كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
المؤلف : تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري

خزانة الأدب وغاية الأرب
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله البديع الرفيع الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته وأولانا جميل الصنيع فاستهلت الأصوات ببراعة توحيده وهو البصير السميع أدب نبينا محمدا فأحسن تأديبه حتى أرشدنا جزاه الله عنا خيرا إلى سلوك الأدب وأوضح لنا بديعه وغريبه
نحمده حمدا يحسن به التخلص من غزل الشهوة إلى حسن الختام ونشكره شكر من شعر ببديع صفاته فأحسن النظم وأعوذ بالله من قوم لا يشعرون بهذا النظام ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة شاعر بأنه الواحد وأن سيدنا محمدا وعبده ورسوله المبعوث من بيت عربي فصاحته على الأعراب والإعراب أعظم شاهد وعلى آله وأصحابه الذين هم نظام هذا البيت الشريف ودوائر بحره وأنواع بديعة وديباج صدره وسلم تسليما كثيرا
وبعد فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه على منوال طرز البردة وكان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة جمل الله الوجود بوجوده هو الذي ثقف لي هذه الصعدة وحلب لي ضرعها الحافل لحصول هذه الزبدة
وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى التزم فيها بتسمية النوع البديعي وورى بها من جنس الغزل ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي تغمده الله تعالى برحمته لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي

الأصبع وربما رضي في الغالب بتسمية النوع ولم يعرب عن المسمى ونثر شمل الألفاظ والمعاني لشدة ما عقده نظما
( فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال )
فاستخار الله مولانا الناصري المشار إليه ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام وأجاري الحلي برقة السحر الحلال الذي ينفث في عقد الأقلام فصرت أشيد البيت فيرسم لي بهدمه
وخراب البيوت في هذا البناء صعب على الناس ويقول بيت الصفي أصفى موردا وأنور اقتباسا
فأسن كل ما حده الفكر وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقه
فجاءت بديعية هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال وسميتها تقديم أبي بكر عالما أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال
وكان المشار إليه عظم الله شأنه هو الذي مشى أمامي وأشار إلى هذا السلوك وأرشد فاقتديت برأيه وهل يقتدي أبو بكر بغير محمد

في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال
حسن الابتداء عند المتقدمين
( لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع في العلم )
اعلم أنه اتفق علماء البديع على أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة المعاني واضحة في استهلالها وأن لا يتجافى بجنوب الألفاظ عن مضاجع الرقة وأن يكون التشبيب بنسيبها مرقصا عند السماع وطرق السهولة متكفلة لها بالسلامة من تجشم الحزن ومطلعها مع اجتناب الحشو ليس له تعلق بما بعده
وشرطوا أن يجتهد الناظم في تناسب قسميه بحيث لا يكون شطره الأول أجنبيا من شطره الثاني
وقد سمى ابن المعتز براعة الاستهلال حسن الابتداء وفي هذه التسمية تنبيه على تحسين المطالع وإن أخل الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء وأورد في هذا الباب قول النابغة
( كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع لعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس حيث قال
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )

فرأى ابتداء امرئ القيس على تقدمه وكثرة معانيه متفاوت القسمين جدا لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك
وعلى هذا التقدير مطلع النابغة أفضل من جهة ملايمة ألفاظه وتناسب قسميه وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني وما عظم ابتداء امرئ القيس في النفوس إلا الاقتصار على سماع صدر البيت فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت وإذا تأمل الناقد البيت بكماله ظهر له تفاوت القسمين
وقال أعني ابن أبي الأصبع إذا وصلت إلى قول البحتري من هذا الباب وصلت إلى غاية لا تدرك وهو قوله
( بودي لو يهوى العذول ويعشق ... ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق )
انتهى كلام زكي الدين بن أبي الأصبع
ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي حيث قال
( أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي )
ومثله قوله أي قول حبيب
( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيع )
وما ألطف قول أبي تمام في هذا الباب
( لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتقضت الأوطار )
ومثله قول أبي العلاء المعري
( يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر )
وقد خلب القلوب ابن المعتز في تناسب القسمين بقوله
( أخذت من شبابي الأيام ... وتولى الصبا عليه السلام )

وما أحلى ما ناسب ابن هانئ قسمي مطلعه بالاستعارات الفائقة حيث قال
( بسم الصباح لأعين الندماء ... وانشق جيب غلالة الظلماء )
وقال الشريف أبو جعفر البياضي يشير إلى الرفق بالإبل عند السرى وتلطف ما شاء في تناسب القسمين حيث قال
( رفقا بهن فما خلقن حديدا ... أو ما تراها أعظما وجلودا )
وهذه القصيدة طريقها الغريب لم يسلكها غيره فإنه نسجها جميعها على هذا المنوال ومنها
( يفلين ناصية الفلا بمناسم ... وسم الوجا بدمائهن البيدا )
( فكأنهن نثرن درا بالخطا ... ونظمن منه بسيرهن عقودا )
ومما يعذب في الذوق من هذا الباب قول ابن قاضي ميلة
( يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف ... ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف )
وقد نبه مشايخ البديع على يقظة الناظم في حسن الابتداء فإنه أول شيء يقرع الأسماع ويتعين على ناظمه النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين وتفقد ما يكرهون سماعه ويتطيرون منه ليتجنب ذكره ويختار لأوقات المدح ما يناسبها
وخطاب الملوك في حسن الابتداء هو العمدة في حسن الأدب فقد حكي أن أبا النجم الشاعر دخل على هشام بن عبد الملك في مجلسه فأنشده من نظمه
( صفراء قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول )
وهشام بن عبد الملك أحول فأخرجه وأمر بحبسه
وكذلك اتفق لجرير مع أبيه عبد الملك فإنه دخل عليه وقد مدحه بقصيدة حائية أولها
( أتصحو أم فؤادك غير صاح ... )
فقال له عبد الملك بل فؤادك يا ابن الفاعلة

ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب المتنبي خطابه لممدوحه في مطلع قصيدة حيث قال
( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا )
ومن مستقبحات الابتداء قول البحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها
( لك الويل من ليل تقاصر آخره ... )
فقال بل لك الويل والخزي وأما قصة إسحاق ابن إبراهيم الموصلي في هذا الباب فإني أنفعل وأخجل عند سماعها وما ذاك إلا أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان فشرع في إنشاء قصيدة نزل بمطلعها إلى الحضيض وكان هو وحكاية الحال في طرفي نقيض وهو
( يا دار غيرك البلا ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاك )
فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور فنعوذ بالله من آفة الغفلة هذا مع يقظة إسحاق وسير الركبان بحسن محاضرته ومنادمته للخلفاء ولكنه قد يخبو الزناد وقد يكبو الجواد مع أنه قيل إن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد قول إسحاق الموصلي حيث قال
( هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إن عهدي بالنوم عهد طويل )
فانظر إلى هذا الأديب الحاذق المتيقظ كيف استطردت به خيول السهو إلى أن خاطب المعتصم في قصر رياحين تشييده غضة بخطاب الأطلال البالية وانظر إلى حشمة أبي نواس كيف خاطب الدمن بخطاب تود القصور العالية أن تتحلى بشعاره مع بلوغه في تناسب القسمين الطرف الأقصى حيث قال
( لمن دمن تزداد حسن رسوم ... على طول ما أقوت وطيب نسيم )
وقصة ذي الرمة مع عبد الملك تقارب قصة إسحاق مع المعتصم فإنه دخل عليه يوما فأمره بإنشاد شيء من شعره فأنشد قوله
( ما بال عينك منها الماء ينسكب )
وكان بعين عبد الملك رمش فهي تدمع أبدا فتوهم أنه خاطبه وعرض به فقال له ما سؤالك عن هذا يا ابن الفاعلة
فمقته وأمر بإخراجه

حسن الابتداء عند المحدثين
انتهى ما أوردته في حسن الابتداء للعرب والمولدين وفحول الشعراء ونبهت على حسنه وقبيحه ولكن جذبتني يا أخا العرب نسبة المتأخرين إلى أن أثبت في هذا المحل تشبيبها ونسيبها وأظهر في شرح هذه البديعية الآهلة بديعها وغريبها ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة إن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد وأن لكل زمان بديعا تمتع بلذة الجديد وهنا بحث لطيف وهو أن الاستشهاد بكلام المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس فيه نقص لأن البديع أحد علوم الأدب الستة وذلك أنك إذا نظرت في الكلام العربي إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ وهو علم اللغة وإما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه وهو علم التصريف وإما أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكلام المركب بحسب اختلاف أواخر الكلم وهو علم العربية وإما أن تبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي وهو علم المعاني وإما أن تبحث عن طرق دلالة الكلام إيضاحا وخفاء بحسب الدلالة العقلية وهو علم البيان وإما أن تبحث عن وجوه تحسين الكلام وهو علم البديع
فالعلوم الثلاثة الأول يستشهد عليها بكلام العرب نظما ونثرا لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب وغيرهم لأنها راجعة إلى المعاني ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم إذا كان الرجوع إلى العقل
وقال أبو الفتح عثمان بن جني المولدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ
قال ابن رشيق في العمدة الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض فإنهم حضروا الحواضر وتفننوا في المطاعم والملابس وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم من فضل التشبيه ونحوه ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائما لامه وقال له لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه فقال له أنشدني شيئا من قوله أعجز عن مثله فأنشده في صفة الهلال
فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر )
فقال له ابن الرومي زدني فأنشده
( كأن آذريونها ... والشمس فيه كاليه )
( مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية )

فقال واغوثاه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ذاك إنما يصف ماعون بيته لأنه ابن الخلفاء وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به أمدح هذا مرة وأهجو هذا كرة وأعاتب هذا تارة وأستعطف هذا طورا
انتهى كلام ابن رشيق
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ رحمه الله تعالى قد استشهد في شرح البردة الذي سماه بالرقم بغالب أهل عصره في ما عرض له من أنواع البديع حتى أورد لهم شيئا من محاسن الزجل
رجع إلى ما كنا فيه من حسن الابتداء وتناسب القسمين وإيراد ما وعدنا به من كلام المتأخرين
قال قاضي هذه الصناعة وفاضلها والمتأخر الذي لم يتقدم عليه بغير الزمان أوائلها
( زار الصباح فكيف حالك يا دجى ... قم فاستذم بفرعه أو فالنجا )
أنظر إلى حسن هذا الابتداء كيف جمع مع اجتناب الحشو بين رقة النسيب وطرب التشبيب وتناسب القسمين وغرابة المعنى
ومثله قوله يخاطب العاذل
( أخرج حديثك من سمعي فما دخلا ... لا ترم بالقول سهما ربما قتلا )
وما ألطف ما قال بعده
( وما يخف على قلبي حديثك لي ... لا والذي خلق الإنسان والجبلا )
ومثله قوله
( سمعتك والقلب لم يسمع ... فكم ذا تقول وكم لا أعي )
وما ألطف ما قال بعده
( يقول وما عنده أنني ... بغير فؤاد ولا أضلع )
( أما مع هذا الفتى قلبه ... فقلت نعم يا فتى ما معي )
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه فإن الأذواق السليمة تنتبه به إلى فتح هذا الباب وهو
( يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت ... نزحتم فهي بعد الباب ما نزحت )

والقصيدة كلها تحف وطرف وعارضها ابن نباتة فما حلا معها مكرر نباته وأجرى الصفي معها ينابيع فكره فما صفا له معها مورد وجاراها الصفدي فتصفدت سوابق قوافيه عن لحاقها ومنها
( وروضة وجنات الورد قد خجلت ... فيها ضحى وعيون النرجس انفتحت )
( تشاجر الطير في أفنانها سحرا ... ومالت القضب للتعنيق فاصطلحت )
( والقطر قد رش نوب الدوح حين رأى ... مجامر الزهر في أذياله نفحت )
ومما يحسن نظامه في هذا السلك قوله
( رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا ... فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى )
ومما اختاره الشيخ جمال الدين بن نباته رحمه الله من ديوان أبي الفتوح نصر الله ابن قلاقس وهو حسن في هذا الباب قوله
( كم مقلة للشقيق الغض رمداء ... إنسانها سابح في بحر أنداء )
وقوله
( قفا واسألا مني زفيرا وأدمعا ... أكانا لهم إلا مصيفا ومربعا )
وهو من الغايات التي اختارها الشيخ جمال الدين بن نباتة من شعر ابن قلاقس فإنه قال طالعت ديوان الأديب البارع أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس فطالعت الفن الغريب وفتح علي بتأمل ألفاظه فتلوت ( نصر من الله وفتح قريب )
بيد أني وجدت له حسنات تبهر العقول فضلا وسيئات يكاد بذكرها ابن قلاقس يقلي
انتهى كلام الشيخ جمال الدين بن نباتة
ومما وقع في تناسب القسمين إلى الغاية قول الشيخ ظهير الدين بن البارزي رحمه الله وهو

( يذكرني وجدي الحمام إذا غنى ... لأنا كلانا في الهوى يعشق الغصنا )
ذكر الصلاح الكتبي في كتابه فوات الوفيات أن الشيخ أثير الدين أبا حيان قال رأيت الشيخ المذكور صوفيا بحماة المحروسة وأنشدني لنفسه هذه القصيدة وعدة مقاطيع منها
( أراك فأستحيي فأطرق هيبة ... وأخفي الذي بي من هواك وأكتم )
( وهيهات أن يخفى وأنت جعلتني ... جميعي لسانا في الهوى يتكلم )
وتوفي بعد الثمانين والستمائة وأما مطلع الشيخ شمس الدين بن العفيف في هذا الباب فظرافته لا تنكر لأنه كان ينعت بالشاب الظريف قال في شطره الأول
( أعز الله أنصار العيون ... )
وفي الثاني
( وخلد ملك هاتيك الجفون ... )
وما أظرف ما قال بعده
( وضاعف بالفتور لها اقتدارا ... وجدد نعمة الحسن المصون )
وما أحسن ابتداءات الشيخ عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة فجميعها نسجت على هذا المنوال منها قوله
( حروف غرامي كلها حرف إغراء ... على أن سقمي بعض أفعال أسماء )
وقوله
( ويلاه من نومي المشرد ... أواه من شملي المبدد )
وقوله
( أهلا بطيفكم وسهلا ... لو كنت للإغفاء أهلا )
وما أحلى ما قال بعده
( لكنه وافي وقد ... حلف السهاد علي أن لا )
وقد توارد هو وابن عنين في هذا المعنى وكل كساه ديباجة تأخذ بمجامع القلوب ومطلع ابن عنين قوله
( ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى )

وقوله مهيار الديلمي في هذا الباب مشهور والذي أقوله إن الشيخ جمال الدين ابن نباتة نبات هذا البستان وقلادة هذا العقيان ومن مطالعه التي هي أبهج من مطالع الشمس قوله في هذا الباب
( في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد ... هذا المدام وهاتيك العناقيد )
وقوله
( بدا ورنت لواحظه دلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا )
وقوله
( سلبت عقلي بأحداق وأقداح ... يا ساجي الطرف بل يا ساقي الراح )
وما ألطف ما قال بعده
( سكران من مقلة الساقي وقهوته ... فاترك ملامك في السكرين يا صاح )
وقوله
( إنسان عيني بتعجيل السهاد بلي ... عمري لقد خلق الإنسان من عجل )
وقوله
( قام يرنو بمقلة كحلاء ... علمتني الجنون بالسوداء )
وقوله
( نفس عن الحب ما حادث وما غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت )
وقد تقدم شروط لا بد من اجتنابها في حسن الابتداء منها الحشو ولكن وقاك الله حشو اللوزينج
وقوله
( لام العذار أطالت فيك تسهيدي ... كأنها لغرامي لام توكيد )
ولولا الإطالة لأفعمت الأذواق من هذا السكر النباني
ورأيت للشيخ صفي الدين الحلي في الأرتقيات قصيدة قافية مطلعها في هذا الباب غاية وهو قوله
( قفي ودعينا قبل وشك التفرق ... فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي )
وأنشدني من لفظه الشيخ عز الدين الموصلي قصيدة نونية نظمها بحماة ومطلعها في حسن الابتداء حسن
( سمعنا حمام الدوح في روضة غنا ... فأذكرنا ربع الحبائب والمغنى )
ولقد سهوت عن مطلع الشيخ علاء الدين علي بن المظفر الكندي الشهير بالوداعي فإنه ليس له في تناسب القسمين قسيم وهو
( بدر إذا ما بدا محياه ... أقول ربي وربك الله )

وعارضه الشيخ جمال الدين ابن نباته في هذه القصيدة بعينها وترقى إلى مطلع بدره وزاحمه في حسنه فمطلع الشيخ جمال الدين
( له إذا غازلتك عيناه ... سهام لحظ أجارك الله )
ومن مطالعي التي حصل لي فيها الفتوح في هذا الباب قولي
( طلعتم بدورا في أعز المطالع ... فبشرني قلبي بسعد طوالعي )
وقولي
( إغراء لحظك ما لي منه تحذير ... ولا لتعريف وجدي فيك تنكير )
وقولي
( في عروض الجفا بحور دموعي ... ما أفادت قلبي سوى التقطيع )
وقولي
( لله قوم لنظم الوصل قد نثروا ... شعرت في حبهم يا ليتهم شعروا )
وقولي
( جردت سيف اللحظ عند تهددي ... يا قاتلي فسلبتني بمنجرد )
وقولي
( هواي بسفح القاسمية والجسر ... إذا هب ذاك الريح فهو الهوى العذري )
وكأني بمنتقد تألم قلبه على المتقدمين بكثرة النقد ومالت نفسه إلي مع المتأخرين ليستوفي الشروط الأدبية في مباشرة هذا العقد
وقولي
( قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا )
فأقول وبالله المستعان إن جماعة من المخاديم بدمشق رسموا أن أعارض شيئا من نظم الشيخ جمال الدين بن نباته وتخيروا لي خمس قصائد منها قصيدته الكافية التي مطلعها
( تصرمت الأيام دون وصالك ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك )
فلما انتهيت إلى معارضتها وجدت بين الشطر الثاني من المطلع وبين الشطر الأول مباينة كما تقدم في مطلع امرئ القيس من الكلام على أن في شطره الأول ما ليس في الثاني
وقد اتفق علماء البديع على أن عدم تناسب القسمين نقص في حسن الابتداء وقد تقدم قول زكي الدين بن أبي الأصبع إن مطلع النابغة أفضل من مطلع امرئ القيس لتناسب القسمين وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني
انتهى ولو قال الشيخ جمال الدين في مطلعه

( تمذهبت في هجري بطول مطالك ... فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك )
لجمع بين تناسب القسمين
ومطلعي الذي عارضت به الشيخ جمال الدين
( رضيع الهوى يشكو فطام وصالك ... فداوي بني الحب يا ابنة مالك )
وكذلك من مطلع الشيخ صفي الدين الحلي في قصيدته الجيمية التي هي من جملة القصائد الأرتقيات التي امتدح بها الملك المنصور صاحب ماردين
( جاءت لتنظر ما أبقت من المهج ... فعطرت سائر الأرجاء بالأرج )
فالشطر الثاني ليس من جنس الشطر الأول فإن الشطر الأول في الطريق الغرامية ليس له مثيل ومن أنكر هذا النقد ينتظر في مطلع الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله سره فإنه في هذا الباب طرفة وهو
( ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج )
وهنا نكتة لطيفة تؤيد هذا النقد
اتفق أن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله
( وا طول شوقي إلى ثغور ... ملأى من الشهد الرحيق )
( عنها أخذت الذي تراه ... يعذب من شعري الرقيق )
لما ورد إلى هذه البلاد اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير وتطفل على موائد طريقته الغرامية وسأله الإرشاد إلى سلوكها فقال له طالع ديوان الحاجري والتلعفري وأكثر المطالعة فيهما وراجعني بعد ذلك فغاب عنه مدة وأكثر من مطالعة الديوانين إلى أن حفظ غالبهما ثم اجتمع به بعد ذلك وتذاكرا في الغراميات فأنشده الصاحب بهاء الدين زهير في غضون المحاضرة يا بان وادي الأجرع وقال أشتهي أن يكمل لي هذا المطلع فافتكر قليلا وقال سقيت غيث الأدمع فقال والله حسن لكن الأقرب إلى الطريق الغرامي أن تقول هل ملت من طرب معي وما ألطف مطلع الحاجري في هذا الطريق

( لك أن تشوقني إلى الأوطان ... وعلي أن أبكي بدمع قان )
والآراء على هذا النوع تستحسن هنا مطلع ناصر الدين بن النقيب فإنه أعدل شاهد مقبول والتشبيب بنفسه الطيب يغني في هذه الحضرة عن الموصول وهو
( قلدت يوم البين جيد مودعي ... دررا نظمت عقودها من أدمعي )
وبالنسبة إلى حسن الابتداءات مطلع الشيخ برهان الدين القيراطي مع حسنه وبهجته فيه نقص وهو
( قسما بروضة خدها ونباتها ... وبآسها المخضل في جنباتها )
فإنه لم يأت بجواب القسم ولا ما يحسن السكوت على مطلعه ولا تتم الفائدة إلا به
ومشايخ البديع قرروا أن لا يكون المطلع متعلقا بما بعده في حسن الابتداء
وقد آن أن أحبس عنان القلم فإن الشرح قد طال ولم أطله إلا ليزداد الطالب إيضاحا ويداوي علل فهمه بحكم المتقدمين ويتنزه في رياض الأدب على النبات الغض من نظم المتأخرين

براعة الاستهلال في النظم
انتهى ما أوردته في حسن الابتداء وقد فرع المتأخرون منه براعة الاستهلال في النظم والنثر وفيها زيادة على حسن الابتداء فإنهم شرطوا في براعة الاستهلال أن يكون مطلع القصيدة دالا على ما بنيت عليه مشعرا بغرض الناظم من غير تصريح بل بإشارة لطيفة تعذب حلاوتها في الذوق السليم ويستدل بها على قصده من عتب أو عذر أو تنصل أو تهنئة أو مدح أو هجو وكذلك في النثر فإذا جمع الناظم بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان من فرسان هذا الميدان وإن لم يحصل له براعة الاستهلال فليجتهد في سلوك ما يقوله في حسن الابتداء
وما سمي هذا النوع براعة الاستهلال إلا لأن المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به ورفع الصوت في اللغة هو الاستهلال يقال استهل المولود صارخا إذا رفع صوته عند الولادة
وأهل الحجيج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية وسمي الهلال هلالا لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته
ومما وقع من براعات الاستهلال التي

تشعر بغرض الناظم وقصده في قصيده براعة قصيدة الفقيه نجم الدين عمارة اليمني حيث قال
( إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب )
فإشارات العتب والشكوى لا تخفى على أهل الذوق في هذه البراعة ويفهم منها أن بقية القصيدة تعرب عن ذلك فإن زكي الدين بن أبي الإصبع قال براعة الاستهلال هي ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله وهذه القصيدة في حكمها وتحشمها وتسيير أمثالها نهاية والموجب لنظمها على هذا النمط أنه كان بينه وبين الكامل بن شارر صحبة أكيدة قبل وزارة أبيه فلما وزر استحال عليه فكتب إليه هذه القصيدة التي من جملتها
( ولا تحتقر كيدا صغيرا فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب )
ومنها
( إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب )
( فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكر علينا جيشه بالعجائب )
ومنها
( وما راعني غدر الشباب لأنني ... ألفت لهذا الخلق من كل صاحب )
ومنها
( إذا كان هذا الدر معدنه فمي ... فصونوه عن تقبيل راحة واهب )
( رأيت رجالا حالهم في مآدب ... لديكم وحالي عندكم في نوادب )
( تأخرت لما قدمتكم علاكم ... علي وتأبى الأسد سبق الثعالب )
( ترى أين كانوا في مواطني التي ... غدوت لكم فيهن أكرم خاطب )
( ليالي أتلو ذكركم في مجالس ... حديث الورى فيها بغمز الحواجب )
ومن ألطف البراعات وأحشمها براعة مهيار الديلمي فإنه بلغه أنه وشي به إلى ممدوحه فتنصل من ذلك بألطف عذر وأبرزه في معرض التغزل والنسيب فقال
( أما وهواها حلفة وتنصلا ... لقد نقل الواشي إليك فامحلا )
وما أحلى ما قال بعده
( سعى جهده لكن تجاوز حده ... وكثر فارتابت ولو شاء قللا )

واذكرني مهيار بحسن براعته ما كتبت به إلى سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين ملك المتأدبين أبي الحسن علي بن الآدمي الحنفي الناظر في الحكم العزيز بالديار المصرية والممالك الإسلامية جمل الله الوجود بوجوده من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية بدمشق المحروسة ورياحين الشبيبة غضة وكانت مطالعاتي قد تأخرت عن أبوابه العالية لعارض حجب الفكر عن هذا الفن وهي رسالة مشتملة على نظم ونثر فصدرت الجواب بقصيدة ترفل في حلل النسيب على طريق مهيار وكلها براعة استهلال أولها
( وصلت ولكن بعد طول تشوقي ... ودنت وقد رقت لقلبي الشيق )
وما أحلى ما قلت بعده
( فثملت من طرب برجع حديثها ... فكأنما قد نادمت بمعتق )
وجميعها على هذا الطريق البديعي ومثله
إن المقر المخدومي الأميني الحمصي لما انتقل من توقيع حمص المحروسة إلى صحابة ديوان الإنشاء بدمشق قصد نقلتي من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية وحب حماه يفتر العزم عن ذلك وهذا يفهم من قولي في بعض قصائدي فيها
( يلذ عناق الفقر لي بفنائها ... وفي غيرها لم أرض بالملك والرهط )
ولكنه قطع أسئلته العالية بعد أن كانت كؤوس الإنشاء دائرة بيننا فكتبت إليه بقصيدة تشعر بعتب لطيف وبلابل الغزل تغرد في أفنانها على طريقة مهيار الديلمي وطريق مولانا قاضي القضاة صدر الدين عظم الله تعالى شأنه وبراعة استهلالها
( من بأسياف هجرهم كلمونا ... ما عليهم لو أنهم كلمونا )
ولم أعرب في نحو هذه القصيدة عن غير هذه الإشارات اللطيفة
ومنها
( غلقوا باب وصلهم فتح الله ... لهم بالهناء فتحا مبينا )
( وصلوا هجرنا وعيش هواهم ... لم نحل عنهم ولو قطعونا )
( ملكوا رقنا فصرنا عبيدا ... ليتهم بعد رقنا كاتبونا )

ولم أزل أغازل عيون هذه المعاني إلى المخلص فقلت
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
( والحشا لم يخن عهود وفاكم ... فاسألوا من غدا عليها أمينا )
ومما يشعر بالتهنئة والنصر على الأعداء براعة العلامة لسان الدين بن الخطيب وهي
( الحق يعلو والأباطل تسفل ... والحق عن أحكامه لا يسأل )
فإنه قال نظمت للسلطان أسعده الله وأنا بمدينة سلا لما انفصل طالبا حقه بالأندلس قصيدة كان صنع الله مطابقا لاستهلالها ووجهت بها إلى رندة قبل الفتح ثم لما قدمت أنشدتها بين يديه بعد الفتح وفاء بنذري وسميتها الفتح الغريب في الفتح القريب منها
( فإذا استحالت حالة وتبدلت ... فالله عز و جل لا يتبدل )
( واليسر بعد العسر موعود به ... والصبر بالفرج القريب موكل )
( والمستعد بما يؤمل ظافر ... وكفاك شاهد قيدوا وتوكلوا )
ومنها
( محمد والحمد منك سجية ... بحليها بين الورى يتجمل )
( أما سعودك فهو دون منازع ... عقد بأحكام القضاء يسجل )
( ولك السجايا الغر والشيم التي ... بغريبها يتمثل المتمثل )
( ولك الوقار إذا نزلت على الربا ... وهفت من الروع الهضاب المثل )
ومنها
( عوذ كمالك ما استطعت فإنه ... قد تنقص الأشياء مما تكمل )
( تاب الزمان إليك مما قد جنى ... والله يأمر بالمتاب ويقبل )
( إن كان ماض من زمانك قد مضى ... بإساءة قد سرك المستقبل )
( هذا بذاك فشفع الثاني الذي ... أرضاك فيما قد جناه الأول )
( والله قد ولاك أمر عباده ... لما ارتضاك ولاية لا تعزل )

( وإذا تغمدك الإله بنصره ... وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل )
ومنها
( وظعنت عن أوطان ملكك راكبا ... متن العباب فأي صبر يجمل )
( والبحر قد خفقت عليك ضلوعه ... والريح تبتلع الزفير وترسل )
( ولك الجواري المنشآت قد اغتدت ... تختال في برد الشباب وترفل )
( خرقاء يحملها ومن حملت به ... من يعلم الأنثى وماذا تحمل )
( صبحتهم غرر الجياد كأنما ... سد الثنية عارض متهلل )
( من كل منجرد أغر محجل ... يرمي الجياد به أغر محجل )
( زجل الجناح إذا أجد لغاية ... وإذا تغنى للصهيل فبلبل )
( جيد كما التفت الظليم وفوقه ... أذن ممشقة وطرف أكحل )
ومنها
( وخليج هند راق حسن صفائه ... حتى يكاد به يقوم الصيقل )
( غرقت بصفحته النمال وأوشكت ... تبغي النجاة فأوثقتها الأرجل )
( فالصرح منه ممرد والصفح منه ... مورد والشط منه مهدل )
( وبكل أزرق إن شكت ألحاظه ... مره العيون فبالعجاجة يكحل )
( متأود أعطافه في نشوة ... مما يعل من الدماء وينهل )
( عجبا له إن النجيع بطرفه ... رمد ولا يخفى عليه مقتل )
( لله موقفك الذي وثباته ... وثباته مثل به يتمثل )
( والخيل خط والمجال صحيفة ... والسمر تنقط والصوارم تشكل )
( والبيض قد كسرت حروف جفونها ... وعوامل الأسل المثقف تعمل )

وهي طويلة وجميعها فرائد ولم أكثر منها إلا لعلمي أن نظم الوزير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى غريب في هذه البلاد
ومن البراعات التي يفهم من إشاراتها أنها تهنئة بمولود قول أبي بكر بن الخازن رحمه الله تعالى
( بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أفق العلا صعدا )
ومما يشعر بقرينة الذوق أن الناظم يريد الرثاء قول التهامي
( حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار )
وهذه القصيدة يرثي بها ولده وهي نسيج وحدها وواسطة عقدها
ومنها
( ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار )
( جبلت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذاء والأقذار )
( وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار )
( فالعيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال سار )
وما أعلم أن أحدا استهل للمراثي بأحسن من هذه البراعات ومنها يشير إلى ولده وهو من المعاني المستغربة
( جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري )
وأما قصيدة الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى في تهنئة السلطان الملك الأفضل بسلطنة حماة وتعزيته بوفاة والده الملك المؤيد سقى الله ثراه فإنها من عجائب الدهر فإنه جمع فيها بين نقيضي المدح والرثاء في كل بيت وبراعتها
( هناء محاذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما )
( ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما )
( يرد مجاري الدمع والبشر واضح ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى )

سبحان المانح والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه
وكتب إليه الشيخ صلاح الدين الصفدي قصيدة ضمن فيها إعجاز معلقة امرئ القيس وصرح في براعتها بغليظ العتب ولم يأت في البراعة بإشارة لطيفة يفهم منها القصد بل صرح وقال
( أفي كل يوم منك عتب يسوءني ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
فأجابه الشيخ جمال الدين بقصيدة ضمن فيها الأعجاز المذكورة وبراعة استهلالها
( فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبا ... أفاطم مهلا بعض هذا التدلل )
والإشارة بقوله أفاطم مهلا بعض هذا التدلل لا يخفى على حذاق الأدب ما مراده منها وفي هذا القدر كفاية وما أحلى ما قال بعده وهو مما قصده في تلك الإشارة
( فدونك عتب اللفظ ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل )
وهنا بحث وهو إني وقفت على بديعية الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي الشهيرة ببديعية العميان فوجدته قد صرح في براعتها بمدح النبي وهي
( بطيبة إنزل ويمم سيد الأمم ... وانثر له المدح وانشر طيب الكلم )
فهذه البراعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده بل أطلق التصريح ونثر المدح ونشر طيب الكلم فإن قال قائل إنها براعة استهلال قلت إن البديعية لا بد لها من براعة وحسن مخلص وحسن ختام فإذا كان مطلع القصيدة مبنيا على تصريح المدح لم يبق لحسن التخلص محل ولا موضع ونظم هذه القصيدة سافل بالنسبة إلى طريق الجماعة غير أن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبا جعفر الأندلسي شرحها شرحا مفيدا
وهنا فائدة وهو أن الغزل الذي يصدر به المديح النبوي يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب ويتضاءل ويتشبب مطربا بذكر سلع ورامة وسفح العقيق والعذيب

والغوير ولعلع وأكناف حاجر ويطرح ذكر محاسن المرد والتغزل في ثقل الردف ودقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد وخضرة العذار وما أشبه ذلك وقل من يسلك هذا الطريق من أهل الأدب وبراعة الشيخ صفي الدين الحلي في هذا الباب من أحسن البراعات وأحشمها وهي
( إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عرب بذي سلم )
فقد شبب بذكر سلع والسؤال عن جيبرة العلم والسلام على عرب بذي سلم ولا يشكل على من عنده أدنى ذوق أن هذه البراعة صدرت لمديح نبوي ومطلع البردة أيضا في هذا الباب من أحسن البراعات أيضا وهو
( أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعا جرى من مقلة بدم )
فمزج دمعه بدمه عند تذكر جيران بذي سلم من ألطف الإشارات إلى أن القصيدة نبوية وما أحلى ما قال بعده
( أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من أضم )
وحشمة الشيخ جمال الدين بن نباتة في براعة قصيدته الرائية النبوية يتعلم الأديب منها سلوك الأدب وهي
( صحا القلب لولا نسمة تتخطر ... ولمعة برق بالفضا تتسعر )
وما أحشم قوله بعده
( وذكر جبين المالكية أن بدا ... هلال الدجى والشيء بالشيء يذكر )
( سقى الله أكناف الفضا سائل الحيا ... وإن كنت أسقى أدمعا تتحدر )

