كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
المؤلف : تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري

الشيخ شرف الدين عيسى وعصريه الشيخ شهاب الدين بن العطار الاتي ذكره رحمهما الله تعالى والشيخ بدر الدين البشتكي لم أجد في أغزالهم من المقاطيع ما يغازل بغزله عيون التورية ولكن وقفت لهم على أغراض هي فوق الغرض فمن ذلك قول الشيخ شهاب الدين بن العطار
( أصبحت بطال والأولاد أربعة ... محمد وثلاث موتهم يجب )
( فإن تحيل في رزق بمدحكم ... أبو محمد البطال لا عجب ) ومن إيهامه في هذا الباب قوله
( طلبت رزقا قيل رح ناظرا ... جيوش سيس قلت رأي تعيس )
( لو أن ذي الحكام في سلطة ... ما طلبوا أني أبقى بسيس ) وقال في الشيخ شرف الدين عيسى المذكور
( عيسى ومن مدحوه ... ما شمت فيهم رئيسا )
( وما رأيت أناسا ... لكن حميرا وعيسا ) وقوله في طاهر بن حبيب
( تجادل شافعي مع مالكي ... وهذا البحث بين الناس ظاهر )
( فقال الشافعي الكلب نجس ... وقال المالكي الكلب طاهر ) ومن لطائف مجونه قوله
( هيأ البلان موسى ... خلوة تحيي النفوسا )
( قلت ما أصنع فيها ... قال تستعمل موسا ) ومن محاسن الشيخ جمال الدين عبد الله السوسي في باب التورية قوله
( أهوى غزالا عليه صبري ... قد بان في الحب وهو عذري )
( قد أسرت مقلتاه قلبي ... فرحت مملوكه بأسرى )

وقوله
( تهاون شمس الدين بي وهو صاحب ... وأظهر لي أضعاف ما تظهر العدا )
( نزلت به أبغي الندى وهو طالع ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندى ) وقوله
( زجرت النفس عن نذل لئيم ... أقر بموعدي غلطا وأنكر )
( وقد ذكرته عنه مرارا ... وهيهات المؤنث لا يذكر ) وقوله
( تجنب أقطعا لصا جريئا ... يحن إلى الجناية كل ساعة ) ( وما قطعوه بعد الوصل إلا ... أرادوا كفه عن ذي الصناعه ) ومن محاسن الصاحب فخر الدين بن مكانس في باب التورية قوله
( بأبي عقيقة مرشف ... برت وكانت قبل عقت )
( فلثمتها ورشفتها ... وقطعتها من حيث رقت ) ومنه قوله
( يقول مفندي إذ همت وجدا ... بخد خلت فيه الشعر نملا )
( أيعرف خده للعشق أهلا ... فقلت لهم نعم أهلا وسهلا ) وقوله
( زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر )
( يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر ) وقوله
( علقتها معشوقة خالها إذ عمها ... إذ عمها بالحسن قد خصصا )
( يا وصلها الغالي ويا جسمها ... لله ما أغلى وما أرخصا ) وقال وأجاد
( إن الهواءين يا معشوق قد عبثا ... بالروح والجسم في سر وفي علن )
( فالروح تفديك بالممدود قد تلفت ... والجسم حوشيت بالمقصور في كفن )

وقوله مضمنا
( ومقلة ظبي يرشق القلب سهمها ... ولكنه رشق يزال به الهم )
( على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم ) وقوله
( عارض المحبوب من فوق ... صفاء الخد فاتن )
( شبه ورد زاد لطفا ... حول ماء غير آسن ) وقوله في مجونه مضمنا
( قلت يا لائمي على بذل مالي ... فى هوى الحب دع كلام الفشار )
( فعلى فلس ذا يناح ويبكي ... لا على درهم ولا دينار ) وقوله
( شكى إلي اليتم إذ نكته ... مراهق فيه حلا هتكي )
( بت أسليه على يتمه ... وكلما سليته يبكي ) وقوله
( سكر الشيخ وطابا ... واشتهى الشيخ شبابا )
( حسب الخمرة صابا ... وجد الراح شرابا ) وقوله يمازح السراج السكندري وقد انقطع عنه
( قل للسراج إذا تكبر ... حيث بالقوم احتمى )
( أنت السراج بعينه ... لو شلت انفك للسما ) ومثله قوله فيه
( يا ذا السراج اشتري أيري فأنت به ... أولى وذلك للحق الذي وجبا )
( سكندري وتدعى بالسراج وذا ... مثل المنار إذا ما قام وانتصبا ) وقال في الصاحب بن النشو الوزير وقد أنشأ سبيلا بالجامع العمري

( أنشأ القطيم النشو لما ارتقى ... وزارة زادته في وزره )
( بالجامع العمري سبيلا وقد ... قال لنا عنه بنو مصره )
( هذا سبيل حاله فاسد ... وزيره يرشح من قعره ) ومن أغراضه البديعة قوله
( لولا الزمان للمحال قابل ... ما سلسلوا مطلق كل جدول )
( وأصبح الدولاب في رياضه ... يقول بالدور وبالتسلسل ) ومن أغراضه الغريبة قوله في ولده مجد الله بن فضل الله رحمهما الله تعالى
( أرى ولدي قد زاده الله بهجة ... وكمله في الخلق والخلق مذ نشا )
( سأشكر ربي حيث أوتيت مثله ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا ) ومن بدائع أمداحه قوله في الشهيد فخر الدين نقيب الأشراف رحمه الله تعالى
( جناب فخر الدين كهف الورى ... دامت له النعماء لا تنقضي )
( فهو الشريف الحسن المرتضى ... وخلقه ذاك الشريف الرضي ) وقال يمدح الإمام المرتضى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
( يا ابن عم النبي ان أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا )
( أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إماما وماسواك مجاز ) ويعجبني من حسن خواتمه قوله
( وا سوأتاه إذا وقفت بموقف ... ما مخلصي فيه سوى الإقرار )
( وسواد وجهي عند أخذ صحيفتي ... وتطلعي فيها شبيه القار )

ومن محاسن ولده مجد الدين بن فضل الله تغمده الله برحمته قوله
( وأغيد بت منه ... بنار عشقيه أقلى )
( رمى من اللحظ سهما ... به نموت ونبلى ) وقوله
( قالوا وقد عبثت بنا ... قاماتهم والأعينا )
( إن رمت تلقانا فلج ... بين السيوف والقنا ) وقوله
( يقولون هل من الحبيب بزورة ... ومناكم المطلوب قلنا لهم منا )
( فقالوا لنا غوصوا على قده وما ... يحاكى إذا ما اهتز قلنا لهم غصنا ) وقوله
( لحق الله دع ظلم المعنى ... ومتعه كما يهوى بأنسك )
( وكف الصد يا مولاي عمن ... بيومك رحت تهجره وأمسك ) وقوله
( قال خلي لحبيبي صل فتى ... بك قد أضحى معنى مغرما )
( قال هل يولم إن واصلته ... قلت إن فاز بثغر أولما ) وقوله
( يا لائمي إن فقدت الصبر في قمر ... أصداغه سلبت أهل الهوى وسبت )
( كلت سيوف اصطباري عنه حين بدا ... اس العذار على وجناته ونبت ) وقوله
( من مجيري من سادة ألفوا الهجر ... لعشاقهم وزادوا النفارا )
( سأل الدمع أن يجيروه قالوا ... مثل هذا في حينا لن يجارا ) ومن اختراعاته اللطيفة
( تساومنا شذى أزهار روض ... تحير ناظري فيه وفكري )
( فقلت نبيعك الأرواح حقا ... بعرف طيب منه ونشر )

ومن أغراضه اللطيفة قوله
( سحقا لذي نظم يهيج من البغا ... ويثير في هجو الكرام عجاجا )
( أقصيته عني فظل يسبني ... ومنعته أيري فذم وهاجا ) ومن مدائحه يهنىء والده بعوده من السفر
( هنئت يا أبتي بعودك سالما ... وبقيت ما طرد الظلام نهار )
( ملئت بطون الكتب فيك مدائحا ... حتى لقد عظمت بك الأسفار ) وقال فيه أيضا وقد أهدى له هدية حسنة
( تناهيت في بري إلى أن هديتني ... ولولاك كنت الدهر في الغي ساديا )
( وأهديت لي ما حير العقل حسنه ... فلا زلت في الحالين للعبد هاديا ) ويعجبني من زهدياته قوله
( جزى الله شيبي كل خير فإنه ... دعاني لما يرضى الإله وحرضا )
( فأقلعت عن ذنبي وأخلصت تائبا ... وأمسكت لما لاح لي الخيط أبيضا )
ومن كلام الشيخ أبي الفضل بن أبي الوفاء العارف الذي دخل بحسن سلوكه إلى زوايا الأدب فأخرج منها الخبايا وأظهر البرهان تغمده الله برحمته قوله
( عبدك الصب المعنى ... عرف الفقر وذاقه )
( فلكم فاخر محتا ... جا شكا فقرا وفاقه ) ومن مخترعاته في باب التورية مع بديع التضمين قوله
( ما خادم واسمه في در مبسمه ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول )
( وريقه مع ثناياه التي انتظمت ... كأنه منهل بالراح معلول ( مع لولو )

ومن اختراعاته قوله
( على وجنتيه جنة ذات بهجة ... ترى لعيون الناس فيها تزاحما )
( حمى ورد خديه حماة عذاره ... فيا حسن ريحان العذار حماحما ( حمى حمى )
ومثله قوله
( أرسلت عيني بدمعيهما ... بين يدي من قد تمادى جفاه )
( أسأله في فمه قبلة ... فلم يميلاه ولم يعطفاه ( يعط فاه )
ومثله قوله
( سألتها رشف ريق ... مستعذب الطعم حلو )
( قالت فصفني ارتجالا ... فقلت بعد التروي ) ومن لطائف نكته في هذا الباب قوله
( ازداد خدك شعرا ... فازداد قلبي حبا )
( إذ كان وردك جمري ... فيه فصار مربى ) ومن لطائفه قوله
( ألا لا تلوموني فلست بمقلع ... إذا انحدرت من كأسها الراح في حلقي )
( سآوي إلى بحر من الخمر مترع ... أحط المراسي عنده فأمل لي ( وسقي ) وقوله
( ذكرك لي في اللوم مستحسن ... واللوم عندي غير مستحسن )
( كم قلت للمعرب في لومه ... إن جئت نحوي قط لا تلحن ) ومن لطائف مجونه مع حسن التضمين
( وخل سمته صفعا بمال ... فقال توازعوه يا صحابي )
( إذا الحمل الثقيل توازعته ... أكف القوم هان على الرقاب )

ومن أغراضه قوله
( تعنت دهر لج فينا بخطبه ... وذللنا من بعد عز وأنكانا )
( قسا وانثنى يختال في جبروته ... وجرر أذيالا علينا وأردانا )
وأنشدني من لفظه لنفسه الشيخ شمس الدين المتنبي قوله في مليح اسمه حمزة
( ترى يبدو لحمزة بعض ما بي ... ويرثي لي وينظر في بلائي )
( وأشفي بالمبرد من لماه ... واجمع بين حمزة والكساء ي ) ومن لطائف علامة الوجود فريد الدهر بدر الدين بن الدماميني المخزومي المالكي قوله
( قلت له والدجا مول ... ونحن في مجلس التلاقي )
( قد عطس الصبح يا حبيبي ... فلا تشمته بالفراق ) وقوله
( يقول بديوان المحبة وردوا ... محاسن حبي فهو في الحسن مفرد )
( فوردت في الديوان عامل قده ... فقال وذاك الخد قلت مورد ) وقوله
( وبي وجنة حمراء زاد صفاؤها ... وأبدت صفات أبدع الحسن كونها )
( فدع لائمي ينهى عن الحب جهده ... فما أنا بالسالي صفاها ولونها نهى ) وقوله
( يا عذولي في مغن مطرب ... حرك الأوتار لما سفرا )
( كم تهز العطف منه طربا ... عندما تسمع منه وترى ) وقوله
( أذاب أحشائي هوى صائغ ... قلت له والقلب رهن لديه )
( إني على فيك أرى خاتما ... فهل ترى يقعد نقشي عليه )

وقد زاد النكتة حسنا بقوله
( بدا وقد كان اختفى ... وخاف من مراقبه )
( فقلت هذا قاتلي ... بعينه وحاجبه ) وقوله
( أمنيتي أنت يا مليح ... ما مثله في الزمان ثاني )
( فكيف تبدي جفاك خوفا ... وأنت في غاية الأمان ( ني ) ) وقوله
( وعزيز الجمال أوجب ذلي ... وهواه علي أصبح فرضا )
( فهو في الحسن والجمال سماء ... صرت يا صاح منه بالذل أرضا ( ضى ) وقوله
( تناسبت أوصاف من وصله ... ينفي عن القلب جميع الكرب )
( في الخد تسهيل ومن ثغره ... يطيب للصب ارتشاف الضرب ) وقوله
( لا ما عذاريك هما أوقعا ... قلب المحب الصب في الحين )
( فجد له بالوصل واسمح به ... ففيك قد هام بلامين ) وقوله
( قلت لعطار به صبوتي ... محمودة والصبر لا يستطاب )
( أسقيتني كأس غرام به ... ذبت ومن فيك براني الشراب ) وقوله
( لله منه ملثم أشنب ... قد طاب فيه العشق للمغرم )
( قلت لعذالي لا تعجبوا ... طيب الهوى ما زال في الملثم ) وقوله
( في ليلة البدر أتى ... حبي فقرت مقلتي )
( وقال لي يا بدر قم ... فقلت هذه ليلتي ) وقوله
( قم بنا نركب طرف ... اللهو سيقا للمدام )
( واثن يا صاحي عناني ... لكميت ولجام )

ومن أغراضه اللطيفة قوله
( أقول لخل جن من فرط ماله ... ورابى فأسق الناس كأس عذاب )
( صفاتك يا هذا لعمري تناقضت ... فإنك ذو مال وأنت ترابي ) ومن مدائحه ما كتب به إلى قاضي القضاة ناصر الدين التنيسي قوله
( قد نلت يا قاضي القضاة مطالبي ... بكنوز ود منك أورثت الغنى )
( وأخافني الدهر الظلوم فمذ رآني ... داعيا لجناب جودك أمنا ) ومن مدائحه فيه قوله وقد ولاه وظيفة العقود في مبادي العمر
( يا حاكما ليس يلفى ... نظيره في الوجود )
( قد زدت في الفضل حتى ... قلدتني بالعقود ) وكتب إلى برهان الدين المحلي
( يا سر يا معروفه ليس يحصى ... ورئيسا ذكا بفرع وأصل )
( مذ علا في الورى محلك عزا ... قلت هذا هو العزيز المحل ( ي ) ) وكتب إلى شهاب الدين الفارقي
( قل للذي أضحى يعظم حاتما ... ويقول ليس لجوده من لاحق )
( إن قسته بسماح أهل زماننا ... أخطا قياسك مع وجود الفارق ( ي ) ) ويعجبني من أغراضه البديعة قوله
( لئن عقدت بنت الكروم عقودها ... على حمل نفى الهم والهم زائد )
( فنحن شهود في المقام لعقدها ... على أولياء اللهو واللوز عاقد ) ومن لطائف مجونه قوله
( أمنت صدوده فدنوت منه ... على مهل بشيء زاد حسنا )
( وعاجلني الرقيب فخاف أيري ... وأنزل إذ رأى خوفا وأمنا ( ي ) )

ومما اختاره سيدنا الشيخ العالم العلامة أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلاني روى الله من سحاب الرحمة ثراه من نظمه لنفسه رحمه الله تعالى في باب التورية ورسم لي أن يكون واسطة لهذا العقد وكتب ذلك بخطه الكريم في كراسة وأتحف بها العبد لأنظمها في عقود هذه الأسلاك وكتب في ديباجة الكراسة قوله
( يا سيدا طالعه ... إن راق معناه فعد )
( وافتح له باب الرضا ... وإن تجد عيبا فسد ) وقوله
( سألت من لحظه وحاجبه ... كالقوس والسهم موعدا حسنا )
( ففوق السهم من لواحظه ... وانقوس الحاجبان واقت رنا ) وقوله
( سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه )
( أسقمته مقلتاه ... قلت لا بل شفتاه ) وقوله
( أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا )
( فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا ) وقوله
( ضنيت جوى فواصلني حبيبي ... وعاد إلى الجفاء فعاد ما بي )
( فقلت أعد وصالا قال كلا ... فها أنا ذبت من رد الجواب ( بي ) ) وقوله مع بديع الاقتباس
( خاض العواذل في حديث مدامعي ... لما رأوا كالبحر سرعة سيره )
( فحبسته لأصون سر هواكم ... حتى يخوضوا في حديث غيره ) وقوله
( يا عاذلي وسهام اللحظ ترشقني ... عن قوس حاجب بدر خده قبسي )
( إن تستطع لنجاتي في الهوى سببا ... فاستنبط السلم لي من أسهم وقس ( ي ) ) وقوله
( ولم أنس إذ زار الحبيب بروضة ... فغارت من المعشوق أعينها المرضى )
( ولاحت بخد الورد حمرة خجلة ... حياء رأينا طرف نرجسها غضا )

وقوله
( يا مبدعا في حسنه واصل أخا ... هم له عام وما واصلنا )
( فقال هل صيف في مشتاته ... قلت نعم وفي هموم شتى ) وقوله
( محبوبتي واصلتني ... والهم عني تشتت )
( وذاب قلب حسودي ... لما وفت وتفتت ) وقوله
( أحبب بوقاد كنجم طالع ... أنزلته برضا الغرام فؤادي )
( وأنا الشهاب فلا تعاند عاذلي ... إن ملت نحو الكوكب الوقاد ) وقوله
( نحن أهل الهوى بلوناه قدما ... بين خوف من أهله وأمان )
( وشربنا خمر الهوى كل حين ... بكؤوس قد أترعت وأوان ( ني ) ) وقوله
( ورشا مذ نشا وعينا التصابي ... بعدما كان ذا اشتباه علينا )
( وجهلنا الغرام حتى أرانا ... منه تحت اللثام خدا وعينا ) وقوله
( سرت وخلفتني غريبا ... في الربع أصلى جوى بنارك )
( أغث حشا أحرقت غراما ... في ربعك المعتلي ودارك ) وقوله
( وبدر تم جميل ... محجب بالدلال )
( إذا هممت بأني ... أسلو هواه بدا لي ) وقوله
( نهاني حبيبي أن أطيع عواذلي ... لكي أتهنى بالوصال الذي سرا )
( فقلت فدتك النفس سمعا وطاعة ... فلم أر نهيا منه أهنى ولا أمرا ) وقوله
( وأهيف حياني بطيب وصاله ... ومن ريقه الخمر الحرام حلالي )
( أدار لي الكأسين خمرا وريقة ... ونزهني عن جفوة وملال ( لي ) ) وقوله
( تجرد من أحب فقال لي من ... يلوم وأظهر الحسد المكتم )
( أجاد لك الحبيب بلمس جسم ... له كالخز قلت نعم وأنعم )

وقوله
( تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل )
( لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل ) ومن أغراضه اللطيفة قوله
( أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي )
( قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع ) وقوله وهو مما كتبه على مجموع الكرماني
( نظرت لما سطرته من فوائد ... لها الفضل إذ وافت محاسنها يعزى )
( فلله ما سطرت منها لخاطري ... فلم يكف طرفي منه شيء ولا أجزا ) وقوله
( قد جئت في علم الأصول لنا وفي ... علم الفروع بخالص الإبريز )
( وبرزت في هذا وفي هذا على الرازي ... بالإحسان والتبريز ( ي ) ) ويعجبني من وعظياته قوله
( يا أيها الشيخ المطيع هواه دع ... هذي الدعاية قد أتى داعي الردى )
( وخيوط هذا الشيب لا تنسج بها ... ثوب التصابي فهي ما خلقت سدى ) وقوله
( خليلي ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا )
( فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنى ( تبنا ) ومن نظم الشيخ بدر الدين البشتكي رحمه الله في هذا النوع قوله
( بدا بوجه جميل ... قد شرف الحسن قدره )
( في شمسه كل صب ... يود يبذل بدره )

هذا الذي ظفرت به من أغزاله في هذا الباب ومن مجونه قوله
( وافى بذقن بعد أن ... قاسيته حلوا ومرا )
( فقبضت لحيته وأيري ... في استه وهلم جرا ) وقال من كتابه المسمى برفع شان العمشان
( أقول لناتف خديه مهلا ... أترضى اللائطين مدى الدهور )
( فدع نتف العوارض عنك كيما ... تناك بلحية مثل الحرير ( ي ) ) ومثله قوله في الشيخ بدر الدين بن الدماميني المخزومي
( تبا لقاض جار في أحكامه ... حتى على المنثور والمنظوم )
( خان الشريعة مذ أطاع بني وفا ... وانقاد للفساق كالمخزوم ( ي ) ) ومن مدائحه قوله
( وقاس الورى بالنيل نائلك الذي ... حلا وصفا والنيل يبدو مرنقا )
( فقلت وهل ينقاس من خلقه الوفا ... بمن بالوفا في العام يوما تخلقا ) وكتب إليه سيدنا ومولانا قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر العسقلاني في رمضان
( أليس عجيبا بأنا نصوم ... ولا نشتكي من أذى الصوم غما )
( ونسغب والله في نسكنا ... إذا نحن لم نرو نثرا ونظما ) فأجابه بقوله
( ألا يا شهابا رقى في العلا ... فأمطرنا نوؤه العذب قطرا )
( إلى فقرة منك يا فقرنا ... ونستغن إن قلت نظما ونثرا )

ومما فضل لي من صبابات هؤلاء الفضلاء في مناهل التورية قولي
( هويته أعجميا فوق وجنته ... لامية عوذتها أحرف القسم )
( في وصفها ألسن الأقلام قد نطقت ... وطال شرحي في لامية العجم ) وقولي
( خال الحبيب يقول لي لما بدا ... من تحت عارضه كسر غامض )
( أنا فارضي في الغرام بخده ... فغدا مقامي تحت ذيل العارض ) وقولي
( عزمت على السلو لطول هجري ... فجاءتني عوارضه تعارض )
( وكان العذر يقبل في سلوي ... ولكن ما سلمت من العوارض ) وقولي
( دويرة العارض عني حميت ... برشقة من جفنه مشتقة )
( فاترك ملامي يا عذولي إنني ... قتلت بين دورة ورشقة ) وقولي
( ولما راني الشعر وهو مذيل ... وجانب ذاك الصدغ وهو مطرف )
( بدا بخمار من خمار بريقه ... فقلت لهم هذا الجناس المحرف ) وقولي
( أقول لثغر الحب مت ولم أجد ... سبيلا إلى برد الحشايا أخا الصفا )
( فقال ارتشف من خمر ريقي نهلة ... ألم تره من برده قد تقرقفا ) وقولي
( لما تعذر من أحب تعذر الصبر ... الجميل فلم أطق أن أصبرا )
( قال العذول الصبر أعظم مسعد ... في العشق قلت أما تراه تعذرا ) وقولي مع بديع الاقتباس
( ناحت مطوقة الرياض وقد رأت ... تلوين دمعي بعد فرقة حبه )
( لكن به لما سمحت تباخلت ... فغدت مطوقة بما بخلت به ) وقولي في مدح حماة
( ذكرت أحبتي بالمرج يوما ... فقوت أدمعي نيران وهجي )
( وبت أكابد الأحزان وحدي ... وكل الناس في هرج ومرج )

وقولي فيه أيضا
( مرج حماة بنواعيره ... زاد على المقياس في روضته )
( واغتاظ نمروذ دمشق لذا ... فقلت لا أفكر في غيظته )
وجلست يوما في قطاف السفرجل على عين الغيضة الموصوفة بست الشام مع جماعة من أهل العلم والأدب فنظم كل منهم ما يليق بذلك المقام على قدر مقامه فنظمت قولي
( تقول ست الشام لما غازلت ... بعينها فأنعشت حياتي )
( وانتقشت بمرجها وأبرزت ... نهدا حلا لأنه نباتي )
( خذني بغير ضرة فإنني ... بديعة في الحسن والصفات )
( واستجلني عروسة يتيمة ... شامية وعش بلا حماة ) وقولي في وادي رشعين وعينه بظاهر مدينة طرابلس
( أرض وادي رشعين مفتوحة العين ... لها نقطة على النيرين )
( ما حللنا هناك إلا وقالت ... أجلسوهم على محاجر عيني ) وقولي بوادي المنافس بظاهرها أيضا
( وادي المنافس من مغنى طرابلس ... بطيب أنفاسه أبدى نفائسه )
( وكاد يلحق بالشقرا وأبلقها ... فلا تلوموا إذ أقوى منافسه ) وقولي برأس العين ببعلبك
( ولما نزلنا بعلبك تفكهت ... عيوني وأذواقي وصلت على البين )
( وطالبتها يوما برؤية مرجها ... وخضرته قالت على الرأس والعين ) ومن أغزالي البديعة قولي
( ماس في الروض وانثنى ... بخدود مورده )
( فرأينا غصونه ... وهي خشب مسنده )

وقلت موريا ومقتبسا ومكتفيا
( قالوا وقد فرطت في تصبري ... وما برى بوصله سقاما )
( اصبر عسى تسقى بماء ريقه ... قلت لهم يا حسرتا على ما ) وقولي
( أرخت لنا ذوائبا من شعرها ... عشرا وفرق الفجر فيهم يسري )
( فصرت بالفجر لها معوذا ... لما بدا بين ليال عشر ) وقولي موريا مع بديع التضمين
( سرنا وليل شعره منسدل ... وقد غدا بنومنا مضفرا )
( فقال صبح ثغره مبتسما ... عند الصباح يحمد القوم السرى ) وقولي
( قف واستمع طربا فليلى في الدجا ... باتت معانقتي ولكن في الكرى )
( وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أترى درى هذا الرقيب بما جرى ) وقولي
( كم صحت في ظلمة الليالي ... ويلاه من نومي المشرد )
( والدمع في وجنتي ينادي ... أواه من شملي المبدد ) وقولي
( يقول معذبي حسن تخير ... سواي فقلت قد عز اصطباري )
( وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري ) وقولي
( ارشفني ريقه وعانقني ... وخصره يلتوي من الدقه )
( فصرت من خصره وريقته ... أهيم بين الفرات والرقه ) وقولي
( أبصروا عند وداعي ... عقدها وهو مفرط )
( لمتها في ذاك قالت ... برح الشوق وأفرط )

وقولي
( سجدت جفوني هيبة لما بدا ... محراب حاجبه بغير حجاب )
( الله أكبر وهو يغزو مهجتي ... حربا ولم أخرج عن المحراب ) وقولي
( طلبت منه قبلة فقال لي ... وقد بدا يشرع في الإعراض )
( نسيت فعل سيف لحظي قلت لا ... يا قاتلي وكيف أنسى الماضي ) وقولي
( قيل لي لما عرتني شدة ... وتناءى فرج عني مده )
( يا أخا الأشواق ماذا تبتغي ... قلت أبغي فرجا من بعد شده ) وقولي
( مذ جفاني ممرض القلب ولم ... ألق في الضعف وفي الكسر انجبارا )
( قلت للعارض يا اسي إذا ... درت داري ممرض القلب فدارا ) وقولي
( طلبت تقبيل من أحب وقد ... أنكرت في الخد نقطة حسنه )
( فرق لي قلبه وقال إذا ... قبلت خدي لا تنكر الحسنه ) وقولي موريا ومضمنا
( حثثت عزمي شوقا إليكم ... فلم أطق مكثه بأرض )
( وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي ) وقولي
( جاء بصبح ثغره مبتسما ... يمشي بليل الشعر في دلال )
( قلت له دمت لقلبي هكذا ... ما دامت الأيام والليالي ) وقولي مرتجلا في جبهة دمشق من دو بيت
( لما ملأ الجبهة بالأنوار ... لمناه على ذلك خوف العار )
( قال انصرفوا سئمت من بلدتكم ... والجبهة من منازل الأقمار ) وقولي
( مذ أظهر ورده لنا ريحانه ... ناديت لتلك المقلة الكسلانه )
( قد دب عذاره على وجنته ... قومي انتبهي قالت أنا نعسانه ) وقولي
( أحببته متأدبا ونظمت في ... حسن ابتدائي فيه نظم المرقص )
( وأشار في حسن الختام أجبته ... حسن الختام يكون بعد تخلصي )

وقولي
( يحاضرني بأبيات ولكن ... يعيرني إذا طال اجتماعي )
( فإن أنشدت أشعار السلام ... يطارحني بأبيات الوداع ( عي ) ) وقولي
( قلت للخال إذ بدا ... في نقا جيده السعيد )
( فزت يا عبد قال لي ... أنا عبد لكل جيد ) وقولي
( قال أراك الحمى تعوض ... بغصن قدي إذا جفاكا )
( فقلت من بعد قد حبي ... والله ما أشتهي أراكا ) وقولي
( رمت يوم العيد منه وقفة ... ليرى من بعده حالي وضعفه )
( فطر القلب وولى قائلا ... يا معنى ما لعيد الفطر وقفه ) وقولي
( قال نهد الحب صفني مذ غدا ... قاعدا في الصدر بالتصدير يجهر )
( قلت إذ برز في تحقيقه ... أنت بالتحقيق والله مصدر ) وقولي
( أسياف لحظ قاتلي ... لما تعدت حدها )
( وعربدت من سكرها ... قلت استحي فردها )
( وقال لي موريا ... لا بد أن أحدها ) وقولي
( عاتبته ودموعي غير جارية ... لأن دمعي من طول البكى نشفا )
( فقال لم أر وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجا وكفا ) وقولي
( قالت وقد قبلتها في جيدها ... تصبو إلى غيري وتخلص من يدي )
( فأجبت حين تقلدت بمدامعي ... يا هند خوضي في دمي وتقلدي ) وقولي
( بنقطة الخال وطعم اللمى ... وخضرة الشارب يا عاتبي )
( قد ملت للنقطة بعد التقى ... وقلت بالمشروب والشارب )

وقولي
( أرداف من أهواه قد تثاقلت ... لما تجافى الشعر يوم البين )
( وبعد ذا وجنته تلونت ... وساقه والله ذو وجهين ) وقولي
( برامة لي ظبي ... تخشى الأسود مرامه )
( كم هام قلبي فيه ... بين العذيب ورامه ) وقولي
( هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
( قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم أعين سودوا ( د ) ) وقولي
( قلت له إن جفن مقلته ... يشبه سهما بجعبة رشقه )
( خفت من الفتك رحت أملقه ... سابقني مدمعي جرى ملقه ) وقولي
( في سويداء مقلة الحب نادى ... لحظه وهو يقنص الأسد صيدا )
( لا تقولوا ما في السويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا ) وقولي
( بروحي أفتدي ظبيا نفورا ... يحق له بروحي أن يفدى )
( جلا لصدا قليبي فرد يوم ... بوصل منه ثم جفا وصدا ) وقولي موريا مضمنا
( ومذ كلمت جسمي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم )
( فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم ) وقولي
( جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي )
( أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي ) وقولي
( رأيت مع المنثور بعض وقاحة ... ولم أدر ما بين الغدير وبينه )
( تلون منه ثم مد أصابعا ... إلى وجهه قصدا وخضر عينه )

وقولي
( حيا بها عاصرها في كأسها ... مشرقة باسمة كالثغر )
( وقال هذي تحفة في عصرنا ... قلت اسقنيها يا إمام العصر ) وقولي
( لما غدا حباب كأسي شاعرا ... لنظم خمرياته يحرر )
( أوقفت ساقينا على نظامه ... فقال لي والله هذا جوهر ) وقولي
( لما غدا راحي نحيلا باليا ... وكاد أن لم يك في الزجاج )
( وجاز بالماء إلى بحرانه ... ورق قالوا صنه بالعلاج )
( فجئته مستقصيا أعراضه ... وجدته معتدل المزاج ) وقولي
( في حب كأسي لامني ... من ليس يدري حالتي )
( فقلت دعني إنني ... وجدت فيها راحتي ) وقولي مماجنا
( أعنابكم إن حرموا ماءها ... وحرفوا فيها على الشارب )
( لا تحرموني التين إني امرؤ ... أعشقه بالقلب والقالب ) وقولي
( أدخلت أيري فيه ... أصبحت منه المقاتل )
( فقلت كيف تراه ... فقال والله داخل ) وقولي
( العلم ابن الكوير قال معي ... لطف وظرف حواهما الكرم )
( وقامتي بانة مهفهفة ... فقلت لا بانة ولا علم ) وقولي
( قالوا صفي الدين أشعاره ... ما للورى في طرقها ممشى )
( وهكذا إنشاؤه مسكر ... قلت لهم والله ما أنشا ) وقولي
( ديوان نظمي جاء وهو محرر ... برقيق نظم لفظه يستعذب )
( فإذا بدى لا تستقلوا حجمه ... وحياتكم فيه الكثير الطيب )
انتهى ما أوردته في باب التورية من كتاب الله وحديث نبيه وكلام أصحابه رضي الله عنهم أجمعين ومن نظم فحول العرب والمولدين إلى أن ارتفع العلم الفاضلي وأوردت محاسنه ومحاسن من مشى تحت علمه المحمدي إلى أن اتصل هذا السند بأعيان أهل العصر
قلت ولولا الحياء من العصابة النباتية وأنا منها لعززت العلمين من الوداعي

