كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
المؤلف : تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري

والعميان ما نظموه في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( ذو بسط كف وخلق زانه خلق ... أثنى عليه إله العرش بالعظم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( هم معشر بسطوا جودا سقاه حيا ... فأخضر العيش في أكناف أرضهم )

ذكر الاتساع
( نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم )
هذا النوع أعني الاتساع يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظم فيه وبحسب ما تحتمل ألفاظه من المعاني كقول امرىء القيس
( إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
فإن هذا البيت اتسع النقد في تأويله فمن قائل تضوع المسك منهما بنسيم الصبا ومن قائل تضوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا ومن قائل تضوع المسك منهما بفتح الميم يعني الجلد بنسيم الصبا وهو أضعف الوجوه والوجه الثاني مذهب ابن أبي الأصبع وهو أنور الوجوه ومن ذلك فواتح السور التي أقسم الله بها فإنهم اتسعوا في تأويلها ولم يترجح من ذلك إلا أنها أسماء للسور
وبيت الحلي في بديعيته قوله
( بيض المفارق لا عار يدنسهم ... شم الأنوف طوال الباع والأمم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله

بان اتساع المعالي في الصحابة كالفاروق ثم شهيد الدار ذي الحرم ... ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( نور القبائل ذو النورين ثالثهم ... وللمعالي اتساع في عليهم )

ذكر جمع المؤتلف والمختلف
( جمعت مؤتلفا فيهم ومختلفا ... مدحا وقصرت عن أوصاف شيخهم )
هذا النوع أعني جمع المؤتلف والمختلف ذكر المؤلفون فيه أقوالا كثيرة غير سديدة ومثلوه بأمثلة غير مطابقة ولم يحرره ويطابقه بالأمثلة الصحيحة اللائقة غير الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع والذي تحرر عنده أن هذا النوع عبارة عن أن يريد الشاعر التسوية بين ممدوحين فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الآخر فيأتي لأجل الترجيح بمعان تخالف معنى التسوية كقوله تعالى ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) فحصلت المساواة في الحكم والعلم فساوى بينهما في أهلية الحكم ثم رجح سليمان فقال ففهمناها سليمان ثم راعى حق الوالد فقال وكلا آتينا حكما وعلما فحصلت المساواة في الحكم والعلم وكقول الخنساء في أخيها وقد أرادت مساواته بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة مدح لا ينقص به حق الولد ( جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الفخر )
( وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا على وكر )
( حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر )

( وعلا طباق الأرض أيهما ... قال المجيب هناك لا أدري )
( برقت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري )
( أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي رحمه الله في بديعيته قوله
( هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... سوى الإخاء ونص الذكر والرحم )
قلت الحلي أساء الأدب في نظم هذا البيت وكان يجب أن يؤدب على نظمه فإنه بخس فيه حق صحابة رسول الله وكذب في الثلاثة التي استثناها وقال إن الصحابة رضي الله عنهم عدموها وقوله هم هم في جميع الفضل لا يفهم منه مدح لأنه سلبهم الفضل في الشطر الثاني من البيت ولهذا قال الشيخ عز الدين في بديعيته مشيرا إلى هذا البيت
( هم هم في جميع الفضل ما عدموا ... ما قاله الرافضي النذل في الكلم )
وعلى هذا الترتيب الفاسد فما اجتمع في بيت الصفي غير المختلف لأن المؤتلف عنه بمعزل
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( جمع لمؤتلف فيهم ومختلف ... في العلم والحلم مع تقديم ذي قدم )
وبيت بديعيتي يجب أن لا يستشهد على هذا النوع بغيره فإني قلت فيه عن الصحابة رضي الله عنهم
( جمعت مؤتلفا فيهم ومختلفا ... مدحا وقصرت عن أوصاف شيخهم )

ذكر التعريض
( تعريض مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم )
هذا النوع أعني التعريض نوع لطيف في بابه وهو عبارة عن أن يكني المتكلم بشيء عن آخر لا يصرح به ليأخذه السامع لنفسه ويعلم المقصود منه كقول القائل ما أقبح البخل فيعلم أنك أردت أن تقول له أنت بخيل وكقول بعضهم للآخر لم تكن أمي زانية يعرض بأن أمه زانية والتعريض نوع من الكناية ومن أمثلته الشعرية قول الحجاج يعرض بمن تقدمه من الأمراء
( لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم )
والشواهد على هذا النوع كثيرة ولكن أردت أن أجعل العمدة فيه على بيتي المنتظم في سلك بديعيتي فإنه من الأمثلة البديعة وليس في هذا النوع له مثال ولكن نبدأ ببيت الشيخ صفي الدين رحمه الله لأجل الترتيب وهو
( ومن أتى ساجدا لله ساعته ... ولم يكن ساجدا في العمر للصنم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله قوله
( تطويل تعريض شانئهم يعظمهم ... والرفض أقبح شيء موجب الأضم )

وبيتي الذي أطنبت في وصفه هو قولي بعد
( جمعت مؤتلفا فيه ومختلفا ... مدحا وقصرت عن أوصاف شيخهم )
( تعريض مدح أبي بكر يقدمني ... في سبق حليهم مع موصليهم )

ذكر الترصيع
( نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي )
هذا النوع أعني الترصيع هو عبارة عن مقابلة كل لفظة من صدر البيت أو فقرة النثر بلفظة على وزنها ورويها وهو مأخوذ من مقابلة ترصيع العقد ومن أمثلته الشريفة في الكتاب العزيز قوله تعالى ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) ومثله قوله تعالى ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) ومنه قول الحريري في المقامات يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه
وإن كان مع الترصيع زيادة بديع كطباق أو مقابلة أو جناس كان ذلك زيادة حسنة ومن أمثلته الشعرية قول أبي فراس
( وأفعالنا للراغبين كرامة ... وأموالنا للطالبين نهاب ) ومنه قول الشاعر
( فيا يومها كم من مناف منافق ... ويا ليلها كم من مواف موافق )
والمبرز في هذا النوع هو الذي يخلي نظم بيته من الحشو والحشو فيه عبارة عن تكرار الألفاظ التي ليست من الترصيع بحيث لا يأتي في صدر بيته بلفظة إلا ولها أخت تقابلها في العجز حتى في العروض والضرب كقول ابن النبيه
( فحريق جمرة سيفه للمعتدى ... ورحيق خمرة سيبه للمعتفي )
فهذا البيت وقع الترصيع في جميع ألفاظه فإن المقابلة فيه حاصلة بين حريق

ورحيق وبين جمرة وخمرة وبين سيفه وسيبه وبين المعتدي والمعتفي وأبو فراس بيته خال من ترصيع العروض والضرب والشاهد الثاني كرر فيه ناظمه حرف النداء فدخل عليه الحشو
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الترصيع قوله
( من حاسر بغرار العضب ملتحف ... وسافر بغبار الحرب ملتثم )
صفي الدين فاته في هذا البيت ترصيع العروض والضرب وقد تسامحوا فيهما ولكن الغاية ما قررته في نظم هذا النوع وأيضا فإن الشيخ صفي الدين غير عاجز عن ذلك فإن أتى في بيته بالحشو مع عدم ترصيع العروض والضرب وناهيك أن العميان تبصروا له ونظموه في بديعيتهم وهو
( فهجر ربعي لذاك الربع مغتنمي ... ونثر جمعي لذاك الجمع معتصمي )
هذا البيت استشهد به العميان على الترصيع الواقع في جميع ألفاظ البيت ولكن ذاك في مقابلة ذاك اعتذر عنهما الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الشارح وقال إن معناهما مختلف فإن الإشارة الأولى للربع والثانية للجمع وعلى كل تقدير فللنظر فيهما مجال
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( كم رصعوا كلما من در لفظهم ... كم أبدعوا حكما في سر علمهم )
الشيخ عز الدين رصع حتى في العروض والضرب ولكن كرر في بيته لفظة كم ودخل عليه الحشو وهو من وفي والكمال لله
وبيت بديعيتي أقول فيه بعد قولي في بيت التعريض
( نعم ترصع شعري واعتلت هممي ... وكم ترفع قدري وانجلت غممي )
التنبيه على محاسن هذا البيت كالتنبيه على محاسن بيت ابن النبيه وفي حقوق هذا النوع في نظمه وأما الجماعة المذكورون معه فما منهم إلا من بخسه بعض حقه لما أدخله في بيته وقد تميز بيتي على بيت ابن النبيه أيضا في ترصيع نظمه بزيادة جوهرتين فإني قابلت فيه خمسة بخمسة وابن النبيه وبقية القوم قابلوا أربعة بأربعة والزيادة على ابن النبيه أيضا في تسمية النوع الذي هو الترصيع ولعمري إنها تورية ما رصع في العقود نظيرها وهذا البيت مشتمل على الترصيع والتورية والجناس اللاحق واللزوم والتمكين والموازنة ومراعاة النظير والسهولة والانسجام والله أعلم

ذكر السجع
( سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم )
السجع مأخوذ من سجع الحمام واختلف فيه هل يقال في فواصل القرآن أسجاع أو لا فمنهم من منعه ومنهم من أجازه والذي منع تمسك بقوله تعالى ( كتاب فصلت آياته ) فقال قد سماه فواصل وليس لنا أن نتجاوز ذلك
والسجع ينقسم أربعة أقسام المطرف والموازي والمشطر والمرصع القسم الأول المطرف وعلى منواله نسج نظام البديعيات وهو أن يأتي المتكلم في أجزاء كلامه أو في بعضها بأسجاع غير متزنة بزنة عروضية ولا محصورة في عدد معين بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية كقوله تعالى ( ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا ) وكقولهم جنابه محط الرحال ومخيم الآمال ومن الأمثلة الشعرية قول أبي تمام
( تجلى به رشدي وأثرت به يدي ... وفاض به ثمدي وأورى به زندي )
الثاني الموازي وهو أن تتفق اللفظة الأخيرة من القرينة مع نظيرتها في الوزن والروي كقوله تعالى ( سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ) ومنه قول النبي اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممكسا تلفا ومنه قول الحريري في المقامات ألجأني

حكم دهر قاسط إلى أن أنتجع أرض واسط وقوله وأودى بي الناطق والصامت وربى لي الحاسد والشامت ومن لبأمثلته الشعرية قول أبي الطيب المتنبي
( فنحن في جذل والروم في وجل ... والبر في شغل والبحر في خجل )
القسم الثالث المشطر وهو أن يكون لكل نصف من البيت قافيتان مغايرتان لقافيتي النصف الأخير وهذا القسم مختص بالنظم كقول أبي تمام
( تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتقب في الله مرتعب ) الرابع المرصع وقد تقدم الكلام عليه
قلت وإذ كنت منشىء ديوان الإنشاء الشريف أنشأت جميع ما يحتاجون إليه من الفوائد التي أخذتها عن علماء هذا الفن فإن قصر الفقرات يدل على قوة المنشىء وأقل ما يكون من كلمتين كقوله تعالى ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ) وأمثال ذلك كثيرة في القران العزيز لكن الزائد على ذلك هو الأكثر وكان بديع الزمان يكثر من ذلك كقوله كميت نهد كأن راكبه في مهد يلطم الأرض بزبر وينزل من السماء بخبر لكن قالوا التذاذ السامع بما زاد على ذلك أكثر لتشوقه إلى ما ورد منه متزايدا على سمعه وأما الفقر المختلفة فالأحسن أن تكون الثانية أزيد من الأولى بقدر غير كثير لئلا يبعد على السامع وجود القافية فتذهب اللذة وإن زادت القرائن على اثنتين فلا يضرتساوي القرينتين الأوليين وإن زادت الثانية على الأولى يسيرا والثالثة على الثانية فلا بأس ولا يكون أكثر من المثل ولا بد من الزيادة في آخر القرائن
مثاله في القرينتين ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) فالثانية أطول من الأولى ومثاله في الثالثة قوله تعالى ( وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) ومن قواعد الإنشاء أن تكون كل فاصلة مخالفة لنظيرتها في المعنى لأن اللفظ إذا كان

من القرينة بمعنى نظيره من الأخرى كان معيبا كقول الصاحب بن عباد يصف منهزمين طاروا واقين بظهورهم صدورهم وبأصلابهم نحورهم فالظهور بمعنى الأصلاب والصدور بمعنى النحور ومنه قول الصابي يسافر رأيه وهو لا يبرح ويسير وهو ثاو لا ينزح ويبرح وينزح بمعنى واحد ويسافر ويسير كذلك
ومن فوائد الإنشاء التي يطول بها باع المنشىء أن السجع مبني على الوقف وكلمات الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفا عليها لأن الغرض أن يجانس المنشىء بين القرائن ويزاوج ولا يتم له ذلك إلا بالوقف إذ لو ظهر الإعراب لفات ذلك الغرض وضاق ذلك المجال على قاصده ألا ترى أنهم لو بينوا الإعراب مثل قولك ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت للزم أن تكون التاء الأولى مفتوحة والثانية مكسورة منونة فيفوت غرض الاتفاق ومن ذلك أن السجع مبني على التغيير فيجوز أن تغير لفظة الفاصلة لتوافق أختها فيجوز فيها حالة الازدواج ما لا يجوز فيها حالة الانفراد فمن ذلك الإمالة فقد يكون في الفواصل ما هو من ذوات الياء وما هو من ذوات الواو فتمال التي هي من ذوات الواو وتكتب بالياء حملا على ماهو من ذوات الياء لأجل الموافقة نحو قوله تعالى ( والضحى واليل إذا سجى ) أميلت والضحى وكتبت بالياء حملا على ما هي من ذوات الياء لأجل الموافقة وكذلك ( والشمس وضحاها ) أميلت فيها ذوات الواو وكتبت بالياء حملا على ما هي من ذوات الياء ومن ذلك حذف المفعول نحو قوله تعالى ( ما ودعك ربك وما قلى ) الأصل وما قلاك حذفت الكاف لتوافق الفواصل ومن ذلك صرف ما لا ينصرف كقوله تعالى ( قواريرا قواريرا ) صرفه بعض القراء السبعة ليوافق فواصل السورة الكريمة ولو تتبع المتأمل ذلك في الكتاب العزيز لوجده كثيرا
ومما جاء من الحديث قوله أعيذه من الهامة والسامة ومن كل عين لامة والأصل عين ملمة لأنه من ألم ولكنه لأجل الموافقة قيل لامه ومنه قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات الأصل موزروات بالواو لأنه من الوزر ولكن ليوافق مأجورات ومنه قوله دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم الأصل ما وادعوكم ولكن حذف الألف ليحصل الاتفاق مع تركوكم

وسمعت أن بعض علماء الإنشاء صنع مؤلفا في أحكام الفواصل ومن ذلك أن المراد من علم الإنشاء البلاغة في المقاصد والبلاغة هي أن يبلغ المتكلم بعبارته كنه مراده مع إيجاز بلا إخلال وإطالة من غير إملال والفصاحة خلوص الكلام من التعقيد وقيل البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ فيقال لفظ فصيح ومعنى بليغ والفصاحة خاصة تقع في المفرد يقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة وأنت تريد المفرد فإنه يقال للقصيدة كلمة كما قالوا كلمة لبيد ففصاحة المفرد خلوصه من تنافر الحروف والفصاحة أعم من البلاغة لأن الفصاحة تكون صفة للكلمة والكلام يقال كلمة فصيحة وكلام فصيح والبلاغة لا يوصف بها إلا الكلام فيقال كلام بليغ ولا يقال كلمة بليغة واشتركا في وصف المتكلم بهما فيقال متكلم فصيح بليغ
فمن الإنشاء الفصيح البليغ قول ابن عباد وقد قيل له ما أحسن السجع فقال ما خف على السمع فقيل مثل ماذا مثل هذا ومنه ما كتب به عبد الحميد عند ظهور الخراسانية بشعار السواد فاثبتوا ريثما تنجلي به هذه الغمرة وتصحو هذه السكرة فينصب السيل وتمحى آية الليل ومنه قول أبي نصر العتبي دب الفشل في تضاعيف أحشائهم وسرى الوشل في تفاريق أعضائهم فجيوب الأقطار عنهم مزروره وذيول الخذلان عليهم مجروره ومنه قول الصابي نزغ به شيطانه وامتدت في الغي أشطانه ومنه قول بديع الزمان كتابي إلى البحر وإن لم أره فقد سمعت خبره والليث وإن لم ألفه فقد تصورت خلقه ومن رأى من السيف أثره فقد رأى أكثره ومنه قول القاضي الفاضل رحمه الله ووافينا قلعة نجم وهي نجم في سحاب وعقاب في عقاب وهامة لها الغمامة عمامه وأنملة إذا خضبتها أيدي الأصيل كان الهلال لها قلامه
ويعجبني في هذا الباب من إنشاء الشهاب محمود قوله في وصف مقدم سرية لا زال في مقاصده أخف من وطأة ضيف وفي مطالبه أخفى من زورة طيف وفي تنقله أسرع من سحابة صيف وأروع للعدا من سلة سيف ومثله في الحسن قوله في صدر مثال شريف سلطاني أصدرناها والسيوف قد أنفت من الغمود ونفرت من قربها والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب وتشوقت إلى الارتواء من قلبها والسيوف قد أضرمت الحمية

للدين نار غضبها وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين فأعرضت عن برد الثغور وطيب شنبها والحماة ما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه والأبطال ما فيهم من يسأل عن عدد العدو بل عن مكانه
قلت ما أوردت كثيرا من الإنشاء ههنا إلا لأن يطيب للتأمل تنقله من شطوط البحور إلى التنزه في رياض المنثور فمن ذلك ما أنشأته في تقليد مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الشافعي بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة وهو قولي وقد أوصلناه إلى رتبة استحقاقه من رتب المعالي ورقيناه إلى درجات الكمال علما أن الكمال ما خرج عن بيته العالي فإنه المنشىء الذي ما للصاحب دخول إلى ديوانه ولا لابن عبد الظاهر بلاغته وقوة سلطانه ولا للشهاب محمود أن يباهي كماله في طارفه وتليده ولا للقاضي الفاضل شرف البارزي وتمييزه ولو بالغ في كثرة شهوده ما نثر في كمام طرسه زهره إلا وأرانا ذيول زهر المنثور ولا قرع أبواب المصطلح إلا فتحت ودخل بيتها بغير دستور ولا تسنم منبرا إلا أجاد بألفاظ كان مزاجها من تسنيم وقالت البلغاء للفصاحة المحمدية ما ثم إلا الرضا والتسليم
ومنه ما أنشأته في تقليد ولده وهو مولانا المقر الأشرف الكمالي عظم الله شأنه بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة وهو قولي فإنه من البيت الذي وهبه الله شرف العلم ورحم منه كل ميت فقل لكل من مشايخ الإسلام ناشدتك الله هل تنكر هبة الله لهذا البيت وما خفي أن إمامكم الأعظم أول من راعى حقوقه وبادر إلى رفع مثاله وشرع في رفع قواعده وتشييد كماله ولهم هذا الفرع الذي زكت أصوله وسقيناه ماء القرب فأتمر وقد أنبته الله نباتا حسنا والنبات الحموي حسنه لا ينكر غاب نيره الأكبر فأبدر بعده وهذا البدر في كماله ما أبهاه ولجأ إلى الله ثم إلينا فزاده الله كمالا وعلمنا أن الكمال لله وسلكناه في حياة والده فكان لمشيختنا الشريفة نعم المريد وأخذ عنا الأدب فجاد نظمه وها هو في البيوت البارزية بيت القصيد والكتابة دون كماله ومحاسنه تجل أن تقابل بمثال وإن كان الكمال زها بحاشيته فحاشيتنا زهت بهذا الكمال وكان والده عقدا فرط فيه الزمان ولكن استدرك فارطه وقد نظمناه في عقد سلكنا الشريف إلى أن صار به نعم الواسطه وامتدت ألسن الأقلام إلى ثغور المحابر فقبلتها وانشرحت صدور الأوراق وعلق فيها عنابر سطور فحملتها وقالت لحمر أقلامه أهلا بالعربيات التي ليس لها إلا الأيدي الجهينية غرر ومرحبا بعد النوبة بقهوة الإنشاء

فإن شباب الزمان قد عاد وزهر المنثور قد زهر وجاء الإمام الذي إن كتب تقليدا قالت البلغاء هذا الإمام الذي يجب تقليده وهذا هو الخليفة على السر الشريف وأمينه ومأمونه ورشيده إن تحمس في إنشائه قال الجبان لا أقعد الجبن عن الهيجا أو استطرد إلى وصف روض ممرج زاد هرجا ومرجا أو ترسل غراميا فما حديقة زهير عند زهر منثوره أو كتب عنا تهديدا سال جامد الصخر ولو سمعت الجوزاء حديثه لسقطت مع الحصى عند خريره فإنه المنشىء الذي ما اعتقل رمح فمه بيمينه وهزه هزه إلا قال كل منشىء دخلت أصبع قلمي من دواتي تحت رزه ولا حرك من دوح أقلامه فرعا إلا تساقط بين الأوراق ثمرات شهيه فلو أدركها الصاحب لقدمها وأخر الفواكه البدرية ولو ناسبه الفتح لقابله المؤمنون بالقتال وكان والده قد اعترف بكماله وهذا التقليد لثبوت ذلك الاعتراف أسجال فإنه الأمين الذي إن تصرف في مزررتنا الشريفة فقد ثبت أن توثيق العرا لبيته العالي أو أملى في ديواننا الشريف كانت أماليه أمالي المحب لا أمالي القالي ولولا خشية الإطالة لأوردت هذا التقليد الشريف بكماله لأنه في صناعة الإنشاء لنسيج وحده
ومنه ما أنشأته عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله ثراه من غيث الرحمة جوابا عن مكاتبة الملك الناصر صاحب اليمن وهو لا زال جناس مجده سعيد الحركة بين اليمن واليمن وسيفه اليماني لم يرض بمجانسة سيف بن ذي يزن والأمة بأحمدها تهنأ بجنات عدن في عدن ولا برحت صنائعه بصنعاء محبرة حتى في سطور الطروس وأقلام الثناء سود اللمم بمدحه ولو تركت لاعتراها شيب الرؤوس وتحياته المكرمة مخصوصة منا بشرف التسليم وبدور مودته سافرة في ليالي سطورها بين بديعي التكميل والتتميم أصدرناها وشاهد المودة قد وضع رسم شهادته وكتب وأثبت مقدمات الإخلاص فحكم له قاضي المحبة بالموجب وأودعناها من السلام ما تعمه رحمة الله وبركاته ومن طيب الثناء ما يتأرج بين ادراك ذلك المندل الرطب نفحاته ومن خالص المودة ما يضم به بعد حسن المخلص من طيب أعرافه حسن الختام ومن سجعات