وأما قصيدتي النبوية الموسومة بأمان الخائف فإنها عزيب هذا البارق وحلبة مجرى هذه السوابق لأنني لم أخرج في تغزلها عن التباري والتشبيب بذكر المنازل المعهودة وبراعتها
( شدت بكم العشاق لما ترنموا ... فغنوا وقد طاب المقام وزمزم )
وقلت بعده
( وضاع شذاكم بين سلع وحاجر ... فكان دليل الظاعنين إليكم )
( وجزتم بواد الجزع فاخضر والتوى ... على خده بالنبت صدع منمم )
( ولما روى أخبار نشر ثغوركم ... أراك الحمى جاء الهوى يتنسم )
وما أليقه أن يكون صدرا للمدائح النبوية ومنها
( فيا عرب الوادي المنيع حجابه ... وأعني به قلبي الذي فيه خيموا )
( رفعتم قبابا نصب عيني ونحوها ... تجر ذيول الشوق والقلب يجزم )
( ويا من أماتونا اشتياقا وصيروا ... مدامعنا غسلا لنا وتيمموا )
( منعتم تحيات السلام لموتنا ... غراما وقد متنا فصلوا وسلموا )
( يقولون لي في الحي أين قبابهم ... ومن هم من السادات قلت هم هم )
( عريب لهم طرفي خباء مطنب ... بدمعي وقلبي نارهم حين تضرم )
ومن ألطف الإشارات إلى أن هذا التغزل صدر قصيدة نبوية قولي منها
( أوري بذكر البان والزند والنقا ... وسفح اللوى والجزع والقصد أنتم )
ولم أزل في براعة الاستهلال أستهل أهلة هذه المعاني إلى أن وصلت إلى حسن التخلص فقلت

( تقنعت في حبي لهم فتعصبوا ... علي وهم سادات من قد تلثموا )
( لهم حسب عاني ببطحاء مكة ... لأن رسول الله في الأصل منهم )
ومن الأغزال التي لا تليق أن يكون غزلها لمديح قصيد نبوي قصيد السري الرفاء فإنه مدح بها الفاطميين وجدهم وجرح القلوب بندبة الحسين عليه السلام فإنه قال منها
( مهلا فما نقلوا آثار والده ... وإنما نقضوا في قتله الدينا )
وهذه القصيدة مشتملة على مدح النبي وآل بيته وندبة الحسين بن علي عليهما السلام فما ينبغي أن تكون براعتها
( نطوي الليالي علما أن ستطوينا ... فشعشعيها بماء المزن واسقينا )
ما أحق هذه البراعة ليعدها من المديح بقول القائل
( تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضى يا بعد ما أتمناه )
وما كفاه حتى قال بعد ذلك
( وتوجي بكؤوس الراح راحتنا ... فإنما خلقت للراح أيدينا )
( قامت تهز قواما ناعما سرقت ... شمائل البان من أعطافه اللينا )
( تدير خمرا تلقاها المزاج لها ... ألقيت فوق جنى الورد نسرينا )
( فلست أدري أتسقينا وقد نفحت ... روائح المسك منها أم تحيينا )
( وقد ملكنا زمان العيش صافية ... لو فاتنا الملك راحت عنه تسلينا )
أقول غفر الله له هذا الغزل فيه إساءة أدب على مماديحه فإنه شبب بوصف القيان وبذكر الخمر وبينه وبين المديح مباينة عظيمة
رجع إلى البراعات البارعة التي تشعر أنها صدر المديح النبوي بالإشارات اللطيفة منها براعة الشيخ برهان الدين القيراطي وهي قوله
( ذكر الملتقى على الصفراء ... فبكاه بدمعة حمراء )

وأما براعة بديعيتي فإنها ببركة ممدوحها نور هذه المطالع وقبلة هذا الكلام الجامع فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء بالشرط المقرر لكل منهما وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية وشنفت بأقراط غزلها الأسماع مع حشمة الألفاظ وعذوبتها وعدم تجافي جنوبها عن مضاجع الرقة وبديعية صفي الدين غزلها لا ينكر غير أنه لم يلتزم فيها تسمية النوع البديعي مورى به من جنس الغزل ولو التزمه لتجافت عليه تلك الرقة
وأما الشيخ عز الدين الموصلي فإنه لما التزم ذلك نحت من الجبال بيوتا وقد أشرت إلى ذلك في الخطبة بقولي وهي البديعية التي هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال وجاريت الصفي مقيدا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال وسميتها تقديم أبي بكر عالما أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال
ومن أحسن إشارات براعتي التي تشعر أنها صدر مديح نبوي تشبيبي بعرب ذي سلم وخطابي لهم بأن لي في مدائحهم براعة تستهل الدمع وكأنني وعدتهم بشيء لا بد من القيام به وهذا حسبما أراده ابن أبي الأصبع بقوله براعة الاستهلال هي ابتداء الناظم بمعنى ما يريد تكميله

براعة الاستهلال في النثر
انتهى ما أوردته هنا من البراعات البارعة نظما وأما براعات النثر فإنها مثلها إن لم تكن براعة الخطبة أو الرسالة أو صدر الكتاب المصنف دالة على غرض المنشىء وإلا فليست ببراعة استهلال
وقد رأيت غالب البديعيين قد اكتفوا عند استشهادهم على براعة الاستهلال في النثر بقول الصاحب عمرو بن مسعدة كاتب المأمون فإنه امتحن أن يكتب للخليفة يخبره أن بقرة ولدت عجلا وجهه كوجه الإنسان فكتب الحمد لله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام
ورأيت الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعيته قد ألقى عند الاستشهاد بها عصا التسيار واحتجبت عنه في هذا الأفق الشموس والأقمار أين هو من علو مقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وقد كتب عن السلطان الملك الظاهر إلى الأمير سنقر الفارقاني جوابا عن مطالعته بفتح سوس من بلاد السودان واستهل بقوله ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة )
الله

أكبر إن من البلاغة لسحرا والله ما أظن هذا الاتفاق الغريب اتفق لناثر ولإهلال كاتب المأمون في هذا الاستهلال بزاهر وهذا المثال الشريف ليس له مثال منه صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد وأتت على كل جبار عنيد وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء ( وما ربك بظلام للعبيد )
وبراعة الشيخ جمال الدين بن عبد الرزاق الأصفهاني في رسالة القوس تجاري براعة القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في هذه الحلبة وتساويها في علو هذه الرتبة فإنه أتى فيها بالعجائب وأصاب غرض البلاغة بسهم صائب واستهلها بعد البسملة بقوله تعالى ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فاتبع سببا ) منها شيطان تطلع شمس النصرة من بين قرنيه مارد لا يصلح إلا بتعريك أذنيه صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
وأما براعة الشيخ جمال الدين بن نباتة في خطبة كتابه المسمى بخبز الشعير فإنها خاص الخاص ولا بد من مقدمة تكون هي النتيجة الموجبة لتسمية هذا الكتاب بخبز الشعير فإنه مأكول مذموم وما ذاك إلا إنه كان يخترع المعنى الذي لم يسبق إليه ويسكنه بيتا من أبياته العامرة بالمحاسن فيأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي بلفظه ولا يغير فيه غير البحر وربما عام به في بحر طويل يفتقر إلى كثرة الحشو واستعمال ما لا يلائم فلم يسع الشيخ جمال الدين إلا أنه جمعه من نظمه ونظم الشيخ صلاح الدين واستهل خطبته بقوله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) ورتب كتابه المذكور على قوله قلت أنا فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
فمن ذلك قول الشيخ جمال الدين قلت
( ومولع بفخاخ ... يمدها وشباك )
( قالت لي العين ماذا ... يصيد قلت كراكي )

فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( غار على سرح الكرى عندما رمى الكراكي ... غزال للبدور يحاكي )
( فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه ... ألم تنظريه كيف صاد كراكي )
ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين قلت
( أسعد بها يا قمري برزة ... سعيدة الطالع والغارب )
( صرعت طيرا وسكنت الحشا ... فما تعديت عن الواجب )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال من البحر نفسه
( قلت له والطير من فوقه ... يصرعه بالبندق الصائب )
( سكنت في قلبي فحركته ... فقال لم أخرج عن الواجب )
قال الشيخ جمال الدين قلت
( وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه )
( شغف العذار بخده ورآه قد ... نعست لواحظه فدب عليه )
فأخذه الصلاح وقال
( وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى ... تميل حمامات الأراك إليه )
( له عارض لما رأى الطرف ناعسا ... أتى خده سرا فدب عليه )
وأحسن ما وقع في هذا الباب للشيخ جمال الدين أنه قال
( بروحي عاطر الأنفاس ألمى ... ملي الحسن خالي الوجنتين )
( له خالان في دينار خد ... تباع له القلوب بحبتين )
فأخذه الصلاح وقال
( بروحي خده المحمر أضحت ... عليه شامة شرط المحبة )
( كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطه بدينار وحبه )

فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال لا إله إلا الله الشيخ صلاح الدين سرق كما يقال من الحبتين حبة
قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا غادرا بي ولم أغدر بصحبته ... وكان مني محل السمع والبصر )
( قد كنت من قلبك القاسي أخال جفا ... فجاء ما خلته نقشا على حجر )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( ما زلت أشكو حين وفر لي الضنا ... فسما وأسلمني إلى البلوى وفر )
( حتى توفر من شكاية لوعتي ... لي قلبه فرأيت نقشا في حجر )
قال الشيخ جمال الدين قلت
( يا عاذلي شمس النهار جميلة ... وجمال قاتلتي ألذ وأزين )
( فانظر إلى حسنيهما متأملا ... وادفع ملامك بالتي هي أحسن )
فأخذه صلاح الدين مع البحر بل أخذ الكل مع القافية وقال
( بأبي فتاة من كمال صفاتها ... وجمال بهجتها تحار الأعين )
( كم قد دفعت عواذلي عن وجهها ... لما تبدت بالتي هي أحسن )
ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين وأجاد إلى الغاية
( فديتك أيها الرامي بقوس ... ولحظ يا ضنى قلبي عليه )
( لقوسك نحو حاجبك انجذاب ... وشبه الشيء منجذب إليه )
فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال
( تشرط من أحب فذبت وجدا ... فقال وقد رأى جزعي عليه )
( عقيق دمي جرى فأصاب خدي ... وشبه الشيء منجذب إليه )
وما أظن الشيخ صلاح الدين غفر الله له لما سمع ما قاله الشيخ جمال الدين ونظم بعده هذين البيتين كان في حيز الاعتدال وأين انجذاب القوس إلى الحاجب من

انجذاب الدم إلى الخد وليته في براعة استهلاله بقول الله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) قال بعدها اللهم ومن دخل بيتي كافرا بفوائدي المنعمة وبيت شعري سارقا من ألفاظه ومعانيه المحكمة فأخجله في سره وعلانيته وعاقبه على قوله ونيته
ومنها بلغني أن بعض أدباء عصرنا ممن منحته ودي وأنفقت على ذهنه الطالب ما عندي وأقمته وهو لا يدري الوزن مقام من زكاة نقدي وأودعته ذخائر فكري فأنفقها وأعرته أوراقي العتيقة فلا والله ما ردها ولا أعتقها بل إنه غير الثناء بالهجاء والولاء بالجفاء ونسبني إلى سرقة بيوت الأشعار مع الغناء عنها والغنى فتغاضيت وقلت هماز مشاء بنميم وغصة صديق أتجرعها ولو كانت من حميم وأخليت من حديثه باب فمي ومجلس صدري وصرفت ذكره عن فكري
ولكن وقفت له على تصانيف وضعها في علم الأدب والعلم عند الله تعالى ووشحها بشعره وشعري المغصوب المنهوب يقول يا صاحبي ألا لا
وما يتوضح من جيد تلك الأشعار لمعة إلا ومن لفظي مشكاتها ولا تتضوع زهرة إلا ومني في الحقيقة نباتها فضحكت والله من ذهنه الذاهل وذكرت على زعمه قول القائل
( وفتى يقول الشعر إلا أنه ... فيما علمنا يسرق المسروقا )
وعجب له كيف رضي لنفسه هذا الأمر منكرا وكيف حلا لذوقه اللطيف هذا الحرام مكررا وقد أوردت الآن في هذا الكتاب قدرا كافيا ووزنا من الشعر وافيا وسميته خبز الشعير المأكول المذموم وعرضته على معدلة مولانا ليعلم أينا مع خليله مظلوم
ولولا الإطالة لأوردت جميع أبيات الشيخ جمال الدين التي دخلها الشيخ صلاح الدين بغير طريق ليرتدع القاصر عن التطاول إلى معاني الغير
ومن البراعات التي يستهل بها في هذا الأفق الذي مرآة سمائه صقيلة براعة المقر المخدومي القضائي الفخري عبد الرحمن بن مكانس مالك أزمة البلاغة وملك المتأخرين نظما ونثرا في رسالة كتبها إلى المقر المرحومي القضائي الزيني أبي بكر

ابن العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة وبقية الفضلاء الذين فضلوا بالطريق الفاضلية بسبب عبد الله القيرواني الضرير
فإني نقلت من خط المشار إليه ما صورته ورد علينا شخص من القيروان ضرير يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي من المعاني فتردد إلي في مجالس متفرقة ثم بلغني بعد ذلك أنه وشى إلى صاحبي الشيخ زين الدين بن العجمي بأني اهتضمت من جانبه وانتقصته وغضضت منه بالنسبة إلىالأدب وأنه يستعين بكلام الغير كثيرا فتأذى بسبب ذلك وتأذيت من كذب الناقل فكتبت إليه رقعة براعة استهلالها ( ليس على الأعمى حرج )
أقول إنه يستغنى بهذه البراعة عن الرسالة
منها وبلغ المملوك أنه رماه بعض الأصحاب برمية مثل هذه فأصمى وتردد إليه مرة أخرى ف ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى )
ولقد خسرت صفقته إذ المملوك ما برح مخلصا لمولانا في ولائه ومبايعا له على سلطنة البلاغة وأجل من تشرف بحمل لوائه
ومولانا بحمد الله أولى من استفتى قلبه واستدل على صفاء صدق محبته بشواهد المحبة والمسؤول من صدقاته أمران أحدهما الجواب فإن يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة والآخر رد كل فاسق عن هذا الباب العالي فإن أبا بكر أولى من يصلب في الردة
انتهى كلام القاضي فخر الدين
ولقد كشف الشيخ جمال الدين بن نباتة عن هذا الوجه القناع وأظهر من بهجته في رسالة السيف والقلم ما ليس لمطالع البدور عليه اطلاع فإن الرسالة مبنية على المفاخرة بينهما ولما انتصب القلم لمفاخرة السيف كانت براعته ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) واستهل بعدها بقوله الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم
وبراعة استهلال السيف قوله تعالى ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) واستهل بعده بقوله الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وما أظن أن أحدا من المتقدمين نسج على هذا المنوال ولا نفث في عقد أقلامهم مثل هذا السحر الحلال

وممن طلع من العصريين في هذا الأفق الساطع فأبدر ورقي ببلاغته أعواد هذا المنبر القاضي ناصر الدين بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية فإنه اتفق له بحماة محنة كان لطف الله تعالى متكفلا له بالسلامة منها ولم يضرم نارها إلا من غذي بلبان نعمته قديما وحديثا فالحمد لله الذي أسعف الإسلام والمسلمين بنجاته وأمتع العلم الشريف والرياسة بطول حياته ولما هاجر من حماة المحروسة إلى دمشق المحروسة كان إذ ذاك مولانا السلطان الملك المؤيد كافلها ففوض إليه خطابة الجامع الأموي فلم يبق أحد من أعيان دمشق حتى حضر في تلك الجمعة لأجل سماع الخطبة فكانت براعة خطبته الحمد لله الذي أيد محمدا بهجرته ونقله من أحب البقاع إليه لما اختاره من تأييده ورفعته فعلت بالجامع الأموي أصوات ترنم حركت أعواد المنبر طربا وكاد النسر أن يصفق لها بجناحيه عجبا
وما ألطف براعة الشيخ العلامة نور الدين أبي الثناء محمود الشافعي الناظر في الحكم العزيز بحماة المحروسة والشهير بخطيب الدهشة بحماة المحروسة في كتاب أدعيته المسمى بدواء المصاب في الدعاء المجاب وهي الحمد لله سامع الدعاء ودافع البلاء
وفيها البناء والتأسيس فإنه أشار بسامع الدعاء إلى الدعاء المجاب وبدافع البلاء إلى دواء المصاب
وأما براعة خطيب الخطباء أبي يحيى عبد الرحيم بن نباتة الفارقي فإنها شغلت أفكاري مدة ولم يسعني غير السكوت والإحجام عنها فإنه استهلها في خطبة وفاة النبي بقوله الحمد لله المنتقم ممن خالفه المهلك من آسفه
ولقد اعتذر عنها جماعة من أكابر العلماء
وأورد الشيخ سري الدين بن هانئ في شرحه الذي كتبه على ديوان الخطب على هذه البراعة عذرا لأبي البقاء أرجو أن تهب عليه نسمات القبول
وما أحشم ما استهل الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي في خطبة وفاة النبي الحمد لله الذي استأثر بالبقاء وحق له أن يستأثر وحكم بالفناء على سكان هذا الفناء فأذعنوا لحكمه القاهر
وأما خطبة الشيخ صفي الدين في صدر شرح بديعيته فإن استهلالها نير ولكن فيه نظر وبعض مباينة عما نحن فيه فإنه قال الحمد لله الذي حلل لنا سحر البيان

وكتابه مبني على البديع
ولهذا استهليت خطبة شرح بديعيتي بقولي الحمد لله البديع الرفيع
ولما جمعت ديواني استهليت خطبتي بقولي الحمد لله الذي لا يحصر مجموع فضله ديوان
وكان قد رسم لي أن أنشىء صداقا للملك الناصر وأنا إذ ذاك بدمشق وقد حل ركابه الشريف بها على بنت المرحوم الشريف السيفي كشبغا الظاهر الحموي فاستهليت بقولي الحمد لله الذي أيد السنة الشريفة بقوة وناصر
وتمثلت بعد هذا التاريخ بالمواقف الشريفة الإمامية الخليفية المستعينية العباسية زاد الله شرفها تعظيما فبرزت إلي أوامرها المطاعة أن أنشىء عهدا بكفالة السلطنة بالبلاد الهندية للسلطان العادل مظفر شاه شمس الدنيا والدين صاحب دهلي والفتوحات الهندية فاستهليت براعته بقولي الحمد لله الذي وثق عهد النجاح للمستعين به
وقلت بعد الاستهلال وثبت أوتاده ليفوز من تمسك من غير فاصلة بسببه وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظا فأفرغ على أطراف الأرض حلل الخلافة الشريفة وعلم أن في خلفها الزاهر زهرة الحياة الدنيا فقال عز من قائل ( إني جاعل في الأرض خليفة ) واختارها من بيت براعة استهلاله من أول بيت وضع للناس وسبقت إرادته وله الحمد ان تكون هذه النهاية الشريفة من سقاية بني العباس وذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة ثلاث عشرة وثمانمائة
ومما أنشأته في الديار المصرية وقد استقريت منشىء ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية تقليد مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي عظم الله شأنه بصحابة ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية بتاريخ شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة واستهليته بقولي الحمد لله الذي أودع محمدا سره وقلت بعد الاستهلال وجعله ناصر دينه فحل به عقد الشرك وشد أزره وأرسله لينشئ مصالح الأمة فهذبنا بترسلاته والله أعلم حيث يجعل رسالاته وبين ديوان الإنشاء الشريف بصاحب من بيت ظهر التمييز بكتابته وأيد الإسلام والمسلمين بملك مؤيد تمسك بمحمد وصحابته
وأنشأت بعد هذا التاريخ توقيعا لرئيس الطب بالديار المصرية فكانت براعته الحمد لله الحكيم اللطيف
وبراعة الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح لامية العجم في غاية الحسن

فإنه استهلها بقوله الحمد لله الذي شرح صدر من تأدب
والكتاب مبني على شيء من علم الأدب
وأما البراعات التي يحلو تقبيلها بوجنات الطروس فمنها براعة الشيخ جمال الدين ابن نباتة من رسالة كتبها إلى القاضي علاء الدين الحسني واستهلها بقوله يقبل الأرض العلية على السحاب نسبا
وقال بعد الاستهلال الموفية على حصباء الأنجم حسبا
هذا الأدب إن أطنبت في وصفه فهو فوق الوصف
وكتب إليه الشيخ برهان الدين القيراطي من القاهرة المحروسة إلى دمشق المحروسة رسالة بليغة واستهلها بقوله يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها
وقال بعد البراعة وحرس الله ذاتها وعمر معاني الحسن أبياتها
ومن أظرف ما وقع من البراعات المتوشحة برداء التبكيت براعة القاضي فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج فإنه كان له صديق منهم يعبده فكتب إليه رسالة يداعبه فيها واستهلها بقوله يقبل اليد الشهابية كثر الله عبيدها
وقال بعد البراعة وضاعف خدمها وأضعف حسودها
وقد خطر لي أن أوردها بكمالها لوجازتها وغرابة أسلوبها فإنه قال بعد يقبل الأرض الخ وينهي بعد ولاء يمتد ودعاء يستد وثناء كأنه عنبر أو كافور راوند إن مولانا توجه والأعضاء خلفه سائره وكل عين لغيبته ساهره ولا يخفى عليه شوق العليل إلى الشفاء والظمآن إلى صيب الماء والغريب إلى بلده والمحصور إلى سعة مسلكه ومقعده فمولانا يطوي هذه الشقة ويقصر هذه المدة ويدع أحد غلمانه يسد مسده فالمملوك قلق لسماع أخبار التشويش في البلاد وتطرق أهل الجرائم والفساد فمولانا يرسم لغلمانه أن يشمروا في خدمته ذيلا ويسهروا عليه بالنوبة لمن يطرق ليلا والله المسؤول أن تكون هذه السفرة معجلة ويخص فيها بالتبرك مخرجه ومدخله ويبلغه من فضله مزيدا ويجعل يومه عليه مباركا وليله عليه سعيدا
وكتب المقر المخدومي فضل الله بن مكانس مجد الأدب الذي ظهر من بيته

فجره ورضيع لبانه الذي ما سقانا منه ذرة إلا قلنا لله دره إلى والده المقر المرحومي الفخري من القاهرة إلى حلب وهو صحبة الركاب الشريف الظاهري يشكو إليه رمدا حصل له بعده وكان مبدأ الرسالة قوله
( ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول ... هذا وكم بيننا من ربعكم ميل )
وقال بعد الاستهلال لا استهلت لمولانا دموع ولا جفا جفنه مدى الليالي هجوع
منها يطالع العلوم الكريمة بما قاساه طرف المملوك من الرمد وما حصل عليه من الكمد
( إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهي )
( بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها )
فلو رآه وقد أخذت عيناه من العناصر الثلاثة بنصيب وعوضها الهواء عن التراب بمضاعفة الماء واللهيب لرأى من نارها ما يفحم القلوب ومن دمعها ما هو البلاء المصبوب واستمر انهمالها حتى أنشدها المتوجع قارنها الدمع فبئس القرين
وطالت مدة رمده حتى لقد أتى على الإنسان حين وتزايد خوف المملوك على مقلتيه وشحه بكريمتيه ففصد في الذراعين وكاد أن يصير لولا أن من الله تعالى عليه أثرا بعد عين
وكتب إلى المقر المخدومي المشار إليه سيدنا الإمام العلامة الذي صلت جماعة أهل العصر خلف إمامته وملك قياد البلاغة ببراعته وعبارته بدر الدين رحلة الطالبين أبو عبد الله محمد بن الدماميني المخزومي المالكي جوابا عن حل لغز في ورد أرسله إليه فاستهله بقوله يقبل الأرض وينهي ورود الجواب الذي شفى الصدور وروده وقال بعد الاستهلال واللغز الذي نسي بوروده منه بان الحمى وزروده منه فاستحلى المملوك منه بالتحريف ورده وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده فرده ذل التقصير عاريا عن ملابس عزه وأنشد قول ابن قلاقس وهو يقلى بنار عجزه
( إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم )

فظهر من طريق سعده نصره وعلم أن هذا الورد لا يحسن من غير تلك الحضرة وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها بيدي الراحة المخدومية بهجة ونضرة
ومنه وتمشى نظر المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحديقة فرأى كل وردة وأخت الوجنات الحمر فتحير أوردة هي أم شقيقة وعلمت أن الفكر القاصر لا يجاري من بديهته من بحار الفضل رويه وأن الخاطر الذي هو على ضعف من رعايا الأدب لا يقوى على سلطان هذا اللغز لأن شوكته قوية
منه وتمتعت من ورده الوارد بالمشموم ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم فاستقطر البين ماء الورد من حدقي
وكتبت إليه من القاهرة المحروسة في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة عند دخولي إليها في البحر هاربا من طرابلس الشام وقد عضت علي أنياب الحرب بثغرها رسالة مشتملة على حكاية الحال وريت في براعتها بمصنفين له أحدهما الفواكه البدرية الذي جمعه من ثمار أدبه والثاني نزول الغيث الذي نكت فيه على الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم للشيخ صلاح الدين الصفدي واستهليتها بقولي يقبل الأرض التي سقى دوحها بنزول الغيث وأثمر بالفواكة البدرية
وقلت بعد الاستهلال وطلع بدر كمالها من الغرب فسلمنا لمعجزاته المحمدية وجرى لسان البلاغة في ثغرها فسما على العقد بنظمه المستجاد وأنشد لا فض الله فاه وقد ابتسم عن محاسنه التي لم يخلق مثلها في البلاد
( لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام )
فأكرم به من مورد فضل ما برح منهله العذب كثير الزحام ومدينة علم تشرفت بالجناب المحمدي فعلى ساكنها السلام ومجلس حكم ما ثبت لمدعي الباطل به حجة وعرفات أدب إن وقفت بها وقفة صرت على الحقيقة ابن حجة وأفق معان بالغ في سمو بدر فلم يقنع بما دون النجوم وميدان عربية يجول فيه فرسان العربية من بني مخزوم ومنها أورى بدخوله إلى دمشق ومطارحته للجماعة وتالله ما لفرسان الشقر أو البلق في هذا الميدان مجال وإذا عرفوا ما حصل للفارس المخزومي عندهم من الفتح كفى الله المؤمنين القتال وينهي بعد أدعية ما برح المملوك منتصبا لرفعها وتعريدا ثنية ما

لسجع المطوق في الأوراق النباتية مثل سجعها وأشواقا برحت بالمملوك ولكن تمسك في مصر بالآثار
( وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار )
وهذه الرسالة لكونها نظمت في طويل البحر ومديده يفتقر إلى سرد غالبها لتعلقها بحكاية الحال وينهي وصول المملوك إلى مصر مخيما بكنانتها وهو بسهم البين مصاب مذعور لما عاينه من المصارع عند مقاتل الفرسان في منازل الأحباب مكلما من ثغر طرابلس الشام بألسنة الرماح محمولا على جناح غراب وقد حكم عليه البين أن لا يبرح سفره على جناح
( وكان في البين ما كفاني ... فكيف بالبين والغراب )
منها يا مولانا وأبثك ما لاقيت من أهوال البحر وأحدث عنه ولا حرج فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطع منه القلب لما دخل إلى دوائر تلك اللجج وشاهدت منه سلطانا جائرا يأخذ كل سفينة غصبا ونظرت إلى الجواري الحسان وقد رمت أزر قلوعها وهي بين يديه لقلة رجالها تسبى فتحققت أن رأي من جاء يسعى في الفلك غير صائب واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله وكم قلت من شدة الظمأ يا ترى قبل الحفرة أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة
( وهل أباكر بحر النيل منشرحا ... وأشرب الحلو من أكواب ملاح )
بحر تلاطمت علينا أمواجه حتى متنا من الخوف وحملنا على نعش الغراب وقامت واوات دوائره مقام مع فنصبنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب وقارن العبد فيه سوداء استرقت مواليها وهي جارية وغشيهم منها في اليم ما غشيهم فهل أتاك حديث الغاشية واقعها الريح فحملت بنا ودخلها الماء فجاءها المخاض وانشق قلبها لفقد رجالها وجرى ما جرى على ذلك القلب ففاض وتوشحت بالسواد في هذا المأتم وسارت على البحر وهي مثل وكم سمع فيها للمغاربة على ذلك التوشيح زجل برج

مائي ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة من تبطنها عد من المصبرين في التابوت تأتي بالطباق ولكن بالمقلوب لأن بياضها سواد وتمشي مع الماء وتطير مع الهواء وصلاحها عين الفساد إن نقر الموج على دفوفها لعبت أنامل قلوعها بالعود وترقصنا على آلتها الحدباء فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود وتتشامم وهي كما قيل أنف في السماء وإست في الماء وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها عند الميل وهي الصعدة الصماء فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين وتتصابى إذا هبت الصبا وهي ابنة مائة وثمانين وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال وتدعي براءة الذمة وكم أغرقت لهم من أموال هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج وكم وجلت القلوب لما صار الأهداب مجاذيفها علىمقلة البحر اختلاج وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها فبالغ الريح في تشويشها وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد ولقد رأيتها بعد ذلك التعاظم وقد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد
وأما البراعة التي لخطبة كتابي المسمى بمجرئ السوابق في وصف الخيول المسومة فإنها أحرزت قصبات السبق وهي الحمد لله الذي يقف عند سابق فضله كل جواد ويقصر في حلبة هذا الكرم الذي ليس له غاية في بديع الاستطراد فمن ألهمه الحزم وأرشده إلى حد المعرفة حاز قصبات السبق ولا نقول كاد نحمده على أن جعل لنا الخير معقودا بنواصي الخيل ونشكره شكرا نعلو به على أشهب الصبح ونمتطي أدهم الليل ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو أن نكون منها في ميادين الرحمة من السابقين ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله قائد العز المحجلين
وقد آن أن نقطع طول هذا البحث برسالة السكين فإن استهلالها يسن ما كل

من الذوق ويبرزه من قراب الشك إلى القطع باليقين وما ذاك إلا أنه لما انفرد كمال الدين عبد الرزاق الأصفهاني برسالة القوس واستوفى جميع المحاسن وجاء الشيخ جمال الدين بن نباتة برسالة السيف والقلم وأظهر فيها معجزات الأدب أردت أن أعززهما من اختراع رسالة السكين بثالث واستهليتها بقولي يقبل الأرض التي قامت حدود مكارمها وقطعت عنا مكروه الفاقة بمسنون عزائمها
منها وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفا وأضافها إلى الأدوية فحصل بها البرء والشفا وتالله ما غابت إلا وبلغ الأقلام من تقشيرها إلى الحفى
منها ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب وذل بعدما خضعت له الرؤوس والرقاب كم أيقظت طرف القلم بعدما خط وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط وكم وجد الصاحب بها في المضايق نفعا وحكم بحسن صحبتها قطعا من أجل أنها تدخل في مضايق ليس للسيف قط فيها مدخل وكلما تفعله توجزه والرمح في تعقيده مطول تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس وكم لها من عجائب تركت السيف في بحر عمدة كالغريق ولو سمع بها من قبل ضربه ما حمل التطريق
انتهى ما أوردته من براعة الاستهلال نثرا ونظما ومن لم ير بهجة ما أبرزته للمتأخرين فهو في هذه أعمى

الجناس
ذكر الجناس المركب والمطلق
( بالله سر بي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم )
أما الجناس فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب وكذلك كثرة اشتقاق الألفاظ فإن كلا منهما يؤدي إلى العقادة والتقييد عن إطلاق عنان لبلاغة في مضمار المعاني المبتكرة كقول القائل وأستحيي أن أقول إنه أبو الطيب
( فقلقت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيش كلهن قلاقل ) ولقد تصفحت ديوانه فلم أجد لوافد هذا النوع نزولا إلا ما قل في أبياته وهو نادر جدا ولا العرب من قبله خيمت بأبياتها عليه غير أن هذا البيت حكمت على أبي الطيب به المقادير ومثله قول القائل
( وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر )
فقرب وقبر لأجل الجناس المقلوب هو الذي قلب عليه القلوب اللهم إلا أن يقع الجناس في حشو بيت من البحور التي تحمل ثقله من غير اعتناء بأمره كقول القائل
( لله لبنى كلما لبنا على ... تعنيقها ونهودها تتقاعد )
( وبنار أسما وهي أسمى رتبة ... لقد احترقت وريقها يتبارد )