بثالث فأوردت هنا من مطرب عطر مفرداته ما يغني عن المثاني والمثالث فإنه أحد أئمة هذا المذهب وإذا ذكرت التورية فهو عذيقها المرجب وعلى كل تقدير ففرسان العلمين المشهورين الفاضلي والنباتي هم الذين أبرزوا عروس التورية من خدرها وحققوا للناس من تساذج عن نقوش القاعدة وسفل عن علو قدرها ولم أخل بذكر الشهاب محمود وكان محمود الحشمة في ألفاظه على كل ناظم وناثر إلا أن التورية كانت غير مذهبه ووقوعها في نظمه ونثره من النوادر وتمذهب بها القاضي شهاب الدين بن فضل الله ولكن ما تفقه في هذا المذهب ولا حرره ولا أبدر فيها بدر الدين بن حبيب وكانت ليالي سطورها بنظمه غير مقمرة ولهذا خدمها حذاق الأدب وحافظوا على الخدمة وثابروا وأنشدوا من رضي بالشعر الموزون
( إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وازن وما أنا شاعر )
قلت ومما تخيرته من نظم القاضي شهاب الدين بن فضل الله رحمه الله من النكت التي وقعت له عفوا من غير كد ولا تكلف قوله
( جاؤوا بأنواع من الطيب لنا ... تحملها معشوقة ممشوقه )
( قلت خذوا الطيب لكم جميعه ... بشرط أن لا تأخذوا المعشوقه ) ومما اخترته من نظم بدر الدين بن حبيب رحمه الله تعالى قوله
( وجنته الحمراء لما اكتست ... خضرة أذناب الطواويس )
( عابوا لفرط الحسن دينارها ... فقلت خلوه على كيسي )
قلت وقد عن لي أن أورد هنا نبذة من نظم من كانت التورية غير مذهبه لأجعلها في مهالك الأشكال وموانع العقادة جل مطلبه وما علي ممن تأخر عصرا أو تقدم فإن الغرض أن يصير عقد التورية وهو بنظم من شعر بها منظم وما خفي أن من حذاق الأدب من وقعت له التورية عفوا وصار العفو محلا عند القدرة ومنهم من نقب عنها وعسعس عليه ظلام التكليف فلم يبرزها نيرة كالشيخ صفي الدين فإنها كانت غير مذهبه وحاولها مرارا فأتى بها مغصوبة ولم يبلغ من اقتناص شواردها بحبائل فكره مطلوبه كقوله

( وساق من بني الأتراك طفل ... أتيه به على جمع الرقاق )
( أملكه قيادي وهو رقي ... وأفديه بعيني وهو ساقي )
قلت لا شك أن مراده بالمعنى الواحد من التورية ساقي الراح وهو ظاهر صحيح وبالمعنى الآخر أن يكون هذا الساقي ساقا للشيخ صفي الدين وهو غير ممكن ولعمري إن هذا مسلك من ليس له في باب التورية مدخل وهذه النكتة أبرزتها معلمة الطرفين وأنا إذ ذاك مبتدىء لم أبلغ من البلاغة أشدي ولا ثبت عند قضاة الأدب رشدي بقولي موريا ومضمنا
( يا حسن ساق يقول إن ذهبت ... مدامكم تكيفوا بأحداقي )
( شمر عن ساقه لنا وسقى ... قامت حروب الهوى على ساق )
قلت ومما عقده الشيخ صفي الدين في هذا الباب بيت بديعيته الذي نظمه شاهدا على هذا النوع وهو قوله في مدح النبي
( خير النبيين والبرهان متضح ... في الحجر عقلا ونقلا واضح اللقم )
قلت ومن تواريه التي يستشهد بها على رفضه ولا بد أن الله تعالى يقابله فيها على قبح سريرته وقلة أدبه قوله
( إذا شاهدت عيناك وجه معذبي ... وقد زارني بعد القطيعة والهجر )
( رأيت بقلبي من تلقيه مرحبا ... وسيف علي في لحاظ أبي بكر )
وكذلك الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسي ناظم البديعية كان عن نظم التورية بمعزل ولم ترض أن تنزل من أبياته بمنزل وبيت نظمه في بديعيته شاهدا على هذا النوع في غاية العقادة والسفالة وهو قوله
( لا يرفع العين للراجين يمنحهم ... بل يخفض الرأس قولا هاك فاحتكم )
وهذه البديعية غالبها سافل على هذا النمط والتورية تجل عن أن تكون من مخدرات هذا البيت ولكن أورد له الشيخ أبو جعفر في شرحه الذي كتبه على بديعيته ما هو منقول في هذا الباب وهو قوله

( وقفت للوداع زينب لما ... رحل الركب والمدامع تسكب )
( مسحت بالبنان دمعي وحلو ... سكب دمعي على أصابع زينب )
قلت ورتبة الشيخ صفي الدين بالنسبة إلى ابن جابر معلوم أنها عالية ولكن التورية ما دخلت إلى بيت من بيوته إلا خرجت غير راضية
ومن التواري التي وقعت لناظمها عفوا بل سحرا من غير كد قول القائل
( قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاب )
( فذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف ) ومن ذلك قول جلال الدين شاعر ماردين قديما
( ويوم برد يد أنفاسه ... تخمس الأوجه من قرصها )
( يوم تود الشمس من برده ... لجرت النار إلى قرصها ) ومثله قول شرف الدين بن منقذ
( ولرب ليل تاه فيه نجمه ... وقطعته سهرا فطال وعسعسا )
( وسألته عن صبحه فأجابني ... لو كان في قيد الحياة تنفسا ) ومثله قول ابن نبيه وكانت التورية غير مذهبه
( تعلمت علم الكيمياء بحبه ... غزال بجسمي ما بعينيه من سقم )
( فصعدت أنفاسي وقطرت أدمعي ... فصح بذا التدبير تصفية الجسم ) ومثله قول ظهير الدين بن البارزي
( يا لحية الحب التي ... طال لها تلفتي )
( هل أنت مسك الترك أو ... هل أنت مسك تبت ) ومثله قول أمين الدين السليماني
( أضيف الدجا معنى إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خص بالجر )
( وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر )

ومثله قول محاسن الشواء
( ولما أتاني العاذلون عدمتهم ... وما منهم إلا للحمى قارض ) ( وقد بهتوا لما رأوني ساهيا ... وقالوا به عين فقلت وعارض ) ومثله قول سعد الدين الفارقي
( قف بي على نجد فإن قبض الهوى ... روحي فطالب خد ليلى بالدم )
( وإذا دجا ليل الفراق فناده ... يا كافرا أحللت قتل المسلم ) ومثله قول شهاب الدين بن أبي الحوف
( أقول لعقد أذهل الطرف حسنه ... على جيد خود وصلها كل مقصودي )
( أخذت نظاما راق معنى فقال لي ... وما زلت في عمري أدور على الجيد ) ومثله قول إبراهيم بن عبد الله الغرناطي
( يارب كأس لم تشج شمولها ... فأعجب لها جسما بغير مزاج )
( لما رأينا السحر من أشكالها ... جملا نسبناه إلى الزجاج ) ومثله قول مجير الدين بن حبان الشاطبي
( تؤمون الحجاز وما علمتم ... بأن القلب بيتكم العتيق )
( وألفاظي العذيب وأضلعي المنحنى ودموع مقلتي العقيق ... ) ومثله قول الشريف محمد بن قاضي الجماعة بغرناطة وهو
( حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقة البهاء )
( فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء )

ومنه قول لسان الدين بن الخطيب
( جلس المولى لتسليم الورى ... ولفضل البرد في الجو احتكام )
( فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام ) ومنه قول الشيخ شمس الدين الأدفوي
( كم للنسيم على الربا من نعمة ... وفضيلة بين الورى لن تجحدا )
( ما زارها وشكت إليه فاقة ... إلا وهز لها الشمائل بالندا ) ومثله في الحسن واللطف قول الشيخ موفق الدين الحكيم
( لله أيامنا والشمل مجتمع ... نظما به خاطر التفريق ما شعرا ) ( والهف قلبي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعه المختار مختصرا ) ومنه قول عبد العزيز الآمدي
( إن الذي في وجهه جنة ... حفت بمكروه من العذل )
( مقلته في وسط قلبي غدت ... أرملة تأكل بالغزل ) ومنه قول القائل وأجاد
( ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت عى ضعف النسيم بخطها )
( كتبت سقيما في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها ) ومثله في الحسن قول علاء الدين بن البطريق ناظر الجيش ببغداد
( دار السراج بديعة ... فيها تصاوير بمكنه )
( تحكي كتاب كليلة ... فمتى أراها وهي دمنه ) ويعجبني في هذا الباب قول القائل في حمام
( إن حمامك التي نحن فيها ... أي ماء لها وأية نار )
( قد نزلنا فيها على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخار ( ي ) )

ومن المخترعات في هذا الباب قول الشيخ شمس الدين الواسطي يهجو عوادا وزامرا
( شبهت ذا العواد والزامر إذ ... ضاقت علينا بهم المناهج )
( بعقرب يضرب وهو ساكت ... وأرقم ينفخ وهو خارج ) ويعجبني قوله من دو بيت
( إن ضرمني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري )
( فالعاذل في هواه لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري ) ومنه قول القاضي علاء الدين بن الجويني صاحب الديوان ببغداد
( يا طيب مبيتنا بواد السمر ... في بهجة ليلة بضوء القمر )
( وافى بفراقنا نسيم سحرا ... ما أبرد ما جاء نسيم السحر ) ومن الغايات في هذا الباب قول الشيخ صدر الدين بن الوكيل
( كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ما حوته المقل )
( والان أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل ) ومثله قوله
( يا غاية منيتي ويا معشوقي ... من بعدك لم أمل إلى مخلوق )
( يا خير نديم كان لو يؤنسني ... من بعدك صليت على الراووق ) ويعجبني من نظم المواليا في هذا الباب قول القائل
( حبي ومحبوبتي مذ بان يوم البين ... زاروا عشا ليلة الاثنين قبل الحين )
( فصرت أنظر إلى زينه وألمح زين ... وأقول يا قلب ما أحلى ليلة الاثنين ) ومثله في اللطف قول الاخر
( سمعتها وهي داخل دارها في الصحن ... تنشد رمل صحنت قلبي المعنى صحن )
( يا ليتها مع تغنيها وطيب اللحن ... ترفع أجر ودع يدخل على اللحن )

ومثله قول الآخر
( قالت لها أختها قصدي يسمعنا ... ما النحو قالت لها نحن بأجمعنا )
( للرفع والنصب أنا وأنتى ومن معنا ... للجر والزوج حرف جاء للمعنى ) ومنه قوله
( ستي الكبيرة لها الخدام والحرمه ... تحلف على النيك بالمصحف وبالختمه )
( جاها الطواشي أفشخت لو ناك من كلمه ... راحت يمين القواقية على قرمه ) ومثله في اللطف قول القائل
( يا منيتي زدت لهواتي تنشفها ... واحرمتني الشفة الحمراء أرشفها )
( تحب بيضا وأجفانك تحشفها ... بالله أنظر ظلاماتي وكشفها ) ويعجبني قول الشيخ حامد الحكاك
( ثار الغرام الذي في مهجتي خامد ... وسال دمعي الذي كنت أعهده جامد )
( وأنا ببغداد والمحبوب في امد ... مصيبتي عظمت وأنا لها حامد )
وقد طال الشرح وأوردت في باب التورية من المحاسن ما يكفي قديما وحديثا وأوردت بعد ذلك ما وقع فيها من النظم عفوا وتكليفا وقد تعين علي إيراد ما وعدت به في ديباجة هذا الباب من فقه التورية والكلام على أنواعها وأقسامها فإن القول على اختلاف عبارات الحدود قد تقدم والكل راجع إلى مقصود واحد إذ القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركا بين معنيين أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية فيريد المتكلم المعنى البعيد ويوري عنه بالقريب فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك ولهذا سمي هذا النوع إيهاما

أنواع التورية
والتورية أربعة أنواع مجردة ومرشحة ومبينة ومهيأة
النوع الأول التورية المجردة وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المورى به وهو المعنى القريب ولا من لوازم المورى عنه وهو المعنى البعيد وأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) لأن الاستواء على معنيين أحدهما الاستقرار في المكان وهو المعنى القريب والثاني الاستيلاء والملك وهو المعنى

البعيد المورى عنه وهو المراد لأن الحق سبحانه منزه عن المعنى الأول ولم يذكر من لوازم هذا شيئا ولا من لوازم ذاك فالتورية مجردة بهذا الاعتبار ومنه قول النبي في خروجه إلى بدر وقد قيل له ممن أنتم فلم يرد أن يعلم السائل فقال من ماء وأراد أنا مخلوقون من ماء فورى عنه بقبيلة من العرب يقال لها ماء ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الهجرة وقد سئل عن النبي فقيل من هذا فقال هاد يهديني أراد أبو بكر هاديا يهديني إلى الإسلام فورى عنه بهادي الطريق الذي هو الدليل في السفر ومنه قول القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا فأزهرت فيه الأرض
( كأن نيسان أهدى من ملابسه ... لشهر كانون أنواعا من الحلل )
( أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل )
فالتورية هنا مجردة والشاهد في الغزالة والجدي والحمل فإن الناظم لم يذكر قبل الغزالة ولا بعدها شيئا من لوازم المورى به كالأوصاف المختصة بالغزالة الوحشية من طول العنق وسرعة الالتفات وسرعة النفرة وسواد العين ولا من أوصاف المورى عنه كالأوصاف المختصة بالغزالة الشمسية من الإشراق والسمو والطلوع والغروب فإن قيل إن الغزالة قد رشحت بذكر الجدي والحمل وهما مرشحان بالغزالة فالجواب إن لازم التورية من شرطه أن يكون لفظه غير مشترك والغزالة هنا مشتركة وكذلك الجدي والحمل
ومنه قول القاضي محيي الدين بن زيلاق وقد أهدى لصاحب الموصل حملا
( يا أيها المولى الذي ... ببابه كل أمل )
( لو لم تكن بدرا لما ... أهدى لك الثور حمل )
فالتورية وقعت بين البدر والثور والحمل ولم يذكر لواحد منهما لازما فالبدر مشترك بين اسم الممدوح وبدر السماء والثور مشترك بين الحيوان والبرج في السماء وكذلك الحمل ومنه قول بعضهم من كان وكان
( لو سنبله خلف ظهرو ... ناظر إليها المشترى )
( ولو ذنب ما يقارن ... حتى يرى الميزان )

ومنه قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر يصف واديا
( وبطحاء من واد يروقك حسنه ... ولا سيما إن جاد غيث مبكر )
( به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به العيش يحيى وهو لا شك جعفر )
فالتورية وقعت هنا في الفضل والربيع ويحيى وجعفر والاشتراك في كل من الأربعة ظاهر
النوع الثاني التورية المرشحة وهي التي يذكر فيها لازم المورى به سميت بذلك لتقويتها بذكر لازم المورى به ثم تارة يذكر اللازم قبل لفظ التورية وتارة بعده فهي بهذا الاعتبار قسمان فالقسم الأول منها هو ما ذكر لازمه قبل لفظ التورية وأعظم أمثلته قوله تعالى ( والسماء بنيناها بأيد ) فإن قوله بأيد يحتمل الجارحة وهذا هو المعنى القريب المورى به وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البنيان ويحتمل القوة وعظمة الخالق وهذا المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد فإن الله سبحانه منزه عن المعنى الأول ومنه قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة
( فلما نأت عنا العشيرة كلها ... أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر )
( فما أسلمتنا عند يوم كريهة ... ولا نحن أغضينا الجفون على وقر )
الشاهد في الجفون فإنها تحتمل جفون العين وهذا هو المعنى القريب المورى به وقد تقدم لازما من لوازمه على جهة الترشيح وهو الإغضاء لأنه من لوازم العين وتحتمل أن تكون جفون السيوف أي أغمادها وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم
ومن ألطف ما وقع في هذا القسم قول شمس الدين الحكيم بن دانيال الكحال
( يا سائلي عن حرفتي في الورى ... وصنعتي فيهم وإفلاسي )
( ما حال من درهم إنفاقه ... يأخذه من أعين الناس )
الشاهد هنا في أعين الناس فإنها تحتمل الحسد وضيق العين وهو المعنى

القريب المورى به وقد تقدم لازمه على جهة الترشيح وهو درهم الإنفاق لأنه من لوازم الحسد ويحتمل العيون التي يلاطفها بالكحل وهذا هو المعنى المورى عنه وهو مراد الناظم الكاحل
انتهى القسم الأول من التورية المرشحة والقسم الثاني منها هو ما ذكر لازمه بعد لفظ التورية ومن أمثلته اللطيفة قول الشاعر
( مذ همت من وجدي في خالها ... ولم أصل منه إلى اللثم )
( قالت قفوا واستمعوا ما جرى ... خالي قد هام به عمي )
الشاهد في الخال فإنه يحتمل خال النسب وهذا هو المعنى القريب المورى به وقد ذكر لازمه بعد لفظ التورية على جهة الترشيح وهو العم ومنه قول الشاعر
( أقلعت عن رشف الطلا ... واللثم في ثغر الحبب )
( وقلت هذي راحة ... تسوق للقلب التعب )
الشاهد هنا في الراحة التي هي ضد التعب وقد ذكر التعب بعدها على جهة الترشيح لها وهذا هو المعنى القريب المورى به ويحتمل الراحة التي هي من أسماء الخمر وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم
النوع الثالث التورية المبينة وهي ما ذكر فيها لازم المورى عنه قبل لفظ التورية أو بعده فهي بهذا الاعتبار أيضا قسمان فالقسم الأول هو ما ذكر لازمه من قبل واستشهدوا عليه بقول البحتري
( ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلوب وتعذب )
الشاهد هنا في تملح فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي ضد العذوبة وهذا هو المعنى القريب المورى به ويحتمل أن يكون من الملاحة التي هي عبارة عن الحسن وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم وقد تقدم من لوازمه على جهة التبيين ملية بالحسن
قلت هذا الشاهد الذي استشهدوا به من نظم البحتري فيه نظر ولكن يأتي

الكلام عليه في موضعه ومن أحسن الشواهد على هذا القسم قول الشيخ شرف الدين ابن عبد العزيز شيخ شيوخ حماة رحمه الله تعالى
( قالوا أما في جلق نزهة ... تنسيك من أنت به مغرى )
( يا عاذلي دونك من لحظه ... سهما ومن عارضه سطرا )
الشاهد هنا في موضعين وهما السهم وسطرا فإن المعنى البعيد هما الموضعان المشهوران بمنتزهات دمشق وذكر النزهة بجلق قبلهما هو المبين لهما وأما المعنى القريب فسهم اللحظ وسطر العارض
القسم الثاني من التورية المبينة هو الذي يذكر فيه لازم المورى عنه بعد لفظ التورية ومن أمثلته البديعة قول الشاعر
( أرى ذنب السرحان في الأفق ساطعا ... فهل ممكن أن الغزالة تطلع )
الشاهد هنا في موضعين أحدهما ذنب السرحان فإنه يحتمل أول ضوء الفجر وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم وقد بينه بذكر لازمه بعده بقوله ساطعا ويحتمل ذنب الحيوان المعروف وهذا هو المعنى القريب المورى به واستشهدوا على هذا القسم بقول ابن سناء الملك وهو
( أما والله لولا خوف سخطك ... لها علي ما ألقى برهطك )
( ملكت الخافقين فتهت عجبا ... وليس هما سوى قلبي وقرطك )
الشاهد هنا في الخافقين فإنه يحتمل أن يريد قلبه وقرط محبوبه وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو مراد الناظم وقد بينه بالنص عليه فإنه صرح بعد الخافقين بذكر القلب والقرط ويحتمل أن يريد ملك المشرق والمغرب وهذا هو المعنى القريب المورى به
النوع الرابع التورية المهيأة وهي التي لا تقع فيها التورية ولا تتهيأ إلا باللفظ الذي قبلها أو باللفظ الذي بعدها أو تكون التورية في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت في الاخر فالمهيأة بهذا الاعتبار ثلاثة أقسام القسم الأول من التورية المهيأة وهو

الذي تتهيأ فيه التورية من قبل وقد استشهدوا على ذلك بقول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة
( وسيرك فينا سيرة عمرية ... فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب )
( وأظهرت فينا من سميك سنة ... فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب )
الشاهد هنا في الفرض والندب وهما يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية وهذا هو المعنى القريب المورى به ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء والندب صفة الرجل السريع في قضاء الحوائج الماضي في الأمور وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ولولا ذكر السنة لما تهيأت التورية فيهما ولا فهم من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية
القسم الثاني من التورية المهيأة وهو الذي تتهيأ فيه التورية بلفظة من بعد ومن أمثلته نثرا قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الأشعث بن قيس إنه كان يحوك الشمال باليمين فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ويحتمل أن يراد بها الشمال التي هي إحدى اليدين وهذا هو المعنى القريب المورى به ولولا ذكر اليمين بعد الشمال لما تنبه السامع لمعنى اليد ومنه نظما قول الشاعر
( لولا التطير بالخلاف وأنهم ... قالوا مريض لا يعود مريضا )
( لقضيت تحبا في جنابك خدمة ... لأكون مندوبا قضى مفروضا )
فالمندوب هنا يحتمل الميت الذي يبكى عليه وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد ويحتمل أن يكون أحد الأكام الشرعية وهو المعنى القريب المورى به ولولا ذكر المفروض بعده لم يتنبه السامع لمعنى المندوب ولكنه لما ذكرت تهيأت التورية بذكره ومثله قول أبي الحسين الجزار
( يا عذولي دعني من العذل إن ... النصح في مذهب الهوى تحريض )
( مت لما نأى فها أنا مندوب ... فراق وحبه مفروض )
الكلام على هذا الشاهد كالكلام على الذي قبله

القسم الثالث من التورية المهيأة وهو الذي تقع التورية فيه في لفظين لولا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي وهو
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان )
( هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني )
الشاهد في البيت الأول في الثريا وسهيل فإن الثريا يحتمل أن يكون أراد بها بنت علي بن عبد الله بن الحرث بن أمية الأصغر وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد والقريب ثريا السماء وهذا هو المعنى القريب المورى به وسهيل يحتمل أيضا سهيل بن عبد الرحمن بن عوف وقيل كان رجلا مشهورا من اليمن وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ويحتمل النجم المعروف بسهيل وهذا هو المعنى القريب المورى به ولولا ذكر الثريا التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل وكل واحد منهما صالح للتورية
والتورية هنا لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبينة لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم خاص والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية واللفظ الذي تترشح به واللفظ الذي تتبين به أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيأة لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا واللفظ المرشح والمبين إنما هما مقويان للتورية فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة
وسبب نظم هذين البيتين أن سهيلا المذكور تزوج الثريا المذكورة وكان بينهما بون بعيد في الخلق فإن الثريا كانت مشهورة في زمانها بالجمال وسهيل بالعكس وهذا مراد الناظم بقوله عمرك الله كيف يلتقيان وأيضا هي شامية الدار وسهيل يماني انتهى الكلام على التورية المهيأة وهي آخر أنواع التورية
وهنا تنبيه فيه فائدة وهو أن مشايخ هذا العلم قالوا ليس كل لفظ مشترك بين معنيين تتصور فيه التورية كاللغات التي تدور على الألسنة وإنما تتصور حيث يكون المعنيان ظاهرين إلا أن أحدهما أسبق إلى الفهم من الآخر
وقد عن لي أن أختم باب التورية بفائدة تكون مسكا لختامها وبدرا لتمامها وهي أن بعض علماء هذا الفن قالوا إن التورية إذا جاءت بلازمين فتكافا ولم يترجح أحدهما على الآخر فكأنهما لم يذكرا وصار المعنى القريب والمعنى البعيد بذلك في درجة

واحدة وتلحق هذه التورية بالمجردة وتعد فيها قسما ثانيا وتصير مجردة بهذا الاعتبار واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر
( غدوت مفكرا في سر أفق ... أرانا العلم من بعد الجهاله )
( فما طويت له شبك الدراري ... إلى أن أظفرته بالغزاله )
وقالوا إن الشبك من لوازم الغزالة الوحشية والدراري من لوازم الغزالة الشمسية قلت أما قوله في تقريره إن اللازمين إذا تكافآ ولم يترجح أحدهما على الاخر تصير التورية كالمجردة فقريب وأما الشاهد ففيه نظر فإنه صدر بقوله غدوت مفكرا في سر أفق فالتفكر في سر هذا الأفق الذي أراه العلم من بعد الجهالة لازم خاص يرجح جانب الغزالة الشمسية وأما الشبك فاستعارة مرشحة بالحسن لنجوم الدراري وهي أيضا مما يرشح جانب الشمس عند طيها الذي أراد به الناظم غيابها ولو كانت الشمس مجردة من الدراري ربما كان للغزالة الوحشية بعض مقاربة وعين الشمس هنا ما تغطى على الترجيح والله أعلم
واستشهدوا أيضا على هذا بقول مجير الدين بن تميم
( وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم )
( ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم )
وقالوا أيضا إن الصبح من لوازم الغزالة الشمسية والرعي من لوازم الغزالة الوحشية قلت أما الصبح فمن لوازم الغزالة الشمسية كما قالوا وأما رعي نرجس الظلم فليس من لوازم الغزالة الوحشية وإنما هو استعارة مرشحة بالحسن للنجوم وهي مثل استعارة الشباك والدراري والغزالة الوحشية ليس لها هنا مرعى فإنها أجنبية من رعي نرجس الظلم الذي هو عبارة عن النجوم والله أعلم
وقد تقدم قولي على الشاهد الذي أوردوه للبحتري في التورية المبينة بذكر لازم المورى عنه من قبل وقلت فيه نظر وهو قوله
( ووراء تسدية الوشاح ملية ... بالحسن تملح في القلب وتعذب )
هذا الشاهد تعارض فيه اللازمان وتكافآ وهو أقرب إلى المجردة وما ذاك إلا أن الشاهد في قوله تملح يحتمل أن يكون من الملوحة ولازمه تعذب وهو المعنى

القريب ويحتمل أن يكون من الملاحة وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ولازمه ملية بالحسن وقد تعارض اللازمان وهذا هو الشاهد على هذا القسم الذي اختاروه أن يكون قسما ثانيا للتورية المجردة وأقرب منه قول الشيخ زين الدين بن الوردي
( قالت إذا كنت تهوى ... أنسي وتخشى نفوري )
( صد ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري ) ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة
( حملت خاتم فيه فصا أزرقا ... من كثرة اللثم الذي لم أحصه )
( لولاه ما علم الرقيب فيا له ... من خاتم نقل الحديث بفصه )
والأشباه والنظائر من هذا القسم كثير والغرض أن اللازمين إذا تعارضا وتكافآ في التورية يلحق هذا القسم بالتورية المجردة
انتهى الكلام على التورية وقد قدمت من نظم الجماعة الذين مشوا تحت العلمين المشهورين ما هو أشهر من الأعلام فالمتأمل إذا جمع بين طرفي هذا الباب وعرف الأنواع والأقسام وضع كل شيء في محله فإني كشفت له اللثام عن وجه التورية وأما أبيات البديعيات فقد تقدم ذكرها والله أعلم بالصواب

ذكر المشاكلة
( من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم )
المشاكلة في اللغة هي المماثلة والذي تحرر في المصطلح عند علماء هذا الفن أن المشاكلة هي ذكر الشيء بغير لفظه لوقوعه في صحبته كقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) فالجزاء عن السيئة في الحقيقة غير سيئة والأصل وجزاء سيئة عقوبة مثلها ومثله قوله تعالى ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) والأصل تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما عندك فإن الحق تعالى وتقدس لا يستعمل في حقه لفظ النفس إلا أنها استعملت هنا مشاكلة لما تقدم من لفظ النفس ومنه قوله تعالى ( ومكروا ومكر الله ) والأصل أخذهم بمكرهم ومنه قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) أي فعاقبوه فعدل عن هذا لأجل المشاكلة اللفظية
وفي الحديث قوله فإن الله لا يمل حتى تملوا الأصل فإن الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا عن مسألته فوضع لا يمل موضع لا يقطع الثواب على جهة المشاكلة وهو مما وقع فيه لفظ المشاكلة أولا ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته
( ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا )

أي فنجازيه على جهله فجعل لفظة نجهل موضع فنجازيه لأجل المشاكلة ومثله قول الشاعر وتلطف ما شاء
( قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا )
أراد خيطوا فذكره بلفظ اطبحوا لوقوعه في صحبة طبخه
قلت قد تقرر أن هذا النوع أعني المشاكلة اللفظية أن يأتي المتكلم في كلامه باسم من الأسماء المشتركة في موضعين فتشاكل إحدى المشاكلتين اللفظتين الأخرى في الخط واللفظ ومفهومهما مختلف ومن إنشادات التبريزي في هذا الباب قول أبي سعيد المخزومي
( حدق الآجال آجال ... والهوا للمرء قتال )
فلفظة الآجال الأولى أسراب البقر الوحشية والثانية منتهى الأعمار وبينهما مشاكلة في اللفظ والخط قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير هذا الشاهد وأمثاله داخل في باب التجنيس قلت قول الشيخ زكي الدين ظاهر ليس في صحته سقم وهذا البيت الذي أنشده التبريزي من أحسن الشواهد على الجناس التام ولو اعتمد البديعيون على المشاكلة المعنوية لخلصوا من هذا الاعتراض وعلى كل تقدير فالمعارضة تعدت حكم الالتزام في نظم هذا النوع أعني المشاكلة اللفظية وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله عن النبي
( يجزي إساءة باغيهم بسيئة ... ولم يكن عاديا منهم على إرم ) وبيت العميان
( سقاهم الغيث ماء إذ سقى ذهبا ... فغير كفيه إن أمحلت لا تشم ) وبيت الشيخ عز الدين
( يجزي بسيئة للضد سيئة ... معنى مشاكلة من خير منتقم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( من اعتدى فبعدوان يشاكله ... لحكمة هو فيها خير منتقم )

ذكر الجمع مع التقسيم
( جمع الأعادي بتقسيم يفرقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم )
هذا النوع أعني الجمع مع التقسيم هو أن يجمع الناظم بين شيئين فأكثر ثم يقسم كقول أبي الطيب المتنبي
( الدهر معتذر والسيف منتصر ... وأرضهم لك مصطاف ومرتبع )
( للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا ... والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا ) وقد يتقدم التقسيم ويتأخر كقول حسان بن ثابت
( قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حالوا النفع في أشياعهم نفعوا )
( سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع )
فالأول أحسن وأوقع في القلوب وعليه مشى أصحاب البديعيات
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( أبادهم فلبيت المال ما جمعوا ... والروح للسيف والأجساد للرخم )

وبيت العميان في بديعيتهم
( والمال والماء في كفيه قد جريا ... هذا لراج وذا للجيش حين ظمي ) وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( علم ومال على جمع تقسمه ... هذا لغمر وهذا نفع مغترم ) وبيت بديعيتي
( جمع الأعادي بتقسيم يفرقه ... فالحي للأسر والأموات للضرم )

ذكر الجمع مع التفريق
( سناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم )
هذا النوع أعني الجمع مع التفريق هو أن يجمع الشاعر بين شيئين في حكم واحد ثم يفرق بينهما في ذلك الحكم كقوله تعالى ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) فكأنه يقول الشمس والقمر كوكبان فهذا نهاري وهذا ليلي فجمع بينهما إذ هما كوكبان ثم فرق بأن هذا يضيء نهارا وهذا يضيء ليلا فوقع الفرق في الشيء الذي وقع به الجمع
واستشهدوا على هذا النوع بقول الفخر عيسى
( تشابه دمعانا غداة فراقنا ... مشابهة في قصة دون قصة )
( فوجنتها تكسو المدامع حمرة ... ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي )
هذا الناظم جمع بين الدمعين في الشبه ثم فرق بينهما بأن دمعها أبيض فإذا جرى على خدها صار أحمر بسبب احمرار خدها وأن دمعه أحمر لأنه يبكي دما وجسده من النحول أصفر فإذا جرى عليه الدمع حمره ومنه قول البحتري
( ولما التقينا والتقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر منا ولاقطه )
( فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه )

وبيت الصفي الحلي
( سناه كالبرق يجلو كل مظلمة ... والعزم كالنار يفني كل مجترم ) وبيت العميان في تركيبه قلق حيث قالوا
( فلذ بمن كفه والبحر ما افترقا ... إلا بكف وبحر في كلامهم ) وبيت الشيخ عز الدين شن فيه الغارة على بيت الشيخ صفي الدين الحلي بقوله
( وعزمه النار في جمع يفرقه ... ووجهه النور يجلو ظلمة الغشم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( سناه كالبرق إن أبدوا ظلام وغى ... والعزم كالبرق في تفريق جمعهم )