الأشواق كل مصونة ليس لها غير سواد النقس لثام وتبدى لعلمه ورود المثال العالي بطيب تلك المعادن التي ود النسيم أن يقيدها ويحتبس ولقد رافقها الاكتساب اللطيف ولكن سرق من طيب عرفها وتكلم بنفس فأكرم به مثالا أرانا خفر الملك على كل قرينة لها من حجب البلاغة ستور وخدامها من سود سطورها وبيض طروسها عنبر وكافور ورد صحف الصفاء صقيلة فتمثل فيها وأظهر من أوراقه ثمرات المودة ونحن بيد القبول نجنيها وقدم من ذلك الحرم الأحمدي فكان أكرم وافد قوبل منا بالإكرام وفتح أبواب الدخول إلى السلام فسلمنا وقلنا لخواصنا ادخلوها بسلام ولقد ثملنا بكأس إنشائه وهو بحضرتنا الشريفة دائر وعلمنا أن هذا الإنشاء لا يصدر إلا من فاضل والفاضل لا ينسب إلا إلى الناصر وتغزلنا في محاسنه بحيرة اليمن بعد تغزلنا بحيرة العلم وراعنا تحمس بلاغته فقلنا هذا لا يصدر إلا من رب سيف وقلم وود كل دوح أن يملأ طروس أوراقه بريحان سطوره وتطفل كل روض أريض عند وروده على زهر منثوره وقالت فصاحته وتلك البلاغة التي جاءت بسحر البيان هل يفتى لنا بصدق المحبة فقال لهما القلب قضي الأمر الذي فيه تستفتيان فهذا نفس طيب عرفنا معدن طيبه فلم نقل من أين وهذه سلافة إنشاء دارت سلطانياتها فأنشأت أهل الخافقين وهذا سحر صدقت عزائمه في العطف والقبول بين الملكين وأبطل هذا السحر الحلال ما حرم ببابل من سحر الملكين واشتمل على نظم ونثر رأينا شعار السلطنة عليهما عيانا كأن البلاغة قالت لهما قديما سنجعل لكما سلطانا فيا له من مثال تدرع زرد ميماته فقلنا لا طعن فيك لطاعن وتشرع طباق بديعه فكانت على أكناف النيل من أثره مساكن وأطرب بأنفاس علمنا أنها من يراع ما برح بالسعادة موصولا وطاف في حضرتنا الشريفة بكاس يمانية كان مزاجها زنجبيلا ولقد أكثر هذا المقال في كتابه المبين من إيناس الخطاب وقضت به الوحشة أجلها فقلنا لكل أجل كتاب
وهذا الجواب أيضا لولا خشية الإطالة لاستوعبته بكماله فإن اليمن ما دخل إليها من الديار المصرية نظيره والله أعلم

ومنه ما أنشأته عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله ثراه جوابا عن مكاتبة وردت من صاحب تونس وهو المتوكل على الله أبو فارس عبد العزيز رحمه الله وهو لا زالت سيوف عزائمه في الجهاد ماضية الضرب ولا برح جوده وإقدامه متطابقين في السلم والحرب نخصه بسلام هو لنا والشوق برد وسلام وسقاية وداد ماء رمرم تسنيم قبولها إلا تعالى ذلك المقام وتحيات تنطق بها عند مواظبة الخمس ألسنة الأقلام وثناء يقلد بخالص عقوده جيد الزمان وينسى قلائد العقيان ومحبة يقمر صدقها في ذلك الأفق الغربي ويشمس وتزيل وحشة من سلا عن غيرها في المغرب وتونس واستطردت مفاوضتكم إلى الوصية بحاج المغرب فبادرنا إلى قبول ذلك فإن هذا قد يتبرك من النجب السائرة به بالمبارك وقد أعدناه مصحوبا بالسلامة وحداته تطرب بنغمتها الحجازية وتهيم اشتياقا عند تشبيبها بذكر الطلعة المتوكلية وأعدنا جواب ذلك على يد رسولكم الذي لم يقابل منا بغير القبول ليكون خالص ودنا متمسكا بالكتاب والرسول
ومنه ما كتبته جوابا عن مكاتبة وردت من الجناب العالي الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان وهو لا زالت تحياته مخصوصة منا بشرف التسليم وسيره العثماني محفوظا في بيعة المودة بالتقديم وشعراء الإخلاص في كل بيت من معاني محبته تهيم وفروض الجهاد بسيوفه المسنونة في كل وقت تقام وبلاده الإسلامية محروسة بالجناب المحمدي عليه السلام وهمزات عوامله بصدور الكفار موصوله وألسن سيوفه بثغور بلادهم من رشف أرياق دمائهم مبلولة ولا برح يجاهد في سبيل الله برا ويتخذ في البحر سبيله فإنه من الذي علا بمحمد مقامه وانسجم بالخلف العثماني نظامه واقتدى بمشيختنا المؤيدية والنجح في هذا الاقتداء له شريك وساعدته تورية السعادة لما تمسك بقول من قال ولا بد من شيخ يريك ولم يبق بعد الاقتداء بهذه المشيخة إلا الفتوحات المقبولة والمشاركة في القبول على ما يرضي الله ورسوله صدرت هذه المفاوضة إلى الجناب المحمدي تأرج بطيب السلام عليه وتنسم نسيمات القبول من أخبارها الطيبة ما تنقله إليه وحملناها ثناء أطلقنا عنان كميت القلم وهو غرة في جبهته وتوجهت رؤوس الأقلام قبل ركوعها إلى قبلته ومن الإنشاء الملوكي ما أطلق به فصيح القلم لسانه وخضر الشباب على عوارض نفسه ومحاسن سجعاته وقال الفاضل الناصر هذا الإنشاء الذي ما خرس لسان قلمه ولا شابت لمة دواته وتبدى لعلمه الكريم ورود ما أهداه من

ثمرات المودة يانعا في أوراقه مختالا في شعار الإخلاص فعلمنا أنه عنوان لعهده وميثاقه وقد أتحف من نبات الإيناس ما غرس بأكناف النيل فحلا نباته ودنت قطوف أنسه وظهر في فروع المحبة ثمراته فاقتطفنا زهر المنثور من رياضه عند الورود وتغزلنا في رقم سطوره على بياض طروسه بين العوارض والخدود وطالعنا مجموع محاسنه الذي لم ينس فعلمنا أنه للملوك تذكرة وتبصرنا فيما أدهش من حكمه فرأينا المدهش في التبصرة وقلنا هذه لمعة لو أدركها السراج لقصر لسانه وقال سراج الملوك حرمته قوية أو القاضي السعيد لقال ما لسناء الملك بهجة عند هذه الأنوار المحمدية وقد تيقظت عيون عزمنا الشريف للجهاد وعن قريب تهجر مقل السيوف أجفانها وتتجرد لقتال المشركين وقد تكنى لها النصر بأبيه فأيد سلطانها وإذا قدحت سيوف الدولتين في عباب البحر على الكفار نارا تلا لسان النصر ( لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ومن إنشاء الفاضل عن الناصر هنا ما يحسن أن يشنف به سمعه الكريم فإنه عن أبي الفتوحات الذي مشى على هذا الصراط المستقيم وهو إذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي الة المقيم الراتب وأعطاهم المراكب وهي الة الظاعن الهارب فقد علمنا لمن عقبى الدار ومن ينقله الله تعالى انتقال قوم نوح من الماء إلى النار فالجناب يوطن نفسه على حسن المآل في الحالين ويعلم أنه من المكرمين في الدارين وقد تلمظت ألسن سيوفنا شوقا لحلاوة نصره وتحركت عيدان رماحنا طربا عند سماع ذكره ونفضت جوارح سهامنا ريش أجنتها لاقتناص تلك الغربان وهامت فرساننا المؤيدية إلى منازل الأحباب لتريه من أعدائه مقاتل الفرسان فإنه المجاهد الذي حظ بني الأصفر في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود وكم أذاقهم الموت الأحمر وكمال التدبيج يقول أهلا بعيش أخضر يتجدد وتتولد نصرتنا عنده برفع راية الفرح في كل وقت عليه مبارك ويتأيد بعز نصرنا المؤيدي حتى يقول له لسان الحال أعز الله أنصارك فتقديمه العثماني من جهة الاستحقاق قد ثبت عندنا وتقرر وهو اليوم إمام المجاهدين الذي ما صلت سيوفه في محراب القتال إلا قال مرقي النصر الله أكبر والله

يجريه على أجمل العوائد من هذا النصر ليصير الكافرون في زلزلة من قارعة سيوفه بهذا العصر
ومنه ما كتبته جوابا عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله عهده عن مثال كريم ورد من قرى يوسف صاحب العراقين وهو أعز الله أنصار المقر الكريم العالي الجمالي اليوسفي لا زالت زوراء العراق في أيامه القويمة مستقيمة الجانبين وحلتها الفيحاء عالية المنار وشمل الدين بها مجتمعا في الجامعين وعراق العرب والعجم بارزين من محاسنه اليوسفية في حلتين فلامية العرب تقول
( ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي ومأكل ) ولامية العجم تقول
( حلو الفكاهة مر الجد قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل )
فأكرم بهما لامين دارا على وجنات الطروس لكمال المحاسن اليوسفية وفتحت لها الميمات أفواه الشكر لأنها من الأحرف المؤيدية أصدرناها إلى المقر وسواجعها تغرد بالثناء بين أوراقها وألسن الأقلام قد أودعت صدور طروسها سر أشواقنا عند انطلاقها فإنها الصدور التي تعرب من نفثاتها عن ضمائر الأشواق وإذا أطلقت من فض الختم خففت أجنحتها بذلك الثناء على الإطلاق ونبدي لكريم علمه ورود البشير بالقرب اليوسفي وقد حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف وضاع نشرها اليوسفي فقال شوقنا اليعقوبي إني لأجد ريح يوسف وتأملنا كريم مثاله فوجدناه قد مد أطناب المحبة وخيم على معاني المودة وحام عليه صادي الأشواق فوجده منها قد أعذب الله في مناهل الصفاء ورده وأومض البرق في الظلمات من رقم سطوره فما شككنا أنه نظم برده فهو مثال يوسفي ولكن ظهر السر الداودي من فصل خطابه وصدقنا رسوله لما جاءنا بكريم كتابه والتفتت من كناس سطوره ارام الإيناس فاقتنصنا منها ما هو عن العين شارد وألفت القلوب على الولاء فضربت الأعداء من جماد الجسد في حديد بارد وأمست الدجلة والنيل لامتزاجهما بسلاف المحبة كالماء الراكد وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا وقد تعين على المقر أن يقول أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا وسرتنا الإشارة الكريمة بالتمكين من أرض الأعداء ومطابقة الطول بالعرض وعلمنا أن هذا الاسم الكريم قد

شملته العناية قديما بقوله تعالى ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) وأما قرا عثمان فمقل سيوفنا ما غمضت عنه في أجفانها وأنامل أسنتنا ما ذكرت نوبته إلا شرعت في جس عيدانها وجوارح سهامنا ما برحت تنفض ريش أجنحتها للطيران إليه وإن كان معنى سافلا فلا بد لأجل الغرض اليوسفي أن نخيم عليه وننزل سلطان قهرنا بأرضه ونغرس فيها عوامل المران وإن كانت من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان ولم يهمل إلا لاشتغال الدولتين بالدخول في تطهير الأرض من الخوارج وإيقاع الضرب الداخل بعد جس العيدان في كل خارج وقد ان سله لئلا يكون بين المحب والمحبوب رقيبا ولا بد أن يجانسه العكس ويرى ذلك قريبا ويدهمه من أبي النصر أبناء حرب شرف في أنساب الوقائع جدهم ورد الجموع الصحيحة إلى التكسير فردهم وإذا كثرت الخدود وتوردت بالدماء غردت بورق الحديد الأخضر مردهم وذا امتدوا إلى أمد تلالهم حصنهم سورة الفتح قبل القتال فإنهم مريدون ولهم شيخ منحه الله بكثرة الفتوح والإقبال وإذا صرفوا الهمم المؤيدية لم تكن لهم حصونهم عند ذلك الصرف مانعة ولم يسمع لساكنها مجادلة إذا صدموا بالحديد وتلت تلك الحصون الواقعة وإن كانت المنايا غابت عنه مدة كلمته ألسنة سيوفهم وقالت حصرت وإذا طرق بروجه منهم طارق رأى سماء تلك البروج قد انفطرت وما خفي عن كريم علمه ما جمعه الناصر من الجموع التي مزقها الله أيدي سبأ وكم سائل سأل وقد رآهم في النازعات عن ذلك النبأ
وقد أشار بعض شعراء دولتنا الشريفة إلى ذلك بقصيدة كامل بحرها مديد ولكن القصد هنا من أبيات تلك القصيدة
( يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر )
( والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر )
( فرج على اللجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر )
( فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر )
( وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر )
( وعى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر )

وما خفي عن علمه الكريم أمر الذين نقضوا بيعتنا بعد الناصر فاشتروا الضلالة بالهدى ودعوا سيوفهم الصقيلة لما حاق بهم المكر السيء فأجابهم الصدا ولم يكن لحرارة عزمنا الشريف عند عصيانهم البارد فتره حتى أظهرنا تلون الشام من دمائهم على تدبيج الدروع ألوان النصرة وأخذوا سريعا شبان حرب ما شابت عوارضهم إلا بغبار الوقائع وحكم برشدهم ولم يخرجوا من تحت حجر المقامع وقد أسبغ الله ظلال الملك وخيم به على الدولتين ولم يظهر لمحراب بهجة إلا بهاتين القبيلتين ولوصلت السيوف لغيرهما ما قبلت أو صرفت العوامل للإعراب عن سواهما ما عملت وقد فهمنا كريم الالتفات إلى أن تدار كؤوس الإنشاء بيننا ممزوجة بصافي المودة وعلمنا أنها أحكام صحيحة في شرع الأخوة وهذه الأحكام عندنا عمدة وتالله لقد سابق القصد اليوسفي بسهام مراده إلى الغرض وقضى حاجة في نفس يعقوب لي عنها عوض ولم يبق إلا اتصال شمل الأوصال بكل رسالة سطور الأخوة في رقاعها محققة وتصديق ما يقصه في الجواب فإن القصة اليوسفية ما برحت مصدقة والله تعالى يمتع الأسماع والأبصار بمشاهدة مثلته وطيب أخباره ويفكهنا من بين أوراقها بشهي ثماره
ومما أنشأته بالديار المصرية وحصل إجماع الأمة على أنه من الأفراد تقليد مولانا قاضي القضاة جلال الدين شيخ الإسلام البلقيني نور الله ضريحه بعد عزل الهروي ويوم قراءته بالجامع المؤيدي أرخه المؤرخون وذكروا أنه لم يتفق بملك مصر يوم نظيره وهو الحمد لله الذي أبان فضل العرب على العجم في الكتاب والسنة وأظهر جلال سراجهم المنير فأوضح بحسن تدريبه طريق الجنة وأزال ظلم الجهل بنور هذا الجلال فله الحمد على هذه المنة ونكرر حمده على نصرة أصحاب الشافعي وعود جيرته إلى منازلها العالية ونشكره على نيل الغرض بسهام ابن إدريس فمن جهل أحكام القضاء أمست عليه قاضية ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعين بحسن أدائها عى القضاء والقدر ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي من قابل شريعته المطهرة بدنس الجهل فقد كفر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين أزالوا بفصاحتهم

العربية كل عجمه وتميزوا على العجم بقوله تعالى ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) وهذا التمييز نصبه مرفوع على كل أمة صلاة نسن بها سيوف السنة من تسربل بدروع ضلاله ونقيم حدودها على من بدل حديث النبي وجهل أسماء رجاله وسلم تسليما كثيرا أما بعد فالهناء بنصرة هذا الدين القيم بين هذه الأمة مشترك وكيف لا وقد ظهر جلاله مقمرا وأنشدوا
( يا ليل طل أو لا تطل ... فليس نرعى قمرك )
وقد حلا مكرر الحمد بنشر الأعلام المؤيدية على أئمتنا الأعلام وحلت أيضا مواقع التورية بنصرة شيخ الإسلام فهو الليث الذي كان لظما العلماء إلى إمامهم نعم الغوث والغيث حتى تأيدوا بمؤيدهم وأعز الله أنصارهم بالشافعي والليث حجبناه عن غيوم العزل وقلنا وقد ساعدنا رأينا الشريف في إظهاره
( أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل ) وولى غيره فأنشد كل عالم أظلم ضوء نهاره
( ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأنذال والسفل ) واعتلت كتب العلم فقالت وعيون سطورها باكية
( لعل إلمامة بالجذع ثانية ... يدب منها نسيم البرء في عللي ) وأنشد لسان حال شيخ الإسلام وقطوف قربه دانية
( تقدمتني رجال كان شوطهم ... وراء خطوي لو أمشي على مهل ) وأشار إلينا وقال وخواطرنا الشريفة باشارته راضية
( لعله إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبه لي ) فتنبهنا له وقلنا لضده وقد أهبطناه من تلك الرتبة العالية
( فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا ... في الأرض أو سلما في الجو فاعتزل )
وكيف يطلب من نار خامدة هدى أو يجعل السراب ماء وإذا دعونا الري جاوبنا الصدى ويأبى الله أن يطابق سحبان بباقل أو يجاري فارس العلم براجل
( ومن يقل للمسك أين الشذى ... كذبه في الحال من شما )

وتالله لقد زادنا بحجبه في غيوم العزل علما بعلو مقداره وكان عزلا أظلمت بسببه الدنيا إلى أن من الله على المسلمين بإبداره وقالت الأمة ذلك ما كنا نبغي واستوفى كل عالم شروط المحبة واستوعب وعلمنا أن الحكم العدل حكم بتقديم هذا الإمام بالموجب أنلنا وظيفته غيره فزلزلت الأرض زلزالها وقلنا يخف على قلبنا فأخرجت الأرض أثقالها وأظهرنا جلال العرب فأطلقوا أعنة بلاغتهم في ميادين الفصاحة وما أحقهم هنا بقول الفاضل وتناجدت أهل نجد فكل صاح يا صباحه وعلمنا أن هذا فضل رفل به أبناء العرب في حلل التقديم وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وامتلأ صحن جامع القلعة بحلاوة هذه البشرى وهلل مؤذنوه وذكروا طلعته الجلالية فكبروا وأنشدوا
( لو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر )
وأزهرت هذه البشرى في ربيع ولكنه ربيع الأبرار الذي نزه الله روحه وريحانه عن كل نمام وصان فيه المسلمين ممن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام ونشر الله أعلام كتب العلم وزاد الله بالسيف المؤيدي إسعافها وكانت ستور الجهل قد أسبلت على التفاسير فأظهر السر للآي كشافها أما القراءات فهي في قرى شيخ الإسلام وفضله فيها عاصم من الجهل ونافع وأما الحديث فهو مجلي مبهماته بنور جلاله الساطع وأما العربية فقد ظهر بعد وعر العجم تسهيلها وشرعت بيوت العرب لشواهدها وأكرم نزيلها وأما المعاني فقد أظهر الله بيانها وجليت بها عروس الأفراح واهتدينا بنور جلالها ففتحت لنا أبوابها بغير مفتاح وأما المنطق فمقدمات منطقه العذب أرتنا نتائجه يقينا وأما العقليات فما رأينا لمن ناظره فيها في هذه المدة عقلا ولولا الحياء لقلنا ولا دينا وها هو قد نبه الفقه من سنة الغفلة بعدما أمرض الجهل عيونه وأرمد والحاوي أظهر ما حواه من العلم بعدما كان هلك أسى وتجلد والروضة أزهرت في حدائق هذه المسرة بين أوراقها فأينعت ومدت الشافعية أصول دوحتها فتفرعت وظهرت رفعة الرافعي في أفق كماله ونور الله ضريح الشافعي بنور سراجه وبهجة جلاله
ولما كان الجناب الكريم الجلالي هو الذي ناظرناه بالغير فقال نور الشريعة وهو أشهر من نار على علم

( وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم )
فعلمنا أنه حجة للشافعي الذي منه الاستقصاء وإليه منتهى السؤال وما أبدر في أفق درس إلا أزال ظلم الشك بأنواره وأسفر أبداره عن التتمة والإكمال وهو أبو العلماء الذي ولد من الأم أفراحهم وأبو المهمات الذي شهر من العدة الكاملة في ميدان الفرسان سلاحهم وإليه انتهت الغاية فإنه ما برح يأتينا في وجيز تقريبه بالعجاب ويغنينا عن موضح القشيري فإنه يغذينا في إبانته باللباب
اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعيده إلى منال شرفه بعد التحجب وها هو قد ظهر ويتسلسل في أيامنا الشريفة عند الرواة حديث ابن عمر فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي السيفي لا زالت الشافعية في أيامه الشريفة بجلالهم في ترشيح بهجة وابتهاج وثبت الله القواعد وأقامها في ملكه عن التحرير ومشى الرعية فيها على أوضح منهاج أن تفوض إلى الجناب المشار إليه وظيفة كذا وكذا وقد وقع التمويه في الفروق بينه وبين الغير عن أهل التبصرة والهداية وهو نهاية المطلب وعيون المسائل وتاج رؤوسها والمذهب الذي تهذيبه في أدب القاضي كفاية وهو البحر الذي ما دخلنا بسيطه المبسوط إلا قالت التورية إنه في البسيط كامل ولا نظرنا إلى حليته الجلالية إلا غنينا عن المصباح بنوره الشامل وقد ميزناه على مناظريه لما أقروا له بالتعجيز وقرت عيون ابن البارزي نور الله ضريحه بهذا التمييز وألغينا ذكر علوم يجل قدره عن نسبتها إليه ولكن ثغور سيناتها تبسم عند ذكره وأفواه ميماتها تكثر الثناء عليه فليتلق ذلك فإنه العزيز عندنا والمنتقى لهذا التشريف الذي هو ديباجة رقمه وإذا ذكرنا الأصول فأصوله محفوظة وهو المعتمد عليه في التمهيد والمستصفى ببديع علمه ولو عاش ابن الحاجب ما تغزل في رفع حاجبه وخفض له جانبه وعلم أن جلالنا عين الإسلام فلم نرفع على العين حاجبه والوصايا كثيرة ولكن جواهر ذخائرنا تلتقط من إملائه وأماليه وهو جامع مختصراتها ومظهر زوائدها ببيانه ومعانيه لا زال حديث فضله يتسلسل مع الرواة ويسند ولا برح أجل من أوضح الرسالة في مسند محمد وأحمد
ورسم لي في الأيام الشريفة المؤيدية سنة تسع عشرة وثمانمائة أن أنشىء رسالة بوفاء النيل المبارك لم أسبق إليها ولا حام طائر فكر عليها وأحضر مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصر محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية تغمده الله بالرحمة والرضوان قطعة من إنشاء القاضي الفاضل بوفاء النيل وقرئت على المسامع الشريفة المؤيدية وحذرت من التعرض إلى شيء من ألفاظها ومعانيها فأنشأت رسالة حكم لأبي بكر بها على كل فاضل بالتقديم وإن