ففي طلعة شمس التورية هنا ما يغني عن النظر إلى زحل الجناس ولقد أحسن من قال
( أنظر إلى صور الألفاظ واحدة ... وإنما بالمعاني تعشق الصور )
والجناس من صور الألفاظ وممن وافق على ذلك علامة عصره الشهاب محمود وقال إنما يحسن الجناس إذا قل وأنى في الكلام عفوا من غير كد ولا استكراه ولا بعد ولا ميل إلى جانب الركة ولا يكون كقول الأعشي
( وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول )
ولا كقول مسلم بن الوليد
( شلت وشلت ثم شل شليلها ... فإني شليل شليلها مشلولا )
ولا بأس به في مطالع القصائد إن تعذر على الناظم أن يركبه تورية فإنه نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع كما قرره مشايخه كالتورية والاستخدام والاستعارة والتشبيه وما قارب ذلك من أنواع البديل
وحكي عن ابن جني أن الأصمعي كان يدفع قول العامة إذا قالوا هذا يجانس هذا إذا كان من شكله ويقول ليس بعربي خالص
وقال ابن رشيق صاحب العمدة هو من أنواع الفراغ
وقلة الفائدة ومما لا يشك في تكلفه
وقد كثر منه هؤلاء الساقة المتعقبون في نظمهم ونثرهم حتى برد ورك انتهى كلامه
ولم يحتج إليه بكثرة استعماله إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني التي هي كالنجوم الزاهرة في أفق الألفاظ وإذا خلت بيوت الألفاظ من سكان المعاني تنزلت منزلة الأطلال البالية وما أحلى قول الفاضل هنا
( إنما الدار قبل بالسكان ... ثم بعد السكان بالجيران )
( فإذا ما الأرواح شردها الحتف ... فماذا يراد بالأبدان )
وكان الشيخ صلاح الدين الصفدي يستسمن ورمه ويظنه شحما فيشبع أفكاره منه ويملأ بطون دفاتره ويأتي فيه بتراكيب تخف عندها جلاميد الصخور كقوله غفر الله له

( ونم في أمان بالحبيب ولا تخف ... لقائط واش في لقاء طواشي )
وقوله
( وكم ساق في الظلماء والليل شاهد ... رواحل واط في رواح لواط )
وقوله
( وإني إذا كان الفراق معاندي ... مطالع ناء في مطال عناء )
وقوله في الراح
( وكم ألبست نفسي الفتى بعد نورها ... مدارع قار في مدار عقار )
وقوله
( إذا جرح العشاق قالوا أقمت في ... مدار جراح في مدارج راح )
وقوله
( وكم شمت لما قست مقدار ودكم ... بوارق ياس في بوار قياس )
وقوله
( ولا تفتحن باب الهدايا وعدها ... مطار فراش لا مطارف راش )
وقوله
( ثنت نحوه الأغصان قامة لينها ... طواعن شاط في طواع نشاط )
وقوله
( ومر على غيري سقام وصحة ... ولم يبر قان مثل ذي يرقان )
ورأيت بخط الشيخ بدر الدين البشتكي تحت هذا البيت والذي قبله وهو الضعيف باليرقان وأن من ذلك مبلغه من النظم لجدير أن يقعد مع صغار المتأدبين انتهى ومنه قوله
( فجار وأجرى حين جاورت واجترى ... فما فاته مما يروم جناس )
وقوله
( زاروا وزانوا وزادوا ... هذا الجناس المليح )
وفي ذلك من الركة ما لا يخفى على أهل الذوق السليم ولولا الخشية من سأم الأسماع لأوردت له كثيرا من هذا النمط وما أظرف ما وقع له مع الشيخ جمال الدين ابن نباتة وذلك أنه لما وقف على كتابه المسمى بجنان الجناس وقد اشتمل على كثير من هذا النوع قرأه جنان الخناس وجرى بينهما بسبب ذلك ما يطول شرحه وهذا

مما يؤيد قولي أنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله ويعجبني هنا قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي رحمه الله تعالى
( إذا أحببت نظم الشعر فاختر ... لنظمك كل سهل ذي امتناع )
( ولا تقصد مجانسة ومكن ... قوافيه وكله إلى الطباع )
وكان الأسعد بن مماتي أيضا ممن لم يجعل الجناس له مذهبا في نظمه وما أحلى ما قال
( طبع المجنس فيه نوع قيادة ... أو ما ترى تأليفه للأحرف )
ومن غريب ما يحكى أن الشيخ صلاح الدين الصفدي مع تهافته على الجناس والتزامه بما صنفه في جنسه وأنواعه زاحم ابن مماتي في لفظ بيته ومعناه فقال
( ألا إن من عانى القريض بطبعه ... يقود فأرسله لمن صد واحتشم )
( ألم تره إن قال شعرا مجانسا ... يؤلف ما بين الحروف إذا نظم )
فانظر كيف أخذ المعنى وغالب الألفاظ ولم يتمكن من نظم ذلك إلا في بيتين أتى فيهما بكثرة الحشو مع قلة الأدب على أهله فإن الأسعد أثبت القيادة لطبع المجنس والشيخ صلاح الدين أثبت الحكم المذكور لمن يعاني نظم الشعر وقد طال الشرح وتعين الكلام على الجناس لأن الشروع فيه يلزم لأجل المعارضة لمن تقدمني من ناظمي البديعيات
أما هذا النوع فإنه ما سمي جناسا إلا لمجيء حروف ألفاظه من جنس واحد ومادة واحدة ولا يشترط فيه تماثل جميع الحروف بل يكفي في التماثل ما تعرف به المجانسة
وأما اشتقاق الجناس فمنهم من يقول التجنيس هو تفعيل من الجنس ومنهم من يقول المجانسة المفاعلة من الجنس أيضا إلا أن إحدى الكلمتين إذا تشابهت بالأخرى وقعت بينهما مفاعلة الجنسية
والجناس مصدر جانس ومنهم من يقول التجانس التفاعل من الجنس أيضا لأنه مصدر تجانس الشيئان إذا دخلا في جنس واحد ولما انقسم أقساما كثيرة وتنوع أنواعا عديدة تنزل منزلة الجنس الذي يصدق على كل واحد من أنواعه فهو حينئذ جنس وأنواعه التام والمحرف والمصحف والملفق وهلم جرا
كما أن البديع جنس وأنواعه الجناس واللف والنشر والاستعارة والتورية والاستخدام وغير ذلك من أنواع البديع وأما حدود أنواع الجناس فقد اختلفت

فيها عبارات البديعيين ولكن نأتي بحد كل واحد من الأنواع في موضعه ونذكر ما وقع الاتفاق عليه
وقد صدرت بديعيتي هذه بالجناس المركب والمطلق حسب ما رتبه الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته ولكن فاته شنب التسمية وإبرازها في شعار التورية من جنس التغزل فحد المركب أن يكون أحد الركنين كلمة مفردة والأخرى مركبة من كلمتين وهو على ضربين فالأول ما تشابه لفظا وخطا كقول الشاعر
( عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنا به )
ومثله قول القائل
( ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني )
وحفظت من شيخي العلامة الشيخ شمس الدين الهيتي الحسني النجوي وأنا في مبادي العمر والاشتغال من الجناس المركب المتشابه قول القائل من دوبيت
( في مصر من القضاة قاض وله ... في أكل مواريث اليتامى وله )
( إن رمت عدالة فقل مجتهدا ... من عد له دراهما عدله )
وكان يقول لا أعرف لهما ناظما
وما ألطف قول القائل
( يا سيدا حاز رقي ... بما حباني وأولى )
( أحسنت برا فقل لي ... أحسنت في الشكر أولا )
وقال العلامة شهاب الدين محمود أنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الوهاب لنفسه من المتشابه لفظا وخطا
( حار في سقمي من بعدهم ... كل من في الحي داوى أورقا )
( بعدهم لا طل وادي المنحنى ... وكذا بان الحمى لا أورقا )

وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي لنفسه في كتابه المسمى بجنان الجناس من هذا النوع قوله
( يا من إذا ما أتاه ... أهل المودة أولم )
( أنا محبك حقا ... إن كنت في القوم أولم )
وهذا النوع لم يذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته
انتهى الكلام على المتشابه من المركب لفظا وخطا والثاني ما هو متشابه لفظا لا خطا ويسمى المفروق وهو الذي نظمه صفي الدين في بديعيته كقول الشاعر
( لا تعرضن على الرواة قصيدة ... ما لم تكن بالغت في تهذيبها )
( وإذا عرضت الشعر غير مهذب ... عدوه منك وساوسا تهذي بها )
ومثله قول القائل
( يا من تدل بمقلة ... وأنامل من عندم )
( كفي جعلت لك الفدا ... أسياف لحظك عن دمي )
ومثله قول ابن أسد الفارقي
( غدونا بآمال ورحنا بخيبة ... أماتت لنا أفهامنا والقرائحا )
( فلا تلق منا غاديا نحو حاجة ... لتسأله عن حاجة والق رائحا )
ويحسن هنا قول أبي الفتح البستي فيه
( وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له )
وما ألطف قول العلامة شهاب الدين محمود من هذا النوع
( ولم أر مثل نشر الروض لما ... تلاقينا ببنت العامري )
( جرى دمعي وأومض برق فيها ... فقال الروض في ذا العام ربي )

ومن لطائف الشيخ جمال الدين بن نباتة
( قمرا نراه أم مليحا أمردا ... ولحاظه بين الجوانح أم ردى )
ومثله قول شمس الدين محمد بن العفيف
( أسرع وسر طالب المعالي ... بكل واد وكل مهمه )
( وإن لحا عاذل جهول ... فقل له يا عذول مه مه )
ومثله قوله
( إن الذي منزله ... من سحب دمعي أمرعا )
لم أدر من بعدي هل ... ضيع عهدي أم رعى )
ومثله قولي للقاضي بهاء الدين السبكي رحمه الله تعالى
( كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي ... حتى تعود لي الحياة وأنت هي )
وأنشدني قاضي القضاة تقي الدين بن الحسني الحنفي بحماة في مبادئ العمر وقد ذكرت بين يديه الجناس المركب
( قلت للعاذل الملح على الدمع ... وإجرائه على الخد نيلا )
( سل سبيلا إلى النجاة ودع دمع ... عيوني تجري لهم سلسبيلا )
ومن أنواع الجناس المركب نوع يسمى المرفو وهو أن يكون أحد الركنين جزءا مستقلا والآخر مجزأ من كلمة أخرى كقول الحريري
( والمكر مهما استطعت لا تأته ... لتقتني السؤدد والمكرمه )
وقوله
( ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه ... بدمع يحاكي المزن حال مصابه )
( ومثل لعينيك الحمام ووقعه ... وروعة ملقاه ومطعم صابه )
وهذا النوع لا يخلو من تعسف وعقادة في التركيب
انتهى الكلام على الجناس المركب وأقسامه غير أن هنا بحثا لطيفا وهو أنه قد

تقرر إن ركني الجناس يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى لأنه نوع لفظي لا معنوي وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة فإذا جعلت الجناس تورية انحصر المعنيان في ركن واحد وخلصت من عقادة الجناس وحركت الأذواق وأبهجت خاطر السامع بما أتحفته من بديع تركيبها وتأهيله بغريبها وأنا أذكر المثالين هنا ليتضح في الأذهان الصحيحة أن النهار لم يحتج إلى إقامة دليل
قال صاحب الجناس المركب
( أعن العقيق سألت برقا أومضا ... أأقام حاد بالركائب أو مضى )
قال صاحب التورية
( وإذا تبسم ضاحكا لم ألتفت ... إن عاد برقا في الدياجي أومضا )
وهنا يحسن أن يتمثل بقول القائل
( ومن يقل للمسك أين الشذا ... كذبه في الحال من شما )
ومثله قول الشاعر
( نديمي لا تسقني ... سوى الصرف فهو الهني )
( ودع كأسها أطلسا ... ولا تسقني مع دني )
ومن التورية المركبة ما أنشدني من لفظه علامة عصرنا القاضي بدر الدين ابن الدماميني بما كتب به إلى مولانا الحافظ الشيخ شهاب الدين ملك المتأدبين وعمدة المحققين أبي العباس أحمد بن حجر الشافعي
( حمى ابن على حوزة المجد والعلا ... ومن رام أشتات المعالي وحازها )
( وكم مشكلات في البيان بفهمه ... تبينها من غير عجب ومازها )
فأجابه شيخنا المشار إليه
( بروحي بدرا في الندا ما أطاع من ... نهاه وقد حاز المعالي فزانها )
( يسائل أن ينهي عن الجود نفسه ... وها هو قد بر العفاة ومانها )

وما أحلى ما قال متغزلا
( سألت من لحظة وحاجبه ... كالسهم والقوس موعدا حسنا )
( ففوق السهم من لواحظه ... وإنقوس الحاجبان وقت رنا )
ومن نثر الشيخ بدر الدين المشار إليه في التورية المركبة يشير إلى تقريظ كتبه لبعض أهل الأدب على مصنف سافل لم تمكن تسميته والتزم في التقريظ نوع الإيهام من الأول إلى الآخر وكتب الشيخ بدر الدين على ذلك المصنف قوله ولقد كنت أرتجي بابا أدخل منه إلى التقريظ ففتح لي المقر التقوي بابا مرتجا ونهج الطريق إلى المدح فاقتفيت آثاره واهتديت حين رأيت منهجا
ومثله قوله في التقريظ الذي كتبه على بديعيتي هذه كتبت وأسياف الخطوب ليس لها إلا الجوائح أغماد والزمن قد كادني بسهام أوتاره المصيبة ورماني بعد أن كاد
ومثله ما أنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر القاضي مجد الدين بن مكانس حيث قال
( أقول لحبي قم ومس يا معذبي ... كميسة خود حرك السكر رأسها )
( ولا تسه عن شيء إذا ما حكيتها ... فقام كغصن البان لينا وما سها )
وأحجية الشيخ شهاب الدين ابن حجر في هذا الباب من طرف الأدب فإنها تورية خفية مركبة في الأصل
( يا فاضلا هو في الأحاجي ... ليس يخلو من ولع )
( ما مثل قولك للذي ... يشكو الحبيب أسكت رجع )
فصه مرادف أسكت وباء مرادف رجع فحصلت التورية في صهباء وصه باء ومن النظم في هذا النوع الغريب قول المعمار
( وخادم يعلو على عشاقه ... برتبة من الجمال نالها )
( واسمه وهو العجيب محسن ... وكم دموع في الهوى أسا لها )

ومثله قول الشيخ شمس الدين المزين في غلام مليح وله لألاء مليح
( ومليح لالاه يحكيه حسنا ... فهو كالبدر في الدجا يتلالا )
( قلت قصدي من الأنام مليح ... هكذا هكذا وإلا فلا لا )
ومن نظمي الغريب في هذا النوع
( تصديتم لقتل ضعيف جسم ... لغير الوجد فيكم ما تصدى )
( وعد ضلوعه بالسقم لما ... تعديتم عليه وما تعدى )
وقلت فيه
( بعد هند وبعد سلمى تعطشت ... إلى رشف كل العس المى )
( وفؤادي يقول لا تطلب الري ... من الريق بعد هند وسلمى )
وقلت من قصيدة مطولة
( حين قابلت خده بدموعي ... أثرت خلت ثوب خز منمم )
( وانظر اليوم خده مع دموعي ... واحك ما شئت من عقيق وعن دم )
والبيت الأول من المعاني المخترعة التي لم يسبق إليها
انتهى ما أوردته من الكلام على الجناس المركب واستجلاء عرائس التورية وأما الجناس المطلق فإن للناس في الفرق بينه وبين المشتق معارك وسماه السكاكي وغيره المتشابه والمتقارب لشدة مشابهته وقربه من المشتق وكل منهما يختلف في الحروف والحركات ولكن الفرق بينهما دقيق قل من أتى بصحته ظاهرا فإن المشتق غلط فيه جماعة من المؤلفين وعدوه تجنيسا وليس الأمر كذلك فإن معنى المشتق يرجع إلى أصل واحد
والمراد من الجناس اختلاف المعنى في ركنيه والمطلق كل ركن منه يباين الآخر في المعنى وأنا أذكر لكل واحد منهما شاهدا يزول به الالتباس فالمشتق كقوله تعالى ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ) وقيل إن ما مصدرية أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي فعلى كل تقدير الجميع راجع إلى العبادة والمعنى في الاشتقاق راجع إلى أصل واحد ومنه قوله

تعالى ( ومن شر حاسد إذا حسد ) وقوله تعالى ( إذا وقعت الواقعة ) وقوله تعالى ( أزفت الآزفة ) ومن النظم قول عمرو بن كلثوم في معلقته
( ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
وما ألطف قول كشاجم في خادم أسود مشهور بالظلم
( يا مشبها في فعله لونه ... لم تحظ ما أوجبت القسمة )
( فعلك من لونك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمة )
فإن النبي قال ( الظلم ظلمات يوم القيامة ) ومن السحر الحلال قول بعض المتأخرين في هذا الباب
( عاتبت طيف الذي أهوى وقلت له ... كيف اهتديت وجنح الليل مسدول )
( فقال آنست نارا من جوانحكم ... يضيء منها لدى السارين قنديل )
( فقلت نار الجوى معنى وليس لها ... نور يضيء وهذا القول مقبول )
( فقال نسبتنا في الحال واحدة ... أنا الخيال ونار الشوق تخييل )
وقد نبه على الاشتقاق في قوله نسبتنا في الحال واحدة
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ في شرحه على البردة لما انتهى إلى قول المصنف
( ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى ... أن اشتكت قدماه الضر من ورم )
قال ظلمت وظلام جناس اشتقاق وهو كقوله تعالى ( وأسلمت مع سليمان ) قلت أما ظلمت وظلام فاشتقاق بلا خلاف وأسلمت مع سليمان جناس مطلق لأنه لم يرجع في المعنى إلى أصل واحد وهو أعظم شواهد البديعيين على الجناس المطلق
انتهى الكلام على المشتق وأما الجناس المطلق فلشدة تشابهه بالمشتق يوهم

أحد ركنيه أن أصلهما واحد وليس كذلك كقوله تعالى ( وإن يردك بخير فلا راد لفضله ) وكقوله تعالى ( ليريه كيف يواري سوأة أخيه )
ومنه ما كتب به إلى المأمون في حق عامل له وهو فلان ما ترك فضة إلا فضها ولا ذهبا إلا أذهبه ولا مالا إلا مال عليه ولا فرسا إلا افترسه ولا دارا إلا أدارها ملكا ولا غلة إلا غلها ولا ضيعة إلا ضيعها ولا عقارا إلا عقره ولا حالا إلا أحاله ولا جليلا إلا أجلاه ولا دقيقا إلا دقه
فهذه الأركان هنا شواهد على الجناس المطلق ليس فيها ركنان يرجعان إلى أصل واحد كالمشتق بل جميع ما ذكرنا أسماء أجناس وهي محمولة على دم الاشتقاق ومثل ذلك من النظم قول الشاعر
( عرب تراهم أعجمين عن القرى ... متنزلين على الضيوف النزل )
( فأقمت بين الأزد غير مزود ... ورحلت عن خولان غير مخول )
ومثله قول الآخر
( بجانب الكرخ من بغداد عن لنا ... ظبي ينفره عن وصلنا نفر )
( ضفيرتاه على قتلي تظافرتا ... يا من رأى شاعرا أودى به الشعر )
وما أحلى قول القائل سلم على الربع من سلمى بذي سلم
فالثلاثة عنان جنسها مطلق في المطلق وقال الآخر وأجاد
( إذا أعطشتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريا )
( فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا )
وما أحلى قول أبي فراس في هذا النوع
( فما السلاف أزدهتني بل سوالفه ... ولا الشمول دهتني بل شمائله )

ومثله قول الصاحب بهاء الدين زهير
( يا من لعبت به شمول ... ما ألطف هذه الشمائل )
وللبحتري
( وإذا ما رياح جودك هبت ... صار قول العذول فيها هباء )
ويحسن هنا قول الشاب الظريف محمد بن العفيف
( أراك فيمتلي قلبي سرورا ... وأخشى أن تشط بك الديار )
( فجر واهجر وصد ولا تصلني ... رضيت بأن تجور وأنت جار )
وما أحسن ما قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة رحمه الله تعالى بمنه وكرمه
( تولى شبابي فولى الغرام ... ولازم شيبي لزوم الغريم )
( ولو لم يصدني بازيه ... لما صارمتني مهاة الصريم )
انتهى الكلام على المطلق وعلى الفرق بينه وبين المشتق منه نظما ونثرا وقد رسم لي أن أثبت في بديعيتي هذه أبيات من تقدمني في النظم كالشيخ صفي الدين الحلي والشيخ عز الدين الموصلي وما ورد في بديعية العميان من القدر الذي استعملوه ليشاهد المتأمل في هذا الميدان مجرى السوابق فإن الشيخ صفي الدين جمع بين الجناس المركب والمطلق في بيت واحد وهو المطلع فقال
( إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم ... وأقر السلام على عرب بذي سلم )
والعميان لم يأتوا في البيت إلا بنوع واحد فقالوا في المركب
( دع عنك سلمى وسل ما بالعقيق جرى ... وأم سلعا وسل عن أهله القدم )

وقالوا في الجناس المطلق
( جار الزمان فكفوا جوره وكفوا ... وهل أضام لدى عرب على أضم )
( فالمطلق ف أضام وأضم وأما جار وجور فمشتق ولكن لم يخف ما في البيتين من الثقل مع خفة الالتزام وبيت الشيخ عز الدين الموصلي

( فحيي سلمى وسل ما ركبت بشذا ... قد أطلقته أمام الحي عن أمم )
فالشيخ أتى بالنوعين في بيت واحد وورى بالاسمين من جنس الغزل ومع ذلك تلطف وتضاءل عليهم واحتشم وبيتي تقدم ذكره ولكن دعت الضرورة إلى ذكره هنا حسب المرسوم وهو
( بالله سر بي فسربي طلقوا وطني ... وركبوا في ضلوعي مطلق السقم )
وفي تسمية النوع هنا ما يغني عن التنبيه عليهما
وقد تقدم الشرح على كل واحد منهما والشيخ صفي الدين والعميان لم يثقل التقييد بتسمية النوع لهم كاهلا مع أن يكون مورى به من جنس الغزل وشتان بين عالم الإطلاق والتقييد بضيق هذا الخناق لأن الرقيق لم يقم له سوق بل يصدق إذا ما ادعى عتقه والله المسؤول أن يقيم لنا سوق القبول في متاجر الرقة فإن الشيخ صفي الدين قال في خطبته مع إطلاق قياده فانظر أيها العالم الأديب إلى غزارة الجمع وهي ضمن الرياقة في السمع ثم قال بعد ذلك
( ودع كل صوت غير صوتي فإنني ... أنا الصائح المحكي والآخر الصدى )

ذكر الجناس الملفق
( ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي ... يسعى معي فسعى لكن أراق دمي )
حد الملفق أن يكون كل من الركنين مركبا من كلمتين وهذا هو الفرق بينه وبين المركب وقل من أفرده عنه وغالب المؤلفين ما فرقوا بينهما بل عدوا كل واحد منهما مركبا إلا الحاتمي وابن رشيق وأمثالهما ولعمري لو سموا الملفق مركبا والمركب ملفقا

لكان أقرب إلى المطابقة في التسمية لأن الملفق مركب في الركنين والمركب ركن واحد كلمة مفردة والثاني مركب من كلمتين وهذا هو التلفيق وما ألم بالملفق أحد من أصحاب البديعيات غير الشيخ صفي الدين الحلي وما ذاك إلا أنه قال في خطبة بديعيته أنها نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن وهذا دليل على إنه لما عارضه الشيخ عز الدين والتزم تسمية الأنواع التي ذكرها الشيخ صفي الدين لم يجد بدا من نظمه لأجل المعارضة ولكن نحت فيه بيتا من الجبال وسيأتي
وأما العميان فإنهم عدوه في بديعيتهم في المركب فاختصرته هنا وكذلك بقية أبياتهم في أنواع الجناس تعين اختصارها فإنهم لم يأتوا في البيت إلا بالنوع الواحد
ومن الملفق في النظم قول الشاعر
( وكم لجباه الراغبين إليه من ... مجال سجود في مجالس جود )
وما ألطف ما قال القاضي أبو علي عبد الباقي بن أبي حصين في هذا النوع وقد ولي القضاء بالمعرة وهو ابن خمس وعشرين سنة وأقام في الحكم خمس سنين وهو
( وليت الحكم خمسا وهي خمس ... لعمري والصبا في العنفوان )
( فلم تضع الأعادي قدر شاني ... ولا قالوا فلان قد رشاني )
وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن عنين في هذا الباب
( خبروها بأنه ما تصدى ... لسلو عنها ولو مات صدا )
ويعجبني قوله بعد المطلع
( وسلوها في زورة من خيال ... إن تكن لم تجد من الهجر بدا )
وبيت الحلي في الملفق
( فقد ضمنت وجود الدمع من عدم ... لهم ولم أستطع مع ذاك منع دمي )
ولم يمكن الشيخ صفي الدين أن يحصر مع الملفق غيره من أنواع الجناس في بيت واحد لما تقدم من صعوبة مسلكه وهو عزيز الوقوع ولكن له رونق وموقع في الذوق لطلاوة تركيبه وغرابة أسلوبه وبيت الشيخ صفي الدين في غاية الرقة والانسجام

غير أن التحريف حكم عليه فصار مشوشا والمشوش كل جنس تجاذبه طرفان من الصنعة فلا يمكن إطلاق أحدهما على الآخر وبيت صفي الدين تجاذبه المحرف والملفق انتهى
وبيت الشيخ عز الدين
( ملفق ظاهر سرى وشان دمي ... لما جرى من عيوني إذ وشى ندمي )
هذا البيت فيه الجناس الملفق على الصنعة وتسميته على الشروط المذكورة ولكن عجزت لعقادة تركيبه عن الطيران بأجنحة الفهم لا أحوم له على معنى ونظرت بعد ذلك في شرحه فوجدته قد قال إن لفظة ملفق صفة للجار والمجرور في قوله فحيي سلمى وسل ما ركبت بشذا يعني إن الشذا الذي أطلقته سلمى أمام الحي كان ملفقا وبيتي المسؤول له من الله السلامة
( ورمت تلفيق صبري كي أرى قدمي ... يسعى معي فسعى لكن أراق دمي )
والكلام في رقة قولي ورمت تلفيق صبري إلخ البيت إنما وقع من أصحاب الغراميات لا من أصحاب البديعيات وقد تقدم قولي إن الفرقة الناجية من التعسف والتكلف في النظم لم ترض بالجناس إذا أمكنت التورية وقال المقر المرحومي الفخري في التورية التي سماها جناسا ملفقا
( إن الهواءين يا معشوق قد عبثا ... بالروح والجسم في سري وفي علني )
( فالروح تفديك بالممدود قد تلفت ... والجسم حوشيت بالمقصور فيك فني )
وأنشدني من لفظه لنفسه علامة عصره الشيخ بدر الدين الدماميني
( تدري لماذا أتاك قلبي ... في عسكر الوجد وهو ذائب )
( أذنب ثم اختشى فوافى ... من ذلك الذنب فيك تائب )
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر ابن مكانس
( كمال أوصافي يا منيتي ... في الحب أن أصبحت مثل الخلال )
( وملت من سكر الهوى نشوة ... فارحم معنى مغرما فيك مال )

ومن نظمي في هذا النوع الغريب
( رأت حياة شبابي قد قضت أجلا ... والسقم قد زاد لما قل مصطبري )
( قالت سرقت نحول الخصر قلت لها ... ما يحمل الشيخ هذا وهو في كبري )
انتهى والله عز و جل أعلم

الجناس المذيل واللاحق
( وذيل الهم همل الدمع لي فجرى ... كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم )
المذيل اختلف جماعة المؤلفين في اسمه ولم يتقرر له أحسن من هذه التسمية فإن فيها مطابقة للمسمى وما ذاك إلا أن المذيل هو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفا في آخره فصار له كالذيل وهو الفرق بينه وبين المطرف ويأتي الكلام على المطرف في موضعه فالمذيل كقول كعب بن زهير
( ولقد علمت وأنت خير عليمة ... أن لا يقربني الهوى لهوان )
وما ألطف من قال
( وسألتها بإشارة عن حالها ... وعلي فيها للوشاة عيون )
( فتنفست صعدا وقالت ما الهوى ... إلا الهوان فزال عنه النون )
( ومنه قول أبي تمام
( يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب )
وقال آخر
( عذيري من دهر موار موارب ... له حسنات كلهن ذنوب )

ومن النثر فلان حام حامل لأعباء الأمور كاف كافل لمصالح الجمهور
ومثله فلان سأل عن إخوانه سالم من زمانه ومن غراميات البها زهير في الجناس المذيل قوله من قصيدة
( أشكو وأشكر فعله ... فاعجب لشاك منه شاكر )
( طرفي وطرف النجم فيك ... كلاهما ساه وساهر )
ولم يخرج عما نحن فيه قوله منها
( يا ليل بدرك حاضر ... يا ليت بدري كان حاضر )
( حتى يبان لناظري ... من منهما زاه وزاهر )
وما أحلى ما ختم القصيدة بقوله
( بدري أرق محاسنا ... والفرق مثل الصبح ظاهر )
وقد تأتي الزيادة في آخر المذيل بحرفين كقول حسان بن ثابت
( وكنا متى يغزو النبي قبيلة ... نصل جانبيه بالقنا والقنابا )
ومنه قول النابغة
( لها نار جن بعد أنس تحولوا ... وزال بهم صرف النوى والنوائب النوائب )
ومنه في رثاء قوله
( فيا لك من حزم وعزم طواهما ... جديد الردى تحت الصفا والصفائح )
وأرق ما سمعته في هذا الباب قول القائل
( إن البكاء هو الشفاء ... من الجوى بين الجوانح )
انتهى الكلام على الجناس المذيل وأما اللاحق فقل من فرق بينه وبين المضارع والمراد بالمضارع هنا المشابه والفرق بينهما دقيق فإن اللاحق هنا ما أبدل من أحد ركنيه حرف من غير مخرجه ومتى كان الحرف المبدل من مخرج المبدل منه

سمي مضارعا وإن كان قريبا منه كان مضارعا أيضا وأنا أذكر شاهد كل منهما فإن الفرق بينهما يدق عن كثير من الأفهام ولم يساعده على ظلمة شكه غير ضياء الحسن
والمضارع هو المتشابه في المخرج كقوله تعالى وهو إلى الغاية التي لا تدرك ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) ومنه قوله ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة )
ومثله قول بعضهم البرايا أهداف البلايا
ومن النظم قول الشريف الرضي رحمه الله
( لا يذكر الرمل إلا حن مغترب ... له إلى الرمل أوطار وأوطان )
فاللام والراء والنون من مخرج واحد عند قطرب والجرمي وابن دريد والفراء
قال بعض أهل الأدب في كتاب راش سهامه بالعقوق ولوى ماله عن الحقوق
فالعين والحاء من مخرج واحد
ويعجبني قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في هذا الباب
( رق النسيم كرقتي من بعدكم ... فكأننا في حيكم نتغاير )
( ووعدت بالسلوان واش عابكم ... فكأننا في كذبنا نتخاير )
فالغين والخاء من مخرج واحد
انتهى الكلام على المضارع ومقاربه في مخارج حروفه على الأبدال واللاحق قد تقدم أنه ما أبدل من أحد ركنيه حرف من غير مخرجه كقوله تعالى ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر )
وكتب بعضهم في جواب رسالة وصل كتابك فتناولته باليمين ووضعته مكان العقد الثمين
ومن النظم قول البحتري وأجاد إلى الغاية
( عجب الناس لاعتزالي وفي الأطراف ... تلفى منازل الأشراف )
( وقعودي عن التقلب والأرض ... لمثلي رحيبة الأكناف )
( ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي )

فكفاني وكفافي هو اللاحق الذي لا يلحق
وهنا نكتة لطيفة تؤيد قول البحتري في بيته الأول وهو
( عجب الناس لاعتزالي وفي الأطراف ... تلفى منازل الأشراف )
قيل لبعضهم في أي موضع في القرآن الأطراف منازل الأشراف فقال في قوله تعالى ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) فهذا أشرفهم وكان ينزل من أقصى المدينة والأطراف والأشراف مما نحن فيه
وما أحلى قول أبي هلال العسكري في اللاحق
( أراعي تحت حاشية الدياجي ... شقائق وجنة سقيت مداما )
( وإن ذكرت لواحظ مقلتيه ... حسبت قلوبنا مطرت سهاما )
( وإن مالت بعطفيه شمول ... سقانا من شمائله سقاما )
انتهى الكلام على الجناس اللاحق والفرق بينه وبين المضارع ومن الناس من يسمي كل ما اختلف بحرف تجنيس التصريف سواء كان من المخرج أو من غيره ولكن رأيت استجلاء الفرق أنور ولا يشترط أن يكون الإبدال في الأول ولا في الوسط ولا في الآخر فإن جل القصد الإبدال كيفما اتفق وبيت الشيخ صفي الدين يشتمل على المذيل واللاحق وهو
( أبيت والدمع هام هامل سرب ... والجسم في أضم لحم على وضم )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( يذيل الدمع جار جارح بأذى ... كلاحق ماحق الآثار في الأكم )
قال شيخنا الشيخ شمس الدين الهيتي وقد تقدمت ترجمته لما أنشدته هذا البيت والذي قبله بعد حفظي لهما من المصنف بحماة لو عزا أحد هذين البيتين إلى الجان ما شككت في قوله
وبيت بديعيتي

( وذيل الهم همل الدمع لي فجرى ... كلاحق الغيث حيث الأرض في ضرم )
فالمذيل في هم وهمل واللاحق في غيث وحيث