ذكر الإشارة
( ومن إشارته في الحرب كم فهم الأنصار ... معنى به فازوا بنصرهم )
هذا النوع أعني الإشارة ما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه بأن قال هو أن يكون اللفظ القليل مشتملا على المعنى الكثير بإيماء ولمحة تدل عليه كما قيل في صفة البلاغة هي لمحة دالة وتلخيص هذا الشرح إنه إشارة المتكلم إلى المعاني الكثيرة بلفظ يشبه لقلته واختصاره بإشارة اليد فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة ولا بد في الإشارة من اعتبار صحة الدلالة وحسن البيان مع الاختصار لأن المشير بيده إن لم يفهم المشار إليه معناه فإشارته معدودة من العبث
وكان النبي سهل الإشارة كما كان سهل العبارة وهذا ضرب من البلاغة يمتدح به
والإشارة قسمان قسم للسان وقسم لليد ومن شواهد الإشارة في الكتاب العزيز قوله ( وغيض الماء ) فإنه سبحانه أشار بهاتين اللفظتين إلى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء وذهاب الماء الذي كان حاصلا على وجه الأرض قبل الإخبار ولو لم يكن كذلك لما غاض الماء ومنه قوله تعالى ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) فالمح أيها المتأمل كل ما تميل النفوس إليه من اختلاف الشهوات وملاذ الأعين في اختلاف المرئيات لتعلم أن بلاغة هذا اللفظ القليل جدا عبرت عن المعاني

التي لا تنحصر عدا ومنه قوله تعالى ( ... فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ومن المنظوم قول زهير في هذا النوع
( فإني لو لقيتك فاتجهنا ... لكان لكل منكرة لقاء ) يعني قابلت كل منكرة بمثلها ومن أمثلة هذا النوع قول امرىء القيس
( بعزهم عززت فإن يذلوا ... فذلهم أنالك ما أنالا ) فانظركم تحت قوله أنالك ما أنالا من أنواع الذل ومثله قوله
( فلأشكرن غريب نعمته ... حتى أموت وفضله الفضل )
( أنت الشجاع إذا هم نزلوا ... عند المضيق وفعلك الفعل )
فالحظ كم تحت قوله وفضله الفضل بعد إخباره بأنه يشكر غريب نعمته حتى يموت من أصناف المدح وترجيح فضله على الشكر وفي قوله غريب نعمته غاية المدح إذ جعل نعمته غريبة لم يقع مثلها في الوجود وكم تحت قوله وفعلك الفعل بعد إخباره بمنزل القوم عند المضيق الدال على صبرهم وشجاعتهم وما في ذلك من ترجيح شجاعته عليهم ومنه قوله في صفة الفرس
( على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كز ولا واني )
فإنه أشار بقوله أفانين إلى جمع صنوف عدو الخيل المحمودة والذي يدل على ذلك قوله قبل سؤاله فإن الأفانين المحمودة كانت منه عفوا من غير طلب ولا حث وهذا كمال الوصف ولو عدت هذه المعاني بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة إلى ألفاظ كثيرة
وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته
( يولي الموالين من جدوى شفاعته ... ملكا كبيرا عدا ما في نفوسهم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( ما تشتهي النفس يهدى في إشارته ... يعطي فنونا بلا من ولا سأم ) وبيت بديعيتي
( ومن إشارته في الحرب كم فهم ... الأنصار معنى به فازوا بنصرهم )

ذكر التوليد
( توليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم )
قلت هذا النوع أعني التوليد ليس تحته كبير أمر وهو على ضربين من الألفاظ والمعاني فالذي من الألفاظ تركه أولى من استعماله لأنه سرقة ظاهرة وما ذاك إلا أن الناظم يستعذب لفظة من شعر غيره فيقتضبها ويضمنها غير معناها الأول في شعره كقول امرىء القيس في وصف الفرس
( وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل ) فاستعذب أبو تمام قيد الأوابد فنقلها إلى الغزل فقال
( لها منظر قيد الأوابد لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب )
والتوليد من المعاني هو الأجمل والأستر وهو الغرض ههنا وذلك أن الشاعر ينظر إلى معنى من معاني من تقدمه ويكون محتاجا إلى استعماله في بيت من قصيدة له فيورده ويولد منه معنى آخر كقول القطامي
( قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل ) وقال من بعده ونقص الألفاظ وزاد تمثيلا وتوكيدا وتذييلا

فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله ومعنى عجزه نوع التذييل وما تقدم ذكره وهو مولد
قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير أغرب ما سمعت في التوليد قول بعض العجم
( كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشهي العذب صاد )
( وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد )
فإن هذا الشاعر ولد من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لصا وولد من معناه ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع
( من سبق لا يرى سوط لها سملا ... ولا جديد من الأرسان واللجم )
بيت صفي الدين هنا غير صالح للتجريد وقد تكرر عليه هذا النقد في كثير من الأبيات فإن بيته لم يظهر له معنى إن لم ينشد البيت الذي قبله وهذا العيب سماه علماء هذا الفن التضمين ويأتي الكلام عليه في موضعه ولكن هوأقبح ما يكون في البديعيات لأن المراد من بيت البديعيات أن يكون بمجرده شاهدا على النوع المذكور ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده
وبيت صفي الدين مولد من قول أبي عبد الله بن الحجاج
( خرقت صفوفهم بأقب نهد ... مراح السوط متعوب العنان ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( ما لي بتوليد مدحي في سواه هدى ... لمعشر شبهوا الهندي بالجلم )
وبيت عز الدين هنا صالح للتجريد فإن ضميره عائد إلى النبي وأما قوله

لمعشر شبهوا الهندي بالجلم فإنه ذكر في شرحه أنه ولده من قول أبي الطيب المتنبي
( فالعيس أعقل من قوم رأيتهم ... عما أراه من الإحسان عميانا )
ثم قال في الشرح ما شبه السيف بالمقص إلا أعمى قلت ومن أين لنا أن تشبيه السيف بالجلم مولد من بيت المتنبي وألفاظها ومعانيها ظاهرة للمتأمل
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( توليد نصرتهم يبدو بطلعته ... ما السبعة الشهب ما توليد رملهم ) معنى هذا البيت ولدته من قول أبي تمام
( والنصر من شهب الأرماح لامعة ... بين الخميس علا في السبعة الشهب )
ولكن ذكر التوليد هنا وهو اسم النوع البديعي مع النصرة لا تخفى محاسنه على حذاق الأدب فإنه التوليد في التوليد وذكر الرمل هنا توليد اخر وقد جمعت في صدر هذا البيت وعجزه بين التوليد الذي هو المراد من التورية في تسمية النوع وبين التذييل بقولي بعد تتمة الفائدة ما توليد رملهم وبين مراعاة النظير بذكر التوليد والرمل والسبعة الشهب والنصرة وجمعت بين قسمي التوليد في اللفظ والمعنى والذي بينهما من توليد المحاسن الظاهرة الزائدة على بيت أبي تمام غير خاف على المتأمل المنصف والله أعلم

ذكر الكناية
( قالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم )
الكناية هي الإرداف بعينه عند علماء البيان وإنما علماء البديع أفردوا الإرداف عنها والكناية هي أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو ردفه في الوجود فيومىء إليه ويجعله دليلا عليه مثال ذلك قولهم طويل النجاد كثير الرماد يعنون بذلك أنه طويل القامة كثير القرى فلم يذكروا المراد بذكره الخاص به ولكن توصلوا إليه بمعنى اخر هو رديفه في الوجود ألآ ترى أن القامة إذا طالت طال النجاد وإذا كثر القرى كثر الرماد ومن أحسن الأمثلة على هذا النوع قول الشاعر
( بعيدة مهوى القرط أما لنوفل ... أبوها وأما عبد شمس وهاشم ) أراد أن يذكر طول جيدها فأتى بتابعه وهو بعد مهوى القرط ومثله قول ليلى الأخيلية
( ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما )
كنت عن الإفراط في الجود بخرق القميص لجذب العفاة له عند ازدحامهم عليه لأخذ العطاء
والأبلغ في هذا الباب والأبدع أن يكني المتكلم عن اللفظ القبيح باللفظ الحسن

والمعجز في ذلك قوله تعالى ( كانا يأكلان الطعام ) كناية عن الحدث وقوله جل جلاله ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) يريد بذلك ما يكون بين الزوجين وعلى الجملة لا تجد معنى من هذه المعاني في الكتاب العزيز إلا بلفظ الكناية لأن المعنى الفاحش متى عبر المتكلم عنه بلفظه الموضوع له كان الكلام معيبا من جهة فحش المعنى ولهذا عاب قدامة على امرىء القيس قوله
( فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول )
( إذا ما بكى من تحتها انصرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول )
قال أعني قدامة عيب هذا الشعر من جهة فحش المعنى والقران منزه عن ذلك ولو استعار امرؤ القيس لمعناه الفاحش لفظ الكناية لسلم من العيب وهذا القدر ينتقد على مثله وفي السنة النبوية من الكنايات ما لا يحصى كقوله لا يضع العصا عن عاتقه كناية عن الضرب أو كثرة السفر وحكى ابنرالمعتز أن العرب كانت تقول لمن به أبنه أنت تحت العصا وأنشد
( زوجك زوج صالح ... لكنه تحت العصا )
ومن نخوة العرب وغيرتهم كانت كنايتهم عن حرائر النساء بالبيض وقد جاء القران العزيز بذلك فقال سبحانه ( كأنهن بيض مكنون ) وقال امرؤ القيس في معلقته
( وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهواتها غير معجل )
أي بيضة خدر يعني امرأة كالبيضة في صيانتها لايرام خباؤها لعزتها ومن لطائف الكنايات قول بعض العرب
( ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام )

( سألت الناس عنك فخبروني ... هناة ذاك تكرهه الكرام )
( وليس بما أحل الله بأس ... إذا هو لم يخالطه الحرام )
فإن هذا الشاعر كنى بالنخلة عن المرأة وبالهناة عن الرفث فإن العرب كانت تكني بها عن مثل ذلك وأما الكناية بالنخلة عن المرأة فمن ألطف الكنايات
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته عن الكناية قوله
( كل طويل نجاد السيف يطربه ... وقع الصوارم كالأوتار والنغم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( داع كثير رماد القدر إن وصفت ... كناية بطنها والظهر بالدسم )
قول الشيخ عز الدين كثير رماد القدر معلوم أنه أراد بذلك الكرم وأما تتمة البيت فالدسم الظاهر من القدر في ظاهرها تعافه النفس ولفظة الدسم سافلة بعيدة عن حشمة الألفاظ
وبيت بديعيتي
( قالوا طويل نجاد السيف قلت وكم ... لناره ألسن تكني عن الكرم )
تقدم القول إن الناس كنوا بطول النجاد عن طول القامة وبكثرة الرماد عن كثرة القرى ولكن الكناية بألسن النار عن كثرة الكرم والقرى لا تخفى استعارتها التي كادت تقوم مقام الحقيقة من المحاسن الظاهرة والله أعلم بالصواب

ذكر الجمع
( ادابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم )
هذا النوع أعني الجمع هو أن يجمع المتكلم بين شيئين فأكثر في حكم واحد كقوله تعالى ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) جمع سبحانه وتعالى المال والبنون في الزينة ومنه قوله تعالى ( الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان ) فجمع بين الشمس والقمر في الحسبان وجمع بين النجم والشجر في السجود ومنه قوله من أصبح امنا في سربه معافا في بدنه ويروى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها وهي النواحي والواحد حذفار ومنه قول الشاعر
( إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة ) فجمع بين الشباب والفراغ والجدة في المفسدة وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في الجمع قوله
( آراؤه وعطاياه ونقمته ... وعفوه رحمة للناس كلهم ) وبيت العميان في بديعيتهم
( قد أحرز السبق والإحسان في نسق ... والعلم والحلم قبل الدرك للحلم )

وبيت الشيخ عز الدين
( للفصل والفضل والألطاف منه يرى ... والعلم والحلم جمع غير منخرم )
قلت حشو لفظة يرى في بيت الموصلي أذهب طلاوة الانسجام وبيت بديعيتي
( ادابه وعطاياه ورأفته ... سجية ضمن جمع فيه ملتئم )

ذكر السلب والإيجاب
( إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب محتشم )
هذا النوع أعني السلب والإيجاب ذكر ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير أنه من مستخرجاته ولكن رأيت لأبي هلال العسكري تقريرا حسنا على هذا النوع وهو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة وإثباته من جهة أخرى والذي قرره ابن أبي الأصبع هو أن يقصد المادح إفراد ممدوحه بصفة لا يشركه فيها غيره فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس ويثبتها لممدوحه بعد ذلك كقول الخنساء في أخيها
( وما بلغت كف امرىء متطاولا ... من المجد إلا والذي نلت أطول )
( ولا بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل )
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع ويروى متناولا ونصبها على أنها مفعول به وما هنا أبلغ وعلى هذه الرواية رسمنا هذا الشاهد وأخذ أبو نواس معنى البيت الثاني ولكن لم يتمكن منه إلا في بيتين ومع ذلك قصر عنه تقصيرا زائدا فقال
( إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني )
( وإن جرت الألفاظ منا بمدحة ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني )
هذا كله عين كلام الخنساء ولكن فاته وإن أطنبوا في بيت الخنساء وقولها وما بلغ المهدون وكل هذه المبالغات قصر عنها أبو نواس والفرق بين فأنت الذي نعني وبين الذي فيك أفضل ظاهر وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ) ومنه قول امرىء القيس

( هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجل ودملج ) وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع
( أغر لا يمنع الراجلين ما طلبوا ... ويمنع الجار من ضيم ومن حرم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين قوله
( لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم ) وبيت بديعيتي
( إيجابه بالعطايا ليس يسلبه ... ويسلب المن منه سلب محتشم )

ذكر التقسيم
( هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيا وميتا ومبعوثا مع الأمم )
التقسيم أول أبواب قدامة وهي في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزأته وفي الاصطلاح اختلفت فيه العبارات والكل راجع إلى مقصود واحد وهو ذكر متعدد ثم إضافة ما لكل إليه على التعيين ليخرج اللف والنشر هذه عبارة صاحب التلخيص وذكر بعضها في الإيضاح
وقال السكاكي هو أن يذكر المتكلم شيئا ذا جزأين أو أكثر ثم يضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عنده
ومنهم من قال هو أن يريد المتكلم متعددا أو ما هو في حكم المتعدد ثم يذكر لكل واحد من المتعددات حكمه على التعيين
وتعجبني بلاغة زكي الدين بن أبي الأصبع فإنه قال التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه ومثل ذلك قوله تعالى ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ) ليس في رؤية غير الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ولا ثالث لهذين القسمين ومن لطيف ما وقع في هذه الجملة من البلاغة تقديم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق لا يحصل فيها المطر في أول برقة ولا يحصل إلا بعد تواتر البرقات فإن تواترها لا يكاد يكذب ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة ثم تنتجع فلا تخطىء الغيث والكلأ وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله
( وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام )

فلما كان الأمر المخوف من البرق يقع في أول برقة أتى ذكر الخوف في الاية الكريمة أولا ولما كان الأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف أتى ذكر الطمع في الاية الكريمة ثانيا ليكون الطمع ناسخا للخوف لمجيء الفرج بعد الشدة ومنه قوله تعالى ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) فاستوفت الاية الكريمة جميع الهيئات الممكنات ومنه قوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) فاستوفت الاية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة ومنه قوله تعالى ( له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ) فالاية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها والمراد الحال والماضي والمستقبل فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل وما خلفنا المراد به الماضي وما بين ذلك الحال
وفي الحديث النبوي قوله ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت ومنه قوله من أقام الصلاة كان مسلما ومن اتى الزكاة كان محسنا ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا فإنه صلوات الله عليه استوعب الوصف الذي من الدرجات العليا والوسطى والسفلى ومنه قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنعم على من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره فإنه استوعب أقسام الدرجات وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص
ويحكى أن بعض وفود العرب قدم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكان فيهم شاب فقام وتقدم في المجلس وقال يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون سنة أذابت الشحم وسنة أكلت اللحم وسنة أنقت العظم وفي أيديكم فضول أموال فإن كانت لنا لا تمنعونا وإن كانت لله ففرقوها على عباده وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين قال عمر بن عبد العزيز ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرا
ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال رحم الله من تصدق من فضله أو واسى من كفاف أو اثر من قوت قال الحسن ما ترك الأعرابي في واحدة عذرا

ومن النظم قول زهير بن أبي سلمى في معلقته
( وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم ) ونقل أبو نواس جد زهير إلى الهزل فقال
( أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس )
( فإنما الشأن شأن يومك ذا ... فباكر الشمس بابنة الشمس ) وقال ابن حيوس وأجاد في تقسيمه
( ثمانية لم يفترقن جميعها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شقر )
( ضميرك والتقوى وكفك والندى ... ولفظك والمعنى وسيفك والنصر )
ومنه قول الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله روحه
( يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم )
( صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ... ونور ولا نار وروح ولا جسم ) وأنشد سيبويه بيتا بديعا على هذا الباب وهو قوله
( فقال فريق القوم لا وفريقهم ... نعم وفريق أيمن الله ما ندري ) ويعجبني قول الحماسي في هذا الباب ( وهبها كشيء لم يكن أو كنازح ... عن الدار أو من غيبته المقابر ) ويعجبني قول أبي تمام في مجوسي أحرق بالنار
( صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار ) ومنه قول عمرو بن الأهتم
( اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير ) وبيت صفي الدين مأخوذ من قول عمرو بن الأهتم
( أفنى جيوش العدا غزوا فلست ترى ... سوى قتيل ومأسور ومنهزم )

وبيت العميان في بديعيتهم
( غيثان أما الذي من فيض أنمله ... فدائم والذي للمزن لم يدم ) وبيت الشيخ عز الدين
( تقسيمه الدهر يوما أمسه كغد ... في الحلم والجود والإيفاء للذمم )
قلت قد تقدم شرح هذا النوع وتقرر أن الاثنين في التقسيم لا يمكن أن يكون لهما ثالث والثلاثة لا يجوز أن يكون لها رابع وقد تقدم في الاثنين قوله تعالى ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ) وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في المطر وتقدم في تقسيم الثلاثة قول النبي ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت ولا رابع لهذه الثلاثة
ورأيت باب الزيادة في بيت الشيخ عز الدين مفتوحا فإنه يحتمل الحلم والجود وإيفاء الذمم والشجاعة والصبر والقناعة والدين وهلم جرا وتقدم أن بيت صفي الدين الحلي مأخوذ من بيت عمرو بن الأهتم
( إشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل أو هارب أو أسير )
فهذه الثلاثة لا تحتمل رابعا وكذلك بيت صفي الدين فإنه مأخوذ من هنا وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( هداه تقسيمه حالي به صلحت ... حيا وميتا ومبعوثا مع الأمم )
وهذه الثلاثة أيضا لا يمكن أن يكون لها رابع وهذا النوع ليس في تحصيله على واضعه مشقة زائدة على حذاق الأدب لا سيما مثل الشيخ عز الدين والذي أقوله إنه لم تضق عليه المسالك إلا بالتزام التورية في تسمية النوع والله أعلم

ذكر الإيجاز
( أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم )
هذا النوع أعني الإيجاز اعتنت به فصحاء العرب وبلغاؤها كثيرا فإنهم كانوا إذا قصدوا الإيجاز أتوا بألفاظ استغنوا بواحدها عن ألفاظ كثيرة كأدوات الاستفهام والشروط وغير ذلك فقولك أين زيد مغن عن قولك أزيد في الدار أم في المسجد إلى أن تستقري جميع الأماكن وقولك من يقم أقم معه مغن عن إن يقم زيد أو عمرو أقم معه وما بالدار من أحد مغن عن قولك ليس فيها زيد ولا عمرو فغالب كلام العرب مبني على الإيجاز والاختصار وأداء المقصود من الكلام بأقل عبارة
وهذا النوع على ضربين إيجاز قصر وإيجاز حذف فإيجاز القصر اختصار الألفاظ وهو كقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) فهذا اللفظ الوجيز المعجز المختصر غاية في الإيجاز والإيضاح والإشارة والكناية والطباق وحسن البيان والإبداع ومنه قوله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) وعظ في ذلك بألطف موعظة وذكر بألطف تذكرة واستوعب جميع أقسام المعروف والمنكر وأتى بالطباق اللفظي والمعنوي وحسن النسق والتسهيم وحسن البيان والإيجاز وائتلاف اللفظ ومعناه والمساواة وصحة المقابلة وتمكين الفاصلة ومن ذلك قول الشاعر
( يا أيها المتحلي دون شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق )

وإيجاز الحذف عبارة عن حذف بعض لفظه لدلالة الباقي عليه كقوله تعالى ( وسئل القرية التي كنا فيها ) وكقول الشاعر
( ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا ) أي ومعتقلا رمحا ومثله قول الشاعر علفتها تبنا وماء باردا أي وسقتها ماء باردا وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على الإيجاز
( واستخدم الموت ينهاه ويأمره ... بعزم مغتنم في زي مغترم )
تقديره بعزم رجل مغتنم ومثله في زي مغترم ولكنه ما تحته في بلاغة الإيجاز كبير أمر
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وقول الشيخ عز الدين
( وسل زمانك تلف الكتب راوية ... إيجاز معنى طويل الذكر مرتسم )
الشيخ عز الدين إيجازه وسل زمانك أي أهل زمانك وأما بقية البيت فلا أفهم له معنى فإن البيت الذي قبله متعلق بمدح النبي ماش في أثر الأبيات التي قبله وأما رواية الكتب لإيجاز هذا المعنى الطويل المرتسم فإنه نوع من المعميات والله علم
وأما بيت بديعيتي فهو قولي عن النبي
( أوجز وسل أول الأبيات عن مدح ... فيه وسل مكة يا قاصد الحرم )
الضمير في لفظة فيه عائد إلى النبي والإيجاز البديع البليغ الغريب في قولي وسل أول الأبيات فإنه إشارة إلى أول بيت وضع للناس والإيجاز الثاني في قولي وسل مكة أي وسل أهل مكة فهذا البيت المبارك فيه إيجازان بليغان وفيه التورية بتسمية النوع وفيه المناسبة البديعة بين مكة والبيت والحرم ومراعاة النظير أيضا بين الإيجاز والمدح إوتال وفي الأبيات تورية أخرى ونوع التمكين في القافية ظاهر

ذكر المشاركة
( بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم )
هذا النوع أعني الاشتراك جعله ابن رشيق وابن أبي الأصبع ثلاثة أقسام قسمان منها من العيوب والسرقات وقسم من المحاسن وهو أن يأتي الناظم في بيته بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكا أصليا أو فرعيا فيسبق ذهن سامعها إلى المعنى الذي لم يرده الناظم فيأتي في آخر البيت بما يؤكد أن المقصود غير ما توهمه السامع كقول كثير عزة
( وأنت الذي حببت كل قصيرة ... إلي ولم تعلم بذاك القصائر )
( عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء الحباتر )
فإنه أثبت في البيت الثاني ما أزال به وهم السامع من أنه أراد القصار مطلقا وقد يلتبس الاشتراك بالتوهيم على من لا يحققه والفرق بينهما أن الاشتراك لا يكون إلا باللفظة المشتركة والتوهيم يكون بها وبغيرها من تحريف أو تصحيف أو تذييل والفرق بينه وبين الإيضاح أن الإيضاح في المعاني خاصة لا تعلق له بالألفاظ وهذا نوع اشتراك اللفظة وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع قوله
( شيب المفارق يروى الضرب من دمهم ... ذوائب البيض بيض الهند لا اللمم )

هذا البيت الاشتراك فيه بين البيض فلولا بيض الهند التي ترشح بها جانب السيوف بذكر الهند لسبق ذهن السامع إلى أنه أراد الذوائب البيض ولكن بيت الشيخ صفي الدين لم يخل من بعض عقادة
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( وللغزالة تسليم به اشتركت ... مع التي هي ترعى نرجس الظلم )
هذا البيت يصلح أن يعد من باب الإشارة في الجناس المعنوي فإن الشيخ عز الدين أضمر أحد الركنين وأظهر الآخر وهذا حد جناس الإشارة من المعنوي فإنه ذكر الغزالة في أول البيت وأضمر الغزالة الشمسية في الشطر الثاني وهذا النوع تقدم تقريره ولو صرح الشيخ عز الدين في الشطر الثاني بلفظة الغزالة وذكر معها الإشراق والنور بحيث يزيل وهم السامع أن المراد الغزالة الوحشية ويتحقق أن المراد الغزالة الشمسية أو بالعكس كان نوع الاشتراك في بيته خالصا مع ما فيه من النظر وهو أن كلا من الغزالتين سلم على النبي ولكنه أظهر لفظ الغزالة الثانية فتحتم أنه صار جناسا معنويا ولعمري إنه أحسن من بيته الذي استشهد فيه على الجناس المعنوي في أول بديعيته
( وكافر نعم الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن ذا المعنوي عمي )
فإنه أظهر في أول البيت لفظة كافر والليل يسمى كافرا فأضمر لفظة كافر الذي هو الليل وتالله إن بيته الذي نظمه شاهدا على نوع الاشتراك يستحق الجناس المعنوي استحقاقا ذوقيا وهو أسجم من هذا البيت وأرق للمعنى وأوقع في الأسماع وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( بالحجر ساد فلا ند يشاركه ... حجر الكتاب المبين الواضح اللقم )
هذا البيت يجب أن يعتمد عليه في هذا النوع ولا يخفى على أهل الذوق السليم ما في تركيبه والعميان ما نظموه في بديعيتهم وبيت عز الدين تقرر أن الجناس المعنوي احق به واشتراك بيتي في لفظة الحجر فإني قلت في أول بيتي بالحجر ساد وهذه اللفظة مشتركة بين العقل وسورة الحجر فلما قلت في الشطر الثاني حجر الكتاب المبين زال الالتباس عن السامع وعلم المراد وترشح عنده جانب السورة المنزلة على الممدوح فيه

ذكر التصريع
( تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم )
هذا النوع أعني التصريع هو عبارة عن استواء آخر جزء في صدر البيت وآخر جزء في عجزه في الوزن والروي والإعراب وهو أليق ما يكون بمطالع القصائد وفي وسطها ربما تمجه الأذواق والأسماع وهذا وقع في معلقة امرىء القيس فإنه صرع المطلع بقوله
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ) وقال في أثناء هذه القصيدة
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل )
قلت وعلى كل تقدير ليس في نوع التصريع كبير أمر حتى يعد من أنواع البديع ولكن القوم كلما تغالوا في الرخص رغبوا في الكثرة وبيت الشيخ صفي الدين الحلي ( لاقاهم بكماة عند كرهم ... على الجسوم دروع من قلوبهم ) والعميان ما نظموه وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( لا زال بالعزمات العز والهمم ... يصرع الضد بالتشطير في القمم )

وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي
( تصريع أبواب عدن يوم بعثهم ... يلقاه بالفتح قبل الناس كلهم )
أنظر أيها المتأمل المنصف إلى بديع التورية وترشيحها عند ذكر الأبواب بالفتح هو فتوح في هذا الباب مع سهولة التركيب وحسن الانسجام وتمكين القافية

ذكر الاعتراض
( فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم )
هذا النوع أعني الاعتراض هو عبارة عن جملة تعترض بين الكلامين تفيد زيادة في معنى غرض المتكلم ومنهم من سماه الحشو وقالوا في القبول منه حشو اللوزينج وليس بصحيح والفرق بينهما ظاهر وهو أن الاعتراض يفيد زيادة في غرض المتكلم والناظم والحشو إنما يأتي لإقامة الوزن لا غير وفي الاعتراض من المحاسن المكملة المعاني المقصودة ما يتميز به على أنواع كثيرة ومن معجزه في القران ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ) ومنه قوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) ومن الشواهد الشعرية قول بعضهم
( إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان )
فقوله وبلغتها من الاعتراضات التي زادت المعنى فائدة في غرض الشاعر وهو الدعاء للمخاطب وأمثلته كثيرة وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي
( فإن من أنفذ الرحمن دعوته ... وأنت ذاك لديه الجار لم يضم )

فقوله وأنت ذاك هو الاعتراض بعينه فإنه زاد المعنى وسماه قدامة التفاتا وهو قريب
والعميان ما نظموه وبيت الشيخ عز الدين
( فلا اعتراض علينا في السؤال به ... أعني الرسول لكي ننجو من الضرم )
فقول الشيخ عز الدين أعني الرسول هو الاعتراض الذي أراده وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( فلا اعتراض علينا في محبته ... وهو الشفيع ومن يرجوه يعتصم )
فقولي بين الكلامين هو الشفيع هو الاعتراض البديع المتمكن فإن في قول عز الدين أعني الرسول ركة تدل على ضعف التركيب وكذلك قول الشاعر في مخلص مديحه أعني فلانا يدل على ضعف رويته وقلة تصرفه فإنهم عدوا ذلك من المخالص الواهية ولم يجنح إليه إلا عوام أهل الأدب ومثل الشيخ عز الدين ينتقد عليه ذلك والله أعلم

ذكر الرجوع
( وما لنا من رجوع عن حماه بلى ... لنا رجوع عن الأوطان والحشم )
هذا النوع أعني الرجوع ذكره ابن المعتز وأبو هلال العسكري وسماه بعضهم استدراكا واعتراضا وليس بصحيح قال القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص والإيضاح هو العود على الكلام السابق بالنقض لنكتة كقول زهير
( قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم )
والنكتة فيه كأنه لما وقف بالديار عرته روعة ذهل بها عن رؤية ما حصل لها من الغير فقال لم يعفها القدم ثم رجع إلى عقله وتحقق ما هي عليه من الدروس فقال بلى عفت وعليه بيت الحماسة
( أليس قليلا نظرة إن نظرتها ... إليك وكل ليس منك قليل ) ويعجبني هنا قول أبي البيداء
( وما لي انتصار إن غدا الدهر جائرا ... علي بلى إن كان من عندك النصر )
وأما من سمى هذا النوع استدراكا واعتراضا فتسميته غير صحيحة والذي أقول إن هذا الرجوع لا فرق فيه بين السلب والإيجاب وقد تقدم قول أبي هلال العسكري إن السلب والإيجاب هو أن يبني المتكلم كلامه على نفي شيء من جهة وإثباته من جهة

أخرى وقال القاضي جلال الدين الرجوع هو العود على الكلام السابق بالنقض وكل من التقريرين لائق بالنوعين وللمتأمل أن ينظر في ذلك ليحسن ذوقه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( أطلتها ضمن تقصيري فقام بها ... عذري وهيهات إن العذر لم يقم ) وبيت العميان
( قلوا ببدر ففلوا غرب شانئهم ... به وما قل جمع بالرسول حمي ) وبيت الشيخ عز الدين
( رمت الرجوع عن الأمداح أنظمها ... سوى مديح سديد القول محترم )
قلت ليس في بيت الشيخ عز الدين رجوع إلا عن حشمة الألفاظ وفخامتها في مديح النبي فإن قوله سديد القول دون من أنزل الله القرآن في أوصافه ويعجبني قول ابن نباتة في لاميته
( ماذا عسى الشعراء اليوم مادحة ... من بعد ما مدحت حم تنزيل )
وأيضا فإنه كان يجب على الشيخ عز الدين أن يقول في النوع البديعي الذي هو الرجوع رجعت عن الأمداح حتى يصح النقض في الشطر الثاني وإنما قال رمت كأنه يرى أن يرجع وعلى الجملة فالبيت قاصر من كل وجه
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي بقولي ( وما لنا من رجوع عن حماه بلى ... لنا رجوع من الأوطان والحشم )
هذا البيت لم يحتج إلى إطلاق عنان القلم في ميادين الطروس بوصف ما فيه من المحاسن إذ في مدح أهل الذوق من علماء هذا الفن ما يغني عن ذلك والله أعلم

ذكر الترتيب
( ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم )
هذا النوع أعني الترتيب من استخراجات التيفاشي ذكره في كتابه وسماه بهذا الاسم وقال هو أن يجنح الشاعر إلى أوصاف شتى في موضوع واحد أو في بيت وما بعده على الترتيب ويكون ترتيبها في الخلقة الطبيعية ولا يدخل الناظم فيها وصفا زائدا عما يوجد علمه في الذهن أو في العيان كقول مسلم بن الوليد ( هيفاء في فرعها ليل على قمر ... على قضيب على حقف النقا الدهس )
فإن الأوصاف الأربعة على ترتيب خلقة الإنسان من الأعلى إلى الأسفل وبيت صفي الدين الحلي
( كالنار منه رياح الموت إن عصفت ... روى صرى مائة أرض الوغى بدم )
ترتيب بيت صفي الدين على العناصرالأربعة وهي الماء والنار والهواء والتراب
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( له الملائك والإنسان أجمعهم ... والجن والوحش في الترتيب كالخدم )

هذا البيت ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه على ترتيب المخلوقات الملائك والإنس والجن والوحش ولكن وضع هذا الترتيب غير منتظم على ما قرره التيفاشي
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( ترتب الحيوانات السلام له ... والنبت حتى جماد الصخر في الأكم )
معلوم أن الموجودات ثلاثة وهي حيوان ونبات وجماد والثلاثة على ترتيب خلقة الإنسان من الأعلى إلى الأسفل فإذا قلنا جسم نام خرج الجماد لإنه لا ينمو وإذا قلنا جسم نام متحرك بإرادته خرج النبات وإذا قلنا جسم نام متحرك بإرادته ناطق خرج باقي الحيوان وبقي الإنسان وهذا حده والله أعلم بالصواب

