهويتها ومنع لرب الدار لو حضر من التصرف فيها فجرى مجرى وضع متاع في ذلك المكان في أنه قبيح وأيضا فأجمعوا على أن من شرط الصلوات الخمس أن ينوي بها المصلي أداء الواجب أو ما يدخل فيه أداء الواجب نحو أن ينوي كونها ظهرا أو عصرا والصلاة في الدار المغصوبة لا يتأتى فيها ذلك لأنه لا يصح أن ينوي الإنسان أداء الواجب بما يعلم أنه ليس بواجب وذلك محال في الداعي إن قيل إن أفعال الصلاة هو ما يفعله المصلي في نفسه من القيام والركوع والجلوس وليس هذا شغل للدار وإنما هو شغل للهواء وإنما يشغل الأرض باستقرار قدميه في الدار وليس ذلك من الصلاة لأنه لو أمكنه أن يصلي من غير أن تستقر قدماه في الدار جازت صلاته قيل إن السكون الذي يفعله في قدميه من جملة صلاته لأن القيام من جملة الصلاة وقوله لو أمكنه أن يصلي في الهواء جازت صلاته لا يمنع من كون ذلك الآن من الصلاة وعلى أن شغله لهواء الدار هو غصب لأن مالك الدار أحق به ألا ترى انه ليس للإنسان أن يشرع جناحا من داره إلى دار غيره لما كان شاغلا لهواء دار غيره

فان فأن قالوا إن قراءة الإنسان واعتقاده هما من جملة صلاته ولا تعلق لهما بالغصب فالنية تنصرف إليهما قيل كون القراءة من جملة الصلاة لا يمنع من كون الركوع والسجود والقيام من جملة الصلاة لأن اسم الصلاة يفيد محموع ذلك وإذا كان كذلك لم يكن أن يكون من جملة الصلاة طاعة حتى ينصرف إليه النهي إن قالوا إنما منع الغاصب من الصلاة في الدار المغصوبة لحق الغير والا فقد استوفى شرائطها الشرعية فوجب إجزاؤها لأن النية تنصرف إلى ما استوفى شروطه الشرعية ويجري ما عدا ذلك مجرى فعل منفصل قيل إن من شروطها الشرعية أن تكون طاعة وأن ينوي بها أداء الواجب وليس هذان بحاصلين وأيضا فاذا كان من جملة الصلاة ما هو معصية لم يجز أن يكون واجبا من جهة أخرى فان قالوا إذا غصبها المصلي بأعوانه لا تكون صلاته فيها غصبا فيجب جوازها قيل فيجب لو غصبها هو بنفسه أن لا تجزيه صلاته على موجب دليلنا وعلى أن استعانته بأعوانه في غصبها لا يخرج تصرفه فيها من أن يكون قبيحا غير طاعة
ولما ذكرنا لم يجز أصحابنا صلاة من ستر عورته بثوب مغصوب واختلفوا فيمن سترها بثوب مملوك ولبس فوقه ثوبا مغصوبا فأجازوها قوم قالوا إن فعله في الثوب الأعلى ليس من الصلاة ولم يجزها آخرون لأن قيامه وقعوده تصرف في كلا الثوبين وقالوا ايضا إن المودع أو الغاصب إذا طولب برد الوديعة والمغصوب فتشاغل بالصلاة مع اتساع الوقت لم تجزئه صلاته وإن كان الوقت ضيقا يخشى إن تشاغل بالرد فاتته الصلاة لم تبطل إن لم يستضر صاحبها بالتأخير ضررا شديدا وتبطل إن استضر بالتأخير ضررا شديدا وقالوا إن صلى وهو يرى من يغرق أو يهلك بنار وهو يرجو أن يخلصه فسدت صلاته والوجه في ذلك أجمع أن صلاته تكون في هذه المواضع قبيحة
ولا يلزم على ما ذكرناه أن لا يجزي الغاصب اعتقاده الإيمان في الدار المغصوبة لأن ذلك ليس بتصرف فيها فيكون غصبا لها فلم يلزم أن يكون قبيح غير طاعة ولا يلزم أن تبطل صلاة الغاصب للدار إذا منع من الخروج

منها لأنه إذا منع من ذلك لم يحرم عليه القعود فيها ومن جاز له القعود فيها جاز له أن يصلي فيها فجاز أن يكون فعله طاعة ولا يلزم عليه إذا صلى في ملكه وقبض بيده على رجل فمنعه من التصرف لأن ذلك وإن كان قبيحا فليس من الصلاة ولا يلزم عليه إذا صلى في براح غيره بغير إذنه لأن العادة جارية بأن مالك البراح لا يكره أن يصلي المارة فيه والعادة جارية أيضا بأن من أذن لغيره في دخول داره لا يكره منه الصلاة فيها فصار ذلك كالصريح بالإذن بالصلاة قال اصحابنا ولا يلزم على ما ذكرناه أن لا تجزيء إزالة النجاسة بماء مغصوب والذبح والختان بسكين مغصوب أجابوا عن الذبح بسكين مغصوب أنه إنما جاز لأنه من شرطه النية ولا من حقه أن يكون قربة وليس كذلك الصلاة وسيأتي الكلام على مثل هذا الجواب والجواب الصحيح أن يقال إن الذبح بسكين مغصوبة منهي عنه وقبيح إلا أنه لما كان وصلة إلى إباحة اللحم كان كالبيع الذي هو وصلة إلى إباحة التصرف والنهي لا يدل على فساد ما هذه سبيله لأنه إنما نهي عنه لقبحه في نفسه لا لأنه ليس بوصلة إلى إباحة اللحم وكذلك البيع في وقت صلاة الجمعة إنما نهي عنه لأنه قبيح أن يتشاغل به عن الغرض لا لأنه غير موصل إلى نقل الملك يبين ذلك أن ما دل على البياعات تنتقل بها الأملاك يدخل تحته هذا البيع وغيره فان قيل فان كان الذبح مما يتعبد به الأنسان هل يكون فعله بسكين مغصوبة غير مجزي قيل إذا علمنا أن الغرض بالذبح التصدق باللحم وعلمنا أن اللحم يصير مباحا بالذبح بسكين مغصوبة جاز التصدق به وإن كانت السكين مغصوبة وأما السكين المغصوبة إذا وقع الختان بها فهي كالمملوكة في إزالة ذلك القدر من اللحم والماء المغصوب كالمملوك في إزالة النجاسة فلم يبق بعد إزالتها وبعد قطع ما يجب قطعه في الختان شيء كان الأمر متوجها إليه فيمتثل
فان قيل أما كان يجوز أن يجب على الإنسان أن يغسل موضع النجاسة وأن يقطع جزءا آخر قيل يجوز أن يجب ذلك بأمر مستأنق فأما إذا لم

يتجدد أمر آخر فلا لأن الأمر الأول إذا كان أمرا بازالة تلك النجاسة وبقطع ذلك الجزء من الذكر فانه لا يمكن بعد إزالتهما إن زالا لأن إزالة الزائل مستحيلة قال أصحابنا ولا يلزم عليه أن يكون الصوم في شهر رمضان مع الخوف على النفس لا يسقط به الفرض لأنه لم يوجد عليه في الصوم أفعال وإنما أخذ عليه الكف عن الأكل والشرب والجماع ولقائل أن يقول وقد أخذ عليه فعل نية الصوم ومن حقها أن تكون طاعة وأخذ عليه الكف عن هذه الأفعال ومن حق الكف عنها أن يكون طاعة حتى يكون صوما والكف عنها مع الخوف على النفس معصية وأخذ عليه أن ينوي الصوم وفي ضمن كونه صوما كونه طاعة فاذا كان الصوم معصية لم يكن أن ينوي به الطاعة
وإن قلتم إن نية الصوم لا يدخل في ضمنها نية الطاعة ولا من حق الصوم أن يكون طاعة قيل لكم مثله في الصلاة وادعاء الإجماع في أحدهما كادعائه في الآخر ويسأل أيضا على ذلك الوقوف على جمل مغصوب والطواف عليه والوضوء بماء مغصوب وقد أجيب عن ذلك بأنه ما أخذ على الإنسان في ذلك فعل فيقال من شرطه أن يكون طاعة أو واجبا لأن الإنسان لا يكون مطيعا بفعل غيره ألا ترى أن الإنسان لو طاف به غيره وهو نائم أو وضأه غيره أجزأه وشبيه بذلك يقال في الصائم لأنه لو نام طول نهاره وقد قدم النية أجزأه ولقائل أن يقول إن ذلك لا يمنع من أن يكون لو صام وهو عالم بصومه أو وضأ نفسه كان لا بد من أن يكون قربة وطاعة كما قلتموه في الصلاة فمن هذه الجهة ينتقض دليلكم
فان قلتم إذا أجزأه الصوم والوضوء مع أنه لم يفعل شيئا فبأن يجزئه إذا فعل أولى قيل هذا لا ينجيكم من انتقاض دليلكم لأنا أوجدناكم ما من حقه أن يكون طاعة وقد وقع قبيحا ومع ذلك قد أجزأه
وقيل في الوضوء إنه لا يجب فيه النية فلم يجز أن يقال من حقه أن ينوي

به أداء الواجب والجواب أن هذا لا يتم على قول من جعل النية من شرطه ومن قال ليس النية من شرطه يقول الأولى أن ينوي الإنسان في الوضوء فصار من حق الوضوء أن يكون طاعة وأن يصح أن ينوي به القربة أو الطهارة التي يدخل في ضمنها القربة كما قلتموه في الصلاة ومعلوم أن الوضوء بالماء المغصوب ليس بقربة بل هو معصية فلم يتأت فيه هذه النية فانتقض به كلا الدليلين وقد أجيب عن الوضوء أيضا بأن نفله يقوم مقام فرضه وذلك لا يمنع من انتقاض الدليل من الوجه الذي ذكرناه وقد سأل أصحابنا أنفسهم هلا قامت الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت قبيحة مقام الصلاة الواجبة في المصلحة فلم يبق بعدها مصلحة كما قلتم لم يبق بعد إزالة النجاسة بالماء المغصوب نجاسة تزال ولم يبق بعد الوضوء بالماء المغصوب مصلحة ستدرك بالماء المملوك
وأجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن الأمة أجمعت بأن الذي يسقط فرض الصلاة هو ما دخل تحت التكليف ألا ترى أن الصلاة بغير طهارة لما لم تدخل تحت التكليف لم تقم مقام الواجب والصلاة في الدار المغصوبة لم تدخل تحت التكليف ولقائل أن يقول ان ادعاء الإجماع في ذلك هو كدعائه في أن الوضوء لا يقوم مقام الواجب إلا أن يكون داخلا تحت التكليف لأنه لوقع بماء نجس لم يسقط الفرض لما لم يدخل تحت التكليف
فهذا هو الكلام فيما استدل به شيوخنا وما يرد عليه من الاعتراضات ونحن نستدل على المسألة فنقول إن صحة الصلاة في الدار المغصوبة إما أن يراد بها أنها داخلة تحت التعبد أو يراد بها أنها تقوم مقام ما دخل تحت التعبد الأول باطل لأن التعبد لا يتناول القبيح المكروه والثاني يكفي في نفيه أن لا يدل دليل على أنها تقوم مقام ما دخل تحت التكليف وإذا لم يدل دليل على ذلك ولا هي داخلة تحت التكليف وكان الوقت باقيا لزم إعادتها لبقاء التعبد ولزم إعادتها إن خرج الوقت لأن كل من أوجب إعادتها مع بقاء الوقت أوجبها

مع خروجه وأما المسائل المتقدم ذكرها فجميعها غير داخل تحت التعبد ويجب تأملها فان دل دليل على أنها تقوم مقام الواجب قيل به وإلا قيل ببقاء الواجب ولزوم التعبد

أبواب العموم والخصوص
أما الكلام في العموم فانه يقع في الألفاظ العامة التي هي عامة على الحقيقة والتي يظن قوم أنها عامة فأما الألفاظ العامة على الحقيقة فنتكلم فيهامن وجوه منها اسم العموم هل يتناول المعاني على الحقيقة أم لا ومنها اسم العموم إذا وقع علىالقول ما الذي يفيد فيه ومنها قسمة الأدلة الشرعية قسمة الألفاظ العامة والفصل بينها وبين التي ليست عامة ومنها إقامة الدلالة على إثبات العموم في اللغة ومنها إدخال ما خرج من العموم كالجمع المعرف
فأما ما ظن أنه من جملة العموم وليس منه فيشتمل أيضا على ابواب منها الاسم المفرد المعرف ومنها الجمع المنكر ويتبع ذلك أقل الجمع ومنها نفي مساواة الشيء للشيء هل يفيد نفي اشتراكهما في كل صفاتهما أم لا ومنها اسم المذكر لا يشتمل المؤنث وإنما لم نذكر العمومين إذا تعارضا لأن ذلك يشتمل على أقسام أكثرها يكون بعضها ناسخا للبعض فأرجئنا ذلك إلى الناسخ والمنسوخ
وأما الكلام في الخصوص فمن وجوه منها ما الخصوص وما العموم المخصوص وما الخاص وما التخصيص ومنها ما الذي يجوز تخصيصه وما الذي لا يجوز تخصيصه ومنها أن ما يجوز تخصيصه إلى أي غاية يجوز تخصيصه ومنها جواز استعمال الله سبحانه العام في الخاص ومنها ما به يصير العام خاصا ومنها ذكر الأدلة الدالة على التخصيص أو ما يظنه قوم دليلا أما الأول فضربان أدلة متصلة وأدلة منفصلة أما المتصلة فالصفة والغاية والاستثناء والشرط ويدخل في الاستثناء أبواب سنذكرها وأما المنفصلة

فالعقل والكتاب والسنة ويدخل في التخصيص بالعقل خروج الصبي من الخطاب وإذا بينا جواز التخصيص بالكتاب والسنة ذكرنا في أي حال يقع التخصيص وفي أي حال لا يقع ويدخل في ذلك بناء العام على الخاص ويتبع الكلام في التخصيص أن نتكلم في العموم هل يصير مجازا بالتخصيص أم لا وهل تخصيصه يمنع من التعلق به أم لا ولم نذكر تخصيص قول النبي بفعله لأنه من باب الأفعال إذ ذلك مبني على أن فعله حجة وتخصيص قول النبي صلى الله عليه و سلم بأقاويل الصحابة رضي الله عنهم مبني على أن أقاويلهم حجة وذلك إما أن يرجع إلى الإجماع أو إلى التقليد ولم نذكر تخصيص الإجماع لأنه مبني على كونه حجة وذلك داخل في أبواب الإجماع ولم نذكر التخصيص بأخبار الآحاد ولا بالقياس لأن ذلك مبني على كونهما حجتين فذكرنا ذلك في الأخبار وهذا في ابواب القياس
فأما ما يظن كونه مخصصا فضربان أحدهما معنوي والآخر لفظي أما الأول فكقول بعضهم إن كون المكلف كافرا أو عبدا يخرجه من الخطاب بالعبادات وإن كان لفظ الخطاب يتناولهم وكتخصيص بعضهم العموم بالعادات وكالتخصيص بقصد المتكلم بالعموم إلى الذم وأما الثاني فيشتمل على أبواب منها الخطاب الوارد على سبب وسؤال ومنها العموم إذا تعقبه شرط أو استثناء أو صفة وحكم لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله العموم هل يجب أن يكون المراد بذلك ذلك البعض فقط أم لا ومنها هل يجب أن يضمر في المعطوف جميع ما يظهر في المعطوف عليه وإذا كان أحدهما خاصا كان الآخر خاصا أم لا ومنها تخصيص العموم بذكر بعض ما شمله ومنها تقييد المطلق وتخصيصه لأجل المقيد فأما تخصيص العموم بمذهب الراوي فهو أن يجعل مذهبه كالرواية لنص سمعه والكلام في ذلك يختص بالأخبار

باب في أن قولنا عام وعموم لا يتناول على سبيل الحقيقة إلا القول دون
غيره
اعلم أنه لا شبهة في وصف الكلام الشامل بأنه عام وعموم على الحقيقة لأنه لا وجه نعلم به كون الاسم حقيقة من اطراد وغيره إلا وهو حاصل فيه فأما وصف ما ليس بلفظ بأنه عام نحو قولهم عمهم المطر والخصب فمجاز لأن حقيقة عموم المطر للناس أن يكون بجملته حاصلا لكل واحد منهم وذلك مستحيل لأن جملة المطر تحصل لجملة الناس وأجزاؤه لأجزائهم فأما ألفاظ العام نحو قولنا المشركين فان تناوله لهذا الشخص ولهذا الشخص على حد سواء وليس يتناول جزء منه لشخص وجزء منه لشخص آخر كما ذكرناه في المطر وقد قيل إن وصف المعاني بأنها عامة لا يطرد ألا ترى أنه لا يوصف الأكل بأنه عموم فان وصف بذلك فبتقييد لا على طريق الإطلاق نحو أن نقولة الأكل عموم في الناس فأما أن نطلق القول بأن الأكل عموم كما نقول هذا اللفظ عموم فلا
باب في حقيقة الكلام العام
اعلم أن الكلام العام هو كلام مستغرق لجميع ما يصلح له هذا هو المعقول من كون الكلام عاما ألا ترى أن قولنا الرجال مستغرق لجميع ما يصلح له لأنه استغرق الرجال دون غيرهم إذ كان لا يصلح لغيرهم وكذلك لفظ من في الاستفهام نحو قولك من عندك لأنها تستغرق كل عاقل عنده ولا تتعرض لغير العقلاء ولا لعقلاء ليسوا عنده لأنها لا تصلح في هذا الموضع لهم وقولنا كل يستغرق كل جنس يدخل عليه دون ما لا يدخل عليه ولا يلزم عليه لفظ التثنية كقولك رجلان ولفظ العدد كقولك ثلاثة

رجال وعشرة لأن ذلك لا يستغرق كل ما يصلح له ألا تراه يصلح لهذين الرجلين ولهذين ولهذين وليس يستغرق كل ذلك وقولنا عشرة يصلح لكل عشرة من الرجال وليس يستغرقها كلها
فأما ألفاظ النكرات نحو قولك رجل فانه عام على البدل غير عام على الجمع والحد لا يتناوله من حيث الجمع لأنه لا يصلح لهذا الرجل ولهذا ولهذا ولا يستغرقهم وهو داخل في الحد من حيث البدل لأنه يتناول كل رجل على البدل ولا يجوز أن يقف على بعض الرجال ولا يتعداهم إلى غيرهم على البدل وقد زاد قاضي القضاة في الشرح زيادة احترز بها من التثنية والجمع فقال العموم لفظ مستغرق لجميع ما يصلح له في أهل اللغة من غير زيادة وذلك لأن التثنية والجمع إنما يكونان بزيادة تدخل على الواحد ولا يمنع من إنتقاصه بلفظ العدد لأنه ليس يستغرق قولنا عشرة لآحاد العشرة بزيادة دخلت على الاسم لأن الاسم الواحد ليس هو حاصل لهما مع الزيادة ويلزم أن لا يكون اسم الجنس إذا دخله لام الجنس عاما نحو قولك الرجل والرجال لأن لام الجنس زيادة دخلت على الإسم

باب في ذكر الأدلة الشرعية
اعلم أن الأدلة الشرعية ضربان دليل مستنبط وليس هو غرضنا ها هنا ودليل غير مستنبط وهو إما قول وإما فعل فالفعل لا يمكن ادعاء العموم على الوجوه التي يقع عليها لأنها إن كانت متنافية لم يصح أن يجتمع للفعل نحو جمع النبي صلى الله عليه و سلم بين الصلاتين يستحيل أن يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما وفي وقتيهما بأن يصلي الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها وإن لم يكن الوجوه متنافية نحو أن يقتل النبي صلى الله عليه و سلم رجلا فانه يحتمل أن يكون قتله لأنه ارتد ولأنه قتل غير أنه لا يمكن أن يعلم بمجرد الفعل أنه قتله لكلا

الوجهين لأنه كما يجوز أن يجتمعا للفعل فانه يجوز أن ينفرد أحدهما وليس الفعل لفظا فيقال إنه وضع ليشملهما وأما القول فمنه ما لفظه يفيد العموم ومنه ما لفظه لا يفيد العموم والذي يفيد لفظه العموم منه ما يفيده في اللغة ومنه ما يفيده في العرف ويقسم ما يفيد لفظة العموم من وجه آخر فيقال منه ما يفيد العموم من جهة اللفظ فقط ومنه ما يفيده من جهة المعنى واللفظ وأما ما لا يفيد لفظة العموم فمنه ما يفيد عن جهة المعنى ومنه ما لا يفيده لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ونحن نذكر ابواب ذلك إن شاء الله عز و جل

باب فيما يفيد لفظة العموم في اللغة وفي العرف وفيما يفيده من جهة اللفظ
ومن جهة المعنى
اعلم أن ما لفظه عام في اللغة ضربان أحدهما عام على الجمع والآخر عام على البدل والأول ضربان أحدهما يكون عاما لأن فيه اسما موضوعا للعموم والآخر يكون عاما لأنه اقترن بالاسم ما أوجب عمومه والاسم العام ضربان أحدهما لا يختص ما يعقل ولا ما لا يعقل بل يقع عليهما على الجمع وعلى الانفراد والآخر يختص أحدهما فالأول لفظ أي يقول أي إنسان لقيته فسلم عليه فيعم الكل ويقول أي نبات رأيته فخذه وأي جسم رأيته فخذه فيعم ما يعقل من الأجسام وما لا يعقل وكذلك لفظة كل وجميع فانهما اسمان يدخلان على ما يعقل وعلى ما لا يعقل وأما الذي يختص أحدهما فضربان أحدهما يختص ما يعقل وما يجري مجراه وهي لفظة من في الاسفهام والمجازاة يقول من عندك ومن دخل داري أكرمته والآخر يختص ما لا يعقل وهو ضربان أحدهما لا يختص جنسا مما لا يعقل دون جنس كقولك ما في المجازاة والاستفهام والآخر يختص جنسا مما لا يعقل نحو متى في الزمان واين في المكان وغير ذلك أما متى فانها قد تكون استفهاما عن كل زمان دخلت عليه يقول متى جاءك بنو تميم

فيكون مستفهما عن كل الزمان الذي جاؤوك فيه حتى لو جاؤوك في كل الزمان لكان استفهاما عنه وإذا قلت متى جاءك زيد أفاد أيضا استفهاما عن زمان مجيئه ولفظة متى لا بد أن يقرن بها شيء وقع في الزمان فيكون استفهاما عن كل الزمان الذي وقع فيه وكذلك قولك أين زيد وأين الناس
وأما الخطاب الشامل لأن فيه اسما قد دخل عليه ما أوجب استغراقه فضربان أحدهما يكون الموجب لشموله متصلا به والآخر منفصلا عنه أما المتصل به فنحو لام الجنس الداخل على الاسم المنفرد كقولك أهلك الناس الدينار والدرهم أو الداخل على الجمع كقولك الرجال هذا على قول الشيخ ابي على رحمه الله وأما المنفصل فضربان أحدهما الإضافة والآخر حرف النفي الداخل على النكرة أما الإضافة فكقولك ضربت عبيدي وأما حرف النفي الداخل على النكرة كقولك ما جاءني من أحد
وأما الألفاظ العامة على البدل فأسماء النكرات وهي ضربان أحدهما في غاية التنكير نحو قولك شيء ومعلوم والآخر دون ذلك في التنكير وذلك ضربان أحدهما نهاية في نقصان التنكير نحو قولك رجل وغير ذلك مما يختص نوعا واحدا والآخر متوسط في التنكير نحو قولك حيوان وجسم وما اشبه ذلك فهذا ما هو عام في اللغة
فأما ما يفيد العموم في العرف فكقول الله سبحانه حرمت عليكم الميتة وقوله سبحانه حرمت عليكم أمهاتكم هما من جهة العرف عامان في تحريم سائر وجوه الاستمتاع بالأمهات وسائر وجوه الانتفاع بالميتة ومن ذلك قول الراوي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجمع بين الصلاتين في السفر ذكر قاضي القضاة أن ذلك لا يفيد في اللغة أنه كرر

الجمع وإنما يفيد أنه فعل ذلك فيما مضى لأن لفظة كان تفيد تقدم الفعل وقال في الدرس إن ذلك يفيد تكرار الجمع من جهة العرف لأنه لا يقال فلان كان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره
وأما ما يفيد العموم من جهة اللفظ ومن جهة المعنى فقول الله سبحانه والسارق والسارقة على قول الشيخ أبي علي رحمه الله لأن صريح الآية يفيد الاستغراق وخروجه مخرج الزجر يفيد ذلك على ما ذكره الشيخ ابو هاشم وكذلك كل لفظ عموم خرج مخرج الزجر

باب فيما يفيد العموم من جهة المعنى دون اللفظ وفيما لا يفيده من جهة
اللفظ ولا من جهة المعنى مما ظنه قوم عاما
أما الذي يفيد العموم من جهة المعنى فهو أن يدل على العموم دليل يقترن باللفظ وذلك ضروب فمنها أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ومفيدا لعلنه فيقتضي شياع الحكم في كل ما شاعت فيه العلة ومنها أن يكون اللفظ المفيد لعموم اللفظ ما يرجع إلى سؤال سائل ومنها دليل خطاب عام على قول من جعله حجة أما ألأول فضربان أحدهما تعليل من جهة الأولى كفحوى القول على ما سيجيء بيانه والآخر تعليل لا من جهة الأولى والدل على ذلك ضروب كثيرة نذكر في باب القياس إن شاء الله عز و جل فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم في الهر إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات فاقتضى عموم طهارة كل ما كان من الطوافين علينا ومن ذلك قول الراوي سها رسول الله صلى الله عليه و سلم فسجد فنعلم أن العلة في ذلك سهوه إلى غير ذلك من ضروب التعليل
وأما المقتضى للعموم مما يرجع إلى السؤال فيجوز أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عمن

أفطر فيقول عليه الكفارة فنلعم أن ذلك يعم كل فطر سواء علم النبي صلى الله عليه و سلم ما وقع الفطر به أو لم يعلم لأنه انما أجاب عن السؤال انما كان عن مطلق الفطر فإن لم يكن جوابه عن مطلق الفطر لم يكن جوابا عن السؤال ولأنه صلى الله عليه و سلم لو كان قد أجاب عن الفطر الذي علمه لكان قد بين ذلك لئلا يظن سامع أن الكفارة تلحق مطلق الفطر
وأما دليل الخطاب فنحو قول النبي صلى الله عليه و سلم في سائمة الغنم زكاة دليل ذلك أن لا زكاة في كل ما ليس بسائمة على قول بعضهم
فأما ما لا يفيد العموم لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى مما ظنه قوم عاما فنحو الجمع المنكور ونحو جمع المذكر لا يدخل تحته المؤنث وقد دخل في هذا الباب وفي الذي قبله فصول يجب إقامة الدلالة عليها منها إثبات العموم في اللغة ومنها الجمع الذي دخله الألف واللام ومنا اسم المفرد إذا دخله الألف واللام ومنها الجمع المنكر ومنها لفظ المذكر هل يدخل تحته المؤنث أم لا ونحن نذكر جميع ذلك إن شاء الله

باب الدلالة على أن في اللغة ألفاظا للعموم
اختلف الناس في ذلك فقال بعض المرجئة إنه ليس في اللغة موضوع للاستغراق وحده بل ما وضع للاستغراق وهو موضوع لما دونه من الجموع وزعموا أن قولنا كل وجميع حقيقة في الاستغراق وفي كل جمع دون الاستغراق وكذلك قالوا في لفظة من في المجازاة والاستفهام وحكي عن بعض المرجئة أنه قال ليس في اللغة لفظ العموم وإنما يكون اللفظ عاما بالقصد وزعموا أن الألفاظ التي يقول خصومهما إنها عامة هي مجاز في الاستغراق حقيقة في الخصوص ويشبه أن يكونوا جعلوا لفظة من حقيقة في الواحد مجازا في الكل أو يكونوا جعلوا بقية ألفاظ العموم حقيقة في جمع

غير مستغرق لأنه يبعد أن يجعلوا ألفاظ الجمع المعرفة باللام كقولنا المسلمون حقيقة في الواحد مجازا في الجمع ولفظ كل وجميع في ذلك أبعد وذهب شيوخنا المتكلمون والفقهاء إلى أن في اللغة ألفاظا وضعت للاستغراق فقط فهي حقيقة فيه مجاز فيما دونه والدليل على ذلك أن الاستغراق ظاهر لكل أحد والحاجة تمس إلى العبارة عنه ليفهم السامع أن المتكلم أراده فجرى مجرى السماء والأرض وغيرهما في ظهورهما وشدة الحاجة إلى العبارة عنهما فكما لم يجز مع هذا الداعي الذي هو داعي الحاجة أن تتوالى الأعصار بأهل اللغة ولا يضعوا للسماء والأرض كلاما يختص كل واحد منهما مع أنهم قد وضعوا الأسماء للمعاني الغامضة ووضعوا للمعنى الواحد أسماء كثيرة كذلك لا يجوز ألا يضعوا للاستغراق كلاما يخصه وليس يجوز من أمة عظيمة في أعصار مترادفة أن يضعوا الأسماء الكثيرة للمعنى الواحد ويعدلوا عن وضع كلام يحتص بمعنى ظاهر وهذه الدلالة تفسد قول الفريقين
فان قالوا ليس يمتنع أن يتفق ذلك من الأمم العظيمة أليس العرب مع كثرتها لم يضعوا الفعل الحال عبارة تختصه دون الفعل المستقبل ولا وضعوا عبارة للاعتماد سفلا ولا للاعتماد علوا ولا للكون الذي هو يمنة أو يسرة ولا وضعوا عبارة لرائحة الكافور يختصها والحاجة إلى ذلك شديدة والأمر فيها ظاهر وقد أجاب قاضي القضاة فقال هذه الأشياء غير ظاهرة فلذلك لم يضعوا لها عبارات ولقائل أن يقول لا شيء أظهر من رائحة الكافور ومفارقتها لرائحة المسك والاعتماد والمدافعة للشيء سفلا ومفارقتها للمدافعة علوا ونحن نجيب عن السؤال بأن الذي أوجبناه لظهور المسمى وشدة الحاجة إلى العبارة عنه هو أن يوضع له في اللغة كلام ينبيء عنه سواء كان مفردا أو مركبا وعند خصومنا أنه ليس في اللغة كلام منفرد ولا مركب ينبيء عن الاستغراق وحده فلزمتهم الحجة فأما هذه الأشياء كلها فلها بأجمعها عبارات تعرف بها وهي أسماء مضافة لأنا إذا قلنا رائحة كافور و

اعتماد سفلا أو علوا وقلنا يضرب زيدا الآن تميزت من غيرها بهذه العبارات وكذلك إذا قال السائل الاشتراك بين الاستغراق وبين البعض معقول وقد تمس الحاجة إلى أن يجعل المتكلم غيره في شك من استغراق كلامه أو قصره على البعض فينبغي أن يكون في اللغة خطاب ينبيء عن الاشتراك لأنا نقول إن في اللغة خطابا ينبيء عن الاشتراك يفيد ذلك وهو أن يدخل الألف واللام على اسم الجمع على قول أبي هاشم فنقول جاءني الناس أو جاءني القوم ولو قال جاءني ناس أو جاءني قوم فأنى بلفظ جمع من غير ألف ولام لأفاد ذلك التردد بين الاستغراق وما دونه من الجموع ولو قال ايضا جاءني إما كل الناس وإما بعضهم يحصل له هذا الغرض
فان قالوا فنحن أيضا نقول إن في اللغة كلاما يفيد الاستغراق وهو قولنا استغراق قيل الذي نعرفه من قولكم خلاف ذلك ومن مذهبكم أن حسن الاستثناء والاستفهام والتأكيد يدل على أن اللفظة غير مستغرقة ومعلوم أنه يحسن أن نقول استغرقت أكل الخبز إلا هذا الرغيف ويحسن أن يستفهم المتكلم بذلك ويحسن أن يؤكده فيقول استغرقت أكل الخبز كله فان قالوا لا حاجة بهم إلى وضع لفظة الاستغراق لأنه يمكن المتكلم أن يعدد الأشخاص الذين يريد أن يعمهم بالحكم واحدا واحدا والجواب أنه قد يريد الإنسان أن يعبر عن جميع الناس ليدل على حكم يشملهم فلا يمكنه أن يعددهم واحدا واحدا وقد يمكن ذلك في بعض الأشخاص فيضق تعدادهم لكثرتهم فان قيل لا حاجة بهم إلى وضع اسم يختص الاستغراق لأنهم قد وضعوا له ولما دونه من الجمع اسما إذا استعملوه مع إشارة أو شاهد حال أنبأ عن الاستغراق فيجري ذلك مجرى اسم يختص الاستغراق قيل إنهم لا يعلمون أنه يقترن بالاسم إشارة أو شاهد حال يحصل العلم عندهما بالاستغراق ولا يجب أيضا وقوع العلم عند الإشارة على كل حال وعلى أن عدولهم إلى وضع الأسماء للمعاني واستكثارهم من العبارات عن الشيء الواحد يدل على أنهم قد

عدلوا عن الدلالة بالإشارة إلى العبارة لضيق الإشارة واتساع العبارة ووضوع دلالتها فلا يجوز مع هذا الفرض أن يتركوا ما يظهر في نفسه وتشد الحاجة إليه فلا يضعوا له عبارة فان قالوا إنهم يمكنهم أن يدلوا على الاستغراق بالتعليل فلا حاجة بهم إلى وضع عبارة له لأنهم إذا قالوا من دخل داري ضربته لأنه دخل داري علمنا أنه يعم بذلك كل من دخل الدار الجواب أنه ليس حكم يعرف علته فيعلل بها ألا ترى أن الإنسان إذا أراد أن يخبر بإن كل من في الدار نائم أو آكل أو ضارب إلى غير ذلك مما لا يحصي كثره لم يعرف لذلك علة فيعلل بها وقد تكون عللهم أيضا مختلفة فواحد أكل لعلة وآخر لعلة أخرى فلا يمكن تعليل ذلك بعلة تشيع فيهم فان قالوا إنما كان يلزم ما ذكرتموه لو كان أصل المواضعة من قبلهم إذا وضعوا الأسماء لعرض هو قائم في الاستغراق وجب أن يضعوا له كلاما أيضا فأما والاسماء توقيف فلا يلزم ذلك قيل لو كانت الأسماء توقيفا في الأصل لوجب إذا لم يوقفوا على وضع كلام لمعنى واشتدت حاجتهم إلى وضع كلام له أن يضعوه له كما أن من استحدث له من الصناع يلتجيء إلى وضع اسم لها وإن كان أصل المواضعة ليست لسبق إلى الفهم البعض دون الاستغراق من قبله وكذلك من ولد له ولد وإذا وجب ذلك في الشخص الواحد فللأمم الكثيرة في الأزمان المتصلة أولى بوجوب ذلك
دليل لو كان لفظ للعموم مشتركا بين الاستغراق وبين الجموع التي دونه لكان الإنسان إذا قال رأيت القوم كلهم أجمعين قد أكد الاشتراك والالتباس وكلما زاد في التأكيد زاد تأكيد الالتباس والإيهام ومعلوم باضطرار من مقاصد أهل اللغة أنهم لا يؤكدون بذلك الاشتراك بل يقصدون تأكيد الإيضاح والبيان وأنهم إذا أرادوا تأكيد الإيهام لم يعمدوا إلى هذا التأكيد وإنما قلنا إنه يلزم المخالف تأكيد الاشتراك والالتباس لأن لفظة كل مشتركة على سبيل الحقيقة بين الاستغراق وبين ما تحته من الجموع وكذلك لفظة أجمعين وكل من دل على شيء بدلالة ثم تابع بين الأدلة عليه فانه يتأكد ذلك المدلول وجرى مجرى أن يقول الإنسان رأيت جمعا

