كتاب : المعتمد في أصول الفقه
المؤلف : محمد بن علي بن الطيب البصري

المبين معلوما وبيانه مظنونا كما جاز تخصيص القرآن بخبر الواحد لأنه لا يمتنع تعلق المصلحة بذلك وأما الآخر وهو هل إذا كان المبين واجبا كان بيانه كذلك وقد قال قوم بذلك فإن أرادوا بذلك أنه إذا كان المبين واجبا فبيانه بيان لصفة شيء واجب فصحيح وإن أرادوا أنه يدل على الوجوب كما يدل المبين فغير صحيح لأن البيان إنما يتضمن صفة المبين وليس يتضمن لفظا يفيد الوجوب وإن أرادوا به أنه إذا كان المبين واجبا كان بيانه واجبا على النبي صلى الله عليه و سلم فإذا لم يكن الفعل المبين واجبا لم يكن بيانه واجبا على النبي صلى الله عليه و سلم فباطل لأن بيان المجمل واجب سواء تضمن فعلا واجبا أو غير واجب

باب في جواز تأخير التبليغ
اعلم أنه يجوز أن يؤخر النبي صلى الله عليه و سلم أداء العبادة إلى الوقت الذي يحتاج المكلف أن يعرفها فيه ولا يجب تقديم أدائها عليه وأوجب ذلك قوم وليس يخلو أن يوجبوا ذلك بالعقل أو بالسمع ولو وجب بالعقل لكان له وجه وجوب يرجع إلى التكليف إما لأنه تمكين أو لأنه لطف فإن كان تمكينا لم يخل إما أن يكون تمكينا من الفعل أو من فهم المراد بالخطاب ومعلوم أنه لم يتقدم خطاب مجمل يكون هذا بيانه وليس يقف إمكان فعل العبادة على تقديم أدائها على الوقت الذي إذا بلغت بالعبادة فيه أمكن المكلف أن يستدل بالخطاب على وجوبها فيفعلها في وقتها وأما كون تقديمهم التبليغ لفظا فليس في العقل طريق إليه كما أنه ليس في العقل طريق إلى كون تقديم تعريف الله إيانا العبادة التي يريد أن يعبدنا بها بعد سنة لطفا ولهذا لم يعرف الله على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم جميع ما يريد أن يتعبد به الأمة في حالة واحدة
فان قالوا إنا نعلم وجوب ذلك بالسمع فليس في السمع ما يجوز أن

يدل على ذلك إلا قول الله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته وأن الأمر على الفور وقد أجاب قاضي القضاة عن ذلك بأن هذا الأمر إنما يفيد وجوب تبليغه على الحد الذي أمر أن يبلغ عليه من تقديم أو تأخير ولقائل أن يقول الوجه الذي أمر أن يبلغ عليه هو التعجيل بدلالة هذا الأمر وأجاب أيضا بأن المراد بذلك هوالقرآن لأنه هو الذي يطلق عليه الوصف بأنه منزل من الله تعالى

باب في تأخير البيان عن وقت الحاجة
اعلم أنه لا يجوز تأخير بيان الخطاب عن الوقت الذي إن أخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة بما تضمنه الخطاب ولا يتمكن من فعل ما تضمنه في الوقت الذي كلف فعله فيه لأن في تأخير البيان عن هذا الوقت تكليف ما لا يطاق إذ لا سبيل له والحال هذه إلى فعل ما كلف في الحال التي كلف أن يفعل فيها
باب في تأخير البيان عن وقت الخطاب
ذهب بعض الحنفية وبعض الشافعية إلى جواز تأخير بيان المجمل والعموم عن وقت الخطاب ومن الفقهاء من اختار بيان المجمل دون بيان العموم وإليه ذهب الشيخ أبو الحسن رحمه الله ومنهم من اختار تأخير بيان الأمر دون الخبر ومنع شيخانا أبو علي وأبو هاشم وقاضي القضاة من تأخير بيان المجمل والعموم عن وقت الخطاب أمرا كان أو خبرا وأجازوا تأخير بيان النسخ

واعلم أن تأخير البيان ينقسم أقساما تختلف الأدلة عليها والشبه الواردة فيها بحسب اختلاف أقسامه فوجب أن نقسم ونتكلم على كل قسم على انفراده فنقول إن الخطاب الذي يحتاج إلى بيان ضربان أحدهما أنه ظاهر قد استعمل في خلافه والثاني لا ظاهر له كالأسماء المشتركة والأول ينقسم أقساما منها تأخير بيان التخصيص ومنها تأخير بيان النسخ ومنها تأخير بيان الأسماء المنقولة إلى الشرع ومنها اسم النكرة إذا أريد به شيء معين وكل هذه الأقسام لا يجوز تأخير بيانها بل لا بد من أن يبين الخطاب الوارد فيها إما بيانا مفصلا أو مجملا وأما ما لا ظاهر له فيجوز تأخير بيانه عن وقت الخطاب والكلام يقع في ثلاثة مواضع أحدها تأخير بيان ما له ظاهر وقد استعمل في خلافه والآخر في جواز كون بيان ذلك مجملا والآخر في جواز تأخير بيان ما لا ظاهر له
والدلالة على المنع من تأخير بيان ما له ظاهر إذا استعمل في غيره أن العموم خطاب لنا في الحال بالإجماع ولا يخلو المخاطب به إما أن يقصد إفهاما في الحال أو لا يقصد ذلك به فان لم يقصد إفهامنا انتقض كونه مخاطبا لنا لأن المعقول من قولنا أنه مخاطب لنا أنه قد وجه الخطاب نحونا ولا معنى لذلك إلا أنه قصد إفهامنا ولأنه لو لم يقصد إفهامنا في الحال مع أن ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا في الحال لكان قد أغرانا بأن نعتقد أنه قد قصد إفهامنا في الحال فيكون قد قصد أن نجهل لأن من خاطب قوما بلغتهم فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنه قد عنى به ما عنوه به ولأنه لو لم يقصد إفهامنا لكان عبثا لأن الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب ولأنه لو جاز أن لا يقصد إفهامنا بالخطاب جاز مخاطبة العرب بالزنجية وهو لا يحسنها إذ كان غير واجب إفهام المخاطب بل ذلك أولى بالجواز لأن الزنجية ليس لها عند العربي ظاهر يدعوه إلى اعتقاد معناه ولو جازت مخاطبة العربي بالزنجية ويبين له بعد مدة جازت مخاطبة النائم ويبين له بعد مدة وأن يقصد الإنسان بالتصويت والتصفيق شيئا يبينه بعد مدة فان قيل خطاب الزنج لا يفهم منه العربي شيئا

فلم يجز أن يخاطبوا به وليس كذلك خطاب العرب بالمجمل لأن العربي يفهم به شيئا ما لأن قول الله سبحانه أقيموا الصلاة قد فهم به الأمر بشيء وإن لم يعرف ما هو قيل إن جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدعاء ويريد الله سبحانه غيره ولا يبين لنا جاز أن يكون ظاهره قوله أقيموا لأمر ولا يستعمله في الأمر ولا يبين لنا ذلك وفي ذلك مساو إياه لخطاب الزنج لأنا لا نفهم به شيئا أصلا وإن كان قد أراد إفهامنا في الحال فلا يخلو إما أن يريد أن نفهم أن مراده ظاهره أو غير ظاهره فإن أراد الأول فقد أراد منا الجهل وإن أراد الثاني فقد أراد ما لا سبيل لنا إليه وهذه الدلالة تتناول العام المستعمل في الخصوص والمطلق المفيد للتكرار المنسوخ والأسماء المنقولة إلى الشريعة والنكرة إذا أريد بها شيء معين لأن ذلك مستعمل في خلاف ظاهره ولا يلزمنا إذا أشعرهم بالنسخ أو بالتخصيص أو بتعيين النكرة لأن الخطاب مع هذا الإشعار يصير مفيدا للشيء على طريق الجملة فلا يعزى ذلك بفعل الجهل ولا يكون تكليفا لما لا سبيل إليه بل إنما يفيد أنه قصد المتكلم إفهامه للجملة إن قيل أليس مع أن العموم خطاب لنا في الحال لا يجوز الإقدام على اعتقاد استغراقه عند سماعه بل لا بد من أن نقيس الأدلة السمعية والعقلية فننظر هل فيها ما يخصه أم لا فان لم يوجد فلم نجده قضينا باستغراق العموم وليس فقد الدليل هو لفظ فيقال لنا جوزوا أن يكون المراد غير ظاهره وإن وجدنا دليلا على التخصيص وكان عقليا فهذا يمتنع فيه ايضا وإن كان سمعيا فاما أن لا نجد في الأصول ما يعدل بنا عن ظاهره أو ننتهي إلى دليل سمعي لا يكون في الأصول ما يعدل بنا عن ظاهره فلم يلزمنا ما ألزمناهم من التوقف وقتا بعد وقت إلى غير غاية فهذا هو القول في المسألة الأولى
فأما إذا أراد بالخطاب غير ظاهره وأشعر بذلك بأن يقول المتكلم بالعموم اعلموا أنه مخصوص ولا يبين ما الخارج منه أو يقول جوزوا

خصوصه حتى أبينه والدلالة على جواز ذلك أن العموم مع هذا الإشعار يصير كلفظ موضوع للجملة والتردد بين الاستغراق وغيره واللفظ الموضوع للجملة يحسن أن يورد ويقصد به الجملة فقط على ما سنبينه في الاسم المشترك ولا يلزمنا على ذلك أن نتوقف في العبادة في وقت الفعل فيجوز أن يكون المراد بها غير ظاهرها نحو أن يقول صلوا غدا فيريد به بعد غد ويتأخر بيانه مفصلا لأنا إنما نجيز تأخير بيان العموم مع الأشعار ونظير ذلك أن يتأخر بيان الوقت مع الإشعار وكذلك نقول وما لا إشعار معه نقطع على ظاهره ويدل على ذلك أن الله عز و جل لما قال أقيموا الصلاة لم يعلم الناس في ذلك الوقت من هو معني بالخطاب لتجويز كل واحد من المكلفين أنه يموت قبل وقت الصلاة وعلمهم أن الله لا يأمر بشرط فهذا خطاب يعم كل مكلف وليس علم المخاطبون أنه قد عنى به جميعهم ولأنه لم يعن به جميعهم بل يجوزون كلا الأمرين هذه صورة مسألتنا فان قالوا إنما لم يقطعوا على عمومه لما أودع الله سبحانه في عقولهم من قبح تكليف ما لا يطاق وأن في علمهم بحياة كلهم إغراء بالمعاصي فلذلك توقفوا قيل وكذلك إذا أشعروا في التخصيص فقد علموا أنه إن كان العموم مخصوصا فلا يجوز أن يراد بالعموم من تناوله التخصيص ففي الموضعين يجوز للمكلف التخصيص ويجوز خلافه وكما لم يبين لهم أنهم يحيون أو يحيى بعضهم دون بعض لما في ذلك من الإغراء فكذلك يجوز أن يشعروا بالتخصيص ولا يبين لهم تفصيله لجواز أن تكون مصلحتهم أن يتفقوا على الجملة فقط في تلك الحال وهكذا القول في الخطاب المفيد للتكرار إذا أشعرنا بنسخة والخطاب المنقول إلى معنى شرعي إذا أشعرنا بذلك من حاله إن قيل إن جاز ما ذكرتم فهلا جازت مخاطبة العربي بالزنجية ويقال له اعلم أننا أردنا بهذا الكلام شيئا ما قيل إن الزنجي إذا كان حكيما فمعلوم أنه قد أراد بخطابه شيئا ما فلا معنى

لقوله قد أردت بخطابي شيئا ما وإن لم يكن حكيما فان السامح يظن أنه قد اراد بخطابه شيئا ما فان قالوا جوزوا أن يخاطبه بالزنجية ولا يقول إنه قد أردت بخطابي شيئا قيل سنتكلم على ذلك فيما بعد وعلى أن كلا الإلزامين متوجه إلى المخالف لأنه يقول إن خطاب الله العام لا يقطع على عمومه خبر يرد ولا على خصوصه لتجويزنا موت من توجه إليه الخطاب فأما الخطاب المتكرر إذا عنى به واحدا معينا وأشعرنا به فانه يجوز أن يقول لغيره اضرب رجلا ويقول أردت رجلا بعينه وسأبينه لكم والدليل على جوازه أن كلا الكلامين يجريان مجرى كلام مشترك بين ضرب زيد وعمرو وغيرهما في أنه يفيد الجملة دون التفصيل وسنبين ذلك في الاسم المشترك إن قيل فإن كان غرضه أن يعرفنا أنه أراد ضرب رجل بعينه فهلا قال ذلك ولم يقل قبله اضربوا رجلا قيل وإذا كان غرضه أن يعرفنا في الحال أن الرجل الذي يريد ضربه هو زيد فهلا قال ذلك ولم يقدم عليه قوله اضربوا رجلا فان قلتم لعل في ذلك مصلحة قلنا نحن مثله
فأما الخطاب الذي لا ظاهر له وهو الاسم المشترك كالقرء المشترك بين الطهر وبين الحيض فان له ظاهرا من وجه دون وجه أما الوجه الذي يكون ظاهرا فيه فهو أنه يفيد أن المتكلم به لم يرد شيئا غير الطهر وغير الحيض وأنه أراد إما هذا وإما هذا فمن هذا الوجه لا يحتاج إلى بيان ومتى أراد المتكلم بالقرء شيئا سوى الطهر وسوى الحيض فقد أراد به غير ظاهره فلا بد من بيان إما مجمل وإما مفصل على ما تقدم وأما الوجه الذي يكون فيه غير ظاهر وهو أنه لا يفيد أي الأمرين أراده المتكلم الطهر أم الحيض ولا يجب أن يقترن به بيان في الحال والدليل على جواز ذلك أن اللفظ ما وضع لواحد منهما بعينه دون الآخر وإنه وضع لكل واحد منهما بانفراده فهو يفيد الإجمال فلو لزم المتكلم أن يبين التفصيل قبل وقت الفعل لكان إما أن يلزمه ذلك لأنه لا يجوز أن يبين الحكيم مراده لغيره على جهة سبيل الإجمال أو يجوز ذلك من الحكيم إلا أن الاسم المشترك لا يفيد الإجمال ولذلك وجب أن يبين

مراده وهذا الثاني باطل لأنا قد بينا أن الاسم المشترك يفيد الإجمال والقسم الأول باطل أيضا لأن الحكيم قد يجوز أن يفيد غير مراده على الجملة كما يجوز أن يفيده إياه على التفصيل ألا ترى أم زيدا قد يعلم أن في الدار عمرو بعينه فيكون له غرض في أن يعلم خالد أن في الدار عمرو وقد يكون له غرض في أن يعرفه أن في الدار رجل ولا يستقبح ذلك منه أحد ويحسن ذلك حسن أن يكون في اللغة الأسماء المشتركة ليتوصل بها المتكلم إلى غرضه في إفادة الجملة دون التفصيل كما يحسن أن يكون فيها أسماء غير مشتركة ليتوصل بها المتكلم إلى غرضه في إفادة التفصيل إن قيل الغرض بالتعبد هو الفعل والعلم والاعتقاد تابعان فيجب مراعاته دونهما وأنتم راعيتموها في هذا الموضع الجواب أن الغرض قبل الوقت هو العلم ولهذا أوجبتم التمكن منه مفصلا وأوجبناه نحن إما مفصلا وإما مجملا
واحتج من أبى تأخير بيان المجمل بأن الله تعالى لما قال والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء إما أن يكون أراد منها الاعتداد بالطهر إن شاءت أو بالحيض إن شاءت أو أراد منها الاعتداد بواحد منهما بعينه وأي الأمرين أراده فقد أراد منها ما لا سبيل للمجتهد إلى فهمه لأن اللفظ لا ينبيء عن التخيير عندكم ولا ينبيء عن واحد منهما بعينه الجواب أنه أراد منها واحدة بعينه ولم يرد من المجتهدين أن يفهموه في الحال لأنه لم يدلهم عليه في الحال بلفظ يخصه فيريد منهم فهمه وإنما دلهم على الجملة فهو يريد منهم فيهم الجملة كما لو قال اعتدي بواحدة من أحد شيئين بعينه إما الطهر وإما الحيض وسأبينه لك وكما لو قال القائل لغيره اضرب رجلا واعلم أنه رجل معين وسأبينه لك في أنه لم يرد منه أن يعرفه بعينه في الحال إما أراد أن يفهم وكما لو علم أن زيدا في الدار وأراد إعلام عمرو أن في الدار رجل ولم يرد إعلامه أن زيد فقال في الدار رجل فانه قد عنى به زيدا ولم يرد

أن يعرفه أنه زيد
شبهة
لو حسنت المخاطبة بالاسم المشترك من غير بيان في الحال لحسنت مخاطبة العربي بالزنجية مع القدرة على مخاطبته بالعربية ولا يبين له في الحال والعلة الجامعة بينهما أن السماع لا يعرف مراد المتكلم بهما على حقيقة فان قلتم إنه لم يحسن مخاطبته بالزنجية لأن العرب لا تعرف بكلام الزنج شيئا وتعرف بالكلام المجمل شيئا ما وهو أن المتكلم أراد أحد معنيي الاسم المشترك قيل لكم ليس يخلوا إما أن تعتبروا في حسن الخطاب المعرفة بكمال المراد أو تعتبروا المعرفة ببعض المراد فان اعتبرتم الأول لزمكم أن لا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه لا يمكن مع فقده معرفة كمال المراد وإن اعتبرتم الثاني لزمكم حسن مخاطبة العربي بالزنجية لأن العربي إذا عرف حكمه الزنجي المخاطب له علم أنه قد اراد بخطابه شيئا ما إما الأمر وإما النهي وإما غيرهما والجواب أن المعتبر في حسن الخطاب أن يتمكن السامع من أن يعرف به ما أفاده الخطاب وهو يتمكن من معرفة ما وضع له الاسم المشترك لأنه إنما وضع لكل واحد من معنييه على انفراده فالسامع له قد علم أن مراد المتكلم به إما هذا وإما هذا وهذا هو التردد الذي تقتضيه اللفظة كما لو قال القائل للمرأة أريد منك أن تعتدي بشيء معين من شيئين إما الطهر وإما الحيض أنها قد فهمت ما يفيد هذا الخطاب من التردد بين الطهر والحيض ولو قال الرجل لغيره في الدار رجل فهم منه السامع ما يقتضيه الخطاب من أن شخصا فيه معنى الرجولية في الدار وإن علم أنه شخص معين وأما العربي فانه لا يتمكن من أن يعرف ما وضع له خطاب الزنج فلم يحسن أن يخاطب به منفردا عن بيان لأن ذلك الخطاب إما أن يكون أمرا أو نهيا أو خبرا أو استخبارا أو غير ذلك والسامع له من العرب لا يتمكن من معرفة ذلك فان قيل فلو كان في كلام الزنج ما هو مشترك بين الأمر والنهي وجميع أقسام

الكلام لكان يحسن من الزنجي أن يخاطب به العربي معتقد العربي أنه قد أراد المتكلم واحدا من ذلك قيل لا يحسن ذلك لأنه كما يجوز أن يكون في كلام الزنج ما هو مشترك من ذلك فانه يجوز خلافه فلا يكون معتقدا في ذلك الكلام ما يفيده من التردد من هذه الأقسام فلو اعتقد ذلك لاعتقده بغير الكلام وإنما اعتقده لاعتقاده حكمة المتكلم أو ظنه حكمته وإن الحكيم لا بد من أن يريد بخطابه شيئا ما
واحتج من أجاز تأخير البيان من غير أن فصل التفصيل الذي ذكرناه بأشياء عقلية واشياء سمعية والسمعية منها آيات تدل على جواز ذلك ومنها آيات وأخبار تدل على أن البيان قد تأخر من الله سبحانه ومن رسوله صلى الله عليه و سلم والصدر الأول
فأما الأشياء العقلية فأمور
منها أن البيان إنما يجب ليتمكن المكلف من أداء ما كلف والتمكين من ذلك غير محتاج إليه عند الخطاب فانما يحتاج إليه قبل الفعل بلا فصل فلم يجب تقديمه عند الخطاب كما لم يجب تقديم القدرة عند الخطاب الجواب أن مخالفهم يقول يحتاج إلى البيان لما ذكروه وليخرج الخطاب من كونه عبثا أو معزيا بالجهل وكان من حق المشتغل بذكر الدليل أن يذكر ذلك ويفسده يبين ذلك أنه لو لم يفتقر إليه إلا للتمكن من الأداء لجاز أن يخاطبنا الله بما لا نفهم به شيئا أصلا كخطاب الزنج والمستدل يأبى ذلك ويقول لا بد من أن يعرف السامع بالخطاب شيئا ما فإن قالوا ليس في تأخير البيان إيجاب كون الخطاب عبثا لأنه وإن لم يفهم جهة المراد في الخطاب فإنه يفيد وجوب العزم والاعتقاد قيل فيجب أن يجوز خطاب العربي بالزنجية لأنه يفيد العزم والاعتقاد إذا كان المتكلم سيدا لسامع أو علم السامع أو ظن حكمته وعلى أنه إنما يجب العزم والاعتقاد لو علم أن ما خاطبه به أمر ومن يجيز تأخير بيان العموم وكل ما له ظاهر لا يأمن أن تكون صيغة الآمر لم تستعمل في الأمر

وأنه يبين له ذلك فيما بعد
ومنها قولهم ليس في تأخير بيان المجمل إغراء بالجهل ففارق تأخير بيان العموم ولمخالفهم أن يقول إنه وإن فارقه من هذه الجهة فإنه لا يمتنع أن يختص بكونه عبثا إذا تأخر بيانه على حسب ما يذكرونه
ومنها قولهم لو قبح تأخير البيان لقبح تأخير الزمان القصير وإن عطف جملة من الكلام على جملة أخرى ويبين الأولى عقيب الثانية ولقبح البيان بالكلام الطويل ولمخالفهم أن يقول إنما يحسن تأخير مدة لا يخرج الكلام معها من أن يكون مترقبا يرجو فيه السامع زيادة شرط وتقييد بصفة وهذا غير حاصل في الزمان القصير ولهذا جاز أن يتكلم الإنسان بما لا يفهم ثم يبينه بعد زمان قصير ولا يجوز قياسا على ذلك أن يبينه بعد زمان طويل والكلام وإذا عطف بعضه على بعض جرى مجرى الجملة الواحدة فبيان الجملة الأولى عند آخر الكلام يجري مجرى بيانها عقبيها وأما الفعل الطويل والكلام الطويل فانما يجوز وقوع البيان بهما مع إمكان البيان بالكلام القصير إذا كان في ذلك زيادة مصلحة ومعلوم أنه يحسن بيان ما لا يفهم به شيء أصلا بمثل ذلك ولا يجوز قياسا عليه تأخير بيانه الزمان الطويل
ومنها قولهم لو قبح تأخير البيان لكان وجه قبحه فقد تبين المكلف وذلك يقتضي قبح الخطاب إذا لم يتبينه المكلف وإن بين له وسواء أتى في ذلك من قبيل نفسه أو من قبيل غيره ألا ترى أن الإنسان يسقط تكليفه إذا مات سواء أماته الله أو قتل نفسه ولمخالفهم أن يقول إنما قبح تأخير البيان لأن فيه فقد التمكين من التبين لا فقد التبين وهذا غير قائم إذا بين له فلم يتبين لتقصير منه في النظر وأما الميت فإنما سقط عنه التكليف لفقد تمكنه من الفعل سواء قتل نفسه أو أبطل الله سبحانه حياته وعلى أن ذلك منتقض بدنو حال الفعل لأنه لا يجوز أن لا يبين له وإن كان لو بين له فلم يتبين لم يوجب ذلك قبح التكليف ولا قبح البيان
ومنها قولهم لو قبح تأخير بيان المجمل لكان وجه قبحه أنه لا يمكن

السامع له أن يعرف به كمال المراد ولو قبح لذلك لقبح تأخير بيان النسخ وبيان كون المكلف غير مراد بالخطاب إذا كان المعلوم أنه يعجز أو يموت وهذه الدلالة صحيحة وقد أجاب قاضي القضاة عنها بأن تأخير النسخ وبيان كون المكلف غير مراد بالخطاب لا يخل بالمعرفة بصفة ما كلفناه فلا يخل بالتمكن من الفعل في وقته وليس كذلك تأخير بيان صفة العبادة لأن الجهل بصفتها لا يمكن معه أداؤها في وقتها ولقائل أن يقول وكذلك تأخير بيان صفة العبادة عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة لا يخل بأداء العبادة في وقتها
ومنها قولهم لو قبح تأخير بيان العموم لقبح تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المكلف للعبادة أو تأخير بيان التخصيص يخل العلم باستغراق العموم الأشخاص كما أن تأخير بيان النسخ يخل بالعلم باستغراق الخطاب والأوقات والجواب أنه لا يجوز بيان ذلك كله إلا مع الإشعار بالنسخ وتجويز كون المكلف ممن يموت والإشعار بالتخصيص وقد تقدم بيان ذلك وقد فصل قاضي القضاة بين تأخير بيان النسخ وبين بيان التخصيص بأن الخطاب المطلق معلوم أن حكمه مرتفع لعلمنا بانقطاع التكليف وليس كذلك التخصيص ولقائل أن يقول إن الله عز و جل لو قال صلوا كل يوم جمعة لكن ظاهره يقتضي الدوام ولوجب أن يخرج منه ما بعد الموت لدلالة ويبقى الباقي على ظاهره فان جاز أن يكون حكم الخطاب مرتفعا مع الحياة والتمكن ولا يدل الله سبحانه على ذلك وإن كان ظاهر الخطاب يتناوله جاز مثله في العموم إن قيل إنما جاز تأخير بيان النسخ لأنه بيان ما لم يرد بالخطاب قيل ولم إذا كان كذلك جاز تأخيره وعلى أن تأخير التخصيص هو تأخير بيان ما لم يرف بالعموم فلا فرق بينهما فإن قيل إن التخصيص وإن كان بيان ما لم يرده المتكلم بالعبادة فان تأخيره يقدح في العلم بمن أراده المتكلم بالخطاب لأنا إذا جوزنا أن يكون قد أريد بالعموم بعض لم يبين لنا لم نأمن في كل شخص أن يكون ما أريد بالخطاب وفي ذلك شكنا في الأشخاص الذين أرادهم المتكلم قيل هذا قائم في النسخ لأن الخطاب إذا أفاد ظاهره إيجاب الصلاة في كل يوم جمعة وجوز تأخير بيان النسخ قطعا على أن الصلاة في الجمعة الأولى مراده

لأن النسخ لا يجوز أن يتناولها ويجوز فيما بعدها أن يكون غير مراده في ذلك شكنا فيما أريد منا من الصلاة في الجمع المستانفة وعلى أنا نجوز أن يأمر الله سبحانه المكلفين بالأفعال مع أن كل واحد منهم يجوز أن يموت قبل وقت الفعل فلا يكون مراده بالخطاب وفي ذلك شكنا فيمن أريد بالخطاب وهذا هو تخصيص لم يتقدمه بيان
وأما ما استدلوا به من جهة الكتاب جواز تأخير البيان فأشياء
منها قوله عز و جل إن علينا جمعه وقرآنه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ومعنى قرأناه أنزلناه عليك لأنه قال فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ولا يمكن أن يعقب الإتباع إلا لإنزال القرآن وقال بعد ذلك ثم إن علينا بيانه وثم للتراخي دل على أن البيان إنما يجب متراخيا عن الإنزال والجواب أن قوله سبحانه ثم إن علينا بيانه يرجع إلى جميع المذكور وهو القرآن وجميعه لا يحتاج إلى بيان ويجب صرف البيان ها هنا إلى غير ما اختلفنا فيه فليس هم بأن يحملوا البيان ها هنا على بيان المجمل والعموم لأن الظاهر من إطلاق اسم البيان بأولى من أن نتمسك بالظاهر من رجوع الكناية إلى جميع القرآن ويكون البيان ها هنا إظهاره بالتنزيل أو نحمله على البيان المفصل لأنا نجيز تأخيره على ما بيناه ويجوز أن يكون قوله ثم أن علينا بيانه يتراخى عن فائدة قوله إن علينا جمعه وقرآنه فكأنه يجمعه في اللوح المحفوظ ثم ينزله ويبينه وذلك متراخ عن الجميع
ومنها قوله عز و جل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه والجواب أن ظاهر ذلك يمنع من تعجيل نفس القرآن لا بيانه ومعنى ذلك لا تعجل بأداء القرآن عقيب سماعه حتى لا يختلط عليه سماعه بأدائه
فأما ما استدلوا به على أن البيان قد تأخر لأشياء

منها أن الله سبحانه لما أنزل قوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال ابن الزبعري فقد عبدت الملائكةوعبد المسيح أفهؤلاء حصب جهنم فتأخر بيان ذلك حتى أنزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية الجواب أن البيان قد كان حاضرا ولكن القوم لم يتبينوا لعنادهم لأن الله سبحانه قال إنكم وما تعبدون وما لما لا يعقل فلم يدخل فيه المسيح والملائكة
ومنها أن الله سبحانه لما أمر بني إسرائيل بذبح بقرة أراد بقرة موصوفة غير منكورة ولم يبينها لهم حتى سألوا سؤالا بعد سؤال والدلالة على أنه لم يرد بقرة مذكورة أن قولهم ادع لنا ربك يبين لنا ما هي و ما لونها وقول الله تعالى إنه يقول إنها بقرة لا فارض و إنها بقرة صفراء و إنها بقرة لا ذلول ينصرف إلى ما أمروا من قبل وهذا يمنع من كون هذه الأقاويل تكاليف ممدودة قالوا وليس لكم أن تقولوا إن قوله إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة يفيد سقوط الفرض بذبح أي بقرة شاؤوا وذلك يقتضي أن يكون إيجاب كونها صفراء إيجابا مجردا وكان ذلك مصلحة بشرط تقدم الأمر بالمذكور وعصيانهم فيها لأن الظاهر وإن كان ما ذكرتم فالظاهر من هذه الكنايات رجوعها إلى ما أمروا من قبل بذبحه والتمسك بظواهر هذه الكنايات مع كثرتها وترك ظاهر واحد وتأويله أولى من التمسك بظاهر واحد وترك عدة ظواهر والجواب أن سؤالهم عنها يدل على أن موسى كان قد أشعرهم بأن البقرة غير منكورة ولولا ذلك ما خفى عليهم أنها مطلقة ولمخالفهم أيضا أن يقول لا يمتنع أن يكون البيان قد كان تقدم فلم يتبينوا وأيضا فيمكن أن يقال إن خروج هذا الكلام مخرج الذم

لهم وقول ابن عباس رضي الله عنه بنو إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم يدل على أن البقرة التي أمروا ابتداء بذبحها كانت مذكورة وأنهم كلفوا بعد ذلك تكليفا مجردا ذبح بقرة صفراء
ومنها أن الله سبحانه قال واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى وبين النبي صلى الله عليه و سلم أن السلب للقاتل و أن بني أمية لم يدخلوا في ذوي القربى فالجواب أنه لا يمتنع أن يكون البيان المجمل أو المفصل قد كان تقدم
ومنها أن الملائكة قالت لإبراهيم عليه السلام إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ولم يبينوا أنهم لم يريدوا لوطا والمؤمنين حتى سألهم فقالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه وأهله والجواب أنهم قد بينوا ذلك بقولهم إن أهلها كانوا ظالمين لأن ذلك لا يدخل فيه من لم يظلم ولو لم يكن ذلك بيانا لم يمنع أن يكونوا أرادوا في الحال بيان ذلك فبادرهم بالسؤال
ومنها ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه و سلم اقرأ قال وما أقرأ يقولها ثلاث مرات ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق قالوا فأخر بيان ما أمره به والجواب أن هذه الرواية من أخبار الآحاد فلم يصح التعلق بها ها هنا وأيضا فإن الأمر إن كان على الفور فقد اقتضى الفعل في الثاني وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الفعل وإن لم يكن الأمر على الفور فإنه يفيد جواز الفعل في الثاني وتأخير البيان عنه تأخير له عن وقت الحاجة فلا بد لنا ولهم من ترك الظاهر

ومنها قولهم إن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن الصلاة لم يبينها في الحال وانتظر مجيء الوقت حتى يبينها بالفعل ولم يبين آية الحج إلا حين حج وقال خذوا عني مناسككم والجواب أنه لا يمتنع أن يكون قد أشعر بأن المراد بالصلاة ليس هو الدعاء بل هو شيء آخر قد انتقل اسم الصلاة إليه ولولا هذا الإشعار لما سأل السائل عن الصلاة بل كان يحمل الصلاة على الدعاء ولا يمتنع أن يكون قد بينها من قبل بالقول وأخر بيانها بالفعل إلى وقتها ليتأكد البيان وأما الحج فقد بينه قولا قبل أن يحج ولهذا حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن المزابنة فلما شكت الأنصار إليه أرخص لهم في العرايا ضرب من المزاينة وهذا تأخير بيان والجواب أنه يجوز أن يكون بين لهم ذلك بيانا مجملا أو مفصلا فلم يتبينوه على أن قوله أرخص لهم في العرايا استثناء وشرع في إباحة العرايا وفي ذلك كون هذه الإباحة نسخا متقدما فمنى أجاز تأخير بيان النسخ لم يلزمه هذا الكلام ومن لم يجز ذلك إلا بالإشعار يقول قد كان أشعرهم بأنه سيعرض للحظر نسخ
ومنها أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلالة فقال يكفيك آية الصيف فكان عمر يقول اللهم مهما شئت فان عمر لم يتبين والجواب أنه لا يمتنع أن يكون البيان لم يتأخر ولكنه لم يتبين ولا بد للمستدل من أن يقول ذلك لأن الحاجة قد كانت حضرت
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم أنفذ معاذا إلى اليمن ليعلمهم الزكاة وغيرها فسألوه عن الوقص فقال ما سمعت فيه شيئا من رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أرجع إليه فأسأله فعلم أن بيان ذلك لم يكن تقدم والجواب أنه يجوز أن يكون البيان قد كان تقدم ولم يتبينه معاذ على أن بيان ذلك هو بالبقاء على حكم

العقل في أن لا زكاة في الوقص ولا في غيره إلا ما استثناه الشرع وقول معاذ حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج على سبيل الإظهار لأن الإنسان قد يستظهر في السؤال عما يعمله سيما وقد كان يجوز معاذ أن يكون قد تجدد في ذلك شرع لم يعلمه على أنه لو لم يكن الجواب في ذلك ما ذكرناه لدل على أن البيان قد تأخر عن وقت الحاجة لأن معاذا بعث إلى اليمن ليأخذ منهم الزكاة وليعلمهم ما يجب عليهم وكان يجب عليهم أن يعلموا منه فالحاجة قد كانت حضرت
ومنها قولهم قد وردت أخبار مستفيضة في بيان آيات من القرآن وإنما تستفيض بعد مدة وفي ذلك تأخير بيانها عنا إلى أن يستفيض الخبر والجواب أن بيان القرآن منه ما لا يجوز نقله إلا مستفيضا وهو ما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن وليس يمتنع أن يستفيض ذلك في حالة استفاضة نقل القرآن وإن كان نقل القرآن امتد استفاضة ومنه ما يجوز نقل بيانه بالآحاد وهو ما للظن فيه مدخل وليس يجب أن يستفيض ذلك فيقال إنما يستفيض في مدة فيتأخر فيها البيان
ومنها أن الصحابة رضوان الله عليهم نقلت أخبارا عند نزول الحاجة إليها وهي مخصصة للعموم كالخبر في أخذ الجزية من المجوس وغير ذلك فلو لم يجز تأخير البيان لما نقلت ذلك والجواب أن من منع من تأخيرالبيان من يجوز أن لا يستمع المكلف بالخبر الخاص ويقول يلزمه البحث والطلب إذا حوفه الخاطر يجوز أن يكون في الأدلة ما يخصص العموم فلا سؤال عليه

باب فيمن يجب أن يبين له المراد بالخطاب وفيمن لا يجب أن يبين له
أعلم أن ظاهر الأمر إذا تناول أفعالا من جماعة فإنه يجوز أن يريد المتكلم جميعهم ويجوز أن يريد بعضهم ويجوز أن يريد جميع تلك الأفعال ويجوز أن يريد بعضها دون بعض فاذا صدر من الله سبحانه ما ظاهره الأمر بأفعال ولم

يدل الأمر على مراده من تلك الأفعال كان ذلك صربان أحدهما أن يكون الاسم المتناول الأفعال مجملا كقوله تعالى أقيموا الصلوة والآخر يكون الاسم ينبىء عن صفتها لكنه عام أريد بعضه كقوله تعالى فاقتلوا المشركين وهو لا يريد بعضهم ويجب في كلا الضربين أن يبين الله تعالى مراده لمن أراد أن يفهم الخطاب دون من لم يرد أن يفهمه أما من أراد أن يفهمه فانه لو لم يبين له المراد مع أنه لا سبيل له إلى ما كلف من الفهم إلا بالبيان كان قد كلف ما لا سبيل له إليه وأما من لم يرد أن يفهم الخطاب فانما لم يجب أن يبين له المراد لأنه لا وجه لوجوب بيان المراد إلا كونه تمكينا مما أريد من فهم المراد وهذا غير قائم لمن يرد الله سبحانه أن يفهم مراده بالخطاب وما ليس له وجه وجوب فليس بواجب ولهذا لما لم يكن للأقدار وجه وجوب إلا كونه تمكينا من الفعل لم يلزم أن يقدر الله سبحانه على الفعل من لم يكلفه فعله ولهذا لم يجب في حكمة الله أن يبين لنا مراده بالكتب السالفة
فأذا ثبت ذلك فالذين أراد الله سبحانه منهم فهم خطابه ضربان أحدهما أراد منهم فعل ما تضمنه الخطاب إن كان ما تضمنه الكتاب فعلا والآخر لم يرد منهم فعل ما تضمنه والأولون هم العلماء وقد أراد الله سبحانه أن يفهموا مراده بآية الصلاة وأن يفعلوها والآخرون هم العلماء في أحكام الحيض قد أريد منهم الخطاب ولم يرد منهم فعل ما تضمنه الخطاب
والذين لم يرد الله سبحانه أن يفهموا مراده ولم يوجب ذلك عليهم ذلك ضربان أحدهما لم يرد منهم أن يفعلوا ما تضمنه الخطاب والآخر أراد منهم الفعل فالأولون هم أمتنا مع الكتب السالفة لأن الله سبحانه ما أراد أن يفهموا مراده بها ولا أن يفعلوا مقتضاها والآخرون هم النساء في أحكام

الحيض لأن الله سبحانه أراد منهن التزام أحكام الحيض بشرط أن يفتيهن المفتي وجعل لهن سبيلا إلى ذلك بما علمنه من دين النبي صلى الله عليه و سلم من وجوب الرجوع إلى العلماء أو لم يرد منهن على سبيل الإيجاب فهم المراد بالخطاب لأنه لم يوجب عليهن سماع أخبار الحيض فضلا عن الفحص عن بيان مجملها وتخصيص عامها

باب جواز إسماع المكلف العام دون الخاص
منع أبو الهذيل وأبو علي رحمهما الله من ان يسمع الحكيم خطابه العام المكلف من دون أن يسمعه ما يدل من جهة السمع على تخصيصه وما لا يشغله عن سماع العام حتى يسمع الخاص معه وأجازا أن يسمعه العام المخصوص بأدلة العقل وإن لم يعلم السامع أن في أداة العقل ما يدل على تخصيصه وأجاز أبو إسحق النظام وأبو هاشم رحمهما الله أن يسمعه العام من دون أن يعرف الخاص سواء كان ما يدل على تخصيصه دليلا عقليا أو سمعيا وهو ظاهر مذهب الفقهاء والدليل على ذلك أن العموم المخصوص يمكن المكلف اعتقاد تخصيصه إذا سمع بالدليل المخصص كما يمكنه ذلك إذا لم يسمع به فجاز غسماعه العام وإن تكلف اعتقاد تخصيصه في الحالين لأنه فيهما متمكن مما كلف إن قبل ولم زعمتم أنه يمكنه اعتقاد التخصيص إذا لم يسمع المخصص قيل لأن الله سبحانه يخطر بباله جواز كون المخصص في الشرع فيشعره بذلك فيجوزه فاذا جوزه وجب عليه طلبه كما يلزمه المعرفة عندما يخاف بالخاطر وإذا قلب المخصص ظفر به فاذا نظر فيه اعتقد التخصيص وبمثل هذه الطريقة يعلم التخصيص إذا كان المخصص دليلا عقليا إن قيل دلالة العقل حاضرة عند السامع للعموم فأمكنه العلم بالتخصيص وليس كذلك المخصص السمعي إذا لم يسمعه قيل لا فرق بينهما لأن كثيرا من المذاهب لا يشعر الإنسان بأن عليها دليلا عقليا بل ربما استبعد أن يكون عليها دليلا عقليا كما لا يعلم أن

على كثير من المذاهب دلالة شرعية فكما جاز أن يكلف طلب أحدهما بالخاطر جاز مثه في الآخر
واحتج الأولون بأشياء
منها أنه لو أسمع الحكيم غيره العام دون الخاص لكان قد أغراه بالجهل وهو اعتقاد استغراقه وإباحة ذلك وهذا قبيح والجواب أنه يلزم عليه أن يكون قد أغراه بالجهل إذا كان المخصص عقليا وعلى أن لا يكون مغريا له بالجهل إذا أشعره بالمخصص وأخطر ذلك بباله وخوفه من ترك طلبه
ومنها أنه لو اسمعه من دون الخاص لجرى مجرى خطاب العربي بالزنجية والجواب أن ذلك دعوى والفرق بينهما أن العربي لا يفهم الزنجية ولا يتمكن من فهمها إذا لم يكن من يفسرها له وليس كذلك من خوطب بالعام ويجوز كون المخصص في الشرع وما قالوه يلزمهم مثله إذا كان المخصص عقليا
ومنها أنه لو جاز أن يسمعه العام دون الخاص لجاز أن يسمعه المنسوخ دون الناسخ والمجمل دون البيان والجواب أنه يجوز ذلك إذا أشعره بالناسخ والبيان وكان أبو على ربما سوى بين إسماع العموم من دون المخصص وبين إسماع المنسوخ من دون الناسخ وربما لم يجز ذلك في العموم وأجازه في الناسخ والأولى التسوية بينهما في المنع والجواز
ومنها انه لو اسمعه العام دون الخاص للزم المكلف الوقف حتى يفحص عن المخصص وفي ذلك دخول في قول أصحاب الوقف والجواب أنه يلزم مثله في المخصص العقلي وأيضا فليس في ذلك دخول في قول أصحاب الوقف لأن أصحاب الوقف يقفون في العموم مع علمهم بتجرده عن القرائن ونحن لا نقف فيه والحال هذه
ومنها قولهم إن الإنسان يلزمه العمل بما يعلمه من الأدلة الشرعية ولا يلزمه طلبها ألا ترى أنه يلزمه أن يعمل على ما في عقله ولا يلزمه أن يتوقف