ذكر الاشتقاق
( محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم )
هذا النوع أعني الاشتقاق استخرجه الإمام أبو هلال العسكري وذكره في آخر أنواع البديع من كتابه المعروف بالصناعتين وعرفه بأن قال هو أن يشتق المتكلم من الاسم العلم معنى في غرض يقصده من مدح أو هجاء أو غيره كقول ابن دريد في نفطويه
( لو أوحي النحو إلى نفطويه ... ما كان هذا العلم يعزى إليه )
( أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صياحا عليه )
وهذا النوع ما ذكره القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص ولا في الإيضاح ولا ذكره الشهاب محمود في حسن التوسل ولا نظمته العميان ولا غيرهم من أصحاب البديعيات غير الشيخ صفي الدين الحلي وبيت بديعيته التي ذكر أنه جمعها من سبعين كتابا قوله
( لم يلق مرحب منه مرحبا ورأى ... ضد اسمه عند هد الحصن والأطم )
الشيخ صفي الدين اشتق من اسم مرحب الترحاب حتى يقابله بضده وهذا هو الغرض الذي أراده الناظم وبيت الشيخ عز الدين في المعارضة قوله

( ميم وحا في اشتقاق الاسم محو عدا ... والميم والدال مد الخير للأمم )
هذا البيت يشق علي أن أشرح اشتقاقه وأذكر ما فيه من التعسف والزيادة وعدم القبول للتجريد فإنه أراد أن يمشي على طريق ابن دريد في الاشتقاق فلم يأت بغير الشقاق وما ذاك إلا أن اسم نفطوبة سداسي قسمه الناظم في الاشتقاق نصفين جعل النصف الأول نفطا والثاني صياحا وهذا الاشتقاق صحيح على هذا التفصيل وقالوا هو في محمد رباعي من أين للشيخ عز الدين غفر الله له هذا حتى تصح معه لفظة محو مع أني راجعت شرحه فوجدته قال الميم والحاء من اسم محمد فيهما محو لأعدائه وأيضا فلم نجد أحدا استشهد في بيت من بيوت بديعيته وصدر بيته بقوله ميم وحا في اشتقاق الاسم محو عدا إلا الشيخ عز الدين فإن المراد من بيت البديعية أن يكون صالحا للتجريد خاليا من العقادة ليصح الاستشهاد به على ذلك النوع
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( محمد أحمد المحمود مبعثه ... كل من الحمد تبيين اشتقاقهم )
قد تقدم تقرير أبي هلال العسكري في هذا النوع وهو أن يشتق المتكلم معنى لغرض يقصده والغرض هنا إن كلا من محمد وأحمد وصفتهما المحمودة مشتق من الحمد وشرف هذا المدح ظاهر والله أعلم

ذكر الاتفاق
( ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم )
الاتفاق عزيز الوقوع جدا وهو أن تتفق للشاعر واقعة وأسماء مطابقة لتلك الواقعة تعلمه العمل في نفسها إما بالمشاهدة أو بالسماع فإن السبق إلى معاني الوقائع يشترك الناس في مشاهدتها وفي سماعها فضل لا يجحد وإن حصل للشاعر في ذلك قران سعادة سارت الركبان بقوله وترنم الحادي والملاح به كما اتفق للرضي بن أبي حصينة المصري في حسام الدين لؤلؤ صاحب الملك الناصر يوسف حين غزا الفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزمن فظفر الحاجب بهم فقال ابن أبي حصينة يخاطب الفرنج
( عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير )
وأحسن من ذلك وأبدع ما اتفق للشيخ شمس الدين الكوفي الواعظ في الوزير مؤيد الدين العلقمي حيث قال
( يا عصبة الإسلام نوحي والطمي ... حزنا على ما حل بالمستعصم )
( دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي )
فاتفق أن المذكورين كانا وزيرين وأن المورى بهما الفرات والعلقمي نهران معروفان وقد طابق الناظم بينهما بالفرات الحلو والعلقم المر

ومنه قول ابن الساعاتي وقد حضر الملك الناصر بيت يعقوب من حصون الشام يخاطب الفرنج دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
ومنه قول ابن أبي الأصبع وقد اجتمع الملك الأشرف موسى بالملك الظاهر وهو الخضر بن يوسف بن أيوب
( غدا مجمع البحرين شاطي فراتنا ... ألم تر موسى فيه قد لقي الخضرا )
واتفق لي مع الملك ما يناسب هذه الاتفاقات البديعية فإني أنشدته وقد كسر النيل في شهر مسرى وبلغه في يوم الكسران نوروز قد وصل من الشام إلى غزة وقصد الديار المصرية فقلت
( أيا ملكا بالله أضحى مؤيدا ... ومنتصبا في ملكه نصب تمييز )
( كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضي ... وحقك بعد الكسر أيام نيروز )
الاتفاق البديع الغريب في هذا البيت أن كسر نوروز بعد كسر مسرى ويسميه المصريون الكسر النيروزي ولم يبق بعده كسر واتفق لي نظير ذلك بالحضرة المؤيدية وهو أن المقر التاجي نائب السلطنة الشريفة نقل عنه إلى المسامع الشريفة كلام فثبت فيه براءته فأنشدته الحضرة الشريفة المؤيدية ما حصل به للخواطر الشريفة الرضا الزائد وهو قولي
( سبع وجوه لتاج مصر ... تقول ما في الوجوه شبهي )
( وعندنا ذو الوجوه يهجى ... وأنت تاج بفرد وجه ) وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع
( ومن غدا اسم أمه نعتا لأمته ... فتلك آمنة من سائر النقم )
اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي آمنة وآمنة والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( محمد واسمه بالاتفاق له ... وصف يشاكله في اسمه العلم )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي وأذكر فيه وصفه الشريف لابنه الحسن

رضي الله عنه
( ووصفه لابنه قد جاء تسمية ... فإنه حسن حسب اتفاقهم )
اتفاق هذا البيت في اشتراك لفظي حسن وحسن الوصف هو أن النبي أشار إلى الحسن رضي الله عنه وقال إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين آه

ذكر الإبداع
( إبداع أخلاقه إيداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهم )
الإبداع هو أن يأتي الشاعر في البيت الواحد بعدة أنواع أو في القرينة الواحدة من النثر وربما كان في الكلمة الواحدة ضربان من البديع ومتى لم يكن كذلك فليس بإبداع كقوله تعالى ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ) هذه الاية الشريفة استخرج منها زكي الدين بن أبي الأصبع أنواعا كثيرة من البديع منها المناسبة التامة بين ابلعي وأقلعي والمطابقة اللطيفة بين الأرض والسماء والمجاز في قوله ويا سماء ومراده مطر السماء والاستعارة في قوله أقلعي والإشارة في قوله تعالى وغيض الماء فإنه بهاتين اللفظتين عبر عن معان كثيرة والتمثيل في قوله تعالى وقضي الأمر فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ الموضوع له والإرداف في قوله تعالى واستوت على الجودي فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى والتعليل لأن قوله تعالى غيض الماء علة الاستواء وصحة التقسيم إذ قد استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه والاحتراس في قوله تعالى وقيل بعدا للقوم الظالمين إذ الدعاء عليهم مشعر بأنهم مستحقون الهلاك احتراسا من ضعيف يتوهم أن الهلاك شمل من يستحق ومن لا يستحق فأكد بالدعاء على المستحقين والمساواة لأن لفظ الآية الشريفة لا يزيد على معناها وحسن النسق لأنه سبحانه وتعالى قص القصة

وعطف بعضها على بعض بحسن ترتيب وائتلاف المعنى لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها والإيجاز لأنه سبحانه وتعالى قص القصة بأقصر عبارة والتسهيم لأنه من أول الآية إلى قوله أقلعي يقتضي اخرها والتهذيب لأن مرادات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن وعليها رونق الفصاحة لسلامتها من التعقيد والتقديم والتأخير والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها والانسجام وهو تحدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء وباقي مجموع الآية الشريفة هو الإبداع الذي هو المراد هنا مع تكرار الأنواع البديعية
وسهوت عن تقديم حسن البيان وهو أن السامع لا يتوقف في معرفة معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء من هذه النظائر وهذا الكلام تعجز عنه قدرة البشر
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته علىالإبداع قوله
( ذل النضار كما عز النظير لهم ... بالفضل والبذل في علم وفي كرم )
الشيخ صفي الدين في بيته من أنواع البديع التجنيس والتسجيع واللف والنشر والكناية عن الكرم في قوله ذل النضار وائتلاف المعنى مع المعنى
والعميان ما نظموا هذا في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي ذكر فيه ستة عشر نوعا ما أمكن العبد استيعابها وتركته لحذاق الأدب وهو قوله
( كم أبدعوا روض عدل بعد طولهم ... وأترعوا حوض فضل قبل قولهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( إبداع أخلاقه إبداع خالقه ... في زخرف الشعر فاسجع بها وهم )
الشطر الأول من هذا البيت مشتمل على التورية وعلى جناس التصحيف وعلى الجناس المطلق وعلى الترصيع والمماثلة والتسجيع وائتلاف المعنى مع المعنى والسهولة والشطر الثاني فيه التورية ومراعاة النظير والاعتراض والانسجام ظاهر في البيت بكماله والإبداع الذي هو المراد هنا والله أعلم

ذكر المماثلة
( فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم )
هذا النوع أعني المماثلة هو أن تتماثل ألفاظ الكلام أو بعضها في الزنة دون التقفية كقوله تعالى ( والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ ) وقد تأتي بعض ألفاظ المماثلة مقفاة من غير قصد لأن التقفية في هذا الباب غير لازمة كقول امرىء القيس
( كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر العطر ) وأما الشاهد الذي هو على أصل هذا الباب في الزنة دون التقفية فكقول الشاعر
( صفوح صبور كريم رزين ... إذا ما العقول بدا طيشها )
والفرق بين المماثلة والمناسبة توالي الكلمات المتزنة وتفرقها في المناسبة قلت هذا النوع أعني المماثلة ما تستحق عقود أنواع البديع بسموها أن ينتظم النوع السافل في أسلاكها وما أعلم وجه الإبداع فيه ما هو ولا نرى من استخراجه وعده بديعا غير الكثرة وقد حسن أن أنشد ههنا
( وكثر فارتابت ولو شاء قللا ... )
وبالله ما اختلج في فكري من حين تأدبت أن أرصعه في قصيدة من قصائدي ولكن حكم المعارضة أوجب ذلك

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( سهل خلائقه صعب عرائكه ... جم غرائبه في الحكم والحكم ) والعميان ما نظموا وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( يبدي مماثلة يعطي مناسبة ... يجزي مجانسة في الكلم والكلم ) وبيت بديعيتي
( فالخير ماثله والعفو جاوره ... والعدل جانسه في الحكم والحكم )

ذكر حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي
( الحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم )
هذا النوع الغريب اخترعه الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع فيجعله بالتعظيم له جنسا بعد حصر أقسام الأنواع فيه والأجناس كقوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر ) فإنه سبحانه وتعالى يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوانات والجماد حاصر الجزئيات المولدات فرأى الاقتصار على ذلك لا يكمل به التمدح لاحتمال أن يظن ضعيف أنه جل جلاله بعلم الكليات دون الجزئيات فإن المولدات وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى جملة العالم فكل واحد منها كلي بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس والأنواع والأصناف فقال لكمال التمدح ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ) وعلم سبحانه وتعالى أن علم ذلك يشاركه فيه كل ذي إدراك فتمدح بما لايشاركه فيه أحد فقال عز من قائل ( ولا حبة في ظلمات الأرض ) ثم ألحق هذه الجزئيات بالكليات فقال ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) وأمثاله من النظم قول الشاعر
( إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر )
( فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر )
( فبشرت امالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر )

المراد من النوع البيت الثالث فإن الشاعر قصد تعظيم الممدوح وتفخيم أمر داره التي قصد فيها ومدح يومه الذي لقيه فيه فجعل الممدوح جميع الورى وجعل داره الدنيا ويومه الدهر فجعل الجزء كليا بعد حصر أقسام الجزئي أما جعله الجزئي كليا فلأن الممدوح جزء من الورى والدار جزء من الدنيا واليوم جزء من الدهر وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان وقد حصر ذلك وهذا النوع صعب المسالك في نظمه عزيز الوقوع والتحصيل وقد فر العميان من نظمه وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيه
( شخص هو العالم الكلي في شرف ... ونفسه الجوهر القدسي في عظم )
الشيخ صفي الدين جعل الجزئي كليا فقط وهو القسم الأول لكون الواحد لا يسع جميع القيود وبيت الشيخ عز الدين
( فألحق الجزء بالكلي منحصرا ... إذ دينه الجنس للأديان كلهم ) هذا البيت ما وجدت فيه للكلام فسحة لأمور وبيت بديعيتي
( ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم )
النبي صالح أن يكون هنا كليا العلو مقداره وعظمه فقولي عن الأنبياء فالجزء يلحق بالكلي للعظم لا يخفى ما فيه من المبالغة والمغالاة في وصف الممدوح هذا مع تحرير هذا النوع الذي يدق عن أفهام كثيرة وإيضاحه مع التورية باسمه وسهولة تركيبه وانسجامه وما أعلم له في هذا الباب نظيرا وما أوضحه وزاده طلاوة وحسنا إلا تشريفه بالمديح النبوي

ذكرالفرائد
( وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدا غير منفصم )
الفرائد نوع لطيف مختص بالفصاحة دون البلاغة لأن المراد منه أن يأتي الناظم أو الناثر بلفظة فصيحة من كلام العرب العرباء تتنزل من الكلام منزلة الفرائد من العقد وتدل على فصاحة المتكلم بها بحيث أن تلك اللفظة لو سقطت من الكلام لم يسد غيرها مسدها كقوله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) قوله تعالى الرفث فريدة لا يقوم غيرها مقامها وكقوله تعالى ( هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ) فقوله سبحانه وتعالى أهش بها على غنمي فريدة يعز على الفصحاء أن يأتوا بمثلها في مكانها ومنه قول عنترة في معلقته
( يا دار عبلة بالجواء تكلمي ... وعمي صباحا دار عبلة واسلمي )
فعمي صباحا فريدة في مكانها وروي أن أبا ذر أتى النبي فقال عم صباحا فقال النبي إن الله قد أبدلني ما هو خير منها فقال ما هي قال السلام
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( ومن له جاور الجزع اليبيس ومن ... بكفه أورقت عجزاء ذي سلم )

الفريدة في بيت الحلي هي العجزاء والعجزاء هي العصا المعقدة والعميان ما نظموا هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين
( كم حصحص الحق إذ وافت فرائده ... وفي الوطيس بدا ثبتا بلا برم )
الفريدة في بيت الشيخ عز الدين هي لفظة الوطيس وأما برم فما أبرم فيها أمرا
وبيت بديعيتي أقول فيه وأنا مستمر على خطابي لمن رام مديح النبي فإني قلت في البيت الذي قبله
( ألحق بحصر جميع الأنبياء به ... فالجزء يلحق بالكلي للعظم ) وقلت بعده في الفرائد
( وشم وميض بروق من فرائده ... وانظم حنانيك عقدا غير منفصم )
الفرائد في هذا البيت ثلاثة وهي شم وحنانيك ومنفصم والوميض صالح لذا والله أعلم بالصواب

ذكر الترشيخ
( يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم )
هذا النوع أعني الترشيح هو أن يأتي المتكلم بكلمة لا تصلح لضرب من المحاسن حتى يؤتى بلفظه ترشحها وتؤهلها لذلك كقول التهامي في مرثيته المشهورة
( وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار )
فلولا ذكر الشفير لما كان في الرجاء تورية برجا البئر ولكان من رجوت الأمر لقوله أولا وإذا رجوت المستحيل قلت وهذا النوع تقدم ذكره في باب التورية المرشحة وقد تقدم أيضا أن التورية أربعة أنواع مجردة ومرشحة ومهيأة ومبينة فالمرشحة هي التي يذكر فيها لازم من لوازم المورى به قبل لفظ التورية أو بعده وسميت مرشحة لترشيحها وتقويتها بذكر لازم المورى به وتقدم هذا في باب التورية المرشحة ولكن ذكروا في تكرير الترشيح هنا فائدة لم يكن لمكررها حلاوة وهي إذا قيل ما الفرق بين التورية والترشيح وقد جعلت مثاليهما واحدا قلت الفرق بينهما من وجهين أحدهما من أنواع البديع ما لا يحتاج إلى ترشيح وهي التورية المجردة المحضة والثاني أن الترشيح لا يختص بالتورية دون بقية الأبواب بل يعم المطابقة والاستعارة وغيرهما في كثير من الأبواب ألا ترى إلى قول أبي الطيب المتنبي
( وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما )

فإن قوله يا جنتي رشحت لفظة جهنم للمطابقة ولو قال مكانها يا منيتي لم يكن في البيت مطابقة البتة وأما ترشيح الاستعارة فكقول بعض العرب
( إذا ما رأيت النسر عزى ابن دأية ... وعشش في وكريه طارت له نفسي )
فإنه شبه الشيب بالنسر لاشتراكهما في البياض وشبه الشعر الأسود بابن دأية وهو الغراب لاشتراكهما في السواد واستعار التعشش من الطائر للشيب لما سماه نسرا ورشح به إلى ذكر الطيران الذي استعاره لنفسه من الطائر فقد ترشح باستعارة الى استعارة ولولا خشية الإطالة لذكرت ترشيح التشبيه وترشيح غيره من الأنواع
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي يقول فيه عن النبي
( إن حل أرض أناس شد أزرهم ... بما أباح لهم من حط وزرهم )
لفظه شد في البيت للشيخ صفي الدين رشحت لفظة حل للمطابقة ولو أبقاها على حالها في معنى الحلول لم يكن في البيت مطابقة البتة
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( في الفتح ضم من الأنصار شملهم ... جبرا لكسر بترشيح من الرحم )
الترشيح في بيت الشيخ عز الدين ظاهر فإنه رشح الفتح للتورية بصريح الضم ورشح الضم للتورية بذكر الكسر
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( يس زادت على لقمان حكمته ... وبان ترشيحه في نون والقلم )
فذكر لقمان رشح يس للتورية وذكر نون والقلم رشح لقمان للتورية والفرق بين قولي وبان ترشيحه في نون والقلم وبين قول الشيخ عز الدين بترشيح من الرحم ظاهر وأما سهولة التركيب وعذوبة الانسجام وتمكين القافية فلم أحتج معهما إلى إقامة دليل والله تعالى أعلم

ذكر العنوان
( به العصا أثمرت عزا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم )
هذا النوع أعني العنوان هو أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو ذم أو عتاب أو غير ذلك ثم يأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص مبالغة كقول أبي تمام لأحمد بن أبي داود
( تثبت أن قولا كان زورا ... أتى النعمان قبلك عن زياد )
( فأثر بين حي بني جلاح ... لدى حرب وبين بني مصاد ) ( وغادر في صدور الدهر قتلي ... بني بدر على ذات الأصاد )
فأتى بعنوان يشير إلى قصة النابغة حين وشى به الواشون إلى النعمان فجر ذلك حروبا انطوت عليها قطعة من الدهر وذكر في البيت الثالث عنوانا آخر أشار فيه إلى ما جرى بين بني عبس وبين بني بدر على غدير ذات الأصاد
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( والعاقب الحبر في نجران لاح له ... يوم التباهل عقبى زلة القدم )
الشيخ صفي الدين أشار بعنوانه إلى عبد المسيح عالم النصارى حين قال لهم

النبي يوم التباهل ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) وكان قد خرج النبي محتضنا الحسين اخذا بيد الحسن عليهما السلام وفاطمة تمشي خلفهما سلام الله عليهم أجمعين فحين راهم العاقب قال للنصارى لا تباهلوا محمدا فإني أرى معه وجوها لو أقسم على الله أن يزيل بها الجبال لأزالها فانصرفوا وقبلوا الجزية والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( بشرى المسيح أتت عنوان دعوته ... وقبله كل هاد صادق القدم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( هبه العصا أثمرت عزا لصاحبها ... موسى وكم قد محت عنوان سحرهم )
هذا البيت عنوانه ظاهر لم يحتج فيه إلى شرح ولكن التورية في العنوان وترشيحها بلفظة محت لا يخفي ما فيها من المحاسن لأنها اسم النوع الذي هو القصد هنا وأما قولي به العصا أثمرت فهي مناسبة ليس لها في الحسن مناسب

ذكر التسهيم
( كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم )
هذا النوع مأخوذ من الثوب المسهم وهو الذي يدل أحد سهامه على الآخر الذي قبله لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص به لمجاورة اللون الذي قبله ومن المؤلفين من جعل التسهيم والترشيح شيئا واحدا والفرق بينهما أن الترشيح لا يدل على غير القافية والتسهيم تارة بدل على عجز البيت وتارة يدل على ما دون العجز وتعريفه أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما يتأخر تارة بالمعنى وتارة باللفظ كأبيات أخت عمرو ذي الكلب فإن الحذاق بمعاني الشعر وتأليفه يعلمون معنى قولها
فأقسم يا عمرو لو نبهاك يقتضي أن يكون تمامه إذا نبها منك داء عضالا دون غيره من القوافي لأنه لو قال مكان داء عضالا ليثا غضوبا أو أفعى قتولا أو ما ناسب ذلك لكان الداء العضال أبلغ إذ كل منهما ممكن مغالبته والتوقي منه والداء العضال لا دواء له هذا مما يعرف بالمعنى وأما ما يدل على الثاني دلالة لفظية فهو قولها بعده
( إذا نبها ليث عريسة ... مقيتا مفيدا نفوسا ومالا ) وكذلك قولها
( وخرق تجاوزت مجهولة ... بوجناء حرف تشكي الكلالا )
( فكنت النهار به شمسه ... )

يقتضي أن يتلوه وكن دجا الليل فيه الهلالا ومنه قول البحتري
( أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي )
( فليس الذي قد حللت بمحلل ... )
ومن هنا يعرف المتأدب أن تمامه وليس الذي قد حرمت بحرام
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته قوله
( كذاك يونس ناجى ربه فنجى ... من بطن حوت له في اليم ملتقم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( تسهيمه في الوغى حسم لمتصل ... تسليمه في الرضا وصل لمحتشم )
قلت الشيخ عز الدين رماه التسهيم في العكس فتشوش إذ صار كل من النوعين يتجاذبه وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( كذا الخليل بتسهيم الدعاء به ... أصابهم ونجا من حر نارهم )
لفظة التسهيم في هذا البيت انحصر فيها ثلاثة أنواع أحدها تسمية النوع والثاني الاستعارة البديعية والثالث التورية المرشحة فإن لفظة التسهيم رشحت التورية بذكر الإصابة وتحرير النوع ظاهر في دلالة الأول على الثاني

ذكر التطريز
( شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم )
هذا النوع أعني التطريز هو أن يبتدىء المتكلم أو الشاعر بذكر جمل من الذوات غير منفصلة ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قرره وقدره في تلك الجملة الأولى وعدد الجمل التي وصفت بالذوات عدد تكرر واتحاد لا عدد تغير كقول ابن الرومي
( قرون في رؤوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب ) ومثله قوله
( كأن الكأس في يدها وفيها ... عقيق في عقيق في عقيق ) ومثله قول ابن المعتز
( فثوبي والمدام ولون خدي ... شقيق في شقيق في شقيق ) وأبدع من الجميع وألطف قولي من قصيدتي المصغرة
( لفيظك والمقيلة مع نظيمي ... سحير في سحير في سحير ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التطريز
( فالجيش والنقع تحت الظل مرتكم ... في ظل مرتكم في ظل مرتكم )

قلت هذا البيت لايخلو أن يكون للعقادة فيه بعض تراكم
والعميان ليس في بديعيتهم تطريز وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى في بديعيته قوله
( الدين والنقع تطريز لمحترم ... في نصر محترم في نصر محترم )
هذا البيت لم أفهم منه غير لفظة التطريز الذي هو اسم النوع
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( شملي بتطريز مدحي فيه منتظم ... يا طيب منتظم يا طيب منتظم )
( هذا البيت بهجة التطريز ظاهرة على أركانه وقد جمعت فيه بين التطريز الذي هو المراد والتورية واللف والنشر والترشيح والاستعارة ومراعاة النظير والسهولة والانسجام التام والجناس التام والله أعلم

ذكر التنكيت
( وآله البحر ال إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم )
هذا النوع أعني التنكيت يستحق لغرابته أن ينتظم في أسلاك البديع ويغار عليه أن يعد مع المماثلة والموازنة ومع التطريز والترصيع وقد تقدم الكلام على سفالة هذه الأنواع
والتنكيت عبارة عن أن يقصد المتكلم شيئا بالذكر دون أشياء كلها تسد مسده لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود ترجح اختصاصه بالذكر وعلماء هذا الفن أجمعوا على أنه لولا تلك النكتة التي انفرد بها لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهرا عند أهل النقد وجاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى ( وأنه هو رب الشعرى ) فإنه سبحانه خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لأن من العرب من عبد الشعرى وكان يعرف بابن أبي كبشة ودعا خلقا إلى عبادتها فأنزل الله تعالى ( وأنه هو رب الشعرى ) التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم وفي النجوم ما هو أعظم منها ومنه قوله تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) فإنه سبحانه وتعالى خص تفقهون دون تعلمون لما في الفقه من الزيادة على العلم والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام الفقه في معرفة كنه التسبيح من

الحيوان البهيمي والنبات والجماد الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه ومن الأمثلة الشعرية قول الخنساء
( يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره بكل غروب شمس )
فخصت هذين الوقتين بالذكر وإن كانت تذكره كل وقت لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة للمبالغة في وصفه بالشجاعة والكرم لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدا وغروبها وقت وقود النيران للقرى
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التنكيت
( وآله أمناء الله من شهدت ... لقدرهم سورة الأحزاب بالعظم )
الشيخ صفي الدين خصص سورة الأحزاب هنا بالذكر لأن فيها تصريحا بمدح آل البيت عليهم السلام بقوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ولولا هذا الاختصاص كانت كغيرها من السور
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله
( ففي براءة تنكيت بمدحته ... معناه في الشرح يشفي داء ذي البكم )
ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أن النكتة المقصودة في بيته في سورة براءة هي قوله تعالى ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي
( وآله البحر آل إن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم )
التنكيت في هذا البيت بديع وغريب في بابه فإنني خصصت الندى بالذكر عند مقايسته بالبحر في قولي إن البحر عند ندى كفوفهم كالآل والآل هو الذي يحسبه الظمآن ماء ولو قلت انهار كفوفهم أو جداول كفوفهم لسد كل واحد منهما مسده بزيادة زائدة ولكن في الندى نكتة ليست فيهما وهي الغلو في أن البحر يصير عند هذا الندى سرابا وهذا الذي أوجب تخصيص الندى بالذكر دون غيره وقد اجتمع في هذا البيت التنكيت الذي هو القصد هنا والتورية والغلو ومراعاة النظير والجناس والله أعلم

ذكر الإرداف
( وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم )
نوع الإرداف قالوا إنه هو والكناية شيء واحد قلت وإذا كان الأمر كذلك كان الواجب اختصارهما وإنما أئمة البديع كقدامة والحاتمي والرماني قالوا إن الفرق بينهما ظاهر والإرداف هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له بل يعبر عنه بلفظ هو رديفه وتابعه كقوله تعالى ( واستوت على الجودي ) فإن حقيقة ذلك جلست على المكان فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى لفظ هو رديفه وإنما عدل عن لفظ الحقيقة لما في الاستواء الذي هو لفظ الإرداف من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل وهذا لا يحصل من لفظ جلست وقعدت ومن الأمثلة الشعرية على الإرداف قول أبي عبادة البحتري يصف طعنة
( فأوجرته أخرى فأحللت نصلها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد )
ومراده القلب فذكره بلفظ الإرداف والفرق بين الإرداف وبين الكناية أن الإرداف قد تقرر أنه عبارة عن تبديل الكلمة بردفها والكناية هي العدول عن التصريح بذكر الشيء إلى ما يلزم لأن الإرداف ليس فيه انتقال من لازم إلى ملزوم والمراد بذلك انتقال المذكور إلى المتروك كما يقال فلان كثير الرماد ومراده نقله إلى ملزومه وهي كثرة الطبخ للأضياف

وبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله تعالى على الإرداف قوله
( بقتبه أسكنوا أطراف سمرهم ... من الكماة محل الضغن والأضم )
الشيخ صفي الدين زاحم البحتري في بيته إلى أن نزع قلبه من صدره بل جل قصده في إردافه هنا القلب وكان الواجب العدول عنه لشهرته في هذا الباب عند أهل البديع
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( للطعن والضرب إرداف يحل به ... في موضع العقل يحكيه ذوو الحكم ) وبيت بديعيتي قلت قبله عن آل النبي مشيرا إلى الغلو في كرمهم
( وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم ) وأردفته بقولي في الشجاعة
( وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم )
أنظر أيها المتأمل في بديع هذا الإرداف الغريب الذي ميزته على أقرانه من البحتري إلى الشيخ عز الدين بحسن مراعاة النظير الذي أسكنت به الألسنة بالأفواه بقولي في محل النطق بالكلم مع التورية بتسمية النوع والله سبحانه أعلم

ذكر الإيداع
( وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم )
هذا النوع أعني الإيداع يغلب عليه التضمين والتضمين غيره فإنه معدود من العيوب والعيب المسمى بالتضمين هو أن يكون البيت متوقفا في معناه على البيت الذي بعده كقول النابغة
( وهم وردوا الجفار على تميم ... وهم أصحاب يوم عكاظ إني )
( شهدت لهم مواطن صادقات ... أنبئهم بود الصدر مني )
والإيداع الذي نحن بصدده هو أن يودع الناظم شعره بيتا من شعر غيره أو نصف بيت أو ربع بيت بعد أن يوطىء له توطئة تناسبه بروابط متلائمة بحيث يظن السامع أن البيت بأجمعه له وأحسن الإيداع ما صرف عن معنى غرض الناظم الأول ويجوز عكس البيت المضمن بأن يجعل عجزه صدرا أو صدره عجزا وقد تحذف صدور قصيدة بكمالها وينظم لها المودع صدورا لغرض اختاره وبالعكس وقد تقدم وتقرر أن الأحسن في هذا الباب أن يصرف الشاعر ما أودعه في شعره عن معناه الذي قصد صاحبه الأول ويجوز تضمين البيتين بشرط أن ينقلهما من معناهما الأول إلى صيغة أخرى كما حكي أن الحيص بيص قتل جرو كلب وهو سكران فأخذ بعض الشعراء كلبة وعلق في رقبتها قصة وأطلقها عند باب الوزير فإذا فيها مكتوب
( يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بخزية ألبسه العار في البلد )

( أبدى شجاعته بالليل مجترئا ... على جري ضعيف البطش والجلد )
( فأنشدت أمه من بعد ما احتسبت ... دم الأبليق عند الواحد الأحد )
( أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدة يدي أصابتني ولم ترد )
( كلاهما خلف من بعد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي )
البيتان الأخيران لامرأة من العرب قتل أخوها ابنها فقالت ذلك تسلية ومنهم من أودع شعره بيتين وكل بيت منهما لشاعر كقول القاضي شهاب الدين محمود
( وبتنا على حكم الصبابة مطعمي ... زفيري وأشجاني وشربي المدامع )
( وخلي يعاطيني كؤوس ملامة ... وينشدني والهم للقلب صادع )
( أتطمع من ليلى بوصل وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع )
( فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع )
البيت الأخير للنابغة قلت غاية الأوائل أن ينقلوا المعنى الأول في الإيداع إلى معنى اخر إن كان في بيتين أو بيت واحد أو نصف بيت ولكن الفرقة التي مشت تحت العلم الفاضلي وتحلت بالقطر النباتي وهلم جرا لم يرضوا بنقله مجردا من التوربة أو ما يناسبها من أنواع البديع ومما يؤيد قولي هذا قول القاضي جلال الدين القزويني في التلخيص وأحسنه ما زاد على الأصل بنكتة كالتورية والتشبيه وممن أبدع في نقله إلى التورية علامة هذا الفن الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى بقوله
( أتاني علي البانياسي منشدا ... فيا لك من شعر ثقيل مطول )
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل ) ومثله قوله في مليح اسمه حبيب وهو
( حبيب حبيب القلب أخلى منيزلا ... به كان في عرس المسرة ينجلي )
( فيا صاحبي الذكر قد لذا بالبكا ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
وما يشك من عنده ذوق أن المقطوعين في الإيداع تميز المحاسن التورية وغريب النقل إلى غرض كل من الناظمين وكذلك تقطيع أعناق الرجال في إيداع الشهاب محمود فإنهم نقلوه إلى الصفع وجاءت توريته في غاية الحسن وهذا هو المذهب

الذي انتهت غايات المتأخرين إليه ومن ذلك قول الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضا وهو
( أقول لمعشر جلدوا ولا طوا ... وباتوا عاكفين على الملاح )
( ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ) وقولي
( ومذ كلمت قلبي سيوف لحاظها ... شكوت إليها قصتي وهي تبسم )
( فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة
( دنوت إليها وهو كالفرخ راقد ... فيا خجلتى لما دنوت وإذلالي )
( فقلت امعكيه بالأنامل فالتقى ... لدى وكرها العناب والحشف البالي ) وقولي
( طاول الليل بالذؤابة قبس ... وتثنى عجبا بلطف وكيس )
( فحلا لي السهاد مذ طال ليلي ... يا خليلي من ذؤابة قيس ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة
( تصدى إلى أيري فقلت له اتئد ... وحقك لو عاينته وهو ثائر )
( رأيت الذي لاكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر )
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة كان تغمده الله برحمته ما اختلف هو والشيخ جمال الدين بن نباتة في إيداعه واتفقا في معناه والمعنى في البيتين المذكورين قبل وأما الترشيح فعندي أن التورية في بيتي المقر الناصري أرجح وهما قوله
( أقول وقد أبى عن أخذ أيري ... وسالت من محاجره دموع )
( إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع )

الذي ترجح عندي أن قوله وجاوزه أعقد من قول الشيخ جمال الدين لا كله والذي أقوله إن كلا منهما في بابه بديع وغريب وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة
( لم أنس موقفنا بكاظمة ... والعيش مثل الدار مسود )
( والدمع ينشد في مسائله ... هل بالطلول لسائل رد ) ومثله قولي
( قف واستمع طربا فليلى في الدجا ... باتت معانقتي ولكن في الكرى )
( وجرى لدمعي رقصة بخيالها ... أترى درى ذاك الرقيب بما جرى ) ومن إيداعاتي الغريبة قولي من إعجاز الملحة
( تنكر الحال علينا عندما ... سال عليه العارض المسلسل )
( فعنه سلني إن ترد تعريفه ... فإنه منكر يا رجل )
ومما انفرد به الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى تضمين أعجاز الملحة والذي يؤيد انفراده حسن تخلصه من الغزل وهو ماش علىالتضمين إلى مدح قاضي القضاة ولم يزل مستمرا على غرر المدائح اللائقة بالقاضي إلى حسن الختام
وضمن الشيخ زين الدين بن الوردي نبذة عن اعجاز الملحة ولم يفرغها في غير قوالب الغزل فإن التخلص من الغزل إلى المدح من المستحيلات في هذا الباب ولكن الشيخ جمال الدين بن نباتة كان في ذلك العصر نسيج وحده ومن المعلوم أن الجماعة مثل الشيخ زين الدين بن الوردي والشيخ صلاح الدين الصفدي والشيخ برهان الدين القيراطي وغيرهم ممن عاصره ما منهم إلا من تطفل على موائد حلاواته النباتية وقد عن لي أن أورد هنا نبذة من التضمين للشيخين وأجعل كلا من أبيات الشيخين وقفا محبسا على أصحاب الذوق السليم قال الشيخ جمال الدين في المطلع
( صرفت فعلي في الأسى وقولي ... بحمد ذي الطول الشديد الحول ) وقال الشيخ زين الدين رحمه الله تعالى في المطلع
( يا سائلي عن الكلام المنتظم ... هو الذي في لفظ من أهوى قسم )
هذا المطلع من إيداع الذي قصر فيه باع الشيخ زين الدين بن الوردي فإنه صدر

مطلعه بالصدر وهو جائز ولكنه غير المراد فإن الشيخ جمال الدين تقدمه بتضمين الإعجاز ونسج إيداعه على هذا المنوال ومن أغزال الشيخ جمال الدين البديعة في هذا الباب قوله
( أفدي غزالا مثلوا جماله ... في مثل قد أقبلت الغزاله )
( ما قال مذ ملك قلبي واسترق ... كقولهم رب غلام لي أبق )
( للقمرين وجهه مطالع ... فهي ثلاث ما لهن رابع )
( لأحرف الحسن على خديه خط ... وقال قوم إنها اللام فقط )
( منفرد بالوصل في دار الهنا ... مثاله الدار وزيد وأنا )
( لا يختشي تلاعب الظنون ... والأمر مبني على السكون )
( في خده التبري هان نشبي ... وقيمة الفضة دون الذهب )
( فاصرف عليه ثروة تسام ... فما على صارفها ملام )
( وإن رأيت قده العالي فصف ... وقف على المنصوب منه بالألف )
( والعارض النوني ما أنصفته ... وإن تكن باللام قد عرفته )
( واهاله من حرف نون قد عرف ... كمثل ما تكتبه لايختلف )
( يأتي بنقط الخال في الإعجام ... وتارة يأتي بمعنى اللام )
( للحظة المسكر فعل يطرب ... مفعوله نحو سقى ويشرب )
( ولا تلم فيه عويشقا تلف ... ولا سكيران الذي لاينصرف )
( جسمي وذاك الخصر والجفن الدنف ... هن حروف الاعتلال المكتنف )
( فيا مليحا عنه أخرت القمر ... اما لا هوان وإما لصغر )
( كرر فما أحلى بسمعي السامي ... قولك يا غلام يا غلامي )
( وارفق بمضناك فما سوى اسمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه )
( وقد حكى العذار في الوقوف ... فاعطف على سائلك الضعيف )
( وافخر بمعنى لحظك المعشوق ... في كل ما تأنيثه حقيقي )
( يا لك لحظا بسعاد أزرى ... وجاء في الوزن مثال سكرى )
( يا ناصبا أوصاف ذياك الصبي ... تم الكلام عنده فلتنصب )
( هيهات بل دع عنك ما أضنى وما ... وعاص أسباب الهوى لتسلما )

( وكرر الأمداح في علي ... قاضي القضاة الطاهر النقي )
( بكل معنى قد تناهى واستوى ... في كلم شتى رواها من روى )
( بادر بنا ذاك الحمى العالي وصف ... إذا اندرجت قائلا ولا تقف )
( دونك والمدح زكيا معجبا ... نحو لقيت القاضي المهذبا )
( فالجود والعلم عليه أرسي ... وهكذا أصبح ثم أمسي )
( واهرع إلى قار قراه نافع ... وافزع إلى حام حماه مانع )
( يقول للضيف نداه جب وجل ... ومثله ادخل وانبسط واشرب وكل )
( وإن ظفرت عنده بموعد ... تقول كم مال أفادته يدي )
( لله ما ألينه عند العطا ... وما أحد سيفه إذا سطا )
( إن قال قولا بين الغرائبا ... وقام قس في عكاظ خاطبا )
( وإن سخا أتى على ذي العدد ... والكيل والوزن ومذروع اليد )
( معطل السمع عن العذال ... فما له مغير بحال )
( الفضل جنس بيته المهنا ... ونوعه الذي عليه يبنى )
( سام به أهل العلا جميعا ... وارفع ولا رد ولا تقريعا )
( وإن ذكرت أفق بيت قد نما ... فانصب وقل كم كوكب تحوي السما )
( بيت عظيم المجد والعلاء ... عند جميع العرب العرباء )
( إذا اجتليت في العطا جبينه ... أو استثرت للرجا يمينه ) منها والبيت مضمن بكماله
( تقول قد خلت الهلال لائحا ... وقد وجدت المستشار ناصحا )
( كم بالغنى عنه تولى راجل ... وواقف بالباب أضحى سائل )
( قال له الشرع امض ما تحاوله ... واقض قضاء لا يرد قائله )
( وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد )
( ولا تقل كان غماما ورحل ... كان وما انفك الفتى ولم يزل )
( باب سواه اهجر عداك عيب ... وصغر الباب وقل بويب )
( أود به أنسى أحاديث المطر ... فليس يحتاج لها إلى خبر )

( خذ بحر شعر جبته للذكر ... وغصت في البحر ابتغاء الدر )
( حتى ملا عيني نداه عينا ... وطبت نفسا إذ قضيت الدينا )
( دونكها معسولة الآداب ... ممزوجة بملحة الإعراب )
( مضى بها الليل مضي الأنجم ... وبات زيد ساهرا لم ينم )
( فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبا فسد الخللا )
( لا زلت مسموع الثنا ذا منن ... جائلة دائرة في الألسن )
( ما لعداك راية تقام ... فليس إلا الكسر والسلام ) وقال الشيخ زين الدين بن الوردي
( في صدغه للحسن آيات تخط ... وقال قوم إنها اللام فقط )
قلت الشيخ جمال الدين تقدمه في هذا البيت بالإيداع وهنا بحث لطيف أبحثه مع حذاق الأدب قال الشيخ جمال الدين بن نباتة لأحرف الحسن علي خديه خط ومراده بذكر الأحرف هنا مخالفة القوم له على أنها ليست بأحرف وإنما هي حرف اللام فقط وقال الشيخ زين الدين في خده للحسن آيات تخط فلم يبق لقول من خالفه بقوله وقال قوم إنها اللام فقط موضع ولا محل وأين الآيات التي تخط من اللام ولعمري إن هذا الإيداع على هذا التقدير يصير بينه وبين العجز من بيت الملحة بعض مباينة وكان الأليق للشيخ زين الدين الإعراض عن إيداع هذا البيت بعد الشيخ جمال الدين فإنه لم يترك لغيره مجالا فيه والله أعلم وقال الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى
( زمانه غض فلا يخشى فرط ... إذ ألف الوصل متى يدرج سقط )
( بسيف جفنه قتلت نفسي ... فإنه ماض بغير لبس )
( فيا غزال إن أبنت ما اعتدى ... فأسقط الحرف الأخير أبدا )
( قلت لمذكر لحي خل الفند ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد )
وهذا الإيداع أيضا نسخه الشيخ زين الدين من قول الشيخ جمال الدين وسبكه في غير قالبه وأين هذا من قول الشيخ جمال الدين في إشاراته إلى قاصد ممدوحه
( وأنت يا قاصده سر في جدد ... واسع إلى الخيرات لقيت الرشد )

قال الشيخ زين الدين
( وإن يكن عدلك في المؤنث ... فقل لها خافي رجال العبث ) منها وأجاد إلى الغاية
( قوامه أشبه شيء بالألف ... كمثل ما تكتبه لا يختلف ) ومثله في الحسن قوله
( يا خصره من ردفه فز بالمنح ... ولا تسل أخف وزنا أم رجح )
تركيب هذا البيت غاية في هذا الباب لأنه قدم ذكر الألف في الأول وقال في عجز بيت الملحة كمثل ما تكتبه لا يختلف بخلاف قوله في ذلك البيت آيات وقوله في عجز بيت الملحة وقال قوم إنها اللام فقط وقال
( عذاره الرقيم فز بلثمه ... ولا تغير ما بقي من رسمه )
ولكن مرسوم الشيخ جمال الدين أمثل وأين قول الشيخ جمال الدين وارفق بمضناك فما سوى اسمه حتى يقول بعد التوطئة ولا تغير ما بقي من رسمه من قول الشيخ زين الدين عذاره الرقيم فز بلثمه وقال الشيخ زين الدين بعد بيته الأول
( تقول فيه خضرة يسيره ... كما تقول ناره منيره )
( دينار وجهه به شححت ... وكم دنينير به سمحت )
( يا ليته يعطف بالوصال ... والعطف قد يدخل في الأفعال )
( لا ما حلا لي في هواه العذل ... لشبهه الفعل الذي يستقبل ) منها وأجاد
( عيناه أفنت أكثر العشاق ... وهكذا تفعل في البواقي )
( في ثغره جواهر غوالي ... جلوتها منظومة اللآلي )
( صورته كالبدر فوق الغصن ... فانظر إليها نظر المستحسن )
( وخل عنك يا عذول العذلا ... وإن تجد عيبا فسد الخللا )
وهذا البيت أيضا منسوخ من إيداع الشيخ جمال الدين والبون بينهما بعيد فإن

الشيخ جمال الدين اعتذر للممدوح في آخر القصيدة عن التقصير كما جرت عادة الشعراء بقوله
( فافتح لها باب القبول تجتلى ... وإن تجد عيبا فسد الخللا )
هذا مع مطابقة الفتح بالسد في هذا الباب وهذا غاية وأما اعتذار الشيخ زين الدين للعاذل وقوله له عن محبوبه وإن تجد عيبا فسد الخللا فالمحبوب عند محبه أجل من هذا القدر والله أعلم وختام الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله قوله
( حتى رثى لي وألان القولا ... والحمد لله على ما أولى )
ولعمري إني اختصرت من إيداع الشيخ زين الدين بن الوردي جانبا لم أرضه له
ومن الإيداعات التي برز فيها الشيخ زين الدين بن الوردي قصيدته التي امتدح بها النبي وضمن فيها أعجاز قصيدة أبي العلاء المعري وبعض صدورها وهي القصيدة الرائية التي امتدح بها أبو العلاء المعري ابن القصيصي ونقلها الشيخ زين الدين بن الوردي إلى مستحقها وقد عن لي أن أجمع هنا بين الأصل والفرع لتظهر مزية الشيخ زين الدين فإنه أظهر في إيداعه العجائب وأتى بالغرائب ومطلع الشيخ زين الدين خال من الإيداع وهو
( أدر أحاديث سلع والحمى أدر ... والهج بذكر اللوى أو بانة العطر ) ومطلع الشيخ أبي العلاء المعري
( يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر ) قال الشيخ زين الدين بعد المطلع
( وقف على الجزع واذكرني لساكنه ... لعل بالجزع أعوانا على السهر ) وقال في إيداع صدر مطلع أبي العلاء
( إذا تبسم ليلا قل لمبسمه ... يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ) قال أبو العلاء يخاطب البرق
( وإن بخلت على الأحياء كلهم ... فاسق المواطر حيا من بني مطر )

وقال أبو العلاء في قصر الليل على العاشق ليلة الوصل
( يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح وأجاد إلى الغاية بقوله عن النبي
( تشرف الركن إذ قبلت أسوده ... وزيد فيه سواد القلب والبصر ) قال أبو العلاء
( لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر ) فنقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي فقال يخاطب النبي
( عذبت وردا فلم تهجر على خصر ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر ) قال أبو العلاء يخاطب محبوبته
( قلدت كل مهاة عقد غانية ... وفزت بالشكر في الآرام والعفر ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي وما أحق المادح والممدوح به فقال
( إن الغزالة لما أن شفعت نجت ... وفزت بالشكر في الآرام والعفر ) قال الشيخ أبو العلاء
( أقول والوحش ترميني بأعينها ... والطير تعجب مني كيف لم أطر ) نقله الشيخ زين الدين وقال ( ضمنت مدح رسول الله مبتهجا ... والطير تعجب مني كيف لم أطر ) قال أبو العلاء
( في بلدة مثل ظهر الضب بت بها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر ) نقله الشيخ زين الدين وقال
( ولي ذنوب متى أذكر سوالفها ... كأنني فوق روق الظبي من حذر )

قال أبو العلاء يخاطب صاحبيه
( لا تطويا السير عني يوم نائبة ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر ) قال الشيخ زين الدين بعد قوله ولي ذنوب
( ومطمعي أنها لا شرك [ إلا ] بشركها ... فإن ذلك ذنب غير مغتفر ) قال أبو العلاء
( يا روع الله سوطي كم أروع به ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر ) نقله الشيخ زين الدين وقال
( ولي فؤاد متى تفخر سوى مضر ... فؤاد وجناء مثل الطائر الحذر ) قال أبو العلاء في المخلص بعد روع الوجناء
( باهت بمهرة عدنانا فقلت لها ... لولا القصيصي كان المجد في مضر ) قال الشيخ زين الدين لله دره
( والله لو أن أهل الأرض قاطبة ... مثل القصيصي كان المجد في مضر ) قال أبو العلاء مشيرا إلى ممدوحه وأساء الأدب
( وقد تبين قدري أن معرفتي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر ) نقله الشيخ زين الدين بن الوردي إلى المديح النبوي وقال بحق
( يا نفس لا تيأسي يوم المعاد فلي ... من تعلمين سيرضيني عن القدر ) قال أبو العلاء وكذب عن القصيصي في قوله
( ولو تقدم في عصر مضى نزلت ... في وصفه معجز الآيات والسور ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي وقال رحمه الله حيث قال
( وأين شعري من الهادي الذي نزلت ... في وصفه معجزات الاي والسور )

قال الشيخ أبو العلاء يخاطب ممدوحه
( وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر )
نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي وقال يخاطب النبي وسبى العقول بقوله
( وأنت في القبر حي ما اعتراك بلى ... والبدر في الوهن مثل البدر في السحر ) قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه
( أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر )
والبيت نقله الشيخ زين الدين إلى المديح النبوي بكماله ولكن كان فارس ميدانه وقائد عنانه وكأنه كان معدا لقصيدته حتى يبرزه في محله من مديح النبي وهو
( لله قولي لعبد الله والده ... قولا إلى فص علياه على قدر )
( أعاذ مجدك عبد الله خالقه ... من أعين الشهب لا من أعين البشر ) قال أبو العلاء يخاطب ممدوحه
( سافرت عنا فظل الناس كلهم ... يراقبون إياب العيد من سفر ) نقله الشيخ زين الدين إلى المديح فقال يخاطب النبي
( كم راقبت أمم منك القدوم كما ... يراقبون إياب العيد من سفر ) قال أبو العلاء يخاطب الممدوح
( لو غبت شهرك موصولا بتابعه ... وأبت لانتقل الأضحى إلى صفر ) قال الشيخ زين الدين يخاطب النبي
( سل تعط واشفع تشفع ما ترده يكن ... لو شئت لانتقل الأضحى إلى صفر )

قال أبو العلاء في ختام قصيدته
( ولا تزال بك الأيام ممتعة ... بالآل والحال والعلياء والعمر ) قال الشيخ زين الدين في ختامه
( وارتجي بك من ذي العرش عافية ... في الآل والحال والعلياء والعمر )
رحم الله الشيخ زين الدين هذه القصيدة معدودة من محاسنه ولولا خشية الإطالة لاستوعبتها بكمالها فإنها بديعة في باب الإيداع انتهى
وأما اعجاز قصيدة امرىء القيس اللامية المعلقة فإن جماعة من أهل الأدب ثابروا على تضمينها وتضمين البعض منها وسبكوها في قوالب مختلفة الأنواع
كتب إلي مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي الحنفي سقى الله ثراه من دمشق المحروسة إلى حماة المحروسة في صدر رسالته
( أحن إلى تلك السجايا وإن نأت ... حنين أخي ذكرى حبيب ومنزل )
( وأهدي إليها من سلامي معطرا ... بمسك سحيق لابريا القرنفل )
( وأذكر ليلات بكم قد تصرمت ... بدار حبيب لا بدارة جلجل )
( شكوت إلى صبري اشتياقي فقال لي ... ترفق ولا تهلك أسى وتجمل )
( وقلت له إني عليك معول ... وهل عند رسم دارس من معول )
فأجبته وصدرت الرسالة بقولي
( سرت نسمة منكم إلي كأنها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
( فقلت لليلي مذ بدا صبح طرسها ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجل )
( جنت ما حلا ذوقا فقلت تقربي ... ولا تبعدينا عن جناك المعلل )
( ورقت فأشعار امرىء القيس عندها ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
( فقلت قفا نضحك لرقتها على ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )

وتطارح الشيخ جمال الدين والشيخ صلاح الدين قبلنا في جانب كثير منها ولكن الشيخ جمال الدين تنازل فيها إلى الغاية فقال
( رأى فرسي إصطبل عيسى فقال لي ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ) وأما الشيخ صلاح الدين فإنه كتب إلى الشيخ جمال الدين في معنى العتب المفرط
( أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
( وترمي على طول المدى متجنيا ... بسهميك في أعشار قلب مقتل )
( فأمسى بليل طال جنح ظلامه ... علي بأنواع الهموم ليبتلي )
( وأغدو كأن القلب من وقدة الجوى ... إذا جاش فيه حميه غلي مرجل )
( تطير شظاياه بصدري كأنها ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل )
( وسالت دموعي من همومي ولوعتي ... على النحر حتى بل دمعي محملي )
( إذا عاين الأخوان ما بي من الأسى ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل )
( ترفق ولا تجزع على فائت الوفا ... فما عند رسم دارس من معول )
( ولي فيك ود طال ما قد شددته ... بأمراس كتان إلى صم جندل )
( ولي خطرات فيك منها جوانحي ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل )
( كأن أمانيها كؤوس مدامة ... غذاها نمير الماء غير محلل )
( سلوت غوايات الشبيبة والصبا ... وليس فؤادي عن هواها بمنسلي )
( وأجلو محيا الود فيك لأهله ... متى ما ترق العين فيه يسهل )
( فكر على جيش الجناية عائدا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل )
( تجد خفرات الأنس منها كواعبا ... ترائبها مصقولة كالسجنجل )

( وخل الجفا وارجع إلى معهد الوفا ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجمل )
( حلا ودك الماضي وإن لم تعد أعد ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل )
فأجابه الشيخ جمال الدين متهكما في المطلع والتهكم فيه غاية لا تكاد تخفى على حذاق الأدب بقوله
( فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبا ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلل )
( بروحي ألفاظ تعرض عتبها ... تعرض أثناء الوشاح المفصل )
( فأحييت ودا كان كالرسم عافيا ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
( تعفي رياح العذر منك رقومه ... لما نسجتها من جنوب وشمأل )
( نعم قوضت منك المودة وانقضت ... فيا عجبا من رحلها المتحمل )
( أمولاي لا تسلك من الظلم والجفا ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل )
( ولا تنس مني صحبة تصدع الدجا ... بصبح وما الإصباح مني بأمثل )
( صحبتك لا ألوي على صاحب عطا ... بجيد معم في العشيرة مخول )
( وحاولت من إدناء ودك ما نأى ... فأنزلت فيه العصم في كل منزل )
( يقلب لي وجدي به سوط سائق ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل )
( وكم خدمة عجلتها ومحبة ... تمتعت من لهو بها غير معجل )
( وكم أسطر مني ومنك كأنها ... عذاري دراري في ملاء مذيل )
( وقلب خليل ينشد الود همه ... ألا أيها الليل الطويل ألا انجل )

( وكم ناصح كذبت دعواه إذ غدت ... علي وآلت حلفة لم تحلل )
( ولحية لاح غاظها ضحكي على ... أثيث كقنو النخلة المعثكل )
( ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل )
( نزعت لسكري ساحبا من صبابتي ... على إثرها أذيال مرط مرحل )
( إلى أن تبدى عذره متمطيا ... وأردف اعجازا وناء بكلكل )
( فلاطفته في حالتيه ولم أقل ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل )
( وضن بأسطار كأن يراعها ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل )
( ويقرع سمعي من معاريض لفظه ... مداك عروس أوصلاية حنظل )
( وعدنا لود يملأ القلب عوده ... بشحم كهداب الدمقس المفتل )
( أعدت صلاح الدين عهد مودة ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل )
( فدونك عتبي اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل )
( وعادات حب هن أشهر فيك من ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
والذى أقوله المهيع الذي اخترعه الصاحب فخر الدين بن مكانس ومشى عليه في تضمين هذه المعلقة يعد من المعلقات في بابه فإنه ضمنها في مداعبة رجل من أصحابه كان كبير الأنف وأتى بما لا اختلج في صدر متأدب ولا سمع بعده المرقص والمطرب وهو قوله
( تأنف عن وصف الغزال تغزلي ... بلحية أنف ذي عقاص ومرسل )
أنظر أيها المتأدب ما ألطف تأنف هنا وألطف منه قوله بلحية أنف فإن العقاص

جمع عقيصة وهو ما جمع من الشعر والمرسل الشعر المسرح ومراده أن لحية هذا الأنف غزيرة الشعر مسرحة وقال مشيرا إليها
( من البق فيها جملة قد تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل )
( فيا قبح شعر فوق أنف معرقص ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل )
الأثيث الكثير والمتعثكل الذي دخل بعضه في بعض لكثرته وتدلى وهكذا قنو النخلة الذي شبه به الصاحب فخر الدين هذا الأنف ولعمري إن هذا الإيداع من السحر في نقله إلى هذه الصفة الغريبة وقال بعده
( وقالوا اختبا في شعره فكأنه ... كبير أناس في بجاد مزمل )
هذا التشبيه بالنسبة إلى كبر الأنف نوع من الغلو وهو من المخترعات في بابه فإن امرأ القيس شبه به جبل ثبير فقال
( كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل )
والعرانين جمع عرنين وهو الأنف والوبل ما عظم من المطر والبجاد كساء مخطط من الشعر الأبيض والأسود فنقله الصاحب فخر الدين في إيداعه إلى الأنف لما فيه من الشعر الأبيض والأسود الذي انتسج في أنفه كالبجاد ولما اختفى في ذلك الشعر بكبير أناس في بجاد مزمل أي ملتف وقد تقدم قولي إنه من المخترعات ( مقلص كلتا الجانبين كأنه ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل )
وهذا التشبيه أيضا من العجائب فإن هذا الأنف لم يبرح سائلا فشبهه الصاحب برجل ناقف حنظل فإن ناقف الحنظل كثير الدمع لشدة حرارته وقال
( ترى القمل والصيبان في عرصاته ... وقيعانه كأنه حب فلفل )
( وفي جوفه شعر طويل كأنه ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل )
( فيالك شعرا فوق أنف معظم ... يلوح كداب الدمقس المفتل )
( وكم قلت إذ أرخى ذوائب أنفه ... علي بأنواع الهموم ليبتلي )
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل )

الصاحب فخر الدين رحمه الله ضمن هنا عجزا وبيتا كاملا بنصف بيت واحد وفي هذا من الروية والقوة ما يزيد على الوصف وأما قوله بعدما أرخى هذا الرجل ذوائب أنفه ألا أيها الليل الطويل ألا انجل فإن هذا نوع من السحر بل السحر بعينه ومن المبالغة المفرطة في هذا الباب قوله
( كأن الفسا إن قيس مع ريح أنفه ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
( ترى شعرات الأنف سدت خدوده ... لما نسجتها من جنوب وشمأل )
( وقد درست بالأنف آثار وجهه ... فهل عند رسم دارس من معول )
( كأني بمولانا على وصف أنفه ... تولى بأعجاز وناء بكلكل )
( وجرد شعر الأنف منه وجاءنا ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل )
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
هذا الذي وقع عليه الاختيار من اختراع الصاحب فخر الدين تغمده الله برحمته ورضوانه ولعمري إنه من الاختراع الذي لم يسبق إليه ولا حام فكر من قبله عليه انتهى
وكان الأمير مجير الدين بن تميم يجنح إلى نوع الإيداع كثيرا وأتى فيه بالعجائب والغرائب وقال من شغفه بالتضمين
( أطالع كل ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري )
( أضمن كل بيت فيه معنى ... فشعري نصفه من شعر غيري ) ومن تضامينه
( أفدي الذي أهوى بفيه شاربا ... من بركة راقت وطابت مشرعا )
( أبدت لعيني وجهه وخياله ... فأرتني القمرين في وقت معا ) وله أيضا
( وشبابة قد كنت أهوى سماعها ... وقد صرت منها بعدما تبت أنفر )
( وها أنا قد فارقتها غير نادم ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر )

وأورد العميان في شرح بديعيتهم بيتين ذكروا أن تضمينهما لبعض المتقدمين من المغاربة وهما على طريقتهم ولكن أعجباني وهما
( وفرع كان يوعدني بأسر ... وكان القلب ليس له قرار )
( فنادى وجهه لا خوف فاسكن ... كلام الليل يمحوه النهار )
ومن التضامين البديعة قول زكي الدين بن أبي الأصبع وقد جعل مطلع أبي الطيب عجزين لبيتين فلم يلحق فيهما فإنه نقلهما من فخامة التحمس إلى زخارف الغزل بقوله
( إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكرت ما بين العذيب وبارق )
( ويذكرني من قدها ومدامعي ... مجر عوالينا ومجرى السوابق ) ومن تضامين ابن تميم
( عاينت في الحمام أسود واثيا ... من فوق أبيض كالهلال المسفر )
( فكأنما هو زورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر ) وقال في الفانوس
( يقول لي الفانوس حين أتوا به ... وفي قلبه نار من الوجد تسعر )
( خذوا بيدي ثم اكشفوا الثوب تنظروا ... ضنى جسدي لكنني أتستر ) وله
( أزهر اللوز أنت لكل زهر ... من الأزهار يأتينا إمام )
( لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدهر ابتسام ) وقال
( لو كنت إذ أبصرتها موارة ... للشمس في أمواهها لألاء )
( لرأيت أعجب ما ترى من بركة ... سال النضار بها وقام الماء ) وقال غيره وسبكه في غير هذا القالب
( لو كنت في الحمام والحنا على ... أعطافه ولجسمه لألاء )
( لرأيت ما يسبيك منه بقامة ... سال النضار بها وقام الماء )

وقال
( يا من يقول بأن رشف ... لمى الحبائب لم يرق )
( وغدا يعنفني به ... دع عنك تعنيفي وذق ) وقال
( لما رأيت البدر في ساعدي ... ونرجس الأنجم قد صوحا )
( أفنيت رشفا فيه ريق الدجا ... من قبل أن ترشف شمس الضحا ) وقوله
( صهباء ريقته رشفت سلافها ... وتغلبت فعجزت أن أتكلما )
( وإذا سئلت أقل لمن هو سائل ... إني لأعلم ما تقول وإنما ) ومن محاسن الشيخ سراج الدين الوراق قوله
( توارت من الواشي بليل ذوائب ... له من جبين واضح تحته فجر )
( فدل عليها شعرها بظلامه ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) نقله الشيخ شمس الدين بن الصائغ إلى المداعبة وزاده تورية بقوله ( تطلبت حجرا في الظلام فلم أجد ... ومن يك مثلي حية دأبه الحجر )
( فناداني البدر الأديب إلى هنا ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) ويعجبني من تضمين ابن أبي الاصبع قوله وهو منقول من الحماسة إلى الغزل
( له من ودادي مثل كفيه صافيا ... ولي منه ما ضمت عليه الأنامل )
( ومن قده الزاهي ونبت عذاره ... صدور رماح أشرعت وسلاسل ) وقوله
( هذا الذي أنا قد سمحت بحبه ... كرما بلؤلؤ دمعي المتنظم )
( لا تحرموني ضم أسمر قده ... ليس الكريم على القنا بمحرم ) ومن تضامين الشيخ محمود البديعة قوله
( من حاتم عد عنه واطرح فبه ... في الجود لا بسواه يضرب المثل )
( لو مثل الجود سرحا قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل )

ومن محاسن تضامين شمس الدين محمد بن العفيف البديعة قوله
( قالوا غدا تندم عن لثمه ... في خده إذ يغلب السكر )
( فقال لي مبسمه دعهم ... اليوم خمر وغدا أمر ) وقال
( جلا ثغرا وأطلع لي ثنايا ... يسوق بها المحب إلى المنايا )
( وأنشد ثغره يبغي افتخارا ... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ) ومن تضامين مجير الدين بن تميم التي تطفل الناس عليها بعده قوله
( إن تاه ثغر الأقاحي إذ تشبهه ... لله حبك واستولى به الطرب )
( فقل له عندما يحكيه مبتسما ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب ) ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر البديعة قوله
( وناطقة بالروح عن أمر ربها ... تعبر عما عندها وتترجم )
( سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم ) ومن تضامين الشيخ صلاح الدين الصفدي قوله
( ملكت كتابا أخلق الدهر رسمه ... وما أحد في دهره بمخلد )
( إذا عاينت كتبي الجديدة جلده ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد ) وقال
( قل للرقيب يسترح من عذلي ... ما أصبح المعشوق عندي مشتهى )
( وارتد قلبي عن سيوف لحظه ... وكل شيء بلغ الحد انتهى ) وقال مضمنا ومكتفيا
( رشفت ريقك حلوا ... فلم يكن لي صبر )
( وسوف أحظى بوصل ... وأول الغيث قطر ) ومن تضامين الشيخ عز الدين الموصلي
( وعلق يرى للترك فيه تحمس ... يقود عليه أحدب ويعاشره )
( إذا جاءه اللوطي يطلب وصله ... ثنى طرفه نحو الحسام يشاوره )

وله أيضا
( جاد لنا كالشادن الربيب ... لحظته بالنظر المريب )
( فقال في السكرة عند نومه ... يا رب سلمها من الدبيب ) وقال
( نادمت قوما لا خلاق لهم ولا ... ميل إلى طرب ولا سمار )
( يستيقظون إلى نهيق حميرهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار ) وقال
( لحديث نبت في العذار حلاوة ... وطلاوة هامت به العشاق )
( فإذا نهاني المرد قلت تمهلوا ... فإليكم هذا الحديث يساق ) ومن تضامين الشيخ برهان الدين المعمار التي أجاد فيها قوله
( عزمت على رقبى محاسن وجهه ... بأنوار ايات الضحى حين أقبلا )
( فلما بدا يفتر عن نظم ثغره ... بدأت ببسم الله في النظم أولا ) وكتب الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري إلى الشيخ سيف الدين الآمدي
( لئن تقدم قوم عصر سيدنا ... فكم تقدم خير المرسلين نبي )
( وإن يكن علمه فرعا لعلمهم ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب ) ( وإن أتت قبله كتب مؤلفة ... فالسيف أصدق إنباء من الكتب ) ومن الغايات في هذا الباب قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب
( لله يوم الوفا والناس قد جمعوا ... كالروض تطفوا على نهر أزاهره )
( وللوفاء عمود من أصابعه ... مخلق تملأ الدنيا بشائره ) ومما جاد به الشيخ برهان الدين القيراطي في تضمينه
( قل في اخضرار عذاره وقوامه ... خلع الربيع على غصون البان )
( وانشر من الأغزال في أردافه ... حللا فواصلها على الكثبان ) ومن غايات الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في هذا الباب قوله
( قل للهلال وغيم الأفق يستره ... حكيت طلعة من أهواه بالبلج )
( لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على مافيك من عوج )