إما كل الناس وإما بعضهم ثم كرر هذا الكلام مرة أخرى في أنه يكون مؤكدا للالتباس وكذلك لو قال رأيت سقفا ثم قال رأيت سقفا أو قال رأيت إما الحمرة وإما البياض ولو جاز مع اشتراك اللفظتين بين الاشتراك وبين البعض أن تكون لفظة كل مؤكدة للاستغراق لجاز أن تكون مؤكدة للبعض إذ كل واحدة من اللفظتين حقيقة في الكل وحقيقة في البعض فلو جاز أن يتأكد باللفظة الثانية الكل جاز أن يتأكد بها البعض وذلك محال إن قيل إنما يؤكد بلفظة كل ولفظة أجمعين لأن لفظة كل أو لفظة أجمعين أكثر استعمالا في الاستغراق من غيرها من الألفاظ ولفظة أجمعين أكثر إستعمالا في الاستغراق من لفظة كل قيل أما لفظة أجمعين أكثر فأنه ليس يظهر أنها اسم لها وإن كان أصل المواضعة ليست إستعمالا في الاستغراق من لفظة كل ولو ظهر ذلك لكان لا يخلو إما أن تكون مع ذلك مشتركة بين الاستغراق وبين ما دونه أو لا تكون مشتركة بل تكون بالاستغراق أخص فإن كانت بالاستغراق أخص وهي مفيدة له على سبيل الحقيقة لا غير فهو قولنا دون قولكم وإن كانت مشتركة بينهما واحتمالهما لهما على سواء فالالتباس قائم فان قالوا إنما وقع التأكيد بلفظة أجمعين لأنها في العادة تستعمل في أكثر الجنس لا في أقله وليس كذلك الناس والقوم قيل هذا لا يمنع من أن يكون بتأكيد الاشتراك لأن استعمال لفظه كل وأجمعين في الأكثر لا يمنع من أن يكون مشتركة بين البعض وبين الاستغراق وأن يلتبس على السامع مراد المتكلم للكل والبعض وعلى أنه إن كانت هذه اللفظة أخص بالأكثر منها بالأقل فقد خرجت من أن تكون مشتركة ووجب كونها حقيقة في الأكثر فقط با وإن لم تكن بالاكثر أخص منها بالأقل بل احتمالها لهما على سواء فقد سقط السؤال وعلى أن هذا لا يتأتى في لفظة كل ولفظة أجمعين لأنه لا يمكن أن يقال إن إحداهما تستعمل في شيء أكثر مما تستعمل فيه الأخرى ألا ترى أنا إذا قلنا رأينا الذين في الدار كلهم أو قلنا رأينا الذين في الدار أجمعين لم يجد السامع فصلا بين الكلامين في كثرة

ما يفهمه وقلته وأيضا فقد يقول الإنسان ضربت الناس الذين في الدار أجمع فلو كانت إحدى اللفظتين لا تقع على سبيل الحقيقة إلا على أكثر مما تقع عليه الأخرى لما جاز تأكيد الأكثر بالأقل إن قيل الأمر وإن كان كما ذكرتم في لفظة كل ولفظة أجمعين إذا كانا مفردين فانهما إذا اجتمعا فقال القائل رأيت الناس كلهم أجمعين علمنا أنه رأى أكثر مما رآه لو قال رأيت الناس أجمعين أو قال رأيت الناس كلهم قيل إذا كانت كل واحدة من اللفظتين لا تفيد هذه الكثرة دون ما نقص عنها فيجب مثله عند الاجتماع لأن المركب من الكلام إنما يفيد تركيب معان مفردة فقط ولا يفيد فائدة زائدة
دليل متقرر أن أهل اللغة يلجأون في الإخبار عن الاستغراق إلى لفظة كل وجميع ولا يلجأون إلى لفظ الجمع نحو مسلمين وإن كان ذلك مشتركا في كل جمع فان قالوا إنما يلجأون إلى لفظ كل لما يقترن بها من شاهد الحال قيل فهلا اقترن بلفظ الجمع ذلك مع أنه مشترك كلفظة كل
دليل آخر الإنسان إذا سمع غيره يقول ضربت كل من في الدار وعلم أن في الدار عشرة ولم يعرف سوى هذا اللفظ أعني أنه لم يعرف أن في الدار أباه وغيره ممن يغلب على الظن أنه لا يضربه بل جوز أن يضربهم كلهم فان الأسبق إلى فهمه الاستغراق ولو كانت اللفظة مجازا في الاستغراق لسبق إلى الفهم البعض دون الاستغراق ولو كانت اللفظة مشتركة بين الاستغراق وما دونه لتردد في الفهم أنه أراد الكل أو البعض على سواء كما تترد معاني الأسماء المشتركة فلا تترجح في النفس ومن أنصف من نفسه علم أن الأمر كما قلناه
دليل قول القائل ضربت كل من في الدار يناقضه وينافيه قول لم أضرب كل من في الدار لأن الإنسان إذا أراد أن يناقض من قال ضربت

كل من في الدار قال له في الحال لم تضرب كل من في الدار فلو كانت لفظة كل مشتركة بين البعض والكل لم تكن مناقضة لقوله لم أضرب كل من في الدار لأن هذا القول يصدق إذا ضرب البعض دون البعض ولو كانت لفظة كل مجازا في الاستغراق لكان ما ذكرناه من نفي المناقضة أظهر وأبين ومعلوم أيضا أن لفظة كل مقابلة للفظة جزء وعلى كل حال وذلك يمنع من أن يكون قولنا كل مفيدا للجزء على الحقيقة
دليل قول القائل اضرب رجلا يفيد ضرب رجل غير معين وقولنا لا تضرب رجلا كالسلب له ولا يكون كالسلب له إلا بأن يفيد نفي ضرب كل الرجال لأنه لو نفي ضرب بعضهم لاجتمع مع ضرب رجل وفي ذلك إبطال تنافيهما وكذلك قول القائل ضربت رجلا وقوله لم أضرب رجلا
دليل اعلم أن لفظة من عامة إذا كانت نكرة في المجازاة والاستفهام وإذا كانت معرفة خصت هكذا ذكره شيوخنا ونحن نقول إن لفظة من لا يستفهم بها إلا أن يقرن بها صفة فاذا قرن بها صفة عمت كل عاقل له تلك الصفة سواء كانت معرفة أو نكرة يقول في الاستفهام من في الدار فيكون استفهاما عن كل عاقل في الدار ويقول في المجازاة من دخل داري ضربته فيعم كل عاقل دخل داره ويقول في المعرفة ضربت من ضربت يا زيد فيعم كل عاقل ضربه زيد فهي كالنكرة في هذا المعنى وإنما تفارق النكرة في أنها إذا كانت معرفة دخلت على من قد عرفة المخاطب والمخاطب وليس كذلك إذا كانت نكرة نحو قوله من دخل داري ضربته والدليل على أن لفظة من تعم في الاستفهام أنه لا شبهة في أنها حقيقة في العقلاء لأنه لا وجه يقتضي كونها حقيقة في غيرهم إلا وما هو أقوى منه يقتضي كونها حقيقة فيهم فلا يخلو إما أن تكون حقيقة في جميعهم فقط أو حقيقة في بعضهم فقط أو حقيقة في الكل وفي البعض فلو كانت حقيقة في البعض حتى يكون استفهاما عن صفة بعض العقلاء سواء كان معينا أو غير معين

لوجب إذا كان عند الإنسان بنو تميم كلهم فقال له قائل من عندك من بني تميم فذكرهم له واحدا واحدا أن يكون قد أجابه عما سأله وعما لم يسأله وذلك في القبح جار مجرى أن يجيبه بذكر العقلاء وبذكر الحمير ولو كانت حقيقة في بعض معين لوجب إذا كان عند المسؤول غير ذلك البعض من العقلاء أن لا تكون من استفهاما عنهم فكان لا يحسن أن يذكرهم في الجواب كما لو كان عنده البهائم إذ السؤال ما تناولهم وأيضا فالمسؤول لا يعرف البعض الذي يكون لفظة من سؤالا عنه لأنه ليس له ذكر في لفظة من وفي ذلك كون المسؤول غير عارف بما سئل عنه ولا يقصد السائل بسؤاله بعضا دون بعض ولا عددا دون عدد وأيضا فليس بأن تتناول لفظة من بعضا من العقلاء بأعيانهم بأولى من أن تتناول بعضا آخر ولو كانت لفظة من مشتركة بين الكل والبعض لكان العبد إذا قال له سيده من عندك وعنده جماعة من الناس له أن لا يجيب بذكر جميعهم ومعلوم أن العقلاء يلومونه عى ذلك ويقولون له قد قال لك من عندك فلم أجبته بذكر البعض ولكان له أن يقول ما أدري ما الذي تعنيه بكلامك إذ كلامك مشترك بين البعض وبين الكل ولكان له أن يقول أعن خمسة تسألني أو عن ستة أو عن سبعة ولكان له أن يقول عن العرب تسألني أم عن العجم فاذ قال له عن العرب قال أعن مضر أم عن ربيعة فاذا قال عن مضر قال أعن بني سعد أم عن بني زيد ثم يتصل الاستفهام من المسؤول هكذا لأنه لا وجه يقتضي كون لفظة من مشتركة بين الكل والبعض الاوهو قائم في قولنا العرب وفي قولنا بني تميم ومن مذهب المخالف أيضا أن هذه الألفاظ كلها مشتركة ومعلوم قبح هذا الاستفهام بل لا يتفق ذلك من العقلاء ولا ما هو أقل منه فان قالوا إنما لم يحسن إيصال هذا الاستفهام لأن المسؤول يضطر الى قصد السائل عن بعض هذه الاستفهامات قيل فكيف يضطر إلى قصده ابدا مع أن جميع ما يأتيه من الألفاظ مشترك وهل هذا إلا كالقول بأن الإنسان إذا سمع غيره يقول

رأيت شفقا علم على طريقة واحدة أن المتكلم قد أراد الحمرة في أن ذلك محال وإنما يتفق ذلك في بعض الحالات أن يضطر إلى أنه أراد أحد المعنيين وإلا فالأصل أن يلتبس عليه ولو جاز أن يضطر إلى قصده أبدا لكان الاسم المشترك أظهر من الاسم الذي حقيقته معنى واحد لأن هذا الاسم لا يضطر السامع إلى معناه على طريقة واحدة وإنما يظن أنه قصد ذلك المعنى أو يعلم علم استدلال إذا كان المتكلم به حكيما
فان قالوا إنما يضطر السامع إلى قصد المتكلم لما يقترن بكلامه من الإشارات قيل إنه لفظة من ليس يقترن بها إشارة ولو أقترن بها إشارة في بعض الحالات لجاز أن لا يقترن بها في حالة أخرى وكان ينبغي أن يحسن هذا الاستفهام الذي ذكرناه إذا لم تقترن الإشارة بكلامه وأيضا فليس بواجب حصول العلم عند الإشارة على كل حال فكان ينبغي أن يحسن هذا الاستفهام في حال دون حال إن قيل أليس قد يقول المتكلم لمن قاله من عندك أعن العرب تسألني أم عن العجم فبطل قولكم إن ذلك لا يحسن الجواب أنه متى لم يعرف إلا مجرد اللفظة لم يحسن منه هذا الإستفهام وإنما يحسن منه ذلك إذا علم من ضمير السائل أن غرضه أن يسأله عن أحد القبيلتين إما العرب وإما العجم ولا يعرف أن غرضه أحدهما بعينه فيقول له أعن العرب تسألني أم عن العجم ولو كان الأصل حسن سؤاله عن أحد القبيلتين لكان ينبغي أن يكون حسن هذا الاستفهام هو الأكثر وقبحه هو القل والأمر بخلاف ذلك ويحسن أن يتصل الاستفهام على ما ذكرناه فعلمنا أنه إن حسن أن يقول المسؤول للسائل أعن العرب تسألني فلما ذكرناه وقد يكون عند المسؤول عالم من الناس يعجز عن ذكر آحادهم فيقول عندي عالم من الناس لا أستطيع ذكر آحادهم فيعتذر بذلك ويدل اعتذاره على أن المفهوم من لفظة من السؤال عن كل عاقل عنده إن قيل إنما يجيبه بذكر كل عاقل عنده لأنه إذا أجابه بذلك فقد صار إلى غرض السائل لأنه إن كان غرضه السؤال عن الكل فقد أجابه وإن كان غرضه السؤال عن البعض

فقد دخل تحت جوابه عن الكل قيل يقتضي حسن جوابه عن الكل ولا يوجبه وفي ذلك حسن استفهام المسؤول عن الحد الذي ذكرناه وأيضا فان كانت اللفظة مشتركة فليس في جواب المسؤول بذكر الكل وصول إلى غرض السائل على كل حال لأنه قد يجوز أن يكون غرضه السؤال عن البعض وهو أحد محتملي السؤال وأن لا يفحص عن الباقي ولا يعرفه فان قالوا لو كان هذا غرضه لما أتى بلفظ مشترك قيل ولو كان غرضه الكل لما أتى بلفظ مشترك بين الكل وبين البعض وعلى أن هذا يقتضي أن يكون غرض المستفهم بلفظة من السؤال عن الكل أبدا وهذا يقتضي السامع ذلك من غرضه وذلك يزيل كونها مشتركة فان قالوا إنا غير مشتركة من جهة العرف قيل إذا ثبت لنا أنها غير مشتركة في اللغة في هذا الوقت فقد تم غرضنا ولا ضرر علينا في أن لا نعرف لماذا وضعت من قبل على أنه لا طريق إلى أن نعلم أن اللفظة موضوعة في أصل اللغة للشيء إلا أن نعلم أنها حقيقة فيه في هذا الوقت ولا يدل دليل على أنها منقولة فلو جوزنا في لفظة من أن تكون منقولة لم يجوز ذلك في كل لفظة
دليل القائل إذا قال من دخل داري ضربته حسن أن يستثنى منه كل عاقل والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فاذا لولا الاستثناء لوجب دخول كل عاقل تحت لفظة من فلو كانت لفظة من حقيقة في الخصوص مجازا في العموم أو كانت حقيقة في الاستغراق وفيما دونه من الجموع لما وجب دخول كل عاقل تحت الكلام على كل حال إن قال أصحاب الاشتراك ما أنكرتم أن يكون الاستثناء إنما يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته فجاز أن يستثنى الإنسان من لفظة من أي عاقل شاء لصحه دخول كل عاقل تحتها قيل لو جاز ما ذكرت لجاز أن يقول القائل لغيره اضرب رجالا إلا زيدا وهذا الكلام في الحسن والإستقامة يجري مجرى قول قائل من دخل داري ضربته إلا زيدا لأن أي رجل أشرت إليه يجوز أن يدخل تحت قوله اضرب رجلا على سبيل الجمع

والشمول ومعلوم أن أهل اللغة لا يتناولون قول القائل من دخل داري ضربته إلا زيدا بل يجعلون ذلك استثناء حقيقة ويتأولون قوله اضرب رجالا إلا زيدا ويقولون إن إلا ها هنا بمنزلة ليس كأنه قال اضرب رجالا ليس زيد منهم
وقد استدل أصحابنا على أن الاستثناء لا يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته بأشياء
منها قولهم لو حسن ذلك لحسن أن يقول القائل ضربت رجلا إلا زيدا ورأيت رجلا إلا زيدا لأن كل رجل يصح دخوله تحت قوله أضرب رجلا ولقائل أن يقول أما قول القائل اضرب رجلا إلا زيدا فحسنه لازم لكم لأن قوله اضرب رجلا يتناول كل رجل على البدل على سبيل الوجوب لا على سبيل الصحة فكان ينبغي أن يحسن أن يستثنى منه زيدا ليخرج من وجوب تناول الخطاب له على البدل فان قلتم إنما لم يحسن ذلك لأن قوله اضرب رجلا لا يتناول كل رجل على جهة الشمول والاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته على جهة الشمول الجمع قبل لكم ما أنكرتم أن يكون الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته على جهة الشمول أيضا وأما قوله رأيت رجلا إلا زيدا فانه لا يستعمل لأن قوله رأيت رجلا وإن لم يفد رجلا بعينه فاذا نعلم أن رؤيته ما تناولت إلا شخصا معينا وإن لم يكن معينا لنا والشيء الواحد المعين لا يجوز أن يستثنى منه لأنه لم يدخل معه غيره لا على جهة الشمول ولا على جهة البدل
ومنها قولهم إن الاستثناء يدخل على ألفاظ العدد كقول القائل له على عشرة إلا واحدا وإنما حسن دخوله على العشرة لأنه قد أخرج منها ما لولاه لدخل فيها ألا ترى لا يحسن استثناؤها كلها ولا استثناء ما لم يدخل تحتها ولقائل أن يقول إنما حسن استثناء الواحد من العشرة لأنه لولا الاستثناء لصح

دخوله في الخطاب لا لوجوب دخوله فيه لأن وجوب دخول الواحد في جملة العشرة لا يمنع من كون دخوله صحيحا إن قيل كيف يكون دخوله صحيحا وواجبا قيل إن صحة دخوله تحت لفظ العشرة نعني به أن اسم العشرة يتناوله مع غيره على سبيل الحقيقة ووجوب دخوله تحته نعني به أنه لا يكون الخطاب حقيقة إلا إذا دخل تحته ومعلوم أن القسم الأول داخل تحت القسم الثاني ويبين ذلك أن كلما وجب له حكم من الأحكام فذلك الحكم صحيح عليه غير مستحيل وأيضا فلو كان يج دخوله تحت الخطاب مباينا لما يصح دخوله تحته لم يصح الأستدلال بدخول الاستثناء على لفظ العدد لأن ذلك يدل على أن الاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحت الخطاب وذلك لا يمنع من إخراجه ما يصح دخوله تحته لأن حسن أحدهما لا يمنع من حسن الآخر
ومنها قولهم إن أهل اللغة قالوا إن الاستثناء هو إخراج جزء من كل والجزء يجب كونه جزء لكله ولقائل أن يقول إن الشيء قد يكون جزء للشيء على طريق الصحة وعلى طريق الوجوب أما الذي هو جزء على طريق الوجوب فالواحد من العشرة وأما الذي هو جزء على طريق الصحة فانه يجوز أن يكون جزءه ويجوز أن لا يكون جزءه نحو قول القائل اضرب رجالا فانه يجوز أن يكون زيد جزء منهم ويجوز أن لا يكون منهم فاذا كان كذلك فليس في قول أهل اللغة إن الاستثناء يخرج جزء من كل ما يدل على أنه يخرج ما يجب أن يكون جزء من الكل والمعتمد في الجواب على الأول إن قيل لو كان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته يحسن أن يستثني الإنسان من قوله من دخل داري ضربته الملائكة والجن لأنه يجب دخولهم تحت لفظة من قيل ولو كان يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحته لحسن استثناء الملائكة والجن من قول القائل من دخل داري ضربته لأن تناول الخطاب لم يصح وأيضا فإنا إنما قلنا إن الاستثناء لا يخرج من الكلام إلا ما يجب دخوله تحته وهذا يقتضي أن يكون كل ما هذه سبيله فيجب

دخول الاستثناء عليه وأيضا فالاستثناء إنما يخرج من الكلام ما لولاه لتناوله الكلام ولم يمنع مانع من دخوله تحته لولا الاستثناء لأنه والحال هذه يجب دخول المستثنى منه تحت الخطاب والملائكة والجن قد منع مانع من دخولهم تحت الخطاب وعلمنا أن المتكلم ما أرادهم قبل الاستثناء فلم يكن في الاستثناء فائدة ولما لم يمتنع أن يدخلوا تحت خطاب الله سبحانه حسن أن يتناولهم الاستثناء لأنه لو قال من عصاني عاقبته حسن أن يستثني الملائكة والجن
دليل وقد استدل في المسألة بأن أهل اللغة فصلوا بين العموم وبين الخصوص وجعلوا أحدهما في مقابلة الآخر فقالوا مخرج هذا اللفظ العموم ومخرج هذا الخصوص كما فصلوا بين الأمر وبين النهي فكما وجب أن يكون لكل واحد منهما لفظ يخصه فكذلك العموم والخصوص وهذه الدلالة إنما تفسد القول بأن لفظ العموم يفيد ما يفيده لفظ الخصوص فقط وانه يستفاد منه العموم بالقصد لأن القائل بهذا القول لا يجعل أحدهما منفصلا من الآخر وذلك يمنع من أن يكون أحدهما في مقابلة الآخر لأن الشيء لا يكون في مقابلة نفسه غير أنه يبعد أن يذهب إلى هذا القول أحد فأما قول الخصم بأن العموم مشترك بين أول المجموع وبين الاستغراق وما بينهما من الجموع ولا يفيد ما نقص عن أقل الجمع على سبيل الحقيقة والخصوص يفيد عينا واحدة فان هذا الدليل لا يفسده وكذلك لو قال إن لفظ العموم يفيد أقل الجمع دون ما فوقه على سبيل الحقيقة والخصوص لا يفيده على سبيل الحقيقة إلا عينا واحدة لأنه بهذا القول قد خالف بينهما في الفائدة
وذكر قاضي القضاة في الشرح أن الذي يفسد قول الذاهبين إلى أن لفظ العموم مشترك بين الإستغراق وبين ما دونه أن أهل اللغة فصلوا بين لفظ العموم وبين النكرة في الإثبات نحو رجل وما أشبه ذلك ولن يتم ذلك إلا مع القول بأن في العموم ضرب من الاستغراق ولقائل أن يقول إن ذلك يتم من دون ما ذكره لأني أجعل النكرة في الإثبات تتناول واحدا غير معين ولفظ العموم يفيد الجمع المستغرق وغير المستغرق على البدل

دليل ومما استدل به في المسألة هو أن أهل اللغة خالفوا بين تأكيد العموم وبين تأكيد الخصوص فجعلوا تأكيد أحدهما مفارقا لتأكيد الآخر ألا ترى أنهم قالوا رأيت زيدا نفسه ولم يقولوا رأيت زيدا أجمعين وقالوا رأيت القوم أجمعين ولم يقولوا رأيت القوم نفسه قالوا فكما أن تأكيديهما مختلفان لا بالقصد فكذلك هما يجب أن يختلفا لا بالقصد لأن من حق التأكيد أن يطابق المؤكد ولا يلزم على ذلك الإشارة لأنها تورد للاستعانة بها والاستراحة إليها لا للتأكيد ومع ذلك فان الاشارة إلى جماعة من الناس مخالفة للإشارة إلى شخص واحد ولهذا إذا قال الإنسان جاءني هؤلاء القوم اشار إلى جماعتهم وحرك إصبعه في جهتهم وإذا قال جاءني زيد وحده أشار إليه وحده وكذلك إذا أشار وهم عنه غيب فقال جاءني القوم كلهم وقال جاءني زيد وحده وهذه الدلالة إنما يبطل بها قول من قال إن لفظ العموم لا يفيد إلا ما يفيده الخصوص لأن القول بذلك يلزم عليه أن يكون تأكيد العموم كتأكيد الخصوص فأما إذا قال إن لفظ الخصوص يتناول الواحد ولفظ العموم يفيد الجمع وهو مشترك بين كل الجموع ولا يقع على الواحد إلا مجازا فانه قد خالف بين فائدتيهما فلم يلزمه أن يوافق بين تأكيديهما
شبهة لهم
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكان ذلك معلوما إما بالبديهة أو باخبار الواضعين لذلك لنا مشافهة أو بنقل عنه إما بالتواتر أو بالآحاد وأن يكون طريق ذلك الشرع قالوا ليس خلافنا معكم في أن ذلك معلوم بالشرع لأنكم تدعون العلم بالاستغراق من جهة اللغة قبل الشرع ومعلوم أن العلم بذلك ليس من البديهة وما شاهدنا الواضعين فيشافهونا بذلك فلو تواتر النقل عنهم باستغراق ألفاظ العموم لعلمنا من ذلك ما علمتم وأخبار الآحاد ليست طريقا إلى العلم ولو كان الخبر عن استغراق العموم خبر واحد لم

ينفعكم فبان أنه لا طريق إلى العلم باستغراق ألفاظ العموم والجواب يقال لهم أتجعلون هذه الشبهة دلالة على أن لفظ العموم ما وضع للاستغراق أو تجعلونها دلالة على أنه وضع للاستغراق ولما دونه فان قالوا بالأول قيل لهم نحن نعلم ضرورة بالنقل عنه وعند استعمالهم الكلام أن لفظة كل وجميع إذا استعملت في الإستغراق لم تكن مجازا ولو لم نعلم ذلك ضرورة لجاز أن نعلم بدليل وهو أن ينقل عنهم بالتواتر أنهم أضافوا إلى هذه الألفاظ أحكاما لا تصح إلا إذا كانت الألفاظ عامة نحو الاستثناء والاستفهام وغير ذلك وعلى أن ما ذكروه يقتضي أنه لا طريق لهم إلى العلم بأن لفظ العموم وضع للاستغراق وهذا يقتضي أن يجوزوا كونه موضوعا له وهم يقطعون على أنه غير موضوع له ولا يشكون فان قالوا مذهبنا أن لفظ العموم موضوع للاستغراق ولما دونه قيل لهم فالشبهة عليكم لا لكم لأنكم قد سلمتم أن لفظ العموم موضوع للاستغراق وهو حقيقة فيه فكأنكم إنما استدللتم على أنه موضوع لما دونه ونحن ننفي ذلك فلنا أن نقول لو كان موضوعا لما دونه لكان ذلك معلوما بالبديهه أو بمشافهة الواضعين أو بالتواتر عنهم أو بالآحاد ولا تواتر في ذلك ولا آحاد لأنه ليس أحد من أهل اللغة قال إن لفظة كل حقيقة في البعض ولا نقل ذلك ناقل واحد فالكلام لازم لأنه لو وضع لما دون الاستغراق لما جاز أن يضرب أهل النقل بأجمعهم عن نقله
شبهة قالوا لو كان العموم موضوعا للاستغراق لفهم السامع له الاستغراق عند إدراكه بأول وهلة كما علم الخصوص عند إدراكه الخصوص الجواب يقال لهم لم زعمتم أنه كان يجب ذلك وأيضا فليس كل معلوم يعلم عند الإدراك بأول وهلة بل كثير من المعلومات يعلم بتأمل ونظر ولا يمتنع أن العموم يعلم بالأدلة التي ذكرناها وعلى أن كثيرا من ألفاظ العموم نحو كل و جميع
إذا تجردت علم من خالط أهل العربية من قصدهم استغراقها حتى إذا

سمعها متجردة عن قرينة سبق إلى فهمه الاستغراق نحو أن يقول القائل ضربت كل من في الدار فهي كألفاظ الخصوص وإن جاز أن يكون العلم بفائدة لفظ الخصوص أظهر ويقال لهم ولو كان لفظ العموم موضوعا للاستغراق أو ولما دونه فقط لعرف ذلك من سمع العموم بأول وهلة
شبهة قالوا لفظ العموم يستعمل في الاستغراق وفيما دونه على سواء فكما وجب أن يكون حقيقة في الاستغراق وجب كونه حقيقة فيما دونه الجواب يقال لهم لو تعنون بقولكم إنها مستعملة في الاستغراق وفيما دونه على حد سواء أنها مستعملة فيهما على حد الحقيقة فهو موضوع الخلاف وفي ذلك استدلالكم بالشيء على نفسه وإن أردتم أنها تستعمل في كل واحد منها من غير قرينة بل يكتفي بها في الدلالة على الاستغراق وعلى ما دونه لم نسلم لكم ذلك ولم يمكنكم أن تقولوه مع القول بالاشتراك فان أردتم أنها لا تستعمل في الاستغراق ولا فيما دونه إلا مع قرينة وأنها لا تدل على واحد منها إلا بقرينة لم نسلمه لكم ولا يمكنكم أن تعلموا أنها لا تدل على الاستغراق بنفسها إلا بعد أن تصححوا كونها مشتركة ويلزمون أن يكون قولنا حمار حقيقة البليد
فان قالوا ليس مستعمل فيه كاستعماله في البهيمة قلنا لهم وليس استعمال لفظ العموم وفيما دون الاستغراق كاستعماله في الاستغراق وأي وجه فصلوا به بين استعمال اسم الحمار في البهيمة وفي البليد أمكننا ذكره في مسألتنا
واستدلوا بالاستعمال على وجه آخر فقالوا إن لفظ العموم يستعمل في الاستغراق وفيما دونه والظاهر من استعمال الاسم في الشيء أن يكون حقيقة فيه إلا أن يمنع مانع من كونه حقيقة فيه نحو أن يعلم باضطرار من قصد أهل اللغة أنهم يتجوزون بالاسم فيما استعملوه فيه والجواب يقال لهم لم زعمتم أن الظاهر من استعمال الاسم في الشيء أنه حقيقة فيه وما أنكرتم أن استعماله فيه يدل على

أنه مستعمل فيه في اللغة فأما أنه حقيقة فيه أو مجاز فيحتاج فيه إلى نظر آخر
فان قالوا لو لم يكن الاستعمال طريقا إلى كونه الاسم حقيقة لم يكن لنا في الفصل بين كون الاسم حقيقة أو مجازا طريق قيل هذا دعوى ونحن قد بينا وجوها يفصل بها بين الحقيقة والمجاز إلا هذا ولو لم يكن هذا فصلا صحيحا فقد لزمنا وإياكم أن لا يكون لنا طريق للفصل بينهما وليس يصير الشيء دليلا على الشيء لأنه قد فسد أن يكون غيره دليلا وليس يجوز أن يكون ما ذكروه دليلا على الحقيقة لأن غيره لا يكون دليلا عليها ويقال لهم إنما يجب أن يكون اللفظ حقيقة في الشيء إذا لم يمنع مانع من كونه حقيقة فيه إذا كان ظاهر استعماله فيه يقتضي أن يكون حقيقه فيه حتى إذا لم يمنع مانع مما يقتضيه حكم الظاهر حكم به فما معنى قولكم إن ظاهر استعمال الاسم في الشيء يقتضي كونه حقيقة فيه فان قالوا معنى ذلك أنه لا يستعمل الاسم في الشيء إلا وهو حقيقة فيه انتقض عليهم بأسماء المجاز كلها وقيل لهم أيضا قولكم إلا أن يمنع من ذلك مانع يوجب أنه قد يكون الاسم مجازا فيما استعمل فيه إذا منع مانع من كونه حقيقة فيه فان قالوا معنى ذلك أن الاسم إذا استعمل في الشيء فالأكثر والأغلب أنه حقيقة فيه قيل لهم بل الأكثر استعمال المجاز ولو صح ما ذكرتموه لكان ذلك يفيد غالب الظن فان الاسم إذا استعمل في الشيء كان حقيقة فيه
فان قالوا معنى قولكم إن ظاهر العموم الاستغراق قيل معنى ذلك أنه موضوع له وحقيقة فيه وأن المتكلم يجب أن يعني به موضوعه إذا جرده عن دلالة ولا يمكنكم ذكر ذلك في الاستعمال لأن الاستعمال ليس بلفظ فيكون موضوعا للشيء فيقال له إنه ظاهره والأسبق إلى الأفهام فلم يكن له معنى إلا الوجهين اللذين ذكرناهما
يلزمون أن يكون اسم الأسد حقيقة في الشجاع لأنه مستعمل فيه فان قالوا قد منع من ذلك مانع وهو علمنا باضطرار من قصد أهل اللغة أنه ليس

بحقيقة فيه قيل لهم فكذلك نحن نعلم باضطرار من قصد أهل اللغة أن قول القائل ضربت كل من في الدار إذا استعمل في ثلاثة وفيها عشرة أنه مجاز فان قالوا كيف نعلم ذلك باضطرار ونحن نخالفكم فيه قيل وكيف علمتم باضطرار أن اسم الأسد واقع على الشجاع مجازا والنافون للمجاز في اللغة يمنعون من كون هذا الاسم للشجاع مجازا ويقال لهم أليس قولنا أمر مستعمل في الشأن والفعل وليس بحقيقة فيهما وليس يمكنكم القول بأنكم تعلمون باضطرار كون ذلك مجازا فيهما لوجدنا خلقا من الناس يقولون إن ذلك حقيقة فيهما وكذلك وقوع اسم الشفاعة على طلب المنافع مجاز عند المرجئة وليس بمعلوم كونه مجازا باضطرار لأنا نذهب إلى أنه حقيقة فيه
وأيضا فليس يجوز أن يقتصر في كون اللفظ مجازا على أنا نعلم باضطرار من قصد أهل اللغة أنه مجاز لأنه ليس كل ما لم نعلم باضطرار وجب نفيه لأن الحكم قد يعلم بدليل وقد يعلم باضطرار فأن قالوا إن الظاهر من استعمال اللفظ في الشيء أن يكون حقيقة فيه إلا أن يعلم باضطرار أو بدليل أنه مجاز فيه ولفظ العموم مستعمل فيما دون الاستغراق ولا يعلم أنه مجاز فيه فوجب كونه حقيقة فيه ولا يلزم على ذلك استعمال اسم الأسد في الشجاع واسم الشفاعة في طلب المنافع لأنا قد علمنا أن اسم الأسد مجاز في الشجاع وعلمنا بالدليل أن اسم الشفاعة مجاز في طلب المنافع قيل قد بينا أنه لا معنى لقولكم إن ظاهر استعمال اللفظ في الشيء أن يكون حقيقة فيه وبينا أن استعمال الاسم في الشيء إنما يدل على أنه يقيده في اللغة فلا يخلو أنه إذا لم نعلم أنه مجاز فيه إما أن لا نعلم ذلك مع الفحص عن أدلة المجاز مع علمنا بانتفائها ذلك عن اللفظ أو مع انتفاء الفحص عن أدلة المجاز فان كنا لم نفحص عن أدلة المجاز فنعلم انتفائها فلا معتبر بفقد علمنا بأنه مجاز نحو أن يكون في اللغة ما يدل على أنه مجاز وإن كنا لم نعلم أنه مجاز مع علمنا بانتفاء أدلة المجاز عن اللفظ فقد صار الدليل على أن اللفظة حقيقة هو أنا لما رأيناها مستعملة في الشيء علمنا أنها من اللغة ثم قلنا إما أن تكون حقيقة فيه أو مجازا وليست

مجازا لأن للمجاز أدلة محصورة كلها منتفية عنه فصح كونها حقيقة وإذا كان كذلك لم تصح هذه الدلالة إلا بأن يحضر أدلة المجاز وتبين زوالها عن اللفظ إذا استعمل فيما دون الاستغراق فيجب أن تبينوا ذلك حتى يصح دليلكم فان قالوا فما الفرق بين هذا الاستدلال وبين استدلالكم بظاهر العموم وقولكم إنه على الاستغراق إلا أن يدل دليل على تخصيصه قبل إن لفظ العموم عندنا موضع للاستغراق فصح أن نقول إنه يفيده إلا أن يمنع منه مانع وقد بينا بطلان القول بأن ظاهر الاستعمال يفيد الحقيقة ومع ذلك فليس يصح أن يعلم استغراق العموم إلا بأن يعلم أنه موضوع للاستغراق ويعلم انتفاء ما يخصه كما لا يعلم أن اللفظ حقيقة فيما استعمل فيه إلا بعد أن يعلم انتفاء أدلة المجاز فهما سيان من هذه الجهة غير أنه يجوز للمستدل بظاهر العموم أن يعول عليه ويكون على المناظر له أن يورد عليه ما يخص العموم ولا يتكلف المستدل بيان فقد ما يخص العموم لأنه قد ذكره ما يدل على الاستغراق إذا لم يكن في معارضة ما يخصه فهو معول على دلالة المشروط فلو كلفناه تصحيح الشرط لطال ولم يتسع له الزمان وليس كذلك من قال إن ظاهر الاستعمال الحقيقة إلا أن يمنع مانع لأنا قد بينا أن محصول كلامه أن اللغة تجوز استعمال الاسم فيما دون الاستغراق وإنما نعلم أنه حقيقة فيه لفقد دلالة المجاز فقوله إنني قد فقدت أدلة المجاز اقتصار على دعوى فقط فان أمكن تصحيحها وإلا فهو مقتصر على دعوى
شبهة
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكان الاستثناء منه نقضا ورجوعا ويقال لهم ما معنى كونه نقصا فان قالوا معنى ذلك أنه يدلنا على أن لفظ العموم قد أراد به المتكلم بعض ظاهره واستعمله فيه فقط قيل فهذا مذهبنا فان سميتموه نقضا فلا يضرنا ثم يقال لهم أتريدون أن ظاهر العموم عندنا الاستغراق إذا تجرد عن اسثناء وما يجري مجراه أو وإن لم يتجرد فان قالوا إذا تجرد قيل لهم فما تجرد في مسئلتنا وإن قالوا وإن لم يتجرد قيل لهم لا