ويجوب البلاد ليعلم هل بعث نبي ينقله عما في عقله أم لا فكذلك ينبغي إذا سمع أن يعتقد استغراقه ولا يلزمه طلب ما يخصصه صيغة العموم فلو جاز أن يسمع العام دون الخاص لكان مباحا له أن يعتقد استغراقه وفي ذلك إباحة الجهل والجواب أنه يلزمهم مثله في العموم إذا كان المخصص عقليا وأيضا فان هذا يدل على جواز أن يسمع الله تعالى المكلف العام ولا يسمعه الخاص ويجوز له أن يعمل على ذلك من غير أن طلب الخاص كما يجوز أن لا يعرفه الله سبحانه أنه قد بعث نبيا فلا يلزمه طلبه بل يعمل على ما في عقله فشبهتهم قد دلت على ما نتفق نحن وهم على فساده وهو جواز ألا يسمع الخاص ولا يلزمه الطلب له وأيضا فان الذي ذكروه هو أنه لا يجب على الإنسان أن يطوف البلاد ويسأل هل بعث نبي أم لا بل يفعل بحسب ما في عقله ونظير هذا إذا سمع المكلف العام أن لا يلزمه أن يطوف البلاد بطلب المخصص وكذلك نقول فإنا نوجب عليه العمل على العام فإن كان مخصوصا فإنما يلزمه تخصيصه بشرط أن يبلغه المخصص فأما إذا سمع بنبي في بلد فإنه يلزمه أن يسأل عنه كما يلزمه أن يسأل عما يخصص العموم في بلده فإن قيل فإن كان العموم ناقلا عما في العقل وكان العمل به قد حضر وضاق الوقت عن طلب المخصص ما الذي يلزمه قيل الأشبه أن يلزمه العمل على العموم لأنه لو لم يجز ذلك لم يسمعه الله سبحانه قبل تمكينه من المعرفة بالمخصص فيجب عليه العمل على العموم ثم يطلب المخصص فيما بعد ويحتمل أن يقال يعمل على ما في عقله لأن من شرط العمل على العموم أن يعلم فقد المخصص وهذا غير حاصل ويجوز أن يكون له مصلحة في سماع العموم في ذلك الوقت

الكلام في الأفعال
باب في ذكر فصول الأفعال
اعلم أن الغرض بالكلام في أفعال النبي صلى الله عليه و سلم أن ننظر هل تدل على حكم من الأحكام وإن دلت فعلى أي حكم تدل وذلك يقتضي أن نقسم الأفعال في الجملة بحسب أحكامها من الحسن والقبح وما يتفرع عليها ثم ننظر هل يشترك القادرون في إيقاع تلك الأقسام أم لا ثم ننظر هل يدل الفعل أو السمع على وجوب أفال مثل أفعال النبي صلى الله عليه و سلم علينا وهل إن دل السمع على ذلك فعلى أي وجه يدل ولما افتقرنا في ذلك إلى معرفة الناس والاتباع وغير ذلك وجب ذكر ذلك قبل النظر في الطريق إلى أن أفعال النبي صلى الله عليه و سلم على الوجوب وبعد ذلك كله نقسم الوجوه التي تقع عليها أفعاله صلى الله عليه و سلم ونذكر الطريق إليها ثم نذكر ما يدل عليه افعاله صلى الله عليه و سلم المتعلقة بغيره ثم نتكلم في أفعاله صلى الله عليه و سلم إذا تعارضت أو عارضت خطاب الله سبحانه أو خطابه ما حكمهما وهل يقع بينهما تخصيص ونسخ أم لا وعند ذلك يأتي على غرضنا في دلالة أفعاله صلى الله عليه و سلم على ما يدل عليه وعلى توابع هذا الغرض
باب في قسمة افعال المكلف إلى أحكامها
اعلم أنا نقسم الأفعال ها هنا ضروبا من القسمة أحدها تقسيمها بحسب

أحكامها في الحسن والقبح والآخر بحسب تعلق أحكامها على فاعليها وغير فاعليها والآخر بحسب كونها شرعية وعقلية وكونها أسبابا في أحكام أفعال أخر
أما الأول فهو أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة تكليف وإما أن يكون على حالة تكليف فالأول نحو فعل الساهي والنائم والمجنون والطفل وهذه الأفعال لا يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح وإن كان قد تعلق بها وجوب ضمان وأرش جنايه في مالهم ويجب إخراجه على وليهم والثاني ضربان أحدهما أن يكون مما ليس للقادر عليه المتمكن من العلم به أن يفعله وإذا فعله كان فعله له مؤثرا في استحقاق الذم فيكون قبيحا والضرب الآخر أن يكون لمن هذه حاله فعله وإذا فعله لم يكن له تاثير في استحقاق الذم وهو الحسن والقبيح ضربان أحدهما صغير والآخر كبير والصغير هو الذي لا يزيد عقابه وذمه على ثواب فاعله ومدحه والكبير هو ما لا يكون لفاعله ثواب أكثر من عقابه ولا مساو له والكبير ضربان أحدهما يستحق عليه عقاب عظيم وهو الكفر والآخر يستحق عليه دون ذلك القدر من العقاب وهو الفسق وذكر الشيخ أبو عبد الله أن أهل العراق يقسمون القبيح إلى المحرم والمكروه وإلى ما الأولى أن لا يفعل وإلى ما لا بأس بفعله فالأول كأكل الميتة وشرب الدم وكل ما لم يكن طريق قبحه مجتهدا فيه والمكروه نحو كثير من سؤر السباع وكل ما كان طريق قبحه مجتهدا فيه وأما ما الأولى ألا يفعل فهو استعمال سؤر الهر عند أبي حنيفة وأما الذي لا بأس به فهو ما فيه أدنى شبهة كاستعمال أسآر كثير مما يؤكل لحمه فأما ما لا شبهة فيه كالماء فانه لا يقال لا بأس به وأما الشافعي فانه يصف الشيء بأنه مكروه إذا كان طريق قبحه مقطوعا به وأما الحسن فضربان أحدهما إما أن لا يكون له صفة زائدة على حسنه تؤثر في استحقاق المدح والثواب فيكون في معنى المباح وإما أن يكون له صفة زائدة على حسنه لها مدخل في استحقاق المدح وهذا القسم إما أن لا يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذم وإما

أن يكون له مدخل في استحقاق الذم والأول في معنى الندب الذي ليس بواجب وهو ضربان أحدهما أن يكون نفعا موصلا إلى الغير على طريق الإحسان إليه فيوصف بأنه فضل والآخر لا يكون نفعا موصلا إلى الغير على طريق الإحسان بل يكون مقصورا على فاعله فيوصف بأنه مندوب إليه ومرغب فيه ولا يوصف بأنه إحسان إلى الغير وأما الذي للإخلال به مدخل في استحقاق الذم فضربان أحدهما الإخلال به بعينه مؤثر في استحقاق الذم وهو الواجب على التخيير كالكفارات والقسم الأول ضربان أحدهما لا يراعى في استحقاق ذم المخل به ظنه لإخلال الغير به والآخر يراعي ذلك فالأول هو الواجب على الأعيان والثاني الواجبات على الكفاية كالجهاد وغيره ويقسم غير أصحابنا الواجب إلى الموسع والمضيق فالموسع هو الواجب الجائز تأخيره عن الوقت إلى وقت كالصلاة في أول وقتها والمضيق هو الذي لا يجوز تأخيره عن الوقت الذي هو مضيق فيه كالصلاة في آخر وقتها
وكل قسم من هذه الأقسام يختص بحدود وأوصاف نحن نذكرها
أما القبيح فهو ما ليس للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا ليس له أن يفعله معقول لا يحتاج إلى التفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم وإنما لم نحد القبيح بأنه الذي يستحق من فعله الذم لأن القبيح لو وقع ممن قد استحق فيما تقدم من المدح أكثر مما يستحق على ذلك القبيح من الذم لكان ما يستحقه من المدح مانعا من استحقاق الذم على ذلك القبيح والبهيمة أيضا قد يفعل القبيح عند أصحابنا ولا يستحق الذم والقبيح قد يوصف بأوصاف كثيرة
منها قولنا معصية وإطلاق ذلك في العرف يفيد أنه فعل يكرهه الله سبحانه ويفيد في اصل اللغة فعل يكرهه كاره ومن أصحابنا من شرط فيه كون الكاره أعلى رتبة من العاصي

ومنها وصفه بأنه محظور والحظر يفيد المنع ويفيد في العرف أن الله قد منع منه بالنهي والوعيد والزجر
ومنها وصفه بأنه محرم وذلك يفيد في العرف قبحه وأن الله منع منه بالوعيد والنهي
ومنها وصفه بأنه ذنب ومعناه أن قبيح يتوقع المؤاخذة عليه والعقوبة ولذلك لا توصف أفعال البهيمة والطفل بذلك وربما وصف فعل المراهق بذلك لما لحقه الأدب على فعله
ومنها وصفه بأنه مكروه ويفيد في العرف أن الله سبحانه هو الكاره له
ومنها وصفه بأنه مزجور عنه ومتوعد عليه ويفيد في العرف أن الله سبحانه هو المتوعد عليه والزاجر عنه
وأما الحسن فهو ما للقادر عليه المتمكن من العلم بحاله أن يفعله وأيضا ما لم يكن على صفة يؤثر في استحقاق فاعله الذم أو ما ليس له مدخل في استحقاق فاعله الذم وإذا لم يكن للحسن صفة زائدة على حسنه وصف بأنه مباح ويفيد أن مبيحا اباحه ومعنى الإباحة هو إزالة الحظر والمنع بالزجر والوعد وغيرهما ممن يتوقع منه المنع وإطلاق قولنا مباح يفيد أن الله تعالى أباحه بأن أعلمنا أو دلنا على حسنه ولم يمنع منه ويوصف بأنه حلال وطلق ويفيد ما يفيد وصفنا بأنه مباح ولذلك لم يوصف أفعال الله الحسنة بأنها مباحة وإن كانت حسنة نحو تعذيب من استحق العقاب ومن حق المباح أن لا يستحق على فعله ثواب لأنه لو استحق عليه ثواب كان فعله أولى من تركه ولكان على صفة يترجح بها فعله على تركه ولرغب الله تعالى في فعله وما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبرنا بالرجل يثاب على وطيء أهله أرأيت لو وضعته في حرام فانما يدل على أنه استحق الثواب لعدوله

عن الحرام وقصره نفسه على الحلال وأما استحقاق الإنسان الثواب على إحسانه إلى ولده فلأن ذلك قد يختص بضرب من الكلفة باخراج بعض ماله ولو أنه أحسن إليه ليسر نفسه فقط لم يستحق الثواب إن قيل أليس قد نهى النبي عليه السلام عن صوم الوصال وذلك يقتضي استحقاق الثواب على الأكل مع أنه مباح الجواب أن الأكل والشرب في وقت الإفطار واجبان على من رغب نفسه في الوصال وشق عليه أن لا يفعله فان قيل كيف يكون واجبا وهو يدفع بالأكل مضرة الجوع قيل لأن دفع المضار إذا قابله صوارف دخل في التكليف والوجوب فأما النكاح فإنما صح أن يدخل تحت التكليف مع أنه وصلة إلى الله سبحانه لأنه يختص بالانصراف عن المحظور فكأن الإنسان ندب إلى التزويج ليكون هذا غرضه وليس هذا الغرض لذة بل تقترن بذلك مضرة من حيث يصرف نفسه عن الاسترسال في الحرام والنكاح أيضا وصلة إلى مضرة هي ثلم المال بالإنفاق والزيادة في الكد والانتقال عن خلو القلب إلى شغل القلب وكل هذه مشاق فجاز دخولها تحت التعبد وأما إذا اختص الحسن بصفة زائدة على حسنه استحق لمكانها المدح فلا يستحق بالإخلال به الذم فإنه إذا فعله المكلف وصف بأنه مندوب إليه بمعنى أنه قد بعث عليه وهذا المعنى حاصل في الواجب أيضا إلا أن قولنا مندوب إليه في العرف أنه قد بعث عليه من غير إيجاب وقولنا مرغب فيه أنه قد بعث المكلف على فعله بالثواب ويفيد في العرف ما هذه سبيله مما ليس بواجب ويوصف أنه مستحب ومعناه في العرف أن الله سبحانه قد أحبه وليس بواجب وقولنا نفل يفيد أنه طاعة غير واجبة وأن للإنسان فعله من غير لزوم وحتم وكذلك وصفنا له بأنه تطوع يفيد أن المكلف انقاد إليه مع قربة من غير لزوم وحتم ويوصف بأنه سنة ويفيد في العرف أنه طاعة غير واجبة ولذلك نجعل ذلك في مقابلة الواجب لو قال أهذا الفعل سنة أو واجب وذكر قاضي القضاة أن قولنا سنة لا يختص بالمندوب إليه دون الواجب وإنما يتناول كل ما علم وجوبه أو كونه ندبا بأمر النبي صلى الله عليه و سلم

وبإدامة فعله لأن السنة مأخوذة من الإدامة ولذلك يقال إن الختان من السنة ولا يراد أنه غير واجب وحكي عن بعض الفقهاء أن قولنا سنة يختص بالنفل دون الواجب وهذا أشبهه من جهة العرف ويوصف بأنه إحسان إذا كان نفعا موصلا إلى الغير قصدا إلى نفعه ويوصف بأنه مأمور به لأن أمر الله تعالى قد تناوله فهذه هي الأوصاف التي تختص الندب ومن حق الندب أن يستحق الثواب والمدح بفعله ولا يستحق الذم بالإخلال به ولا العقاب لأنهما لو استحقا على الإخلال بالمندوب إليه لكان واجبا وإنما ذم الفقهاء من عدل عن جميع النوافل لاستدلالهم بذلك على استهانته بالخبر وزهده فيه والنفوس تستنقص من هذه سبيله وأما الواجب فهو ما ليس لمن قيل له واجب عليه الإخلال به على كل حال ودخل في ذلك الواجب المعين والمخير فيه لأنه ليس لنا الإخلال بالواجب حتى نخل به وبجميع ما يقوم مقامه ويحد أيضا بأنه الذي للإخلال به مدخل في استحقاق الذم أو أنه فعل على صفة تؤثر في استحقاق الذم على الإخلال به أو أنه الذي يستحق الذم بالإخلال به ما لم يمنع من ذمه مانع وإنما لم نحده بأنه الذي يستحق من لم يفعله الذم لأن الفعل قد يكون واجبا فيخل به الإنسان فلا يستحق ذما إذا فعل بدله أو إذا كان مستحقا من المدح أكثر مما يستحق على الإخلال بذلك الواجب من الذم أنه لما كان للإخلال بهذا الواجب مدخلا في استحقاق الذم وكان مؤثرا في استحقاقه دخل في الحدود التي ذكرناها ألا ترى أنه لو لم يكن للمخل بالواجب ثواب زائد أو أنه أخل به وبكل ما يقوم مقامه استحق الذم إن قيل أليس لو كان عقاب الإخلال بالإطعام في كفارة اليمين أزيد من عقاب العتق والكسوة لأنه أقل مشقة منهما لكان لا يستحق من أخل بجميعها مع التمكن عقاب ترك الإطعام وإنما يستحق عقاب أقلها عقابا ولو فعل واحدا منهما

لم يستحق عقابا أصلا فقد صار ذم ترك الإطعام لا يستحق أصلا مع أن الإطعام واجب قيل له وإن لم يستحق الذم على الإخلال بالطهام فإن للإخلال به مدخل في استحقاق الذم وهو على صفة مؤثرة فيه لأن هذا القول يقتضي أنه يجوز على بعض الوجوه أن يؤثر الإخلال به في استحقاق الذم وهذه صفة ما ذكرت لأنه لو زاد ذم الإخلال بالعتق أو بالكسوة على ذم الإخلال بالإطعام لا يستحق ذم الإخلال بالإطعام وأيضا فقد بينا فيما تقدم أن ذم أقل الكفارات ذما إذا استحقه المخل بجميعها فإنه يستحقه على إخلاله بجميعها لأنه مخل بجميعها وكلها متساوية في الوجوب وليس يجوز أن يلام على إخلاله ببعضها مع أنه لو أخل به وفعل غيره لم يستحق ذم
فأما الواجب المعين فهو الذي للإخلال به بعينه مدخل في استحقاق الذم كره الوديعة وما أشبهها وأما الواجب المخير فيه فهو الذي للإخلال به وبما يقوم مقامه مدخل في استحقاق الذم أو الذي ليس لمن قيل انه واجب عليه أن يخل به وبما يقوم مقامه أو الذي الإخلال به وبما يقوم مقامه مؤثر في استحقاق الذم كالكفارات الثلاث وأما الواجب على الأعيان فهو الذي لا يقف استحقاق الذم على الإخلال به على ظن لإخلال الغير به وأما الواجب على الكفاية فهو ما وقف استحقاق الذم على الإخلال به على ظن إخلال الغير به وذلك أن من يتمكن من الجهاد إن أخل به وهو يظن أن غيره يقوم به لم يستحق الذم وإن ظن أن غيره لا يقوم به استحق الذم فأما الواجب الموسع والمضيق فقد تقدم ذكرهما ويوصف الواجب بأنه فرض ومعناه أنه قد فرض وجوبه وقدر بأن أعلم وجوبه أو دل عليه ولذلك لا توصف الواجبات من أفعال الله تعالى بأنها فرض وحكى الشيخ أبو عبد الله عن أهل العراق أن الفرض هو الواجب الذي طريق وجوبه مقطوع به وأن الواجب الذي ليس بفرض هو ما كان طريق وجوبه يدخله الأمارات والظنون ولما تقدم من معنى الواجب والنفل لم يجز أن يكون الشيء الواحد واجبا على زيد نفلا منه لأنه يمتنع أن يستحق

الذم على الإخلال به ولا يستحق والوقت واحد وإنما وصف الفقهاء الحجة بأنها نفل ويجب المضي فيها لأنهم عنوا أن ابتدائها نفل والمضي فيها واجب وذلك غير ممتنع
وقد ينفي الفقهاء الوجوب عن بعض أفعال العباد ويعنون بذلك كونه شرطا في العبادة ولذلك قال بعض أصحاب أبي حنيفة إن الطمأنينة في الرطوع والسجود غير واجبة في الصلاة يعنون أنها غير شرط وإلا فهي واجبة عندهم ولذلك يذمون تاركها وقالوا من ترك قراءة فاتحة الكتاب مسيء دون من ترك قراءة سورة غيرها وقد يقول بعض الشافعية إن الحلق في الحج مباح ويعنون أنه ليس بشرط في التحليل ولا يعنون أنه غير مندوب إليه
فأما القسمة الثانية فهي أن الأفعال منها ما لا حكم له كالمباحات ومنها ما له حكم وهو ضربان أحدهما يتعلق ذلك الحكم على فاعله كجناية المكلف على مال غيره والآخر يتعلق ذلك الحكم على غير فاعله وهو ضربان أحدهما يتعلق على غير الفاعل في ماله نحو لزوم الدية على العاقلة والآخر يتعلق على غير الفاعل في مال الفاعل نحو أن يلزم ولي اليتيم إخراج أرش جناية اليتيم من مال اليتيم
وأما القسمة الثالثة فهي أن الأفعال ضربان عقلية وسمعية فالعقلية هي المعروفة أحكامها بالعقل وأما الشرعية فهي التي للشرع فيها مدخل وهو ضربان أحدهما يكون الشرع وحده قد أثبت صورة ذلك الفعل وأثبت التعبد به كالصلاة والآخر أن يكون قد غير شرطا من شرائطه إما بزيادة أو نقصان كالبيع الذي هو معلوم حكمه بالعقل غير أن الشرع لما أثبت فيه شروطا نسبت جمله إلى أنه عمل شرعي والأسباب الشرعية ضربان أحدهما يكون ثبوته وكونه سببا بالشرع نحو فساد الصلاة فانه ثبت بالشرع ويكون سببا في وجوب القضاء بالشرع والآخر يكون ثبوته معلوما بالعقل وكونه سببا لذلك الحكم معلوم بالشرع نحو حؤول الحول

باب في ذكر القادرين الذين يجوز منهم الأفعال الحسنة والقبيحة
اعلم أن كل قادر بما يعلمه العاقل أنه قادر مميز فانه يقدر على إيجاد الأفعال على كل وجه من قبح وحسن ووجوب وغير ذلك وكل قادر فإنا نجوز منه فعل الحسن إلا من أخبر الله ورسوله بأنه لا يفعله فأما القبيح فان الله تعالى لا يفعله لحكمته ولا تفعله ملائكته لأنها معصومة منه وقد أخبر الله تعالى ذلك بقوله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وجماعة الأمة أيضا لا يجوز عليها الخطأ وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فانه لا يجوز عليهم ما يؤثر في الأداء ولا ما يؤثر في التعليم ولا في القبول وهو التنفير ويدخل في الأول أن لا يجوز عليهم الكذب فيما يؤدونه ولا الكتمان ولا السهو في حال الأداء لأن تلك الحال حال تلقى الفروض فوقوع السهو فيها يغري باعتقاد كون العبادة على ما أوردها ويجوز أن يسهو فيما تقدم بيانه ولا بد من إزالة ذلك السهو في الحال ولهذا لما سهى النبي صلى الله عليه و سلم في صلاته لم يعتقد أصحابه رضي الله عنهم أن الصلاة تغيرت بل شكوا في ذلك حتى سأله ذو اليدين ويدخل في الثاني أن يعرف من أمر الدين ما إذا سئل عنه كان عنده جوابه ويجوز أن لا يعرف ما غمض من الشبه ولكن يجب أن يكون ممن إذا سئل عن شبهة أمكنه حلها ويدخل في الثالث أن لا يجوز عليه الكابئر ولا الصغائر المسخفة قبل النبوة وبعدها والكذب في عير ما يؤديه فهو إما كبيرة وإما صغيرة وكلاهما ينفران ويدخل في ذلك أن لا يجوز عليه الفظاظة والغلظة وكثير من المباحات القادحة في التعظيم الصارفة عن القبول ويدخل فيه قول الشعر والكتابة إذ كان معجزة الفصاحة والإخبار عن الغيوب

باب في معنى التأسي والاتباع والموافقة والمخالفة
اعلم أنه لما تعبد بالتأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم وباتباعه وكانت الموافقة والمخالفة تذكران في الاحتجاج في هذه المسائل التي نحن بسبيلها وجب ذكر معاني هذه الألفاظ لنعقلها
أما التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم فقد يكون في فعله وفي تركه أما التأسي به في الفعل فهو أن نفعل صورة ما فعل على الوجه الذي فعل لأجل أنه فعل والتأسي به في الترك وهو أن نترك مثل ما ترك على الوجه الذي ترك لأجل أنه ترك وإنما شرطنا أن تكون صورة الفعل واحدة لأنه صلى الله عليه و سلم لو صام وصلينا لم نكن متأسين به وأما الوجه الذي وقع عليه الفعل فهو الأغراض والنيات فكل ما عرفناه أن غرض في الفعل اعتبرناه ويدخل في ذلك نية الوجوب والنفل ألا ترى أنه لو صام واجبا فتطوعنا بالصوم لم نكن متأسين به وكذلك لو تطوع بالصوم فافترضنا به وإذا لم يكن له في الفعل غرض مخصوص لم يجب اعتباره لأنه لوأزال النجاسة لا لأجل الصلاة لم يجب إذا تأسينا بها في إزالتها أن ننوي به ذلك وقد يدخل المكان في مثل الزمان في الأغراض وقد لا يدخلان فيه فمتى علمنا كونهما غرضين اعتبرناهما وإلا لم نعتبر أمثال ذلك الوقوف بعرفة وصوم شهر رمضان وصلاة الجمعة والزمان والمكان غرضان في هذا الأفعال فاعتبرناهما في التأسي ومثال الثاني أن يتفق من النبي صلى الله عليه و سلم أن يتصدق بيمناه في زمان مخصوص ومكان مخصوص فإنا نكون متأسين به إذا تصدقنا في غير ذلك المكان والزمان وباليد اليسرى وإنما شرطنا أن نفعل الفعل لأنه صلى الله عليه و سلم لو صلى فصلى مثل صلاته رجلان من أمته لأجل أنه صلى لوصف كل واحد منهما بأنه متأس به صلى الله عليه و سلم ولا يوصف كل واحد منهما بأنه متأس بالآخر وإنما قلنا إن التأسي يكون في الترك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو

ترك الصلاة عند طلوع الشمس فتركناها في هذا الوقت لأجل تركه كنا متأسين به وليس من شرط التأسي أن يستفيد المتأسي صورة الفعل ووجهه ممن يتأسى به لأنا موصوفون بأنا نتأسى بالنبي صلى الله عليه و سلم في الصبر على الشدائد والشكر على النعم إذا فعلنا ذلك لأجل فعله وإن لم نستفد صورة ذلك منه ولا وجهه وليس يمتنع أن نفعل ذلك لأجل أنه صلى الله عليه و سلم فعله ولعلمنا بوجوبه أو حسنه من جهة العقل وذكر أبو علي بن خلاد رحمه الله أن الفعل الذي وقع التأسي فيه يجوز كونه حسنا من الثاني قبيحا من الأول لأن نصرانيا لو مشى إلى البيعة ليفعل فيها ما يفعله النصراني فتبعه مسلم ليرد وديعة كانت عنده في البيعة كان متأسيا به والمشي حسن من المسلم قبيح من النصراني وهذا لا يصح لأنه لا يكون متأسيا به مع اختلاف الغرضين
وذكر الشيخ أبو عبد الله رحمه الله أنه ينبغي أن يعتبر المكان الذي وقع الفعل فيه إلا أن يدل دلالة على أنه لا اعتبار به وذكر قاضي القضاة أن اعتبار الزمان والمكان يمنع من التاسي لفوات الزمان ولأنه لا يمكن اجتماع شخصين في مكان واحد في زمان واحد وهذا إنما يمنع من اعتبار زمان معين ولا يمنع من اعتبار مثل الزمان كما ذكرناه في وقت صلاة الجمعة ولا يمنع من اعتبار ذلك المكان في زمان آخر ولا يمنع من اعتباره إذا كان المكان متسعا كعرفة والواجب اعتبار الزمان والمكان بحسب الإمكان إذا علم دخولهما في الأغراض
وذكر قاضي القضاة أنه لا اعتبار بطول الفعل وقصره لأن ذلك لا يمكن ضبطه ولقائل أن يقول يجب اعتبار ذلك بحسب الإمكان إذا علم دخول ذلك في الأغراض
فأما اتباع النبي صلى الله عليه و سلم فقد يكون في القول وقد يكون في الفعل وقد يكون في الترك فالاتباع في القول هو المصير إلى مقتضاه من وجوب أو ندب أو حظر لأجله والاتباع في الفعل أو في الترك هو إيقاع مثله في صورته على وجهه لأجل أنه أوقعه ويمكن أن يقال اتباع النبي صلى الله عليه و سلم هو المصير إلى ما

تعبدنا به على الوجه الذي تعبدنا به لأنه تعبدنا به ويدخل في ذلك القول والفعل والترك وإنما شرطنا في الاتباع ما شرطنا في التأسي لأنه صلى الله عليه و سلم لو صام فصلينا أو صام واجبا فتنفلنا بالصوم أو صمنا لا لأنه صام لو نكن متبعين له في هذه الأحوال كلها
فأما الموافقة فقد تكون في المذهب وقد تكون في الفعل فالموافقة في المذهب هي المشاركة فيما قيل إن الموافقة حصلت فيه فاذا قيل قد وافق فلان فلانا في أن الله يرى جاز أن يكون أحدهما قائلا إن الله يرى بهذه الحاسة والآخر قائلا إنه يرى بحاسة سادسة وإذا قيل وافقه في أن الله يرى بهذه الحاسة أفاد اشتراكهما في القول بالرؤية على هذا الحد وليس من شرط الموافقة في المذهب أن يعتقده أحدهما لاعتقاد الآخر له لأنه قد يقال وافق زيد عمرا في القول بالعدل وإن كان إنما قال بذلك لأجل الدلالة فقط لا لأنه قال به عمرو فأما الموافقة في الفعل فهي المشاركة في صورته ووجهه لأن من صلى لا يكون موافقا لمن صام ومن تنفل بالصلاة لا يكون موافقا لمن افترض بها فأما إذا قيدت الموافقة فقيل قد وافق زيد عمرا في صورة الفعل فانه لا يفيد إيقاعهما على الوجه وليس من شرط الموافقة في الفعل أن يفعل الثاني لأن الأول فعله لأن الموافقة هي المصادفة والمشاركة وقد يكون ذلك إذا فعل الفاعل الفعل لأن الأول فعله وإذا لم يفعله لذلك فانه قد يقال وافقه في الفعل وإن كان إنما فعله للدليل لا لأنه فعله
فأما المخالفة فقد تكون في القول وقد تكون في الفعل فالمخالفة في القول هي العدول عما اقتضاه القوم من إقدام أو إحجام فأما مخالفة الفعل فهي العدول عن امتثال مثله إذا وجب امتثال مثله وإذا لم يجب ذلك لا يقال لمن لم يفعله مثله قد خالفه ولهذا لم يكن إخلال بالصلاة مخالفة إن قيل فيجب أن يكون ترك ذلك الفعل مخالفة للدليل الدال على وجوب المشاركة له

في الفعل ولا يكون مخالفة في الفعل قيل لا يجب ذلك لأن الدليل إذا دل على وجوب مشاركة النبي صلى الله عليه و سلم في فعله فأي فعل فعله كان دليلا على وجوب مثله علينا فصح أن يوصف من لم يفعله بأنه مخالف له
فأما الائتمام فهو الاتباع فاذا أطلق فقيل قد ائتم فلان بفلان في الصلاة أفاد اتباعه فيها على الوجه الذي أوقعها عليه من وجوب أو نفل أو غير ذلك فان اختلف النيتان فنوى أحدهما النفل والآخر الفرض على قول من أجاز ذلك كان الائتمام واقعا في صورة الصلاة لا في الوجوب باب في أنه لا يعلم بالعقل وجوب مثل ما فعله النبي صلى الله عليه و سلم علينا
اعلم أنه لو علم بالعقل ذلك لعلم بالعقل وجه وجوبه لأنه لا يجوز أن يجب ما لا يختص بوجه وجوب ولا يجوز أن يعلم بالعقل وجوب شيء دون شيء إلا وقد علم بالعقل افتراقهما فيما اقتضي وجوب أحدهما وليس يعقل وجه وجوب اتباعه في أفعاله إلا أن يقال إن ما يجب على النبي صلى الله عليه و سلم لا بد من كونه واجبا علينا ويقال إذا لم يتبعه في أفعاله نفر ذلك عنه والأول باطل لأنه إنما تعبد بالفعل لأنه مصلحة له ولسنا نعلم وجه كونه مصلحة فنعلم شياعه في جميع الناس ويفارق ذلك اشتراك المكلفين في وجوب المعرفة بالله لأن وجه وجة وبها يشترك فيه المكلفون لأن كل مكلف يكون مع المعرفة باستحقاق العقاب على الفعل أبعد من مواقعته وأيضا فانه ليس يجب اشتراك المكلفين في المصالح كلها ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قد أبيح له ما لم يبح لنا وأوجب عليه ما لم يوجب علينا والقسم الثاني باطل لأنه إما أن يقال إن التنفير هو مفارقتنا له عليه السلام في جميع أفعاله أو في بعضهما دون بعض والأول يحصل إذا فارقناه فيه من المناكح ووجوب صلاة الليل وغير ذلك والثاني لا يصح أيضا لأنه عليه السلام لو قال لنا اعلموا أني متعبد بما في

العقل إذا ما أؤديه إليكم وما عدا ذلك هو مصلحة لكم دوني لم يكن في ذلك تنفير فكذلك ما ذكرناه وعلى أنه لو ثبت ذلك لم يحصل منه كوننا متعبدين بمثل ما فعله من جهة العقل لأن الذي يقبح هو مفارقته له في جميع أفعاله لا في بعضها دون بعض فلا بد من دليل غير العقل يميز لنا بين ما تعبدنا بعض أفعاله مما لم نتعبد به إن قيل لو لم يلزم الرجوع إلى أفعاله من جهة العقل لم يلزم الرجوع إلى أقواله قيل قد بينا أنا لو كنا متعبدين بالرجوع إلى أفعاله لكان الوجه في ذلك لا يخلو من الوجهين اللذين قد أفسدناهما وليس كذلك أقواله لأن الأقوال موضوعة في اللغة لمعان فالأمر موضوع للوجوب أو للإرادة والنهي يفيد تحريم المنهى عنه والخبر موضوع لما هو خبر عنه والحكمة تقتضي أن من خاطب قوما بلغتهم يعني بالخطاب ما عنوه وهذه الطريقة غير حاصلة في الأفعال فان قالوا لو لم نتبعه في أفعاله كنا قد خالفناه ولا يجوز مخالفته صلى الله عليه و سلم قيل إن مخالفته هي أن لا نفعل ما يجب علينا فعله أو نفعل ما يحرم علينا فعله فعليهم أن يدلوا على أن أفعاله على الوجوب حتى نكون مخالفين له إذا لم نفعلها ألا ترى أنا لا نوصف بمخالفة النبي صلى الله عليه و سلم مما خص به من العبادات والمناكح لما لم يجب علينا اتباعه فيها

باب في أن السمع على الإطلاق لا يقتضي وجوب مثل ما فعل النبي صلى الله
عليه و سلم علينا
لا خلاف بين الأمة غي الاستدلال بأفعال النبي صلى الله عليه و سلم على الأحكام واختلفوا فقال قوم هي أدلة بمجردها وقال قوم هي أدلة إذا عرف الوجه الذي وقعت عليه واختلف الأولون فقال بعضهم هي أدلة بمجردها على الوجوب وقال آخرون بل على الندب وقال آخرون بل على الإباحة فأما من قال إنها أدلة باعتبار الوجه فانه إن علم الطريقة التي اتبعها النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك

الفعل عقلية كانت أو سمعية فهو يرجع إليها في الاستدلال وإن لم يعرف الطريقة فضربان أحدهما أن يكون فعله بيانا لمجمل والآخر لا يكون بيانا لمجمل فان كان بيانا لمجمل فذلك المجمل هو دال على الوجوب أو الندب أو الإباحة وإن لم يكن بيانا لمجمل فانه لا يدل على شيء حتى يعرف الوجه الذي أوقعه عليه فان أوقعه على الوجوب دل على وجوب مثله علينا وإن أوقعه على الندب دل على أن مثله ندب منا فان أوقعه مستبيحا له كان منا مباحا
والذاهبون إلى أن أفعاله دالة بمجردها على الوجوب يحتجون لذلك بالعقل والسمع أما حجاجهم العقلي فأشياء
منها قولهم إن كونه نبيا يقتضي ذلك وإلا نفر عنه والجواب أنا قد بينا من قبل أنه لا تنفير في نفي مشاركتنا له في الفعل ولو ثبت في ذلك تنفير لكان إنما يحصل التنفير إذا لم يجب علينا مثل ما وجب عليه وإذا لم نعلم أن ما فعله واجب عليه فلا تنفير في كونه غير واجب علينا
ومنها قولهم إن الفعل آكد في الدلالة من القول ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يحقق أمره بفعله كما يفعله في الحج والصلاة فاذا أفاد الأمر الوجوب كان الفعل أولى بذلك والجواب أن الفعل آكد في الإبانة عن صفة الفعل من القول للمشاهدة من المزية على الوصف والفعل كالمشاهدة وليس الفعل وصفا للوجوب حتى يكون أدل عليه من الأمر
ومنها قولهم إن الوجوب أعلى مراتب الفعل فوجب حمل فعله عليه والجواب يقال لهم لم إذا كان الوجوب أعلى مراتب الفعل وجب حمله عليه فان قالوا لأنه الاحتياط قيل بل الاحتياط أن يحمل الفعل على الوجوب إذا دلت الدلالة عليه لا غير وإذا لم تدل الدلالة على وجوبه فنحن من ضرر تركه آمنون والخطر حاصل في اعتقاد وجوبه لأنا لا نأمن أن يكون غير واجب فنكون معتقدين اعتقادا لا نأمن كونه جهلا

فأما الاحتجاج السمعي فأشياء
منها احتجاجهم بقول الله عز و جل فليحذر الذين يخالفون عن أمره والتحذير يقتضي وجوب ترك المخالفة لأمره والأمر اسم الفعل والقول فكان عاما فيهما والجواب أنا قد بينا أن قولنا امر لا يقع على الفعل إلا مجازا ولو وقع عليه حقيقة لما تناوله ها هنا لتقدم ذكر الدعاء ولذكر المخالفة ألا ترى أن الإنسان إذا قال لعبده لا تجعل دعائي كدعاء غيري واحذر مخالفة أمري فهم منه أنه أراد بالأمر القول وأيضا مخالفة الأمر هو العدول عن مقتضاه فيجب أن تثبت أن الفعل يسمى أمرا وأن تدلوا على أن الفعل يقتضي الوجوب حتى يحرم تجنبه ويلزم فعله وأيضا فالمخالفة ضد الموافقة وموافقة الفعل إيقاع مثله على الوجه الذي أوقع عليه ويجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم أوقع الفعل على وجه الوجوب حتى يلزم موافقته فيه وقد قيل إن قوله سبحانه فليحذر الذين يخالفون عن أمره قد أريد به الأمر الذي هو القول فلا يجوز أن يراد به الفعل لأن اللفظة الواحدة لا يراد بها معنيان مختلفان وقد قيل إن الهاء في قوله عن أمره عائدة إلى الله تعالى وذلك لأنه أقرب المذكورين فيمتنع أن يدخل تحت الفعل لأنه لا يفعل مثل ما نفعله من العبادات ولقائل أن يقول إن القصد هو الحث على اتباع النبي صلى الله عليه و سلم بقوله لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا فقوله فليحذر الذين يخالفون عن أمره هو من تمام الفرض فيجب صرفه إلى أمر النبي صلى الله عليه و سلم
ومنا قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر قالوا وقوله لمن كان يرجو الله واليوم

الآخر تهديد يدل على وجوب التأسيس به في فعله الجواب أن ذلك ليس بتهديد لأن الإنسان قد يرجو المنافع كما يرجو دفع المضار ولو كان ذلك تهديدا لدل على وجوب التأسي وقد بينا أن التأسي في الفعل هو إيقاعه على الوجه الذي أوقعه عليه فالآية إذن تدل على ما نقوله وقد قيل إن قوله لكم ليس من الفاظ الوجوب ولو دل على الوجوب لقال عليكم والجواب أنه لا يصح الاستدلال بذلك على نفي الوجوب لأن معنى قولنا لنا أن نفعل كذلك هو أنه لا حظر علينا في فعله والواجب ليس بمحظور فعله
ومنها قول الله سبحانه أطيعوا الله وأطيعوا الرسول قالوا فدخل فيه طاعته في قوله وفعله والجواب أن طاعة الرسول هو فعل ما أراده وأمر به فيجب أن تدلوا على أنه قد أراد بفعله أن نفعل مثله في الصورة وإن لم نعلم الوجه الذي دخل تحت الظاهر
ومنها قول الله عز و جل ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله ما آتاكم يدخل فيه الفعل والجواب يقال لهم ما معنى قوله ما آتاكم فان قالوا معناه ما أعطاكم أي ما تعدى إليكم بالأمر والإلزام قيل لهم فالفعل ليس بأمر فان قلتم هو إلزام لنا أن نفعل مثله قيل دلوا على ذلك وهو موضع الخلاف على أن قوله عز و جل وما نهاكم عنه فانتهوا يدل على أنه عنى بقوله ما آتاكم ما أمركم على أن الإتيان إنما يتأتى في القول لأنا نحفظه وامتثاله يصير كأننا أخذناه وكأنما عز و جل أعطاناه

ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خلع نعله في الصلاة خلع من كان خلفه نعله وهذا لا يدل لأنه لا يعلم أنهم فعلوا ذلك واجبا ولا يمتنع أن يكونوا لما رأوه قد خلع نعله مع امره بأخذ الزينة بالصلاة علموا أن خلعها متعبد به غير مباح لأنه لو كان مباحا ما ترك به المسنون في الصلاة على أنه صلى الله عليه و سلم قد قال لهم لم خلعتم نعالكم فقالوا لآنك خلعت نعلك فقال إن جبريل أخبرني أن فيها أذى فدل بذلك على أنه ينبغي أن يعرفوا الوجه الذي أوقع عليه فعله ثم يتبعوه وهذا هو قولنا
واحتج القائلون بأن أفعاله ليست على الوجوب بأشياء
منها أنه لو وجب علينا مثل ما فعله لكان على وجوبه دليل وقد بينا أنه لا دليل على ذلك عقلي أو سمعي فلم تكن واجبة علينا
ومنها أن ما دل على اتباعنا لأفعاله هو قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقوله فاتبعوه وقد بينا أن التأسي هو إيقاع ما أوقعه على الوجه الذي أوقعه عليه وكذلك اتباعه فيه فما دل على اتباعه دل على اعتبار الوجه ولقائل أن يقول إن دليل التأسي والاتباع قد اقتضى إيقاع ما أوقعه على الوجه الذي أوقعه فمن اين أن ما لا يعلم الوجه فيه لا يجب علينا فعله فان قلتم إنه لا دليل على الاتباع والتأسي إلا هاتين الآيتين قيل فإذن الدال على أنه لا يجب فعله علينا من غير اعتبار الوجه هو فقد الدليل وهذا هو رجوع إلى الدليل الأول
ومنها أنه لا يخلو إما أن يجب مثل فعله علينا باعتبار الوجه الذي أوقعه عليه أو من غير اعتبار الوجه فان وجب باعتبار الوجه فهو قولنا وإن وجب