ومن تضامين علاء الدين بن أيبك الدمشقي البديعة قوله
( أقول وقد ظمئت ووجه حبي ... له عرق على ورد الخدود )
( أرى ماء وبي ظمأ شديد ... ولكن لا سبيل إلى الورود ) ومن تضامين القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قوله
( لقد قال لي إذ رحت من خمر ريقه ... أحث كؤوسا من ألذ مقبل )
( بلثم شفاهي بعد تقبيل مبسمي ... تنقل فلذات الهوى في التنقل ) وظريف في هذا الباب قول الشيخ بدر الدين بن المنيجي
( ولما خلونا والمسرة بيننا ... وقد عز شرب الراح فينا عن الشرب )
( تعوض كل بالحشيش عن الطلا ... ومن لم يجد ماء تيمم بالترب ) ومن تضامين شهاب الدين بن أبي حجلة البديعة قوله
( يحكي سنا الفانوس من بعد لنا ... برقا تألق موهنا لمعانه ) ( فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه ) وقال فيه
( أنا في الدجا ألقى الهوى وبمهجتي ... حرق يذوب لها الفؤاد جميعه )
( وكأنني في الليل صب مغرم ... كتم الهوى فوشت عليه دموعه ) وقال وأجاد
( يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس )
( وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس ) ومن تضامين الشيخ برهان الدين القيراطي
( تجمعت من نطف ذاته ... حتى بدا في قالب فاسد )
( وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد )

وقال مضمنا في قطائف
( لقد نطقت زهر الثنا بقطائف ... تخيرتها فاختر لنفسك ما يحلو )
( تقول اسمعوا مني مدائح مرسلي ... وكلي إن حدثتكم السن تتلو ) وله في باذهنج وأجاد
( بروحي أفدي باذهنجا موكلا ... بإطفاء ما ألقاه من حرق الجوى )
( إذا فتحت في الحر منه طوابق ... أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ) وقال فيه
( أيا باذهنجا صح فيه لنا الهوا ... صفاتك ما وفي بهن خطاب )
( وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن عشقي في هواك صواب ) وقال فيه الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة وأجاد
( هجا الشعراء جهلا باذهنجي ... لأن نسيمه أبدا عليل )
( فقال الباذهنج وقد هجوه ... إذا صح الهوى دعهم يقولوا ) ويعجبني من قصائد الشيخ برهان الدين القيراطي قوله
( وموسوس عند الطهارة لم يزل ... أبدا على الماء الكثير مواظبا )
( يستصغر البحر الكبير لذقنه ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا ) ومن غاياته في هذا الباب قوله
( ولما بدا والليل أسود فاحم ... قد انتشرت في الخافقين غياهبه )
( أضاء بدر الثغر عند ابتسامه ... دجا الليل حتى نظم الجزع ثاقبه ) وقال بدر الدين حسن الزغاري وأجاد
( وبي سامري مربى في عمامة ... قد اكتسبت من وجنتيه احمرارها )
( موردة دارت بوجه كأنما ... تناولها من خده فأدارها )

ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي
( وسامري أعار البدر منه سنا ... سموه نجما وهذا النجم غرار )
( تهتز قامته من تحت عمته ... كأنه علم في رأسه نار ) ومن تضامين محيي الدين بن قرناص الحموي
( أفديه أغيد زارني تحت الدجا ... وعليه من فرعيه ليل ساجي )
( والفرق بين الشعر فوق جبينه ... عريان يمشي في الدجا بسراج ) وقال أيضا
( سقى الله روضا قد تبدى لناظري ... به شادن كالغصن يلهو ويمرح )
( وقد نضحت خداه من ماء ورده ... وكل إناء بالذي فيه ينضح ) وقوله في كاحل
( دعوا الشمس من كحل الجفون فكفه ... تسوق إلى الطرف الصحيح الدواهيا )
( فكم أذهبت من ناظر بسواده ... وخلت بياضا خلفها ومآقيا ) وقال الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة
( ومتى امتطيت من الكؤوس كميتها ... أمسيت تمشي في المسرة راكبا )
( ومتى طرقت عشى انس ديرها ... لم تلق إلا راغبا أو راهبا ) وقال ابن الوردي تعجبت من اشتهار بيتين ما أحكمهما بانيهما ولا اعتنى بمعانيهما وهما
( مقامات الغريب بكل أرض ... كبنيان القصور على الثلوج ) ( يذوب الثلج تنهدم البنايا ... وقد عزم الغريب على الخروج )
فخلصتهما من مقامات الغريب بكل أرض وأوقدت فكرتي فذاب الثلج وانهدمت البنايا المستحقة للنقض وجعلتهما أسمى من السماء ونقلتهما من كثافة الأرض فقلت
( مليح ردفه والساق منه ... كبنيان القصور على الثلوج )
( خذوا من خده القاني نصيبا ... فقد عزم الغريب على الخروج )

قلت وقد سألني بعض حذاق الأدب عن بيت ابن مطروح الذي لم تصل أفواه البلغاء إلى لثم أعتابه ولا الحضور إلى جنابه ولا وجدوا طاقة للدخول من بابه فضمنته تضمينا لو سمعه ابن مطروح لطرح نفسه خاضعا وسلم إلي مفاتيح بيته طائعا وهو قوله
( لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل ) فقلت
( ولما خلعنا العذار ... فككنا طويق الخجل )
( لبسنا ثياب العناق ... مزررة بالقبل )
ومن تضامين الشيخ زين الدين بن الوردي ما ذكره في ديوانه أنه كان له صاحب يدعي بالمجد حصل له أذية مفرطة من زوجته وأبيها وجدها فكتب إليه الشيخ
( زوجة مجد الدين والداها ... في ثلب عرض المجد أشبهاها )
( إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها )
ومن تضميني الذي ما حام فكر من ضمن اعجاز الملحة عليه ولا سبقني جواد من فحول العربية إليه قولي مداعبا
( نصبت أيري إذ نحوت نيكه ... وهو يريد رفعها لي ابتدا )
( وبعد ذا للجر قد أضفته ... وفي المضاف ما يجر أبدا )
وأنشدني من لفظه الكريم قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر من هذا الباب بيتين كان مولانا قاضي القضاة علاء الدين يترنم بهما
( تيه فلان الدين مع فقره ... أقوى دليل أنه جاهل )
( لثوبه بالصقل من فوقه ... قعاقع ما تحتها طائل ) وقال أيضا في المجون
( وشاعر فاسق أتى امرأة ... من خلف إذ سامه المليح قلى )
( وقال إذا عاتبوه معتذرا ... تلجي الضرورات في الأمور إلى )

ومن تضاميني الغريبة
( حثثت عزمي شوقا إليكم ... فلم أطق مكثة بأرض )
( وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حظي ) وقولي
( يقول معذبي حسن تخير ... سواء فقلت قد عز اصطباري )
( وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري )
وأنشد المقر المرحومي محمد بن منهال ناصر الدين عين الموقعين بدمشق المحروسة بيتين لابن الوردي والأصل للحريري صاحب المقامات
( لوجنة صيادكم نسخة ... حريرية ملحة في الملح )
( يقول لنبت العذار اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح )
فنظمت في ذلك المجلس بيتين اعترفت لهما القصور العوالي بالقصر وما شك أحد أن أبا بكر مقدم على عمر
( غدا طير أفراحنا سانحا ... يحوم على ورد عذب القدح )
( فقلنا لدر الحباب اجتهد ... ومد الشباك وصد من سنح ) ومن تضاميني الغريبة ما ضمنته قول عنترة في معلقته
( وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم )
( وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي ) فقلت
( جاد النسيم على الربا ... بندى يديه وقال لي )
( أنا ما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي ) وبيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع ( إذا راه الأعادي قال قائلهم ... حتام نحن نساري النجم في الظلم ) الشيخ صفي الدين ضمن في بيته الشطر الأول من مطلع المتنبي وشطره الثاني وما سراه على خف ولا قدم

وبيت العميان
( واسمح بنفسك وابذل في زيارته ... كرائم المال من خيل ومن نعم ) والعميان ضمنوا الشطر الثاني من بيت الشريف الرضي وشطره الأول ماض من العيش لو يفدى بذلت له وبيت الشيخ عز الدين
( إيداعه الفضل في الأصحاب شرفهم ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم )
والشيخ عز الدين ضمن الشطر الثاني من بيت المتنبي من قصيدته التي ضمن فيها الشيخ صفي الدين الشطر الأول وهو قوله
( ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على المديح النبوي تابع لقولي وهو
( وآله البحر آل أن يقس بندى ... كفوفهم فافهموا تنكيت مدحهم )
( وفي الوغى رادفوا لسن القنا سكنا ... من العدا في محل النطق بالكلم )
( وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم )
وأنا أيضا ضمنت في بيتي شطرا ثانيا من ميمية المتنبي والشطر الأول ولا تشك إلى خلق فتشمته ووجه الاستحقاق هنا سافر لمستجلي محاسن هذا النوع والله أعلم

ذكر التوهيم
( والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم )
قلت هذا النوع أعني التوهيم وتقدمه باب الترشيح كان الأليق بهما أن ينتظما في سلك باب التورية ويذكر التوهيم مع ايهامها والترشيح مع المرشحة وقد تقرر كل من النوعين وتقدم في بابه والذي مشى عليه الشيخ صفي الدين هنا هو إيهام التورية وهوقوله
( حتى إذا صدروا والخيل صائمة ... من بعد ما صلت الأسياف في القمم )
فذكر صيام الخيل هنا يوهم السامع أن السيوف صلت من الصلاة ومراده الصليل وهو صوت الحديد وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى ( والنجم والشجر يسجدان ) بعد قوله ( الشمس والقمر بحسبان ) فإن ذكر الشمس والقمر هنا يوهم السامع أن المراد بالنجم أحد النجوم والمراد به النبت الذي لا ساق له
قال ابن أبي الأصبع وقد يأتي التوهيم للمطابقة كقول أبي تمام رحمه الله تعالى
( تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر )
فإنه أوهم بالمطابقة بين الأحمر والأخضر وليس يطابق إذ الأحمر لا يطابق

الأخضر وفرع منه ضربا آخر فقال هو أن يأتي المتكلم بكلمة توهم بما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها ومراده خلاف ذلك كقول أبي الطيب
( وإن الفئام التي حوله ... لتحسد أرجلها الأرؤس )
فإن الأرجل أوهمت السامع أن لفظة الفئام بالقاف ومراد الشاعر الفئام بالفاء وهي الجماعات الكثيرة هكذا روي هذا البيت والمبالغة تقتضيه فإن القيام بالقاف يصدق عليه أقل الجمع انتهى وبيت عز الدين الموصلي
( يا سائرا مفردا أعربت لحنك في ... توهيم منع رضاع الشاء من حلم )
قلت هذا البيت المبارك عجزت عن حل معناه إذ ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده ولا بمدح النبي ولم أزل في حيرة إلى أن وقفت على شرح المصنف فوجدته قد قال الحلم مشتق من الحلمة وهي رأس الثدي ويحصل في جلد الشاة دود فتقول العرب حلمت وحلم أديمها أي وجد الدود في جلدها ثم قال ومعنى البيت أني أخاطب سائرا في الطريق منفردا بنفسه عن الناس لايرغب في مرافقة أحد فقلت له وأنت تتوهم بترك اجتماعك بالناس معنى لا تظهره كما يوهم الراعي بمنع رضاع الشاء أن جلودها حلمت وحلم بين حلم الشاة وحلم الأديب قلت والله ما ازددت إلا حيرة في تفسير هذا الشرح والذي أقوله إن الشرح والنظم في العقادة وعدم الفائدة كفرسي رهان وبيت بديعيتي تقدم قبله وهو
( وأودعوا للثرى أجسامهم فشكت ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم ) وقلت بعده في التوهيم
( والبعض ماتوا من التوهيم واطرحوا ... والسمر قد قبلتهم عند موتهم )
فذكر الموت في البيت يوهم السامع أن نساءهم السمر قد أدارتهم إلى جهة القبلة كما هو المعهود والتوهيم هنا في التقبيل وفي السمر والمراد بالسمر الرماح وبالتقبيل الطعن في الأفواه التي تنزل هنا منزلة التقبيل واستعارة التقبيل للرماح في غاية الحسن فإنهم شبهوا سنان الرمح باللسان وشبهوا مواقع الطعن بالثغور ويعجبني هنا قول ابن المزين في الرمح

( أنا أسمر والراية البيضاء لي ... لا بالسيوف وسل من الشجعان )
( لم يحل بي عيش الغداة لأنني ... نوديت يوم الجمع بالمران )
( وإذا تفاخمت الكماة بجحفل ... كلمتهم فيه بكل لسان )

ذكر الألغاز
( وكل ما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم )
هذا النوع أعني الألغاز يسمى المحاجاة والتعمية وهي أعم أسمائه وهو أن يأتي المتكلم بعدة ألفاظ مشتركة من غير ذكر الموصوف ويأتي بعبارات يدل ظاهرها على غيره وباطنها عليه وأبدع ما فيه أنه لم يسفر في أفق الحلى غير وجه التورية وأما تعسف الفرقة التي ليس لها إلمام بالتورية في الألغاز فأمرهم مسلم إليهم وأما علماء هذا الفن فإنهم ما قرروا غير ما قررناه فمن ذلك قول أبي العلاء في ابرة
( سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثرا والله شاف من السم )
( كست قيصرا ثوب الجمال وتبعا ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم ) وقول ابن حراز في خيمة
( ومضروبة من غير ذنب أتت به ... إذا ما هدى الله الأنام أظلت )
قلت لغز أبي العلاء ولغز محيي الدين لم تسفر فيهما الوجوه الحسان إلا من وراء ستور التورية ومنه قول ابن حراز فيمن اسمه عثمان
( حروفه معدودة خمسة ... إذا مضى حرف تبقى ثمان ) ومن ألطف الألغاز في القلم
( وذي خضوع راكع ساجد ... ودمعه من جفنه جاري )
( مواظب الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري )

وقول ابن عبد الظاهر في شربه في كوز الوزير
( وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب )
( إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب )
ومن لطائف ما وقع في باب الألغاز أن شيخ الشيوخ بحماة كتب إلى والده ملغزا في باب بقوله
( ما واقف بالمخرج ... يذهب طورا ويجي )
( لست أخاف شره ... ما لم يكن بمرتج ) فكتب إليه والده في الكتاب
ذهاب ومجيء وخوف وشر هذا باب خصومة والسلام
وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر ملغزا في باب
( أي شيء تراه في الدور والكتب ... مجازا هذا وذاك محقق )
( هو زوج وتارة هو فرد ... وهو في أكثر الأحايين يطرق )
( وطليق في نشأتيه ولكن ... بحديد من بعد ذلك يوثق )
( وهو في القلب يستوي وتراه ... بان تصحيفه لمن يترمق )
( فأجبني عنه بقيت مطاعا ... لست في حلبة الفضائل تسبق ) وقال الشيخ برهان الدين القيراطي في باذهنج وأجاد
( أهواؤنا المختلفة ... قد أصبحت مؤتلفه )
( في شامخ بأنفه ... على العوالي أنفه )
( وذي جناح لم يطر ... وكل طير ألفه )
( جناحه طول المدا ... يبدي علينا رفرفه )
( في الريح ضاع قول من ... على هواه عنفه )
( عليله الصحيح كم ... شفى قلوبا دنفه )
( وروحه لطيفة ... وذاته منحرفه )

( عن قبلة الدين أرى ... حب الهوا قد صرفه )
( ولم تكن مع الهوا ... أعطافه منعطفه )
( هواه تحت طوعه ... كيف يشاء صرفه )
( ما زال غير شاكر ... ساكنه مذ ألفه )
( ولكما أسرف في ... بذل شكرنا سرفه )
( أنفاسه كم أودعت ... مجلسنا تلطفه )
( كم رنحت من غصن ... وقامة مهفهفه )
( معتله هو الصحيح ... عند من قد عرفه ) وقال محيي الدين ملغزا في قمري
( ما معمى ورأسه ... في عداد المطير )
( كم له من مترجم ... كم له من مسحر )
( كم خواف له بدت ... لالتماع المبصر )
( كله معجم وإن ... زال بعض اسمه قري ) وقال المقر المرحومي الأميني صاحب دواوين الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة ملغزا في فاختة
( وما طائرا يهوى الرياض تنزها ... ويسرح في أفنانها ويغرد )
( هجاء اسمه خمس حروف تعدها ... وخمساه حرف إن تأملت مفرد )
( وبعدهما تصحيف باقيه إن ترد ... بيانا له أفعى تبين وتشهد )
( وفيه أخ إن تهت عنه فأخته ... تدل على ما قد عنيت وترشد ) هذا اللغز ورد إلى الديار المصرية وحله بقية السلف الشيخ زين الدين بن العجمي وأجاب عنه بقوله
( أيا من له مجد أثيل وسودد ... غدا دون مرقاه سماك وفرقد )
( تفيد يسار المقترين يمينه ... ويسراه من يمنى الغمامة أجود )

ونقل الشيخ جمال الدين الدميري في كتابه حياة الحيوان لغزا في بجع
( ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب )
( منقاره في وسطه ... والعين منه في الذنب )
وكتب علامة العصر الشيخ بدر الدين الدماميني إلى المجدي فضل الله بن مكانس ملغزا في قدح فقال ما اسم حبيب إلى النفوس شبيه بالبدر حليف للشموس إن قلب كان لقلبه من العين مكان المناسبه أو سقط قلبه مع الفعل كان ضدا للأقوال الكاذبه وإن صحف بعد العكس أنبأ عن الذكاء وهذا غاية الشرح وإن غير ثانيا علم رب الكلام المحرر أنه دال على الطرح حاشيتاه مع التصحيف الة للصيد معينة على المكر والكيد وإن قطع طرفه كان صراح باقيه قواما وإن عكس على الطرف صار بتصحيفه مداما وإن زال أوله كان العكس عقابا بالمتعاطي إثمه أو صحف اشتاقت الشفاه إلى تقبيله ولثمه وربما كان الحد عند تصحيفه الاخر منافيا لاسمه مباينا في الحقيقة لحده ورسمه
فكتب الجناب المجدي الجواب وألغز في ورد بقوله يقبل الأرض التي أطالت بالجفاء حرمانه وتداركته بعد إجراء دموعه فعظمت في الحالين شانه وانتهى المملوك إلى اللغز الذي تمتع بملحه وشرب بقدحه فابتهل شكرا ومالت أعطافه بالقدح الفارغ سكرا فوجده كما قال مولانا حبيبا إلى النفوس مجتهدا في التوصل بما حازه إلى الرؤوس وكتب في الجواب لغزا وخالف نفسه إذ قالت لا ينبغي مجاراة هذا الجواد لزا وهو ما عاطل يتحلى به المجالس ويتفكه به في المجالس تحمر وجناته من الشرب وتحمد آثاره في البعد والقرب إن قلبته وجدته تاجا وإن تركته على حاله زادك ابتهاجا يعذب بالنار وغيره الجاني ويريك إن بدلت أوله برد الأماني يستخرج وهو داخل ويرى دمعه من نار قلبه هاطل لا تبرح به في غبطه ولا تجد فيه مع انهماله نقطه فإن حذفت أوله وحرفت باقيه وجدته أمرا بالشراب وإن فعلت كذا في ثانيه رأيت ما بقي مولدا للمحبة بين الأحباب وور إن حذفت آخره كمن وري وغص في بحر الفكر على عكس ثلثيه لتستخرج درا والمملوك يسأل الصفح فإنه لولا المحبة ما أجاب ولا طرق بعد فقد أبيه هذا الباب
فكتب إليه الشيخ بدر الدين الجواب يقبل الأرض وينهي ورود الجواب الذي شفى القلوب بوروده واللغز الذي نسي بوروده بان الحمى وطيب وروده فوجده روض

( سؤالك عن أنثى طروب ولم تزل ... على عودها في الروض تشدو وتنشد )
( وتجذبني بالطوق عند نشيدها ... لنحو التصابي لا أطيق أفند )
( ومذ بان منها الطرف أمست لعكسها ... تخاف الردى ممن لها يترصد )
( وإن حذفت ثاني الأخير فإنه ... على العكس خاف بل يلوح ويشهد )
( فأولها مع ما يليه وحرفها ... لنا فاه بالمعنى الذي فيه يقصد )
( وحرفان منها فرد حرف لناطق ... واف لمن بالعكس في ذاك يجحد )
( بقيت بقاء الدهر عزك باذخ ... وفي مفرق الجوزا لواؤك يعقد ) وقال ملغزا في درة
( أي شيء من الجمادات يلفى ... وتراه من بعد ذا حيوانا )
( وترى ذلك الجماد عزيزا ... غاليا منه رصعوا تيجانا )
( وترى الروح منه في حيوان ... ذي جناح ويألف الطيرانا )
( وإذا ما شدا على العود يوما ... فوق دف يحرك الأغصانا )
( أو بدا في مقفص فابن برد ... عند أسجاعه يصير مهانا )
( كله طائر وفي ثلثيه ... لك ذو أربع مع العكس بانا )
( كله عاطل به تتحلى ... كل خود وتستقل الجمانا )
( وتراه عند الملوك عظيما ... وبتصحيفه حقيرا مهانا )
( عكسه في تصحيفه زد بنقص ... فالمعمى هنا فكن يقظانا )
( وإذا لم تدر التصاحيف ذره ... للذي فيه فهو يدري البيانا )
( وبتحريفه تؤدب من شئت ... إذا كان يجهل العرفانا )
( ثلثاه در نفيس وفي فيه ... إذا جاء يصحب المرجانا )
( لكن الثلث عنده نصف وحش ... ذب عنا تصحيفه ما اعترانا )
( وهو في البر نافر وإذا ما ... حضروه قد يألف الإنسانا )
( فافترسه بالحل إن كنت ليثا ... فهو لغز عن فضله قد أبانا ) وعلى ذكر القمري والفاختة أوردت هنا ما ألغزته في القفص وهو قولي
( أي مغنى أعواده بيت شدو ... مرقص مطرب وبالقلب صفق )
( ولمجموعه النباتي حسن ... فزت من بعضه بسجع المطوق )

بلاغة عدم العائب والعاتب وترعرع زهره حيث أمطرته من الأنامل المجدية خمس سحائب فلو شاهده ابن الوردي لاحمر خجلا أو صاحب زهر الأدب لتلون وجلا ثم تأمل حل اللغز فوجده قد كشف المشكل وجلى واعترف أنه لم يمر بذوقه أطيب من ذلك الحل ولا أحلى وتحقق أن مولانا أوسع المملوك في مقام الأدب بفضله إيناسا وتناول منه قدحا أعاده بألفاظه المسكرة كاسا وانتهى المملوك إلى اللغز المخدومي فقال
( مولاي مجد الله يا من فضله ... يروي وجود كفوفه يروي الصدى )
( ألغزت في اسم عاطل حليته ... فينا بدر اللفظ أو قطر الندى )
( إن أورد التحريف في أثنائه ... قد كان للشاني هلاكا أو ردى ) وقال مجيبا له أيضا عن الورد
( لله لغزك يا مولى فضائله ... قد عطر الكون منها طيب أنفاس ) ( أتى بورد فحياني على قدحي ... به وأبهجني ما بين جلاسي )
( وقد أسا جرح كسرى حين أقبل لي ... روحي الفداء لذكر الورد والآس )
فاستحلى المملوك بالتحريف ورده وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده ورده إلى ذل القصور عاريا عن ملابس عزه وأنشد قول ابن قلاقس وقد تقلى بنار عجزه
( إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم )
فراح على بهرج هذا الرأي الكاسد واقتنع بالشميم على رغم أنف الحاسد وعلم أن تلك الورود لا تخرج إلا من تلك الخضره وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها باليد المخدومية بهجة ونضره وتمشى المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحقيقه ورأى كل ورقة فاحمرت الوجنات الحمر فتحير أهي وردة أم شقيقه وتفكه به معجبا بثمار غرسه منشدا لمن كرر النظر في صحيفتي طرسه
( إن كنت تزعم ما في خده عجبا ... فانظر إلى الورد في خديه منثورا ) فلقد ظفرت من نفسه الوردي بالعنبر الورد وعوذته عند تبديل الثلاثة بالواحد

الفرد وتأملت بقصور راحتي نكتة برد الأماني فانعقد لسحر البيان لساني وتيقنت أنه لايقوى على فهم هذا البرد إلا كل حديد النظر ووجدت تصحيف هذه الكلمة يا شمس الفضائل للعقول قمر وعلمت أن الفكر لا يجاري من بديهته من بحر الفضائل رويه وأن الخاطر لا يقوى على سلطان هذا اللغز لأن شوكته قوية وقلت للذهن رد بعضه لتنتهل شرابا سائغا وزد تصحيفه ليكون في التعريف بمعناه مبالغا وتمتعت من ورده بالمشموم ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم فاستقطر البين ماء الورد من حدقي ولمولانا الصفح عن مقابلة هذا الدر بالسقط وتمر هجر بهذا الحشف الملتقط
قلت وعلى ذكر القدح والورد حسن أن نورد هنا لغزا في المدام وقفت عليه للشيخ صلاح الدين الصفدي بخطه
( وما شيء حشاه فيه داء ... وأوله وآخره سواء )
( إذا ما زال آخره فجمع ... يكون الحد فيه والمضاء )
( وإن أهملت أوله ففعل ... له بالرفع والنصب اعتناء ) قلت لا بد للمدام من ماء من حيث الممازجة
ووقفت بالديار المصرية على لغز للشيخ زين الدين بن العجمي ألغزه في الماء فأعجبني وهو قوله سألتك أعزك الله عن سائل لا حظ له في الصدقة ولم يكن متصل النسب بالأشراف وتراه كثير الرجفان من غير أن يخاف كم رد سائله نهرا وعفر وجه قائده في التراب قسرا مذكر كثير الحيض لطيف الانبساط سريع الفيض مطلق التصرف وعليه الحجر وطال ما قبل العشاء أبدى لنا الفجر يتشعب ويتكسر ويتعوج ويتدور وتبدو له خمسون عينا وأكثر يحمل القناطير المقنطرة ويعجز عن حمل إبره سريع الاستحالة قل أن يثبت على حاله بعيد الغوص ليس له قرار ويعاجل صفاء وراده بالاكدار ويسكن في تخوم الغبرا وينم على أحوال السماء نثرا بعيد الغوص رقيق القلب على كل عديم وكيف لا وهو المولى الحميم يجود بأفخر الحلى ولا يرد

من نداه مؤملا كم عمر سبيلا وقطع طريقا وأخاف سبيلا وكم طغى واحترق وأظهر الجفاء وهو كثير الملق صقيل يجلو الصدا ويظهر على شدة البرد تجلدا قد جمع فيه الخوف والرجا والكدر والصفا فسبحان من جمع فيه هذه الأضداد وأرسله رحمة للعباد
ويعجبني فيه قول أبي الفضل بن الخازن
( وخل صفاء زرته بعد هجعة ... فألفيت شخصي في حشاه مصورا )
( وأودعته سري فأفشاه للورى ... فيا حسن ما أفشى الغداة وأظهرا )
( أبو حليف للثريا وأمه ... به حامل في بطن منخفض الثرى )
( سطيح له جسم بغير جوارح ... يباري الرياح الذريات إذا جرى )
( تزر عليه الريح ثوبا موردا ... وتكسوه شهب الليل ثوبا مدثرا )
قلت وعلى ذكر الماء يحسن أن نورد هنا لغزا في القربة كتب الشيخ بدر الدين الدماميني إلى المقر الأميني أمين الدين الحمصي كاتم السر بدمشق صاحب ديوان الإنشاء بالشام لغزا في قربة تزاحم سرب الأدب على الشرب منها ولو عاش صريع الدلاء ود أن يكون راوية عنها وهو قوله
( أكاتب سر الملك والفاضل الذي ... ثناه على الأفكار فرض مرتب )
( يحدث عن سهل رواة كلامه ... إذا ما أتاه اللغز يرويه مصعب )
( فديتك ما ذات أطالعكم بها ... ويبحث في الأسفار عنها وتطلب )
( تشدوكم في الأرض قار أمالها ... وصدق إذا ما قيل تملى وتكتب )
( وما هي في التحقيق راوية وكم ... لها خبر في الذوق يحلو ويعذب )
( مليحة شكل يألف الحب صبها ... زمانا وفي وقت لها يتجنب )
( وتبلغ منها للحياض حقيقة ... ولكن رأينا قلبها وهو طيب )
( يزيد مريدوها إذا ما تصوفت ... ويشكرها أهل الزوايا ويطنبوا )

( لها أربع لكن بساق رأيتها ... على السعي في الأحياء بالنفع تدأب )
( وما نال إثما في تعاطيه بعدما ... رأيناه من تلك العتيقة يشرب )
( وشم فمها المفتوح كم راح سائلا ... وما نطقت حرفا عن القصد يعرب )
( وترضع أحيانا وما حان رضعها ... وكم من فتى في حملها راح يرغب )
( وتحمل ما فيه الحياة لربها ... فيا حبذا منها البسيط المركب )
( وترسله فاعجب له من مسلسل ... غدا مرسلا عنه الرواية تعجب )
( وكم من خليع شمته إذ تعتقت ... يمد إليها الراح لهوا ويطرب )
( وكم قد تعبدنا بتحريف لفظها ... ولم أر بالتحريف من يتقرب )
( وتصحيفها يا جبهة الدهر بلدة ... حواها من الأقطار شرق ومغرب )
( وتوجد في الأفلاك عالية لها ... ويألفها بعض الجواري ويصحب )
( ويا من لرق الفضل أصبح مالكا ... فما لي إلا نحو علياه مذهب )
( تلفت للغز نحو بابك قد أتى ... وكل غدا من ظرفه يتعجب ) وقال بعضهم ملغزا في قربة السباحة
( وذات فم طورا تسبح ربها ... ولم تكتسب أجرا بتسبيحها قط )
( معانقة الصبيان مضمرة الهوى ... كأن بقايا قوم لوط لها رهط )
قلت أما لغز الشيخ بدر الدين في القربة فنسيج وحده وما ذاك إلا أنه لم يحتج فيه إلى عقادة من تمذهب بغير مذهبنا ولم يسبكه في غير قوالب التورية وقد أذكرني لغزا ألغزته في قصب السكر بطرابلس المحروسة وقد أنشدني بعض المخاديم وهو المقر المرحومي الشهابي الدنيسري لغزا في قصب السكر أيضا وهو
( وحاملة درا حكى الخمر لذة ... ونشرا يروي شربه ويقوت )
( تعيش إذا لم يبد منها فإن بدا ... فمهجتها في اثر ذاك تفوت )
( فلم تر عيني مرضعا في مثالها ... من الخلق تسقي درها وتموت )
وقال بعد الإنشاد ولا أعلم في هذا الباب مثل هذا اللغز لأنه سالم من التعقيد

والتصحيف والتحريف والعكس والحذف والابدال فنظمت هذا اللغز في يوم الإنشاد وهو
( وعسالة تبدو بغير أسنة ... ولا طعن فيها وهي داخلة الصدر )
( ممشقة هيفاء حلو مذاقها ... به يطرح المران في المهمه القفر )
( منعمة لفاء مهضومة الحشا ... تكاد بأن تنقد من رقة الخصر )
( وتحلو على البيض الرشاق شمائلا ... إذا ما تثنت في غلائلها الخضر )
( يلذ قبيل العصر في الظهر رشفها ... وبرد لماها من أليم الجوى يبري )
( وإن سقيت ماء سقتك سلافة ... بطيب مزاج وهي طيبة النشر )
( وينبت حلو الثغر حلو نباتها ... فيرشف أرياقا ألذ من الخمر )
( وإن لمعت في ثغرها وتبلجت ... دع ابن جلا يقرع ثناياه في الثغر )
( على عودها كم للرباب مواقع ... وموصولها يغني عن الناي والزمر )
( وإن قطعوا موصولها شببت به ... أولو الذوق تشبيبا شفى غلة الصدر )
( وترفع بعد النصب والكسر جرها ... فتجزم ما للفارسي من الذكر )
( وهمزاتها همزات وصل وقطعها ... إذا ما أميلت جائز لك يا مقري )
( وفي أول الأعراف تروي من الظما ... وتضرم نيران الجوى وهي في العصر )
( ومن حلها إن أفرغت في قوالب ... يقول الورى هذا هو السكر المصري )
( ومن أجل ذا عنها ابن سكرة روى ... وأما النباتي قال من ههنا قطري )
( كذا ابن الجلاوي قلبه معها يرى ... كسيرا وكم قد أوردته لظى الجمر )
( فيا من حلا ذوقا وحل بدائعي ... وفي عقد الألغاز يا نافث السحر )
( تأملت بعد الحل كيف تنوعت ... حلاوتها حتى رقت منبر الشكر )
( بنية فكر من حماة تغربت ... وغربتها والله قد أشغلت فكري )