يسلم ذلك خصوصهم على أن لفظ العموم إنما يستغرق ما دخل عليه وإذا كان معه استثناء فهو داخل على ما عدا المستثني وهو مستغرق له فلم يكن الاستثناء نقضا من ذلك لفظة كل تقتضي استغراق ما دخلت عليه لأنك إذا قلت ضربت كل من في الدار استغرقت لفظة كل جميع من في الدار لا غيرهم وإذا قلت ضربت كل رجل طويل كان ذلك مستغرقا لكل طويل لا غير فكذلك قولك كل رجل في الدار إلا بني تميم معناه كل من عدا بني تميم فلفظة كل دخلت على من عداهم فاستغرقتهم فاذا استعملت لفظة كل في هذا الموضع في غير ظاهرها فيكون الاستثناء نقضا لها وعلى أنه لو كان ظاهر العموم الاستغراق على كل حال والاستثناء قد صيرها مجازا لم يلزم أن يكون نقضا لأن ما دل على أن الكلمة مجاز لا يكون نقضا لها كالقرينة الدالة على أن قولنا أسد مستعمل في الرجل الشجاع فان قيل لو لم يكن قول القائل ضربت كل من في الدار إلا بني تميم نقضا وقبيحا لكان قوله ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار غير مناقضة ولا قبيحا قيل هذا لكم ألزم لأنكم تذهبون إلى أن لفظة كل حقيقة في الاستغراق وفي البعض أيضا ويحسن عندكم الاستثناء منها لأنه يدل على أن لفظ العموم مستعمل في إحدى حقيقتيه فيلزم أن يحسن أن يقول الإنسان ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار ليدل بذلك على أنه استعمل لفظة كل في إحدى حقيقتيها وهي البعض والفرق عندنا بين الموضعين أن الاستثناء لما لم يستقل بنفسه وجب تعليقه بما تقدم وذلك يدل على أن المتكلم بالمستثنى منه ما استوفى غرضه منه لأنه ما عدل عنه ألا ترى أنه قد قيده بما لا يستقل إلا معه وإذا لم يكن عادلا عن الكلام بالاستثناء صار الاستثناء جزء من الجملة وصار مجموع المستثنى والمستثنى منه كالجملة الواحدة ودل مجموعها على استغراق ما عدا المستثنى وليس كذلك قول القائل ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة بنفسها لا يجب أن تعلق الثانية بالأولى فعدول المتكلم من

الجملة الأولى إلى جملة مستقلة بنفسها لا يجب تعليقها بالأولى يدل على أنه قد استوفى غرضه من الاولى فلما أقر بالثانية كان قد نقض الاولى لأنها تنافيها بعد استيفاء الغرض من الاولى وأيضا فان لفظ العموم إنما دخل على ما عدا المستثنى على ما بيناه فهو مستغرق له دون غيره كما أن العموم المشروط والمقيد بالصفة إنما دخل على ما عدا الشرط والصفة وليس يجب أن يقبح العموم المشروط ولا العموم المقيد بالصفة كما يقبح قول القائل ضربت كل الناس لم أضرب كل الناس لأن كل واحدة من اللفظتين قد دخلت على الناس يبين ما ذكرناه أن الإنسان إذا قال ضربت كل من في الدار عم جميعهم وإذا قال لعبيده أكرم كل الناس عم الجميع وإذا قال لعبيده أكرم كل الناس إن كانوا مؤمنين عم المؤمنين دون غيرهم واقتضى ذلك التخصيص ولم يجز قياسا على ذلك أن يقول ضربت كل من في الدار لم أضرب كل من في الدار فكذلك القول في العموم المستثنى منه فهذا كلام في قولهم إن الاستثناء نقض
ثم يقال لهم ما معنى قولكم إن الاستثناء رجوع فان قالوا رجوع عن ظاهر الكلام لأن ظاهر العموم الاستغراق عندكم والاستثناء قد منع منه فقد تقدم الكلام على ذلك وقلنا إن العموم اقتضى استغراق ما دخل عليه وهو ما عدا المستثنى وقلنا إنه لو اقتضى استغراق الكل والاستثناء يمنع من ذلك لكان قد دل على أنه مجاز وذلك غير مستحيل وإن قالوا اردنا أنه رجوع عن الإرادة لأن المتكلم أراد بلفظ العموم الاستغراق ثم عدل عن هذه الإرادة إلى إرادة البعض فقط عند الاستثناء قيل لهم ولم زعمتم أنه أراد عند أول كلامه استغراق الجميع وما أنكرتم أنه أراد استغراق ما دخل عليه لفظ كل وهو ما عدا المستثنى فلا يكون قد أراد شيئا ثم عدل عنه فان قالوا لو كان المتكلم قد أراد البعض بلفظ العموم لكان قد استثنى مما لم يرد وذلك محال قيل إنه أراد الكل بلفظ العموم لكنه أراد كل ما دخل عليه اللفظ وهو ما عدا المستثنى فلا نقول إنه أراد البعض ثم استثنى كما نقول لو أنه إذا

قال اضرب كل الرجال الطوال دون القصار على انه يلزمهم مثل ما ألزمونا لأنا لا نقول لهم إذا كان لفظ العموم مشتركا بين الاستغراق وبين ما دونه فأخبرونا هل أراد المتكلم الاستغراق ثم استثنى منه أو أراد البعض ثم استثنى منه زيدا فان قالوا بالأول قيل لهم فقد رجع وإن قالوا بالثاني قيل لهم أفهل استثنى منه زيدا من البعض الذى أردناه أو من البعض الذى لم نرده فان قالوا بالأول قيل لهم هذا رجوع وإن قالوا بالثاني قيل لهم فقد أخرج بالاستثناء ما لم يرده وهذا الذي أتيتموه
وربما تعلقوا بالاستثناء من وجه آخر فقالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لجرى الاستثناء منه مجرى أن يعدد الإنسان أشخاص الجنس ثم يستثنى منه شخصا نحو أن يقول رأيت زيدا رأيت عمرا رأيت خالدا هكذا إلى آخر الناس ثم يقول إلا زيدا فلما قبح هذا قبح ذاك وفي حسن الاستثناء دليل على ان لفظ العموم غير شامل يقال لهم لم زعمتم أنه إذا قبح أحدهما قبح الآخر وما أنكرتم أن الفرق بينهما أن الاستثناء إخراج جزء من كل فيدل على أن المتكلم استعمل لفظ الكل في جميع ما عدا الاستثناء فاذا قال الإنسان رأيت زيدا رأيت عمرا إلا زيدا لم يخل قوله إلا زيدا إما أن يكون راجعا إلى زيد او إلى عمرو فان رجع إلى زيد كان ذلك رجوعا ونقضا وإخراجا لجزء من كل واستعمالا للفظ كل فيما عدا المستثنى وإن رجع إلى عمرو ولم يكن قد أخرج زيدا من شيء هو كله لأن عمرا ليس بكل زيد وليس يجوز أن يرجع الاستثناء إلى زيد وإلى عمرو معا لأن كل واحد منهما مستقل بنفسه وليس يشملهما لفظ واحد هو كل لهما فيكون الاستثناء دالا على أن لفظ الكل مستعمل فيما عداه وليس كذلك قول القائل ضربت كل من في الدار إلا زيدا لأن قولنا كل لفظ يشمل الأشخاص فصح أن يخرج الاستثناء بعضها بأن يدل على أن لفظة كل مستعملة فيما عدا المستثنى ويجري ذلك مجرى تعديد الأشخاص كلهم إلا زيدا ثم يقال لهم أنتم تقولون إن لفظ العموم حقيقة للاستغراق كما أنه حقيقة للبعض فقد لزمكم

أن يكون العموم مع الاستثناء يجري مجرى أن يعدد المتكلم أشخاص الجنس ثم يستثني واحدا منها فان قالوا لا يلزمنا ذلك لأنه إذا استثنى منها واحدا علمنا أنه لفظ العموم فيما عداه واستعماله فيما عداه هو حقيقة عندنا قيل لهم استعماله فيما عدا المستثنى حقيقة عندنا لأنه دخل عليه لا غير على ما بيناه ولو كان استعماله فيه مجازا لكان الاستثناء قد دل على أن لفظ العموم مستعمل على وجه المجاز وليس استعمال اللفظ فيما هو مجاز فيه يجري مجرى أن يقول الانسان رأيت زيدا وعمرا إلا زيدا
وربما تعلقوا بالاستثناء على وجه آخر فقالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لما جاز تخصيصه بدلالة متصلة ولا منفصلة كما لا يجوز تخصيص العلة بل العموم أولى بذلك لأنه دلالة قاطعة والعلة الشرعية أمارة والجواب يقال لهم أما التخصيص بالأدلة المتصلة بالشروط والاستثناء والتقييد بالصفة فقد قلنا إن العموم يكون داخلا فيما عداه وأما الدلالة المنفصلة فانما جاز أن تخصص العموم لأنه لفظ والألفاظ يجوز استعمالها في حقيقتها وفي مجازها ويجوز أن تدل الدلالة على استعمالها في المجاز وهذه الطريقة مفقودة في العلل فكان محصول هذه الشبهة أن قالوا لو كان حقيقة العموم الاستغراق لما جاز استعماله في المجاز وهذا ينتقض بجميع الألفاظ وجميع هذه الشبهة تنتقض بالاستثناء من ألفاظ العدد
شبهة
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لما حسن أن يستفهم المتكلم به لأن الاستفهام هو طلب الفهم وطلبا فهم ما قد فهم بالخطاب عبث ومعلوم أن الإنسان إذا سمع غيره يقول ضربت كل من في الدار فانه يحسن منه أن يقول أضربتهم أجمعين وأن يقول ضربت زيدا فيهم والجواب يقال لهم إن الاستفهام قد يكون طليا لمطلق الفهم وإزالة الإلباس وقد يكون طلبا لزيادة الفهم وزيادة الفهم فهم وذلك أن الفهم للخطاب قد يكون علما

بمراد المتكلم وقد يكون ظنا فان كان ظنا فالظن تتزايد قوته إذا تزايدت أماراته فالمستفهم يطلب أن تكثر الأمارات الدالة على قصد المتكلم ليقوي ظنه فان كان الفهم علما فالعلم قد يكون ضروريا وقد يكون مكتسبا والضروري أجل من المكتسب فالمستفهم قد يطلب أن يتكرر القول من المتكلم أو أن يؤكد كلامه فربما اضطر إلى قصده وطلب ذلك غير عبث لأنه ليس بحاصل قبل الاستفهام واما الاستفهام الذي هو طلب لإزالة الإلباس إذا اقترن بالعموم ما يقتضي اللبس فيستفهم السامع إزالة ذلك اللبس
ونحن نذكر الوجوه التي يحسن لها الاستفهام في كلا القسمين فنقول إن
منها ما يظن السامع أن المتكلم غير متحفظ في خطابه أو هو كالساهي فيستفهمه ويستثبته حتى إن كان ساهيا أزال سهوة فأخبره عن تيقظ وإن لم يكن ساهيا علم ذلك من حاله ولذلك يستفهم الإنسان بتكرار العموم ويجيبه المتكلم بتكراره نحو أن يقول ضربت كل من في الدار فيقول السامع أضربتهم كلهم فيقول نعم ضربتهم كلهم ولو كان يطلب زيادة الفهم لأجابه بلفظ آخر فعلم أنه إنما يستثبته وكذلك قد يقول الإنسان جاءني زيد فيقول نعم
ومنها أن يظن السامع لأمارة أن المتكلم قد أخبر كلامه العام عن جماعة وأنه ليس يتحقق دخول بعضهم فيما أخبر به ويكون السامع شديد العناية بذلك فتدعوه شدة عنايته إلى الاستفهام عنه لكي يعلم المتكلم اهتمام السامع فلأنه خص في الأخبار ولهذا قد يقول القائل رأيت كل من في الدار فاذا قيل أرأيت زيدا فيهم فقال نعم زالت الظنة لأن اللفظ الخاص أقل احتمالا وربما لم يتحقق رؤيته له فيدعوه ما رآه من اهتمام المستفهم إلى أن يقول لست أتحقق رؤيته
ومنها أن تدعوه شدة الاهتمام إلى الاستفهام طمعا في أن يضطر إلى قصد المتكلم

ومنها أن يقترن بكلام المتكلم من الأمارات ما يقتضي تخصيص كلامه نحو أن يقول القائل ضربت كل من في الدار ويكون فيها من يعظمه كأخيه فيغلب على الظن أنه لم يضربه ويكون كلامه أمارة تدل على ضربه فتتعارض الأمارتان فيستفهمه ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص
فلهذه الوجوه وما اشبهها يحسن الاستفهام لأن فيها عدول عن الفاظ يقل احتمالها ومتى انتفت وما أشبهها لم يحسن الاستفهام فاما قول القائل رأيت نخلة فانه لا يكاد يستعمل إلا في النخلة فلذلك لم يستفهم عن ذلك إلا على طريق الاستثبات لإزالة السهو ومتى استعمل ذلك في رؤية الرجل الطويل حسن الاستفهام
فأما خطاب الله سبحانه وأنه لا يحسن ورود الاستفهام عليه إلا أن يأذن تعالى في ذلك ليرد منه عز و جل خطاب يكون أقل احتمالا فيكون العمل بمراده أجلى
ثم يعارضون بدخول الاستفهام على ألفاظ الخصوص ثم يلزمون من العتب مثل ما ألزمونا فنقول لهم أليس إذا قال القائل ضربت كل من في الدار كان ذلك مشتركا بين الاستغراق وبين ما دونه وكذلك إذا قال أجمعين فالمستفهم إذا قال أضربنهم أجمعين فقد طلب أن يفهمه ما لم يفهمه بما هو كالأول في أن الفهم لا يقع به فان قالوا إنما يستفهم طمعا في حصول العلم الضروري أو في قوة الظن أجبناهم بمثله
شبهة
قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا وكذلك تأكيده لكان تاكيده عبثا لأنه يفيد ما أفاد المؤكد والجواب يقال لهم ولم إذا أفاد ما يفيده المؤكد من الاستغراق كان عبثا وما أنكرتم من حصول فوائد في التأكيد لا تحصل مع فقده ثم يقال لهم ولو أفاد كل واحد منهما من الاشتراك ما يفيده الآخر لكان ذكر التاكيد عقيب المؤكد عبثا لا فائدة فيه

وينقض شبهتهم بتأكيد الخصوص كقول القائل جاءني زيد نفسه وبتأكيد ألفاظ العدد كقول الله تعالى تلك عشرة كاملة وكقول القائل ألف تامة لأن قوله ألف قد انبأ عن تمامها وجب أن يكون قوله تامة عبثا وقولنا جاءني زيد يفيد مجيء نفسه فوجب كون تأكيده عبثا والنقض بتأكيد العدد إنما يلزم من قال إن قولنا عشرة ليس بحقيقة في التسعة فما دونها فاما من ارتكب كونه حقيقة في ذلك فالنقض لا يلزمه وإن كان بطلان قوله معلوما من اللغة باضطرار وكان يلزم إذا قلنا عشرة تامة أن يكون قولنا تامة بيانا لا تأكيدا بل بيانا وقد رأيت من التزم القول بأن قول القائل جاءني زيد نفسه إنما حسن لأن قوله جاءني زيد حقيقة في مجيء غلامه وجوابنا عن هذا القول السكوت
ونحن ذاكرون وجه الفائدة في التأكيد فنقول إن كان المتكلم بالعموم حكيما استدل على إرادته بخطابه فأنه إذا أكلا خطابهه كان قد زاد بالأدلة على دلالة فيقوى بذلك علمنا ويزداد جلاء وبيانا أو يكون في ذلك مصلحة وإن لم نعلمها بعينها ولهذا كثرت الأدلة على المدلول والواحد وإن كان المتكلم غير حكيم يجوز أن يعمي مراده وإنما يعلم إرادته ضرورة أو يظن إرادته استدلالا بخطابه فانه قد يؤكد خطابه لأنه يجوز أن يضطر السامع عند التاكيد إلى إرادته أو لأنه قد يجوز السامع من ابتداء الكلام كان ساهيا فيدله المتكلم بإيصال كلامه إن كان ساهيا وقد يورد التأكيد ليزيد الأمارات الدالة على الإرادة فيقوى الظن لها وقد يقول لإنسان ضربت من في الدار ويكون فيهم من يغلب على الظن أنه لا يضربه لوكيد صداقة بينهما أو لقرابة فيكون ذلك أمارة معارضة لظاهر العموم فيؤكد كلامه بذكر الكل و الجميع ليصف موقع هذه الأمارة وأيضا فلا يمتنع أن يكون بعض ألفاظ العموم أقل استعمالا فيما دون الاستغراق من بعض والعلم بأنه تقتضي

الاستغراق أجلى وأبين فيؤكد اللفظة التي هي أكثر استعمالا في المجاز فاذا اجتمع كعها تأكيدها تأكد العلم بقصد المتكلم أو الظن وحصل بهما من القوة ما لا تحصل بأحدهما لأن الأمارة القوية معما هو دونها في القوة القوة تكون منها لو انفردت فان قيل هلا أكدوا اللفظ بتكراره إن كان الأمر على ما زعمتم حتى يقولوا جاءني القوم جاءني القوم قيل هذا لا يلزم على الجواب الأخير وإنما يتوجه على الأجوبة المتقدمة والجواب عن ذلك أن العرب لم تقعل ذلك فنفعله فان قالوا فكان يجب أن يفعلوه وليس يجب إذا كان للإنسان عذر في شيء أن يفعل كلما ساواه في العذر ألا ترى أنهم إنما سموا الشيء الواحد بأسماء كثيرة ايتسع نقلتهم فيتمكنون مع ذلك من النظم والنثر لأنه قد يمتنع وزن البيت وقافيته مع بعض اسماء الشيء دون بعض وليس يجب لذلك أن يسموا كل شيء بأسماء كثيرة على أنه لا يمتنع أن يكونوا لم يؤكدوا اللفظ بتكراره استثقالا لتكرار اللفظ فعدلوا إلى لفظة أخرة لينقلوا غرضهم من التأكيد من دون استثقال
فان قالوا لو حسن التأكيد لما فيه من ترادف الأمارات والأدلة وجواز حصول العلم الضروري بقصد المتكلم لحسن أن يقول الإنسان استندت إلى الحائط المبني من الآجر والطين لينفي أن يكون استند إلى إنسان بليد لأن اسم الحائط قد يتجوز به إلى البليد ويتجوز باسم الحمار فيه أيضا فكان ينبغي أن يحسن أن يقول ضربت الحمار النهاق والجواب أنه إنما حسن التأكيد اتباعا لفعل العرب وحسن ذلك منهم للأغراض التي ذكرناها وقد ثبت أن تلك الأغراض لا توجب أن يؤكدوا كل شيء فاذا كان كذلك لم يلزمنا أن نؤكد نحن ما ذكره السائل لأن العرب لم يؤكدوا به ولا يلزم العرب ذلك لما ذكرناه وأيضا فانما يجوز التأكيد لإزالة مجاز واحتمال مستعمل وليس أحد يقول استندت إلى الحائط فيخطر ببال السامع أنه استند إلى إنسان بليد وكذلك إذا قال ضربت الحمار وإنما يستعمل اسم الحائط أو الحمار في البليد عند وصفه بالبلادة فان كان جماعة في وصف رجل

فقالوا هو حائط وهو حمار ثم قال واحد منهم ضربت الحمار واستندت إلى الحائط وجوز أن يتوهم على السامع أنه يعني بذلك البليد جاز أن يفيد بكلامه ما ذكروه فأما إن لم تكن الحال هذه فانه لا يخطر ببال السامع أنه استند إلى بليد فلم يكن لتقييده بما ذكروه معنى وليس كذلك استعمال لفظ العموم فيما دون الاستغراق لأن ذلك كثير مستعمل
شبهة
لو كانت لفظة من عامة في الاستفهام لكان قول القائل لغيره من عندك سؤالا عن كل العقلاء وكانت تجري مجرى قوله أكل الناس عندك وذلك يقتضي أن يكون جوابها لا أو نعم أجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن لفظة من هي للعامة وهي من كلام السائل دون المسئول لأن السائل ليس يعلم من عند المسئول فلهذا أدخل اللفظة العامة في خطابه وأما المسئول فهو عالم بمن عنده فلم يجب أن يكون جوابه عاما ولقائل أن يقول إن لفظة من وإن كانت في كلام السائل فهي عندكم موضوعة للعموم فيجب كونها استفهاما عن العموم وذلك يقتضي مطابقة جوابها لها إما بلا أو بنعم ونحن لم نلزمكم أن يكون جواب المسئول أبدا عاما وإنما ألزمناكم أن يجيب العموم إما بأن يثبته أو ينفيه بقوله لا أو نعم وقال أيضا إن لفظة من ليست بالكل أخص منها بالبعض ولا بالبعض أخص منها بالكل فاذ كانت كذلك وجب حملها على الاستغراق
ولقائل أن يقول إن كانت ليست كذلك فيجب كونها مشتركة بين الكل وبين الاستغراق إذا كانت ليست بأحدهما أخص من الآخر وإذا كانت مشتركة بطل قولكم إنها حقيقة في أحدهما فقط وبطل قولكم بوجوب حملها على الاستغراق لأنه ليس الاستغراق أولى بها من البعض وأيضا فلو كانت ليست بأحد الأمرين أولى منها بالآخر وكانت مع ذلك محمولة على الشمول عن الكل لوجب أن يكون جوابها مطابقا لها بلا أو بنعم فالشبهة متوجهة نحوكم

والجواب عن الشبهة أن قول القائل لغيره من عندك هو استفهام عن صفة كل عاقل عنده فهو جار مجرى قوله أخبرني عن صفة كل عاقل عندك ولا تبق عاقلا عندك إلا ذكرت لي صفته ولو قال ذلك لم يكن جوابه لا أو نعم وإنما يكون جوابه بذكر نعوت من عنده من العقلاء وصفاتهم وكذلك إذا قال له من عندك ثم يقال للمخالف أتزعم أن لفظة من حقيقة في البعض أو مشتركة بين البعض وبين الاستغراق فان قال بالأول قيل فينبغي أن يكون جواب السؤال بلا أو نعم كما قال له أبعض الناس عندك وإن قال إنها مشتركة بين الكل وبين البعض قيل فيجب أن يكون جوابها بلا أو بنعم أيضا لأنه إن علم المسئول من قصد السائل أنه استفهمه بها عن الكل فيجب أن يكون جوابها بلا أو بنعم وكذلك إن علم من قصده أنه استفهمه بها عن البعض
شبهة
لو كانت لفظة من مستغرقة لاستحال جمعها لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده المجموع وليس يعد لاستغراق كثرة فيفيدها الجمع قال الشاعر
... أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما ...
الجواب إن قولهم منون وإن كانت صباحا لفظه لفظ الجمع وليس بجمع على الحقيقة لأنه يستفاد منه ما استفاد من قولهم من عندنا وعند المخالف ألا ترى أنه لو قال الشاعر من أنتم لكان استفهاما عن جماعتهم كما أن قوله منون استفهاما عن جماعتهم وعند المخالف أن ألفاظ العموم كلها مشتركة وليس في اللغة لفظ يختص بالاستغراق فلفظة منون مشتركة بين الاستغراق وبين البعض كلفظة من فلم يفد أكثر مما أفادته لفظة من
وأما من قال إن لفظ العموم مستغرق في الأمر والنهي ولا يقطع على

استغراقه في الخبر فلا يخلو إما أن يقول ذلك من جهة اللغة أو من جهة أخرى والأول باطل لأنا قد بينا أن لفظ العموم مستغرق وإذا كان مستغرقا لم يختلف بحسب اختلاف الجمل التي يدخل عليها وإن قال بالثاني فهو أن يقول لو لم يستغرق لفظ العموم في الأمر والنهي لم يكن المكلف مزاح العلة وليس كذلك الوعيد لأن الغرض بهما الزجر عن القبيح والزجر يكون بالخوف والخوف يحصل بغالب الظن الجواب أن لفظ العموم إن لم يكن مستغرقا لم يجب حمله على الاستغراق لا في الأمر ولا في الوعيد ويجب إذا أراد الحكيم أن يزيح علة المكلف أن لا يدله على استغراق الأمر بلفظ عموم لأنه لا يدل على الاستغراق بل يجب أن يدله بدليل آخر وإن كان لفظ العموم مستغرقا وجب أن يستغرق في الخبر لأن الخبر خطاب لنا والقصد به إفهامنا فلا يجوز أن يقصد به إفهامنا وله ظاهر إلا وقد أريد ظاهره وإلا كان المتكلم به قصد أن يفهم بخطابه ما لا يدل خطابه عليه

باب في الألف واللام إذا دخلا على اسم الجمع
اختلف الناس في اسم الجمع المشتق وغير المشتق إذا دخله الألف واللام نحو قولك المشركون والناس فقال الشيخ أبو هاشم رحمه الله إن ذلك يفيد النجس ولا يفيد الاستغراق وقال الشيخ أبو علي رحمه الله وجماعة من الفقهاء إنه موضوع لاستغراق الجنس
والحجة لذلك وجوه
منها أنه لو كان قولنا الناس لا يفيد الاستغراق لا محالة لكن قد يعبر به عنه ويعبر به عن البعض حقيقة لكان قوله كلهم بيانا لأحد المحتملين لا تأكيدا ألا ترى أن اسم الشفق لما كان مشتركا على سبيل الحقيقة بين الحمرة والبياض كان الإنسان إذا قال رايت الشفق ثم قال الذي هو

الحمرة كان قوله الذي هو الحمرة بيانا لا تأكيدا لأن المؤكد يبقي المؤكد على حاله ويزيد قوة وليست هذه حال البيان لأن البيان يكشف عن أحد المحتملين فان قيل ما تنكرون من أن يكون وصف أهل اللغة بأن قولنا كل تأكيد لقولنا الناس مذهبا لهم بنوه على قولهم إن قولنا الناس مستغرق قيل إن كان كذلك فقولهم إن ذلك مستغرق حجة لأنهم يقولون ذلك نقلا بحسب ما فهموه عن العرب فان قيل فاستدلوا بقولهم إن لام الجنس تقتضي الاستغراق واطرحوا دليل التأكيد قيل لو علمنا ذلك ابتداء من اعتقاد جميعهم لاستدللنا ولكن لما علمنا ذلك بوصفهم لفظة كل بأنها تأكيد جعلنا وصفهم لذلك بأنه تأكيد دليلا على اعتقادهم الاستغراق اسم الناس إن قيل فمن أين إن وصف ذلك بأنه تأكيد قول لجميعهم قيل لأنه لو وصفه بعضهم بأنه بيان ومنع من وصفه بأنه تأكيد لنقل ذلك وعرف إن قيل قول القائل الناس يصلح للاستغراق ويصلح لما دونه فاذا أكده المتكلم فقال رأيت الناس كلهم علمنا أنه استعمل قوله الناس في الاستغراق وأنه أكد استعماله فيه بقوله كلهم فقد صح وصف ذلك بأنه تأكيد على قولنا قيل هذا يقتضي أن يكون ما دل على أن المراد بالاسم المشترك أحد معنييه تأكيدا له بأن يقال إن المتكلم بالاسم أراد به أحد معنييه وأكده بأن دل عليه ويلزم أن يكون من دل على الشيء فقد أكده
ومنها أنه يحسن أن يستثنى من قولك رأيت الناس أي إنسان أشرت إليه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه فإذن أي إنسان أشرت إليه فهو داخل في قولك رأيت الناس وقد استوفينا الأدلة على ذلك في الباب المتقدم
ومنها أن قول القائل رايت ناسا يفيد أنه رأى من هذا الجنس ولا يفيد الاستغراق فلا بد من أن يفيد دخول الألف واللام فائدة ولا يجوز أن تكون تلك الفائدة هي الجنس لأن ذلك قد كان حاصلا من دونهما فعلمنا أنهما أفادا الاستغراق

ومنها ما استدل به من أن اللام إذا كانت تعريفا للعهد عمت فكذلك إذا كانت تعريفا للجنس ألا ترى أن الإنسان إذا كان مع غيره في ذكر رجال ثم قال جاءني الرجال عقل منه جميعهم لأن الذى جرى ذكره هو الجميع كذلك ايضا الجنس هو المتعارف إذا لم يكن عهد فلم يكن انصراف الاسم إلى البعض أولى من البعض
واحتج الذاهبون إلى قول ابي هاشم بأشياء
منها أن الإنسان إذا قال جمع الأمير الصاغة لم يعقل منه أنه جمع صاغة الدنيا وإنما يعقل منه أنه جمع هذا الجنس والجواب عنه أن المعقول منه أنه جمع صاغة بلده ومن عداهم فانما يعلم أنه لم يجمعهم لتعذر جمعهم ويلزمهم أن يجوزوا كونه جامعا لصاغة الدنيا لأن الاسم يحتمله فان قالوا نعلم أنه لم يجمعهم وإن احتمله اللفظ لقرينة وهي تعذر جمعهم قلنا نحن إن اللفظ لا يصلح إلا للاستغراق وإنما علمنا أنه لم يرد المتكلم الاستغراق لتعذره
ومنها قولهم لو كانت لام الجنس تقتضي الاستغراق لوجب إذا استعمل في العهد أن يكون مجازا لأنه قد أريد به بعض الجنس والجواب أن لام الجنس تقتضي التعريف فوجب انصراف الاسم إلى ما الإنسان به أعرف فإن كان هناك عهد انصرف إليه لأن السامع به أعرف ولم يكن هناك مجازا إذا انصرف وإن لم يكن بين المتكلم والسامع عهد انصرف إلى الجنس لأنها به أعرف فلم تختلف فائدتها في الحالين وجرت مجرى قولك من عندك في أنه استفهام عن كل عاقل عنده فان كانوا قلة فهي استفهام عنهم وإن كانوا كثرة فهي استفهام عنهم ولا يكون مجازا إذا كانوا قلة ولو قيل إن حمل الاسم المعرف على العهد يحتاج فيه إلى قرينة وهي تقدم العهد وأن ذلك يجعل الاسم مجازا لأنه عام مخصوص لم يكن بعيدا
ومنها أن يقولوا إن قولنا رجال يقتضي جمعا من الرجال غير مستغرق واللام أفادت التعريف فمن أين جاء الاستغراق والجواب إن

إفادتها للتعريف لا تمنع من إفادتها الاستغراق سيما وقد بينا أنهما متى حملا على بعض غير معين نقض ذلك التعريف لأن البعض الذي ليس بمعين مجهول وأفاد الجنس قد كان حاصلا قبل دخول اللام
ومما يمكن أن يحتجوا به هو أن يقولوا لو كان قولنا فلان يلبس الثياب حقيقة في أنه يلبس جميعها يجري مجرى قولهم فلان يلبس كل الثياب فكان يجب أن يكون قولنا فلان لا يلبس الثياب يفيد ما يفيده قولنا فلان لا يلبس كل الثياب وكان يحسن إطلاقه على كل أحد لا يلبس كل الثياب ومعلوم أن أهل اللغة لا يستحسنون إطلاق ذلك إلا على من لا يلبس شيئا من الثياب فعلمنا أن قولنا فلان يلبس الثياب يفيد الجنس فنفيه نفي الجنس أصلا فلذلك عم وكذلك ينبغي أن يوصف كل أحد بأنه لا يباشر النساء ولا يأكل الطعام لأنه لا يباشر جميع النساء ولا يأكل جميع الطعام الجواب أن ذلك باطل بلفظة من في المجازاة لأن الانسان إذا قال من دخل داري أكرمته جرى مجرى قوله كل عاقل دخل داري أكرمته ولو قال لا أكرم من دخل داري لم يجر مجرى قوله لا أكرم كل عاقل دخل داري لأنه لو قال ذلك لم يلزم أن لا يكرم كل أحد منهم بل يجوز أن يكرم البعض دون البعض ولو قال لا أكرم من دخل داري فهم منه أنه لا يكرم واحدا منهم وإن كان قوله من دخل داري أكرمته عاما وكذلك لا يمتنع أن يكون قولنا الثياب وسيلة عامين ولا يجري سلبه مجرى كل سلب فإن قالوا إنما وجب ذلك في لفظة من لأنها ليست موضوعة للجميع وإنما تفيد العقلاء فاذا علق عليها الجزاء لم يكن بأن يتناول بعضهم بأولى من بعض فانصرف إلى الجميع ولهذه العلة وجب في نفي الجزاء ان ينصرف إلى الجميع قيل لهم ولام الجنس أيضا ما وضعت للجمع كلفظة كل وإنما تفيد تعريف الجنس فلما لم يكن بعض الجنس بأن يعرفه أولى من بعض انصرف إلى جميعه وهذه العلة قائمة إذا استعمل لام الجنس في النفي لأنه ليس بأن ينصرف إلى بعض الجنس أولى من بعض

فاذ ثبت أن اسم الجمع إذا دخله لام الجنس استغرق فالواجب أن ننظر هل هناك عهد أم لا فإن كان انصرف إليه وإلا انصرف إلى الجنس لأن انصرافه إلى العهد تخصيص وليس أن تحمل اللفظة على الاستغراق إلا بعد أن يفحص فتفيد ما يدل على أن المراد بها الخصوص
وأما الشيخ أبو هاشم فانه إذا لم يجعل الاسم مستغرقا حمله على الاستغراق لوجه آخر وهو ما ذكروه في الوعيد من أن قوله وإن الفجار لفي جحيم يفيد أنهم في الجحيم لأجل فجورهم لأنه خرج مخرج الزجر عن الفجور فوجب أن يكون كل من وجد فيه الفجور في الجحيم وجرى مجرى قوله من فجر فهو في الجحيم
فأما لفظة الجمع المضاف مثل قولنا عبيد زيد فانه يستغرق لحسن توكيده بلفظة كل وحسن استثناء أي عبد شئت ويمكن أن يذكر فيه من الشبه أكثر ما تقدم في لام الجنس والجواب عنها نحو ما تقدم

باب في الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد المشتق وغيرالمشتق
ذهب الشيخ أبو علي رحمه الله إلى أن قول الله تعالى والسارق والسارقة يستغرق جميع السراق وقال الشيخ أبو هاشم رحمه الله إن ذلك يفيد الجنس دون استغراقه والحجة لذلك أنه لو استغرق الجنس لجاز مع أنه لفظ واحد أن يؤكد بكل وجميع كلفظة من نحو قولك كل من دخل داري أكرمته وليس يجوز أن يؤكد بذلك لأنه يقبح أن يقول جاءني الرجل أجمعون ورأيت الإنسان كلهم وأيضا يقبح أن يستثنى من ذلك فيقول رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان عاما لحسن ذلك

وهذا يدلنا على أن قول الله سبحانه والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا مجاز يجري مجرى الاستثناء من غير الجنس لأنه غير مطرد ولو كان حقيقة لاطرد ويحتمل أيضا أن تكون الخسارة لما لزمت جميع الناس إلا المؤمنين جاز هذا الاستثناء فان قيل فقد قالوا أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض فعنوا كل واحد منها بالجمع فعلم أنهما يفيدان الاستغراق قيل هذا شاذ ولو كان حقيقة لاطرد حتى يقال جاءني الرجل القصار والرجل المؤمنون على أنه ليس المراد بذلك أن جميع الدنانير أهلك الناس وإنما المراد به هذا الجنس ولما كان الهلاك بالدينار لأمر موجود في كل واحد من الدنانير جاز أن ينعتوه بالجمع لأن المعنى يقتضي الجميع
فان قالوا لو لم يستغرق قولنا الإنسان لأفاد واحدا غير معين وفي ذلك إخراجه من كونه معرفا فإن قلتم إن اللام تقتضي تعريف الجنس لا تعريف الآحاد قيل لكم هذا كان مستفادا من الاسم قيل دخول اللام عليه لأنك لو قلت رأيت إنسانا أفاد أنك رأيت واحدا من هذا الجنس كما لو قلت رايت الإنسان والجواب أن قول القائل رأيت الإنسان لا يطلق إلا على إنسان قد عرفه المتكلم والسامع وتقدم ذكره لهما فيفيد ذلك الشخص بعينه وقد تعلق على لفظ الإنسان حكم يعلم شياعه في جميع الناس إما لأجل لفظ تعليل أو لأجل الزجر أو غير ذلك فلا يستعمل في شخص بعينه ولكن يراد به الجنس واستغراقه لأجل ما اقترن به مما يقتضي الاستغراق
فان قيل إنكم قد خالفتم الإجماع بفرقكم بين الاسم إذا دخله الألف واللام وبين الاسم المفرد لأن الناس على قولين منهم من جعلهما مستغرقين ومنهم من جعلهما غير مستغرقين قيل لسنا نعلم هذا الإجماع وإنما نعلم ما ذكرته من قول الشيخين رحمهما الله ومن تبعهما فقط على أنه إنما لا يجوز الفرق بين المسألتين إذا جمعهما طريق واحد وقد بينا أنه ليس يجمعهما طريق واحد

