كتاب : البصائر والذخائر
المؤلف : أبو حيان التوحيدي

قال محمد بن يزيد الواسطي: كنت في مجلس المبرد فجرى ذكر قول أبي عبيدة في أن الاسم هو المسمى، فقال المبرد: غلط أبو عبيد القاسم وأخطأ أبو عبيد، والذي عندنا أنه أراد بقوله: اسم السلام، اسم الله، والسلام من الأسامي التي تسمى بها الله عز وجل في كتابه، ثم التفت إلي وقال: هذا الذي أختاره ويختاره أصحابنا، فأمسكت ولم ير في وجهي قبولاً؛ فلما رضيته وإن كان قد ذهب إليه أصحابنا، فقال لي: وأي شيء عقدك؟ قلت: أما أبو عبيد فمذهبه في هذا خطأ، وقد غلط على أبي عبيدة لأن الذي قاله أبو عبي فذهبه في هذا خطأ، وذد غلط على أبي عبيدة هو اللفظة الموضوعة علامة لتقضي الأشياء، فتختم بها الرسائل والخطب والكلام الذي يستوفي معناه وليس لها مسمى غيرها وهي مثل حسب وقط والموضوعة كالعلامات لتضي الأشياء، فتختم بها الرسائل والخطب والكلام الذي يستوفي معناه وليس لها مسمى غيرها وهي مثل حسب وقط والموضوعة كالعلامات لتقضي الأشياء وختم الكلام، فهي اسم لا مسمى له غيره، فأعجب أبا العباس ذلك وقال لي: لا عدمتك. ثم رجعت إلى المعنى الأول فقلت: وذاك الأول، وإن كان ذهب إليه بعض أصحابنا، فإنه قول من لا يفهم الشعر ومعاني الشعر، ولبيد أفصح من أن يقول عند توديعه وتناهي مكانه: اسم الله عليك، وإنما يسمى الله تعالى فيما يداوله النمو والبركة والزيادة أو يعوذ لحسنه وجماله، فقال لي: يا أبا عبد الله حسبك، فما سرني بهذه الفائدة حمر النعم.
أنشد الأصمعي لجارية من العرب: الطويل
تحمل عداك الله عني رسالة ... إليه جديداً كل يوم سماعها
وخبر عن الوعساء أن قد توجهت ... إليها مراعيها وطال نزاعها
لقد قطع البين المشت أكفة ... عزيز علينا أن يحم انقطاعها
قال ابن دريد: الفتلاء التي يتجافى كتفاها عن زورها - وهو مدح - ؛ والسرح: السهلة؛ واستناع: تمادى واستنعى.
قال الأصمعي: العميان أكثر الناس نكاحاً، والخصيان أصح الناس أبصاراً، لأنهما طرفان: إذا نقص من أحدهما زاد في الآخر.
قال إسحاق الموصلي: قبل الأصمعي يد الرشيد بعقب كلام قرظة به فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما شممت طيباً قط أطيب من نسيم يدك، فطيب الله نفسك كما طيبها، وأنعم بالك كما أنعمها، وألان زمانك كما ألانها ضد ما قال الأسدي لابن مطيع العدوي حين جلس ليأخذ البيعة لابن الزبير، قال: وما قال له؟ فأنشد: الطويل
دعا ابن نطيع للبياع فجئته ... إلى بيعة قلبي لها غير آلف
فأبرز لي حشناء لما لمستها ... بكفي ليست من أكف الخلائف
قال أبو حاتم: ما رأيت رجلاً قط أحسن ترجمة للكلام من الأصمعي، سألته: لأي شيء قدم جريراً من قدمه؟ قال: كان أغزرهم وأغزلهم، وأقلهم سرقة وألهجهم هجاء؛ أبو حاتم: ألهجهم: أثقبهم، يقال رجل لهجة إذا كان منكراً.
قال الأصمعي، قال لي الرشيد: أنشدني أشعر ما تعرف في المجون، فأنشدته: الوافر
ألم ترني وعمار بن بشر ... نشاوى ما نفيق من الخمور
وكنا نشرب الإسفنط صرفاً ... ونصقى بالصغير وبالكبير
إذا ما قبحة وقعت لنيك ... رفعناها هنالك بالأيور
بكل مدور صلب متين ... شديد الرهز ليس بذي فتور
قال: ثم قلت: قول بكر بن النطاح: السريع
وقحبة أعطيتها خمسة ... فنكتها نيكاً بألفين
تركته يطلع من فرجها ... طلع حمار بين وقريم
قال الأصمعي: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت؟ مخلع البسيط
هل كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
قلت: لابن أبي عيينة المهلبي، قال: كلام شريف كأنه قول الشاعر: الطويل
وإن بقوم سودوك لفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
قال الأصمعي، قال أبو فرعون العدوي: الرمل المجزوء
ليتني في بيت ورد ... منقعاً في الآدب سرد
قاعداً أعمل فيه ... سنه ما يحرد كرد
فأجا حرها بأيري ... ولحا مقمور بدرد
قال الأصمعي: مر يتساوك: إذا انثنى؛ وقال: يعوج: يميل، ويعيج: يلتفت. وقال: الحرمة: الغلمة، ومنها يقال: استحرمت المعز.

قال الأصمعي: حدث رجل عند المنصور فأكثر من قوله: قال أبي رحمه الله، فقال له الفضل: كم تترحم على أبيك في مجلس أمير المؤمنين؟ فقال: لو ذقت حلاوة الآباء ما نسيتها.
قال الأصمعي، سمعت أبا فرعون الساسي يقول: الرجز
لقد غدوت خلق الثياب ... معلق الزنبيل والجراب
طبا بدق حلق الأبواب ... أسمع ذات الخدر والحجاب
قال، وله: الرجز
رب عجوز خبة زبون ... سريعة الرد على المسكين
تظن أن بوركا يكفيني ... إذا غدوت باسطاً يميني
عدمت كل علجة تؤذيني
البنك: ضرب من طيب، الكفت: القبض؛ جذا يجذو جذواً إذا انتصب.
قال بعض الأدباء: يقال للإنسان ما دام رضيعاً: صبي، فإذا فطم عن اللبن فهو وليد، فإذا راهق فهو غلام، فإذا خرج شعر وجهه فهو شاب، ثم يكون مجتمعاً، ثم يكون كهلاً، ثم شيخاً، فإذا خالطه البياض فهو أشمط، تقول: وخطه الشيب، وإذا كان لون وجهه إلى البياض قيل آدم، فإذا كان إلى السمرة فهو أسمر، وينسب المماليك إلى أجناسهم ثم يخلون، فإذا بدا الشعر على شاربه قيل طر شاربه، فإذا ظهر الشعر على وجهه قيل بقل وجهه، فإذا كان واسع الجبهة قيل رحب الجبهة، فإذا كان فوق جبهته خطوط قيل: بجبهته غضون، فإذا كان بين حاجبيه فرجة قيل: أبلج، فإذا اتصل الشعر بينهما فهو مقرون، فإذا كان على حاجبه شعر كثير فهو أزب، فإذا كان الحاجب سابغاً فهو أزج، فإذا لم يكن على حاجبيه شعر فهو أمرط وأنمص، فإذا كان واسع العينين فهو راعين، فإذا كان أحجر فهو غائر، فإذا خرجت مقلته وظهرت فهو جاحظ، وإذا صغرت عينه وضاقت فهو أحوص، فإذا نظر إلى جانب الأذن فهو أخزر، ويقال: رجل أحول ورجل أخوص ورجل أصم، فإذا كان غير مرتفع الأنف فهو أفطس، وإذا كان قصير الأنف ليس بعريض فهو أذلف، فإذا كان فيها خطط دم فهو أشكل، والأهتم: الذي انقلعت ثناياه، والأثرم: الذي قد انكسرت سنه، فإذا انكسرت سنه عرضاً قيل قد انقصت سنه، فإذا انشقت طولاً قيل: انقاصت؛ فإذا كان غليظ الشفتين فهو أثلم، فإذا اتصلت أسنانه فهو مرصف، وإذا كانت متفرقة فهو أفلج؛ فإذا ذهب الشعر عن مقدم رأسه فهو أجلح، فإذا كان أكثر من ذلك فهو أصلع، فإذا ذهب من قبل الصدغين كان أنزع؛ فإذا لم يبصر بالليل فهو أعشى، وإذا لم يبصر بالنهار فهو أخفش، فإذا فسدت عينه وسال منها الماء فهو أعمش، فإذا كثر سواد العين فهو أكحل، فإذا كثر سوادها وصفاء بياضها فهي حوراء، يقال رجل أحور، وامرأة حوراء؛ فإذا كان في الفم زيادة سن فهو أشغى؛ فإذا كان مسترخي اللثة فهو أهدل؛ فإذا كان صغير الأذن فهو أصمع؛ فإذا كان واسع الفم فهو أجدع، فإذا كان مقطوع طرف الأنف فهو أخرم؛ فإذا كان مقطوع الأذن فهو أصلم؛ فإذا كان واسع الفم رحب الشدقين فهو أشدق؛ فإذا كان مقطوع الشفة السفلى فهو أفلح، فإذا كان مقطوع الشفة العليا فهو أعلم، فإذا اجتمعت شفتاه فهو أفوه؛ فإذا كانت عيناه ممسوحتين فهو مطموس؛ فإذا يبس كفه أو ذراعه فهو أعسم، فإذا فسدت يده واسترخت فهو أشل؛ فإذا كان بوجهه خال أو شامة أو وشم أو أثر كي أو حرق كتب بذلك أو أثر جدري أو ضربة فكذلك؛ وإذا كان قصير العنق فهو أو قص، وإذا كان طويل العنق فهو أجيد، وإذا عمل بيمينه ويساره قيل: أعسر يسر، وإذا عمل بيساره وضعفت يمنيه قيل: أعسر، ورجل أخلف وامرأة خلفاء؛ ويقال لمن قطعت يده: رجل أجذم وأقطع وأكوع وأتك وأصرم؛ ويقال: تعلوه حمرة، تعلوه صفرة؛ ويقال: أبح الصوت وأجش الصوت وأغن وأخن.
هذه ألفاظ مهدت للكاتب إذا تولى العرض أو أعان صاحب العرض، وهي نافعة، ولولا أني توخيت حكاية ما قال الأديب لبسطت فيه، ولكني قد اشمأزيت من كل ما يؤدي إلى تثقيل، وإن جاوز الفائدة وجلب النفع وذخر الفضل.
أنشد الأصمعي لأبي فرعون الساسي: الرجز
يا رب جبس قد علا في شانه ... لا يسقط الخردل من بنانه
ولا يريم الدهر من مكانه ... أشجع من ليث على دكانه
لا يطمع السائل في رغفانه ... لم يعطني الفلس على هوانه
يا رب فالعنه بترجمانه

قال أبو العيناء: ما رأيت مثل الأصمعي قط، أنشد بيتاً من الشعر فاختلس الإعراب؛ وقال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كلام العرب الدرج؛ قال: وحدثني عبد الله بن سوار أن أباه قال: إن العرب تجتاز بالإعراب اجتيازاً؛ قال الأصمعي: وحدثني عيسى بن عمر أن ابن أبي إسحاق قال: العرب ترفرف على الإعراب ولا تتفيهق به؛ قال: وسمعت يونس يقول: العرب تشام الإعراب ولا ت تحققه؛ قال: وسمعت الحسحاس بن حباب يقول: العرب تقع بالإعراب وكأنها لم ترد؛ قال: وسمعت أبا الخطاب يقول: إعراب العرب الخطف والحذف؛ قال: فتعجب الناس منه.
قال الأصمعي: ما أحسن ما قال الأعشى: الطويل
وإني إذا ما قلت قولاً فعلته ... ولست بمخلاف لقولي مبدل
قال الزبير بن بكار: تقدم وكيل مؤنسة إلى شريك بن عبد الله، وكان الوكيل يدل عليه بمكانه من مؤنسة وخدمتها ويسطو على خصمه، فقال له شريكك كف لا أم لك، فقال: توقل لي هذا وأنا وكيل مؤنسة؟ فقال شريك: يا غلام اصفعه، فصفعه عشر صفعات، فانصرف إلى صاحبته فعرفها ما ناله، فكتبت إلى المهدي تشكو شريكاً وتذكر ما صنع بوكيلها، فعزله. وقد كان شريك قبل ذلك دخل على المهدي فأغلظ له، وكان فيما قال له: مثلك يولى أحكام المسلمين؟ قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لخلافك على الجماعة وقولك بالإمامة، قال، فقال شريك: ما أعرف ديناً إلا عن الجماعة فكيف أخالفها وعنها أخذت ديني؟ وأما الإمامة فما أعرف إماماً إلا كتاب الله وسنة نبيه، فهما إمامي وعليهما عقيدتي، وأما ما ذكره أمير المؤمينن أن مثلي لا يتولى أحكام المسلمين فذاك شيء أنتم فعلتموه، فإن كان خطأ لزمكم الاستغفار منه، وإن كان صواباً وجب عليكم الإمساك عنه؛ المهدي: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: أقول فيه الذي قال فيه جداك العباس وعبد الله، قال: وما قالا؟ قال: أما العباس فإنه مات وعلي عنده أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شاهد أكثر المهاجرين يحتاجون إليه في الحوادث، ولم يحتج إلى أحد منهم إلى أن خرج من الدنيا. وأما عبد الله فضارب عنه بسيفين وشهد حروبه كلها، وكان فيها رأساً متبعاً وقائداً مطاعاً، فلو كانت إمامته جوراً كان أول ما يقعد عنه أبوك، لعلم أبيك بدين الله وفقهه في أحكام الله؛ فسكت عنه المهدي، وخرج شريك؛ وكان العزل بعد هذا بجمعة.
قرأت هذا الحديث على أبي حامد فقال: ما أعجب الدنيا وأسبابها! وإنما تحرك أبو حامد عند هذا الحديث للقضاء، فإنه أن قيماً بهذه الصول والفروع، ثم قال: يا شريك بن عبد الله، من أين يصح لكأن العباس مات وعلي عنده أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا أن يشير إلى البقية بعد الصدر الأول؛ على ا، عليك فيه كلاماً، وكيف يسلم لك فضل رجل باعتقاد رجل؟ ألا تعلم أن العباس لو لم يفضل علياً لكان علي فاضلاً لأنه غرر به وحسده، ولو كان فهي خير لقعد موضع أبي بكر وموضع علي، ولكن سبق موضع سيادته في الجاهلية سؤدد من سوده الله في الإسلام، ومتى فزع إلى العباس في ترتيب الناس؟ يكفيه أنه لم يدخل في الشورى ولم يشهد بدراً، ولم يبادر الحظ بالاستبصار في الدين ولا بالرأي في الدنيا، وحقه موفور، ومكانه من الشيخوخة والتقدم مشهور، ولكن أين الفقه والورع والاجتهاد والتدبير والسبق؟ ذاك تراث حازه قوم. أما عبد الله فقد ضارب عنه بسيفين، لكنه قعد عنه أحوج ما كان إليه، وانفرد بإمارة البصرة واستأثر بأموالها وأعمالها، فلما استقدمة وطلب منه ما اجتمع من مال الله تعالى ومال المسلمين طوى الأرض إلى مكة وبلغ الطائف، واستكثر من السراري إلى أن عمي، وهذا بعد أن دخل إلى معاوية وسالم وطلب العطاء وقارب وأعطى من نفسه وتغافل؛ أهكذا تكون نصرة الأئمة في مصالح الأمة؟ ما أحوجه إلى العفو والرحمة.
ثم قال - أعني أبا حامد: دعونا نسكت عن مساوئ الناس بمحاسنهم، فلو قد أثرنا الدفائن ونثرنا الكنائن كان للعقل والعين ما يحير أحدهما ويسخن الآخر.

وقال كلاماً آخر لم يلتق طرفاه طولاً، لأنه أخذ في مبادئ الإسلام، فذكر أهل الدين وإخلاص الموقنين وجود المستبصر واستسلام المتوكل وروغان الضعيف وخب المنافق وتربص الحاسد وفرح الشامت، وصرف القول تصريفاً يخلص الزبد المحض من الممذوق، ويميز اليقين من الشك، وكان ذا عارضة عريضة ولسن بين وصدر جموع وقلب ذكي ولهجة بسيطة، مع لكنة خراسان وفجاجة العجم وقلة فصاحتهم، لأنه كان من مرو الروذ ورحل إلى العراق وهو باقل الوجه مجتمع القوة، وكان من العرب من بني عامر واسمه أحمد بن بشر، ومات بالبصرة سنة اثنتين وستين وثلايمائة.
وحكى لنا في هذا اليوم أن صالح بن عبد الجليل، وكان مفوهاً ناسكاً، دخل على المهدي وسأله أن يأذن له في الكلام، فقال: تكلم، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام المؤدي عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي لانقطاع عذر الكتمان في البينة، لا سيما حين اتسمت بميسم التواضع ووحدت الله، وحملت كتابه إيثاراً للحق على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التحميص ليتم مؤدينا على موعد الأداء عنهم، وقابلنا من موعود القبول، ما أوردنا تحميص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية؛ وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل، وأشد مه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدي إليه علم فلم يعمل به، فقد رغب عن هدية الله وقصر بها، فأقبل على ما أدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل لا قبول رياء وسمعة، فإنه لا يخلفك منا إعلام على ما نجهل أو مواطأة على فضل ما تعلم، فقد وطن الله جل اسمه نبيه عليه الصلاة والسلام على تزولها تعزية عما فات، وتحصيناً من التمادي، ودلالة على المخرج فقال: " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله " فصلت: 36 فأطلع على قلبك بما ينور به القلب من إيثار الحق ومباينة الهوى، فإنك إن لم تفعل لم تر لله أثرة على قلبك.
فبكى المهدي حتى هم من كان على رأسه بضرب صالح وظنوا أنه يسكت حين ذهب به البكاء فقال: يا صالح، لو وجدت رجالاً يعملون بما آمرهم وبما أنوي في رعيتي لظننت أني ألقى الله عز وجل وأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقل ذنوبي وأهون حسابي، ولكن دلني على وجه النجاة، فإن لم أعمل كنت أنا الجاني على طهري والمؤثر هواي على رضا ربي، قال له صالح: أنت يا أمير المؤمنين أعلم مني بمواضع النجاة، قال: لو كنت أعلم بموضع النجاة ما كنت أولى بعظتي، وما هو إلا أن أركب سيرة عمر بن الخطاب، ولا يصلح عليها أحد من أهل هذا العصر، وذاك أن الناس في الزمن الماضي كان يرضي أحدهم الطمر البالي، وتقنعه الكسرة اليابسة والماء القراح، وهم اليوم في مضاعف الخز والوشي، ومائدة أحدهم في اليوم بمثل غنى ذي العيال في زمن عمر؛ أو أسيح في الأرض ذات العرض، فإلى من أكلهم؟ إلى ولد أبي طالب؟ فوالله ما أعلم للمسلمين راحة فيهم ولا فرجاً عندهم. ولو أنني حملت الناس على سيرة العمرين في هذا العصر كنت أول مقتول، وذلك أن الفطام عن هذا الحطام شديد، ولا يصبر عليه إلا المبرز السابق، فأنى ذلك اليوم، يا صالح؟ والله لقد بلغني أن لسعيد بن سلم ألف سراويل، ولحازم ألف جبة، ولعمارة بن حمزة ألف دواج، وهي أقل ملكهم، فما ظنك بي وهم عددي وناسي وسهام كنانتس ومن أشبههم كمعن بن زائدة وعبد الله بن مالك، فلو أني حملتهم على التقشف والنسك وأخذت ما في أيديهم فوضعته حيث راه أنت وأنا، هل كانت نفس أبغض إليهم من نفسي، أو حياة أثقل عليهم من حياتي؟ فأطرق صالح مفكراً ثم رفع رأسه وقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليقع في خلدي أنك قبلت قولي قبول تحقيق لا قبول رياء وسمعة، فقال المهدي: شهيدي على ذلك الله، فقام صالح فدنا من المهدي فقيل رأسه وقال: أعانك الله يا أمير المؤمنين على صالح نيتك، وأعطاك أفضل ما تأمله في رعيتك، ووهب لك أعواناً بررة صالحين، يعلمون بما يجب عليهم فيك، ثم خرج. فقال له أصحابه: ما صنعت؟ قال: والله ما ترك شيئاً عليه إلا سبقني إليه، ولا شيئاً له إلا أوضح العذر فيه.
منصور الفقيه: الطويل
سألت رسوم القبر عمن ثوى به ... لأعلم ما لاقى فقالت جوانبه

أتسأل عمن عاش بعد وفاته ... بمعروفه إخوانه وأقاربه
وله: الوافر
منافسة الفتى فيما زول ... على نقصان همته دليل
ومختار القليل أقل منه ... وكل فوائد الدنيا قليل
وله: الطويل
فما هو إلا مثل سيف مفضض ... يروعك باديه ولا خير في النصل
فإن هز لم يهتز أو سل في الوغى ... لدفع ملم فالفضيحة في السل
وله: البسيط
أمر من طعم كل مر ... خضوع حر لغير حر
سأل أبو عمرو بن العلاء رؤبة بن العجاج: ما السانح؟ فقال ما ولاك ميامنة، قال: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسرة، والذي يأتيك من أمامك، النطيح، والذي يأتيك من خلفك: القعيد.
قال إبراهيم بن شهاب، قال أبو الحسن البرذعي، حدثني أبو يعقوب الشحام عن أبي الهذيل عن عثمان الطويل قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: هل تعرف في كلام العرب أن أحداً فرط فيما لا يقدر عليه؟ قال: لا، قال: فأخبرني عن قول الله تعالى: " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " الزمر: 56 أفرط فيما فدر عليه أو فيما لم يقدر عليه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء لأصحابه: قد أبان لكم أبو عثمان لقدر بحرفين.
قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: كنت امضي أنا وشعبة إلى أبي نوفل بن أبي عقرب فيسأله شعبة عن الحديث، وأسألهن أنا عن الشعر والغريب، فيقوم شعبة لم يحفظ شيئاً مما سألته عنه أنا، وأقوم أنا ولم أحفظ شيئاً مما سأله عنه شعبة.
رأيت امرأة قدمت زوجها إلى أبي جعفر الأبهري المالكي، وكان على قضاء المحول فقالت: أعز الله القاضي، هذا زوجي ليس يمسكني كما يجب، حسبك أنه ما أطعمني لحماً منذ أنا معه، فقال القاضي: ما تقول؟ قال: أعز الله القاضي، البارحة أكلنا مضيرة، قالت المرأة: ويلي، أليس كان طعامنا رائب؟ قال: وتنايكنا ستاً، احسبي أنا أكلنا مضيرة بعصبان.
شاعر: الطويل
سلوت عن اللذات لما تولت ... وأزلمت نفسي تركها فاستمرت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت
وأنشد: البسيط
حيتك عنا شمال طاف طائفها ... بجنة فجنت روحاً وريحاناً
هبت سحيراً فهاج الغصن صاحبه ... موسوساً وتناجى الطير إعلانا
كأن طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطفيه نشوانا
قال علي بن عبيدة: الأيام مستدعات الأعمال، ونعم الأرضون لمن بذر فيها الخيرات.
وقال الصولي: قال رجل لمحمد بن أبي أمية الكاتب: أين الشعير الذي وعدتني به، فقال: أين البرذون الذي ضمنت لي؟ أنت والله كما قال ابن هرمة: المتقارب
يحب المديح أبو خالد ... ويفرق من صلة المادح
كبكر تحب لذيذ النكاح ... وتفرق من صولة الناكح
قال عبد الله بن إبراهيم الجمحي، قيل لابن هرمة: أتمدح عبد الواحد بن سليمان بما لم يقل مثله في غيره: الوافر
أعبد الواحد الميمون إني ... أغص حذار سخطك بالقراح

فقال: إني أخبركم القصة: أصابني أزمة وقحمة بالمدينة، فاستنهدتني بنت عمي للخروج فقلت لها: ويحك ليس عندي ما يصل جناحي، فقالت لي: أنا أشيع صحابتك بما أمكنني، وكانت عندي ناب لي، فنهضت بها وهيتهجد النوام وتؤذي المساء وليس من منزل أنوله إلا قال الناس: ابن خرمة، حتى وقعت دمشق فأويت إلى مسجد عبد الواحد بن سليمان في جوف الليل، فجلست في المسجد إلى أن نظرت إلى بزوغ الفجر، فإذا الباب ينفلق عن رجل كأنه البدر، فدنا فأذن ثم أهذب ركعتيه فتبينته فإذا هو عبد الواحد، فقمت فدنوت منه وسلمت عليه، فقال: أبا إسحاق؟ قلت: لبيك بأبي وأمي، فقال: آن لك أن تزورنا، طالت الغربة واشتد الشوق فما وراءك؟ قلت: لا تسألني بأبي أنت، فإن الدهر قد أخنى علي فما وجدت مستغاثاً غيرك؛ فوالله إني لأخاطبه إذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشجان فسلموا، فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشيء دوني، ودون أخويه، فمضى إلى منزله ولم يلبث أن خرج ومعه عبد ضابط يحمل حزمة من ثياب حتى ضرب بها بين يدي، فهمس إليه ثانية فعدا، فإذا به قد رجع ومعه مثل ذلك، فضرب به بين يدي، فقال لي عبد الواحد: ادن يا أبا إسحاق فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقهم صدعك، فخذ هذا وارجع إلى عيالك، فوالله ما سللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا، ودفع إلي ألف دينار وقال لي: قم فارحل فأغق من وراءك، فقمت إلى الباب فلما نظرت إلى ناقتي ضقت، فلما نظر إليها قال: ما هذه؟ واسوأتاه، يا غلام قرب إليه جملي فلاناً، فوالله لأنا كنت بالجمل أشد سروراً مني بكل ما نلت، فهل تلومونني أن أغص حذار سخط هذا بالماء القراح؟! والله ما أنشدته ليلتئذ بيتاً واحداً.
أنشد الأصمعي لشاعر:السريع
رب غريب ناصح الجيب ... وابن أب متهم الغيب
ورب عياض له منظر ... مشتمل الثوب على العيب
والناس في الدنيا على نقلة ... على شباب وعلى شيب
أنشد المبرد لبشار: الطويل
خليلي من كعب أعينا أخاكما ... على دهره إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
كأن عبيد الله لم يلق ماجداً ... ولم يدر أن المكرمات تكون
إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلى ... وفي كل معروف عليك يمين
وقع أبو صالح ابن يزداد في وزارته إلى عامل: ليس عليك بأس ما لم يكن منه يأس.
ووقع أيضاً إلى عامل: قد تحاوزت لك، وإن عدت أعدت إليك ما صرفته عنك.
ووقع أيضاً إلى عامل اعتد بكفاية وزاد: أدللت فأمللت، فاستصغر ما فعلت تبلغ ما أملت.
وأنشد: الرجز
يا عمر بن عمر بن الخطاب ... إن وقوفاً بفناء الأبواب
يدفعني الحاجب بعد البواب ... يعدل عند الحر قلع الأنياب