الجناس التام والمطرف
( يا سعد ما تم لي سعد يطرفني ... بقربهم وقليل الحظ لم يلم )
أما الجناس التام فهو ما تماثل ركناه واتفقا لفظا واختلفا معنى من غير تفاوت في تصحيح تركيبهما واختلاف حركتهما سواء كانا من اسمين أو من فعلين أو من اسم وفعل فإنهم قالوا إذا انتظم ركناه من نوع واحد كاسمين أو فعلين سمي مماثلا وإن انتظما من نوعين كاسم وفعل سمي مستوفى وجل القصد تماثل الركنين في اللفظ والخط والحركة واختلافهما في المعنى سواء كانا من اسمين أو من غير ذلك فإن المراد أن يكون الجناس تاما على الصفة المذكورة من حيث هو أكمل الأنواع إبداعا وأسماها رتبة وأولها في الترتيب فمنه قول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صولة الباطل ساعة وصولة الحق إلى الساعة
وقيل ما وقع في القرآن العظيم غير هذين الركنين وهو قوله تعالى ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة )
ولكن استخرج ابن حجر من القرآن جناسا آخر تاما عظيما وهو قوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) ( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار )
ومن الشعر قول بعضهم وأجاد
( وسميته يحيى ليحيى فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل )
ومن ملح هذا النوع قول ابن الرومي
( للسود في السود آثار تركن بها ... وقعا من البيض يثني أعين البيض )
ومنه قول أبي الفتح البستي
( سما وحمى بني سام وحام ... فليس كمثله سام وحام )

أما أبو الفتح فإنه ثابر على استعمال الجناس كثيرا ولكن ما أعلم أنه نظم أحسن من هذا البيت وقد تجمل به نوع الجناس وكاد أن يكون تورية
وما أحسن قول المعري فيه وأحشمه
( لم نلق غيرك إنسانا يلاذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا )
ومطلع الشيخ صفي الدين في قصيدته البائية التي عارض بها المتنبي وامتدح بها السلطان الملك الناصر سقى الله عهده حسن في هذا الباب وهو
( أسبلن من فوق النهود ذوائبا ... فتركن حبات القلوب ذوائبا )
ومن محاسنها
( عاتبته فتضرجت وجناته ... وازور ألحاظا وقطب حاجبا )
( فأذابني الخد الكليم وطرفه ... ذو النون إذ ذهب الغداة مغاضبا )
ومطلع قصيدة ابن نباتة التي امتدح بها الملك الأفضل صاحب حماة غاية في هذا النوع وقد عارض أبا الطيب المتنبي ولكن أتى فيها بما لو سمعه أبو العلاء لرجع عن ديوان أحمد وأقر بمعجزات محمد
فمطلع المتنبي
( أرق على أرق ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق )
ومطلع ابن نباتة
( ما بت فيك بدمع عيني أشرق ... إلا وأنت من الغزالة أشرق )
ولأجل إطنابي في هذه القصيدة تعين إيراد شيء من محاسنها هنا
فمنها
( أنفقت عيني في البكاء وحبذا ... عين على مرأى جمالك تنفق )
( وتكاثرت في الجفن أنجم أدمعي ... فكأن غرب الجفن مني مشرق )

( وأخافني فيك العذول وما درى ... أني لجورك في الهوى أتشوق )
( قسما بمن جعل الأسى بك لذة ... والدمع راحة من يحب ويعشق )
( إن العذول هو الغبي وإن من ... يفني عليك حياته لموفق )
( لي من نصيب هواك سهم وافر ... وسهام سحر من جفونك ترشق )
( يمتار من دمعي عليك ذووا البكا ... فاعجب له من سائل يتصدق )
( ولقد سقيت بكأس فيك مدامة ... في غيظ عذالي عليك فلا سقوا )
( وضممت من عطفيك غصن ملاحة ... بالحلي يزهر والغلائل يورق )
( وقرأت من خديك بعد تأمل ... خطابه حب القلوب معلق )
( ورزقت من جفنيك ما حسد الورى ... حظي عليه وهو رزق ضيق )
( ونعمت باللذات وهي جديدة ... ولبست ثوب الراح وهو معتق )
( في ليل أفراح كأن هلاله ... للشرب ما بين الندامى زورق )
( حتى استطال الفجر يطعن في الدجى ... فهو السنان أو العدو الأزرق )
( يا حبذا ليل نبيع به الكرى ... لكننا لا عن رضا نتفرق )
( حيث الشباب إلى المسرة راكض ... لا يستقر وطالب لا يرفق )
( ما سرني أن الكميت يحثها ... نحوي السقاة وأن فودي أبلق )
( زار الضنا ونأى الحبيب وعادني ... أرق على أرق ومثلي يأرق )
والعذر عن طول ما أوردته واضح لغرابة أسلوبها غزلا ومدحا
منها في المدح
( قوم لذكراهم على صحف العلا ... أصل الفخار وكل ذكر ملحق )
( الملك بعض ديارهم فلينزلوا ... والنجم بعض جدودهم فليرتقوا )
( إن يسجع الدين الحنيف بمدحهم ... فلأنه بأبي الفتوح مطوق )
( أو يبق ماضيهم على سنن الوفا ... فلأنهم ببقاء أفضلهم بقوا )
( ملأت مواهبه القلوب مهابة ... فالقلب قبل الطرف فيها مطرق )

( وكأنما أقلامه بسوادها ... غربان بين في الخزائن تنعق )
( لا عيب فيه سوى العزائم قصرت ... عنها الكواكب وهي بعد تحلق )
منها
( يا أيها الملك المكمل فضله ... وقيت من حدق إليك تحدق )
( وبقيت للمداح تجلب عيسهم ... جلبا بغير بلادكم لا ينفق )
( أذكرتنا زمن المؤيد لا عدت ... مثواه باكية الغمامة تشهق )
( حتى تجر به ذيول حديقة ... أكمامها بيد النسيم تفتق )
منها
( وبديعة كالروض إلا أنها ... تجلى بجارحة السماع وتنشق )
( نظمتها عقدا بدون مثاله ... في النظم شاب من الوليد المفرق )
( لا فضل لي فيها وبحرك قاذف ... درر الصفاء يقول للناس انفقوا )
( من عش بيتك قد درجت فطار لي ... في الخافقين جناح ذكرك يخفق )
( ولكم علقت من القريض صناعة ... ما كنت لولاكم بها أتعلق )
( لكم الولا مني لأن نداكم ... في كل حادثة لفقري يعتق )
ومن مطالعي في الجناس التام قولي
( يا طيب الأخبار يا ريح الصبا ... يا من إليه كل قلب قد صبا )
وهذه القصيدة كتبت بها من القاهرة المحروسة سنة اثنتين وثمانمائة إلى القاضي تاج الدين بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف تشوقا إليه وإلى حماة المحروسة وقلت بعد المطلع أخاطب النسيم بما هو أرق منه
( يا صادق الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا )

( يا من نراه عبارة عن حاجر ... يا روح نجد مرحبا بك مرحبا )
( يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربا )
( بالله إن رنحت ذيلك بالحمى ... ووردت شعبا من دموعي معشبا )
( وهززت فيه كل عود أراكة ... أضحى بهاتيك الثغور مطيبا )
( ولثمت من ثغر الأقاحي مبسما ... أبدى بدر الطل ثغرا أشنبا )
( ودخلت كل خباء زهر قد غدا ... بدموع أجفان الغمام مطنبا )
( وطرقت حي العامرية ظامئا ... فنعمت في الوادي بريا زينبا )
( وحملت من نشر الخزامى نقحة ... مشمولة بالطيب من ذاك الخبا )
( عج بالعذيب فإن محجر عينه ... أضحى لما حملته مترقبا )
( واصحب عبير المسك منه فإنه ... لشوارد الغزلان أضحى مشربا )
( وإذا تنسمت الشذا وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا )
( عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيدا طيبا )
( واحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا )
( واسرع إلي وداو في مصر به ... قلبا على نار البعاد مقلبا )
( لله ذاك السفح والوادي الذي ... ما زال روض الأنس فيه مخصبا )
( وأنعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسبا )
( أرض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا )
( يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشا طيبا )
( ومهالك الحرمان تمنع عبدكم ... من أن ينال من التلاقي مطلبا )
( وإذا اشتهيت السير نحو دياركم ... قرأ النوى لي في الأواخر من سبا )
( وقد التفت إليك يا دهري يطول ... تعتبي ويحق لي أن أعتبا )
( قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الخدود مرتبا )
( وأسرتني لكن بحق محمد ... يا دهر كن في مخلصي متسببا )

( فمحمد ومدينة قد حلها ... لم ألق غيرهما لقلبي مطلبا )
( مولى إذا قصد الزمان بلحنه ... خفضي غدا عن رفع قدري معربا )
( ذو رتبة نصب السعود بيوتها ... من فوق هام الفرقدين وطنبا )
( وفضائل أمست على حلل العلوم ... برقمها الزاهي طرازا مذهبا )
( وكتابة منسوبة لكن إلى ... عين الكمال وحقها أن تنسبا )
( وإذا تسنم ذروة من منبر ... لخطابة فابن الخطيب هنا هبا )
( من بيت فضل قد علت طبقاته ... وأراه للعلم الشريف مبوبا )
( وإذا وقفت لحاجة في بابه ... تلقاه بابا للنجاح مجربا )
( يا كاتب الأسرار يا من فضله ... قد جمل الدنيا وزان المنصبا )
( أقلامك السمر الرشاق إذا انثنت ... أغنت نهار الخطب عن بيض الظبا )
( سود العيون كأنما ألحاظها ... قد كحلت بسواد أحداق الظبا )
( لكن إلى وجه الطروس إذا رنت ... أبدت لنا سحرا حلالا طيبا )
( وسرى نسيم الذوق في قصباتها ... فغدا بها بين الأنام مشيبا )
( فلأجل ذا إن رجعت أقوالها ... لم نلق إلا مرقصا أو مطربا )
رجع إلى ما كنا فيه من الجناس التام ومن نظمي فيه أيضا مع زيادة التورية
( طلبت تقبيل من أحب وقد ... أنكرت في الخد نقطة حسنه )
( فرق لي قلبه وقال إذا ... لثمت خدي لا تنكر الحسنه )
انتهى الكلام على الجناس التام وقد تقدم قولي إن جميع ما نهلت من شرابهم الصافي لم يرضوا بالجناس التام إذا أمكن استدراك التورية من ركنيه لعلمهم بعلو رتبتها عنه والتفات الأذواق الصحيحة السليمة إلى حسن موقعها وإذا راجعت النظر في كلامهم وجدت غالب ما نظموه من التورية جناسا تاما فمن ذلك قول الشيخ صدر الدين ابن الوكيل من دو بيت

( كم قال معاطفي حكتها الأسل ... والبيض سرقن ماحوته المقل )
( والآن أوامري عليهم حكمت ... البيض تحد والقنا تعتقل )
ففي تحد وتعتقل جناسان تامان إذا أبطلت الاشتراك وأبرزت كلا من الركنين في موضعه على طريق من له رغبة في الجناس ومثله قول محيي الدين بن عبد الظاهر في كوز
( وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا قلب )
( إذا استولى على حب ... فقل ما شئت في الصب )
ومثله قول بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي
( تعشقته لدن القوام مهفهفا ... شهي اللمى أحوى المراشف أشنبا )
( وقالوا بدا حب الشباب بوجهه ... فيا حسنه وجها إلي محببا )
ومثله قول الشيخ شرف الدين الأنصاري شيخ شيوخ حماة
( لنا من ربة الخالين جاره ... تواصل تارة وتصد تارة )
( تعاملني بما يحلو وتلوي ... ولكن ليس في جوفي مراره )
ومثله قول الشيخ ظهير الدين البارزي سقى الله ثراه
( يا لحية الحب التي ... طال لها تلفتي )
( هل أنت مسك الترك أو ... هل أنت مسك نبتي )
ومثله قول الشيخ علاء الدين الوداعي
( أثخنت عينها الجراح ولا إثم ... عليها لأنها نعساء )
( زاد في عشقها جنوني فقالوا ... ما بهذا فقلت بي سوداء )

ومثله قول لسان الدين بن الخطيب
( جلس المولى لتسليم الورى ... ولفصل البرد في الجو احتكام )
( فإذا ما سألوا عن يومنا ... قلت هذا اليوم برد وسلام )
ومثله قول الشيخ سراج الدين الوراق فيمن بخل بالراح والتورية ثلاثية وهو
( لا تطمعن براحة من معشر ... سادوا بغير مآثر السادات )
( قطعت عن المعروف أيديهم وقد ... سرقوا العلا فخلت من الراحات )
ومثله قول نصير الدين الحمامي
( لي منزل معروفه ... ينهل غيثا كالسحب )
( أقبل ذا العذر به ... وأقبل الجار الجنب )
ومثله قول شهاب الدين الحاجبي
( له عين لها غزل وغزو ... مكحلة ولي عين تباكت )
( وحاكت في فعائلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت )
ومثله قول ابن الوردي
( قالت إذا كنت ترجو ... وصلي وتخشى نفوري )
( صف ورد خدي وإلا ... أجور ناديت جوري )
ومثله قول ابن الصائغ
( هجرت فأحشائي لذاك توقدت ... جمرا وليست في المحبة فاتره )
( هذا وتحرمني الثقيل الهوى ... من ذا الذي يرضى بنار الهاجره )
ومثله قول ابن نباتة في الملك المؤيد صاحب حماة
( لنا ملك قد قاسمتنا هباته ... فنثر العطا منه ونظم الثنا منا )
( يذكرنا أخبار معن بجوده ... وننشي له لفظا فينشي لنا معنى )

ومثله قوله وهو أعدل شاهد في هذا الباب
( دمعي عليك مجانس قلبي ... فانظر على الحالين في الصب )
فذكر التجانس هنا أحد لازمي التورية والدمع هو اللازم الآخر وقد نبهنا الشيخ جمال الدين على أنه لم يرض بالجناس ويؤيد ذلك قوله على الحالين ومنه قول القيراطي
( أباح لي نرجس ألحاظه ... في مجلس ما فيه ما نكره )
( فقلت ورد الخد جد لي به ... أيضا فقال الكل في الحضره )
ومثله قول بدر الدين بن الصاحب
( فتنت بنبت من عوارض خده ... فها أنا في قيد الغرام أسير )
( وما كان لي بالعشق قط تعلق ... ولا بالهوى قبل العذار شعور )
ومثله قول صلاح الدين الصفدي
( إن لم تصدقني تصدق بالكرى ... ليزورني فيه الخيال الزائل )
( وانظر إلى فقري لوصلك واغتنم ... أجري وقل للدمع قف يا سائل )
ومثله قول ابن أبي حجلة
( يا صاح قد حضر الشراب ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالإيناس )
( وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكاس )
وما أظرف قول يحيى الخباز الحموي
( أصبحت في العالم أعجوبة ... عند ذوي المعقول والفهم )
( جدي حموي فاسمعوا واعجبوا ... وما كفى حتى أبي أمي )
ومثله قول المعمار
( قد بت من كربي لفقد النسا ... أفور كالتنور من ناريه )
( وقد طغى الماء فمن لي بأن ... أحمل بالجود على جاريه )

ومثله قول الشيخ شرف الدين حسن المشهور بالزغاري
( قيل لي إذا رأيت أقمار تم ... عن بدور السماء للطرف تلهي )
( أي وجه أضناك قلت دعوني ... فسقامي قد صح من كل وجه )
ومثله قول عز الدين الموصلي
( حديث عذار الحب باد وساقه ... له أوجه تبدي لقلبي اشتياقه )
( درى أننا نصغي إلى الحسن دائما ... فأبدى لنا ذاك الحديث وساقه )
ومثله قول ابن مكانس
( يقول معذبي إذ همت فيه ... بخد خلت فيه الشعر نملا )
( أتعرف خده للعشق أهلا ... فقلت له نعم أهلا وسهلا )
وأنشدني من لفظه لنفسه بقية السلف وما كان للفروع النباتية نعم الخلف الشيخ زين الدين أبو بكر بن العجمي عين كتاب الإنشاء الشريف بالديار المصرية وقد تمثلت بين يديه بالقاهرة المحروسة سنة إحدى وثمانمائة وطالبته بشيء من لفظه في المواليا فإنه كان إمام فنونه المتشعبة فقال
( للحب قالوا معناك الذي أذبلتو ... جدلو بقبلة فقلبو فيك خبلتو )
( فقال أقسم لو أن البوس سبلتو ... ومات للشرق مادرتو وقبلتو )
ومنه قول ابن خطيب داريا
( تقول وقد أتتني ذات يوم ... مخبرة عن الظبي الجموح )
( يسرك أن أروح إليه أجري ... فقلت لها خذي مالي وروحي )
ومنه قول بدر الدين الدماميني
( قم بنا نركب طرف اللهو ... سبقا للمدام )
( واثن يا صاح عناني ... لكميت ولجام )

ومثله قول ابن حجر
( سألوا عن عاشق في ... قمر باد سناه )
( أسقمته مقلتاه ... قلت لا بل شفتاه )
ومثله قولي
( عاتبته ودموعي غير جارية ... لأن دمعي من طول البكا نشفا )
( فقال لم أر وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفى )
ولم أستطرد إلى هذا إلا لتأييد قولي إن جميع من نسجت على منوالهم لم يرضوا بالجناس التام إذا أمكنت التورية التامة وصبح الفرق بينهما بحمد الله ظاهر وبدر مثاله في ليالي السطور سافر
انتهى ما أوردته من محاسن التورية التامة ووجوب تقديمها على الجناس التام إذا كان عند الناظم يقظة وكان ممن يميل إلى هذا المذهب
وأما الجناس المطرف فهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفا في طرفه الأول وهذا هو الفرق بينه وبين المذيل فإن الزيادة في المذيل تكون في آخره وأما المطرف فتكون زيادته في أوله لتصير له كالطرف ويسمى الناقص والمردف وفي تسميته اختلاف كثير ولكن مطابقة المطرف في التسمية طرفة كقوله تعالى ( والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق )
والزيادة تارة تكون في أول الركن الثاني كما تقدم وتارة في أول الركن الأول كقول أبي الفتح البستي
( أبا العباس لا تحسب بأني ... بشيء من حلى الأشعار عاري )
( فلي طبع كسلسال معين ... زلال من ذرى الإحجار جاري )
( إذ ما كبت الأدوار زندا ... فلي زند على الأدوار واري )
ومثله
( وكم سبقت منه إلي عوارف ... ثنائي على تلك العوارف وارف )
( وكم غرر من بره ولطائف ... فشكري على تلك اللطائف طائف )

ومثله قول القائل
( قام يسعى ما بين شرب أعزه ... من بني الترك أغيد فيه عزه )
وقصيدة هذا المطلع رأيتها في بعض التذاكر بخط الشهاب محمود ولم أعرف لها ناظما وأعجبني فيها أبيات منها
( يقظ ما يشير طرف إليه ... بمرام إلا ويعرف رمزه )
( كلما تفعل الصوارم تغني ... عنه ألحاظه المراض بغمزه )
ومن نظم ابن نباتة الذي جعله نفثا
( عطفت كأمثال القسي حواجبا ... فرمت غداة البين قلبا واجبا )
ومثله قولي
( والله ما هب النسيم بحاجر ... إلا ترقرق مدمعي بمحاجري )
انتهى الكلام على الجناس التام والمطرف وهما في بيت البديعية ظاهران وبيت صفي الدين الحلي قوله
( من شأنه حمل أعباء الهوى كمدا ... إذا هم شأنه بالدمع لم يلم )
وبيت عز الدين الموصلي
( مذ نم للعين أنس حين طرفها ... مرأى الحبيب ببذل العين لم يلم )
وبيتي
( يسعد ما تم لي سعد يطرفني ... بقربهم وقليل الحظ لم يلم )
وللمتأمل أن يستحلي ويستجلي ما يظهر في مرآة ذوقه ولا يميل عن جادة الإنصاف

الجناس المصحف والمحرف
( هل من يفي ويقي إن صحفوا عذلي ... وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم )

يفي ويقي فيهما جناس التصحيف ومنهم من يسميه جناس الخط وهو ما تماثل ركناه خطا واختلفا لفظا والمقدم في هذا قوله تعالى ( والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ) ومنه قول النبي لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ( قصر ثوبك فإنه أنقى وأتقى وأبقى )
وقول النبي حين سمع رجلا ينشد على سبيل الافتخار وقيل سأله عن نسبه فقال
( إني امرؤ حميري حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر )
فقال له النبي ذلك والله ألأم لجدك وأقل لحدك ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فاتني ربحه لم تفتني ريحة ومنه قول القاضي الفاضل في بعض رسالاته فأنتم يا بني أيوب أيديكم آفة أنفس الأموال كما أن سيوفكم آفة أنفس الأبطال فلو ملكتم الدهر لامتطيتم لياليه أداهم وقلدتم بيض أيامه صوارم ووهبتم شموسه وأقماره دنانير ودراهم وأوقاتكم أعراس ومآتم إلا على الأموال فهي مآثم والجود خاتم في أيديكم ونفس حاتم نقش في ذلك الخاتم
وقال أهل الأدب خلف الوعد خلق الوعد والأربعة أركان بغير حشو وهو غاية في هذا الباب ومن النظم قول الشاعر
( فإن حلو فليس لهم مقر ... وإن رحلوا فليس لهم مفر )
ومثله قول أبي فراس
( من بحر جودك أغترف ... وبفضل علمك أعترف )
ولم أذكر هنا من جناس التصحيف إلا ذالنوع السالم من اختلاف الحركة بالتحريف فإنه إذا اجتمع فيه النوعان صار مشوشا كقول الحريري زينت زينب بقد يقد
فهذا فيه التحريف والتصحيف
وقد تقدم أن الركنين إذا تجاذبهما نوعان من التجنيس ولم يخلصا لواحد كان الجناس مشوشا ومثله قول أبي تمام في حده الحد بين الجد واللعب
ومن المصحف السالم ما كتبت به إلى المقر المخدومي فخر الدين بن مكانس في رسالتي التي ذكرت فيها حريق دمشق وهو وأضحت أوقات الربوة بعد ذلك العيش

الخضل واليسر عسيره ولقد كان أهلها في ظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة فعبس بعد ذلك ثغر روضها الباسم وضاع من غير تورية عطره الناسم
ومن غراميات البهاء زهير ولطائفه في الجناس المصحف قوله
( وليس مشيبا ما ترون بعارضي ... فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا )
( وما هو إلا نور ثغر لثمته ... تعلق في أطراف شعري فألهبا )
( وأعجبني التجنيس بيني وبينه ... فلما تبدى أشنبا رحت أشيبا )
وما أظرف قول شمس الدين بن العفيف وقد كنى بأحد الركنين عن الآخر وهو
( يا ذا الذي صد عن محب ... فيه أذاب الغرام قلبه )
( مالك في الهجر من دليل ... لكن هذي علو قبه )
ولم يطالب فيه بالتشويش لظرافته ولطافته
( انتهى الكلام على الجناس المصحف
وأما قولي وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم فهذا جناس التحريف وهو ما اتفق ركناه في عدد الحروف وترتيبها واختلفا في الحركات سواء كانا من اسمين أو فعلين أو من اسم وفعل أو من غير ذلك فإن القصد اختلاف الحركات كما تقرر والمقدم فيه وهو الغاية التي لا تدرك قوله تعالى ( ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين )
ولا يقال إن اللفظين متحدان في المعنى لأنهما من الأنذار فلا يكون بينهما تجنيس فاختلاف المعنى ظاهر إذ المراد بالأول الفاعلون وهم الرسل وبالثاني المفعولون وهم الذين وقع عليهم الإنذار وقول النبي ( اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي )
ومثله قولهم جبة البرد جنة البرد ومثله قولهم رطب الرطب ضرب من الضرب ومنه قول القاضي الفاضل لا زالت الملوك ببابه وقوفا والأقدار له سيوفا والخلق له في دار الدنيا ضيوفا ودين دين الحق إذا جردوا لتقاضيه سيوفا سيوفي
ومن النظم قول أبي تمام
( هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام )

وما أحلى قول أبي العلاء المعري
( لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل )
ومثله قول ابن الفارض رحمه الله تعالى
( هلا نهاك نهاك عن لوم امرئ ... لم يلف غير منعم بشقاء )
ومثله قول الشيخ عبد العزيز شيخ شيوخ حماة
( لعيني كل يوم فيه عبرة ... تصيرني لأهل العشق عبره )
وغاص هو والقاضي الفاضل في هذا البحر وأظهرا من هذا الروي جواهر العقود فمن قصيد شيخ الشيوخ بحماة
( إذا غفل الوشاة بعثت دمعي ... فيغدو مرسلا من غير فتره )
( علامة شقوتي في الحب إني ... ثقلت عليك لا من طول عشره )
( سألزم باب خمار الثنايا ... ليطلق لي ولو في العمر سكره )
وظريف هنا قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف من قصيدة
( لا أجازي حبيب قلبي بظلمه ... أنا أحني عليه من قلب أمه )
( جوره مثل عدله عند من يهواه ... مثلي وظلمه مثل ظلمه )
وما أظرف قول الصاحب بهاء الدين زهير من غرامياته في هذا النوع
( زها ورد خديك لكنه ... بغير النواظر لم يقطف )
( وقد زعموا أنه مضعف ... وما علموا أنه مضعفي )
وأورد الشيخ كمال الدين الدميري في كتابه المسمى بحياة الحيوان عندما انتهى إلى ذكر المها أبياتا تعجبني في هذا الباب أولها تام وآخرها مطرف وباقي الأبيات تحريفها تمتزج بالأذواق حلاوته المعتدلة والأبيات لجميل بثينة
( خليلي إن قالت بثينة ما له ... أتانا بلا وعد فقولا لها لها )

( أني وهو مشغول لعظم الذي به ... ومنه بات طول الليل يرعى السهاسها )
( بثينة تزري بالغزالة في الضحى ... إذا برزت لم تبق يوما بها بها )
( لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة ... كأن أباها الظبي أو أمها مها )
( دهتني بود قاتل وهو متلفي ... وكم قتلت بالود من ودها دها )
ويعجبني قول من قال إن الصديق الصدوق أول العقد وواسطة العقد
ومثله قولهم البدعة شرك الشرك
وما أحلى قول ابن نباتة
( قوامك تحت شعرك يا أمامه ... غدا لك حاملا علم الإمامه )
ولي مع زيادة التورية
( ولما أراني الشعر وهو مذيل ... وجانب ذاك الصدغ وهو مطرف )
( بدا بخمار من خمار بريقه ... فقلت لهم هذا الجناس المحرف )
انتهى الكلام على الجناس المصحف والمحرف ومنه بيت الشيخ صفي الدين الحلي
( من لي بكل غرير من ظبائهم ... غزير حسن يداوي الكلم بالكلم )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي الحنبلي
( هل من تقي نقي حين صحف لي ... محرف القول زان الحكم بالحكم )
أما التصحيف والتحريف في هذا البيت فظاهران وأما المعنى فالسريرة عند الله
وبيتي
( هل من يقي ويفي إن صحفوا عذلي ... وحرفوا وأتوا بالكلم في الكلم )

الجناس اللفظي والمقلوب
( قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا ... لفظي عذول ملا الأسماع بالألم )

أما اللفظي فهو النوع الذي إذا تماثل ركناه وتجانسا خطا خالف أحدهما الآخر بإبدال حرف منه فيه مناسبة لفظية كما يكتب بالضاد والظاء وشاهده قولي في البيت فاض وفاظ فإن الأول من فيض الماء والثاني من التلف وجاء في هذا النوع من القرآن العظيم ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فالأول من النضارة والثاني من النظر وألحقوا به ما يكتب بالهاء والتاء كقولهم جبلت القلوب على معاداة المعادات وقيل هو حديث أو بالنون والتنوين كقول الأرجاني
( وبيض الهند من وجدي هواز ... بإحدى البيض من عليا هوازن )
أو بالألف والنون كقول الشاعر ابن العفيف
( أحسن خلق الله وجها وفما ... إن لم يكن أحق بالحسن فمن )
ولم ينظم هذا النوع غير الصفي وهو قليل جدا وأصعب مسالكه تركيبه بالضاد والظاء لأجل إبدال الحرف الذي فيه المناسبة اللفظية وقد تقدم قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ أنه أورد في شرحه الذي سماه رقم البردة شيئا من محاسن الزجل على هذا النوع البديعي الذي أطلق عنان القلم في الكلام عليه
والزجل فن يتمكن الناظم فيه من المعاني لجولانه في ميادين الأغصان والخرجات وهو لا يحسن رسمه في الكتابة إلا من عرف اصطلاحه
وكان الشيخ علاء الدين بن مقاتل إذا ذكر الزجل كان ابن بجدته وأبا عذرته وممن سلمت إليه مقاليد هذا الفن
وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي له نبذة من غرر أزجاله في تذكرته وتاريخه تغني عن الإكثار في ترجمته وله في الجناس اللفظي زجل جانسه بالظاء والضاد لم يسبق إليه ومطلعه قوله
( إن مع معشوقي جفون ولحاظ ... لو رآهم عابد لهام وحاض )
( ومع أنوار من سحر عينيه إذا ... حفظوه باب أنساه صلا تودا )
( إن ماعو عيون فواتر حور ... في بحور ولدانها بواتر جفون )
( كيف لا يفتن عشاقو ذاك الفتور ... وعلى خده شامه بنقطة فنون )
( من نظرهم نظره بقي مسحور ... وكيف أنو ما ينسحر من عيون )

( يعتقدهم رقود وهم إيقاظ ... وجفون كل جفن بسيف أي قاض )
( يقضي فيمن بسر وباح وهذي ... حكمه ممن أضل ناس وهدى )
( حضرني لما أن يغيب عني ... في غيابو ياما بتحفظ فصول )
( حتى نوا يصير قريب مني ... ولو أنو يكون في ميدان يجول )
( إيش تضيق الدنيا على ذهني ... ولا يدري إيش كان يريد لو يقول )
( وأنسى ما قد حفظتو من الألفاظ ... ويضيق بي رحب المكان الفاض )
( ولا أطلب يومي شراب وغدا ... فأبقى سكران طول ليلتي وغدا )
( يا نسيم السحر على حبي ... بث مني طيب السلام كلو )
( لله وأوصيه بالعاشق المسبى ... وبقلبي ذاك الذي استلو )
( وإن تيسر لك أن ترى قلبي ... وأن يسل عن جسمي الضعيف قلو )
( أنو نخيل من بعدك إلى أن فاظ ... واغتسل مما من عيونو فاض )
( وعلى حذو الدارجين قد حذا ... وفي نايو حادي المنايا حدا )
( أذكراني في عتبو وخد البهار ... عصتو حتى وقف على ما حرا )
( وبقي هو يحمرونا بصفار ... ونوادر مني ومنو ترا )
( فلا تعجب من خد وكيف يحمار ... فوق ورد الخدود وتحتو جرا )
( ماء الحيا في وجناتو لما انغاظ ... ونشف ماء لوني إلى أن غاض )
( وما ينكر حالي وحالو فذا ... سر فيه ممن أنا لو فدا )
ونظمت في هذا النوع الغريب تورية فجاءت في غاية الحسن ولم أسبق إليها إلا من الشاب الظريف محمد بن العفيف كقوله
( عبتم من المحبوب حمرة شعره ... وأظنكم بدليله لم تشعروا )
( لا تنكروا ما أحمر منه فإنه ... بدماء أرباب الغرام مضفر )
وقولي
( خاطرت في عشقي له يا مهجتي ... لا تشغلي قلبي الحزين وخاطري )
( فالطرف شاهد منه ناضر قده ... فغدا يهيم بكل غصن ناضر )

وقولي
( مرج حماة بنوا غيره ... زاد على المقياس في روضته )
( واغتاظ نمروذ دمشق له ... فقلت لا أفكر في غيضته )
وقولي
( حضبت عزمي إليك شوقا ... فلم أطق مكثة بأرض )
( وحيث لم أحظ بالتلاقي ... فغايتي أن ألوم حضي )
انتهى الكلام على الجناس اللفظي وأما الجناس المقلوب وسماه قوم جناس العكس وهو الذي يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب كقوله تعالى حكاية عن هارون ( خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ) ومنه قول النبي ( يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارقأ )
وما ألطف ما أشار الصاحب بن عباد إلى الجناس المقلوب بقوله لأبي العباس بن الحرث في يوم قيظ وقد طلب مروحة الخيش ما يقول الشيخ في قلبه يعني الخيش ومروحة الخيش أحدثها بنو العباس وذكرها الحريري في المقامات وقال اسمعوا وقيتم الطيش وأنشد لغزا في مروحة الخيش
( وجارية في سيرها مشمعلة ... ولكن على أثر المسير قفولها )
( لها سائق من جنسها يستحثها ... على أنه في الاحتثاث رسيلها )
( ترى في أوان القيظ تنطف بالندى ... ويبدو إذا ولى المصيف فحولها )
وكان السبب في حدوث هذه المروحة إن هارون الرشيد دخل يوما على أخته علية بنت المهدي في يوم قيظ فألفاها وقد صبغت ثيابها من زعفران وصندل ونشرتها على الحبال لتجف فجلس هارون قريبا من الثياب المنشورة فصارت الريح تمر على الثياب فتحمل منها ريحا بليلة عطرة فوجد لذلك راحة من الحر واستطابه وأمر أن يصنع له مثل ذلك وقال ابن الشريشي في شرح المقامات وهذه المروحة شبه الشراع للسفينة تعلق بالسقف ويشد بها حبل وتبل بالماء وترش بالماورد فإذا أراد الرجل في القائلة

أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء فيهب على النائم منها نسيم بارد رطب
اه
رجع إلى الجناس المقلوب فمنه قول بعضهم
( حكاني بهار الروض حين ألفته ... وكل مشوق للبهار مصاحب )
( فقلت له ما بال لونك شاحبا ... فقال لأني حين أقلب راهب )
وما أحلى قول ابن العفيف مع زيادة التورية
( أسكرني باللفظ والمقلة ... الكحلاء والوجنة والكاس )
( ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاس )
وبديع هنا قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في الأمير شجاع الدين بهرام
( قيل كل القلوب من ... رهب الحرب تضطرب )
( قلت هذا تخرص ... قلب بهرام ما رهب )
وبيت عبد الله بن رواحة غاية في هذا النوع وقيل هو أمدح بيت قالته العرب فإنه من جملة مديح النبي وهو قوله
( تحمله الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما )
وما أحلى قول القائل
( وألفيتهم يستعرضون حوائجا ... إليهم ولو كانت عليهم جوائحا )
ومثله
( إن بين الضلوع مني نارا ... تتلظى فكيف لي أن أطيقا )
( فبحقي عليك يا من سقاني ... أرحيقا سقيتني أم حريقا )
ومن الغايات في هذا الباب قول القائل
( لبق أقبل فيه هيف ... كل ما أملك إن غنى هبه )