من غير اعتبار الوجه لزم أن يجب علينا وإن علمنا أنه أوقع الفعل على وجه الندب والإجماع وما وجب على التأسي به يمنعان من ذلك ولقائل أن يقول ما تنكرون أن يكون مصلحتنا أن نفعل لا محالة مثل ما فعله إذا لم نعلم الوجه الذي أوقوع الفعل عليه وإذا عرفنا أنه أوقعه لا على وجه الوجوب كان فعلنا له واجبا مفسدة ألا ترى أن التصريح بالتعبد لو ورد بذلك لشاع وليس لأحد أن يقول إذا كنا قد عرفنا أنه تنفل بالفعل كان فعلنا لمثله على وجه الوجوب مفسدة فيجب إذا أوقعناه على وجه الوجوب ونحن لا نعلم الوجه الذي أوقعه عليه أن نكون مقدمين على ما نأمن من كونه مفسدة لتجويزنا كون النبي صلى الله عليه و سلم متنفلا به لأن للمخالف أن يقول إيقاعنا الفعل على الوجوب إذا لم نعلم الوجه الذي أوقع النبي صلى الله عليه و سلم الفعل هو المصلحة وإن أوقعه على وجه الندب وإذا علمنا ذلك من حاله فإيقاعنا له على وجه الوجوب مفسدة
ومنها أنه لودل فعله على وجوب مثله علينا لدل ذلك مطلقا من غير اعتبار وقت لأنه لا يمكن أن يدل على وجوب مثله في ذلك الوقت بعينه لتعذر فعل مثله علينا في ذلك الوقت ولا يمكن أن يدل على وجوب مثله في مثل ذلك الوقت لأنه ليس بأن يدل على ذلك أولى من أن يدل على وجوب مثله في أقرب الأوقات إليه فصح أن لو دل على وجوب مثله لدل عليه مطلقا فوجب إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم فعلا ثم تركه وفعل ضده أن يدل فعله وفعل ضده على وجوب الفعل وضده علينا في حالة واحدة وذلك يستحيل ولا يلزم على ذلك أن يجب علينا الفعل وضده إذا أمرنا النبي صلى الله عليه و سلم به وأمسك عن الأمر به لأن إمساكه عن الأمر به ليس بمشارك للأمر به في صيغته الموضوعة للوجوب وضد الفعل قد شارك الفعل في كونه فعلا وقد شاركه في دلالته على الوجوب ولقائل أن يقول إن فعله إما أن يدل على وجوب مثله في مثل وقته فيلزم أن لا يجب علينا أن نفعل مثل ما فعل في وقته ونفعل ضده في مثل وقت فعل ضده وليس يستحيل وجوب الفعل وضده علينا

في وقتين فأما أن يدل على وجوب مثله لا في وقت معين فيلزم إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم الشيء وضده أن يلزمنا الفعل وضده في وقتين غير معينين حتى نفعل كل واحد منهما في وقت أي وقت شئنا وذلك غير مستحيل ولقائل أن يقول ايضا إنه لزم المستدل بهذه الدلالة ما ألزم خصومه إذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم فعلا وقال إنه واجب ثم فعل ضده وقال إنه واجب لأنه يلزم على موضوع الدلالة أن يكون الفعل وضده واجبين عى الإطلاق
ومنها أنه لو دل فعله على وجوب مثله علينا لدل على وجوب مثله عليه صلى الله عليه و سلم ولخصم أن يقول هذه دعوى عارية عن دلالة وله أن يقول الدلالة قد دلت عندي على مشاركتنا للنبي صلى الله عليه و سلم في صورة الفعل ولم تدل على وجوب تكرار الفعل علينا ولا على وجوب تكرار الفعل من النبي صلى الله عليه و سلم وتكرار الفعل منه نظيره تكرار الوجوب علينا ونحن لا نوجب ذلك ويلزم المستدل أن يدل فعل النبي صلى الله عليه و سلم على وجوب مثله على النبي صلى الله عليه و سلم إذا فعله إنه واجب
ومنها أنه لو دل فعله على وجوب مثله علينا لدل على أنه كان واجبا عليه فأولى أن لا يدل على أنه يجب علينا مثله ولقائل أن يقول إنما يجب أن تكون دلالته على وجوب مثله علينا موقوفة على دلالته على أنه كان واجبا عليه لو ثبت أنه لا يجوز أن يجب علينا مثل فعله إلا إذا كان قد أوقعه على وجه الوجوب وهذا موضع الخلاف فلا يجوز أن يبتني عليه الدلالة فإن قلتم إنما كان وجوبه علينا موقوفا على وجوبه عليه لأن قوله لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة يدل على ذلك كان رجوعا إلى دلالة أخرى باب في التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم في أفعاله
اعلم أنا إذا علمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم فعل فعلا على وجه الوجوب فقد تعبدنا

أن نفعله على وجه الوجوب وإن علمنا أنه تنفل به كنا متعبدين بالتنفل به فان علمنا أن فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته لنا وجاز لنا أن نفعله وقال أبو علي بن خلاد إنا متعبدون بالتأسي به في أفعاله العبادات دون غيرها كالمناكح وما أشبهها
والدليل على ما ذكرناه أولا قول الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة والتأسي بالغير في أفعاله هو أن نفعل على الوجه الذي فعلها ذلك الغير ولم يفرق الله عز و جل بين أفعال النبي صلى الله عليه و سلم المباحة وغيرها إن قيل الآية تفيد التأسي به مرة واحدة كما أن قول القائل لغيره لك في الدار ثوب حسن يفيد ثوبا واحدا الجواب أن ذلك إن ثبت تم غرضنا من التعبد بالتأسيس به صلى الله عليه و سلم في الجملة وأيضا فالآية تفيد إطلاق كون النبي صلى الله عليه و سلم أسوة لنا ولا يطلق وصف الإنسان بأنه أسوة لزيد إذا كان إنما ينبغي لزيد أن يتبعه في فعل واحد وإنما يطلق ذلك إذا كان ذلك الإنسان قدوة لزيد يهتدي في به أموره كلها إلا ما خصه الدليل
دليل قوله سبحانه فاتبعوه يتناول أفعال النبي صلى الله عليه و سلم لأن الاتباع يقع في الفعل ويتناول القول فكان على إطلاقه فإن قيل الاتباع يكون في القول وفي الفعل وليس في قوله فاتبعوه لفظ عموم فيتناول القول والفعل فما الأمان أن يكون المراد اتباعه في القول فقط الجواب أن إطلاق قوله فاتبعوه وإن لم يفد العموم فانه يفيد أن لنا اتباعه في أفعاله لأن ذلك اتباع له والخطاب مطلق
دليل أجمعت الأمة على الرجوع إلى أفعال النبي صلى الله عليه و سلم ألا ترى أن السلف رضي الله عنه رجعوا إلى أزواجه في قبلة الصائم وفي أن من اصبح

جنبا لم يفسد صومه وفي تزويج النبي صلى الله عليه و سلم ميمونه وهو حلال أو حرام وغير ذلك فاذا ثبت ذلك فأفعاله صلى الله عليه و سلم لا بد من أن يتمثل فيها طريقة فإما أن تكون معروفة لنا أو غير معروفة فان لم تكن معروفة لنا فانا نكون متبعين له في أفعاله ومتاسين به فيها لا شبهة في ذلك وإن امتثل فيها طريقة معروفة لنا إما عقلية وإما سمعية فإن ذلك لا يمنع من كون فعله دلالة لنا أيضا على أنا متعبدون بمثله ولا يمتنع من كوننا فاعلين لمثله لأجل أنه صلى الله عليه و سلم فعله ولأجل الدلالة العقلية أو السمعية على حد لو انفرد كل واحد منهما لفعلنا الفعل لأجله وذلك لا يمنع من وقوع التأسي به فيه باب في قسمة أفعال النبي صلى الله عليه و سلم وذكر الطريق إليها
اعلم أن ما يسند إليه مما يتعلق به التكليف وليس بقول ضربان أحدهما فعل والآخر ترك والفعل ضربان أحدهما يختصه كاصلاة والصيام والآخر يتعلق بغيره كعقوبة الغير والترك ضربان أحدهما ترك يختصه كتركه الجلسة في الركعة الثانية والآخر القضاء عليه والنكير عليه ولا يخلوا كل ذلك من أن يكون مباحا أو ندبا أو واجبا وكل واحد من ذلك إما أن يكون قد امتثل فيه طريقة معروفة لنا أو غير معروفة لنا فإن كانت معروفة لنا فإما أن تكون عقلية أو سمعية وما امتثل فيه طريقة غير معروفة لنا فإما أن تكون مبتدأة لا تتعلق بشيء من الأدلة أو تتعلق بشيء منها وهذا الأخير إما أن يتعلق بها على طريق الموافقة وهو بيان صفة المجمل أو يتعلق بها لا على طريق الموافقة وهو ضربان أحدهما بيان التخصيص والآخر بيان النسخ وبيان التخصيص إما أن يكون بيانا لتخصيص قول أو لتخصيص فعل وبيان النسخ أيضا إما أن يكون بيانا لنسخ قول أو نسخ فعل وأما الفصل بين الفعل والترك فظاهر وقد ذكرنا في تضاعيف الكلام الفصل بين الفعل والترك اللذين يختصانه وبينهما إذا تعلقا بغيره

فأما الطريق إلى أن ما فعله مباح فأشياء
منها أن يقول إنه مباح ومنها أن نضطر من قصده إلى أنه مباح ومنها أن يدل دلة حسنة على حسنه ولا يدل دلالة على أن له صفة زائدة على حسنه ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على الإباحة ومنها أن يكون بيانا لخطاب يدل على الإباحة
فأما الطريق إلى أن فعله مندوب إليه فأشياء
منها أن يقول إنه مندوب إليه ومنها أن يدل دلالة من قول وغيره على أن له صفة زائدة على حسنه ولا تدل دلالة على وجوبه
ومنها أن يكون بيانا لخطاب يقتضي كون ذلك الفعل مندوبا إليه في الجملة
ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على كون الفعل مندوبا إليه
فأما الطريق إلى أن ما فعله مباح فأشياء منها أن يقول إنه مباح ومنها أن نضطر من قصده إلى أنه مباح ومنها أن يدل دلالة على حسنه ولا يدل دلالة على أن له صفة زائدة على حسنه ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على الإباحة ومنها أن يكون بيانا لخطاب يدل على الإباحة
فأما الطريق إلى أن فعله مندوب إليه فأشياء منها أن يقول إنه مندوب إليه ومنها أن يدل دلالة من قول وغيره على أن له صفة زائدة على حسنه ولا تدل دلالة على وجوبه ومنها أن يكون بيانا لخطاب يقتضي كون ذلك الفعل مندوبا إليه في االجملة ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على كون الفعل مندوبا إليه
وأما الطريق إلى معرفة كون فعله واجبا فأشياء منها أن يقول هذا الفعل واجب ومنها أن يكون امتثالا لدلالة تدل على وجوب ذلك الفعل ومنها أن يكون بيانا لأمر يدل على الوجوب ومنها أن يضطر إلى قصده أنه أوقعه

واجبا ومنها أن يكون الفعل قبيحا لو لم يكن واجبا نحو أن يركع ركوعين في ركعة واحدة لأنه قد تقرر في الشريعة قبح ذلك إلا أن يكون واجبا
فأما ما به يعلم أن فعله أو تركه امتثال لدلالة نعرفها فهو أن يكون مطابقا لبعض الأدلة العقلية أو الشرعية التي نعرفها
وأما ما به يعلم أن فعله بيان فشيئان أحدهما أن يقول هذا بيان لهذا والآخر أن يرد عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه و سلم خطاب مجمل ويفعل صلى الله عليه و سلم فعلا يحتمل أن يكون بيانا له ولا يوجد بيان غيره وتكون الحاجة إلى البيان حاضرة فعلم أنه بيان له لأنه لو لم يكن بيانا لكان البيان قد تأخر عن وقت الحاجة وقد يكون تركه بيانا نحو أن يترك الجلسة في الركعة الثانية فينسخ به ولا يرجع فنعلم أنها غير ركن في الصلاة
فأما ما به يعلم أن فعله أو تركه بيان لنسخ القول فهو أن يصدر منه صلى الله عليه و سلم قول يقتضي تكرار الفعل منه ومن غيره ويدخل هو صلى الله عليه و سلم عليه في الخطاب ويفعل موجبه ثم يفعل ضده أو يتركه فنعلم أن حكمه منسوخ عنه صلى الله عليه و سلم
فأما ما به يعلم أن فعله أو تركه مخصص لقوله فهو أن يصدر منه قول يدل ظاهره على وجوب فعل عليه وعلى غيره ثم يفعل ضده في الحال أو يتركه فنعلم أنه مخصوص من ذلك الدليل ونعلم أن فعله أو تركه مخصص لفعله بأن يفعل فعلا يقتضي الدليل إدامته عليه وعلى غيره لولا دليل مخصص ثم يفعل ضده في الحال أو يتركه فنعلم انه مخصوص والأشبه أن يكون هذا الفعل مخصصا لما دل على وجوب فعله في المستقبل عليه وعلى غيره والله أعلم باب فيما يدل عليه أفعال النبي صلى الله عليه و سلم وتروكه المتعلقة بغيره
أما أفعاله المتعلقة بغيره فهي الحدود والتعزيز والقضاء على الغير فاقامة

الحد والتعزيز على وجه النكال تدل على أن ذلك الغير قد اقدم على كبيرة وإقامتها عليه على سبيل الامتحان لا تدل على أنه الآن مقيم على كبيرة وقضاؤه على غيره وإن كان من قبيل ألأقوال فانه يقتضي لزوم ما قضى به لأن القضاء هو الإلزام
وذكر قاضي القضاء أن الناس اختلفوا في حكمه صلى الله عليه و سلم بأن زيدا فاضل أو أنه أفضل من غيره هل هو على الظاهر أو على سبيل القطع فمنهم من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني وكذلك اختلفوا في نسبته صلى الله عليه و سلم زيدا إلى عمرو هل هو على سبيل القطع أو على الظاهر وذكر أنهم لم يختلفوا في أنه إذا حكم على غيره بالدين لا يقطع به على الباطن في ذلك بل يكون حكما بالظاهر قال فاما إذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لغيره هذا الحق عليك فانه يكون على الخلاف المتقدم وقال إنه إذا ملك غيره شيئا فانه يملكه في الحقيقة لأن التمليك يقتضي إباحة تصرف مخصوص وقال إذا أباح الإنسان النبي صلى الله عليه و سلم أكل طعامه فاستباح النبي صلى الله عليه و سلم أكله فانه لا يدل على أنه ملكه لا محالة لأنه يكتفى في استباحة الأكل بظاهر اليد والتصرف
فأما تركه النكير على الفعل فضربان أحدهما أن يكون صلى الله عليه و سلم قد دل من قبل على قبحه وأقر فاعله عليه كاختلاف أهل الكتاب إلى كنائسهم ومتى كان كذلك فانه لا يدل ترك النكير عليهم على حسنه ورضاه به والآخر أن لا يكون قد علم من دينه الإقرار على ذلك الفعل وذلك يلزم إنكاره سواء تقدمت الدلالة على قبحه أو لم تتقدم لأنه لم تتقدم الدلالة على ذلك فترك إنكاره يقتضي حسنه إذ لو كان منكرا لبين قبحه وإن تقدمت الدلالة على ذلك فترك إنكاره أيضا يقتضي حسنه لأنه لا يمكن أن يقال إنه قبيح وإنما لم ينكره لأنه غلب على ظنه أن إنكاره غير مؤثر لأن إنكار النبي صلى الله عليه و سلم لا بد من أن يؤثر لأنه ليس كانكار غيره هكذا ذكر قاضي القضاة وهذا صحيح إذا كان فاعل القبيح يعتقد نبوته فأما من ينطوي على تكذيبه

وإطراح أمره صلى الله عليه و سلم فلا يمكن أن يقال إن إنكاره عليه لا بد من أن يؤثر على كل حال باب في أفعاله صلى الله عليه و سلم إذا تعارضت
اعلم أن الأفعال المتعارضة يستحيل وجودها لأن التعارض والتمانع إنما يتم مع التنافي والأفعال إنما تتنافى إذا كانت متضادة وكان محلها واحدا ووقتها واحدا ويستحيل أن يوجد الفعل وضده في وقت واحد في محل واحد فاذا يستحيل وجود أفعال متعارضة فأما الفعلان الضدان في وقتين فليسا متعارضين بأنفسهما لأنه لا يتنافى وجودهما ولا يمتنع الاقتداء بهما فنكون متعبدين بالفعل في وقت وبضده في وقت آخر وقد يكونا متعارضين بغيرهما نحو أن يفعل النبي صلى الله عليه و سلم فعلا ونعلم بالدليل أن غيره متعبد به ثم نراه عقيب ذلك قد أقر بعض الناس على فعل ضده فنعلم أنه خارج منه وكذلك إذا علمنا أن ذلك الفعل يلزم أمثاله النبي صلى الله عليه و سلم في مثل تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ ثم يفعل عليه السلام ضده في مثل ذلك الوقت فنعلم أنه قد نسخ عنه غير أن النسخ والتخصيص إنما لحقا ما علمنا به أن ذلك الفعل يلزم النبي صلى الله عليه و سلم في مستقبل الأوقات وأنه يلزم غيره وإنما يقال إن ذلك الفعل قد لحقه النسخ على معنى أنه قد زال التعبد بمثله وأن التخصيص قد لحقه على معنى أن بعض المكلفين لا يلزمه مثله باب في أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله إذا تعارضت
اعلم أن فعله وقوله إذا تعارضا لم يخل إما أن يتعارضا من كل وجه او من وجه دون وجه فان تعارضا من كل وجه لم يخل إما أن نعلم تقدم أحدهما على

الآخر أو لا نعلم ذلك فان علمناه لم يخل إما أن نعلم تقدم الفعل أو تقدم القول
فإن علمنا تقدم الفعل نحو أن يصلي النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس ونعلم أن حكم غيره حكمه في ذلك ما لم يمنع مانع ويقول بعد ذلك الصلاة إلى بيت المقدس غير جائزة فإن ورد القول عقيب الفعل كان هو صلى الله عليه و سلم مخصوصا من ذلك القول ويجب أن يكون متناوله لغيره وإلا لم يكن للقول فائدة ولا يجوز أن يكون قوله متناولا له صلى الله عليه و سلم ويكون نسخا للفعل عنه لأنه إنما يكون نسخا للفعل إذا دل على وجوب استمرار مثله في المستقبل عليه ولو كان كذلك لم يجز أن يدلنا عقيبه على أنه منسوخ عنه لأن ذلك نسخ الشيء قبل وقت فعله وإن كان القول متراخيا بعد ما حضر وقت الفعل مرة أخرى فإنه إن كان القول يتناولنا وإياه كان ناسخا للفعل عنا وعنه وإن كان يتناوله وحده كان نسخا عنه وحده وإن كان يتناولنا فقد كان نسخا عنا فقط
وإن كان قوله متقدما على فعله فان كان الفعل عقيب القول وكان القول يتناولنا وإياه كان فعله مخصصا له وحده دوننا لأنا لو خرجنا أيضا من الخطاب بطلت فائدته وإن كان الفعل متراخيا عن الول كان ناسخا للقول عنه فقط إن كان القول يتعلق به فقط وإن كان القول يتعلق بنا فقط كان فعله ناسخا عنا فقط إذا علمنا أن حكمنا في الفعل حكمه وإن كان القول يتعلق بنا وبه كان الفعل ناسخا للقول عنا وعنه إذا علمنا أن حكمنا فيه حكمه
فأما إن لم نعلم تقدم أحدهما على الآخر فالتعلق بالقول أولى لأنه يتعدى إلينا بنفسه والفعل لا يتعدى إلينا ولا يتناولنا بنفسه ولأنا إذا جوزنا أن يكون الفعل قد تقدم جوزنا أن لا يكون قد تعدى إلينا بنفسه ولا بغيره لأن القول حينئذ يكون ناسخا له فنحن نشك إذا في تناوله لنا ونقطع على تناول القول لنا من جهة صيغته فكان أولى

فأما إذا تعارض قوله وفعله من وجه دون وجه فمثاله نهيه صلى الله عليه و سلم عن استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول وجلوسه لقضاء الحاجة في البيوت مستقبل بيت المقدس وذلك يحتمل أن يكون مباحا في البيوت لكل أحد ويحتمل أن تكون إباحته خاصة بالنبي صلى الله عليه و سلم ويحتمل أن يكون نهيه صلى الله عليه و سلم عن استقبال القبلة واستدبارها عاما لأمته في البيوت والصحارى ويحتمل أن يكون خاصا في الصحارى وقد اختلف الناس في ذلك من غير تفصيل فعند الشافعي أنه مخصوص بفعله وعند الشيخ أبي الحسن أنه ينبغي أن يجرى نهيه على إطلاقه ويخص فعله به صلى الله عليه و سلم وقاضي القضاة يتوقف في المسألة واعلم أن قوله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقوله فاتبعوه مع استقباله بيت المقدس في البيوت معارض لنهيه عن استقبال القبلة لغائط أو بول فلا ينبغي أن يعترض بأحدهما على الآخر إلا لوجه يترجح به أحدهما على الآخر وليس يجوز أن يترجح نهيه على فعله من حيث كان قوله يتعدى إلينا بنفسه وفعله لا يتعدى إلينا بنفسه لأن إن اعترض بنهيه عن استقبال القبلة وجب أن يخص به قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وهذا قول فيتعدى إلينا بنفسه والأولى أن يقال إن نهيه أخص من قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فكان وقوع التخصيص به أولى فان قيل فعله أخص من هذا النهي لأن نهيه عام في البيوت والصحارى وفعله يختص بالبيوت فكان الاعتراض به أحق قيل فعله لا يتعدى إلينا فهو وإن كان أخص بالبيوت فليس يتعدى إلينا فان قيل فعله مع قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أخص من هذا النهي فوجب

تخصيص النهي به والجواب أنا إذا جعلنا النهي هو المخصص كنا قد خصصنا به وحده قول الله عز و جل لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وإن كان المخصوص هو هذه الآية وهي أعم من النهي كان تخصيصها أولى ولهم أن يقولوا ونحن إذا خصصنا هذا النهي فإنا نخصه بفعل النبي صلى الله عليه و سلم مع ما ثبت من التأسي بالنبي صلى الله عليه و سلم ومجموع هذين أخص من النهي فيجب أن يكون ذلك أولى أو يتعادل القولان فيلزم فيهما الوقف والرجوع إلى دليل آخر

الكلام في الناسخ والمنسوخ
باب في فصول الناسخ والمنسوخ
إعلم أن الكلام في ذلك يقع في الاسم وفي المعنى أما في الاسم فبأن نتكلم في فائدة اسم النسخ في اللغة وفي الشرع ويتبع ذلك الكلام في حده فأما في المعنى فمن وجوه منها الفصل بين النسخ وبين البداء ومنها ذكر شروطه والفصل بينهما وبين ما ليس من شروطه ومنها الدلالة على حسنه ولما كان النسخ لا يتم إلا بشيئين ناسخ ومنسوخ وجب أن نذكرهما فنذكر ما يجوز نسخه وما لا يجوز وما يجوز وقوع النسخ به وما لا يجوز ومما يدخل في أبواب النسخ ذكر ما أخرج من النسخ وهو منه وما أدخل فيه وليس منه وذكر الطريق إلى معرفة كون الشيء ناسخا أو منسوخا أما الكلام في فائدة الاسم فيجب تقديمها وتقديم الحد ليصح أن نتكلم في شروطه وأحكامه ويتبع ذكر حده الكلام في المفصل بينه وبين غيره ثم الكلام في شروطه وما ليس من شروطه ثم الدلالة على حسن النسخ إذا اختص بشروطه ثم الدلالة على ما اشترطناه كنسخ الشيء بعد وقت فعله ثم ذكر ما قلناه أنه ليس بشرط كنسخ عبادة لم يقيد الأمر بها بالتأييد وكنسخ العبادة لا إلى بدل أو إلى بدل أخف ثم نذكر ما يجوز نسخه ويدخل فيه نسخ التلاوة ونسخ الحكم ونسخ الأخبار ثم نذكر ما يقع النسخ به وما لا يقع وذلك فصول منها نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة ومنها نسخ السنة بالكتاب والكتاب بالسنة وذكرنا نسخة بأخبار الآحاد ولم نؤخره إلى الكلام في الأخبار لأنا لا نمنع من نسخه

بأخبار الآحاد وليس يقف المنع من ذلك على قيام الدلالة على قبول خبر الواحد وليس كذلك وقوع التخصيص بها لأن ذلك مرتب على كون أخبار الآحاد طريقة يحتج بها فلذلك أخرنا القول في وقوع التخصيص بها إلى أبواب الأخبار ثم نذكر ما لا يجوز نسخه ولا وقوع النسخ به كالإجماع والقياس وفحوى القول ثم نذكر ما ألحق بالنسخ أو أخرج منه كالزيادة في النص والنقصان منه ثم نذكر الطريق إلى كون الناسخ ناسخا ولما كان النسخ موقوفا على التنافي وعلى ذكر التاريخ وكانت الأحكام تتنافى على الشخص الواحد وعلى الأشخاص الكثيرة دخل في ذلك العمومان إذا تعارضا فوجب ذكر ذلك أجمع على الترتيب ونحن نأتي على ذلك أجمع إن شاء الله

باب في فائدة اسم النسخ في اللغة وفي الشرع
اعلم أنه لما كان اسم النسخ مستعملا في أصول الفقه وجب ذكر فائدته لنفهمها عند إطلاقه ولما كان مستعملا في اللغة وفي الشريعة نظرنا هل فائدته فيهما واحدة أو مختلفة
فاسم النسخ مستعمل في اللغة في الإزالة وفي النقل أما في الإزالة فقولهم نسخت الشمس الظل لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر فيظن أنه انتقل إليه وقولهم نسخت الريح آثارهم وأما في النقل فقولهم نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر والأشبه أن يكون مجازا في ذلك لأن ما في الكتاب لم ينتقل على الحقيقة وإذا كان مجازا فيه كان حقيقة في الإزالة لأنه غير مستعمل في سواهما فاذا بطل كونه حقيقة في أحدهما كان حقيقة في الآخر وإلا بطل أن يكون الاسم حقيقة في اللغة إن قيل إذا كان ما في الكتاب لم ينتقل على الحقيقة علمنا أنهم إنما وصفوه بأنه منسوخ لتسبهها بالمنقولة من حيث حصل مثله في كتاب آخر فجرى حصول

مثله في مكان آخر مجرى حصوله وذلك يدلنا على أن اسم النسخ موضوع للنقل فلهذا تجوزوا به فيما يشبه النقل ولو كان حقيقة للإزالة لم يسموا الكتاب منسوخا لأنه غير مزال ولا شبه المزال والجواب أنه لا يمتنع أن يكون حقيقة للإزالة فاستعمل في النقل من حيث كان النقل مزيلا للمنقول عن مكانه وإن حصل في مكان آخر ثم استعمل في نسخ الكتاب من حيث شكل المنقول من الوجه الذي ذكر السائل فيكون استعمال ذلك في الكتاب تشبيها بوجه المجاز واستعماله في المجاز تشبيها بالحقيقة وهو المزال فان قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز أيضا لأن الناسخ للآثار والظل هو الله سبحانه فاعل الشمس والريح قيل لا يمتنع أن يكون الله سبحانه هو الناسخ لذلك من حيث فعل سبب الإزالة وتكون الشمس والريح موصوفان على الحقيقة بأنهما ناسخان من حيث اختصاصهما بسبب الإزالة على أن أهل اللغة لو كانوا اعتقدوا أن الشمس هي الفاعلة للإزالة ثم اضافوا النسخ إليها لوجب اتباعهم في تسمية هذه الإزالة نسخا ولا نتبعهم في اعتقادهم أن الشمس والريح فاعلان على أنه لا يمتنع أن يكون وصف الشمس بأنها ناسخة مجازا وكون هذا الوصف مجازا لا يوجب كون وصفهم الإزالة نسخا مجازا
فأما استعمال اسم النسخ في الشرع فعند الشيخ أبي عبد الله أنه منقول إلى معنى في الشرع ولا ييجري عليه على سبيل التشبيه بالمعنى اللغوي لأنه يفيد في الشرع معنى مميزا فجرى مجرى اسم الصلاة وعند الشيخ أبي هاشم أنه يفيد معنى في الشرع على طريق التشبيه باللغة وذلك أنه يفيد إزالة مثل الحكم المتقدم كما يفيد في اللغة الإزالة إلا أن الشرع قصره على إزالة مثل الحكم الثابت بطريقة شرعية على وجه مخصوص فجرى مجرى قولنا دابة في أنه غير منقول لكنه مخصوص ببعض ما يدب

باب في حقيقة الناسخ والمنسوخ والنسخ
اعلم أن غرضنا أن نحد الطريق الناسخ ولما كان قولنا ناسخ يقع على الطريق وعلى غيره وجب أن نذكر ما يقع عليه هذا الاسم ثم نعمد إلى الطريق الناسخ فنحده فنقول
إن الناصب للدلالة الناسخة يوصف بأنه ناسخ فيقال إن الله عز و جل نسخ التوجه إلى بيت المقدس فهو ناسخ ويوصف الحكم بأنه ناسخ فيقال إن وجوب صوم شهر رمضان ناسخ صوم عاشوراء ويوصف المعتقد لنسخ الحكم أنه ناسخ فيقال فلان ينسخ الكتاب بالسنة يعتقد ذلك ويوصف الطريق بأنه ناسخ فيقال إن القرآن ناسخ للسنة وقد حد قاضي القضاة الطريق الناسخ بأنه ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص غير ثابت على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه وغرضه بهذا الحد أن يتناول كل ما كان طريقا إلى النسخ سواء كان خبرا متواترا أو غير متواتر وهذا الحد يخرج منه خبر الواحد إذا نسخ الحكم لأنه لا يوصف بأنه دليل على الحقيقة ويخرج منه ما دل على نسخ الحكم الثابت بالعقل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو فعل فعلا وعلمنا من قصده أن وجوبه يتعدى إلينا لولا دليل ناسخ فإن ما دل على إزالته يوصف بأنه ناسخ وإن لم يرفع ما ثبت بنص ويلزم أن يكون العجز ناسخا لأنه يدل على أن مثل الحكم الثابت بالنص غير ثابت ويلزم أن تكون الأمةإذا اختلفت على قولين وسوغت للعامي تقليد كل واحد من الطائفتين ثم أجمعت على أحد القولين أن يكون ذذلك نسخا لأنها كانت نصت على إباحة تقليد الطائفة الأخرى وينبغي أن نحد الطريق الناسخ بأنه قول صادر عن الله عز و جل أو منقول عن رسول الله أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله أو بنص أو فعل منقولين عن رسوله مع تراخيه عنه على

وجه لولاه لكان ثابتا وقد تضمن هذا الحد أخبار الآحاد لأنها وإن كانت أمارات فانها موصوفة بأنها تفيد إزالة مثل الحكم الثابت وأنها منقولة عن الرسول صلى الله عليه و سلم ولا يلزم عليه اتفاق الأمة على أحد القولين لأن قولها غير صادر عن الله وعن رسوله ولا يلزم عليه أن يكون الشرع ناسخا لحك العقل لأن العقل ليس بقول ولا فعل منقول عن الرسول ولهذا لا يلزم عليه العجز المزيل للحكم ولا أيضا تقييد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم عليه البداء لأ البداء هو إزالة نفس الحكم الثابت بالنص ولا يلزم إذا أمرنا الله سبحانه بفعل واحد ثم نهانا عن مثله أن يكون ذلك نسخا وإن كان مزيلا لمثل حكم الأمر لأنه لو لم يكن هذا النهي لم يكن مثل حكم الأمر ثابتا
فأما المنسوخ فهو الحكم المزال إذا اختص بالشرائط التي ذكرناها وقد دخل في ذلك نسخ خطاب القرآن لأن نسخه هو نسخ كون تلاوته قربة وعبادة وذلك نسخ للحكم
وأما النسخ فهو إزالة مثل الحكم الثابت بقول منقول عن الله أو رسوله أو فعل منقول عن رسوله وتكون الإزالة بقول منقول عن الله أو عن رسوله أو بفعل منقول عن رسوله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا وقد حد قوم النسخ بأنه إزالة حكم بعد استقراره وهذا لا يصح لأن استقرار الحكم هو كونه مرادا فازالته بعينه بداء وحد أيضا بأنه إزالة مثل الحكم بعد استقراره وهذا يلزم عليه أن يكون متى زال الحكم بالعجز أن يكون زواله نسخا وحد أيضا بأنه نقل الحكم إلى خلافه وهذا يلزم عليه أن يكون نقل الحكم إلى خلافه بالشرط والغاية أو بالعجز نسخا وحد أيضا بأنه بيان مدة الحكم الذي في التقدير والتوهم جواز بقائه وهذا يلزم عليه أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم لو أخبر زيدا أنه يعجز عن الفعل وقت كذا أن يكون ذلك نسخا

باب الفصل بين البداء والنسخ
اعلم أن البداء هو الظهور يقال بدا لنا سور المدينة إذا ظهر وإنما يكون الشيء ظاهرا للإنسان إذا تجلى له وصار معه على وجه يعلمه أو يظنه فأما الأمر والنهي فليسا من البداء بسبيل لكنهما قد يدلان عليه نحو أن ينهي الآمر المأمور الواحد أن يفعل ما أمره بفعله في الوقت الذي أمره بفعله فيه على الوجه الذي أمره أن يوقعه عليه نحو أن يقول زيد لعمرو صل ركعتين عند زوال الشمس من هذا اليوم عبادة لله عز و جل لا تصلهما في هذا الوقت من هذا اليوم عبادة لله عز و جل فالنهي تعلق بما تعلق الأمر به على الحد الذي تعلق الأمر به من غير تغايربين متعلقيهما فيصح أن تثبت المصلحة مع أحدهما دون الآخر وذلك يدل إما على أن الآمر قد خفى عنه من الصلاح ما كان ظاهرا أو ظهر له من الفساد ما كان خافيا وهو البداء فلذلك نهى عما كان أمر به على الحد الذي أمر به وإما أن يكون ما خفى عنه شيء ولا ظهر له شيء لكنه قصد أن يأمر بالقبيح أو ينهي عن الحسن وكل ذلك لا يجوز على الله عز و جل فأما إذا لم يتكامل الشرائط التي ذكرناها فانه لا يجب أن يدل على البداء ولا على تعبد قبيح لأنه إن نهى عن صورة الفعل غير ذلك المأمور أو نهى المأمور عن غير ما أمر به نحو أن يأمر بالصلاة وينهي عن الزنا أو ينهي عما أمر به على وجه آخر نحو أن يأمر بالصلاة على طهارة وينهي عنها على غير طهارة فهناك تغاير بين أمرين يمكن أن تحصل المصلحة في أحدهما والمفسدة في الآخر وكذلك لو نهاه عن صورة الفعل في وقت آخر والنسخ من هذا القبيل وذلك لأنه لا يمتنع أن يعلم الله عز و جل فيما لم يزل أن الفعل من زيد مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر فيأمره بالمصلحة في وقتها وينهاه عن المفسدة في وقتها فلا يكون قد ظهر له ما لم يكن ظاهرا أو لا خفي عنه ما كان ظاهرا ولا أمر بقبيح ولا نهى عن حسن وإنما أمكن

ذلك لأنه قد حصل بين المأمور به والمنهى عنه تغاير وانفصال فصح أن تثبت المصلحة مع أحدهما دون الآخر وإذا أمكن هذا القسم الذي ذكرناه بطل القول بأنه لا بد من أن يدل إما على البداء وإما على تعبد قبيح والله أعلم

باب في شرائط النسخ
اعلم أن لوصف النسخ نسخا ولصحته وحسنه شروط وقد ألحق بها ما ليس منها أما شروط الوصف فأن يكون الحكمان الناسخ والمنسوخ شرعيين لأن العجز يزيل التعبد الشرعي ولا توصف إزالته بأنها نسخ والشرع يزيل حكم العقل ولا توصف إزالته بأنها نسخ ومن شروطه أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ إما في الجملة أو في التفصيل وذلك أن المتصل بالمنسوخ ضربان غاية وغير غاية فما ليس بغاية هو أن يقول الله عز و جل صلوا أيام الجمعة لا تصلوا الجمعة الفلانية والغاية ضربان أحدهما غاية مجملة والآخر مفصلة فاسم النسخ لا يثبت معها كقول الله عز و جل ثم أتموا الصيام إلى الليل وأما المجملة فاسم النسخ يثبت معها إذا فصلت نحو قول الله سبحانه فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموتالآية فلما دل الدليل على تفصيل هذا السبيل ثبت اسم النسخ وليس من شرط اسم النسخ أن يكون الكلام المنسوخ متناولا بلفظة للمنسوخ ألا ترى أن الأمر لا يفيد بلفظه التكرار فلو أمر الله عز و جل بالفعل ثم دل الدليل على أن المراد به التكرار ودل الدليل على رفع بعض المرات كان رفعه نسخا
وأما شرط صحة النسخ فهو أن يكون إزالة لحكم الفعل دون نفس الفعل

وصورته لأن صورة الصلاة إلى بيت المقدس لا تصح إزالتها بالأدلة الشرعية وإنما الأدلة الشرعية دلت على زوال وجوبها وليس من شرط الصحة أن يكون المنسوخ شائعا في جملة المكلفين بل يصح أن يكون الحكم المنسوخ لم يتوجه جنسه إلا إلى مكلف واحد
وأما حسن النسخ فهو أن لا يكون إزالة لنفس ما تناوله التعبد على الحد الذي تناوله بل لا بد من أن يزيل التعبد مثله في وقت آخر أو على وجه آخر ولذلك لم يحسن نسخ الشيء قبل وقته ولا نسخ ما لا يجوز أن يتغير وجهه نحو نسخ وجوب المعرفة بالله عز و جل لأن كون ذلك لطفا لا يتغير ولا نسخ قبح الجهل لأن قبحه لا يتغير ويحسن نسخ قبح بعض الآلام أو حسن بعض المنافع لأنه يجوز مع كون الألم ألما أن يحسن ومع كون النفع نفعا أن يقبح ومن شرائطه أن يكون ما تناوله الناسخ متميزا للمكلف من المنسوخ وأن يكون مقدورا
فأما نسخ الحكم إلى بدل هو أخف منه أو مساو له أو نسخه إذا لم يقيد الأمر به بالتأبيد فليس بشرط في وقوع الاسم ولا في الصحة ولا في الحسن

باب في الدلالة على حسن نسخ الشرائع
اتفق المسلمون على حسن نسخ الشرائع إلا حكاية شاذة عن بعض المسلمين أنه لا يحسن ذلك واليهود على فرق ثلاث ففرقة منعت من ذلك عقلا وفرقة منعت منه سمعا وإجازته عقلا وفرقة أجازته عقلا وسمعا
والدليل على حسنه من جهة العقل أن مثل ما تعبد الله سبحانه به يجوز أن يقبح في المستقبل فاذا قبح حسن النهي عنه إذ النهي عن القبيح حسن وإنما قلنا يجوز أن يكون مثل ما تعبدنا الله عز و جل به قبيحا في المستقبل لأنه

لو يجز ذلك لم يحسن أن يقول الله عز و جل تمسكوا بالسبت ما عشتم إلا السبت الفلاني وأيضا فانه كما يجوز العقل أن يكون التمسك بالسبت مصلحة فانه يجوز كونه مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر كما يجوز كون الرفق بالصبي مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر وكما يجوز كونه مصلحة لزيد دون عمرو في وقت واحد يجوز أن يكون مصلحة لزيد في وقت دون وقت وكما يجوز كون الصحة والمرض والغنى والفقر مصلحة في وقت دون وقت يجوز كون التمسك بالسبت مصلحة في وقت دون وقت لا فرق في العقل بين هذه الأقسام
وللمخالف أن يحتج بوجهين أحدهما لا ببينة على الأمور المقيد بالتأبيد بل ببينة على النهي عن مثل ما تعبدنا به وهذا أشبه بأن يكون وجها عقليا والآخر ببينة على أمر قيد بالتأبيد حتى يكون السمع قد منع من النسخ
أما الأول فهو أن يقال لو نهى الله عز و جل عن صورة ما تعبد به لكان إما قد خفي عليه صلاح ما أمر به ما كان ظاهرا أو ظهر له من فساد ما كان خافيا فيه وهو البداء أو يكون عالما بما كان عالما به إلا أنه قصد الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن والجواب أنه إنما يلزم ذلك لو لم يجز كون مثل الواجب قبيحا في وقت آخر فأما إذا جاز ذلك فقد أمكن قسم آخر سوى ما ذكر وهو أن يعلم الله سبحانه فيما لم يزل وجوب ما أمر به في الوقت الذي أمر به وقبحه في الوقت الذي نهى عنه ولو كان مثل الفعل حكمه في جميع الحالات لكان حكم نكاح الأخوات والختان في جميع الحالات حكما واحدا ومعلوم أن نكاح الأخوات قد كان غير محظور من قبل ومحظور في شرع موسى عليه السلام
أما الوجه الثاني فتحريره أن يقال إن الأمر بالفعل أبدا يفيد وجوب فعله في جميع الأوقات بشرط الإمكان فلو أمر الله سبحانه بالعبادة أبدا لم يخل إما أن يكون قد أراد بالأمر فعل العبادة أبدا ما بقي الإمكان أو لم يرد

فعلها أبدا فان لم يرده أبدا مع اقتضاء الظاهر له كان ملبسا لأنه لم يدل في الحال على خلاف الظاهر ولو جاز تأخير بيان ذلك جاز تأخير بيان المجمل والعموم ولما كان في الإمكان تعريفنا تأبيد شريعة من الشرائع وأن كان قد أراد فعلها أبدا اقتضى ذلك وجوب فعلها أبدا ووجوب العزم على أدائها أبدا ووجوب اعتقاد وجوبها أبدا واستحقاق الثواب على فعلها أبدا فلو نهى الله سبحانه عنها في المستقبل لدل نهيه على أنه قد خفي عليه ما كان ظاهرا من وجوبها أو ظهر له ما كان خافيا من قبحها أو لأنه قصد النهي عما يعلمه حسنا والأمر بما يعلمه قبيحا وكل هذه الأقسام فاسدة والجواب أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار وإنما المقيد بالتأبيد إذا أفاد التأبيد بشرط الإمكان لا يجوز نسخه إلا أن يكون المكلف قد أشعر بالنسخ عند أمره وقيام الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم يقتضي أن يكون قد اقترن بالأمر بالسبت الإشعار بالنسخ نحو أن يخبرهم لمجيء نبي إلى غير ذلك من وجوه الإشعار فاذا أشعر بالنسخ لم يكن قد أوهمنا الباطل لأنا مع الإشعار لا نقدم على اعتقاد التأبيد ولا تمتنع القدرة على تعريفنا بتأبيد الشريعة لأن طريق إعلامنا ذلك أن يخلى أمره المؤبد من بيان النسخ مفصلا ومن الإشعار به وقولنا في بيان المجمل الذي لا يعرف المراد به أصلا وفي بيان التخصيص كقولنا في بيان النسخ وقد تقدم شرح هذه الجملة عند الكلام في تأخير البيان فاذا أراد بالأمر المؤبد بعض ما تناوله ونهانا عما لم يرده لم يكن قد أمر بقبيح ولا نهى عن حسن ولا ظهر له ما كان خافيا ولا خفي عنه ما كان ظاهرا بل كان عالما فيما لم يزل بوجوب ما أمر به في وقته وقبح مثله في وقت آخر ولا يلزم استحقاق العقاب على ما استحق به الثواب وإنما يلزم استحقاق العقاب على مثل ما استحق به الثواب
وأجاب قاضي القضاة عن قولهم إن الأمر بالفعل أبدا يقتضي الدوام فقال إنه لا يفيد الدوام لعلمنا أن التكليف ينقطع ولذلك لا يفهم من قول القائل لغيره لازم فلانا أبدا أو احبسه أبدا الدوام ولقائل أن يقول