قال الماهاني: كانت في بعض الديارات راهبة قد انفردت بعبادتها، وكانت تقري الضيف وتجير المنقطع، وكانت النصارى تتمثل بعبادتها وعفافها، فمر بالدير رجل كان من شأنه أن يدخر الوفواكه، فيحمل في الضيف فواكه الشتاء، وفي الشتاء فواكه الصيف إلى الملوك، ومعه غلام له وحمار موقر من كل فاكهة حسنة، فقال للغلام: ويحك، أنا منذ زمان أشتهي هذه الراهبة، فقال العلام: كيف تصل إليها وهي في نهاية العفاف والعبادة؟ فقال: خذ معك من هذه الفاكهة وأنا أسبقك إلى سطح الدير فإذا سمعتني أتحدث معها بشيء فأرسل ما معك من الروزنة؛ فأصعد الغلام سطح الدير، وجاء الرجل فدق الباب فقالت: من هذا؟ قال: ابن سبيل وقد انقطع بي، وهذا الليل قد دهمني، ففتحت ودخل، وصار إلى البيت الذي الغلام على ظهره، وأقبلت هي على صلاتها، وقالت: لعله يحتاج إلى عام، فجاءته به وقالت: كل، فقال: أنا لا آكل، قالت: ولم؟ قال: لأني ملك بعثني الله تعالى إليك لأهب لك ولداً، فارتاعت لذلك وجزعت، وقالت: أليس كان طريقك على الجنة فهلا جئت معك بشيء منها؟ قال: فرفع الرجل رأسه وقال: اللهم بعثني إلى هذه المرأة، وهي بشر، وقد ارتابت فأرها يا رب برهاناً، وأنزل عليها من فاكهة الجنة فتزداد بصيرة ومعرفة، فرمى الغلام برمانة من فوق، وأتبعها بسفرجلة، ثم بكمثراة، ثم بخوخة، فقال: ما بعد هذا ريب فشأنك وما جئت له، فشال برجليها وجعل يدفع فيها وهي تمر يديها على جنبيه كأنها تطلب شيئاً، فقال لها: ما تلتمسين؟ قالت: نجد ف كتابنا أن للملائكة أجنحة وأراك بلا جناح، فقال: صدقت، ولكنا معشر الكروبيين بلا جناح.
لما ولى خالد بن عبد الله القسري بلال بن أبي بردة، وكان حمزة بن بيض صديقاً له صار إليه، وأقام على بابه أياماً لا يؤذن له، فكتب رقعة: البسيط
قل للأمير جزاك الله صالحة ... قرم إليه التقى والمجد والدين
فهل ترى حرجاً في شرب صافية ... صهباء ينقب عن خرطومها الطين
وهل ترى حرجاً في نيك أرملة ... مسكينة ناكها قوم مساكين
فلما قرأها بلال قال: ابن بيض والله، أدخلوه، فلما دخل ابن بيض قال: ما كنت والله لأصل إليك يا فاسق إلا بالشر.
كان المغيرة بن شعبة من كبار المدنين للشراب، لم ينهه الإسلام وصحبة الرسول عليه السلام حتى قال لصاحب له يوم خيبر: قدمت إلى الشراب ومعي درهمان زائفان، فأعطني زكرتين، فأعطاه، فصب في إحداهما ماء، وحتى بعض الخمارين فقال: كل بدرهمين، فكال في زكرته، فأعطاه الدرهمين فردهما وقال: هما زئفان، فقال: ارتجع ما أعطيتين فكاله وأخذه، وبقيت في الزكرة بقية فصبها في الفارغة، ثم فعل ذلك بكل خمار بخيبر حتى ملأ زكرته ورجع ومعه درهماه.
وهذا الفعل يجمع نذالة وإثماً وخبثاً وسقوطاً.
محمد بن عبد الله الحمصي: الخفيف المجزوء
عاشر الناس بالجمي ... ل وسدد وقارب
واحترس من أذى الكرا ... م وجد بالمواهب
لا يسود الجميع من ... لم يقم بالنوائب
ويحوط الأدنى وير ... عى ذمام الأقارب
فتفهم فإنني ... عالم ذو تجارب
لا تواصل إلا الشري ... ف الكريم الضرائب
من له خير شاهد ... وله خير غائب
واجتنب وصل كل وغد دنيء المكاسب
نيرب لا يزال يو ... قد نار الحباحب
لا تبع عرضك المصو ... ن بعرض المكالب
أنا للشر كاره ... وله غير هائب
سرق رجل من مجلس معاوية كيساً فيه دنانير، ومعاوية يراه، فقال الخازن: يا أمير المؤمنين قد نقص من الماس كيس دنانير، قال: صدقت وأنا صاحبه، وهو محسوب لك.
شاعر: الطويل
وهبت شمالاً ما اهتدى اللص هديها أن ... سلالأ متى تنظر إلى الماء يبرد
تكاد رقاق القمص وهي خفيفة ... على الشرب تندى م نسيم لها ندي
وما أدركت في مرها لم تطر به ... ولو كان من أطراف قطن مزبد

قال أبو ذر: نرعى الخطائط ونرد المطائط، وتأكلون خضماً ونأكل قضماً، والوعد الله، قال يعقوب: الخطيطة: أرض لم يصبها مطر بين أرضين قد مطرت؛ والمطيطة: ما تسأره الإبل في الحياض فيخثر بأنفاسها، والخضم: أكل الشيء الرطب، والقضم: أكل الشيء اليابس.
قال يعقوب: هذا معلقم أي فيه مرارة.
روى الرئيس ابن العميد في أمثال العرب إذا حثت على المواساة في الشيء القليل: أطعم أخاك عقنقل الضب.
وقال: ويقال: أطعم أخاك من كلية الأرنب ويقال: لا يقوم بهذا الأمر إلا ابن إحداهما، أي ابن الداهية التي هي إحدى الدواهي.
ويقال لمن يفسد ولا يصلح: يوهي الأديم ولا يرقعه.
ويقال: الصبي أعلم بمصغى خده، أي هو أعلم بمن ينفعه.
ويقال: سطي مجر، ترطب هجر، أيتوسطي المجرة، لأنها إذا توسطت السماء أرطب النخل بهجر.
يقال: لا يملك حائن دمه.
ويقال: رب حام لأنفه وهو جادعه.
ويقال: جاء فلان يضحك ظهراً لبطن، أي يلتفت يميناً وشمالاً.
ويقال للشيخ: أدبر غريره، وأقبل هريرة، والغرير: الخلق الحسن.
ويقال: خل بين أهل الخلاعة والمجانة، ويريد أهل الفحش والخنا.
ويقال: لأصحبنه صبوحاً حازراً، إذا توعد، والحازر: لبن قد حمض.
ويقال: ما أسن الرجل إلا تقبل أباه.
ويقال: لم يبق من شيخك إلا حبقه.
ويقال: أرض من العشب بالخوصة.
ويقال: لا تكن كالباحث عن الشفرة.
ويقال: يكسو الناس واسته عارية، يعني المغزل.
ويقال: جرى منه كلامي مجرى اللدود، يعني بلغ كل مبلغ، واللدود دواء يصب في إحدى شقي الإنسان.
ويقال: بينهم داء الضرائر.
ويقال: أنت كالخروف، أين مال اتقي الأرض بصوف.
ويقال: ما كانوا عندنا إلا كلفة الثوب.
والغزل والمحاضنة والمراودة والسمودة واحدة.
ويقال: ذهبت دماؤهم درح الرياح، أي طلت.
ويقال: إن في المرقعة لكل كريم مقنعة؛ والمقنعة: الغنى، وهو أيضاً من قنع، والقنع: الغنى.
ويقال في الدعاء السوء: زادك الله رعالة كلما ازددت مثاله؛ والرعالة: الحماقة، يقال: رجل أرعل، وامرأة رعلاء، وقوم رعل.
ويقال: إذا قل الأعوان كل اللسان.
ويقال: للجرادة: بقلة شهر وشوك دهر.
وقالت فارك لأمها بعدما نشزت على زوجها: إنه بارد الكمرة، فقال زوجها لبني عمه: يا بني عم سحنوا الكمر، فذهبت مثلاً.
ويقال: فلان بين العصا ولحائها، إذا كان جيد المنزلة ثابت المودة.
ويقال: تركته على مثل مشفر الأسد، في الشدة والخوف.
ويقال: كلمتته فميا وجم لي وجمة ولا أظهر رحمة ولا نأم نأمة ولا وشم لي وشمة ولا هم لي ببنت شفة ولا نغى لي نغية.
ويقال: قد قلينا صفيركم.
ويقال: قوم يمصون الثماد وآخرون حلوقهم في الماء.
ويقال: ليس الرقاد للفتى بمغنم.
ويقال: استر عورة أخيك ما يعلم فيك.
ويقال: رب مخيل مخلف.
ويقال: ربما صدقك المادح.
ويقال: حتى متى نكرع وأنت لا تنقع.
ويقال: يسقيه من كل يد بكاس، والقلب بين طمع ويأس.
مثل يمثلون به: الرجز
مالك لا يقصى ولا يسرح ... واليأس مما لا ينال أروح
هكذا كان فس مسودة ابن العميد يقصى بالصاد ولعله: يقضي ويسرح.
ويقال: اهتك ستور الشك بالسؤال.
ويقال: الرجز
النحب يكفيك النطى المحيلا
ويقال: شمر إذا جد بك لسير.
ويقال: كل مبذول مملول.
ويقال: ما هذا البر الطارق؟ ويقال: ما شهم حمار؟ أي ما ذعرك.
ويقال: الليل جنة كل هارب.
ويقال: اللهم قدر الأية، والأية مصدر أوى أي رحم.
ويقال: الصدق في بعض المواطن عجز.
ويقال: الأيام عوج رواجع.
ويقال: لا تنفع حيلة من غيلة.
ويقال: لا تطمع في كل ما تسمع.
ويقال: لا علة، لا علة، هذه أوتاد وأخلة.
ويقال: دع الوعيد يذهب بالبيد.
ويقال: حافظ على الصديق ولو في الحريق.
ويقال: هلا على إبل بالدهناء؛ الدهناء تمد وتقصر.
ويقال: أنف في السماء واست في الماء.
ويقال: أنت بين كبدي وخلبي.
إلى ها هنا هو ما نقلته من مسودة ابن العميد، وكان فيها أيضاً أبيات، وهي في تشبيه الذوائب بالكرم والعناقيد.
البسيط
تسبي الحليم ببراق عوارضه ... من الجوازئ بين الحل والحرم
وفاحم كقضيب الكرم عقده ... أيدي المواشط بالحناء والكتم
آخر: الكامل
ويضل مدارها المواشط في ... جعد أغم كأنه كرم

ولشاعر: البسيط
يسبين قلبي بأطراف مخضبة ... وبالعيون وما وارين بالخمر
وارين جعدا رواء في أكمته ... من كرم دومة بين السيح والجدر
ترى نواطيره في كل مرقبة ... يرمون عن وارد الأطراف منهمر
لبعض قريش: الرجز
جارية فوعها كروم ... صحيحة كأنها سقيم
كالشمس تنشق لها الغيوم
لابن مطير: الطويل
سبتني بعيني مغزل وبارد ... تعكف تعكيف الكروم ضفائره
كثير: الطويل
وتدرأ بالمدرى أثيثاً نباته ... كجنة غربيب تدلت كرومها
لمعن بن أوس: الطويل
ووحف تنثنى في العقاص كأنه ... عليها إذا دبت غدائره كرم
لابن مقروم: البسيط
قامت تريك غداة البين منسدلاً ... تخاله فوق متنيها العناقيدا
ابن مقبل: الطويل
عشية أبدت جيد أدماء مغزل ... وطرفاً يريك الإثمد الجون أخضرا
وأسحم مجاج الدهان كأنه ... عناقيد من كرم دنا فتهصرا
سئل بعض الأعراب عن معنى هذه الآية: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " الكهف: 103 قال: البخيل الذي يأكل ماله غيره.
كان خالد بن صفوان بن الأهتم من سمار أبي العباس، ففخر ناس من بلحارق بن كعب وأكثروا، فقال أبو العباس: لم لا تتكلم يا خالد؟ قال: أخوال أمير المؤمنين وأهله؛ قال: فأنتم أعمام المؤمنين وعصبته، قال: خالد: ما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد، وقائد قرد، ودابغ جلد، دل عليهم هدهد، وغرقتهم فأرة، وملكتهم امرأة.
قالت أعرابية: أصبحنا ما يرود لنا فرس، ولا ينام حرس.
اشترى بعض الأمراء أرضاً بالبادية فقال له صاحبها: إن ترسل إليها أيها الأمير فهي أوفر من الرمانة، وإن تدعها فهي أمنع من آست النمر.
قال الحسن: البلاغة ما فهمته العامة ورضيته الخاصة.
قال ابن المقفع: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعاً ف نيل البلاغة، فذلك العي الأكبر.
كاتب: تفيأ ظل الخفض والدعة، وتبوأ محل الخصب والسعة، فذا للغرض المقصود بك مخالف، وأنت بما فيه من العضيهة عارف.
السعيد من زادت مجاري القدر في استبصاره، ووقعت حوادث الغير موقعها من اعتباره.
لا عارض جنابك خورن ولا رد باعك قصر.
وانتقض من الأسباب ما هو منتظم، وامتد من الأطماع ما هو من حسم.
وضعت خدي للأيام أستعيد منها عهد الاجتماع، وأستعيذ بها من برح النزاع.
وهب كدر قوله لصفاء عقيدته، ونقصان إصابته لزيادة طاعته، فسفحت العيون دماً، واستبيح من العزاء حمى.
سقطة صريعها لا يستقل، وسليمها لا يبل.
يستولي في النصح على الأمد، ويستمر في الذب على الوعث والجدد.
حمداً يصعد في أطيب الكلم إلى الله، ويرجع بأدوم المزيد من الله.
نسأل الله توفيقك لكل أمر جامع في الحظ منك، بالحظ لك، وقضاء الحق عليك بالحق فيك.
نحن نستعذب مزيد الثناء عليك كما نستحسن جديد البلاء منك، ثم لا ترى كثير يكافئ صدق اجتهادك، كما أنك لا ترى كثير البلاء يبلغ كنه اعتقادك.
نيأل الله أن لا يخلينا من لسان طويل في الثناء عليك، ولا يخليك من باع طويل إلى كفاية ا أسندناه إليك، وكلما جربناه أحمدناه، وكلما أمضيناه ارتضيناه.
حتى إذا كان طول الاستعمال يؤثر في حده، لطف الله تعالى برده إلى غمده، فصان حده من أن ينفتل، وحمى متنه من أن يحتمل.
ومن خصائص ما رفع الله تعالى بين الأولياء قدرك أنه جعل الشكر لنا ممن في وزن البر منك، فلا النعماء نقصت، ولا حقوقها بخست، بل كرم منها ورد وصدر، وطاب غرس وثمر، وزكا أول وآخر، وصفا باطن وظاهر؛ تلك منزلتك التي تبوأتها ي الجماعة، وتوطأتها في صدث الطاعة.
أهنأ التهاني موقعاً، وأزكاها موضعاً، تهنئة كان مصدرها عن صدر بالولاء معمور، وعقد بالصفاء مخبور.
سيفك من دمائهم ينطف وأقدامهم من خوفك ترجف، بهم حرس الله أكنافها، وعليهم ادر أخلافها.
به يرجع كوكب الوحشة للأفول، ويزحزح موكب الأنس للقفول.
هذا الكاتب الذي رويت عنه هذه الفصول هو أبو القاسم الإسكافي كاتب خراسان، ولم يوجد في أهل المشرق أكتب منه في زمانه، وهذا مختار مما مر في طريقته، على أنه مردود الفن بالعراق، وذلك لتكلف يسير يعتري كلامه، وتباعد في التأليف عن العادة.

سرف رجل درة رائعة لجعفر بن سليمان الهاشمي، وباعها السارق ببغداد بمال جليل، فعرفها أصحاب الجوهر، وكان قد تقدم إليهم في البحث عنها، فحملوا الرجل إلى جعفر، فلا بصر به عرفه فاستحيا منه، فقال للسارق: ألم تك طلبت مني هذه الجوهرة فوهبتها لك؟ قال: بلى أصلح الله الأمير، فقال: لا تتعرضوا له؛ فباعها الرجل بمال عظيم.
كان سليمان بن عبد الملك خرج في أيام أبيه لنزهة، فقعد يتغدى مع جماعة، فلما حان انصرافه شغل حشمه بالترحال، فجاء أعرابي فوجد منهم غفلة، فأخذ دواج سليمان فألقاه على عاتقه، وسليمان ينظر إليه، فصاح به بعض الحشم: ألق ما معك ويلك، قال: لا، ولا كرامة لك، قد خلعه علي الأمير، فضحك سليمان وقال: صدق، أنا كسوته، ومر الأعرابي كالريح.
واستلب رجل رداء طلحة بن عبيد الله، فذهب ابن أخيه يتبعه، فقال له طلحة: دعه، فما فعل هذا إلا من حاجة.
قال عبي بن عبيدة: من أنس بالساعات، أباح نفسه للغوائل.
أخذ رجل مع زنجية قد أعطاها نصف درهم، فلما أتي به إلى الوالي أمر بتجريده وجعل يضربه ويقول: يا عدو اله، أتزني بزنجية؟ فلما أكثر قال: أصلحك الله فبنصف درهم أيش كنت أجد؟ فضحك وخلاه.
وجد قوم زنجية مع شيخ في مسجد ليلة الجمعة، وقد نومها على جنازة، فقيل له: قبحك الله من شيخ، فقال: إذا كنت أشتهي وأنا شيخ لا ينفعني شبابكم، قالوا: فزنجية؟ قال: من منكم يزوجني بعربية؟ قالوا: ففي المسجد؟ قال: من منكم يفرغ لي بيته ساعة؟ قالوا: فعلى جنازة؟ قال: من يعطيني سريره؟ قالوا: فليلة جمعة؟ قال: إن شئتم فعلت ليلة السبت، فضحكوا منه وخلوه.
قال يعقوب: يقال: تسدى فلان فلاناً إذا أخذه من فوقه وأنشد لابن مقبل: البسيط
أنى تسديت وهناً ذلك البينا
وتسدى في المشي إذا انبسط قال يعقوب: كلب فغم: مولع بالصيد حريص عليه. ويقول العرب للكلب: ما أشد فغمه؛ ويقال: فغمتني ريح إذا سدت خسا شيمك.
ويقال: لص كذا إلى كذا إذا ضم بعضه إلى بعض؛ وأنشب أظفاره أي أعلقها؛ الهبول: الثكول.
ويقال: رجل أنسى ونس إذا اشتكى نساه؛ كما يقال أرمد ورمد، وأحدب وحدب، وأحمق وحمق، وأخرق وخرق، وشيء أخشن وخسن، وأنكد ونكد، والحجم: المص، وبه سمي الحجام؛ سمعت غيطلة القوم أي أصواتهم، وكل شجر ملتف: غيظل.
أيام الصفرية: نحو من عشرين يوماً في آخر القيظ، وقيل البرد، ويقال: سميت الصفرية لأن المال يتصفر فهيا، أي تحسن ألوانه.
ويقال للرجل: قد عجر لقتال القوم إذا أجمع قتالهم، وقد عجر الفرس بذنبه إذا شال به أي رفع.
ويقال: جاء بثريد مصمعة إذا دققها وأحد رأسها، ومنه سميت الصومعة؛ وحرب صمعاء أي شديدة.
الجحاف: مزاحمة السيل، جحفة، يجحفه؛ يقال للرجل إذا كان غليظاً: إنه لذو كدنة، والجحاف: المزاحمة، والموادحة: الكسر، يقال: سيل جحاف وجراف وقعاف. قال الكلابي: فلان يقلف ما مر به: أي يذهب به؛ ويقال: ناس قد أجحف بهم الدهر.
كتب أبو شراعة الشاعر البصري إلى عيسى بن موسى بن موسى ابن صالح بن شيخ بن عميرة السدي: وصل كتابك بسلامة الله لك، وإجرائه إياك على جميل العافية، فسرني وآنسني، ألا وإن عهدك وودك كرها إلي الناس بعدك، فلا أجالس إلا مذموماً، ولا أعاشر إلا ملوما، ولا أبيت بعد فراقك إلا مهموماً.
وكتب أو شراعة إلى سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذاً: أما بعد، فإن في التمسك بحبلك دليلاً على حظ المائل إليك، وتمييز المختار لك، وإن المخصوص من ذلك بنعمة أجهدت الشكر، وأكلت الوصف، وما خسر قسم الزائر لك، ولا اعتاص المتخلف عنك. وللنبيذ خطلات يغتفرها لهوك، ويجل عنها صحوك، ولو كنت تشرب ما تجنبت قربك، ولا شربت إلا على رؤيتك، فاسقني رياً، فإن الملوك لا يستحيى من مسألتهم، وإن برك ليرفع الخسيسة، ويتمم النقيصة؛ أسترعي الله جنابك، وأستمتعه ميل العافية لك، وفيك أقول: الخفيف
يا سعيد الندى فداك الأخلا ... ء وأسقاك ذو العلى من سمائه
يا فتى ما اختبرته قط إلا ... زادني الخبر رغبة في إخائه
غلب الدين والوفاء عليه ... فهو صب بدينه ووفائه
مستهام بالحمد مصغ إلى المج ... د جواد لذاته في عطائه
فإذا سيل كاد أن يتجلى ... وجهه الحر من بشاشة مائه

تنازع أحمد بن أبي خالد والسندي بن شاهك بين يدي المأمون فقال أحمد: أمير المؤمنين أفضل من آبائه قدراً، وأرفع محلاً، فقال إبراهيم: بل أمير المؤمنين دون آبائه، وفوق غيره، وأرفع أهل دهره، فقال المأمون: يا أحمد، إن إبراهيم يبنين وأنت تهدمني، ويبرم حبل مريرتي وأنت تنقضني.
قال أحمد بن رشيد: أمر لي أحمد بن أبي خالد بمال فامتنعت من قبوله، فقال لي: إني والله أحب الدراهم، ولولا أنك أحب إلي منها ما بذلتها لك.
وقع أحمد بن أبي خالد: غررتنا بالله فحبسناك لله.
لأبي شراعة البصري: الرجز
قالت أبعد ثمد تخله
ومستراد جدب تمله
بان عليك من نعيم دله
حين عداك نهلة وعله
ومن جاوزر البحر كفاه قله
ويحك هذا خير موسى كله
من جبل يؤوي معدا ظله
قد أصبحت سادتها تحله
وكلهم أضحى عليه كله
لا نزر النيل ولا معتله
مستلين العطف يعم غله
أخوك عند النائبات كله
كاتب: أنا للعناية بك معتقد، وفي حاجتك مجتهد، وللجهد فيها مستنفد.
قال أعرابي لرجل: أنت عند الأمل موثل، وعند الأجل معقل.
كاتب: بنا إلى معروفك حاجة، وبك على صلتنا قوة، فانظر في ذلك بما أنت ونحن أهله.
كاتب: كان لي فيك أملان: أحدهما لك، والآخر بك، فأما الأمل لك فقد بلغته، وأما الأمل بك فأرجو أن يحققه الله ويوشكه.
كاتب: أعارني الله حياتك وأعاذني من ارتجاعها، وأمتعني بدوام نعمتك وأجارني من انقطاعها.
كاتب: أطال الله بقاءك لرجاء تصدقه، وأمل تحققه، وعان تعتقه، وأسير تطلقه، ولا أزال عن الدنيا ظلك، ولا أعدم أهلها فضلك.
كاتب: أطال الله بقاء الوزير لظلم يزيله، وعرف ينيله، وحلم يطيله، وعثار يقيله، وضر يحيله، وعدو يديله، وصديق يذيله.
كاتب: وكان موقع وعده المنتظر عائدته، موقع رفده المحتضر فائدته.
كاتب: والله تعالى أوسع منيل، والعقل أهدى دليل، والأدب آنس خليل، والقناعة أوطأ مقيل، والتوكل آمن سبيل، والإخلاص أمضى حويل، والبر أحفظ كفيل.
وكتب بعض العمال إلى المهدي: أما بعد، فإن أمير المؤمنين قد شغلني بولاية الفرات عن الكسب على عيالي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بسعة من الرزق يغنيني بها، ولا يضطرني بالفاثة إلى الشيطان ونزغاته، فإن المضطر إلى الميتة يأكل ما يأكل منها حلالاً، وإن المعافى يزداد بالغنى عفافاً، فعل إن شاء الله.
لما قتل عبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل بالكوفة قال لكاتبه: اكتب إلى يزيد كتاباً، فكتب وطول، ثم أتى به عبيد الله فعرضه عليه فقال له: طولت، ثم دعا بكاتب فقال: اكتب: لعبد الله يزيد أمير المؤمنين من عبيد الله بن زياد، سلام عليك؛ أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة مشاقا، فآواه أهل الشقاق فبغيته، فلما خشي أن أظفر به خرج في شرذمة قليلة، لا ناصرة ولا منصورة، فهزمه الله فانجحر مجحر اليربوع، فلما نخس في ذنبه أطلع رأسه فجدعه الله وقتله، وقتل هانئاً مع، والخبر مع رسولي فليسأله أمير المؤمنين عما أحب.
فكتب إليه يزيد: من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن زياد، سلام عليك؛ أما بعد، فإنك لم تعد أن تكون كما أحب، فعلت فعل الحازم الناصح، وصلت صولة الشجاع الباسل، فقد أغنيت وكفيت وصدقت ظني بك، والسلام.
قال الحسين بن الصحاك: رأيت إبراهيم بن العباس وهو حدث يخط بين يدي أحمد بن أبي خالد، وهو إذ ذاك وزير، فرمى إليه أحمد بكتاب من قاضي الري إلى المأمون وقال له: ينبغي أن تنشيء الجواب عنه، وتنفذه إلي لأحرره. فأخذ إبراهيم الكتاب فقلبه وكتب على ظهره من غير تفكر: قد قرأ أمير المؤمنين كتابك، وفهم اقتصاصك، وأمر بإجابتك، فليكن عدلك في أقتضيتك، وحسن سيرتك في رعيتك، ما يقربك إلى الله تعالى ويدنيك من أمير المؤمنين وجميل رأيه، فاستشعر في سريرتك طاعة الله ورضاه، وفي علانيتك خشيته وتقواه: " فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " النحل: 128. قال المبرد، قال الحسين بن الضحاك، قال لي يحيى بن خاقان: يا أبا علين والله لستولين هذا الحديث على ديوان هذا الشاب.
قال المبرد: كان سيبويه كثيراً ما يتمثر بهذا البيت: الطويل
إذا بل من داء به خال أنه ... نجا وبه الداء الذي هو قاتله
مات سيبويه بشيراز وله ثمان وثلاثون سنة.