كان لسان القلم قد طال فأنا أقطه ههنا تأدبا مع عبد الرحيم وقد وصلنا ههنا شمل القطعتين ليتفكه المتأمل في جنى الجنتين ويتنزه نظره في حدائق الروضتين ويطرب لسجع حمام الدوحتين
قال القاضي الفاضل نعم الله سبحانه وتعالى من أصوبها بزوغا وأضفاها سبوغا وأصفاها ينبوعا وأسناها منفوعا وأمدها بحر مواهب وأضمنها حسن عواقب النعمة بالنيل المصري الذي يبسط الامال ويقبضها مده وجزره ويربي النبات حجره ويجري على سواد الأرض بفضته البيضا ويهنأ بيده الخضبية نقب الجرب من الحربى ويحيى مطلعه أنواع الحيوان ويجني ثمرات الأرض صنوان وغير صنوان وينشر مطوي حريرها وينشر مواتها ويوضح معنى قوله تعالى ( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ) وكان وفاء النيل المبارك في تاريخ كذا وكذا فأسفر وجه الأرض وإن كان قد تنقب وأمن يوم بشراه من كان خائفا يترقب فرأينا الإبانة عن لطائف الله سبحانه وتعالى وقد حققت الظنون ووفت بالرزق المضمون إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقد أعلمناك لتوفي حقه من الإذاعة وتبعده من الإضاعه وتتصرف فيه على ما يصرفك من الطاعه وتشهر ما أورده البشير من البشرى بإبانته وتمده بإيصال رسمه إليه على عادته
فقلت بعد الفاضل ونبدي لعلمه ظهور اية النيل المبارك الذي عاملنا الله فيه بالحسنى وزياده وأجراه لنا في طرق الوفاء على أجمل عاده وحلق أصابعه ليزيل الإبهام فأعلن المسلمون بالشهاده كسر بمسرى فأصبح كل قلب بهذا الكسر مجبورا وأتبعناه بنوروز ما برح هذا الاسم بالسعد المؤيدي مكسوا دق قفا السودان فالراية البيضاء من كل قلع عليه وقبل ثغور الإسلام وأرشفها ريقه الحلو فمالت بأعطاف غصونها إليه وشبب خريره في الصعيد بالقصب ومد سبائكه الذهبية إلى جزيرة الذهب فضرب الناصرية واتصل بأم دينار وقلنا إنه صبغ بقوة لما جاء وعليه الاحمرار وأطال الله عمر زيادته فتردد الناس على الآثار وعمته البركة فأجرى سواقي مكة إلى أن غدت جنة تجري من تحتها الأنهار وحصن مشتهى الروضة في صدره وحنى عليه حنو المرضعات على الفطيم
( وأرشفه على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )

وراق مديد بحره لما انتظمت عليه تلك الأبيات وسقى الأرض سلافته الخمرية فخدمته بحلو النبات وأدخله إلى جنات النخيل والأعناب فالق النوى والحب فأرضع جنين النبت وأحيى لها أمهات العصف والأب وصافحته كفوف الموز فختمها بخواتيمه العقيقية ولبس الورد تشريفه وقال أرجو أن تكون شوكتي في أيامه قوية ونسي الزهري بحلاوة لقائه مرارة النوى وهامت به الشقراء فأرخت ضفائر فروعها عليه من شدة الهوا واستوفت الأشجار ما كان لها في ذمة الري من الديون ومازج الحوامض بحلاوته فهام الناس بالسكر والليمون وانجذب إليه الكباد وامتد
ولكن قوي قوسه لما حظي منه بنصيب سهم لا يرد ولبس شربوش الأترج وترفع إلى أن لبس بعده التاج وفتح منشور الأرض لعلامته بسعة الرزق وقد نفذ أمره وراج فتناول معالم الشنبر وعلم بأقلامها ورسم لمحبوس كل سد بالإفراج وسرح بطائق السفن فخفقت بمخلق بشائره وأشار بأصابعه إلى قتل المحل فبادر الخصب إلى امتثال أوامره وحظي بالمعشوق وبلغ من كل أمنية مناه فلا سكن على البحر إلا تحرك ساكنه للمطالعة بعدما تفقه وأتقن باب المياه ومد شفاه أمواجه إلى تقبيل فم الحور وزاد بسرعته فاستحلى المصريون زائده على الفور ونزل بركة الحبش فدخل التكرور تحت طاعته وحمل على الجهات البحرية فكسر المنصورة وعلا على الطويلة بشهامته وأظهر في مسجد الخضر عين الحياة فأقر الله عينه وصار أهل دمياط في برزخ بين المالح وبينه وطلب المالح رده بالصدر وطعن في حلاوة شمائله فما شعر إلا وقد ركب عليه ونزل في ساحله وأمست واوات دوائره على وجنات الأرض عاطفه وثقلت أردافه على خصور الجواري فاضطربت كالخائفة ومال إليه باسق النخل فلثم طلعه وقبل سوالفه وأمست سود السفن كالحسنات في حمرة وجناته وكلما زاد زاد الله في حسناته فلا فقير سد إلا وحصل له من فيض نعمائه الفتوح ولا ميت خليج إلا عاش به ودبت فيه الروح
ولكنه احمرت عيونه على الناس بزيادة وترفع فقال له المقياس عندي قبالة كل عين أصبع فنشر النيل أعلام قلوعه وحمل وله من ذلك الخرير زمجره ورام أن يهجم

على عير بلاده فبادر إليه عزمنا المؤيدي وكسره وقد اثرنا المقر بهذه البشرى التي عم فضلها برا وبحرا وحدثناه عن البحر ولا حرج وشرحنا له حالا وصدرا ليأخذ حظه من هذه البشرى البحرية بالزيادة الوافره وينشق من طيها نشرا فقد حملت له من طيبات ذلك النسيم أنفاسا عاطره والله تعالى يوصل بشائرنا الشريفة لسمعه الكريم لصير بها في كل وقت مشنفا ولا برح من نيلنا المبارك وانعامنا الشريف على كلا الحالين في وفا
ومما انفردت بإنشائه رسالة السكين فإن الشيخ جمال الدين بن نباتة سبق إلى رسالة السيف والقلم وتقدمه أبو طاهر إسمعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني إلى رسالة القوس وكتاب الإنشاء لا بد لهم من سكين فقلت وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفاء وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفاء وتالله ما غابت إلا وصلت الألام من تعثرها إلى الجفاء زرقاء كم ظهر للبيض منها ألوان خرساء ومن العجائب أنها لسان كل عنوان ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب وذل بعد أن خضعت له الرؤوس والرقاب كم أيقظت طرف القلم بعدما خط وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط وكم وجد بها الصاحب في المضائق نفعا وحكم بحسن صحبتها قطعا ماضية العزم قاطعة السن فيها حدة الشباب من وجهين لأنها بالناب والنصاب معلمة الطرفين وأنملة صبح تقمعت بسواد الدجى فعوذتها بالضحى والليل إذا سجى ولسان برق امتد في ظلمات الليل فتنكرت أشعة الأنجم وما عرف منها سهيل هذا وتقطيعها موزون إذ لم يتجاوز في عروض ضربها الحد وملوم أن السيف والرمح لم يعرفا غير الجزر والمد
من أجل ذا تدخل في مضائق ليس للسيف فيها قط مدخل وكلما تفعله ترجزه والرمح في تعقيده مطول إن هجعت بجفنها كانت أمضى من الطيف وكم لها من خاصة جازت بها الحد على السيف تنسى حلاوة العسال فلا يظهر لطوله طائل ويغني عن الة الحرب بإيقاع ضربها الداخل إن مرت بكلها المحلى تركت المعادن عاطله ولم يسمع للحديد في هذه الواقعة مجادله شهد الرمح بعدالته أنها أقرب منه إلى الصواب وحكم لها بصحة ذلك قبل أن تستكمل النصاب ما طال في رأس القلم شعرة إلا سرحتها بإحسان ولا طالعت كتابا إلا أزالت غلطه بالكشط من رأس اللسان

تعقد عليها الخناصر لأنها عدة وعدة وتالله ما وقعت في قبضة إلا أطالت لسانها وتكلمت بحده إن أدخلت إلى القراب كانت قد سبكت على الدخول أو أبرزت من غيمة كان على طلعتها قبول تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس وكم لها من عجائب صار بها جدول السيف في بحر غمده كالغريق ولو سمع بها قبل ضربه ما حمل التطريق فلو عارضها أبو طاهر لعرك من قوسه الأذنين وقال له جحدت رسالتك يا ذا القرنين فإن جذبت إلى مقاومتها وكان لك يد تمتد وصلت السكين إلى العظم وصار عليك قطع وانتهى أمرك إلى هذا الحد وهل تعاند السكين صورة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ولو لمحها الفاضل لحقق قوله إن خاطر سكينه كل أو أدركها ابن نباتة ما أقر برسالة السيف وفل وقال لقلم رسالته أطلق لسانك بشكر مواليك وأخلص الطاعة لباريك وما قصد المملوك الإيجاز في رسالة السكين ونظمها إلا لتكون مختصرة كحجمها لا زالت صدقات مهديها تنحف بما يذبح نحو فقري وتأتي بما يشفي وإيهام التورية يقول ويبري
قلت الذي أوردته ههنا من إنشائي وإنشاء الغير كان من الواجب لأن الباب الذي تحتم علي شرحه وبيانه وإيضاحه باب التسجيع وهو عبارة عن علم الإنشاء وقد تقدم تقرير السجع وأقسامه وعلم أنها أربعة أقسام وهي المطرف والموازي والمشطر والمرصع وذكرت فيه الفوائد التي منها أحكام الفواصل وأوردت المباحث في الإنشاء الذي فيه نظر بالنسبة إلى الحالة التي هي المطلوب وأوردت من بديع الإنشاء وغريبه هذه النبذة التي هي من إنشائي وإنشاء الغير ولولا خشية الإطالة لأوردت من ذلك ما يذبل عنده زهر المنثور ويقرط في قلائد النحور ومن أراد البحث عن صحة ذلك فعليه بمصنفي المسمى بقهوة الإنشاء فإنه خمسة مجلدات منها مجلد أنشأته بالبلاد الشامية قبل أن أستقر منشىء دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية والممالك الإسلامية وثلاثة مجلدات أنشأتها عن مولانا السلطان الملك المؤيد سقى الله ثراه ومجلد أنشأته عن الملك المظفر والملك الظاهر والملك الصالح وعن مولانا السلطان الملك الأشرف وعن مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله زاده الله شرفا وتعظيما انتهى

والفرق بين التسجيع والتجزئة اختلاف زنة أجزأئه ومجيئه على قافية واحدة من غير عدد معين محصور وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسجيع قوله
( فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم ) وبت العميان
( من لي بمستلم لليد معتصم ... بالعيش لا مسئم يوما ولا سئم ) وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( كم قاتل بصحيح الجمع مقتحم ... وقائل لنظيم السجع ملتزم )
قلت الذي يظهر لي أن الشيخ عز الدين لم يمش في نظم بديعيته مشي محقق لأنه تقرر عنده وعند الجماعة في شروحهم أن التسجيع هو أن يأتي المتكلم في أجزاء بيته أو كلامه أو في بعضها بأسجاع غير متزنة والشيخ أتى في شطر بيته الأول بأسجاع قابل كلا منها في الشطر الثاني بوزنه مثل قاتل وقائل وصميم ونظيم وجمع وسجع ومقتحم وملتزم وهذا هو الترصيع بعينه فإن الترصيع من شرطه أن تقابل كل لفظة من البيت بوزنها ورويها وليته نقل هذا البت إلى الترصيع فإن بيته في الترصيع ناقص بالذي أظهره مع قصر باعه فيه من الحشو وهو
( كم رصعوا كلما من در لفظهم ... كم أبدعوا حكما في سر علمهم ) مع أنه نظر في بيت الشيخ صفي الدين الحلي وهو
( فعال منتظم الأحوال مقتحم ... الأهوال ملتزم بالله معتصم ) ورأى اختلاف الوزن بين ملتزم ومعتصم
وبيت بديعيتي أقول فيه
( سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم )

ذكر التسميط
( تسميط جوهره يلقى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي )
هذا النوع أعني التسميط هو أن يجعل الشاعر كل بيت بسمطه أربعة أقسام ثلاثة منها على سجع واحد بخلاف قافية البيت كقول مروان بن أبي حفصة
( هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا )
والفرق بين التسميط والتسجيع كون أجزاء التسميط غير ملتزم أن تكون على روي البيت وكون أجزائه متزنة فيكون عددها محصورا والفرق بين التفويف وبينه تسجيع بيت التسميط قال ابن أبي الأصبع ما خالفوا بين قافية البيت وأسجاع التسميط إلا لتكون القافية كالسمط والأجزاء المسجعة بمنزلة حب العقد لأن السمط يجمع حب العقد والمراد بأجزاء التسميط بعض أجزاء التقطيع ويسمى تسميط التبعيض ومن التسميط نوع آخر يسمى تسميط التقطيع وهو أن تسجع جميع أجزاء التفعيل على روي يخالف القافية كقول ابن أبي الأصبع
( وأسمر مثمر من مزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن )
فجاءت جميع أجزاء التفعيل من هذا البيت من سباعيها وخماسيها مسجعة على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التسميط
( فالحق في أفق والشرك في نفق ... والكفر في فرق والدين في حرم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تسميط ذي أدب تنظيم ذي أرب ... تحقيق ذي غلب بالنصر ملتزم )
وبيت بديعيتي أشرت فيه إلى نظمي ونثري ترفعا بمدح النبي وصحابته رضي الله عنهم بقولي
( سجعي ومنتظمي قد أظهرا حكمي ... وصرت كالعلم في العرب والعجم ) وقلت بعده مشيرا إلى النظم
( تسميط جوهره يلفى بأبحره ... ورشف كوثره يروي لكل ظمي )
التورية في التسميط هنا منتظمة في سلك الجواهر وقد تقرر أن السمط هو الذي يجمع حب العقد ولهذا قلت تسميط جوهره والمناسبة البديعية حاصلة بقولي يلفى بأبحره فمحاسنه غير خافية بعد ذكر الجوهر ومثل ذلك الرشف للكوثر والري للظامىء وتمكين القافية ظاهر والله أعلم

ذكر الالتزام
( لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه ومدح سواه ليس من لزمي )
هذا النوع الذي سماه قوم الالتزام ولزوم ما لا يلزم ومنهم من سماه الاعنات والتضييق وهو في الاصطلاح أن يلتزم الناثر في نثره أو الناظم في نظمه بحرف قبل حرف الروي أو بأكثر من حرف بالنسبة إلى قدرته مع عدم التكلف وقد جاء في الكتاب العزيز في مواضع تجل عن الوصف كقوله تعالى ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) وكقوله تعالى ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون ) ومثله قوله تعالى ( والليل وما وسق والقمر إذا اتسق ) وأما الشعراء فأبو العلاء كان أكثرهم في هذا النوع التزاما حتى إنه صنع كتابا وسماه اللزوميات جاء فيه بأشياء بديعة إلا أن فيه من عثرات لسانه كثيرا كقوله
( ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا )
( يحطمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك ) ومنه قوله
( لا تطلبن بالة لك رفعة ... قلم البليغ بغير حظ مغزل )
( سكن السماكان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل )

ومنه قوله
( يقولون في البستان للعين لذة ... وفي الراح والماء الذي غير اسن )
( إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها ... ففي وجه من تهوى جميع المحاسن ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على لزوم ما لا يلزم قوله
( من كل مبتدر للموت مقتحم ... في مارق بغبار الحرب ملتحم ) وبيت العميان
( وميل سمعي لنيل القرب من شيمي ... وسيل دمعي بذيل الترب كالديم ) وبيت الشيخ عز الدين قوله
( لي التزام بمدحي خير معتصم ... بربه وارتباط غير منفصم ) وبيت بديعيتي أقول فيه
( لأن مدح رسول الله ملتزمي ... فيه ومدح سواه ليس من لزمي )

ذكر المزاوجة
( إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح من ونجاني من النقم )
هذا النوع سموه المزاوجة والازدواج وهو في اللغة مصدر زاوج بين الشيئين إذا قارب بينهما وفي الاصطلاح قال السكاكي ومن تبعه هو أن يزاوج المتكلم بين معنيين في الشرط والجزاء كقول البحتري
( إذا ما نهى الناهي فلج لي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر ) ومنه قوله
( إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( ومن إذا خفت في حشري فكان له ... مدحي نجوت وكان المدح معتصمي ) وبيت العميان
( إذا تبسم في حرب وصاح بهم ... يبكي الأسود ويرمي اللسن بالبكم )

وبت الشيخ عز الدين
( إذا تزاوج خوف الذنب في خلدي ... ذكرت أن نجاتي في مديحهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه
( إذا تزاوج ذنبي وانفردت له ... بالمدح من ونجاني من النقم )

ذكر التجزئة
( وريت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي )
التجزئة هي أن يأتي المتكلم ببيت ويجزئه جميعه أجزاء عروضية ويسجعها كلها على وزنين مختلفين جزءا بجزء أحدهما على روي يخالف روي البيت والثاني على روي البيت كقول الشاعر
( هندية لحظاتها خطية ... خطراتها دارية نفحاتها ) وبيت الشيخ صفي الدين
( ببارق خذم في مارق أمم ... أو سابق عرم في شاهق علم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( ذي فضل أندية ذي عدل تجزئة ... فالذئب في ظلم يمشي مع الغنم )
الشيخ عز الدين سها في هذا البيت عن رتبة التجزئة في الشطر الثاني بالنسبة إلى التقرير في شرط الرتبة
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى ما أبديته من المحاسن في المديح النبوي بقولي
( وريت في كلمي جزيت من قسمي ... أبديت من حكمي جليت كل عمي )

ذكر التجريد
( لي المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي )
التجريد عرفه صاحب التلخيص بأن قال هو أن ينتزع من أمر ذي صفة اخر مثله وفائدته المبالغة في تلك الصفة كقولك مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة فجردت من الرجل نسمة متصفة بالبركة وعطفتها عليه كأنها غيره وهي هو
ومن أمثلته الشعرية قول الشاعر
( أعانق غصن البان من لين قدها ... وأجني جني الورد من وجناتها ) فإنه جرد من قدها غصنا ومن وجنتيها وردا وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله
( شوس ترى منهم في كل معترك ... أسد العرين إذا حر الوطيس حمي ) والشيخ صفي الدين جرد في بيته أسد العرين من الشوس وبيت العميان في بديعيتهم
( من وجه أحمد لي بدر ومن يده ... بحر ومن لفظه در لمنتظم )

وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( من لفظه واعظ بالنصح جرد لي ... يا نفس توبي وللتجريد فالتزمي ) وبيت بديعيتي في المديح النبوي قولي
( لي في المعاني جنود في البديع وقد ... جردت منها لمدحي فيه كل كمي )

ذكر المجاز
( وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم )
المجاز هو عبارة عن تجوز الحقيقة فإن المراد منه أن يأتي المتكلم بكلمة يستعملها في غير ما ضعت له في الحقيقة في أصل اللغة هذا رأي السكاكي وأصحاب المعاني والبيان وقال البديعيون المجاز عبارة عن تجوز الحقيقة بحيث يأتي المتكلم إلى اسم موضوع لمعنى فيخصه إما أن يجعله مفردا بعد أن كان مركبا أو غير ذلك من وجوه الاختصاص
والمجاز جنس يشتمل على أنواع كثيرة كالاستعارة والمبالغة والإرداف والتمثيل والتشبيه وغير ذلك مما عدل فيه عن الحقيقة الموضوعة للمعنى المراد وهذه الأنواع وإن كانت من المجاز فكونها متعددة لخلوها عن معنى زائد عن تجوز الحقيقة كالاستعارة والتشبيه وبقية ما ذكره من الأنواع فلما لم يكن له غير تجوز الحقيقة اختصارا أفرد باسم المجاز إذ لا يليق به غيره
وعمل الشريف الرضي كتابا سماه مجاز القرآن ومات قبل استيفائه ومن أمثلته الشعرية قول العتابي
( يا ليلة لي بحوارين ساهرة ... حتى تكلم في الصبح العصافير ) قوله ساهرة مجاز وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( صالوا فنالوا الأماني من مرادهم ... ببارق في سوى الهيجاء لم يشم )

المجاز في بيت الشيخ صفي الدين في لفظة بارق والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( أحيى فؤادي مجازي نحو حجرته ... وقد دهشت لجمع فيه مزدحم ) وبيت بديعيتي تقدمه قولي إني تجردت لمدح النبي وقلت بعده في المجاز
( وهو المجاز إلى الجنات إن عمرت ... أبياته بقبول سابغ النعم )