إن التأبيد يفيد الدوام في الأوقات كلها وإنما يخرج ما بعد الوقت والعجز من الخطاب لدلالة وما عداهما باق على الظاهر كما لو قال له افعل في كل وقت إلا أن تعجز أو تموت حسب ما نقوله في ألفاظ العموم كلها وكذلك قول القائل احبس فلانا أبدا حتى يعطى الحق ولازمه أبدا إلا أنا نعلم من قصد المتكلم أنه يريد حبسه حتى يخرج من الحق ما دام حيا لعلمنا أنه لا غرض له في حبس الموتى فان قيل فالأمر المقيد بالتأبيد يفيد دوام الفعل ما دام مصلحة فالنهي يفيد زوال المصلحة قيل إنا بالأمر نعلم أنه مصلحة فاذا كان مقيدا بالتأبيد أفاد كونه مصلحة أبدا كما لو قال هو مصلحة أبدا وأجاب عن قولهم بأن ذلك يمنع من القدرة على تعريفنا دوام الشريعة بأن ذلك لا يمنع من ذلك لأنه يجوز أن يضطر الأمة من قصد نبيها إلى أن شريعته لا تنسخ ويجوز أن يعلموا ذلك بأن يقول لهم شريعتي مصلحة ما بقي التكليف وبأن ينقطع الوحي ولقائل أن يقول إنه وإن جاز أن تعلم الأمة ذلك من قصد نبيها فالنبي صلى الله عليه و سلم لا بد من أن يعرف أن شريعته لا تنسخ بخطاب أو تنتهي إلى خطاب فإن جاز أن يعترض الأمر المؤبد النسخ جاز مثله في ذلك الخطاب الذي عرف به النبي صلى الله عليه و سلم أو جبريل أن الشريعة لا تنسخ وإنما نعلم أن الوحي منقطع إذا قال النبي صلى الله عليه و سلم إن شريعتي دائمة أو لا نبي بعدي فان جاز تأخير بيان النسخ مع تناول الأمر لجميع الأوقات جاز أن يكون مراده لا نبي بعدي إلا فلان أو فلان ويتأخر بيان هذا التخصيص وقوله شريعتي مصلحة ما بقي التكليف يفيد ظاهره دوام المصلحة لشرعه كما يفيده الأمر بها أبدا لأن أمر الحكيم بالفعل يدل على كونه مصلحة كما أن خبره عن كونه مصلحة يدل على ذلك فإن جاز تأخير بيان نسخ أحدهما جاز مثله في الآخر وأجاب عن قوله إن في تأخير بيان النسخ إلباس بأن الإلباس إنما يثبت إذا لم يبين الحكيم ما يجب بيانه مما يحتاج المكلف إليه فأما ما لا يحتاج إليه فلا يجب بيانه ولا إلباس في فقد بيانه وليس يحتاج المكلف في حال الخطاب إلى معرفة وقت ارتفاع العبادة ولقائل أن يقول وليس يحتاج

أيضا في حال ورود العموم والخصوص والخطاب المجمل إلى تعرف صفة المجمل ومن لم يدخل تحت العموم وإنما يحتاج إلى ذلك عند الفعل فان قال يحتاج في تلك الحال إلى بيان صفة العبادة وتخصيص العام ليعلم أن من دخل تحت العام ممن لم يدخل تحته ليعلم صفة ما كلف فعدم بيان ذلك مخل بعلمه قيل وكذلك تأخير بيان النسخ يخل بعلمه أن العبادة دائمة
وأجاب بأن العبادة تنقطع بالعجز ولا يعلم متى يطرأ ولم يكن في ذلك إلباس فكذلك في النسخ فان قال قائل إن الأمر بالفعل هو كونه مشروطا بالتمكن قيل والأمر بالعبادة مشروط بكونها مصلحة فان قال إنما نعلم كونها مصلحة بالأمر فاذا كان الأمر مؤبدا كانت المصلحة مؤبدة قيل إنما علمنا كون الفعل مصلحة من حيث علمنا أن الحكيم لا يأمر بما ليس بمصلحة وكما علمنا ذلك فقد علمنا أنه لا يأمر عما لا يقدر عليه فان دل الأمر المؤبد على دوام المصلحة ليدلن أيضا على دوام التمكين ولقائل أن يقول إن الله عز و جل إذا أمرنا بفعل فقد أشعرنا فيه بجواز انقطاع التعبد به بالموت لأنا قد علمنا انقطاع التكليف فيه بالموت والعجز وجوزنا من جهة العادة وجود العجز ولو علمنا بالأمر ارتفاع الموت عنا كنا مغرين بالمعاصي فاذا جوزنا ذلك فقد حصل الإشعار بارتفاع العبادة في كل وقت ولو لزم على ذلك جواز تأخير بيان النسخ للزم جواز تأخير بيان العموم لأن الله سبحانه لو أمر جماعة بصلاة الظهر جاز أن يعجز بعضهم قبل الظهر فيعلم بذلك أنه سبحانه ما عناه بالخطاب وأنه عنى بعض من تناوله الخطاب ولم يدلنا على ذلك عند الخطاب ولم يلزم من ذلك أن يخاطب بالعام والفعل مصلحة لبعض من تناوله الخطاب دون بعض ولا يتبين ذلك عند الخطاب
وأجاب أيضا بأن بيان تأخير بيان النسخ هو تأخير بيان ما لم يرد بالخطاب مما لا يؤثر في تمكن المكلف من الأداء وليس كذلك تأخير بيان صفة العبادة وقد تقدم القوم منا في ذلك

وأجاب أيضا بأن الشاهد قد فرق بينهما لأن من أمر عبده بأخذ وظيفة له في كل يوم لا يلزمه أن يبين له في الحال متى انقطاع ذلك ولا يجوز أن لا يبين له في الحال صفة الوظيفة ولقائل أن يقول لا نسلم حسن ذلك إذا كان يعلم وقت انقطاع أخذ الوظيفة بل لا بد من بيان ذلك إما على جملة أو على تفصيل وأيضا فان الإنسان قد يقول لوكيله خذ لي وظيفة وسأبين لك غدا صفتها فالعقلاء لا يستحسنون ذلك فالوجه في ذلك عن الشبهة ما قدمنا من الإشعار
فأما من يمنع من أهل ملتنا من وقوع النسخ في شريعتنا فانه إن منع من حسن ذلك على الإطلاق فما ذكرنا على اليهود وما وجدناه من النسخ يبطل قوله وإن منع من النسخ إلا مع تقدم الإشعار ولم يسم ما تقدم من الإشعار بنسخة منسوخا فهو قولنا إلا أنه مخالف في الاسم وإن منع من وجود النسخ في شريعتنا أريناه ذلك نحو نسخ ثبات الواحد للعشرة ونسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة مع أن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما بشرع النبي صلى الله عليه و سلم لأنه صلى الله عليه و سلم لم يكن متعبدا بشرع من تقدم ونسخ صوم عاشوراء برمضان فان أقر بذلك وقال لا أسميه نسخا لزمه أن لا يسمي رفع شريعتنا لشرع من تقدم نسخا

باب في نسخ الشيء قبل فعله
اعلم أن نسخ الشيء قبل فعله ضربان أحدهما نسخ له بعد أن يقضى وقته والآخر نسخ له قبل أن يقضى وقته
أما القسم الأول فجائز لأن مثل الفعل يجوز أن يصير في مستقبل الأوقات

مفسدة ولا فرق في جواز ذلك في العقل بين أن يعصى المكلف أو يطيع فالقول بأنه إذا عصى لا يجوز أن لا يصير مثل ما عصى فيه مفسدة فيما بعد كالقول بأنه إذا أطاع لا يجوز أن يصير مثله مفسدة فاذا جاز أن يصير مفسدة فيما بعد جاز النهي عنه وان يبين لنا أن الأمر لم يتناوله
وأما نسخ الشيء قبل وقته فغير جائز عند شيوخنا المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة رحمه الله وبعض أصحاب الشافعي رحمه الله وذهب بعض الفقهاء إلى جواز ذلك ودليلنا أن الله عز و جل لو قال لنا في صبيحة يومنا صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم قال عند الظهر لا تصلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة لكان الأمر والنهي قد تناولا فعلا واحدا على وجه واحد في وقت واحد صدرا من مكلف واحد إلى مكلف واحد وفي تناول النهي لما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله من غير انفصال دليل إما على البداء وإما على القصد إلى الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن إن قيل لم زعمتم أن هذا الأمر والنهي تعلقا بفعل واحد على حد واحد قيل لأنهما لو لم يتناولا فعلا واحدا لم يخل إما أن يكون الأمر تناول الفعل المذكور والنهي لم يتناوله أو تناول النهي والفعل المذكور والأمر ما تناوله أو لم يتناوله واحد منهما فان لم يتناوله الأمر لم يخل إما أن يكون قد عني بالأمر شيء أو لم يعن به شيء فان لم يعن به شيء فهو عبث وإن عني به شيء انقسم إلى أن يكون قد عني به فعل واحد مثل الفعل الذي تناوله النهي أو مضاد له أو مخالف له ولا يجوز أن يتناول مثله لأن المكلف لا يميز بين فعليه المثلين في وقت واحد فتكليفه فعل أحدهما بعينه وتجنب الآخر المنهى عنه بعينه مع أنهما لا يتميزان له تكليف لما لا يطاق ولو تميزا له امتنع أن يكون أحدهما مصلحة والآخر مفسدة
وأيضا لو انصرف الأمر إلى شيء والنهي إلى غيره لوجب على المكلف فعل المأمور به بعد وجود النهي وليس هذا هو المسألة المفروضة التي وقع فيها

الخلاف وكذلك لو قيل إن الأمر تعلق بضد ما تعلق به النهي على أن المسألة مفروضة في نهي تعلق بالصلاة لا بنهي تعلق بضد الصلاة لأن النهي لو تعلق بضد الصلاة لما كان ناسخا للصلاة ولا منافيا للتعبيد بها وإن كان الأمر تناول فعلا مخالفا لما تناوله النهي نحو أن يقال إنه أمر بالعزم على الصلاة أو باعتقاد وجوب الصلاة وكونها مأمورا بها أو أن المكلف سيفعلها لا محالة كان الله سبحانه قد استعمل قوله صلوا مكان قوله اعزموا واعتقدوا وليس ذلك بعبارة عن هذا النهي لا في اللغة ولا في الشرع لا حقيقة ولا مجازا ولو صار ذلك عبارة عنه في الشرع لما تأخر بيانه عن وقت الخطاب وذلك يخرج عن مسألة النسخ إلى مسألة تأخير البيان
وأيضا فانه لا بد من أن يكون في الأمر بالعزم والاعتقاد فائدة ولا فائدة في ذلك إذا كان المعزوم عليه غير واجب فان قالوا الفائدة في ذلك أن يختبر المكلف قيل حقيقة الاختبار إنما تجوز على من لا يعرف العاقبة دون من يعرف العاقبة
وأيضا فايجاب العزم والاعتقاد على الإطلاق لا يحسن والمعزوم عليه غير واجب لأنه لا يحسن اعتقاد وجوب ما ليس بواجب فان قالوا إنما أمر المكلف بالعزم على الفعل بشرط كونه واجبا قيل قد كان يمكنكم أن تقولوا إنه أمر بالفعل بشرط كونه واجبا ولا تضمروا في الأمر العزم الذي ليس بمذكور فان قالوا ذلك فسنتكلم عليه من بعد
وأيضا فليسوا بأن يقولوا إنه إنما أمر بالعزم على الصلاة بشرط كونها واجبة ويتوصلوا إلى ذلك بظاهر النهي أولى من أن يقولوا إنه إنما نهى عن إرادة الفعل المأمور به بشرط كونه قبيحا لا يتجدد به أمر آخر ويجوزوا ورود أمر آخر به ويتوصلوا إلى ذلك بظاهر الأمر ومما يفسد القول بأن الأمر دليل على وجوب اعتقاد فعل المأمور به أن إيجاب ذلك يقتضي القطع على بقاء المكلف وفي ذلك إغراء بالمعاصي

فأما القول بأن الأمر تناول الفعل المذكور وهو الصلاة وأن النهي تناول غير ما تناوله الأمر إما مثله أو ضده أو مخالفا له فيبطل بما ذكرناه الآن ويبطل أيضا أن يكون النهي تناول العزم على أداء الصلاة أو الاعتقاد لوجوبها لأنه لا يجوز أن يقبح منا اعتقاد وجوب الصلاة والعزم عليها إلا وقد ارتفع وجوبها وفي ذلك تناول النهي لما تناوله الأمر وهو الذي أردنا بيانه فاذا فسد أن يكون الأمر وحده تناول الفعل أو النهي وحده ووجب أن يكونا قد تناولاه فأحرى أن يفسد القول بأن كل واحد منهما لم يتناوله فان قالوا هذا الأمر وهذا النهي وإن تناولاه فعلا فإنما تناولاه على وجهين قيل إن المسألة مفروضة في أن يأمر الله سبحانه بالصلاة بطهارة ثم ينهى عنها بطهارة على الوجه الذي أمر به فالوجه واحد فان قالوا بل الوجه مختلف لأنه أمرنا بالفعل بشرط ألا ينهى عنه قيل البارىء سبحانه عالم بأن هذا الشرط لا يحصل والأمر بالشرط إنما يحصل ممن لا يعرف العواقب وأيضا فان النهي ليس بوجه يقع عليه الفعل وأيضا فليس بأن يقولوا أمرنا بالفعل بشرط أن لا ينهى عنه أو بشرط كونه مصلحة أو يكون الغرض به توطين النفس على فعله بأولى من أن يقولوا بل نهانا عنه بشرط أن لا يتجدد أمر آخر قبل فعله ويكون الغرض كراهة فعله إن لم يتجدد أمر آخر به ويمكن أن تقرر الدلالة فيقال النهي عن الشيء قبل وقت فعله هو نهي عما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله في الوقت والمكان والوجه على حسب ما مثلناه وهذا يؤدي إلى الفساد المتقدم ذكره فإن قيل إن النهي لم يتناول ما تناوله الأمر قيل إن المسألة مفروضة في أن يأمرنا الله سبحانه بالصلاة عند غروب الشمس بطهارة ثم ينهى عنها في ذلك الوقت بعينه بطهارة فمتعلقهما واحد فان قالوا الأمر إنما تناول العزم على الصلاة أو اعتقاد وجوبها والنهي تناول نفس الصلاة أجبنا عنه بما تقدم
واحتج المخالف بأشياء

منها قول الله عز و جل يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فدل على أنه يمحو كل ما شاء محوه وفي ذلك جواز محو العبادة قبل وقتها والجواب أن حقيقة المحو هو محو على كل وجه الكتابة وقد قيل المراد به ما يكتبه الملكان من المباحات ويبقيه ما يشاء من الطاعات والمعاصي وقيل المراد به محو النكبات والبلايا بالصدقة على معنى أنه لولاها لنزل ذلك وعلى أن الآية تدل على أنه يمحو ما يشاء وليس في الآية أنه شاء محو العبادات قبل أوقاتها
ومنها أن إبراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام إني أرى في المنام أني أذبحك فقال له افعل ما تؤمر فأضجعه وأخذ المدية ليذبحه وذلك لا يكون إلا وقد أمر بالذبح ثم إن الله عز و جل نهاه عن ذبحه قبل وقت الذبح وفداه بذبحه والجواب أنه لم يفعل ما فعله إلا وقد أمر بشيء ومعناه أنه أمر بالذبح ولا رؤية الذبح في المنام أمر له بالذبح فيحتمل أن يكون أمر بالذبح ويحتمل أن يكون أمر بما فعله وامتثله ولهذا قال الله عز و جل قد صدقت الرؤيا ولو كان قد فعل بعض ما أمر به لكان قد صدق بعض الرؤيا وقول إسماعيل افعل ما تؤمر إنما يفيد الأمر في المستقبل وقوله إن هذا لهو البلؤا المبين لا يمنع مما ذكرناه لأن إضجاع ابنه وأخذ المدية مع غلبة الظن بأنه يؤمر بالقبح بلاء عظيم وإنما فدى بالذبح ما كان يتوقعه من الأمر بالذبح وقد قيل إنه أمر بصورة الذبح وهو القطع وأنه كان كلما قطع موضعا من الحق وتعداه إلى غيره وصل الله سبحانه ما تقدم قطعه فإن قيل حقيقة الذبح هو قطع مكان مخصوص تبطل معه الحياة

قيل ليس كذلك لأن الإنسان يقال إنه مذبوح قبل بطلان الحياة ولهذا يقال قد ذبح هذا ولم يمت بعد ولو كان حقيقة الذبح ما ذكروه لم يمتنع حمل الآية على المجاز بدليلنا المتقدم وقيل إنه أمره بالذبح والله سبحانه جعل على عنقه صفيحة من حديد فكان إذا أمر إبراهيم السكين لم يقطع شيئا من الحلق وهذا تأويل سائغ إذا قلنا إنه أمر بما يجرى مجرى الذبح من إمرار السكين فأما إذا قيل إنه أمر بالذبح على الحقيقة فانه لا يسوغ لأنه تكليف ما لا يقال
ومنها أن الله عز و جل نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول قبل أن فعل ذلك والجواب أنه نسخ ذلك إلا بعد أن حضر وقت الفعل ولهذا ناجى علي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد أن قدم الصدقة فعلمنا أن وقت الفعل قد كان حضر سواء ناجاه غيره أو لم يناجه
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم صالح قريشا يوم الحديبية على رد من هاجر إليه ثم نسخ الله سبحانه ذلك قبل الرد بقوله عز و جل فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار والجواب أنه لا يمتنع أن تكون الآية نزلت بعد مضي وقت كان يجوز أن يهاجرن إليه فيردهن فيكون النسخ واقعا بعد وقت الفعل وروى الواقدي أن أبا بصير لما رده النبي صلى الله عليه و سلم إلى قريش انحاز مع جماعة ممن أسلم من قريش فكان يمنع من قدوم الميرة على أهل مكة فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم تقسم عليه بأرحامها إلا رد أبا بصير والنفر الذين معه إليه وأن لا يرد عليهم أحداها هاجر إليه فاذا كان العهد وقع على رد المهاجرين إليهم لأنهم آثروا ذلك وشرطوه فمتى كرهوه زال الشرط فلم يجب ردهم لم يكن ذلك نسخا
ومنها قولهم إن النبي صلى الله عليه و سلم لما عرج به إلى السماء فرض الله عز و جل عليه

وعلى امته خمسين صلاة فأشار عليه موسى عليه السلام بالرجوع وأن يشفع في النقصان وأنه قبل ما أشار عليه فردت الصلاة إلى خمس بعد رجعات وذلك نسخ قبل الوقت والجواب أن ذلك خبر واحد لا يجب قبوله فيما يجب أن نعلم وأيضا فان الخبر يتضمن من أنواع التشبيه ما يدل على أن أكثره موضوع وأيضا فان ذلك يقتضي نسخ الشيء قبل وقته وقبل تمكن المكلف من العلم وعلل المخالف تقتضي المنع من ذلك لأنهم يجوزون هذا النسخ على ان يكون الغرض في التعبد بالمنسوخ العزم على أدائه والاعتقاد لوجوبه وهذا لا يتم إلا مع علم المكلف بالتعبد بالمنسوخ
ومنها قولهم لو أمرنا الله سبحانه بمواصلة الفعل سنة جاز أن ينسخه عنا بعد أشهر وذلك نسخ قبل أوقاته التي هي بقية السنة والجواب أن نسخه له يدلنا على أنه لم يعن بالسنة جمعها وأنه لم يكن أراد إلا الفعل في بعض السنة فيكون النسخ بيانا للمراد بالخطاب على وجه يكون الأمر تناول غير ما تناوله النهي وليس كذلك إذا ورد النسخ قبل حضور كل شيء من أوقات الفعل لأنه يكون قد نسخ جميع ما تناوله الأمر فيكون النهي قد تناول نفس ما تناوله الأمر
ومنها أنه إذا جاز أن يأمر الله تعالى زيدا أن يفعل غدا فعلا ثم يمنعه منه قبل مجيء غد فيكون مأمورا بالفعل بشرط زوال المنع جاز أن ينهاه عنه قبل الغد فيكون مأمورا به بشرط زوال النهي والجواب أنه لا يجوز أن يأمر زيدا أن يفعل في غد ويمنعه منه في غد لأنه أمره بالفعل مطلقا وأراده منه ثم منعه كان قد كلفه ما لا يطيقه وإن أمره بشرط زوال المنع فالأمر بشرط لا يجوز وقوعه من العالم بالعواقب فاذا أمر جماعة أن يفعلوا الفعل في غد فانه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل ويدلنا المنع على أن الله عز و جل ما عنى بخطابه من علم أنه يمنع ولا يجوز أن يمنع جميعهم بشيء أو أمر به جماعة ثم نهى عنه جميعهم فقد تعلق الأمر بما تعلق النهي به على خد واحد وذلك يؤدي إلى ما

ذكرناه من الفساد وليس ذلك بموجود في منع بعض من أمر بالفعل
ومنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في مكة أحلت لي ساعة من نهار ومع ذلك منع من القتال فيها وهذا نسخ قبل وقت الفعل والجواب أن إباحة القتال في تلك الساعة لا تقتضي وقوع القتال فيها لأن المباح لا يجب وقوعه لا محالة فلا يمتنع أن يكون نهي عن القتال بعد تلك الساعة وعلى أن إباحة القتال فيها يفيد حسن اختياره له وحسن كفه عنه ومنعه منه فلا يمتنع أن يحتاج المنع منه ولا يمتنع أن يكون أبيح أن يقتل فيها قوما معينين مثل ابن خطل وغيره ولم يبح له القتال

باب في أنه يحسن نسخ العبادة وإن كان الأمر بها مقيدا بلفظ التأبيد
ذهب بعض الناس إلى أن الله عز و جل لو قال لنا افعلوا هذا الفعل أبدا لم يجز نسخه والذي يفسد قولهم هو أن النسخ إنما يرد على عبادة قد أمرنا بها بلفظ يفيد الاستمرار أو يدل الدليل على أن المراد به الاستمرار فلفظ التأبيد كغيره من الأدلة والألفاظ المفيدة للاستمرار فكما جاز دخول النسخ على هذه الألفاظ إما بمقارنة إشعار النسخ لها أو من غير مقارنة ذلك جاز دخوله على لفظ التأبيد فلا معنى للفرقة بينهما وأيضا فقد قال شيوخنا إن العادة في لفظ التأبيد المستعمل في الأمر المبالغة لا الدوام ألا تراه هو المفهوم من قول القائل لغيره لازم فلانا أبدا أو احبسه أبدا أو امض إلى السوق أبدا
واحتج المخالف بأشياء
منها أن لفظ التأبيد يفيد استمرار وجوب الفعل في كل أوقات الإمكان فجرى مجرى أن ينص الله سبحانه على وجوب عبادة في كل وقت من تلك الأوقات فكما لا يجوز ورود النسخ على هذا فكذلك ذاك والجواب أن

اللفظ إذا تناول جملة أشياء جاز إخراج بعضها منه وإذا تناول شيئا واحدا لم يجز إخراج شيء منه ولهذا كان العموم في تناوله أشخاص الجنس يجري مجرى ألفاظ تتناول كل واحد من تلك الألفاظ في امتناع دخول التخصيص فيه على أن ذلك يمنع من النسخ كله لأن المنسوخ لا بد من كونه لفظا يفيد الاستدامة إما بنفسه وإما بدلالة على أن عند أصحابنا أن لفظ التأبيد في التعبد ليس يفيد من جهة العرف كل وقت من أوقات المستقبل
ومنها قولهم إنا لو أمرنا بالعبادة بلفظ يقتضي الاستمرار لجاز دخول النسخ عليه فلو جاز ذلك مع التقيد بالتأبيد لم يكن في التقييد به فائدة والجواب أن التقييد بذلك يفيد تأكيد الاستمرار أو تأكيد المبالغة في الاستمرار فاذا ورد النسخ عليه علمنا أن لفظ التأبيد كان الغرض به تأكيد المبالغة ولو منع ذلك من النسخ لمنع تأكيد العموم من التخصيص
ومنها قولهم لو جاز نسخ ما ورد بلفظ التأبيد لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام العبادة في أزمان التكليف والجواب أن لنا طرقا إلى ذلك بأن لا يقترن بالأمر بالعبادة ما يدل على ان المراد به بعض الأزمان إما دلالة مفصلة أو مجملة وعند أصحابنا أن طريقنا إلى ذلك أن يقول الله عز و جل هذا العبادة واجبة عليكم إلى آخر أوقات التكليف
ومنها قولهم إن لفظ التأبيد يفيد الدوام إذا وقع في الخبر فيجب في الأمر مثله والجواب أن إفادة الدوام فيهما لا يمنع من قيام الدلالة على أن المراد به غير ظاهر كما نقوله في جميع ألفاظ العموم ثم ننظر متى يجب أن يقوم الدلالة على ذلك فان حسن أن يتأخر الدلالة على ذلك من غير إشعار جوزناه وإن لم يحسن باشعار مقارن شرطناه وأصحابنا يمنعون من إفادة لفظ التأبيد الدوام إذا وقع في التعبد

باب في أن إثبات بدل في العبادة ليس بشرط في نسخها
اعلم أنه يحسن نسخ العبادة إلى بدل ولا إلى بدل والبدل ضربان أحدهما ينافي المبدل نحو نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة فالجمع بينهما مستحيل في صلاة واحدة والآخر لا ينافي المبدل مثل نسخ صوم عاشوراء برمضان وذهب بعض الناس إلى المنع من نسخ الشيء لا إلى بدل وليس يخلو إما أن يكونوا منعوا من تسمية دفعة لا إلى بدل نسخا أو يكونوا منعوا من حسن ذلك أو من وقوعه في الشريعة أو قالوا إن الشرع ورد بأن ذلك لم يقع
أما اشتراطه في الاسم فباطل لأن النسخ هو الإزالة في الأصل ولم يدل دلالة على اشتراط البدل في الاسم فلم نشرطه فيه كما لم نشرط غيره فيه لأن الأمة سمت رفع تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه و سلم لا إلى بدل نسخا
وأما حسن ذلك فلانه يجوز في العقل أن يكون مثل المصلحة مفسدة في وقت آخر من غير أن يقوم مقامها فعل آخر كما يجوز ذلك وإن قام مقامها فعل آخر لا فرق في العقل بينهما فجاز نسخها إلى بدل ولا إلى بدل
وأما الدلالة على وقوع ذلك في الشريعة فهي أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول قد نسخ لا إلى بدل والاعتداد بالحول قد زال إلى أربعة أشهر وعشرا فما زاد على هذه المدة قد ارتفع لا إلى بدل وهذا أيضا يدل على أن الشريعة لم ترد بأن ذلك لم يقع وأيضا فلسنا نجد في الشريعة ما يدل على أن ذلك لم يقع فان قالوا قول الله عز و جل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها يدل على ذلك لأنه أخبر أنه لا ينسخ إلا ويأتي

بخير ما نسخ أو مثله والجواب أن نسخ الآية يفيد نسخ لفظها ولهذا قال نأت بخير منها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية ولو تناولت الآية الحكم لجاز أن يقال إن نفي الحكم وإسقاط التعبد به خبر منه في الوقت الذي تصير العبادة فيه مفسدة

باب في أن رفع العبادة إلى ما هو أخف منها ليس بشرط في نسخها
ذهب قوم من أهل الظاهر إلى المنع من نسخ عبادة إلى بدل هو أشق منها فان كانوا منعوا من وقوع اسم النسخ إذا كانت العبادة الناسخة أشق فالذي يفسده أن النسخ هو الإزالة ولا دليل على اشتراط ما ذكروه وقد سمى المسلمون إزالة التخيير بين الصوم والفدية بنفس الصوم نسخا وهو أشق وكذلك إزالة الحبس في اليوت إلى الجلد والرجم وقولهم إن نسخ العبادة إلى ما هو أخف منها أذهب في الإزالة يقتضي إزالة نسخها لا إلى بدل ليكون أذهب في الإزالة على أن العبادة المنسوخة زائل وجوبها سواء كان بدلها أشق أو أخف وليس يعقل في زوال الوجوب تزايد وإن منعوا من حسن نسخ العبادة إلى بدل هو أشق فالذي يفسده هو أن مثل العبادة إذا صار مفسدة جاز أن يكون المصلحة ما هو أشق منها وجاز أن يكون ما هو أخف منها هو الصلاح لا فرق في العقل بينهما وإن كانوا منعوا من وقوع ذلك في الشريعة فالذي يبطله نسخ إمساك الزانية في البيوت إلى الجلد والرجم

ونسخ التخيير بين الصوم والفدية إلى نفس الصوم وهو أشق وإن قالوا قد جاءت الشريعة بأن ذلك لم يقع فما ذكرناه الآن يبطله مع أنا لم نجد في ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وقالوا خير منها ما كان أخف منها ومثلها ما جرى في السهولة مجراها قيل إن ظاهر الآية يتناول نسخ التلاوة على أن خيرا من العبادة هو ما كان أنفع منها وأصلح في الدين وإن كان أشق وإن احتجوا بقول الله عز و جل يريد الله بكم اليسير ولا يريد بكم العسر وقالوا إرادة ما هو أشق إرادة العسر قيل لهم هذا يمنع من التعبد بالمشاق وأيضا فإن إرادة ما هو أشق مما هو أصلح وأبلغ في التحذر من المضار وأكثر ثوابا إرادة لليسر لا للعسر وإن احتجوا بقول الله عز و جل يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا قيل ليس في ذلك لفظ عموم حتى يقتضي أن يريد التخفيف في كل شيء ومن كل وجه وعلى أن إرادة الأشق الذي يكون معه أبعد من المضار وأصلح في الدين إرادة للتخفيف لأنه يؤول إلى التحفيف

باب جواز نسخ التلاوة دون الحكم ونسخ الحكم دون التلاوة
يدل على جواز ذلك أن التلاوة والحكم عبادتان وكل عبادتين فانه يجوز أن يصير مثلاهما مفسدتين فيجب النهي عنهما ويجوز أن يصير كل واحدة منهما بانفرادها مفسدة دون الأخرى فيلزم النهي عنها دون الأخرى وقد نسخ الله سبحانه الحكم دون التلاوة في قوله تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج بقوله سبحانه يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا

ونسخت التلاوة دون الحكم فيما روي أنه كان مما أنزل الله عز و جل والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ويحتمل أن يكون ذلك مما أنزل وحيا ولم يكن ثابتا في المصحف وقد روي عن عمر أنه قال لولا أن يقال زاد عمر في المصحف لأثبت في حاشيته الشيخ والشيخة وقد نسخت التلاوة والحكم جميعا فيما روي عن عائشة أنها قالت كان مما أنزل الله سبحانه عشر رضعات يحرمن فنسخن بخمس وليس يجب إذا ارتفعت التلاوة أن يرتفع الحكم لأن الدليل إذا دل على شيء في أوقات جاز عدمه والحكم ثابت فان النبي صلى الله عليه و سلم لو قال زيد يعيش مائة سنة لم يجز بطلان حياة زيد عند عدم هذا القول من النبي صلى الله عليه و سلم ولهذا جاز أن تتقدم الدلالة على مدلولها وليس يجب إذا ارتفع الحكم أن ترتفع التلاوة من حيث كانت التلاوة دلالة على الحكم ويستحيل بقاء الدلالة مع عدم مدلولها وذلك لأن التلاوة دلت على الحكم في عموم الأوقات بشرط أن لا يعارضها ما يمنع من مدلولها كما نقوله في دلالة العموم على الاستغراق وهذا الشرط غير قائم مع وجود النسخ إن قيل لو بقيت الدلالة مع عدم حكمها لكان الغرض بالآية التعبد بالتلاوة فقط وأنتم تأبون ذلك قيل إنما نأنبى التعبد بتلاوة ما لا يفهم فأما ما كان له حكم ثم زال وهو مفهوم في نفسه أو لم يتضمن حكما أصلا كالأخبار عن الأمم السالفة فلا يمنع من التعبد بتلاوته فقط

باب جواز نسخ الأخبار
منع أكثر الناس من نسخ الأخبار وأجازه الشيخ أبو عبد الله وقاضي القضاة والكلام في ذلك يكون في الأخبار وفي فوائدها وفي توابع فوائدها
أما فوائد الأخبار فضربان أحدهما لا يجوز تغييره والآخر يجوز تغييره فالأول كالأخبار عن قبح الظلم وكالأخبار عن صفات الله الذاتية ونسخ هذه

الفوائد لا يصح لأن الأخبار عن زوالها كذب وأما الفوائد التي يجوز تغييرها فضربان احدهما أحكام والآخر غير أحكام والثاني ضربان أحدهما فوائد مستقبلة والآخر ماضية كلاهما يدخلها معنى النسخ وإن لم يسم نسخا أما المستقبلة فنحو أن يخبرنا الله سبحانه أن يعذب العصاة أبدا فانه يجوز أن يدلنا في المستقبل بأنه أراد بالتأبيد ألف سنة وذلك إنما يجوز بأن يشعرنا بهذا البيان عند الخطاب وقد منع شيوخنا رحمهم الله من دخول النسخ في الوعد والوعيد والذي ذكرناه غير ممتنع وأما الماضي فيجوز أن يخبر الله عز و جل أنه عمر زيدا ألف سنة ويشعرنا أنه أراد البعض ويدلنا في المستقبل أنه عمره ألفا إلا خمسين وأما الفوائد التي هي الأحكام ويجوز تغيرها فكالأخبار عن وجوب الحج ابدا كان يجوز نسخه في المستقبل لأن ما أجاز نسخه لو تعلق به أمر هو جواز انتقال كون ذلك مصلحة إلى أن يكون مفسدة وجواز أن يدلنا على أن المراد بالخطاب المفيد لاتصال العبادة انقطاعها وهذا قائم في الخبر والقول بأن من شرط حسن النسخ كون المنسوخ أمرا أو نهيا مع أنه لا تأثير لذلك كالقول بأن من شرطه كون المنسوخ خبرا
فان قيل لاشتراطنا كونه أمرا أو نهيا تأثير لأن دخول النسخ على الخبر يؤذن بكونه كذبا قيل ودخوله على الأمر يؤذن بالبداء فان قالوا لا يؤذن بالبداء لأن النهي إنما دل على أن الأمر ما تناول ما تناوله النهي قيل والدليل الناسخ دل على أن الخبر المنسو ما تناول ما تناوله الدليل الناسخ وإذا تغاير متعلقهما ارتفع الكذب كما يرتفع البداء في الأمر والنهي فإن قيل إنما يجوز دخول النسخ على الخبر المتناول للأحكام لأنه في معنى الأمر بالفعل قيل هذا إقرار بدخول معنى النسخ فيه وهو ما أردناه وقولكم إنما دخل النسخ على الخبر لأنه ليس في معنى الأمر كقول من قال إنما دخل على الأمر لأنه في معنى الخبر عن وجوب الفعل على أنهم إن أرادوا بقولهم الخبر في معنى الأمر أنه على صيغته كان الحس يشهد بخلافه وإن أرادوا أنه يفيد فائدة الأمر من الوجوب فلسنا نأبى ذلك

واحتج الشيخان أبو علي وأبو هاشم رحمهما الله للمنع من نسخ الخبر بأن القائل لو قال أهلك الله عادا ثم قال ما أهلكهم كان كذبا والجواب إن إملاكهم غير متكرر لأنهم لا يهلكون مرة بعد مرة بل إنما يهلك كل واحد منهم مرة فاذا قال ما أهلكهم رفع تلك المرة وهذا كذب وإن أراد بقوله ما أهلكهم ما أهلك بعضهم كان تخصيصا وليس بنسخ وذلك يجوز مع اقتران البيان وليس كذلك الخبر عن تكرار الفعل وتواليه في الأزمان لأن قيام الدلالة على أنه ما أريد تكرارها في بعض الزمان وهو النسخ الذي أجزناه في الأمر والنهي فهذا هو الكلام في نسخ فوائد الأخبار
فأما ما يتبع فوائدها فهو الاستدلال بالخبر عن فوائدها ونسخ ذلك جائز سواء بقيت الفوائد أو نسخت أما إذا نسخت فلا شبهة في ارتفاع الاستدلال لأنه لا يجوز الاستدلال على إثبات ما ليس بثابت وأما إذا لم تنسخ فوائدها فانه يجوز أن يكون الاستدلال بالخبر مفسدة كالاستدلال بأخبار التوراة على أحكام هي الأن ثابتة
وأما نسخ الأخبار أنفسها فضربان أحدهما أن تنسخ عنا تلاوة الخبر والآخر أن ينسخ عنا الابتداء بالخبر أما نسخ تلاوة الخبر فجائز كنسخ تلاوة أخبار التوراة وغيرها وأما نسخ الابتداء بالخبر فنحو أن يأمر الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه وكونه ندبا ويدلنا على قبحه سواء كان فائدة الخبر مما يجوز أن تتغير ومما لا يجوز أن تتغير كالأخبار عن صفات الله سبحانه لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة ولا يجوز أن نؤمر بنقيض ما كنا نخبر به إن كان ذلك مما لا يجوز تغيره نحو الأمر بالإخبار

بأن الله سبحانه عالم ثم الأمر بالإخبار بأنه غير عالم لأن ذلك كذب لا يحسن الأمر به ويجوز أن نؤمر بالإخبار بنفي ما أمرنا أن نخبر به إن جاز تغيره نحو أن نؤمر بالإخبار عن كفر زيد ثم نؤمر بالإخبار عن إيمانه فيما بعد وقد ذكر قاضي القضاة في الشرح أنه يبعد أن يبقى وجوب الفعل ويحرم العزم على أدائه قال إلا أن يجوز كون العزم عليه مفسدة ويستحيل أن يحرم علينا إرادته المقارنة له لأن لا يكون الفعل واقعا على ما أمرنا أن نوقعه عليه إلا مع مقارنتها

باب نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة
أما الكتاب فمتساو في وقوع العلم به ووجوب العمل وكذلك السنن المقطوع بها واما السنن المنقولة بالآحاد فهي متساوية في كونها أمارات يلزم العمل بكل واحد منها فلو لم يجز مع تساوي الناسخ والمنسوخ في القوة ووقوع النسخ فيهما بطل ما علمناه من جواز النسخ فإذا ثبت ذلك ووجدنا أحد الخبرين أو الآيتين متأخرا عن الآخر وحكمهما متناف لم يمكن فيهما إلا النسخ وقد نسخ الله الاعتداد بالحول باعتداد أربعة أشهر ونسخ الله سبحانه الصدقة بين يدي مناجاة الرسول بقوله تعالى أأشفقتم الآية ونسخ ثبات الواحد للعشرة بقوله الآن خفف الله عنكم الآية وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن زيارة القبور ثم قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وقال في شارب الخمر فان شربها الرابعة

فاقتلوه فحمل إليه من شربها الرابعة فلم يقتله
فأما نسخ الخبر المتواتر بأخبار الآحاد فجائز في العقل والشرع قد منع منه

باب نسخ السنة بالكتاب
ذهب أكثر الناس إلى حسن ذلك ووقوعه ومنع الشافعي منه ودليلنا أنه لو امتنع ذلك لم يخل إما أن يكون امتناعه من حيث القدرة والصحة أو من حيث الحكمة أما من حيث القدرة والصحة فبأن يقال إن الله عز و جل لا يوصف بالقدرة على كلام ناسخ لسنة نبيه أو لو أتى بكلام هذه سبيله لم يكن دالا على النسخ والأول والثاني باطلان لأنه الله سبحانه قادر على جميع أقسام الكلام ولا يجوز خروج كلامه من أن يكون دليلا على ما هو موضوع وأما الحكمة فبأن يقال لو نسخ الله سبحانه كلام نبيه لنفر ذلك عنه وأوهم أنه لم يرض بما سنه وهذا باطل لأن النسخ إنما يرفع الحكم بعد استقرار مثله وذلك يمنع من هذا التوهم لأنه لو لم يرض بما سنه لم يقر عليه أصلا على أنه لو نفر عنه لنفر عنه أن ينسخ سنته بسنة أخرى لأن السنة الناسخة إنما صدرت عنه لأجل الوحي فجرى مجرى كلام ينزله الله عز و جل إن قيل إن الله عز و جل إذا أنزل آية ناسخة أمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يسن سنة تكون هي الناسخة قيل لا وجه لوجوب ما ذكرتم فلم قطعتم به ولأنه لو كان كذلك لم تكن السنة بأن تكون ناسخة أولى من الآية
واحتج المخالف بأشياء
منها قول الله عز و جل لتبين للناس ما نزل إليهم فدل على أن كلامه بيان ولو نسخ لارتفع كونه بيانا وذلك لا يجوز قيل إنه ليس في

قوله لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أنه لا يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت دخلت الدار لأسلم على زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر على أنه ليس في كون كلامه كله بيانا ما يمنع من نسخه بالكتاب كما لا يمنع من نسخة بالسنة وكما لا يمنع كون بعض الكتاب بيانا من نسخه بالكتاب
ومنها قولهم من شرط الناسخ أن يكون من جنس المنسوخ ولهذا لم ينسخ الكتاب العقل والجواب أنه يجوز نسخ حكم العقل بالكتاب وإنما لا يسمى ذلك نسخا فليس كلامنا في الأسماء وإيجابهم كون الناسخ من قبيل المنسوخ دعوى لا دليل عليها
وأما الدلالة على أنه نسخت السنة بالقرآن فهي أنه كان يجب في الابتداء التوجه إلى بيت المقدس بالسنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن متعبدا بشريعة من قبله ثم نسخ ذلك بقول الله عز و جل وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ولم يكن وجوب التوجه إلى بيت المقدس معلوما بقول الله عز و جل فأينما تولوا فثم وجه الله لأن هذا يقتضي التخيير بين الجهات وهذا دليل على أن الآية وردت بعد إيجاب التوجه إلى الكعبة في المسافر إذا صلى باجتهاد إلى بعض الجهات ثم بان له أن تلك الجهة ليست بجهة القبلة

باب نسخ القرآن بالسنة
السنة ضربان أحدهما متواتر والآخر آحاد أما المتواتر فقد منع الشافعي