قال المبرد: كان الأخفش أعلم الناس بالكلام، واحذقهم فيه بالجدل، وكان غلام أبي شمر على مذهبه.
قال المبرد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال أحمد بن المعذل: لما جاءنا الأخفش ليؤدبنا قال: جنبوني ثلاثة أشياء: أن تقولوا بس، وأن تقولوا: هم كذا، وليس لفلان بخت.
قال المازني، حدثني الأخفش قال، قال لي أبو حية النميري: أتدري ما يقول القدريون؟ قلت: ما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله يكلف العباد ما لا يطيقون، وصدق والله القدريون، ولكن لا نقول كما يقولون.
قال أبو حاتم: كنت والأخفش عند سعيد بن مسعدة وعنده التوزي، فقال لي: يا أبا حاتم، ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث؟ قلت: قد عملت في ذلك شيئاً، قال: فما تقول في الفردوي؟ قلت: مذكر، قال: فإن الله تعالى يقول في الفردوس: " هم فيها خالدون " المؤمنون: 11 قلت: ذهب إلى الجنة فأنث، قال التوزي: يا غافل، أما تسمع الناس يقولون: الفردوس الأعلى؟ فقلت له: يا نائم، الأعلى ها هنا أفعل وليس بفعلي.
قال المبرد: مات الأخفش بعد الفراء، ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق، ومات النضر بن شميل سنة أربع ومائتين.
قال الأخفش: " فظلت أعناقهم لها خاضعين " الشعراء: 4 يزعمون أنها على الجماعات نحو: هذا امرؤ لا أحب الشر.
وذكر رجل لرقبة بن مصقلة فقال: كان أحد بنات مساجد الله، كأنه جعله حصاة.
قال النضر بن شميل: استنش ني المأمون فأنشدته: المنسرح
إني امرؤ أزل، وذاك من الل ... ه، أديب يعلم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي الدا ... ر وإن كنت نازحاً طربا
والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا
ولم أجد عروة الخلائق إ ... لا الدين لما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلاً ولا قتبا
ويحرم الرزق ذم المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربا
قال أبو زيد: يقال: أراد فلان ظلامي، أي ظلمي؛ أنشدني بعض بني أسد: الكامل
أكل المغالق صرمتي إذ أمحلوا ... جشعاً ولطوا دونها بظلام
قال أبو زيد: سمعت جراهة القوم وجراهيتهم، أي أصواتهم وجلبتهم، وسمعت وجأتهم. مات أبو زيد سنة خمس عشرة ومائتين وله خمس وتسعون سنة.
قال أبو زيد، قال أبو عبيدة، قال لي أبي: يا بني إذا كتبت كتاباً فالحن فيه فإن الصواب حرفة والخطأ أنجح.
أنشدنا السيرافي لخارجي في زيد بن علي بن حسين بن علي ابن أبي طالب عليه السلام لما قتل: الكامل
يابا حسين والحوادث جمة ... أولاد درزة أسلموك وطاروا
يابا حسين لو شراة عصابة ... علقتك كان لوردهم إصدار
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك ورب قتل عار
وقال لنا: أولاد درزة: الخياطون، وإنما يعني أرذال الناس وسفلتهم، وشراة عصابة: مزاح عن حقه، أراد: عصابة شراة، وإنما قالوا: نحن شراة أي نحن شرينا أنفسنا أي بعناها في ذات الله.
وأنشدنا أبو سعيد: الكامل
أولاد درزة أسلموه مبسلاً ... يوم الخميس لغير ورد الصادر
تركوا ابن فاطمة الكريم جدوده ... بمكان مسخنة لعين الناظر
وعزاها إلى بعض الخوارج أيضاً.
سمعت بعض العلماء يقول: الضب: الحقد، والضبة كذلك؛ ويروى لعلي بن أبي طالب عليه السلام: البسيط
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن قتلت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
زعموا أن ذات ودقين هي الضبة، يقال لها حران، فكأنه كنى عن الحقد بصفة دالة وكناية مستترة.
قال ثعلب: الكلام مبني على الحركة والسكون، فالحركة يبتدأ بها، وبالسكون يوقف، ولو كان متحركاً كله لقلق اللسان وطاش، ولو كان ساكناً ما كان كلاماً، وباجتماع الحركة والسكون يكون كلام.
وأنشد السريع
شيخ لنا يعرف بالخلدي ... يريده في غلظ المردي
أدخلني يوماً إلى داره ... فناكني والأير من عندي

سمعت علي بن عيسى يقول: قسمة التقدير في الممكن على أربعة أوجه؛ فالأول: تقدير ممتنع، مثاله لو كان في هذا المحل حركة وسكون لكان متحركاً ساكناً في حال؛ والثاني: تقدير ممكن، مثاله لو سقط حجر من رأس جبل لوصل إلى الأرض؛ الثالث: تقدير ممكن بممتنع، مثاله لو آمن أبو لهب لم يكن العالم عالماً بأنه لا يؤمن، فهذا تقدير ممكن بممتنع؛ الرابع: تقدير ممتنع بممكن، مثاله لو كان الإنسان قديماً، وكل قديم جسم، لكان الإنسان جسماً، فهذا تقدير ممتنع بممكن.
أصحابنا لا يرون له طبقة في المنطق، وهو يتسع كما ترى.
قال المفجع، حدثنا الكديمي، حدثنا الأصمعي قال: وعظ أعرابي قومه فقال: يا قوم، إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فمن لم يرزق غنى فلا يحرمن تقوى الله، فرب شبعان كاس من النعيم كان غرثان عريان من الكرم، وإن المؤمن على خير حين ترحب به الأرض وتستبشر به السماء، وإن يسأ إليه في بطنها فقد أحسن إليه على ظهرها، ومن عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يجزع فيها عند بلوى.
قال الكسائي: رحت القوم، وأنت تريد: رحت إليهم، مثل قولك: ذهبت الشام؛ وسمعت من يقول: تعرضت معروفهم: أي التمسته.
ويقال: أخرطت خريطة وأشرجتها، بمعنى واحد.
ويقال: أعبدت العبد: أي عبدته، وأنشد: البسيط
حتام يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان
ويقال: ضربته المجبة والجبوب وهي الأرض، تريد: ضربت به الأرض.
قال المفجع، قال أعرابي يهجو أمه: الرجز
شائلة أصداغها لا تختمر ... تعدو على الضيف بعود منكسر
حتى يفر أهلها كل مفر ... لو نحرت في بيتها عشر جزر
لأصبحت من لحمهن تعتذر ... بحلف ثج ودمع منهمر
وقال: يريد بالبيت الأول: قد قام شعرها من الخصومة والغضب، لا تلبس خمارها من مبادرتها إلى الشر. قال: ويريد بالبيت الثاني عصاً قد تكسرت من طول ما تضرب بها. يقال: اعتذر الشيء وتعذر إذا أعجز فلم يقدر عليه، وتتابع الأيمان كالماء الثجاج أنه ما عندها شيء.
قال، وقال العنبري: الرجز
ماذا يريني الليل من أهواله ... أنا ابن عم الليل وابن خاله
إذا دجا دخلت في سرباله ... لست كمن يفرق من خياله
وأنشد أيضاً: الرجز
رب خليل لك بالعراق ... يقرن طيب النفس بالعناق
لو تعلم الليلة ما ألاقي ... وما تلاقي قدمي وساقي
من الحفا وعدم السواق ... لم تطعم النوم من الإشفاق
قال: الكوبة: المزبلة، والكوبة: الطبل، والكوب: الإبريق وهو الذي لا خرطوم له واسع الرأس، وجمعه أكواب.
أريد أن أسوق ها هنا فصلاً في الطب تباعد عن بابه في الجزء التاسع واعترض النسيان دونه وبالله أستعين: قال بعض الأطباء: وأما العمل فينقسم قسمين: أحدهما حفظ الصحة، والآخر: اجتلاب الصحة.
وحفظ الصحة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: حفظ الصحة على الأبدان الصحيحة وذلك بتعديل الأسباب العامية المشتركة وهي: الهواء والأكل والشرب والنوم واليقظة والاستفراغ والاحتقان والحركة والسكون والأعراض النفسانية.
والثاني: التقدم بحفظ الأبدان التي تميل عن حال الصحة، ويكون ذلك إما باستفراغ الخلط الغالب على البدن، وإما بإيداع البدن مادة محمودة.
والثالث: تدبير الأبدان الضعيفة كأبدان المشايخ، وأبدان الصبيان، وأبدان الناقهين.
وأما اجتلاب الصحة فبثلاثة أشياء: أحدها التدبير، والآخر الأدوية، والثالث علاج البدن.
فهذه أقسام لجزأي الطب: العلم والعمل.
وأجناس المرض ثلاثة: أحدها تغير المزاج، والثاني تغير الاتصال، والثالث مرض مشترك، وسوء المزاج إما أن يكون حاراً أو بارداً أو رطباً أو يابساً، وهذه مفردات، وإما أن يكون حاراً يابساً، أو حاراً رطباً، أو بارداً رطباً، أو بارداً يابساً، وهذه مركبة.
قال أبو العيناء: قال لي المتوكل: امض إلى موسى بن عبد الملك، واعتذر إليه، ولا تعرفه أني وجهتك، فقلت له: تستكتمني بحضرة ألف؟ قال: إنما عليك أن تنفذ فيما تؤمر به، فقلت: وعلي أن أحترس مما أخاف منه.
قال الكندي: من ذل البذل أنك تقول نعم مطأطئاً رأسك، ومن عز المنع أنك تقول لا رافعاً رأسك.

قال أبو رواحة الباهلي، حدثنا سعيد بن سلم قال: دخلت على الرشيد فجهرني وملأ قلبي، فلما لحن خف علي أمره.
قالت فاطمة بنت علي بن الحسين رضي الله عنهم: ما تحنأت امرأة منا ولا امتشطت ولا اكتحلت بعد قتل الحسين حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد.
قال أبو مسهر: كتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن النفاق قد فرخ بيضه في العراق، وشب فيها وأشيب، ووكر فيها وقر، وأوطن عقر دارها، ونفث حمته عل أهلها، فلكل ناعق مجيب، ولكل داع ملب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في اجتثاث هذه العروق الناجمة، استئصال هذه المقادح الناشبة فعل، فإن في ذلك صلاح جنده ودهمائه.
فكتب إليه عبد الملك: أما بعد يا حجاج، فمه، فلا أرب لأمير المؤمنين في تسليط عاديتك، وإعمال فورتك، وغرسال حيفك، لا يفعل ذلك أمير المؤمنين ما خمدت نارها، وقل شغب من فيها.
قال العباس بن محمد لمؤدب بنيه: إنك قد كفيت أعراضهم، فاكفني آدابهم، علمهم كتاب الله جل وعز، فإنه عليهم نزل، ومن عندهم فصل، فإنه كفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلاً عند أحد، وفقههم في الحلال والحرام فإنه حابس أن يظلموا، وغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب، والتمسني عند آثارك فيهم تجدني.
قال الحباب بن الحسحاس عن أبيه، سمعت زياداً الأعجم ينشد: الوافر
ألم تر أنني وترث كوسي ... لأنكع من كلاب بني تميم
قال القحذمي عن بعض أشياخه، قال جرير لزياد الأعجم: يا أبا أمامة، إنه عسى أن تنكع فلا تعجل حتى يتبين لك، فقال زياد: كل ما شئت إذا كنت كلباً.
قال عدي بن الفضل: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب بخناصرة ويقول: أيها الناس، إن يكن لأحدكم رزق في رأس جبل أو حضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب.
وقال الزبيري: ما أحدث الناس مروءة أحب إلي من طلب النحو.
قال أبو الأسود الدؤلي: إني لأجد للنحو سهوكاً كسهك العمر.
قال أبو العيناء: كتب أحمق إلى أبيه من البصرة: كتابي هذا، ولم يحدث علينا بعدك إلا خيراً، والحمد لله، إلا أن حائطنا وقع فقتل أمي وأختي وجاريتنا، ونجوت أنا والسنور والحمار، فعلت إن شاء الله.
قال الصولي، قال أحمد بن محمد بن إسحاق: تذاكرنا فضل المبرد عند المعتضد فقال: ما رأى مثل نفسه، دخل إلى عيسى بن فرخانشاه وقد رضي عنه بعد أن غضب عليه فقال له: أعزك الله، لولا تجرع مرارة الغضب لم نلتذ بحلاوة الرضا، ولا يحسن مديح الصفو إلا عند ذم الكدر، ولقد أحسن البحتري حيث يقول: البسيط
ما كان إلا مكافاة وتكرمة ... هذا الرضا وامتحاناً ذلك الغضب
وربما كان مكروه الأمور إلى ... محبوبها سبباً ما مثله سبب
هذي مخايل برق خلفه مطر ... وذاك وري زناد خلفه لهب
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب
فقال له عيسى: أطال الله بقاءك، وأحسن عنا جزاءك، فأنت كما قال أبو نواس: الرجز
من لا يعد العلم إلا ما عرف
كالبحر ما نشاء منه نغترف
رواية لا تجتنى من الصحف
وأنا أصل البحتري لتمثلك بشعره، ووصله بنحو من صلته.
قال القطربلي في كتابه: كان أبو العباس من العلم وغزارة المعرفة، وكثرة الحفظ وحسن الإشارة، وصحة اللسان وبراعة البيان، مع ركانة المجالسة وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط وصحة القريحة، وتقريب الفهام وواضح الشرح، على ما ليس عليه أحد.
قال ابن كيسان، قلت للمبرد: ثعلب أعلم أهل زمانه فقال: السريع
أقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكى الصب إلى الصب
لو كتب النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى القلب
فأعدت على ثعلب بعد إلحاح منه فأنشدني: السريع
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا
قال شيخ من النحويين: من تكون زائدة، وتكون تجنيساً، وتكون ابتداء غاية، وتكون تبعيضاً.
فقول الله تعالى " وأنزلنا من السماء ماء " المؤمنون: 18 وقوله تعالى: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " النور: 43 ابتداء غاية من حال تبعيض ومن برد تجنيس.

وقيل في قوله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " النور: 30 ولم يقل: يغضوا أبصارهم، لأنه لم يحظر عليهم غض الأبصار في ملك اليمين.
سألت ابن الخليل عن مثنيات مرت في الجزء التاسع وهي: قلت له: ما الأسودان؟ قال: الفحم والحمم، وهذا خلاف ما قاله الجمهور.
قلت: فما الأبيضان؟ قال: السرور والنعم.
قلت: فما الأسوءان؟ قال: الثكل واليتم.
قلت: فما الأعجمان؟ قال: العي والبكم.
قلت: فما الأفخران؟ قال: العرب والعجم.
قلت: فما الأنقصان؟ قال: الحب والعقم.
قلت: فما الأشهران؟ قال: الطبل والعلم.
قلت: فما الأبخلان؟ قال: الجدب والعدم.
قلت: فما الأكذبان؟ قال: الآل والحلم.
قلت: فما الأصدقان؟ قال: العهد والقسم.
قلت: فما الأوضران؟ قال: اللحم والوضم.
قلت: فما الأرفعان؟ قال: البشر والسلم.
قلت: فما الأوحشان؟ قال: المقت والسأم.
قلت: فما الأوفقان؟ قال: الملك والحشم.
قلت: فما الأعودان؟ قال: البيض والهمم.
قلت:فما الأنكدان؟ قال: اليأس والندم.
قلت: فما الأعدمان؟ قال: السيل والضرم.
قلت: فما الأقطعان؟ قال: السيف والقلم.
قلت: فما الأقومان؟ قال: الدين والحسب قلت: فما الأمنعان؟ قال: الحصن والحرم.
قلت: فما الأنفسان؟ قال: المجد والكرم.
قلت: فما الأعليان؟ قال: الهام والقمم.
قلت: فما الأشبهان؟ قال: الراح والنعم.
قلت: فما الأنفسان؟ قال: النفس والندم.
قلت: فما الأغزران؟ قال: البحر والديم.
قلت: فما الأشينان؟ قال: الدع والهتم.
وكان قد ألقى علينا هذه الحروف ثم سألناه عنها فأجاب، ولا أدري أهو أبو عذرتها أم لا، وكان حافظاً غزير الحفظ حديد الخاطر حاضر البديهة، وقد رويت عنه طرائف.
سئل أبو حامد، وأنا أسمع، عن رجل حلف أن لا يدخل هذه الدار، فهدمت ثم بنيت، فقال: قد سقطت اليمين، ومتى دخل لم يحنث، لأن هذه غير تلك؛ ألا ترى أنه لو دخلها مهدومة لم يحنث، وكأنه دخل داراً أخرى. قال: وهكذا إن حلف لا يلبس هذا القميص، ففتق ثم خيط، أو لا يستعمل هذه السكين فنزعت ثم عملت، ولا يلبس هذا الخاتم فكسر ثم صيغ.
فقال له بعض الحاضرين: إن أعيدت الدار على هيئتها الأولى فإن الداخل يحنث لأنها هي، وإن بنيت في الحال الثانية مخالفة لأشكالها المتقدمة لم يحنث؛ قال: وإنما لحق الدار ما يحلق الرجل من المرض؛ ألا ترى أن رجلاً لو حلف أن لا يكلم زيداً، ثم مرض زيد ثم برأ، أن الحالف على يمينه لم يحنث ومتى فاتحه الكلام حنث، كذلك الدار، فضحك منه. قيل له: لو ولدت على الحقيقة لقلت: هدم الدار كموت زيد، واستهدامها كمرضه، فقال: لا شك أن زيداً لو مات ثم عاش بقدرة الله أن الحالف على يمينه لا يحنث، ومرضه يقوم مقام موته؛ فقال له أبو حامد: فإن حلف لا يكلم عمراً فمات عمرو فكلمه زيد، هل يحنث؟ قال: لا، فإنه ليس على هيئته حين انعقدت اليمين، فسخف به ولم يكلم.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنه: معنى قوله: " لئن شكرتم لأزيدنكم " إبراهيم: 7 لئن شكرتم هدايتي لأزيدنكم ولايتي، ولئن شكرتم ولايتي لأزيدنكم قربي، ولئن شكرتم قربي لأزيدنكم رؤيتي.
قال الجنيد الصوفي في قوله " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " العنكبوت: 45: الفحشاء مشاهدة الدنيا بالنزاع إليها، والمنكر مطالعة الآخرة بالاقتصار عليها، والصلاة تنهى عنهما جميعاً، ويشير إلى توحيد الحق بمحو الخلق.
للصوفية إشارات سليمة وألفاظ صحيحة ومرامات بعيدة، وفيها حشو كثير وفوائد جمة، وكان ظبي أني سأتفرغ لإفراد جزء من الكتاب لوساوسهم وملحهم، ونوادرهم وحقائقهم، لكني عجزت عجزاً أوضح عذري، وكشف حجتي، ولو لقط من أثناء الكتاب ما يشاكل عبارتهم ويطابق إشارتهم لكان له موقع وأثر، وإذا أتاح الله لي فرجاً وقيض لي مخرجاً فرعت همتي لنظم جزء من نحو هذا الفن، نعم، وأتكلف أيضاً جزءاً ثانياً في غرائب كلام الفلاسفة، فإن التصوف والفلسفة يتجاوران ويتزاوران، وإن كان قد مر في الكتاب ما يعجز جمعه.
قال فيلسوف: كما أن الخنفساء تكره الرائحة الطيبة، كذلك من لا لطافة له يكره الموسيقى.
وقال سقراط: ما جاعت نفسي قط إلا صفا ذهني.
قال بوزون: النفس إذا فارقت الجسد صارت خالصة خالدة، لأنها إذا فارقته لا تألم.
قال أفلاطون: لست صورة ولكني متصور، قال: والدليل عليه أني جزء ولست بكل.

قال ابن دريد، أخبرني أبو حاتم، أنشدني أبو عبيدة لقطري بن الفجاءة: البسيط
يا رب ظل عقاب قد وقيت بها ... مهري من الشمس والأبطال تجتلد
ورب يوم حمى أرعيت عقوته ... خيلي اقتساراً وأطراف القنا قصد
ويوم لهو لأهل الخفص ظل به ... لهوي اصطلاء الوغى وناره تقد
مشهراً موقفي والحرب كاشفة ... عنها القناع وبحر الموت يطرد
ورب هاجرة تغلي مراجلها ... مخرتها بمطابا غارة تخد
تجتاب أودية الأفزاع آمنة ... كأنها أسد تقتادها أسد
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمداً ... على الطعان وقصر العاجز الكمد
ولم أقل لم أساق اقتل شاربه ... في كأسه والمنايا شرع ورد
ثم قال لي: هذا هو الشعر، لا ما تعللون به أنفسكم من أشعار المخانيث.
قال يعقوب، قال أبو صاعد: رحبت الأرض إذا اتسع ربيعها واتصل، فتشبع النعم أينما دارت؛ قال: ويقال: أرض ملتفعة إذا كان بقلها بعضه إلى جنوب بعض ملتصقاً؛ قال، وقال أبو القاسم: يقال: أرض ملتفعة خضراء إذا وصفت بالخضرة وأرض مستطيلة بالخضرة؛ قال، وقال أبو حامد: يقال: ائتصر النبت إذا كانت عروقه مؤتصرة أي متقابلة قوية ثخينة، ويقال: أرض مؤتصرة الكلأ؛ أبو عمرو: يقال: ائتصر النبت إذا طال، وهو من الأصير، يقال: هدب أصير إذا كان ثخيناً، وأنشد: الوافر
لكل منامة هدب أصير
قرئ على السيرافي وأنا أسمع، قرأه عبد السلام البصري، أخبركم ابن دريد قال، أنشدني بندار بن إبراهيم الكرخي: الطويل
أي طويل مستدير وطوله ... كشبر أو أدنى أو يزيد أقله
وفي رأسه شق وثقب بطوله ... وليس بذي نفع إذا لم تبله
هكذا قال.
وقرئ عليه: سكر مزبد يوماً وجاء إلى امرأته فقالت: أسأل الله أن يبغض إليك النبيذ، فقال: وإليك القبيب.
قال، وقرئ عليه: قيل لمديني: أتحب رمضان؟ قال: ما أتهنأ بشهور سائر السنة من أجله فكيف أحبه؟ ومر ابن أبي علقمة على جماعة من عبد القيس، فضرط بعض فتيانهم فالتفت إليهم فقال: يا عبد القيس كنتم فسائين في الجاهلية فصرتم ضراطين في الإسلام، وإن جاء آخر خريتم.
وقال الرشيد لجمين: لم لا تدخل على محمد بن يحيى؟ قال: أدخل يا أمير المؤمنين وأنا أكسى من الكعبة وأخرج وأنا أعرى من الحجر الأسود.
رأى رجل مزبداً وهو يستنجي ويطيل الغسل لآسته فقال: إلى كم تلبقها؟ قال: حتى تتنظف وأسقيك فيها سويقاً.
وسمعت أبا سعيد يقول، قال ابن السراج: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي توفي فأنشد لنفسه: الكامل المجزوء
ولقد سئمت مآربي ... فكأن أطيبها خبيث
إلا الحديث فإنه ... مثل اسمه أبداً حديث
وقرئ على أبي سعيد: رؤي مزبد مع امرأة، فقيل له: ما تريد منها؟ قال: أناظرها في شيء من النكاح.
وقرئ: وقيل له: ما تقول في القبلة؟ قال: الفطام قبل اللطام.
وسمعت أبا سعيد يقول: ذكروا أنه كان لرجل ولدان فقتل أحدهما أخاه، فعفا الأب عن الابن الثاني ووهب له جرمه، فذكر ذلك للملك فقال: لا يقبل قول الأب وليس إلا أن يقاد بأخيه، فقتل، فزعموا أن أباهما ذهل عقله، وكان يدور في الطرقات ويقول: كان لي ولدان قتل أحداهما أخاه، وقتل الآخر الملك.
وجرت في مجلسه مسألة وهي: هل يصح أن يقال: هذا هذا هذا هذا هذا هذا، فقال: تجعل الأول مبتدأ، والثاني توكيداً، والثالث فعلاً من قولك: هاذي يهاذي من المهاذاة، والرابع توكيداً للفعل، والخامس مفعولاً به، والسادس توكيداً للمفعول به.
سمع الجاحظ رجلاً ينشد: الرمل المجزوء
إنما الراح شقيقي ... وحليفي وأليفي
فهو فروي في شتائي ... وهو خيشي في مصيفي
فقال له: لو عرف النبيذ حسن رأيك فيه لحاباك وقت السكر.
كان الحارث بن هشام المخزومي في وقعة البرموك، ويها أصيب، فأثخنته الجراح، فاستسقى ماء فأتي به، فلما تناوله نظر إلى عكرمة بن أبي جهل صريعاً في مثل حاله، فرد الإناء على الساقي وقال: امض به إلى عكرمة ليشرب أولاً فإنه أشرف مني، فمضى به إليه فأبي أن يشرب قبله، فرجع إلى الحارث فوجده ميتاً، فرجع إلى عكرمة فوجده ميتاً.

قال غلام لأبيه: أسمع الأصمعي يردد بيتين لا أرى فيهما ما يرى، قال: وما هما يا بني؟ قال: قوله: الطويل
سقى الله أياماً مضت لسن رجعاً ... إلينا وعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور ولا أدري
فقال: يا بني، لو كنت عاشقاً لرأيت فيهما أضعاف ما يرى.
أنشد أبو العيناء قول الشاعر: الطويل
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق سمعي أم الحب في قلبي
فقال لقد قسمها قسمة حسنة.
دخل ابن أبي علقمة على بلال بن أبي بردة وحمزة بن بيض ينشده: الطويل
ومن لا يرد مدحي فإن مدائحي ... نوافق عند الأكرمين نوامي
نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحارث بن هشام
فقال ابن أبي علقمة: يا ابن أخي، وما بلغ من نفاق بنات الحارث قال: كان يزوجهن ويسوقهن ومهورهن إلى بعولتهن، فقال له ابن أبي علقمة: يا ابن أخي، والله لو فعل هذا إبليس ببناته لتنافست فيهن الملائكة المقربون.
أنشد ثعلب: الطويل
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المطايا رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
وأنشد: الكامل
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
وأنشد الطويل
ولأئمة لامتك يا فيض في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
مواقع جود الفيض في كل بلدة ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
كأن وفود الفيض يم تحملوا ... إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر
خاصم أحمد بن يوسف رجلاً بين يدي المأمون، فكان قلب المأمون على أحمد، فعرف أحمد ذلك فقال: يا أمير المؤمنين، إنه يستملي من عينيك ما يلقاني به، ويستثير من حركتك ما تجنه له، وبلوغ إرادتك أحب إلي من بلوغ إرادتي، ولذة إجابتك آثر من لذة ظفري، وقد تركت له ما نازعني فيه، وسلمت إليه ما طلبني به؛ فشكر له المأمون ذلك.
قال أحمد بن يوسف: البغضاء تجلب الغموم وتثير الهموم، وتمر العذب وتؤلم القلب، وتقدح في النشاط وتطوي الانبساط.
أنشد لنهار بن توسعة: الكامل
قدمت صدر السيف ثم تبعته ... كالفجر مد عموده المنجابا
في مظلم الأرجاء يؤنسني به ... سيف وقلب لم يكن وجابا
كان أحمد بن يوسف يكتب بين يدي المأمون، فطلب المأمون منه السكين، فدفعها إليه والنصاب في يده، فنظر إليه المأمون نظر منكر فقال: على عند فعلت ذلك ليكون الحد لأمير المؤمنين على أعدائه؛ فعجب المأمون من سرعة جوابه وشدة فطنته.
وكتب أحمد بن يوسف إلى إبراهيم بن المهدي: قد أحلك الله من الشرف أعلى ذروته، وبلغك من الفضل أبعد غايته، فالآمال إليك مصروفه، والأعناق نحوك معطوفة، إليك تنتهي الهمم السامية، وعليك تقف الظنون الحسنة، وبك تثنى الخناصر بعد الأكالبر، ونحوك تساق الرغائب وتستفتح أغلاق المطالب، ولا يستبطئ النجح من رجال، ولا تعروه النوائب في ذراك.
قال عبد الله بن طاهر في علته: لم يبق علي من لباس الزمان إلا العلة والخلة، وأشدهما علي أهونهما على الناس، لأن ألم جسمي بالأوجاع أهون علي من ألم قلبي بالحق المضاع.
قال يعقوب: يقال: قد أزبأر شعره.
قال ابن الأعرابي، يقال: أصبحت الأرض غديراً واحداً إذا اعتم نبتها وخضل وندي، والتبس في غضاضة وري؛ ويقال: أرض مأبورة، إذا علاها الماء.
قال يعقوب: أثفت القدر وثفيتها وأثفيتها، ورماه بأثفية: أي بحجر يملأ الكف؛ ورجل مثفى: يموت عنه النساء، وامرأة مثفاة: تموت عنها الأزواج.
قال علي بن عبيدة: عين الدهر تطرف بالمكاره، والخلائق بين أجفانه.