ذكر الائتلاف
وهو أربعة أنواع هي
1 -
ائتلاف اللفظ مع المعنى
( تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم )
هذا النوع ذكره قدامة أعني ائتلاف اللفظ مع المعنى وترجمه منفردا ولم يبين معناه وشرحه الآمدي وأطال ولم توف عبارته بإيضاحه وأوضحه ابن أبي الأصبع وقال مختصر عبارة هذه التسمية أن تكون ألفاظ المعاني المطلوبة ليس فيها لفظة غير لائقة بذلك المعنى إن كان اللفظ جزلا كان المعنى فخما أو رشيقا رقيقا كان المعنى غريبا كقول زهير بن أبي سلمى
( أثافي سفعا في معرس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم )
( فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا انعم صباحا أيها الربع واسلم )
فإن زهيرا قصد تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى غريب لكن المعنى غير غريب فركبه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال ولما جنح في البيت الثاني إلى معنى أبين من الأول وأغرب ركبه من ألفاظ مستعملة معروفة وبيت الحلي في بديعيته قوله
( كأنما حلق السعدي منتثرا ... على الثرى بين منقض ومنقصم )

والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( تؤلف اللفظ والمعنى فصاحته ... تبارك الله منشي الدر في الكلم )
بيت الشيخ عز الدين في هذا النوع عامر وبيت الشيخ صفي الدين خراب لأنه غير صالح للتجريد ولم يظهر له معنى حتى يأتي بالمشبه به في البيت وعلى هذا التقدير لم يحصل في بيته ائتلاف بين اللفظ والمعنى وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( تآلف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم )
2 -

ائتلاف اللفظ مع الوزن
( واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم )
هذا النوع أعني ائتلاف اللفظ مع الوزن قال قدامة هو أن تكون الأسماء والأفعال تامة لم يضطر الشاعر في الوزن إلى نقصها في البنية ولا إلى الزيادة ولا إلى التقديم والتأخير ومنهم من قال هذا النوع لا مثال له بصورة معينة لأنه عبارة عن أنه لا يضطر إلى ما لا يلزمه منه فساد صورة المعنى وذهاب رونق اللفظ كقول الفرزدق
( وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه )
وفي رواية أخو أمه فإن اضطرار الوزن حمله على رداءة السبك فحصل في الكلام تعقيد يمنع من فهم معناه بسرعة ولو قال وما مثله إلا مملك أبوه يقارب خاله لسهل مأخذه وقرب تناوله
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته قوله
( في ظل أبلج منصور اللواء له ... عدل يؤلف بين الذئب والغنم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( أؤلف اللفظ مع وزن بمدحة مو ... لانا وذم عدو بين الثلم )
قلت ثقل الهمزة في لفظة أؤلف والوقوف لتحرير الوزن عند قوله بمدحة مولانا كان سببا في عدم ائتلاف اللفظ مع الوزن في بيت الشيخ عز الدين

وبيت بديعيتي قلت فيه عن النبي بعد قولي فيه في ائتلاف اللفظ مع المعنى
( تألف اللفظ والمعنى بمدحته ... والجسم عندي بغير الروح لم يقم ) وقلت بعده
( واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منسجم )
3 -

ائتلاف المعنى مع الوزن
( والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدر في الكلم )
هذا النوع أعني ائتلاف المعنى مع الوزن هو أن تأتي المعاني في الشعر صحيحة لا يضطر الشاعر في الوزن إلى قلبها عن وجهها ولا إلى خروجها عن صحتها كقول عروة بن الورد
( فإني لو شهدت أبا سعاد ... غداة غد بمهجته يفوق )
( فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوه إلا ما يطيق )
فإنه أراد أن يقول فديت نفسه بنفسي ومالي فألجأته ضرورة الوزن إلى قلب المعنى ومهما كان الشعر سليما من مثل هذا كان الشعر الذي ائتلف معناه مع وزنه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( من مثله وذراع الشاة حذره ... عن سمه بلسان صادق الرتم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تؤلف اللفظ والمعنى مدائحه ... فللمعاني ترى الألفاظ كالخدم )
قلت بيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع قاصر عن بيت الشيخ عز الدين فإن الشيخ عز الدين أتى أولا بالانسجام والسهولة مع التورية بتسمية النوع وتمكين القافية فإن لفظة رتم في بيت الشيخ صفي الدين غير ممكنة وأيضا فإن الوزن والمعنى في بيت الموصلي في غاية الائتلاف
وبيت بديعيتي قلت فيه
( واللفظ والوزن في أوصافه ائتلفا ... فما يكون مديحي غير منجسم )

وقلت بعده في ائتلاف المعنى مع الوزن
( والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدر في الكلم )
4 -

ائتلاف اللفظ مع اللفظ
( واللفظ باللفظ في التأسيس مؤتلف ... في كل بيت بسكان البديع حمي )
هذا النوع أعني ائتلاف اللفظ مع اللفظ هو أن يكون في الكلام معنى يصح معه هذا النوع ويأخذ عدة معان فيختار منها لفظة بينها وبين الكلام ائتلاف كقول البحتري في الإبل النحيلة
( كالقسي المعطفات بل الأسهم ... مبرية بل الأوتار )
فإن تشبيه الإبل بالقسي كناية عن هزالها فلو شبهها بغير ذلك كالعرجون والدال جاز ولكن المناسبة والائتلاف بين الأسهم والأوتار والقسي حسنت التشبيه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( خاضوا عباب الوغى والخيل سابحة ... في بحر حرب بموج الموت ملتطم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الموصلي في بديعيته
( ساروا وجدوا النوى واللفظ مؤتلف ... من لسن دمعي بلفظ جد منسجم )
الذي فهمته من هذا النوع معنى الشطر الأول وأما الشطر الثاني فما حصل بينه وبين هذا النوع ائتلاف وبيت بديعيتي قلت قبله
( والوزن صح مع المعنى تألفه ... في مدحه فأتى بالدر في الكلم ) وقلت بعده في ائتلاف اللفظ مع اللفظ
( واللفظ باللفظ في التأسيس مؤتلف ... في كل بيت بسكان البديع حمي )

ذكر التمكين
( تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي )
هذا النوع أعنى التمكين وهو ائتلاف القافية منهم من سماه بالتمكين ومنهم من سماه بائتلاف القافية وهو أن يمهد الناثر لسجعه فقرة أو الناظم لقافية بيته تمهيدا تأتي به القافية ممكنة في مكانها مستقرة في قرارها غير نافرة ولا قلقة ولا مستدعاة بما ليس له تعلق بلفظ البيت ومعناه بحيث أن منشد البيت إذا سكت دون القافية كملها السامع بطباعه بدلالة من اللفظ عليها وأكثر فواصل القران على هذه الصورة والذي عقد البديعيون عليه الخناصر في هذا الباب قول أبي الطيب
( يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم )
وقال ابن أبي الأصبع لم نسمع لمتقدم شعرا متمكنا في قافية أشد من تمكين النابغة الذيباني حيث قال
( كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي )
( زعم الغمام ولم أذقه بأنه ... يروي بريقته من العطش الصدي )
قلت ويعجبني هنا قول صدر الدين بن عبد الحق ولعمري إنه أمكن وألطف وأظرف وهو
( ورب ظبي انس ... حشاشتي ملكته )
( أسقيته أسكرته ... حركته نبهته )
( نادمته أعجبته ... حدثته أطربته )
( مددته كشفته ... بلا طويل نكته )

وبيت الحلي على تمكين القافية قوله
( به استغاث خليل الله حين دعا ... رب العباد فنال البرد في الضرم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تمكين حبك في قلبي نسخت به ... محبة الكل من عرب ومن عجم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي )

ذكر الحذف
( وقد أمنت وزال الخوف منحذفا ... نحو العدو ولم أحقر ولم أضم )
هذا النوع أعني الحذف عبارة عن أن يحذف المتكلم من كلامه حرفا من حروف الهجاء أو جميع الحروف المهملة بشرط عدم التكلف والتعسف وهذا هو الغاية كما فعل الحريري في المقامة السمرقندية بالخطبة المهملة التي أجمع الناس على أنها نسيج وحدها وواسطة عقدها وقد عن لي أن أوردها ههنا بكمالها وأورد معها ما نسج المتأخرون على منوالها وهي قوله
الحمد لله الممدوح الأسماء المحمود الآلاء الواسع العطاء المدعو لحسم اللأواء مالك الأمم ومصور الرمم وأهل السماح والكرم ومهلك عاد وإرم أدرك كل سر علمه ووسع كل مصر حلمه وعم كل عالم طوله وهد كل مارد حوله أحمده حمد موحد مسلم وأدعوه دعاء مؤمل مسلم وهو الله لا إله إلا هو الواحد الصمد لا والد له ولا ولد أرسل محمدا للإسلام ممهدا وللملة موطدا ولأدلة الرسل مؤكدا وللأسود والأحمر مسددا وصل الأرحام وعلم الأحكام ووسم الحلال والحرام ورسم الإحلال والإحرام كرم الله محله وكمل الصلاة والسلام له ورحم اله الكرماء وأهله الرحماء ما همر ركام وهدر حمام وسرح سوام وسطا حسام

اعملوا رحمكم الله عمل الصلحاء واكدحوا لمعادكم كدح الأصحاء واردعوا أهواءكم ردع الأعداء وأعدوا للرحلة إعداد السعداء وادرعوا حلل الورع وداووا علل الطمع وسووا أود العمل وعاصوا وساوس الأمل وصوروا لأوهامكم حؤول الأحوال وحلول الأهوال ومساورة الأعمال ومصارمة المال والآل وادكروا الحمام وسرعة مصرعه والرمس وهول مطلعه واللحد ووحدة مودعه والملك وروعة سؤاله ومطلعه والمحوا الدهر ولؤم كره وسوء محاله ومكره كم طمس معلما وأمر مطعما وطحطح عرمرما ودمر ملكا مكرما همه سك المسامع وسح المدامع وإكداء المطامع وإرداء المسمع والسامع عم حكمه الملوك والرعاع والمسود والمطاع والمحسود والحساد والأساود والآساد ما مول الآمال وعكس الآمال ولا وصل الأوصال وكلم الأوصال ولا سر إلا وسا ولؤم وأسا ولا أصح إلا ولد الداء وروع الأوداء
الله الله رعاكم الله إلام مداومة اللهو ومواصلة السهو وطول الإصرار وحمل الإصار واطراح كلام الحكماء ومعاصاة إله السماء أما الهرم حصادكم والمدر مهادكم أما الحمام مدرككم والصراط مسلككم أما الساعة موعدكم والساهرة موردكم أما أهوال الطامة لكم مرصده أما دار العصاة الحطمة المؤصدة حارسهم مالك ورواؤهم حالك وطعامهم السموم وهواؤهم السموم لا مال أسعدهم ولا ولد ولا عدد حماهم ولا عدد ألا رحمه الله امرأ ملك هواه وأكم مسالك هداه وأحكم طاعة مولاه وكدح لروح مأواه وعمل ما دام العمل مطاوعا والعمر موادعا والصحة كاملة والسلامة حاصله ولا دهمه عدم المرام وحصر الكلام وإلمام الالام وحموم الحمام وهدوء الحواس ومراس الأرماس اها لها حسرة ألمها مؤكد وأمدها سرمد وممارسها مكمد ما لولهه حاسم ولا لسدمه راحم ولا له

مما عراه عاصم ألهمكم الله أحمد الإلهام وردأكم رداء الإكرام وأحلكم دار السلام وأسأله الرحمة لكم ولأهل ملة الإسلام وهو أسمح الكرام والمسلم والسلام
قلت رحم الله أبا القاسم الحريري أتى في عاطل هذه الخطبة بالسهل الممتنع ولكن ألجأته ضرورة العاطل في مواضع إلى الإتيان بألفاظ تفتقر إلى الحل وقد تعين هنا تفسيرها لئلا يتعذر علىالطالب مرام ولا يحصل هذا الإشكال في مرآة الأفهام
فاللأواء الشدة والأحمر والأسود العرب والعجم ووسم بمعنى علم وهمر بمعنى صب والركام السحاب المتراكم والكدح عمل الإنسان من الخير والشر والأود المعوج والمساورة المواثبة وطحطح بمعنى هد وأهلك والسكك ضيق الصماخ والرعاع السفلة والأساود الحيات والاصار جمع إصر وهو الثقل والساهرة قيل إنها عرصات القيامة وقيل إنها وجه الأرض انتهى
وأوقفني رجل من طلبة العلم بحلب المحروسة يقال له الشيخ بدر الدين بن محمد بن الضعيف سنة أربع عشرة وثمانمائة على رسالة مشتملة على حكم ومواعظ على طريق الفقهاء لا على طريق الأدباء وسألني الكتابة عليها فامتنعت من ذلك فتوصل إلى أن رسم لي مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية روح الله روحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه أن أكتب له على رسالته العاطلة تقريظا عاطلا فقلت هذا النوع من المستحيلات فإن الخطب والوعظيات ثمرات ألفاظها دانية القطوف وأما التقريظ فالتوصل إلى تحصيل ألفاظه العاطلة غير ممكن لأن كف المتناول من ذلك صفر والطريق مخوف فلم يحصل عن المرسوم رجوع وعلمت أن الصرف إلى غير الامتثال ممنوع فكتبت هذا التقريظ الذي ما سبقني ناثر إليه ولا حام طائر فكره عليه وهو طالع المملوك رسالة محمد وسلم وأحكم السمع والطاعة لكلامها المحكم والله ما سمعها عالم إلا وهام ولا ردع سحرها الحلال مسلما إلا كره الحرام وعاد عاملا وأعد للصلاح حواصله وصار له مع الله معامله ما أحلى ما كرر عاطلها المحلى وأهلا لسهولة مسلكها وسهلا ما لولد ساعة سعد أحكامها ولا أهل العصر سكر إلا ما أدار كأس مدامها ولا لعمارة عامر صرحها ورهطه ولا للصر در كلؤلؤها وسمطه ولا لولد مطروح مع طرحها المحرر مطارحه ولا صار لولادة رسالة مسموعة ولا لسرحها آرام

سارحه ولا مسارح الماء الحلو لملحها إلا كالآل وما عامر ما أسه المعمار إلا أطلال وما المطاعم الحلوة معها إلا مالحه وما صوادح الكلام الصادح إلا حول دوحها صادحه وما لطعم الراح مع حلاوة وردها راحه ولا لسلسل الورد معها طلاوة ولو كلل الطل أدواحه ولا لسلوك الدر در سلوكها ولا للمسوك العاطرة عطر مسوكها
ولم لا ومحكمها حرسه الله صار ملكا ولحكمه أحكام وكلام الملوك ملوك الكلام لا إله إلا الله ما أسرار ولد آدم إلا حكمه وما كلام الحكماء وما أحكموه إلا حرمه وما أمة رسول الملك العلام إلا سادة الأمم وما سماه صدورهم إلا مطالع أهل الحكم أطال الله عمره وما ملها سامع وأطلع هلال دالها وسعد السعود لها طالع وحصل للعالم لما هل هلالها سرور وأكرموا محلها وأحلوها الصدور أحكامها عمدة لأمة محمد وما أعادها السامع إلا صار العود أحمد
( سلسلوا دورها لسمع كساه ... درها وهو عاطل كل حله )
( لا سماع إلا لها لا كلام ... لسواها كرره كرره الله )
وع ما حكاه ولد همام أو رواه واسمع مسامرة همام صعد طور الحكم وساعده الله وحسم كل كلامه مادة العواطل وسلسل لطروسه وسطوره سلاسل الدور ودور السلاسل ولو سمعها ملك العواطل أمال رؤوس رماحه وكل حد سلاحه وسع معالم العلم ومعاهده صدره وأدر لأهل الموارد الحلوة ولله دره ما للكمال أصول سطوره الكاملة ولا ورد مع رسول كرسالة محمد مراسله رحم الله امرأ أطاع أوامر حكمها وسمع مرسوم رسمها ودارس ما أحكمه ممهدها وأملاه أمد الله عمره والحمد لله
والحلي بني بيت بديعيته في باب الحذف على العاطل وهو
( آل الرسول محل العلم ما حكموا ... لله إلا وعدوا أعدل الأمم )
والعميان ما نظموا نوع الحذف في بديعيتهم وأنا والشيخ عز الدين تعذر علينا نظم الحذف عاطلا لأجل تسمية النوع في البيت إذ فيه الذال والفاء ولا بد من التورية بتسمية النوع كما شرط أولا فكل منا جنح في باب الحذف إلى جهة أما الشيخ عز الدين فإنه ذكر أنه نظم بيته من الحروف النورانية المقطعة وسمى الحذف في بيته إسقاطا فقال

( أروم إسقاط ذنبي بالصلاة على ... محمد وعلى صديقه العلم ) وبيت بديعيتي حذفت منه الأحرف التي تنقط من تحت وهو الذي نظمته بعد قولي
( تمكين سقمي بدا من خيفة حصلت ... لكن مدائحه قد أبرأت سقمي ) فقلت
( وقد أمنت وزال الخوف منحذفا ... نحو العدو ولم أحقر ولم أضم )

ذكر التدبيج
( واخضر أسود عيشي حين دبجه ... بياض خطي ومن زرق العداة حمي )
نوع التدبيج من مستخرجات ابن أبي الأصبع وهو عبارة عن أن يذكر الناظم أو الناثر ألوانا يقصد بها التورية والكناية بذكرها عن أشياء من تشبيب أو مدح أو وصف أو غير ذلك من الأغراض فمن التدبيج على طريق التورية قول الحريري في المقامة الزورائية فمذ اغبر العيش الأخضر وازور المحبوب الأصفر اسود يومي الأبيض وابيض فودي الأسود حتى رثا لي العدو الأزرق فحبذا الموت الأحمر
ومنه ما كتبت به جوابا عن مولانا السلطان الملك المؤيد رحمه الله إلى الجناب العالي الناصري محمد بن أبي يزيد بن عثمان فإنه المجاهد الذي جعل حظ بني الأصفر في البحر الأزرق من بيض سيوفه أسود فأذاقهم الله به الموت الأحمر وكمال التدبيج يقول أهلا بعيش أخضر يتجدد
ومن الأمثلة الشعرية في باب التدبيج قول ابن حيوس
( إن ترد خبر حالهم عن يقين ... فالقهم في منازل أو نزال )
( تلق بيض الوجوه سود مثار النقع ... خضر الأكناف حمر النصال ) ومثله قوله
( ببياض عزم واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب )

وظريف هنا قول الشيخ زين الدين بن الوردي من أبيات
( ولي صاحب بالمدح والهجو كسبه ... يقول أتدري كيف أصنع بالخلق )
( إذا حمروا وجهي وما بيضوا يدي ... ازرق لهم رجلي ولو خضروا عنقي ) ويعجبني قول الشيخ عز الدين في هذا الباب
( خضرة الصدغ والسواد من العين ... بياض المشيب قد أورثاني )
( واحمرار الدموع صفر خدي ... كل ذا من تلونات الزمان )
قلت تلونات الزمان في باب التدبيج غاية في الحسن
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في التدبيج قوله
( خضر المرابع حمر السمر يوم وغى ... سود الوقائع بيض الفعل والشيم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( خضر المرابع حمر البيض سود ردى ... بيض الثنا فاستمع تدبيج وصفهم )
قلت ما يليق بالشيخ عز الدين ما اعتمده في بيت الشيخ صفي الدين من أخذ لفظه ومعناه والحق أنه تلون في باب التدبيج على الصفي وتحرم على الحلي وبيت بديعيتي قولي
( واخضر أسود عيشي حين دبجه ... بياض حظي ومن زرق العداة حمي )

ذكر الاقتباس
( وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم )
الاقتباس هو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من آية أو آية من ايات كتاب الله خاصة هذا هو الإجماع والاقتباس من القرآن على ثلاثة أقسام مقبول ومباح ومردود فالأول ما كان في الخطب والمواعظ والعهود ومدح النبي ونحو ذلك والثاني ما كان في الغزل والرسائل والقصص والثالث على ضربين أحدهما ما نسبه الله تعالى إلى نفسه ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية من عماله ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) والآخر تضمين آية كريمة في معنى هزل ونعوذ بالله من ذلك كقول القائل
( أوحى إلى عشاقه طرفه ... ) ( هيهات هيهات لما توعدون )
( وردفه ينطق من خلفه ... ) ( لمثل ذا فليعمل العاملون ) ومن الاقتباسات التي هي غير مقبولة قول ابن النبيه في مدح الفاضل
( قمت ليل الصدود إلا قليلا ... ثم رتلت ذكركم ترتيلا )
( ووصلت السهاد أقبح وصل ... وهجرت الرقاد هجرا جميلا )
( مسمعي كل عن سماع عذول ... حين ألقى عليه قولا ثقيلا )
( وفؤادي قد كان بين ضلوعي ... أخذته الأحباب أخذا وبيلا )

( قل لراقي الجفون إن لعيني ... في بحار الدموع سبحا طويلا )
( ماس عجبا كأنه ما رأى غصنا ... طليحا ولا كثيبا مهيلا )
( وحمى عن محبه كاس ثغر ... كان منه مزاجها زنجبيلا )
( بان عني فصحت في أثر العيس ... ارحموني ومهلوهم قليلا )
( أنا عبد للفاضل بن علي ... قد تبتلت بالثنا تبتيلا )
( لا تسميه وعد بغير نوال ... ) ( إنه كان وعده مفعولا ) ونعوذ بالله من قوله بعد ذلك
( جل عن سائر الخلائق فضلا ... فاخترعنا في مدحه التنزيلا )
واعلم أن الاقتباس على نوعين نوع لا يخرج به المقتبس عن معناه كقول الحريري فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب حتى أنشد فأغرب فإن الحريري كنى به عن شدة القرب وكذلك هو في الآية الشريفة ونوع يخرج به المقتبس عن معناه كقول ابن الرومي
( لئن أخطأت في مدحيك ... ما أخطأت في منعي )
( لقد أنزلت حاجاتي ... ) ( بواد غير ذي زرع )
فإن الشاعر كنى به عن الرجل الذي لا يرجى نفعه والمراد به في الآية الكريمة أرض مكة شرفها الله وعظمها
ثم اعلم أنه يجوز أن يغير لفظ المقتبس منه بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير أو إبدال الظاهر من المضمر أو غير ذلك فالزيادة وإبدال الظاهر من المضمر كقول الشاعر
( كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا )
فزاد الألف في راجعون على جهة الإشباع وأتى بالظاهر مكان المضمر في قوله إنا إلى الله ومراده اية التعزية في المصيبة وهي قوله تعالى ( إنا لله وإنا إليه