فهذا البيت كل كلمة منه بانضمامها إلى أختها تجانسها في القلب وأعلى منه رتبة قول سيف الدين ابن المشد
( ليل أضاء هلاله ... أنى يضيء بكوكب )
وهذا البيت كل كلمة منه تقرأ مستوية ومقلوبة وهو مما لا يستحيل بالانعكاس كقول الحريري ساكب كاس وهذا النوع يأتي الكلام عليه في موضعه لأن المراد هنا جناس القلب وللشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي أيضا زجل في هذا النوع سارت به الركبان أنشده المصنف في حماة بحضرة الملك المؤيد والشيخ صفي الدين والشيخ جمال الدين بن نباتة فوقع في المجلس شيء إذا استوعبت الزجل كتابة علمته
( قلبي بحب تياه ... ليس يعشق إلا إياه ... فاز من وقف وحياه ... يرصد على محياه )
( بدر السما لو يطبع ... من رام وصالو يعطب )
( صغير بحير في أمرو ... غزال قهر بسمرو ... ليث الهوى ونمرو ... فاعجب لصغر عمرو )
( ريم ابن عشر وأربع ... أردى الأسود وأرعب )
( أذكر نهار تبعتو ... وروحي كنت بعتو ... وخيب ما فيه طمعتو ... فقال وقد سمعتو )
( ارجع ولا لي تتبع ... أخشى عليك لا تتعب )
( كم قدامو وخلفو ... مشيت مطيع لحلفو ... ورمت لثم كفو ... قال دع مناك وكفو )
( فإن لثم أصبع ... من الثريا أصعب )
( ما زلت لو نداري ... حتى حصل في داري ... ناديت ودمعي جاري إيش ... كان يصيب يا جاري )
( لو كنت من فيك أشبع ... قال إيش يكن لك أشعب )
( من حاز حسن خدو ... لحظو لقتلي حدو ... وورد خد وندو ... ما في الرياض شيء )
( روض الحيا مبرقع ... عليه ساج معقرب )
( من في الجمال فريدو ... للصب من وريدو ... يذبح ولو يزيدو ... وكم ذا شيخ مريدو )
( خلاه دموعو يبلع ... وهو بعقلو يلعب )
( كم خصم في المقاتل ... صابو ابن مقاتل ... وكم ذا في المحافل ... قد أنشالوا جحافل )
( من كل بيت مربع ... ملحون بألف معرب )
والشيء اللطيف الذي وقع في المجلس المشار إليه ووعدت بذكره ذكروا أن الشيخ علاء الدين بن مقاتل لما وصل إلى قوله ملحون بألف معرب صار الشيخ جمال

الدين بن نبانة ينظر إلى الشيخ علاء الدين بن مقاتل ويشير إلى الشيخ صفي الدين الحلي ويقول ملحون بألف معرب
والملك المؤيد يتبسم لذلك
اه
وإذا نظر المتأمل إلى بعض هذه الأحرف في رسم كتابة الزجل لا ينتقد فإن شرط رسمه أن يوضع كذا لأجل تحرير وزنه
انتهى الكلام على الجناس اللفظي والمقلوب وبيت الشيخ صفي الدين الحلي فيهما
( بكل قد نضير لا نظير له ... لا ينقضي أملي منه ولا ألمي )
وبيت الشيخ عز الدين
( لفظي حض على حظ يمانعه ... مقلوب معنى ملا الأحشاء من ألم )
وبيتي
( قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا ... لفظي عذول ملا الأسماع بالألم )
انتهى والله أعلم

ذكر الجناس المعنوي
( أبا معاذ أخا الخنساء كنت لهم ... يا معنوي فهدوني بجورهم )
أما الجناس المعنوي فإنه ضربان تجنيس إضمار وتجنيس إشارة
ومنهم من سمى تجنيس الإشارة تجنيس الكناية وكل منهما مطابق التسمية
ولم ينظم الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته غير نوع الإضمار وهو أصعب مسلكا من جناس الإشارة ولا بد أن أنوع هذا الشرح بمحاسن النوعين فإن المعنوي طرفة من طرف الأدب عزيز الوجود جدا ولم يذكره الشيخ جلال الدين القزويني في التلخيص ولا في الإيضاح ولا ذكره ابن رشيق في العمدة ولا زكي الدين بن أبي الأصبع في التحرير ولا ابن منقذ في كتابه والعميان ذكروه في شرح بديعيتهم ولكن ما تيسر لهم نظمه وذكر الشهاب محمود في كتابه المسمى بحسن التوسل في صناعة الترسل منه نوع

الإشارة لا نوع الإضمار ولكن ما نظمه ولم يذكر نوع الإضمار في بديعيته غير الشيخ صفي الدين الحلي وقد تقدم القول أنه قال عن بديعيته إنها نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن
وكان شيخنا قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي رحمه الله يقول وهو إمام هذا العلم ما أعلم لبيت أبي بكر بن عبدون في إضمار الركنين ثانيا غير بيت الشيخ صفي الدين الحلي ولو لم يفتح ابن عبدون هذا الباب في بيته ما حصل للشيخ صفي الدين دخول إلى نظم هذا النوع
انتهى
والكلام على البيتين يأتي بعد تعريف النوع
فالمعنوي المضمر هو أن يضمر الناظم ركني التجنيس ويأتي في الظاهر بما يرادف المضمر للدلالة عليه فإن تعذر المرادف أتى بلفظ فيه كناية لطيفة تدل على المضمر بالمعنى كقول أبي بكر بن عبدون المشار إليه وقد اصطبح بخمرة ترك بعضها إلى الليل فصارت خلا
( ألا في سبيل اللهو كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت )
( حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأمست كجسم الشنفري بعد ثابت )
فبنت بسطام بن قيس كان اسمها الصهباء والشنفري قال
( اسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي من بعد حالي لخل )
والخل هو الرقيق المهزول فظهر من كناية اللفظ الظاهر جناسان مضمران في صهباء وصهباء وخل وخل وهما في صدر البيت وعجزه ومن هنا أخذ الشيخ صفي الدين الحلي وقال
( وكل لحظ أتى باسم ابن ذي يزن ... في فتكه بالمعنى أو أبى هرم )
فابن ذي يزن اسمه سيف وأبو هرم اسمه سنان فظهر له جناسان مضمران من كنايات الألفاظ الظاهرة فظهر قول شيخنا قاضي القضاة علاء الدين إن هذا الباب ما فتحه للشيخ صفي الدين غير ابن عبدون وكنت أود أن يكون شيخنا رحمه الله حيا ويراني قد عززتهما بثالث وهو
( أبا معاذ أخا الخنساء كنت لهم ... يا معنوي فهدوني بجورهم )
أبو معاذ اسمه جبل وأخو الخنساء اسمه صخر فظهر له من كنايات الألفاظ

الظاهرة أيضا جناسان مضمران في صدر البيت وهما جبل وجبل وصخر وصخر وبالنسبة إلى الجبل في الركن الواحد يحسن قولي فهدوني بجورهم وقد أظهرت محاسن هذا الجناس المضمر وكشفت عن جماله الباهر سطور الأشكال ليتمتع به صاحب الذوق السليم فإن فحول المتأخرين وقفوا عن المجاراة في حلبته ولم يتعلق أحد منهم إلا بأذيال الضرب الثاني وهو جناس الإشارة ويأتي الكلام عليه
ومن غريب ما يحكى أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال في شرح لامية العجم وفي كتابه المسمى بجنان الجناس لما اعترضه الجناس المعنوي قال هذا النوع عندي باطل ولم يتيسر له منه نظم بيت واحد مع كثرة تهافته على الجناس وأنواعه
والذي يظهر لي أنه عجز عن نظمه فإنه قال في غضون ذلك وقد استخرجت من شعر أبي الطيب المتنبي من الجناس المعنوي قوله
( حاولن تقريبي وخفن مراقبا ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا )
وهذا دليل على أنه لم يفهمه
انتهى الكلام على الجناس المعنوي الذي يضمر فيه الركنان وما أخرت بيت الشيخ عز الدين الموصلي ونثرت نظم الترتيب الذي تقدم إلا لتنحيه عن نظم الجناس المعنوي المضمر الركنين وميله إلى جناس الإشارة لسهولة مأخذه فلم يبق لبيته طاقة على المناظرة لتحوله عن النوع الذي عارض فيه الشيخ صفي الدين والظاهر أنه قنع بقول القائل
( إذا منعتك أشجار المعالي ... جناها الغض فاقنع بالشميم )
والضرب الثاني من المعنوي وهو جناس الإشارة والكناية هو غير الأول وسبب ورود هذا النوع في النظم أن الشاعر يقصد المجانسة في بيته بين الركنين من الجناس فلا يوافقه الوزن على إبرازهما فيضمر الواحد ويعدل بقوته إلى مرادف فيه كناية تدل على الركن المضمر فإن لم يتفق له مرادف الركن المضمر يأتي بلفظة فيها كناية لطيفة تدل عليه وهذا لا يتفق في الكلام المنثور والذي يدل عليه المرادف قول امرأة من عقيل وقد أراد قومها الرحيل عن بني ثهلان وتوجه منهم جماعة يحضرون الإبل وهو
( فما مكثنا دام الجمال عليكما ... بثهلان إلا أن تشد الأباعر )

وأرادت أن تجانس بين الجمال والجمال فلم يساعدها الوزن ولا القافية فعدلت إلى مرادفة الجمال بالأباعر والذي يدل على مضمره اللفظة الظاهرة بالكناية اللطيفة قول دعبل في امرأته سلمى
( إني أحبك حبا لو تضمنه ... سلمى سميك ذاك الشاهق الراسي )
فالكناية اللطيفة في سميك لأنها أشعرت أن الركن المضمر في سلمى يظهر منه جناس الإشارة بين الركن الظاهر والمضمر في سلمى وسلمى الذي هو الجبل ومثله قول الآخر
( وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد تلك الخدود )
فكنى عن العقارب بمقلوب البراقع ولا شك أن بين اللفظ المصرح به والمكنى عنه تجانسا ومثله قول الآخر يهجو مغنيا ثقيلا
( قال غنيت ثقيلا ... قلت قد غنيت نفسك )
ومن الكنايات بالمرادف قول شرف الدين بن الحلاوي وهو غاية في هذا النوع
( وبدت نظائر ثغره في قرطه ... فتشابها متخالفين فأشكلا )
( فرأيت تحت البدر سالفة الطلا ... ورأيت فوق الدر مسكرة الطلا )
أراد أن يجانس بين سالفة الطلا وسلافة الطلا فلم يساعده الوزن فعدل بقوته إلى المسكرة وهي مرادفة السلافة وقد تقدم أن الشيخ عز الدين الموصلي لم ينظم من المعنوي إلا هذا الضرب وهو الذي أوجب تأخير بيته عن المناظرة وقد تقرر أن الشاعر يريد في هذا النوع إظهار الركنين فلا يساعده الوزن فيعدل بحسن تصرفه إلى مرادفه وأراد الشيخ عز الدين أن يمشي على هذا الطريق فحصل له في الطريق عقلة فإنه قال
( وكافر يضمر الإحسان في عذل ... كظلمة الليل عن ذا المعنوي عمي )
فالليل يسمى كافرا وهو الذي يستر الأشياء وكافر هنا بمعنى ساتر وهذا هو الركن الذي أضمره عز الدين ورادفه بالظلمة وكنى بها عنه فظهر منها جناس الإشارة بين كافر

وكافر غير أن الوزن ما عصى على عز الدين حتى عدل إلى المرادف فلو أراد أن يبرز الركنين لكان الوزن داخلا تحت طاعته إذا قال
( وكافر يضمر الإحسان في عذل ... ككافر الليل عن ذا المعنوي عمي )
ولما وقف مولانا الشيخ شهاب الدين بن حجر على هذا النوع قال هذا عزيز الوجود وأنشدني بعد أيام مولانا السلطان الملك المؤيد هذين البيتين وهما في نوع المضمر المقدم ذكره غاية وهما
( جمع الصفات الصالحات مليكنا ... فغدا بنصر الحق منه مؤيدا )
( كأبي الأمين برأيه وكجده ... أني توجه وابن يحيى في الندى )
ومن نظمي في نوع الإشارة الغريبة قولي من جملة قصيد في سكر حماة
( وجناس ذاك السكر يحلو للورى ... تحريفه ويروق في تشرين )
ففي صريح الجناس وتورية التحريف كنايتان لطيفتان يظهر منهما جناس الإشارة محرفا بين السكر والسكر والمراد بقولي يروق في تشرين أن عاصي حماة يروق في هذا الفصل إلى أن يرى قراره من أعالي شطوطه وهذه القصيدة كتبت بها من القاهرة المحروسة في عام ثماني عشرة وثمانمائة إلى مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي كاتب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية وقد حل ركابه الكريم بحماة المحروسة وقالت شطوطها أهلا بعيش أخضر يتجدد وروى عاصيها بعد نار شوقه الكامل عن المبرد وعادت إلى عصر الشبيبة وقد شاهدت الملك المؤيد ومطلع القصيدة
( خلي التعلل في حمى يبرين ... فهوى حماة هو الذي يبريني )
( وأطع ولا تذكر مع العاصي حمى ... ما في وراء النهر ما يرضيني )
( أنا سائل والنهر فيها لذلي ... ومع افتقاري نظرة تغنيني )
( والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين )
( والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين )
( والله ما أنا آيس من قربها ... بالله صدقني وخذ بيميني )

( فالطرف قد أبقى بقايا أدمع ... وهناك أجريها برجع أنيني )
( فاحذر ملامي عند فيض مدامعي ... فالدمع دمعي والعيون عيوني )
( قالوا تسلى عن ثمار شطوطها ... فأجبت لا والتين والزيتون )
( يا لائمين على شريعتها لكم ... في ذاك دينكم ولي أنا ديني )
( فلنا على الأعراف من ريحانها ... قصص أتت بتناسخ البشنين )
( وبشط شرعا يا لنا كم شرعت ... أعوادها وتثقفت باللين )
( لكن إذا اشتبكت رأيت الظل قد ... ألقته مضطربا شبيه طعين )
( وخيال ضوء الشمس في تدويره ... يحكي فم الطعنات في التكوين )
( وعيونها كم قال هدب نباتها ... ما للبناني مثل شرح عيوني )
( تلك المعالم والمعاهد بغيتي ... بحماة لا الجيران من جيرون )
( كم قال دمع الصب ليتهم على ... تلك الرسوم بفضلهم يجروني )
( يا نازلين حمى حماة نعمتم ... فيها صباحا نوره يهديني )
( قد كنت أنساها برؤيتكم وقد ... صرتم بها فالصبر غير معيني )
( غبتم وهذا محضري لي شاهد ... بالعسر من صبري وبالمضمون )
( وحللتم دار السعادة بالحمى ... فبحقكم بالبعد لا تشقوني )
( ذنبي عظيم لانقطاعي عنكم ... فلأجله في مصر لا تبقوني )
( وتكونت نار اشتياقي في الحشا ... لفساد تكويني فدع تكويني )
( وعجزت ضعفا عن وفا دين اللقا ... فترفقوا بفؤادي المرهون )
( فعسى يزول ظلام بعدي عنكم ... وأرى ضياء القرب من شمسين )
( ولرقة فيكم أظن بأنكم ... حنيتم طربا لرجع حنيني )
( هذي غراميات صب ماله ... أرب بتورية ولا تضمين )
( لكن إذا ذكروا بديع مدائح ... في البارزي فكل فوق دوني )
( ما القصد فخري إنما أنا عبده ... فالشك أدفعه بحسن يقيني )
( الغصن نسقيه وغصن يراعه ... يسقي الورى لكن أنا ينشيني )

( فالطرس وهو مطوق بيمينه ... ينسي السواجع معرب التلحين )
( هو كامل في فضله وعلومه ... والله أعطاه كمال الدين )
( حسنت لياليه وأيام له ... فهدى الزمان بطرة وجبين )
( يا صاحب البيت الذي عن وصفه ... قد أحجمت شعراء هذا الحين )
( إن جاء نظمي قاصرا عن وصفه ... عذرا فهذي نشطة الخمسين )
( ونعم كبرت وبان عجزي إنما ... كانت مسرات اللقا تصبيني )
( وحجبتموني عن حماة وغبتموا ... عني فهذا من فنون جنوني )
( وقعدت عن ديوان شيخ شيوخنا ... في مصر جار عويس والمتيني )
( برهان شوقي قد أقمت دليله ... بسنا نجوت مع ضياء الدين )
( لا زلتم بكمالكم في نعمة ... مقرونة بالنصر والتمكين )

ذكر الاستطراد
( واستطردوا خيل صبري عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم )
الاستطراد في اللغة مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب وذلك أن يفر من بين يديه يوهمه الانهزام ثم يعطف عليه على غرة منه وهو ضرب من المكيدة وفي الاصطلاح أن تكون في غرض من أغراض الشعر توهم أنك مستمر فيه ثم تخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ولا بد من التصريح باسم المستطرد به بشرط أن لا يكون قد تقدم له ذكر ثم ترجع إلى الأول وتقطع الكلام فيكون المستطرد به آخر كلامك وهذا هو الفرق بينه وبين المخلص فإن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول وقطع الكلام بعد المستطرد به والأمران معدومان في المخلص فإنه لا يرجع إلى الأول ولا يقطع الكلام بل يستمر إلى ما يخلص إليه
وحد صاحب الإيضاح الاستطراد بحد أتى فيه بالغرض بعد ما بالغ في الإيجاز فإنه قال الاستطراد هو الانتقال من معنى إلى معنى متصل به ثم يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني ففي قوله متصل به جل القصد وعدم الاحتياج إلى الكلام الكثير
وذكر الحاتمي في حلية المحاضرة أنه نقل هذه التسمية عن البحتري
وذكر غيره أن البحتري نقلها عن أبي تمام وقال ابن المعتز الاستطراد هو الخروج من معنى إلى معنى وفسره بأن قال هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الأخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمن مدحا أو هجوا أو وصفا وغالب وقوعه في الهجاء فمنه قوله تعالى في كتابه العزيز ( ألا بعدا لمدين كما بعدت

ثمود ) فذكر ثمود استطراد
وقيل إن أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال قول السموأل
( وإنا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول )
فانظر إلى خروجه الداخل في الافتخار إلى الهجو وحسن عوده إلى ما كان عليه من الافتخار بقوله
( يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول )
ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه
( إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام )
( ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... فنجا برأس طمره ولجام )
فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحرث بن هشام والحرث هو أخو أبي جهل أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه ومات يوم اليرموك بالشام ومنه قول البحتري من قصيدة في وصف فرس
( كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل )
( ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل )
( ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول )
ومنه قول أحمد بن يحيى البلاذري يرثي أبا تمام
( أمسى حبيب رهن قبر موحش ... لم يدفع الأقدار عنه بكيد )
( لم ينجه لما تناهى عمره ... أدب ولم يسلم بقوة أيد )
( قد كنت أرجو أن تنالك رحمة ... لكن أخاف قرابة ابن حميد )

ما أحسن ما خرج من الرثاء إلى الهجو في حميد بن قحطبة والقرابة التي بينه وبين ابن حميد أنهما كانا طائيين ومنه قول الحسين بن علي القمي
( جاورت أجبالا كأن صخورها ... وجنات نجم ذي الحياء البارد )
( والشوك يفعل في ثيابي مثل ما ... فعل الهجاء بعرض عبد الواحد )
ومنه قول أبي محمد بن مكدم وهو غاية في هذا الباب
( وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه )
( قطعت فنومي عن جفوني مشرد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه )
( بذي أولق فيه اعوجاج كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه )
( إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش ونور جبينه )
فانظر إلى قوة الاستطراد من وصف حاله مع الليل إلى هجاء الثلاثة ومدح قرواش
ومنه
( إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به باس وإن كان من جرم )
أنظر ما أبلغ ما خرج من الوعظ إلى الهجو المؤلم في قبيلة جرم
ومثله
( وشادن بالدلال عاتبني ... واميتتي من تدلل العاتب )
( فكان ردي عليه من خجل ... أبرد من شعر خالد الكاتب )
ومنه قول ابن المعتز
( ولقد شربت مدامة كرخية ... مع ماجد طلق اليدين حميد )
( عليت بماء بارد فكأنما ... عليت ببرد قصيدة ابن سعيد )
ومثله قول بعضهم يصف خمرا طبخت حتى راقت وصفت
( لم يبق منها وقود الطابخين لها ... إلا كما أبقت الأنواء من داري )

أنظر ما أحلى استطراده من وصف الخمر إلى وصف داره بالخراب بألطف كناية
والغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو وهو كقول جرير يهجو أم الفرزدق
( لها برص بأسفل اسكتيها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا )
ومثله قوله
( وكأني أقرأ بحرف أبي عمرو ... على القوم سورة الأنعام )
( محنة تصفع ابن عمرو بن يحيى ... في دماغ الأعشى بنعل القطامي )
ولقد أردت أن أستطرد هنا إلى ذكر ما وقع لي وللمتأخرين من الاستطرادات الغريبة فلم أجد أبدع من بيت البديعية فاكتفيت عند قضاة الأدب بحسن آدابه فإنه أعدل شاهد في هذا الباب وحبست عنان القلم عن الاستطراد في وصفه علما أن في إنصاف علماء الأدب إذا وقفوا عليه ما يغني عن ذلك
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( كأن آناء ليلى في تطاولها ... تسويف كاذب آمالي بقربهم )
الذي يظهر لي أن الشيخ صفي الدين عبر على الاستطراد بتقديم أداة التشبيه في أول البيت وقد تقدم قول صاحب الإيضاح أن يقصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني وما خرج أحد من الاستطراد بطريق التشبيه إلا جعل أداة التشبيه مع المستطرد به في آخر الكلام كقول السري الرفاء
( لنا روضة بالدار صيغ لزهرها ... قلائد من حلي الندى وشنوف )
( يمر بنا فيها إذا ما تبسمت ... نسيم كعقل الخالدي ضعيف )

فأداة التشبيه جاءت هنا في الآخر مع المستطرد به كما تقرر ولم يقدم الناظم في أول البيت ما يتوصل به إلى آخره
اه
ومثل هذا الإيراد قول ابن جلنك الحلبي وهو أظرف ما رأيت في هذا الباب حكي أنه كتب رقعة إلى بعض الحكام وقيل إلى قاضي القضاه كمال الدين بن الزملكاني يسأله فيها شيئا فوقع له بخبز وأستحيي أن أقول إنه رطلان فتوجه ابن جلنك يوما إلى بستان يرتاض فيه فقيل إنه لقاضي القضاة المشار إليه فكتب على حائط البستان
( لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها )
( والبان تحسبها سنانيرا رأت ... قاضي القضاة فنفشت أذنابها )
فاستطراده من وصف البستان وتشبيه البان التشبيه المخترع إلى هجو قاضي القضاة مرقص عند سماعه
وما شك أحد من أهل الأدب أن التشبيه غريب في اختراعه وقيل إن الشيخ بدر الدين بن مالك أملى عليهما كراسة في البديع وأنا بالأشواق إلى رؤيتها
ومن استطرادات أبي عبد الله محمد بن حجاج البغدادي في طريقه التي لم تنسج على منوالها غيره فإن الشيخ جمال الدين بن نباتة قال فيها في خطبة كتابه المسمى بتلطيف المزاج في شعر ابن حجاج فإني رأيت نتائج أفكار الشعراء ذرية بعضها من بعض وأمم أشعارهم تبعث جميعها في صعيد واحد من الأرض إلا أشعار الأريب الفريد أبي عبد الله الحسين بن حجاج فإنها أمة غريبة تبعث وحدها وذرية عجيبة تبلغ بإتقان اللهو اللعب رشدها لم يحط خاطر أحد بمثلها خبرا ولا استطاع على معارضة شهدها صبرا انتهى قول الشيخ جمال الدين
واستطراده الموعود بذكره هو قوله
( تفديك أمي وأبي ... وابني وإن كان صبي )
( يا من إليه حينما ... وجدته منقلبي )

( يا من مديح غيره ... عندي عزيز المطلب )
( لحية من يشناك في ... حال رضا أو غضب )
( من عين من يطلبها ... بالليل في استي تختبي )
( وأمه أم الشكوك ... في استها والريب )
( ذات حر أوسع من ... شارع باب اللعب )
( وشعرة غليظة ... ذات نبات أشيب )
( قد شاب منها بعضها ... وبعضها لم يشب )
( نتفت منها طاقة ... بشدة أو تعب )
( فما شككت أنها ... لحية ابن الحلبي )
ومنها في الاستطرادات الغريبة لما بلغه أن المهذب يعشق ابن أخيه وينكر ذلك ويعقد الأيمان عليه بسببه قوله
( جارية مثل شراع ... المضرب المطنب )
( صعدت من عليها ... بالليل فوق مرقب )
حتى رأيت ابن أخي ... بحضرة المهذب )
ومثله قوله من قصيدة
( حتى متى أفديك يا ستي ... بندف قطن استك دق إستي )
( متى أرى سرمك منهدما ... وخصيتي تنهز من تحتي )
( قالت بهذا الأير واستحقرت ... وكان قد نام على بختي )
( قلت نعم هذا على ما به ... قد ضرط البخت فما أنت )
( هذا إذا قام استوى طوله ... بطول ساقيك إذا نمت )
( فلو رأيتيه على بيضه ... مثل أبي منصور في الدست )
( خريت بالطول على عارضي ... صاحب ديوان أو بلت )

( يا أيها الأستاذ يا من به ... يمسي كما أملته وقتي )
( خذ بيدي إني في محنة ... زلقت فيها في خرا تحتي )
وأما قول القاضي الفاضل في هذا الباب على طريقته الفاضلية فإنه عجيب وهو
( لي عندكم دين ولكن هل له ... من طالب وفؤادي المرهون )
( فكأنني ألف ولام في الهوى ... وكأن موعد وصلكم تنوين )
ومثله قول مسلم بن الوليد
( سريت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر خالد )
وغاية الغايات في هذا الباب قول عبد المطلب جد النبي
( لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... ولو تسلت أسلناها على الأسل )
( لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل )
أنظر إلى هذه البلاغة الهاشمية كيف جمعت بين حشمة الافتخار وتفخم الحماسة وبديع الافتنان وغريب الاستطراد ورقة الانسجام
انتهى الكلام على بيت الشيخ صفي الدين الحلي
وبيت العميان هو
( قد أفصح الضب تصديقا لبعثته ... إفصاح قس وسمع القوم لم يهم )
وهذا البيت على طريق الشيخ صفي الدين الحلي فإن ناظمه قصد بذكر الأول التوصل إلى الثاني وبيت الشيخ عز الدين الموصلي هو
( يستطرد الشوق خيل الدمع سابقة ... فيفضل السحب فضل العرب للعجم )
الذي أقوله إن الشيخ عز الدين رحمه الله أحرز قصبات السبق بما استطرده هنا على الشيخ صفي الدين وعلى العميان مع التزامه بتسمية النوع المورى به من أنس الغزل ومراعاة جانب الرقة ونظم الاستطراد على الشرط المذكور وبيت بديعيتي هو
( واستطردوا خيل شوقي عنهم فكبت ... وقصرت كليالينا بوصلهم )
وهذا البيت غريب ولا بد لأهل الأدب من تأهيل غريبه
انتهى

ذكر الاستعارة
( وكان غرس التمني يانعا فذوى ... بالاستعارة من نيران هجرهم )
الاستعارة عندهم أفضل من المجاز وهي أخص منه إذ قصد المبالغة شرط في الاستعارة دون المجاز وموقعها في الأذواق السليمة أبلغ وليس في أنواع البديع أعجب منها إذا وقعت في مواقعها وللناس فيها اختلاف كثير
وأما أصحاب المعاني والبيان فإنهم أطلقوا فيها أعنة أقلامهم وجالوا بها في ميادين البحوث
وليس الغرض هنا إلا نفس الاستطراد إلى ما وقع فيها من المحاسن نظما ونثرا بعد تقريبها إلى الأذهان بحدود يزول بها الالتباس
حد الرماني الاستعارة فقال هي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل
وذكر الخفاجي كلام الرماني وقال تفسير هذه الجملة قوله عز و جل ( واشتعل الرأس شيبا ) استعارة لأن الاشتعال للنار ولم يوضع في أصل اللغة للشيب فلما نقل إليه بان المعنى لما اكتسبه من التشبيه لأن الشيب لما كان يأخذ من الرأس شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأول كان بمنزلة النار التي تسري في الخشب حتى تحيله إلى غير حاله المتقدمة فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان
ولا بد أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها لأن الحقيقة لو قامت مقامها لكانت أولى بها ولا يخفى على أهل الذوق أن قوله تعالى

( واشتعل الرأس شيبا ) أبلغ من كثر شيب الرأس وهو حقيقة ولا بد للاستعارة من مستعار منه ومستعار ومستعار له فالنار مستعار منها والاشتعال مستعار والشيب مستعار له
انتهى
ومنهم من قال هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه وهذا يؤيد قول ابن جني إن لم تكن الاستعارة للمبالغة وإلا فهي حقيقة
وكلام ابن جني حسن في موضعه فإن الشي إذا أعطي وصف نفسه لم تكن استعارة
وقال ابن المعتز هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء عرف بها كقول النبي ( ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء ) فاستعار الفحمة للعشاء لقصد حسن البيان
ومنهم من قال هي استعارة الشيء المحسوس للشيء المعقول
قال فخر الدين الرازي هي جعلك الشيء للشيء للمبالغة في التشبيه
وقال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير هي نقل اسم الراجح إلى المرجوح لطلب المبالغة في التشبه وحسن البيان فإنك إذا قلت زيد أسد فقد نقلت اسم الأسد لزيد لكن الأسد راجح في الجراءة وزيد مرجوح وقد بالغت في تشبيه زيد بالأسد وأحسنت البيان انتهى
ولا تحسن الاستعارة إلا إذا كان التشبيه مقررا وكلما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسنا وما أحسن قول ذي الرمة هنا
( أقامت بها حتى ذوى العود في الثرى ... وكف الثريا في ملاءته الفجر )
فاستعار للفجر ملاءة وأخرج لفظه مخرج التشبيه
وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى أن لأحد مثل هذه الاستعارة وأحسن الاستعارات ما قرب منها دون ما بعد وأعظمها في هذا الباب قوله تعالى ( والصبح إذا تنفس ) فإن ظهور الأنوار من المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا بينه وبين إخراج النفس مشابهة شديدة القرب ومن هذا النور استضاء الحريري في مقاماته بقوله إلى أن عطس أنف الصباح
وقد تقدم أن بعد الاستعارة يبعد من القلوب عند أهل الذوق كقول أبي نواس مع يقظته
( بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح )

فأي شيء أبعد استعارة من صوت المال وكيف يصيح ويبح من الشكوى ومثله قول بشار
( وجدت رقاب الوصل أسياف هجرنا ... وقدت لرجل البين نعلين من خدي )
قال ابن رشيق في العمدة ما أقبح رجل البين وأهجن استعارتها وكذلك رقاب الوصل
ومثله قول ابن المعتز وهو من أنقد النقاد كل يوم يبول زب السحاب
وأين هذا البعد من قرب استعارة ابن نباتة القديم في قوله
( حتى إذا نهر الأباطح والثرى ... نظرت إليه بأعين النوار )
فنظر أعين النوار من أشبه الاستعارات وأليقها وأقربها لأن النوار يشبه العيون إذا كان مقابلا لمن يمر به كأنه ناظر إليه ويعجبني هنا قول القائل ولم يلحق فيما قاله
( مجرة جدول وسماء آس ... وأنجم نرجس وشموس ورد )
( ورعد مثالث وسحاب كاس ... وبرق مدامة وضباب ند )
ومن الغايات في هذا الباب قول مجير الدين ابن تميم
( وليلة بت أسقى في غياهبها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم )
( ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم )
والذي اتفق عليه علماء البديع أن الاستعارة المرشحة هي المقدمة في هذا الباب وليس فوق رتبتها في البديع رتبة وأعلاها وأغلاها قوله تعالى ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ) فإن الاستعارة الأولى وهي لفظ الشراء رشحت الثانية وهي لفظ الربح والتجارة ومن الاستعارات المرشحة قول الإمام

علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعالى عنه الدنيا من أمسى فيها على جناح أمن أصبح فيها على قوادم خوف فإن الاستعارة الأولى التي هي لفظ الجناح رشحت الثانية وهو لفظ القوادم مع زيادة المطابقة بين الأمن والخوف والصباح والمساء وناهيك بالبلاغة الهاشمية وباب المدينة وما أحلى قول بعض العرب فيها جعلنا رماحنا أرشية الموت فاستقينا بها أرواح العدا ومثله قول الشاعر
( سلامة بن نجاح ... يجد حث الراح )
( إذا تغنى زمرنا ... عليه بالأقداح )
ومثله لابن سكرة وشتان بين قوله هنا وبين قوله في الكافات
( قيل ما أعددت للبرد ... فقد جاء بشده )
( قلت دراعة عري ... تحتها جبة رعده )
والذي ينشأ هنا قول القائل
( والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق )
ومثله قول ابن رشيق رحمه الله
( باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المزاح )
( من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح )
وما ألطف قول أبي زكريا المغربي وقد ترجمه ذو الوزارتين لسان الدين ابن الخطيب في تاريخه المسمى بالإحاطة في تاريخ غرناطة وهو
( نام طفل النبت في حجر النعامي ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامي )
( كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما )
( تحسب البدر محيا ثملا ... قد سقته راحة الصبح مداما )
ويعجبني هنا قول ابن قلاقس
( وفي طمي أبراد النسيم خميلة ... بأعطافها نور المنى يتفتح )