قال إبراهيم بن العباس: والله لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاسن الناس لرجحت، وهي قوله: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم؛ هذا أبو عباد كان كريم العهد كثير البذل سريعاً إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه، فما يرى له حامد.
وقع ابن يزداد في وزارته إلى عامل اعتد بباطل: ما يبين لنا منك حسن أثر، ولا يأتينا عنك سار خبر، وأنت مع ذا تمدح نفسك، وتصف كفايتك، والتصفح لأفعالك يكذبك، والتتبع لآثارك يرد قولك، وهذا الفعل إن اتكلت عليه وأخلدت إليه، أعلقك الذم وألحقك العجز، فليكن رائد قولك مصدقاً لموجود فعلك، إن شاء الله.
شاعر أعرابي: الطويل
لا تعذلن النبع فالنبع إنما ... مكاسرة تبدو غداة التغالب
فليس بغاث الطير مثل صقورها ... وليس الأسود الغلب مثل الثعالب
وليس العصي الصم كالجوف خبرة ... وليس البحور في الندى كالمذانب
قال القاسم بن معن: من لم يرو أشعار المحدثني لم يظرف.
قال المبرد: ليس بقدم العهد يفضل القائل، ولا يحدثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، ألا ترى كيف يفضل قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير على قرب عهده: الطويل
تبحثتم سخطي فغير بحثكم ... نخيلة نفس كان نصحاً ضميرها
ولن يلبث التخشين نفساً كريمة ... عريكتها أن يستمر مريرها
وما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدر كان صفواً غديرها
وأنشد لبشار: الكامل
والله ما جمر الغضا متوقدا ... بأحر من حرق الهوى المتضرم
والله ما رمت السلو عن الهوى ... إلا وقلبي يستشيط على دمي
والله ما لي عن هواك معرج ... إلا إليه فأخري أو قدمي
يا عبد لو أبصرتني وتقلبي ... ليلي الطويل عجبت أن لم ترحمي
أيقنت أني من من هواك مسابق ... أجلي علمت بذاك أو لم تعلمي
أنشدني الأندلسن: الرمل
لي صديق وهو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
قال أبو عمرو الشيباني في كتاب العار والساعد؟: وكان يقال للرجل: تذكر شيخاً وتتنحى عنه، أي هو فوق ذلك؛ ويقال: له جمة فينانة، هي جمة كثيرة الذوائب.
قلت للسيرافي: ما يقال للشاطر؟ قال، الملغ، قلت: فما الملط؟ قال: الخبيث.
وقال كعب بن زهير: الطويل
أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ... ولم أخزه لما تغيب في الرجم
أقول شبيهات بما قال عالم ... بهن ومن يشبه أباه فما ظلم
وأشبهته من بين من وطئ الحصى ... ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم
وقال أعرابي: البسيط
أغلظ خزيرك واعلم حين تصنعه ... ما في استراط الرويثيين تفتير
طالت بلاعيمهم للقم وامتقعت ... وفي العلابي وألأوداح توتير
لو توقد النار دون الزاد جامعة ... طاح الرويثي فيه وهو محضير
ما بين لقمته الأولى إذا أخذت ... وبين أخرى تليها قيس أظفور
قال النضر بن شميل: كنت أدخل على المأمون في سمره، فدخلت عليه ذات ليلة، وعلي قميص مرقوع فقال: يا نضر، ما هذا التقشف؟ أتدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ ضعيف وحر مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان، قال: لا، ولكنك قشف. وأجرينا الحديث، فجرى ذكر النساء فقال: حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سداد من عوز، قلت: صدق أمير المؤمنين، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب الحديث كان فيها سداد من عوز، وكان متكئاً فاستوى جالساً فقال: يا نضر، كيف قلت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، السداد ها هنا لحن، قال: وكيف؟ قلت: إنما لحن هشيم، وكان لحانة، فتبع أمير المؤمنين لفظه، قال: فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد: القصد في الدين والسداد: البلغة، وكل ما سددت به شيئاً، قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم، هذا العرجي يقول: الوافر
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر

قال: قبح الله من لا أدب له، ثم وصلني بخمسين ألف درهم.
شاعر: الرمل المجزوء
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب على الخد الأسيل
هطلت في ساعة الب ... ن من الطرف الكحيل
إنما يفتضح العش ... اق في وقت الرحيل
قال أبو مسلم بن أبي معمر، أنشدني أبو الحسين ابن أبي البغل وقد رد عن طريق أصفهان إلى بغداد: الرمل المجزوء
أمل كان مكان الشم ... س في بعد المكان
فدنا حتى إذا صا ... ر بلمس وعيان
استردته يد الده ... ر فعدنا في الأماني
أعرابية: الطويل
من النفر الشوس الذين طعامهم ... سمام وأيديهم ثمال ذوي الفقر
مغاوير مناعون للبيض والقنا ... وجوداً على المتناب في العسر واليسر
وإنا لنعلي بالعبيط لضيفنا ... ويرخص فينا في الجفان وفي القدر
وننتاب حتى ما تهر كلابنا ... غريباً وما نعضي عيوناً على قهر
وتطعم حتى يترك الضيف فضلنا ... إذا بل في أطرافنا سبل القطر
يبصبصن لأضياف كلبي تألفا ... وإن رام نبحاً لم يعش في بني نصر
قيل ليحيى بن معين: أكان أبو حنيفة يكذب في الحديث؟ قال: كان أنبل من أن يكذب.
قال ابن راهويه: كان أبو حنيفة يفتي ديانة، وكان الشافعي يفتي تفقها.
قال أحمد بن حرب: أبو حنيفة في العلماء كالخليفة في الأمراء.
وقال أبو عاصم النبيل: كان أبو حنيفة يقال له الوتد لكثرة صلاته.
قال ابن عباس: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فقال: مرحباً بك من بيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والله إن المؤمن أعظم حرمة عند الله منك، لأن الله حرم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة: دمه وماله وأن يظن به ظن السوء.
قال عبد الرحمن بن أحمد: سمعت أبا العيناء يقول: ما قطعني أحد قبل المهتدي، قال لي: بلغني أنك تغتاب الناس، فقلت: يبطل ما قيل علي شغلي بعيني، قال: ذاك والله أشد لتغيظك على أهل العافية.
قال المتوكل لأبي العيناء: أكان أبوك مثلك في البيان؟ قال؟ والله يا أمير المؤمينن لو رأيته لرايت والله عبدا لك لا ترضاني أكون عبداً له.
وقال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة، قال لي أبي: يا بني، إن الله قرن طاعته بطاعتي فقال تعالى " أن اشكر لي ولوالديك " لقمان: 14 فقلت: يا أبة إن الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي فقال " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " الإسراء: 31.
قال المتوكل لأبي العيناء: إني لأفرق من لسانك، قال: يا أمير المؤمنين، إن الشريف فروقة ذو إحجام، وإن اللئيم ذو منة وإقدام.
ذكر أبو العيناء الصحابة فقال: هم الذين جلوا بكلامهم الأبصار العليلة، وشحذوا بمواعظهم الأذهان الكليلة، ونبهوا القلوب من رقدتها، ونقلوها من سوء عادتها، فشفوا من داء الشقوة، وغباوة الغفلة، وداووا من العي الفاضح، ونهجوا سبل الطريق الواضح، رحمة الله عليهم أجميعن.
قال أبو العيناء، قال أبو زيد البلخي النحوي، قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأينا شيئاً يمنع سؤدداً إلا وجدناه في سيد من السادات: أول ذلك الحداثة تمنع السؤدد وقد ساد أبو جهل قريشاً وما طرشاربه، ودخل دار الندوة وما استوت لحيته؛ والبخيل لا يسود وقد ساد أبو سفيان بن حرب؛ والعاهر لا يسود وقد ساد عامر بن الطفيل؛ والظالم لا يسود وقد ساد كليب وائل وحذيفة بن بدر؛ والأحمق لا يسود وقد ساد عيينة بن حصن، وقليل القوم لا يسود وقد ساد شبل بن معبد بلا عشيرة؛ والفقير لا يسود وقد ساد عتبة بن ربيعة.
والأخلاق المانعة للسؤدد الكذب والكبر والسخف والتعرض للعيب وفرط العجب؛ وأنشد: الرجز
لا بد للسؤدد من أرماح ... ومن سفيه دائم النباح
ومن عديد يتقى بالراح
قال أبو عمرو بن العلاء: إن أهل الجاهلية لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والبيان والحلم وتمامهن الإسلام.
قال الأصمعي: وسئل أبو عمرو بن العلاء عن أكرمك الله فقال: محدثة، فقيل له: ما تقول في الحلف بحق رسول الله؟ فقال: حلفة محدث.

قال عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني: ضرب في الله بالسياط عبد الله بن ذكوان أبو الزناد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس، وأبو عمرو بن العلاء، ضربه عبيد الله بن زياد، وسعيد بن المسيب، وعطية العوفي، وثابت البناني، وعبد الله بن عون، ويزيد الضبي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وحبس الربيع بن أنس ثلاثين سنة حتى مات في الحبس؛ وحبس إبراهيم بن الربيع التيمي في حبس واسط فمات فرمي به في الخندق، ولم يستجرئ أحد أن يدفنه حتى مزقته الكلاب؛ وإبراهيم الصائغ ضرب حتى مات؛ وأحمد بن حنبل ضرب بالسياط.
قال أبو عمرو بن العلاء: إن عتبة بن ربيعة قال لبنته: إنما خطبك إلي رجلان، خطبك السم ناقعاً وخطبك الأسد عادياً، فأيهما أحب إليك أن أزوجك؟ قالت: الذي أكل أحب إلي من الذي يؤكل، فتزوجها أبو سفيان وهو الأسد العادي؛ والسم الناقع هو سهيل بن عمرو.
قال عبد الوارث بن سعيد، قال أبو عمرو بن العلاء: كانت وقعة الحرة بالمدينة وبها ألف عين تنظر، قد رأت رسول الله، قتل أكثرهم، والله لو أنها عين واحدة لوجب أن تصان وتحمى؛ قال عبد الوارث: صدق أبو عمرو، وكان والله ثقة صدوقاً.
أبو عمرو عن رجل قال: الرجز
أفلح من كانت له كرديده ... يأكل منها وهو ثان جيده
الكرديدة: الغدرة من التمر.
قال أبو عمرو بن العلاء: ذاكرني أبو حنيفة بشيء فقلت: هذا بشع، فقال: ما معنى بشع؟ فعجبت من ذلك.
سمع أبو عمرو أبا حنيفة يتكلم في الفقه ويلحن، فاستحسن كلامه واستقبح لحنه، فقال: إنه لخطاب لو ساعده صواب، ثم قال لأبي حنيفة: إنك أحوج إلى إصلاح لسانك من جميع الناس.
قال أبو عمرو بن العلاء للأعمش: ما معنى ننكسه، إنما التنكيس لترديد الفعل إنما هو ننكسه، لأن الله جل اسمه لم يفعل هذا بالمعمر إلا مرة.
قال الفضل بن مروان، قال لي المأمون، كان الرشيد يقول: وددت أن لك بلاغة محمد وأن علي غرم كذا وكذا.
قال الفضل: سمعت محمداً يقول وقد عرض عليه كتاب: كلام بليغ وليست له حلاوة، مثله مثل طعام طيب ليست له لطافة.
وقال عبد الله بن صالح: سمعت محمداً يقول لكاتب بين يديه: دع الإطناب والزم الإيجاز، فإن للإيجاز إفهاماً كما أن مع الإسهاب استبهاماً.
قال أبو سهل الرازي: كنت واقفاً على رأس الأمين فقال لكاتب بين يديه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين؛ أما بعد، فإن الأمر قد خرج بيني وبين أخي إلى هتك الستور، وكشف الحرم، ولست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد، لشتات ألفتنا، واختلاف كلمتنا، وقد رضيت أن تكتب لي أماناً فأرج إلى أخي به، فإن تفضل علي بالعفو فأهل ذلك هو، وإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، وأن يفترسني الأسد أحب إلي من أن تنهشني الكلاب. وأمر بختم الكتاب وأرسله مع ثقة إلى طاهر، فلما قرأه طاهر قال: الآن حين انحرف عنه مراقه وفساقه، وبقي مخذولاً معلولاً، يلوذ بالآمال؟! لا والله، أو يجعل في عنقه ساجوراً ويقول: ها أنا ذا قد نزلت على حكمك، فقلنا له: فما الجواب؟ قال: ما سمعتم، فانصرفنا إلى محمد بالخبر فقال: كذب العبد السوء العاض هن أمه، والله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع علي الموت.
أبو العتاهية: الوافر المجزوء
هي الأيام والغير ... وأمر الله ينتظر
أتيأس أن ترى فرجاً ... فأين الله والقدر
قال معاوية ليزيد: إذا دليتني في قبري فأدخل عمرو بن العاص القبر ووله أن يسويني في قبري، واخرج أنت عن الحفرة واسلل سيفك وأمر عمراً يبايعك، فإن فعل وإلا دفنته قبلي: ففعل يزيد ما أمره به معاوية فلما نظر عمرو إلى السيف بايعه وقال: يا يزيد، هذا من عمل صاحب الحفرة وما هو من كيسك.
قال معاوية لخالد بن معمر: كيف حبك لعلي؟ قال: أحبه على ثلاث خصال: على حلمه إذا غضب، وصدقه إذا قال، ووفائه إذا ولي.
أنشد أبو حاتم السجستاني لشاعر: البسيط
واعلم بأن الذي ترجو وتأمله ... من البرية مسكين ابن مسكين
ما أقتل الحرص في الدنيا لصاحبه ... وأسمج الكبر في من صيغ من طين

سمعت السيرافي يقول " فانكحوا ما طاب لكم من النساء " النساء: 3 ما ها هنا وقعت على من يعقل، وهن النساء، والأصل أن ما تقع على من لا يعقل ومن على من يعقل، فإن هذا جائز؛ ألا ترى إلى قوله " والسماء وما بناها " الشمس: 5، أي: ومن بناها، وإن كان قد قيل فيه وجه آخر وهو: " والسماء وما بناها " أي وبنائها؛ قال: ويجوز أن تكون ما ها هنا بمنزلة الذي، كأنه قال: الذي طاب لكم من النساء، فإن قيل على هذا الوجه، فكيف تكون بمعنى الذي وهو للمذكر، قيل: هذا يجوز لأنه عبارة عن الجنس، ألا ترى إلى قولك: من في الدار صحيح، مع علمك أن في الدار امرأة أو رجلاً وكما قال تعالى " النار الذي كنتم به تكذبون " الطور: 14، ويكون ها هنا عائداً على نفس اللفظ؛ قال: وهذا وجه صالح.
قال: ويجوز على معنى ثالث وهو أن تكون ما عبارة عن أي وقت وزمان كأنه قال: وانكحوا من النساء ما طاب أي وقت طاب، وقال: إن صح هذا فهو جيد.
سمعت علي بن عيسى يقول: كان عندنا صيدناني يقال له أبو شجاع، وكان يتمثل لدوائه ودواء غيره ويقول: مثال ذلك مثال رجلين على أحدهما جبة خلق وعلى الآخر جبة خز دخلا حماماً، فخرجا وقد سرقت جبتاهما، فهذا يبكي ويقول: واجبتاه، وهذا يبكي ويقول: واجبتاه، يريد أنه يبكي كل واحد منهما على قدر جبته.
وسمعته يقول: في قوله تعالى " ومن دخله كان آمناً " آل عمران: 97 وجهان: أحدهما انه على طريق الأمر والحكم كأنه في التقدير: ومن دخله يأمنونه؛ وحكي عن بعض القرامطة أنه قال لما دخل مكة وقتل الناس بها: ألم يقل الله " ومن دخله كان آمناً " ، والله لقد أخفنا السبيل، وأطلنا العويل، فقال له بعض الحاج: يا هذا إنما هو على طريق الأمر: أمنوه، قال: فكأنما ألقمه حجراً.
قال: والوجه الثاني أن المعنى على ظاهره، وذلك أن الله تعالى جبل الخلق في أول الفطرة على الطهارة والخير، إلا أنهم ربما أكرهوا أنفسهم على النجاسة والشر، فعلى هذا التأويل: ومن دخل كان آمناً على حسب ما فطر عليه وتقدم إليه؛ ألا ترى أن الشاة والذئب والحمام تأتلف في الحرم.
سمعت السيرافي يقول، سمعت نفطويه يقول: لحن الكبراء النصب والجر، ولحن الأواسط الرفع، ولحن السفلة الكسر.
سمعت ابن مهدي الطبري يقول، مشايخ بغداد يقولون: ما رأينا أفصح من ابن داود مطبوعاً، ولا أفصح من نفطويه متكلفاً.
شاعر: الطويل
لئن كان قومي قلدوني أمورهم ... ولم أكفهم إني إذن للئيم
علام إذن أدعى أميراً وأرتجى ... وتعصب بي الأمر العظيم تميم
فقل لتميم ما حميت ذماركم ... ولا حطت منكم ما يحوط كريم
إذا أنا لم أغضب جذاماً وحميراً ... بخوف له بين الضلوع نئيم
وأقذف عبد القيس بن بحر ذلة ... تظل به بين التراب تعوم
اعتلت امرأة، فقدم إليها فالوذج، فنظرت إليه وقالت: والله إنك لهين المزدرد لين المسترط، وإنك لتعلم أن العودة إلى مثلك لتطول مدتها، فما يمنعني أن أتلقى حرارتك بحلقوم لهجم، وبلعوم سرطم، ثم يقضي الله في قضاءه.
قيل لأعرابي: هل استمريت ما أكلت البارحة؟ فقال: لو تغذى أحدنا بالدنيا وما فيها لأحب أن يتعشى بالآخرة.
وقال بعضهم: المائدة بلا بقل كالشيخ بلا عقل.
وكتب عبد الملك إلى الحجاج كتاباً فيه: ولا تولين الأحكام بين الناس جاهلاً بالأحكام، ولا حديداً طائشاً عند الخصام، ولا طعماً هلعاً يقرب أهل الغنى، ويبش بأهل السعة، يكسر بذلك أفئدة ذوي الحاجة، ويقطع ألسنتهم عن الإفلاج بالحجة والإبلاغ في الصفة، واعلم أن الجاهل لا يعلم، والحديد لا يفهم، والطائش القلق لا يعقل، والطمع الشره لا تنفع عنده الحجة ولا تغني فيه البينة، والسلام.
قد وليناك كذا لما بلوناه من جميل أثرك، ورضيناه على الامتحان من مختبرك.
وفصل آخر في حديث القضاء من إنشاء بعض البلغاء: يعتمد على الحق وبيناته، ويتجنب الزيغ وشبهاته، ولا يقطع ضعيفاً عن حجته، ولا يطمع خصماً في منزلته، وينعم النظر في مشكلات الأحكام، آخذاً بالاحتياط، معتقداً للإقسام، مجتهداً في الفصل بين الخصوم، والأخذ من الظالم للمظلوم، ويستبطن أهل الحجى، ويستظهر بذوي النهى.

فصل آخر في هذا المعنى: هذا ما عهد عبد الله الإمام أمير المؤمنين إلى فلان حين رداه رداء الشرف، وبوأه المتبوأ العالي المنيف، واعتمد عليه في القضايا والأحكام، وأطلق له النظر بما أمر الله عز وجل في أموال الوصايا والوقوف والأيتام، لدينه المعرى من الشوائب، وورعه المبرإ من المعائب، وعلمه الذي قد جمع أطرافه، وبذ به أشكاله وأخلافه، واقتصاده الذي هو عنوانه، وعليه يجري أصحابه وأعوانه، وتأنيه في إمضاء الحكومات، ودرئه الحدود بالشبهات، واقتداره على كف أربه، واشتماله على ما يقربه من ربه، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يوفق آراءه ولا يعروها فند، ويصل له وبه صلاحاً يبقى على الأبد، ويعين فلاناً على ما تحمله، فإنه عبء ثقيل، وأمر عظيم جليل.
شاعر من الكتاب: الطويل
أعاتك أدني من أبيك السنورا ... فقد أصبحت نار العشيرة أنورا
وجاش بعبد القيس ما في صدورهم ... علينا من الأخبار حتى تفطرا
وما ضرنا أن القبائل أصبحت ... علينا غضاباً ليس تنكر منكرا
وأنا نعد الناس منبر ملكهم ... إذا اضطرب الخيلان حتى نؤمرا
وأنا إذا ما خيرونا وجدتنا ... وإن كثروا منهم أعز وأكبرا
فهاتي سلاحي أكف قومي أمورهم ... وقد قلدوني الأمر أروع أزهرا
وبئس أخو القوم الكرام وشيخهم ... أبوك غداً إن أقدموا وتأخرا
وإن هو لم يركب قرا الحرب كلما ... تسنم منها قاعداً وتنمرا
وإن يسأم الإقدام في الروع آمناً ... ولو خاض بحر الموت حولاً مكدرا
قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله تعالى " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " الشعراء: 100 - 101.
قال بعض السلف: إن الله تعالى خلق النساء من عي وعورة، فداووا العي بالسكوت، واستروا العورة بالبيوت.
قال بعض السلف: مكتوب في الصحف الأولى: إذا أغنيت عبدي عن طبيب يستشفيه، وعما في يد أخيه، وعن باب سلطان يستعديه، وعن جار يؤذيه، فقد أسبغت عليه النعم.
رأى أعرابي في دهليز دار ابن زياد صورة أسد وكلب وكبش، فقال: أسد جائح، وكبش ناطح، وكلب نابح، أما إنه لا يتمتع بها أبداً؛ فما لبث عبيد الله إلا أياماً.
سمعت الحراني الصوفي بمكة يقول: قم في مغاني الأسى، على الترب والحصا، وناد فلعل وعسى.
رفع إلى كسرى: خذلتم ثم سميتم فلاناً مخذولاً، فوقع: لأنه تظلم منا إلى الله تعالى قبل أن يتظلم إلينا.
ووقع الفيض في وزارته على ظهر رقعة معتذر: التوبة للمذنب كالدواء للمريض، فإن صحت توبته كمل الله تعالى شفاءه، وإن فسدت نيته أعاد الله تعالى داءه.
قال أبو الدرداء: معاتبة الأخ أخاه خير من فقده، ومن لك بأخيك كله؛ أطع أخاك ولن له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح، غداً يأتيك أجله فيكفيك فقده، ويكفيك مضض الحسرة عليه بعد فقده إذا قصرت في حقه حال حياته، فكيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان المراء قوم من قدح لوجد له غامز.
وقف أعرابي على خالد بن سلمة المخزومي فقال له: يا أعرابي ممن أنت؟ قال: من تميم، قال: أنت من دارم الأكرمين؟ قال: لا، قال: فأنت من حنظلة الأشدين؟ قال: لا، قال: فأنت من سعد الأكبرين؟ قال: لا، قال: اذهب لا تبال أن تكون عربياً؛ فتنحى فقال: من هذا الذي على بابه جالس؟ قالوا: خالد بن سلمة المخزومي، فرجع إله فقال: ممن أنت؟ قال: من قريش، قال: من هاشم المرسلين؟ قال: لا، قال: فمن أمية المستخلفين؟ قال: لا، قال: فمن عبد الدار المستحجبين؟ قال: لا، قال: فاذهب ولا تبال أن تكون قرشياً.
قال ابن الأعرابي عن المفضل: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطباً، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتك إياها، وجعلت الصداق أن لا تقبل في مقالة قائل.
قال المفجع: يقال: مرت الطير لها خوات ومرت الطير لها خواته، أي حس وصوت.
وقال: المهود: الطرف الملهي، وتهود القوم في السير إذا ساروا سيراً ضعيفاً، وبينهم هوادة من هذا أي سكون، واليهود منه.

يقال: ما له حيلة ولا حول ولا محالة ولا حويل ولا حيل، إذا كان لا يتجه لأمره؛ وقال: الحيل: القوة، والحيل أيضاً الحجر الناتئ من الجبل، والجميع الحيلة، حكاه أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
وقال: قارعة الطريق أي محجته.
وقال: تقول العرب: هدهد، وهداهد - بضم الهاء - سواء كل واحد، فإذا جمعوا قالوا: هداهد - بفتح الهاء، وكذلك: عراعر: سيد القوم، فإذا جمعوا قالوا: عراعر، وكذلك: رجل حلاحل للملك الكثير العطاء، والجمع حلاحل، وهذه أحرف يسيرة جاءت ناردة.
وتقول العرب في الذئب: نيه طلسة وغبرة، وغبشة كل ذلك للذي يضرب إلى السواد والحمرة؛ وفي الضبع غبرة وشكلة، وهو لون فيه سواد وصفرة قبيحة.
قال أبو العيناء: سمعت رجلاً يقول لأبي زيد: أتتهمني على دين الله؟ قال: لا ولكني أتهمك عل لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العيناء، حدثني القحذمي قال: دخل خالد بن صفوان الحمام وفيه رجل مع ابنه، فأراد أن يعرف خالداً ببلاغته فقال لابنه: يا بني، ابدأ بيداك وثن برجلاك، ثم التفت إلى خالد وقال: با ابن صفوان، هذا كلام قد ذهب أهله، فقال خالد: هذا كلام ما خلق الله له أهلاً.
قال أبو العيناء: خطب رجل في حسبه شيء إلى رجل شريف قد مسته حاجة، فأنشأ يقول: البسيط
قل للذين سعوا يبغون رخصتها ... ما أرخص الجوع عندي أم كلثوم
الجوع خير لها من فعل منقصة ... ساقت أباها إليه جلة كوم
قدم محمد بن إسحاق البصرة، فكان فتيانها يضعون له المراثي لبنات عبد المطلب فيصلها هو بالسيرة والغزوات.
قال أبو العيناء، قال الثوري: سألت الأصمعي لم سمي الشجاع بهمة، قال: لأن أمره مستبهم لا يدري من أين يتأتى له.
قال الأصمعي: حمل يزيد بن مرة شيئاً على رأس حمال، فعاسره في الكراء، فقال: إن الذي على رأسك لك.
قال المعتمر بن سليمان: كان على أبي دين، فكان يستغفر، فقلت: لو سألت الله أن يقضي دينك، قال: إذا غفر لي قضى ديني.
قال أبو مرثد: العرب تقول: فلان نظورة قومه، أي المنظور له من بينهم.
قال أبو زيد: سمعت رؤبة بن العجاج يقول: ما رأيت أروى لأشعارنا من أبي مسلم، من رجل يرتضخ لكنة، فهو أفصح الناس.
قال يحيى بن خالد: شر الأمور التخليط الذي لا ينقطع.
في أول كتاب إبراهيم الإمام: احذروا العرب فإنها لم تزل تبغينا مذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فينا.
قال جعفر بن محمد: يعرف نفاق الرجل في ولده أن لا يكون باراً بهم رفيقاً عليهم.
قال ابن عباس: إذا أسف الله على خلق من خلقه فلم يعجل لهم النقمة بمثل ما أهلك به الأمم من الريح وغيرها، خلق الله لهم خلقاً من خلقه يعذبهم بهم لا يعرفون الله تعالى.
قال عبد الصمد بن موسى: لما وجد عمر بن فرج كتاباً من أهل الكرخ إلى علي بن محمد بن جعفر عليهم السلام جاء به إلى المأمون، فقال المأمون: محمد أولى من ستر هذا - ولم يشعه، ودعا علي بن محمد فقال: له: قد وقفنا على أمرك، وقد وهبنا ذلك لعلي وفاطمة، فاذهب فتخير ما شئت من الذنوب فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو.
قال عبد الصمد بن موسى: كان متطبب محمد بن إبراهيم أبو خالد نصرانياً ثم أسلم، فغلب على يحيى بن خالد ثم على الرشيد، فلما حضرته الوفاة وجه إلى محمد بن إبراهيم: إن لك علي حقاً أرعاه، فوجه إليي من يفهم عني حتى أوصيك بشيء أنصح لك فيه، فحدثني أبي موسى قال: وجهني محمد بن إبراهيم إليه، فأمرت الغلام بدواة وقرطاس فقال: أقرئه السلام، والأمر أيسر من أن نكتبه، قل له: لا تجامع حتى يأتي عليك من الوقت الذي تجامع فيه إلى ذلك الوقت مقدار ثلاثة أيام بلياليها، فإنك إن فعلت لم يضررك، وذلك أن المني إنما يكون من الدم، ولا يصير الدم في أقل من هذه المدة، ومتى فعلت قبل ذلك استكرهته فقلعته قلعاً تؤذيك عاقبته بعد؛ ولا تغلظ على أضراسك لقمة فتلقيها إلى معدتك فتضر بها لأن المعدة أرق منها، وإذا لم تقدر عليها الأضراس فالمعدة أجدر؛ والدم فمتى هاج بك فأخرجه؛ والحمام فتعاهده في كل خمسة أيام، فإن للأبدان خبثاً فانفضه عنك؛ واعلم أنه ليس شيء أنفع في الجوف من الرائحة الطيبة، فلا تبت ليلة حتى تستعمل الطيب وتعرض نفسك على الخلاء.
ضمرة بن رجاء: الطويل