وطائفة منع بالعقل من نسخ القرآن به وأجازه المتكلمون وأصحاب أبي حنيفة من جهة العقل واختلف هؤلاء فمنهم من قال قد وقع ومنهم من قال لم يقع ولم يرد المنع منه
والدليل على جوازه في العقل أنه لو لم يجز لكان إما أن لا يجوز في القدرة والصحة أو في الحكمة ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و سلم يقدر على أنواع الكلام ولو أتى بكلام موضوع لرفع حكم من الأحكام لدل على ما هو موضوع له ولو امتنع ذلك في الحكمة لكان وجه امتناعه أن يكون منفرا عنه صلى الله عليه و سلم وموهما أن النبي صلى الله عليه و سلم يأتي بالأحكام من قبل نفسه فهذا لو نفر عنه لنفر عنه من حيث أزال الحكم وادعى أنه أوحي إليه بازالته وهذا قائم في نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة وكان يجب لو لم يكن القرآن معجزا أن يكون نسخ بعضه ببعض منفرا وأن يكون نسخ الآية بما لا يظهر الإعجاز فيه منفرا
فإن قالوا إنما جاز نسخ القرآن بالقرآن لأن اللقرآن معجز قيل إنا لا نفتقر في دليلنا إلى تشبيه السنة الناسخة بالقرآن فتفرقوا بينهما بما ذكرتم على أن النسخ هو رفع الحكم وإزالته وذلك هو موقوف على أن يدل دليل على رفعه وليس من شرط الدليل أن يكون معجزا فان قيل إذا لم يكن كلام النبي صلى الله عليه و سلم معجزا لم يتكلم بالنسخ قيل إنما لا يجوز أن يتكلم به لو كانت دلالته موقوفة على كونه معجزا ومعلوم أن القرآن ينسخ القرآن وإن لم يظهر في الناسخ الإعجاز وتنسخ السنة بالسنة ولا لإعجاز فيها فان قيل إذا نسخت السنة القرآن كان الله قد أنزل آية تكون هي الناسخة قيل إنما يجب ذلك لو كان لذلك وجه وجوب ولم تكف السنة في النسخ وقد بينا أنه لا وجه لوجوب ذلك إذ السنة ممكنة وكافية في النسخ من غير تنفير على أنه إذا وردت السنة وجب أن يضاف النسخ إلى كل واحد منهما لأنه ليس إحداهما أولى بذلك من الأخرى إن قيل إذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لا ينسخ الآية عندكم إلا بوحي فيجب إضافة النسخ إلى الوحي وإن لم يظهر لنا كما أنه إذا

أجمعت الأمة على نسخ الآية لم يضف النسخ إليها ولكن إلى ما دلها إلى النسخ وإن لم يظهر لنا والجواب أن في ذلك تسليم لما نريده من المعنى وهو نسخ آية بسنة من غير أن يظهر لنا الوحي وإنما نازعتم في وصف السنة بأنها ناسخة وليس يمتنع أن يفارق السنة الإجماع لأن الأمة إذا أجمعت على حكم لم نقل إنه شرعها ولذلك لا يقال إنها نسخت الكتاب بقولها والشرع يضاف إلى النبي صلى الله عليه و سلم فجاز أن يضاف النسخ إليه
واحتج المخالف بأشياء
منها قوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم فوصفه بأنه يبين ونسخ العبادة هو رفعها ورفعها ضد بيانها والجواب أن نسخها هو بيان ارتفاعها وذلك بيان للمراد بالخطاب كالتخصيص هو بيان للعموم وإن أخرج بعض ما تناوله ولو لم يكن النسخ بيانا لم يكن في وصف الله عز و جل نبيه بأنه مبين ما يمنع من كونه على صفة أخرى غير البيان وهو كونه ناسخا والشيخ أبو هاشم رحمه الله يحمل قوله تعالى لتبين للناس لتظهر لهم ذلك وتؤديه وإذا حملها على ذلك استوعب جميع ما أنزل إلينا وإذا حمل على بيان المجمل لم يستوعبه فكان هذا التأويل أولى لمطابقته العموم
ومنها قوله عز و جل وإذا بدلنا اية مكان آية قالوا فأخبر أنه إنما يبدل الآية بالآية والجواب أنه أخبر بأنه إذا بدل آية مكان آية قال قائلون كيت وكيت وليس في ذلك دليل على أنه لا يبدل الآية إلا بآية كما أنك إذا قلت إذا قصدت زيدا راكبا تكلم فينا الأعداء لا يدل على أنك لا تقصده إلا راكبا على أن ظاهر قوله عز و جل وإذا بدلنا آية مكان آية يتناول تبديل نص الآية لا حكمها

ومنها أن الله عز و جل حكى عن المشركين أنهم قالوا عند تبديل الاية بالآية إنما أنت مفتر وأنهم وهموا عند ذلك وأنه أزال هذا الإيهام بقوله قل نزله روح القدس من ربك بالحق والجواب أن ذلك لا يمنع من نسخ القرآن بالسنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لا ينسخ القرآن إلا إذا أوحي إليه بذلك فقد نزله روح القدس
ومنها قوله عز و جل قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي والجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم لا ينسخ أحكام القرآن إلا متبعا ما أوحي إليه من ذلك على أن قولهم ائت بقرآن غير هذا أو بدله ينصرف إلى ألفاظ القرآن دون أحكامها
ومنها قول الله عز و جل ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
واحتجوا بالآية من وجوه
منها أنه أخبر أن ما ينسخه من الآي يأت بخير منه وذلك يفيد أنه يأتي من جنسه وجنس القرآن قرآن ألا ترى أن الإنسان إذ قال ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه يفيد أنه يأتيه بثوب خير منه والجواب أن ذلك لا يفيد ما قالوه ألا ترى أن الإنسان إذا قال ما آخذ منك من ثوب آتيك بما هو خير منه احتمل أن يأتيه ببستان واحتمل غيره فلا يمتنع أن يكون المراد بذلك نأت بخير منها أي أنفع منها أو مثلها في النفع من جنسها أو من غير جنسها إن قيل إذا قال الإنسان لغيره ما آخذ منك من ثوب آتيك

بما هو خير منه إنما يفيد ما ذكرتم لأنه قد ذكر لفظه ما وهذه اللفظة تقع على الثوب وعلى غيره مما لا يعقل وليس كذلك الآية لأن الله لم يقل نأت بما هو خير منها وإنما قال نأت بخير منها فنظيره قول القائل ما آخذ منك من ثوب آتيك خيرا منه في أنه يفيد ثوبا خيرا منه وذلك يقتضي أن يضمر في الكلام اسم الثوب قيل لا نسلم أنه إذا قال آتيك بخير منه كان المراد ثوبا خيرا منه بل يجوز أن يأتيه بشيء ليس بثوب يبين ذلك أنه لا بد في ذلك من إضمار فليس بأن يضمر آتيك بثوب خير بأولى من أن يضمر آتيك بشيء هو خير منه وليس يجب إضمار الثوب لأنه قد تقدم ذكره ولا يجب إذا رجع لام العهد إلى معهود قد تقدم ذكره أن يجب مثله في الإضمار لأنهما متباينان
ومنها أن قول الله عز و جل نأت بخير منها يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بخير من الآية وذلك لا يكون إلا والناسخ قرآن والجواب أن السنة إذا دلت على نسخ القرآن فالذي أتى بما هو أنفع مما كان هو الله عز و جل ألا ترى أنه عز و جل هو الناسخ والموحي إلى نبيه بالنسخ
ومنها قولهم نأت بخير منها يفيد أن الذي يأتي به خير من الآية على الإطلاق والسنة لا تكون خيرا من القرآن على الإطلاق لأجل اختصاص القرآن بالإعجاز والجواب أن ما تضمنه السنه الناسخة خير وأنفع من المنسوخ وليس يجب أن يكون خيرا من الآية من جميع الوجوه لأنه ليس في قوله نأت بخير منها لفظ يعم جميع وجوه الخير
ومنها أن الله عز و جل قال ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير فدل على أن الذي يأتي به هو المختص بالقدرة عليه وهذا هو القرآن دون غيره من الكلام والجواب أن المتمكن من إزالة الحكم إلى ما هو خير منه

وأنفع هو الله عز و جل وحده لأنه المختص بالعلم بالمصالح وحده
وقد منع الشيخ أبو هاشم رحمه الله من التعلق بالاية بما هو جواب عن الوجوه التي ذكروها وهو أن قوله نأت بخير منها أو مثلها ليس فيه أنه يأتي بخير منها ناسخا بل لا يمتنع أن يكون الذي يأتي به مما هو خير منها أنه في حكم آخر بعد نسخ الآية ويكون الناسخ غير الآية إن قيل كل من أوجب عند نسخ الآية الإتيان بآية أخرى قال إنها هي الناسخة وفي ذلك ما قلنا قيل إنا لا نوجب ذلك من جهة الحكمة وإنما نحكم بذلك لأجل إخبار الله سبحانه في هذه الآية ولم يجر هذا القول على هذا التفصيل بين الأمة قبل أبي هاشم فيدعى إجماعها فيه وقد منع من التعلق بالآية بأن ظاهر قوله عز و جل وما ننسخ من آية نسخ التلاوة دون الحكم فقط إلا أنه لا يطلق فيما نسخ حكمه وبقيت تلاوته أنه قد نسخ ألا ترى أنه يقال ما نسخت الآية وإنما نسخ حكمها ولهم أن يقولوا بل قد يطلق ذلك لأن الناس يقولون إن قول الله سبحانه إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة منسوخ وإن كانت التلاوة باقية وقد قالوا أيضا أنتم تجيزون نسخ تلاوة الآية بسنة بأن ينهي النبي صلى الله عليه و سلم عن تلاوتها فإن ثبت أنه لا يجوز نسخ تلاوتها بسنة وجب مثله في حكمها لأن أحدا لم يفرق بينهما فان قلنا لا يمتنع أن لا تنسخ التلاوة إلا وتأتي آية أخرى وإن لم تكن ناسخة ويكون الدليل على ذلك هذه الآية كان ذلك رجوعا إلى الوجه المتقدم
فأما الدلالة على أن نسخ القرآن بالسنة قد وقع فهي أنه كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت بقول الله عز و جل فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ثم نسخ الله عز و جل ذلك بقوله

الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وليس وإن كان الحبس موقوفا على غاية وكان قوله الزانية والزاني بيانا لتلك الغاية ما يمنع أن يكون ذلك نسخا لأن بيان الغاية المجملة يسمى نسخا وهذا كلام في الأسماء ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم نسخ ذلك بالرجم فان قيل بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله الشيخ والشيخة إذا زنيا قيل إن ذلك لم يكن قرآنا يدل على ذلك أن عمر رضي الله عنه قال لولا أن يقول الناس زاد عمر في المصحف لأثبت في حاشيته الشيخ والشيخة إذا زنيا فلو كان ذلك قرآنا في الحال أو كان قد نسخ لم يكن ليقول ذلك فعلمنا أن ذلك سنة من النبي صلى الله عليه و سلم وأراد عمر أن يخبر بتأكيده
فأما نسخ القرآن والأخبار المتواترة بأخبار الآحاد فجائز في العقول وقال بعض الناس بورود التعبد بالمنع منه وذكر عن بعض أهل الظاهر أن ذلك غير ممنوع منه ودليلنا أن الصحابة رضي الله عنها كانت تترك أخبار الآحاد إذا رفعت حكم الكتاب قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري اصدقت أم كذبت
واحتج المخالف بأشياء
منها أن الحكم بأخبار الآحاد معلوم بدليل قاطع والحكم به كالحكم بالآية فجاز نسخ الآية به كما جاز نسخ آية بآية والجواب أن ما ثبت من الإجماع يمنع من كون الحكم بها معلوما إذا كانت رافعة لحكم الكتاب على أن الدليل القاطع الدال على قبول الأخبار لم يتناول أخبار الآحاد إذا كانت ناسخة لدليل الكتاب فلا يمكن أن يقال إن الحكم بها والحال هذه معلوم
ومنها أنه إذا جاز تخصيص القرآن بأخبار الآحاد مع أن التخصيص يفيد

أن ما تناوله ما كان أريد بالعام فبأن يجوز النسخ بها أولى إذ كان النسخ إنما يرفع مثل الحكم بعد كون الحكم مرادا بالآية والجواب أن ما ذكروه يدل على جواز النسخ به من جهة العقول ولا يدل على أنه ما منع منه في الشريعة وقد بينا أن الإجماع قد منع منه
ومنها قولهم إن نسخ الكتاب قد وقع بأخبار الآحاد من وجوه منها ان قوله قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع والجواب أن قوله قل لآ أجد فيما أوحى إلي إنما يتناول ما اوحي إليه إلى تلك الغاية ولا يتناول ما بعد ذلك فلم يكن النهي الوارد بعد ذلك نسخا وأيضا فإن الآية تمنع من تحريم كل ما عدا الميتة من الدم ولحم الخنزير فنهى النبي صلى الله عليه و سلم من أكل كل ذي ناب من السباع ولا يمتنع أن يكون مقارنا للآية فيكون مخصصا لا ناسخا
ومنها أن قول الله عز و جل وأحل لكم ما وراء ذلكم إن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تنكح امرأة على عمتها ولا على خالتها والجواب أن ذلك مما تلقى بالقبول فهو لذلك معلوم يجري مجرى التواتر في جواز وقوع النسخ به ولا يمتنع أن يكون هذا ومثله مقارنا للآية فيكون مخصصا
ومنها أن قول الله عز و جل كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بما روي بالآحاد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا وصية لوارث والجواب أن هذا متلقى بالقبول فجرى مجرى التواتر وقد روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما انهما نسخا

ذلك بقول الله عز و جل يوصيكم الله في أولادكم وقول النبي صلى الله عليه و سلم لا وصية لوارث بيان لوقوع النسخ بقول الله يوصيكم الله في أولادكم ولا يمتنع أن يكون كان ذلك في صدر الإسلام جائزا ثم منع من ذلك كما قلناه في نسخ القبلة عن أهل قباء بخبر واحد وذلك يدلنا على أن النسخ بأخبار الآحاد كان جائزا في صدر الإسلام ثم منع منه
ومنها أن الجمع بين وضع الحمل والمدة منسوخ بأحد الأجلين والجواب أن من الناس من قال ذلك غير منسوخ ومنهم من جعل آية الوضع ناسخة في الحامل خاصة وهو قول ابن مسعود وغيره ومن الناس من جعل ذلك مخصصا لأنه يمكن فيه البناء وفي هذه المسألة نظر لأن المعول فيها على خبر عمر وهو خبر واحد

باب في نسخ الإجماع وفي وقوع النسخ به
اعلم أنه لو نسخ الإجماع لكان ينسخ بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع ومعلوم أن الإجماع إنما انعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم فلم يرد كتاب أو سنة بنسخانه فان قيل هلا جوزتم أن تظفر الأمة بعد اتفاقها بنص كان قد خفي عنها فتنسخ اتفاقها به قيل لو كان في الشريعة نص لما خفى عنها بأجمعها لأنه لا يجوز أن تذهب بأجمعها عن الحق سيما وإجماعها الحق في واحد منه وليس من مسائل الاجتهاد فيقال قد وجب عليها العمل بالنص بشرط أن تظفر به كما قيل ذلك في مسائل الاجتهاد على أنها لو كلفت العمل بالنص بشرط أن تظفر به فاذا لم تظفر به كانت مكلفة العمل باجتهادها لما كان

عدولها عما أجمعت عليه لأجل النص الذي ظفرت به نسخا لأن الحكم إذا ثبت بشرط وعلم بالعقل زوال ذلك الشرط لم يسم رفع الحكم نسخا إن قيل ايجوز أن ينسخ الله حكما أجمعت عليه الأمة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قيل يجوز ذلك وإنما منعنا أن تجمع الأمة بعد وفاة النبي لله حتى يكون إجماعها هو المعتبر ثم ينسخ فأما اتفاقها في حياة النبي صلى الله عليه و سلم لأجل توقيفه أو إقراره فالمعتبر فيه بتوقيفه وإقراره والنسخ يتوجه إلى ذلك
ولا يجوز نسخ الإجماع باجماع لأن الإجماع الثاني إن دل على أن الإجماع الأول كان باطلا لم يجز ذلك وإن كان الإجماع الأول حين وقع وقع صحيحا لكن الإجماع الثاني حرم القول به من بعد لم يجز ذلك إلا لدليل شرعي متجدد وقع لأجله الإجماع الثاني من كتاب أو سنة أو لدليل كان موجودا وخفي عليهم من قبل ثم ظهر لهم وكل ذلك قد أفسدناه إن قيل أليس إذا اختلفت الأمة على قولين في المسئلة فقد سوغت بأجمعها للعامي أن يأخذ بكل واحد من القولين وسوغت للمجتهد أن يأخذ بكل واحد منهما إذا أداه اجتهاده إليه فاذا اتفقت على أحد القولين كانت قد حظرت بأجمعها على العامي والمجتهد المصير إلى القول الآخر فهذا نسخ إجماع بإجماع قيل إنالا نأبى ذلك غير أنا لا نسميه نسخا لأن الأمة حين اختلفت على القولين إنما سوغت للعامي وللمجتهد الأخذ بكل واحد منهما بشرط بقاء الخلاف وكون المسألة من مسائل الاجتهاد وهذا الشرط معلوم زواله بالعقل متى اتفقت الأمة على أحد القولين وما هذه سبيله لا يكون نسخا ألا ترى أن الله عز و جل لما قال ثم أتموا الصيام إلى الليل فعلق الصوم بغاية يعلم حصولها بالحس وبالعقل لم يكن ارتفاع الصوم عند ذلك نسخا
ولا يجوز نسخ الإجماع بقياس لأن القياس إن كان قياسا على أصل مقتدم فذهاب الأمة عنه ووقوع إجماعها على خلافه يدل على فساده لأن الأمة لا يجوز

ذهابها عن الحق وإن كان قياسا على اصل متجدد فليس يجوز أن يتجدد الحكم فيه إلا عن كتاب أو سنة أو إجماع ولا يجوز تجدد كتاب أو سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان قياسا على إجماع فهو باطل لأنه لو كان القياس عليه حقا لما ذهب عنه الأمة باجمعها
فأما وقوع النسخ بالإجماع فلو حصل دليلا شرعيا من كتاب أو سنة أو إجماع إجماع أو قياس وقد بينا أن الإجماع لا ينسخ الإجماع وأما نص الكتاب والسنة فلا يجوز أن ينسخه الإجماع لأن الإجماع لا يجوز أن ينعقد على خلافه إذ الأمة لا تجمع على خطأ فلو اتفقوا على خلاف النص لدل ذلك على نص ناسخ لم ينقلوه نحو إجماعها على أن لا غسل على من غسل ميتا وينبغي أن يضاف النسخ إلى ذلك النص لأن الأمة كالناقلة له والمخبر بالنص الناسخ لا يكون هو الناسخ
والقول في نسخ الإجماع بفحوى القول ونسخ فحوى القول به كالقول في النص مع الإجماع وسيجيء نسخ القياس بالإجماع إن شاء الله عز و جل

باب في نسخ القياس وفي وقوع النسخ به
اعلم أن قاضي القضاة رحمه الله منع من نسخ القياس لأنه تبع للأصول فلم يجز مع ثبوتها رفعه ولأنه إنما يثبت بعد انقطاع الوحي وقال في الدرس إن القياس إن كان معلوم العلة جاز نسخه قال لأن النبي صلى الله عليه و سلم لو نص على أن علة تحريم البر هو الكيل وأمرنا بالقياس لكان ذلك كالنص في تحريم الأرز فكما جاز ان يحرم الأرز ثم ينسخه جاز أن يسنخ عنا تحريم الأرز المستفاد بهذه العلة المنصوص عليها ويمنع من قياسه على البر والعلم أنه لو نسخ القياس المتعلق بالأمارات لنسخه إما كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس ولا يخلو القياس المنسوخ إما أن يكون ثابتا في حال حياة النبي صلى الله عليه و سلم أو بعد وفاته

فان كان في حال حياته فليس يمتنع رفعه بالنص وبالقياس أما بالنص فنحو أن ينص النبي صلى الله عليه و سلم على تحريم البر وينبه على أن علة تحريمه الكيل ويتعبد بالقياس ونعمل بذلك ثم ينص على إباحة الأرز ويمنع من قياسه على البر وأما نسخه بالقياس فبأن تكون المسألة بحالها إلا أن النبي صلى الله عليه و سلم نص على إباحة بعض المأكولات ونبه على أن علته كونه مأكولا بأمارة هي أقوى من الأمارة الدالة على أن علة تحريم البر هي الكيل فيلزم من ذلك قياس الأرز على ذلك المأكول فأما القياس المستفاد بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم فإنه يمتنع نسخه بنص كتاب أو سنة متجددين لتعذر ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم ويجوز نسخه في المعنى بنص متقدم وباجماع وبقياس أما بالنص فنحو أن يجتهد بعض الناس فيحرم شيئا بقياس بعدما اجتهد في طلب النصوص ثم يظفر بنص بخلاف قياسه أو يجمع الأمة على خلاف قياسه أو يظفر هو بقياس أولى من قياسه فيلزم في كل الأحوال ترك قياسه الأول ولا يسمى ذلك نسخا لأن القياس الأول إنما عمل به بشرط أن لا يعارضه قياس أولى منه ولا نص ولا إجماع هذا إنما يتم على القول بأن كل مجتهد مصيب لأن القائل بذلك يقول إن هذا القياس قد تعبد به ثم رفع فأما من لا يقول كل مجتهد مصيب فانه لا يقول قد تعبد به فلا يمكن نسخ التعبد به
فأما وقوع النسخ بالقياس فلو حصل لكان إما أن ينسخ قياسا آخر وقد تكلمنا في ذلك من قبل أو ينسخ إجماعا وذلك لا يجوز لاتفاق الأمة على أن الإجماع أولى من القياس إلا أن يراد بذلك أن القياس على أحد القولين إذا وقع الاتفاق عليه يرفع القياس على القول الآخر فيجوز ذلك ولا يسمى نسخا ولا يجوز نسخ النص بقياس لأن الصحابة كانت تترك آراءها بالنصوص ولهذا صوب النبي صلى الله عليه و سلم معاذا في رجوعه إلى الاجتهاد إذا لم يجد كتابا ولا سنة وبهذا نجيب عن قياسهم نسخ النص بالقياس على تخصيص النص بالقياس وقياسهم ذلك على نسخ خبر الواحد بخبر الواحد إن قيل أليس لما قال الله عز و جل الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم

مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن ألف يغلبوا الفين علمنا أن ثبات الواحد للعشرة منسوخ وإن كان ذلك غير مصرح به وإنما هو نبه عليه فصح أن القياس ينسخ النص والجواب أنه ليس في الآية المنسوخة ثبات الواحد للعشرة فيكون هذا التنبيه قد نسخه فان كان ذلك معلوما من قوله فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين من حيث كان ذلك يفيد أن يثبت كل واحد بإزاء عشرة حتى يكون العشرون بإزاء مائتين فمفهوم ايضا من قوله وإن يكن منكم مائة صابرة ثبات الواحد للاثنين لأنه لا يكون مائة بإزاء مائتين إلا وكل واحد منهم بإزاء اثنين ويبين ذلك أنه ورد عقيب قوله الآن خفف الله عنكم يفيد رفع ثبات العشرين للمائتين والا لم يكن التخفيف حاصلا وقد قيل إن ثبات الواحد للعشرة مفهوم من الاية المنسوخة من فحوى القول

باب نسخ فحوى القول ووقوع النسخ به
أما وقوع النسخ به فجائز لأنه إن كان قول الله عز و جل فلا تقل لهما اف يدل من جهة اللغة على المنع من الضرب فاللفظ المفيد للشيء من جهة اللغة يجوز أن يقع النسخ به وإن كان يدل عليه من جهة الأولى فهو آكد من اللفظ فجاز وقوع النسخ به أيضا ويجوز أن ينسخ الأصل والفحوى إن كانا مما يجوز نسخهما وأما نسخ الأصل فانه يفيد نسخ الفحوى لأنه إنما يثبت تبعا له فاذا ارتفع الأصل ارتفع ما يتبعه ويجوز أن تدل دلالة على ثبوت الفحوى فلا يحكم بثبوته إذا ارتفع الأصل إلا لدليل مستأنف فأما

نسخ الفحوى مع ثبات الأصل فقد أجازه قاضي القضاة في كتاب العمد وقال في شرحه يجوز ذلك إلا أن يكون فيه نقض الغرض ومنع منه في الدرس وهو الصحيح لأن فحوى القول لا يرتفع مع بقاء الأصل إلا وقد انتقض الغرض لأنه إذا حرم علينا التأفيف على سبيل الإعظام للابوين كان إباحة ضربهما نقضا للغرض

باب الزيادة على النص هل هي نسخ أم لا
ذهب شيخانا أبو علي وأبو هاشم رحمهما الله وأصحاب الشافعي إلى أنها ليست بنسخ على كل حال وقال قوم إن النص إن أفاد من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة كانت الزيادة نسخا نحو قول النبي صلى الله عليه و سلم في سائمة الغنم زكاة فانه يفيد دليله نفي الزكاة عن المعلوفة فمتى زيدت الزكاة في المعلوفة كان ذلك نسخا وقال شيخانا أبو الحسن وأبو عبد الله رحمهما الله إن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا وإن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له لم تكن نسخا فزيادة التغريب في المستقبل على الحد يكون نسخا وكذلك لو زيد في حد القاذف عشرون وأما الزيادة التي لا تنفك من المزيد عليه فنحو أن يجب علينا ستر الفخذ فيجب علينا ستر بعض الركبة ولا يكون وجوب ستر بعضها نسخا ولم يجعلوا الزيادة عند التعذر نسخا نحو قطع رجل السارق بعد قطع يده وإحدى رجليه وقال قاضي القضاة إن كانت الزيادة قد غيرت المزيد عليه تغييرا شرعيا حتى صار المزيد عليه لو فعل الزيادة على حد ما كان يفعلها قبلها كان وجوده كعدمه ووجب استئنافه فإنه يكون نسخا نحو زيادة ركعة على ركعتين وإن كان المزيد عليه لو فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة صح فعله فاعتد به ولم يلزم استئناف فعله وإنما يلزم أن يضم إليه

غيره لم يكن نسخا نحو زيادة التغريب على الحد وزيادة عشرين على حد القاذف وعنده أن زيادة شرط منفصل عن العبادة لا تكون نسخا نحو زيادة الوضوء في شرائط الصلاة قال ولو خير الله سبحانه بين فعلين كان زيادة فعل ثالث ناسخا لقبح تركهما ولم يختلف الناس في أن زيادة عبادة على العبادات لا يكون نسخا للعبادات ولا زيادة صلاة على صلوات وإنما جعل أهل العراق زيادة صلاة على الصلوات الخمس نسخا لقوله عز و جل حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى لأنه يجعل ما كان وسطى غير وسطى وقد اعترضهم قاضي القضاة فقال ينبغي أن تكون زيادة عبادة على آخر العبادات نسخا لأنه يجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة وإن كانت الفروض عشرا خرجت من أن تكون عشرا والخلاف واقع في زيادة ركعة على ركعتين حتى تصير الصلاة ثلاث ركعات وفي زيادة التغريب على الحد فالأول يخالف فيه أصحاب الشافعي والثاني يخالف فيه الشيخان أبو الحسن وأبو عبد الله وأنا أتكلم على المذهبين وأذكر ما ينصر به كل واحد منهما ثم اذكر ما أقوله أنا في ذلك إن شاء الله
أما حجة من قال زيادة التغريب على الجلد ليس بنسخ فهو أن النسخ هو الإزالة للحكم ولم يزل بهذه الزيادة حكم عن الثمانين لأنها واجبة جائزة كما كانت وإنما يلزم أن يضم إليها غيرها والمخالف يتوصل إلى ثبوت النسخ في ذكر من وجوه
منها أن الجلد كان قبل هذه الزيادة كمال الحد فصار بعدها بعض الحد فقد أزالت الزيادة كون الجلد كمال الحد الجواب أن قولنا أن يجلد جميع الحد الواجب فعله معناه أنه لا يلزم أن يضم إليه غيره وقولهم قد صار بعض الحد الواجب فعله معناه أنه وجب أن يضم إليه غيره فقولهم إن هذه

الزيادة نسخ لأنها صيرت الجلد بعض الحد الواجب فعله معناه إنما كانت الزيادة نسخا لأنها زيادة فمعنى العبارتين واحد وقد أجيبوا فقيل بأن الكل والبعض من أحكام العقل دون الشرع فلم يفد النسخ وللمخالف أن يقول إن الكل والبعض في الجملة يعلمان بالعقل فأما كون الشيء كل الحكم الشرعي أو بعضه فانما يعلم بالشرع
ومنها قولهم إن الجلد قد كان مجزئا وحده والجواب أن معنى قولنا إنه قد صار غير مجيء وحده هو أنه يجب ضم شيء آخر إليه فعاد ذلك إلى تعليل الشيء بنفسه وقيل لهم أيضا إن زيادة التغريب لو كان نسخا لجاز أن يقدر وجوده لا إلى بدل وهذا غير ممكن ها هنا وهذا ليس بجواب عن كلامهم وإنما هو استئناف دليل وهو مع ذلك غير صحيح لأن النسخ هو الإزالة ووللخصم أن يقول قد يجوز إزالة أجزاء الثمانين لا إلى بدل أصلا وقد يجوز إزالته إلى بدل غير الثمانين وقد يجوز إزالته بزيادة على الثمانين ولا يجوز إزالته بالزيادة على الثمانين إلى بدل لأن قولنا زيادة على الثمانين إثبات للثمانين فاسقاطها بدل والحال هذه متناقض كما بينا في القول بازالة العبادة لا إلى بدل مع ثبوت المبدل
ومنها قولهم إن الجلد وحده كان يتعلق به رد الشهادة فلما زيد التغريب صار لا يتعلق به وحده والجواب أن مخالفهم لا يعلق رد الشهادة بالجلد ولو تعلق به لكان الأقرب أن يقال إن زيادة بالتغريب قد تنسخ تعلق رد الشهادة لا أنه نسخ للجلد على أن هذا لا يلزم أيضا لأن رد الشهادة تعلق بما هو حد فتغير الحد إلى زيادة أو نقصان لم يرفع تعليق رد الشهادة بما هو حد كما أن تغير العدة بزيادة أو نقصان لا يرفع تعلق أحكامها بها ومعلوم أن الفروض لو كانت خمسا لوقف على ادائها قبول الشهادة فلو زيد فيها

لوقف قبول الشهادة على فعل الفرض السادس ولم يوجب هذا نسخ وقوف قبول الشهادة على أداء الفروض وللمخالف أن يقول إنه لو زيد في مدة العدة لكان ذلك نسخا لتعلق أحكامها بالمدة المزيد عليها ولو زيد في الفرائض فرض آخر نسخ ذلك تعلق قبول الشهادة بأداء تلك الفرائض وحدها لا أنه يكون ناسخا للفرائض وله أن يقول إن كون الجلد لا يجزىء وحده إذا زيد عليه التغريب ليس هو معنى قولنا قد زيد عليه غيره هو أنه قد تعبدنا معه بشيء آخر وذلك يرجع إلى الأمر بالزيادة وكون الجلد وحده لا يجزىء معناه أنه لا يسقط به الغرض وهذا يتبع نفي التعبد بالزيادة فاذا كانت الزيادة قد أزالت هذا الإجزاء فقد وقع بها النسخ ألا ترى أن الله عز و جل لو نص فقال الثمانون وحدها مجزئة في الحد وهي كمال الحد ثم زاد على الثمانين لكان ذلك نسخا فكذلك ما ذكرناه ولقائل أن يقول إن الله عز و جل لو صرح بذلك لكان إجزاء الجلد وحده حكما شرعيا فكانت إزالته نسخا فأما إذا لم ينص على ذلك بل أوجب الجلد فان إيجابه لذلك لا يتعرض للتغريب بنفي ولا إثبات وإنما يعلم نفيه بقاء على حكم الأصل وإزالة حكم الأصل ليس بنسخ وللمخالف أن يقول إن هذا لا يمنع مما أفسدنا به قولكم إن رفع الإجزاء مع الجلد وحده هو معنى إثبات الزيادة وأن تعليل كون الزيادة نسخا من حيث رفع تعلق الإجزاء بالجلد وحده هو تعليل الشيء بنفسه وايضا فقد نقضتم هذا الاعتبار بمسألة وهو أن قاضي القضاة قال إن الله عز و جل لو خير بين فعلين ثم زاد في التخيير ثالثا فصرنا مخيرين بين ثلاثة أشياء لكان قد نسخ قبح تحريم ترك الشيئين الأولين ومعلوم أنه إذا خير بين شيئين فإنه لا يتعرض تخييره بما عداهما بتحريم ولا إيجاب وإنما نعلم أن الثالث ليس بواجب لأن الأصل أنه غير واجب ولم ينقلنا عنه شرع فصار نفي وجوبه معلوما بالعقل ومع ذلك قد قال إن ما دل على وجوبه يكون ناسخا
فأما حجة من قال إن زيادة ركعة على ركعتين نسخ فهو أن هذه الزيادة جعلت وجود الركعتين وحدهما كعدمهما وأوجبت الاستئناف وازالت

الإجزاء ومن قبل هذه الزيادة لم تكن الركعتان كذلك وهذا معنى النسخ وهذا منتقض على قول قاضي القضاة بالزيادة المنفصلة فإن زيادة عضو في الطهارة أو زيادة طهارة أخرى ليس بنسخ للصلاة عنده ومع ذلك فوجود الصلاة كعدمها إذا لم يغسل ذلك العضو ويجب استئنافها وهي غير مجزئة وكون هذه الزيادة منفصلة ليس يمنع من انتقاض ما اعتلوا به فان شرطوا ذلك في العلة قيل لهم أي تأثير لانفصال الشرط واتصاله في ذلك فإن قالوا لأن الشرط المزيد إذا كان متصلا كالركعة نسخ جملة العبادة قيل النسخ إنما هو إزالة الأحكام لا الأفعال والإجزاء زائل سواء كان الشرط متصلا أو منفصلا فان قالوا إنما نعني بقولنا إن زيادة الركعة نسخ أن الركعة نسخت وجوب الجلوس عقيب الركعة الثانية قيل الجلوس موضعه آخر الصلاة وهذا لم يتغير وإنما تغير آخر الصلاة فلم ينسخ موضع الجلوس كما قلتم إن الزيادة في العدة لا تنسخ تعلق الأحكام بها فان قالوا الصلاة بعد زيادة عضو في الطهارة يجب فعلها كما يجب من قبل وإنما يجب أن نقدم عليها فعلا آخر فجرى مجرى الجلد في أنه يلزم بعد زيادة التغريب كما كان يلزم من قبل وإنما يجب أن نضم إليه فعلا آخر فالمسألتان سواء وإنما تفترقان في الفعل الذي يجب في المسألة الأولى ينبغي أن يتقدم وفي المسألة الثانية يتأخر والجواب أن هذا لا يمنع من انتقاض علتكم وهي أن وجود الصلاة بعد زيادة ركعة كعدمها على أن هذا يقتضي أن لا تكون زيادة ركعة على ركعتين نسخا لأن الركعتين يجب فعلهما على ما كانا عليه لكنه يلزم تأخير التشهد وأن لا يتعلق بالركعتين وهذا إن كان نسخا فهو نسخ لموضع التشهد وقد بينا من قبل أنه يجري مجرى زيادة العدة في أنه ليس بنسخ كتعلق الأحكام بالمدة الأولى ويمكن من قال إن زيادة الركعة ليس بنسخ أن يقول لو كان نسخا لكان إما أن يكون نسخا للركعتين ومعلوم أن النسخ لا يتعلق بالأفعال أو نسخا لموضع التشهد وقد بينا أنه ليس بنسخ لذلك أو نسخا لإجزاء الركعتين وحدهما وهذا يلزم عليه أن تكون زيادة غسل عضو في

الطهارة نسخا للصلاة وأن تكون زيادة التغريب نسخا للحد لأنه لا يجزىء وحده فالكلام مترجح على ما ترى وأنا أذكر طريقة بينة يزول معها كل إشكال فأقول إن الكلام في الزيادة على النص يقع في مواضع ثلاثة في معنى النسخ وفي اسمه وفي حكمه ولا رابع لذلك
أما معنى النسخ فبأن يقال هل الزيادة على النص تفيد معنى النسخ أم لا والجواب أنها تفيده لأن معنى النسخ هو الإزالة وكل زيادة هي مزيلة لحكم من الأحكام لأنها إما أن تكون زيادة في الوجوب أو في الندب أو في الإباحة أو في الحظر فإن كانت زيادة في الوجوب فقد رفعت نفي وجوب تلك الزيادة وإزالته نحو زيادة التغريب في الحد لأنه لم يكن واجبا ثم صار واجبا وكذلك القول في الزيادة على الندب وعلى الإباحة وعلى الحظر
وأما الكلام في الاسم فبأن يقال هل الزيادة على النص تسمى نسخا أم لا والجواب أن الزيادة التي كلامنا فيها هي زيادة شرعية فان كانت قد ازالت حكما ثابتا بدليل شرعي وكانت متراخية عنه سميت الزيادة نسخا ويسمى الدليل المثبت للزيادة ناسخا وإن كان الحكم الذي رفعته الزيادة حكما ثابتا في العقل لا في الشرع لم تسم الزيادة نسخا على ما تقدم بيانه
وأما الكلام في الحكم فبأن يقال هل يجوز إثبات الزيادة على النص بخبر واحد وقياس أم لا والجواب أنه إن كان ما أزالته الزيادة حكما ثابتا بالعقل لا بالشرع فانه يجوز إثباته بخبر واحد وقياس إلا أن يمنع من ذلك مانع نحو أن يكون البلوى بما أثبتته الزيادة عاما فلا يقبل فيه خبر واحد على قول بعض الناس أو يكون حدا أو كفارة أو تقديرا فلا يثبت بالقياس على قول بعضهم ولا يقبل عند هؤلاء خبر الواحد والقياس في ذلك لا للنسخ لكن لأمور أخر وإن كان الحكم الذي أزالت الزيادة مثله ثابتا بالشرع وكان دليل الزيادة متأخرا عن ذلك الشرع فإنه لا يجوز إن كان دليل الزيادة قياسا لأن القياس المتأخر لا يرفع حكم النص على ما مضى وإن كان دليل الزيادة خبر

واحد وكان الحكم الذي رفعته ثابتا بخبر واحد أيضا جاز أن يقبل في الزيادة وإن كان ثابتا بقرآن أو بخبر متواتر لم تجز إزالته بخبر واحد متراخ لأن خبر الواحد لا يزيل الحكم المتواتر بعد استقرار مثله ويجوز أن يزيله الخبر المتواتر فإن أجمعت الأمة على قبول خبر الواحد في ذلك علمنا أنه كان مقارنا وأنه مخصص
وعند هذا التفصيل تزول كل شبهة وأنا أنسق عليه المسائل لتظهر فائدته إن شاء الله
أما زيادة التغريب أو زيادة عشرين على جلد ثمانين فليس بمزيل لوجوب الثمانين وإنما يزيل نفي وجوب ما زاد على الثمانين من العشرين والتغريب فهو من هذه الجهة نسخ في المعنى ولا يسمى نسخا لأن نفي وجوب ما زاد على الثمانين لم يكن معلوما بدليل شرعي فلم تكن إزالته نسخا وذلك أن إيجاب الثمانين لم يتعرض لما زاد عليها باثبات ولا نفي وإنما علمنا نفي ما زاد عليها لأن العقل يقتضي نفي وجوبه ولم ينقلنا عنه دليل شرعي وإذا كان ذلك حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس فيه إلا أن يمنع منه مانع سوى النسخ وأما كون الثمانين مجزئة وحدها وأنها وحدها كمال الحد وتعلق رد الشهادة عليها وحدها فهو تابع لنفي وجوب الزيادة ألا ترى أنه لو وجب ما زاد عليها بدليل مقارن لم تكن الثمانون وحدها مجزئة ولا تعلق بها وحدها رد الشهادة ولا كانت كمال الحد فاذا كان كان ذلك تابعا لنفي وجوب الزيادة وكان نفي وجوبها معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد والقياس في الزيادة وفيما يتبعها ولو أن الله عز و جل قال الثمانون كمال الحد وعليها وحدها يتعلق رد الشهادة لما قبلنا في الزيادة خبر واحد ولا قياسا لأن نفي وجوب الزيادة قد ثبت بدليل شرعي متواتر فلو كان إيجابه الثمانين يقتضي بدليل الخطاب نفي وجوب ما زاد عليها لكان أثبات الزيادة يسمى نسخا

ولما قبلنا فيها خبر واحد ولا قياسا متأخرين فأما تقييد الرقبة بالإيمان فهو في معنى التخصيص لأنه يخرج عتق الكافرة من الخطاب فان كان ما اقتضى هذا التقييد خبر واحد أو قياس وكان متراخيا لم يقبل لأن عموم الكتاب أجاز عتق الكافرة فتأخر حظر عتقها في الكفارة هو النسخ بعينه فلم يقبل فيه خبر واحد ولا قياس وإن كان القياس أو خبر الواحد مقارنا فهو تخصيص والتخصيص يصح بخبر الواحد والقياس فأما إذا قطعت يد السارق وإحدى رجليه ثم سرق فإن إباحة قطع رجله الأخرى رفع حظر قطعهما وحظر قطعها إنما يثبت يالعقل فجاز رفعه بخبر واحد وقياس ولم يسم نسخا فأما إذا أمرنا الله عز و جل بفعل أو قال هو واجب عليكم ثم خيرنا بينه وبين فعل آخر فإن هذا التخيير يكون مزيلا لحظر ترك أوجبه علينا إلا أن حظر تركه كان معلوما بالبقاء على حكم العقل وذلك لأن قوله أوجبت هذا الفعل عليكم يقتضي أن للإخلال به تأثيرا في استحقاق الذم وهذا لا يمنع من أن يقوم مقامه واجب آخر وإنما علم أن غيره لا يقوم مقامه لأن الأصل أنه غير واجب ولو كان واجبا بالشرع لدل عليه دليل شرعي فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا على أن يكون الأصل يقتضي نفي وجوبه مع نفي دليل شرعي فالمثبت لوجوبه إنما رفع حكما عقليا فجاز أن نثبته بقياس أو خبر واحد مثال ذلك أن يوجب الله علينا غسل الرجلين ثم يخيرنا بينه وبين المسح على الخفين وكذلك إذا خيرنا الله عز و جل بين شيئين ثم أثبت معهما ثالثا فأما إذا قال الله عز و جل هذا الفعل واجب وحده أو قال ليس يقوم غيره مقامه فإن إثبات بدل له فيما بعد رافع لما علمنا بدليل شرعي لأن قوله هذا واجب وحده هو صريح في نفي وجوب غيره فالمثبت لوجوب غيره رافع لحكم شرعي فلم يجز كونه خبر واحد ولا قياسا فأما قول الله عز و جل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فهو تخيير بين