راجعون ) والنقصان ما تقدم من قول الحريري فلم يكن إلا كلمح البصر أو أقرب فإنه أسقط لفظة هو إذ الاية الكريمة لفظها ( كلمح البصر أو هو أقرب ) والتقديم والتأخير كقول الشاعر
( قال لي إن رقيبي ... سيء الخلق فداره )
( قلت دعني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره )
هذا الاقتباس من الحديث فإنه تقدم أن الإجماع على جواز الاقتباس من القرآن ومنهم من عد المضمن في الكلام من الحديث النبوي اقتباسا وزاد هنا الطيبي في الاقتباس من مسائل الفقه والشاعر قدم في لفظ الحديث وأخر لأن لفظ الحديث حفت الجنة بالمكاره ومن هنا يتبين لك قطع نظرهم في الاقتباس عن كونه نفس المقتبس منه ولولا ذلك للزمهم الكفر في لفظ القرآن والنقص منه ولكنهم يأتون به على أنه لفظ القرآن ومن أمثلته الشعرية قول الحماسي
( إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب ميعاد السلو المقابر )
( سيبقى لها في مضمر الحب والحشا ... سرائر تبقى يوم تبلى السرائر ) ومنه
( أهدى إليكم على بعد تحيته ... حيوا بأحسن منها أو فردوها ) ويعجبني هنا قول ابن سنا الملك في بعض مطالعه
( رحلوا فلست مسائلا عن دارهم ... أنا باخع نفسي على آثارهم ) ومن لطائف هذا الباب قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في معشوقه المسمى بالنسيم
( إن كانت العشاق من أشواقهم ... جعلوا النسيم إلى الحبيب رسولا )
( فأنا الذي أتلو لهم ( يا ليتني ... كنت ( اتخذت مع الرسولا سبيلا ) ومثله في الحسن قول شيخ شيوخ حماة المحروسة رحمه الله تعالى

( يا نظرة ما جلت لي حسن طلعته ... حتى انقضت وأدامتني على وجل )
( عاتبت إنسان عيني في تسرعه ... فقال لي ( خلق الإنسان من عجل ) ومثله
( إن دمعت عيني فمن أجلها ... بكى على حالي من لا بكى )
( أوقعني إنسانها في الهوى ... يا أيها الإنسان ما غركا ) ومثله
( قسما بشمس جبينه وضحاها ... ونهار مبسمه إذا جلاها )
( وبنار خديه المشعشع نورها ... وبليل صدغيه إذا يغشاها )
( لقد ادعيت دعاويا في حبه ... صدقت وأفلح من بذا زكاها )
( فنفوس عذالي عليه وعذري ... قد ألهمت بفجورها تقواها )
( فالعذر أسعدها مقيم دليله ... والعذل منبعث له أشقاها ) ومنه قول القاضي محيي الدين بن قرناص
( إن الذين ترحلوا ... نزلوا بعين باصره )
( أنزلتهم في مقلتي ... فإذا هم بالساهره ) ومنه قول الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله تعالى
( وأغيد جارت في القلوب لحاظه ... وأسهرت الإجفان أجفانه الوسنى )
( أجل نظرا في حاجبيه وطرفه ... ترى السحر منه قاب قوسين أو أدنى ) ومنه قول الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى
( رب فلاح مليح ... قال يا أهل الفتوه )
( كفلي أضعف خصري ... فأعينوني بقوة ) ومنه قول المعمار
( ابن الجمالي مات حقا ... برح بي موته واذى )
( ورحت أقرأ عليه جهرا ... ) ( يا ليتني مت قبل هذا )

ويعجبني في هذا الباب قول سيدنا الإمام القدوة الحافظ الشيخ شهاب الدين بن حجر العسقلاني الشافعي تغمده الله برحمته وهو
( خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما جرى كالبحر سرعة سيره )
( فحسبته لأصون سر هواكم ... ( حتى يخوضوا في حديث غيره ) وقلت
( ناحت مطوقة الرياض وقد رأت ... تلوين دمعي بعد فرقة حبه )
( لكن به لما سمحت تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به )
وهنا فائدة يتعين ذكرها في هذا الباب وهي أن العلماء في هذا الباب قالوا إن الشاعر لا يقتبس بل يعقد ويضمن أما الناثر فهو الذي يقتبس كالمنشىء والخطيب فمن ذلك قول الحريري فطوبى لمن سمع ووعى وحقق ما ادعى ( ونهى النفس عن الهوى ) وعلم أن الفائز من ارعوى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ) وقوله ( أنا أنبئكم بتأويله ) وأميز صحيح القول من عليله وكقول ابن نباتة الخطيب في الخطب التي في ديوانه أما أنتم بهذا الحديث تصدقون ما لكم لا تشفقون ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون )
قلت وأما عبد المؤمن الأصفهاني صاحب أطباق الذهب فإنه عنوان هذا الكتاب وإمام هذا المحراب فمن قوله في الأطباق فمن عاين تلوين الليل والنهار لا يغتر بدهره ومن علم أن بطن الثرى مضجعه لا يمرح على ظهره فيا قوم لا تركضوا خيل الخيلاء في ميدان العرض ( أمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) وقوله ولو علم الجذل صولة النجار وعضة المنشار لما تطاول شبرا ولا تخايل كبرا وسيقول البلبل المعتقل ليتني كنت غرابا ( ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) وقوله
( لله تحت قباب العز طائفة ... أخفاهم في رداء الفقر إجلالا )

( هم السلاطين في أطمار مسكنة ... استعبدوا من ملوك الأرض أقيالا )
( هذي المكارم لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصا فعادا بعد أسمالا )
( هذي المناقب لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا )
هم الذين جبلوا براء من التكلف ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) وقوله أهل التسبيح والتقديس لا يؤمنون بالتربيع والتسديس والإنسان بعد علو النفس يجل عن ملاحظة السعد والنحس وإن في الدين القويم لشغلا عن الزيج والتقويم الإيمان بالكهانة باب من أبواب المهانة فأعرض عن الفلاسفة وغض بصرك عن تلك الوجوه الكاسفه فأكثرهم عبدة الطبع وحرسة الكواكب السبع فما للمنجم الغبي وما للكاهن الأجنبي وسر حجب عن غير النبي وهل ينخدع بالفال إلا قلوب الأطفال وإن أمرأ جهل حال قومه وما الذي يجري عليه في يومه كيف يعرف حال الغد وبعده ونحس الفلك وسعده وإن قوما يأكلون من قرصة الشمس لمهزولون وإنهم عن السمع لمعزولون ما السموات إلا مجاهل والكواكب ضواها وما النجوم إلا هياكل سبعة ومن الله قواها كل يسري لأمر معمى ( وكل يجري لأجل مسمى )
وقوله الحرص يسبل على وجوه الظلمة براقعا والظلم يدع الديار بلاقعا يرضون طيب الحياة وينسون يوم النشور ويفتكون فتك البزاة ويؤملون عمر النسور فلا تغرنك من الظلمة كثرة الجيوش والأنصار ( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) وقوله اغتنم فودك الفاحم قبل أن يبيض فإنما الدنيا جدار يريد أن ينقض فلا يغرنك قطفها النضيج هو ( غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج ) وقوله في آخر مقالة من الأطباق تلك أمة قد خلت ذكروا الله في الخلوات ( فخلف من بعدهم خلف

( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) وقوله أصدق الأرواح روحان ممتزجان وأخلص القلوب قلبان يزدوجان يتصاحبون ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) واخرون ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) وقوله لله دره فيا هذا لا تحسد المتنعم على ترفه ولا تغبط المتكبر على شرفه وقل له إذا برزت الجحيم وقدم له الحميم ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) وقوله أليس من الخسران جزار يأكل الميت ومكي لا يزور البيت فلا تكن كالجمل الطليح يحمل لغيره أسفارا ولأنك ( كالحمار يحمل أسفارا )
قلت هذا القدر الذي أوردته هنا كاف في الاقتباسات التي تليق بمواعظ الخطب فيتعلم بليغ الخطباء منها سلوك الأدب ولم يبق إلا إظهار نور الاقتباس من مشكاة نور المترسلين فإنهم ملوك هذا الشأن ومن استضاء بسحر اقتباسهم قال إن هذا إلا سحر مبين ومن ذلك قول مالك أزمة هذا الفن القاضي الفاضل من تقريظ ورأيت كل معتاض غيره لصناعة البديع لاهجا بالبدعه خارجا عن الشرعه دارجا في غير عشه مخرجا ميت القول من طرسه على نعشه فهي المدام وما دون فهم عنها قدام ووفود بلاغة لو وجهت إلى الجنة لقال رضوانها ( ادخلوها بسلام ) وكل ابنة فكر ما طالعت فكره إلا صاح لسان طربه ( يا بشرى هذا غلام ) وكل غصن ألف وكل همزة حمام وفيها وفيها وأخاف أن أقول ولا أوفيها وليت هذه المحاسن وليت الأسماع وألقت القناع وفي العمر مستمتع وفي قوس الشبيبة منزع ولكن ضاق فتر عن مسير وجاء فضلها الأول في الزمن الأخير وقد حان أن تخيب في البلاغة القدحان وأنى وإنه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان )
وقوله لا زالت الملوك تنزل لركوبه والسيوف تضحك لقطوبه وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهره وكتب له في الدنيا حسنة وفي الآخرة وغض عيون أعدائه فإذا هم

بالساهرة
وقوله وقف الخادم على الكتاب فارتقى إلى سماء المكرمات وكانت سطوره درجا وأضاءت في خاطره فما استمدت مدادا ولكن أذكت سرجا ونهجت له طريق السعادة فلله من كتاب لولا الغلو لقلنا من كتاب ( لم يجعل له عوجا ) وقوله ورد على الخادم الكتاب الكريم فشكره وقربه نجيا ورفعه مكانا عليا وأعاد عليه عصر الشباب وقد بلغ من الكبر عتيا وقوله كتبها الخادم وقد أخرجت السماء أثقالها وفتحت من العز إلي أقفالها وركضت الرعود لابسة من الغيم جلالها وثوب الليل بالغمام غسيل وسبج الظلام بسيف البروق قتيل وقد زادت السيول إلى أن صارت الخيام عليها فواقع وهمهم الرعد قارئا فاستقبلت قبابها بين ساجد وراكع وكأن الصباح قد ذاب في الليل قطرا وكأن البرق لما ساوى الغمام بين صدفي الليل والنهار قال آتوني أفرغ عليه قطرا وقوله ونفذت بلاغته بسلطانها ونفثت بسحر بيانها وصلى القلم من يده في محراب ومن طرسه على سجادة وجاء منه كتاب لو كان البحر مدادا لما زاده وكم كتاب لا يساوي مداده ( وأخذت الأرض زخرفها ) وحملت من الأسلحة أحرفها وشنت الغارة على السمع والبصر فسلم لها من سلم وبهت الذي كفر وقوله النوبة البغدادية الحديث فيها زائد وناقص والخبر عنها مشوب وخالص وابن أبي عصرون قوم يقولون قد وزر وقوم يقولون كلا لا وزر وقوله وقفت على تلك الألفاظ المجنسة التي هي ذرية بعضها من بعض وثمرات الجنة فكلما رزقت منها رزقا قلت كقول أهلها الحمد لله الذي أورثنا الأرض
وقوله ومما يجب أن يعانيه تربية الحمام التي سكنت في البروج فهي أنجم وأعدت كنانتها للحاجات فهي أسهم وقد كادت أن تكون من الملائكة فإذا نيطت بها الرقاع صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع وقوله وعملوا الأبرجة الخشبية وزحفوا بها إلى الأبراج الحجرية وخصوصا إلى برج يعرف بالذباب ولكن حماه ذباب السيف الإسلامي من الذباب فلم يقدروا أن يستنقذوه وضعفوا عنه فسلبهم أرواحهم ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه ) وقوله والإسلام مد إلى ترابه باعا طويلا وألقى عليه الشرك من ألسنة السيوف قولا ثقيلا وحصون العدو قامت قيامتها فحالها اليوم كيوم

تكون الجبال كثيبا مهيلا وقوله مما كتب به عن السلطان الملك الناصر إلى أمير المؤمنين المستضيء بالله وهو سلام قولا من رب رحيم ( وروح وريحان وجنة نعيم ) مملوك العتبان الشريفة وعبدها ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها ينهى أن الله سبحانه شرف ملة الإسلام على الملل ودولة أمير المؤمنين على الدول وقد أقام سيفه حساب الكفرة فأظهر تحريف حسابها ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها فهل ترى لهم من باقيه أو تسمع لهم من لاغيه وظلت أقحاف بني حام تحت غربان الفلاة غربانا وشوهدت ظلمات بعضها فوق بعض أفعالا وألوانا وعزت سيوف الإسلام فظلت أعناقهم لها خاضعين وعوتبت منهم الأنفس والرؤوس فقالتا أتينا طائعين
ومن اقتباسات القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة قوله من رسالته التي كتبها عن السلطان الملك الظاهر إلى شمس الدين آق سنقر الفارقاني جوابا عن كتابه الذي أرسله بفتوح النوبة لما توجه إليها من الديار المصرية وهو أدام الله نعمة المجلس ولا زالت عزائمه مرهوبه وغنائمه مجلوبة ومحبوبه وسطاه وخطاه هذي تكفي النوب وهذه تفتح أرض النوبه ولا برحت وطأته على الكفار مشتده وآمالها لهلاك الأعداء كرماحه ممتده ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي يرى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد وأتت على كل جبار عنيد وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء ( وما ربك بظلام للعبيد ) والله يشكر تفاصيل همم المجلس وجملها واخر غزواته وأولها وإذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو سالما إلى مستقره ( والشمس تجري لمستقر لها )
وقوله في وصية العهد الشريف الذي أنشأه للسلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل عن والده الملك المنصور قلاوون الصالحي رحمه الله وهو والشرع الشريف هو قانون الحق المتبع ومأمون الأمر المستمع به يتمسك من يمتار ويمتاز وهو جنة والباطل نار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز
ومن ذلك اقتباس العلامة أبي طاهر إسماعيل بن عبد الرزاق الأصفهاني في

رسالة القوس وهو صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
ومن ذلك ما أورده الشيخ جمال الدين بن نباتة من الاقتباسات البديعية في رسالة السيف والقلم فرقى الأنامل على أعواده وقام خطيبا بمحاسنه في خلعة سواده والتفت إلى السيف فقال ( بسم الله الرحمن الرحيم ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم وخط به ما قدر وقسم وصلى الله على سيدنا محمد القائل جف القلم بما هو كائن وعلى آله وصحبه ذوي المجد البين وكل مجد بائن صلاة واضحة السطور فاتحة أدراج الصدور ما نقلت عن صحائف البحار غواديها وكتبت أقلام النور على مهارق الرياض حكمه باريها
أما بعد فإن القلم منار الدين والدنيا وقصبة سباق ذوي الدرجة العليا ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيى وسفير الملك المحجب وعذيق الملك المرجب وزمام أموره السائره وقادمة أجنحته الطائرة وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والاخرة به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل وسنة نبيه التي تهذب الخواطر الخواطل فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة وحسبه ما جرى على يده الشريفة من منه إن نظمت فرائد العلوم فالقلم سلكها وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها هذا وهو الجاري بما أمر الله به من العدل والإحسان والمسود الناظر فكأنما هو لعين الرأي إنسان طالما قاتل على البعد والصوارم في القرب وأوتي من المعجزات نوعا من النصر والرعب لا يعاديه إلا من سفه نفسه ولبس لبسه وطبع على قلبه وفل الجدال من غربه وكيف يعادى من إذا كرع من نفسه فقل ( إنا أعطيناك الكوثر ) وإذا ذكر شانئه فقل ( إن شانئك هو الأبتر ) فعند ذلك نهض السيف عجلا وتلمظ لسانه للقول مرتجلا وقال ( بسم الله الرحمن الرحيم وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز )

الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وشيد بها مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف وصلى الله على سيدنا محمد هازم الألوف وعلى اله وأصحابه الذين طالما محوا بريق الصوارم من سطور الصفوف وسلم
أما بعد فإن السيف زند الحق القوي وزنده الوري به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء وجلا شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء وأجرى سيوله بالأباطح فأما الحق فمكث وأما الباطل فذهب جفاء وحملته اليد الشريفة النبوية وخصته على الأقلام بهذه المزيه وأطلعته في ليالي النقع والشك سراجا وهاجا وفتح باب الدين إلى أن دخلت فيه الناس أفواجا فهو ذو العزم الثاقب وسماء المجد الذي زينت آثاره بزينة الكواكب والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب تحسم به أدواء الفتن المضلة وتحذف هممه الجازمة حروف العلة ويحيى من سماء القتام بالضرب فقل يسألونك عن الأهله يجلس على رؤوس الأعداء قهرا ويصرع أبناء الشجاعة قائلا للقلم ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعضت الحرب الضروس بنابه وقذف شياطين القراع بشهبه ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه ومنها أن الله أنشأ برقه وكان للمارد مصرعا وللرائد مرتعا ( ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ) فقام القلم في دواته وقعد واضطرب على وجه القرطاس وارتعد وانحرف إلى السيف وقال أيها المضر بطبعه المغر بلمعه الناقض حبل الأنس بقطعه الناسخ بهجره من ظلال العيش فيأ السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر من نابك في هذه المكاشره فما يحسن بالصامت محاورة المفصح والله يعلم المفسد من المصلح أولست الذي قيل فيه
( شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم )
فدع عنك هذا الفخر المديد وتأمل قدري إذا كشف عنك الغطاء ( فبصرك اليوم حديد )

قلت ولولا خشية الإطالة لأوزدت هنا رسالة السيف والقلم بكمالها ولكن في هذا القدر من نور اقتباسه ما يهتدي به الأعشى ويستغني بإنشائه عن سلافة الإنشا
ومن غريب اقتباسات الشيخ جمال الدين أيضا ما كتب به مع منقد نحاس وهو قوله فيه طالما حمدت معاشرته ولذت في الليالي مسامرته وأطلع من أفقه نجوما سعيدة القران وتلا على الريح والثلج ( يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ) ومن ذلك بديع الاقتباس للشيخ زين الدين بن الوردي في خطبته في الكلام على المائة غلام وهو لعمري ما أنصفني من أساء بي الظن وقال إني رضيت مع درجة العلم بهذا الفن والصحابة كانوا ينظمون وينثرون ونعوذ بالله من قوم لا يشعرون ومن ذلك قوله في توقيع عدالة بعض الشهود بحلب المحروسة وهو الحمد لله الذي شاد رتبة العدالة وحماها وجعلها همة من شرفت نفسه فزكت ( وقد أفلح من زكاها ) وعصمة من فرقة في قلوب الحكام من نار تدليسهم وقود ( وهم على مايفعلون بالمؤمنين شهود ) ومن ذلك ما كتب به عنه وعن أخيه يوسف وإذا عني الصاحب بالأخ رفقا وإحسانا تلونا ( هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ) والله يعلينا بعلوك ويبلغنا مرجونا ببلوغ مرجوك حتى يقول أولاد الصاحب عنا ( ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) ومن ذلك ما كتب به بقية السلف الشيخ زين الدين أبو بكر العجمي على قصيدتي الكافية البرهانية تقريظا أشرفت أقطار الأدب بنور اقتباسه والاقتباس في التقريظ فيا له من قصيد رد عيون أعيان هذه الصناعة من الحياء مطرقه تالية على من قاسها بامرىء القيس ( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقه ) ومن ذلك ما كتب به الشيخ برهان الدين القيراطي إلى الشيخ جمال الدين بن نباتة يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها وعمر الله بمعاني الحسن أبياتها
منها فلا غرو أن فصح بديع الزمان بلفظه البديع وأزهرت الأوراق بمنثور رسائله التي كل فصل منها ربيع وخجلت صفحة الخد المنمنمة بطراز العذار المرقوم وقالت الكؤوس حين شبهت في إمالة الأعطاف بألفاظه وما منا إلا له مقام معلوم ومنها

فسبحان من أسرى بها في ليل نقسها إلى المحل الأقصى وحباها بالفضل الذي لا يحصى وأنبت دوحتها في رياض الفصاحه ونمق حدائقها التي لو فتح النرجس عينه في عينها لنسب إلى الوقاحة فتبارك الذي جعل في سماء دوحته لشمس بلاغته بروجا واعلى هممه التي لا ترضى الشهب جيادا والأهلة سروجا حتى أقام يراع قلمه لسوق الأدب قصبه وشاد من قصائده كل بيت إذا مر الحاسد ببابه قبل العتبه وسارت كالسبعة السيارة مصنفاته وعلت من قصره المشيد بسينات سطوره شرفاته وفديت بالمباسم والقدود ميماته وألفاته وزهت أمداحه المؤيدية فأصبت بيوته المرفوعة ذت العماد وراقت محاسنها التي لم يخلق مثلها في البلاد وفضحت لسهلها الممتنع أدباء العصر الذين جابوا الصخر بالواد ومنها طالما سرح الناظر في بستانها منظره ورام ابن سكرة فتح الأبواب لمعارضة قطرها النباتي فوجدها مسكره وعلم المتنبي أن هذا خاتم الأدباء لا محاله والمترسل الذي نهض دونه بأعباء كل رساله وأقام بتقديمها على غيرها براهين الاحتجاج وقال الملحي عندما قابل بحرها الحلو ببحره ( هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج )
ومن ذلك ما نقلته من خط الصاحب فخر الدين بن مكانس تغمده الله برحمته وهو ورد علينا شخص من أهل القيروان ضرير يسمى عبد الله الزغبي يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي عن المعاني فتردد إلي في مجالس متفرقة ثم بلغني أنه وشى إلى صاحبنا الشيخ زين الدين بن أبي بكر العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف أني اهتضمت جانبه وانتقصته وغضيت منه بالنسبة إلى الأدب وأنه يستعين بكلام الغير كثيرا فتأذى من ذلك وتأذيت من كذب الناقل فكتبت ( ليس على الأعمى حرج ) بلغني بلغ الله سيدنا ومولانا الإمام العالم العلامة الأديب الشاعر الناظم الناثر المحقق الأمة الكاتب الحجة زين الدنيا والدين قرة عين الكرام الكاتبين أقصى ما ينتهي إليه تنافس المتنافس وتبتهج به صدور الأولياء والرؤساء والمجالس ولا زال زينة يحلى به العاطل ويظل تحت جناح أدبه القائل من غيبة ذلك الضرير ما لا خشي الله فيه بظهر الغيب ونقل إلى المسامع الكريمة ما لا يحتاج للاعتذار عنه لما فيه من الريب ولكن لا غناء لسيف ذهن المملوك الكليل من التنصل ولا بد من نهلة اعتذار على سبيل التعلل وكان المملوك يترقب سببا للمطارحة فهذا المغتاب الآن صار عنده محمودا إذ كان السبب لحسن التوسل إلى صناعة الترسل ومنها فلو اختلف الأدباء على إمام لأهل هذه