فإن أك بدلت البياض فأنكرت ... معالمه مني العيون اللوامح
فقد يستجد المرء حالاً بحالة ... وقد يستشن الجفن والنصل جارح
وما شان عرضي من فراق علمته ... ولا أثرت في الخطوب الفوادح
شاعر: الطويل
وسار تعناه المبيت فلم يدع ... له جانب الظلماء في الليل مذهبا
رأى ضوء نار من بعيد فأمها ... وقد شهبتها العين باللمح كوكبا
فقلت ارفعاها بالصعيد كفى بها ... مناراً لساري ليلة إن تأوبا
رفعت له بالقفر ناراً تشبها ... شآمية علياء أو حرجف صبا
فلما أتانا والسماء تبله ... رجعت له أهلاً وسهلاً ومرحبا
قال محمد بن عبد الملك لأبي العيناء: بلغني أنك مأبون، قال: مكذوب علي وعليك أصلحك الله.
دخل مالك بن هبيرة السكوني على معاوية فأدناه، وكان شيخاً كبيراً، فخدرت رجله فهزها، فقال له معاوية: ليت لنا يا أبا سعيد جارية لها مثل ساقيك، قال: متصلان بمثل عجيزتك، فخجل معاوية وقال: البادئ أظلم.
دب رجل إلى آخر فقال له المدبوب عليه: يا شيخ ما تصنع؟ قال: لا تسأل عما تعلم.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: حدثني رجل من أهل الأدب قال: كانت لفتى من قريش وصيفة نظيفة جميلة الوجه حسنة الأدب، وكان الفتى بها معجباً، فأضاق واحتاج إلى ثمنها، فحملها إلى العراق في زمن الحجاج وباعها، فوقعت إلى الحجاج فكانت تلي خدمته، فقدم عليه فتى من ثقيف، أحد بني أبي عقيل، فأنزله قريباً منه وألطفه، فدخل عليه يوماً والوصيفة تغمر رجل الحجاج وكان للفتى جمال وهيئة فجعلت الوصيفة تسارق الثقفي النظر، وفطن الحجاج فقال للفتى: ألك أهل؟ قال: لا، قال: فخذ بيد هذه الوصيفة فاسكن إليها واستأنس بها إلى أن أنظر لك في بنات عمك إن شاء الله، فدعا له وأخذ بيدها مسروراً وانصرف إلى رحله، فباتت معه ليلتها، وهربت مه بغلس، فأصبح لا يدريي أين هي؛ وبلغ الحجاج ذلك فأمر منادياً ينادي: برئت الذمة ممن آوى وصيفة، من صفتها وأمرها كيت وكيت، فلم تلبث أن أتي بها فقال لها: أي عدوة الله، كنت عندي من أحب الناس إلي، واخترت لك ابن عمي شاباً حسن الوجه، ورأيتك تسارقينه النظر، فدفعتك إليه وأوصيته بك، فما لبثت إلا سواد ليلتك حتى هربت، قالت: يا سيدي، اسمع قصتي ثم اصنع ما أحببت، فقال: هات، قالت: كنت لفلان القرشي، وكان بي معجباً فاحتاج إلى ثمني، وحملني إلى الكوفة، فلما صرنا قريباً منها دنا مني فوقع علي، فلم يلبث أن سمع زئير الأسد، فوثب عني إليه واخترط سيفه فحمل عليه وضربه فقتله، ثم أقبل إلي وما برد ما عنده فقضى حاجته، وكان ابن عمك هذا الذي اخترته لي لما أظلم الليل قام إلي، فإنه لعلى بطني إذ وقعت فارة من السقف عليه، فضرط ثم وقع مغشياً عليه، فمكثت ليلاً طويلاً أقلبه وأحركه وأرش على وجهه الماء ولا يفيق، فخفت أن تتهمني به فهربت. فما ملك الحجاج نفسه وقال: ويحك لا تعلمي بهذا أحداً فإنه فضيحة، قالت: يا سيدي على أن لا تردني إليه، قال: لك ذلك.
خرج أبو الحارث جمين مع عيسى بن موسى إلى الصيد فخلا به، فانحنى عيسى على قربوس سرجه فافلت منه ضرطة، فالتفت إلى أبي الحارث جمين فقال: إنك ستجعل هذه نادرة تأكل بها، وإني أعطي الله عهداً لئن بلغني أنك حدثت بهذا لأضربن عنقك، فقال جمين: سبحان الله أيها الأمير، وأنا لا أدري بمن أتعبث وحديث من أتحدث؟! فلما انصرفا قام إليهما بعض أهل الدار فقال: كم اصطدتم؟ قال: فبادر أبو الحارث فقال: لا والله ما اصطدنا شيئاً، وما كان معنا انفلت، وأشار إلى نحو بطن عيسى.
ضرط أشعب في صلاته فقيل له: ويحك، أتضرط في صلاتك؟ فقال: وما خير آست لا تضرط من خشية ربها.
وضرط الدلال في سجوده فقال: سبح لك أعلاي وأسفلي، ففتن الناس في صلاتهم.
أبو عداس النميري: الرمل
أيها اللاحي على ما قد مضى ... إن علمت الرشد فاستقبل لغد
إنما يعرف قومي خلتي ... إن هم نادوا وواراني البلد
سأذب الناس عن أعراضهم ... ذبك الناهل عن حوض الثمد
بلسان حسن تشقيقه ... وسنان مثل كلاب معد

نفس إن الحزم في عاداته ... ما تعرى من زمان محتصد
فاستبدي مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
قال أبو العيناء، قال ابن ماسويه الطبيب، قال لي أخ لعبيد الله ابن يحيى: أخبرني عن الطبائع الأربع، هي من عقاقير الجبل؟ فضحكت، فقال: لم تضحك؟ قلت: أخو وزير الخليفة لا يعرف الطبائع؟ فقال لي: أنا طبيب؟ قال أبو العيناء: وشكا بعض الكتاب في نكبته، وكان قد زور، فقال: أخذوا مالي وقلعوا أسناني، إلا أن داري لم تبرح مكاني.
قال أبو العيناء: سمعت الحسن بن سهل يقول: كان أنوشروان أربع خواتيم: فخاتم للخراج نقشه: العدل وخاتم للضياع نقشه: العمارة، وخاتم للمعونة نقشه: الأناة، وخاتم للبريد نقشه: الوحى، وما نخن من هذا في شيء.
قال أبو دلف: دخلت يوماً على الرشيد وهو في طارمة وعلى بابها شيخ جليل قد ألقيت له طنفسة خارج الطارمة، فلما سلمت قال الرشيد: كيف أرضك؟ قلت: خراب يباب، أخربها الأعراب والأكراد، فقال قائل: هذه آفة الجبل، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن صدقك فأنا سبب إصلاحه، قال: وكيف؟ قلت: أأكون سبباً لإفساده وأنت علي، ولا أكون سبب إصلاحه وأنت معي؟! قال الطالقاني كنا عند ابن منارة الكاتب وعنده ابن المرزبان، فدخل أبو العيناء فقال ابن المرزبان: أريد أن أعبث به، فنهاه ابن منارة فلم يقبل، فلما جلس قال له: يا أبا عبد الله، لم لبست جباعة؟ قال: وما الجباعة؟ قال: التي ليست بجبة ولا دراعة، فقال أبو العيناء: ولم أنت صفديم؟ قال: وما الصفديم؟ قال: الذي بين الصفعان والنديم، فوجم لذلك وضحك أهل المجلس.
بعث سهل بن هارون إلى الحسن بن سهل كتاباً عمله في مدح البخل، واستماحه فيه، فوقع الحسن: قد مدحت ما ذم الله، وحسنت ما قبح الله، وما يقوم بفساد معناك صلاح لفظك، وقد جعلنا ثوابك قبول قولك، فما نعطيك شيئاً.
اعتل بعض إخوان الحسن بن سهل، فكتب إليه الحسن: اجدني وإياك كالجسم الواحد، إذا خص عضواً منه ألم عم سائره، فعافاني الله بعافيتك، وأدام لي الإمتاع بك.
قال سعيد بن حميد: أمر يحيى كاتبين له أن يكتبا في معنى واحد، فأطال أحدهما واختصر الآخر، فقال للمختصر: ما أجد موضع زيادة، وقال للمطيل: ما أجد موضع نقصان.
قال بعضهم: عداوة يحيى خير لعدوه من صداقة غيره لصديقه.
دخل الأحنف بن قيس إلى معاوية بعدما تم له الأمر فقال له: أنت الخاذل لأمير المؤمنين ومقاتلنا بصفين؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت شبراً من غدر، لنمدن باعاً من ختر، وإنك لجدير أن تستصفي قلوبنا وكدرها بفضل حلمك، قال: أفعل.
سأل عمر بن الخطاب عمرو بن معد يكرب عن الحرب فقال: مرة المذاق، إذا شمرت عن ساق، من صبر فيها عرف، ومن ضعف عنها تلف.
كلم الفضل المأمون في وعد رجل تأخر: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تهب لوعدك تذكراً من نفسك، وتذيق سائليك حلاوة تعجيلك، وتجعل فعلك حاثاً لقولك، فافعل.
وقع الفضل إلى مستميح: كن بالباب يأتك الجواب.
وقف أحمد بن أبي خالد بين يدي المأمون، وخرج يحيى بن أكثم من بعض المستراحات وقعد، فقال له المأمون: اصعد إلى السرير، فصعد وجلس على طرفه، فقال أحمد: يا أمير المير المؤمنين، إن يحيى صديقي وأخي، ومن أثق به في أمري كله ويثق بي، وقد تغير عما أعهده عليه، فإن رأيت أن تأمره بالعود إلى ما كان عليه فإني له على مثله، فقال المأمون: يا يحيى، إن فساد أمر الملوك بفساد الحال بين خاصتهم، وما يعدلكما عندي أحد، فما هذا النزاع بينكما؟ فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف وأني أثق بمثل ذلك منه، ولكنه رأى منزلتي منك هذه المنزلة فخاف أن أتغير له يوماً فأقدح فيه عندك فتقبل مني فيه، فأحب أن يقول هذا ليأمن مني، وإنه لو بلغ نهاية مساءتي ما قدرت أن أذكره عندك بسوء، فقال المأمون: أكذلك يا أحمد؟ قال: نعم، فقال: أستعين الله عليكما، ما رأيت أتم دهاء ولا أبلغ فطنة منكما.
كان أبو فرعون الأعرابي يرقص ابنته ويقول: الرجز
بنيتي ريحانتي أشمها ... فديت بنتي وعدمت أمها
قال علي بن عبيدة: إن أخذت عفو القلوب زكا ريعك، وإن استقصيت أكديت.

لما مات الإسكندر قالت أمه: واعجبا ممن بلغت السماء حكمته، وأقطار الأرض مملكته، وذانت له الملوك عنوة، أصبح نائماً لا يستيقظ، وصامتاً لا يتلكم، ومحمولاً على يدي من كان لا يناله نصره؛ ألا من مبلغ عني الإسكندر بأن قد وعظتني فاتعظت، وعزيتني فصبرت، ولولا أني لاحقة بك ما فعلت ما فعلت، والسلام عليك حياً وميتاً، فنعم الحي كنت، ونعم الميت أنت.
قيل لأم هارون الرشيد: أتحبين الموت؟ فقالت: لا، قيل: ولم؟ قالت: لو عصيت مخلوقاً ما أحببت لقاءه فكيف وقد عصيت الله؟! قال المفجع: اتهم الرجل فهو متهم، من التهمة، وأتهم: أتى تهامة.
وقال أمعن في الأرض: أسرع، وأمعن بحقي: أتى به متبرعاً، وأذعن به: أقر به، واخترف الرجل فهو مخترف إذا اخترف من الكسب.
ويقال: ما أطيب أريجته وأرجه، والأرج: الرائحة الطيبة.
ويقال: وزعت بينهما وورعت أي حجزت.
وأنشد: الرجز
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوماً وأمري مجمع
قال: مجمع، ولم يقل مجموع، كأنه أرد مجمع عليه؛ يقولون: أجمعت على الأمر، وأزمعت عليه.
غلط المفجع في هذا، يقال: أجمعت الأمر، وهو الفصيح، قال الله تعالى: " فأجمعوا أمركم " يونس: 71، وأزمعه مسموع أيضاً.
قال المفجع: لم أره منذ زمنة يا هذا، يريد منذ زمان.
وقال: هذا مطيبة لنفسي ومخبثة لجسمي.
ويقال: تأنقت هذا المكان أي أحببته واخترته؛ قال: وسمعت أبا موسى يقول: أظن معنى قولهم تأنقت في الشيء مأخوذ من النيق، وهو أعلى الجبل، كأنه بالغ في الشيء.
قال: وسمعته يقول: الحق مطيتك مخففة، وقد تثقل.
وقال: وقعوا في مرطلة، يعني طيناً ووحلاً، وقد مرطلت الأرض عليهم.
وقال: ما قارنتهم بلادنا أي ما وافقتهم، وهذا أمر لا يقاييني ولا ينايينني، أي لا يصلح لي ولا يلائمني.
وقال: أخذه إباء شديد، معناه: كلما قيل له شيء يأباه.
وسمعت من يقول: وجرت الدواء إذا شربته.
قال: وسمعت: أخلف الله عليك وخلف أيضاً.
روى أبو عبيدة العسكري في تاريخه عن أبي وائل عن حذيفة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان يستعينه في غزاة، فبعث إليه عثمان رضي الله عنه عشرة آلاف دينار، فصبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقلبها ويقول: غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت وما أبديت، وما قدمت وما أخرت، ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا.
قال، وقال سعيد بن المسيب: بلغ عثمان أن قوماً على فاحشة، فأتاهم وقد تفرقوا، فحمد الله وأعتق رقبة.
أهدى الموبذ إلى المتوكل قارورة دهن وكتب: إذا كانت الهدية من الصغير إلى الكبير، فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن، ومن الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أنفع وأوقع، وأرجو ألا أكون قصرت بي همة صيرتني إليك، ولا أخرني زمان دلني عليك، ولا قعد بي رجاء حداني على بابك، وحسب معتمدك ظفراً بفائدة وغنيمة، ولجأ إلى موئل وسند.
قيل لمغنية: صوم يوم عرفة كفارة سنة، فصامت إلى الظهر ثم أفطرت، فقيل لها: لم فعلت؟ قالت: يكفيني كفارة ستة أشهر.
قال أبو العيناء: كان يالري مجوسي موسر فأسلم، وحضر شهر رمضان فلم يطق الصوم، فنزل إلى سرداب له وقعد يأكل، فسمع ابنه حساً من السرداب، فاطلع فيه وقال: من هذا؟ فقال الشيخ: أبوك الشقي يأكل خبز نفسه ويفزع من الناس.
قال الزبير: حدثني عمي مصعب، حدثني موسى بن صالح قال: كان عيسى بن دأب كثير الأدب عذب الألفاظ، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد، وكان يدعو له بمتكأ، ولم يكن يطمع في هذا أحد من خلق الله في مجلسه، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً ولا ليلة، ولا غبت عني إلا تمنيت ألا أرى غيرك، وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة كثير النادرة جيد الشعر حسن الانتزاع له.
قال علي بن عبيدة: ثقف نفسك بالآداب قبل صحبة الملوك، ولا تنظر إلى من نال الحظ بالسخف، فإن كل أحد يوزن بقدره إذا خرج مما كان فيه.

وقال البكائي عن أبيه، وكان أدرك الجاهلية: كان الربيع بن زياد العبسي نديماً للنعمان بن المنذر، وكان يسمى من شطاطه وبياضه وجماله الكامل؛ فقدم وفد من بني عامر - ثلاثون رجلاً - عليهم أبو براء عامر ابن مالك بن جعفر بن كلاب - وهو ملاعب الأسنة، خمسة منهم من بني الحريش، وثلاثة من بني عقيل من بني خفاجة، وخندف بن عون بن شداد بن المحلق ومالك بن ربيعة وهو فارس مدرك، وقتادة بن عوف، ولبيد بن ربيعة بن مالك، وهو يومئذ غلام، وأم لبيد نفيرة بنت حذيم. وكان الربيع من أكرم الناس على النعمان، فضرب النعمان قبة على أبي براء وأجرى عليه وعلى من معه، فلم يزل الربيع يتنقصه عنده حتى نزع القبة عن أبي براء وقطع النزل، وهموا بالأنصراف، فقال لهم لبيد: ما لكم تتناجون؟ قالوا: إليك عنا! قال: أخبروني لعل لكم عندي فرجاً، فأخبروه، فقال: عندي، أرجز به غداً حين يقعد الملك، فقالوا: وهل عندك ذاك؟ قال: نعم، قالوا: فقل في هذه البقلة نبلوك بها، أي نجربك، فقال: هذه البقلة الرذلة لا تستر جاراً، ولا تؤهل داراً، ولا تذكي ناراً، المقيم عليها قانع، والمغتر بها جائع، أقبح البقول مرعى، أقصرها فرعا؛ القوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه غداً من أمره في لبس. فغدوا وقد جلس النعمان وإلى جانبه الربيع، وأقبل لبيد وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة، وكذلك كانت تفعل الشعراء في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، فمثل بين يديه ثم أنشأ يقول: الرجز
أنا لبيد ثم هذا منزعه ... يا رب هيجا هي خير من دعه
في كل يوم هامتي مقزعه ... نحن بني أم البنين الأربعه
المطعمون الجفنة المدعدعه ... والضاروبن الهام تحت الخيضعه
نحن خيار عامر بن صعصعه ... مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
إن آسته من برص ملمعه ... وإنه يدخل فيها إصبعه
يدخلها حتى يواري أشجعه ... كأنما يطلب شيئاً ضيعه
أف لهذا طامع ما أطعمه فأقامه النعمان وقال: إنك لهكذا؟ فقالك كذب أيها الملك، فطرده وقرب وفد بني عامر وأعاد على أبي براء القبة، فذلك قول لبيد: الرمل
ومعي حامية من جعفر ... حين يدعون ورهط ابن شكل
وقبيل من عقيل صادق ... وليوث بين غاب وعصل
فقال النعمان للربيع: البسيط
شرد برحلك عني حيث شئت ولا ... تكثر علي ودع عنك الأباطيلا
فقد رميت بشيء لست ناسيه ... ما جاوز النيل يوماً أهل إمليلا
قد قيل ذلك إن حق وإن كذب ... فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
كتب ابن مكرم إلى نصارني أسلم: الحمد لله الذي وفقك لعبادته، وأكرمك بهدايته، وطهر من الارتياب قلبك، ومن الافتراء عليه لبك.
ضرط كاتب عمر بن عبد العزيز بين يديه، فرمى بقلمه وقام خجلاً، فقال له عمر: لا عليك، خذ قلمك واضمم إليك جناحك، وأفرخ روعك، فما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.
يقال سليمان بن ربيعة لعمرو بن معدي كرب: فرسك هذا مقرف، فقال: المقرف يعرف المقرف.
كان أبو جلدة اليشكري بخراسان مع شرب في بيت، فخرج ليبول فضرط، فضحكوا منه، فأخذ السيف وقام على الباب، وحلف ليضربن من لم يضرط، فضرط سائرهم إلا رجل من عبد القيس فإنه قال: يا أبا جلدة، إن عبد القيس ليسوا بأصحاب ضراط، فهل لك أن تقبل عشر فسوات بضرطة؟ فأعرض عنه أبو جلدة وقال: ألم يكن لؤماً بكم أن تضحكوا مما تفعلون.

رفع الواقدي إلى المأمون رقعة يذكر فيها ما عليه من الدين وقلة الصبر، فوقع المأمون في ظهر رقعته: أنت رجل فيك خلتان: السخاء والحياء؛ فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يدك، وأما الحياء فبلغ بك ما أنت عليه، وقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك، وإن كنا لم نصب إرادتك فتماسك على نفسك، وأنت كنت حدثتني وأنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير، إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له، قال الواقدي: وكنت أنسيت هذا الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته.
قال أسامة يوم الفتح: يا رسول الله، أين ننزل غداً إن شاء الله؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من منزل؟ ثم قال: لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكفار؛ قيل للزبير: فمن ورث أبا طالب؟ قال: ورثه عقيل وطالب.
قال الثوري: وسمعت أبا عبيدة يقول: من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم.
قال أبو حاتم: سمعت أبا عبيدة يقول: إذا كان الملك محصناً لسره، بعيداً من أن يعرف ما في نفسه، متخيراً للوزراء، مهيباً في أنفس العامة، مكافئاً بحسن البلاء، لا يخافه البريء ولا يأمنه المذنب، كان خليقاً ببقاء ملكه.
شاعر: الطويل
وقد أشمت الأعداء طراً بنفسه ... وقد وجدت فيه مقالاً عواذله
ولم يزع النفس اللجوج عن الهوى ... من الناس إلا واحد العقل كامله
قال الهدادي: لم يقل هشام شعراً إلا بيتاً، وهو: الطويل
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
قال ابن المعتز: وكل مكروه ختم بمحبوب وانتهى إلى السلامة فالهم عنه زائل، والأجر عليه حاصل.
شاعر: السريع
أفرد من أهوى لأن الهوى ... توحيده أفضل من شركه
ولو أراد الله ستر الهوى ... ما سلط الدمع على هتكه
كتب رجل إلى أخ له يعذله على غلبة الهوى عليه فقال: من لم يكن في طبعه الاقتدار على نفسه بحسن سياستها، والانتصاف من هواها، منعه الحزم قيادة، وجاذبه الفهم خطامه، وحرمه الدهر حسن الذكر.
فأجابه المعذول: ليس كل من شاء انتصف من هواه، وقهر غضبه رضاه.
للهيثم بن خالد: المنسرح
ولي صديق ما مسني عدم ... مذ وقعت عينه على عدمي
بشرني بالغنى تهلله ... وقبل هذا تهلل الخدم
ومحنة الزائرين بينة ... تعرف قبل اللقاء في الحشم
وجد على ظهر كتاب من كتب ذي الرياستين بخطه: نسخته في الشهر الذي حين ننتقل إليه تكون النكبة التي نسأل الله دفعها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأتوكل على الله، والأغلب علي إن صح من حساب الفلك شيء أن الأمر واقع، فنسأل الله أن يثبت قوانا حتى ننتقل إلى داره التي وعدها الله أولياءه على خير سبيل.
لأبي البيداء الرياحي: الطويل
إذا ما أبو البيداء رمت عظامه ... وسرك أن يحيا فهات نبيذا
نبيذ إذا مر الذباب بدنه ... تقطر أو خر الذباب وقيذا
قال الأصمعي: مررت بكناس في بعض الطريق وهو ينشد الطويل
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها ... وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت: عن أي شيء أكرمتها وهذه الجرة على رقبتك؟ فقال: عن الوقوف على باب مثلك.
قال جعفر بن محمد: غسل علي بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا اجتمع الماء في جفون عينيه حساه علي.
قال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لإزالة الجبال أيسر من ملك مؤجل.
قال عبد الملك بن الحر: لما أدخل سعيد بن جبير على الحجاج قال: أنت الشقي بن كسير؟ قال: لا ولكني سعيد بن جبير، فقال الحجاج: اختر أي قتلة فإني قاتلك، فقال له: بل اختر أنت فهو قصاص.
قال جعفر بن بكر بن صاعد: سمعت شريكاً يقول رأيت أبا حنيفة يطوف على الحلق كأن لحيته لحية تيس.

قال عبد الملك بن عمير، قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أحداً أرأف برعيته ولا خيراً من أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ ولا رأيت أحداً أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله ولا أقوم بحدود الله ولا أهيب في صدور الرجال من عمر بن الخطاب؛ ولا رأيت أحداً أشد استحياء من عثمان بن عفان؛ ولا رأيت أحداً أشجع قلباً ولا أوسع علماً من علي بن أبي طالب؛ ولا رأيت أحداً أعطى للمال عن ظهر يد من غير سلطان أصابه من طلحة بن عبيد الله؛ ولا رأيت أحداً أحلم من معاوية؛ ولا رأيت أنصع ظرفاً ولا أسرع جواباً من عمرو بن العاص؛ ولا رأيت أحداً المعرفة عنده أنفع إلا المغيرة بن شعبة؛ ولا رأيت أحداً أحلم طبعاً ولا أخصب رفيقاً ولا أشبه سرا بعلانية من زياد بن أبيه.
قال حفص بن عتاب: سمعت الأعمش يقول قد رددتموها علي حتى صارت في فمي أمر من العلقم، ما أطفتم بأحد إلا حملتموه على الكذب.
كان ابن سيرين يحدث بالحديث فيقال: من حدثك؟ قال: قوم استكتموني أسماءهم ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فأنا أرى أن أكتم أسماءهم.
قال ابن شبرمة: كان طلحة يشبه بعضه بعضاً.
قال الشعبي: لو أصبت تسعاً وتسعين وأخطأت واحدة حملوا الواحدة.
قال وكيع: جئنا مرة إلى الأعمش، فحين سمع حساً قام ودخل، فلم يلبث أن خرج فقال: رأيتكم فأبغضتكم فدخلت إلى من هي أبغض منكم فخرجت إليكم.
قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين البطيخ والرطب.
يقال: يطبخ - بكسر الباء - وطبيخ؛ هكذا قال يعقوب.
قال مسعر: من أبغضني، فجعله الله محدثاً.
قال نافع: كان ابن عمر تأتيه الجوائز في كل عام من معاوية وابن عامر وأرزاق ما بين سبعة وسبعين ألفاً وثلاثة وثمانين ألفاً، ما يحول عليه الحول وعنده منها درهم.
وقع رجل في رجل في مجلس عطاء، فجاء ذلك الرجل إلى عطاء فقال: اشهد لي بما سمعت، فقال عطاء: ليس لك عندي شهادة، وإنما كانت أمانة.
قال الشعبي، قال عدي بن حاتم: لو قتل عثمان ما حبقت فيه عناق، فلما كان يوم الجمل فقئت عين عدي، وقتل ابنه طريف يوم الزبير، وهرب ابن له إلى معاوية، فقيل له: يا أبا طريف، هل حبقت في عثمان عناق؟ قال: أي والذي في السماء بيته، والتيس الأكبر.
قال الشعبي: كنية الدجال أبو يوسف؛ ولا أدري من أين له هذا.
قيل للمغيرة: إن آذنك يحابي، فقال: المعرفة تنفع عند الكلب العقور، والجمل الصؤول، فكيف بالرجل المسلم.
قال أبو السائب الهمذاني: سمعت أبا نعيم يقدم إدريس الخزاز إلى شريك عنده بشهادة فقال: أنت الذي تزعم أن الصلاة ليست من الإيمان؟ سمعت أبا حنيفة المتكلم يقول في مجلس: المرجئ إنما أخذ من الرجاء. ومر على الخطأ، وليس كما وهم، أي ذهب وهمه إليه، المرجئ مهموز، وتليين الهمزة جائز، وحذفها لغة، وقد قرئ " أرجه وأخاه " الأعراف: 111، ومعنى الكلمة التأخير. إن المرجئ مؤخر الكلام في عفو الله عن صاحب الكبيرة، والمعتزلي يقطع بتخليده في النار، وليس دخول الرجاء في المعنى على الاتساع بما نشتق الكلام منه في الإرجاء؛ الراجي غير المرجئ، والله تعالى يقول: " وآخرون مرجون لأمر الله " التوبة: 106 ومرجوون أيضاً، لا اختلاف في المعنى بين اللفظتين. المتكلم محتاج إلى معرفة الأسماء والصفات، ليكون كلامه عل أصل ممهود، وأساس موتود.
وقال ثعلب: تقول العرب في أيمانها: لا وقائت نفسي القصير، لا ومعيشتي يريد؛ والقائت من قولك: قات يقوت قوتاً، والقوت: ما يقتات به، والمقيت كالحافظ، هكذا قيل في قوله: " وان الله عل كل شيء مقيتاً " النساء: 85.
وقال ثعلب: تقول العرب: لا والذي خلق الرجال للخيل، وشق الجبال للسيل؛ لا والذي شقهن خمساً من واحدة، زعم أنه يراد بهذه اليمين أن الكف شقت منها الأصابع.
قال: وقال أيضاً: لا والذي وجهي أمم بيته، أي مقابل بيته، قال: ويقال: مرتهن على أمم من طريقتك.
قال ثعلب: وتدعو العرب على الإنسان فيقال: ماله آم وعام، وقد تفسير هذا، وأعيده أيضاً، أما آم: صار أيماً، والأيمة صفة تعتور الذكر والأنثى، وأما عام فمعناه صار مشتهياً للبن، كأنه دعا عليه أن يفتقر ولا يكون له لبن.
ويقال: ما له حرب وحرب، وجرب وذرب، وما له شل عشره، يراد الأصابع، وما له يدي من يده، وأبرد الله محه أي هزله، وأبرد الله غبوقه، أي لا كان له لبن حتى يشرب الماء.