استشهاد رجلين أو رجل وامرأتين والحكم بالشهادة واليمين زيادة في التخيير وقد بينا أن الزيادة في التخيير ليس بنسخ يمنع من قبول خبر الواحد والقياس فيه ومن قال إن الحكم بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية يلزمه أن يكون الوضوء بالنبيذ نسخا لقوله عز و جل فلم تجدوا ماء فتيمموا فأما إذا كانت الصلاة ركعتين فقط فزيد فيها ركعة أخرى قبل التشهد فان ذلك يكون ناسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين وذلك حكم شرعي معلوم بطريقة معلومة فلم يثبت بخبر واحد ولا قياس وليس ذلك بنسخ للركعتين لأن النسخ لا يتناول الأفعال ولا هو نسخ لوجوبهما لأن وجوبهما ثابت ولا نسخ لإجزائهما لأنهما مجزئتان وإنما كانتا مجزئتين من دون ركعة أخرى والآن لا تجزءان إلا مع ركعة أخرى وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلا نفي وجوبها ونفي وجوبها إنما حصل بالعقل فلم يمتنع من هذه الجهة أن يقبل في ذلك خبر الواحد والقياس فأما إذا زيدت الركعة بعد التشهد وقبل التحلل فانه يكون نسخا لوجوب التحلل بالتسليم أو ناسخا لكونه ندبا وذلك حكم شرعي معلوم فلم يجز أن يقبل فيه خبر الواحد والقياس فأما كونه ناسخا للركعتين أو لوجوبهما أو لإجزائهما فالقول فيه ما ذكرناه الآن فأما زيادة غسل عضو في الطهارة فليس بنسخ لإجزائها ولا لوجوبها وإنما هو رفع لنفي وجوب غسل ذلك العضو المعلوم نفي وجوبه بالعقل وكذلك زيادة شرط آخر في الصلاة لا تقتضي نسخ وجوب الصلاة فأما كون الصلاة غير مجزئة بعد زيادة الشرط فهو تابع لوجوب ذلك الشرط وإجزاؤها تابع لنفي وجوبه ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع وكذلك ما يتبعه فجاز قبول خبر الواحد والقياس فيه هذا إن لم يكن قد علمنا نفي وجوب هذه الأشياء من دين النبي صلى الله عليه و سلم باضطرار فأما إن علمناه باضطرار فقد صار ذلك معلوما بشرع مقطوع به فلم يجز رفعه بخبر الواحد والقياس فأما قول الله عز و جل ثم أتموا الصيام إلى الليل فانه يفيد كون

أول الليل طرفا وغاية للصيام كما يفيده لو قال آخر الصيام وغايته الليل لأن لفظه إلى موضوعة للغاية فايجاب صوم أول الليل يخرج أوله من أن يكون طرفا مع أن الخطاب يفيده وفي ذلك كونه نسخا حقيقة لا يقبل فيه خبر واحد ولا قياس لأن نفي وجوب صوم أول الليل معلوم بدليل قاطع فأما لو قال الله عز و جل صلوا إن كنتم مطهرين فانه لا يمنع أن يقبل خبر الواحد والقياس في إثبات شرط آخر الصلاة لأن إثبات بدل للشرط لا يخرجه من أن يكون شرطا إذ لا يمتنع أن يكون للحكم الواحد شرطان وليس كذلك إثبات صوم جزء من الليل لأن ذلك يخرج أول الليل من أن يكون غاية وأما نفي كون الشرط الآخر شرطا فلم نعلمه بالسمع وإنما علمناه بالعقل فلم يكن رفعه رفعا لحكم شرعي

باب في النقصان من شروط العبادة وأجزائها هل هو نسخ ما عداه أم لا
اعلم أنه لما كان الغرض بهذا الباب ذكر النقصان من شروط العبادة وأجزائها وجب أن نذكر أولا ما شرط العبادة وما جزؤها فشرط العبادة ما يقف صحتها عليه وهو ضربان احدهما جزء منها والآخر ليس بجزء منها فالجزء منها هو واحد مما هو مفهوم من العبادة كالركوع والسجود وما ليس بجزء فهو ما لم يكن واحدا مما هو المفهوم من العبادة كالوضوء مع الصلاة ولا خلاف في أن النقصان من العبادة هو نسخ لما أسقط منها
واختلفوا هل هو نسخ لغيره أم لا فقال الشيخ أبو الحسن إن نسخ شرط من شروط العبادة أو جزء من أجزائها ليس بنسخ العبادة وقال إن نسخ التوجه إلى بيت المقدس ليس بنسخ للصلاة ولا نسخ صوم عاشوراء نسخ للصوم أصلا وقال عند ذلك إن ما كان من شروط الصوم وما لم يكن من شروطه لا يلحقه النسخ فلذلك لما جاز صوم عاشوراء بنية غير مبيتة لم يكن ذلك منسوخا وثبت مثله في شهر رمضان

وعند قاضي القضاة أن نسخ شرط منفصل من شرائط العبادة لا يكون نسخا للعبادة فنسخ الوضوء لا يكون نسخا للصلاة ونسخ جزء من أجزاء الصلاة يكون نسخا للصلاة وقال إن نسخ التوجه إلى بيت المقدس هو نسخ للصلاة وعندنا أن نسخ الشرط المنفصل كنسخ الةوضوء لو كان نسخا للصلاة لم يخل إما أن يكون نسخا لصورة الصلاة وهذا محال لأن النسخ يرفع الأحكام دون صورة الأفعال وإما أن يكون نسخا لحكم من احكام الصلاة إما وجوبها أو إجزائها وكونها عبادة أو نفي إجزائها مع فقد الوضوء ومعلوم أن وجوب الصلاة وكونها مجزئة وعبادة لا يزول وإن زال وجوب الوضوء وأما نفي الإجزاء مع فقد الطهارة فقد زال وذلك لأن الصلاة ما كانت تجزىء بلا طهارة فلو نسخ وجوب الطهارة لصارت تجزىء وارتفع نفي إجزائها وذلك تابع لسقوط وجوب الطهارة فان أراد الإنسان بقوله إن نسخ الوضوء يقتضي نسخ الصلاة هذا المعنى فصحيح لكن الكلام موهم لأن إطلاق القول بأن الصلاة منسوخة هو أنه قد خرجت عن الوجوب أو عن أن تكون عبادة واحتج قاضي القضاة لقوله إن نسخ الشرط المنفصل لا يكون نسخا للعبادة بأن الشرط تابع للمشروط ونسخخه لا يكون نسخا للمتبوع ولهذا لم يكن نسخ طهارة بعض المياه نسخه للصلاة وأما نسخ جزء من العبادة كنسخ ركعة من الصلاة فإنه ليس بنسخ لباقي الركعات لأن النسخ لا يتناول صورة الفعل ولا هو نسخ لوجوب الركعات ولا لكونها شرعية مجزئة لأن ذلك باق لم يرتفع لكنه رفع لوجوب تأخير التشهد ورفع لنفي إجزائها من دون الركعة لأن قبل النسخ ما كان يجوز الصلاة من دون هذه الركعة وإن كانت الركعة لما نسخت وأوجبت علينا أن تخلى الصلاة منها كان قد ارتفع إجزاء الصلاة إذا فعلناها مع الركعة المنسوخة وإجزاء الصلاة مع الركعة قد كان حكما شرعيا فجاز أن يكون رفعه نسخا فأما التوجه نحو القبلة في الصلاة فهو هيئة من هيئاتها لأن الواجب منه ما قارن التكبيرة وما بعدها دون ما قبلها فنسخه لا يكون نسخا للصلاة وصفاتها وشروطها لأن الصلاة

واجبة في كل مكان على البدل على ما كانت عليه وإنما حرم التوجه إلى بيت المقدس فصار التوجه منسوخا وإجزاء الصلاة إلى بيت المقدس ووجوبها مرتفعا دون ما سوى ذلك فأما نسخ صوم عاشوراء فهو نسخ للصوم لأنه لم يجب الصوم إلا في ذلك اليوم نفسه ورفع وجوبه فيه رفع لوجوبه على الإطلاق لأنه لم يبق وقت آخر كان الصوم واجبا فيه فيبقى وجوبه فيه ويجري مجرى أن يجب علينا صلاة في مكان مخصوص ثم يقال لنا لا تصلوا فيه في أنه لا يبقى علينا صلاة واجبة وكذلك لو قيل لنا لا تصلوا في هذا اليوم وصلوا في يوم آخر لكانت الصلاة الأولى قد نسخت وإنما كوجه إلينا إيجاب عبادة أخرى بأمر آخر فكذلك نسخ صوم عاشوراء برمضان وإذا كانت جملة الصوم قد سقطت لم تبق شروطه ولم يجب أن تكون شروط الصوم الثاني هي شروط الصوم المنسوخ لأنه لا يمتنع اختلاف العبادات في الشروط
واما قول الشيخ أبي الحسن إن النسخ يتناول الوقت فلا يصح ظاهره لأن النسخ يرفع أحكام الأفعال دون الأوقات

باب الطريق إلى معرفة كون الحكم منسوخا
اعلم أن الطريق إلى ذلك شيئان احدهما لفظ النسخ والآخر التأريخ مع التنافي أما لفظ النسخ فقد يتناول المنسوخ وقد يتناول الناسخ أما الأول فنحو أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم هذه العبادة منسوخة وأما الثاني فكما قيل إن صوم شهر رمضان نسخ صوم عاشوراء وأما التاريخ مع التنافي فهو أن يتنافى الحكمان بان يكون أحدهما نفيا للآخر أو بأن يتضادا
مثال التنافي قول النبي صلى الله عليه و سلم كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ونحو قوله لا وصية لوارث وقول الله عز و جل الآن خفف

الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا الآية فأما قوله تعالى أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فاذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة فلا يدل على نسخ تقديم الصدقة على مناجاة الرسول لأنه ليس في التوبة علينا ولا في الأمر بالصلاة والزكاة ما يمنع من ذلك وإنما يعلم النسخ من قصد النبي صلى الله عليه و سلم
وأما الحكمان الضدان فنحو أن يوجب الله سبحانه علينا الصلاة في أوقات مخصوصة في مكان مخصوص ثم يوجب علينا في بعض تلك الأوقات صلاة في مكان آخر فيكون أحدهما ناسخا للآخر
والأحكام المتنافية إما أن ترجع إلى مكلف واحد أو إلى جماعة والراجعة إلى جماعة إنما أن ترجع إليها بألفاظ العموم وإنما يتم ذلك بالعمومين إذا تعارضا وعلم التأريخ فيهما فنعلم أيهما هو الناسخ وأيهما هو المنسوخ فيجب بيان كلا الأمرين أما التأريخ فقد يعلم بقول ينبىء بنفسه عن التقدم وقد يعلم باسناد أحدهما إلى شيء متقدم وهذا الثاني ضروب منها أن يسند أحدهما إلى زمان متقدم فيقال كان في السنة الفلانية والآخر في السنة الفلانية ومنها أن يسند كل واحد من الحديثين إلى غزاة سوى في الغزاة الأخرى ويعلم تقدم أحدهما على الأخرى ومنها أن يسند أحدهما إلى فعل متقدم ومنها أن يروى أحدهما رجل تقدمت رؤيته للنبي صلى الله عليه و سلم على رؤية راوي الخبر الآخر وانقطعت رؤيته للنبي صلى الله عليه و سلم لما رواه الخبر الآخر فأما إذا كانت رؤيته قد دامت إلى رؤية الراوي الآخر فليس يجب أن تكون روايته متقدمة
وذكر قاضي القاضة أن أحد الخبرين إذا وافق حكم العقل علمنا أنه المتقدم وليس كذلك لأنه لا يمتنع أن يكون ابتداء الشريعة جاءت بخلاف ما في الأصل ثم نسخ ذلك بما يقتضيه العقل

وأما الذي يعلم به تقدم أحدهما لفظا فضربان أحدهما أن يصدر من النبي صلى الله عليه و سلم لفظ يدل على ذلك كقوله صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها والآخر أن يصدر ذلك من الصحابي وذلك ضروب منها أن يقول الصحابي كان هذا الخبر متقدما على هذا الخبر وفي السنة الفلانية ولا شبهة في قبول ذلك إذا كان المنسوخ غير منقول بالتواتر فان كان منقولا بالتواتر قبل ايضا عند قاضي القضاة وإن كان خبر الواحد لا ينسخ به حكم متواتر كما أن شهادة الشاهدين لا يثبت بها الزنا والحد ويثبت الإحصان بشهادتهما وإن كان الحد يتعلق بالإحصان فلا يمتنع أن لا يتعلق الحكم بالشيء ويتعلق بسبب من أسبابه ولقائل أن يقول ليس كل شيء لم يمتنع فهو ثابت لا محالة بل يحتاج ثبوته إلى دليل زائد على كونه غير ممتنع فأما إذا قال الصحابي كان هذا الحكم ثم نسخ نحو ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال في التشهد التحيات الزاكيات كان ذلك مرة ثم نسخ ويجوز أن يقول هذا نسخ هذا كقولهم إن خبر الماء نسخ بالتقاء الختانين فانه يجوز أن يكون قال ذلك اجتهادا فلا يلزمنا وحكى الشيخ أبو عبد الله عن الشيخ أبي الحسن أن الراوي إذا عين الناسخ فقال هذا نسخ هذا جاز أن يكون قاله اجتهادا فلا يجب الرجوع إليه وإن لم يعين الناسخ بل قال هذا منسوخ قبل ذلك نحو قول عبد الله في التشهد كان ذلك مرة ثم نسخ قال لأنه لولا ظهور ذلك ما أطلق النسخ إطلاقا ولقائل أن يقول إنه يجوز أن يظهر ذلك عنده من جهة الاستدلال فلذلك أطلقه اطلاقا ويلزمه أن يرجع إلى قوله وإن عين الناسخ لأنه لولا ظهور كون الخبر ناسخا ما أطلق ذلك إطلاقا

باب في العمومين إذا تعارضا
اعلم أن العمومين إذا تعارضا لم يخل إما أن يتعارضا من كل وجه أو من

وجه دون وجه فان تعارضا من كل وجه فمثاله أن يكون أحدهما بنفي الحكم عن كل ما يثبت الآخر الحكم فيه على ذلك الحد في ذلك الوقت أو يثبت أحدهما ضد ما يثبته الآخر من الحكم ولا يخلو العمومان المتعارضان من كل وجه إما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا فان كانا معلومين لم يخل إما أن يعلم تقدم أحدهما على الآخر أو يعلم اقتران أحدهما بالآخر أو لا يعلم شيء من ذلك فان علم تقدم أحدهما الآخر نسخ المتأخر المتقدم وإن لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر ولا أنهما وردا معا فالوجه أن يرجع إلى غيرهما لأنه يجوز أن يكون كل واحد منهما هو المتأخر فيكون ناسخا وإن علم أنهما وردا معا وأمكن التعبد بالتخيير فيهما كان التعبد فيهما بالتخيير فيكون المكلف مخيرا بين العمل وبهذا الخبر أو بهذا كالتخيير بين الكفارات لأنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير وسيجيء القول في جواز التعبد بالتخيير عند تعارض الأدلة والأمارات ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بما يرجع إسناده أو طريق العلم كشهادة الأمة له بالصحة ولا بما يرجع ما تضمنه أحدهما من كونه محظورا أو حكما شرعيا إلى غير ذلك لأن الترجيح بكثرة الرواة وغيرها مما ذكرناه يؤثر في قوة الظن فاذا كان كل واحد من الخبرين معلوما غير مظنون لم يكن هناك ظن يقويه الترجيح فان قيل هلا قلتم إن المسألة من مسائل الاجتهاد عند تعارض العمومين المعلومين ثم رجحتم العمل بأحدهما لأمر يرجع إلى كون ما تضمنه محظورا أو حكما شرعيا قيل إنا إن فعلنا ذلك كنا قد أسقطنا الخبر الآخر مع مساواة الآخر له في وقوع العلم بصحته ولولا ما ذكرنا لم يثبت النسخ بين كثير من الألفاظ لأن كل لفظين تضمنا حكمين متنافيين فانه يمكن أن يرجح أحدهما على الآخر في أكثر الأمر وإن تأخر أحدهما عن صاحبه فاما إذا كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا فانه إما أن ينقل تقدم أحدهما على صاحبه أو

لا ينقل ذلك فان نقل ذلك وكان المعلوم منهما هو المتأخر كان ناسخا للآخر وإن كان المظنون منهما هو المتأخر لم ينسخ المعلوم ووجب العمل بالمعلوم منهما وإن لم ينقل تقدم أحدهما على صاحبه وجب العمل بالمعلوم منهما لإنه إن كان المعلوم هو المتقدم للمظنون لم يجز أن ينسخه المظنون وإن كان المعلوم متأخرا عن المظنون فالمعلوم هو الناسخ ففي كلا الحالين يجب العمل بالمعلوم فان قيل فجوزوا أن يكونا وردا معا فيكون التعبد فيهما التخيير قيل هذا إن جوزناه فانه لا يمنع من الرجوع إلى المعلوم وحده لأنا نرجحه بكونه معلوما وأما إن كانا مظنونين فإنه إن نقل تقدم أحدهما فالأول منهما منسوخ بالثاني وإن نقل أنهما وردا معا رجح بينهما وعمل على الأقوى منهما فإن تساويا فالتعبد فيهما بالتخيير وكذلك إن لم ينقل تقدم أحدهما على الآخر ولا مقارنته له أنه يرجح بينهما ويعمل على الأقوى منهما أو يكون الإنسان مخيرا إن تساويا عند المجتهد فأما إذا كان كل واحد من العمومين عاما من وجه خاصا من وجه فنحو قول النبي صلى الله عليه و سلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ونهيه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة عند قيام الظهيرة وبعد صلاة العصر وعند طلوع الشمس لأن الخبر الأول عام في الأوقات خاص في القضاء والخبر الثاني خاص في الأوقات عام في القضاة وفي غيره من الصلوات التي لا أسباب لها وكل واحد منهما عام فيما الآخر خاص فيه وليس يخلو مثل هذين العمومين إما أن يعلم تقدم أحدهما على الآخر أو لا يعلم ذلك فإن لم يعلم ذلك لم يخل إما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا فان كانا معلومين لم يجز ترجيح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد ويجوز ترجيح أحدهما على الآخر بذلك إن كانا مظنونين وإن كان أحدهما معلوما والآخر مظنونا جاز ترجيح المعلوم منهما عند التعارض بكونه معلوما فأما الترجيح بما تضمنه أحدهما من كونه محظورا أو حكما شرعيا فانه يجوز ذلك سواء كانا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا لأن الحكم بأحدهما طريقة الاجتهاد وليس في

ترجيح أحدهما على الآخر إطراح الآخر وليس كذلك إذا تعارضا من كل وجه فإن لم يترجح أحدهما على الآخر فالتعبد فيهما بالتخيير وقد رجح بعضهم التعلق بقول الله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف على التعلق بقوله عز و جل أو ما ملكت أيمانكم من حيث كان قوله وأن تجمعوا بين الأختين أخص بموضع الخلاف وهو الجمع بين الأختين
ولقائل أن يقول إن موضع الخلاف هو الجمع بين أختين مملوكتين فان كانت الآية الأولى أخص بالخلاف لأن فيها ذكر الجمع بين الأختين فيجب أن تكون الآية الثانية أخص بالخلاف لأن فيها ذكر المماليك ويمكن أن يجاب عن ذلك فيقال إن الآية الأولى فيها ذكر مسألة الخلاف أكثر مما في الآية الثانية لأن فيها ذكر الجمع وذكر الأختين وفي الآية الثانية ذكر المملوكات فقط فلهذا كانت الأولى أخص بموضع الخلاف وأشد تعلقا به
فأما إن علم تقدم أحدهما على صاحبه وكانا معلومين أو مظنونين أو كان المتقدم منهما مظنونا والآخر معلوما فان المتأخر منهما يجب أن ينسخ المتقدم على قول من قال إن العام ينسخ الخاص المتقدم وهكذا يجيء على قولهم لأنه إذا كان عندهم أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ما لم يثبت كونه أعم من اللفظ المتقدم أولى بأن يكون ناسخا وإن كان المتقدم معلوما والمتأخر مظنونا لم يجز عندهم أن ينسخ الثاني الأول ووجب الرجوع فيهما إلى الترجيح لأن المظنون لا ينسخ المعلوم وإذا لم يجز أن يكون الثاني منهما ناسخا وأمكن استعماله مع الترجيح وجب الرجوع إلى الترجيح فأما من يقول إن العام المتأخر يبنى على الخاص المتأخر وأن الخاص المتأخر يخرج بعض ما دخل تحت العام المتقدم فالذي يجيء على مذهبه أن لا يفرق بين أن يكونا معلومين أو

مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا في استعمال الترجيح وترك النسخ بأحدهما لأنه ليس يتخلص كون المتأخر أخص من المتقدم فيخرج من المتقدم ما دخل تحت المتأخر وبالله التوفيق

-

المعتمد في أصول الفقه تأليف أبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري
المعتزلي المتوفى ببغداد 436 ه 1044 م

الكلام في الإجماع
باب في فصول الإجماع
اعلم أن الغرض بذلك هو القول في أن الإجماع حجة ولما كان الإجماع هو اتفاق من جماعة على أمر من الأمور إما فعل أو ترك وجاز أن يلحق اتفاقهم اشتباه فيخرج منه ما هو منه ويجعل منه ما ليس منه وجاز أن يكون الاتفاق حجة بشرط وجاز أن يعارض قولهم حجة أخرى ووجب أن يكون لهم طريق إلى ما اتفقوا عليه أو يكون لنا طريق إلى ما اتفقوا عليه وجب أن نتكلم في كل ذلك فندل على أن الإجماع حجة ثم في الاتفاق بماذا يقع هل هذا بالقول أو بالفعل أو بالرضا والاعتقاد ثم نتكلم في المتفقين فنبين من يعتبر قوله في الإجماع ومن لا يعتبر فيه ويدخل في كلا القسمين أبواب وهي أنه لا يعتبر في الإجماع بكل من بعث النبي صلى الله عليه و سلم ولا بجميع المكلفين إلى حد التكليف ولا بالعامة في مسائل الاجتهاد ويعتبر بأهل الأعصار والامصار وبالمجتهد وإن لم يشتهر بالفتوى وبالتابعي الحدث المعاصر للصحابة وبالواحد من أهل العصر فلا ينعقد الإجماع دونه ثم نتكلم فيما يتفقون عليه فنبين ما الذي يكون اتفاقهم فيه حجة وما الذي لا يكون اتفاقهم فيه حجة ويشتمل ذلك على أبواب وهي أنه لا يكون إجماعهم حجة فيما لا يعلم صحة الاجتماع إلا بعد العلم بصحته فيكون حجة في إزالة الخلاف المتقدم وهل يكون حجة في أمور الدنيا وهل يكون حجة وإن كان سبب اجتماعهم اجتهاد آرائهم فاذا عرفنا

بهذه الفصول الاتفاق والمتفقين وما يكون الاتفاق حجة فيه تكلمنا في شرط كونه حجة ثم نتكلم فيما أخرج من الإجماع وفيما ألحق به ويدخل في ذلك فصول وهي هل اختلاف الأمة في المسألة على قولين هو اتفاق على المنع مما عداهما وهل اتفاقهم على الاستدلال بدليل أو اعتلال بتعليل أو تأويل هو اتفاق على المنع مما عدا ذلك وهل اتفاقهم على أن لا فرق بين المسألتين اتفاق على المنع بينهما وهل اختلافهم في المسألة على قولين هو اتفاق على جواز الأخذ بكل واحد منهما على كل حال أم لا وبعد ذلك نتكلم فيما يعارض الإجماع ثم في طريق المجتمعين إلى ما اتفقوا عليه ويشتمل ذلك على أنه لا بد من أن يتفقوا على طريق وهل ذلك الطريق الاجتهاد أم لا وكيف الحال فيهم إذا اتفقوا على موجب خبر الواحد ثم نتكلم في طريقنا إلى اتفاقهم ويدخل في ذلك انقراض أهل العصر هل هو طريق إلى اتفاقهم وهل عدم المخالف للقول الذي لم ينتشر طريق إلى الاتفاق عليه

باب في الدلالة على أن الإجماع حجة
اعلم أن إجماع أهل كل عصر من الأمة صواب وحجة وقال النظام ليس ذلك حجة وقالت الإمامية ذلك صواب لأن الإمام داخل فيهم وهو الحجة فقط ودليلنا قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والوسط من كل شيء خياره والحكيم لا يخبر بخيرية قوم ليشهدوا وهو عالم بأنهم كلهم يقدمون على كبيرة في تلك الحال فيما يشهدون به بل لا يجوز ذلك إذا علم أنهم يقدمون فيما يشهدون به على قبيح صغير أو كبير فصح أن ما شهدوا به أنه من الدين فهو صواب

إن قيل المراد بذلك أن يشهدوا بذلك في الآخرة على الامم السالفة أن أنبياءهم بلغت إليهم الرسالة وذلك يقتضي كونهم دولا في حال ما يشهدون دون حال الدنيا والجواب أنه لو كان هذا هو المراد لقال سنجعلكم أمة وسطا وأيضا فانهم إن شهدوا بتبليغ الرسل إلى الامم قبلهم والامم قد شاهدت ذلك فعلمهم بذلك أقوى من علم هذه الأمة فلم يجز أن يستشهد الأنبياء بمن علمه أضعف وأيضا فجميع الامم عدول في الآخرة على معنى أنهم لا يفعلون القبيح فلا معنى لتخصيص هذه الأمة بالعدالة لو كان المراد به الآخرة
إن قيل قوله ليشهدوا ليس فيه لفظ عموم فيقضي أن يشهدوا بجميع أنواع الشهادات فما يؤمنكم أن يكون المراد بذلك ليشهدوا على من بعدهم بإيجاب النبي صلى الله عليه و سلم العبادات عليهم قيل لو كان المراد ذلك لم يؤثر فيما ذكرناه من أن وصفهم بالعدالة يمنع من كونهم مقدمين على كبيرة وعلى أنه إن أريد بذلك إخبارهم من جهة التواتر فلا معنى لجعلهم عدولا لهذا الغرض لأن بخبر مثلهم يقع العلم إذا نقلوا بأجمعهم وإن لم يكونوا عدولا وإن أريد بذلك أنه جعلهم عدولا ليخبرونا بالآحاد فذلك غير موجود في كل واحد منهم لأنه ليس كل واحد من الأمة عدلا إذا انفرد
فان قيل المراد أن أكثرهم عدل قيل الظاهر من قوله جعلناكم من وجه بالخطاب إليهم وهم أهل العصر فيجب أن يكونوا بأجمعهم عدولا في تلك الحال وفي الشيء الذي أجمعوا عليه ودانوا به ولو ثبت أن أكثرهم لا يواقعون كبيرة صح أن الإجماع حجة لأنه إن كان كثير من الأمة لا يواقعون كبيرة أصلا فقد تحققنا أنه إذا اتفقت الامة كلها أن ما اتفقوا عليه ليس بكبير لدخول أولئك في الجملة
إن قيل المراد بذلك أنه جعل أكثرهم عدولا في الظاهر لا في الحقيقة

ليشهدوا من جهة الخبر قيل الظاهر من قوله جعلناكم أمة وسطا أنهم كذلك على الحقيقة لأن الخبر يقتضي كون المخبر على ما تناوله كما لو أخبر أنه جعلهم بيضا أو سودا
فان قيل إن كان المراد بالأمة جميع من صدق بالنبي إلى يوم القيامة لم يثبت مع ذلك كون الإجماع حجة فان أريد من كان موجودا حين نزلت الآية لم يصح أن يتعلقوا بالإجماع في شيء إلا أن يعلموا أن جميع من كان حاضرا حين نزلت الآية قال بذلك القول قيل أما القسم الأول فلا يصح لأن جميع من صدق بالنبي إلى قيام الساعة لا يجوز أن يشهدوا بلزوم العبادات على غيرهم لأنه ليس غيرهم مكلف بعد تلك الحال ولا يجوز القسم الثاني لأنه لا سبيل لنا إلى العلم به وقد أمرهم الله تعالى أن يشهدوا وذلك يقتضي وجوب القبول علينا ولا يجوز أن يقف وجوب قبولنا منهم على ما لا سبيل لنا إلى العلم به وأيضا فان الشهادة علينا إنما تكون بعد حدوثنا وموت النبي عليه السلام وهذا يقتضي أن يكون المراد بالأمة عصر الصحابة بعد وفاة النبي عليه السلام
دليل آخر قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يدل على أنهم ينهون عن كل منكر لأن لام الجنس يستغرق الجنس فلو أجمعوا على مذهب منكر لما نهوا عنه بل كانوا أمروا به
إن قيل قوله كنتم خير أمة يقتضي تقدم كونهم خير أمة وليس في الآية دليل على أنهم يستديمون هذه الحال والجواب أنه قد قيل إنه يحتمل أن يكون كان ها هنا هي الزمانية ويحتمل أن تكون زائدة وإن أفاد لفظها نصب قوله كنتم خير أمة كقوله تعالى كيف نكلم من كان في المهد صبيا ويحتمل أن تكون كان ها هنا تامة بمعنى وجدتم ويكون

قوله خير أمة نصب على الحال وأي هذه الوجوه ثبت لم يضرنا لأن قوله خير أمة إن أفاد تقدم كونهم كذلك فقوله تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يقتضي كونهم كذلك في كل حال وما ينهون عن كل منكر لأنهم لو كانوا ينهون عن بعض المنكرات ويأمرون ببعض وينهون عن ذلك في بعض حالاتهم دون بعض لما كانوا خير أمة أخرجت للناس لأن الامم السالفة قد نهوا عن كثير من المنكر وأمروا بكثير من المعروف في بعض الحالات دون بعض ألا ترى أنهم أمروا بالتوحيد ونهوا عن الإلحاد وأمروا بنبوة أنبيائهم ونهوا عن تكذيبهم فوجب حمل الآية على العموم في جميع الحالات
فأما الوجهان الآخران فالأمر في صحة الاستدلال معهما ظاهر دليل قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا فجمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور في الوعيد ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول الحكيم لعبده إن زنيت وشربت الماء عاقبتك وإذا قبح اتباع غير سبيلهم وجب تجنبه ولم يمكن تجنبه إلا باتباع سبيلهم لأنه لا واسط بين اتباع سبيلهم واتباع غير سبيلهم
إن قيل إنما جمع الله بين مشاقة الرسول وبين اتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد لأن اتباع غير سبيلهم قبيح بشرط مشاقة الرسول وغير قبيح إذا لم يوجد مشاقة الرسول قيل له هذا يقتضي أن يكون من شاق الرسول يجب عليه اتباع سبيل المؤمنين مع مشاقته للرسول ومشاقة الرسول ليست معصية فقط وإنما هي معصية على سبيل الرد عليه والمعاندة له لأن من صدق بالنبي وفعل بعض المعاصي لا يقال إنه مشاق للرسول ومن كذب بالنبي صلى الله عليه و سلم ورد عليه

لا يصح أن يعلم صحة الإجماع لأنه إنما يعلم صحته بالسمع ومن لا يصح أن يعلم صحة الإجماع لا يصح أن يؤمر باتباعه في تلك الحال
فان قيل إن الله تعالى شرط في لحوق الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين تبين الهدى واللام في الهدى للجنس فاقتضت استيعاب الهدى فكان معنى الآية من تبين جميع الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين لحقه الوعيد فيدخل ما أجمعوا عليه في جملة الهدى فيجب تقدم بيانه بدليل سوى قول الأمة ثم يتبعون فيه كما أن الإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه يقتضي تبين صدقه بشيء سوى قوله وقد أجيبت عن ذلك بأن تبين الهدى شرط في لحوق هذا الوعيد المذكور بمشاقة الرسول فقط لا في اتباع غير سبيل المؤمنين لأن الإنسان إنما يكون مشاقا ومعاندا إذا تبين له الحق وعرفه فكان هذا الشرط مقصورا على المشاقة فقط
ويجاب عن السؤال أيضا بأن الهدى الذي تبينه شرط في ثبوت مشاقة الرسول وفي لحوق الوعيد هو التوحيد والعدل وصدق الرسول دون تبين الهدى الذي هو الفروع ألا ترى أن من عرف التوحيد والعدل وصدق النبي صلى الله عليه و سلم وحاد عن نبوته ورد عليه كان مشاقا له وإن لم يعرف أحكام الفروع وإذا أنكر لم تكن المعرفة بأحكام الفروع وغيرها مما زاد على التوحيد والعدل والنبوات شرطا في المشاقة وفي لحوق الوعيد بها لم تكن شرطا في لحوق الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين لأن الوعيد المعلق بهما واحد
وأيضا فان تأويل السائل يبطل فائدة تمييز المؤمنين بهذا الكلام مع علمنا أنه خرج مخرج الإعظام لهم ألا ترى أن غير المؤمنين إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هذا فانه يلزمنا أن نقول مثل قولهم كما يلزمنا مثل ذلك في قول المؤمنين عند السائل على أن اتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأنهم قالوه

وليس اتباعهم هو مشاركتهم في قولهم لأن دليلا دل عليه ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود في إثبات الصانع جل ثناؤه وفي نبوة موسى وإن شاركناهم في اعتقادهم ذلك لما لم نصر إلى ذلك لأجل قولهم
وأيضا فهذا السائل إن جعل سبيل المؤمنين على كل حال هذا فقد أوجب اتباعه في كل حال وفي ذلك الرجوع إلى قولنا وإن لم يجعله هذا على كل حال لزمه أن لا يكون اتباعه على كل حال واجبا والأمر يفيد وجوب اتباعهم على كل حال فعلمنا أنه لم يرد تبين كل الهدى
فان قيل لستم بأن تتركوا الظاهر في استغراق الهدى بأولى من أن نترك نحن ظاهر الآية في اتباع سبيل المؤمنين في كل حال ونتمسك بعموم الهدى قيل الفرق بيننا وبينكم أنكم إذا حملتم الهدى على العموم لزمكم أن تحملوا الآية على وجوه لا فائدة فيها على ما بيناه من قبل وهذا الجواب لا يقوم بنفسه إلا بما تقدم من الأجوبة وفيها كفاية
إن قيل قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يحتمل أن يكون غير في هذا الكلام بمعنى إلا فيكون معنى الآية ويتبع إلا سبيل المؤمنين فيكون ذلك توعدا لمن لم يتبع سبيلهم ومن شك فيه توقف ولمن اتبع سبيلا غير سبيلهم ويحتمل أن يكون صفة فيكون معنى الآية ويتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين فلا يدخل في هذا الوعيد من لم يتبع سبيلهم ولا سبيل غيرهم بل توقف فما يؤمنكم أن يكون غير ها هنا صفة فلا يكون لكم في الاية دلالة والجواب أن هذا السؤال يقتضي أن تكون الآية قد حظرت على الإنسان إذا أجمعت الامة على إباحة شيء أن يقول بحظره أو بوجوبه والمخالف لا يحظر ذلك وأيضا فالمتوقف في قولهم يتبع سبيلا غير سبيلهم فقد دخل في الوعيد ألا ترى أن من شك في نبوة النبي صلى الله عليه و سلم يوصف أنه يتبع

غير سبيل المؤمنين وأيضا فالمفهوم في قول القائل لا تتبع غير سبيل الصالحين اتبع سبيلهم
فان قالوا إنما فهم ذلك لأن اسم الصالحين مدح قيل لهم وكذلك اسم المؤمنين فيجب أن يفهم من قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين إيجاب اتباع سبيل المؤمنين
إن قيل قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين معناه ويتبع سبيلا غير سبيلهم وهذا يقتضي سبيلا واحدة قيل فيجب أن يحرم اتباع هذه السبيل لأنها غير سبيلهم والمخالف لا يحرم ذلك على أن قوله غير سبيل المؤمنين إن أفاد اتباع غير سبيلهم فهو عام في كل سبيل كان موصوفا بأنه غير سبيلهم كما أن الإنسان إذا قال من دخل غير داري ضربته فهم منه كل دار غير داره
إن قيل السبيل هو الطريق دون القول والفتوى فيجب أن يدخل في ذلك ما استطرقوه دون الفتوى قيل المعلوم أنه لم يرد ما استطرقوه من الطرق التي يمشون فيها لأنه ليس يحرم على الإنسان أن يمشي في طريق لا يمشون فيه فان كان المراد بذلك ما استطرقوه في الأدلة فيجب ما اعتقدوه دليلا أن يكون دليلا والمخالف لا يوجب ذلك على أن ما اجتباه الإنسان لنفسه وتمسك به يقال إنه سبيله سواء كان دليلا أو غيره لأنه يقال لمن حرم النبيذ إنه ليس يسلك سبيل ابي حنيفة ويقال للإنسان اسلك سبيل التجار فيفهم من ذلك افعل فعلهم في زيهم وأخلاقهم وعاداتهم فصح أن ذلك غير مقصور على الأدلة
فان قيل المجمعون صاروا إلى ما أجمعوا عليه باستدلال واجتهاد فالاجتهاد في تلك المسألة سبيلهم كما أن الحكم الذي حكموا به سبيلهم فلم أوجبتم على من بعدهم المصير إلى ما حكموا به وأسقطتم عنه الاجتهاد بأولى من أن

توجبوا عليه الاستدلال والاجتهاد وتسقطوا عنه المصير إلى حكمهم على كل حال والجواب أنا إذا أوجبنا عليه المصير إلى حكمهم كنا قد أمرناه باتباع سبيلهم في الحكم وفي الاستدلال لأن من يتبع الإجماع فقد استدل على الحكم الذي أجمعوا عليه وإن كان دليله غير دليل المجمعين وليس يجب على الإنسان أن يستدل بنفس ما استدل به غيره إذا ظفر بدليل آخر على أنه إن وجب على المكلف الاستدلال بنفس ما استدل به الأولون على الحد الذي استدلوا به فذلك يؤديه إلى الحكم الذي اتفقوا عليه لأنهم إنما اتفقوا عليه لأجل الاستدلال وفي هذا أوجبوا مشاركتهم في الحكم
فان قيل إذا اتفق أهل العصر على استباحة شيء وفعلوه بأجمعهم أيلزم من بعدهم فعله لأن فعلهم سبيلهم قيل إنما يجب عليه اعتقاد إباحته فأما فعله فلو اوجبناه مع أنهم لم يوجبوه لكان ذلك خلاف سبيلهم
إن قيل قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين لا يمنع من اجتماعهم على الكفر والردة فمن أين أنه لا يجوز ذلك عليهم قيل الآية إن لم تمنع من ذلك فهي مانعة من مخالفتهم فيما أجمعوا عليه إذا كانوا مؤمنين ولا يمتنع أن تدل على أنهم لا يجمعون جميعا على الردة
دليل آخر وأيضا فاذا اجتمع أهل كل عصر على أنه لا يجوز أن يجتمعوا على الردة كان ذلك من سبيلهم فلم يجز مخالفتهم فمتى ثبت هذا الإجماع صج الاستدلال به وقد أجيب عن السؤال بأن إيجاب الله علينا اتباع سبيل المؤمنين يقتضي أن لا يخلو عصر من الأعصار من مؤمنين حتى يصح منا امتثال الأمر باتباعهم وفي ذلك أنهم لا يجمعون جميعا على الردة وهذا الجواب غير لازم لأن إيجابه علينا اتباع سبيل المؤمنين يقتضي وجوب ذلك متى وجد مؤمنون كما يقتضي وجوب ذلك متى أجمعوا فكما لا يلزم بهذا الإيجاب أن

يجتمعوا في كل عصر حتى يصح اتباعهم فكذلك لا يجب أن يوجدوا في كل عصر
إن قيل قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يقتضي دخول النبي صلى الله عليه و سلم فيهم لأنه عليه السلام سيد المؤمنين فيجب إذا حدث حادثة في زمان الصحابة فأجمعوا عليها أن لا تكون حجة لأنه ليس للنبي فيها قول وإنما يمكنكم أن تعلموا أن قول النبي عليه السلام فيها هو ما أجمعوا عليه إذا ثبت لكم أن الإجماع حجة قيل إن الله تعالى لم يعن النبي صلى الله عليه و سلم بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وإن كان عليه السلام سيدهم لأنه لو عناه مع كافة المؤمنين لم يكن لذكر من سواه من المؤمنين فائدة إذ الحجة ثابتة بقوله والوعيد يتوجه إلى من خالف قوله دون ما عداه من المؤمنين فعلمنا أنه أراد غيره من المؤمنين ليدلنا على أنهم حجة كما أن الرسول حجة
إن قيل فيجب أن لا يكون ما أجمع عليه الصحابة حجة في زمنهم لأنه ليس في تلك الحادثة قول لمن حضر نزول هذه الآية من المؤمنين الذين ماتوا قبل وفاة النبي عليه السلام والجواب أنا لو اعتبرنا قول من كان مؤمنا في ذلك الوقت فقط للزم أن لا نعتبر قولهم لأن قول الامة في ذلك الوقت لا بد من أن يعرفه النبي صلى الله عليه و سلم فيقر عليه فتكون الحجة هي إقرار النبي عليه السلام وترك إنكاره عليه
إن قيل اسم المؤمنين يفيد أشخاصا يستحقون الثواب والمدح فيجب أن يكون الحجة هو إجماع هؤلاء دون الفساق وإن خالفهم غيرهم قيل كذلك نقول إلا أنا إذا اعتبرنا إجماع جميع أهل القبلة دخل المستحقون للثواب في جملتهم فان علمنا فسق كثير من أهل القبلة فقد ذكر أبو علي أنه يعتبر إجماع من عداهم ممن ظاهره أنه مستحق للثواب والمدح ولا اعتبار بالباطن لأن الله