باب في لفظ الجمع العاري عن الألف واللام
حكى قاضي القضاة رحمه الله في الشرح عن الشيخ أبي علي رحمه الله ان قول القائل رأيت رجالا يحمل على الاستغراق من جهة الحكمة وعند الشيخ أبي هاشم رحمه الله أنه لا يحمل على الاستغراق بل يحمل إذا تجرد على ثلاثة فصاعدا وحجة ذلك أن قولنا رجال يفيد جمعا من الرجال لأنك ترتقي من التثنية إليه فتقول رجلان وثلاثة رجال وأربعة رجال ولأنك تنعته بأي نعت شئت فتقول رجال ثلاثة وأربعة وخمسة رجال وإذا كان يفيد جمعا من الرجال وكان معنى الجمع قائما في الثلاثة فما زاد فمن قيل له اضرب رجالا فضرب ثلاثة رجال كان قد فعل ما يوصف بأنه ضرب رجال فسقط عنه الغرض كما أنه لوقيل له ادخل الدار فدخل أولها ولحقه اسم الداخل سقط عنه الأمر وقد احتج لذلك بأنه لو حمل ذلك على الاستغراق لم يستقر لأنه لا عدد من الرجال إلا ويمكن أن يوجد أكثر منه ولقائل أن يقول يحمل على الاستغراق لمن هو موجود من الرجال كلفظة من تحمل على أنها استفهام عن كل عاقل في الدار دون من لم يوجد وهذا يوجب أن لا يكون في اللغة لفظ يستغرق الرجال
وحجة أبي علي على وجوه
منها أن حمل هذه اللفظة على الاستغراق حمل لها على جميع حقائقها فكان أولى من حملها على البعض ويفارق ذلك الاسم المشترك في أنه لا يحمل على كلا معنييه لأنه ليس بحقيقة في مجموعهما وقولنا ناس ورجال يفيد كل جمع على سبيل الحقيقة والجواب أنه إن أراد أن قولنا رجال حقيقة في الثلاثة وفي الأربعة وفي كل عدد ابتداء فذلك غير مسلم لأنه لم يوضع للاعداد ابتداء وإن أراد أنه حقيقة في الجمع والجمع موجود في الثلاثة فصاعدا

فصحيح وذلك يمنعه أن يقول إذا حملته على الاستغراق كنت قد حملته على جميع حقائقه لأن الحقيقة واحدة وهي الجمع ثم يقال له ولم زعمت أنه ينبغي أن يحمل هذا الاسم على كل ما وجدت فيه حقيقة وما أنكرت أنه يحمل على أقل ما يوجد فيه معنى الجمع لأنه متحقق
ومنها قوله لو اراد المتكلم بلفظ الجمع المنكور البعض لبينه وإذا بطل حمله على البعض ثبت الاستغراق والجواب يقال له ولو أراد الكل لبينه على أن ما ذكرناه من وجوب حمله على الثلاثة وسقوط الأمر به بيانا بأن يكون البعض مرادا ويقال له إنما يجب أن يبين ذلك لو يدل عليه مطلق الكلام فبين أنه لا يدل على ذلك وقد تمت لك المسألة
ومنها قوله لو حمل على البعض لم يتميز البعض الذي يحمله عليه الجواب أنا إذا قصرنا الحكم على الثلاثة فقد حملناه على أمر متميز وإن كانت الثلاثة غير متعينة فان قال أفتجوزون لمن أمر بضرب رجال أن يضرب أكثر من ثلاثة قيل نعم ولا يجب عليه أما سقوط الوجوب فلانه بضرب ثلاثة يوصف بأنه قد ضرب رجالا وأما جواز الزيادة فلقيام معنى الجمع فيهم وهذا كمن قيل له ادخل الدار في أنه إن دخل أولها سقط عنه الأمر وإن أمعن في الدخول لم يلزمه فهذا هو الكلام في أسماء الجمع المنكر
فأما قول القائل افعلوا فذكر قاضي القضاة في الدرس أن أبا علي حمل ذلك على الاستغراق قال ولم يحمله قوله رايت رجالا على الاستغراق وذكر في الشرح ما حكيناه والأولى أن يقال إن قول القائل افعلوا لا بد من أن يتقدمه اسم فان كان الاسم مستغرقا نحو قوله يأيها الناس انصرف قوله افعلوا إلى الاستغراق وإن لم يكن مستغرقا نحو جمع منكر لم ينصرف ذلك إلى الاستغراق لأن الإنسان لو قال قلت لرجل افعلوا كذا وكذا لم يستغرق جميع الرجال

باب في أقل الجمع ما هو
اعلم أن هذا الباب يشتمل على مسألتين إحداهما أن يقال قولنا جمع ما الذي يفيده والثاني أن يقال الألفاظ الموضوعة بأنها جمع هل تفيد الاثنين حقيقة أم لا نحو قولنا جماعة ورجال
أما قولنا جمع فانه يفيد من جهة الاشتقاق ضم الشيء إلى الشيء ويفيد في عرف أهل اللغة الفاظا مخصوصة نحو قولهم هذا اللفظ جمع وهذا اللفظ تثنية وأما قولنا جماعة وقولنا رجال فانه يفيد ثلاثة فصاعدا ولا يفيد الاثنين فقط لأنه لا ينعت ذلك بالاثنين وينعت بالثلاثة لأنه يقال رأيت رجالا ثلاثة وجماعة رجال ولا يقال رأيت رجالا اثنين وجماعة رجلين
وذهب قوم إلى أنه يفيد الاثنين حقيقة واحتجوا بأشياء
منها قوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إلى قوله وكنا لحكمهم شاهدين والجواب أن ما ذكرناه من الدلالة يقتضي أن ذلك مجازا لا حقيقة
ومنها قول النبي صلى الله عليه و سلم الاثنان فما فوقها جماعة والجواب أنه أراد أن حكمهما حكم الجماعة في انعقاد صلاة الجماعة بهما لما ذكرنا من الدلالة لأن كلام النبي صلى الله عليه و سلم يحمل على تعليم الحكم دون الاسم اللغوي وليس لأحد أن يقول إن الاثنين تفيدهما ألفاظ الجمع من جهة الشرع فيقال إن النبي صلى الله عليه و سلم عرفنا ذلك شرعا

ومنها أن اسم الجمع يفيد ضم الشيء إلى الشيء وهذا يصح في الإثنين كصجته في الثلاثة وإذا كان معنى الجمع قائما في الاثنين صح أن يفيدهما ألفاظ الجمع والجواب أن قولنا اسم الرجال موضوع للجمع ليس يقتضي أنه يفيد جمع شيء إلى شيء فيلزم أن يقع ما حصل فيه هذا المعنى وإنما يفيد أنه موضوع للاجتماع ثلاثة فصاعدا فلا يلزم أن يفيد اجتماع اثنين

باب في نفي مساواة الشيء للشيء هل يفيد نفي اشتراكهما في كل صفاتهما أم
لا
اعلم أن من الشافعية من استدل بقول الله تعالى لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة اصحاب الجنة هم الفائزون على المنع من قتل المسلم بالذمي لأنه لو قتل به كما يقتل الذمي بالمسلم وكما يقتل المسلم بالمسلم كنا قد سوينا بين المسلم والذمي مع أن أحدهما من اصحاب النار والآخر من أصحاب الجنة والآية تمنع من استوائهما في كل الصفات وهذا لا يصح لأن استواء أهل النار وأهل الجنة هو أن يشتركا في جميع الصفات كما أن تساوي الجنسين هو أن يشتركا في جميع المقدار فنفي استوائهما هو نفي اشتراكهما في جميع الصفات ومتى افترقا في بعضهما صدق القول عليهما بأنهما لم يستويا ونحن نوقع بين الذمي والمسلم افترقا في كثير من الصفات سوى القصاص فبان أن قوله لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يعم جميع الصفات
إن قيل هلا كان المراد بذلك لا يستويان في صفة من الصفات قيل إن نفي الاستواء علق بأصحاب الجنة وأصحاب النار ولم يعلق بصفاتهم فلا يلزم ما قلته وإذا علق بالفريقين كفى في افتراقهما أن يتنافيا في بعض الصفات

وقد أجاب قاضي القضاة عن الاحتجاج بالآية بأنا قد علمنا استواءهم في صفات الذات فعلمنا أنه أراد لا يستويان في بعض الصفات فاذا لم يذكر ذلك البعض صارت الآية مجملة وقد ذكرنا في الآية الافتراق في الفوز فيجب حمل الآية عليه ولقائل أن يقول إن سلم لهم أن الآية تفيد نفي اشتراكهم في كل الصفات أجمع لم يضرهم اشتراكهم في كثير من الصفات لأن العموم إذا خرج بعضه لم يمنع من التعلق بباقيه

باب في خطاب المذكر هل يعم المذكر والمؤنث أم يختص بالمذكر فقط
اعلم أن الخطاب الشامل ضروب أحدهما يختص بالمذكر فقط نحو قولنا رجال والآخر يختص بالمؤنث فقط كقولنا نساء والآخر يستعمل فيهما وهو ضربان أحدهما لا يبين فيه تذكير ولا تأنيث كقولك من وذلك يدخل فيه الرجال والنساء إلا لدلالة والآخر يبين فيه التذكير كقولك قاموا واختلف الناس في ذلك فقال بعضهم لا يدخل النساء فيه إلا بدليل لأن المذكر جمعا ينفصل به من جمع المؤنث ولأن الجمع هو تضعيف الواحد ومعلوم أن قولنا قام يفيد المذكر فقولنا قاموا يفيد تضعيف هذه الفائدة وهو المذكر وقال قوم ظاهر ذلك يفيد الرجال والنساء لأن أهل اللغة قالوا التذكير والتأنيث إذا اجتمعا غلب التذكير والجواب أن مرادهم بذلك أن الإنسان إذا أراد أن يعبر عن المؤنث والمذكر بلفظ وجب أن يعبر عنه بلفظ مذكر لا مؤنث وليس في هذا ما يدل على أن اللفظ يفيد ظاهره المؤنث وإذا قد أتينا على أبواب العموم فلنذكر ابواب الخصوص
باب في معنى وصفنا للكلام بأنه خاص وخصوص وبانه مخصوص ووصف المتكلم بأنه
مخصص للخطاب والفصل بين التخصيص والنسخ
أما وصف الكلام بأنه خاص وبأنه خصوص فمعناه أنه وضع

لشيء واحد نحو قولنا البصرة وبغداد
وأما الخطاب المخصوص فهو ما عرض المتكلم به بعض ما وضع له اللفظ فقط وذلك أن المفهوم من قولنا إن الكلام مخصوص هو أنه قد قصر على بعض فائدته وإنما يكون مقصورا عليها بأن يكون المتكلم قد عني ذلك البعض فقط بكلامه وليس قولنا خصوص من قولنا مخصوص بسبيل لأن ما وضع لعين واحدة لا يوصف بأنه خطاب مخصوص وإنما يوصف بأنه خاص وبأنه مخصوص ويقل استعمال قولهم خصوص في العموم المخصوص وأما قولنا خاص فانه يستعمل فيما وضع لعين واحدة وفي العموم المخصوص وأما قولنا قد خص فلان العموم فقد يستعمل على الحقيقة ويراد به أنه جعله خاصا وإنما يجعله خاصا إذا استعمله في بعض ما تناوله ويستعمل على المجاز ويراد به أنه دل على تخصيصه أو نبه على الدلالة عليه أو اعتقد تخصيصه
فأما التخصيص فقد يستعمل على موجب اللغة وعلى موجب العرف واستعماله على موجب اللغة يفيد إخراج بعض ما تناوله الخطاب فعلا كان المخرج أو فاعلا أو زمانا على ما سيجيء بيانه وعلى هذا يكون النسخ داخلا تحت التخصيص لأن النسخ هو إخراج لبعض ما تناوله الخطاب ايضا وأما التخصيص في العرف فانه لا يفارق على موجب مذهب أصحابنا إلا بالمقارنة والتراخي لأن الله عز و جل لو قال لنا صلوا كل يوم جمعة ثلاث صلوات وقال عقيب ذلك باستثناء أو بغيره لا يصل زيد شيئا من هذه الصلوات كان ذلك مخصصا ولم يكن نسخا وكذلك لو قال لا تصلوا يوم الجمعة الفلانية أو لو قال لا تصلوا الصلاة الثالثة في الجمعة فلو قال هذه الأقاويل متراخيا عن قوله صلوا كل يوم جمعة لكان نسخا فبان أنه ليس يقع الفرق بينهما فإن أحدهما يخرج الوقت أو الشخص أو الفعل بل إنما يفترقان بالمقارنة والتراخي فاذا ثبت ذلك فالتخصيص على هذا هو إخراج

بعض ما تناوله الخطاب مع كونه مقارنا له ويدخل في ذلك إخراج واحد من النكرات والنسخ هو إخراج بعض ما تناوله دليل شرعي بنفسه أو بقرينة بدليل سمعي متراخ

باب فيما يجوز تخصيصه وفيما لا يجوز
اعلم أن الكلام في ذلك يقع في موضعين أحدهما فيما يتصور تخصيصه ويمكن والآخر فيما يجوز قيام الدلالة على تخصيصه أما الأول فهو أن الأدلة ضربان أحدهما فيه معنى الشمول والآخر ليس فيه ذلك فالأخير لا يتصور دخول التخصيص فيه لأن تخصيص الشيء هو إخراج جزئه فما لا جزء له لا يتصور فيه ذلك ولا يمكن وذلك نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بردة بن نيار يجزئك ولا يجزىء أحدا بعدك لأنه لا يمكن أن يخرج من هذه الأجزاء شيء وأما ما فيه معنى الشمول فضربان أحدهما لفظ عموم والآخر ليس بلفظ عموم نحو قضية في عين دل الدليل على أنها تتعدى عنها أو فحوى القول أو دليل خطاب أو علة شاملة وكل ذلك يتصور دخول التخصيص فيه إذ كل واحد من ذلك له جزء يتصور إخراجه
فأما ما يجوز قيام الدلالة على تخصيصه فنقول فيه إن ما لا يتصور تخصيصه لا يجوز قيام الدلالة على تخصيصه وما يتصور تخصيصه وكان لفظ عموم فجائز قيام الدلالة على تخصيصه وما عدا الألفاظ فضربان علة وغير علة وما ليس بعلة فهو دليل خطاب على قول من جعله حجة والدلالة على تخصيصه يجوز أن ترد وأما العلة فضربان أحدهما تعليل بطريق الأولى وهو فحوى القول والآخر لا بطريق الأولى فالأول لا يجوز إخراج بعض الفحوى مع بقاء اللفظ فإن قول الله عز و جل فلا تقل لهما أف لو خص

منه الضرب فأبيح مع إيمانهما وحظر التأفيف كان قد أبيح ما يشارك المحظور في علة الحظر وزاد عليه فأما العلة التي لا يثبت فيها معنى الأولى فضربان منصوصة ومستنبطة وفي تحصيص كل واحدة منهما اختلاف
وإذ وقد ذكرنا ما لا يجوز تخصيصه وما يجوز تخصيصه فلنذكر الغاية التي اليها ينتهي تخصيص ما يجوز تخصيصه

باب في الغاية التي يجوز أن ينتهي التخصيص إليها
حكي عن أبي بكر القفال أنه أجاز تخصيص لفظة من إلى أن يبقى تحتها واحد فقط ولم يجز ذلك في ألفاظ الجمع العامة وجعل نهاية تخصيصها أن يبقى تحتها ثلاثة كقولك الناس والرجال وأجاز غيره تخصيص جميع الفاظ العموم على اختلافها إلى أن يبقى تحتها واحد والأولى المنع من ذلك في جميع ألفاظ العموم وإيجاب أن يراد بها كثرة وإن لم يعلم قدرها إلا أن تستعمل في الواحد على سبيل التعظيم والإبانة بأن ذلك الواحد يجري مجرى الكبير فأما على غير ذلك فليس بمستعمل يبين ذلك أن رجلا لو قال أكلت كل ما في الدار من الرمان وكان قد أكل رمانة واحدة وفي الدار ألف رمانة عابه أهل اللغة وكذلك لو أكل ثلاثة فانما يزول اللوم عنه إذا كان قد أكل جميعها أو كثيرا منها وإن لم يحد ذلك بحد كذلك لو قال أكلت الرمان الذي في الدار وقد أكل ثلاثة وكذلك لو قال أكلت الرمان إلا أن يريد بقوله أكلت الرمان الجنس دون الاستغراق لأن المريض لو قال قد أكلت اللحم حسن ذلك وإن كان أكل اليسير منه لما كان مقصده أنه قد شرع في هذا الجنس ولو قال قائل من دخل داري ضربته أو قال لغيره من عندك وقال أردت زيدا وحده بالاستفهام والمجازاة عابه أهل اللغة

وحجة من أجاز أن ينتهي التخصيص إلى أن يبقى من العموم واحد هي أنه لو لم يجز ذلك لكان إما أن لا يجوز لأنه يصير به الخطاب مجازا أو لأنه إذا استعمل في الواحد لم يكن مستعملا في الجمع فلا يكون قد استعمل الخطاب في موضعه أصلا والأول يمنع من دخول التخصيص فيه على كل حال والثاني يمنع أيضا من ذلك لأن الاستغراق هو موضوع اللفظ العام لا غير والجمع تبع له وإن لم يجز أن يستعمل اللفظ في غير موضوعه لم يجز استعماله فيما دون الاستغراق والجواب أن الذي يمنع من ذلك أنه غير مستعمل في اللغة من الوجه الذي بيناه واحتجوا بقول الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ومنزل الذكر هو الله الواحد عز و جل وبقول الشاعر
إنا وما أعني سواي
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد أنفذ إلى سعد بن أبي وقاص القعقاع مع ألف فارس إني قد أنفذت إليك ألفي رجل وصفه بأنه ألف فاذا جاز ذلك في ألفاظ العدد فجوازه في ألفاظ العموم أولى والجواب أن ذلك خرج على طريق التعظيم أو الإخبار بقيام الواحد مقام الجماعة وذلك سائغ

باب في جواز استعمال الله سبحانه الكلام العام في الخصوص أمرا كان أو
خبرا
حكي أن قوما منعوا من ذلك في الخبر دون الأمر والدليل على جواز ذلك فيهما أن القرآن قد ورد بخطاب عام والمراد به الخصوص كقوله سبحانه اقتلوا المشركين وقوله سبحانه وأوتيت من كل شيء

وجاءت السنة بذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدخل بيتا فيه تصاوير وقال إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير ثم دخل بيتا فيه تصاوير بوطاء فكان ذلك تخصيصا ولأن المانع من ذلك إما أن يكون من جهة الإمكان أو من جهة اللغة أو من جهة الدواعي والحكمة ومعلوم أن ذلك ممكن من كل متكلم واللغة لا تمنع من ذلك لأنهم يتكلمون بالعموم ويريددون به الخصوص والحكمة أيضا لا تمنع من ذلك لأن أكثر ما فيه أنه يصير العموم باستعماله في الخصوص مجازا والحكمة لا تمنع من التكلم بالمجاز
إن قيل إن جاز ذلك لتكلم أهل اللغة به ليجوزن أن يامر الله سبحانه بشرط لأن أهل اللغة يأمرون بشروط قيل إنا لم نمنع من ذلك لأجل اللغة لكن لأن الأمر بالشرط موقوف على فقد العلم بحصول الشرط أو زواله إن قيل فالحكمة تمنع من أن يراد بالخبر العام بعضه لأنه يوهم الكذب قيل ليس يوهم ذلك إذا اقترن به بيان التخصيص ويلزم عليه المنع من دخول التخصيص في الأمر لأنه يوهم البداء فإن قالوا الخبر لا يجوز نسخه فلم يجز تخصيصه والجواب أنه يجوز نسخه على ما سنبينه

باب فيما يصير به العام خاصا
اعلم أنه يفهم من ذلك ما به يصير خاصا عندنا ويفهم منه ما به يصير خاصا في نفسه فاذا أريد الوجه الأول فالجواب أنه يصير خاصا عندنا بالأدلة لأنا بها اعتقدنا أن العام مخصوص وإذا أريد الوجه الثاني وهو الحقيقة لأن المفهوم من ذلك أنه صار مخصوصا به في نفسه فالجواب أنه صار مخصوصا بأغراض المتكلم وإرادته لا بالأدلة لأن معنى قولنا إن العموم مخصوص هو أن المتكلم به استعمله في بعض ما تناوله ولا معنى لذلك إلا أنه قصد به بعض ما تناوله أو ما يجري مجرى القصد ولأنه إذا جاز أن يرد

الخطاب خاصا وجاز أن يرد عاما لم يكن بأحدهما أولى من الآخر إلا لما يرجع إلى أغراض المتكلم كما يذكره أصحابنا في الأمر والخبر ولهذا كان لفظ العموم مستعملا في الاستغراق بارادة المتكلم وأغراضه ولأن الدلالة على تخصيص العموم الذي تكلم به الواحد منا قد يكون متأخرا والمؤثر في الشيء لا يتأخر عنه ولأنه قد يتكلم الواحد منا بالعموم ويدل غيره على تخصيصه والمخصص للعموم هو المتكلم دون غيره وانصرف ذلك إلى أقوال المتكلم دون الدليل

باب فيما يعلم به تخصيص العام
اعلم أنه يعلم تخصيص العم بما يتصل به وبما ينفصل عنه والمتصل به شرط وصفة وغاية واستثناء والمنفصل ضربان عقلي وسمعي والسمعي ضربان دلالة وأمارة فالدلالة هي الكتاب والسنة المقطوع بها والإجماع المقطوع به والأمارة خبر واحد وقياس
باب تخصيص الكلام بالصفة والغاية
أما تخصيصه بالصفة فكقولك أكرم الناس الطوال فلو لم تقل الطوال لزوم إكرامهم أجمع فلما قلت الطوال لزم إكرام الطوال فقط ولم يلزم بهذا الكلام إكرام من عداهم فان تضمن الكلام شيئين عطف أحدهما على الآخر وقيد الثاني منهما بصفة فانه يتقيد الأول بالصفة في حال ولا يتقيد في حال على ما سنذكره في الاستثناء إذا تعقب جملا من الكلام
وأما تخصيصه بالغاية فكقولك أكرم بني تميم أبدا إلى أن يدخلوا الدار فلو لم تقل إلى أن يدخلوا الدار جاز أن يكرمهم بالأمر دخلوا

الدار أو لم يدخلوا فلما ذكرت الغاية تخصص الوجوب بما قبلها لأنه لو لزم الإكرام بعد الدخول خرج الدخول من كونه غاية ونهاية ودخل في أن يكون وسطا وذلك ينقض فائدة قوله إلى لأن هذه اللفظة تفيد الغاية وقد يدخل على الحكم الواحد غايتان إما على البدل وإنما على الجمع مثال الأول قولك اضرب زيدا أبدا تى يدخل الدار أو حتى تسلم على زيد فأيهما فعل سقط وجوب الضرب والغاية الثانية قد زادت في التخصيص لأنك لو اقتصرت على الغاية الأولى ما ارتفع الضرب إلا مع دخول الدار فلما ذكرت الثانية ارتفع وجوب الضرب مع فقد دخول الدار إذا وجد التسليم على زيد ومثال الثاني قولك اضرب بني تميم أبدا حتى يدخلوا الدار وحتى يسلموا على زيد فيصير فعل الثاني منهما هو الغاية في التحقيق والغاية الثانية قد رفعت بعض التخصيص لأنها لو لم تذكر سقط وجوب الضرب بدخول الدار فقط فلما ذكرت لم يسقط وجوب الضرب إلا بوجود السلام مع دخول الدار

باب التخصيص بالشرط
اعلم أن الشرط يخص الكلام وهو ضربان أحدهما يخرج من الكلام ما علمنا خروجه منه بدليل آخر عقلي أو سمعي فيكون مؤكدا نحو قولك أكرم القوم أبدا إن أستطعت والضرب الآخلار يخرج من الكلام ما لا نعلم خروجه منه لولاه كقولك أكرم القوم ابدا إن دخلوا الدار فلو لم تذكر الشرط لزم إكرامهم وإن لم يدخلوا الدار ومع ذكرك للشرط سقط وجوب الإكرام إن لم يدخلوا الدار لأن لفظة إن للشرط والشرط يقف عليه المشروط وعلى بدله وإلا انتقض كونه شرطا على ما تقدم بيانه
وقد يشترط الحكم الواحد بشروط كثيرة على البدل وعلى الجمع فالأول كقولك أكرم القوم أبدا إن دخلوا الدار أو إن دخلوا السوق فأيهما

حصل استحق الإكرام والشرط الثاني قد رفع بعض التخصيص لأنك لما قلت إن دخلوا الدار أسقطت الإكرام بفقد الدخول وأخرجت ذلك من الكلام فلما قلت أو إن دخلوا السوق أوجبت إكرامهم بدخول السوق وإن لم يدخلوا الدار على حد ما اقتضاه مطلق الكلام ومثال الثاني قولك أكرم القوم أبدا إن دخلوا الدار ودخلوا السوق فلا يستحق الإكرام إلا بهما والشرط الثاني قد زاد في التخصيص لأنك لو اقتصرت على الشرط الأول ما كان يخرج من الإكرام من دخل الدار ولما ذكرت الشرط الثاني خرج من الإكرام من دخل الدار متى لم يدخل السوق
وقد يشرط للأحكام الكثيرة شرط واحد على البدل وعلى الجمع مثال الأول قولك أعط زيدا درهما أو دينار إن دخل الدار ومثال الثاني قولك أعط زيدا درهما واخلع عليه إن دخل الدار والشرط له صدر الكلام سواء تقدم أو تأخر لأن من حقه أن يتقدم الجزاء فاذا قلت أعط زيدا درهما أن دخل الدار معناه إن دخل الدار فأعطه درهما والشرط كالمشروط إن كان المشروط قد نقض فشرطه قد نقض ولا يكون الشرط مستقبلا ألا ترى أن دخول زيد الدار إذا تقدم وكان شرطه دخول عمرو فيجب أن يكون دخول عمرو قد تقدم وإن كان المشروط حاضرا فشرطه حاضر وإن كان مستقبلا فشرطه مستقبل والأصل في ذلك أن الشرط عليه يقف الحكم فلا يجوز أن يفارقه ولهذا إذا كان دخول زيد الدار شرطا في استحقاقه درهما وجب أن يقارن استحقاق الدرهم لأول فعل سمي دخولا
إن قيل أليس لو علم الله سبحانه أن زيدا إن دخل الدار يوم الخميس دخلها يوم الجمعة فيقول لنا زيد قد دخل الدار يوم الخميس إن دخلها يوم الجمعة فيكون الشرط متأخرا والمشروط متقدما قيل إنه إذا كان كذلك لم يكن دخوله يوم الجمعة شرطا في دخوله يوم الخميس وإنما يكون الدخول يوم الجمعة أو علمنا بذلك شرطا في علمنا بدخوله يوم الخميس فان قيل

فلو كانت الحال هذه ثم قال عز و جل قبل مجيء يوم الجمعة زيد سيدخل الدار يوم الجمعة ألسنا نعلم قبل مجيء يوم الجمعة أنه كان دخلها يوم الخميس قيل إنه إذا كان كذلك علمنا قبل يوم الجمعة أن زيدا سيدخل الدار يوم الجمعة وكان هذا العلم كالشرط في علمنا أنه قد دخلها يوم الخميس والشرط في هذين العلمين لم يتأخر عن المشروط منهما

باب في تخصيص الكلام بالاستثناء
اعلم أن الاستثناء المتصل بالكلام يخصه إذ قد بينا أنه يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته وذلك نحو قول القائل لزيد عندي عشرة دراهم إلا درهما وأكرم الناس إلا الفاسقين ومن حقه أن يكون متصلا بما يخصه أو في حكم المتصل به أما اتصاله بالكلام فنحو قولك له علي عشرة إلا درهما وكقولك أكرم العرب الطوال البيض إلا الفاسقين لأن هذا الاستثناء يخرج الفاسقين من العرب البيض الطوال فلم يتأخر عن المستثنى منه على الحقيقة وأما الذي هو حكم المتصل فبأن يكون انفصاله وتأخره على وجه لا يدل على أن المتكلم قد استوفى غرضه من الكلام نحو أن يسكت قبل الاستثناء لانقطاع نفس أو بلع ريق وحكي عن ابن عباس أنه قال إن الاستثناء المنفصل يخص الكلام ويكون استثناء
واعلم أن القول بأنه يكون استثناء مع انفصاله إما أن يراد به أنه يكون على صورة الاستثناء ومعلوم أنه يكون كذلك أو يراد به أنه يمكن أن يقصد به المتكلم إخراج بعض المستثنى وهذا ايضا ممكن أو يراد به أن ذلك مستعمل في عادة العرب ومعلوم أن ذلك غير مستعمل لأن الإنسان لا يقول رايت الناس ويقول بعد شهر رأيت زيدا ولذلك استقرت العقود والإيقاعات كالعتاق والطلاق وغير ذلك وإما أن يراد به أن السامع لهذا

الاستثناء يعلم رجوعه إلى الكلام المتقدم منذ شهر ومعلوم أن السامع لا يعرف ذلك لأن الاستثناء غير مستقل بنفسه فهو كالخبر مع المبتدأ فكما أن الخبر إذا تأخر عن المبتدأ شهرا لم يستفد به السامع شيئا فكذلك الاستثناء المتأخر أو يراد بذلك أنه متعلق به حكم شرعي حتى إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا ثم قال بع شهر إلا أن تدخلي الدار فإنها لا تطلق إن دخلت الدار ومعلوم أنه كان يجوز ورود الشريعة بذلك لجواز تعلق المصلحة به غير أنها لم ترد به وإنما وردت بتعلق هذه الأحكام على المتعارف من خطاب العرب ولو تعلقت هذه الأحكام بغير ما تعارفوه من الكلام لبينته الشريعة فاذا ثبت ذلك لم يحسن الاستثناء المنفصل لأنه إن تجرد لم يفد والغرض بالكلام الإفادة فما لم يحصل به هذا الغرض قبح وإن اقترن به بيان نحو أن يستثني المتكلم من كلامه بعد شهر ثم يقول هذا راجع إلى كلامي الفلاني فانه يقبح لأنه استعمل ما لا يستعمله أهل اللغة فلم يجز مع أنه متكلم بكلامهم كما لا يحسن أن يأتي بالخبر بعد المبتدأ بشهر ويبين أنه خبر لذلك المبتدأ

باب في الاستثناء من غير الجنس
أما استعمال ذلك فظاهر قال الله سبحانه وتعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فاستثنى منهم إبليس وليس منهم وقال الشاعر
وما بالربع من أحد إلا أواري
ولا يقال للأواري أحد إلا أن ذلك مجاز لأن من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام شيئا تناوله واسم الملائكة لم يتناوله إبليس فيكون قوله

إلا إبليس أخرجه من الكلام وكل استثناء من غير الجنس فإنه يخرج من معنى الكلام ولا بد من إضمار إما فيه أو في المستثنى منه أما الإضمار في الاستثناء فنحو قول القائل لزيد على عشرة أثواب إلا دينارا أي ما قيمته قيمة دينار فالاستثناء قد دخل على معنى المستثنى منه وهو القيمة ووقع الإضمار في الاستثناء وأما ما يقع الإضمار في المستثنى منه فنحو قول الله سبحانه فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أي فسجد الملائكة ومن أمر بالسجود إلا إبليس فلما وقعت الشركة بين الملائكة وبين إبليس في أنهم مأمورون بالسجود صح الاستثناء ومنه قول الله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا لما دل هذا الكلام على لحوق الإثم من قتل مؤمنا صار ذلك كالمضمر وكان قوله إلا خطأ استثناء منه

باب في استثناء الأكثر من الأقل
أجازه قوم ومنع منه قوم آخرون وليس يخلو المانعون منه إما أن يمنعوا منه لأنه لا يفهم منه المراد أو لأنه غير مستعمل في اللغة أو لأن الحكمة تمنع من ذلك ومعلوم أن الإنسان إذا قال لزيد علي عشرة دراهم إلا تسعة فهم السامع في الحال أنه أقر بدرهم واحد وكيف لا يفهم بهذا الكلام ومفرده هو من لغة العرب وقد اتصل الاستثناء بالكلام ولم ينفرد عنه فبطل المنع من ذلك لأنه لا يفهم به المراد ولا يجوز أن يقال إنه ليس بمستعمل في كلامهم لأن ذلك دعوى بل لا يمتنع أن يكون لم يكثر في كلامهم لأن الحاجة لا تكاد تدعو إليه إلا في النادر فلهذا ندر في كلامهم فلم ينقل أو نقل نادرا

وأما القول بأن الحكمة تمنع من ذلك فبأن يقال إن الاستثناء إنما يفعل للاستدراك أو للاختصار فالاستدراك نحو أن يظن الإنسان أن لزيد عليه عشرة دراهم فيقر بذلك ويذكر في الحال أن له عليه تسعة فيستثني درهما وأما الاختصار فنحو أن يستطيل الإنسان أن يقر بتسعة دراهم وخمسة دوانيق فيقر بعشرة دراهم إلا دانقا وليس من الاختصار أن يقول الإنسان لزيد علي ألف درهم إلا تسع مائة وتسعة وتسعون ولم تجر العادة أن يكون على الإنسان درهم فيظن عليه ألف درهم ثم يذكر في الحال أن عليه درهما فيستدرك ذلك بالاستثناء والجواب أن الأكثر ما ذكرتم وقد يتفق خلافه فنحو أن يكون على الإنسان ألف درهم وقد قضي منها تسع مائة وتسعة وتسعين وينسى أنه قضي ذلك فيقر بالألف ويذكر في الحال القضاء ويستدرك بالاستثناء وقد يجوز أن يكون لزيد على عمرو درهم ولخالد على عمرو ألف درهم فيروم عمرو أن يقر لخالد بالألف فيسبق لسانه بالإقرار بالألف لزيد فلا يجد سبيلا إلى دفع ذلك عن نفسه إلا بالاستدراك وإذا جاز ما ذكرناه لم تمنع منه الحكمة ولهذا لو صرح المستثنى للاكثر بما ذكرناه لم يلمه العقلاء وإذا لم يمنع من هذا الاستثناء مانع صح حسنه ولا يجوز أن يستدل على جوازه بأن من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك قائم في استثناء الأكثر من الأقل لأن لقائل أن يقول من أين لكم أنه ليس حقه إلا ما ذكرتم فاذا ثبت جواز هذا الاستثناء صح أن يتعلق به حكم وأن يتعلق به الإقرار

باب في الاستثناء الوارد عقيب كلامين هل يرجع إليهما أو إلى الثاني منهما
قال أصحاب الشافعي يرجع إليهما وقال أصحاب أبي حنيفة يرجع إلى الثاني منهما وقالوا في الاستثناء بمشيئة الله وفي الشرط إنهما يرجعان إلى كلا الكلامين وحكى الحوري عن أهل الظاهر مثل مذهب أبي حنيفة وسوى بين