قال ثعلب: ويقولون: قل خيسه، أي خيره، بالخاء منقوطة من فوق.
قالت الفلاسفة: فضائل النفس أربع وفضائل الجسد أربع: للنفس الحكمة، وللجسد بإزائها التمام والكمال؛ وللنفس العدل، وللجسد الحسن والجمال؛ وللنفس الشجاعة، وللجسد القوة؛ وللنفس العفة، وللجسد الصحة.
هذا كلام شريف واعتبار صادق، فكن جامعاً بين فضائل نفسك ومحاسن جسدك بالرغبة التامة في العلم، والنية الصادقة في العمل، والفكر الصحيح في الاستنباط، والعهد المحفوظ في العشرة، والخير المعمول في الخلوة، ولا تمكن الهوى من نفسك، واتهم كل من حسنه عندك فقربه إلى قلبك، وأروح روحك من حبس جسدك بكد جسدك.
قال أفلاطون: إذا أكثرتم جمع النساء في منازلكم انقسمت عقولكم، وإذا انقسمت عقولكم لم تقدروا أن تكونوا حكماء.
وكان أفلاطون إذا أراد تعليم تلامذته يمشي معهم إكباراً للحكمة.
يقال: ما الفقر، والأفر، والوفر، والزفر، والسفر، والضفر، والشفر، والعفر، والغفر، والكفر، والنقر، والذفر.
فأما القفر: فالمكان الخالي الذي لا نبات فيه، ومنه يقال: أكل خبزة قفاراً، إذا أكله بحتاً لا أدم معه. والأدم جمع، والإدام واحد، كقولك: كتاب وكتب. هكذا سمعت ممن يوثق به.
وأما الأفر فالعدو، يقال: أفر يأفر.
وأما الوفر فالمال، يقال: فلان ذو وفر أي ذو مال، ويقال: فر عرض فلان أي لا تدنسه، ووفرت عرضه - بخفة الفاء؛ وأما وفرت - بتشديد الفاء - ففي غير العرض، ومنه التوفير والاستيفار من الوفارة والوفور. والوفرة: شعر كالجمة.
وأما الزفر والزفير والزفر أيضاً: شد الشيء على إحكام.
وأما السفر فالمسافرون.
وأما الضفر فالفتل، يقال: ضفرت المرأة شعرها ولها ضفيرتان، والظاء فيه خطأ، والكتاب يقولون: نحن نتضافر على هذا الأمر، وهو صحيح، لأن المراد نتقابل أي نتفادى ونتعاضد. فأما الظاء فإن المعنى يستحيل لأنه يصير من الظفر، فكأنه يكون: هذا ظافر بهذا، وهذا ظافر بهذا، وليس الغرض ذلك.
وأما الشفر فإنه يقال: ما بالدار شفر أي أحد.
وأما العفر فالتراب، والعفر: البعد، يقال: لقيته على عفر أي على بعد.
وأما الغفر: فمصدر قولك: غفر الله لك غفراً، والغفر: زئير الخز - بكسر الزاي - وهو الصحيح، والغفر أيضاً هو الغطاء، والأصل التغطية، فإذا قلت: غفر الله لك، فكأنك قلت: ستر الله عليك ذنوبك، وكذلك الزئير، يقال: اصبغ الثوب فإنه أغفر للوسخ؛ كذا قال يعقوب.
وأما الكفر فالقرية، ومنه الخبر: يخرجكم الروم منها كفراً كفراً.
وأما النفر فمصدر نفر الناس إلى مكة في المنسك.
وأما الذفر فالنتن، ومنه: يا ذفار للأمة، مبنية، وهي خفيفة، يراد بها المنتنة.
قال بعض مشايخ البصرة: أتيت أبا عبد الله بن عرفة أيام حداثني وغرارتي لأثمر نفسي من فضله، وأحلي جوهري بأدبه، فلحظني متوهماً للنجابة، حاكماً علي بحسن الاستجابة، وقال لي: يا بني هل لك حاد مستحث على طلب العلم؟ فقلت: نعم، فقال: قل نعم، فإن النعم الإبل والبقر، وأراد نشري وبسطي بهذا الرد، قال: أي أقوى في نفسك أن تعلم الحلال والحرام، أو أن تتعمق في الكلام، أو أن تواصل هذا الأدب والبيان؟ فقلت: بل مواصلة الأدب، فقال: ما اختال سحابك ولا خلب برقك، فقال: أما إنك إذ أبيت إلا ذلك لما تجد في طباعك من النزاع إليه، والاشتمال عليه، فخذ من الشعر القديم أفصحه، ومن الخبر المأثور أملحه، واستغن بجليل النحو عن دقيقه، وليكن علمك اللغة، واحرص أن تعلم، ولا تحرص أن ترسم، واكتف بأدنى علمك، ولا تترأس على من دونك، بل إن كان معه شيء فأره أنك دونه حتى تأخذه منه، فإن من استعجل الرياسة قبل حينها ذل.
قال أبو حاتم، قال أبو عبيدة: لا تردن على أحد خطأ في حفل فإنه يستفيد منك ويتخذك عدواً.

هذا آخر الجزء السادس وهو مقطع الكتاب، وقد غرست فيه وصايا شريفة، وحكماً عزيزة، وآداباً غريبة، وأصولاً قوية، وفروعاً بديعة، متى ذللت بروايتها لسانك، وشحذت بحفظها طباعك، وراسلت بمحاسنها سجراءك، وثقفت بأحسنها نفسك، وحبرت بعيونها آدابك، كنت مخصوصاً بالسعادة، معاناً بالتوفيق، متفقاً عليه في الفضل، مشاراً إليه بالنبل، مدركاً نهاية الأصل، مجتنياً ثمرة العمر، رفيعاً عند السلطان، بهياً بين الإخوان، مخيباً عند الخصوم. والذي لا أمل تكراره عليك وإعادته عليك: الزهد في هذه الدار المؤوفة، والحذر من العاقبة المخوفة، والبدار إلى ما أراح الروح من كد الجسم، وأودع النفس روح الخلد، فنيل كل شيء عداه جلل، وطلب كل ما سواه خلل. قرن الله تعالى الهداة بنا وبك، وأفرغ التوفيق علينا وعليك، ورضي عنا وعنك، وجملنا وإياك بالتقوى، وختم لنا ولك بأحمد العقبى.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصواته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه وسلامه.
//بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعن

الجزء السابع
هذا أبقاك الله هو الجزء السابع من بصائر الحكماء وذخائر الأدباء، وهو يطلع عليك بوجهٍ مشوف، وطراز مكشوف، ينفح من أردانه الطّيب، وينطق عن نفسه بألفاظٍ كأنها حواشي برد، أو مقاطف ورد، فقد اختصر فقراً بديعةً، ولمعاً ثاقبةً، وآداباً جمّةً، وحكماً نافعة، لم أقنع لك بتدوينها دون تبيينها، ولا بطرحها دون شرحها، ولا بتزويرها دون تقريرها، ولا بتنميقها دون تحقيقها، تلقّفتها من لسان الدهر، والتقطتها من اختلاف الليل والنهار، وأخذتها من الصّغار والكبار، ومن يهب الله له عيناً وموقاً، وقلباً علوقاً، ولساناً نطوقاً، سمع ووعى، وقال ورعى، نسأل الله من فضله، إنه ذو الفضل والمجد.
وكان بعض أهل الشّرف والأدب نظر فيما ارتفع من هذا الكتاب فقال لي: لقد شقيت في جمعه، قلت: لو قلت: لقد سعدت في جمعه لكان أحلى في عيني، وألوط بقلبي، وأولج في منافس روحي. قال: إنك جمعت بين الفضل والهزل، وبين العلم والجهل، ومن شمّر في كتاب تشميرك. وكدّ فيه كدّك، نفى المنفيّ واختار المختار، فالعطن يضيق عن تمام العزم في مطالعة الكلمة السخيفة واللفظة الشريفة، ومن مزج هذه بهذه كمن مزج الشراب الصافي بالكدر، وبما يكدّره ويعنّي شاربه ويمنع من تورّده والارتواء به. فقلت له معتذراً بلسانٍ ذي كلول، وحدٍّ ذي فلول: أيها السيد الجحجاح والفاضل المنّاح، لو تمكنت من هذا الرأي لما صددت عنه ولا آثرت عليه؛ لكنّي لمّا اقتبست ذلك من تصفّح العالم واستريته من مسألة العالم. أخذته على ما عنّ وجرى. وهذا أيّدك الله كلام رجلٍ لم يذق حلاوة البيان، ولا ظفر بعزّ الحجة، ولا فرّق بين ما يعانيه من جهة الهزل، وبين ما يكلّفه من جهة الجدّ، وال علم أن هذا الظّرف لذلك المتاع، وهذا التبسّم لذلك الوجوم، وهذا النّطف لتلك الدماثة، وهذه الهيبة لذلك الانبساط، وهذه الرياضة لتلك العافية، ومن كان معجوناً من أخلاط، ومركّباً على اختلاف، وأسيراً للعوارض، فلا بدّ في كلّ حركةٍ وسكون، وقولٍ وعمل، ونقص وكمال، وفضيلةٍ ورذيلة، من محبوبٍ يناله، ومكروهٍ ينال منه.
نرجع إلى سمرنا فقد تباعدنا منه: اعلم أني قد ختمت هذا الجزء بجملةٍ من كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، سوى ما سار في جريدة الكتاب، إذا بلغت إليها، وأشرفت عليها، علمت أنّي منحوس الحظّ من زماني، محسودٌ بين أصفيائي وإخواني، لأني لا ألقى آخذاً بفضلي، ساتراً لنقصي، ومتى بتّ القضاء على العالم بادعاء ما لا يحسنه، وجزم عليه الحكم بالعجز عما لا يقوم به، فقد سقطت بيّنته فيما يحسن، وبارت بضاعته فيما يتصرّف، وإنما الإنصاف إذا فقد الإسعاف، وأن يكون الثناء على قدر البلاء، والتقريع على قدر التضجيع. لا تكذب، فما السعيد إلا من نظر الله تعالى إليه، ونقله سعيداً إلى ما لديه.

اللهمّ لا تحرمنا السلامة إن منعتنا الغنيمة، ولا تحوجنا إلى منازلة خلقك في إبطال باطلٍ وتحقيق حقّ، وتولّنا بالكفاية، واحرسنا بالعصمة، واغمرنا بالرحمة. اللهمّ أنت مناط الهمّة، ومنتهى البال، وصفاء النفس، وخلصان الرّوع، ووليّ النعمة في الأولى والآخرة. نعوذ بك من أملٍ نزداد به إثماً، ومن استدراجٍ نكتسب به ظلماً، ومن طاعةٍ يشوبها رياء، ونعوذ بك من كل ما أبعد عنك، وأيأس منك.
تأهّب أيها الرجل لأمرين جسيمين، لا أمان لك إلا بهما، ولا نجاة لك إلا معهما: لعلمٍ يهديك إلى الله، وعملٍ ينجيك من الله، فبالعلم تقصد وبالأعمال تصل، وبالعلم تعرف وبالعمل تجزى، ولا تستغن بقول من قال: عليك بجمع المال فما المرء إلا بدرهمه، فالمال عرض والعلم جوهر، والجوهر ما قام بنفسه والعرض ما ثبت بغيره، والعلم من قبيل العقل والمال من قبيل الجسم، والجسم فانٍ وتابعه معدوم، والعقل باقٍ وصاحبه موجود، وشهادة المال زورٌ وشهادة العلم حقيقة، وبيّنة كاذبة المال وبيّنة العلم صادقة؛ والعلم يحتاج إلى المال ولكن للزينة، والمال يحتاج إلى العلم ولكن للتمام، فكم حاجتك إلى ما يزينك بعد كمالك؟ اعلم أن الأقطع يحتاج إلى كمٍّ لقميصه لا ليتمّ ولكن للزينة. ولا تطلب العلم إلا بعد أن تعشق الحقّ عشقاً، وتموت على الحجّة موتاً، وتنفر من الباطل نفوراً، وتمقت الشّبهة مقتاً، فعند ذلك ترى منالك منه، وراحتك به أتمّ من تعبك عليه؛ وحينئذٍ ترى العمل زاداً، والإخلاص عتاداً. وأسّ هذه الفضائل وقاعدة هذه المحاسن الزّراية على نفسك، والتودّد إلى بني جنسك، والإقبال على يومك دون الأسف على أمسك، وقطع حبائل الدنيا عن قلبك، والتوجّه في السرّ والجهر إلى ربّك، وبعض هذا كافٍ لمن سبقت له من الله الحسنى، وأمّل حسن العقبى. ففرّوا إلى الله تعالى جميعاً ودعوا مزابل الدنيا لكلابها المتناهسة، فإنّ الدنيا تنكل طالبها، وتغصّ شاربها، وتذبح عاشقها والغالي في حبّها.
أنا سمعت بدوياً من ناحية فيدٍ حين قتل الوزير ابن برمويه يقول لصاحبٍ له: أعندك الخبر؟ قال: لا والله؛ قال: إنّ هذا الوزير الشّرير قد ذبح، قال: ما تقول؟ قال: هو ما أقول لك، ثم أطرق هنيهةً وقال: والله ما علا حتى ساخ، ولا غلا حتى باخ؛ نعوذ بالله من سوء العاقبة وشماتة ابن العم، وعثار الإنسان لليدين والفم؛ والله من قتل قتل، ومن أكل أكل.
أرى أن أجعل فاتحة هذا الجزء فقراً من كلام رسول الله صلّى الله عليه وأله وصحبه وسلّم، وهو الكلام الذي يتلو كتاب الله بهاءً وحسناً، ومنفعةً وخيراً، وحكمةً وبلاغةً، وهو الكلام الذي إن فاته من القرآن عينه فلم يفته أثره، وإن بعد عنه في آيته لم يبعد في دلالته، وهو الكلام الذي فيه: نور الحقّ يلوح عليه، وسناء الهدى يقتبس منه.
قال صلّى الله عليه وآله: " أشرف الحديث كتاب الله؛ وأوثق العرى تقوى الله؛ وخير الملل ملّة إبراهيم عليه السلام؛ وأحسن السّنن سنّة محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وأشرف الحديث ذكر الله تعالى؛ وأحسن القصص هذا الكتاب؛ وخير الأمور عواقبها؛ وشرّ الأمور محدثاتها؛ وأحسن الهدي هدي الأنبياء؛ وأشرف القتل قتل الشهداء؛ وأعظم الضّلالة ضلالةٌ بغير هدّى؛ وخير الهدى ما اتّبع؛ وشرّ العمى عمى القلب؛ واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى؛ وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى؛ ونفسٌ تحييها خيرٌ من إمارةٍ لا تحصيها؛ وشرّ الندامة ندامة يوم القيامة؛ وشرّ الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا سحراً؛ وخير الغنى غنى النفس؛ ورأس الحكمة مخافة الله؛ والنّوح من عمل الجاهلية؛ والغلول من حرّ جهنم، والشعر مزامير إبليس؛ والخمر جوامع الإثم؛ والنساء حبائل الشيطان؛ والشباب شعبةٌ من الجنون؛ وشر المكاسب الرّبا؛ وشر المآكل أكل مال اليتيم؛ والسّعيد من وعظ بغيره؛ والشقيّ من شقي في بطن أمّه؛ وشرّ الرّوايا روايا الكذب؛ وكلّ ما هو آتٍ قريب؛ وسباب المؤمن فسوقٌ وقتاله كفر، وحرمة ماله كحرمة دمه " ؛ هكذا وجدت هذا الحديث نفعنا الله وإياك به.

قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: الدنيا وإن طالت قصيرة، والماضي للمقيم عبرة، والميت للحيّ عظة، وليس لأمسٍ مضى عودة، ولا المرء من غده على ثقة، وكلٌّ بكلًّ لاحق، واليوم الهائل لكلٍّ آزف، وهو اليوم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون " إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ " . اصبروا على عملٍ لا غنى بكم عن ثوابه، وارجعوا عن عملٍ لا صبر لكم على عقابه؛ إن الصبر على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذابه. اعلموا أنكم في نفسٍ معدود، وأملٍ ممدود، وأجلٍ محدود، ولا بدّ للأجل من أن يتناهى، وللنّفس أن يحصى، وللسّبب أن يطوى " وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين " .
انظر إلى انتثار اللؤلؤ في هذا الفصل، فإنك ترى ما يعجب: صدقاً في المعنى وترتيباً في اللفظ، وكلّ كلامه حلوٌ بليغٌ جزل شريف، يأخذ من البراعة أبهى شعارها، ويرتقي إلى أشرف درجاتها، إلا ما يلفّقه المبطلون فتنسبه إليه، فإنك تجد في ذلك أثر التكلّف، ولو حفظ عليه ما له من المحاسن لاستغني عن افتعال الباطل ودعوى الزّور.
وسمعت أبا العباس القنّاد الصّوفي يقول: سمعت بدوياً ورد من المنتهب يقول لابنه: يا بني كن سبعاً خالساً أو ذئباً خانساً أو كلباً حارساً وإياك أن تكون إنساناً ناقصاً.
قال بعض السّلف: يسخّي بنفس العاقل عن الحظوة في البلاغة ما يخاف عيب المنطق، فإذا اضطرّه الأمر إلى ما لم يجد معه بدّاً من المنطق، اقتصر على الجملة دون التفسير.
قال فيلسوف: من مدحك بما ليس فيك فلا تأمن بهته لك، ومن أظهر شكر ما لم تأت إليه فاحذر من أن يكفر نعمتك.
ارتع في رياض هذه الآداب والحكم؛ وإذا فقدت العقول قوتها من الحكمة ماتت موت الأجساد عند فقد الطّعام.
قال الفيلسوف: ارتفاع موضع العقل على سائر الحسّيّات التي هو المدبّر لها كارتفاع العينين على سائر الأعضاء.
قال فيلسوف: ليس متعمّد الذّنب كالمخطئ، ولا المكره عليه كالطائع، ولا المحتاج إليه كالغنيّ، ولا المعطي من قلّةٍ كالمعطي من سعة، ولا الجائر محكّماً كالجائر غير محكّم، ولا الخائن مؤتمناً كالمقتطع من غير أمانة، ولا الحالف على الكذب مصبوراً أو الشاهد بالباطل منصوصاً كمن لا ينص الشهادة ولا يصبر اليمين.
كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذا نطر الهلال قال: اللهمّ اجعلنا أهدى من نظر إليه وأذكر من طلع عليه.
قال فيلسوف: ليس ينبغي أن يمنع من معاشقة النّفس النّفس ولكن من معاشقة البدن البدن.
وقال الحسن: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال: لا تصلّها رياءً ولا تدعها حياءً.
هذه إشارةٌ مليحة، لكن الشائع من تأويله غيره.
قال عبد الحميد الكاتب: تعلّمت البلاغة من مروان بن محمد: أمرني أن أكتب في حاجةٍ إلى أخٍ له فكتبت على قدر الوسع، فقال لي: اكتب ما أقول لك: بسم الله الرحمن الرحيم، أما آن للحرمة أن ترعى، وللدّين أن يقضى، وللموافقة أن تتوخّى؟.
قال بقراط: الجسد كلّه يعالج على خمسة أضرب: ما في الرأس بالغرغرة، وما في المعدة بالقيء، وما في أسفل المعدة بالإسهال، وما بين الجلدين بالعرق، وما في العمق وداخل العروق بإرسال الدم.
قال رجلٌ من آل زياد لعارمٍ البصري: يا ابن الزانية! قال: تعيّرني ما ساد به أبوك؟ قال الزّيادي: يا غلام، خذ برجله، فقال: أي غلمانك؟الذي يخلفك في أهلك، أم الذي يأتيك من خلفك؟! سمعت من يقول في قوله تعالى " وإن منكم إلا واردها " هو مثل قوله " حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيّبةٍ " .
أخذ عمر بن الخطّاب في التوجّه إلى الشّام، فقال له رجلٌ: أتدع مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم؟ فقال: أدع مسجد رسول الله لصلاح أمّة رسول الله، ولقد هممت أن أضرب رأسك بالدّرّة حتّى لا تجعل الرّدّ على الأئمّة عادةً فيتّخذها الأخلاف سنّة.
وقال ابن الأشتر العلويّ الكوفي: سمعت الكندي يقول المسترسل موقّى، والمحترس ملقّى.
قال سعيد بن العاص: لا تكلّف راجيك خدمة المطالبة.
قال أعرابيّ: إنّ الله تعالى يمتحن بالمنّة عليك المنّة منك.
كتب رجل إلى آخر: أما بعد، فإن استطعت أن لا تكون لغير الله عبداً، وأنت لا تجد من العبودية بدّاً، فافعل.
دعا أعرابيٌّ فقال: اللهمّ إنّي أعوذ بك من نزول الشرّ وسوء الفهم.

قال ابن أبي حفصة الشاعر للحسن بن شهريار: بلغني أنّك يا أبا علي تنيك غلامك هذا الليل؛ فقال الحسن: وأنا بلغني أنه ينيكك بالنّهار. إنما حمد الصّمت عند هذه المواضع، والجواب منصور.
قيل للرّضا عليه السلام: إن إبراهيم يحلف أنّ أباه موسى حيٌّ؛ قال: أيموت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم ولا يموت موسى؟ ثم قال: العجب أن الله يكرم بهذا الدّين العجم أولاد الدّهاقين ويصرفه عن قرابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
عزّي السائب بن الأقرع عن ابنٍ له فقال: هكذا الدنيا: تصبح لك مسرّةً وتمسي مساءة.
قال صالح المرّي: أتيت أبا عمران الحربي، فقرّب إليّ الفالوذج، فقلت: يا أبا عمران، أما تخشى أن يكون هذا من الطّيّبات؟ فقال: يا صالح، الماء البارد أطيب منه.
قال الرّضا عليه السّلام لغلامه: اشتر لنا من اللحم المقاديم ولا تشتر من المآخير، فإن المقاديم أقرب من المرعى وأبعد من الأذى.
قال معاوية: من ولّيناه شيئاً من أمورنا فليجعل الرفق بين الأمانة والعدل.
لسع زنبورٌ عروساً في ليلة زفافها في فرجها، فقالت الماشطة: من، ولمن، وفي أيّ مكان، وأيّ ليلة! قال الجمّاز: قلت لرجلٍ رمد العين: بأيّ شيءٍ تداوي عينك؟ قال: بالقرآن ودعاء الوالدة؛ قلت: اجعل معهما شيئاً يقال له العنزروت! قال فيلسوف: ليس في الناس أحدٌ إلا وفيه شبهٌ من شجرةٍ أو دابةٍ، فمنهم الغشوم كالأسد، والخاطف كالذّئب، والخبّ كالثعلب، ومنهم حسن المنظر غير محمود المخبر كشجرة الدّفلى، ومنهم المحمود الظاهر الرّديء الباطن كالثّمرة المرّة؛ ومنهم الرديء الظاهر المحمود الباطن كالجوزة، ومنهم المحبّب إلى كلّ أحدٍ كالأترجّة الجامعة مع الحسن طيب الطّعم والرّيح واللّون.
قال بعض السّلف: الحزن مدهشةٌ للعقل مقطعةٌ للحيلة؛ إذا ورد على العاقل من المكاره ما يحتاج معه إلى الحيلة، قمع الحزن بالحزم.
قال فيلسوف: لا يعدّ الملك الكذوب ملكاً، والناسك الخادع مليكاً، والأخ الخاذل أخاً، ومصطنع الكفور منعماً.
قال فيلسوف: بعد الجاهل من أن يلتحم به الأدب كبعد النار من أن تشتعل في الماء.
قال فيلسوف: إذا كان العالم غير معلّمٍ قلّ غناء فعله وعلمه، كما يقل غناء المكثر البخيل.
قيل لأعرابي: مذ هنت دقّت محاسنك؛ قال: أي والله، ومساوئي.
قال فيلسوف: العقل صنفان: أحدهما مطبوعٌ والآخر مسموع؛ فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، فلا يخلص للعقل المطبوع عملٌ ولا يكون له غناءٌ دون أن يرد عليه العقل المسموع فينّبهه من نومه، ويطلقه من عقاله، ويستخرجه من مكامنه، كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض.
قال أعرابيّ: يكتفي اللّبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل؛ إذا دخلت الموعظة أذن الجاهل مرقت من الأخرى.
قال أعرابيّ: سيرة الصالح زينةٌ لعقبه، وحياة الفاجر فضيحة الدهر.
قال بعض الفرس: كما أن من السّحاب ما ينقشع عن غير مطر، فكذلك وعد الكذوب من غير وفاء؛ وكما أنّ الإكثار نم الأكل غير رفقٍ من الآكل، فكذلك الإكثار من النطق غير رفقٍ من المتكلّم، وكما أن الحمار البليد لا يخفّ راكبه إلا بالعصا، فكذلك الجاهل لا يقبل الأدب إلا من حذر الضّرب.
قال فيلسوف: يمنع الجاهل أن يجد ألم الحمق المستقّر في قلبه ما يمنع السّكران من ألم الشّوكة تدخل في يده.
قال ابن المبارك: عند تصحيح الضّمائر يغفر الله الكبائر.
أراد الرّشيد الخروج إلى القاطول، فقال يحيى بن خالد لرجاء بن عبد العزيز وكان على نفقاته: ما عند وكلائنا من المال؟ فقال: سبعمائة ألف درهم؛ قال: فتسلّمتها يا رجاء. فلما كان من الغد، غدا إليه رجاءٌ فقبّل يده، وعنده منصور بن زياد، فلما خرج قال يحيى بن خالد لمنصور: قد توهّم الرجل أنّا قد وهبنا له المال، وإنّما أمرناه بتحصيله عنده لحاجتنا إليه، فقال منصور: أنا أعلمه ذلك؛ قال: إذاً يقول لك: قل له يقبّل يدي كما قبّلت يده فلا تقل له شيئاً، وقد تركت المال له.
لعبد الله بن الحسن: الطويل
تخوّفني بالقتل يوماً وإنّني ... أموت إذا جاء الكتاب المنزّل
إذا كنت ذا سيفٍ ورمحٍ مصمّمٍ ... على سابحٍ أدناك ممّا تؤمّل