تعالى لا يكلفنا اتباع سبيل المؤمنين إلا ولنا طريق إلى معرفة كونهم مؤمنين وإذا كان قد جعل لنا سبيلا إلى معرفة الظاهر دون الباطن علمنا أنه أراد اتباع سبيل من ظاهره استحقاق الثواب والمدح وأنه لم يكلفنا الباطن
إن قيل ليس يصح التعليق بالآية على قول شيوخكم ولا على قول غيرهم أما قول شيوخكم فالمؤمنون عندهم المستحقون للثواب والمدح فما يؤمنكم إذا اتفقت الامة على قول أن يكون ذلك خطأ يخرجون به من استحقاق الثواب والمدح فاذا لم يأمنوا ذلك لم يأمنوا كونهم مؤمنين إلا بعد الاستدلال بغير قولهم على أن ذلك القول حق وصواب وذلك يخرج قولهم من أن يكون دليلا على كونه صوابا وشرط كون قولهم دليلا أن يكون قولا صادرا عن مؤمنين وأنتم إنما تعلمون هذا الشرط بعد العلم بالمدلول وهو صحة قولهم
فان قلتم إنهم إذا اتفقوا على حكم هو من الفروع لم يستحقون به الذم لأن كل مجتهد في الفروع مصيب ولأنه خطأ مغفور قيل لكم المعول في ذلك هو على الإجماع فمتى لم يثبت أن الإجماع حجة لم يصح أن يعلم ذلك على أن ذلك يمنع من الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع في غير مسائل الاجتهاد
فان قلتم إن الآية تدل على اتباع قول المؤمنين لأجل قولهم لا لدليل آخر على ما تقدم بيانه وذلك يقتضي كونهم معينين غير موصوفين فيجب أن يكون المراد بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين على موجب اللغة أو من كان ظاهره قبل ما أجمعوا على أنه مستحق للثواب لأنا إن لم نحمل الآية على ذلك لم يصح اتباع قولهم لأجل أنهم قالوه قيل لكم لستم بأن تعدلوا عن الظاهر فتحملوا الآية على التصديق أو تحملوا المؤمنين على من كان قبل ذلك الإجماع يستحق المدح في الظاهر وتمسكوا بالظاهر في وجوب اتباعهم لأجل قولهم بأولى من أن تتمسكوا علينا اتباع سبيل المؤمنين الموصوفين سواء كانوا موجودين

أو غير موجودين كما نقول اتبع سبيل الصالحين وأنت تريد صالحين موصوفين أي واتبع سبيلا من حقها أن تكون سبيل الصالحين وهي التي كانوا بها صالحين أو يكون المراد اتبع سبيل المؤمنين في ترك مشاقة الرسول فاذا اعتدل التأويلان سقط احتجاجكم بالآية
وأما غير شيوخكم فانهم وإن قالوا إن المؤمن في الشريعة هو المصدق بالله وبرسوله فانه إنما لم يصح لهم الاحتجاج بالآية لأن ظاهر قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يدل على حظر مخالفة جماعة هم مصدقون بالله بقلوبهم وذلك لا سبيل إليه
فان قالوا المراد بذلك المؤمنون في الظاهر دون الباطن لأنه لا يجوز أن يكلف اتباع من لا سبيل لنا إلى العلم به قيل لهم قد تركتم الظاهر لأن من يظهر الإيمان ولا يعتقده ليس بمؤمن على التحقيق والآية تفيد تعليق الوعيد على من خالف من هو مؤمن على الحقيقة فان جاز لكم أن تعدلوا عن هذا الظاهر جاز لنا أن نقول المراد بالآية سبيل المؤمنين الموصوفين على ما تقدم بيانه وترك الظاهر في كون المؤمنين المذكورين في الآية معينين إن كان الظاهر يفيد كونهم معينين فنترك ظاهرا في الاية ونتمسك بغيره كما تركتم ظاهرا في الاية وتمسكتم بغيره
دليل قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقد قيل إنه استدل بذلك بأن أمر بالاعتصام بحبل الله على أنهم قد اعتصموا به وهذا باطل لأن الأمر لا يدل على وقوع امتثاله
ويمكن أن يستدل بالآية من وجوه أخر
منها أن يقال إذا أجمع أهل العصر على قول لم يجز لبعضهم أن يترك هذا

القول لأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا قد تفرقوا والله تعالى قد نهى عن ذلك والجواب أنه إن كان ما أجمعوا عليه حقا فقد حرم عليهم التفرق عنه وإن كان خطأ وجب عليهم بأجمعهم العدل عنه والإجماع على الحق وأن لا يتفرقوا عنه فقد قال المخالف إنه يحرم عليهم التفرق وإن لم يحصل الإجماع حقا
ومنها أن يقال إذا أجمع أهل العصر على قول لم يجز لأهل العصر الثاني أن يخالفوهم لأنه إذا خالفهم أهل العصر الثاني كان أهل العصر الثاني قد تفرقوا والجواب أنه لا يوصفون بأنهم متفرقون إذا أجمعوا على مخالفة أهل العصر الأول فان افترقوا هم على قولين فقد نهوا عن ذلك لأنه يجب عليهم الاجتماع على الحق
ومنها أن يقال إذا خالف أهل العصر الثاني لأهل العصر الأول فقد صار أهل العصر الأول مع الثاني متفرقين والنهي يمنع من ذلك والجواب أن أهل العصر الأول غير موجودين في هذه الحالة فيقال إنهم مع أهل العصر الثاني منهيون عن التفرق وأيضا فان المفهوم من قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا وقوله ولا تفرقوا هو أن لا يتفرقوا في الاعتصام بحبل الله كما أن المفهوم من قول الإنسان لعبيده ادخلوا الدار أجمعين أي لا تتفرقوا في دخول الدار فيجب على المستدل أن يبين ما أجمع أهل العصر عليه اعتصام بحبل الله تعالى حتى يعلم من بعدهم أنهم قد نهوا عن مفارقتهم وهذا غير ظاهر لأن قوله ولا تفرقوا مطلق في النهي عن التفرق فيتناول كل شيء
دليل قال الله تعالى يآيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فشرط التنازع في وجوب الرد إلى الكتاب والسنة فدل أنهم إذا لم يتنازعوا لم يجب الرد لأن

تعليق الحكم بالشرط يدل على أن ما عداه بخلافه
ولقائل أن يقول أيسقط وجوب الرد إلى الكتاب والسنة ويصير ترك ذلك مباحا إذا اتفقوا على الحكم بالرد إلى الكتاب والسنة أو إذا اتفقوا على ذلك من غير رد إليهما فان قلتم بالثاني جوزتم وقوع الإجماع من غير دليل وجواز ذلك يمنع صحة الإجماع وإذا قلتم بالأول نسبتم إلى الله تعالى ما لا يجوز لأن طلب الحكم من الكتاب والسنة بعد ما وجد منهما محال إذ طلب ما هو موجود عند الطلب مستحيل فإباحة ترك المستحيل عبث لا يصدر عن حكيم
فان قيل فما المراد بالآية قيل المراد بها الحث على طاعة أولى الأمر وهم الأمراء فما تدبروا به من أمر الدين والدنيا مما لا نعلم أنه خطأ فان ظننا أنه خطأ ونازعناهم فيه رددناه إلى الله ورسوله وهذا كما لو قال الإنسان لعبيده أطيعوا من أوليه عليكم فان تنازعتم وتخالفتم فردوه إلي لفهم منه ما ذكرناه
دليل وهو قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على خطأ فنفى جميع الخطأ عن إجماعهم لأن ذلك نفي لنكرة تعم ومما أجمعوا عليه أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه فيجب كون ذلك صوابا غير خطأ وينبغي أن يتشاغل بتثبت الخبر ثم بالكلام في متنه وقد سلك الناس في تثبيته وجوها
منها أن الخبر وإن نقل بالآحاد فان معناه بالتواتر روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أمتي لا تجتمع على ضلال وقال يد الله مع الجماعة وقال الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين ابعد وقال ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وقال من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه قالوا فجرى ذلك مجرى ما تناقل بالآحاد من تفاصيل سخاء حاتم في أنه قد صار بإجماعه متواترا ولقائل أن يقول إن هذه الأخبار تبلغ خمسة أو ستة ولو روى خمسة نفر أو ستة خبرا لم يجب أن يكون معلوما

ولو وجب أن يكون بعض هذه الأخبار صحيحا لم يمنع أن يكون الصحيح منها قوله الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين ابعد وذلك يدل على أن الأغلب فيما اجتمع عليه كونه صحيحا وليس ذلك من الأخبار عن سخاء حاتم بسبيل لأنه لا يمكن لأحد أن يخالف في سخاء حاتم ويمكن أن يخالف في هذه الأخبار
ومنها أن التابعين اعتقدوا بأجمعهم صحة الإجماع ولم يظهر فيما بينهم شيء لأجله صاروا إلى هذا الرأي إلا هذا الخبر فعلمنا أنهم صاروا إليه لأجله والعادة في أمتنا أنها لا تجتمع على موجب خبر إلا وقد قامت الحجة به ألا ترى أنه ما نقل بالآحاد ولم تقم الحجة به لم يتفقوا على موجبه لما كان حكمهم بموجبه موقوفا على الاجتهاد في حال الراوي ولقائل أن يقول إني لا أعلم أن جماعة التابعين اعتقدوا كون الإجماع حجة كما لا أعلم ذلك في أهل هذا العصر سيما وقد روي عن بعضهم أنه قال في قول القائل لامرأته أنت حرام أنه ليس بشيء وهذا بخلاف إنما أفتت به الصحابة ولو ثبت أنهم أجمعوا على ذلك لم نأمن أن يكون إنما اعتقدت صحة الإجماع لأجل الآيات فقط لا للخبر ولو علمنا أنهم اعتقدوا صحة الإجماع لأجل الخبر لم نعلم أنه صحيح لأنهم إن قالوا فإنه لا يجوز أن يعتقدوا صحة الإجماع بخبر لم يقم به الحجة لأن ذلك خطأ والامة لا تجتمع على خطأ كانوا قد سلموا صحة الإجماع وبنوا عليه الدليل فان أوجبوا ذلك لأن الحكم بخبر الواحد موقوف على الاجتهاد في حال الراوي وذلك يمنع من اتفاق جماعتهم على موجبة قيل لهم أليس يجوز أن يجمعوا على الحكم من جهة القياس والاجتهاد ويجوز من جهة العقل أن يجمعوا من جهة الشبه وإن أوجبوا ذلك لأنهم استقرءوا الأخبار فوجدوا ما كان منها قد قامت الحجة به قد اتفقوا على موجبه وما لم تقم الحجة به لم يجمعوا عليه ألا ترى أن أخبار الآحاد في الفقه لم يجمعوا على موجبها قيل لهم ولم زعمتم أن عادتهم مستمرة بذلك في كل ما لم تقم الحجة به من الأخبار وما أنكرتم أن يكون هذا الخبر لم تقم الحجة به وأجمعوا على

موجبة وقد تركت الصحابة آرائهم بخبر حمل بن مالك وصاروا إلى خبر عبد الرحمن في المجوس وأجمعوا على أنه لا تنكح المرأة على عمتها بخبر واحد
وإن قالوا لم يجمعوا على ذلك إلا لقيام الحجة به قيل تثبتوا ذلك حتى يصح استدلالكم ولو كانوا أجمعوا على ذلك لقيام الحجة بهذه الأخبار لم يصح الاستدلال بذلك على قبول الأخبار المظنونة
فان قالوا أليس بعض أخبار الآحاد لم يجمعوا على موجبها قيل إنا لم نوجب أن يجمعوا على موجب خبر الواحد وإنما جوزنا ذلك وجوزنا خلافه فلم يلزمنا ما ذكرتم
فان قيل لا يجوز على التابعين مع شدة تدينهم وإعظامهم للدين أن يقطعوا على كون شيء حجة في الشرع بما لا يوجب القطع واليقين كما لا يجوز والحال هذه أن يقبلوا خبر واحد في جواز نسخ الشرع بحسب شهوات بعضهم والجواب أنه يجوز أنهم اعتقدوا ذلك لشبهة كما اعتقد كثير من أصحاب الحديث في الله تعالى ما يستحيل عليه لأخبار آحاد بالتقليد ولا يمتنع أن يكونوا ظنوا صدق الراوي ولم يقطعوا به فظنوا أن الإجماع حجة واعتقدوا وجوب ما أجمعوا عليه لأنهم قد ظنوا صحته كما اعتقدوا وجوب قبول خبر الواحد في الأحكام إذا ظنوا صدق الراوي وما ذكروه من اعتقادهم النسخ بحسب الشهوات فانه يجوز عليهم أن يقبلوا خبرا مرويا في ذلك إلا أن يعلم أن إجماعهم حجة أو يعلم أنهم قد استبعدوا تغير الشرع بحسب شهوات الناس فمنع هذا الاستبعاد من إجماعهم على صحة الخبر وليس اتفاق الامة على الحق بمستبعد كاستبعاد تغير الشرع بالشهوات بل الأغلب عند الناس أن الحق لا يخفى على الجمع الكثير والناس الشريفة يعظمون الامة فالخبر الواحد ينفي الخطأ عنهم ويطابق هذا المستقر في أنفسهم وورود الخبر بنسخ الشريعة بحسن الشهوات ينافي لما تكن في نفوس الامة

وليس يمتنع أن يستدل مستدل على وجوب المصير إلى الإجماع بأخبار الآحاد لأن العقل عندنا يدل على وجوب قبول خبر الواحد من حيث التحرز عن المضار فاذا روى الواحد عن النبي صلى الله عليه و سلم أن أمته لا تجتمع على خطأ ظننا أنهم كذلك ولزمنا العمل بما حكموا به كما أن المسافر لو أخبره من ظاهره الصدق عن بعض من يثق به أنه يأمر بالرجوع في سفره إلى رثد في طريقه فانه لا يغلط أو أنه قليل الغلط في السفر لزمه الرجوع إليه إذا غلب على ظنه صدق الراوي وإصابته من أمره بالرجوع إلى رثد إلا أن هذه الأخبار لا تقتضي القطع على إصابة المجتمعين وإنما يسوغ الاستدلال بالإجماع في الأعمال دون العلوم
فأما الكلام في متن الخبر فقد تقدم طرف منه وهو كيفية الاستدلال به ويرد عليه وجوه
منها أن يقال هلا كان الخطأ المنفي عنها هو السهو وليس هو خلاف الحق والجواب أن الجماعة المعظمة لا تجتمع على السهو كما لا يجوز أن تجتمع على مأكل واحد فلو كان المراد ما ذكروه لم يكن فيه فائدة كما لو قال أمتي لا تجتمع على مأكل واحد وأيضا فجميع الامم لا يجوز أن يجتمعوا على السهو فمدح هذه الأمة بذلك وتخصيصهم به لا فائدة فيه
ومنها أنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ قالوا ونحن نقول بذلك لأن الله تعالى لا يحمل العباد على الخطأ والجواب أنا نجمع بين الخبرين فنقول لا يجتمعون على الخطأ ولم يكن الله ليجمعهم على الخطأ على أن الله تعالى لا يحمل أحدا على الخطأ فلو كان المراد بالخبر هذا لم يكن في تخصيص الامة به معنى
ومنها أنه روي أنه قال أمتي لا تجتمع على ضلال والضلال هو الكفر دون غيره والجواب أنا نجمع بين ذلك وبين الخبر النافي لأنواع الخطأ عنهم

وأيضا فكل معصية ضلال لأنه قد عدل بها عن الحق ومنه قوله تعالى قال فعلتها إذا وأنا من الضالين
ومنها أن يقال ما المراد بأمة النبي صلى الله عليه و سلم فيقال اختلف الناس في ذلك فقال قوم أمته كل من بعث إليه وقال آخرون بل هم كل من صدقه وهو الصحيح لأنه المفهوم من إطلاق قولنا أمة النبي ولأن المسلمين يدعون لأمة محمد ولا يدعون لكل من بعث النبي إليه فان قيل فيجب أن يقع قوله أمتي على من صدقه إلى انقطاع التكليف لأنه ليس فيه بعد ذلك تكليف فيحتج فيه بالإجماع والجواب أن قوله عليه السلام أمتي لا تجتمع على خطأ لا يتناول إلا من كان في ذلك العصر دون من لم يوجد لأن من لم يوجد لا يكون مصدقا في تلك الحال ولقائل أن يقول إن كان المراد بقوله أمتي لا تجتمع على خطأ كل من صدقه إلى انقطاع التكليف لم يكن في الخبر دلالة على أن الإجماع حجة ووجب أن يكون المراد بالخبر ما ذكرناه وإن كان المراد بالخبر من هو موجود بمن صدقه وجب أن لا يدخل تحت الخبر إلا من كان موجودا من أمة النبي صلى الله عليه و سلم عند قوله أمتي لا تجتمع على خطأ فلا يمكن والحال هذه أن تستدلوا باجماع الصحابة بعده مع علمهم أن كثيرا ممن كان حيا عند ورود هذا الخبر من النبي صلى الله عليه و سلم قد توفي أو تجويزكم أنه توفى وما تنكرون أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم إنما عنى بهذا الكلام أن من عاصر هذا القول فيه لا يجتمع على خطأ ولم يكن قصده أن يجتمع بقولهم لأنهم إذا أجمعو على شيء فأقره النبي صلى الله عليه و سلم فالحجة هي إقراره فان قلتم إن المصدقين به بعد وفاته هم أمته فدخلوا تحت ظاهر الخبر قيل لكم إنما يدخلون تحته لو كانوا جميع أمته وليسوا جميع أمته بل جميع أمته هم مع تقدمهم
ومنها قولهم ولم إذا كانوا ما أجمعوا عليه ليس بخطأ فيكون حجة فان قلتم لأن الأمة أجمعت على أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه قيل لكم ومتى

أجمعوا على ذلك وفيهم من يقول يجوز أن يجتمعوا على خطأ فان أدعيتم أن الصحابة والتابعين كلهم كانوا يعتقدون أن الامة لا تجتمع على خطأ لم يسلم الخصم لكم ذلك قيل قد أجاب قاضي القضاة عن السؤال بأن المعتبر هو بإجماع من يقول إن الأمة لا تجتمع على خطأ وإن جاز مخالفتهم لكان هذا القول الحق قد أخرج عن أقاويل الامة لأنه ليس فيهم من جمع بين هذين القولين وفي ذلك اتفاقهم على الخطأ في مسألتين وسيجيء القول في ذلك
دليل الجماعات الكثيرة على اختلاف هممهم وأغراضهم لا يجوز أن يتفقوا على قول إلا لداع ولا يجوز أن يكون التقليد هو الذي دعاهم لأن كثيرا منهم يبطل التقليد ولو دعتهم الشبهة لنقلت ونقل خوضهم فيها فاذا لم تنقل علمنا أنه بحجة قاطعة ويجري مجرى اتفاقهم على رواية ما شاهدوه في أنه لا يجوز الخطأ عليهم فيه والجواب أن العقل يجيز اتفاق الجماعات الكثيرة على الخطأ من جهة الرأي ويلزمهم على ما قالوه أن لا يجوز اتفاق جميع الأمم على خطأ وكذلك كل جماعة من الأمة يقع العلم بخبر مثلها ويلزم إذا نقلوا ما أجمعوا لأجله أن يجوز وأن كونه شبهة لأنهم إنما أحالوا أن يجمعوا عن شبهة لا تنقل وعلى أنه لا يمتنع أن يكون بعضهم صار إلى القول بشبهة ثم قلدهم الباقون لمحبتهم لهم وانصراف أهوائهم إليهم أو لاستثقالهم النظر وتصويبهم التقليد وعلى أن كثيرا من الناس يظهر القول بفساد التقليد ثم ينظر في الدليل فاذا شق عليه استعماله قطع النظر وقلد ولا يمتنع أن يكونوا بأجمعهم صاروا إلى القول بشبهة فظنوها حجة فأضربوا عن نقلها لظنهم أنها حجة كما يضربون عن نقل الحجة إذا أجمعوا على موجبها
والفرق بين رواية الجماعة الكثيرة عما شاهدته وإن لم يقع اللبس فيه وبين ما قالته من جهة الرأي أن الرأي يعترضه الشبهة والأهواء فتصير الأهواء مع التقصير في النظر الشبهة بصورة الحجج فلا يؤمن أن يكونوا اتفقوا لذلك وهذا صنف عما شاهدوه وزال اللبس فيه لأن كل واحد منهم عالم بما

شاهدوه ولا يجوز مع كثرتهم أن يخبروا بما يعلم كل واحد منهم أنه كان فيه وأن غيره يعلم أنه كاذب فيه
دليل قد ثبت دوام شرعنا إلى انقضاء التكليف فوجب أن يكون قول الامة حجة ليدوم قيام الدلالة على اتصال الشرع والجواب أن الحجة في ذلك القرآن والاجتهاد والأخبار على أن شرعنا منقطع بانقطاع التكليف كانقطاع شرع من قبلنا بالنسخ فدوام كل واحد من الشرعين كدوام الآخر أو تقارنه فكما لا يجب أن يكون قول إحدى الامتين حجة لم يجب في الأخرى مثله
وأما من خالف في الإجماع فانه يسلك مسالك ثلاثة أحدها أن يحيل وقوع الإجماع والآخر أن يحيل ثبوت الطريق إليه والآخر أن يقول ليس في العقل ولا في السمع دليل عليه
أما إحالة الإجماع فمن وجهين
أحدهما أن يقول يستحيل أن يجوز على كل واحد من الأمة الخطأ ولا يجوز على جماعتهم كما يستحيل أن يكون كل واحد منهم مصيبا وجماعتهم غير مصيبين وأن يكون كل واحد منهم أسود وجماعتهم غير سود والجواب أن المستحيل هو أن يقال إن كل واحد من الامة يجوز كونه مخطئا في القول الذي اتفقوا عليه وجماعتهم غير مخطئين فيه ولم نقل ذلك وإنما نقول إن كل واحد منهم يجوز أن يكون قوله خطأ إذا انفرد وإذا اجتمع مع جماعة الامة لم يكن قوله خطأ وليس يمتنع أن يفارق الواحد الجماعة ألا ترى أن كل واحد منهم يجوز أن يأكل اليوم مأكلا مخصوصا ولا يجوز أن يجتمعوا على أكله في ذلك اليوم ونظير ما ذكروه أن نقول كل واحد منهم مخطىء والكل في ذلك القول غير مخطىء وهو نظير قول القائل الكل ليسوا بسود وكل واحد منهم أسود ونظير قولنا في الإجماع أن نقول كل واحد من الناس

يجوز أن يكون أسود في البلد الفلاني فان اجتمعوا في بلد آخر لم يكونوا سودا بل بيضا
والوجه الآخر في إحالة الإجماع قولهم لو انعقد الإجماع لكان إن انعقد عن نص وجب نقله والاستغناء به ولا يجوز انعقاده عن أمارة لأنهم على كثرتهم واختلاف هممهم لا يجوز اتفاقهم عن الأمارات المظنونة والجواب أنه لا يمتنع أن يتفقوا عن نص لا ينقلوه اكتفاء بالإجماع أو ينقل ويكون محتملا فيستغنى بالإجماع عن النظر فيه ويجوز اتفاقهم عن أمارة كما جاز اتفاق الجماعات عن شبهة
وأما من قال لا طريق إلى إثبات الإجماع فسيجيء في باب منفرد ومن قال لا دليل على صحة الإجماع فقوله باطل لما تقدم من الدليل

باب في الاتفاق بماذا يكون
اعلم أن الاتفاق يكون من الجماعة بالفعل نحو أن يفعلوا بأجمعهم فعلا واحدا ويكون بالقول ويكون بالرضا نحو أن يخبروا عن أنفسهم بالرضا ونحو أن يظهر القول فيهم ولا يظهرون كراهية مع زوال التقية وقد يجتمعون على الفعل وعلى القول وعلى الإخبار عن الرضا في مسألة واحدة وكل هذه الأشياء أدلة على الاعتقاد لحسن ما رضوا به ولوجوبه على أن اتفاقهم على الفعل يدل على حسنه من حيث كان العقل دليلا على اعتقادهم لحسنه ومن حيث كانوا قد اتفقوا على فعله لأنه لو كان خطأ ما اجتمعوا على فعله كما لا يجتمعون على اعتقاد حسنه وقد يجتمعون على ترك القول في الشيء وعلى ترك فعله فيدل ذلك على أنه غير واجب لأنه لو كان واجبا لكان تركه محظورا وفي ذلك إجماعهم على المحظور ويجوز أن يكون ما تركوه مندوبا إليه

لأن تركه ليس بمحظور وذلك نحو أن يتركوا اعتقاد الأفضل من بعض أهل الأعصار باب في أنه لا اعتبار في الاجماع بجميع من بعث النبي صلى الله عليه و سلم إليه
اعلم أن جميع من بعث إليه النبي صلى الله عليه و سلم هم المكلفون إلى انقضاء التكليف من مؤمن وكافر ومجتهد وغير مجتهد ولا اعتبار بالكافرين في الإجماع لأنه لا يمكنهم معرفة الأحكام الشرعية فوقوف الإجماع عليهم يؤدي إلى تعذر الإجماع لوقوفه على ما هو متعذر ولأن الإجماع لا تعلم صحته إلا بالسمع وأدلة السمع لا تتناول الكافر كقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس الآية وقوله صلى الله عليه و سلم امتي لا تجتمع على خطأ وهذا الاسم لا يفهم من إطلاقه الكافر ولا اعتبار في الإجماع بكل المؤمنين إلى انقضاء التكليف لأن في أدلة الإجماع ما يقتضي أن أهل العصر الواحد حجة ولأن الإجماع حجة فلو اعتبرنا في الإجماع جميع المكلفين إلى آخر التكليف لم يكن حجة لأنه ليس بعدهم تكليف فيكون إجماعهم حجة فيه
فان قيل يكون حجة على من أجمع معهم ثم فارقهم قيل كيف يكون حجة عليه ولا يؤمن أن يحدث بعدهم من يخالفهم فلا يكون جميع المكلفين إلى انقضاء التكليف متفقين على ذلك الحكم
وأما غير المجتهدين فذكر قاضي القضاة أن الأقوال المنتشرة في الامة ضربان أحدهما منتشر في الخاصة فقط كمسائل الاجتهاد والآخر منتشر في

الخاصة والعامة وذلك ضربان أحدهما معلوم باضطرار من دين النبي صلى الله عليه و سلم والثاني غير معلوم من دينه باضطرار فالمعلوم من دينه باضطرار كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وتحريم البنت وما أشبه ذلك وما هذه سبيله يستغنى في الاحتجاج عليه عن قول منقول عن النبي أو إجماع والصحيح أن ذلك معلوم من الدين باستدلال لأنا لو نعلم تواتر النقل عن النبي عليه السلام بتحريم البنت أو تواتر نقل القرآن وأنه لا يجوز أن يحرم شيئا إلا وهو معتقد لتحريمه لم نعلم أنه يعتقد تحريم ذلك ألا ترى أنه لو لم ينقل إيجاب صوم شهر رمضان عنه لم يعلم دينه في ذلك وكذلك لو علمنا النقل في ذلك وجوزنا أن يوجب ما لا نعتقد وجوبه علينا لم يعلم ذلك وكذلك القول في كل ما يدعى أنه معلوم باضطرار أنه من دين النبي صلى الله عليه و سلم وإنما اشتبهت الحال فيه لأن العلم بأنه من دينه ظاهر ولم يحصل فيه نزاع بين الامة
وأما الأقوال المنتشرة في الخاصة والعامة وهي معلومة من الدين باستدلال فذكر قاضي القضاة أن منها تحريم بنت البنت وأن بنت الخالة مخالفة في التحريم للخالة ومعرفة أوقات الصلوات
ولقائل أن يقول أما معرفة أوقات الصلوات على التفصيل فمن مسائل الاجتهاد لأنه يدخل في تفصيل ذلك معرفة آخر الوقت وذلك مجتهد فيه وأما معرفة أوقات الصلوات على الجملة وتحريم بنت البنت فالعامة إنما تعرف ذلك يالرجوع إلى العلماء لا بالاستدلال لأن المكلف إنما يعرف ذلك استدلالا بظواهر تعلم أنها قد تجردت عما يعارضها وإنما يعلم عدم ذلك بعد أن يفتش الشريعة والعامة لم تنظر في هذه الظواهر ولا فتشت عما يعارضها
فأما مسائل الاجتهاد فقد اختلف الناس في اعتبار العامة فيها فقال قوم إن العامة وإن وجب عليها اتباع العلماء فان اجماع العلماء لا يكون حجة على أهل العصر الثاني حتى لا تسوغ مخالفتهم إلا بأن يتبعهم العامة من أهل عصرهم فان لم يتبعوهم لم يجب على أهل العصر الثاني من العلماء اتباعهم وقال

آخرون إجماع العلماء حجة على من بعدهم اتبعهم عوام عصرهم أو لم يتبعوهم
واحتج الأولون بأنه إنما كان قول الامة حجة لانها بأجمعها معصومة من الخطأ وليس يمتنع أن تكون جماعتهم الخاصة والعامة معصومة من الخطأ فاذا لم يمتنع ذلك وكانت ظواهر الإجماع تتناول الخاصة والعامة وجب اشتراط دخول العامة ووجب القول بأن اللطف إنما يثبت للامة بأجمعها وهذا هو الإجماع في قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وهذا يتناول العلماء وغيرهم وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا الآية كل ذلك خطاب مواجهة يتناول جميع من كان في ذلك العصر من الامة كالخطاب بالعبادات
واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأن العامة يلزمها المصير إلى قول العلماء فهو كالمنصرف فيها فلم يكن بقبولها اعتبار
ولقائل أن يقول ولم إذا وجب عليها المصير إلى قول غيرها لا يعتبر بقولها وما أنكرتم أنه وإن وجب ذلك عليها فانه لا يكون حجة من دونها ويمكن أن يحتج في المسألة أيضا فيقال إن الأمة إنما يكون قولها حجة إذا قالته بالاستدلال لأنه لا يجوز أن تحكم بغير دليل فهي إنما عصمت من الخطأ في استدلالها والعامة ليست من أهل النظر والاستدلال على الحوادث فتعصم منه
فان قالوا لا يمنع أن يكون اللطف ثابتا لجماعة الامة مجتهدها وغير المجتهد منها ولا يكون لبعضها لطف يعصمها من الخطأ قيل إذا كان اللطف إنما يعصم من الخطأ في الاستدلال ولم يكن من العامة استدلال لم يصح أن تكون معصومة فيه وبهذا الوجه يخص ظواهر الآيات

باب في إجماع أهل الأعصار
ذهب أكثر الناس إلى أن إجماع أهل كل عصر حجة على من بعدهم وقال أهل الظاهر إجماع الصحابة وحده حجة دون غيرهم من إجماع أهل الأعصار
ودليل الأولين أن أدلة الإجماع لا تخص عصرا دون عصر لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين والتابعون مؤمنون وكذلك أهل كل عصر وقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على الخطأ
والمخالف يحتج بأشياء منها الإجماع إنما عرف كونه حجة بالشرع والأدلة السمعية تختص بالصحابة دون غيرهم لأن قوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا خطاب مواجهة يتناول ظاهره الحاضرين وهم الصحابة دون غيرهم فلا يمتنع أن يكون الله تعالى عناهم بالخطاب ليميزهم بهذا المدح وقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين يتناول الصحاب فأما التابعون فالخطاب لا يتناولهم وحدهم بل يتناولهم مع ما تقدم من الصحابة لأن المؤمن هو المستحق للثواب سيما وهذا الخطاب خرج مخرج المدح والصحابة بعد موتهم يستحقون المدح والثواب وإذا كان المؤمنون هم التابعون مع ما تقدم من الصحابة فاستحال أن يكون لمن تقدم من الصحابة قول في الحادثة في زمن التابعين واستحال أن يكون لجماعة المؤمنين قول أو لم يكن إذ المخالف في الحالتين مخالف لبعض المؤمنين لا لجميعهم
فان قلتم إذا لم يجز أن يعني الله تعالى بقوله ويتبع غير سبيل المؤمنين

من تقدم من الصحابة لأنه لا يمكن أن يكون لهم قول فيما حدث بعدهم وجب أن يعني الله تعالى بقوله التابعين دون من تقدم فيدخل من خالفهم تحت الوعيد قيل إنه لم يعن من تقدم لما ذكرتم ولا عنى الحاضرين من التابعين لأنهم بعض المؤمنين وإنما عنى من يطلق عليه في وقته أنه جماعة المؤمنين وليس ذلك إلا الصحابة فقلنا إن إجماع الصحابة وحدهم حجة وكذلك قوله لا تجتمع أمتي على ضلال لا يتناول التابعين وحدهم لأنه لا يطلق عليهم في عصرهم أنهم جميع أمة النبي عليه السلام بل يقال إنهم بعض أمته ويطلق القول في عصر الصحابة بأنهم الآن جميع أمته الجواب إن هذا السؤال لا يتوجه على من قال إن اسم المؤمنين اشتقاق من التصديق لأن من لم يصدق في الحال حتى مات لا يطلق عليه اسم مؤمن ولا يوصف ايضا بأنه ليس بمؤمن لأنه يوهم أنه كان مؤمنا
ولا يلزم الشيخ أبا هاشم رحمه الله لأن لام الجنس لا يوجب الاستغراق ويجوز أن يدخل تحته ثلاثة فصاعدا فمتى تركنا وظاهر قطعنا على أنه قد أريد به ثلاثة فلم يجب أن يكون أريد بالمؤمنين مجموع الصحابة والتابعين إلا أن الإجماع الذي يعرفه الخصم قد منع أن يراد بالآية بعض أهل العصر فأخرجناه في الخطاب ووجب أن يراد به جميع أهل العصر وأما من يقول إن لام الجنس استغراق فله أن يقول ليس يخلو إما أن نريد بهذه الآيات من حضر عند حدوث الحادثة ولا بغير من تقدم موته من المؤمنين وذلك قولنا أو بغير من تقدم وذلك يمنع من كون إجماع الصحابة حجة لأن من مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه و سلم هو مؤمن وليس له في الحادثة قول
فان قيل فما الجواب لمن سأل عن هذا السؤال ممن لا يقول إن إجماع الصحابة ولا غيرهم حجة قيل قد تقدم في الباب الأول
واحتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قالوا فحكمة بأن الاقتداء بأصحابه اهتداء الجواب أن ذلك لا يمنع من كون

التابعين مثلهم في ذلك على أن قوله بأيهم اقتديتم اهتديتم يتناول آحادهم وليس قول كل واحد منهم حجة على المجتهدين فعلمنا أنه إنما حث بذلك العامة على استفتاء كل واحد منهم
واحتج بأن الصحابة قد اختصت بمشاهدة النبي عليه السلام والحضور عند الوحي فكان لهم مزية بذلك الجواب ولم قلتم إن ذلك يوجب أن يكون لهم مزية في كون قولهم حجة دون غيرهم
واحتجوا بأن قول التابعين لو كان حجة لكان إنما صاروا إليه عن نص متواتر أو غير متواتر أو عن أمارة اجتهدوا فيها ولو كان كذلك لما ذهب كل ذلك على الصحابة لأنهم لا يكونون أدنى رتبة من التابعين الجواب أنه لا يمتنع أن لا تحدث الحادثة في الصحابة فلا يفحصوا عن نص وارد فيها ولا عن أمارة مجتهد فيها فلا يظفروا بها ويظفر التابعون بها إذا اضطروا إلى طلبها عند حدوث الحادثة ولا يمتنع أن تحدث الحادثة في زمن الصحابة فيختلفون فيها ويتفق التابعون فيها على أحد أقوالهم فيظفر التابعون في ذلك القول بما لم يظفر به أحد الطالبين من الصحابة لأن قول بعض الصحابة به ليس بحجة

باب في وجوب اعتبار المجتهدين كلهم من أهل العصر الواحد في الإجماع
يضمن هذا الباب فصولا منها أن أكثر أهل العصر لا يكون إجماعا ومنها اعتبار المجتهد من التابعين إذا عاصر الصحابة ومنها اعتبار المجتهد وإن لم يشتهر بالفتوى ومنها اعتبار أهل الأمصار كلهم
أما الفصل الأول فقد بين أكثر الناس أن أهل العصر إذا اتفقوا على قول إلا الواحد والاثنين من المجتهدين لا يكون حجة وقال أبو الحسين الخياط إن ذلك حجة

ودليل الأولين أن أدلة الإجماع لا تتناولهم إذا خرج عنهم الواحد لأن قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين لا يتناول إلا جميع أهل العصر على قول من قال إن لام الجنس تعم ومن قال لا تعم فانه لا يوجب استغراقها للأكثر حتى لا يبقى إلا الواحد والاثنان بل يجعلها حقيقة في الثلاثة والمخالف لا يجعل قول الثلاثة حجة وقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على ضلال يتناول جميع أهل العصر لأن أكثرهم يقال لهم بعض الأمة ولا يطلق وصفهم بأنهم الأمة وأيضا ففي الصحابة من تفرد بأقاويل لم توافقه عليها الجماعة ولم تنكر عليه كتفرد ابن عباس بمسائل في الفرائض وكذلك ابن مسعود رضي الله عنهما
واحتج المخالف بأشياء
منها قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على ضلال قالوا وهذه الأسماء تتناول حقيقة جميع المؤمنين وجماعة الأمة وإن شذ منهم الواحد كما أن الإنسان يقول رايت بقرة سوداء وإن كان فيها شعرات بيض ويقول أكلت رمانة وإن سقط منها حبات لم يأكلها والجواب أن أسماء الجمل والعموم لا تتناول الأكثر إلا مجازا ألا ترى أنه يجوز أن يقال في الأمة إلا الواحد ليس هؤلاء كل المؤمنين ولا كل الأمة فعلمنا أن اسم الكل لم يتناول إلا الجميع وقول الإنسان أكلت الرمانة وهو يريد أكثرها مجاز وكذلك الوصف للبقرة بالسواد إذا كان فيها شعرات بيض ولا يمتنع أيضا أن يكون الوصف للبقرة بالسواد يفيد في العرف كونها سوداء في

رأي العين فلا يمنع ذلك وجود شعرات بيض فيها ولا يمتنع أن يكون قول القائل أكلت رمانة معناه في العرف أكلت ما جرت العادة بأكله وليس يكاد ينفك الرمانة من حبات تتساقط منها فذلك خارج من الكلام بالعرف وليس يجب إذا نقل العرف ذلك أن ينقل غيرها من الأسماء
ومنها قول النبي صلى الله عليه و سلم عليكم بالسواد الأعظم وأهل العصر كلهم إلا الواحد والاثنان هم السواد الاعظم ويقال عليكم بملازمة الجماعة وذلك يتناول أهل العصر إلا الواحد والاثنين والجواب أن ذلك في أخبار الآحاد ويقتضي أن يجب اتباع الثلاثة والأربعة لأنهم جماعة وبطلان ذلك يدل على أنه عنى بالجماعة جميع أهل العصر وأما السواد الأعظم فهم جميع أهل العصر لأنه ليس أعظم منه ولو لم يكن المراد ما ذكرناه لدخل تحته النصف من أهل العصر إذا زادوا على النصف الآخر بواحد أو اثنين أو ثلاثة فان قيل قوله عليه السلام عليكم بالسواد الاعظم يقتضي أن يكون حجة على غيرهم ممن ليس هو من السواد الأعظم وذلك لا يتم إلا بأن يكون في العصر غيرهم ممن لم يجمع معهم والجواب أنه يجوز أن يكون حجة على من يأتي بعدهم ممن هو أقل منهم عددا
ومنها قولهم إن الواحد من أهل العصر إذا خالف من سواه من أهل العصر يوصف بالشذوذ وذلك اسم ذم ولذلك أنكرت الصحابة على ابن عباس مقالته في الربا والجواب أنا لا نسلم أن الواحد شاذ إلا إذا خالف بعد ما وافق وابن عباس لم ينكر عليه الصحابة لأن قول غيره حجة عليه لكن لأجل خير ابي سعيد
ومنها قولهم إن أهل العصر إلا الواحد والاثنان لو أخبروا بشيء وقع العلم بخبرهم فيجب مثله في إجماعهم والجواب أنهم جمعوا بين الموضوعين بغير علة وعلى أنه يلزم أن يكون أهل بلد واحد حجة إذا أجمعوا أن بروايتهم يقع العلم فان فصلوا بين إجماعهم وبين خبرهم بأن إجماعهم يقع عن رأي

واستدلال وخبرهم يقع عن إدراك فهو فصلنا
ومنها قولهم إن الإجماع حجة في العصر وفيما بعده وذلك يقتضي أن يكون فيهم من يخالفهم حتى يكونوا حجة عليه والجواب أنه يجوز أن يكونوا حجة على من يأتي من بعد وحجة على آحادهم تمنعهم من الرجوع عما قالوه ولو وجب أن يكون الإجماع حجة على مخالف قد عاصر المجمعين لوجب إذا أجمع كلهم على قول أن لا يكون حجة
فاذا ثبت أن خلاف الواحد والاثنين لا ينعقد معه الإجماع فمتى روي إجماع أهل عصر متقدم على قول وروي بالتواتر ان واحدا لم يجتمع معهم لم يكن إجماعا وإن روي ذلك بالآحاد فان كان قد روي عنه بالتواتر الوفاق لم يترك التواتر لأجل الآحاد كما لا يعارض خبر واحد عن النبي صلى الله عليه و سلم بخبر متواتر وإن لم يكن قد روي موافقة لهم لم يحكم بأنهم أجمعوا لأنه لا يكفي أن يعلم موافقة ذلك الواحد لهم فكيف إذا رويت عنه المخالفة
وحكى الشيخ أبو عبدالله عن الشيخ ابي الحسن أن الإجماع إذا ظهر في العصر وروي عن واحد منهم بالآحاد خلافه لم يقدح ذلك في الإجماع ذكر ذلك فيما روي بالآحاد عن أبي طلحة في البرد وإن علمنا أن اتفاق أهل العصر إلا الواحد وعلمنا أنه كانت له حالة موافقة فان علمنا أنه وافقهم ثم خالفهم ثبت الإجماع وإن علمنا أنه خالف تلك المقالة قبل أن يجتمعوا لم يثبت الإجماع وإن لم نعلم هذا التفصيل فالأولى أن لا يثبت الإجماع لأنه لم يؤمن أن لا يكون إنما قال بذلك القول قبل أن يقولوا به ثم خالفه قبل أن يتفقوا عليه فان حكى عن بعض أهل العصر ما يحتمل أن يكون موافقة وما يحتمل أن لا يكون موافقة لهم فان كان ظاهره الموافقة حمل عليها وإن كان ظاهره المخالفة حمل عليها وإن لم يكن له ظاهر فذكر قاضي القضاة في الشرح أنه يحمل على الموافقة لأنه لو كان مخالفا لقويت دواعيه إلى إظهار الخلاف وليس كذلك لو كان موافقا لأنه يكفي في الموافقة السكوت وترك