الصناعة مطهر من الأرجاس لقال لهم لسان البلاغة مروا أبا بكر فليصل بالناس فكيف يسوغ للمملوك أن يدعي غير هذا وكيف ولم ولماذا أحسدا على الأدب فما أهجرني له من عصر الصبا بحمد الله وما أغناني أو تفاخرا بالنظم فما أشغلني عنه بتدبير الممالك بما عناني نعم وإن كان جوهر الألفاظ مما يحسد عليه فما أزهدني والله في هذا العرض الفاني ومنها والمسؤول من احسانه أمران الجواب فإنه يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة والآخر رد كل فاسق عن الباب العالي فإن أبا بكر أول من تصلب في الرده وبلغ المملوك أن هذا الضرير قصد بعض الأصحاب برمية كهذه فأصمى وتردد إليه مرة أخرى ( فعبس وتولى أن جاءه الأعمى )
ومن ذلك ما كتبت به إلى المقر الصاحبي الفخر المشار إليه بعد توجهي من خدمته إلى دمشق المحروسة ومشاهدتي ما قدر الله عليها من الحريق والحصار من قبل الملك الظاهر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وهذه الرسالة التي سارت بها الركبان وجاء لبديع الاقتباس في معانيها بيان وهي يقبل الأرض التي من يممها أو تيمم ترابها حصل له الفخر والمجد فلا برح هيام الوفود إلى أبوابها أكثر من هيمان العرب إلى ربا نجد ولا زالت فحول الشعراء تطلق أعنة ألفاظها وتركض في ذلك المضمار وتهيم بواديها الذي يجب أن ترفع فيه على أعمدة المدائح بيوت الأشعار وينهى بعد أشواق أمست العين بها في مجاري العين معثره ولو لم يقر إنسانها بمرسلات الدمع لقلت في حقه ( قتل الإنسان ما أكفره ) وصول المملوك إلى دمشق المحروسة فيا ليته قبض قبل أن يكتب عليه ذلك الوصول ودخوله إليها والله لقد تمنى خروج الروح عند ذلك الدخول ومنها وتطرقت بعد ذلك إلى الحدادين ولقد نادتهم النار بلسانها من مكان بعيد ( اتوني زبر الحديد ) ولقد كان يوم حريقها يوما عبوسا قمطريرا ضج المسلمون فيه من الخيفة وقد رأوا سلاسلا وأغلالا وسعيرا يا مولاي لقد لبست دمشق في هذه المآتم السواد وطبخت قلوب أهلها وسلقوا من الأسنة بألسنة حداد ولقد نشفت عيونهم من الحريق واستنشقوا فلم ينشقوا رائحة الغادية وكم رؤي في ذلك اليوم وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حاميه وكم رجل تلا عند لهيب بيته ( تبت يدا أبي لهب ) وخرج هاربا وامرأته حمالة الحطب

ومنها ونظرت بعد ذلك إلى القلعة المحروسة وقد قامت قيامة حربها حتى قلنا ( أزفت الازفة ) وستروا بروجها من الطارق بتلك الستائر وهم يقولون ( ليس لها من دون الله كاشفه ) ومنها وتطاول إلى السور المشرف وقد فضل في علم الحرب وحفظ أبوابه المقفلات فما وقفنا على باب إلا وجدناه لم يترك خلفه لصاحب المفتاح تلخيصا لما أبداه من المشكلات فلا وابيك لو نظرته يوم الحرب وقد تصاعدت فيه أنفاس الرجال لقلت ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وإلى المحاصرين وقد جاؤوا فارسا وراجلا ليشهدوا القتال لقلت ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) وإلى كواكب الأسنة وقد انتثرت وإلى قبور الشهداء وهي من تحت أرجل الخيل قد بعثرت وإلى كر الفوارس وفرها لقلت ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ومنها وتصفحت بعد ذلك فاتحة باب النصر فعوذته بالإخلاص وزدت لله شكرا وحمدا وتأملت أهل الباب وهم يتلون لأهل البلد سورة الفتح وللمحاصرين ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ) وكم طلبوا فتحه ولم يجدوا لهم طاقة وضرب بينهم بسور له باب ( باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ) ومنها هذا وكم من مؤمن قوم خرج من دياره حذر الموت وهو يقول النجاة وطلب الفرار وكلما دعاه قوم لمساعدتهم على الحريق ناداهم وقد عدم الاصطبار ( يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ) ومنها فأعيذ ما بقي من السبعة بالسبع المثاني والقرآن العظيم فكم رأينا بها يعقوب حزن رأى سواد بيته فاصفر لونه ( وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ) ومنها وتوصلت إلى ظاهر كيسان فأنفقت كيس الصبر لما افتقرت من دنانير تلك الأزهار والدراهم رباها وكابرت إلى أطراف الباب الصغير فوجدت فاضل النار لم يغادر منها ( صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) ومنها هذا وكم خائف قبل اليوم آويناه بها إلى ربوة ذات قرار وكم كان بها مطرب طير خرج بعدما كان يطرب على عود وطار

وأضحت أوقات الربوة بعد ذلك العيش الخضل واليسر عسيرة ولقد كان أهلها ( في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة )
ومن ذلك ما أنشأته قديما في توقيع لمولانا قاضي القضاة علاء الدين عالم المسلمين أبي الحسن علي الحنبلي جمل الله الوجود بوجوده بنظر البيمارستان النوري بحماة المحروسة والذي أوردته في التوقيع من الاقتباسات البديعة قولي وصفت مشارب الصفاء بعد الكدر ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا )
وتلا من سعى لهم في ذلك وجزى بالخيرات إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ودار شراب العافية على أهل تلك الحضرة بالطاس والكاس وحصل لهم البرء من تلك البراني التي يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس وتمشت الصحة في مفاصل ضعفائه وقيل لهم جوزيتم بما صبرتم وامتدت مقاصيرهم ( وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم )
ومن ذلك ما اقتبسته في ديباجة عهد مولانا أمير المؤمنين المعتضد بالله زاده الله شرفا وتعظيما وهو الحمد لله الذي شد عضد هذه الأمة بمن أمسى به معتضدا وأسعفنا من البيت النبوي بخليفة ما برح شيخ الملوك في تقديم بيته الشريف مجتهدا وأقام العلم العباسي بعد أبي مسلم بأبي النصر فأكرم بحسن الختام وحسن الابتدا وتكرر حمده على سلطان مؤيد أتحف به العلماء الأعلام وظهر لجلالهم في أيامه الزاهرة بهجة فقال هذا زمان مشايخ الإسلام نحمده على حكمته التي اقتضت أن تكون الخلافة عمدة الأحكام يزول بها الالتباس وهو القائل تعالى ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس )
ومن ذلك ما اقتبسته في عهد مولانا السلطان الملك الظاهر ططر بقولي منه فإن البغاة لاحتجاب السلطنة عنه سدا أسسته على الطغيان فقيل لأهل البيعة قد فتح الله لأبي الفتح ( فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان )

ومن ذلك ما اقتبسته في مثال شريف مؤيدي كان جوابا لقرا يوسف وتبدى لعلمه الشريف ورود البشير بالقرب اليوسفي وقل حل بالأسماع قبل رؤيته تشنف وهبت نسمات قبوله فأطفأت ما في القلوب من التلهف وضاع نشرها اليوسفي فقال شوقنا اليعقوبي ( إني لأجد ريح يوسف ) وهذه ألفة خولتنا في نعم الله وزمام الأخوة منقاد إلينا وقد تعين على المقر أن يقول ( أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا )
واتفق لي في تقليد قاضي القضاة ولي الدين العراقي اقتباسات بديعية منها وكم قال هذا المنصب رب قد أضعفني اليتم وصار الباطل قويا فهب لي من لدنك وليا ومنها وأعاذنا الله من ولاية قوم يسمعون بينة الحق وإذا اجتمعوا على الرشوات تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
ومن ذلك ما كتبته على ديوان المقر البارعي الكاملي الأديبي العمادي إسماعيل ابن الصائغ الحلبي أحد أعيان كتاب الإنشاء الشريف الذي عارض به ديوان الصبابة للشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة رحمه الله وهو وقفت على هذا الكتاب الذي رفع عماد الأدب في هذا الجيل وشرعت في ذكر محاسنه فقال لسان القلم واذكر في الكتاب إسماعيل ومنه وأما ابن حجة فقد ندب إلى الوقفة على عرفات هذا الفضل المعروف والامتثال هنا واجب ولكن الكف صفر والطريق مخوف هذا وقد ذوت من حدائق فكري زهرة الشباب واختفى لساني كما قال ابن نباتة وأغلق عليه من شفتيه مصراعي باب وخمد جمر القريحة وجمد ذلك الذهن السيال ونأى عن خدمتي كافور الطروس وعنبر المداد وصواب المقال ولكن هبت علي نسمات الشبيبة من دوحة هذا المصنف الجليل فقلت وقد شبت نار القريحة وأملت علي هذا الوصف الجميل الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل
وهذا القدر الذي أوردته كاف هنا في الاقتباس من القران فإني أخشى باب الملالة ولكن عن لي أن أفرد كتابا وأسميه رفع الالتباس عن بديع الاقتباس وقد تقدم وتقرر أيضا أنه إن جاء في المنظوم فهو عقد وتضمين وإن كان في المنثور فهو اقتباس وقد أوسع بعض علماء هذا الفن المجال في ذلك فذكر أن الاقتباس يكون في مسائل الفقه وقال بعضهم إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه بل يكون في غيره من العلوم وعلى هذا التقدير تعين أن نورد هنا ما وقع من الاقتباس في الحديث

النبوي وبقية العلوم بحيث لا يخلو هذا الشرح الغريب من الغرائب فإن الظاهر من كلامهم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث فمما وقع من الحديث النبوي قول الصاحب بن عباد
( أقول وقد رأيت له سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا )
( وقد سحت غواديها بهطل ... حوالينا الصدود ولا علينا )
الصاحب اقتبس من قوله عليه الصلاة و السلام حين استسقى وحصل نزول مطر عظيم اللهم حوالينا ولا علينا
ومنه قول أبي الحسن علي بن المفرج المنجم لما احترقت دار الوجية بن صورة بمصر
( أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم )
( كذا كل مال أصله من نهاوش ... فعما قليل في نهابر يعدم )
( وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم )
اقتبس من قوله من أصاب مالا من نهاوش أهلكه الله في نهابر النهاوش بالنون المظالم والنهابر المهالك الواحد نهبور
ومنه قول شمس الدين محمد بن عبد الكريم الموصلي
( ومنكر قتل شهيد الهوى ... ووجهه ينبىء عن حاله )
( اللون لون الدم من خده ... والريح ريح المسك من خاله )
اقتبس من قوله في وصف دم الشهيد اللون لون الدم والريح ريح المسك
ومن اقتباسات الحديث في النثر قول الحريري في المقامات إنما الأعمال بالنيات وبها انعقاد العقود الدينيات ومنه قوله شاهت الوجوه وقبح اللكع ومن يرجوه اقتبس من قوله يوم حنين وقد رمى الكفار بكف من الحصى شاهت الوجوه

ويعجبني من المنظوم هنا قول الشيخ شهاب الدين أبي جعفر بن مالك الأندلسي الغرناطي
( لا تعاد الناس في أوطانهم ... قلما يرعى غريب في الوطن )
( وإذا ما شئت عيشا بينهم ... خالق الناس بخلق ذي حسن )
اقتبس من قوله لأبي ذر اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وهذا الحديث صحيح
ومن الاقتباس في مسائل الفقه في المنظوم قول بعضهم
( أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بلحظه قلب الكمي )
( ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأدر زكاة منظرك البهي )
( فقال أبو حنيفة لي إمام ... يرى أن لا زكاة على الصبي )
( وإن تك مالكي الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي )
( فلأنك طالبا مني زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي ) ومثله قول أبي العلاء أحمد بن سليمان المعري
( أيا جارة البيت الممنع جاره ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل )
( لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل ) ومما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله
( خذوا بدمي هذا الغزال فإنه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد )
( ولا تقتلوه إنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد ) ومنه قول القاضي عبد الوهاب المالكي
( يزرع وردا ناضرا ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع )
( فلم حرمتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع ) وله أيضا
( ونائمة قبلتها قتنبهت ... وقالت تعالوا فاطلبوا اللص بالحد )
( فقلت لها إني فديتك غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد )

ومنه قول أبي الطيب المتنبي
( بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه )
( قفي تغرمي الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه )
المعنى أن النظرة الأولى أتلفت مهجتي فلزم غرمها بنظرة ثانية لأنه من أتلف شيئفا حكم عليه بغرمه ولكن في التركيب قلق وعقادة
ومنه قول شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي رحمه الله تعالى
( طلبت زكاة الحسن منها فجاوبت ... إليك فهذا ليس تدركه مني )
( علي ديون للعيون فلا ترم ... زكاة فإن الدين يسقطها عني ) ومنه قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل
( يا سيدي إن جرى من مدمعي ودمي ... للعين والقلب مسفوح ومسفوك )
( لا تخش من قود يقتص منك به ... فالعين جارية والقلب مملوك ) ومن الاقتباسات في علم المنطق قول شمس الدين محمد بن العفيف التلمساني
( للمنطقيين أشتكي أبدا ... عين رقيب فليته هجعا )
( صادرها من أحبه فأبى ... أن نختلي ساعة ونجتمعا )
( كيف غدت دائما وما انفصلت ... مانعة الجمع والخلو معا )
وهذه الأبيات في غاية الحسن ولكن أورد بعضهم إيرادا وقال ظاهر كلامه التعجب من هذه القضية والمراد في مثل هذا أن يتعجب مما خرج عن القواعد وهذه القضية موجودة مستعملة وذلك قولهم العدد إما زوج وإما فرد فهذه القضية مانعة الجمع فإن الزوجية والفردية لا يجتمعان ومانعة الخلو فإن العدد لا يخلو من أحدهما فلا معنى للتعجب ومنه قول بعضهم
( مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متصله )
( تمنعنا الجمع والخلو معا ... وإنما ذاك حكم منفصله )

هذا تعجب مما يسوغ التعجب منه لأن منع الجمع لا يكون في المتصلة وإنما هو في حكم المنفصلة
وأما الاقتباس في علم الجدل فمنه قول شمس الدين بن العفيف
( وما بال برهان العذار مسلما ... ويلزمه دور وفيه تسلسل )
( وعندي أن الشمس بالصحو آذنت ... وسكري أراه من محياك يقبل )
وأما الاقتباس من علم النحو فقد اتسع مجالهم فيه حتى غلب على غالبهم التوجيه فمنه قول أبي الطيب
( حولي بكل مكان منهم حلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن )
أبو الطيب يقول إذا استفهمت عن مثل هؤلاء الأقوام لا تستفهم بمن لأن من لمن يعقل وهؤلاء عندي بمنزلة ما لا يعقل فحقهم أن يستفهم عنهم بما ومنه قوله
( إذا كان ما ينويه فعلا مضارعا ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم )
يقول إذا هم بفعل أوقعه قبل أن يمنع وينهى عنه ويقال له لا تفعل أو ينفى فيقال لم يفعل ومنه قول ابن عنين في معزول
( فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه ) ومنه قول ابن أبي الأصبع في ذلك
( أيا قمرا من حسن وجنته لنا ... وظل عذاريه الضحى والأصائل )
( جعلتك للتمييز نصبا لناظري ... فهلا رفعت الهجر فالهجر فاعل )
قلت ومن أغرب ما وقع في هذا الباب أن شرف الدين محمد بن عنين مرض فكتب إلى الملك المعظم هذين البيتين
( أنظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي )
( أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثنائي والدعاء الوافي )
فجاءه الملك المعظم يعوده ومعه ألف دينار وقال له أنت الذي وأنا العائد وهذه الصلة

ومنه قول البهاء زهير
( يا ألفا من قده أقبلت ... بالله كوني ألف الوصل ) ومنه قول الأمير أمين الدين علي السليماني
( أضيف الدجا معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر )
( وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر ) ومنه قول شمس الدين بن العفيف
( يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواه ثاني )
( لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان )
أما البيتان فإنهما في غاية اللطف ولكن أوردوا عليهما أيضا إيرادا حسنا وهو أن الساكنين إذا اجتمعا كسر أحدهما وهو الأول وكلامه في البيتين أن المكسور غير الاثنين ومنه قول ابن الوردي
( شاعر أخرج نصفا زغلا ... عند خباز فلما أن عرف )
( قال لم تصرف هذا قال مه ... يصرف الشاعر ما لا ينصرف )
قلت قد أتيت في معنى هذه النكتة بما هو أبدع من بيت زين الدين بن الوردي وما ذاك إلا أن مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف رحمه الله أحالني على شهاب الدين الذهبي بخمسين دينارا ومطل بها مدة فكتبت إليه
( قد منعتم صرف الدنانير عني ... ولكم في الورى هبات كثيره )
( وأنا شاعر وفي شرع نظمي ... صرفها جائز لأجل الضروره ) ويعجبني في هذا الباب إلى الغاية قول الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى
( وأغيد يسألني ... ما المبتدا والخبر )
( مثلهما لي مسرعا ... فقلت أنت القمر )
وحكي أنه كان بالعراق غلامان أحدهما اسمه عمر والآخر أحمد فعزل عمر عن عمله وولي أحمد مكانه بسبب ما وزنه فقال بعض الشعراء في ذلك

( أيا عمر استعد لغير هذا ... فأحمد في الولاية مطمئن )
( وكل منكما كفوء كريم ... ومنع الصرف فيه كما يظن )
( فيصدق فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن ) ومنه قول الفاضل
( لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب وفؤادي المرهون )
( فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلك التنوين ) ويعجبني في الاقتباس من علم العروض قول القائل
( وبقلبي من الجفاء مديد ... وبسيط ووافر وطويل )
( لم أكن عالما بذاك إلى أن ... قطع القلب بالفراق الخليل )
وهذا القدر كاف في الاقتباس من القرآن والحديث النبوي ومسائل الفقه والمنطق وعلم العربية والعروض وغيره وقد تقدم أن الاقتباس مقصور على القرآن والحديث في النثر وأما في النظم فهو عبارة عن عقد وتضمين
ونظام البديعيات لم يقتبسوا من غير القرآن وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورا على غنمي ) وبيت العميان
( ذو مرة فاستوى حتى دنا فرأى ... وقيل سل تعط قد خيرت فاحتكم ) وبيت الشيخ عز الدين
( فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... ولا اقتباس يرى من هذه الأطم ) وبيت بديعيتي قولي
( وقلت يا ليت قومي يعلمون بما ... قد نلت كي يلحظوني باقتباسهم )

ذكر السهولة
( يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم )
السهولة ذكرها التيفاشي مضافة إلى باب الظرافة وشركها قوم بالانسجام وذكرها ابن سنان الخفاجي في كتاب سر الفصاحة فقال في مجمل كلامه هو خلوص اللفظ من التكلف والتعقيد والتعسف في السبك
وقال التيفاشي السهولة أن يأتي الشاعر بألفاظ سهلة تتميز على ما سواها عند من له أدنى ذوق من أهل الأدب وهى تدل على رقة الحاشية وحسن الطبع وسلامة الروية ومن ألطف الأمثلة عليها قول الشاعر
( أليس وعدتني يا قلب أني ... إذا ما تبت عن ليلى تتوب )
( فها أنا تائب عن حب ليلى ... فما لك كلما ذكرت تذوب ) ومنه قول أبي العتاهية
( الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها )
( فلم تكن تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ) ومذهبي أن البهاء زهير قائد عنان هذا النوع وفارس ميدانه فمن ذلك قوله
( ومدام من رضاب ... بحباب من ثنايا )
( كان ما كان ومنه ... بعد في النفس بقايا ) مثله قوله
( إن أمري لعجيب ... ما يرى أعجب منه )
( كل أرض لي فيها ... غائب أسأل عنه )