فإنّك إن لم تركب الهول لم تنل ... من المال ما يكفي الصّديق ويفضل
قيل لابن الجهم بعدما أخذ جميع ماله: أما تفكّر في زوال نعمتك؟ لا بدّ من الزّوال، فزوال نعمتي وأبقى خيرٌ من زوالي وتبقى.
مرّ بعض الأنبياء عليهم السّلام برجلٍ قد نبذه أهله من شدّة البلاء، فقال: يا ربّ، لو عافيت عبدك! فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ذلك النبي: أتحبّ أن أنقله إلى غير حاله؟ فأتاه فسأله فقال: أتحبّ أن ينقلك الله عمّا بك من البلاء؟ فقال: من تمنّى على الله عزّ وجلّ أبى ذلك منه.
شاعر: مجزوء الرمل
سامح الدّهر إذا ع ... زّ وخذ عفو الزّمان
ربّما أعدم ذو الحر ... ص وأثرى ذو التواني
فصل لي: وأنا أعوذ بالله من انتحال الشّره مع إضمار الحرص، وإظهار مقت المنافقين مع استشعار الغشّ، والانتساب إلى الكرم والجرية مع الأفعال الدنيّة والأخلاق الرديّة؛ وأعوذ بالله من انتحال المحاسبة مع إهمال النّفس، وادّعاء التحصيل مع إطلاق اللّسان، وشدة الرهف مع كلال الحسّ، والتشبّث بسلامة الصدر مع لؤم الطّبع.
يقال: ظهر فلان بحاجتي، أي نسيها، وأظهرنا بكذا، أي انتهينا إليه في الظّهيرة؛ وإبل فلانٍ ترد ظاهرةً إذا وردت كلّ يومٍ نصف النهار، واسم هذا الظمء: الظاهرة؛ وظاهر فلانٌ فلاناً إذا مالأه وصار معه.
أتي معن بن زائدة بثلاثمائة أسيرٍ من حضرموت، فأمر بضرب أعناقهم، فقام منهم غلامٌ حين سال عذاره فقال: أنشدك الله تقتلنا ونحن عطاشٌ، فقال اسقوهم؛ فلما سقوا قال: اضربوا أعناقهم، فقال الغلام: أنشدك الله أن تقتل ضيفانك، قال: أحسنت، وأمر بإطلاقهم.
قال أعرابي في وصف رجل: أنت والله ممن إذا سأل ألحف، وإذا شئل سوّف، وإذا حدّث حلف، وإذا حلف أخلف، وإذا صلّى اعترض، وإذا ركع ربض، تنظر نظر الحقود، وتعترض اعتراض الحسود.
نظر رجل لحياني إلى صبيٍّ ومعه سكّين فقال: أفزعه وآخذ السكّين، ففزّعه بلحيته، فقال الصبي: لا بأس عليك، ليس أذبحك! أصيب رجلٌ في سجن الحجّاج قد حبس عشرين سنةً، فنظر في قصّته، فإذا هو قد بال في رحبة واسط، فقال المنتوف: والله لو أحدث في الكعبة ما استحقّ أكثر من هذا! ضرط رجلٌ بحضرة امرأته فقالت: أما تستحي؟ فقال: إنما أردت أونسك.
في أمثال العرب: قيل لجملٍ: أيما أحبّ إليك: تصعد أو تنزل؟ فقال: ذهب الاستواء من الأرض؟! قال الأحنف: ربّ بعيدٍ لا يفقد خيره، وقريبٍ لا يؤمن شرّه.
يقال: شرّ مالك ما لزمك إثم مكسبه، وحرمت لذة إنفاقه.
يقال: يجد البليغ من ألم السّكوت ما يجد العييّ من ألم الكلام.
قال عبد الله بن ثعلبة: أمسك مذمومٌ فيك، ويومك غير محمودٍ لك، وغدك غير مأمونٍ عليك.
قال ابن المبارك: أدركت أهل العلم وفاتني أهل الأدب.
قال الحسن: إنّ الله تعالى يعطي العبد مكراً به، ويمنعه نظراً له.
رأيت ابن خفيف الصّوفي وقد سئل عن دعاء الإنسان " اللهمّ لا تؤمّنّا مكرك " . قال: الواجب " اللهم أمّنّا مكرك " فإن الله تعالى يقول " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " .
هذا فصلٌ لطيف ولعلّي أعيده إن شاء الله.
قال الحسن: من لم يمت فجأةً مرض فجأةً.
قال المتوكّل لأبي العيناء: إلى متى تمدح الناس وتذمّهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤوا.
وقال الحسن بن سهل: من جهل حرمة إنصافك لم يرع حقّ إفضالك.
قال الخليل: رغبتك في الزّاهد فيك ذلّ نفس، وزهدك في الراغب فيك قصر همّة.
قال عمر بن عبد العزيز: لولا أنّ ذكر الله تعالى عليّ فرضٌ ما تفوهت به تعظيماً له.
قد رأيت من ترك العبادة البتّة وقال شبيهاً بهذا المعنى: زعم أنّ الله تعالى أجلّ من أن يتوسّل إليه بشيء.
ولهذا القائل شركاء في أصناف الناس، لكنّه كان على حلية الصوفيّة، ولولا أنّ هذا الكتاب تذكرةٌ لجميع ما حوته الأذن وحفظه القلب وثبت في الكتب على طول العمر ما جاز إفشاء هذه الأسرار على رؤوس الأشهاد، ولكن الغرض سليم من الآفة، والله وليّ الرحمة والرأفة.
قال العتّابي: لمّا رأيت الأمور العالية مشوبةً بالمتالف، اخترت الخمول ضنّاً مني بالعافية.
قال ابن لبابة: من طلب عزّاً بباطل أورثه الله تعالى ذلاًّ بحقّ. هذا من حرّ الكلام.
وقال فيلسوف: العدوّ الضعيف المحترس أحرى بالسلامة من القويّ المغترّ.

قال فيلسوف: المحدّث خادمٌ والمحدّث مخدوم.
قال ابن المبارك: طلبت العلم للدنيا فدلّني العلم على ترك الدنيا.
قال فيلسوف: إذا وقع شيءٌ لعلّةٍ زال بزوالها، وإذا وقع لغير علّةٍ فهو الذي يبقى.
قال عبد الملك: لا تلحفوا إذا سألتم، ولا تبخلوا إذا سئلتم.
قال حاتم الطائيّ لغلامه: قدّم إلينا مائدة تباعد ما بين أنفاسنا.
أراد رجلٌ أن يقبل يد هشام فقال: مهلاً، ما فعله من العرب إلا طمع، ومن العجم إلا طبع.
قال رجل للمنصور: أعطني يدك أقبّلها، قال: إنّا نصونك عنها ونصونها عن غيرك.
قال الكميت لذي الرّمّة: كيف ترى تشبيهي؟ قال: إذا شبّهت قاربت، وإذا شبّهت طبّقت؛ قال: لأنك شبّهت ما رأيت وأنا شبّهت ما سمعت، فإذا قاربت فقد بالغت؛فقال ذو الرّمة: هذا هو الحقّ.
قال ابن طباطبا العلوي في كتاب عيار الشعر: التشبيهات على ضروبٍ مختلفة، فمنها تشبيه الشيء بالشيء صورةً وهيئةً، ومنها تشبيهه به معنىً، ومنها تشبيهه به لوناً، ومنها تشبيهه به صوتاً، ومنها تشبيهه به حركةً وإبطاءً وسرعةً. وربما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعضٍ، فإذا اتفق في الشيء المشّبه بالشيء معنيان أو ثلاثة معانٍ من هذه الأصناف قوي التشبيه، وتأكد الصّدق، وحسن الشعر، للشّواهد الكثيرة المؤيّدة له.
وقال أيضاً: أما تشبيهه الشيء بالشيء معنىً لا صورةً فتشبيه الجواد الكثير العطاء بالبحر والحيا، وتشبيهه الشجاع بالأسد، وتشبيه الجميل الرواء الباهر بالشمس والقمر، وتشبيه المهيب الماضي في الأمور بالسّيف، وتشبيه العالي الهمّة بالنّجم، وتشبيه الحكيم بالجبل، وتشبيه الحييّ بالبكر، وتشبيه العزيز الصّعب المرام بالمتوقّل في الجبال، وتشبيه أضداد هذه المعاني بأشكالها على هذا القياس، كاللئيم بالكلب، والجبان بالصّفرد، والطائش بالفراش، والذّليل بالنّقد والوتد، والقاسي بالحديد والصّخر. وقد فاز قومٌ بخلالٍ شهروا بها في الخير والشرّ، وصاروا أعلاماً فيها، فربما شبّه بهم فيكونون في المعاني التي احتووا عليها وذكروا بشهرتها نجوماً يقتدى بهم، فأصبحوا أعلاماً يشار إليهم، كالسّموأل في الوفاء، وحاتمٍ في السماحة، وقسٍّ في الفصاحة، ولقمان في الحكمة، فهم في التشبيه يجرون مجرى ما قدّمت ذكره من البحر والجبل والشمس والقمر والسيف، ويكون التشبيه بهم مدحاً كالتشبيه بها، وكذلك أضداد هؤلاء القوم المذمومين فيما شهروا به في حال الذمّ - كما شبّه بهؤلاء في حال المدح - كباقلٍ في العيّ وهبنّقة القيسيّ في الحمق والكسعيّ في الندامة والمنزوف في الجبن ضرطاً.
قال بعض الأدباء لمغنّية: أنت أحسن من جنى الورد ومن نجاز الوعد.
قرأ الكنديّ كتاباً من صنعة ابن الجهم فقال: هتك ستر العافية عن عقله.
قال الواثق لابن أبي داود: كان عندي الساعة ابن الزّيات فذكرك بقبحٍ، فقال: الحمد لله الذي أحوجه إلى الكذب عليّ ونزّهني عن قول الحقّ فيه.
قال الجاحظ: دخلت على عليّ بن عبيدة الرّيحاني عائداً فقلت له: يا أبا الحسن ما تشتهي؟ فقال: أعين الرقباء وأكباد الحسّاد وألسن الوشاة.
لعليّ بن عبيدة هذا كتاب يسمّونه المصون يحوي آداباً حسنة وألفاظاً حلوة. وكان بخراسان مع المأمون، وشغف أهل خراسان بكلامه. وكان من الظرفاء، وتنسّك آخر عمره.
قال الشافعي: اغتنموا الفرص فإنها خلسٌ أو غصص؛ معناه: خلسٌ عند الدّرك وغصصٌ عند الفوت.
انظر إلى هذا الإيجاز والإبلاغ.
قال النظام: الذهب لئيمٌ، يدلّك عليه مصيره إلى اللئام، والشيء يقع إلى شكله وينزع إلى جنسه.
قال عمر بن الخطّاب: يحتاج الوالي إلى أن يستعمل مع رعيّته في عدله عليها الإحسان إليها، فلو علم الله تعالى أنّ العدل يسع الناس لما قرن الإحسان به فقال " إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان " .
قيل لأعرابيّ: أتحسن أن تدعو ربّك؟ قال: نعم، قيل: فادع، فقال: اللهمّ إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك، فلا تحرمنا الجنّة ونحن نسألك.
كتب عليّ بن عبيدة إلى صديق له: كان خوفي من أن لا ألقاك متمكّناً، ورجائي خاطراً، فإذا تمكّن الخوف ظننت، وإذا خطر الرجاء خفت.

قال الجاحظ: رأيت أربعة أشياء عجيبة: رأيت رجلاً يسأل الناس ويستقري بيوت الحمّام بيتاً بيتاً، يأخذ مواعيدهم إلى أن يخرجوا؛ ورأيت معلّماً يعلّم الصّبيان القرآن والصّبايا الغناء؛ ورأيت حجّاماً رافضياً يحجم إلى الرجعة نسيئةً من فرط إيمانه؛ ورأيت أربعة حمّالين يحملون جنازةً كلما أعيوا وضعوها عن رؤوسهم وجلسوا يتحدّثون حتى بلغوا شفير القبر.
قيل لأبي سعيد وهو مهموم: ما هذا الذي أثّر فيك؟ قال: دنيا لا تؤاتي، وآخرةٌ لا يعمل لها، وأجلٌ ينقضي، وذنوبٌ لا تحصى.
قال فيلسوف: الدنيا تطلب لثلاثة أشياء: للغنى والعزّ والراحة، فمن زهد فيها استغنى، ومن قنع عزّ، ومن قلّ سعيه استراح.
قال أحمد بن إسماعيل الكاتب: حركات الإنسان ملحوظة، وأعماله محفوظة، وتصرّفه بين وليّ مشفقٍ وعدوٍّ مطرق، وللسانه فلتات، ولقلبه هفوات، ومن الهمّة ما يسمو به ويرفعه، ومنها ما يعرّه ويضعه، وإن لم يحذر زواجره أوبقت دينه وأنغلت أديمه.
قال ابن المقفّع: تعلّموا العلم، فإن كنتم ملوكاً فقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سوقةً عشتم.
قال الفضل الرّقاشي: علامة السّكران أن تعزب عنه الهموم، ويظهر سرّه المكتوم.
سمعت بعض أصحاب أبي حنيفة - وكان خراسانياً - يقول وقد جرت مسألة السّكر وحدّه: حدّ السكران أن لا تعرف الأرض من السّماء، ولا الفرو من القباء، ولا الطاعة من الإباء.
قال العتبي: لا سبيل إلى العقل المستفاد إّلا بصحبة العقل المركّب.
قال الفضل بن سهل: الرأي يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسد ثلم الرأي.
قال ابن المقفّع: من أدخل نفسه فيما لا يعنيه أبتلي فيه بما يعييه.
قال الإسكندر: دفع الشرّ مجازاة، ودفع الشرّ بالخير مكرمة.
قال الحسن: رحم الله عبداً كسب طيّباً، وأنفق قصداً، وقدّم خيراً.
قال العباس لابنه: أنت أعلم مني وأنا أفقه منك.
قال المأمون: من أعمال البرّ التي لا ترتفع إلى الله تعالى شعر طاهرٍ في الزّهد.
قيل للشاعر المعروف بالجمل: لم لم تمدح سليمان بن وهب وهو والٍ ومدحته وهو معزول؟ فقال عزله أكرم من ولاية غيره، وإنما أمدح كرمه لا عمله، وكرمه معه وليّ أم عزل.
قال رجل لعائشة: متى أكون محسناً؟ قالت: إذا علمت أنك مسيء، وتكون مسيئاً إذا ظننت أنك محسن.
قال أبو الدرداء: العالم والمتعلّم شريكان في الأجر، والقارئ والمستمع شريكان، والدالّ على الخير وفاعله شريكان.
قال أبو حنيفة صاحب النّبات: النّسب أصل الرجل، والحسب فعله.
أبو حنيفة هذا من كبار الناس وعلمائهم، وكان ثقةً مأموناً زاهداً حكيماً، وكان بدويّ الكلام، رفيع الطبقة؛ ولد بالدّينور ومات بها.
قال الجاحظ: ما رأينا ملاّحاً متغيّر النكهة لإدمان أكل الصّحناء.
وقف غيلان على ربيعة فقال: أنت الذي تزعم أنّ الله يحب أن يعصى؟ قال: فأنت الذي تزعم أنّ الله تعالى يحبّ أن يعصى قسراً؟! انظر إلى المعنى كيف يتردد في هذا الكتاب عن السّلف بألفاظ مختلفة، والحقّ في ذلك قائم، وهو سرٌّ من أسرار الله والخلق، لا ينكشف إّلا لمن كان صافي القلب من الهوى، قابلاً لما دعا إلى الهدى.

اعلم أنّ الحقّ قد تولاّك بإرادتين: إرادةٌ منك وإرادةٌ بك، فأما إرادته منك فإنّه أبانها لك بلسان التكليف والتّوقيف، وأما إرادته بك فإنه لواها عن كلّ تعريف وتكييف، ثم أقامك بينهما على حدٍّ أزاح فيه عللك، وأوضح إليه سبلك، ثم ساق حقوقك إليك، ثم أثبت حجّته عليك، فلم تبق بقيةٌ تقتضيها آلاء الإلهية بلسان الحكمة وتستوجبها العبودية في حال الحاجة إّلا أدناك إليها، وأناف بك عليها، فإن قابلت الأمر بالائتمار، والنهي بالانتهاء، والدعاء بالإجابة، والهداية بالاهتداء، فقد صادفت إرادته منك وإرادته بك، واستحققت بمصادفتك إرادته منك بالأمر والنّهي ما وعدك، وإن أعرضت عن الأمر عاصياً، وركبت النهي مجترئاً، واستخففت بحقّه متمّرداً، فقد نفذت إرادته بك، وتمّ علمه فيك، ولكن ثبتت حجّته عليك لما أسلفك من التّمكين وأعارك من الطّاقة، وليس لك أن تحتجّ في المقام الثاني بعلمه فيك وإرادته بك، لأن هذا بابٌ كان خافياً عنك مطوياً، ولم تكن محتاجاً إليه، ولا متعلّقاً به، ولا مستحقاً له، فقد بان لك أنك لم تدخل بعلمه فيما نهاك عنه، ولا كانت إرادته بك علّةً لك في معصيتك، لأنّ هذه الإرادة من هذا العالم تكشف لك بعد موافقتك النهي ومجانبتك الأمر، وقبيحٌ بك أن تركب ما تركب جاهلاً بالحجّة، حتى إذا تمّ ركوبك، وتقضّى عليه زمانك، وعلاك النّدم، ولزمك التعقّب، أحلت أمرك على علمه فيك وإرادته بك، هلاّ وقفت عن قبول أمره وسماع نهيه حين أمر، ونهى وزجر، ودعا وبيّن، وهلاّ قلت: إلهي، لم تزح علتي بما أعرتني من القوة، وخلقت فيّ من الطاقة، وأسلفتني من التّمكين، وعرّفتني من الأخبار، فأنا صائرٌ مع هذا كلّه إلى ما أنت عالمٌ به؛ ومتى فعلت هذا وقلته، علم العقلاء أنّك متجنٍّ، لا تحبّ صلاحاً، ولا تتقي فلاحاً، وأنك مقترحٌ اقتراحاً، إن صحّ لك سقط عنك لسان الأمر والنّهي، وزال باب المدح والذم، واستغني عن الثواب والعقاب، وكنت جماداً لا تخاطب ولا تعاتب، وعريت من جلباب معرفة الله عزّ وجلّ، وجهلت نعم الله عندك، وعميت عن حكم الله تعالى فيك، ومن بلغ هذا المكان أسقط عن مكلّمه مؤونة البيان، وعن نفسه كلفة التبيين، وكان في عداد الجاهلين بالله، السّاخطين لنعم الله، المتعّرضين لعقاب الله تعالى. فافتح - حفظك الله - بصرك، وانتصف من هواك، وفارق إلفك، وتنزّه عن تقليدك، وحص عن المعرفة، لائذاً بالله تعالى، مستعيناً به، فهو وليّ خلقه، ناصر اللاجئين إليه.
واعلم أن الله خلقك، ورزقك وكمّلك، وميّزك وفضّلك، وأضاء قلبك بالمعرفة، وفجّر فيك ينبوع العقل، ونفى عنك العجز، وعرض عليك العزّ، وبيّن لك الفوز، بعد أن وعدك وأوعدك، وبعد أن وعظك وأيقظك، وبعدما حطّ عنك ما أعجزك عنه، وأمرك بدون ما أقدرك عليه؛ وإنما حاشك بهذا كلّه إلى حظك ونجاتك، وعرّضك به لسعادتك وخلاصك. أفتجسر من بعد هذه النعمة المتوالية، وهذه الآلاء المتتالية، أن تتوهّم أنه اقتطعك عن مصلحتك أو بخل عليك برأفتك؟ إنّ هذا لا يظنّ بوالدك الذي نسبته إليك عارية، وإضافتك إليه مجاز، فكيف تظنّ بإلهٍ أنعمه تسابق أنفاسك، وأياديه تفضل عن حاجتك، وعفوه يمحو إساءتك، وإقالته ترفع عثرتك، وإزاحته تتقدم علّتك، وصنعه يزيد علثاً قداحك، وعطاؤه يفوت امتياحك، إن أطعته فحظّك تحرز، وإن عصيته فإلى نفسك تسيء، جعلنا الله وإياك من العارفين بحقّه، الطالبين لمرضاته.
قال الرّياشي: قال أبو عبيدة: اجتمع أربع نفر: شرويٌّ وشاميٌّ وحجازيٌّ ونجديٌّ فقالوا: تعالوا ننعت الطعام إيّه أطيب. فقال الشاميّ: أطيب الطعام مويدة موسعةٌ زيتاً، آخذ أدناها فيضرط أقصاها، تسمع لها وجباً في الحنجرة كتقحّم بنات المخاض في الجرف، قال الشرويّ: أطيبالطعام خزيرٌ في يوم قرّ، على جمّة عرّ، موسعٌ سمناً وعسلاً. قال الحجازيّ: أطيب الطعام حيس طيس بإرساله خمس، يغيب فيه الضّرس. قال النجديّ: أطيب الطعام بكرةٌ سنمة، معتبطةٌ نفسها غير ضمنة، في غداةٍ شبمة، بشفارٍ خذمة، في قدورٍ حطمة، قال النجديّ: دعوني أنعت لكم الأكل، قالوا: قل؛ قال: إذا أكلت فابرك على ركبتيك، وافتح فاك، واجحظ عينيك، وأخرج أصابعك، وأعظم لقمتك، واحتسب نفسك.
كان ابن عمر إذا سمع هذا يضحك.
وأنشد: الوافر
وأعلنت الفواحش في البوادي ... وصار الناس أعوان المريب

إذا ما عبتهم عابوا مقالي ... لما في القوم من تلك العيوب
وودّوا لو كفرنا لاستوينا ... وصار الناس كالشيء المشوب
وكنّا نستطبّ إذا مرضنا ... فصار سقامنا بيد الطّبيب
فكيف نجيز غصّتنا بشيءٍ ... ونحن نغصّ بالماء الشّروب
قال عليّ بن عيسى: لا يجوز أن يكون التّمكين من القبح قبيحاً، ولو وجب ذلك لكان التّمكين من الحسن حسناً، فيكون حسناً قبيحاً، وهذا متناقض.
قال أبو العيناء: ما أخجلني قطّ إّلا رجلٌ دخل إليّ وقد ولد لي مولودٌ وعندي منجّم يعمل مولده، فقال: أيّ شيءٍ يعمل هذا المنجّم؟ فقلت: يعمل مولداً لابني هذا، فقال: سله قبل هل هو منك؟ يقال: ما خلق الله تعالى شيئاً أطيب من الرّوح، ألا ترى أنها إذا كانت في الجسم كان طيّباً، وإذا خرجت منه صار ميتاً؟ قال الجمّاز: رأيت بالكوفة رجلاً وقف على بقّال، فأخرج إليه رغيفاً صحيحاً فقال: أعطني به كسباً وبصرفه جزراً.
وقف رجل على القنّاد الصوفي وسأله عن المحبّة فقال القنّاد: قد جاءني برأسٍ كأنها دبّة، ولحيةٍ كأنها مذبّة، وقلبٍ عليه مكبّة، يسألني المحبّة، وقيمته حبّة.
قال عبد الحميد الكاتب: لا تركب الحمار فإنّه إن كان فارهاً أتعب يدك، وإن كان بليداً أتعب رجلك.
يقال: إذا كتبت فقمّش، وإذا حدّثت ففتّش.
شاعر: الوافر
أتيأس أن يقارنك النجاح ... فأين الله والقدر المتاح
قيل لرجل: من يحضر مائدة فلان؟ قال: الملائكة، قال: لم أرد ذاك؛ من يواكله؟ قال: الذّباب.
كتب بعض السّلف: أما بعد، فإنّ الجواد مودود، والفاضل محمود، والحاسد مكدود، والحريص مجهود، والكريم مقصود.
مدح أعرابيٌ رجلاً فقال: كان والله إذا أضاع الأمور مضيعها وأزورّ عن الحسناء ضجيعها، يهين نفساً كريمةً على قومها، غير مبقيةٍ لغدٍ ما في يومها؛ وكان أموراً بالخير نهوّاً عن الشرّ.
قال الأصمعي: النّهيك الشجاع، وهي النّهاكة؛ ونهك فلانٌ في بني فلان إذا وقع فيهم وبلغ منهم؛ ونهكه المرض، واستبانت عليه نهكة المرض؛ ونهك هذا الطعام أي بالغ في أكله.
ويقال: تركت فلاناً مبلوغاً مشتركاً أي مهموماً؛ والكلأ في بني فلانٍ شركٌ أي طرائق مستطيلة؛ واحدها شراكٌ؛ وبيني وبين فلان شركةٌ وشركٌ سواء؛ وأشرك فلانٌ نعله وشرّكها؛ وأشرك فلانٌ فلاناً في البيع؛ ومالٌ فيه أشراكٌ، واحدها شرك، بمنزلة أعدال وعدل، وشركه في الأمر: دخل فيه معه.
ويقال: مررات بحّرةٍ فيها فلوقٌ، أي شقوقٌ وصدوعٌ، وهي أرضٌ فيها حجارة سود؛ وحرّة مضرّسة إذا كانت فيها أحجار ناتئةٌ، كالأضراس؛ وفلان ضرسٌ شرسٌ أي صعب الخلق. هذا كله عن الأصمعي. وإنما أمرّ باللغة على قدر ما يصادف منه سماعي ومحفوظي، فلا يضيقنّ صدرك، فكلّ هذا فائدةٌ وأدب وبراعة وحكمة.
لما قتل كسرى بزرجمهر أراد أن يتزوج ابنته، فقالت للثّقات: لو كان ملككم حازماً ما أدخل بين شعاره ودثاره موتورةً.
قال فيلسوف: لا تفرطوا في طلب الحوائج فإنّ العجل إذا ألحّ على أمّه بمصّ الثّدي رفسته.
كاتب: كم بقاء حالٍ تذوب ولا تثوب، وتتلف ولا تخلف.
شاعر: الطويل
ولا بدّ من شكوى إذا لم يكن صبر
يقال: إن الله عزّ وجلّ إذا استرذل عبداً زهّده في العلم.
قال فيلسوف: إني لأتعجب جداً من أمرين، أحدهما أمر الطبيعة، مع شرفها في نفسها، وترتيبها لمرادها، واستمرارها على عادتها في نظم ما تنظمه، وإصلاح ما تصلحه - كيف أبت طاعة النّفس وعصت أمرها - مع تلطّف النفس في دعائها وحسن فطنة الطبيعة في اهتدائها، والآخر أمر النفس: لقد شغفت بالطبيعة حتى انقادت لها في بعض المواضع فهلكت بانقيادها إليها ومظاهرتها، حتى آلت إلى عالمٍ مظلم دنسٍ. فقد عرضت التعجّب: تارةً من النفس كيف لا تستغني عن الطبيعة وتارة من الطبيعة وكيف لا تقتدي بالنفس، وما هذه الحال التي أورثت النفس الهلاك والطبيعة البوار؟ قيل لطبيب: ما يذهب بشهوة الطّين؟ قال: زاجرٌ من عقل.
قيل لراهب: ما أصبرك على الوحدة؟ قال: أنا جليس ربيّ، إذا شئت أن يناجيني قرأت كتبه، وإذا شئت أن أناجيه صلّيت.
دخلت عزة على أم البنين فقال: اصدقيني عن قول كثيّرٍ فيك: الطويل
قضى كلّ ذي دينّ فوفّى غريمه ... وعزّة ممطولٌ معنًّى غريمها