المشيئة والشرط والاستثناء وذكر أنه مذهبهم وقال قاضي القضاة إذا لم يكن الثاني منهما إضرابا عن الأول وخروجا عنه إلى قصة أخرى وصح رجوع الاستثناء إليهما وجب رجوعه إليهما وإن كان إضرابا عن الأول وخروجا عنه إلى قصة أخرى فانه يرجع إلى ما يليه
ويمكن أن نعتبر أيضا اعتبارا آخر وهو أن يضمر في الكلام الثاني شيء مما في الأول أو لا يضمر فيه شيء مما في الأول ويدخل فيما يكون الثاني من الكلام إضرابا عن الأول مسائل
منها أن يكون الكلام الثاني نوعا غير نوع الكلام الأول مع أنه خروج إلى قصة أخرى كقولك اضرب بني تميم والفقهاء هم أصحاب أبي حنيفة إلا أهل البلد الفلاني فالاستثناء يرجع إلى ما يليه لأن المتكلم لما عدل عن قصة وعن كلام مستقل بنفسه إلى قصة أخرى وإلى كلام مستقل بنفسه علم أنه قد استوفى غرضه من الأول لأنه لا شيء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى قصة أخرى ونوع آخر وفي رجوع الاستثناء إليه نقض للقول بأن المتكلم قد استوفى غرضه منه
ومنها أن يكون الكلام الثاني من نوع الكلام الأول غير أنه يباينه في الاسم والحكم كقولك اضرب بني تميم وأكرم ربيعة إلا الطوال الاستثناء في ذلك يرجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحد من الكلامين بنفسه ومباينته له وعدول المتكلم عن الكلام الأول إلى الثاني
ومنها أن يشترك الكلامان في حكم ظاهر فيهما فقط أو في اسم ظاهر فيهما فقط ولا يكون قد أضمر في أحدهما شيء ما ليس في الآخر مثال الأول قولك سلم على بني تميم وسلم على ربيعة إلا الطوال الأشبه رجوع الاستثناء إلى ما يليه وإن لم يكن في الظهور كالذي تقدم وإنما رجع إلى ما يليه لعدول المتكلم عن الكلام الأول ودلالته على استيفاء غرضه منه

وأما إذا اشتركا في اسم ظاهر فقط فضربان أحدهما أن لا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض والآخر أن يشتركا فر غرض مثال الأول قولك سلم على بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال الأشبه أيضا رجوع الاستثناء إلى ما يليه لما ذكرناه
فأما إذا اشتركا في غرض من الأغراض فانه يدخل في القسم الذي سنذكره الآن وهو أن لا يكون الكلام الثاني إضرابا عن الأول وذلك ضربان أحدهما أن لا يكون إضرابا عن الأول من حيث اشترك الكلامان في حكمين يجمعهما غرض واحد فيصير كالحكم الواحد فيرجع الاستثناء إليهما كقولك سلم على ربيعة وأكرم ربيعة إلا الطوال لأن الحكمين قد اشتركا في الإعظام والثاني أن يكون قد أضمر في الكلام الثاني شيئا مما في الأول إما الاسم أو الحكم مثال الأول قولك أكرم ربيعة واستأجرهم إلا من قام ومثال الثاني قولك أكرم بني تميم وربيعة إلا من قام الاستثناء يرجع إليهما فأما قول الله عز و جل والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فانه داخل في هذا القسم من حيث أضمر فيه ما تقدم فلم يكن الكلام الثاني عدولا عن الأول لأن القصة واحدة وهو داخل أيضا في القسم الذي قبل هذا القسم من حيث كان رد الشهادة مع الجلد والحكم بالفسق يجمعهما أمر واحد وهو الانتقام والذم
واعلم أنه ليس في هذا الكلام نص من المتكلم يقتضي رجوع الاستثناء إلى كلا الكلامين أو إلى الثاني منهما وإنما الذي يجب أن يدل عليه وجهان إما وجه منفصل كآيات في القرآن وعمل الصحابة وإما وجه متعلق بالاستثناء وراجع إليه وذلك ضروب منها اعتبار غرض المتكلم ومنها اعتبار حرف

العطف ومنها اعتبار فقد استقلال الاستثناء بنفسه ومنها قياس الاستثناء على غيره أما اعتبار الغرض واعتبار حرف العطف فيحتج به من قال إن الاستثناء يرجع إلى جميع ما تقدم وأما اعتبار فقد الاستقلال فيحتج به من قال إنه يرجع إلى ما يليه وإما قياسه على غيره فضربان أحدهما يحتج به من قال إنه يرجع إلى ما يليه والآخر يحتج به من قال إنه يرجع إلى الكلامين ونحن نورد ذلك على نسق إن شاء الله فالدلالة على رجوع الاستثناء إلى جميع ما تقدم إذا لم يكن بعضه إضرابا عن البعض أن القائل إذا قال لغيره سلم على بني تميم واستأجرهم علمنا أن غرضه من الكلام الأول لم يتم وأنه لم يضرب عنه لأنه قد أعلمه في الكلام الثاني ألا ترى أنه قد أضاف إلى الاسم حكما آخر وكذلك إذا قال سلم على بني تميم وربيعة لأنه قد عدى ذلك الحكم إلى اسم آخر فيصير الكلامان مع حرف العطف كالجملة الواحدة فرجع الاستثناء إليهما كرجوعه إلى الجملة الواحدة ويفارق ذلك إذا تميز كل واحد من الكلامين من الآخر
فصل الاستثناء كالشرط وكالاستثناء بمشيئة الله تعالى في أنه لا يستقل بنفسه فكما وجب رجوع الشرط والاستثناء بمشيئة الله إلى جميع ما تقدم فكذلك لفظ الاستثناء ولا وجه لأجله يقال بوجوب رجوع لفظ الاستثناء إلى ما يليه إلا وهو قائم في الشرط إن قيل إنما رجع الشرط الى جميع ما تقدم لأنه وإن تأخر فهو في معنى المتقدم لوجوب تقدم الشرط على الجزاء فالإنسان إذا قال اضربوا بني تميم وربيعة إن قاموا معناه إن قام بنو تميم وربيعة فاضربوهم وليس كذلك الاستثناء لأنه لا يجب تقدمه والاستثناء بمشيئة الله فلفظة لفظ الشرط ولقائل أن يقول هلا علقتم الشرط بما يليه وقدرتموه تقدير المتقدم عليه حتى يكون تقدير الكلام اضربوا بني تميم وإن دخل ربيعة الدار فاضربوهم
دليل الكلامان يجريان مع حرف العطف مجرى الجملة الواحدة لأن واو

العطف في الأسماء المختلفة تقوم مقام واو الجمع في الاسماء المتماثلة ولو قال الانسان أكرم العرب إلا بني تميم وربيعة رجع ذلك إلى بني تميم وربيعة وكذلك إذا قال أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال ولقائل أن يقول إن واو العطف تجري مجرى واو الجمع في اشتراك الاسمين في الحكم ولا تجريان مجرى واحد في رجوع الاستثناء إليهما يبين ذلك أن الكلامين وإن عطف أحدهما على الآخر فليس يخرجان من أن يكونا جملتين وينتقض ذلك بالجملتين المتباينتين نحو قولك أكرم ربيعة واضرب بني تميم فالوجه أن يذكر واو العطف مع أن المتكلم لم يعدل عن الكلام الأول ويحتج بمجموعهما
دليل وهو أن القائل لو قال بنو تميم وربيعة أكرموهم إلا الطوال رجع الاستثناء إليهما فكذلك إذا قال أكرموا بني تميم وربيعة إلا الطوال لأنه لا فرق بين تقديم الأمر وتأخيره ولقائل أن يقول إن في قولهم أكرموهم اسم للفريقين ينصرف إليهما معا والاستثناء متصل به فوجب أن يخرج الطوال من الاسم الذي هو اسم لهما كما لو قال أكرم العرب إلا الطوال وليس كذلك إذا قال أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال لأنه لم يصل الاستثناء باسم يشملهما
دليل وهو قوله إلا من قام معناه إلا من قام منهما فلا تضربوه ولقائل أن يقول ليس ذلك في لفظ الاستثناء فلستم بهذا التقدير أولى من أن نقدر قوله إلا من قام من ربيعة فلا تضربوه
دليل لو رجع الاستثناء إلى ما يليه فقط لكان الإنسان إذا قال لزيد علي خمسة دراهم وخمسة وخمسة إلا سبعة إن بلغوا لأن السبعة ليست بجزء الخمسة ولقائل أن يقول الاستثناء يرجع إلى ما يليه إلا أن يمنع منه مانع كما تقولون يرجع إلى جميع ما تقدم ما لم يمنع منه مانع والمانع من رجوع استثناء السبعة إلى ما يليها أن الاستثناء يخرج جزء من كل والسبعة ليست بجزء الخمسة

واحتج من لم يرد الاستثناء إلى جميع ما تقدم بأشياء
منها أن الاستثناء لما لم يستقل بنفسه وجب تعليقه بغيره ليستقل ولو استقل بنفسه لم يجب تعليقه بغيره ولا شبهة في وجوب تعليقه بما يليه وبهذا القدر يستقل ويفيد فتعليقه بما زاد على ذلك يجري مجرى تعليق الكلام المستقل بغيره لا من ضرورة والجواب أن هذا الكلام يمنع من رجوع الاستثناء إلى الكلام المتقدم لكي يستقل بنفسه ولا يمنع من رجوعه إليه لسبب آخر وليس يمتنع أن يكون للحكم الواحد أسباب فلا يمتنع أن يكون لرجوع الاستثناء إلى ما تقدم سبب آخر غير ما ذكر وينتقض ما ذكروه بالشرط والاستثناء بمشيئة الله لأن ذلك غير مستقل بنفسه ويدخل في الإفادة إذا علق بما يليه ومع ذلك فقد تعلق بجميع ما تقدم وقول بعضهم إن الشرط وإن تأخر فهو في الحكم متقدم ولا يخرجه من أن يكون نقضا لما ذكروه من العلة وقول بعضهم إن الاستثناء بمشيئة الله يقتضي إيقاف الكلام ولا يخرج البعض دون البعض لا يمنع من أن تنتقض به هذه الشبهة من حيث كان غير المستقل بنفسه وقد رجع إلى جميع ما تقدم ويقال لهم هلا رجع إلى ما يليه فأوقفه ولم يرجع إلى جميع ما تقدم
ومنها قولهم إن الاستثناء من الجمل في أنه يستقل بنفسه كالاستثناء من الاستثناء وإذا كان الاستثناء من الاستثناء يرجع إلى ما يليه ولا يفتقر في استقلاله إلى أكثر من ذلك فكذلك الاستثناء من الجمل والجواب أن الإنسان إذا قال لزيد علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما كان الدرهم مستثنى من الثلاثة فقط لأنه لو رجع إلى الثلاثة وإلى العشرة لكان استثنى درهمين درهما من الثلاثة ودرهما من العشرة وأيضا فالعشرة إثبات والاستثناء منها نفي والثلاثة نفي والاستثناء منها إثبات فلو رجع استثناء الدرهم إليهما لكان نفيا وإثباتا ولهذه العلة قلنا إنه لو قال له علي عشرة دراهم إلا ثلاثة درهمين أن الدرهمين يرجعان إلى الثلاثة ولا يرجع درهم إليهما ودرهم إلى العشرة فان قيل فلم رجع الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول

دون العشرة بأولى من أن يرجع إلى العشرة فقط مع أنه في الحالين لا يكون الاستثناء نفيا وإثباتا معا قيل لأنه لو رجع إلى العشرة فقط كان الاستثناء الأول في رجوعه إلى العشرة وفي ذلك عطفه عليه حتى يقول له علي عشرة إلا ثلاثة درهما وأيضا فان الاستثناء الثاني متصل بالاستثناء الأول ولم يحصل الاستثناء الأول مع ما تقدم كجملة واحدة بحرف عطف أو غيره وليس كذلك إذا قال القائل أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال
ومنها قول بعضهم إن الكلام الأول عام فعلى من ادعى تحصيصه بالاستثناء إقامة الدلالة دون من لم يدع تخصيصه والجواب أن القائل بأن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم فيخصه والقائل بأنه لا يرجع إليه ولا يخصه مدعيان إذ كل واحد منهما يدعي للاستثناء دعوى لا يوافقه عليها خصمه فكان على كل واحد منهما إقامة الدلالة
ومنها تعلقهم بآيات رجع الاستثناء فيها إلى ما يليه ومخالفهم يقول إن ذلك إنما علم بدليل لا بالظاهر
ومنها تعلقهم بأن الصحابة لم تخص الكلام المتقدم بما بعده لأنها قالت في قول الله تعالى وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن إن ذلك راجع إلى الربيبة دون أمهات النساء وقالت في أمهات النساء أبهموا ما أبهم الله فلم تشترط تحريم أمهات النساء بالدخول بالنساء والجواب أن ذلك ليس باستثناء فلم يجب في الاستثناء ما يجب فيه لأنهم لم يجمعوا بينهما بعلة وعلى أن قوله اللاتي في حجوركم من نسائكم نعت للربائب دون أمهات النساء لأن أمهات نسائنا لسن في حجورنا ولا هن من نسائنا وقوله اللاتي دخلتم بهن وإن رجع إلى

النساء فهو من تمام نعت الربائب فصح أن الكلام صريح في تقييد الربائب لا ما تقدم فكان أمهات النساء على الإبهام الذي ابهمه الله عز و جل

باب في تخصيص العموم بالأدلة المنفصلة
اعلم أن الأدلة المنفصلة هي أدلة العقل وكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم والإجماع
فالعقل يخص به عموم الكتاب والسنة وذلك أنا نخرج بالعقل الصبي والمجنون من أن يكونا مرادين بخطاب الله سبحانه بالعبادات في الحال ولا نخرجهما من أن يكونا مرادين بالخطاب إذا كملت عقولهما لأجماع المسلمين على أن الصبي إذا بلغ فالصلاة واجبة عليه لقول الله سبحانه أقيموا الصلاة ولإجماعهم على وجوب الصلاة عليه ولا دليل يدل على تجدد أمر له ولأنه لو لزمته الصلاة لأمر مجدد لوجب أن يسمعه ويعلمه أو يعلمه العلماء فأما أنه خارج من الخطاب في الحال لمكان دليل العقل فقد امتنع قوم من القول بأن أدلة العقل تخص الكتاب وقالوا إن العموم مرتب عليها وقم أطلقوا المنع من ذلك إطلاقا فيقال لهؤلاء أتعلمون بالعقل أن الله سبحانه لم يرد بقوله يأيها الناس اعبدوا ربكم المجانين والأطفال أم لا فان قالوا نعلم ذلك لكنا لا نسميه تخصيصا خالفوا في الاسم ووافقوا في المعنى وقيل لهم ليس للتخصيص معنى إلا أن يخرج من الخطاب بعض ما تناوله من الأشخاص وإن قالوا بالثاني فهو فاسد لأن الصبي والمجنون لا يمكنهما فهم المراد لا على جملة ولا على تفصيل فارادة الفهم مما لا يتمكن منه تكليف لما لا يطاق ويتعالى الله عن ذلك فان قالوا دليل العقل متقدم والمخصص لا

يتقدم قيل بل يجوز أن يتقدم إن قيل فلم كنتم بالتمسك بدليل العقل أولى من التمسك بعموم الكتاب وهلا شرطتم في دليل العقل أن لا يعارضه عموم الكتاب قيل إن دليل العقل دل على قبح إرادة الفهم ممن لا يتمكن منه دلالة مطلقة ولم يدل على قبحها في حال دون حال ألا ترى انا نعلم قبحها تناولهم لفظ كتاب أو لم يتناولهم إذ العلة في قبحها كونهم غير متمكنين فوجب التمسك به على الإطلاق وعموم الكتاب لما كان محتملا للتخصيص وكنا لا نعلم معه حسن إرادة ما لا يطاق ثبت أنه لا يدل على حسنها فوجب تخصيصه
إن قيل إذا كان من لا يتمكن من فهم المراد بالخطاب على جملة أو تفصيل ليس بمخاطب بالعبادات في الحال فما مراد الفقهاء بقولهم إن النائم في جميع وقت الصلاة مخاطب بالصلاة قيل ليس هذا مرادهم بذلك أنه قد أريد منه أن يصلي وهو نائم أو أن يزيل النوم عن نفسه لأنه لا يمكنه كلا الأمرين ولو فصل لهم ذلك أبوه فعلمنا ان مرادهم غير ذلك
وقد ذكر قاضي القضاة أن مرادهم بقولهم إن الإنسان مخاطب وجوه
منها أنه مكلف لما تضمنه الخطاب
ومنها أن سبب الوجوب حاصل فيه كالنائم لأنه قد اختص بسبب وجوب قضاء الصلاة بخلاف المجنون ولهذا يقولون إن الحائض مخاطبة بالصيام دون الصلاة
ومنها أن يكون المكلف إذا فعل ما تضمنه الخطاب صح منه وإن لم يكلف فعله كقولهم إن الفقير مخاطب بالحج دون الصبي
ومنها أن لا يكون بينه وبين أن يكون مخاطبا بالفعل إلا أن يزول عنه شيء قد عرض كالفقير متى زال عنه اسم الفقر صار مخاطبا بالحج

ومنها أن يلزمه حكم الخطاب نحو قولهم إن السكران مخاطب بأحكام الطلاق ومعنى ذلك انه يلزمه الفرقة إن قيل أليس الصبي قد دخل تحت الخطاب في أروش الجنايات قيل إنه لم يدخل في الخطاب باخراج الأرش وإنما الداخل تحت الخطاب وليه بأن يخرج الأرش من مال الصبي
وذكر قاضي القضاة أن الحقوق الثابتة في المال إن تبعت عبادة كالنفقة في الحج لم تجب في مال الصبي وإن لم تتبع عبادة ولم تفتقر إلى نية كأرش الجنايات وجب من ماله وإن احتاجت إلى نية كالزكاة فقد اختلف الفقهاء في وجوب ذلك في ماله
فان قيل وإذا لم يدخل الصبي في العبادات فلم فصل بين صلاته بلا طهارة وبطهارة وحكموا بصحتها بطهارة قيل مرادهم بذلك أنها إذا كانت بطهارة فهي على الصفة التي تسقط فرض البالغ وليس كذلك إذا كانت بلا طهارة أو لأنها إذا كانت بطهارة فقد وقعت الموقع الذي أمرنا أن نأخذه بها وليس كذلك إذا كانت بلا طهارة وليس مرادهم بذلك أنها إذا كانت على طهارة أسقطت الفرض عنه لإجماعهم على أنه لا فرض عليه إن قيل أفليس قد اختلفوا في صحة إسلامه وكيف لا يكون عندهم أهل التكليف قيل إن من يصحح إسلامه إنما يصححه إذا كان يعقل الإسلام وعنده أنه إذا كان كذلك كان مكلفا للإسلام لصحة الاستدلال منه وأيضا فلو لم يكن مكلفا في تلك الحال لم يمتنع ورود الشريعة بأنه إذ أظهر الإسلام في هذه الحالة أخذناه إذا بلغ كما نأخذه به إذا وقد أسلم أبواه قبل بلوغه

باب في تخصيص الكتاب والسنة بالكتاب والسنة
وأما تخصيص الكتاب بالكتاب فانه إذا جاز أن يبين الله سبحانه بخطابه العام بعض ما تناوله فقط جاز أن يدلنا على ذلك بالكتاب كما جاز أن يدلنا

بالكتاب على غير ذلك من الأحكام وقد خص الله سبحانه قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وخص قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن بقوله والمحصنات من الذين أوتو الكتاب من قبلكم وليس يمتنع قول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه و سلم لتبين للناس ما نزل إليهم من أن يبين عز و جل بكلامه ما أنزله إلينا مع أن الله قد وصف كتابه بان فيه تبيانا لكل شيء فجاز كون بعضه بيانا لبعض
وأما تخصيص الكتاب بالسنة فجائز كما يجوز أن تدلنا السنة على غير ذلك من الأحكام وقد خص النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا يرث القاتل ولا يتوارث أهل ملتين قول الله سبحانه للذكر مثل حظ الأنثيين
وأما تخصيص السنة بالسنة فأكثر من أن يحصى وقد أبى قوم ذلك لأنه نصب صلى الله عليه و سلم مبينا فلم يجز أن تحتاج سنته إلى بيان والجواب أن كونه مبينا لا يمنع من أن يبين سنته
والكلام في تخصيص العام بالخاص يختلف بحسب المقارنة والتراخي فاذا بينا جواز وقوع تخصيص الكتاب والسنة بهما على الجملة فلنبين متى يقع التخصيص بهما ونذكر في ذلك قسمة يدخل فيها بناء الخاص على العام ويجوز تخصيص قول الله سبحانه بفعل النبي صلى الله عليه و سلم لأنه كقوله في الدلالة ولهذا خصصنا قول الله سبحانه الزانية والزاني يرجم النبي صلى الله عليه و سلم ماعزا

ويجوز تخصيص الكتاب بالإجماع لأنه إذا ثبت كونه حجة جاز أن يدل على كون الكتاب مخصوصا وقد خص إجماعهم على أن العبد كالأمة في تنصيف الحد لآية الجلد

باب في بناء العام على الخاص
اعلم أنه إذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم خبران خاص وعام وهما كالمتنافيين فلا يخلو إما أن نعلم بينهما التأريخ أو لا نعلم فان علمنا ذلك فإما أن نعلم اقتران أحدهما بالآخر وإما أن نعلم تراخي أحدهما عن الآخر إما الخاص وإما العام فان علمنا اقترانهما نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم أقتلوا الكفار ويقول عقيب ذلك لا تقتلوا اليهود أو يقول في الخيل زكاة ويقول عقيبه ليس في الذكور من الخيل زكاة فالواجب أن يكون الخاص مخصصا للعام لأن الخاص أقل احتمالا فيما يتناوله من العام واشد تصريحا به من العام ولهذا لو قال الرجل لعبده اشتر لي كل ما في السوق من اللحم ثم قال بعد ذلك لا تشتر لحم البقر فهم منه إخراج لحم البقر من كلامه الأول إما على سبيل البداء وإما أنه لم يرده بالعموم ولأن إجراء العام على عمومه يلغي الخاص واستعمال الخاص وإخراج ما تناوله من العام لا يلغي واحدا منهما فكان هذا أولى
وإن قيل هلا حملتم قوله في الخيل زكاة على التطوع وحملتم قوله لا زكاة في الذكور من الخيل على نفي الزكاة وهذا وإن كان استعمالا للعام على المجاز فان تخصيصه أيضا استعمال له على المجاز فلستم بأحد الاستعمالين بأولى من الآخر والجواب إن قوله في الخيل زكاة يقتضي وجوبها في الإناث كما يقتضيه خبر لو اختص بالإناث فلو حملناه على التطوع لكنا قد عدلنا باللفظ عن ظاهره في الإ ناث لدليل لا يتناوله الإناث وهو قوله لا زكاة في الذكور وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور عن قوله في الخيل زكاة

لأنا نكون قد أخرجنا من العام شيئا لدليل قد تناوله واقتضى إخراجه منه وأيضا فما ذكره الخصم لا يتأتى في كل خبر لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو قال اقتلوا الكفار وقال ليس ذلك باباحة ولا إطلاق وقال أيضا عقيبه لا تقتلوا اليهود فحملنا ذلك على نهي التحريم أو التنزيه لوجب على كل حال تخصيص قوله اقتلوا الكفار لأن هذا القول لو حمل على الوجوب أو على الندب لكان النهي عن قتلهم وجوبا أو تنزيها مخصصا له
فأما إن علمنا تراخي الخاص عن العام فانه إن كان ورد الخاص قبل ما يحضر وقت العمل بالعام فانه يكون بيانا للتخصيص ويجوز ذلك عند من يجيز تأخير بيان العام ولا يجوز عند المانعين من تأخير بيان العام وإن ورد الخاص بعد ما حضر وقت العمل بالعام فانه يكون نسخا وبيانا لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة وأما إن كان العام هو المتراخي عن الخاص فعند أصحاب الشافعي أن العام يبني على الخاص فيكون المراد بالعام ما لم يتناوله الخاص
ويمكن أن يحتجوا لذلك بأن الخبر الخاص نحو قول القائل لا تقتلوا اليهود يمنع من قتلهم أبدا وقوله من بعد أقتلوا الكفار يفيد قتلهم في حالة من الحالات والخبر الخاص يمنع من قتلهم في تلك الحالة وإذا تمانعا والخاص أخص باليهود وأقل احتمالا وجب القضاء به ولو قال اقتلوا اليهود ثم قال لا تقتلوا الكفار وقد بقيت بقية من اليهود لم يقتلوا فالأمر يقتضي قتلهم في حال من الحالات والنهي يمنع من ذلك فإذا تمانعا في تلك الحال قضي بالخاص وقد احتجوا لمذهبهم بأن الخاص معلوم دخول ما تناوله تحته ودخول ذلك تحت العام مشكوك فيه والعام لا يترك للشك وهذا لا يصح لأنهم إن أرادوا أن العام لو انفرد لم يعلم دخول ما تناوله تحته فذلك غير مسلم وإن ارادوا أنه لا يعلم ذلك لأجل الخبر الخاص ففي ذلك ينازعزن وهو ترك قولهم أيضا لأنهم يقطعون على خروج ذلك من العلوم ولا يشكون فيه وقالوا

أيضا تقدم الخاص على العام كالعهد بين المتكلم والمخاطب فانصرف الخطاب العام إليه والجواب أنه لا معنى لقولهم إنه كالعهد إلا أن المتكلم قد دل بالخاص المتقدم على أن مراده بالعام ما دون الخاص ولأنه لا يفهم السامع إلا ذلك وفي ذلك ينازعون
وذهب أصحاب أبي حنيفة وقاضي القضاة إلى أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم واحتجوا بأشياء
منها أن اللفظ العام في تناوله لآحاد ما وجد تحته يجري مجرى ألفاظ خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد لأن قوله اقتلوا المشركين يجري مجرى قوله اقتلوا زيدا المشرك أقتلوا عمرا أقتلوا خالدا ولو قال ذلك بعد ما قال لا تقتلوا زيدا لكان الثاني ناسخا فكذلك ما ذكرناه والجواب أن اللفظ العام يجري مجرى ألفاظ خاصة بآحاد ما تناوله في كونه متناولا لها فقط ولا يجري مجراها في امتناع دخول التخصيص عليه لأن اللفظ الخاص لشيء واحد لم يدخل تحته اشياء فيخرج بعضها والعام قد تناول أشياء يمكن أن يراد به بعضها فصح قيام الدلالة على ذلك ولهذا كان الخاص المقارن للعام مخصصا له وما ذكروه يمنع من تخصيصه له
ومنها أن الخاص المتقدم يتأتى نسخة والعام يمكن أن يرفعه فكان ناسخا له والجواب يقال لهم ولم إذا أمكن أن يرفعه وجب ذلك فيه وأيضا فكما يمكن أن يتصور فيه كونه رافعا للخاص المتقدم فيمكن أن يتصور فيه كونه مخصوصا بالخاص المتقدم فان قالوا كونه متأخرا يقتضي كونه ناسخا قيل لهم وهل نوزعتم إلا في ذلك وأيضا فإنما يمكن أن ينسخ المتقدم إذا لم يثبت كونه مخصوصا بالمتقدم فبينوا ذلك وقد تمت لكم المسألة
ومنها أن يقال تردد الخاص المتقدم بين كونه منسوخا ومخصصا يمنع من كونه مخصصا لأن البيان لا يكون ملبسا والجواب أن الخصم يقول ليس

يتردد عندي بين هذين بل قد صح كونه مخصصا وعلى أنه إن منع هذا التردد من كونه بيانا للتخصيص ليمنعن التردد بين كون العام ناسخا للخاص ومبنيا عليه من كونه بيانا للنسخ فصح أن العام يبني على الخاص المتقدم لما ذكرناه من الدلالة الأولى
فأما إذا لم يعرف التأريخ بينهما فعند أصحاب الشافعي أن الخاص منهما يخص العام وهذا سديد على أصولهم لأنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه أو يتأخر عنه أو يتقدمه وقد بان وجوب خروج ما تناوله الخاص من العام في الأحوال الثلاثة وأيضا فان فقهاء الأمصار في هذه الأعصار يخصون أعم الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ وليس يعترض ذلك بأن ابن عمر رضي الله عنه لا يخص قول الله سبحانه وأمهاتكم اللآتي أرضعنكم يقول النبي صلى الله عليه و سلم لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان لأنا إنما ادعينا إجماع أهل هذه الأعصار ويحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من ذلك لدليل
وقد احتجوا للمسألة بأشياء لا تدل
منها قولهم إذا لم يعرف التأريخ بين الخبرين وجب حملهما على أنهما وردا معا كالغريقين اللذين لا يعرف اقتران غرقهما ولا يقدم أحدهما على الآخر فحمل أمرهما على أنهما غرقا معا والجواب أن الأمة لم تجمع على ذلك بل قد ورث بعض الصحابة رضي الله عنهم كل واحد منهما من الآخر ومنهم من جعل كل واحد منهما كأنه لم يخلق أبدا ولم يورث أحدهما من الآخر وهذا يمكن أن يحتج به مخالفهم لأنه لما اشتبه حالهما لم يورث أحدهما من الاخر فكذلك إذا اشتبه حال الخبرين يجب أن لا يعترض بأحدهما على الآخر وأن يرجع إلى أمر آخر
ومنها قولهم وإذا وجب تخصيص العموم بالاستثناء فكذلك بالخبر

الخاص والجواب أن هذا قياس بغير علة والفرق بينهما أن الاستثناء لما لم يستقل بنفسه علم أنه مقارن للعموم غير متقدم عليه ولا متراخ عنه فلم يمكن فيه أن يكون منسوخا وليس كذلك الخاص المستقل بنفسه لأنه يمكن أن يكون متقدما ونظير الاستثناء أن يقطع على مقارنة اللفظ الخاص فإن قالوا اللفظ الخاص إذا تقدم لم يكون منسوخا بل يكون مخصصا للعام المتأخر رجعوا الى ما ذكرناه أولا من بناء المسألة على ذلك
ومنها قولهم إن القياس يعترض به على العام فالخبر الخاص أولى بذلك والجواب أن أصل القياس إن كان متقدما على الخبر العام وكان منافيا له فانه لا يجوز القياس عليه عند الخصم لأنه منسوخ بالعام مثاله أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم لا تبيعوا البر ثم يقول بعد مدة أحللت لكم جميع البياعات فان المخالف ينسخ تحريم البر ولا يجيز قياس الأرز عليه في التحريم وإن اشتبه تقدمه لم يجز القياس عليه أيضا وإن كان اصل القياس غير متقدم للعام على وجه ينافيه صح القياس عليه وخص به العام مثاله إن نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع البر ثم قال بعد مدة أبحت لكم بيع ما سوى البر فان ذلك لا ينسخ النهي عن بيع البر فيجوز أن يقاس على البر المكيلات ويخص من جملة هذا العموم ولا يشبه هذا مسألتنا لأن في مسألتنا يمكن أن يكون المتقدم منسوخا بالعام
ومنها أنه لو لم يخص العام بالخاص كنا قد ألغيناه والجواب أن للخصم أن يقول إن أردتم بالغاء الخاص أن لا يستعمل أصلا فالحكمة تمنع منه ونحن لا نقول به وإن أردتم أنا لا نستعمله الآن وإن كان مستعملا في وقت فذلك جائز عندنا وهذه حالة المنسوخ
ومنها أنا لو لم نخص العام منهما بالخاص لوجب إما نسخ الخاص بالعام أو إلغاؤهما والنسخ لا يجوز مع فقد التأريخ وكلام الحكيم لا يجوز إلغاءه والجواب أن الخصم يحوج التخصيص أيضا إلى تأريخ لأنه لا يخص العام بخبر متقدم وأما إلغاؤهما فغن أريد به الرجوع إلى غيرهما أو إلى ترجيح وترك

استعمالهما بأنفسهما فذلك لا يأباه الخصم ويقول إنما لا يجوز ذلك إذا أمكن استعمال الكلامين فأما مع فقد الإمكان فلا يمتنع وقد علمنا أنه ليس حمل الحال فيهما على التخصيص أولى من النسخ ولا حمل الحال فيهما على النسخ أولى من التخصيص
فأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم يقولون إنه إذا لم يعرف التأريخ بين الخبرين العام والخاص توقف فيهما ورجع إلى غيرهما أو إلى ما يرجح به أحدهما على الاخر وهذا سديد على أصولهم لأن عندهم أن الخبر العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ويخص بالخاص المقارن له والمتأخر وإذا لم يعرفوا التأريخ جوزوا أن يكون الخاص متقدما فيكون منسوخا وجوزوا أن لا يكون متقدما فيخرج من العام ما تناوله فوجب التوقف فيها إذ ليس الحكم بأحد الأمرين أولى من الآخر فكذلك يلزم لو قيل بالوقف إذا علم تأخير الخبر العام لأنا إذا لم نعرف التأريخ لم نأمن أن يكون الخاص متقدما فنكون مترددين بين أن يكون مخصوصا وبين أن يكون منسوخا
وقد احتجوا بأشياء لا تدل
منها أن العام يجري تناوله للآحاد مجرى ألفاظ خاصة بالأعداد وهذه لا يعترضها الخاص فكذلك العام وقد تقدم الجواب عن ذلك
ومنها أنه لو خص أحد الخبرين أعمهما يخص أحد العلتين أعمهما والجواب أن ذلك قياس بغير علة ويلزم أن لا يخص العام بالخاص المقارن له وعلى أن تخصيص العلة لا يجوز أصلا وليس كذلك تخصيص العام فجاز أن يخصه الخاص وإذا لم نعرف بينهما التاريخ قالوا فاذا وجب التوقف في هذين الخبرين فالواجب الرجوع إلى الترجيح
وقد ذكر عيسى بن أبان وجوها من الترجيح منها أن يكون أحدهما متفقا على استعماله كخبر الأوساق ومنها أن يعمل معظم الأمة بأحدهما ويعيب على

من لم يعمل به كعيبهم على ابن عباس تركه العمل بخبر أبي سعيد في الربا ومنها أن تكون الرواية لأحدهما أشهر
وزاد الشيخ أبو عبد الله أن يتضمن أحدهما حكما شرعيا وأن يكون أحدهما بيانا للآخر باتفاق كاتفاقهم على أن قول النبي صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ثمن المجن بيان لآية السرقة فوجب لذلك بناؤها عليه
وهذه الأمور أمارة لتأخر أحد الخبرين لأنه لو كان الخبر متقدما منسوخا ما اتفقت الأمة على استعماله ولا عابوا من ترك استعماله ولما كان النقل له أشهر ولما أجمعوا على أنه بيان له قد نسخه وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي يضمنه مصاحبا للعقل وأن الخبر المتضمن الحكم الشرعي متأخر وهذا الوجه يضعف

باب في العموم إذا خص هل يصير مجازا أم لا
ذهبر قوم إلى أنه لا يصير مجازا بالتخصيص متصلا كان المخصص أو منفصلا لفظا كان أو غير لفظ وقال آخرون يصير مجازا في كل هذه الحالات وقال آخرون يصير مجازا في حال دون حال واختلفوا في تفصيل تلك الحال فقال بعضهم إن خص بدليل لفظي لم يصر مجازا متصلا كان الدليل أو منفصلا وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازا وقال آخرون يكون مجازا إلا أن يخص بلفظ متصل وقال آخرون يكون مجازا إلا أن يكون مخصصه شرطا أو استثناء وقاضي القضاة يقول يكون مجازا إلا أن يكون مخصصه شرطا أو تقييدا بصفة وجعله مجازا بالاستثناء
واعلم أن القرينة المخصصة إما أن تستقل بنفسها في الدلالة أو لا تستقل