( ومن شط ذاك النهر يا بحر قد أتت ... فلا تنهروها فهي في جيرة البحر )
( سعت من أبي بكر لأحمد خدمة ... وأحمد من أولى الورى بأبي بكر )
( فلا زلت في حل وظعن مؤملا ... لكل غريب جاء حتى من الشعر )
قلت وبعد قصب السكر يحلو أن نورد هنا شيئا مما ألغزوه في العسل فمن ذلك ما كتب به الشيخ شرف الدين عيسى العالية إلى سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة بدر الدين بن الدماميني وهو
( يا أيها المولى الرئيس ومن له ... ألفت مدحا كالجواهر نظمه )
( اسمع سمعت الخير أمرا محكما ... يمضي على الألغاز جمعا حكمه )
( قالوا من الأطيار حقا أصله ... أكرم به لغزا يروقك طعمه )
( لكنه ما حاز منقارا ولا ... ريشا وأجنحة ولست أذمه )
( من أين يعرف ما اسم شيء ربما ... أكلته في بعض المجاعة أمه ) فأجابه الشيخ بدر الدين بقوله
( يا فاضلا نثر المحاسن نظمه ... وللغزه قد ذل عجزا خصمه )
( وتطرزت حلل البديع بمنطق ... منه علا بين الأفاضل رسمه )
( شرف لأعراض البدائع سابق ... ومن الفضائل قد توفر قسمه )
( ألغزت في اسم عاطل حليته ... بنفيس در صح فينا يتمه )
( فإذا أضفت القلب منه لأصله ... قلنا بهذا الفعل قد وضح اسمه )
( وإذا عكست الأصل منه فهو إن ... أعربت لحن ليس يجهل حكمه )
( قد كانت الأذهان منه خلية ... فحوت به شهدا لذيذا طعمه )
( ورأى ابن سكرة حلاوة طعمه ... فقضى بتقطير المرارة وهمه )
( ورأى بعين لغزك الحلو الجنى ... حلو المذاق فحار فيه فهمه )
( وأعاذه بعلى أمير النحل إذ ... أضحى عليا في الفصاحة نظمه )
( فاصفح بفضلك عن جواب سافل ... يا طالعا في خير أفق نجمه )
قلت وعلى ذكر العسل يحلو أيضا أن نورد هنا ما ألغزه مولانا المقر المرحومي القاضي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي في سكر نبات وكتب به إلي وهو

( يا قاضي الأدب احكم لي فذا أدبي ... حلا مذاقا ووقع لي بتحسين )
( واقبل شهادة ما أهديته تر من ... تصحيف معكوسه ثان يزكيني ) ورسم لي بحل اللغز والجواب فألغزت مع الحل لغزا زائد الحلاوة في قطر وهو
( أهديت لغزا حلا ذوقا مكرره ... فانحل مذ حل في قلبي بتمكين )
( وفزت منه بشكر في مصحفه ... وجاء منه بثان قلت يكفيني )
( تصحيف معكوسه من غير تزكية ... وحكمه ثابت عندي بتبيين )
( حماة منبته لكن بمصر له ... مزية تزدري نبت الرياحين )
( فحل منه لنا لغزا مجانسه ... يحل أحشاء أرضينا فيرضيني )
( يرادف اسم رباب فهو يطربني ... هذا وتصحيفه في العيد يأتيني )
( حلو رقيق بلا حشو لذائقه ... لأن قطر النباتي عنه ينسيني )
( فلا برحت برغم الكسر تجبرني ... وكلما مر لي عيش تحليني )
قلت وعلى ذكر القطر يحلو أن نورد هنا شيئا من بديع ما ألغزوه في الكنافة والقطائف فمن ذلك ما ألغزه الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي في النوعين وهو قوله
( هذان لغزان قد حلا ببابك يا ... قاضي البرية ما هذان خصمان )
( اسمان كل خماسي إذا كتبت ... حروفه فهما لا شك حرفان )
( تباينا في الورى شكلا إذا نظرا ... وصورة وهما في الأصل مثلان )
( هما إلى الصين منسوب مقرهما ... أن أحضرا في مكان بين أخوان )
( لذا كنى وهو بين الناس ليس له ... من كنية ما انتحى في ذلك اثنان )
( في البر يلقى وإن فتشت عنه تجد ... في لجة البحر ملقى خمسة الثاني )
( نبت أرى النار قد أبدت له ورقا ... فاعجب له ورقا ينمو بنيران )
( يحيا إذا ما سقاه القطر وابله ... وجاده بسحاب منه هتان )
( ذو رقة فإذا صحفته ظهرت ... كثافة منه فاستره بكتمان )
( وهذا وكم من بدور فيه قد طلعت ... في آخر الشهر لم تمحق بنقصان )
( فقدها خيط فجر أبيض عجل ... بالبرق يسطو عليها سطوة الجاني )

( واللغز الآخر في اسم ذات ألسنة ... لم يبد منها لنا بالنطق حرفان )
( يا حسنها ألسنا أضحت حلاوتها ... يحلو المديح لها من كل ملسان )
( بالطي والنشر في حال قد اتصفت ... والطي والنشر فيما قيل ضدان )
( كم سكرت ففتحنا بالدخول بها ... أبوابها فتلقتنا بإحسان )
( حسناء أجمع أهل العقد كلهم ... والحل منها عليها بعد عرفان )
( وصالها حل بالإجماع في زمن ... فيه الوصال حرام عند أعيان )
( ثلثا ثلاثة أخماس لها وجدا ... شيئا يجيء بإيضاح وتبيان )
( وما ذكرت من الأخماس قد نطقت ... صدقا بذكر اسمها من غير بهتان )
( وخمسها جبل لكن بقيتها ... في مكة يرتجى فوزا بغفران )
( ما مل راو من القالي أماليه ... عنها وما خاطر القالي لها شاني )
( في الجوف منها قلوب جمة جمعت ... ولا يكون بجوف الشخص قلبان )
( كم ظل يطرحها من ليس ذا شرف ... جهرا ويوصف مع هذا بإتقان )
( بالحل أنعم سقى القطر المواطىء من ... إقدام سعيك من إرواء ظمآن )
وكتب مولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الادمي الحنفي رحمه الله إلى علامة العصر سيدنا ومولانا الشيخ بدر الدين بن الدماميني رحمه الله ملغزا في لوزينج وأجاد إلى الغاية وهو
( يا من له في علوم النظم أي يد ... فاق الخليل بها فضلا وتمكينا )
( ما اسم دوائره في نظمها ائتلفت ... والثلم في صدرها مستعمل حينا )
( أجزاؤه من زحاف الحشو قد سلمت ... هذا ويقطع مطويا ومخبونا )
( تصحيف معكوسه لفظ يرادفه ... يا فرد يا رحلة قوم مقيمونا )
( والعيد منتظر من حله فرجا ... لا زال سعدك بالإقبال مقرونا ) فحله المشار إليه رحمه الله وأجاد إلى الغاية والجواب
( يا مرسلا من شهي النظم لي كلما ... منها ابن سكرة قد راح مغبونا )
( لله درك صدرا من حلاوته ... وجوهر النظم لم يبرح يحلينا )

( حليت لغزك إذ أبهمته فلذا ... يا فاتني رحت بالإعجاب مفتونا )
( هذا وكم قد رأينا في دوائره ... للكف قبضا يزيد العقل تمكينا )
( وليس إضماره مستحسنا فأين ... بالكشف عنه لمن وافاك تحسينا )
( وكن لنا هاديا صوب الصواب ودم ... فينا أمينا رشيد العقل مأمونا )
والله تعالى يمن على أفواه شاكريه بما هو أشهى من اللوزينج وأحلى ويحلي أعناق المتأدبين من كلمه بما هو أنفس من الدر وأغلى
وكتب الشيخ بدر الدين المشار إليه أيضا لغزا في دواة وجهزه إلى المقر المرحومي الأميني المقدم ذكره وهو هذا
( كتبت وأعذاري إليك تقرر ... ونظمي بها يا كاتب السر يجهر )
( أتتك بأبيات المعاني فرضتها ... وحكت حبير اللفظ وهو محرر )
( وحليت أهل العصر إذ كنت خاتما ... لهم فعليك الان يعقد خنصر )
( وما أنت إلا البحر جاش عبابه ... ولكن رأينا منك علما يجسر )
( فما كلمة أفديك دام اعتلالها ... وفيها دواء إن عراها تغير )
( ويحفظها ذو السر وهي التي وشت ... وذلك من عاداتها ليس يترك )
( وما مسها إلا وجادت بنفسها ... وصحف ترى المقصود بالنفس يظهر )
( وتحمل سمر الخط رايات ملكها ... على الرأس عباسية حين تخطر )
( كحيلة طرف تعشق العين شكلها ... ويحسن مراها إذا ما تحبر )
( مؤنثة كم ذكرتنا بلونها ... عهود الصبا والشيء بالشيء يذكر )
( وكم قد أرانا ريقها من مسلسل ... يلذ به في الذوق ورد ومصدر )
( وكم لاقت الأحبار منها محاسنا ... فعادت لها الجهال بالعي تحصر )
( مسودة إن ترض فالعيش أخضر ... وإن غضبت فالموت لا شك أحمر )
( ويعذب للسمر الرقاق رضابها ... فتنهل منها موردا لا يكدر )
( لقد أحكمت والنسخ ما زال دأبها ... بذلك قد جاء الكتاب المسطر )
( وما هي إلا ذات متربة غدت ... وكم ذي غنى عن قصدها ليس يفتر )

( ولسنا نراها غير سائلة ولم ... تفه بسؤال فاعترانا التحير )
( فانعم بحل اللغز يا خير منعم ... فأنت به والله أجدى وأجدر )
( فلا زالت الأقلام تسعى لشكركم ... على رأسها طول المدى لا تقصر ) فكتب المقر المرحومي الأميني الجواب بعد أيام وهو قوله
( مواقع أقلام لها الفضل ينشر ... وروضة اداب بها القلب يجبر )
( تحرر معنى حسنه نسيج وحده ... فيا حبذا الاسكندري المحرر )
( تشق على الأفهام شقة شأوها ... فكم من بليغ عن مداها يقصر )
( أتت سهلة الألفاظ ممنوعة الذرا ... حماها من العلياء لا يتسور )
( تشير إلى الحبلى التي عز وضعها ... فأحشاؤها فيها الأجنة تقبر )
( ينامون لا تغشاهم سنة الكرى ... فإن هب فرد ظل يسعى ويحضر )
( وإن أرشفته من زلال رضابها ... تهادى بها نشوان يمشي ويعثر )
( وأما إذا اعتموا السواد فكلهم ... خطيب له فوق الأنامل منبر )
( وينطق عن علم وطول نباهة ... وعما رآه في المنام يعبر )
( تطاول سمر الخط أنى تشامخت ... سموا ومع هذا على الطول تقصر )
( وكل بني الآداب تلفى بيوتهم ... تقام بها بين الأنام وتعمر )
( فأكرم بما قد ولدته وأنشأت ... وربت ويكفيها بذلك مفخر )
( نجية وجهي إن جلست ووجهها ... تجاهي وجاهي عندها ليس يحقر )
( وقد فتحت فاها فقالت وقصرت ... وأنى استقالت فهي في ذاك تعذر )
( فلا زلتم أهل الجمال وخيركم ... لدى النقص مثلي فهو حظ موفر )
( بمدحكم الأقلام يضحك سنها ... بحق وأفواه الدواة تقطر ) ويعجبني من الألغاز في التورية قول شهاب الدين الغزاوي في قوس وهو
( ما عجوز كبيرة بلغت سنا ... طويلا وتتقيها الرجال )
( ولها في البنين سهم وقسم ... وبنوها كبار قدر نبال ) ومن غريب ما أعجبني في هذا الباب قول القائل في كمون وهو

( يا أيها العطار اعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومك )
( تنظره بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومك ) ومثله قول شمس الدين الهيتي في ورق وهو
( وشيء بلا جرم يصلب تارة ... ويقطع حينا في حضور وأسفار )
( ومن قدم قد بيض الله وجهه ... على أنه ما انفك يوما عن القار ) ومن لطائف الشيخ شمس الدين بن الصاحب في هذا الباب قوله في سهم
( لله مملوك إذا ... ما قام في الشغل اعترض )
( لكنه في لحظة ... محصل لك الغرض ) وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله ملغزا في قلم
( مولاي ما اسم لنا حل دنف ... وما به علة ولا سقم )
( لسان قوم فإن حذفت وإن ... صحفت بعض الحروف فهو فم ) وقال ملغزا في علي
( أمولاي ما اسم جلي إذا ... تعوض عن حرفه الأول )
( لك الوصف من شخصه سالما ... وإن قلعت عينه فهو لي ) ويعجبني في هذا الباب قول ابن المرجاني ملغزا في مشط وهو
( يا إماما سألته حل لغز ... شط منه مزار أهل الذكاء )
( أهمل الثلث باعتناء وقلب ... تره جاء قائد الشعراء ) ويعجبني قول الشيخ صلاح الدين ملغزا في قريشة
( أي شيء يروق للناس أكلا ... ذو بياض وأصله من حشيشه )
( خمسه أثقل الجمادات وزنا ... فتعجب له وباقيه ريشه )

ويعجبني لغز ابن منقذ في الضرس وهو
( وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يسعى لنفعي ويسعى سعي مجتهد )
( لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه تفارقنا إلى الأبد )
ومن الغايات التي لم تدرك في هذا الباب قول القاضي صدر الدين بن الادمي رحمه الله ملغزا في كشتوان
( ما رفيق وصاحب لك تلقاه ... معينا على بلوغ المرام )
( هو للعين واضح وجلي ... وتراه في غاية الإبهام ) واستظرف قول بعض مواليا ملغزا في بدرة
( محبوبتي وجهها يغني عن المقباس ... واسمها ينقذ العاشق من الإفلاس )
( إن تعكسوا تجدوا ضدين في الأجناس ... هذا نفور وهذا يقبل الإيناس )
وسألني جماعة من فضلاء أهل الأدب بالديار المصرية أن أنظم لهم لغزا في كرمة وأطلق لهم عنان القلم في ذلك فقلت
( أخبروني عن فاضل بأصول ... وفروع يسمو على كل فاضل )
( أسبغ الله ظله فهو ظل ... سابغ وافر مديد وكامل )
( وأبو محجن يقول ادفنوني ... تحته إن أتاني الموت عاجل )
( كم إلينا قد مد كفا نديا ... فصير العيش أخضرا في المنازل )
( نقط الطل فوقه وضحته ... عند توقيعها به وهو عاطل )
( ما تبدى لنا بعين ولكن ... حرفته وصحفته الأفاضل )
( فرأينا للترك فيه اسم عين ... بفتور الأجفان جاءت تغازل )
( إن تذكره أحرف الكل تبدي ... كرما والندى من الكف هاطل )
( أو تؤنثه يقبل الهاء في الحال ... ومن بعد ذا يرى وهو حامل )
( ويقل شطره لمن عابه مه ... لك هم بالعكس عندي حاصل )
( هو حلو وفيه مرك يبدو ... عند تحريف عكسه المتماثل )

( وبلا أول يرى فعل أمر ... واقلب الفعل منه فالأمر حاصل )
( وهو خشب مسندات ولكن ... حاز نجلا يبدو رقيق الغلائل )
( ومن العز جسمه الغض يدمى ... وتراه من بعد ذا وهو ذابل )
( وإذا ما فرطت فيه تراه ... لم يحل عنك وهو نعم الخصائل )
( ذو بياض وحمرة ولدا لي ... فرحا راح ساريا في المفاصل )
( فتراه يوما عقود بلخش ... نظمت سلكها بغير أنامل )
( وتراه يبدو عقود جمان ... ما لها غير ثغر حبي مماثل )
( وتراه طورا سلافة راح ... ولدر الحباب فيها حواصل )
( وعلى عوده يغني علينا ... أعجمي به تهيج البلابل )
( لك منه فواكه وشراب ... كل غض إليك تلقاه واصل )
( وحلاواته بها كل قلب ... كسروه والكسر للقلب حامل )
( وترى وصله بمصر قليلا ... وهو بالشام لا يزال يواصل )
( وتراه بذات عرق مقيما ... في نعيم وظله غير زائل )
( وإذا قلت في المخيم بالغور ... رأيناك فيه أصدق قائل )
( ولقد جاءنا بعتب لطيف ... عند تصحيفه لمن هو هازل ) ( كيف لا والكتاب عن جنتيه ... قد أتى مخبرا بكل الفصائل )
( فتفكه من حله بقطوف ... دانيات لكل آت وراحل )
( وأقم تحت ظله فهو لغز ... ظله ظاهر على كل قائل )
( ثم دم للألغاز في الحل والعقد ... غني إذا أتى اللغز سائل )
قلت ومما ألحقوه بالألغاز ما حكي عن بعض ولاة الطوف ببغداد جاؤوا إليه بغلامين غلب عليهما السكر فقال لأحدهما من أبوك فقال
( أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود )
( ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود )

فأطلقه وعظم في عينه وقال هذا أبوه من بيت كبير وقال للآخر من أبوك فقال
( أنا ابن من دانت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها )
( تأتيه بالرغم وهي صاغرة ... يأخذ من مالها ومن دمها )
فقال الوالي ما أشك أن هذا أبوه كان ملكا شجاعا فأمر بإطلاقهما فلما انصرفا كان في المجلس رجل نبيه فقال للوالي الشاب الأول كان أبوه فوالا والثاني كان أبوه حجاما فأعجب الوالي منه ذلك فقال
( كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك مضمونه عن النسب )
( إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي ) وبيت الشيخ صفي الدين على الألغاز في بديعيته
( حران ينقع حر الكر غلته ... حتى إذا ضمه برد المقيل ظمي )
الشيبخ صفي الدين ألغز هنا في السيف فإنه يروى في حر الكر بالدماء وإذا أدخل القراب الذي كنى به عن برد المقيل كان ظامئا
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( إن المنافق لغز قلبه زغل ... وهو المعمى كمثل الأرزة الرزم )
قلت الشيخ عز الدين غفر الله له لم يأت في بيته بغير الجناس المقلوب في لغز وزغل وأما التعمية بالأرزة الرزم فما علمت ما المراد منهما حتى نظرت في شرحه فوجدته قد قال الرزم القائم والأرزة شجرة الصنوبر فما ازددت في التعمية غير تعمية وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( وكلما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم )

قد تقدم وتقرر أن أحسن التعمية في اللغز ما أسفر بعد الحل عن تورية بديعة في بابها وهذا البيت أيضا بديع في هذا الباب فإن اللغز في الرمح والتورية في لسن لأن لسان الرمح لسان القائل في التورية للتكليم وفي التعقيد المشترك بين تعقيد اللغز وتعقيد الرمح وأما المناسبة بين الحل والتعقيد والإزراء بالفهم بعد ذكر الألغاز فمحاسنها لا تخفى على حذاق الأدب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب

ذكر سلامة الاختراع
( وقده باختراع سالم الف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي )
هذا النوع أعني سلامة الاختراع هو أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق إليه كقول عنترة في وصف الذباب
( وخلا الذباب بها فليس بنازح ... غردا كفعل الشارب المترنم )
( هزجا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم )
هذا المعنى إذا تأمله المتأدب وتخيله في فكره يجده غريبا في بابه فإنه قال إن هذا الذباب لما خلا بهذه الروضة التي أعاد الضمير إليها في قوله بها صار هزجا مترنما يحك ذراعه بذراعه من الطرب الذي اعتراه فشبهه عنترة برجل أجذم قاعد يقدح زنادا بذراعيه والأجذم المقطوع اليد والتقدير في البيت قدح الأجذم المكب على الزناد انتهى
ومنه قول ابن الرقاع في تشبيه قرن الخشف
( يزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها )
( وعدوا قول ابن الرومي من المخترعات التي لم يسبق إليها فإنه قال في تشبيه الرقاقة حين يبسطها الخباز

( لم أنس بالأمس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر )
( ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر )
( إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر ) وأجمعوا على أن قول أبي الطيب من الاختراعات التي لم يسبق إليها وهو قوله
( حلفت وفيا إن رددت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا )
قلت أما أبو الطيب فإنه شن الغارات على معاني المتقدمين كثيرا وما خفي ما أورده عليه الحاتمي في الحاتمية وكان قد عن لي أن أورد في هذا الشرح المبارك له ولمن تقدمه ولمن تأخر عنه جملة مستكثرة مما وقع لهم من معانيهم من سلامة الاختراع بالنسبة إلى اطلاعي وخفت أن يقع اختياري على معنى أعده لصاحبه من سلامة الاختراع فيأتي من تبحر في اطلاعه على معنى له لغيره ممن تقدمه فأضربت عن ذلك وجنحت إلى ذكر ما وقع لي في نظمي من سلامة الاختراع التي لم أسبق إليها ولا حام طائر فكر غيري عليها فمن ذلك قولي من قصيدة رائية
( وحمرة الخد أبدت خيط عارضه ... فخلت كأس مدام وهو مشعور )
( ومذ بدت نسمات الثغر باردة ... بدا بإغضاء ذاك الجفن تكسير ) وقلت منها في وصف القلم
( له يراع سعيد في تقلبه ... إن خط خطا أطاعته المقادير ) ومنها
( وأشقر يده البيضاء غرته ... له إلى الرزق فوق الطرس تيسير )
( بل أسمر عينه السوداء يلحظها ... وهدب أجفانها تلك المشاعير )

ومثله قولي من القصيدة
( كذا محابره سود العيون فإن ... دنت أياديه فهي الأعين الحور ) ومنه قولي من قصيدة ميمية
( حين قابلت خده بدموعي ... أثرت خلت ثوب خز منمنم ) ومنه قولي في وصف حماة من قصيدة طائية
( ينظم بالشطين در ثمارها ... عقودا لها العاصي رأيناه كالسمط )
( وقد مد ذاك النهر ساقا مدملجا ... وراح بنقش النبت يمشى على بسط )
( لوينا خلاخيل النواعير فالتوت ... وأبدت لنا دورا على ساقة الشط ) وقلت من قصيدة أخرى
( وعاص رحيب الصدر قد خر طائعا ... ودولا به كالقلب يخفق في الصدر ) وقلت من قصيدة أخرى
( وهززت فيه كل عود أراكة ... أضحى بهاتيك الثغور مطيبا ) والمعنى المخترع قولي بعده
( ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنبا ) ومن اختراعاتي التي لم أسبق إليها وسارت الركبان بها قولي في المدائح المؤيدية
( فرج على الملجون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر )
( فانبت منه زحافه في وقعة ... يا من بأحوال الوقائع شاعر )
( وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر ) والمعنى المخترع فيها قولي
( وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر )

ومنها في سلامة الاختراع قولي
( وإذا مددت يراع رمحك ماله ... إلا قلوب الدارعين محابر )
( ونعال خيلك كالعيون ومالها ... إلا جماجم من قتلت محاجر ) ومنه قولي متغزلا في مليح مشطوب
( بالصدع أبدى شطبة ... من شكله محوط )
( سألته عن أمرها ... فقال زاد اللغط )
( قلتم بدا لي عارض ... مشكل منقط )
( جئت شطبت فوقه ... وقلت هذا غلط ) ولي من قصيدة بديعة مشتملة على وصف متنزهات حماة المحروسة
( والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين ) والمعنى المخترع قولي بعده
( والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين ) وقلت في مطلع قصيدة
( ألف القد مدها لي بعزه ... وعليها من عطفة الصدغ همزه ) وقلت من قصيدة فائية
( وعارضه في الوضع لام وصدغه ... إذا مدها من فوقه تتكوف )
ولعمري إن الشرح قد طال ولولا خشية الإطالة لذكرت من هذا الباب قدرا وافيا بالنسبة إلى ما أدى إليه اجتهادي وقلت إني مخترعه وبشهادة الله إني ما تطفلت بالنسبة إلى علمي على معنى لغيري اللهم إلا أن تكون أحكام المواردة قد حكمت علي فالحكم لله العلي الكبير

وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على سلامة الاختراع قوله
كادت حوافرها تدمي جحافلها ... حتى تشابهت الأحجال بالرثم )
( جحفلة الفرس شفته العليا والرثم بياض شفتيه وكأنه يقول إن هذه الفرس لسرعة جريانها اتصلت أحجالها إلى شفتها فتشابها في البياض
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله في بديعيته قوله
( سلامة لاختراعي في علا هممي ... اسمي وفعلي كحرف عند رسمهم )
وقال في الشرح إسمي علا وفعلي علا والحرف المشبه بهما على هذا المعنى على الذي هو معدود من حروف الجر قلت لو ألحق الشيخ عز الدين ما قاله هنا بالألغاز لكان أقرب وأليق فإن سلامة الاختراع وغرابة المعنى عنه بمعزل وبيت بديعيتي تقدمه قولي في الألغاز بالرمح بقولي
( وكلما ألغزوه حله لسن ... مذ طال تعقيده أزرى بفهمهم )
ولم أخرج عن الرمح بل قلت مخترعا فيه اختراعا بعد من المرقص والمطرب بعد بيت الألغاز وهو
( وقده باختراع سالم ألف ... يبدو بترويسه من رأس كل كمي )
تقدم قولي أنه كان عن لي أن أورد هنا من سلامة الاختراع للمتقدمين والمتأخرين جمل مستكثرة ولم يصدني عن ذلك إلا الخيفة ممن تبحر علي في المطالعة فيورد ما أثبت من المعنى المخترع لزيد أنه مسبوق إليه من عمرو فأردت أن أخلص من هذا الاعتراض وأورد هنا نبذة من مخترعات ابن حجاج فإنه منوال ما نسج عليه غيره وقد تقدم قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في ديباجة كتابه المسمى بتلطيف المزاج من شعر ابن الحجاج وأما أشعار أبي عبد الله الحسيني بن حجاج فإنه أمة غريبة تبعث وحدها وذرية تبلغ بإتقان اللهو رشدها فمن ذلك قوله
( يا ديمة الصفع صبي ... على قفا المتنبي )

( وأنت يا ريح بطني ... على عذاريه هبي )
( ويا قفاه تقدم ... واقعد قليلا بجنبي )
( وإن صفعتك ألفا ... فلا تقولن حسبي )
( وقد تعشقت معنى ... طرطورك المتعبي )
( يا لحية هي عن أهل ... شيخنا النذل تنبي )
( قومي ادخلي جوف بطني ... فقد وقعت بقلبي )
( وأنت عندي مكان ... السواد من عين صلبي ) ومنه قوله
( كأنما باب سور مبعرها ... عنقود كرم مزبب العنب )
( كأنما الأير فوق عصعصها ... راكب حمارة على قتب ) ومنه قوله ( جارية قد سمطت فيشتي ... بوهج حمى سرمها الصالب )
( أخذت في الليل مجس استها الحامي ... وقد نامت إلى جانبي )
( أوجب إخراج دم فاسد ... من عين قيفال استها الضارب )
( لبظرها الأسود دنية ... تصلح للقاضي أبي السائب )
( خطبت بالأمس عليها استها ... فأنعمت للخاطب الراغب )
( وبات أيري رافضي الخصى ... يعطي قفا مبعرها الناصب ) وقال أيضا
( قوموا افتحوا باب سرمها ولجوا ... فكل عضو من استها شرج )
( قوموا فعين استها لرؤيتكم ... بالليل فوق الفراش تختلج )
( إن لم يسعكم ممر عصعصها ... فثم بالطول تحته أزج ) ( وفي استها خاتم للولبه ... طوق محلى وفصه سبج )
( إذا الخصي صافح استها خريت ... تحتي وبالبيض تعمل العجج ) وقال أيضا
( بأبي من تمكنت من فؤادي ... فأنا الدهر كله في اجتهاد )
( قدها في القياس من قوم يأجوج ... ولكن بظرها قوم عاد )

( وقفت لي فبستها من قعود ... بوسة بردت غليل فؤادي )
( ولها شعرة ولا زبد البحر ... بياضا وعصعص كالمداد )
( وحر أشمط العذارين الحى ... فيه سمت النساك والعباد )
( بظرها فوقه كدنية الحاكم ... يوم انحداره في السواد )
( ما توهمته وحقك إلا ... بعض أصحابنا بني حماد )
( يوم حاملتها فلما أحست ... في خراها بمثل شرط الفصاد )
( جذبت لحيتي وقالت أيا شيخ ... ترى أنت كافر بالمعاد )
( أنت ممن يبغي خلافا على الله ... ويسعى في أرضه بالفساد )
( قلت كفي إنا وجدنا على هذا ... أيور الآباء والأجداد )
( عرفيني وخبريني متى كانت ... سيوف الخصي بلا أغماد ) ومن غاياته في هذا الباب قوله
( مولاي يدعوك شيخ لا وقار له ... حتى القيامة سكران ومخمور )
( ما فيه للشيب إكرام فيزجره ... عن الخمور ولا للسن توقير )
( يقول بالأمرد المصقول عارضه ... مقسما فيه تأنيث وتذكير )
( وبالفتاة التي تنور مدخلها ... بعد العشا لشوى الخصيان مسجور )
( وبالعجوز التي في أصل عنبلها ... غداة بعث المخاصي ينفخ الصور )
( زبال زرع استها يسقى بدالية ... وبظرها واقف في الزرع ناطور )
( لها حر أشمط قد شاب مفرقه ... عليه بظر طويل فيه تدوير )
( كأنه شاعر قد جاء من حلب ... شيخ على رأسه المحلوق طرطور )
هذا الاستطراد في البيت الأخير استطرد فيه إلى أبي الطيب وهو في غاية اللطف والظرف وقد تقدمت إشارته إلى طرطوره في الأبيات المتقدمة البائية ومن اختراعاته في هذا الباب قوله ( أحب من الكس تقبيله ... إذا كان في شفتيه لعس )

( ويعجبني منه أنى إذا ... نقرت أنفه بقمدي عطس )
( وواسعة السرم تشكو استها ... إذا مسها النيك ضيق النفس )
( فتاة لدرب استها حارس ... يعلق من خصيتيه جرس ) ويعجبني قوله من قصيدة
( في إستها سدرة إذا نفضوها ... جمعوا لي من تحتها كف نبق )
( وهو نبق بلا نوى أسود اللون ... إذا لكته تحمض شدقي )

ذكر التفسير
( وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم )
هذا النوع أعني التفسير من مستخرجات قدامة وسماه قوم التبيين وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر في بيت بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه دون تفسيره إما في البيت الآخر أو في بقية البيت إن كان الكلام يحتاج إلى التفسير في أوله والتفسير يأتي بعد الشرط وما هو في معناه وبعد الجار والمجرور وبعد المبتدأ الذي يكون تفسيره خبره بشرط أن يكون المفسر مجملا والمفسر مفصلا فمن بديع التفسير الذي وقع في بيت واحد قول بعض المغاربة
( صالوا وجادوا وضاؤوا واحتبوا فهم ... أسد ومزن وأقمار وأجبال )
فإنه أحسن الترتيب في عجز البيت كله وجعل المفسر في الصدر بحيث أتى كل قسم مستقلا بنفسه
ومثال ما وقع من التفسير بعد الحروف المتضمنة معنى الشرط قول الفرزدق
( لقد جئت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم )
( لألفيت منهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوم )
والفرزدق ما راعى حسن الترتيب في بيته فإن عندهم عدم الترتيب مع حسن الجوار وقرب الملائم لا ينقص حسن الكلام البليغ ألا ترى إلى قوله تعالى ( يوم

تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم ) ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك ( وأما الذين ابيضت وجوههم )
ومن الأمثلة الواقعة بعد الجار والمجرور في باب التفسير قول شرف الدين القيرواني
( لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن )
( فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العقبى وللخائف الأمن ) ومما جاء من التفسير بعد المبتدأ قول ابن الرومي
( آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم )
( منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم )
قالوا إن هذا أبلغ ما وقع في التفسير من الأمثلة الشعرية فإنه راعى فيه الترتيب أحسن مراعاة ومن بديع هذا النوع قول محمد بن وهيب في المعتصم
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحق والقمر ) ومثله في الحسن قول محمد بن شمس الخلافة
( شيئان حدث بالقساوة عنهما ... قلب الذي يهواه قلبي والحجر )
( وثلاثة بالجود حدث عنهم ... البحر والملك المعظم والمطر )
ومن معجز التفسير ما جاء في الكتاب العزيز وهو قوله تعالى ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ) فذكر سبحانه الجنس الأعلى أولا حيث قال كل دابة فاستغرق أجناس كل ما دب ودرج ثم فسر سبحانه هذا الجنس بعد ذلك بالأجناس المتوسطة والأنواع حيث قال فمنهم ومنهم ومنهم مراعيا للترتيب وذلك أنه قدم ما يمشي على غير آلة لكون الآية سيقت لبيان القدرة وتعجب السامع وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي

بالة فلذلك كان تقديمه ملائما لمقصود الآية الشريفة ثم ثنى بالأفضل فأتى بما يمشي على رجلين وهو الادمي والطير لتمام خلق الإنسان وكمال صورته ولما في الطير من عجيب الطيران الدال على الخفة مع ما فيه من الكثافة الأرضية وثلث بما يمشي على أربع لأنه أحسن الحيوان البهيمي وأقواه فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المحاسن وهي صحة التفسير وصحة التقسيم مع مراعاة الترتيب والإشارة وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن النسق والفرق بين التفسير والإيضاح أن التفسير تفصيل الإجمال والإيضاح رفع الإشكال لأن المفسر من الكلام لا يكون فيه إشكال وبيت صفي الدين على التفسير قوله
( هم النجوم بهم يهدى الأنام ... وينجاب الظلام ويهمي صيب الديم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي قوله
( ذكر الإمام وابنيه يفسره ... علي والحسنان أكرم بذكرهم ) الشيخ عز الدين ما أفادنا في التفسير هنا شيئا
وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم )
هذا هو التفسير الذي لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه في الشطر الأول من البيت إلا بتفسيره من الشطر الثاني على الترتيب وأما ذكر الإمام علي كرم الله وجهه وذكر ولديه عليهما السلام في بيت الشيخ عز الدين رحمه الله فإنه غير محتاج إلى تفسير والله أعلم