( تضاحك في سر المعاطف عارضا ... مدامعه في وجنة الروض تسفح )
( وتوري به كف الصبا زند بارق ... شرارته في فحمه الليل تقدح )
وقال أبو الحسن علي بن ظافر العسقلاني في كتابه المسمى ببدائع البداية اجتمعت أنا والقاضي الأعز يوما في روضة فقلت له أجز طار نسيم الروض من وكر الزهر
فقال وجاء مبلول الجناح بالمطر
وما أبدع قول ابن خفاجة في هذا الباب
( وقد نظرت شمس الأصيل إلى الربا ... بأضعف من طرف المريب وافترا )
( وصفرة مسواك الأصيل تروقني ... على لعس من مسقط الشمس أسمرا )
وممن تلطف في استعمال الاستعارة المرشحة إلى الغاية مجد الدين الأربلي بقوله
( أصغي إلى قول العذول بجملتي ... مستفهما عنكم بغير ملال )
( لتلقطي زهرات ورد حديثكم ... من بين شوك ملامة العذال )
وممن جاراه في هذه الحلبة أبو الوليد بن حيان الشاطبي بقوله
( فوق خد الورد دمع ... من عيون السحب يذرف )
( برداء الشمس أضحى ... بعد ما سال يجفف )
وظريف قول مجير الدين بن تميم منها
( كيف السبيل لأن أقبل خد من ... أهوى وقد نامت عيون الحرس )
( وأصابع المنثور تومي نحونا ... حسدا وتغمزها عيون النرجس )
ومثله قوله
( لما ادعى المنثور أن الورد لا ... يؤتى وأن يصلى بنار سعير )
( ودت ثغور الأقحوان لو أنها ... كانت تعض أصابع المنثور )
ومثله قوله
( كيف السبيل للثم من أحببته ... في روضة للزهر فيها معرك )
( ما بين منثور أقام ونرجس ... مع أقحوان فضله لا يدرك )
( هذا يشير بأصبع وعيون ذا ... ترنوا إلي وثغر هذا يضحك )

وما أحلى قول محيي الدين بن قرناص الحموي
( قد أتينا الرياض حين تجلت ... وتحلت من الندا بجمان )
( ورأينا خواتم الزهر لما ... سقطت من أنامل الأغصان )
وقال البدر الذهبي وأجاد
( هلم يا صاح إلى روضة ... يجلو بها العاني صدا همه )
( نسيمها يعثر في ذيله ... وزهرها يضحك في كمه )
ومثله قول ابن عمار
( يا ليلة بتنا بها ... في ظل أكناف النعيم )
( من فوق أكمام الرياض ... وتحت أذيال النسيم )
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه في هذا الباب فإنه أبهى من مطالع الأقمار وديباجة الاستعارة من حلية تستعار وهو
( تبسم ثغر الزهر عن شنب القطر ... ودب عذار الظل في وجنة النهر )
وهذا المعنى مولد من قول ابن خفاجة الأندلسي
( وطرة ظل فوق وجه غدير ... )
ولكن ابتسام ثغر الزهر عن شنب القطر في قول ابن النبيه غاية
وتلطف الشريف العقيلي في هذا الباب بقوله
( وروضة الجام فيها ... من زهرة الراح ورد )
( فاشرب على وجه روض ... له من الماء خد )
وما أحلى قول القاضي السعيد بن سنا الملك هنا
( ولبعدهم طالت ذوائب ليلهم ... فيها تغطي ضوء وجه نهارهم )

وأحلى منه قوله
( سرى طيفه لا بل سرى لي سرابه ... وقد طار من وكر الظلام غرابه )
( أتت مع نقس الليل صفحة خده ... فقلت حبيب قد أتاني كتابه )
وقال من غيرها
( بشوك القنا يحمون ... شهد رضابها )
وما أحلى تكميله بقوله
( ولا بد دون الشهد من إبر النعل ... )
ومثله قوله
( ألقى حبائل صيد من ذوائبه ... فصاد قلبي بأشراك من الشعر )
وأحلى منه قوله
( خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلي له تعنيق )
وغاية الغايات قوله
( بعثت لي على فم الطيف قبلة ... فأتاني بعض المسرة جملة )
ومن الاستعارات الحسنة في هذا الباب قول شمس الدين بن العفيف في مديح النبي
( حياك يا تربة الهادي الرسول حيا ... بمنطق الرعد باد من فم السحب )
وظريف هنا قول ابن قلاقس
( هدتنا للسرور نجوم راح ... بها قذفت شياطين الهموم )
( وكف الصبح تلقط ما تبدي ... بجيد الليل من درر النجوم )
ومن اللطائف في هذا الباب قول أبي الحسن العقيلي
( لنا أخ يحسن أن يحسنا ... رضاه للجانين عذب الجنى )
( قد عرفت روضة معروفه ... بأنها تنبت زهر الغنى )
( إذا تبدي وجه إحسانه ... تنزهت فيه عيون المنى )

ويعجبني في الاستعارة المرشحة قول ابن سعيد الموصلي من قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق المحروسة فإنه أتى فيها في بيت واحد باستعارات كثيرة مع اجتناب الحشو ومطلع القصيدة قوله
( سقى دمشق وأياما مضت فيها ... مواطر السحب ساريها وغاديها )
وبيت الاستعارة بعده
( ولا يزال جنين النبت ترضعه ... حوامل المزن في أحشا أراضيها )
ومن أغرب الاستعارات وأبدعها وأحشمها قول ابن زيدون من قصيدته النونية المشهورة
( سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا )
وقد عن لي أن أنثر في حدائق الاستعارة نبذة من زهر المنثور وأورد منه ما يزهو بوروده على روضات الزهور كقول القائل وطفقنا نتعاطى شموسا من أكف بدور وجسوم نار في غلائل نور إلى أن ذاب ذهب الأصيل على لجين الماء وشبت نار الشفق في فحمة الظلماء ومثله قول علي بن ظافر الحداد في دوح انعطفت قدود أشجاره وابتسمت ثغور أزهاره وذر كافور مائه على عنبر طينته وامتدت بكاسات الجلنار أنامل غصونه
وقال آخر وأجاد وقد عرق بالندا جبين النسيم وابتل جناح الهواء وضربت خيمة الغمام وأغرورقت مقلة السماء وقام خطيب الرعد فنبض عرق البرق
ولقد حاز القاضي الفاضل قصبات السبق في هذا الميدان بقوله كتبها المملوك وقد عمشت مقلة السراج وشابت لمة الدواة وخرس لسان القلم وكل خاطر السكين وضاق صدر الورق
وما أحلى قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر والأغصان قد أخضر نبات عارضها ودنانير الأزهار ودراهمها قد تهيأت لتسليم قابضها
وقال جمال الدين بن نباتة كتبها المملوك ودمع الغيث قد رقا ووجه الأرض قد راق

وقدود الأغصان قد راسلت أهواء القلوب بالأوراق وقيان حمائمها قد ترنمت وجذبت القلوب بالأطواق والورد قد أحمر خده الوسيم وفكت أزراره من أجياد القضيب أنامل النسيم وخرجت أكفه من أكمامه لأخذ البيعة على الأزهار بالتقديم
ومما كتبته في البشارة الصادرة عن الملك المؤيد عند عوده من البلاد الرومية وحلول ركابه الشريف بحلب المحروسة المتضمنة ما من الله به من الفتح الذي صار له في الروم قصص سنة عشرين وثمانمائة فمن ذلك قولي عند حصار قلعة طرسوس وفتحها ورأوا ألسن السهام في أفواه تلك المرامي فقالوا رأينا المصائب ناطقة وما رموا على سماء برج غيوم ستائر إلا لمعت فيها من بوارق نقوطها بارقة وحكم عليها القضاء بالاعتقال ولم يأتوا عند ذلك الحكم بدافع هذا بعدما صفق مقبلهم جماد وجهه فبصقت فيه أفواه المدافع
وقولي في الاستعارة المرشحة أيضا عند حصار قلعة دريدة وفتحها وقررنا صدع سورها باختلاف الآلات فجاء ما قررناه نقشا على حجر وادعت أن صخرها أصم فأسمعناه من آذان المرامي تنقير المدافع وتحريك الوتر وقرعنا سن جبلها بنابات المداقع وكسرنا منه السنية وأمست حلق مراميها كالخواتم في أصابع سهامنا المستوية
ومثله قولي عند حصار قلعة كختار وفتحها على لسان حال القلعة في سموها وإفراط علوها فأنا الهيكل الذي ذاب قلب الأصيل على تذهيبه وود دينار الشمس أن يكون من تعاويذه والشجرة التي لولا سمو فرعها تفكهت به حبات الثريا وانتظمت في سلك عناقيده وتشامخ هذا الحصن ورفع أنف جبله وتشامم فأرمدنا عيون مراميه بدم القوم وأميال سهامنا على تكحيلها تتزاحم وغاية الغايات في هذا الباب قولي عند حصار قلعة كركر وتنكرت أكراد كركر بسور القلعة فعرفناهم بلامات القسي وألفات السهام وعطست أنوف مراميها بأصوات مدافعنا وكان بها زكام
ومن حسن ختامها ولم نخرج عما نحن فيه من بديع الاستعارة وغريبها قولي فلا بكر قلعة إلا افتضينا بكارتها بالفتح وابتذلنا من سترها الحجاب ولا كأس برج أترعوه بالتحصين إلا توجنا رأسه من حبات مدافعنا بالحباب
انتهى
ولم أحبس عنان القلم عن الاستطراد إلى ما وقع لي من محاسن الاستعارة نظما إلا للتخفيف عن بيت البديعية وقلت تكفيه المزاحمة في مناظرة الشيخ صفي الدين

الحلي ومبارزة الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله وحمل ثقل العميان فبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله في بديعيته وهو الشاهد على نوع الاستعارة
( إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم )
وبيت العميان
( يقول صحبي وسفن العيس خائضة ... بحر السراب وعين القيظ لم تنم )
بيت الشيخ صفي الدين وبيت العميان لم يحسن السكوت عليهما ولا تتم الفائدة بهما فإن بيت الشيخ صفي الدين متعلق بما قبله وبيت العميان متعلق بما بعده وبيت الشيخ عز الدين صالح للتجريد وهو
( دع المعاصي فشيب الرأس مشتعل ... بالاستعارة من أزواجها العقم )
أقول ولو بلغت ما عسى أن يكون أن في قوله من أزواجها العقم ما يرعب السامع وبيت بديعيتي
( وكان غرس التمني يانعا فذوى ... بالاستعارة من نيران هجرهم )
وقد تقدم أن المقدم عند علماء البديع الاستعارة المرشحة فلفظة غرس رشحت بيانع وأما قولي بالاستعارة من نيران هجرهم بعد ذوى فما أعده إلا من المنح الإلهامية فإن اسم النوع الذي هو الاستعارة جمع بين التورية والاستعارة والترشيح مع عدم الحشو وصحة التركيب والمشي على جادة الرقة والالتزام بتسمية النوع مورى به من جنس الغزل
انتهى

ذكر الاستخدام
( واستخدموا العين مني وهي جارية ... وقد سمحت بها أيام عسرهم )
الاستخدام هو استفعال من الخدمة وأما في الاصطلاح فقد اختلفت العبارات في ذلك على طريقين الأولى طريقة صاحب الإيضاح ومن تبعه ومشى عليها كثير من الناس وهي أن الاستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين فتريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم تعيد عليه ضميرا تريد به المعنى الآخر أو تعيد عليه إن شئت ضميرين تريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر وعلى هذه الطريقة مشى أصحاب البديعيات والشيخ صفي الدين الحلي والعميان والشيخ عز الدين وهلم جرا
الثانية طريقة الشيخ بدر الدين بن مالك رحمه الله تعالى في المصباح وهي أن الاستخدام إطلاق لفظ مشترك بين معنيين ثم يأتي بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ومن الآخر المعنى الآخر ثم إن اللفظين قد يكونان متأخرين عن اللفظ المشترك وقد يكونان متقدمين وقد يكون اللفظ المشترك متوسطا بينهما والطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد وهو استعمال المعنيين وهذا هو الفرق بين التورية والاستخدام فإن المراد من التورية هو أحد المعنيين وفي الاستخدام كل من المعنيين مراد
ونقل الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام ما يؤكد هذا فإنه قال المشترك إذا لزم استعماله في مفهوميه معا فهو الاستخدام وإن لزم في أحد مفهوميه في الظاهر مع لمح الآخر في الباطن فهو التورية
ومنهم من قال الاستخدام عبارة عن أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين اشتراكا أصليا متوسطة بين قرينتين تستخدم كل قرينة منهما معنى من معنيي تلك اللفظة

المشتركة وهذا مذهب ابن مالك
وعلى كل تقدير فالطريقتان راجعتان إلى مقصود واحد وهو استعمال المعنيين بضمير وغير ضمير وأعظم الشواهد على طريقة ابن مالك ومن تبعه قوله تعالى ( لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فإن لفظة كتاب يحتمل أن يراد بها الأجل المحتوم والكتاب المكتوب وقد توسطت بين لفظتي أجل ويمحو فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد بقرينة ذكر الأجل واستخدمت المفهوم الآخر وهو الكتاب المكتوب بقرينة يمحو ومنه قوله من القصيدة النباتية
( حويت ريقا نباتيا حلا فغدا ... ينظم الدر عقدا من ثناياك )
فإن لفظة نباتي تحتمل الاشتراك بالنسبة إلى السكر وإلى ابن نباتة الشاعر وقد توسطت بين الريق وحلاوته وبين الدر والنظم والعقد فاستخدمت أحد مفهوميها وهو السكر النباتي بذكر الريق والحلاوة واستخدمت المفهوم الآخر وهو قول الشاعر النباتي بذكر النظم والدر والعقد وليس في جانب من المفهومين إشكال
وأما شاهد الضمائر على طريق صاحب الإيضاح فجميع كتب المؤلفين لم يستشهدوا فيها على عود الضمير الواحد إلا بقول القائل
( إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا )
فلفظة السماء يراد بها المطر وهو أحد المعنيين والضمير في رعيناه يراد به المعنى الآخر وهو النبات
وأما شاهد الضميرين فإنهم لم يخرجوا به عن قول البحتري وهو
( فسقى الغضى والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانحي وضلوعي )
فإن لفظة الغضى محتملة الموضع والشجر والسقيا صالحة لكل منهما فلما قال والساكنيه استعمل أحد معنيي اللفظة وهو الموضع بدلالة القرينة عليه ولما قال شبوه استعمل المعنى الآخر وهو الشجر بدلالة القرينة عليه
انتهى
والشيخ صفي الدين رحمه الله لم يستطرد في شرح بديعيته إلى غاية ذلك ولكن رأيته في شرحه قد أورد على بيت البحتري نقدا حسنا ليس فيه تحمل ولا إشكال

فإنه قال شرط علماء البديع أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكا أصليا والنظر هنا في اشتراك لفظة الغضى فإنه ليس بأصلي لأن أحد المعنيين منقول من الآخر والغضى في الحقيقة الشجر وسموا الوادي غضى لكثرة نبته فيه وقالوا جمر الغضى لقوة ناره فكل منقول من أصل واحد ولم يرد في كتب المؤلفين غير هذين البيتين وقول أبي العلاء
( قصد الدهر من أبي حمزة الأواب ... مولى حجى وخدن اقتصاد )
( وفقيها أفكاره شدن للنعمان ... ما لم يشده شعر زياد )
فالنعمان يحتمل هنا أبا حنيفة رضي الله عنه ويحتمل النعمان بن المنذر ملك الحيرة فإن الزمخشري صنف كتابا في مناقب أبي حنيفة سماه شقائق النعمان في حقائق النعمان وأما أبو العلاء فإنه أراد بلفظ النعمان أبا حنيفة وأراد بالضمير المحذوف ابن المنذر ملك الحيرة وزياد هنا هو النابغة وكان معروفا بمدح النعمان بن المنذر وهذا يصح على طريقة ابن مالك فإن فقيها يخدم أبا حنيفة وشعر زياد يخدم النعمان بن المنذر ولا يصح على مذهب صاحب الإيضاح فإن ضمير يشده لم يعد على واحد منهما لأن شرط الضمير في الاستخدام أن يكون عائدا على اللفظة المشتركة ليستخدم بها معناها الآخر كما قال البحتري في شبوه فهذا الضمير عائد على الغضى وهذا جعل الضمير في يشده غير عائد على اللفظة المشتركة التي هي النعمان فصار طيب الذكر الذي يشيده زياد لا يعلم لمن هو لأن الضمير لا يعود على النعمان اللهم إلا أن يكون التقدير ما لم يشده له فيعود الضمير على النعمان بهذا التقدير
انتهى
وما أحلى قول بعض المتأخرين مع عدم التعسف والسلامة من النقد وصحة الاشتراك الأصلي وهو
( وللغزالة شيء من تلفته ... ونورها من ضيا خديه مكتسب )
وأنا بالأشواق إلى معرفة الناظم وهذا النوع أعني الاستخدام قل من البلغاء من تكلفه وصح معه بشروطه لصعوبة مسلكه وشدة التباسه بالتورية وقد تقدم ما أوردنا فيه من النقد على بيتي البحتري وأبي العلاء وهو أعلى رتبة عند علماء البديع من التورية

وأحلى موقعا في الأذواق السليمة ولكن قل من ظفر منه بسلامة التخلص من علق النقد وصعد من غور التعسف إلى نجد السهولة قال الشيخ صلاح الدين الصفدي في كتابه المسمى بفض الختام عن التورية والاستخدام ومن أنواع البديع ما هو نادر الوقوع ملحق بالمستحيل الممنوع وهو نوع التورية والاستخدام الذي تقف الأفهام حسرى دون غايته عند مرامي المرام
( نوع يشق على الغبي وجوده ... من أي باب جاء يغدو مقفلا )
لا يقرع هضبته فارع ولا يقرع بابه قارع إلا من تنحو البلاغة نحوه في الخطاب ويجري ريحها بأمره رخاء حيث أصاب على أن المتقدمين ما قصدوه جملة كافية ولا شعروا به لما شعروا أنه دخل معهم في بيت تحت قفل قافيه وأما المولدون من الشعراء كالفرزدق وجرير ومن عاصرهما وخاض معهما لجة بحر البلاغة فلم يرد أحد منهم ورد هذا الغدير وأما الذين تفقهوا من بعدهم في الأدب وتنبهوا لتخلل طرقه بالطلب فربما قصدوا بعض أنواع البديع فجادت إذ جاءت وفاتت مرة أخرى وأخرى فاءت وقد قصد أبو تمام كثيرا من الجناس وفتح أبوابه وشرع طرقه للناس
وأما التورية والاستخدام فما تنبه لمحاسنهما وتيقظ وتحرى وتحرر وتحفد وتحفظ إلا من تأخر من الشعراء والكتاب وتضلع من العلوم وتطلع من كل باب وأظن أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى هو الذي ذلل منهما الصعاب وأنزل الناس بهذه الساحات والرحاب حتى ارتشف هذه السلافة أهل عصره وأصحابه الذين نزلوا ربوع مصره وخفقت رياحهم بالإخلاص في نصره كالقاضي السعيد هبة الله بن سنا الملك ومن انخرط معه في هذا السلك ولم يزل هو ومن عاصره على هذا المنهج في ذلك الأوان ومن جاء بعدهم من التابعين بإحسان إلى أن جاء بعدهم حلبة أخرى وزمرة تترى فكلهم يرمون في هذا الإحسان عن قوس واحدة وينفقون من مادة هي في الجود معن بن زائدة ويصلون المقطوع بالمقطوع فلا تخلو فيه كلمة فائتة من فائدة وغالب شعرهم على هذا النمط وأكثره درر أسماع متى تلتق تلتقط كأبي الحسين

الجزار والسراج الوراق والنصير الحمامي والحكيم شمس الدين بن دانيال والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر فهؤلاء هم الفحول الذين جدوا بعد القاضي الفاضل إلى هذه الغاية ورفعوا راية هذا النوع وكان كل منهم عرابة تلك الراية تسابقوا جيادا والديار المصرية لهم حلبة وتلاحقوا أفرادا وهم في شرف هذا الفن من هذه النسبة
وجاء من شعراء الشام جماعة تأخر عصرهم وتأزر نصرهم ولأن في هذا النوع هصرهم وبعد حصرهم فيما أرادوه كما زاد حصرهم كل ناظم تود الشعرى لو كانت له شعرا ويود الصبح لو كان له طرسا والغسق مدادا والنثرة نثرا منهم شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة والأمير مجير الدين بن تميم وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي ومحيي الدين بن قرناص وشمس الدين بن محمد العفيف وسيف الدين بن المشد
ثم إن الشيخ صلاح الدين قال في آخر هذا الفصل وهؤلاء معهم جماعة يحضرني ذكرهم عند شعرهم ويعز علي أن لم أرهم على تكاثرهم لفوات عصرهم وكأني بقائل يقول لقد أفرطت في التعصب لأهل مصر والشام على من دونهم من الأنام وهذا باطن باطل وعدوان وحمية لأوطانك وما جاورها من البلدان فالجواب إن الكلام في التورية والاستخدام لا غير ومن هنا تنقطع المادة في السير ومن ادعى أنه يأتي بدليل وبرهان فالمقياس بيننا والشقراء والميدان
وقد رجح صاحب يتيمة الدهر شعراء الشام على شعراء العراق وقال إنهم حازوا قصبات السبق عليهم في حلبة السباق فإنهم قوم جبلت طباعهم على اللطافة وطبعت جبلتهم على الكيس والظرافة
انتهى كلام الشيخ صلاح الدين الصفدي
قلت واتصل هذا الحديث القديم بالشيخ جمال الدين بن نباتة فأينع فرعه النباتي بغصنه ووريقه واستعبد التورية والاستخدام في سوق رقية فمن استخداماته ما أرانا من استخدام البحتري عيب الوليد وقلنا بعده في استخدام أبي العلاء ليس على الأعمى حرج فإنه مشى على الحس في ظلمة التعقيد واستخدام الشيخ جمال الدين الموعود به قوله من قصيدة رائية امتدح بها النبي
( إذا لم تفض عيني العقيق فلا رأت ... منازله بالقرب تبهي وتبهر )
( وإن لم تواصل عادت السفح مقلتي ... فلا عادها عيش بمغناه أخضر )

أنظر أيها المتأمل إلى حصة الاشتراك بين الاستخدامين وانسجام البيت الأول مع البيت الثاني وسيلان الرقة لذا القطر النباتي والتشبيب المرقص بالمنازل الحجازية والغزل الذي يليق أن تصدر به المدائح النبوية
ولعمري إنه مشى على طريق صاحب الإيضاح فزاده إيضاحا ولو دعي إلى عروس الأفراح زاده أفراحا وهذه القصيدة التي ظفرت منها بهذين الاستخدامين محاسنها غرر في جباه القصائد ولأنواع البديع بها صلة ومن أبياتها عائد منها
( سقى الله أكناف الغضى سائل الحيا ... وإن كنت أسقى أدمعا تتحدر )
( وعيشا نضى عنه الزمان بياضه ... وخلفه في الرأس يزهو ويزهر )
( تغير ذاك اللون مع من أحبه ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير )
( وكان الصبا ليلا وكنت كحالم ... فوا أسفي والشيب كالصبح يسفر )
( يعللني تحت العمامة كتمه ... فيعتاد قلبي حسرة حين أحسر )
( وينكرني ليلى وما خلت أنه ... إذا وضع المرء العمامة ينكر )
ومنها
( وغيداء أما جفنها فمؤنث ... كليل وأما لحظها فمذكر )
( يروقك جمع الحسن في لحظاتها ... على أنه بالجفن جمع مكسر )
( يشف وراء المشرفية خدها ... كما شف من دون الزجاجة مسكر )
( خليلي كم روض نزلت فناءه ... وفيه ربيع للنزيل وجعفر )
( وفارقتها والطير صافرة بها ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر )
ومنها في وصف الناقة
( ورب طموح العزم أدماء جسرة ... يظل بها عزمي على البيد يجسر )
( طوت بذراعي وخدها شقة الفلا ... وكف الثريا في دجى الليل يشبر )

( ومد جناحي طلها ألف الضحى ... فشدت كما شد النعام المنفر )
( بصم الحصى ترمي الحداة كأنما ... تغار على محبوبها حين يذكر )
( إذا ما حروف العيس خطت بقفرة ... غدت موضع العنوان والعيس أسطر )
( فلله حرف لا ترام كأنها ... لو شك السرى حرف لدى الشد مضمر )
وعارض الشيخ جمال الدين بن نباتة جماعة نسجوا على منواله في عصره لكن الذوق السليم يشهد أنهم كانوا خلاسة قطره
وهذا الشرح هو جامعهم الكبير وإذا ذكرت فيه نظائرهم فاعلم أنه ليس له فيهم نظير
نرجع إلى الاستخدام وشواهده وإيراد أبيات البديعيات فيه فبيت صفي الدين قوله
( من كل أبلج واري الزندي يوم قرى ... مشمر عنه يوم الحرب مصطلم )
العميان
( إن الغضى لست أنسى أهله فهم ... شلوه بين ضلوعي يوم بينهم )
أقول لو عاش البحتري ما صبر للعميان على هذه السرقة الفاحشة فإنهم أخذوا لفظه ومعناه وضميره وما اختشوا من الحرج ولا سلموا من النقد
وبيت عز الدين
( والعين قرت بهم لما بها سمحوا ... واستخدموها من الأعدا فلم تنم )
قوله والعين قرت بهم لما بها سمحوا في غاية الحسن فإنه أتى بالاستخدام وعود الضمير في شطر البيت مع الانسجام والرقة واستخدامه في العين الناظرة وعين المال وأما قوله في الشطر الثاني واستخدموها من الأعدا فلم تنم ما أعلم ما المراد به فإن الاستخدام في العين التي هي الجارحة قد تقدم والذي يظهر لي أن اضطراره إلى تسمية النوع ألجأه إلى ذلك وبيت بديعيتي
( واستخدموا العين مني فهي جارية ... وكم سمحت بها أيام عسرهم )
فالتورية في جارية بعدما استخدموها لم يوجد في سوق الرقيق مثلها والعود بالضمير مع تمكن القافية وعدم التكلف والحشو لا يخفى على أهل الذوق السليم فإن قافية مصطلم في بيت صفي الدين تمجه الأذواق
انتهى الكلام على الاستخدام

ذكر الهزل الذي يراد به الجد
( والبين هازلني بالجد حين رأى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم )
قال صاحب التلخيص ومنه يعني فن البديع الهزل الذي يراد به الجد كقوله
( إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب )
ولم يزد على ذلك شيئا
والهزل الذي يراد به الجد هو أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه فيخرج من ذلك المقصد مخرج الهزل والمجون اللائق بالحال كما فعل أصحاب النوادر ومثل أشعب وأبي دلامة وأبي العيناء ومزيد ومن سلك مسلكهم كما حكي عن أشعب أنه حضر وليمة بعض ولاة المدينة وكان رجلا بخيلا فدعا الناس ثلاثة أيام وهو يجمعهم على مائدة فيها جدي مشوي فيحوم الناس حوله ولا يمسه أحد منهم لعلمهم ببخله وأشعب كان يحضر مع الناس ويرى الجدي فقال في اليوم الثالث زوجته طالق إن لم يكن عمر هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطول من عمره قبل ذلك
ومن شواهد الهزل الذي يراد به الجد ما أنشده ابن المعتز من قول أبي العتاهية
( أرقيك أرقيك بسم الله أرقيكا ... من بخل نفسك على الله يشفيكا )
( ما سلم كفك إلا من يناولها ... ولا عدوك إلى من يرجيكا )

والفاتح لهذا الباب امرؤ القيس وقوله أبلغ ما سمع فيه وألطف وهو
( وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع ما رأيت أحسن من قوله ملتفتا وإن كان بعلها
انتهى
وهذا النوع أعني الهزل الذي يراد به الجد ما سبكه في قوالبه إلا من لطفت ذاته وكان له ملكة في هذا الفن وحسن تصرف
ومن أظرف ما وقع في هذا الباب أنه حصل لي بالديار المصرية جرب أشرفت منه على التلف فوصف لي الحكيم بطيخا وهو عزيز الوجود في تلك الأيام فبلغني أنه أهدي إلى مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية عظم الله تعالى شأنه بطيخ فكتبت إليه
( مولاي عاقبني الزمان بجربة ... وقد انقطعت بجسمي المسلوخ )
( وعميت من حزني على ما تم لي ... لكن شممت روائح البطيخ )
فالكناية على طلب البطيخ سبكت في أحسن قوالب الهزل مع حسن التضمين ومثله قولي
( جاء الشتاء فرأسي ... والجسم صارا شماته )
( بطيلسان ابن حرب ... وفروة ابن نباته )
ففي طيلسان ابن حرب وفروة ابن نباتة مع ما فيهما من الهزل الظاهر كنايتان عن الفقر الذي تزايد حده وطيلسان ابن حرب معروف لشهرته وأما فروة ابن نباتة ففيها إشارة إلى قوله
( زرقة جسمي وبياض ثلجها ... سنجابي الأبلق في فصل الشتا )

ومثله قولي
( وصاحب تسمح لي نفسه ... بغدوة لكن إذا ما انتشا )
( يضحك سني للغدا عنده ... لكنني أقلع ضرسي للعشا )
فيه على الهزل الذي يراد به الجد زيادة تلطف الاستدراك ومراعاة النظير وكان هذا الصاحب تغمده الله برحمته ورضوانه من أعز الأصحاب علي ولكن التصريح باسمه غير ممكن هنا وبين الهزل الذي يراد به الجد وبين التهكم فرق لطيف وهو أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل وهذا النوع بالعكس
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( أشبعت نفسك من ذمي فهاضك ما ... تلقى وأكثر موت الناس بالتخم )
فقوله وأكثر موت الناس بالتخم كناية يهزلون بها على من يفزط في أكل شيء ويخص به نفسه
وبيت العميان
( قل للصباح إذا ما لاح نورهم ... إن كان عندك هذا النور فابتسم )
لم أر في بيت العميان هذا هزلا يراد به الجد والله أعلم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي
( هزل أريد به جد عتابك لي ... كما كتمت بياض الشيب بالكتم )
الشيخ عز الدين غفر الله له حكى هنا حكاية لم يسعني الكلام عليها لئلا يطول الشرح
وبيت بديعيتي
( والبين هازلني بالجد حين رأى ... دمعي وقال تبرد أنت بالديم )
أنظر أيها المتأمل هنا بنور الله تعالى فإن الهزل الذي يراد به الجد أنا ملتزم تسميته وقد استوعب شطر البيت وانظر كيف أفرغت هذا النوع الغريب في أحسن القوالب وأغرب المعاني فإن الدمع تزايد انهماله إلى أن صار كالديم الهاطلة والبين يغبطني بذلك مهازلا ويقول لي تبرد أنت بهذه الديم

ذكر المقابلة
( قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ... ولوا غضابا فيا حربي لغيظهم )
المقابلة أدخلها جماعة في المطابقة وهو غير صحيح فإن المقابلة أعم من المطابقة وهي التنظير بين شيئين فأكثر وبين ما يخالف وما يوافق
فبقولنا وما يوافق صارت المقابلة أعم من المطابقة فإن التنظير بين ما يوافق ليس بمطابقة وهذا مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع فإنه قال صحة المقابلات عبارة عن توخي المتكلم بين الكلام على ما ينبغي فإذا أتى بأشياء في صدر كلامه أتى بأضدادها في عجزه على الترتيب بحيث يقابل الأول بالأول والثاني بالثاني لا يخرم من ذلك شيئا في المخالف والموافق ومتى أخل بالترتيب كانت المقابلة فاسدة وقد تكون المقابلة بغير الأضداد والفرق بين المطابقة والمقابلة من وجهين أحدهما أن المطابقة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين والمقابلة تكون غالبا بجمع بين أربعة أضداد ضدان في صدر الكلام وضدان في عجزه وتبلغ إلى الجمع بين عشرة أضداد خمسة في الصدر وخمسة في العجز
والثاني أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد والمقابلة بالأضداد وغير الأضداد ولكن بالأضداد أعلا رتبة وأعظم موقعا
ومن معجزات هذا الباب قوله عز و جل ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان ثم قابلهما في عجز الكلام بضدين وهما السكون والحركة على الترتيب ثم عبر عن الحركة بلفظ الأرداف فالتزم الكلام ضربا من

المحاسن زائدا على المقابلة فإنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة وهي تشير إلى الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل وسلامة الحس وإضافة الطرف إلى تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ويتقي أسباب المهالك
والآية الشريفة سيقت للاعتداد بالنعم فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه ليتم حسن البيان فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة فحصل في هذا الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن
ألا تراه سبحانه وتعالى كيف جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان حيث قال لتسكنوا ولتبتغوا بلام التعليل فجمعت هذه الكلمات من أنواع البديع المقابلة والتعليل والإشارة والإرداف وائتلاف اللفظ مع المعنى وحسن البيان وحسن النسق فلذلك جاء إكلام متلائما آخذا بعضه بأعناق بعض ثم أخبرنا بالخبر الصادق إن جميع ما عدده من النعم باللفظ الخاص وما تضمنته العبارة من النعم التي تلزم من لفظ الأرداف بعض رحمته حيث قال بحرف التبعيض ومن رحمته
وهذا كله في بعض آية عدتها عشر كلمات فالحظ هذه البلاغة الباهرة والفصاحة الظاهرة
انتهى
ومن أمثلة صحة المقابلة في السنة الشريفة قول النبي ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان الخرق في شيء إلا شانه )
فانظر كيف قابل الرفق بالخرق والزين بالشين بأحسن ترتيب وأتم مناسبة
وهذا الباب في مقابلة اثنين باثنين ومنه قوله تعالى ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) ومنه قول النبي ( إن لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير مغاليق الشر )
ومنه وهو ظريف في مقابلة اثنين باثنين أن المنصور قال لمحمد ابن عمران إنك لبخيل
فقال يا أمير المؤمنين لا أحمد في حق ولا أذم في باطل
ومنه في النظم قول النابغة
( فتى كان فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا )
وقول الحلي
( ورنح الرقص منه عطفا ... خف به اللطف والدخول )
( فعطفه داخل خفيف ... وردفه خارج ثقيل )