بنفسها فإن استقلت بنفسها فهي ضربان عقلية ولفظية أما العقلية فنحو الدلالة الدالة على ان غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات وأما اللفظية فنحو أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني فقط وفي هذين القسمين يكون العموم مجازا لأن القرينة دلت على أن المتكلم استعمل العام لا فيما وضع له وهذا معنى المجاز إن قيل هلا قلتم إن المتكلم أراد البعض فقط باللفظ العام وبالقرينة معا فلا يكون اللفظ العام مجازا قيل مجازا قيل أن القرينة قد تكون سابقة للفظ العام نحو خلق العلم فينا بأن العاجز لا يكلف أو نصب الدلالة على ذلك وهذا أسبق من العموم فلا يجوز أن يريد بهما البعض وقد تكون القرينة إشارة من المتكلم منا متأخرة عن كلامه بزمان يسير فلا يجوز أن يريد البعض بها والكلام العام وقد تكون القرينة من فعل غير المتكلم نحو أن يتكلم النبي صلى الله عليه و سلم بالعام فيخصه الله سبحانه ويلزم أن يكون اللفظ العام المقترن به القرينة لا حقيقة ولا مجازا لأنه ما أريد به ما وضع له ولا غير ما وضع له وإن جعلوا الحقيقة مجموع اللفظ والقرينة لزم كون المعاني من جملة الحقائق ويلزم أن لا يكون في الكلام مجازا بل يكون الكلام قد قصد به مع قرينته وجه المجاز فان قيل هلا قلتم وضعوا العموم للاستغراق مع فقد القرينة ووضعوا لما تقتضيه القرينة من التخصيص مع وجودها قيل إن القرائن كثيرة لا تحصى فلا يمكن أن تحصروها حتى تضعوا العموم مع كل واحدة منها لما تقتضيه وأيضا فيمكن أن يقال إن الألفاظ كلها وضعت مع وجود القرائن لما يدل عليه القرائن وفي ذلك رفع المجاز من الكلام وأيضا فان القرينة تدل على أن المتكلم استعمل لفظ العموم في البعض فان كانت إذا دلت ذلك فقد دلت على أن المتكلم استعمل لفظ العموم في البعض فان كانت إذا دلت على ذلك فقد دلت على أن المتكلم قد استعمله فيما وضع له فذلك رجوع إلى قول أصحاب الوقف وكان يجب لو أراد المتكلم باللفظ العموم مع أن العقل يدل على تخصيصه أن يكون متجوزا وغير مستعمل له على حقيقته

فان قالوا هلا قلتم إن القرينة كالعهد في وجوب انصراف العموم إلى ما يقتضيه ولا يكون مجازا كما لو انصرف إلى العهد والجواب إن لام التعريف وضعت لتقييد ما السامع به أعرف فان كان بينه وبين المتكلم عهد فهو به أعرف فانصرف أليه الكلام وإن لم يكن بينهما عهد فليس يعرف إلا الجنس فانصرف إليه وليس كذلك ما يدل عليه الأدلة العقلية لأنه إنما يعرف انصراف العموم إليه إذا علم بدليل عقلي أن بعض العموم لا يجوز أن يراد وعلم أن المتكلم حكيم وربما غمض الدليل على أنه لا يجوز أن يراد فجرى مجرى سائر الأدلة المخصصة سيما وما يفيده اللفظ في المواضعة لا يقف على حكمة المتكلم وأيضا فاذا ثبت أن الألف واللام تفيد الاستغراق فالأولى أن يقال إنهما ينصرفان إلى العهد بقرينة وهو معرفة السامع بقصد المتكلم ويجري ذلك مجرى جميع ألفاظ العموم التي تعلم من قصد المتكلم أنه استعملها في الخصوص ويكون مجازا
فأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء والشروط والتقييد بالصفة كقول القائل جاءني بنو تميم الطوال فقد ذهب قاضي القضاة إلى أن الاستثناء يجعل العموم مجازا ولم يقل ذلك في الشروط والصفة وعند الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن العموم لا يصير مجازا بهذه الأمور الثلاثة ولعله عني ما نذكره الآن وهو أن هذه الأمور الثلاثة تجعل لفظ العموم من جملة كلام ولا يكون لفظ العموم بانفراده حقيقة ولا مجازا ويكون العموم مع الاستثناء بمجموعها حقيقة وكذلك هو مع الشرط ومع الصفة والدليل على ذلك أن القائل إذا قال اضرب بني تميم الطوال أو قال إن كانوا طوالا أو قال إلا من دخل الدار فانه يرد بعضهم بلفظ العموم وحده لأنه لو كان كذلك ما كان قد أراد بالاستثناء أو الشرط أو الصفة شيئا لأن هذه الأشياء توضع لشيء يستقل في دلالتها عليه فيقال إن المتكلم قد أراد بها ذلك الشيء وأراد بالعموم وحده البعض ولأنه إذا أراد البعض بلفظ العموم لم يبق شيء يريده بالاستثناء والشرط والصفة فثبت أنه إنما

عنى البعض لمجموع الأمرين يبين ذلك أن النافين للعموم لما قالوا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكان استعماله في البعض نقضا قلنا لهم إن المتكلم قد عنى البعض لمجموع العموم والاستثناء فاذا ثبت أن المتكلم لم يعن بلفظ العموم وحده الاستغراق ولا البعض ثبت أنه إذا كان مع هذه الأمور لم يكن بانفراده حقيقة ولا مجازا أو إذا ثبت أنه قد عني البعض بمجموع الأمرين وهما لا يفيدان إلا ذلك البعض ثبت أن مجموعهما حقيقة فيه
وقد فصل قاضي القضاة في الشرح بين التخصيص بالاستثناء وبالشرط فقال إن الشرط لا يخرج شيأ من آحاد العموم فلم يجعله مجازا وإنما يخرج حالا مم الحالات لأنك إذا قلت أكرم بني تميم إن كانوا دخلوا الدار لم يتعرض ذلك للاعيان وليس كذلك إذا استثنيت الآحاد والجواب أن يقال ولم كان ما تناول الآحاد يجعل العموم مجازا وما تناول الأحوال لا يجعله مجازا على أن الشرط إذا أخرج بعض الحالات فقد أخرج بعض الأعيان لأنك إذا قلت أكرم بني تميم إن كانوا دخلوا الدار فقد أخرجت الأعيان الذين لم يدخلوا الدار وقد يتناول الشرط الأعيان لأنك إذا قلت أكرم بني تميم إن كانوا من بني سعد فقد أخرج غيرهم من الأشخاص

باب في صحة الاستدلال بالعموم المخصوص
اختلف الناس في العموم المخصوص هل يصح الاستدلال به فيما عدا المخصوص أم لا فلم يجز عيسى بن أبان وأبو ثور الاستدلال به على ذلك على كل حال وأجاز ذلك آخرون على كل حال وأجاز ذلك قوم في حال دون حال واختلفوا في تفصيل تلك الحال فقال الشيخ أبو الحسن إن خص العموم بشرط أو استثناء صح التعلق به فيما عدا المخصوص وإن خص بدليل منفصل لم يصح ذلك وقال الشيخ أبو عبد الله إن كان المخصص والشرط قد منعا من تعلق الحكم بالاسم العام وأوجبا تعلقه بشرط لا ينبىء عنه

الظاهر لم يجز التعلق به عنه وإن لم يمنعا من تعلقه بالاسم العام فانه يصح التعلق به ومثل القسم الأول بقول الله سبحانه والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وذلك لأن قيام الدلالة على اعتبار الحرز مقدار المسروق يمنع من تعلق القطع بالسرقة ويقتضي وقوعه على الحرز الذي لا ينبىء اللفظ عنه فلم يجز التعلق به ومثل للقسم الثاني بقول الله سبحانه فاقتلوا المشركين لأن قيام الدلالة على المنع من قتل معطي الجزية لا يمنع من تعلق القتل بالشرط فلم يمتنع التعلق به من قتل من لم يعط الجزية وقال قاضي القضاة إن كان العموم المخصوص والمشروط لو تركنا وظاهره من دون الشرط والتخصيص كنا نمتثل ما أريد منا ونضم إليه ما لم يرد منا احتجنا إلى بيان ما لم يرد منا ولم نحتج إلى بيان ما أريد إذ كنا نصير إليه من دون البيان ويصح التعليق بالظاهر فيه وإن كنا لو تركنا والظاهر من دون الشرط لم يمكننا امتثال ما أريد احتجنا إلى بيان ما أريد منا إذ لسنا نكتفي بالظاهر فيه وهذا الذي ذكره عقد مذهب ودلالة
وينبغي أن يزاد في القسم الأول أن لا يكون العموم قد خصص تخصيصا مجملا وذلك لأن الله سبحانه لو قال اقتلوا المشركين ثم قال لنا لم أرد بعضهم لكنا لو تركنا وقوله اقتلوا المشركين أمكننا أن نفعل ما اريد منا وما لم يرد منا ومع ذلك فانه لا يصح التعلق به فيما أريد منا وإن ما قلنا إنه يجوز أن يستدل بالعموم فيما عدا المخصوص هو أن معنى ذلك أنه يمكن التوصل بالعموم إلى العلم بحكم ما عدا المخصوص والدلالة على ذلك هو أن قول الله سبحانه فاقتلو المشركين إذا دل الدليل على أنه لا يقتل من أعطي الجزية من أهل الكتاب فاللفظ يتناول ما عدا هؤلاء في أصل

الوضع مفصلا ولم يرد عليه تخصيص مجهول فكل ما هذه حالة فإن المتكلم به إذا كان حكيما فلا بد من أن يعني ما تناوله اللفظ إلا أن يدلنا على أنه ما عناه وإنما قلنا إن اللفظ يتناول ما عدا المخصوص في أصل الوضع لأن اسم العموم يستغرق كل المشركين وليس كلهم سواء آحادهم فهو إذا عبارة عن كل واحد منهم ولهذا لو تركنا وظاهرة أمكننا قتل من أريد منا قتله وإنما قلنا إنه لم يرد عليه تخصيص مجهول لأن التخصيص المجهول هو إخراج بعض غير مفصل ونحن إنما نتكلم في عموم قد خص تخصيصا مفصلا وإنما قلنا إن كل لفظ يتناول أشياء في أصل الوضع ولم يخصص تخصيصا مجملا فلا بد من أن يريدها المتكلم الحكيم إلا أن يدل على أنه ما أراد بعضها لأن الحكيم إذا خاطب قوما بلغتهم فلا بد من أن يعني بخطابه ما عنوه وإلا كان ملتبسا عليهم وغير متكلم بلغتهم ولهذا وجب أن يعني بالعموم ظاهرة إذا لم يرد عليه تخصيص وإنما قلنا إنه لم يدلنا على أنه ما عناهم لأنه لو كان هناك دلالة لوجدها من استقصى الطلب ولأن المخالف يمنع من التعلق بالعموم المخصوص لكونه مخصوصا لا لأنه يجوز أن يكون في الأدلة ما يخصه تخصيصا ثانيا
يبين ما قلناه أن لفظ العموم متناول لما عدا المخصوص فلم لم يعلم أنه قد عني بالعموم لم يخل إما أن لا يعلم ذلك بمخصص مفصل أو مجمل وذلك مفقود فجرى مجرى سائر الألفاظ المتناولة من أهل الوضع لمعانيها إذا لم تدل دلالة على أنها لم ترد بها فقد صح الاستدلال بالعموم المخصوص بدليل منفصل أو متصل سواء سمي العموم مجملا أو غير مجمل أو سمي مجازا أو غير مجاز
ويدل عليه أيضا إجماع الصحابة لأن عليا رضي الله عنه تعلق في معنى الجمع بين الأختين بقوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم وبقوله وأن

تجمعوا بين الأختين وقال أحلتهما آية وحرمتهما آية
وكذلك قال عثمان رضي الله عنه ومعلوم أن قوله أو ما ملكت أيمانكم مخصوص منه البنت والأخت واحتج ابن عباس بقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وقال قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير وإن كان وقوع التحريم بالرضاع يحتاج إلى شروط
واحتج عيسى بن أبان بأن العموم المخصوص قد صار مجازا بالتخصيص فخرج أن يكون له ظاهر فلم يجز التعلق بظاهره ولأن العموم المخصوص يجري مجرى أن يقول الله سبحانه اقتلوا المشركين ثم يقول لا تقتلوا بعض المشركين فكما يمنع ذلك من التعلق بالظاهر فكذلك غيره من التخصيص والجواب عن الأول أنه إن أراد العموم صار مجازا من حيث لم يرد به بعض ما تناوله فذلك صحيح ولا يمنع من التعلق به فيما عدا المخصوص لأنه متناول له على وجه الحقيقة وإن أراد به أنه مجاز فيما عدا المخصوص فليس بصحيح لأنه متناول لذلك في أصل الوضع على أنا قد بينا أنه يصح التعلق به سمي مجازا أو لم يسم مجازا والجواب عن الثاني هو أنهم جمعوا بين التخصيص المفصل والتخصيص المجمل بغير علة والفرق بينهما هو أن الله إذا قال أقتلوا المشركين ثم قال لا تقتلوا بعضهم أو قال لم أرد بعضهم ولم يبين ذلك البعض كان من يريد قتله من المشركين يتناوله قوله اقتلوا المشركين فلم بأن يدخل تحت أحد الظاهرين أولى من أن يدخل تحت الآخر ولو قال لا تقتلوا اليهود أمكننا أن نقتل بالآية من أريد منا لأن كل مشرك إن علمنا يهوديا أدخلناه تحت المخصص وإن علمناه غير يهودي علمناه خروجه من التخصيص وأنه مراد بالآية

والأصل في ذلك أن الأشياء المعلومة إذا أخرج منها أشياء معلومة كنا عالمين بما عداها وإذا خرج منها أشياء مجهولة بقي الباقي مجهولا لا ينفصل مما عداها فلا ندري ما الذي خرج مما لم يخرج ألا ترى أن العشرة معلومة فاذا علمنا أنه قد خرج منها ثلاثة علمنا أنه قد بقي سبعة وإذا علمنا أنه قد خرج منها عدد لا نعلمه لم ندر ما بقي منها
ونحن من بعد ذاكرون أعيان الأدلة فنقول أما قول الله عز و جل فاقتلوا المشركين فقد مضى الكلام فيه حين جعلناه مثالا للجملة المتقدمة وأما قوله أقيموا الصلاة فانه لا يصح التعلق به في وجوب الصلاة الشرعية لأن اسم الصلاة في اللغة لا يتناول هذه الصلاة ولهذا لو خلينا وهذه الآية لم نعرف وجوبها ولا أمكننا فعلها بعينها إن قيل هلا يصح التعلق بقوله أقيموا الصلاة في وجوب الدعاء لأن اسم الصلاة يتناوله في اللغة فاذا دلت الدلالة على وجوب أشياء مع الدعاء وسقوط وجوب الدعاء مع فقد تلك الأشياء كان تخصيصا قيل هذا يقتضي أن يكون المراد بقوله اقيموا الصلاة الدعاء وهذا باطل لأنا قد بينا أن اسم الصلاة يتناول في الشريعة جملة هذه الأفعال الشرعية وليس بأن يقال إنه يتناول الدعاء وما عداه شرط في وقوع النص عليه بأولى من أن يقال إنه يتناول في الشريعة ما عدا الدعاء والدعاء شرط في وقوع الاسم عليه وعلى أن غرضنا أنه لا يصح الاستدلال بهذه الآية على وجوب جملة هذه الأفعال والسائل لم ينازع في ذلك
وأما قول الله عز و جل والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فأنه عام في كل سارق سرق قليلا أو كثيرا من حرز أو من غير حرز فقيام

الدلالة على اشتراط الحرز وقدر مخصوص لا يمنعنا من العلم بوجوب قطع من سرق من حرز قدرا مخصوصا فان منع المخالف من التعلق بهذه الآية أصلا بعد قيام الدلالة على هذين الشرطين فقد أفسدناه وإن منع من أن يعلم بهذه الآية قطع أحد إلا بعد أن يعلم أنه سارق قدرا مخصوصا من حرز فذلك صحيح وسنتكلم فيه من بعد وإن أراد إن قطع من اختص بهذين الشرطين فقد احتجنا فيه إلى أن تقوم الدلالة على اشتراط هذين الشرطين فباطل لأنه لو لم يدل الدلالة على ذلك لعلمنا قطع من اختص بهذين الشرطين وإنما نفتقر إلى هذه الدلالة في أن لا يقطع من لم يختص بهما ونستطيع القول في هذه الأقسام عند ذكر أسألتهم إن قيل أليس بعد قيام الدلالة على اشتراط الحرز ومقدار المسروق لا يمكن أن يستدل بالآية على قطع من اختص بهذين الشرطين إلا بعد أن يضم إليهما ما دل على اشتراطهما فقد صح أنه يجوز التعلق بظاهر الآية قيل ليس كذلك لأنه يمكننا أن نستدل على قطع من علمناه مختصا بالشرطين بأن نقول إنه سارق فتناولته آية السرقة من غير أن يمنع مانع من كونه مرادا بها وهذا كاف في الدلالة على قطعة ألا ترى أنا لو لم نعلم هذين الشرطين لعلمنا مما ذكرناه وجوب قطع من اختص بهما وإن كنا نقطع من لم يختص بهما فبان أنا نحتاج إلى بيان الشرطين حتى لا نقطع بعض السراق لا لنقطع من يجب قطعه إلا أن البيان لذلك قد يرد بلفظ النفي بأن يقال لا تقطعوا من سرق من غير حرز وقد يرد بالإثبات بأن يقال الحرز شرط في القطع وكلا القولين إنما ينفي القطع من غير حرز لأن إثباته مع الحرز معلوم بتناول الآية له إن قيل أليس بعد قيام الدلالة على اشتراط المقدار والحرز لا يجوز لكم أن تقطعوا سارقا معينا وأنتم لا تعلمون أنه سارق من حرز مقدارا مخصوصا وإذا علمتم ذلك علمتم وجوب قطعة فقد بان أنه لا يكتفي بظاهر الآية قيل هذا صحيح غير أنه لا يمنع من الاكتفاء بالآية في قطع سارق اختص بكلا الشرطين من حيث تناولته الآية من غير مانع لأنا إنما نحتج بالآية في قطعة لا بما دل على أنه لا يقطع من

سرق من غير حرز وذلك لأن الآية تتناول هذا السارق ولا يتناوله ما دل على المنع من قطع السارق من غير حرز وإنما وجب أن نعلم أنه سارق قدرا مخصوصا من حرز لنعلم أنه لم يدخل تحت الدليل المخصص لا لنعلم أن الآية تناولته
والقول في ذلك كالقول في عموم مخصوص ولا وجه لتخصيص ذلك بأنه السرقة لأن الله عز و جل لما قال فاقتلوا المشركين ثم دل الدليل على المنع من قتل معطي الجزية فانا لا نقدم على قتل شخص مشرك إلا إذا علمنا أنه غير معط للجزية ولو قالوا لا تقتلوا زيدا المشرك لم يجز أن نقتل مشركا إلا إذا علمنا أنه غير زيد ومتى شككنا في ذلك لم يجز قتله وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر لا يمنع تخصيصه بأرض الخراج من التعلق به
إن قيل إن آية السرقة قد شرط فيها شرط لا ينبيء لفظه عنه فجرى مجرى أن يكون القطع المذكور غير المعروف وليس كذلك قول الله تعالى فاقتلوا المشركين لأن ما أخرج بعضهم هو دليل مخصص الجواب أن ذلك لو ثبت لم يمنع من الاستدلال بأن السرقة على قطع من اختص بكلا الشرطين من الوجه الذي ذكرناه على أنه لا فرق بين الاثنين لأن اشتراط الحرز والمقدار قد أخرج من الآية من لم يختص بهما وهذا تأثيره دون قطع من اختص بكلا الشرطين لأن ذلك مستفاد من الآية على ما بيناه كما أن ما دل على المنع من قتل معطي الجزية تاثيره المنع من قتله لا إيجاب قتل من لم يعط الجزية لأن من لم يعط الجزية إنما قتلناه بالآية من حيث اقتضت قتل كل مشرك ولا فرق بين أن يكون المخصص للآية واردا بلفظ الإثبات أو بلفظ النفي في أنه يفيد إخراج بعض ما اقتضته الآية على ما بيناه على أن ما

خص به آية السرقة قد ورد بلفظ النفي كقول النبي صلى الله عليه و سلم لا قطع إلا في ثمن المجن وقوله لا قطع في ثمر ولو كثر وقولهم إن هذه الأعيان لا تخرج أعيان السراق وليس كذلك ما خص آية المشركين لأنه يخرج الأعيان لا يمنع من الاستدلال على كل واحد منهما من الوجه الذي ذكرناه وأيضا فإن ما دل على اشتراط الحرز والمقدار قد أخرج الأعيان لأنه قد دل على أن من لم يختص بالشرطين لا يجوز قطعه وقولهم إن حد السرقة يدل على أن القطع يستحق لأجل السرقة وشتراط الحرز يمنع من استحقاق القطع بمجرد السرقة فكان مجملا لا يوجب الفصل بين الآيتين لأن قوله فاقتلوا المشركين بفيد استحقاق القتل لأجل الشرك فقط فاشتراط الامتناع من إعطاء الجزية يمنع من استحقاقه بالشرك وعلى أنهما لو انفصلا من هذا الوجه لم يمنع أن يتفقا في صحة الاستدلال بهما من الوجه الذي ذكرناه فإن فصلوا بينهما بأن أحد الدليلين إثبات والآخر نفي فهو فصل غير مؤثر وقد تكلمنا فيه وقد فصل الشيخ أبو عبد الله بين قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر وبين آية السرقة بأن ما دل على أنه لا عشر في أرض الخراج هو بيان لصفة الخارج لا لصفة العشر المأخوذ وهذا لا يمنع من انتقاض علته وهي أنه قد أخذ العشر بشرط لا ينبيء عنه الخبر ولا يمنع ذلك من التعلق باللفظ وعلى أن اشتراط الحرز والمقدار ليس هو بيان لصفة القطع وإنما هو بيان لمقدار المسروق وموضعه فلا فرق بينهما وقال أيضا إنما صح التعلق بخبر الأوساق لأن الأمة قد تعلقت به فيقال له إجماع الأمة على ذلك يدلنا على بطلان القول بأنه مجمل لا ينبيء عن المراد لأن الأمة لا تجمع على الاستدلال بما ليس بدليل

إذا ؤقد ذكرنا التخصص وما به يقع وأحكام العموم فلنذكر ما عدة قوم مخصصا وليس بمخصص

باب في دخول الكافر في الخطاب في الشرعيات
ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أنه غير مراد به وعند الشيخين رحمهما الله وأصحابهما وطائفة من الفقهاء أنه مراد به ومعنى ذلك أنه يلزمه الإقرار بالتوحيد والنبوات وأن يفعل بعد ذلك الشرعيات ومتى فعلها كانت مصلحة له ومتى لم يوحد الله سبحانه ويصدق الأنبياء عليهم السلام وأخل بالشرعيات كان إخلاله بها تفويتا لتلك المصلحة فاستحق العقاب على إخلاله بالتوحيد وبتصديق الأنبياء وبالشرعيات والخلاف إنما يظهر في استحقاق العقاب وفي ثبوته في العقليات مع كفره لأجل إخلاله بالشرعيات أم لا والناس متفقون على أنه لا يلزمه أن يفعل الشرعيات في حال كفره على أن يكون مضامة لكفره ومتفقون على أنه لا يلزمه القضاء إذا أسلم ودليلنا على لزوم الشرعيات له هو أن قول الله سبحانه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا يتناول الكافر والمسلم إذ كل واحد منهما من الناس ولا مانع من دليل سمعي أو عقلي من دخوله تحته فكان مرادا به أما الدليل السمعي فإنه لو كان لظفرنا به عند الطلب وأما العقلي فهو فقد التمكن والكافر يتمكن من الحج بأن يقدم عليه قبله الإسلام وكان من تمكن من الفعل على بعض الوجوه فهو له مستطيع كما أن المحدث يتمكن من أداء الصلاة على الوجه الشرعي بأن يقدم قبلها الوضوء والعراقي يتمكن من الحج بأن يقدم قبله المشي ومما يدل على المسألة أن الأمة مجمعة على أن الكافر يحد على زناه على وجه النكال فلو لم يكن مكلفا بترك الزنا لم يكن الزنا معصية منه ولو لم

يكن معصية منه لم يعاقب على فعله فإن قيل إنما حد لأنه قد التزم أحكامنا قيل فمن أحكامنا أن لا يحد على المباح فلو كان الزنا منه مباحا لما حد عليه إن قيل قد كلف الكافر بترك الزنا لأنه مع كفره يمكنه تركه وليس كذلك الصلاة والصيام لأنه لا يمكنه مع كفره فعلهما فلم يخاطب بفعلهما قيل إنه لا يكلف بترك الزنا إلا وقد كلف أن يعلم قبحه ولا سبيل إلى العلم بقبحه إلا بشريعة الإسلام لأن ما عداها من الشرائع قد منع المكلفون من الرجوع إليه ولا يمكنه مع جحد الإسلام أن يعلم قبح شيء كما لا يمكنه فعل الصلاة في هذه الحال فلا فرق بينهما قيل لكم مثله في الصلاة والحج
دليل قول الله عز و جل وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ذم لهم على كفرهم واختلالهم بالزكاة كما أن قول القائل ويل للسراق الذين لا يصلون ذم على السرقة وترك الصلاة
دليل قول الله سبحانه فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى
ذم على كل ذلك
دليل قول الله سبحانه والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة فإذا ضوعف عليه العذاب لمجموع ذلك وقد دخل فيه الزنا فيثبت كونه محظورا عليه
دليل قول الله سبحانه قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين فذمهم على ذلك وإطعام الطعام يتعلق الذم بتركه هو الزكاة
إن قيل قوله لم نك من المصلين معناه لم نك من جملة المصلين يعني

المؤمنين والجواب أن ذلك لا يتأتى في قوله لم نك نطعم المسكين لأنه علق الذم على كونهم غير مطعمين على أن قوله لم نك من المصلين يفيد تعليق الذم عليهم لأنهم لم يصلوا كما أن قول القائل إنما عاقبني فلان لأنني لم أك من المطيعين يفيد أنه عاقبه لأنه لم يطعه إن قيل قوله لم نك من المصلين يجوز أن يكون إخبارا عن قوم كانوا ارتدوا بعد إسلامهم ولم يكونوا قد صلوا في حال إسلامهم لأن قوله تعالى لم نك من المصلين ليس يفيد أنهم لم يصلوا في جميع الزمان الماضي ألا ترى أن من صلى مرة واحدة يقال إنه قد صلى فيما مضى ولا يقال إنه ما صلى فيما مضى والجواب أن قوله سبحانه لم نك من المصلين هو جواب المجرمين المذكورين في قوله عز و جل يتساءلون عن المجرمين وذلك عام في المجرمين المرتدين وغير المرتدين على أن قوله قالوا لم نك من المصلين إما أن يفيد أنهم لم يصلوا في جميع الزمان الماضي أو في زمان غير معين ولا يفيد زمانا معينا كما أن قولنا فلان عوقب لأنه لم يحج إنما يدل على وجوب الحج في زمان غير معين ومن يحمل الآية على المرتد يحملها على وجوب الصلاة في زمان معين
دليل لو لم يلزم الكافر الشريعة لم يلزمه النظر في معجزة النبي صلى الله عليه و سلم لأنه إنما يلزمه ذلك خوفا من أن يكون شرعه مصلحة له تفوته إن لم ينظر في معجزته ولو كان الشرط في كون شرعه مصلحة له أن يعلم صدقه لما لزمه بالعقل أن يجعل هذا الشرط ليلزمه شرعه إذ كان جميع ما يفعله المسلم من الواجبات العقلية ويتركه من المقبحات العقلية لأجل فعله للشرعيات يفعله الكافر ويتركه وإن لم يفعل الشرعيات فإن قالوا إن الكافر قد يترك

الواجبات العقلية التي يفعلها المسلم ولو أسلم وفعل الشرعيات فعل تلك الواجبات قيل لهم قد سلمتم المسألة وقد وجب استحقاقه العقاب لأنه قد فوت نفسه مصلحة يمكنه التوصل إليها وهذا الدليل إنا يصح على قول من قال لا يجوز أن يكون علم المكلف بنبوة النبي صلى الله عليه و سلم بانفراده مصلحة في العقليات فأما من جوز ذلك فلا يمتنع ان يقول يلزمه ذلك لهذا الوجه فإذا علم نبوته لزمته شريعته ويدل عليه قوله سبحانه وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين الآية وهذا في الكافر
واحتج المخالف بأشياء
ومنها أنه لو كان الكافر مكلفا للشرعيات لكلف ما لا يطيقه لأنه يستحيل أن يفعل الشرعيات عبادة وقربة مع كفره والجواب أن المستحيل هو أن يضم الشرعيات إلى كفره ولم يكلف ذلك وإنما كلف الصلاة بأن يقدم الإسلام فإن قالوا كذلك نقول قيل أنتم تجعلون الشرط في كونها مرادة منه تقديم إسلامه وإذا لم يسلم لا يستحق العقاب على إخلاله بالصلاة ونحن نلحق به العقاب ونقول إن الله سبحانه قد اراد منه الصلاة بأن يقدم الإسلام عليها فإن وافقتم في العقاب فقد زال الخلاف في المسألة لأنه ليس للمسألة فائدة إلا في الاستحقاق للعقاب وفوات المصلحة ونظير ذلك تكليف المحدث للصلاة بأن يزيل الحدث فإن لم يفعل استحق العقاب على الإخلال بالوضوء والصلاة ويفارق تكليف الحائض الصلاة بأن تزيل الحيض لأن ذلك غير ممكن لها وإزالة الحدث مقدورة ويمكن أن يحتجوا ويقولوا لو كلف الكافر الشرعيات لم يخل إما أن يكلف إيقاعها مضامة للكفر وذلك غير ممكن أو يكلف فعلها بشرط أن لا يكفر فيجب أن يكون الله سبحانه قد كلف الشرعيات من يعلم أنه لا يؤمن بشرط يعلم أنه لا يحصل وذلك مستحيل عندكم

والجواب يقال لهم إنا لا نقول إنه كلف بشرط بل نقول إنه كلف الشرعيات والإيمان بالأنبياء معا والإيمان بهم وصلة إلى الشرعيات وله سبيل إلى كلا الأمرين فحمله هذا التكليف غير موقوف على شرط يعلم المكلف أنه لا يحصل وإنما ننكر أن يكلف العالم بالغيب من يعلم أنه لا يتمكن من الفعل ولا سبيل له إليه بوجه بشرط أن يتمكن وهذا غير قائم في مسألتنا
ومنها أنه لو كلف فعلهما ولم يحمل على أدائهما
ومنها قولهم لو كلف الشرعيات لوجب إذا أسلم أن يلزمه القضاء وهذا باطل لأن القضاء فرض ثان فهو موقوف على الدلالة ألا ترى أن الجمعة واجبة ولا يجب قضاؤها بعينها وصوم الحائض غير واجب ويجب قضاؤه
ومنها لو كلف الكافر أداء الزكاة لوجب إذا أسلم قبل حلول الحول بيوم أن تلزمه الزكاة لأنه قد كان مكلفا بفعلها وقد حصل عند وجوب الأداء بصفة يصح معها الأداء والجواب إنا لا نقول إنه إذا كان كافرا في ابتداء الحول فإنه خوطب بأن يزكي إذا أسلم قبل حلول الحول وإنما نقول إنه قيل له قبل ابتداء الحول أسلم واستمر إسلامك وإذا استمررت إلى آخره فزك فإن لم يفعل ذلك استحق العقاب على ترك الإسلام وعلى ترك الزكاة ومخالفنا يقول يستحق العقوبة على ترك الإسلام فقط فإن أسلم في تضاعيف الحول سقط ذمه المستحق على استدامة كفره بهذه التوبة ولما كان باستدامة كفره إلى تضاعيف الحول فقد فوت على نفسه بالزكاة يستحق الذم على ذلك إما في الحال وإما عند حضور وقت الأداء وجب إذا سقط ذم الكفر بالتوبة أن يسقط ذم ما تبعه من تفويته المصلحة لأنه ليس تفويته المصلحة بأكثر من أن لا يفعلها إذا حضر وقتها والتوبة تحبط ذم تركها إذا حضر وقتها فكذلك الندم على الكفر يحبط الذم المستحق على تفويت المصلحة

باستدامة الكفر إلى بعض الحول كما يقوله في التقدم على السبب قبل حدوث المسبب

باب في أن العبد لا يخرج من الخطاب بالعبادات
إعلم أن الخطاب المشتمل على الحر والعبد يجب كونهما معنيين به إلا لمنع عقلي أو سمعي فمن الموانع أن تكون العبادة تترتب على ملك المال لأن ذلك لا يصح في العبد على قول بعض الفقهاء فأما ما عدا ذلك فليس مانع يمنع من كون العبد معنيا بالخطاب إن قيل هلا كان المانع من كون العبد معنيا بالخطاب هو ما ثبت من وجوب خدمته لسيده في الأوقات إذا استخدمه فيها وذلك يمنعه من العبادات في هذه الأوقات قيل إنه يلزمه خدمة سيده إذا فرغ من العبادات إن قيل لم كان الدليل الدال على وجوب خدمة سيده مخصوصا بما دل على وجوب خدمة سيده قيل لأن ما دل على وجوب خدمة سيده في حكم العام وما دل على وجوب العبادات في حكم الخاص لأن كل عبادة يتناولها لفظ مخصوص كآية الصلاة وآية الصيام وغير ذلك والخاص من حقه أن يعترض به على العام
باب في تخصيص العموم بالعادات
اعلم أن العادة التي هي بخلاف العموم ضربان أحدهما عادة في الفعل والآخر عادة في استعمال العموم أما الأول فبأن يعتاد الناس شرب بعض الدماء ثم يحرم الله سبحانه الدماء بكلام يعمها فلا يجوز تخصيص هذا العموم بل يجب تحريم ما جرت به العادة لأن العموم دلالة فلا يجوز تخصيصه إلا لدلالة فلو خصصناه عند هذه العادة لم يخل إما أن يخص بالعادة أو لأن

الأصل إباحة شرب الدماء والعادة ليست بحجة لأن الناس يعتادون الحسن كما يعتادون القبيح والعقل في الأصل وإن اقتضى إباحة شرب الدماء فانه يقتضيها ما لم ينقلنا عنه شرع والعموم دليل شرعي فيجب أن ينتقل به وأما العادة في استعمال العموم فيجوز أن يكون العموم مستغرقا في اللغة ويتعارف الناس استعماله في بعض تلك الأشياء فقط نحو اسم الدابة فانه في اللغة لكل ما يدب وقد تعورف استعماله في الخيل فقط فمتى أمرنا الله سبحانه في الدابة بشيء حملناه على الخيل دون ما يدب من نحو الإبل والبقر لما بيناه من أن الاسم بالعرف أحق وليس ذلك بتخصيص على الحقيقة لأن اسم الدابة لا يصير مستعملا في العرف إلا في الخيل فيصير كأنه ما استعمل إلا فيه

باب في أن قصد المتكلم بخطابه إلى الذم والمدح لا يمنع من كونه عاما
اعلم أن بعض الشافعية يمنع من عموم قول الله سبحانه والذين يكنزون الذهب والفضة وأحالوا التعلق به في ثبوت الزكاة في الحلي قالوا لأن المقصد بذلك إلحاق الذم بمن يكنز الذهب والفضة وليس القصد به العموم والجواب أن الذم إنما كان مقصودا بالآية لأنه مذكور فيها وهذه العلة قائمة في العموم لأن اللفظ عام فوجب كونه مقصودا وليس يمنع القصد إلى ذم من كنز الذهب والفضة من القصد إلى عموم ذم كل من كنزهما
باب في الخطاب الوارد على سبب
ينبغي أن نذكر ما السبب الذي يرد عليه الخطاب ونذكر قسمة الخطاب

الوارد على سبب ونقيم الدلالة على كل قسم من ذلك
فسبب الخطاب هو ما يدعو إلى الخطاب وهو ضربان أحدهما سؤال سائل وهو مرادنا في هذا الموضع والآخر دنو وقت العبادة
فأما قسمة الخطاب الوارد على سؤال فهي أن الخطاب الذي هذا سبيله ضربان أحدهما إحالة على بيان ما تضمنه السؤال صريح أو غير صريح نحو ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلالة فقال يكفيك آية الصيف والآخر هو نفسه بيان لما تضمنه السؤال من غير إحالة إلى بيان وذلك ضربان أحدهما لا يستقل بنفسه والآخر مستقل بنفسه أما الذي لا يستقل بنفسه فهو الذي لا يفهم به شيء إذا انفرد على كل حال نحو ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال صلى الله عليه و سلم أينقص الرطب إذا يبس قالوا نعم قال فلا إذا ونحو أن يقول الإنسان لغيره تغد عندي فيقول لا والله
وأما الخطاب المستقل بنفسه فضربان أحدهما مساو للسؤال والآخر غير مساو له أما المساوي له فلا سبهة في كونه مقصورا عليه نحو أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن المجامع في شهر رمضان فيقول علىالمجامع في شهر رمضان الكفارة فلا يجوز خروج شيء من السؤال عن الجواب إلا أن تدل دلالة مقارنة أو متقدمة على خروج بعضه من الجواب وأما الجواب الذي لا يساوي السؤال فضربان أحدهما أعم من السؤال والآخر أخص منه
أما الأخص فيجوز من الحكيم في حال دون حال أما الحالة التي يجوز فيها فبأن يكون السائل من أهل الاجتهاد وقد بقي إلى زمان العبادة وقت يتسع للاجتهاد فيجيبه النبي صلى الله عليه و سلم عن بعض ما سأله وينبهه بذلك على جواب