ذكر حسن الاتباع
( ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم )
هذا النوع أعني حسن الإتباع هو أن يأتي المتكلم إلى معنى اخترعه الغير فيحسن اتباعه فيه بحيث يستحق بوجه من الوجوه الزائدة التي توجب للمتأخرين استحقاق معنى التقدم إما باختصار لفظه أو قصر وزن أو عذوبة لفظ أو تمكين قافية أو تتميم نقص أو تحلية من البديع توجب الاستحقاق كاتباع أبي نواس جريرا في قوله
( إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا ) فنقل أبو نواس المعنى من الفخر إلى المدح بقوله
( وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد )
فزاد زيادات منها قصر الوزن وحسن السبك وإخراج كلامه من الظن إلى اليقين وأيضا فإن ذكر العالم أعم من ذكر الناس في بيت جرير
وعدوا من الشواهد الحسنة في حسن الاتباع قول منصور النميري في زينب أخت الحجاج وأترابها وهو
( وهن اللواتي إن برزن قتلنني ... وإن غبن قطعن الحشا حسرات )

فأحسن اتباعه ابن الرومي بقوله
( ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم )
قلت وقع السهام ونزعهن بعد ويلاه في بيت ابن الرومي تركت بيت النميري أطلالا بالية وقال أبو عبادة البحتري
( أخجلتني بندى يديك فسودت ... ما بيننا تلك اليد البيضاء )
( صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجبا وبر راح وهو جفاء ) وأحسن أبو العلاء وقال
( لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر )
لأنه استوعب معنى البيتين في صدر بيته وأخرج العجز مخرج المثل السائر مع الإيجاز والإيضاح وحسن البيان وقال عنترة
( إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمي سائري بالمنصل )
فأحسن اتباعه منصور الفقير في شريف نسبه وكان شرفه من جهة أبيه لا من جهة أمه بقوله
( إن فاتني بأبيه ... فلم يفتني بأمه )
( ورام شتمي ظلما ... سكت عن نصف شتمه )
فإن هذا الفقيه أحسن غاية الإحسان من وجوه أحدها الإيجاز فإنه عمل معنى عنترة الذي جاء به في بيت تام من الكامل في بيت من المجتث وأتى بالمطابقة المعنوية فأما قوله سكت عن نصف شتمه ففيه من التأدب الديني مع رسول الله والاحتراس ما يزيد على الوصف وقال ابن الرومي
( تخذتكم درعا حصينا لتدفعوا ... نبال العدا عني فكنتم نصالها )

( وكنت أرجي منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها )
( فإن كنتم لا تحفظون مودتي ... ذماما فكونوا لا عليها ولا لها )
( قفوا وقفة المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي للعدا ونبالها ) فأحسن ابن سنان الخفاجي اتباعه بقوله
( أعددتكم لدفاع كل ملمة ... عونا فكنتم عون كل ملمة )
( وتخذتكم لي جنة فكأنما ... نظر العدو ومقاتلي من جنتي )
( فلأنفضن يدي يأسا منكم ... نفض الأنامل من تراب الميت ) ويعجبني هنا قول القائل
( وأخوان حسبتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي )
( وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي )
( وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي ) وقال ابن الرومي
( سد السداد فمي عما يريبكم ... لكن فم الحال عني غير مسدود ) وأحسن زكي الدين بن أبي الأصبع اتباعه فقال
( هبني سكت فما لسان ضرورتي ... أهجى لكل مقصر عن منطقي ) وقال سليك بن سلكة
( وتبسم عن ألمى اللثاة مفلج ... خليق الثنايا بالعذوبة والبرد )
( وما ذقته إلا بعيني تفرسا ... كما شيم برق في السحابة من بعد ) وقال نصيب
( كأن على أنيابها الخمر شجها ... بماء الندى في آخر الليل عابق )
( وما ذقته إلا بعيني تفرسا ... كما شيم في أعلى السحابة بارق )

وأحسن بشار بن برد اتباعهما بإيجازه وقال
( يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك ) وقال السموأل
( يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه اجالهم فتطول ) فأحسن بشار اتباعه بزيادة محاسن فقال أفناهم الصبر إذ أبقاهم الجزع وقال الأسود ابن يعفر
( يسعى بها ذو توأمين كأنما ... قنأت أتأمله من الفرصاد ) وأحسن أبو نواس إتباعه بزيادة من المحاسن وقال
( تبكي فتذري الدمع من نرجس ... وتلطم الورد بعناب )
استوفى أبو نواس المعنى في نصف بيت وأخذه الرأواء الدمشقي من أبي نواس وزاد عليه زيادة عجيبة بقوله
( وأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد ) وقال مسلم بن الويد
( تجري محبتها في قلب عاشقها ... مجرى المعافاة في أعضاء منتكس ) فأحسن أبو نواس اتباعه فقال
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم ) وجميع ذلك مأخوذ من قول بعض الملوك باليمن
( منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي )
( تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت في النفس )
نقل أبو هلال العسكري في الصناعتين عن الصولي أنه قال حدثني أبو بكر بن هارون بن عبد الله المهلبي قال كنا في حلقة دعبل الشاعر فجرى ذكر أبي تمام

فقال دعبل كان يتبع معاني فيأخذها فقال له رجل في مجلسه مثل ماذا أعزك الله فقال قلت
( وإن امرأ أسدى إلي بشافع ... إليه ويرجو الشكر مني لأحمق ) فأخذه أبو تمام وقال
( وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله )
فقال الرجل أحسن والله فقال دعبل كذبت والله قبحك الله فقال الرجل إن كان سبقك بهذا المعنى وتبعته فما أحسنت وإن كان أخذه منك فقد أجاد فصار أولى به منك على الحالين فغضب دعبل وقام وقال بشار
( من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج ) فأحسن اتباعه سلم الخاسر وقال
( من راقب الناس مات غما ... وفاز باللذة الجسور ) فلما سمع بشار هذا البيت قال قد ذهب ابن الفاعلة ببيتي
وممن زاد على المتقدمين بحسن سبكه وعذوبة لفظه ابن المعتز رحمه الله بقوله
( ولاح ضوء هلال كاد يفضحه ... مثل القلامة قد قدت من الظفر ) وهو مأخوذ من قول الأول
( كأن ابن ليلته جانح ... إلى مسقط الأفق من خنصر ) وقال أبو لعتاهية
( كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنه ) فأحسن أبو تمام اتباعه فقال
( قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلي الله أدنى القوم بالنعم )

فزاد عليه إلا أنه أتى بعكس المعنى وما يعرف للمتقدمين معنى شريف إلا نازعهم إياه المتأخرون وطلبوا الشركة معهم فيه إلا قول عنترة وخلا الذباب بها فليس بنازح فإنه ما نوزع في هذا المعنى على جودته وقد رامه بعض المجتهدين فافتضح وتقرر ذلك في بيت سلامة الاختراع وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على حسن الاتباع قوله
( ينازع السمع فيها الطرف حين جرت ... فيرجعان إلى الآثار في الأكم ) بيت الشيخ صفي الدين مأخوذ من قول القائل
( وطرف يفوت الطرف في جريانه ... ولكن للأسماع فيه نصيب ) والعميان ما نظوا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( والجزع حن إليه بعد فرقته ... حسن اتباع لتلك الأربع الحرم )
ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه اتبع الفرزدق في قوله في مديح الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهما السلام وهو هذا
( هذا ابن من تعرف البطحاء وطأته ... والركن يعرفه والبيت والحرم ) وبيت بديعيتي تقدمه قولي في حق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( وصحبه بالوجوه البيض يوم وغى ... كم فسروا من بدور في دجى الظلم ) ثم إني قلت بعده في حسن الاتباع عن الصحابة
( ذكراه يطربهم والسيف ينهل من ... أجسامهم لم يشن حسن اتباعهم ) هذا المعنى سبقني إليه الشيخ شرف الدين بن الفارض وكنت في صغري أترنم به وهو قوله
( فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجوه عذلي بخصام )
الشيخ شرف الدين قرر إن ذكر محبوبه يحلو ولو كان في محل خصام من

العذال وقولي أبلغ في حق الصحابة رضي الله عنهم لأن ذكر النبي يطربهم والسيوف تنهل من أجسامهم وأين الطرب في هذا المقام من يحلو في ذلك المقام وأين المخاصمة بالألسن من التكليم بألسنة السيوف والزيادة التي ما على حسنها من مزيد قولي لم يشن حسن اتباعهم فإن شدة الحرب وتكليم النفوس ما شان حسن السيوف وذهاب الأنفس ما شان حسن اتباعهم للنبي يوما من الأيام والتورية في حسن الاتباع الذي هو المراد من تسمية النوع محاسنها لا تخفى على المنصفين من أهل الأدب والله أعلم

ذكر المواردة
( كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم )
هذا النوع أعني المواردة هو أن يتوارد الشاعران على بيت أو بعض بيت بلفظه ومعناه فإن كان أحدهما أقدم من الآخر وأعلى رتبة في النظم حكم له بالسبق وإلا فلكل منهما ما نظمه كما جرى لامرىء القيس وطرفة بن العبد في معلقتيهما وهو قول امرىء القيس
( وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل )
قال طرفة أسى وتجلد فلما تنافسا في ذلك وأحضر طرفة بن العبد خطوط أهل بلده في أي يوم نظم هذا البيت كان اليوم الذي نظما فيه واحدا وقد يقع مثل ذلك أو دونه في بيت يخالف وزن البيت الأصلي وبيت الشيخ صفي الدين على المواردة قوله
( تهوى الرقاب مواضيهم فتحسبها ... حديدها كان أغلالا من القدم ) وبيت الشيخ صفي الدين ذكر في شرحه أنه نظم بيتا من جملة أبيات وهو
( تهوى مواضيك الرقاب كأنما ... من قبل كان حديدها أغلالا ) ثم ذكر أنه سمع بعد ذلك بيتا لا يعلم قائله وهو
( تهوى الرقاب مواضيه فتحسبها ... تود لو أصبحت أغلال من أسرا )
فأسقط البيت الذي له فلما تعددت عليه الأنواع في نظم البديعية ووصل إلى

المواردة ألجأته الضرورة إلى نظمها ليكون البيت المنظوم منتظما في سلك شواهد بديعيته بحيث لا تخلو من هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( بيت المدائح تستوفي علاه ولو ... تواردت في مديح غير منصرم )
الشطر الأول من هذا البيت ذكر الشيخ عز الدين في شرحه أنه توارد هو وأبو الطيب المتنبي عليه
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم ومعنى المواردة في بيت بديعيتي أني كنت مدحت تمر بغاء الأفضلي الشهير بمنطاش ورياحين الشبيبة غضة ونشوة الابتداء تحث على دور كاسات الأدب وكان المشار إليه إذ ذاك كافل المملكة الحموية بقصيدة رائية سارت ببديع محاسنها الركبان واحتوت على معان لم أسبق إليها وتمثلت في غصون نظمها بين يدي شيخي وهو مولانا قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن على القضامي الحنفي رحمه الله وقد علق بخاطري منها أبيات فأنشدته في ذلك الوقت ما علق بخاطري وهو قولي منها
( له مطالعة في الحرب حين يرى ... دم العدا فوق طرس الأرض قد سطرا )
( إن راسل القوم انشا في رسائله ... سجعات ضرب بها الهامات قد نثرا )
( كتابه السيف والخطي له قلم ... والرسل أسهم حتف توضح الخبرا )
( إن كان قد نظم الأعدا مكيدتهم ... فقل لهم إنه من قبلهم شعرا )
( لأنه ببديع الحسن لف لنا ... شملا ولكن لأرقاب العدا نشرا )
( وخط من فوق ألواح الصدور لهم ... بابا من الخوف في أحشائهم وقرا )
( وصار يكتب بالهندي ويعجم بالخطي ... فعل شجاع قد قرا ودرى )
( تراه بالرمح بدرا حاملا غصنا ... وبالتريسة غصنا حاملا قمرا )
( إن جس عودا لضرب مال سامعه ... والخيل يرقصها إن حرك الوترا )
وصار كلما أنشدته بيتا من هذه الأبيات يترنم كثيرا ويرسم لي بإعادته حتى انتهيت إلى قولي

( كأنما الهام أحداق أضر بها ... سهد وأسيافه في الحرب طيب كرى )
فلما سمع هذا البيت لم يترنم كما ترنم للأبيات التي قبله وقال أبو الطيب هو أبو عذرة هذا المعنى ولكن أحسنت الاتباع بقولك أضربها سهد وبقولك في الشطر الثاني طيب كرى فإن فيهما زيادتين حسنتين فالتزمت له بيمين أنني ما ملكت ديوان المتنبي يوما من الأيام ولا طالعته عند الغير وما كنت في ذلك الوقت أطالع غير ديوان الشيخ جمال الدين بن نباتة وديوان الشيخ صفي الدين الحلي فتعجب مولانا قاضي القضاة من ذلك وبالغ في الجبر والثناء ولكني أسقطت البيت من القصيدة خوفا من قدح حاسد فلما وصلت بديعيتي إلى نوع المواردة ألجأت الضرورة إلى نظمه في سلك أنواعها
وبيت المتنبي الذي حصلت المواردة به قوله
( كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد ) وبيت بديعيتي
( كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم )
والترشيح أيضا هنا ظاهر في قولي مسهدة والترشيح في تورية المواردة بتسمية النوع وزيادة المعنى غير خاف على أهل الأدب

ذكر الإيضاح
( هذا وتزداد إيضاحا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم )
هذا النوع أعني الإيضاح هو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس فلا يفهم من أول وهلة حتى يوضحه في بقية كلامه كقول الشاعر
( يذكرنيك الخير والشر كله ... وقيل الخنى والحلم والعلم والجهل )
( فألقاك عن مكروهها متنزها ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل ) معنى البيت الأول ملتبس وما ذاك إلا أنه يقتضي المدح والذم ولكنه أوضحه بقوله
( فألقاك عن مكروهها متنزها ... وألقاك في محبوبها ولك الفضل )
وقد يكون الإيضاح في الوصف الذي لا يتعلق به مدح ولا هجاء وذلك أن يخبر المتكلم بخبر واحد عن شيء واحد يحصل فيه الإشكال فيوضح ذلك الإشكال بما يفهم منه كشف اللبس عن الحد الأول كقول ابن حيوس
( ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه )
فإنه لو اقتصر على البيت الأول أشكل الأمر من جهة الوجه فإنه وإن كان حسنا لا يغني النديم عن الخمر فأزال اللبس في البيت الثاني وأوضحه وقد تقدم وتقرر الفرق بين الإيضاح والتفسير

وبيت الشيخ صفي الدين قوله
( قادوا الشواذب كالأجبال حاملة ... أمثالها ثبتة في كل مصطدم ) العميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( للخير والشر إيضاحا به فبذا ... أمر وعن ذاك نهي حب نصحهم ) والذي أقوله إن الشيخ عز الدين غفر الله له لم يتضح في بيته غير الإشكال
وبيت بديعيتي تقدم قولي قبله في وصف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بحسن الاتباع والصبر والإقدام إلى أن قلت في المواردة
( كأنما الهام أحداق مسهدة ... ونومها واردته في سيوفهم ) ثم إني قلت بعده في الإيضاح
( هذا وتزداد إيضاحا مخافتهم ... في كل معترك من بطش ربهم )
الإطناب والمبالغة في وصف الصحابة رضي الله عنهم قد تقدم بالشجاعة التي هي فوق الوصف فلما قلت في هذا البيت إن مخافتهم تزداد إيضاحا في كل معترك ظهر اللبس فأوضحته بقولي من بطش ربهم والتورية بتسمية النوع الذي هو المطلوب هنا محاسنها لم تفتقر إلى الإيضاح والله الموفق

ذكر التفريع
( ما العود إن فاح نشرا أو شدا طربا ... يوما بأطرب من تفريع وصفهم )
هذا النوع أعن التفريع وهو ضد التأصيل هو أن يصدر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي بما خاصة ثم يصف ذلك الاسم المنفي بأحسن أوصافه المناسبة للمقام إما في الحسن وإما في القبح ثم يجعله أصلا يفرع منه جملة من جار ومجرور متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك ثم يخبر عن ذلك الاسم بأفعل التفضيل ثم يدخل من على المقصود بالمدح أو الذم أو غيرهما ويعلق المجرور بأفعل التفضيل فتحصل المساواة بين الاسم المجرور بمن وبين الاسم الداخل عليه ما النافية لأن حرف النفي قد نفى الأفضلية فتبقى المساواة بين ذلك أن تقول ما الزهر إذا بكى الغمام فضحك بأحسن من أخلاق زيد فالمساواة بين الزهر والأخلاق ههنا ثابتة بالشروط المذكورة ومن الأمثلة الشعرية قول الأعشى
( ما روضة من رياض الحسن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل )
( يضاحك الزهر منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل )
( يوما بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل )

وقد يجيء الفرع والأصل في بيت واحد كقول أبي تمام
( ما ربع مية معمورا يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب )
( ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب )
فذكر في البيت الأول الأصل والفرع وكذلك في البيت الثاني فالأصل هو الاسم المنفي مع ما ذكر من أوصافه والفرع هو أفعل التفضيل مع ما يتعلق به
ويعجبني في هذا الباب قول إبراهيم بن سهل الاشبيلي نم قصيدة وهو
( وما وجد أعرابية بان دارها ... وحنت إلى بان الحجاز ورنده )
( إذا انست ركبا تكفل شوقها ... بنار قراه والدموع بورده ) ( وإن أوقدوا المصباح ظنوه بارقا ... يحيي فهشت للسلام ورده )
( بأعظم من وجدي بموسى وإنما ... يرى أنني أذنبت ذنبا لوده )
ومن إنشاء القاضي شهاب الدين محمود في هذا الباب قوله وما أم طفل قذفها الزمن العنيد في بعض البيد في أرض موحشة المسالك قليلة السالك قد لمع صوابها وتوقدت هضابها وصرخ بومها ونفر ظليمها وحضر سمومها وغاب نسيمها فلما خافت على ولدها من الظمأ الهلاك أجلسته إلى جنب كثيب هناك ثم ذهبت في طلب الماء للغلام لئلا يقضي عليه الأوام فانتهى بها المسير إلى روضة وغدير وآثار مطي بوارك تدل على أن الطريق هنالك فعادت إلى ولدها مسرعه وكل أعضائها إليه عيون متطلعه فلما شارفت جنب الكثيب رأت ولدها في فم الذيب
( بأكثر مني حسرة وتلهفا ... وأعظم مني حرقة وتأسفا )
( وأغزر دمعا عندما قيل لي الذي ... كلفت به أضحى على البعد مزمعا )
وذكر صاحب الإيضاح للتفريع قسما ثانيا لم يذكره غيره ولا نسج على منواله أصحاب البديعيات فألغيته أيضا والشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع اخترع قسما ثالثا

ولكن وجدت هذا النوع الذي نحن بصدده أحلى في الأذواق وأوقع في القلوب وعلى سننه مشى أصحاب البديعيات فألغيت أيضا ما اخترعه ابن أبي الأصبع رحمه الله
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع في وصف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( ما روضة وشع الوسمي بردتها ... يوما بأحسن من اثار سعيهم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( ما الدوح تفريعه بالزهر متسق ... نظما بأطيب من تعريف ذكرهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( ما العود إن فاح نشرا أو شدا طربا ... يوما بأطيب من تفريع وصفهم )
هذا البيت فيه نوع التفريع الذي هو القصد هنا والتورية بتسميته والاستخدام ومرعاة النظير وفيه الانسجام والتمكين والله أعلم

ذكر حسن النسق
( من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم )
هذا النوع أعني حسن النسق ويسمى التنسيق من محاسن الكلام وهو أن يأتي المتكلم بالكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات متلاحمات تلاحما مستحسنا مستبهجا وتكون جملها ومفرداتها منسقة متوالية إذا أفرد منها البيت قام بنفسه واستقل معناه بلفظه كقول شرف الدين القيرواني
( جاور عليا ولا تحفل بحادثة ... إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل )
( سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل )
فالحظ حسن النسق وصحة هذا التركيب فيه واستيعاب هذا التقسيم ووضوح هذا التفسير ومنه قول أبي نواس
( وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس )
( وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس )
حسن النسق هنا لأمرين بين فنين متضادين في هذين البيتين وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد

وبيت الشيخ صفي الدين الحلي قوله
( والذئب سلم والجني أسلم والثعبان كلم والأموات في الرحم ... )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( فالضيق أذهب والتوفيق سبب والتنسيق رتب في تصديق حكمهم ... )
وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة رضوان الله عليهم بقولي
( من ذا يناسقهم من ذا يطابقهم ... من ذا يسابقهم في حلبة الكرم )

ذكر التعديد
( تعديد فضلهم يبدي لسامعه ... علما وذوقا وشوقا عند ذكرهم )
هذا النوع أعني التعديد ذكره الإمام فخر الدين الرازي وغيره وسماه قوم الإعداد وهو عبارة عن إيقاع أسماء منفردة على سياق واحد فإن روعي في ذلك ازدواج أو مطابقة أو تجنيس أو مقابلة فذلك الغاية في حسن النسق مثاله قوله تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) ومن امثلة الشعرية قول أبي الطيب المتنبي
( الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم ) وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع قوله
( يا خاتم الرسل يا من علمه ... والعدل والفضل والإيفاء للذمم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت عز الدين في بديعيته قوله
( تعديد أوصافهم في المدح يعجزنا ... أهل التقى والنقا والمجد والهمم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على مدح الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بقولي
( تعديد أوصافهم يبدي لسامعه ... علما وذوقا وشوقا عند ذكرهم )

ذكر التعليل
( نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم )
هذا النوع أعني التعليل هو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه لكون رتبة العلة تتقدم على المعلول كقوله تعالى ( ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) فسبق الكتاب من الله تعالى علة النجاة من العذاب وكقوله لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة فخوف المشقة على الأمة هو علة في التخفيف عنهم من الأمر بالسواك عند كل صلاة ومن أمثلته الشعرية قول البحتري
( ولو لم تكن ساخطا لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا ) فوجود سخط الممدوح هو علة في شكوى الشاعر
ومنه قول ابن هانىء الأندلسي
( ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما صح عندي علة للتيمم )
وفي رواية لما كنت أدري وعلى كلتي الروايتين ففي الغلو قبح وإساءة أدب كيف أنه لم يدر علة للتيمم إلا بما ذكر وقد علمت صحة التيمم من نص الكتاب والسنة
ولقد أحسن ابن رشيق القيرواني في تعليل قوله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا حيث قال

( سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهرا وطيبا )
( فقالت غير ناطقة لأني ... حويت لكل إنسان حبيبا )
فتخلص مما وقع فيه ابن هانىء لكونه سأل الأرض عن العلة وتلطف في استخراج علة مناسبة لا حرج عليه في إيرادها وقد يتقدم المعلول على العلة في هذا الباب وعلى هذا المنوال نسج ابن رشيق
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على التعليل قوله
( لهم أسام سوام غير خافية ... من أجلها صار يدعى الاسم بالعلم ) وبيت العميان
( لم تبرق السحب إلا أنها فرحت ... إذ ظللنه فأبدت حسن مبتسم ) وبيت الشيخ عز الدين قوله
( تعليل طيب نسيم الروض حين سرى ... بأنه نال بعضا من ثنائهم ) وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة
( نعم وقد طاب تعليل النسيم لنا ... لأنه مر في آثار تربهم )

ذكر التعطف
( تعطف الخير كم أبدوا لمذنبهم ... والخير ما زال في أبواب صفحهم )
التعطف شبيه بالترديد في إعادة اللفظة بعينها في البيت والفرق بينهما أن التعطف شرطه أن تكون إحدى كلمتيه في مصراع والأخرى في مصراع آخر
قلت وهذا النوع أيضا من الأنواع التي تقدمت وقررت أن ليس تحتها كبير أمر وأن رتبة البديع أعلى من هذه الأنواع السافلة ولكن تقدم قولي إن القوم كلما طلبوا الكثرة تغالوا في الرخيص والشروع في المعارضة ملزم وقد استشهدوا على هذا النوع أعني التعطف بقول أبي الطيب المتنبي
( فساق إلي العرف غير مكدر ... وسقت إليه المدح غير مذمم ) وبيت الشيخ صفي الدين على هذا النوع الرخيص قوله
( وصحبه من لهم فخر إذا افتخروا ... ما أن يقصر عن غايات فضلهم ) والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( تعطفوا برضا أحبابهم وعلى ... أعدائهم عطفوا بالصارم الخذم ) وبيت بديعيتي أنا مستمر فيه على وصف الصحابة رضي الله عنهم بقولي
( تعطف الخير كم أبدو لمذنبهم ... والخير ما زال في أبواب صفحهم ) وقلت بعده مشيرا إليهم

ذكر الاستتباع
( يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم )
الاستتباع هو استفعال من تتبع الرجل إذا اقتفى أثره وفي الاصطلاح هو أن يذكر الناظم أو الناثر معنى مدح أو ذم أو غرض من أغراض الشعر فيستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصف ذلك الفن كقول أبي الطيب المتنبي
( نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد )
فإنه مدحه بالشجاعة على وجه استتبع مدحه بكونه سببا لإصلاح الدنيا حيث جعلها مهنأة بخلوده ومثله قوله
( إلى كم ترد الرسل فيما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام )
فمدحه بالشجاعة إيماء وألغز في رد الرسل عما أتوا به وصدهم عن مطلوبهم والتهاون بمرسلهم واستتبع في آخر البيت مدحه بالكرم لعصيان الملام في الهبات
ويعجبني هنا قول أبي بكر الخوارزمي
( سمح البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنما ألفاظه من ماله )
فإنه مدحه بذلاقة اللسان على وجه استتبع الكرم وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا لنوع قوله ( الباذلو النفس بذل الزاد يوم قرى ... والصائنو العرض صون الجار والحرم )

وبيت العميان
( تجري دماء الأعادي من سيوفهم ... مثل المواهب تجري من كفوفهم ) وبيت الشيخ عز الدين
( يستتبعون ببذل العلم بذل ندى ... ويحفظون المعالي حفظ عرضهم ) وبيت بديعيتي
( يحمون مستتبعين العفو إن ظفروا ... ويحفظون وفاهم حفظ دينهم )

ذكر الطاعة والعصيان
( طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم )
هذا النوع أعني الطاعة والعصيان استنبطه أبو العلاء المعري في شرحه الذي سماه معجز أحمد عند نظره في شعر أبي الطيب وهو قوله
( يرد يدا عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد )
وسماه الطاعة والعصيان وقال إنما أراد أبوالطيب أن يقول يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ بحيث تطيعه المطابقة في قافية البيت بقوله راقد فلم يطعه الوزن في ذلك ولما عصاه الوزن عدل إلى لفظة قادر وجعلها مكان مستيقظ لما فيها من معنى اليقظة وزيادة فأطاعه التجنيس المقلوب بين قادر وراقد وعصته المطابقة بين راقد ومستيقظ فلم يخل بيته عن معنى بديعي وقيل إن هذا النوع لم يسمع له مثال قبل أبي العلاء ولا بعده في سائر كتب البديع لقلة وقوعه وتعذر اتفاقه وإنما وقع للمتنبي نادرا
قلت أنا تابع في هذا النوع مذهب علامة هذا العلم وهو الشيخ زكي الدين ابن أبي الأصبع تغمده الله برحمته ورضوانه فإنه كشف عن وجه الإشكال وأرشد من كان متعلقا بحبال المحال فإن القوم أضربوا عن هذا النوع وهو ظاهر لأن الشيخ زكي الدين قال إضرابهم عن النظر فيه إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب واعتقادهم فيه العصمة من الخطأ والسهو وإما أن يكون مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت إذ ليس في البيت شيء أطاع الشاعر ولا شيء عصاه ودليل ذلك قول المعري إن المتنبي أراد مستيقظا ليحصل بينها وبين لفظة راقد طباقا فعصته لفظة مستيقظ

لامتناعها من الدخول في هذا الوزن وهذا محال لأن المتنبي لو أراد أن يقول يرد يدا عن ثوبها وهو ساهر لحصل له غرضه من الطباق ولم يعصه الوزن وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس فعدل عن لفظة ساهر إلى قادر لأن القادر ساهر وزيادة وحصل بين راقد وقادر الطباق المعنوي وجناس العكس لأن الطباق أنواع منها المعنوي كما أن الجناس أنواع منها العكس ومذهب المتنبي ترجيح المعاني على الألفاظ ولا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معا وما كان فيه الطباق والجناس معا أفضل مما ليس فيه سوى الطباق ولوعدل المتنبي إلى ما ذكره المعري لفاته هذا الفضل والله أعلم
وقد ثبت من هذا البحث أن بيت المتنبي لا يصلح أن يكون شاهدا على هذا الباب لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره وكذلك بيت الشيخ صفي الدين في بديعيته وهو قوله
( لهم تهلل وجه بالحياء كما ... مقصوره مستهل من أكفهم )
فإنه ذكر في شرحه أنه أراد الجناس بين الحياء والحيا ولما عصاه الوزن وتعذر التجنيس عدل إلى لفظة مقصوره وهي ردف لفظة الحيا فأطاعه الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه آه
قلت والذي قرره الشيخ صفي الدين أيضا محال ولو قال
( لهم تهلل وجه بالحياء كما ... لنا الحيا مستهل من أكفهم )
لحصل له ما أراد من الجناس وخلص من ثقل مقصوره وحصل لبيته طلاوة في الأذواق وخلا من العقادة وتحقق المتأمل أن عصيان الوزن هنا محال وكذلك بيت الشيخ عز الدين وهو
( أطاعه وعصاه المؤمنون ومن ... ناواه ذا الفرق بين الانس والنعم )
فإنه ذكر في شرحه أنه أراد الطباق بين المؤمنين والكافرين فعصاه الوزن وتعذرت المطابقة فأتى بلفظة ناواه فأطاعته المطابقة وعصاه الوزن
قلت والذي قرره الشيخ عز الدين أيضا ههنا محال ولو قال
( أطاعه وعصاه المؤمنون وجمع الكافرين ولم يحفل بجمعهم ... )

لحصل له ما أرد من المطابقة بين المؤمنين والكافرين وخلص من ثقل ناواه وتجشم الانس والنعم التي زلزلت أركان بيته وأما قوله أطاعه وعصاه فهذه المطابقة تحصيل الحاصل لأنها تسمية النوع الذي هو المراد هنا وجل القصد أن عصيان الوزن في بيت أبي الطيب وبيت الشيخ صفي الدين وبيت الشيخ عز الدين محال
وبيت بديعيتي أقول فيه عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
( طاعاتهم تقهر العصيان قدرهم ... له العلو فجانسه بمدحهم )
هذا البيت أردت أن أجانس فيه بين العلو والغلو فلم يطع فيهما الوزن فلما عصى ذلك عدلت إلى لفظة مجانسة فحصل الجناس المعنوي بإشارة ردفه إليه فهذا البيت مشتمل على الطاعة والعصيان حقيقة فإن الناظم أراد فيه جناس التصحيف فعصاه الوزن وأطاعه الجناس المعنوي والعميان ما نظموه في بديعيتهم والله أعلم

ذكر المدح في معرض الذم
( في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم )
هذا النوع أعني المدح في معرض الذم من أنواع ابن المعتز وهو أن ينفي صفة ذم ثم يستثني صفة مدح كقولك لا عيب في زيد سوى أنه يكرم الضيف وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما )
ومن الشواهد الشعرية قول النابغة الذيباني
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ) ومنه قول الشاعر
( ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن ) ومنه أيضا قول الشاعر
( ولا عيب في هذا الرشا غير أنه ... له معطف لدن وخد منعم ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم )

وبيت العميان في بديعيتهم
( لا عيب فيهم سوى أن لا ترى لهم ... ضيفا يجوع ولا جارا بمهتضم )
قلت بين قول الشيخ صفي الدين عن الضيف أنه يسلو عن الأهل والأوطان والحشم وبين قول العميان عن الضيف أنه لا يجوع بون بعيد وبيت الشيخ عز الدين
( في معرض الذم إن رمت المديح فهم ... لا عيب فيهم سوى الإعدام للنعم ) وبيت بديعيتي
( في معرض الذم إن رمت المديح فقل ... لا عيب فيهم سوى إكرام وفدهم )

ذكر البسط
( هم معشر بسطوا جودا سقاه حيا ... فأخضر العيش في أكناف أرضهم )
هذا النوع أعني البسط من مستخرجات ابن أبي الأصبع والبسط بخلاف الإيجاز لكونه عبارة عن بسط الكلام لكن شروطه زيادة الفائدة كقول النبي الدين النصيحة فقيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم فبسط هذه اللفظة الجامعة ليفرد الأئمة بالذكر من جملة المسلمين ولم يكن الاقتصار على الأئمة لأجل نقص المعنى إذ تمامه لا يكون إلا بذكر عامة المسلمين فأتى بذلك البسط ليفيد تتميم المعنى بعد تخصيص من يجب تخصيصه بالذكر
ومن الأمثلة الشعرية المستحسنة على البسط قول البحتري في الخيري وهو المنثور الأصفر
( قد نفض العاشقون ما صنع الهجر بألوانهم على ورقه ... )
فإن حاصل هذا الكلام الإخبار بصفرة الخيري فبسط اللفظ الذي لو اقتصر عليه لما حصل به المراد لما في البسط من حسن إدماج الغزل في الوصف بغير لفظ التشبيه ولا قرينة إذ مفهوم اللفظ أن صفرة المنثور تشبه ألوان المهجورين وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( سهل الخلائق سمح الكف باسطها ... منزه قوله عن لا ولن ولم )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6