ومثله قوله
( شوقي إليك شديد ... كما علمت وأزيد )
( وكيف تنكر شيئا ... به ضميرك يشهد ) ومثله قوله
( أوحشتني والله يا مالكي ... قطعت يومي كله لم أرك )
( هذا جفاء منك ما اعتدته ... فليتني أعرف من غيرك ) ومثله قوله
( سيدي قلبي عندك ... سيدي أوحشت عبدك )
( أترى تذكر عهدي ... مثل ما أذكر عهدك )
( أترى تحفظ ودي ... مثل ما أحفظ ودك )
( قم بنا إن شئت عندي ... مسرعا أو شئت عندك )
( أنا في داري وحدي ... فتفضل أنت وحدك ) ومنه قوله
( هذا كتاب محب ... قد زاد فيك غرامه )
( أضناه فرط اشتياق ... فرق حتى كلامه )
( أما ترى كيف أضحى ... مثل النسيم سلامه ) ومنه قوله
( كلمني والمدام في فمه ... قد نفحت من حباب مبسمه )
( وماس كالغصن في تمايله ... سكران يشتط في تحكمه )
( بالله يا برق هل تحدثه ... عن نار وجدي وعن تضرمه )
( وهل نسيم سرى يبلغه ... رسالة من فمي إلى فمه )
( عجبت من بخله علي وما ... يذكره الناس من تكرمه )
( هم علموه فصار يهجرني ... رب خذ الحق من معلمه ) وقال ويكاد يسيل رقة وسهولة
( كتبت إليك أشكو في كتابي ... أمورا من فراقك أشتكيها )
( وفي سوق الهوان عرضت نفسي ... رخيصا لم أجد من يشتريها )
( فهل وعد إلى سنة فإن لم ... يكن فيها يكن فيما يليها )
( وقد أنهيت من شوقي فصولا ... لمولانا علو الرأي فيها ) ومثله في الرقة والسهولة قوله
( ملكتموني رخيصا ... فانحط قدري لديكم )

( فاغلق الله بابا ... دخلت منه إليكم )
( حتى ولا كيف أنتم ... ولا السلام عليكم ) وألطف منه قوله
( أنا أدري بأنني ... قل قسمي لديكم )
( فإلى كم تطلعي ... والتفاتي إليكم )
( كان ما كان بيننا ... وسلام عليكم ) وألطف منه قوله
( أما تقرر انا ... فلم تأخرت عنا )
( وما الذي كان حتى ... حللت ما قد عقدنا )
( ولم يكن لك عذر ... ولو يكون علمنا )
( فلا تلمنا فإنا ... قلنا وقلنا وقلنا ) ومنه قوله
( قال ما ترجع عني قلت لا ... قال ما تطلب مني قلت شي )
( فانثنى يحمر مني خجلا ... وثناه التيه عني لا إلي )
( كدت بين الناس أن ألثمه ... اه لو أفعل ما كان علي ) ومنه قوله
( قالوا كبرت عن الصبا ... وقطعت تلك الناحيه )
( فدع الصبا لرجاله ... واخلع ثياب العاريه )
( ونعم كبرت وإنما ... تلك الشمائل باقيه )
( ويميلني نحو الصبا ... قلب رقيق الحاشيه )
( فيه من الطرب القديم ... بقية في الزاويه ) وقال وزنا وقافية وسال برقته
( من لي بقلب أشتريه ... من القلوب القاسيه )
( وإليك يا ملك الملاح ... وقفت أشكو حاليه )
( إني لأطلب حاجة ... ليست عليك بخافيه )
( أنعم علي بقبلة ... هبة وإلا عاريه )

( وأعيدها لك لا عدمت ... بعينها وكما هيه )
( وإذا أردت زيادة ... خذها ونفسي راضيه ) ومنه قوله
( إن شكا القلب هجركم ... مهد الحب عذركم )
( لو أمرتم بما عسى ... ما تعديت أمركم )
( قصروا عمر ذا الجفا ... طول الله عمركم )
( شرفوني بزورة ... شرف الله قدركم )
( كنت أرجو بأنكم ... شهركم لي ودهركم )
( قد نسيتم وإنما ... أنا لم أنس ذكركم )
( لو رأيتم محلكم ... من فؤادي لسركم )
( لو وصلتم محبكم ... ما الذي كان ضركم ) ومن المرقص في هذا الباب قوله
( تعيش أنت وتبقى ... أنا الذي مت عشقا )
( حاشاك يا نور عيني ... تلقى الذي أنا ألقى )
( ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا )
( يا أنعم الناس بالا ... إلى متى فيك أشقى ) ( سمعت عنك حديثا ... يا رب لا كان صدقا )
( وما عهدتك إلا ... من أكرم الناس خلقا ) ( لك الحياة فإني ... أموت لا شك حقا )
( يا ألف مولاي مهلا ... يا ألف مولاي رفقا )
( قد كان ما كان مني ... والله خير وأبقى ) وبيت الشيخ صفي الدين في السهولة قوله
( وقلت هذا قبول جاءني سلفا ... ما ناله أحد قبلي من الأمم )
والعميان ما نظموا هذ النوع في بديعيتهم ولا وجدته في بديعية الشيخ عز الدين الموصلي إلا أن يكون في نسخة غير التي نقلت منها وعلى كل تقدير فالشيخ عز الدين قدم العقادة في بيته على السهولة وبيت بديعيتي
( يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم )

ذكر حسن البيان
( حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم )
حسن البيان قالوا هو عبارة عن الإبانة عما في النفس بعبارة بليغة بعيدة عن اللبس إذ المراد منه إخراج المعنى إلى الصورة الواضحة وإيصاله إلى فهم المخاطب بأسهل الطرق وقد تكون العبارة عنه تارة من طريق الإيجاز وطورا من طريق الإطناب بحسب ما يقتضيه الحال وهذا بعينه هو البلاغة وحقيقتها وفي البيان الأقبح والأوسط والأحسن فالأقبح كبيان باقل وقد سئل عن ثمن ظبي في يده فأراد أن يقول أحد عشر فأدركه العي حتى فرق أصابعه وأدلع لسانه فأفلت الظبي ومن هنا يعلم أنه ليس كل ايجاز بلاغة ولا كل إطالة عيا فإنه لا إيجاز في الأفهام أوجز من بيان باقل لأن المخاطب فهم عنه بمجرد نظرة واحدة وقد ضرب به المثل بالعي في بيانه وكان الأحسن أن يقول أحد عشر والأوسط أن يقول ستة وخمسة أو عشرة وواحد
والنور المبين في هذا الباب بيان القرآن الكريم كقوله تعالى وقد أراد أن يحذر من الاغترار بالنعم ( كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين ) وكقوله سبحانه وتعالى وقد أراد أن يبين عن الوعد ( إن المتقين في مقام أمين ) وكقوله سبحانه وقد أراد أن يبين عن الوعيد ( إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين ) وكقوله تعالى في الاحتجاج القاطع للخصم ( وضرب لنا مثلا ونسي

خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) وكقوله تعالى وقد أراد أن يبين عن العدل ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) وأمثال هذا الباب كثيرة لمن يتتبعها في القرآن
ومما جاء من ذلك في الشعر قول أبي العتاهية
( يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكرا ) وكقول الآخر
( له لحظات في خفايا سريرة ... إذا كرها فيها عتاب ونائل )
فإن هذين الشاعرين أرادا مدح هذين الممدوحين بالخلافة ووصفهما بالقدرة المطلقة وعظم المهابة بعد الله سبحانه وتعالى فإذا نظر أحدهما نظرة أو حرك القضيب مرة أو أطرق مفكرا اضطرب الخوف والرجاء في قلوب الناس فأبانا عن هذه المعاني بأحسن إبانة
وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله تعالى
( وعدتني في منامي ما وثقت به ... مع التقاضي بمدح فيك منتظم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( حسن البيان بحمد الله بين لي ... هدي النبي الرضي الواضح اللقم ) وبيت بديعيتي قلت قبله في السهولة
( يا رب سهل طريقي في زيارته ... من قبل أن تعتريني شدة الهرم ) وقلت بعده في حسن البيان
( حتى يبث بديعي في محاسنه ... حسن البيان وأشدو في حجازهم )

ذكر الإدماج
( قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم )
هذا النوع أعني الإدماج هو أن يدمج المتكلم غرضا له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني ليوهم السامع أنه لم يقصده وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصده كقول عبد الله بن عبيد الله لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتمد وكان ابن عبيد الله قد اختلت حاله فكتب لابن سليمان
( أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا في من نحب ونكرم )
( فقلت له نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم )
فأدمج شكوى الزمان وشرح ما هو عليه من الاختلال في ضمن التهنئة وتلطف في التلويح ورقق التخيل لبلوغ الغرض مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال لا جرم أن ابن سليمان فطن لذلك ووصله واستعمله
ومن لطيف الإدماج قول ابن نباتة السعدي
( ولا بد لي من جهلة في وصاله ... فهل من حليم أودع الحلم عنده )
ابن نباتة أدمج الفخر في الغزل فإنه جعل حلمه لا يفارقه البتة ولا يرغب عنه بنفسه جملة وإنما عزم على أن يودعه إذ كان لا بد له من وصل هذا المحبوب لأن الودائع تستعاد ثم استفهم عن الخل الصالح الذي يصلح لهذه الوداعة استفهاما إنكاريا

فيكون مفهوم الخطاب بقيا حلمه لعدم من يصلح للوداعة ثم ادمج في ضمن الفخر الذي أدمجه في الغزل شكوى الزمان لقلة الأخوان بحيث أنه لم يبق منهم من يصلح لهذا الشان ومنه قول ابن المعتز في وصف الخيري
( قد نقض العاشقون ما صنع الدهر ... بألوانهم على ورقه )
قصد وصف الخيري بالصفرة وأدمج فيه وصف ألوان العشاق
وبيت الحلي في الإدماج قوله
( لصدق قولك لو حب امرؤ حجرا ... لكان في الحشر عن مثواه لم يرم )
هذا البيت فيه إدماج سؤاله حسن المحشر في زمرة النبي في طي تصديقه الحديث المأثور عنه وبيت العميان
( لهم أحاديث مجد كالرياض إذا ... أهدت نواسم أحيت دارس السلم )
قال الشيخ أبو جعفر الشارح إن الناظم جعل لهم أولا أحاديث مجد طيبة وأدمج في ذلك وصف الرياض وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( أدمجت شكواي من ذنبي بمدحته ... عساك تشفع لي يا شافع الأمم )
الشيخ عز الدين ذكر أنه أدمج الشكوى من ذنبه لكل نوع الإدماج البديعي لا أعلم أين أدمجه والله أعلم وبيت بديعيتي
( قد عز إدماج شوقي والدموع لها ... على بهار خدودي صبغة العنم )
هذا البيت أبدع من بيت ابن المعتز وفيه زيادة وإدماج اخر فإن ابن المعتز غاية قصده وصف الخيري بالصفرة وأدمج فيه ألوان العشاق وأنا قصدت شرح الحال في غرة إدماج الشوق بواسطة جريان الدمع وأدمجت في ذلك صفرة اللون وحمرة الدموع هذا ومحاسن التورية بتسمية النوع غير خافية على أهل الإنصاف من حذاق الأدب والله أعلم

ذكر الإحتراس
( فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم )
الاحتراس هو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل فيفطن له فيأتي بما يخلصه من ذلك ومثاله في كتاب الله عز و جل ( أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) فاحترس بقوله سبحانه وتعالى من غير سوء عن إمكان أن تدخل في البرص والبهق وغير ذلك ومثال ذلك في الشعر قول طرفة
( فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي )
فقوله غير مفسدها احتراس من مقابله وهو محو معالمها والفرق بين الاحتراس والتتميم والتكميل أن المعنى قبل التكميل صحيح تام ثم يأتي التكميل بزيادة تكمل حسنه إما بفن زائد أو معنى والتتميم يأتي لتتميم نقص المعنى ونقص الوزن معا والاحتراس إنما هو لدخل يتطرق إلى المعنى وإن كان تاما كاملا ووزن الشعر صحيحا وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( فوفني غير مأمور وعودك لي ... فليس رؤياك أضغاثا من الحلم )
احتراس الشيخ صفي الدين في قوله غير مأمور فإن لفظة وفني في البيت فعل أمر ومرتبة الآمر فوق مرتبة المأمور فاحترس بقوله غير مأمور

والعميان ما نظموا هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين
( حبي له يتمشى في المفاصل قل ... بالاحتراس تمشى البرء في السقم )
قلت الشيخ صفي الدين احترس في بيته بقوله غير مأمور واحتراس الشيخ عز الدين عجزت عن تحقيقه بل عن تحقيق معناه فإن هذا البيت مأخوذ من قول أبي نواس في وصف الخمرة
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم ) وبيت بديعيتي
( فإن أقف غير مطرود بحجرته ... لم أحترس بعدها من كيد مختصم )
فقولي غير مطرود هو الاحتراس الذي يليق بمقام المادح بالنسبة إلى مقام النبي والتورية باسم النوع في قولي لم أحترس بعدها محاسنها توري والتكميل بقولي من كيد مختصم هو الذي زاد محاسنها بهجة وكمالا

ذكر براعة الطلب
( وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم )
هذا النوع من مستخرجات الشيخ عز الدين الزنجاني في كتاب المعيار وهو أن يلوح الطالب بالطلب بألفاظ عذبة مهذبة منقحة مقترنة بتعظيم الممدوح خالية من الإلحاف والتصريح بل يشعر بما في النفس دون كشفه كقول أبي الطيب المتنبي
( وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب )
والفرق بين براعة الطلب وبين الإدماج أن الإدماج أن يقدر معنى من المعاني ثم يدمج غرضه ضمنه ويوهم أنه لم يقصده وهذا مقصور على الطلب فقط وهو أيضا فرق بينه وبين الكناية وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( وقد علمت بما في النفس من أرب ... وأنت أكرم من ذكري له بفمي ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله قوله
( براعة بان فيها منتهى طلبي ... وأنت أكرم من نطق بلا ولم ) وبيت بديعيتي
( وفي براعة ما أرجوه من طلب ... إن لم أصرح فلم أحتج إلى الكلم )

ذكر العقد
( قد صح عقد بياني في مناقبه ... وإن منه لسحرا غير سحرهم )
العقد ضد الحل لأن العقد نظم المنثور والحل نثر المنظوم ومن شرائط العقد أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه فيزيد الناظم فيه وينقص ليدخل في وزن الشعر ومتى أخذ بعض معنى المنثور دون لفظه كان ذلك نوعا من أنواع السرقات ولا يسمى عقدا إلا إذا أخذ الناظم المنثور برمته وإن غير منه طريقا من الطرق التي قدمناها كان المتبقي منه أكثر من المغير بحيث يعرف من البقية صورة الجميع كما فعل أبو تمام في كلام عزى به الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الأشعث بن قيس في ولده وهو إن صبرت صبر الأحرار وإلا سلوت سلو البهائم فعقده أبو تمام شعرا فقال
( وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم )
( أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم ) وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( ما شب من خصلتي حرصي ومن أملي ... سوى مديحك في شيبي وفي هرمي )
المقصود في هذا البيت من العقد قول النبي يشيب ابن آدم ويشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله

( عقد اليقين صلاتي والسلام على ... محمد دائما مني بلا سأم )
قلت أما الشيخ صفي الدين فإني لم أصادف في بيته من عقد الحديث النبوي محلا ولكن ذكر فيه حكاية حاله وأما الشيخ عز الدين غفر الله له فإنه ذكر في شرحه أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وفي حديث آخر قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم وفي الحديث أكثروا من الصلاة علي
ومنه قوله تعالى ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) وذكر أنه عقد الآية والحديث ولم يظهر لي حل هذا العقد في أي موضع هو من البيت وبيت بديعيتي
( قد صح عقد بباني في مناقبه ... وإن منه لسحرا غير سحرهم ) العقد هنا قوله إن من البيان لسحرا والله أعلم

ذكر المساواة
( تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم )
هذا النوع أعني المساواة مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه بأن قال هو أن يكون اللفظ مساويا للمعنى بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه وهذا من البلاغة التي وصف بها بعض الوصاف بعض البلغاء فقال كأن ألفاظه قوالب لمعانيه ومعظم آيات الكتاب العزيز كذلك
واعلم أن البلاغة قسمان إيجاز وإطناب والمساواة معتبرة في القسمين معا فأما الإيجاز فكقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) والإطناب في هذا المعنى كقوله تعالى ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ) وقال سبحانه وتعالى في قسم الإيجاز من غير هذا المعنى ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وقال عز من قائل في الإطناب ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) الاية
ولا بد من الإتيان بهذا الفصل لئلا يتوهم المتأمل أن الإطناب لا يوصف بالمساواة ومن الشواهد على المساواة قول امرىء القيس
( فإن تكتموا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد )
( وإن تقتلونا نقتلكم ... وإن تقصدوا الذم لا نقصد )

وقول زهير
( ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم ) وقول طرفة
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( وقد مدحت بما تم البديع به ... مع حسن مفتتح منه ومختتم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( خطت مساواة معناه وصورته ... في الحسن شاهده في نون والقلم ) وبيت بديعيتي في المساواة قولي
( تمت مساواة أنواع البديع به ... لكن يزيد على ما في بديعهم )

ذكر حسن الختام
( حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي )
هذا النوع ذكر ابن أبي الأصبع أنه من مستخرجاته وهو موجود في كتب غيره بغير هذا الاسم فإن التيفاشي سماه حسن المقطع وسماه ابن أبي الأصبع حسن الخاتمة وهذا النوع الذي يجب على الناظم والناثر أن يجعلاه خاتمة لكلامهما مع أنهما لا بد أن يحسنا فيه غاية الإحسان فإنه آخر ما يبقى في الأسماع وربما حفظ من دون سائر الكلام في غالب الأحوال فلا يحسن السكوت على غيره
وغاية الغايات في ذلك مقاطع الكتاب العزيز في خواتم السور الكريمة فمن المعجز في ذلك قوله تعالى ( إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) أنظر أيها المتدبر هذه البلاغة المعجزة فإن السورة الكريمة بدئت بأهوال يوم القيامة وختمت بقوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ومثله قوله تعالى في سورة عبس ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) ومن ذلك قوله تعالى ( وترى

الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين )
ومن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو المقدم في فنون البلاغة على بلغاء البدو والحضر في ختام جواب كتاب كتب به إلى معاوية ثم ذكرت أن ليس لي ولأصحابي عندك إلا السيف فلقد أضحكت بعد استعبار وإني مرقل إليك بجحفل من المهاجرين والأنصار وقد صحبتهم ذرية بدرية وسيوف هاشمية عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وما هي من الظالمين ببعيد
وأجمعوا بعد ذلك على أن فواصل المقامات يقوم غالبها مقام المثل السائر وحسن خواتمها تعقد عليه الخناصر وقد عن لي أن أورد هنا مقامة كاملة فإذا نظر المتأمل إلى براعة استهلالها وفهم القصد الذي جنح إليه الحريري عرف مقدار حسن الختام الذي تمت به الفائدة وحسن السكوت عليه وقد اخترت المقامة الثالثة عشرة وهي الزورائية لأنه ثبت عن القاضي الفاضل أنه شرع في معارضة المقامات وعارض منها كل فصل بفصل أحسن به إلى أن وصل إلى فصل هذه المقامة الذي سيأتي وأنبه عليه في موضعه
والمقامة الموعود بإيرادها هو قوله حكى الحرث بن همام قال ندوت بضواحي الزوراء مع مشيخة من الشعراء لا يعلق لهم مبار بغبار ولا يجري معهم ممار في مضمار فأفضنا في حديث يفضح الأزهار إلى أن نصفنا النهار فلما غاض در الأفكار وصبت النفوس إلى الأوكار لمحنا عجوزا تقبل من البعد وتحضر إحضار الجرد وقد استتلت صبية أنحف من المغازل وأضعف من الجوازل فما كذبت إذ رأتنا أن عرتنا حتى إذا ما حضرتنا قالت حيا الله المعارف وإن لم يكن معارف اعلموا يا مال الامل وثمال الأرامل أني من سروات القبائل وسريات العقائل
والفصل الذي عجز الفاضل عنه هو لم يزل أهلي وبعلي يحلون الصدر ويسيرون القلب ويمطون الظهر ويولون اليد فلما أردى الدهر الأعضاد وفجع

بالجوارح الأكباد وانقلب ظهرا لبطن نبا الناظر وجفا الحاجب وذهبت العين ونفدت الراحة وصلد الزند ووهت اليمين وبانت المرافق ولم يبق لنا ثنية ولا ناب
قلت وهذا الفصل الذي أحجم القاضي عن معارضته قلت في معناه وكتبت إلى سيدنا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي نور الله ضريحه رسالة مجسده مشتملة على ذلك جيده راعيت فيها النظير لأجل الصدر من الرأس إلى القدم ولم أخرج فيها عن حسن الختام الذي ما ختمت رسالة بنظيره والتزمت فيها السجع الذي فر الحريري منه في فصله وقد عن لي أن أثبت الرسالة هنا بكمالها وأرجع إلى ما كنا فيه من حسن الختام في المقامة الحريرية والرسالة هي
( يقبل أرضا بالعلا قد تجسدت ... بأرواح أهل العلم روضة مشتهى )
( وهبت بأنفاس العلوم قبولها ... ولا زال صدر الدين منشرحا بها )
وينهى أن الصدر رأس العلوم وكم له من فرق دق على الأفهام وهو كالغرة في جباه الأيام لا زال المجد له حاجيا مقرونا بسعده الشامل ولا برح بعلمه عينا لوجوه المسائل فلله أهداب معانيه التي هي أسحر من عيون الغزلان وأمضى من السيوف إذا برزت من الأجفان وأصداغ فضائله التي هي عاطفة على وجنات الوجود لأنها كالعوارض الماطرة وكم أنست عند ذكره من سالفة وكم لها في قلوب الأعداء من خدود وندى جوده الذي إذا جاءه الشارب وجد عنده شفاه وحلاوة نظمه الذي أنسانا ذكر العذيب وثناياه وعنق مكارمه التي ألفت من البديع الالتفات وأوصافه التي غدت على خد الدهر شامات حتى تبدلت سيئاته حسنات كف عنا تعب الفقر بكرم راحته المتزايد من غير أن يقال له ساعد وشهدنا بأن أياديه بحر يفيض بصنائعه فأشار النيل إلى قبول هذه الشهادة بأصابعه فلله ندى يمينه الذي لم يزل المملوك به في بلاد الشام مكفى وكم فاض منه قلب النيل وجهد أن يوفيه بالباع والذراع فما وفي جبلت على محبته القلوب فصار حبه ظاهرا في كل باطن وحنت إليه الجوارح لما سارت مناقبه إلى كل جانب فحركت كل ساكن ورفع المملوك أدعيته التي هي إن شاء الله تعالى نعيم للبدن الكريم واعتدال اللطيف ذلك المزاج وأثنيته التي هي كالمناطق على خصور الحسان وبها لكل قلب ابتهاج ولكن تثاقلت عليه أرداف النوى وأسكنت في وسط لبه الجوى وقده الانقطاع بسيفه الذي زاد في حده ولكن جار في قده ولو حصر المملوك