وأخبرني مولانا قاضي القضاة الشافعي نور الدين الحاكم بحماة المحروسة المشهور بخطيب الدهشة أنه كان بحماة يهودي يطوف بالحناء والصابون على رأسه ويقول معي حناء أخضر جديد وصابون يابس عتيق
وأما مقابلة ثلاثة بثلاثة فقيل إن المنصور سأل أبا دلامة عن أشعر بيت في المقابلة فأنشده
( ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل )
فالشاعر قابل بين أحسن وأقبح وبين الدين والكفر والدنيا والإفلاس
قال ابن أبي الأصبع إنه لم يقل قبله مثله
ومن مقابلة أربعة بأربعة قوله تعالى ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) المقابلة بين قوله واستغنى وقوله واتقى لأن معناه زهد فيما عنده واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة وذلك يتضمن عدم التقوى ومن مقابلة أربعة بأربعة قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته عند الموت هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها وأول عهده بالآخرة داخلا فيها
فقابل أولا بآخر والدنيا بالآخرة وخارجا بداخل ومنها بفيها
فانظر إلى ضيق هذا المقام كيف صدر عنه مثل هذا الكلام
قال علماء البديع كلما كثر عددها كانت أبلغ
فمن مقابلة خمسة بخمسة قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه لعثمان بن عفان رضي الله عنهما إن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي وأنت رجل إذا صدقت سخطت وإن كذبت رضيت
وأوردوا لأبي الطيب في مقابلة خمسة بخمسة
( أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي )
قال صاحب الإيضاح ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح والمقابلة الخامسة بين بي ولي فيها نظر لأن الباء واللام صلتا الفعلين ورجح بيت أبي دلامة

المتقدم على بيت أبي الطيب بجودة المقابلة ولكن القافية مستدعاة فإن الذي ذكره مختص بالرجل وبغيره والمعنى قد تم بدون الرجل قال زكي الدين بن أبي الأصبع لو كان لما اضطر إلى القافية أفاد بها معنى زائدا بحيث يقول بالبشر لكان البيت نادرا
وعلى كل تقدير بيت أبي دلامة أفضل من بيت المتنبي لصحة المقابلة لأنه قابل بالأضداد والمتنبي بغير الأضداد والمقابلة بالأضداد أفضل وهو مذهب السكاكي فإنه قال المقابلة أن تجمع بين شيئين متوافقين فأكثر ثم إذا شرطت هناك شيئا شرطت هناك ضده
انتهى
وبيت المتنبي أفضل بالكثرة عند غير السكاكي وإن المقابلة عنده لا تصح إلا بالأضداد وأسلم من بيت أبي الطيب في التركيب ما أورده الصاحب شرف الدين مستوفي أربل
( على رأس عبد تاج عز يزينه ... وفي رجل حر قيد ذل يشينه )
وبيت صفي الدين الحلي
( كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهم )
فقابل الرضا بالسخط والدنو بالبعد ولفظة من بعن فإذا قلنا إن من ضد عن سلم له أربعة بأربعة وخواطرهم بجوارهم على مذهب من يرى أن المقابلة تجوز بالأضداد وبغيرها وبيت العميان
( بواطئ فوق خد الصبح مشتهر ... وطائر تحت ذيل الليل مكتتم )
بيت العميان أمكن من بيت صفي الدين في المقابلة لأنهم قابلوا واطئا بطائر لأن الواطئ هو الماشي على الأرض والطائر السائر في الهواء وفوق بتحت وخد بذيل لما بينهما من معنى العلو والسفل والصبح بالليل ومشتهر بمكتتم وانظر لفظة مشتهر مع مكتتم وهي القافية التي لا يمكن أمكن منها ولفظة خواطرهم ومقابلتها بجوارهم في بيت صفي الدين وما بينهما من المباينة غير أن ثقل قولهم بواطئ يشق حمله على لطيف الذوق وبيت الشيخ عز الدين
( ليل الشباب وحسن الوصل قابله ... صبح المشيب وقبح الهجر واندمي )

قابل بين ليل وصبح وشباب ومشيب وحسن وقبح والوصل والهجر وهي مقابلة صحيحة بين الأضداد وأتى بلفظة قابله اضطرارا لتسمية النوع وأما قوله واندمي فقافية مستدعاة أجنبية من المقابلة فإنه لم يؤهلها لمقابلة ضد ولا لغيره بل تركها بمنزلة الأجانب وبيت بديعيتي
( قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا ... ولوا غضابا فيا حربي لغيظهم )
قد تقرر أن الشيخ عز الدين لم يأت بلفظة قابله في بيته إلا اضطرارا لتسمية النوع فإنه لم يقابلها بشيء فانظر كيف أتيت بلفظة قابلتهم في أول البيت وقابلتها في الشطر الآخر بلفظة ولوا ومقابلة بقية الأضداد من الرضا والغضب والسلم والحرب ظاهرة
وتمكين القافية بغيظهم ومقابلتها بالانشراح أظهر فإن القافية إذا كانت ممكنة وهي جارية في عداد المقابلات كانت من أعلى رتب هذا النوع كما تقدم في بيت المتنبي وبيت أبي دلامة
وقافية العميان منتظمة في هذا العقد بخلاف بيت صفي الدين وبيت عز الدين
انتهى

ذكر الالتفات
( وما أروني التفاتا عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدري بالتفاتهم )
فسر قدامة الالتفات بأن قال هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه أو ظن أن رادا يرده عليه أو سائلا يسأله عن سببه فيلتفت إليه بعد فراغه منه فإما أن يجلي الشك أو يؤكده أو يذكر سببه كقول الرماح بن ميادة
( فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه )
فكأن الشاعر توهم أن قائلا يقول له وما تصنع بصرمه فقال لأن في اليأس راحة
وأما ابن المعتز فقال الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة ومثاله في الكتاب قوله تعالى بعد الإخبار بأن الحمد لله رب العالمين ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وكقوله تعالى ( إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) وكقوله تعالى ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) ومثال ذلك من الشعر قول جرير
( متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام )

وانصرف المتكلم عن الخطاب إلى الأخبار وهو عكس الأول كقوله تعالى ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) ومثاله أيضا قول عنترة
( ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم )
ثم قال يخبر عن هذه المخاطبة
( كيف المزار وقد تربع أهلنا ... بعنيزتين وأهلها بالغيلم )
أو انصراف المتكلم عن الأخبار إلى التكلم كقوله تعالى ( والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ) أو انصراف المتكلم عن التكلم إلى الأخبار وهو كقوله تعالى ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) والقراءة في الكلمات الثلاث بالنون شاذة نقلها صاحب البحر الزاخر وفي هذا الكتاب سبعة آلاف رواية
وقد جمع امرؤ القيس الالتفاتات الثلاث في ثلاثة أبيات متواليات وهي قوله
( تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد )
( وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد )
( وذلك من نبإ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود )
فخاطب في البيت الأول وانصرف عن الخطاب إلى الإخبار في البيت الثاني وانصرف عن الإخبار إلى التكلم في البيت الثالث على الترتيب
وما أحلى قول مهيار بن مرزويه في قصيدته التي سارت بمحاسنها الركبان وامتدح بها الوزير زعيم الدين في يوم نوروز سنة ثمان وعشرين وأربعمائة والمطلع هو
( بكر العارض تحدوه النعامى ... فسقاك الري يا دار أماما )

فانصرف عن الإخبار إلى المخاطبة في بيت واحد ومثله في اللطف قول القاضي الأرجاني
( وهل هي إلا مهجة يطلبونها ... فإن أرضت الأحباب فهي لهم فدى )
( إذا رمتم قتلي وأنتم أحبتي ... فماذا الذي أخشى إذا كنتم عدى )
ومثله قول أبي الطيب
( لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا )
( بما بجفنيك من سحر صلى دنفا ... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا )
ومثله قول أبي العلاء
( يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر )
( لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر )
ومن لطائف الالتفات بالانصراف من الخطاب إلى الإخبار قول ابن نبيه
( من سحر عينيك الأمان الأمان ... قتلت رب السيف والطيلسان )
( أسمر كالرمح له مقلة ... لو لم تكن كحلاء كانت سنان )
فقوله عن المقلة بعد تشبيه القوام بالرمح أنها لو لم تكن كحلاء كانت سنان بديع وغريب
ومن أغرب ما وقع لي في هذا النوع اللطيف أنني صرحت باسم الالتفات عند وقوعه بقولي من قصيدة قلت فيها
( والله إن لم ألقهم من بعد ذا ... فعلى زماني لم أزل متعتبا )
( وقد التفت إليك يا دهري بطول ... تعتبي ويحق لي أن أعتبا )
( قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الخدود مرتبا )
واتفق لي أيضا نظير ذلك في رسالة كتبت بها إلى العلامة بدر الدين ابن قاضي أذرعات رحمه الله منها سكن القلب وغير بدع إذا كان القلب للبدر منزلا ورام هلال الأفق أن يباهي سموه بمطلعه فقلنا ما أنت من براعة هذا الاستهلال ولا تطاول الرامح إلى الطعن في محله الذي يجل قدرا عن مناظر ومباهي فقلنا له أقصر مكتفيا وإلا

فعند التناهي ولقد شوقتني ظباء المعالي في هذا المسرح إلى الالتفات فقلت ملتفتا إلى تلك الليالي المقمرة بنوره وقطوف الفواكه البدرية دانيات
( أيا بدرا سما أفق المعالي ... وأوقع طائرا من كل نسر )
( ذكرت لياليا بك قد تقضت ... فيا شوقي إلى ليلات بدر )
وأما بيت القصيدة أعني البديعية فإنه البيت الذي حظيت من بابه بالفتح وناداه الغير من وراء حجراته وتغايرت ظباء الصريم وهو في سرب بديعه على حسن التفاته وودت ربوع البديعيات أن يسكن منها في بيت ولكن ( راودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت ) ولقد أنصف الحريري في المقامة الحلوانية عند إيراد البيت الجامع لمشبهات الثغر بقوله يا رواة القريض وأساة القول المريض إن خلاصة الجوهر تظهر بالسبك ويد الحق تصدع رداء الشك
وها أنا قد عرضت خبيئتي للاختبار وعرضت حقيبتي على الاعتبار وقلت وأنا ماش في عرض بيت بديعيتي على هذا السنن وأرجو أن يكون بحسن التفاته في مرآة الذوق مثل الغزال نظرة ولفتة وسأبرزه بين أقرانه وإذا انسدلت غدائر الأشكال ظهر الفرق من نور بيانه فبيت الشيخ صفي الدين
( وعاذل رام بالتعنيف يرشدني ... عدمت رشدك هل أسمعت ذا صمم )
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وأما بيت عز الدين
( وما التفت لساع حج في شغف ... ما أنت للركن من وجدي بملتزم )
وبيت بديعيتي
( وما أروني التفاتا عند نفرتهم ... وأنت يا ظبي أدري بالتفاتهم )
فهذا البيت فيه التورية بتسمية النوع وقد برزت في أحسن قوالبها ومراعاة النظير في الملائمة بين الالتفات والظبي والنفرة والانسجام الذي أخذ بمجامع القلوب رقة والتمكين الذي ما تمكنت قافية باستقرارها في بيت كتمكين قافيته والسهولة التي عدها التيفاشي في باب الظرافة وناهيك بظرافة هذا البيت والتوشيح وهو الذي يكون معنى أول الكلام دالا على آخره ورد العجز على الصدر والالتفات الذي هو المقصود دون غيره من الأنواع فقد اشتمل هذا البيت على ثمانية أنواع من البديع مع عدم التكلف والله تعالى أعلم

ذكر الافتنان
( تغزلي وافتناني في شمائلهم ... أضحى رثا لاصطباري بعد بعدهم )
الافتنان هو أن يفتن الشاعر فيأتي بفنين متضادين من فنون الشعر في بيت واحد فأكثر مثل النسيب والحماسة والمديح والهجاء والهناء والعزاء فأما ما افتن به الشاعر من النسيب والحماسة كقول عنترة
( إن تغدقي دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم )
فأول البيت نسيب وآخره حماسة وكقول أبي دلف ويروى لعبد الله بن ظاهر
( أحبك يا ظلوم وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان )
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان )
ومما جمع فيه بين التهنئة والتعزية قوله تعالى ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) ومما جمع فيه بين التعزية والفخر قوله تعالى ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) ومن إنشاء العلامة الشهاب محمود ما كتب به من رسالة تهنئة وتعزية لمن رزقه الله تعالى ولدا ذكرا في يوم وماتت له بنت قوله

ولا عتب على الدهر فيما اقترف إن كان قد ساء فيما مضى فقد أحسن الخلف
واعتذر بما وهب عما سلب فعفا الله عما سلف
ومما جمع فيه من النظم بين التهنئة والتعزية قول بعض الشعراء ليزيد بن معاوية لما دفن أباه وجلس للتعزية
( إصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا )
( لا رزء أصبح في الإسلام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا )
وقال زكي الدين بن أبي الأصبع أحسن شعر افتن فيه صاحبه بالجمع بين التعزية والتهنئة قول أبي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد ويهنيه بالأمين حيث قال
( تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن )
( حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن )
( وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن )
ولعمري إن جمال الدين بن نباتة رحمه الله قال في تعزية الملك المؤيد صاحب حماة وتهنئة ولده الأفضل بالسلطنة بعد أبيه ما هو أحسن من قول أبي نواس الذي استحسنه ابن أبي الأصبع وقول من تقدمه
وإن تأخر ابن نباتة فقد تقدم بنباته فإنه استطرب في قصيدة مطولة بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها وأتى بمعان منها سلامة الاختراع والذي يؤدي إليه اجتهاد ذوقي إن هذه القصيدة من العجائب في هذا النوع وأوردت مطلعها في براعة الاستهلال لكن تعين إيراده هنا لندخل منه إلى بيوت القصيدة المشتملة على هذا النوع ليتأيد ما أشرت إليه من غرابة أسلوبها وهو قوله رحمه الله تعالى
( هناء محا ذاك العزاء المقدما ... فما عبس المحزون حتى تبسما )
( ثغور ابتسام في ثغور مدامع ... شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما )
( نرد مجاري الدمع والبشر واضح ... كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى )
( سقى الغيث عنا تربة الملك الذي ... عهدنا سجاياه أعز وأكرما )

( ودامت يد النعمى على الملك الذي ... تدانت به الدنيا وعز به الحمى )
( مليكان هذا قد هوى لضريحه ... برغمي وهذا للأسرة قد سما )
( وروضة أصل شاذوي تكافأت ... فغصن ذوى منها وآخر قد نما )
( فقدنا لأعناق البرية مالكا ... وسمنا لأنواع الجميل متمما )
( كأن ديار الملك غاب إذا انقضى ... به ضيغم أنشأ به الدهر ضيغما )
( كأن عماد الدين غير مقوض ... وقد قمت يا أزكى الأنام وأحزما )
( فإن يك من أيوب نجم قد انقضى ... فقد أطلعت أوصافك الغر أنجما )
( وإن تك أيام المؤيد قد مضت ... فقد جددت علياك وقتا وموسما )
( هو الغيث ولى بالثناء مشيعا ... وأبقاك بحرا بالمواهب منعما )
وكانت وفاة الملك المؤيد في شهر المحرم فقال ولم يخرج عما نحن فيه
( بك انبسطت فينا التهاني وأنشأت ... ربيع الهنا حتى نسينا المحرما )
والجمع بين التهنئة والتعزية في نوع الافتنان أصعب مسلكا من الجمع بين النسيب والحماسة لشدة التناقض بينهما
ومن أظرف ما رأيت في هذا النوع أن ابن حجاج جمع في الافتنان بين التعزية والمدح المؤدي إلى التهكم بقوله في تعزية بعض الرؤساء بأبيه في بيت واحد وهو
( أبوك قد جمل أهل الثرى ... فجمل الله به المقبره )
وأما الغزل المخمس فكثير في نظم الفحول وغيرهم وما أحلى قول مهيار الديلمي في بيت واحد
( وأتعب من حاولت يا قلب وصله ... حبيب سنان السمهري رقيبه )
وممن أتحف الأذواق بحلاوة هذا النوع وجمع فيه بين النسيب والحماسة القاضي الأرجاني رحمه الله تعالى في قوله
( نزل الأحبة ساحة الأعداء ... فغدا لقاء منهم بلقاء )

وما أحلى ما قال بعده
( كم طعنة نجلاء تعرض بالحمى ... من دون نظرة مقل نجلاء )
فتحدثنا سرا فحول قبابها ... سمر الرماح يملن للإصغاء )
( من كل باكية دما من دونها ... يوم الطعان بمقلة زرقاء )
يا دمية من دون رفع سجوفها ... خوض القنا بالخيل بحر دماء )
( لو ساعد الأحباب قلت تجلدا ... أهون علي بملتقى الأعداء )
ومثله قول أبي الطيب في بيت وكل من النصفين كامل في معناه
( عدوية بدوية من دنها ... سلب النفوس ونار حرب توقد )
وممن تفنن في هذا النوع وجمع بين رقة النسيب وفخامة الحماسة إبراهيم بن محمد الأنصاري الساحلي المنبوز بطويحن جرى ذكره في التاج بما نصه جواب الآفاق ومحالف الرفاق رفع له ببلده راية للأدب لا تحجم وأصبح نسيج وحده فيما سدى وألحم فإن نسب صار للنسيب شرف ونسب وإن مدح قدح من أنوار فطنته ما قدح كم حرك الجامد ونظم الجمان في سلوك المحامد فمن قوله في الافتنان الذي جمع فيه بين الحماسة والتشبب
( خطرت كمياد القنا المتأطر ... ورنت بألحاظ الغزال الأعفر )
( وأتتك بين تطاعن وتداعب ... في فتك قسورة وعطفة جؤذر )
وما أبدع قوله منها
( وبملعب الصدغين مطرود جنة ... زحفت عليه كتائب ابن المنذر )
وله ولم يخرج عما نحن فيه
( زارت وفي كل مرمى لحظ محترس ... وحول كل كناس كف مفترس )

وما أحلى ما قال بعده
( مهما تلا خدها الزاهي الضحى نطقت ... سيوف آماقها عن آية الحرس )
ويعجبني قول أبي الفتوح بن قلاقس
( عقدوا الشعور معاقد التيجان ... وتقلدوا بصوارم الأجفان )
( ومشوا وقد هزوا رماح قدودهم ... هز الكماة عوالي المران )
( وتدرعوا زردا فخلت أراقما ... خلعت ملابسها على الغزلان )
وممن افتن في قصيدة كاملة وتفنن وخلص من تفخيم الحماسة والفخر إلى رقة الغزل وأحسن القاضي السعيد هبة الله بن سنا الملك رحمه الله فإنه قسم القصيدة شطرين وتلاعب في ميدان البلاغة بالفنين وهذه القصيدة تقف دونها فرسان الحماسة ويكبو الجواد من فحولها وينثني من لطائف غزلها من لعبت بلطف شمائله خمر لطف شمولها وهي
( سواي يخاف الدهر أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يكون مخلدا )
( ولكنني لا أرهب الدهر إن سطا ... ولا أحذر الموت الزؤام إذا عدا )
( ولو مد نحوي حادث الدهر طرفه ... لحدثت نفسي أن أمد له يدا )
( توقد عزم يترك الماء جمرة ... وحلية حلم تترك السيف مبردا )
( وفرط احتقار للأنام فإنني ... أرى كل عار من حلا سؤددي سدى )
( وأظمأ أن أبدي إلى الماء منة ... ولو كان لي نهر المجرة موردا )
( ولو كان إدراك الهدى بتذلل ... رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى )
( وقدما بغيري أصبح الدهر أشيبا ... وبي بل بفضلي أصبح الدهر أمردا )
( وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الكره مني أن أرى لك سيدا )
( وما أنا راض أنني واطئ الثرى ... ولي همة لا ترتضي الأفق مقعدا )
( ولو علمت زهر النجوم مكانتي ... لخرت جميعا نحو وجهي سجدا )
( وبذل نوالي زاد حتى لقد غدا ... من الغيظ منه ساكن البحر مزبدا )

( ولي قلم في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهز المهندا )
( إذا جال فوق الطرس وقع صريره ... فإن صليل المشرفي له صدا )
والمخلص من الحماسة والفخر إلى الغزل قوله
( ومن كل شي قد صحوت سوى هوى ... أقام عذولي بالملام وأقعدا )
( إذا وصل من أهواه لم يك مسعدي ... فليت عذولي كان بالصمت مسعدا )
( بحب حبيبي من يكون مفندا ... فيا ليتني كنت العذول المفندا )
( وقال لقد آنست نارا بخده ... فقلت وإني ما وجدت بها هدى )
( وكم لي إلى دار الحبيب التفاتة ... تذكرني عهدا قديما ومعهدا )
( ولم أدم ذاك الخد باللحظ إنما ... عملت خلوقا حين أبصرت مسجدا )
( يراقب طرفي أن يلوح هلالها ... فقد طالما قد قام حين تعبدا )
( عبرت عليها واعتبرت تجلدي ... فيا حسرتي لما اعتبرت التجلدا )
( كأن بطرفي ما بقلبي صبابة ... فلم ير تلك الدار إلا تقيدا )
( وكم لجوادي وقفة في عراصها ... تعود منها جيدة ما تعودا )
( تعود ذاك الجيد مني أنني ... أصيره من در عيني مقلدا )
( ويا رب ليل بت فيه وبيننا ... عناق أعاد العقد عقدا مبددا )
( ولم أجعل الكف الشمال وسادة ... فبات على كفي اليمين موسدا )
( وجردته من ثوبه وأعدته ... بثوب عفافي كاسيا متجردا )
( وقربني حتى طربت إلى النوى ... وأوردني حتى صديت إلى الصدا )
( شهدت بأن الشهد والمسك ريقه ... وما كنت لو لم أختبره لأشهدا )
( وأن السلاف البابلية لحظة ... وإلا سلوا إنسانه كيف عربدا )
وممن حذا هذا الحذو ونسج على هذا المنوال ومشى فيه على طريق ما سلكها أحد قبله الصاحب بهاء الدين زهير فإنه كتب إلى كمال الدين بن العديم أبياتا معناها

أنه انتخبه لقضاء حاجة له ولم يؤهل غيره لها وتخلص منها إلى الغزل بما تستجلي منه عرائس البيان ويظهر به الافتنان وهي
( دعوتك لما أن بدت لي حاجة ... وقلت رئيس مثله قد تفضلا )
( لعلك للفضل الذي أنت ربه ... تغار فلا ترضى بأن تتبدلا )
( إذا لم يكن إلا تحمل منة ... فمنك وأما من سواك فلا ولا )
( حملت زمانا عنكم كل كلفة ... وخففت حتى آن لي أن أثقلا )
( ومن مذهبي المشهور مذ كنت أنني ... لغير حبيب قط لن أتذللا )
( وقد عشت دهرا ما شكوت لحادث ... بلى كنت أشكو الأغيد المتدللا )
( وما همت إلا للصبابة والهوى ... ولا خفت إلا سطوة الهجر والقلا )
( أروح وأخلاقي تذوب حلاوة ... وأغدو وأعطافي تسيل تعزلا )
وقد طال الشرح ولكن رأيت الافتنان نوعا غريبا فطلبت بالكثرة زيادة إيضاحه ليستضيء المتأمل في ظلمات الأشكال بنور مصباحه
وبيت الشيخ صفي الدين
( ما كنت قبل ظبا الألحاظ قط أرى ... سيفا أراق دمي إلا على قدم )
كان المطلوب من الشيخ صفي الدين في هذا النوع غير هذا النظم مع عدم تكلفه بتسمية النوع وأما العميان فإنهم لم ينظموا هذا أيضا في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( كان افتناني بثغر راق مبسمه ... صار افتناني بثغر فيه سفك دمي )
وبيت بديعيتي
( تغزلي وافتناني في شمائلهم ... أضحى رثا لاصطباري بعد بعدهم )
والجمع في افتنان هذا البيت بين النسيب الخالص والتعزية وكل من الشطرين مستقل بمعناه هو جمع غريب والكناية عن موت الصبر بأن التغزل أضحى رثاء له من ألطف الكنايات ويؤيد ذلك قولي بعد بعدهم

ذكر ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير نوعا يسمى التمريج لم ينظمه أصحاب البديعيات وهو قريب من الافتنان ولكن بينهما فرق دقيق لأن الافتنان لا يكون إلا بالجمع بين فنين من أغراض المتكلم كما تقدم والتمريج يخالف ذلك وهو الجمع بين الفنون والمعاني والله تعالى أعلم

ذكر الاستدراك
( قالوا نرى لك لحما بعد فرقتنا ... فقلت مستدركا لكن على وضم )
الاستدراك على قسمين قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد وقسم لا يتقدمه ذلك فمن أمثلة الأول قول القائل
( وإخوان تخذتهم دروعا ... فكانوها ولكن )
( وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها ولكن في )
( وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي )
وقال ابن أبي الأصبع لم أسمع في هذا الباب أحسن من قول ابن دويدة المغربي يخاطب رجلا أودع بعض القضاة مالا فادعى القاضي ضياعه وهو
( إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي )
( أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع )
وممن تلطف في هذا الباب وأجاد للغاية القاضي الأرجاني بقوله
( غالطتني إذ كست جسمي ضنا ... كسوة أعرت من اللحم العظاما )
( ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما )

ولقد أحسن القائل في شكوى الزمان بقوله
( ولي فرس من نسل أعوج سابق ... ولكن على قدر الشعير يحمحم )
( وأقسم ما قصرت فيما يزيدني ... علوا ولكن عند من أتقدم )
وهذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك
وأما شواهد القسم الثاني وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد مثل قول زهير
( أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله )
ومتى لم يكن في الاستدراك نكتة زائدة عن معنى الاستدراك لتدخله في أنواع البديع وإلا فلا يعد بديعا ولا يخفى على الذوق السليم ما في بيت زهير من الزيادة على معنى الاستدراك بقوله ولكنه قد يهلك المال نائله
فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ماله موفور وتلك صفة ذم فاستدرك ما يزيل هذا الاحتمال ويخلص الكلام للمدح المحض
وإذا تأمل الذائق بيت الأرجاني متع ذوقه بحلاوة الأدب من قوله
( ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما )
فالنكتة الزائدة على معنى الاستدراك لا تخفى إلا على من حجب عن ذوق هذا العلم وهو من شواهد القسم الأول فإنه قرر ما أخبرت به من قولها أنت عندي في الهوى مثل عيني ثم أكد بقوله صدقت ثم نكت بالزيادة على معنى الاستدراك التنكيت الذي يتطفل النسيم على رقته ولولاه ما سكن هذا النوع بيتا بديعيا ولا تأهل بعد غربته
وأصحاب البديعيات على هذا المنوال نسجوا وأداروا كؤوس السلافة على أهل الأذواق ومازجوها بلطف مزاجهم فامتزجوا
والذي أقوله إن الشيخ صفي الدين حلا في هذا المنهل الصافي مورده وعلا في هذا السلك البديعي منظمه ومنضده وبيته
( رجوت أن يرجعوا يوما وقد رجعوا ... عند العتاب ولكن عن وفا ذممي )
فإنه قرر ما أخبر به قبل الاستدراك وأكده بقوله وقد رجعوا وفي قوله عند العتاب تكميل بديعي

وأما العميان فإنهم ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت عز الدين
( فكم حميت بالاستدراك ذا أسف ... لكن عن المشتهي والبرء من سقمي )
وأما هذا البيت فإنه عامر بقلق البناء مع عقادة التركيب
وبيت بديعيتي
( قالوا نرى لك لحما بعد فرقتنا ... فقلت مستدركا لكن على وضم )
وفي إنصاف أهل العلم والذوق السليم ما يغني عن التطويل في محاسن هذا البيت

ذكر الطي والنشر
( والطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم )
الطي والنشر هو أن تذكر شيئين فصاعدا إما تفصيلا فتنص على كل واحد منهما وإما إجمالا فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به لا أنك تحتاج أن تنص على ذلك ثم إن المذكور على التفصيل قسمان قسم يرجع إلى المذكور بعده على الترتيب من غير الأضداد لتخرج المقابلة فيكون الأول للأول والثاني للثاني وهذا هو الأكثر في اللف والنشر والأشهر وقسم على العكس وهو الذي لا يشترط فيه الترتيب ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى موضعه تقدم أو تأخر
أما المذكور على الإجمال فهو قسم واحد لا يتبين فيه ترتيب ولا يمكن عكسه ومثاله أن يقول لي منه ثلاثة بدر وغصن وظبي
فحصل من هذا أن اللف والنشر على ثلاثة أقسام وإذا كان المفصل المرتب في اللف والنشر هو المقدم نبدأ بشواهده
فمنه بين شيئين قوله تعالى ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء راجع إلى النهار
ومنه قول الشاعر
( ألست أنت الذي من ورد نعمته ... وورد راحته أجني وأغترف )

وقد جمع هذا البيت مع حشمة الألفاظ بين جناس التحريف والاستعارة واللف والنشر
وما ألطف قول شمس الدين محمد بن دانيال الحكيم
( ما عاينت عيناي في عطلتي ... أقل من حظي ومن بختي )
( قد بعت عبدي وحماري وقد ... أصبحت لا فوقي ولا تحتي )
ومن غراميات البهاء زهير
( ولي فيك قلب بالغرام مقيد ... له خبر يرويه طرفي مطلقا )
( ومن فرط وجدي في لماه وثغره ... أعلل قلبي بالعذيب وبالنقا )
ومثله قوله
( يا ردفه يا خصره ... من لي بنجد أو تهامه )
ومثله قول ابن نباتة
( له قلب ولي دمع عليه ... فهذا قاسيون وذا يزيد )
ومثله قوله مع زيادة التورية
( لا تخف عيلة ولا تخش فقرا ... يا كثير المحاسن المختاله )
( لك عين وقامة في البرايا ... تلك غزالة وذي فتاله )
ومثله قوله مع زيادة التورية
( سألته عن قومه فانثنى ... يعجب من إسراف دمعي السخي )
( وأبصر المسك وبدر الدجى ... فقال ذا خالي وهذا أخي )
ولابن حيوس بين ثلاثة وثلاثة
( ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ... من مقلتيه ووجنتيه وريقه )

ومثله قول ابن الرومي
( آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم )
( منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم )
ومثله قول حميدة الأندلسية وهو
( ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار )
( غزوناهم من ناظريك وأدمعي ... وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار )
قال الشيخ شهاب الدين أبو جعفر الأندلسي نزيل حلب وقد أورد هذين البيتين في شرحه على بديعية صاحبه أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي إن حميدة كانت من ذوي الألباب وفحول أهل الآداب حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب وادعى نظم هذين البيتين لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب وما غره في ذلك إلا بعد ديارها وخلو هذه البلاد من أخبارها وقد تلبس بعضهم بشعارها وادعى هذا من أشعارها وهو قولها
( وقانا لفحة الرمضاء روض ... وقاه مضاعف الطل العميم )
( تظل غصونه تحنو علينا ... حنو الوالدات على الفطيم )
( وأسقانا على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
( تروع حصاه حالية الغواني ... فتلمس جانب العقد النظيم )
فهذه الأبيات نسبوها إلى المنازي من شعرائهم وركبوا التعصب في جادة إدعائهم وهي أبيات لم يحكها غير لسانها ولا رقم بردها غير حسانها وقد رأيت بعض المؤرخين من أهل بلادنا أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود ويتصف بلفظه الموجود
انتهى كلام الشيخ شهاب الدين المذكور
ومنه بين ثلاثة وثلاثة قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى وعفا عنه آمين
( عرج على حرم المحبوب منتصبا ... لقبلة الحسن واعذرني على سهري )

( وانظر إلى الخال فوق الخد تحت لمى ... تجد بلالا يراعي الصبح في السحر )
ومنه بين أربعة وأربعة
( ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والبلح )
ومثله قول شمس الدين بن العفيف رحمه الله تعالى
( رأى جسدي والدمع والقلب والحشا ... فأضنى وأفنى واستمال وتيما )
ومثله قولي من قصيدة
( من محياه والدلال ومسك الخال ... والثغر يا شيوخ البديع )
( انظروا في التكميل واللف والنشر ... وحسن الختام والترصيع )
وللشيخ شهاب الدين أبي جعفر الشارح المذكور بين خمسة وخمسة ولكن لم يخل من التعسف وهو
( ملك يجيء بخمسة من خمسة ... كفى الحسود بها فمات لما به )
( من وجهه ووقاره وجواره ... وحسامه بيديه يوم ضرابه )
( قمر على رضوى تسير به الصبا ... والبرق يلمع من خلال سحابه )
ولابن جابر ناظم البديعية بين ستة وستة
( إن شئت ظبيا أو هلالا أو دجى ... أو زهر غصن في الكثيب الأملد )
( فللحظها ولوجهها ولشعرها ... ولخدها والقد والردف أقصد )
صبرنا على الأملد صفة الكثيب ولكن لم نصبر على دخول القصد فإنها زيادة أجنبية
وقد جمع قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحيم بن البارزي بين سبعة وسبعة
( يقطع بالسكين بطيخة ضحى ... على طبق في مجلس لأصاحبه )
( كبدر ببرق قد شمسا أهلة ... لدى هالة في الأفق بين كواكبه )