الإنكار ولأنه لو كان ذلك القول باطلا لكانوا قد اتفقوا على ترك الإنكار الصريح وذلك لا يجوز وذكر قاضي القضاة عن ابن الإخشيد أن قوما قالوا إن أهل العصر إذا حكموا بحكم وحكى عن غيرهم من أهل الأعصار خلافه فان كانوا كثرة لا يجوز أن يظهروا خلاف ما يبطنوه قدح ذلك في الإجماع وإن جاز أن يظهروا خلاف ما يبطنونه لم يقدح ذلك في الإجماع وهذا باطل لأن جواز إظهارهم خلاف ما يبطنونه لا يمنع جواز كون باطنهم موافقا لظاهرهم فيكون ذلك خلافا قادحا في الإجماع
وأما الفصل الثاني فهو أن المجتهد من التابعين إذا حضر مع الصحابة في وقت الحادثة فانه لا يكون قولهم حجة إذا خالفهم وعم بعضهم أنه يكون حجة وإن خالفهم ودليل الأولين ان أدلة الإجماع لا تتناولهم إلا معه نحو قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجمع على خطأ وجرى مجرى الحدث من الصحابة إذا كان من أهل الاجتهاد لأن الإجماع لا ينعقد من دونه
والمخالف يحتج بما روي أن عائشة أنكرت على أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف خلافه على الصحابة في بعض المسائل والجواب أنه يجوز أن تكون أنكرت عليه لأنه خالفها بعد ما اتفقت وكان اتفاقها سابقا لكونه من أهل الاجتهاد أو لم تكن المسالة من مسائل الاجتهاد وعلى أن قولها بانفرادها ليس بحجة
وأما الفصل الثالث فهو أن يخالف في المسألة بعض المجتهدين ممن لم يشتهر بالفتوى كواصل بن عطاء فانه لا يكون قول من عداه حجة وقال بعض الناس يكون حجة لأن مسائل الاجتهاد يجب الرجوع فيها إلى أهل الاجتهاد فقول غيرهم لا يؤثر في إجماعهم كما أن قول النحاة لا يؤثر في إجماعهم يبين

ذلك أنا إذا أردنا تقويم شيء وجب الرجوع فيه إلى أهل الخبرة بأسعار ذلك الشيء ودليلنا أن أدلة الإجماع تتناول هذا الإنسان نحو قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على ضلال وإنما أخرجنا العامة من ذلك لأنهم ليسوا بأهل الاجتهاد وليس كذلك هذا المجتهد وبهذا فارق النحاة وما ذكروه من الرجوع في التقويم إلى الخبرة بأسعار ذلك الشيء فهو حجة لنا لأنا نرجع إلى من يخبر ذلك وإن لم يكن مشتهرا بالتقويم ولا منتدبا لتقويم الأشياء فكذلك ينبغي أن يرجع في الحوادث إلى أهل الاجتهاد وإن لم ينتدبوا للفتوى
وأما الفصل الرابع وهو إجماع أهل الأعصار فعند أكثر الناس أن الحجة هي إجماع أهل الأعصار كلهم من المجتهدين في العصر الواحد وحكي عن مالك أنه قال إجماع أهل المدينة وحدهم حجة وقال بعض أصحابه إنما جعل نقلهم أولى من نقل غيرهم دليلنا أن أدلة الإجماع لا تتناولهم وحدهم نحو اسم المؤمن واسم الامة ولأن الأماكن لا تؤثر في كون الأقوال حجة وقول النبي صلى الله عليه و سلم المدينة طيبة تخرج خبثها كما يخرج الكير خبث الحديد لا يدل على أن إجماع أهلها حجة وإنما هو مدح لها وليس المراد بذلك ذم كل من خرج منها لإجماع الأمة على أن الخروج منها غير مذموم وكون المدينة مهبط الوحي لا يدل على أن إجماع أهلها حق وأما كون روايتهم أولى من رواية غيرهم فقد ذكر قاضي القضاة في الشرح والدرس أن ذلك لا يمتنع ولا فرق بين رواية الواحد منهم وهو بالمدينة أو بغيرها وإنما المراد بذلك أن تكون روايتهم بعد عصر الصحابة أولى من رواية غيرهم لأن أهل البلد أعرف بما يجري فيه من غيرهم وأنه يرجع الناس في معرفته إلى البقعة التي حدث فيها ذلك لأنهم إما أن يكونوا شاهدوه أو أخبرهم به جماعة ممن شاهدوه ويمكن فيهم من كثرة المخبرين ما لا يمكن في غيرهم بل غيرهم يرجع إليهم

باب فيما يكون الإجماع حجة فيه وما لا يكون حجة فيه
اعلم أن ما تجمع الأمة عليه ضربان أحدهما لا يمكن معرفة صحة الإجماع قبل المعرفة بصحته والآخر يمكن معرفة صحة الإجماع قبل المعرفة بصحته
فالأول لا يصح الاحتجاج بالإجماع فيه كالإجماع على أن الله تعالى حكيم عادل وأن محمدا نبي لأنه إنما يمكن أن تعرف صحة الإجماع بعد أن يعرف أن الله تعالى أو رسوله قد شهد بأن الإجماع حق وأنهما لا يشهدان بشيء إلا وهو على ما شهدا به وإنما يعرف ذلك إذا عرفت حكمة الله تعالى وأنه لا يفعل القبيح وأن محمدا صادق ليعلم صدقه في إخباره أن القرآن كلام الله تعالى حتى يعلم أن ما فيه من الآيات الدالة على الإجماع من قبل الله تعالى فاذا كانت المعرفة بصحة الإجماع لا يمكن أن تتقدم على المعرفة بالله وبحكمته وصدق رسوله لم يصح الاستدلال به على ذلك إذ من حق الدليل أن يعلمه المستدل على الوجه الذي يدل عليه قبل علمه بالمدلول
فأما ما يمكن أن يعرف صحة الإجماع قبل المعرفة به فهو ضربان أحدهما من أمور الدنيا والآخر من أمور الدين فالأول نحو أن يجتمعوا أنه لا يجوز الحرب في موضع معين ذكر قاضي القضاة أنه يجوز لمن بعدهم مخالفتهم في ذلك لأن حالهم في ذلك ليست بأعظم من حال النبي صلى الله عليه و سلم ومعلوم أنه صلى الله عليه و سلم لو رأى رأيا في الحرب لساغ مراجعته فيه وليس إجماعهم على إمامة أبي بكر من هذا القبيل لأن ذلك من أمور الدين وذكر في كتاب النهاية أنه لا يجوز مخالفتهم لأن أدلة الإجماع منعت من الخلاف عليهم ولم يفصل بين أن يكون قد اتفقوا على أمر ديني أو دنياوي ويفارقون النبي صلى الله عليه و سلم لأن الذي منع من جواز الخطأ عليه هو المعجز وذلك لا يتعلق بأمور الدنيا وليس كذلك الأمة فأما أمور الدين فانه يكون اتفاقهم حجة فيه سواء كان عقليا نحو

رؤية الله تعالى لا في جهة ونفي ثان مثله أو كان شرعيان لأنه يمكن العلم بصحة الإجماع قبل العلم بذلك إذ الشك في ذلك لا يخل بالعلم بالله تعالى وحكمته وصدق نبيه ولا فرق بين أن يكون القول صادرا عن اجتهاد عن أمارات أو استدلالا بأدلة ولا فرق بين أن يكون قد تقدم ذلك الإجماع اختلاف أو لم يتقدمه اختلاف وسنتكلم في كلا الموضعين إن شاء الله

باب في أن الإجماع إذا انعقد عن اجتهاد كان حجة
ذكر قاضي القضاة عن الحاكم صاحب المختصر أنه قال إذا انعقد الإجماع لأهل العصر عن اجتهاد جاز لمن بعدهم ان يخالفهم فيه وعندنا أنه حجة يحرم خلافه لقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين فاذا اجتمعوا على الحكم بالاجتهاد فخلافه ليس هو سبيلهم فلم يجز اتباعه
فان قيل إنما لم يكن سبيلهم لأنه لم يؤد الاجتهاد إليه فاذا أدى إليه الاجتهاد كان سبيلهم وإن كان ذلك الاجتهاد اجتهاد غيرهم والجواب أن ذلك شرط لا دليل عليه فلم يجز إثباته ولو جاز ما ذكروه لجاز أن يقال فيما أجمعوا عليه عن دليل إنه سبيلهم بشرط أن يؤدي الاستدلال إليه وخلافه ليس هو سبيلهم إن لم يؤد الاستدلال إليه فإن أدى الاستدلال إليه كان سبيلهم وإن كان ذلك الاستدلال استدلال غيرهم فيبطل التعلق بالإجماع أصلا
فان قيل أليس لو اتفقوا على الحكم اجتهادا ولم يعلم كل واحد منهم أن غيره قد وافقه جاز لكل واحد منهم مخالفة ذلك الحكم ولا يأثم من خالفه فقد صار جواز مخالفة ذلك الحكم سبيلهم بأجمعهم قيل هذا لازم فيهم إذا أجمعوا على الحكم بالأدلة

والجواب في الموضعين واحد وهو أنه إذا كانت الحال هذه فانه إنما جوز كل واحد منهم مخالفة قولهم بشرط كونه غير مجمع عليه ألا ترى أنه لو علم أنه مجمع عليه لم يجز ذلك فاذا علمنا أن الحكم متفق عليه لم يجز أن نخالفهم
فأما من قال إن الحق في واحد فانه يمنع من مخالفة قوله سواء اتفق عليه أو لم يتفق عليه ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ ومما اتفقوا عليه أنه لا يجوز مخالفتهم ولقائل أن يقول لم زعمتم أنهم اجتمعوا على ذلك وإذا كان في الناس من يجوز مخالفتهم لم يؤمن أن يكون في المجمعين عن اجتهاد من يجوز مخالفتهم فلا يصح ادعاء الإجماع فالمخالف يقيس القول المجمع عليه باجتهاد على المختلف فيه بعلة أن كل واحد منهما صادر عن اجتهاد والجواب أن العلة في الأصل أنه قول لم يقترن به دليل مقطوع به وليس كذلك ما اجتمع عليه ثم تعارضهم فيقيس المسألة على ما اتفقوا عليه مما ليس من مسائل الاجتهاد بعلة أن كل واحد منهما قول متفق عليه

باب في الاتفاق بعد الاختلاف وبعد الاتفاق وفي الاختلاف بعد الاتفاق
اعلم أن أهل العصر إذا اتفقوا على حكم من الأحكام فانه يجوز أن يتفق من بعدهم على متابعتهم وهو الواجب عليهم ويجوز أن يخالفهم بعض أهل العصر الثاني ولا يحل ذلك لهم لأنه لا يستحيل من بعض الامة أن يعدل عن الحق ولا يجوز أن يتفق أهل العصر الثاني على مخالفتهم
وحكى قاضي القضاة عن الشيخ أبي عبدالله أنه قال إنما لم يجز أن يتفقوا على مخالفتهم لأن أهل العصر الأول أجمعوا على أنه لا يجوز أن يقع الإجماع من بعد على مخالفتهم ولو لم يجمعوا على ذلك لجاز أن يتفقوا على مخالفتهم ويكون الإجماع الثاني في حكم الناسخ للأول وحكي عن الشيخ أبي علي أنه قال

لو جاز ذلك لجاز أن يخالفهم رجل واحد ولجاز أن ينضم إليه غيره إلى أن يتفق أهل العصر الثاني على خلاف قول الأولين وقوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين يمنع من أن يتبع أهل العصر الثاني غير سبيلهم ولأن المسألة إن لم تكن من مسائل الاجتهاد فخلاف ما اجتمع عليه أهل العصر الأول فيها ضلالة والامة لا تجتمع على ضلالة فأما إذا اختلف أهل العصر في المسألة على قولين فانه يجوز أن يتفق من بعدهم على أحدهما فاذا اتفقوا كان صوابا وحجة محرمة للأخذ بالقول الآخر
وفي كلا الموضعين اختلاف أما جواز اتفاق من بعدهم على أحد القولين فقد منع منه قوم ظنا منهم أن اختلاف من تقدم في ضمنه الإجماع على جواز الأخذ بكل واحد من القولين على الاطلاق فأدخلوا في الإجماع ما ليس منه وهذا سنذكره عند الكلام فيما ألحق بالإجماع وليس هو منه وأما إذا اتفقوا على أحد القولين فقد حكى قاضي القضاة في العمد عن بعض المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي أنه لا يكون حجة في تحريك القول الآخر وحكي عن شيخنا أبي عبدالله وأبي الحسن وبعض أصحاب الشافعي أنه يكون حجة في تحريم القول الآخر وذكر في الشرح أن الناس اختلفوا في ذلك فمنهم من جعل ذلك محرما للخلاف على كل حال ومنهم من لم يجعله محرما للخلاف على كل حال ولم يفصل بين الصحابة والتابعين ومنهم من جعله محرما للخلاف في حال دون حال والحال التي يحرم فيها الخلاف هي أن يكون المتفقون على أحد القولين في المسألة هم الذين اختلفوا فيها سواء كان ذلك عصر الصحابة أو غيرهم والحال التي لا يكون اتفاقهم معها حجة مزيلة للخلاف هي أن يختلف أهل عصر ويتفق من بعدهم على أحد قوليهم
والدليل على أن الاتفاق يحرم الاختلاف على جميع الأحوال قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا

وقد بينا أن ذلك يتناول كل عصر ولم يفصل في تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين بين أن يكون قد تقدم اختلاف أو لم يتقدم
واستدل قاضي القضاة بقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ فيجب كون ما اتفق عليه أهل العصر الثاني غير خطأ
فان قيل ليس هو خطأ وليس يحرم بعدهم أن يخالفهم قيل قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن يخالفهم ولقائل أن يقول إنه لا يمكن ادعاء الإجماع على ذلك لأن الأمة مختلفة في اتفاق أهل العصر على أحد القولين هل يجوز مخالفته أم لا
واستدل أيضا بأن الإجماع المبتدأ لا يجوز خلافه وكذلك إذا اختلفت الصحابة ثم اتفقت فيجب مثله في التابعين إذا اتفقوا بعد اختلاف الصحابة ولقائل أن يقول إن أوجبتم ذلك لدخول اتفاقهم تحت أدلة الإجماع فذلك رجوع إلى الأدلة المتقدمة وإن أوجبتم ذلك بالقياس فما العلة الجامعة فان قلتم العلة في ذلك أنه إجماع قيل لكم ليست هذه علة معلومة والأصل في الجماعة أنه يجوز اتفاقها على الخطأ وإنما امتنعنا من ذلك للأدلة فيجب اعتبارها دون القياس لأنه لا يظفر في ذلك بعلة معلومة وليس لكم أن تجعلوا العلة في الأصل كونه إجماعا بأولى من أن نجعلها كونه إجماعا مبتدأ على انه قد حكى قاضي القضاة في الدرس أن قوما قالوا إن اتفاق الصحابة بعد اختلافها لا يحرم الخلاف
واحتج المخالف بأمور
منها قوله تعالى فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فشرط التنازع في وجوب الرد والتنازع قد حصل وليس يخرج بالاتفاق الواقع

من أن يكون قد تقدم حصوله فوجب الرد والجواب أن الرد إلى الإجماع والتعلق به رد إلى الله والرسول كما أن الأخذ بكتاب الله بحكم القياس رد إلى الكتاب والسنة وأيضا فأهل العصر الثاني إذا اتفقوا ولم يكونوا متنازعين فلم يجب عليهم الرد على قول من يستدل بهذه الآية على صحة الإجماع
ومنها قولهم إن في ضمن اختلاف أهل العصر في المسألة على قولين اتفاق منهم على جواز الأخذ بكل واحد منهما في كل حال لأنه لا يختص حالا دون حال فلو كان اتفاق من بعدهم على أحد القولين محرما للأخذ بالقول الآخر لم يخل إما أن يكشف عن تحريمه في المستقبل فيكون نسخا وذلك لا يكون بعد انقطاع الوحي وإما أن يكشف عن تحريمه في الماضي والمستقبل فيدل على خطأ من تقدمه وذلك لا يجوز وهذا هو معنى قولهم لو حرم الخلاف في المستقبل لحرمه في الماضي والجواب أن القائلين بأن الحق في واحد لا يجوز أن يحتجوا بهذا الكلام لأن عندهم أن المجتهد لا يجوز أن يأخذ بكل واحد من القولين وإنما يجب عليه أن يأخذ بالحق منهما والعامي إنما يجوز له أن يقلد من يفتيه فاذا أجمعوا على أحدهما لم يجد من يفتيه بالآخر فيقال قد حرم عليه الأخذ به بعد أن كان حلالا وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فجوابنا لهم إن احتجوا بذلك هو أن المختلفين في المسألة إنما سوغوا الأخذ بكل واحد منهما لأن المسألة مختلف فيها وهي من مسائل الاجتهاد ويبين ذلك أنهم لو سئلوا عن جواز الأخذ بكل واحد منهما لعللوا بذلك فعلى هذا المستدل أن يبين أن المسألة بعد الاتفاق هي من مسائل الاجتهاد وأما نحن فاذا بينا أنهم إذا اتفقوا عليها فقد تناولهم أدلة الإجماع وحرم خلافهم علمنا أن الشرط المجوز للأخذ بكل واحد من القولين قد زال فزال حكمه ولا يسمى ذلك نسخا لأن الحكم إذا وقف على شرط يعلم زواله وثبوته لا بالشرع فانه لا يكون زواله بزوال شرطه نسخا ألا ترى أن زوال وجوب الصيام بدخول الليل لا يكون نسخا فان قيل لستم بأن تجعلوا اجتماع المختلفين على جواز الأخذ بكل واحد من القولين مشروطا بثبوت الاختلاف بأولى من أن نجعل نحن كون

الاتفاق حجة مشروطا بنفي تقدم الخلاف قيل ما ذكرناه أولى لأنا قد بينا أن المختلفين سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بالشرط الذي ذكرناه فكان الأولى ما قلناه على أن ما ذكروه ينتقض عليهم باجماع أهل العصر بعد النظر والفحص الطويل لأن ذلك اتفاق منهم على جواز التوقف في المسألة ولا يسوغ بعد اتفاقهم التوقف فيها وينتقض على قول بعضهم إن الصحابة إذا اتفقت بعد ما اختلفت حرم الأخذ بالقول الآخر ثم يقال لهم إذا لم تجعلوا اتفاق أهل العصر الثاني حجة مع أنه اتفاق صريح فهلا قلتم إن اتفاق أهل العصر الأول على جواز الأخذ بكل واحد من القولين ليس بحجة في جواز الأخذ به مع أنه اتفاق ليس بصريح وهو مع ذلك مبني على القول بأن كل مجتهد مصيب
ومنها قولهم لو كان قولهم إذا اتفقوا بعد الاختلاف حجة لكان قول إحدى الطائفتين حجة إذا ماتت الطائفة الأخرى وفي ذلك كون قولهم حجة بالموت والجواب أنا نتبين لموت إحدى الطائفتين أن قول الأخرى حجة لدخول تحت أدلة الإجماع لا أن الموت يوجب كون قولهم حجة على أن مسألتنا جميع المختلفين قالوا باخذ القولين وليس كذلك إذا ماتت إحدى الطائفتين
ومنها قولهم لو كان اتفاق أهل العصر الثاني حجة لكانوا قد صاروا إلبه بدليل وحجة ولو كان كذلك لما خفي على الصحابة والجواب أنه لا يجوز أن يخفى هذا ومثله على جميعهم فأما أن يخفى على بعضهم فيجوز لأن بعضهم ليس بحجة

باب في انقراض العصر هل هو شرط في كون الإجماع حجة
اعلم أن كثيرا من الناس لم يعتبروا انقراض العصر أصلا واعتبره بعضهم واختلف هؤلاء فقال بعضهم هو طريق إلى انعقاد الإجماع وسيجيء القول

فيه ومنهم من جعله شرطا في كون الإجماع حجة وجوز لبعض المجمعين أن يخالف قوله
ودليل الأولين قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء وقوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على ضلال وكل ذلك يوجب الرجوع إلى الإجماع ولا يفرق بين انقراض العصر ونفي انقراضه
دليل ليس يخلو إما أن تكون الحجة هي انقراض العصر أو اتفاقهم بشرط انقراض العصر أو اتفاقهم فقط والأول يقتضي أن يكون العصر لو انقرض من دون اتفاقهم أن يكون حجة والثاني يقتضي أن يكون لموتهم تأثير في كون قولهم حجة وذلك لا يجوز كما لا يكون لموت النبي صلى الله عليه و سلم تأثير في كون قوله حجة
ولقائل أن يقول أليس موت النبي لا يصير معه قوله حجة والامة عندكم إذا اختلفت في المسألة على فرقتين ثم ماتت إحداهما كان قول الأخرى حجة ففارقت الأمة النبي عليه السلام في ذلك فهلا جاز أن تفترقا في الوجه الآخر
دليل آخر لو اعتبرنا انقراض العصر لم ينعقد الإجماع لأنه قد حدث من التابعين في زمن الصحابة قوم من أهل الاجتهاد وذلك يجوز مخالفتهم لهم لأن العصر ما انقرض ويجب اعتبار انقراض عصر التابعين ومعلوم أنه لم ينقرض عصرهم إلا بعد أن حدث من تابعيهم من هو من أهل الاجتهاد فجاز أن يخالفوهم ويعتبر انقراض عصرهم ثم كذلك القول في كل عصر
ولقائل أن يقول إنه لا يمتنع أن يكون المعتبر هو انقراض عصر من كان

مجتهدا عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اعتبار عصر التابعين إذا حدث فيهم مجتهد بعد حدوث الحادثة
واحتج المخالف بأشياء
منها أن عليا عليه السلام سئل عن بيع أمهات الأولاد فقال كان رأيي ورأي عمر أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك فدل على أنه كان الإجماع قد سبق والجواب أنه قد روي أن جابر بن عبد الله كان يرى في زمن عمر جواز بيعهن فلم يكن الإجماع قد انعقد وقول عبيدة السلماني رأيك مع الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك يدل على أنه قد كان على قول عمر جماعة وليس قول كل جماعة هو إجماع وإنما اختار أن ينضم قول علي إلى قول عمر لأنه رجح قول الأكثر على قول الأقل
ومنها أن أبا بكر الصديق كان يرى التسوية في القسمة ولم يخالفه أحد من الصحابة ثم خالفه عمر لما صار الأمر إليه ففضل في القسمة ولم ينكر عليه السلف والجواب أن عمر رضي الله عنه قد كان خالفه في زمانه وناظره فقال له أتجعل من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه كمن دخل في الاسلام كرها فقال إنما عملوا لله وإنما أجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر فلا يمتنع أنه كان يرى التفضيل فلما صار الأمر إليه فضل
ومنها قولهم إن الإجماع لا يستقر قبل انقراض العصر لأن الناس يكونون في حال تأمل وفحص فوجب وقوعه على انقراض العصر والجواب إن أرادوا بنفي الاستقرار نفي كونه حجة فذلك نفس المسألة وإن أرادوا أنه لا ينعقد فهو خارج عما نحن بسبيله لأنا إنما تكلمنا على من قال إنه ينعقد ولا يكون حجة على أن الفصل بين حال التأمل وحال القطع على الشيء لا يفتقر إلى

انقراض العصر لأنا نفصل بين الناظر المتأمل المتوقف وبين القاطع المناضل لأن الإنسان إذا أخبر عن نفسه أنه معتقد للشيء فهو بخلاف أن يخبر عن نفسه أنه متأمل متوقف

باب فيما أخرج من الإجماع وهو منه
أعلم أن أهل العصر إذا اختلفوا في المسألة على قولين متنافيين فإنه يتضمن اتفاقهم على تخطئة ما سواهما فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول آخر وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه لم يجعل ذلك اتفاقا على تخطئة ما سواهما فأجاز لمن بعدهم إحداث قول آخر ثالث والقول في ذلك فرع على إمكان إحداث قول ثالث فيجب بيانه أولا
فنقول إن القولين المتنافيين في المسألة لا يمكن أن يكون بينهما قول ثالث إلا أن يكون فيه بعض الموافقة لكل واحد من القولين أو لأحدهما مثاله أن يقول بعض الأمة النية واجبة في الطهارات كلها ويقول الباقون ليست بواجبة في شيء من الطهارات فيمكن أن يقول قائل هي واجبة في بعض الطهارات دون بعض ومثاله أيضا أن يقول بعض الأمة النية واجبة في كل طهارة ويقول بعضهم هي واجبة في بعض الطهارات دون بعض فيمكن أن يقول قائل ليست بواجبة في شيء من الطهارات ومثاله أيضا قول بعض الأمة الجد يرث جميع المال مع الأخ وفي قول الباقين يقاسم الأخ فيمكن أن يقول قائل لا يرث شيئا أصلا مع الأخ فيكون قد وافق من قال يقاسم الأخ بعض الموافقة لأنهما قد اشتركا في أن منعا الجد من بعض المال
واحتج من أجاز إحداث قول ثالث بأن الممنوع منه هو مخالفة الإجماع وليس مع هذا الإختلاف إجماع ولأنه روي عن ابن سيرين أنه قال في امرأة وأبوين إن للأم ثلث جميع المال وأن لها ثلث ما يبقى في زوج وأبوين

ففصل بين المسألتين ولم ينكر عليه مع أن الصحابة رضي الله عنهما لم تفصل بينهما بل قال بعضهم في المسألتين لها ثلث ما بقي وقال آخرون لها ثلث جميع المال وقال سفيان الثوري إن الأكل ناسيا لا يفطر والجماع ناسيا يفطر ومن تقدمه منهم من فطر بهما ومنهم من لم يفطر بهما وهذا الاحتجاج من المخالف يدل على أنه أجاز إحداث قول ثالث في المسألتين لا في مسألة واحدة
واحتج قاضي القضاة للمنع من إحداث قول ثالث بأن الأمة أجمعت على المنع من ذلك كما أجمعت على المنع من إحداث قول يخالف الإجماع المصرح والاتفاق على ذلك سابق ألا تراهم منعوا من إحداث قول آخر في الجد مع الأخ حتى يقال المال كله للأخ قال ولنا أن ندعي الإجماع في ذلك مطلقا ولنا أن ندعيه في الجد خاصة ونحمل عليه غيره فنقول إنما منعوا من ذلك في الجد لأنه إحداث قول آخر لم يقل به أحد من الأمة لأنه لا وجه له يمكن أن يعلل فيه إلا بما ذكرناه إذ لا يمكن أن يقال إنما لم يجز أن يقال المال كله للأخ لأنه لا أمارة لذلك لأن الأمارة على ذلك إن لم تكن أقوى من الأمارة الدالة على أن المال كله للجد لم تكن أضعف منها
ولقائل أن يقول لا اسلم أن في المنع من إحداث قول ثالث إجماعا سابقا ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك فأما مسألة الجد فلا يجوز تجديد قول آخر فيها ليس لأنهم أجمعوا على المنع من ذلك بل لأن القول بأن المال كله للأخ يتضمن ما أجمعوا على خلافه
واحتجوا أيضا بأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت في المعنى على المنع من إحداث قول ثالث لأن كل طائفة تحرم الأخذ إلا بما قالته أو قاله مخالفها فقط فجواز إحداث قول ثالث يقتضي جواز الأخذ به وقد منعوا منه
ولقائل أن يقول إنما حظروا الأخذ إلا بما قالوه بشرط أن لا يؤدي

اجتهاد غيرهم إلى إحداث قول ثالث كما يقولون إنهم سوغوا الأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يقع الإتفاق على أحدهما فخرج المسألة من مسائل الاجتهاد فينبغي أن يقال إن كان اختلافهم على قولين هو في مسألتين فالقول في ذلك يأتي نحو أن يقول بعضهم كل طهارة تحتاج إلى نية ويقول الباقون ليس شيء من الطهارات يحتاج إلى نية فيقول قائل آخر بعضها تحتاج إلى النية دون بعض وإن كان اختلافهم في مسألة واحدة نحو مسألة الجد مع الأخ لم يجز إحداث قول ثالث لأنه مخالف لصريح إجماعهم كالقول بأن المال كله للأخ لأن في ذلك سلب المال كله عن الجد والمختلفون في مسألة الجد قد اتفقوا على أن للجد قسطا من المال من قال منهم إنه أحق بجميع المال ومن قال إنه يقاسم الإخوة وهذا الوجه يفسد قولهم إن الممنوع منه هو مخالفة الإجماع ولا إجماع مع الإختلاف لأنا قد بينا أن إحداث قول ثالث فيه خلاف لما أجمعوا عليه وأما المحكى عن ابن سيرين والثوري فليس هو من هذه المسألة بل من مسألة أخرى وهي التفرقة بين ما أجمعوا على أنه لا فرق بينهما
واحتجاج أهل الظاهر بقول ابن سيرين والثوري يدل على أنهم جوزوا إحداث قول ثالث في هذه المسائل وأشباهها دون ما ذكرناه من مسألة الجد وأمثالها وسنذكر الآن القول في التفرقة بين المسألتين وفي غيرهما مما ألحق بالإجماع وليس منه بعون الله

باب في أهل العصر إذا لم يفصلوا بين مسألتين هل لمن بعدهم أن يفصل بينهما
أم لا
اعلم أنهم إذا لم يفصلوا بينهما فذلك ضربان أحدهما أن يقولوا لا فصل بين هاتين المسألتين في كل الأحكام أو في الحكم الفلاني والآخر أن لا ينصوا

على ذلك لكن لا يكون فيهم من فرق بينهما في الحكم فالأول لا يجوز لأحد أن يفصل بينهما لأن الفصل بينهما خلاف لما نصوا عليه واعتقدوه ولأن قولهم لا فصل بينهما ظاهره يقتضي أنهما قد اشتركا فيما يقتضي الحكم من غير وجه يفرق بينهما فمن فصل بينهما فقد خالفهم في ذلك
وهذا الضرب ينقسم أقساما ثلاثة أحدهما أن يروى اتفاق الأمة على حكم المسألتين نحو أن يحكموا فيهما بالتحريم أو بالتحليل والآخر أن يروى اختلاف الأمة فيهما فيحكى عن طائفة أنها حكمت فيهما بالتحريم وعن الباقين أنهم حكموا فيهما بالإباحة والآخر أن لا يروى لنا عنهم اختلاف في المسألتين ولا اتفاق فمتى كان كذلك ودل الدليل في إحدى المسألتين على تحريم أو إباحة وجب أن يحكم في المسألة الأخرى بذلك ولا يفرق بينهما
فأما إذا لم ينصوا على أنه لا فصل بينهما بل لا يكون فيهم من فرق بينهما نحو أن يحكم بعض الأمة في كلا المسألتين بحكم ويحكم الباقون فيهما بنقيضه وذلك ضربان أحدهما أن يشيروا إلى حكم واحد فيثبته أحد الفريقين في المسألتين وينفيه الآخرون عنهما نحو أن يحرم شطر الأمة كلا المسألتين ويبيحهما الباقون والضرب الآخر أن يشيروا فيهما إلى حكمين مختلفين نحو أن يوجب بعض الأمة النية في الوضوء ولا يجعل الصوم من شرط الاعتكاف ولا يوجب الباقون النية في الوضوء ويجعلون الصوم من شرط الاعتكاف
أما القسم الأول فذكر قاضي القضاة في الدرس والشرح أنه إن كان المعلوم أن طريقة الحكم في المسألتين واحدة لا يجوز كونها متغايرة فذلك جار مجرى أن يقولوا لا فصل بينهما لأنا نعلم أنهم قد اعتقدوا أنه لا يفرق بينهما وأنه قد نظمهما طريقة واحدة ومن فصل بينهما فقد خالف ما اعتقدوه من ذلك فأما إن جاز أن لا تكون الطريقة في المسألتين واحدة وأنهم سووا بينهما لطريقين فإنه يجوز لمن بعدهم أن يفرق بينهما فيحرم إحدى المسألتين ويبيح الأخرى فيوافق في كل قول أحد الفريقين لأنه بذلك لا يكون مخالفا لما

أجمعوا عليه لا في حكم ولا في تعليل لأنا قد بينا أن العلة يجوز أن لا تكون واحدة ولأنه لو كان إذا قال بعض الأمة بتحريم مسألتين متباينتين في العلة وقال الباقون بإباحتهما قد أجمعوا على أن لا فصل بينهما لوجب إذا حرم بعضهم إحدى مسألتين متباينتين وأباح اخرى وحرم الباقون ما أباحه هؤلاء وأباحوا ما حظروه أن يكونوا قد أجمعوا على أن بينهما فرقا فلا يجوز لأحد أن يحرمهما معا أو يبيحهما معا ولو لم يجز ذلك لوجب على من وافق الشافعي في مسألة أن يوافقه في جميع مذهبه ويسقط عنه الاجتهاد والأمة مجمعة على خلاف ذلك وما حكى عن ابن سيرين من أنه فرق بين زوج وأبوين وامرأة وأبوين وأن الثوري فرق بين جماع الصائم ناسيا وبين أكله ناسيا فإن كانت طريقة المسألتين اللتين فرقا بينهما متغايرة فما فعلاه جائز وإلا لم يجز على أن ابن سيرين قد عاصر بعض الصحابة فلا يمتنع أن يكون حاضرا حين اختلفوا في زوج وأبوين وامرأة وأبوين
وذكر قاضي القضاة في العمد أنه لا يجوز الفصل بين المسألتين ولم يفصل هذا التفصيل ذكر ذلك في أن الأمة لا يجوز أن تخطىء في مسألتين وذكر في شرح هذا الباب أمثلة احتج بها
فمنها أن يعقد شطر الأمة لرجل الإمامة ويسكت الباقون فلو لم يكن ذلك الرجل مستحقا للإمامة لكان العاقدون قد اخطأوا بالعقد والباقون قد أخطأوا بالسكوت ولقائل أن يقول إن تلك مسألة واحدة وهي إمامة ذلك الشخص والكل قد رضوا بها وأجمعوا على ترك إنكار العقد له من غير مانع فلو كان خطأ لما أجمعوا على ترك إنكاره
ومنها أن يتفق نصف الأمة على مذهب المرجئة في غفران ما دون الشرك من كبير وصغير ويتفق الباقون على مذهب الخوارج في المنع من غفران جميع المعاصي وهذا الاتفاق على الخطأ في مسألتين ولقائل أن يقول إن ذلك خطأ في مسألة واحدة لأن القائلين بهذين القولين متفقون على أن الصغيرة لا يجب

سقوط عقابها لأن المرجىء يقول إن غفرانها بفضل وجوز عقاب فاعلها والخارجي لم يوجب سقوط عقابها فقد اتفقوا على الباطل وهو أن عقابها لا يجب سقوطه
ومنها أن يتفق نصف الأمة على أن العبد يرث والقاتل لا يرث ويتفق الباقون على عكس ذلك على أن العبد لا يرث والقاتل يرث فيكونوا قد اتفقوا على الخطأ في إرث العبد والقاتل إذ الصواب أنهما جميعا لا يرثان والنبي صلى الله عليه و سلم منع من اجتماعهم على الخطأ سواء كان ذلك في مسألة واحدة أو في مسألتين ولقائل أن يقول إنه كان لا يمتنع أن تختلف الأمة في القاتل والعبد على ما ذكرتموه لأن الخطأ إما أن يكون هو القول بإرث العبد أو بإرث القاتل أو بإرثهما جميعا ولم يقع الاتفاق على إرث أحدهما على انفراده ولا على إرثهما جميعا لأن كل واحد من الأمة لم يقل بإرثهما جميعا فيثبت أن اتفاق نصف الأمة على الخطأ في مسألة واتفاق النصف الآخر على الخطأ في مسألة أخرى لا يفيد اتفاق جميعهم على الخطأ
واحتجوا أيضا بأن الأمة إذا حرم نصفها كلا مسألتين وأباحهما الآخرون فقد اتفقوا على أن لا فصل بينهما وإن لم ينصوا على ذلك وليس يقدح في وقوع الاتفاق على ذلك أن تكون أدلتهم مختلفة وإذا كان كذلك دخل ذلك تحت أدلة الإجماع والجواب أن قول هذا المحتج إن الأمة قد اعتقدت أنه لا فرق بين المسألتين يفهم منه أمور
منها أنهم اعتقدوا أن بينهما تعلقا واشتراكا يقتضي التسوية في الحكم وأنه ليس بينهما ما يقتضي التفرقة في الحكم وهذا باطل لأنه لا يجوز أن يتفقوا على ذلك في مسألتين قد فرضنا أنه لا تعلق بينهما
ومنها أن يكونوا قد نصوا على أنه لا فرق بينهما وهذا باطل لأن كلامنا مفروض في أنهم لم ينصوا على ذلك
ومنها أن يكونوا قد اتفقوا على استواء المسألتين في الحكم في الجملة وإن

افترقوا في تفصيله ولا يمكن أن يقال ذلك ها هنا لأنه إنما يقال اتفقوا على استواء حكم المسألتين في الجملة إذا دل الدليل على أن حكم المسألتين حكم واحد إما التحريم وإما التحليل ثم يحتاجون إلى أن ينظروا في حكمها على التفصيل وإنما يدل الدليل على ذلك من حال المسألتين إذا كان بينهما تعلق يقتضي ذلك وكلامنا في مسألتين لا تعلق بينهما وما هذا سبيله لا يعتقد فيهما أنه لا فرق بينهما يبين ذلك أن شطر الأمة إذا أوجب النية في الوضوء لدليل وأوجب غسل النجاسة لدليل آخر فإنه لا يقال إنهم قد اعتقدوا أنه لا يجوز افتراقهما في الوجوب بل عندهم أنه يجوز أن تدل الدلالة على وجوب أحدهما دون الآخر وإنما اتفق إن دل على وجوب هذا دليل وعلى وجوب ذلك دليل فكذلك لو دل دليل على وجوب النية في الوضوء ودل دليل آخر على نفي وجوب غسل النجاسة لم يجز أن يقال قد وجب افتراقهما وأن الأمة أجمعت على وجوب افتراقهما لأن المعقول من ذلك ثبوت تعلق يقتضي وجوب افتراقهما لا أنه اتفق إن دل على وجوب أحدهما دليل وعلى نفي وجوب الآخر دليل آخر ولو وجب أن يفرق بينهما لوجب على من أداه اجتهاده إلى قول الشافعي في مسألة أن يوافقه في جميع مسائله وإن لم يكن بينهما تعلق وإذا لم يكن من الأمة بأجمعها فيما نحن بسبيله اتفاق على حكم ولا على علة لم يدخل ما ذكروه تحت أدلة الإجماع ولو دخل تحت قوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ لدل ذلك على أن ما قالوه ليس بخطأ ولا يدل على أن الفرق بينهما خطأ إذا أدى إليه اجتهاد مجتهد على قول من قال إن كل مجتهد مصيب
واحتج أيضا بأن الأمة إذا اختلفت على قولين في مسألتين فقد أوجبت كل طائفة منها على غيرها أن تقول بقولها أو بقول الطائفة الأخرى وحظرت ما سوى ذلك وذلك يمنع من إحداث قول مفرق بين المسألتين والجواب أنهم إنما أوجبوا ذلك بشرط أن لا يفرق بعض المجتهدين بين المسألتين فلا نسلم أنهم

حظروا ذلك إلا بهذا الشرط كما أنهم جوزوا الأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يقع الاتفاق على أحد القولين
فأما القسم الثاني وهو إذا أشارت الأمة إلى حكمين متباينين في مسألتين كما ذكرناه في إيجاب النية في الطهارة وجعل الصوم شرطا في الاعتكاف فإنه إن جاز أن يكون بينهما فرق يذهب إليه مجتهد جازت التفرقة بينهما وإن لم يجز أن يكون بينهما فرق بل كان ينظمهما طريقة واحدة تقتضي فيهما الحكمين المتباينين على بعد ذلك لم يجز أن يخالف بين حكميهما بل الواجب أن يقال فيهما ما قالوه

باب في أهل العصر إذا تأولوا الآية بتأويل أو استدلوا على المسألة بدليل
أو اعتلوا فيها بعلة هل يجوز لمن بعدهم إحداث تأويل أو دليل أو علة غير ما ذكروه أم لا
إعلم أن الإنسان إذا استدل بطريقة على حكم من الأحكام أو على فساد شبهة أمارة كانت تلك الطريقة أو دلالة فإنه إما أن يكون أهل العصر الأول قد نصوا على فساد تلك الطريقة أو على صحتها أو لم ينصوا على صحتها ولا على فسادها فإن نصوا على فسادها أو على صحتها فهو على ما نصوا عليه وإن لم ينصوا على ذلك لم يمتنع صحة تلك الطريقة إلا أن يكون في صحتها إبطال حكم أجمعوا عليه والدليل على ما قلناه أن الناس في كل عصر يستخرجون أدلة وعللا ولا ينكر عليهم فكان ذلك إجماعا ولأنه لو لم يجز ذلك لكان إما أن لا يجوز لأنه مخالف للإجماع المتقدم ومعلوم أن الأمة لم تحكم بفساد الدليل الثاني نصا ولا حكمها بصحة دليلها يقتضي فساد غيره إذ لا يمتنع أن يكون على المذهب الواحد أكثر من دليل واحد
ويمكن من منع من ذلك أن يستدل بأشياء

منها قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين والدليل الثاني غير سبيل المؤمنين فالوعيد لاحق بمن اتبعه والجواب أن قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين خرج مخرج الذم لمن اتبع غير سبيلهم فالمفهوم منه من اتبع ما نفاه المؤمنون وحكموا بإبطاله دون ما لم يحكموا بفساده بل لو اتفق لهم لجاز أن يقولوا به ألا ترى أنه لو لم تحدث المسألة في العصر الأول وحدثت في العصر الثاني جاز أن يقول أهل العصر الثاني فيها قولا ولا يقال إن ذلك اتباع غير سبيل المؤمنين ممن تقدم لما لم يكونوا قد نفوه وحكموا بإبطاله
ومنها أن قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر يدل على أنهم يأمرون بكل معروف لأجل لام الجنس فلو كان الدليل الثاني معروفا لأمروا به والجواب أن قوله وتنهون عن المنكر يقتضي أيضا أن ينهوا عن كل منكر فلو كان الدليل الثاني باطلا لكان منكرا ولنهوا عنه فلنا في الظاهر مثل ما لهم
ومنها أن قوله صلى الله عليه و سلم أمتي لا تجتمع على خطأ يدل على أن ما ذهبوا عنه ليس بخطأ وقد ذهبوا على الدليل الثاني فلم يكن ذهابهم عنه خطأ وإذا لم يكن خطأ لم يكن ما ذهبوا عنه دليلا والجواب إن أردتم بقولكم ذهبوا عن الدليل الثاني أنهم حكموا بفساده لم يوجد ذلك في مسألتنا وإن أردتم أنهم لم ينصوا على أنه دليل أو لم يستدلوا به فذلك صحيح وتركهم الاستدلال به والنص على كونه دليلا ليس بخطأ ولا يجب من ذلك فساد الدليل لأنه إنما كان تركهم الاستدلال به غير خطأ لاستغنائهم بدليلهم عنه
ومنها قولهم إنه لو جاز أن يذهب على أهل العصر الأول الدليل الثاني جاز أن يوحي الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه و سلم دليلين على حكم واحد فيسن النبي صلى الله عليه و سلم ذلك الحكم لأجل أحد الدليلين دون الآخر والجواب أن يقال لهم قد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6