البعض الآخر أو يدله بدلالة أخرى مبتدأة على بيان البعض الآخر لأنه قد يكون من المصلحة أن يعلم بعض الأشياء بالصريح في الحال وفي بعضها أن يعلمه بالتنبيه أو بالإشارة إلى دليل آخر وأما الحالة التي لا يجوز أن يجيب المسؤول فيها عن البعض فهو أن لا يكون السائل من أهل الاجتهاد أو يكون من أهله غير أن الحاجة قد حضرت حضورا لا يتمكن من الإجتهاد لأنه لو اقتصر على الجواب عن بعض السؤال والحال هذه لكان قد أخل بما يجب بيانه
وأما إن كان الخطاب أعم من السؤال فهو ضربان أحدهما أن يكون أعم منه في ذلك الحكم والآخر أن يكون أعم منه في حكم آخر مثال الأول أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن رجل اشترى عبدا فيقول النبي صلى الله عليه و سلم الخراج بالضمان فيكون ذلك عاما في كل عبد هذه سبيله ومثال الثاني سؤال النبي صلى الله عليه و سلم عن التوضىء بماء البحر وجوابه بقوله هو الطهور ماؤه الحل ميتته
والجواب المستقل بنفسه لا يجب قصره على سببه إلا لوجه يقتضي ذلك وأحد الوجوه العادات نحو أن يقول الرجل لغيره تغد عندي فيقول والله لا تغديت وذكر الشيخ أبو عبد الله أن العادة تقتضي قصره على الغداء عنده وإن كان الكلام في نفسه عاما ومستقلا
وأما الدلالة على قصر الخطاب الذي لا يستقل بنفسه على سببه فهي أن النبي صلى الله عليه و سلم لو سئل أيجوز بيع الرطب بالتمر فقال لا لكان قوله لا نفي لأمر مذكور ولم يجز في كلام النبي صلى الله عليه و سلم وكلام السائل إلا جواز بيع الرطب بالتمر فيجب كونه نفيا له إن قيل هلا كان قوله في الخبر المشهور فلا إذا معناه فلا يجوز بيع ما ينقص إذا جف بما قد جف قيل إن أردت أن ذلك معقول من جهة القياس فلا نأبى ذلك وإن أردت أن قول النبي صلى الله عليه و سلم فلا إذا نفي له فلا يصح لأن السائل لم يذكر بيع ما ينقص إذا

جف ببيع ما قد جف ولا جرت هذه الألفاظ بعينها في كلام النبي صلى الله عليه و سلم فينصرف النفي إليه
وأما الدلالة على أن الجواب المستقل بنفسه وهو أعم من السبب يجري على عمومه فهو أن اللفظ العام الصادر عن حكيم يجب إجراؤه على عمومه إلا لمانع ولا مانع إلا ما يحتج به المخالف وكلها باطلة
منها أن العادة تقتضي قصر على سببه كما ذكرناه وهذا باطل لأن العادة لا تقتضي في قول النبي صلى الله عليه و سلم الخراج بالضمان أن المراد به ذلك العبد الذي وقع السؤال عنه فعليهم أن يبينوا أن المفهوم من جواب النبي صلى الله عليه و سلم ما ذكرناه فاذا ادعى ذلك فهو موضع الخلاف
ومنها أن يقال ثبوت الحكم فيما وقع السؤال عنه يمنع من ثبوته فيما عداه إما لأنه ينافيه أو من جهة دليل الخطاب وهذان باطلان أما الأول فلأنه لا تنافي بين ثبوت الحكم في شيء وبين ثبوته في شيء آخر وأما الثاني فمبني على دليل الخطاب وليس بحجة عندنا على أن هذا ليس من دليل الخطاب في شيء لأن دليل الخطاب هو أن يعلق الحكم على صفة الشيء فيدل على نفيه عما عداها وليس في لفظ هذا الجواب تعليق الحكم على السبب فقط فيدل على نفيه عما عداه ولو كان كذلك لكان في حيز تعليق الحكم على الإسم على أن من قصر الجواب على السبب فإنما يقصره عليه لأجل السبب لا لدليل الخطاب لأن دليل الخطاب لو كان عاما لكان جوابا وابتداء وقصد الجواب ينافي قصد الابتداء والجواب إن أرادوا بقولهم جواب وابتداء أنه جواب عما وقع السؤال عنه وبيان لحكم ما لم يسأل عنه فصحيح والقصد إليه لا يتنافى
ومنها أن يقال لو تعدى الحكم إلى غير ما سئل عنه النبي صلى الله عليه و سلم لما أخر بيانه إلى تلك الحال والجواب أنه لا يمتنع أن يكون من المصلحة أن يبين حكمه الآن كما كان ذلك فيما سئل عنه وفيما تعدى الجواب إليه مما ليس من

جنس السؤال نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته على أنه لا يمتنع أن يكون قد بين حكم ما زاد على السؤال قبل ذلك وبينه الآن أيضا ودل عليه
ومنها قولهم من حق الجواب أن يكون مطابقا للسؤال وذلك إنما يكون بالمساواة قيل إن أردتم بالمطابقة مساواة الجواب للسؤال فغير مسلم أنه من شرط الجواب وإن أردتم بالمطابقة انتظام الجواب بجميع السؤال فذلك يحصل بالمساواة وحدها وبالمساواة مع المجاورة ويلزم أن لا يجوز مجاورة الخطاب لما وقع السؤال عنه إلى حكم آخر

باب في العموم إذا تعقبه تقييد بشرط أو استثناء أو صفة أو حكم وكان ذلك
لا يتأتى إلا في بعض ما تناوله العموم هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أم لا
أعلم أن مذهب قاضي القضاة وكثير من الناس أنه لا يجب أن يكون المراد بالعموم تلك الأشياء فقط والأولى عندنا التوقف في ذلك مثال الاستثناء قول الله سبحانه لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون فاستثنى العفو وعلقه بكناية راجعة إلى النساء ومعلوم أن العفو لا يصح إلا في المالكات لأمورهن دون الصغيرة والمجنونة ولا يوجب ذلك عنده إلا أن لا يكون المراد بالنساء في أول الكلام الصغيرة والمجنونة

ومثال التقيد بالصفة قول الله سبحانه يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ثم قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا يعني الرغبة في مراجعتهن ومعلوم أن ذلك يتأتى في البائنة
ومثال التقييد بحكم آخر قول الله عز و جل والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ثم قال وبعولتهن أحق بردهن وهذا أيضا لا يتأتى في البائن
واحتج قاضي القضاة لمذهبه بأن اللفظ العام يجب إجراؤه على عمومه إلا أن يضطر ناشيء إلى تخصيصه وكون آخر الكلام مخصوصا لا يضطر إلى تخصيص أوله والجواب أن هذا التخصيص يقتضي تخصيص أول الكلام لأن الكناية رجعت إلى جميع ما تقدم لأن قول الله تعالى إلا أن يعفون معناه إلا أن يعفو النساء اللواتي طلقتموهن ولو أن الله سبحانه صرح بذلك لدل ذلك على أن النساء المذكورات في أول الكلام هن اللواتي يصح منهن العفو والذي يبين أن الظاهر يفيد رجوع ذلك إلى جميع النساء هو أن العفو معلق بكناية والكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدم والمذكور المتقدم هن المطلقات لا بعضهن فقط يبين ذلك أن الإنسان إذا قال من دخل الدار من عبيدي ضربته إلا أن يتوبوا انصرف ذلك إلى جميع العبيد وجرى مجرى أن يقول إلا أن يتوب عبيدي الداخلون الدار
وأما الدلالة على التوقف فهو أن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق وظاهر الكناية يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم وليس التمسك بظاهر العموم والعدول عن ظاهر الكناية بأولى من التمسك بظاهر الكناية والعدول عن ظاهر العموم وإذا لم يكن أحدهما أولى من الآخر وجب التوقف فان قيل التمسك

بالعموم أولى لأنه اسم ظاهر قيل ليس هذا القول بأولى ممن قال بل التمسك بالكناية أولى لأنها كناية

باب في المعطوف هل يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره فيما في المعطوف
عليه أم لا وهل إذا وجب ذلك وكان المضمر في المعطوف عليه مخصوصا وجب أن يكون المعطوف عليه مخصوصا أم لا
اختلف الناس في ذلك فقال العراقيون بذلك كله ولم يقل به الشافعيون ومثاله استدلال الشافعية بقول النبي صلى الله عليه و سلم لا يقتل مؤمن بكافر على أن المسلم لا يقتل بالذمي فقال العراقيون إن النبي صلى الله عليه و سلم عطف على ذلك قوله ولا ذو عهد في عهده وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه فوجب أن يكون معناه ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر ومعلوم أن ذا العهد يقتل بالكافر الذمي ولا يقتل بالكافر الحربي فكان قوله لا يقتل مؤمن بكافر معناه بكافر حربي لأن المضمر في المعطوف هو المظهر في المعطوف عليه فأضمروا في المعطوف ما هو مظهر في المعطوف عليه من القتل والكافر ولما رأوا أن ذلك إن أضمر في المعطوف كان مخصوصا في الحربي وأوجبوا تخصيص المعطوف عليه أيضا بالحربي وقد أجيبوا عن ذلك بأن المعطوف قيد بصفة لم يجب أن يضمر فيه من المعطوف عليه إلا ما يصير به مستقلا ألا ترى أن الإنسان لو قال لا تقتلوا اليهود بالحديد ولا النصارى في الأشهر الحرم لم يجب أن يضمر فيه إلا القتل حتى يكون معناه ولا تقتلوا النصارى في الأشهر الحرم ولا يكون معناه ولا تقتلوا النصارى بالحديد في الأشهر الحرم وإنما لم يجب ذلك لأنه لما قيد المعطوف بزيادة ليست في المعطوف عليه علمنا أنه أراد أن يخالف بينهما في كيفية القتل وأن يشرك بينهما في القتل فقط لا في الزيادة التي في المعطوف عليه

فان قال العراقيون قوله في عهده كالتأكيد لقوله ولا ذو عهد وليس يفيد حكما آخر يبين ذلك أنه لو لم يقل في عهده لعلمنا بقوله ولا ذو عهد أنه لا ينبغي أن يقتل في عهده لأن زوال العهد يخرجه من أن يكون ذا عهد وإذا أفادت هذه الزيادة فائدة قوله ولا ذو عهد في عهده وكان هذا يفيد ولا ذو عهد بكافر فكذلك قوله ولا ذو عهد في عهده وليس لكم أن تقولوا إن قوله في عهده يفيد فائدة متجددة وهي أن المانع من قتله هو العهد لأن ذلك لو استقل من قوله في عهده لاستفيد من قوله ولا ذو عهد والجواب أن هذا السؤال يقتضي أنه لو قال لا يقتل مؤمن بكافر ولا رجل في عهده لم يضمر فيه الكافر حتى يكون معناه ولا يقتل رجل في عهده بكافر لأنه يكون قوله في عهده قد استفيد منه فائدة متجددة فيجب أن يكون قوله ولا عهد يمنع من أن يضمر فيه بكافر لأنه ينزل منزلة قوله ولا رجل بكافر في إفادة صفة قد منع من القتل معها فاذا كان قوله في عهده كالتأكيد لم يضمر في المنع من هذا الإضمار فاذا أمتنا اضمار الكافر فيه امتنع تخصيص ما تقدم
وقد أجاب قاضي القضاة عن اعتراض الحنفية على هذا الخبر بجوابين
أحدهما أن المعطوف إنما يضمر فيه من المعطوف عليه ما يصير به مستقلا لأن فقد استقلاله هو الذي أوجب الإضمار ومعلوم أن قوله ولا ذو عهد في عهده يصير مستقلا باضمار القتل لأنه لو قال ولا يقتل ذو عهد في عهده لكان مستقلا ولقائل أن يقول ليس يقف الإضمار على ما يستقل به الكلام لأن الإنسان لو قال لا تقتلوا اليهود بالحديد ولا النصارى لكان معناه ولا تقتل النصارى بالحديد ولا يقتصر فيه على إضمار القتل فقط ولو قال الرجل لغيره لا يشترى اللحم بالدراهم الصحاح ولا الخبز لأفاد ولا يشترى الخبز بالدراهم الصحاح وإنما وجب ذلك لأن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في حكم المعطوف عليه وحكم المعطوف عليه ها

هنا هو الشرى بالدراهم الصحاح دون المنع من الشرى بالدراهم على الإطلاق لأن المنع من الشرى بالدراهم على الإطلاق ليس بمذكور وإذا كان كذلك فلو قلنا إن قوله لا يشترى اللحم بالدراهم الصحاح ولا الخبز معناه ولا يشترى الخبز أصلا لم يكن قد اشتركا بينهما في الحكم المذكور
وأما الجواب الثاني فهو أنا لو أضمرنا الكافر في قوله ولا ذو عهد حتى يكون معناه ولا يقتل ذو عهد بكافر ثم وجب أن يكون ذلك مخصوصا في الحربي لم يجب أن يكون قوله لا يقتل مؤمن بكافر مخصوصا في الكافر الحربي ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم لو قال ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر ثم علمنا بدلالة أن ذلك مخصوص في الحربى لم يجب أن يكون أول الكلام كذلك
ولقائل أن يقول إن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في حكمه وحكمه هو الذي عناه المتكلم وأراده دون ما لم يعنه فلو جعلنا الكافر المذكور في المعطوف عليه عاما وجعلناه في المعطوف خاصا لم نجعل العطف مفيدا لاشتراكهما فيما قصده المتكلم لأنه قصد بأول الكلام العموم وبآخره الخصوص ولوجب أن يكون الكلام الثاني معطوفا على بعض الأول وظاهر العطف يمنع من ذلك وليس لقائل أن يقول العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في لفظ الكافر وذلك لأن اللفظ ليس بموجود في المعطوف وإنما حكم المعطوف عليه يوجد فيه يبين ذلك أن المتكلم يقصد بالعطف اشتراكهما في معنى قصده دون اللفظ فصح أن ظاهر العطف يقتضي أن لا يفترق المعطوف والمعطوف عليه في خصوص ما اشتركا فيه وعمومه بل يجب إذا كان الكافر المضمر في المعطوف مخصوصا أن يكون الكافر المذكور في أول الكلام مخصوصا ولقائل أن يقول إن وجب إضمار الكافر في المعطوف فالأولى القول بالوقف لأنه ليس التمسك بظاهر العطف وترك ظاهر عموم أول الكلام وحمله على الخصوص بأولى من التمسك بظاهر العموم

وترك ظاهر العطف في وجوب اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في خصوص ما اتفقا فيه

باب في أن ذكربعض ما شمله العموم لا يخص به العموم
اعلم أن العموم إذا علق حكما على أشياء وورد لفظ يفيد تعليق ذلك الحكم على بعضها فانه لا يجب انتفاء الحكم عما عدا ذلك البعض وحكى أن أبا ثور أوجب ذلك لأنه قال إن قول النبي صلى الله عليه و سلم في شاة ميمونة دباغها طهورها يخص قول النبي صلى الله عليه و سلم أيما إهاب دبغ فقد طهر والذي يبطل ذلك أن التخصيص موقوف على التنافي فلو خص قوله دباغها طهورها قوله أيما إهاب دبغ فقد طهر لكان إنما يخصه من حيث كان تعليق الطهارة على تلك الشاة يدل على نفيه عما سواها من جهة دليل الخطاب وهذا باطل لأنا قد بينا أن تعليق الحكم بالاسم وبالصفة لا يدل على انتفائه عما عداهما ولو دل على ذلك لكان صريح العموم أولى منه لأن الصريح أولى من دليل الصريح وقوله صلى الله عليه و سلم دباغها طهورها من حيز دليل الاسم وتعليق الحكم على الاسم أضعف في الدلالة على نفيه عما عداه من تعليقه بالصفة
باب في المطلق والمقيد
اعلم أن الكلامين إذا قيد الثاني منهما بصفة فاما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر أو لا يكون متعلقا به فان كان متعلقا به كان الكلام الأول مقيدا بتلك الصفة على حسب ما ذكرناه في رجوع الاستثناء إلى جميع الكلام وإن لم يكن أحد الكلامين متعلقا بالآخر سواء كان منه قريبا أو بعيدا فانه لا يخلو حكماهما إما أن يكونا مختلفين أو غير مختلفين فان كانا مختلفين فمثاله أن نؤمر بالصلوات مطلقا ونؤمر بالصيام متتابعا فلا شبهة في أنه لا يجب لذلك

تقييد الصلوات بالتتابع وإن كان الحكمان غير مختلفين نحو أن يكون الحكم عتقا أو صياما فلا يخلو إما أن يكون سبباهما مختلفين أو غير مختلفين فان كانا غير مختلفين فمثاله العتق في كفارة اليمين ولا يخلو التعبد بهما إما أن يكونا أمرين أو نهيين فان كانا أمرين فمثاله أن يقال إذا حنثتم فاعتقوا رقبة ويقال في موضع آخر إذا حنثتم فاعتقوا رقبة مؤمنة فمتى تركنا وظاهر الأمرين وجب على الحانث عتق رقبتين إن كان الأمر المتكرر يفيد تكرار المأمور به وإن علمنا ان العتق في الموضعين واحد غير متكرر وجب تقييده بالإيمان أن العتق واحد والأمر المقيد بالإيمان قد اقتضى اشتراطه إن قيل لم قيدتم المطلق لأجل المقيد ولم تحملوا الأمر بعتق المؤمنة على الندب لأجل المطلق قيل لأن الأمر المقيد تصريح الإيمان وهو أشد اختصاصا به فكان الاعتراض به على المطلق أولى لأن الخاص أولى من العام على أن هذا السؤال لا يمكن إذا ورد التعبد بالمقيد بلفظ الإيجاب وإن كانا نهيين مثل أن يقول إذا حنثتم فلا تكفروا بالعتق ويقال في موضع آخر إذا حنثتم للا تكفروا بعتق كافره فمتى تركنا وهذين النهيين وجب إجراء المطلق على إطلاقه في المنع من العتق أصلا على التأبيد لأن النهي يفيد التأبيد فلا يخصه النهي المقيد بالإيمان لأنه بعض ما دخل تحته والعموم لا يصير مخصوصا بذكر بعض ما دخل تحته وإن علمنا أن المنهي عنه بأحد النهيين هو المنهي عنه بالآخر لا افتراق بينهما في خصوص ولا عموم وجب أن يقيد بالكفر فيصير المكلف منهيا في الموضعين من الكفارة بالكافرة
وإن كان سببا التكفير مختلفين فمثاله إطلاق العبد في كفارة الظهار وتقييده بالإيمان في كفارة القتل وقد ذهب قوم من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يقيد المطلق منهما بالإيمان أصلا وقال جل أصحاب الشافعي بل يقيد المطلق منهما واختلف الأولون في سبب المنع من تقييد المطلق بالمقيد من جهة القياس فقال قوم سبب ذلك أن تقييده بالإيمان زيادة على النص والزيادة على النص نسخ والنسخ لا يجوز بالقياس ومنهم من قال تقييده بالإيمان زيادة على حكم

قد قصد استيفاؤه ومنهم من قال تقييده بالإيمان هو تخصيص لحكم قد قصد استيفاؤه
واختلف من قال إن المطلق يقيد بالمقيد فقال قوم يقيد المطلق لأجل تقييد المقيد وقال قوم بل إنما يقيد بالقياس عليه واختلفوا في الحكم المطلق في موضع إذا قيد مثله في موضعين بتقييدين متنافيين نحو تقييد صوم الظهار بالتتابع وتقييد صوم التمتع بالتفريق وإطلاق قضاء صوم رمضان فمن لا يرى تقييد المطلق بالمقيد أصلا فإنه لا يقيد هذا المطلق بأحد التقييدين فلا يجعل من شرط قضاء شهر رمضان التتابع ولا التفريق ومن يرى تقييد المطلق بالمقيد لأجل التقييد لا يرى ذلك أيضا ها هنا لأنه ليس بأن يقيد بأحد التقييدين أولى من أن يقيد بالآخر وأما من يرى تقييده بالقياس فانه يقيد المطلق بأحد التقييدين إذا كان القياس عليه أولى من القياس على الآخر
والدليل على أن المطلق لا يقيد لأجل تقييد المقيد أن ظاهر المطلق يقتضي أن يجري الحكم على إطلاقه فلو خص بالمقيد لوجب أن يكون بينهما وصلة وإلا لم يكن بأن يقيد به أولى من أن لا يقيد به والوصلة إما أن ترجع إلى اللفظ أو إلى الحكم أما اللفظ فبأن يكون بين الكلامين تعلق بحرف عطف إو إضمار كما ذكرناه في صدر الباب وهذا غير حاصل في مسألتنا وأما الراجع إلى الحكم فضربان أحدهما أن يتفق الحكمان في علة التقييد بالصفة وهذا تقييد في كفارة وغير مقيد بهما في كفارة أخرى وليس هذا بممتنع كما يجوز أن تكون المصلحة فيهما التقييد يجوز أن تكون المصلحة فيهما أن يختلفا في التقييد فاذا ثبت ذلك فلو جاز مع فقد الوصلة أن يقيد أحدهما بما يقيد به الآخر جاز أن نثبت لأحدهما بدلا لأن للآخر بدلا أو نخص أحد

العمومين لأن الآخر مخصوص وقولهم إن الشهادة لما قيدت بالعدالة في موضع قيد بها الشهادة المطلقة في موضع آخر فالجواب عنه أنا لم نستفد تقييد المطلقة لأن الشهادة الأخرى قيدت في موضع آخر بل استفيد ذلك بشيء آخر وقوله إن القرآن كله كالكلمة الواحدة فيجب أن يقيد بعضه لما قيد به البعض الآخر ولهذا كان قول الله عز و جل والذاكرين الله كثيرا والذاكرات معناه والذاكرات الله والجواب أنهم إن أرادوا بقولهم إن القرآن كالكمة الواحدة في وجوب تقييده بما قيد به البعض الآخر فلا نسلمه ولهذا لا يقيد بعضه بما يقيد بعض له في الحكم فإن أرادوا أنه كالكلمة الواحدة في أنه لا تناقض فيه فصحيح ويقال لهم وإذا لم يكن فيه تناقض وكان كله صحيحا قيد بعضه بما قيد به البعض الآخر وأما قوله عز و جل والذاكرين الله كثيرا والذاكرات فانما كان المراد والذاكرات الله لأن الكلام خرج مخرج المدح لهن والحث لهن على ذكر الله بما ذكره من قوله أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما فلم يجز والحال هذه انصرافه إلى جميع أنواع الذكر وانصرف إلى ذكر الله لأنه مذكور فيما تقدم والكلام الثاني معطوف عليه وليس هذا حال مسئلتنا
فأما من أبى تقييد المطلق بالقياس فأما أن أبى ذلك لأن المطلق لا يتأتى فيه التخصيص كما لا يتأتى في العين الواحدة وهذا باطل لأن المطلق يشتمل على جميع صفات الشيء وأحواله أو لأن القياس غير دليل أو هو دليل لكنه لا يخص به العام وإفساد ذلك في القياس وإما لأن تقييد المطلق زيادة في النص وهو نسخ وسنبين في الناسخ والمنسوخ القول في ذلك وإما لأن الله عز و جل استوفى حكم المطلق والخصم مخالف في ذلك ويقول قيام الدلالة على صحة علة القياس يدلني على أن الله لم يستوف حكم المطلق بهذا الكلام كما نقوله في العموم

الكلام في المجمل والمبين
باب في ذكر فصول المجمل والمبين
اعلم أن الكلام في المجمل والمبين يقع في موضعين أحدهما العبارة والآخر المعنى أما العبارة فبأن نذكر ما معنى قولنا مجمل وبيان ومبين ومفسر وظاهر ونص وأما المعنى فمنه ما يرجع إلى المجمل ومنه ما يرجع إلى البيان أما الراجع إلى المجمل فيدخل فيه ذكر ما يحتاج إلى بيان وما لا يحتاج إليه ويدخل في ذلك الوجود التي يحتاج فيها إلى بيان ويدخل فيه ما يحتاج من الأفعال إلى بيان ويدخل فيه ما أخرج من المجمل وهو داخل فيه كالاسم المشترك وما أدخل فيه وهو خارج عنه وأما الكلام في البيان فضربان أحدهما مختص بالبيان والآخر يتعلق بالمبين له أما الأول فيدخل فيه ابواب منها الأمور التي يقع بها البيان ويدخل في ذلك البيان بالأفعال ومنها ترجيح القول على الفعل في وقوع البيان ومنها هل يجب أن يكون البيان كالمجمل في القوة أم لا وأما ما يتعلق بالمبين له فوجوه منها تأخير التبليغ ومنها تأخير البيان عن وقت الحاجة ومنها تأخيره عن وقت الخطاب ومنها من الذي يجب أن يبين له الخطاب ومنها هل يجوز أن يسمع المكلف لفهم الخطاب العام قبل أن يسمع بيانه أم لا وأما دليل الخطاب فليس بداخل في أبواب المجمل والمبين لأن الناس لم يختلفوا فيه هل هو دليل مجمل أو مبين وإنما اختلفوا فيه هل هو دليل أم لا

باب في ذكر ألفاظ تستعمل في الكلام في المجمل والبيان
فمن ذلك المجمل والبيان والمبين والمفسر والمفصل والنص والظاهر
أما قولنا مجمل فقد يراد به ما أفاد جملة من الأشياء ومن ذلك قولهم أجملت الحساب وعلى هذا يوصف العموم بأنه مجمل بمعنى أن المسميات قد أجملت تحته وقد يراد به ما لا يمكن معرفة المراد به ويمكن أن يقال المجمل هو ما أفاد شيئا من جملة أشياء هو متعين في نفسه واللفظ لا يعينه ولا يلزم عليه قولك اضرب رجلا لأن هذا اللفظ أفاد ضرب رجل وليس هو بمتعين في نفسه بل أي رجل ضربته جاز وليس كذلك اسم القرء لأنه يفيد إما الطهر وحده أو الحيض وحده واللفظ لا يعينه وقول الله سبحانه أقيموا الصلوة يفيد وجوب فعل يتعين في نفسه غير شائع
وأما البيان فانه يكون عاما ويكون خاصا أما العام فهو الدلالة تقول بين لي فلان كذا وكذا بيانا حسنا وبيانا واضحا فتوصف دلالته وكشفه بأنه بيان ويقال دللت فلانا على الطريق وبينته له فلما اطرد ذلك كان حقيقة
وأما الخاص فهو ما يتعارفه الفقهاء وهو كلام أو فعل دال على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد ويدخل في ذلك بيان العموم والمحكي عن شيخينا أبي على وأبي هاشم رحمهما الله أن البيان هو الدلالة وأرادا بذلك البيان العام وقال الشيخ أبو عبد الله إن البيان هو العلم الحادث

لأن البيان هو ما به يتبين الشيء والذي به يتبين هو العلم الحادث كما أن ما به يتحرك الشيء هو الحركة ولهذا لا يوصف الله سبحانه متبين لما كان عالما لذاته لا بعلم حادث والصحيح هو الأول لأن البيان العام هو الكشف والإيضاح ألا ترى أنه يقال بين لي فلان كذا وكذا إذا دل عليه فهذا هو أظهر في العرف من العلم لأنه لا يوصف العلم بأنه بيان وإنما يوصف بأنه تبين وقال الشافعي البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع وأقل ما فيه أنه بيان لمن نزل القرآن بلسانه وهذا ليس بحد وإنما هو وصف للبيان بأنه يجمعه أمر جامع وهو أنه يتبينه أهل اللغة وأنه يتشعب إلى أقسام كثيرة فإن حده بأنه بيان لمن نزل القرآن بلغته كان قد حد البيان بأنه بيان وذلك حد الشيء بنفسه وإن كان قد حد البيان العام فانه يخرج منه الأدلة العقلية وإن حد البيان الخاص الذي يتعارفه الفقهاء فانه يدخل فيه الكلام المبتدأ إذا عرف به المراد كالعموم والخصوص وغيرهما وهذا ليس هو العام والخاص وقال قوم البيان هو الكلام والخط والإشارة وهذا ليس بحد وإنما هو تعديد وليس هو بمستوف لجميع أعداده لأنه يخرج منه الأدلة العقلية وقال الصيرفي البيان هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح وهذا قريب إذا كان حد للبيان العام وإن كان حدا لما تعارفه الفقهاء فليس بصحيح لأنه يدخل فيه الأدلة العقلية والأدلة السمعية المبتداة على أن إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي هو حد للتبيين لا حد للبيان
فأما المبين فقد يراد به ما احتاج إلى بيان وقد ورد عليه بيانه وقد يراد به الخطاب المبتدأ المستغني عن بيان
وقولنا مفسر قد يراد به ما احتاج إلى تفسير وقد ورد تفسيره ويراد به الخطاب المبتدأ المستغني عن تفسير لوضوحه في نفسه
وأما النص فقد حده الشافعي بأنه خطاب يعلم ما أريد به من الحكم

سواء كان مستقلا بنفسه أو علم المراد به بغيره وكان يسمي المجمل نصا وبهذا حده الشيخ أبو الحسن وذكر قاضي القضاة أن النص هو خطاب يمكن أن يعرف المراد به واعلم أن النص يجب أن يشتمل على ثلاث شرائط أحدها أن يكون كلاما والآخر أن لا يتناول إلا ما هو نص فيه وإن كان نصا في عين واحدة وجب أن لا يتناول سواها وإن كان نصا في أشياء كثيرة وجب أن لا يتناول سواها والآخر أن تكون إفادته لما يفيده ظاهرا غير مجمل وأما اشتراط كون النص عبارة فلأن أدلة العقول والأفعال لا تسمي نصوصا وأما اشتراط ظهور دلالته فلأن المفهوم من قولنا إن العبارة نص في هذا الحكم أنها تفيده على جهة الظهور ولأن النص في اللغة مأخوذ من الظهور ومن ذلك قولهم منصة العروس لما ظهرت وارتفعت وأما اشتراط إفادة ما هو نص فيه فقط فلأن الإنسان إذا قال لغيره اضرب عبيدي لم يقل أحد إنه قد نص على ضرب زيد من عبيده لما أفاده وأفاد غيره ويقال إن كلامه نص في ضرب جملة عبيده لما لم يفد سواهم فاذا ثبت أن هذا هو المعقول من النص وجب بأن يحد بأنه كلام تظهر إفادته لمعناه لا يتناول أكثر مما قيل إنه نص فيه فإن قيل أليس يقال إن الله قد نص على وجوب الصلاة وإن كان قوله أقيموا الصلاة مجملا قيل إنه ليس بمجمل في إفادة الوجوب وإنما هو مجمل في إفادة الصلاة ولا يجوز أن يسمى مع البيان نصا في إفادة الصلاة لأن قولنا نص عبارة عن خطاب واحد دون ما يقترن به ولأن البيان قد يكون غير لفظ وقولنا نص عبارة عن الأقوال
وأما الظاهر فهو ما لا يفتقر في إفادة ما هو ظاهر فيه إلى غيره وهو مفارق للنص من هذه الجهة ويشاركه في وجوب كونه كلاما وفي اختصاصه بالكشف ونفي العموم وقال قوم إن الظاهر هو ما ظهر المراد به وظهر فيه غير المراد إلا أن المراد أظهر والأول أصح لأن الكلام متى وضح المراد به فقد ظهر سواء كان محتملا لغيره أن لم يكن محتملا لغيره

باب فيما يحتاج فيه إلى بيان وما لا يحتاج فيه إلى بيان
قد ذكرنا أن البيان منه عام وهو الدلالة المطلقة ومنه خاص وهو الدلالة الشرعية على المراد بأدلة الشرع فان كان في الأول فالذي نحتاج في العلم به إلى الدلالة وهو ما صح العلم به ولم نعلمه باضطرار لأن ما لا يعلم باضطرار لا سبيل إلى العلم به إلا بالدليل وما علمناه باضطرار فقد استغنينا عن العلم به لأن الإنسان مستغن عن تحصيل ما هو حاصل له
وإن كان الكلام في النوع الثاني من البيان فانا نقول فيه إن الدلالة الشرعية فيه ضربان مستنبطة وغير مستنبطة أما المستنبطة كالقياس فلا إجمال فيها فيقال إنه يحتاج إلى بيان وأما الدلالة غير المستنبطة فهي أقوال وأفعال والأفعال كلها لا تنبيء عن الوجوه التي وقعت عليها إلا أن منها ما يقترن به دلالة تدل على الوجه الذي وقعت عليه فلا تحتاج مع ذلك إلى بيان آخر ومنها ما لم يقترن به دليل فيحتاج إلى بيان أما الأول فنحو صلاة النبي صلى الله عليه و سلم بأذان وإقامة فان ذلك قد تقرر في الشرع أنه أمارة لوجوب الصلاة ويجوز أن يتعمد أفعالا كثيرة في الصلاة فيركع ركوعين قبل السجدة فنعلم أن ذلك من أفعال الصلاة لأنه لا يجوز أن يتعمد في الصلاة أفعالا كثيرة ليست منها فأما الثاني فنحو أن يقوم النبي صلى الله عليه و سلم في الركعة الثانية ولا يجلس قدر التشهد فإنه يجوز أن يكون قدسها في ذلك ويجوز أن يكون قد تعمد ذلك ليدل على جواز ترك هذه الجلسة
وأما الأقوال فضربان أحدهما يكفي نفسه وصريحه في معرفة المراد به فلا يحتاج إلى بيان لأنه لو احتاج إلى بيان لنقض قولنا إنه يكفي نفسه في معرفة المراد وذلك نحو قول الله سبحانه وكان الله بكل شيء

عليما والآخر لا يكفي نفسه وصريحه في معرفة المراد وهو ضربان أحدهما لا يختل بيانه على السامع والثاني قد يختل بيانه على السامع فالأول ضربان أحدهما أن يكون بيانه بالتعليل والآخر لا بالتعليل أما التعليل فضربان أحدهما بطريق الأولى والآخر لا بطريق الأولى أما الأول من هذين فقول الله عز و جل فلا تقل لهما أف في دلالته على المنع من ضربهما لأن كل عاقل يعلم أن ذلك يخرج مخرج التعظيم والإكرام فعلم أن المنع من التأفيف إنما كان لأنه أذى والضرب قد شارك التأفيف في الأذى وزاد عليه ومقرر في العقل أن من منع من شيء لغرض فإنه يمنع مما سواه وزاد عليه في معنى ذلك الغرض وهذه الأمور في النفس لا تختل على عاقل والكلام يدل معها على المنع من الضرب وإن كان الكلام ما وضع له وأما الثاني وهو التعليل لا بطريق الأولى فقول النبي صلى الله عليه و سلم في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات نعلم بذلك أنه علة في طهارتها ونعلم أن كل ما هذه سبيله فظاهر لأن العلة يتبعها حكمها
وأما البيان الذي لا يختل وليس هو بتعليل فضربان أحدهما أن يكون الخطاب أمرا بشيء فيعلم وجوب ما لا يتم إلا به لما تقرر في العقل أن وجوب الشيء يتبعه وجوب ما لا يتم إلا به وإلا كان إيجابا لما لا يطاق ولهذا يعلم كل عاقل أن أمر السيد غلامه بشري اللحم من السوق يدل على وجوب مشيه إلى السوق والآخر أن يظهر في العقل كون ظاهر الخطاب غير مراد ويعلم بالعادة أنه مستعمل في وجه من وجوه المجاز فيعلم أنه مراد المتكلم نحو قول الله سبحانه وسئل القرية ولو قيل إن ذلك حقيقة عرفية لجاز
فأما الخطاب الذي يحتاج إلى بيان وقد يختل بيانه على السامع فضربان أحدهما يحتاج إلى بيان لوضع اللغة والآخر لا لوضع اللغة والأول ضربان