قال شهاب الدين المذكور في شرح بديعية صاحبه ابن جابر إن اللف والنشر في هذين البيتين غير كامل التفصيل
لأنه نص في اللف على ستة ونص في النشر على سبعة وكل منهما راجع إلى منصوص عليه في اللف إلا الأهلة فإنه راجع إلى الأشطار وهي غير مذكورة في اللف
قلت هذا يفهم من قوله يقطع
قال الشيخ شهاب الدين قوله ضحى في بيت اللف مطرح لا نظير له في النشر
قلت ضحى ليس لها في الحسن نظير فإنه جعل البطيخة شمسا وهي أنور من قول صاحبه في بيته أملد وأقصد
فإنه لم ينص عليهما في اللف وهما أجنبيان مما نحن فيه
ووصلوا في الجمع بين اللف والنشر المفصل المرتب إلى اثني عشر
لكن تكلفوا وتعسفوا وأتوا به في بيتين ولم تسفر لهم وجوه المعاني المسفرة عن بهجة
ولابن بلدتنا الشيخ علاء الدين بن مقاتل مالك أزمة الزجل وقد تقدم ذكره في ما أوردته له من أزجاله على الجناس المقلوب واللفظي الجمع في اللف والنشر بين ثمانية وثمانية مع عدم الحشو والفرار من التعسف وصحة الانسجام
( خدود وأصداغ وقد ومقلة ... وثغر وأرياق ولحن ومعرب )
( فورد وسوسان وبان ونرجس ... وكاس وجريال وجنك ومطرب )
ومما سمعت في هذا النوع وفيه الجمع بين عشرة وعشرة قول بعضهم
( شعر جنين محيا معطف كفل ... صدغ فم وجنات ناظر ثغر )
( ليل صباح هلال بانة ونقا ... آس أقاح شقيق نرجس در )
وجل القصد هنا أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو وعقادة التركيب جامعا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة
انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب
وأما القسم الذي هو العكس أعني غير المرتب فكقول الشاعر
( كيف أسلو وأنت حقف وغصن ... وغزال لحظا وقدا وردفا )
فعدم الترتيب ظاهر في البيت وأما القسم المذكور على الإجمال فهو قسم واحد

لا يتبين فيه ترتيب ولا عكس كما تقدم ومثله قول ابن سكرة في بيت الكافات الشتائية
( جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا )
( كن وكيس وكانون وكاس طلا ... مع الكباب وكس ناعم وكسا )
وظريف هنا قول من قال
( جاء الصفاع وعندي من حوائجه ... سبع إذا الصفع في ميدانه وقفا )
( نطع وطرق وزريوك وغاشية ... وركوة وجراب ناعم وقفا )
ففي قوله بعد ما ذكره من آلات الصفع وقفا
غاية في اللطف وقوة في تمكين القافية
انتهى الكلام على اللف والنشر المفصل المرتب وعلى غيره
وأما أصحاب البديعيات فإنهم ما نظموا إلا المفصل المرتب لأنه المقدم عند علماء البديع في هذا الباب ولم يأتوا به إلا في بيت واحد بحيث يكون مثالا شاهدا على هذا النوع وماشيا على سنن الأبيات المفردة المشتملة على أنواع البديع وبيت صفي الدين غاية في هذا الباب لما اشتمل عليه من السهولة والرقة وعدم الحشو وهو قوله
( وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهم بهم )
والعميان لم يأتوا بهذا النوع إلا في بيتين مع عقادة التركيب
ولقد حبست عنان القلم عن الكلام عليهما لكونهما من جملة مديح النبي وهما
( حيث الذي إن بدا في قومه وحبى ... عفاته ورمى الأعداء بالنقم )
( فالبدر في شبهه والغيث جاد لذي ... محل وليث الشرى قد جال في الغنم )

وبيت عز الدين الموصلي
( نشر ويسر وبشر من شذا وندى ... وأوجه فتعرف طي نشرهم )
قوله فتعرف طي نشرهم ليس له نص في اللف لأنه نص فيه على ثلاثة وعجز عن ترتيب اللف والنشر في نص اللف وعلى كل تقدير فلا بد له من تسمية النوع فسماه ولكن أتى به فضلة ولو التزم الشيخ صفي الدين أن يسمي هذا النوع البديعي في بيته لتجافت عليه تلك الرقة
( فالطي والنشر والتغيير مع قصر ... للظهر والعظم والأحوال والهمم )
فالطي والنشر في نص اللف قبالة الظهر والعظم والتغيير مع القصر قبالة الأحوال والهمم هذا مع زيادة العدة على الشيخ عز الدين وعدم التكلف ولولا الالتزام بتسمية النوع ومراعاة السهولة والانسجام وصلت إلى أكثر من هذه العدة

ذكر الطباق
( بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طباقهم )
المطابقة يقال لها التطبيق والطباق والمطابقة في اللغة أن يضع البعير رجله في موضع يده فإنه فعل ذلك قيل طابق البعير
وقال الأصمعي المطابقة أصلها وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع
وقال الخليل بن أحمد يقال طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حد واحد
انتهى
وليس بين تسمية اللغة وتسمية الاصطلاح مناسبة لأن المطابقة في الاصطلاح الجمع بين الضدين في كلام أو بيت شعر كالإيراد والإصدار والليل والنهار والبياض والسواد
وليس في الألوان ما تحصل به المطابقة غيرهما أعني البياض والسواد فقد قال الرماني وغيره البياض والسواد ضدان بخلاف بقية الألوان لأن كلا منهما إذا قوي زاد بعدا من صاحبه
انتهى
وإذا ألحقوا بقية الألوان بالمطابقة فالتدبيج أحق منها بذلك فإنهم أوردوا في المطابقة من التدبيج قول ابن حيوس على جهة الكناية
( فافخر بعم عم جود يمينه ... وأب لأفعال الدنية آبي )
( ببياض عرض واحمرار صوارم ... وسواد نقع واخضرار رحاب )

وقد تقرر أن المطابقة الجمع بين الضدين عند غالب الناس سواء كانت من سمين أو من فعلين أو غير ذلك
قال الأخفش وقد سئل عنها أجد قوما يختلفون فيها فطائفة وهم الأكثر يرون أنها الشيء وضده وطائفة يزعمون أنها اشتراك المعنيين في لفظ واحد منهم قدامه بن جعفر الكاتب وأوردوا في ذلك قول زياد الأعجم
( ونبئتهم يستنصرون بكاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام )
فكاهل الأول اسم رجل والثاني العضو المعروف فاللفظ واحد والمعنيان مختلفان وهذا هو الجناس التام بعينه وقال الأخفش من قال إن المطابقة اشتراك المعنيين في لفظ واحد فقد خالف الخليل والأصمعي فقيل أوكانا يعرفان ذلك فقال سبحان الله من أعلم منهما بطيبه وخبيثه وما أحسن ما أتى الأخفش في الجواب بالمطابقة
ومنهم من أدخل المقابلة فيها وليس بمليح إذ لم يبق للفرق بينهما محل
فإن السكاكي قال المقابلة أن تجمع بين شيئين فأكثر وتقابل بالأضداد ثم إذا شرطت هنا شيئا شرطت هناك ضده والمطابقة هي الإتيان بلفظتين والواحدة ضد الأخرى وكأن المتكلم طابق الضد بالضد
ولقد شفى زكي الدين بن أبي الأصبع القلوب في ما قرره فإنه قال المطابقة ضربان ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة وضرب يأتي بألفاظ المجاز فما كان بلفظ الحقيقة سمي طباقا وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤا
فمثال التكافؤ وهو من إنشادات قدامة
( حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق )
فقوله حلو ومر يجري مجرى الاستعارة إذ ليس في الإنسان ولا في شمائله ما يذاق بحاسة الذوق
ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق وهو حسن
( وقد أطفؤا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج )

ومثله
( إن هذا الربيع شيء عجيب ... تضحك الأرض من بكاء السماء )
( ذهب حينما ذهبنا ودر ... حيث درنا وفضة في الفضاء )
وما أحلى قول القائل في هذا الباب
( إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب ... تحرك يقظان التراب ونائمه )
فالمطابقة بين اليقظان والنائم ونسبتهما إلى التراب على سبيل المجاز وهذا هو التكافؤ عند ابن أبي الأصبع
وأما المطابقة الحقيقية التي لم تأت بغير ألفاظ الحقيقة فأعظم الشواهد عليها قوله تعالى ( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيى ) وكقول النبي للأنصار رضي الله تعالى عنهم ( إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع ) فانظر إلى هذه البلاغة النبوية والمناسبة التامة ضمن المطابقة
ومن الشواهد الشعرية قول الحماسي
( تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما )
ولآخر
( لئن ساءني أن نلتني بإساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك )
ولآخر في وصف فرس وأجاد
( وأرى الوحش في يميني إذا ما ... كان يوما عنانه بشمالي )
والمعجز الذي لا تصل إليه قدرة مخلوق قوله تعالى ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) فانظر إلى عظم هذه المطابقة وما فيها من الوجازة
ومن ذلك في الحديث قول النبي ( فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن ديناه لآخرته ومن الشبيبة للكبر ومن الحياة للممات فوالذي نفسي بيده ما بعد الحياة مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار )
انتهى ما قررته في المطابقة لغة واصطلاحا وما أوردته من الفرق بينهما وبين التكافؤ على رأي ابن أبي الأصبع

ولهم مطابقة السلب بعد الإيجاب وهي المطابقة التي لم يصرح فيها بإظهار الضدين كقوله تعالى ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فالمطابقة حاصلة بين إيجاب العلم ونفيه لأنهما ضدان ومثله قول البحتري
( يقيض لي من حيث لا أعلم النوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم )
فالمطابقة باطنة ومعناها ظاهر فإن قوله لا أعلم كقوله جاهل والسابق إلى هذا امرؤ القيس بقوله
( جزعت ولم أجزع من البين مجزعا ... وعزيت قلبا بالكواعب مولعا )
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الجزع ونفيه ومن المستحسن في ذلك قول بعضهم
( خلقوا وما خلقوا لمكرمة ... فكأنهم خلقوا وما خلقوا )
( رزقوا وما رزقوا سماح يد ... فكأنهم رزقوا وما رزقوا )
ومثله قول بشر بن هارون وقد ظهر منه الفرح عند الموت فقيل له أتفرح بالموت فقال ليس قدومي على خالق أرجوه كمقامي عند مخلوق لا أرجوه
فالمطابقة حاصلة بين إيجاب الرجاء ونفيه
انتهى الكلام على مطابقة السلب بعد الإيجاب
ولهم إيهام المطابقة كما لهم إيهام التورية والشاهد على إيهام المطابقة قول الشاعر
( يبدي وشاحا أبيضا من سيبه ... والجو قد لبس الوشاح الأغبرا )
فإن الأغبر ليس بضد الأبيض وإنما يوهم بلفظه أنه ضده ومثله قول دعبل
( لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى )
فالضحك هنا من جهة المعنى ليس بضد البكاء لأنه كناية عن كثرة الشيب ولكنه من جهة اللفظ يوهم المطابقة
ولهم الملحق بالطباق وهو راجع إلى الضدين كقوله تعالى ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) طابق الأشداء بالرحماء لأن الرحمة فيها معنى اللين ومثله قوله

تعالى ( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا ) فالمطابقة بين الغرق ودخول النار فإن من دخل النار احترق والاحتراق ضد الغرق ومنه قول الحماسي
( لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا )
ففي قوله تتابع لي غنى معنى الكثرة وأما قول أبي الطيب
( لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم )
فمتفق عليه أنه من الطباق الفاسد فإن المجرم ليس بضد للمحب بوجه ما وليس للمحب ضد غير المبغض انتهى
وذكروا في آخر الباب طباق الترديد وهو أن ترد آخر الكلام المطابق على أوله فإن لم يكن الكلام مطابقا فهو من رد الإعجاز على الصدور ومنه قول الأعشى
( لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ولا يوهون ما رقعوا )
وجل القصد في هذا الباب المطابقة في الحقيقة التي قررها ابن أبي الأصبع وتقدم ذلك في أول الباب مع الشواهد عليه ومثله قول بشار
( إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمرا ثم نم )
ومن لطيف هذا الطباق ما أورده القاضي جلال الدين القزويني في إيضاحه على تلخيصه وهو قول القاضي الأرجاني
( ولقد نزلت من الملوك بماجد ... فقر الرجال إليه مفتاح الغنى )
والذي أقوله إن المطابقة التي يأتي بها الناظم مجردة ليس تحتها كبير أمر ونهاية ذلك أن يطابق الضد بالضد وهو شيء سهل اللهم إلا أن تترشح بنوع من أنواع البديع يشاركه في البهجة والرونق كقوله تعالى ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ) ففي العطف بقوله تعالى ( وترزق من تشاء بغير حساب ) دلالة على أن من قدر على تلك

الأفعال العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الرب سبحانه وتعالى فانظر إلى عظم كلام الخالق هنا فقد اجتمع فيه المطابقة الحقيقية والعكس الذي لا يدرك لوجازته وبلاغته ومبالغة التكميل التي لا تليق بغير قدرته ومثل ذلك قول امرئ القيس
( مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل )
فالمطابقة في الإقبال والإدبار ولكنه لما قال معا زادها تكميلا في غاية الكمال فإن المراد بها قرب الحركة في حالتي الإقبال والإدبار وحالتي الكر والفر فلو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل لها هذه البهجة ولا هذا الموقع ثم إنه استطرد بعد تمام المطابقة وكمال التكميل إلى التشبيه على سبيل الاستطراد البديعي ولم يكن قد ضرب لأنواع البديع في بيوت العرب وتد ولا امتد له سبب
وقد اشتمل بيت امرئ القيس على المطابقة والتكميل والاستطراد على طريقة فإن ابن المعتز قال هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه إلى معنى آخر وممن كسا المطابقة ديباجة التورية أبو الطيب المتنبي حيث قال
( برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان )
( كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني )
لعمري لقد رفع أبو الطيب قدر المطابقة وأزال حقارتها بمجاورة هذا النوع البديعي الذي عظم عند أهل الأدب قدرا ومثله قول الصاحب بن عباد في رثاء الوزير كثير بن أحمد
( يقولون قد أودى كثير بن أحمد ... وذلك رزء في الأنام جليل )
فقلت دعوني والعلا نبكه معا ... فمثل كثير في الأنام قليل )
وأبو تمام كساها ديباجة المجانسة بقوله
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب )
وما أحلى قول الأرجاني من قصيدة
( تعلق بين الهجر والوصل مهجتي ... فلا أربي في الحب أقضي ولا نحبي )

فشد أزر المطابقة ببديع اللف والنشر وأهلها بغريب هذا المعنى بعدما سال رقة وعلق بخاطري من هذه القصيدة
( فلا تتعجب أنني عشت بعدهم ... فإنهم روحي وقد سكنوا قلبي )
ومنها
( وحرف تجوب القاع والوهد والربا ... كحرف مديم الجر والرفع والنصب )
نجائب يقدحن الحصى كل ليلة ... كأن بأيديها مصابيح للركب )
ومن المطابقة باللف والنشر أيضا قول شيخ شيوخ حماة المحروسة
( إن قوما يلحون في حب ليلى ... لا يكادون يفقهون حديثا )
( سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيبا وردوا خبيثا )
ومثله قوله يخاطب العاذل
( أراك بخيلا بعوني فهبني ... سكوتك عني إذا لم تعني )
( ذممت الهوى ورجوت السلو ... فأبكيت عيني وأضحكت سني )
ومثله قوله
( يا وجوها زانت سناها فروع ... حالكات أغنتكم عن حلاكم )
( لي من حسنكم نهار وليل ... أنعم الله صبحكم ومساكم )
ومثله قوله من قصيدة
( توغل حرقتي أجرى دموعي ... فقل ما شئت في دخل وخرج )
ومنه قول أبي حفص المطوعي في الباب
( أو ما ترى نور الخلاف كأنه ... لما بدا للعين نور وفاق )
فالمطابقة هنا بزيادة التورية مع الاستعارة البديعة ويعجبني قوله بعد هذا البيت
( كأكف سنور ولكن نشره ... يسعى بفأر المسك في الآفاق )
وأما سحر البلاغة هنا فقول القاضي الفاضل
( دام صاحي وداده عمر الدهر ... جنينا لسكري النشوان )

أنظر أيها المتأمل ما أبدع ما أبرز المطابقة في حلل هاتين الاستعارتين الغريبتين وما ألطف ما أيد معنى المطابقة بقوله بعدها
( وبنات الصدور أوقع فيما ... زعم المجد من بنات الدنان )
فالفاضل أبرز هذه المطابقة في حلل الاستعارة ولكن من أين للمستعير صحو الوداد ونشوة السكر سبحان المانح ما هذه إلا مواهب ربانية
وأما الذين تقدم القول بالاقتداء برأيهم في هذا الفن فإنهم ما أبرزوها إلا في أشعار التورية فمن ذلك قول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في موصول
( وناطقة بالنفخ عن روح ربها ... تعبر عما عندنا وتترجم )
( سكتنا وقالت للقلوب فأطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم )
فإنه جمع بين التورية والتضمين والمطابقة
وما أحلى قول الشيخ شرف الدين بن الفارض في المطابقة بالتورية في قوله
( أرج النسيم سرى من الزوراء ... سحرا فأحيا ميت الأحياء )
ومثله قول الوداعي في قصيدة وهو في غاية الحسن
( يفتن بالفاتر من طرفه ... وريقه البارد يا حار )
وما ألطف قول الشيخ شمس الدين الواسطي في دو بيت
( إن ضر مني بجذوة التذكار ... حبي وبرى عظمي شكرت الباري )
( فالعاذل في هواي لا عقل له ... ما أبلد عاذلي وأذكى ناري )
ومثله قول سراج الدين الوراق
( وبي من البدو كحلاء الجفون بدت ... في قومها كمهاة بين آساد )
( فلو بدت لحسان الحضر فمن لها ... على الرؤوس وقلن الفضل للبادي )

ومثله قول أبي الحسين الجزار
( أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمولي )
( أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول )
ومثله قول الوداعي في مطلع قصيد
( ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم )
ومثله قول مجير الدين بن تميم
( لما لبست لبعده ثوب الضنا ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا )
( أجريت واقف مدمعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا )
وكتبت من هذا النوع إلى القاضي كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال بدمشق المحروسة
( كمال الدين يا مولاي يا من ... يغير البحر من بذل النوال )
( أيجمل أن يقول الناس إني ... أتيت لحاجة لم تقضها لي )
( وأصبح بينهم مثلا لأني ... أتاني النقص من جهة الكمال )
ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى
( إني إذا آنست هما طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه )
( ودعوت ألفاظ الحبيب وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه )
ومثله قوله
( قصدت معاليك أرجو الندى ... وأشكو من العسر داء دفينا )
( فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا )
ومثله قوله
( حزني من مهفهف القدر أم ... أسهم اللحظ ما أسد وأرشق )
( كلما قلت يفتح الله بالوصل ... رماني من سحر عينيه يغلق )

ومثله قوله
( إن أساء الحبيب قامت بعذر ... وجنة منه فوقها شامات )
( يا لها وجنة أقابل منها ... حسنات تمحى بها سيئات )
ومثله قوله
( قام غلام الأمير يحسب في ... يوم طهور البنين طاووسا )
( فأنزل الحاضرون من شبق ... وعاد ذاك الطهور تنجيسا )
وما ألطف قوله من هذا النوع
( يا غائبين تعللنا لغيبتكم ... بطيب لهو ولا والله لم يطب )
( ذكرت والكاس في كفي لياليكم ... فالكاس في راحة والقلب في تعب )
ومثله قوله في براعة قصيد
( يوم صحو فاجعله لي يوم سكر ... )
وما أحلى ما قال بعده في الشطر الثاني
( فأدر كأسي رضاب وخمر ... )
منها ولم يخرج عما نحن فيه
( جفن عينيه فاتر مستحيي ... إنما خده المشعشع جمري )
ومثله قوله من قصيدة
( فريد وهو فتان التثني ... فيا لله من فرد تثنى )
وله في روضة من قصيدة
( مطابقة الأوصاف أما نسيمها ... فصح وأما ماؤها فتكسرا )
أنظر ما أحسن تصريحه بالنوع هنا في قوله مطابقة الأوصاف
ومثله قول الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي من قصيدة
( بأبي غني ملاحة أشكو له ... فقري فيصبح بالغنى يتطرب )
ومنها في هذا النوع
( غدا ينادمني وكأس حديثه ... أشهى إلي من العتيق وأطيب )

ومثله قوله
( في جفنه سيف مضاربه ... يا صاح أسبق لي من العذل )
( وبخده والردف لي خبر ... قد سار بين السهل والجبل )
ومثله قول الشيخ زين الدين بن الوردي
( تجادلنا أماء الزهر أزكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف )
( وعقبي ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف )
ومثله قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب وهو في غاية الظرف
( كم جار صرف الدهر في حكمه ... وضر بي من حيث بي يعتني )
( ألبسني من شيبتي حلة ... قلت له والله عريتني )
ومنه قول الشيخ صلاح الدين الصفدي وقد أهدى إلى الشيخ جمال الدين بن نباتة تخفيفة
( أيا فاضلا تدنو الأفاضل نحوه ... وتشكر في جميع المناقب تصريفه )
( إذا كنت بالإحسان ثقلت كاهلي ... فلا عجب إن كنت تقبل تخفيفه )
ومنه قول الشيخ صفي الدين الحلي من قصيدة
( والريح تجري رخاء فوق بحرتها ... وماؤها مطلق في زي مأسور )
( قد جمعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكثير )
ومنه قول المعمار
( أصاب قلبي خطائي ... بلحظه لشفائي )
( فرحت من فرط وجدي ... أشكو إلى الحكماء )
( قالوا أصبت بعين ... فقلت من عظم دائي )
( إن كان هذا صوابا ... فتلك عين الخطاء )
وحسن هنا قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي
( وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا )
( يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا عدا بين الرياض تشعبا )

ومنه قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي
( بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال )
( تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال )
ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي
( سموا مني مهجتي سعيدا ... ولي شقاء به يزيد )
( إذا اجتمعنا يقول ضدي ... هذا شقي وذا سعيد )
وظريف قول جمال الدين عبد الله السوسي
( ورب أقطع يشدو ... ساروا وما ودعوني )
( ما أنصفوا أهل ودي ... واصلتهم قاطعوني )
وألطف منه قول الشيخ جلال الدين ابن الخطيب داريا
( يا معشر الأصحاب قد عن لي ... رأي يزيل الحمق فاستظرفوه )
( لا تحضروا إلا بأخفافكم ... ومن تثاقل منكم خففوه )
ومثله قوله
( تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي )
( فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تتبع الحلي فهو حرامي )
وظريف هنا قول الشيخ بدر الدين البشتكي وإن لم يكن فيه تورية فقد صرح باسم النوع من جنس الغزل
( وقالوا يا قبيح الوجه تهوي ... مليحا دونه السمر الرشاق )
( فقلت وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق )

ومن المطابقة بالتورية قول القاضي بدر الدين بن الدماميني رحمه الله
( بدر إذا شمت فوق الخد عارضه ... يوما أرى الصبح بالظلماء مختلطا )
( وظن أن صوابا هجر عاشقه ... لما رأى منه شيبا باديا وخطا )
ومن العجيب في هذا النوع قول شيخنا العلامة شهاب الدين بن حجر فسح الله في أجله
( خليلي ولي العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا )
( فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا )
وما أحلى قوله فيه
( أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا )
( فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا )
ومثله قوله
( نأى رقيبي وحبيبي دنا ... وحسنه للطرف قد أدهشا )
( آنسني المحبوب يوم اللقا ... لكن رقيبي فيه ما أوحشا )
وما أظرف قوله فيه
( أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي )
( قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع )
أنظر كيف جمع بين قصر الوزن وعدم الحشو وصحة التركيب والمطابقة بالتورية وتسمية النوع من جنس الغزل ومثله قوله
( قال حبي أكتم الهوى ... خوف لاح وواشيه )
( كيف أسطيع كتمه ... وسقامي علانيه )
وأنشدني من لفظه لنفسه ابن مكانس وقد أوقفته في الشرح على هذا النوع فقال
( يا سادتي والعشق لم يبق لي ... من بعدكم روحا ولا حسا )
( صبحني الهم لهجرانكم ... والضر لما بنتم مسا )

وله
( لثغرك طعم ونشر يلذ ... ونسقى به يا أخا البدر عشقا )
( فدعنا نمت ونعش في الهوى ... غراما وننعم ذوقا ونشقا )
ومثله قوله
( رب خذ بالعدل قوما ... أهل ظلم متوالي )
( كلفوني بيع خيلي ... برخيص وبغال )
ونقلت من ديوان والده المقر الفخري
( زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر )
( يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر )
ونقلت أيضا من ديوانه
( لم أنس معشوقة زارت بجنح دجى ... فبت في مسك أنفاس وطيب سمر )
( حتى الصباح وعيناها تظن بأن ... هاروت حل عشاء فيهما وسحر )
ونقلت منه ما امتدح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
( يا ابن عم النبي إن أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا )
( أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إماما وما سواك مجاز )
وقوله
( علقتها معشوقة خالها ... إن عمها بالحسن قد خصصا )
( يا وصلها الغالي ويا هجرها ... لله ما أغلى وما أرخصا )
وقلت في هذا المعنى من قصيدة
( وكيف أكتم حبا في هواه ولي ... من أحمر الدمع فوق الخد تشهير )
( ونار خديه قلبي أرخصت وغلت ... لما غدت ولها في القلب تسعير )
( وقال أغمدت سيف اللحظ عنك فكيف ... الحال قلت له والله مشهور )

وقلت من قصيدة وصرحت باسم النوع
( طابقت رقة حالي بالجفا عبثا ... فما طباقك إلا رقة وجفا )
وقلت من قصيدة
( شرفونا بمدمع العين عجبا ... ليتهم عند موتنا قبلونا )
وقلت بعده
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
حتى تخلصت إلى مدح أمين الدين من غزل هذه القصيدة ولم أخرج عما نحن فيه من المطابقة
ومن غريب ما وقع لي في هذا النوع قولي من قصيدة
( بدر منير قسا برؤيته ... لكن يرى عند خده شفقه )
وقلت من قصيدة
( لي في حماكم أهيف من عامر ... وخراب بيت تصبر بالعامري )
( سلطان حسن ظاهر لما بدا ... جال الهوى في باطني بالظاهري )
( وضفرت شعرك إذ ظفرت بمهجتي ... يفديك محلول العرا من ظافر )
( وحميت برد الثغر إذ طابقته ... في ضمن تورية بجفن فاتر )
أنظر ما أحلى قولي في ضمن تورية والمراد المطابقة بالتورية
وقلت مطابقا والتورية ثلاثية
( بمر هجرك عجبا قد قضيت لنا ... وشاهد الحسن بالإحسان حلاك )
وكتبت إلى بعض المخاديم بحماة المحروسة حرسها الله تعالى أطلب منثورا أبيض فماطلني مدة والمنثور الأبيض عزيز بحماة
( زهر الوعود ذوي من طول مطلكم ... لأنه من نداكم غير ممطور )
( والعبد قد جهز المنظوم ممتدحا ... فطابقوه إذا وافى بمنثور )

وقلت
( هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
( قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم سود وا )
وقد طال الشرح ولكن هذا الطول تنشرح له الصدور وتعلو به همة الطالب ولم يرض بعدها بالرخيص من هذا الفن ويتأيد إن الذين اقتديت برأيهم ومشيت على سننهم لم يرضوا بالمطابقة المجردة ولم ينظموها إلا في سلك التورية وقد أوردت لهم هنا من ذلك ما شنف الأسماع ورقص عند السماع والكمال لله فإن الشيخ صفي الدين لم يأت بالمطابقة إلا مجردة وبيته
( قد طال ليلي وأجفاني به قصرت ... عن الرقاد فلم أصبح ولم أنم )
وبيت العميان مثله لكنه عامر بالركة والعقادة وهو
( واسهر إذا نام سار وامض حيث ونى ... واسمح إذا شح نفسا وأسر إن يقم )
وبيت عز الدين
( أبكي فيضحك عن در مطابقة ... حتى تشابه منثور بمنتظم )
لعمري إن بيت صفي الدين وبيت العميان يتنزلان عند هذا البيت العامر بالمحاسن منزلة الأطلال البالية فإن الشيخ عز الدين جمع فيه بين تسمية النوع من جنس الغزل وبين غرابة المعنى وحسن الانسجام ورقة النسيب وبديع اللف والنشر ولم يأت كل منهما إلا بمجرد المطابقة
وأما قول العميان في آخر بيتهم وأسر إن يقم فهذا اللفظ من بقية ما سقط من حجارة البيت
وبيت بديعتي هو
( بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طباقهم )
فالمطابقة والتورية وتسمية النوع البديعي اجتمعت هنا في قافية هذا البيت الذي علا بطباقه وتفيأ أهل البديع بظل رواقه

ذكر النزاهة
( نزهت لفظي عن فحش وقلت هم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم )
النزاهة ما نظمها أحد في بديعيته إلا صفي الدين الحلي وقد تقدم القول أنه ذكر عن بديعيته أنها نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن
وهو نوع غريب تجول سوابق الذوق السليم في حلبة ميدانه وتغرد سواجع الحشمة على بديع أفنانه لأنه هجو في الأصل ولكنه عبارة عن الإتيان بألفاظ فيها معنى الهجو الذي إذا سمعته العذراء في خدرها لا تنفر منه وهذه عبارة عمرو بن العلاء لما سئل عن أحسن الهجو
وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز عجائب منها قوله تعالى ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ) فإن ألفاظ الذم المخبر عنها في كلام الآية أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الفحش في الهجاء والمرض
هنا عبارة عن إبطان الكفر
ومن النزاهة البديعية في النظم قول أبي تمام
( بني فعيلة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب )
( لحاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب )

ومن غريب هذا النوع قول معبد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قوما إلى سماع قينة له ثم انكشف له بعد هذا أنهم كانوا ينالون منها القبيح
( ألم أقل لك إن القوم بغيتهم ... في ربة العود لا في رنة العود )
( لا تأسفن على الشاة التي عقرت ... فأنت غادرتها في مسرح السيد )
فانظر إلى مصاحبة هذه المعاني ونزاهة ألفاظها عن الفحش
ومن ذلك قول جرير
( فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا )
وقالوا أحسن ما وقع في هذا الباب قوله أيضا
( لو أن تغلب جمعت أنسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا )
فانظر إلى هذا الهجو المنكي كيف بالغ في تنزيه ألفاظه عن الفحش وفيه معنى الهزل الذي يراد به الجد وهو غاية في هذا النوع
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( حسبي بذكرك لي ذما ومنقصة ... فيما نطقت فلا تنقص ولا تذم )
وقال إنها بالذال المعجمة فإن جل قصده الذم هنا والذي أقوله إن هذا البيت شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة وليته استضاء بما قاله جرير ومشى على سنته
والعميان لم ينظموا هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين نظمه في بديعيته لأجل معارضة الصفي وقال في بيته يخاطب العاذل
( لقد تفيهقت بالتشديق في عذلي ... كيف النزاهة عن ذا الأشدق الخصم )
قد تقرر أن النزاهة هجو ولكن شرطوا أن لا ينظم هجوها إلا بألفاظ لا تنفر منها العذراء في خدرها
والذي أقوله وأنا أستغفر الله إن ألفاظ عز الدين في بيته ينفر منها

الجان فكيف حال العذراء وحاصل القضية أنه نزه ألفاظه عن النزاهة ولم يتفيهق ولم يتشدق غيره وما أحقه بقول القائل
( وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي من المعنى ولكن يفرقع )
وبيت بديعيتي
( نزهت لفظي عن فحش وقلت هم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم )
وحشمة النزاهة لا تخفى على أهل الذوق السليم والعلم مع ما فيها من عدم التكليف في الميل عن التعسف
والذي أقوله إن بيتي في هذا الباب جر أذيال البلاغة مع جرير وشاركه في العذوبة والتباري ولكن له نبأ في التسمية صدر عن خيبر

ذكر التخيير
( تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقمي )
التخيير هو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ فيه أن يقفي بقواف شتى فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها
يستدل بتخييرها على حسن اختياره كقول الشاعر
( إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت )
فإنه يسوغ أن يقال ما له مال ما له سبب ما له أحد ما له قوت فإذا تأملت ما له قوت وجدتها أبلغ من الجميع وأدل على القافية وأمس بذكر الحاجة وأبين للضرورة وأشجى للقلوب وأدعى للاستعطاف فلذلك رجحت على ما ذكرناه
ومن هذا النوع في الكتاب العزيز قوله تعالى ( إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ) فالبلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه سبحانه وتعالى ذكر العالم بجملته حيث قال ( السموات والأرض ) ومعرفة ما في العالم من الآيات الدالة على أن المخترع قادر عليم حكيم ولا بد من التصديق أولا بالصانع حتى يصح أن يكون ما في المصنوع من الآيات دليلا على أنه موصوف بتلك الصفات والتصديق هو الإيمان وكذلك قوله تعالى في الآية الثانية ( لقوم يوقنون ) فإن خلق الإنسان وتدبير

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6