ما ساق إليه البعد من الاشتياق إلى تقبيل الأقدام لم تسعه قائمه وهو يعد القلب بالصبر ولكن كما ذكر كعب عن مواعيد عرقوب فنسأل الله حسن الخاتمة
رجع إلى ما كنا فيه من تكملة المقامة الحريرية والتنبيه على حسن ختامها قال بعد الفصل المجسد الذي اخره ولم يبق لنا ثنية ولا ناب فمذ اغبر العيش الأخضر وازور المحبوب الأصفر اسود يومي الأبيض وابيض فودي الأسود حتى رثى لي العدو الأزرق فحبذا الموت الأحمر وتلوى من ترون عينه فراره وترجمانه اصفراره قصوى بغية أحدهم ثرده وقصارى أمنيته برده وكنت آليت أن لا أبذل الحر إلا للحر ولو أني مت من الضر وقد ناجتني القرونه بأن توجد عندكم المعونه وآذنتني فراسة الحوباء بأنكم ينابيع الحباء فنضر الله امرأ أبر قسمي وصدق توسمي ونظر إلي بعين يقذيها الجمود ويقذيها الجود قال الحرث بن همام فهمنا لبراعة عبارتها وملح استعارتها وقلنا لها قد فتن كلامك فكيف إلحامك فقالت يفجر الصخر ولا فخر فقلنا لها إن جعلتنا من رواتك لم نبخل بمواساتك فقالت لأرينكم أولا شعاري ثم لأورينكم أشعاري فأبرزت ردن درع دريس وبرزت برزة عجوز دردبيس وأنشأت تقول
( أشكو إلى الله اشتكاء المريض ... جور الزمان المعتدي البغيض )
( يا قوم إني من أناس غنوا ... دهرا وجفن الدهر عنهم غضيض )
( فخارهم ليس له دافع ... وصيتهم بين الورى مستفيض )
( كانوا إذا ما نجعة أعوزت ... في السنة الشهباء روضا أريض )
( تشب للسارين نيرانهم ... ويطعمون الضيف لحما غريض )
( ما بات جار لهم ساغبا ... ولا لروع قال حال الجريض )
( فغيضت منهم صروف الردى ... بحار جود لم أخلها تغيض )
( وأودعت منهم بطون الثرى ... أسد التحامي وأساة المريض )
( فمحملي بعد المطايا المطا ... وموطني بعد اليفاع الحضيض )
( وافرخي ما تأتلي تشتكي ... بؤسا له في كل يوم وميض )
( إذا دعا القانت في ليله ... مولاه نادوه بدمع يفيض )
( يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكسير المهيض )

( أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس اللؤم نقي رحيض )
( يطفىء نار الجوع عنا ولو ... بمذقة من جازر أو مخيض )
( فهل فتى يكشف ما نابهم ... ويغنم الشكر الطويل العريض )
( فوالذي تعنو النواصي له ... يوم وجوه الجمع سود وبيض )
( لولاهم لم تبد لي صفحة ... ولا تصديت لنظم القريض )
قال الراوي فوالله لقد صدعت بأبياتها أعشار القلوب واستخرجت خبايا الجيوب حتى ماحها من دينه الامتياح وارتاح لرفدها من لم تخله يرتاح فلما افعوعم جيبها تبرا وأولاها كل منا برا تولت يتلوها الأصاغر وفوها بالشكر فاغر فاشرأبت الجماعة بعد ممرها إلى سبرها لتبلو مواقع برها فكفلت لهم باستنباط السر المرموز ونهضت أقفو أثر العجوز حتى انتهت إلى سوق مغتصة بالأنام مختصة بالرخام فانغمست في الغمار وأملست من الصبية الأغمار ثم عاجت بخلو بال إلى مسجد خال فأماطت الجلباب ونضت النقاب وأنا ألمحها من خصاص الباب وأرقب ما ستبدي من العجاب فلما انسرت أهبة الخفر رأيت محيا أبي زيد قد سفر فهممت بأن أهجم عليه لأعنفه على ما أجرى إليه فاستلقى استلقاء المتمردين ثم رفع عقيرة المغردين واندفع ينشد
( يا ليت شعري أدهري ... أحاط علما بقدري )
( وهل درى كنه غوري ... في الخدع أم ليس يدري )
( كم قد قمرت بنيه ... بحيلتي وبمكري )
( وكم برزت بعرف ... عليهم وبنكر )
( أصطاد قوما بوعظ ... واخرين بشعر )
( واستفز بخل ... عقلا وعقلا بخمر )
( وتارة أنا صخر ... وتارة أخت صخر )
( ولو سلكت سبيلا ... مألوفة طول عمري )
( لخاب قدحي وقدحي ... ودام عسري وخسري )
( فقل لمن لام هذا ... عذري فدونك عذري )
قال الحرث بن همام فلما ظهرت على جلية أمره وبديعة أمره وما زخرف في

شعره من عذره علمت أن شيطانه المريد لا يسمع التفنيد ولا يفعل إلا ما يريد فثنيت إلى أصحابي عناني وأبثثتهم ما أثبته عياني فوجموا لضيعة الجوائز وتعاهدوا على محرمة العجائز
قلت قد علمت أيها المتأمل أن هذه المقامة البديعة بنيت على ترهات هذه العجوز وما زخرفته من الباطل في نظمها ونثرها الذي خلب كل منهما القلوب وسلب عقول السامعين إلى أن بالغوا في إكرامها فلما كشف لهم الغطاء عن جميع ما نمقته وتحققوا أنه بني على الباطل كانت الخاتمة فوجموا لضيعة الجوائز وتعاهدوا على محرمة العجائز
والألفاظ المحتاجة إلى الحل في هذه المقامة هي قوله ندوت أي حضرت النادي والجوازل فراخ الحمام واحدها جوزل وعرتنا قصدتنا يقال عراه واعتراه والمعارف الوجوه والمعارف الثانية من المعرفة وثمال القوم من يقول بأمرهم وسروات القبائل السرو وهو السخاء والمروأة واحد السروات سراة لا يجوز أن يكون سراة بالضم وسريات جمع سرية وهي العقيلة السخية والقلب هنا قلب العسكر ويمطون الظهر أي يحملون المنقطع ويولون اليد أي النعمة وأردى أهلك والأعضاد جمع عضد وهو ما يمسك الشيء ويقويه والجوارح هنا الأعضاء التي تجرح وقوله وانقلب ظهرا لبطن المراد به عكس الحال ونبا ارتفع والحاجب صاحب الأمير وصلد الزند أي لم يور ووهت أي ضعفت واليمين القوة والثنية الناقة التي لها ستة أعوام والناب المسنة واغبر العيش أي تكدر وازور مال والمحبوب الأصفر هو الدينار وفودي صدغي والموت الأحمر كناية عن الفقر والعدو الأزرق الشديد العداوة والأصل فيه العطش وبه فسر قوله تعالى ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ) أي عطاشا وتلوى تابعي وعينه فراره أي عيانه يغنيك عن اختباره وفي المثل إن الجواد عينه فرارة أي عيانه وقصارى أمره أي آخر أمره وآليت أي حلفت وأبذل الحر أي الوجه والقرونة النفس والحوباء النفس أيضا ونضر بمعنى حسن ويقذيها يلقي فيها القذى والجمود الإمساك ويقذيها الجود يخرج عنها القذى والحامك بمعنى نظمك الشعر والشعار الثوب الذي يلي الجسد والدثار ما فوقه والردن الكم ودردبيس من أسماء الداهية والسنة الشهباء

المجدبة وتشب توقد وغريض طري وساغب جائع والجريض الغصص والأساة الأطباء والمطايا الإبل والمطا الظهر واليفاع التل المشرف والحضيض القرار من الأرض تأتلي تترك والنعاب فرخ الغراب والمهيض الذي كسر بعد جبر وأتح وفق ورحيض مغسول وبمذقة أي بجرعة وأعشار القلوب أي قطع القلوب وحتى ماحها من دينه الامتياح أي أعطاها من عادته يعطي وافعوعم امتلأ وفاغر مفتوح فاشرأبت تطلعت وسبرها اختبارها واستنباط استخراج والمرموز المبهم والغمار الزحام والأغمار البله وعاجت عطفت وأماطت الجلباب باعدته وهو الرداء ونضت جردت وخصاص جمع خصاصة وهو الثقب في الباب وكذلك الصير وفي الحديث من نظر إلى قوم من صير باب فقئت عينه وانسرت انكشفت والخفر الحياء وسفر انكشف وأسفر أضاء وأجرى قصد واستلقى رقد على ظهره ورفع رجلا على رجل والمغردين المطربين والعقيرة الصوت وكنه غوري حقيقة أمري والخل والخمر هنا كنايتان عن الخير والشر وقدحي سهمي وقدحي استخراجي أمره العجيب والمريد العاتي والمرادة العتو وجموا أي سكتوا آه تفسير الألفاظ المحتاجة إلى البيان من هذه المقامة
ومن صناعات القاضي الفاضل في حسن الخواتم قوله في حسن خاتمة رسالة كتب بها إلى الديوان العزيز الخليفي وهو لا برحت راياته السود سويدات قلوب العساكر وأجنحة الدعاء المحلق إلى السماء من أفق المنابر
ومثله قوله لا برحت الأقدار له جنودا والجديدان يسوقان إليه في أيامهما ولياليهما إماء وعبيدا
ومثله قوله والله تعالى يرده رد السحب الهاطلة إلى الأمكنة الجدوب والمغفرة الشاملة إلى مواقع الذنوب والمسرة إلى مستقرها من مطالع القلوب
ومن ذلك قوله في ختام جواب كتاب ناصري ولا زال كالئا للإسلام بسيفه الذي جفنه كجفنه ساهر ولا أخلى الله منه الدين بقوة منه ولا ناصر

ومنه قوله والله تعالى يغني عن المكاتبات بلقائه كما أغنى عن بقية الخلق ببقائه
ومن ذلك قول العلامة الشهاب محمود في ختام رسالة والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل
وصرع ابن الصاحب أمين الدين مرزما وهو من أصناف الطير الجليل ومن طيور الواجب وسأل الشيخ جمال الدين في إنشاء مطالعة إلى الحضرة الشريفة المقدسة الخليفية يسأل فيها القبول فيما صرعه من الواجب فأنشأ الشيخ جمال الدين ابن نباتة رسالة بديعة في هذا المعنى وحسن ختامها أبدع وهو والله المسؤول سبحانه أن يمتع المملوك في ولاء المواقف المقدسة باتباع طرقه وأن ينفعه بالانتماء إذا ألزمته الدنيا طائره في يديه وألزمته الآخرة طائره في عنقه
ومن ذلك حسن ختام العهد الذي أنشأة القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون لولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل وهو والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إماما وللمعتدين انفصاما ويطفىء بماء سيوفه نار كل حطب حتى تصبح كما أصبحت نار سميه بردا وسلاما
ومن ذلك حسن ختام رسالتي التي تقدم ذكرها في باب الاقتباس المشتملة على الكائنة التي قدرها الله تعالى على دمشق المحروسة من الحريق وغيره وهو فوصل المملوك إلى البلاد وقد ود يومه لو تبدل بالأمس ولم يسلم له في وقعة الحرب غير الفرس والنفس فأعاذ الله مولانا وبلاده من هذه القيامة القائمة وبدأه في الدنيا ببراعة الأمن وفي الآخرة بحسن الخاتمة
ومن أبدع الأمثلة التي ليس لها مثال في حسن الختام قولي في تقليد بالإشارة الشريفة والوصايا كثيرة ولكن لا يهدى تمر إلى هجر فإننا إلى مشورته أحوج من المبتدا إلى الخبر والله تعالى يديمه ركنا لهذا البيت الشريف الذي تطوف الناس حوله ويسعى إليه ولا برح كلامه في المشورة لفظا ومعنى تتم الفائدة به ويحسن السكوت عليه
وقلت في خاتمة تقليد بنظر الكسوة فليباشر ذلك علماؤنا أنه من تقرب إلى الله بخدمة بيوته فقد فاز ولا بد أن يصير لديباجة هذا البيت بحسن توشيحه دار الطراز فقط

أسعده الله وظهر له في توشيح هذا البيت نظم مفيد ولا ينكر حسن هذا التوشيح للقاضي السعيد والله تعالى يكرم مثواه في الآخرة بتشييد هذا البيت وقيام شعاره ولا زالت أنامل بره تتختم بخواتيم الخير وتنقل أحاديث المحاسن بفصها في أخباره
ومثله قولي في تقريظ كتبته لأقضى القضاة ولي الدين القرشي على كتابه المسمى بعمدة المناسك وهو والله تعالى يزيد صناعة هذا النسك بهجة على كل ناظم ويجعله لأعماله الصالحة المقبولة من أحسن الخواتم
وتقدم لي بالديار المصرية بشارة بوضع المقر الأشرف سيدي موسى ولد المقام الشريف المؤيدي سقى الله من غيث الرحمة ثراه من رأس القلم بالحضرة الشريفة جاءت نسيج وحدها وواسطة عقدها منها حملت به أمه وأبرزته كشمس الحمل بهجة ونورا وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ولكن ملأ الدنيا سرورا
وتوجهت بعد ذلك التاريخ إلى ثغر الاسكندرية المحروسة في مهم شريف فورد على نائب الثغر المحروس بشارة شريفة بمولد سيدي المقر الأشرف الناصري محمد ولد المقام الشريف المؤيدي نور الله ضريحه فركب نائب السلطنة الشريفة بالثغر المحروس إلى أن جاء عندي وسألني الجواب فكتبت تهنئة بديعة وحسن ختامها أبدع منها وهو أكرم بها صحيفة محمدية أمسى بها كل قلب مأنوسا وتلت مسرتها من تقدم قبلها من الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فالحمد لله على تواتر هذه التهاني التي أتهم بها كل حاد وأنجد وعمت بركتها بإبراهيم وموسى ومحمد والله تعالى يوصل أحاديث التهاني المؤيدية ليتسلسل كل حديث بمسنده ولا برحت الخواطر الشريفة مسرورة بمحمد وحديثه ومولده
ومن ذلك قولي في ختام تقليد قاضي القضاة ولي الدين العوافي بقضاء قضاة الشافعية بالديار المصرية والممالك الإسلامية وهو والله تعالى يطلق له أعنة الاقبال وينيله من نعمه ما لا يخطر قبل وقوعه ببال ويحلي به جيد الدهر وقد تحلى بعدما ذهب رونقه وزال وكما أحسن له في البداية أن يحسن إليه في النهاية حتى يقول الحمد لله على كل حال
ومثله في الحسن ختام تقليد قاضي القضاة أبي البقاء علم الدين صالح البلقيني وهو والله يرفع علم علمه على كل غاد ورائح ويجعل كلا من عمله وحكمه واسمه الكريم صالحا في صالح في صالح

وقد عن لي أن أختم ما تقدم لي من الأمثلة في حسن الخواتم بختام كتاب المسك من أقل عبيده ويود منثور الدر أن ينتظم في سلك عقوده وذلك أني كتبت للمقر المرحومي الفتحي فتح الله صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الاسلامية كان على لسان قاضي القضاة شرف الدين مسعود الشافعي وأعيان طرابلس المحروسة وقد وصلوا إلى الديار المصرية في البحر قسرا مما عاينوه من أهوال تلك المحنة المشهورة التي قدرها الله تعالى على طرابلس المحروسة وحسن الختام في القصة المذكورة قولي والقوم يا نظام الملك قد دهمهم من لم يفرق بين التحليل والتحريم إلى أن صرحوا بالطلاق ووقعوا في التغابن وشمت المنافقون ومنعوا في الجمعة الصف ومست فرقتهم الممتحنة في الحشر ولم يسمع لهم مجادلة لما فزعوا بالحديد في هذه الواقعة ولكن من الرحمن وطلع قمر الأمن ولاحظهم نجم السعد وصعدوا طور النجاة وكفكفوا ذاريات الدموع وطردت عنهم العداة إلى قاف لما دخلوا حجرات مصر وحظوا من مولانا السلطان بعد سد المذاهب بالفتح
قلت هذا الختام جعلته خاتمة للأمثلة المنثورة في هذا الباب وأما الأمثلة الشعرية فمن المجيدين فيها أبو نواس حيث قال في خاتمة قصيدة مدح بها الخصيب
( وإني جدير إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أملت منك جدير )
( فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور ) ومنه قول أبي تمام معتذرا في اخر قصيدة
( فإن يك ذنب عن أو تك هفوة ... على خطأ مني فعذري على عمد ) ومنه قول أبي الطيب في ختام قصيدة
( فلا حطت لك الهيجاء سرجا ... ولا ذاقت لك الدنيا فراقا ) وقال أبو العلاء من ختام قصيدة
( ولا تزال بك الدنيا ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر )

وقول الأرجاني في ختام قصيدة
( بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحا ... فإنك في هذا الزمان فريد )
( علاك سوار والممالك معصم ... وجودك طوق والبرية جيد ) وقول ابن نبيه في ختام قصيدة أشرفية
( دمتم بني أيوب في نعمة ... تجوز في التخليد حد الزمان )
( والله لا زلتم ملوك الورى ... شرقا وغربا وعلى الضمان ) وقال شيخ شيوخ حماة في ختام مديح مظفري
( فلا زلت ذا ملك جديد مؤيد ... تدين لك الدنيا وتصفو لك الأخرى )
( ولا زال للأيام طول على الورى ... وما الطول إلا أن يطيل لك العمرا ) وقال ابن سنا الملك في ختام مديح عادلي
( بقيت حتى يقول الناس قاطبة ... هذا أبو إلياس أو هذا أبو الخضر ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله في ختام مديح مؤيدي
( فابق عالي المقام داني العطايا ... قاهر الباس ظاهر الأنباء )
( يتمنى عدوك العيش حتى ... أتمنى له امتداد البقاء ) وقال الشيخ برهان الدين القيراطي رحمه الله تعالى في ختام مديح نبوي
( يا إمام الهدى عليك صلاة ... وسلام في الصبح ثم العشاء )
( ما صبا في أصائل قلب صب ... ذكر الملتقى على الصفراء ) ومثله قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي في ختام قصيد نبوي
( صلى عليك الله يا خير الورى ... ما نار نور من ضريحك في الدجى ) ومثلهما قولي في ختام مديح نبوي ولكن مسك هذا الختام أضوع من ختامهما في المديح النبوي وهو

( عسى وقفة أو قعدة لابن حجة ... على بابكم يسعى بها وهو محرم )
( فقد جاء يشكو من ذنوب تعاظمت ... وقدرك في يوم الشفاعة أعظم )
( وقد ناله في عنفوان شبابه ... هموم وسيف الهم للظهر يقصم )
( وعارضه قد شاب في زمن الصبا ... عسى بك من ذا العارض الصعب يسلم )
( فيا وردنا الصافي طيور قلوبنا ... عليك إذا ما نابها الضيم حوم ) وقلت بعده في حسن الختام
( عليك سلام نشره كلما بدا ... به يتغالى الطيب والمسك يختم ) وبيت الشيخ صفي الدين في حسن الختام هو
( فإن سعدت فمدحي فيك موجبه ... وإن شقيت فذنبي موجب النقم ) وبيت العميان فيه هو
( لكن وإن طال مدحي لا أفي أبدا ... فاجعل العذر والإقرار مختتمي ) وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( فاجعل له مخلصا من قبح زلته ... في حسن مفتتح منه ومختتم )
وبيت العميان في حسن الختام أبدع من بيت الشيخ صفي الدين الحلي في حسن ختامه وموجب ذلك التورية بتسمية النوع وتمكين القافية في آخر البيت وبيت الشيخ عز الدين أبدع من بيت العميان إذ فيه الترشيح بذكر التخلص والافتتاح والمختتم وللكن فاته الترتيب فإنه قدم ذكر التخلص على الافتتاح وبيت بديعيتي
( حسن ابتدائي به أرجو التخلص من ... نار الجحيم وهذا حسن مختتمي )
هذا البيت العامر بمدح النبي ختامه مسك لكونه جاء خاتمة لما وصلت إليه القدرة من الأوصاف النبوية واجتمع فيه حسن الابتداء مورى به مع حسن التخلص وحسن الختام على الترتيب ولو قال الشيخ عز الدين في بيته بحسن مبتدأ ساعدته التورية بتسمية النوع الذي هو حسن الابتداء

قال المؤلف رحمه الله تعالى هذا المصنف المبارك أعني البديعية وشرحها إذا ملكه متأدب شرفت نفسه عن النظر في غيره من تذاكرالآداب فإني ما تركت نوعا من أنواع البديع إلا أطلقت عنان القلم في ميادين الطروس مستطردا إلى استيعاب ما وقع من جيده ورديئه ونصبت فيه البحث بين المقصرين والمجيدين بيد أني أقول وبالله المستعان إن العميان اختصروا جانبا كبيرا من البديع وما أجادوا النظم فيما وقع اختيارهم عليه والشيخ صفي الدين الحلي أجاد في الغالب لخلاصه من التورية في تسمية النوع ولكنه قصر في مواضع نبهت عليها في مظانها والشيخ عز الدين رحمه الله قصر في غالب بديعيته لالتزامه بتسمية النوع البديعي ومراعاة التورية والبحث مقرر مع كل منهم في إجادته وتقصيره عند إيراد بيته على ذلك النوع الوارد
وقد تقدم الإطناب في تقرير حسن الابتداء وبراعة الاستهلال وفي الفرق بينهما وأوردت في حسن التخلص ما وقع من غريبه وبديعه وما تقرر من البحث مع المقصر في نظمه وما يتفرق به شمل مجاميع الأدب وينسى تذاكره وقد انتهت الغاية بحمد الله إلى حسن الختام وأوردت فيه ما لا خفيت محاسنه على المتأمل ولا ضمه صدر كتاب وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة ببركة الممدوح عليه أفضل الصلاة وأتم السلام وقد فرغت من تأليف هذا الكتاب في شهر ذي الحجة الحرام سنة ست وعشرين وثمانمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6