أحدهما أن يكون الكلام مفيدا لشيء ما لا تفيد صفته نحو قول الله سبحانه وءاتوا حقه يوم حصاده فإن اسم الحق يفيد شيئا ما له صفة ولا يفيد تلك الصفة بعينها فاحتجنا إلى بيانها والآخر أن يكون الكلام موضوعا لشيء على صفة ولشيء آخر على صفة أخرى وليس بموضوع لهما معا بل يفيد كل واحد منهما بانفراده وهو الاسم المشترك كاسم القرء وذلك أنه موضوع للطهر ويفيد فيه صفة وهو كونه طهرا وهو موضوع للحيض ويفيد فيه أنه حيض فقد أفاد كل واحدة من الصفتين غير أنه يفيدها على البدل فاحتجنا فيه إلى بيان ولو كان موضوعا لهما معا ووجب إذا انفرد أن يحمل عليهما يجري مجرى العموم ولما احتجنا فيه إلى بيان فأما الذي يحتاج إلى بيان لا لوضع اللغة فهو ما كان غير مجمل إلا أنه قد استعمل لا لما وضع له وهو ضربان أحدهما أن يكون قد استعمل في بعض ما وضع له والآخر أن يكون قد استعمل في غير ما وضع له أصلا أما الأول فكالعام المخصوص والمطلق المنسوخ والعام المخصوص ضربان أحدهما أن يكون قد علمنا ما خص منه بعينه والآخر أن لا نعلم ذلك بعينه فما علمناه بعينه فإنا قبل العلم به نحتاج إلى بيان ما لم يرد منا دون ما أريد وإذا علمنا ما لم يرد منا بعينه استغنينا عن البيان فأما ما لم نعلم ما خص بعينه فانا قبل بيان تخصيصه نحتاج إلى بيان ما لم يرد منا فاذا خص هذا النوع من التخصيص احتجنا إلى بيان ما أريد منا وما لم يرد أيضا وذلك إنما يكون باجمال المخصص وهو ضربان أحدهما أن يكون المخصص متصلا بالخطاب والتقييد بالصفة المجهولة فالتقييد بالصفة المجهولة كقول الله سبحانه وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم لو اقتصر على ذلك لم يحتج فيه إلى بيان فلما قيده بقوله محصنين ولم يدر ما الإحصان لم ندر ما أبيح

لنا فأما الاستثناء المجهول فقول الله سبحانه أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم لما كان الاستثناء مجهولا كان المستثنى منه كذلك فاحتجنا فيه إلى بيان وأما ما كان تخصيصه منفصلا فنحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم إن قول الله سبحانه اقتلوا المشركين مخصوص ليس المراد به بعض المشركين ولا نعلم ما المراد به لأنه لا مشرك إلا وقد تناوله قوله اقتلوا المشركين وتناوله قول النبي صلى الله عليه و سلم ليس المراد بالآية بعض المشركين فليس بأن يدخل تحت أحدهما بأولى من أن يدخل تحت الآخر فافتقرنا فيه إلى بيان
وأما الخطاب المستعمل في غير ما وضع له أصلا فضربان أحدهما أن يكون الشرع قد ورد باستعماله في ذلك الشيء والآخر لم يرد الشرع بذلك أما الأول فالأسماء الشرعية كقولنا صلاة فمتى أمرنا بالصلاة ونحن لا نعلم بالشرع انتقال هذا الاسم إلى هذه الأفعال احتجنا فيه إلى بيان وأما الثاني فالأسماء المستعملة في مجازها وبيانها غير ظاهر نحو كثير من الآيات التي ظاهرها التشبيه والجبر وصيغة الأمر المستعملة في التهديد إلى غير ذلك
وقد ذكر قاضي القضاة في العمد والشرح قسمة غير هذه القسمة وقد ذكرناها في شرحنا لكتاب العمد
وقد دخل في هذه الجملة أنه لا يجوز أن يراد بالاسم المشترك كلا معنييه وأنه مجمل يحتاج إلى بيان فيجب ذكر ذلك إذ كان من يقول إنه يجوز أن ينفرد فيراد به كلا المعنيين قد أخرجه عن المجمل ودخل فيها أن فحوى القول قياس والكلام في ذلك يأتي في باب القياس إن شاء الله

باب فيما أخرج من المجمل وهو منه كإرادة المعنيين المختلفين بالاسم
المشترك
اعلم أن الاسم الواحد إذا كان اسما لأشياء فإما أن يفيد فيها فائدة واحدة أو أكثر من فائدة واحدة فالأول لا خلاف في جوازها كلها في حالة واحدة بالاسم واختلف الناس في الثاني فقال الشيوخ أبو هاشم وابو الحسن وأبو عبد الله رحمهم الله بالمنع من ذلك سواء أفادت العبارة تلك الأشياء كلها على الحقيقة أو أفادت بعضها على الحقيقة وبعضها على المجاز كالنكاح المفيد للوطىء حقيقة وللعقد مجازا وكناية وشرط الشيخ أبو عبد الله في المنع من ذلك شروطا أربعة أحدها أن يكون المتكلم واحدا والآخر أن تكون العبارة واحدة والآخر أن يكون الوقت واحدا والآخر أن يكون أراد المعنيين المختلفين لا تنظمهما فائدة واحدة فمتى انخرم شرط من هذه الشروط جاز أن يراد ولأجل اشتراط كون المتكلم واحدا نحو أن يتكلم الإنسان بالقرء ويريد به الحيض ويتكلم به آخر ويريد به الطهر ولأجل اشتراط الفائدتين جاز أن يريد الله عز و جل بقوله فلم تجدوا ماء فتيمموا الماء القراح والنبيذ لأنه يحمعهما فائدة واحدة عنده وهي المائية ولهذا الوجه لم يسم ماء ولأجل اشتراط الوقت جوز أن يتكلم الله سبحانه بالقرء فيريد به الطهر ويتكلم به في وقت آخر فيريد به الحيض ولأجل اشتراط كون ما يريده بالمعنيين المختلفين عبارة واحدة جوز أن يريد النبي صلى الله عليه و سلم الفخذ وبعض الركبة عند قوله الفخذ عورة لأنه إنما أراد الفخذ بهذه الكلمة وأراد بعض الركبة لما تعذر عند العقل من أن ستر الفخذ لا يمكن إلا بستر بعض الركبة وأن الشيء يجب إذا لم يتم الواجب إلا به وقال إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكره تحريم الأشياء المقيسة على الستة بنصه على الستة بل أراد الستة بالنص وأراد ما يقاس عليها

بدليل القياس وقال الشيخ أبو علي وقاضي القضاة إن اللفظة الواحدة إذا كانت موضوعة لكل واحد من شيئين حقيقة أو لأحدهما حقيقة وللآخر مجازا ولم تفد فيهما فائدة واحدة فانه يجوز أن يريدهما المتكلم بها في حالة واحدة إلا أن يتنافى ذلك نحو استعمال لفظة افعل في الأمر بالشيء والتهديد عنه وذلك أن استعمالها في التهديد لا يكون إلا بكراهة ذلك الفعل واستعمالها في الأمر به لا يكون إلا بارادته وإرادة الشيء وكراهته تتضادان وكذلك لا يجوز استعمال اللفظة الواحدة في الاقتصار على الشيء ومجازته إلى غيره نحو استعمال قوله وايديكم إلى المرافق من الاقتصار على المرافق ومجاوزتها لأن ذلك إما أن يفيد إرادة مجاوزتها أو يفيد إرادة مجاوزتها وكراهته ونحو الخبر عن وجوب الشيء وكونه ندبا لأن الخبر عن وجوبه يفيد كراهة تركه والخبر عن كونه ندبا يفيد ترك هذه الكراهة من البارىء عز و جل وكذلك الخبر عن إباحته وعن كونه ندبا يدل أحدهما على إرادة الله سبحانه ويدل الآخر على نفي هذه الإرادة
وعندنا أن الاسم المشترك بين شيئين حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة والآخر مجازا يجوز في الإمكان أن يراد به ولا يجوز في اللغة والدليل على إمكان ذلك أنه ليس بين إرادة اعتداد المرأة بالحيض وبين إرادة اعتدادها بالطهر ما يمنه من اجتماعهما لو لم يكن المريد بذلك متكلما باسم القرء فيجب أن لا يكون فيهما ما يمنع من اجتماعهما إذا تكلم المتكلم بهذا الاسم لأن الكلام لا يجعل ما ليس بممتنع ممتنعا إذا كان لا يكسب الإرادات وغيرها تنافيا ولا ما يجري مجراه وكذلك القول في استعمال لفظ النكاح في الوطء والعقد
واحتج الشيخ أبو عبد الله بأن الإنسان يجد من نفسه تعذر استعمال اللفظة في مجازها وحقيقتها معا قال وجرى ذلك مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به في حالة واحدة والجواب أن ما ذكره من تعذر ذلك دعوى بل المعلوم من

أنفسنا صحة ذلك وإجراؤه ذلك مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به دعوى أيضا على أن تعظيم زيد والاستخفاف به مفارقان لما نحن بسبيله لأنه يجيز أن يريد المتكلم الحقيقة والمجاز بخطابين في وقت واحد ولا يجيز أن يعظم عمرا ويستخف به بفعلين في وقت واحد وعلى أن الفرق بين الموضعين أن الاستخفاف ينبىء عن إيضاع حال الغير والتعظيم ينبىء عن ارتفاع حاله ومحال أن يكون الإنسان في حالة واحدة مرتفع الحال متضع الحال فيمتنع أن يحصل الداعي إليهما في حالة واحدة مع العلم بتنافيهما وليس كذلك إرادة الاعتداد بالأطهار وإرادة الاعتداد بالحيض
واحتج أيضا بأن المتكلم لو استعمل الكلمة الواحدة في حقيقتها ومجازها لكان قد أراد استعمالها فيما وضعت له وأراد العدول بها عما وضعت له وذلك يتنافى كما يستحيل إرادة الاقتصار على الشيء والمجاوزة عنه إلى غيره والجواب أن المتكلم إذا استعمل اسم النكاح في العقد وفي الوطىء فانه يكون قد أراد به الوطىء وأراد به العقد فان عنى بقوله إنه قد أراد المتكلم العدول بالكلمة عما وضعت له أنه أراد استعمالها في غير ما وضعت له كما أراد استعمالها فيما وضعت له فذلك صحيح وإن أراد بذلك أنه قد أراد أن لا يستعملها فيما وضعت له وهو المفهوم من كلامه فذلك لا نقول به فان قال يلزمكم أن تقولوا به قيل ومن اين يلزمنا إذا قلنا قد اراد معنى الحقيقة وأراد معنى المجاز أن يكون قد أراد أن يستعملها في الحقيقة وهل هذا إلا أنك ألزمتنا على قولنا قد أراد شيئين أنه لم يرد أحدهما
واحتجوا بأن المستعمل للكلمة فيما هي مجاز فيه لا بد أن يضمر فيها كاف التشبيه والمستعمل لها فيما هي حقيقة فيه فلا يضمر كاف التشبيه فيها ومحال أن يضمر الشيء ولا يضمره والجواب أن الإنسان إذا قال رأيت السباع وأراد به أنه رأى أسدا ورجالا شجعانا فانه لا يمتنع أن يضمر كاف التشبيه في بعضهم دون بعض لأن معنى إضمار كاف التشبيه هو أن يقصد بإسم

الأسد إلى ما هو كالأسد فأما الكلام في أنه لا يجوز من جهة اللغة أن يريد بالاسم الواحد المعنيين المختلفين فهو أن الاسم إما أن يكون مفردا أو مجموعا فان كان مفردا فالدلالة على أن اللغة يحظر أن يراد به كلا معنييه أن أهل اللغة وضعوا قولهم حمار للبهيمة المخصوصة وحدها ويجوزنه في البليد وحده ولم يستعملوه فيها معا ألا ترى أن الإنسان إذا قال رأيت حمارا لم يفهم منه أنه رأى البهيمة والبليد معا ولو قال رايت حمارين لم يعقل منه أنه رأى أربعة أشخاص بهيمتين وبليدين وكذلك قولنا قرء وضعوه للحيض وحده وللطهر وحده ولم يضعوه لهما لأنهم لو وضعوه لهما معا لكان المستعمل له في أحدهما متجوزا لأنه لم يستعمله على ما وضع له على التحقيق وكان يجب أن نفهم من قول القائل قرءان أربعة طهرين وحيضين ومن ثلاثة أقراء ستة والأمر بخلاف ذلك فصح أن المتكلم إذا قال للمرأة اعتدي بقرء لا يكون مريدا منها أن تعتد بالطهر والحيض معا وإنه إنما أراد أحدهما فلا يخلو إما أن يكون أراد منها أن تعتد إما بالطهر أو بالحيض بحسب اختيارها وإما أن يكون أراد الحيض فقط أو أراد الطهر فقط ويجري مجرى أن يقول لها قد أردت منك الاعتداد بالطهر وأردت منك الاعتداد بالحيض والأول باطل ثم لأن لفظه القرء لم توضع للطهر والحيض وإنما وضعت للطهر وحده وللحيض وحده ويفارق ذلك قول القائل لغيره اضرب رجلا لأنه إذا قال ذلك كان مريدا منه أن يضرب أي رجل شاء إما هذا وإما هذا لأن قولنا رجل لم يوضع لهذا الشخص وحده ولهذا وحده وإنما وضع لما اختص بمعنى الرجولية وهو معنى واحد شائع في كل شخص من أشخاص الرجال فكأنه قال اضرب شخصا ممن اختص بمعنى الرجولية ولو قال ذلك لدل على أنه قد أراد منه ضرب الرجال على البدل وليس كذلك اسم القرء لأنه ليس يفيد في الطهر والحيض فائدة واحدة فيكون دالا على أن المتكلم به قد أراد ما اختص بتلك الفائدة من الطهر والحيض فان قيل أيجوز أن يقول الرجل لغيره اضرب

رجلا وهو يريد ضرب رجل معين قيل لا يجوز ذلك إلا أن يدل عليه دليل ويكون قد عدل باللفظ إلى غير موضوعه في الأصل لأن قولنا رجل لم يوضع لرجل مخصوص دون غيره فإن قيل أليس يجوز أن يقول الرجل لغيره رأيت رجلا وإن كان قد اراد رجلا بعينه فكيف قلتم إن هذا الإسم لا يفيد شخصا معينا قيل هذا دليلنا على أنه لا يفيد شخصا معينا ألا ترى أنه إذا قال ذلك لم يفهم منه الرجل الذي رآه بعينه وإنما ساغ أن يقول رأيت رجلا وإن كان قد رأى رجلا بعينه لأن اسم الرجل يفيد ما يختص بالمعنى الذي يتميز به الرجل مما ليس برجل ومن رأى رجلا بعينه فقد رأى ما اختص بمعنى الرجولية وزيادة فصح أن يخبر عن ذلك المعنى بقوله رايت رجلا ولا يخبر عن الزيادة التي اختص بها ذلك الرجل بعينه فأما إذا قال المتكلم للمرأة لا تعتدي بقرء فانه يفيد أنه أراد أن لا تعتد بواحد معين إما أن يكون أراد الطهر وإما أن يكون أراد الحيض لأنه لو أراد مجموعهما كان قد أراد ما لم يوضع له اللفظ وإن أراد أن لا تعتد بما يقع عليه اسم قرء بما فيه معنى من معاني القرء فان ذلك ليس في ظاهر الكلام لأنه إنما علق الحكم بالقرء لا بما سمي قرء ولا بما فيه معنى من معاني القرء
فأما الاسم المشترك المجموع نحو قولنا أقراء فاما أن يكون قد علق عليه إثبات أو نفي فالإثبات نحو قول القائل للمرأة اعتدي بالأقراء وذلك يفيد أنه قد اراد منها إما ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار أو أراد منها أن تعتد بثلاثة بعضها أطهار وبعضها حيض والدليل على ذلك أن جمع الاسم يفيد جمع مقتضاه وإذا كان قولنا قرء موضوعا للحيض وحده وللطهر وحده ويدل على أن المتكلم به إما أن يكون قد اراد الحيض أو أراد الطهر فيجب أن يكون قولنا أقراء يفيد أنه قد أراد إما جمعا من الحيض أو جمعا من الطهر أو جمعا منهما ويجري مجرى أن يقول اعتدى بقرء وبقرء وبقرء في أنه يجوز أن يكون أراد بالكل الحيض أو أراد بالكل الطهر أو أراد ببعضها الطهر وببعضها الحيض

ويفارق ذلك قول القائل لغيره اضرب رجالا في أنه يفيد ضرب أي ثلاثة من الرجال شاء من العرب أو من العجم أو منهما ولا يكون مريدا لثلاثة من العجم فقط أو ثلاثة من العرب فقط لأن قولنا رجال يفيد جمع فائدة قولنا رجل وقد قلنا إن قولنا اضرب رجلا يفيد أن المتكلم به أراد ضرب ما اختص بمعنى الرجولية أي رجل كان فيجب أن يكون جمعه يفيد جمعا من الأشخاص يختص كل واحد منها بمعنى الرجولية أي جمع من ذلك كان وليس كذلك الاقراء لما بيناه من قبل فان قيل أليس لو قال الرجل للمرأة اعتدي بما يسمى أقراء جاز أن تعتد بالحيض وجاز أن تعتد بالطهر قيل أجل ويفارق مسألتنا لأنه قد علق الاعتداد بما يسمى أقراء والطهر والحيض متفقان في فائدة وصفنا لهما بأنهما يسميان أقراء وغير مختلفين في ذلك فجرى مجرى قوله اضرب رجلا في أنه أمر بضرب ما اختص بمعنى الرجولية وليس كذلك قولنا اعتدى بالأقراء لأن معنى الأقراء في الطهر والحيض مختلف وكذلك لو أمكنت الإشارة إلى الطهر والحيض فقال للمرأة اعتدي من هذا بثلاثة لأن قوله من هذا واقع عليهما لا على سبيل الاشتراك ألا ترى أنه لا يفيد فيهما فائدتين مختلفتين وليس كذلك اسم القرء
فأما إذا علق على الاسم المشترك المجموع حكما منفيا نحو أن يقول القائل للمرأة لا تعتدي بالأقراء فانه يفيد أنه كره أن تعتد بجمع من الأقراء إما حيض كله وإما طهر كله أو بعضه طهر وبعضه حيض لأن ذلك يجري مجرى أن يقول لها لا تعتدي بقرء ولا بقرء ولا بقرء فكما أنه يجوز أن يعني بها أجمع الحيض ويجوز أن يعنى بها أجمع الطهر ويجوز أن يعنى ببعضه الحيض وببعضه الطهر على ما بيناه فكذلك جمعه في هذا القسم بعض الاشتباه وكذلك إذا قال لها لا تعتدي بقرء لأنه يجوز أن يقال إن ذلك يفيد نفي الاعتداد بالحيض والطهر معا والأول أشبه
واحتج المخالف بأشياء

منها أن سيبويه قال إن قول القائل لغيره الويل لك خبر ودعاء فجعله مفيدا لكلا الأمرين والجواب أنه ليس في وضع اللغة ذلك في كلا الأمرين ما يدل على أن اسم القرء موضوع للطهر والحيض معا وأيضا فليس ذلك دلالة على أنه مستعمل في كلا الأمرين معا بل لا يمتنع أن يكون هذا الكلام موضوعا للخبر مستعملا على سبيل المجاز في الدعاء ولم يقل سيبويه أن يجوز أن يستعمل فيهما
ومنها قولهم إن عمر رضي الله عنه قال إن قبلة الرجل امرأته تنقض الطهر وقال إن الجنب يلزمه التيمم وهذا يدل على أنه عقل من قول الله عز و جل أو لامستم النساء الوطىء والمباشرة باليد والجواب أن هذا لا يمتنع أن يكون علم وجوب التيمم على الجنب من السنة لا من الآية
ومنها أن قول الله عز و جل والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قد أريد به الحيض والطهر لأن للمرأة تقليد من يرى الاعتداد بالأطهار وتقليد من يرى الاعتداد بالحيض وأي ذلك فعلت فقد أراده الله منها فإذن قد أرادهما الله سبحانه على البدل بشرط أن تختار أي المجتهدين شاءت وكذلك قد أراد منها الاعتداد بكل واحد منهما إذا كانت من أهل الاجتهاد بشرط أن يؤديها اجتهادها إلى هذا وإلى هذا والجواب أن الشيخ أبا هاشم رحمه الله يقول إن الله عز و جل تكلم بالآية مرتين فأراد مرة الطهر ممن يؤديه اجتهاده إلى ذلك أو تقليد من يرى ذلك واراد في الأخرى الاعتداد بالحيض ممن يؤديه اجتهاده إلى ذلك أو يختار تقليد من يرى ذلك وكره في كل واحد من الدفعتين ترك الاعتداد بكل واحد منهما وليس يجب إذا تكلم بها مرتين أن تثبت في المصحف مرتين على أنه لا يمتنع أن يريد كلا المعنيين في وقت واحد بعبارتين مثلين يفعلهما في مكانين على أنه لا يمتنع أن

يكون الله قد أراد به كلا الاثنين في دفعة واحدة ويكون قيام الدلالة على ذلك دلالة على الشريعة قد جاءت بنقل هذا الاسم إلى مجموع الأمرين كما ينقل الشرع الأسماء الشرعية إلى معان غير معانيها في اللغة فاذا صح أن الاسم المشترك لم يوضع لكلا معنييه لم يجب أن يريدهما المتكلم بذلك الاسم واحتاج إلى بيان إذ كان لا يدل على المراد ولا يجوز أن يقال تجرده عن دلالة يدل على أنه قد أريد به كلا المعنيين على البدل أو على الجمع لأن اللفظ إذا لم يكن موضوعا للجمع ولا للتخيير لم يجز تجرده عن قرينة وإنما يتجرد عن قرينة إذا كان موضوعا لأمر يكفي ظاهره في الدلالة عليه

باب فيما الحق بالمجمل وليس منه
من ذلك التحليل والتحريم المتعلقين بالأعيان كقول الله سبحانه حرمت عليكم أمهاتكم ذكر الشيخ ابو الحسن رحمه الله وأبو عبد الله رحمه الله أن ذلك مجمل لا يصح التعلق بظاهره لأن التحريم متعلق بنفس الأمهات وليس ذلك في مقدورنا لو كان معدوما فكيف وهو موجود فلم يجز أن تحرم علينا ووجب أن يكون المراد به فعل من أفعالنا يتعلق بالأمهات وإذا لم يكن ذلك الفعل مذكورا في الآية لم يمكن أن يستدل بها على تحريم فعل دون فعل ولأن الآية لو اقتضت تحريم فعل معين لكان المراد بتعليق التحريم بالأعيان تحريم ذلك الفعل بعينه ولا يختلف ذلك الفعل بحسب اختلاف الأعيان وليس الأمر كذلك لأن المراد بقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم تحريم الاستمتاع والمراد بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة تحريم الأكل فأحد الفعلين مخالف للآخر
وقال أبو علي وابو هاشم وقاضي القضاة رحمهم الله إن ذلك ليس

بمجمل بل هو ظاهر من جهة العرف في تحريم الاستمتاع بالأمهات وتحريم أكل الميتة لأن قوله حرمت عليكم أمهاتكم وإن كان التحريم فيه متعلقا بنفس الأمهات فانه يفيد بالعرف تحريم الاستمتاع لأنا عند سماع هذه اللفظة نفهم تحريم الاستمتاع وعند سماع قول القائل حرمت عليك طعامي وحرمت الميتة نفهم أكلها وهذه أمارة كون الاسم منتقلا بالعرف ألا ترى أنا لما فهمنا الخيل عند سماعنا اسم الدواب قلنا إنه يفيدها وحدها من جهة العرف وليس يمتنع أن يكون العرف قد نقل التحريم المتعلق بالأعيان فجعله حقيقة في تحريم أفعال مختلفة بحسب اختلاف الأسماء فيفهم بالعرف من قول القائل حرمت عليك فلانة الاستمتاع بها ويفهم من قوله حرمت عليك طعامي أكله
ومن ذلك قول العراقيين إن قول الله سبحانه فامسحوا برؤوسكم مجمل لأنه يحتمل مسح جميع الرأس ويحتمل مسح بعضه فاذا احتمل مسح كل واحد منهما بدلا من الآخر افتقر إلى بيان فاذا روي أن النبي صلى الله عليه و سلم مسح بناصيته كان ذلك بيانا للآية ووجب مسح ذلك المقدار من الرأس وذكر قاضي القضاة أن ظاهر الباء في اللغة للإلصاق وقوله وامسحوا برؤوسكم يفيد من جهة اللغة مسح جميع الرأس لأن الباء المفيدة للإلصاق دخلت على المسح وقرنته بالرأس والذي يسمى رأسا هو الجميع لا البعض لأنه لا توصف الناصية رأسا فكانت الآية إيجابا لمسح جميع الرأس من جهة اللغة قال والعرف قال مسحت يدي بالمنديل عقل منه أنه ألصق المسح بالمنديل ويجوز السامع أنه مسحه بجميعه ويجوز أنه مسحه ببعضه وكذلك إذا قال الإنسان الغيره امسح يدك بالمنديل فانه يعقل منه أنه قد أوجب عليه إلصاق يده بالمنديل إن شاء بجميعه وإن شاء

ببعضه وأيهما فعل سقط عنه الأمر وإذا أفادت هذه اللفظة في العرف ما ذكرناه حملت الآية عليه
ومن ذلك حرف النفي إذا دخل على الفعل متى لم يكن الفعل على صفة من الصفات وذلك ضربان أحدهما يمكن انتفاء الفعل متى لم تحصل تلك الصفة والآخر لا يمكن انتفاء ذلك الفعل فمثال الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فحرف النفي دخل على الصلاة الشرعية لأن كلام النبي صلى الله عليه و سلم يحمل على معانيه الشرعية فظاهره إذا يقتضي نفي الصلاة الشرعية مع انتفاء الفاتحة وذلك ممكن فوجب حمل الكلام عليه وذلك يقتضي كون قراءة الفاتحة شرطا ويقتضي أن يكون قولنا صلاة فاسدة مجازا أعني وصفنا لها بأنها صلاة ويكون المراد أنها على صورة الصلاة وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل وقوله لا نكاح إلا بولي وكان الشيخ أبو عبد الله يجعل هذه الألفاظ مجملة قال لأن المنفي موجود مع انتفاء الشرط فعلمنا أنه أراد نفي أحكامه وليس بعض الأحكام بأن يكون هو المنفي أولى من حكم آخر إذ اللفظ لا يتناول الأحكام على جهة العموم ولا على جهة الخصوص ولأنه يتناقض حمل ذلك على نفي الكمال ونفي الإجزاء لأن في ضمن نفي الكمال إثبات الإجزاء والذي ذكره إنما يصح لو لم يصح أن يكون المنفي هو الذي دخل عليه حرف النفي وقد بينا ذلك وأما مثال القسم الثاني فقول النبي صلى الله عليه و سلم الأعمال بالنيات أعظم متأول هذا الكلام أن يجري مجرى قوله لا عمل إلا بالنية ومعلوم أنه ليس يخرج العمل من كونه عملا إذا فقدت النية فعلمنا أن المراد به أحكام العمل من الإجزاء أو الكمال وليس بأن يحمل على أحدهما أولى من الآخر وليس لأحد أن يقول إن قوله الأعمال بالنيات يفيد في العرف نفي كونه عملا مجزئا إذا لم يكن نية لأنا لا نعقل ذلك من جهة العرف ألا ترى أنا قد حملنا كثيرا من هذا النفي على نفي الفضل والكمال وليس لأحد أن يقول المعقول في العرف من قول القائل لا عمل إلا بنية هو لا عمل مجزىء ولا كامل إلا بنية لأنه إذا لم يجزء لم

يكمل وذلك لأنه يكون قد عقل منه نفي الكمال تبعا لنفي الإجزاء فقد عاد الكلام إلى الأول وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان لأن الخطأ واقع منهم فاذا المرفوع هو أحكام الخطأ فاحتاج إلى بيان ذلك الحكم وقد علمنا أنه لم يرد الإثم لأنه لا مزية لأمته في ذلك على سائر الأمم
ومن ذلك قول بعضهم إن قول الله سبحانه فاقطعوا أيديهما مجمل لأنه يحتمل اليد من المنكب إذ جملتها تسمى يدا ويحتمل قطعها من الكوع لأنه يسمى هذا القدر يدا ويحتمل قطعها من المرفق لأن هذا يسمى يدا ويمكن أن يحتجوا لذلك ايضا بأنه قد يقال قطعت يد فلان ويراد بها إبانتها وقد يراد إيصال قطع بها وإن لم تنفصل من البدن كما يقال برى فلان القلم فقطع يده وإنما يعلم إبانة العضو إذا قيد القطع بالجملة فقيل قطعت يد فلان من جملته كما يقال قطعت الغصن من الشجرة
والجواب عن الأول أن اسم اليد يتناول الجملة إلى المنكب فيجب حمل اليد عليه لولا قيام الدلالة على خلافه فقبل قيام الدلالة على ذلك تكون الآية مجملة إذ قد أريد بها غير ظاهرها لأن اسم اليد لا يتناول الكف وحده حقيقة لأنه لا يقال قطعت يد فلان كلها وجميعها إذا قطع الكف فلو كان اسم الكف يتناول هذا المقدار وحده حقيقة لصح أن يقال ذلك لأن الكف كل وجميع ولو تناول الكف حقيقة وجميع اليد حقيقة لحمل على أقل ما يقع عليه الاسم كما أن قول القائل لغيره اضرب رجلا يفيد ضرب ما يقع عليه اسم رجل ولمفرق أن يفرق بينهما بأن معنى الرجولية قائم في كل شخص من الرجال فالاسم قد تناول جميعهم على البدل وليس كذلك قولنا يد لأنه لو تناول الكف وتناول من أطراف الأصابع إلى المفرق لكان قد أفاد في ذلك فوائد مختلفة ولكان اسما مشتركا

والجواب عن الثاني أن القطع هو الإبانة فاذا علق باليد أفاد إبانة ما يسمى يدا والشق إذاحصل في الجلد لم يكن المسماة يدا قد أبينت فلم يدخل تحت الظاهر وهذا يدلنا على أن قول القائل بريت القلم فقطعت يدي مجاز ويكون اقتران ذلك ببري القلم قرينة تدل على المجاز لأن العادة ما جريت بابانة عند بري القلم

باب فيما تكون للاحكام الشرعية
اعلم أن بيانها يكون بكل ما يقع التبيين به وهو ضربان أحدهما يكون دلالة بالمواضعة والآخر لا بالمواضعة أما الأول فالكلام والعقد والكناية والبيان بالكلام فأكثر من أن يحصى وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم بأن كتب إلى عماله في الصدقات وبين الله تعالى لملائكته بما كتبه في اللوح المحفوظ وأما الضرب الآخر فضربان أحدهما تتبعه المواضعة والآخر يتبع المواضعة فالأول هو الإشارة لأن المواضعة على الكلام إنما تكون بالإشارة وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم بالإشارة حين قال الشهر هكذا وهكذا وأشار بيديه والثاني ضربان أحدهما أمارة القياس والآخر الأفعال وأما أمارة القياس فهي كيفية ثبوت الحكم من نحو ثبوته عند صفة ونفيه عن نفيها وهذا إنما يثبت بالخطاب وأما الأفعال فانها تتعلق بما هي بيان له بالقول نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم هذا الفعل بيان لهذه الآية ويقول صلوا كما رأيتموني أصلي
وقال بعض الناس إن الأفعال لا تكون بيانا وليس يخلو إما أن يريد أنه لا يصح وقوع البيان بها أو أنه لا يحسن أن يبين بها المجمل من جهة الحكمة والأول ضربان أحدهما أن يقال إن الفعل لا يؤثر في وقوع الشيء أصلا والآخر أن يقال إنه لا يؤثر في ذلك إلا مع غيره نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم هذا بيان لهذا الكلام أما إذا قيل لا يحسن أن يقع البيان بالأفعال فبأن

يقال إنه لا يقع عقيب الكلام المجمل فان وقع عقيبه فانه يطول وفي كلا الحالتين يتأخر البيان فان قالوا بالأول فقد أبطلوا لأن فعل النبي صلى الله عليه و سلم للصلاة وللحج أدل على صفتها من وصفه لها لما في المشاهدة للشيء من المزية على الخبر عن الشيء ولهذا بين النبي صلى الله عليه و سلم الحج بفعله وقال خذوا عني مناسككم وقال صلوا كما رأيتموني أصلي وبين أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم الوضوء بفعلهم وإن أرادوا أنه لا يقع به البيان إلا مع غيره نحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم إن هذا بيان للآية أو يضطر من قصده إلى ذلك أو يتلو كلاما مجملا ثم يفعل فعلا يجوز أن يكون بيانا له ولا تجد بيانا غيره فذلك مما لا خلاف فيه إلا أن البيان هو الفعل لأنه المتضمن لصفة الفعل دون القول المعلق للفعل بالمبين وإن أرادوا الوجه الثالث من أن ذلك يؤدي إلى تأخير البيان فباطل لأنه يمكن أن يتعقب الفعل القول كما يتعقبه القول والفعل وإن طال فالقول قد يكون طويلا أيضا فصح وقوع البيان بكل واحد منهما وأما المخالف فأنه يحتج بهذه الأقسام التي ذكرناها

باب في تقديم القول على الفعل في البيان
اعلم أن هذا الباب يتضمن مسألتين إحداهما أن يقال إذا كان القول بيانا والفعل بيانا فأيهما أكشف والجواب أن الفعل أكشف لأنه ينبىء عن صفة المبين مشاهدة والقول إخبار عن صفته وليس الخبر كالعيان والأخرى أن يرد بعد الآية المجملة فعل وقول يحتمل أن يكون كل واحد منهما بيانا لها فيقال أيهما قصد به البيان والجواب أنه ليس يخلو إما أن يتنافى حكم البيانين أو لا يتنافى فان لم يتنافى فضربان أحدهما علم تقدم أحدهما على الآخر فيكون المتقدم هو الذي قصد به البيان المبتدأ لأن البيان لا يتأخر ويكون المتأخر تأكيدا للبيان والآخر لا يعلم تقدم أحدهما على الآخر

فيجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتقدم وهو الذي قصد به البيان ابتداء وإن يتنافى حكمهما فمثاله آية الحج وقوله صلى الله عليه و سلم من قرن حجا إلى عمرته فليطف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وروي أنه صلى الله عليه و سلم قرن فطاف طوافين وسعى سعيين فإن كان قوله هو البيان فالطواف الثاني غير واجب وإن كان فعله هو البيان فالطواف الثاني واجب فمتى علمنا تقدم أحدهما كان هو البيان لأن الخطاب المجمل إذا تعقبه ما يجوز أن يكون بيانا له كان بيان له فان لم يجز تأخير البيان فالأمر في كون ذلك بيانا أكشف وأظهر وإن لم نعلم تقدم أحدهما على الآخر جعلنا القول هو البيان لأنا لو جعلنا الفعل هو البيان لأوجبنا إثبات ما تعلقه بالمبين من قول النبي صلى الله عليه و سلم إن هذا بيان لهذا وإن لم يعلم ذلك باضطرار من قصده ولا يجوز إثبات ذلك إلا عن ضرورة ولا ضرورة إلى ذلك مع إثبات قول يمكن أن يكون بيانا وليس لأحد أن يقول جوزوا أن يكون الفعل هو الذي قصد به البيان وإن لم تقطعوا عليه لأنا لا نجوز ذلك إلا لضرورة ولا ضرورة وليس الغرض بما ذكرناه من المثال إلا التمثيل دون تصحيح مسألة الطوافين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قد قال خذوا عني مناسككم فقد علق بهذا القول فعله على الآية

باب في أن البيان كالمبين
هذا الباب يشتمل على شيئين أحدهما هل البيان كالمبين في القوة والآخر هل كالمبين في حكمه أم لا أما الأول فقال الشيخ أبو الحسن إن المبين إذا كان لفظا معلوما وجب كون بيانه مثله وإلا لم يقبل ولهذا لم يقبل خبر الأوساق مع قول النبي صلى الله عليه و سلم فيما سقت السماء العشر والصحيح أنه يجوز أن يكون البيان والمبين دليلين معلومين ويجوز أن يكونا أمارتين ويجوز أن يكون

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6