ما هذا الدّين؟ قالت: وعدته قبلةً فحرجت منها، قالت: أنجزيها وعليّ إثمها.
يقال: أحسن كلمةٍ للعرب: فقد الأحبة غربة.
136ب - قال المنصور للقّواد: صدق القائل: " جوّع كلبك يتبعك " ، فقال له حميد الطّوسي: لكن إن لوّح له برغيفٍ يتركك.
قال الحسن لأبيه عليهما السلام: أما ترى حبّ الناس للدنيا؟ قال عليه السلام: هم أولادها أفيلام المرء على حبّ والدته؟ قال عيسى بن منصور: دعاني المعتصم فقال: أنت القائل ولي مصر مثل ابن طاهر من نظراء طاهر قلت: نعم، فاستحسنه وولاّني مصر.
وصف رجل صنعاء فقال: بلغ من طيب ترابها أنّ الرجل يسجد فلا يشتهي أن يرفع رأسه.
قال بعض الحكماء: الشّيب علّةٌ لا يعاد منها وهي غليظة، ومصيبة لا يعزّى عنها وهي جليلة.
قدم رجلٌ من اليمامة فقيل له: ما أحسن ما رأيت بها؟ قال: خروجي منها.
مدح رجل البخل فقال: كفاك من كرم الملائكة أنه لم يبلهم بالنّفقة وقول العيال: هات! هات! قال الفضل بن سهل: القرآن لا يبلغه عقلٌ ولا يقصّر عنه فهم.
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: القرآن فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم.
وسئل عن اللسان فقال: معيارٌ أطاشه الجهل، وأرجحه العقل.
قال عمر بن عبد العزيز: لو كنت في قتلة الحسين وأمرت بدخول الجنّة لما فعلت، حياءً من أن تقع عيني على عين محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم.
قال بعض الرافضية: سمّيت فاطمة فاطمة عليها السّلام لأنّ الله تعالى فطم بحبّها من النار.
قال جعفر بن محمد عليه السلام: صحبة عشرين يوماً قرابةٌ.
قيل لابن عباس: أيجوز أن يحلّى المصحف بالذّهب؟ فقال: حليته في جوفه يعني القرآن.
قال ابن مكّرم لأبي العيناء: بلغني أنّك مأبونٌ، فقال: مكذوبٌ عليّ وعليك.
اجتمع الجاحظ والجمّاز بالبصرة فقال الجمّاز للجاحظ: كم ناراً في اللغة؟ قال الجاحظ: نار الحرب، ونار الشرّ، ونار الحباحب، ونار المعدة، والنار المعروفة. قال: تركت أبلغ النيران وأوسعها، قال: وما ذاك؟ قال: نار حر أمّك التي إذا ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قال الجاحظ: أمّا نار أمّي فقد قضيت أنّ لها خزّاناً؛ الشأن في نار حر أمّك التي يقال لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ قال عليّ بن أي طالب عليه السّلام: الدّنيا والآخرة كالمشرق والمغرب، إذا قربت من أحدهما بعدت من الآخر.
قال رجلٌ لضيغم العابد: أشتهي أن أشتري داراً في جوارك حتى ألقاك كلّ وقت؛ قال: المودّة التي يفسدها تراخي اللقاء مدخولةٌ.
كتب رجلٌ إلى صديق له: مثلي هفا ومثلك عفا.
قال رجلٌ للنبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم: إني أحبّ من القرآن " قل هو الله أحد " قال: " بها تدخل الجنّة " .
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: حسن الجوار عمارة الدّيار.
قال رجلٌ للحسن البصريّ: هل للقاتل توبةٌ؟ قال: نعم؛ ثم جاءه آخر فقال: هل للقاتل توبةٌ؟ قال: لا؛ فقيل له في ذلك فقال: توسّمت في الأول أنه قد قتل فقلت نعم، وتوسّمت في الثاني أنه يريد أن يفعل فقلت لا.
قال إسحاق: قلت للرّشيد: الحمد لله عليك، قال: ما معنى هذا الكلام؟ قلت: نعمة حمدت الله تعالى عليها.
مرّ ابن عمر براعٍ فقال له - وكان الراعي مملوكاً - : أتبيعني شاةً؟ قال: ليست لي، قال: فأين العلل؟ قال: فأين الله؟ فاشتراه وأعتقه، فقال العبد: اللهمّ قد رزقتني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر.
قال أبو الهذيل للحسن بن سهل: من ذا الذي قد رفعت منزلته؟ قال: منجّمٌ، فأخذ تفاحةً من المجلس فقال للمنجّم: انظر إليها آكلها أم لا؟ فقال: تأكلها، فرمى بها، فقال المنجّم: خذها من الرأس، فأخذ غيرها، فقال: لم لم تأخذها؟ فقال: أخاف أن تنظر فتقول: لا آكلها، فإن رميت بها أصبت، وإن أكلتها كانت التي قلت، فتصيب.
قال العطوي: قلت لجاريةٍ: أشتهي أن أقتلك، قالت: لم؟ قلت: لأنك زانية. قالت: يجب قتل كلّ زانية؟ قلت: نعم، قالت: فعليك بمن تعول.
وقدّم إلى عبادة رغيفٌ يابسٌ فقال: هذا نسج في أيام بني أميّة وقد آمتحى طرازه.
قيل لعبّادة: ابن أبي العلاء المغّني عندنا عليل اليد، بم يضرب عليه؟ قال: ضرسه.

قال أحمد بن الطّيب: كان الكنديّ يستحلي جارية، فقال لها يوماً: إن الأفلاك العلوية تأبى بك إّلا سموّا في الهيولية. وكان كبير اللحية، فقالت: إن العثانين المسترخيات، على صدور أهل الرّكاكات، بالحلق مؤذنات.
قال عليّ بن يحيى المنجّم: كان للمتوكّل بيت مالٍ يسمّيه بيت الشمال، كلّما هبّت تصدق بألف درهم.
وقال الكنديّ لرجل: أنت والله ثقيل الظّلّ، مظلم الهواء جامد النّسيم.
قال أنس بن مالك: قلت لشخصٍ رأيته في النوم: من أنت؟ قال: ملكٌ من ملائكة الله، قلت: فما اسم الله الأكبر؟ قال: الله، ثم تلا " يا موسى إنّي أنا الله " .
جزعت عائشة عند الموت، فقيل لها في ذلك، فقالت: اعترض يوم الجمل في حلقي.
سئل أبو جعفر الشاشي وأنا حاضر: من الغريب؟ فقال: الذي يطلبه رضوان في الجنّة فلا يجده، ويطلبه مالكٌ في النار فلا يجده، ويطلبه جبريل في السموات ولا يجده، ويطلبه إبليس في الأرض ولا يجده، فقال أهل المجلس وقد تفطّرت قلوبهم: يا أبا جعفر، فأين يكون هذا الغريب؟ قال: " في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ " ، فضجّ الناس بالبكاء. فكان يتصرف ويتكلم بالرقائق ويحوش القلوب إلى باب الخير وكان مع هذا يتجاهل ويقول ما لا محصول معه ولا فائدة فيه، وكان يقبل على ذلك ويفدّى.
قال أبو العباس البخاري - ورأيته ببخارى في آخر أيّام نوح وأول أيّام عبد الملك، وأنا إذ ذاك صغير، لكنّي حفظت ما قال، وورد الرّيّ في سنة سبعٍ وخمسين وثلاثمائة وكان يقول: أحفظ ستّين ألف حكايةٍ للزّهّاد والنّساك - : قال مالك بن دينار: لو كنت شاعراً لرثيت المروءة.
قال بعض المغفّلين وقد جرى ذكر الصّحابة: أنا لا أعرف إّلا الشّيخين: الله والنبيّ.
قال جعفر بن محمد عليهما السلام: كفّارة عمل السّلطان الإحسان إلى الإخوان.
كان سعيد بن وهب من الظّرفاء، وكان خليط أبي العباس الفضل بن يحيى والفضل بن الربيع، قال الفضل بن الربيع: صحبني سعيدٌ على البطالة فأودعته مالاً عند النكبة ظننته أنه لا يرجع إليّ أبداً، ثم طلبته منه، فأتى به والله بخواتيمه، وخاننا من كان عندنا أوثق منه. ثم دخل قلبه فحجّ ماشياً وقال: الرمل
قدميّ اعتورا رمل الكثيب ... واطرقا الآجن من ماء القليب
ربّ يومٍ رحتما فيه على ... نضرة الدنيا وفي وادٍ خصيب
وسماعٍ حسن من محسنٍ ... صخب المربع كالظّبي الرّبيب
فاحسبا ذاك بهذا واصبرا ... وخذا من كلّ فنٍّ بنصيب
إنّما أمشي لأنّي مذنبٌ ... ولعلّ الله يعفو عن ذنوبي
سئل عمر بن عليّ عن الوصية فقال: إن هذا شيءٌ ما سمعناه حتى دخلنا العراق.
قال المنصور لابن عيّاش المنتوف: لو تركت لحيتك طالت، أما ترى عبد الله بن الربيع ما أحسنه؟ قال: أنا أحسن منه، قال عبد الله: أما ترى هذا الشيخ يا أمير المؤمنين ما أكذبه؟ فقال ابن عياش: يا أمير المؤمنين، احلق لحيته وأقمه إلى جانبي ثم انظر أيّنا أحسن، فضحك المنصور حتى استلقى.
قال رجل لأبي حازم: إنّ الشيطان قد أولع بي يوسوس لي أنّي قد طلّقت امرأتي؛ فقال له: أنا أحدّثك أنّك قد طلقتها؛ قال: سبحان الله يا أبا حازم، قال: فتكذّيني وتصدّق الشيطان؟! قال: فانتبه الرجل وذهبت وسوسته.
قيل لأعرابيّ: من أجدر الناس بالصّنيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا حرم صبر، وإذا قدم العهد ذكر.
قيل لأعرابيّ: من أكرم الناس غرّةً؟ قال: من إذا قرب منح، وإذا بعد مدح، وإذا ظلم صفح، وإذا ضويق سمح.
قيل لأعرابيّ: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك خنع، ظاهره جشع وباطنه طبع.
دخل أعرابيّ مليحٌ على يزيد بن المهلّب، فقال له وهو على فراشه والناس سماطان: كيف أصبحت أيها الأمير؟ فقال يزيد: كما تحبّ، فقال: لو كنت كما أحبّ كنت أنت مكاني وأنا مكانك، فضحك منه يزيد ووصله.
- كان هشام لا يقول برؤية الحركة، فلما ذهب بصره قال: الحركة ترى.
حاجّ معلّم آخر فقال: أين في القرآن " حمل " تعني، فقال الآخر: ألا " من حمل ظلماً " وقال له: أينّ في القرآن " حسن " بمعنى فقال: " فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ " .

وأخطأ رجلٌ عند رقبة بن مصقلة فقال: تياسرت عن الصواب، فضحك، فقال له رقبة: لقد عجبت من ضحكك من غير عجبْ، وصمتك من غير تفكّرٍ؛ أما الله ما وجهك بالوجه المستصبح، ولا حديثك بالحديث المستملح، ولا أنت بذي السّخاء المستمنح، فقال الرجل: فعلى مثلي إذن يسلح! فأضحك من حضر.
قال الأعمش لإبراهيم النّخعيّ: ما أعلم عندك شيئاً إّلا وقد أخذته؛ قال: فما تقول في امرأةٍ ورثت مالاً من زوجها كلّه؟ قال: لا ادري؛ قال: هذه امرأةٌ أعتقت عبداً ثم تزوجته ثم مات، فورثت الرّبع بالتزويج والباقي بالولاء.
قال غلام ثمامة له: قم صلّ واسترح! قال: أنا مستريحٌ إنّ تركتني.
قال رجل لثمامة: يجوز أن تؤخّر ما قدّم الله تعالى وتقدّم ما أخر الله عزّ وجلّ؟ قال: هذا على ضربين: إن أردت أن أصيّر رأس الحمار ذنبه فلا، وإن أردت أن أقدّم معاوية على علىً عليه السلام فنعم.
وقال له رجلٌ: يا ثمامة، ما تقول في رجلٍ لطم عين رجلٍ فقلعها، أظلمه؟ قال: نعم؛ قال: فما بال الله يذهب بعينه ولا يظلمه؟ قال: لأنّ الله تعالى أعطاه عينين فأخذ واحدةً، وأنت فلم تعطه شيئاً، وإنّ الله تعالى يعوّضه؛ قال: فأنا أعوّضه خمسة آلاف درهم، قال: الفرق أنّ الذي عوّضه الله تعالى لا يمكن أحداً أن يأخذه، وما عوّضته تقدر على أخذه.
187ب - العلّة في هذه المسألة - فيما سمعت عن العلماء - غير ما ذكر ثمامة، وذلك أنّ ثمامة قال: لأنّ الله تعالى أعطاه عينين وأخذ واحدةٍ إنه لا يقول قد يعمى من عينيه دفعةً واحدة؛ وقال أيضاً: فإن الله تعالى يعوّضه، قال: فأنا أعوّضه؛ قال: الفرق كذا وكذا، والفرق لا يغني عنه شيئاً، لأن التعويض قد حصل! وأصحاب التناسخ إذا سمعوا العوض طاروا عجباً.
187ج - وسمعت بعضهم يقول: ولم وجب أن يفعل ما هو شنيعٌ في النّظر وقبيحٌ في العقل من أجل التعويض؟ ومن طالبه بالعوض؟ ومن رضي أن يهان ويؤذى ويفقر ويسلب النعمة وتتوالى عليه المحن على أن يعوّض في الآخرة؟ قال: وهل هذا إلا كمن يصفع آخر، فإذا غضب المصفوع وأنف واستشفع الناظرون إليه قال الصافع: فإنّي أعوّضه وأكرمه وأخلع عليه وأهب إليه. فقيل لهذا الرجل: فهو استصلاح لزيدٍ - أعني ما نزل بعمرٍ ومن البلوى والمحنة وشتات الأهل وشماتة العدى؛ قال: وهذا أيضاً لم وجب؟ هل هو إلا كقّراد يضرب الكلب ليرقص القرد، فإذا رقص وبلغ منه مراده طرح للكلب كسرةٍ وأحسن إليه مستأنفاً؟ وكان يقول: فأين النّظر الذي يقتضيه الكرم؟ أين الواجب الذي يقتضيه العدل؟ وكان يومي بهذا إلى أن كلّ هذا جزاءٌ وقصاص، لأن خالق هذا الخلق غنيٌّ عن آلامهم وفجائعهم، وإنما اكتسبوا على الأيام ما جوزوا به فكوفئوا عليه.
187د - والجواب عن الذي مرّ به ثمامة أنّ فاقئ عين زيدٍ وآخذ مال عمروٍ متعدٍّ حدود الله الذي خلقه ورزقه، وأمره ونهاه، وبالتعدّي استحقّ اسم الظّلم واستوجب العقاب. ألا ترى أنه لما أطلق له ذبح الحيوان كان غير ظالمٍ لأنّه راعى الأمر ووقف مع الإباحة وأتى المأذون فيه، فلما تجاوز الرسم وتعدّى المحدود سمّي بالعاجل ظالماً، واقتصّ منه في الآجل عدلاً؛ وليس كذلك إلهنا عزّ وجلّ، لأنّه خلق زيداً وكان له أن لا يخلقه، ثم وهب له ما رأى متفضّلاً، ثم عرّضه للنعيم الدائم كرماً، ثم ابتلاه اختياراً، ثم قبضه إليه نظراً، ولم يتعدّ في ذلك أمر آمر ولا زجر زاجر، بل تصرّف في ملكه بعلمه وقدرته، غير مسؤولٍ عمّا فعل، ولا معترضٍ عليه فيما أتى، ولو كانت أفعاله موقوفةً على تجويز عقلك وإباحته، وإطلاقه وإجازته، لكان ناقص الإلاهية، لأنّه كان لا يفعل إّلا ما أذن فيه العقل.

واعلم أنّ العقل، وإن كان شريفاً، فإنه خلق الله، حكمه منوط بخالقه، وحاجته إلى الخالق كحاجة الناقص للعاقل، والنّقص لا حقٌ به وجائزٌ عليه، وإنما هو ضياءٌ بيننا وبين الخالق، به نتعاطى ونتواطى، ونتعامل ونتقابل، وعلى مقداره نفصل ونعدل، وبهدايته نرشد ونكمل، فأما أن يكون العقل حكماً بيننا وبين الله تعالى: ما أجازه الله حسن فعله وما أباه قبح فعله، فهذا ما لا يكون. كيف يكون هذا وهو إلهٌ من قبل العقل والعاقل والمعقول، وإنما أبدع هذه كلّها داعيةً إليه لا معترضةً عليه، وواصلةً به لا قاطعةً عنه، ودالةً على قدرته لا مضلّةً عن حكمته، ومتيقّنةً لما بان لا شاكّةً فيما أشكل. وما أحسن ما قاله أبو زيد البلخي، قال: العقل آلةٌ أعطيناها لإقامة العبودية لا لإدراك الرّبوبية، فمن طلب بآلة العبودية حقيقة الرّبوبية فاتته العبودية ولم يحظ بالرّبوبية.
أين يذهب بهؤلاء القوم؟ أما يعلمون أنه كما يرد على العين ما يغشى بصرها من نور الشمس، كذلك يرد على العقل ما يغشى بصيرته من نور القدس؟ ما أحوج هؤلاء المدلّين بعقولهم، الرّاضين عن أنفسهم، العاشقين لآرائهم، أن ينعموا النّظر، ويطيلوا الفكر، ولا يسترسلوا مع السانح الأوّل، ولا يسكنوا إلى اللفظ المتأوّل، ولا يعوّلوا على غير معوّل.
وأنت - حفظك الله - لو أردت أن تقف على أسرار ملك زمانك، وعلى خفايا أمر سلطانك، وعلى حقائق أحوال إخوانك، لم تستطع ذلك ولم تقدر عليه، على أنهم أشكالك وبنو جنسك، أو ليس قد علمت أن الملك لو وقف حارس داره على ما يقف عليه وزير مملكته، واطلّع من دون بابه على ما يطلّع عليه من دون شعاره، لكان ناقصاً مرذولاً، ولم يكن فاضلاً ولا مفضولاً، وأنّ الحال التي قد لبسها، والأمر الذي قد اعتنقه يقضي كتمان أشياء عن جميع الأولياء، وإفشاء أشياء إلى جميع الرعايا، وطيّ أشياء عن بعض الخواصّ، ونشر أشياء على بعض العوام، ولو تساوت رتب جميع الناس معه شركوه في الملك، وكان ذلك داعية الهلك، وأن لو بسط الجميع إلى معرفة ما غيّب ساووه في الإلاهية، وهذا محال، ولو حسم الأطماع عن معرفة ما يمكن لكان غير داعٍ إلى نفسه، ولا حائش إلى أنسه، ولا باعثٍ على الإقرار بالإهيته، والإعتراف بربوبيّته، فأودع العقول ما تمّت به العبودية، ودفع عنها ما تعلّق بالإلاهية، ثم أمدّها بالإحسان والتفضّل على دائم الزمان. فمن ظنّ أنه قد جهله من جميع الوجوه أبطل، لأن آثاره ناطقةٌ بالحقّ، وشواهده قائمةٌ بالصّدق، تقود العقول إلى الإقرار بالاضطرار والاختيار؛ ومن ظنّ أنه قد عرفه من جميع الوجوه أبطل، لأنّ الله تعالى لا يستوفى بمعرفة عارفٍ كما لا ينفى بحيرة واقف: إن جحدته فأنت مكابر، وإن ادّعيت الإحاطة به فأنت كافر ولكن بين ذلك قواماً، فإنه أهدى لقلبك، وأربط لجأشك، وأطرد لشكّك، وأنفى لوحشتك، وأبعد لنفورك، وأجلب لطمأنينتك، وأقرب إلى ما تضمّن الأمر، ووقف عنده النهي.
واعلم أنه لو كشف الغطاء عنك أعظمت الله - جلّت عظمته - عن سير عقلك فيه، وتسليط وهمك عليه، وظنّك أن لو فعل كذا لكان أجمل، ولو لم يفعل كذا لكان أفضل؛ إنك في واد، تحلم في رقاد، وتقدح بغير زناد.
هيهات لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، ولا سائل عن فعله، ولا باحث عن سرّه، ولا معارض لأمره، جلّ عما يجوز على خلقه، مما هو أولى بحقيقته؛ له الخلق والأمر، " ذلكم الله ربّكم فاعبدوه " " مخلصين له الدّين " ، فاعرفوه بعلم اليقين، وكونوا من وعده على نظر، ومن وعيده على خطر، والسّلام.
سأل رجلٌ من أصحاب أبي حنيفة الشافعيّ عن مسألةٍ، فقال له: أخطأت، فقال الشافعيّ: لو كنت في موضعك ثم كلّمتك مثلما كلمتني لاحتجب إلى أدبٍ، فاستحسن الناس كلام الشافعي.
وكان الشافعي بحراً ثجاجاً وسراجاً وهّاجاً، وكان من سراة الناس مع الشرف والسّخاء والبيان والعفّة والفقه العجيب ونصرة الحديث، مع الورع والدّيانة والسّتر، والأمانة والعفّة والنزاهة وظلف النفس والنزاهة، حتى إنه ما رؤي ممن تعاطى الفقه وبنى عليه مثله بياناً وعلماً وفهماً، وسمّي ببغداد ناصر الحديث لحسن مخارج تأويلاته.

وكان أبو حامد يقول: لو ذهب الناس كلّهم مذهب أبي حنيفة لم يكن للشريعة نورٌ ولا للسّنة ظهور؛ قال: وذلك أنّ الحديث في مذهبه قليل، كما أنّ القياس والرأي والاستحسان كثير، والفقه قاعدته معرفة سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستنباط الأحكام من قوله وفعله في جميع أوقاته.
وكان أبو حامد يقول: لولا محمد بن الحسن وأبو يوسف وجانباهما من السلطان، لذهب هذا المذهب وبطل، وكان يقول: لولا أنّ الشافعيّ أتى بالواضحة والجليّة وبما ليس عليه غبار، كيف كان يشيع ويقبل وينصر - وقد استقّر الفقه بمالكٍ وأبي حنيفة وأصحابهما - على قصر عمره وبعده من السلطان وزهده في الدنيا؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكان أبو حامد قليل الطّعن على أئمة الشريعة - أعني أعلام الدّين وأرباب الفقه، وكان على ذلك كثير الطّعن على المتكلّمين، يقول: لعبوا بدين الله عزّ وجلّ، وهتكوا حجابه، وكشفوا غطاءه، وأراقوا ماءه، وجلحوا الوجوه، وجرّوا القلوب، وبثوا الشكوك، وكثّروا المسائل، وأطالوا الألفاظ، ولبّسوا على الناس.
سئل عمرو بن عبيد عن كنائس اليهود وبيع النّصارى في دار الإسلام فقال: لست أمسك عن هدمها حتى أوتى بالحجّة، ولكن أهدمها حتى أوتى بالحجّة، لأنّ كونها منكرٌ حتى أعلم أنه معروفٌ وليس بمعروفٍ حتى أعلم أنه منكر.
وكان عمرو بن عيد يقول: كن مع السائل فإنه المستخرج، والمسألة علّة الجواب، وليس الجواب علّةٌ للمسألة. وكان واصل يقول: كن مع المجيب.
تقدم اثنان إلى عيسى بن حمزة، فاستطال أحدهما فقال: إياك وقبائح القول، فقال: إنه ألطّ بحقٍّ نطقت به أدلّته، فقال عيسى: فلا تلطّ أنت بسفهٍ تلزمك عقوبته.
قال رجل: ما رأيت أعدل من يحيى بن أكثم القاضي في ظلمه، وكيف؟ قال: سوّى بين الناس كلّهم في الظّلم.
تقدّمت امرأةٌ إلى قاضٍ فقال لها: جا معك شهودك كلّهم؟ فسكتت؛ فقال كاتبه: إن القاضي يقول: هل جاء شهودك معك؟ قالت نعم؛ ثم قالت: ألا قلت كما قال كاتبك؟ كبر سنّك، وذهب عقلك، وعظمت لحيتك، فغطّت على عقلك؛ ما رأيت ميتاً يقضي بين الأحياء غيرك.
وصف رجلٌ النجّار المتكلّم فقال: إن قوي عليك كابرك، وإن أعجزته ماكرك.
وقال رجل: نقيع الزّبيب عندي مثل الخمر، وقال الآخر: ليسا بسواء لأنّ ماء الخمر منه، وماء الزّبيب داخلٌ عليه.
قال المعتصم لابن أبي داود: إني أسألك عمّا أعرف، لأسمع حسن ما تصف.
كتب رجلٌ من البصرة:كتبت إليك وقد مضت دولة الكلام: غرق أبو الهذيل ومات النّظّام.
كتب ملك الروم إلى ملك فارس: كلّ شيءٍ تقوله كذب، فكتب إليه: صدقت؛ أي إنّي في تصديقك كاذب.
بلغ عمر اعتراض عمرو على سعد، فكتب إليه: والله لئن لم تستقم لأميرك لأوجّهنّ إليك رجلاً يضع سيفه في رأسك فيخرجه من بين أرجلك؛ فقال عمرو: هدّدني بعليٍّ والله.
قال عمر لأهل الشّورى: لا تختلفوا فإنّ معاوية وعمراً بالشام.
كان هارون حلف أن يقتل كلّ من شكا عليّ بن عيسى، فشكاه رجلٌ، فقال له: قد سمعت يميني، فأيما أحبّ إليك، أقتلك أو أبعث بك إليه؟ قال: ابعث بي إليه، قال: لم؟ أهو أرأف بك مني؟ قال: لا، ولكن يكون خصمي رجلٌ من العامّة أحبّ إليّ من أن يكون خصمي يوم القيامة ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؛ فعفا عنه قال أعرابيّ: قبيح الصورة عاقلٌ خيرٌ من حسن الصورة أحمق.
قال فيلسوف: الشجاعة والصّرامة والنّجدة من أخلاق الملوك والجود والحكمة والسمو من أخلاق الوزراء.
قال أعرابيّ لرجل: ساقتنا إليك حاجة، وليس بنا عنك غنى، فإن رضيت....

سمعت بشر بن الحسين قاضي القضاة يقول - وما رأيت رجلاً أقوى منه في الجدال ولا أخبث مأخذاً للخصم، وله مع أبي عبد الله الطبري حديثٌ في مناظرةٍ جرت بينهما، وقد جرى حديث جعفر بن أبي طالب وحديث إسلامه، وهل يقع التفاضل بينه وبين عليّ عليهما السلام، فقال القاضي أبو سعد: إذا أنعم النّظر علم أنّ إسلام جعفر كان بعد بلوغٍ، وإسلام البالغ لا يكون إلا بعد استبصار وتبيّن ومعرفةٍ بقبح ما يخرج منه وحسن ما يدخل فيه، وإنّ إسلام عليٍّ مختلفٌ في حاله، وذلك أنه قد ظنّ أنه كان عن تلقين لا عن تبيين إلى حين بلوغه وأوان تعقّبه ونظره؛ وقد علم أنهما قد قتلا، وأنّ قتل جعفر شهادةٌ بالإجماع، وقتلة عليّ فيها أشدّ الاختلاف. ثم خصّ الله جعفراً بأن قبضه إلى الجنّة قبل ظهور التباين واضطراب الحبل وكثرة الهرج. وعلى أنّه لو انعقد الإجماع وتظاهر جميع النّاس على أنّ القتلتين شهادةٌ، لكانت الحال التي دفع إليها جعفرٌ أغلظ وأعظم، وذلك أنّه قتل مقبلاً غير مدبرٍ، وأمّا عليٌّ فإنه اغتيل اغتيالاً وقصد من حيث لا يعلم، وشتّان بين من فوجئ بالموت وبين من عاين مخايل الموت وتلقّاه بالصّدر والنّحر وعجل إلى الله عزّ وجلّ بالإيمان فضمّ اللواء إلى حشاه؟ ثم قاتله ظاهر الشّرك بالله، وضارب عليٍّ ممّن صلّى إلى القبلة وشهد الشّهادة وأقدم عليه بتأويل، وقاتل جعفر كافرٌ بالنّصّ الذي لا يحيل. أما تعلم أن جعفراً ذو الجناحين وذو الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة؟ وهذا كله وأضعافه كان يسرده سرداً؛ وكان بيّن اللفظ كثير الإنصاف.
إن كان ما نسبه إليه بشر بن الحسين في معنى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من حقيقةٍ فهو كلام خرف زائل العقل قد ردّ " إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علمٍ شيئاً " ؛ وإن كان ما نسبه إليه تزيّداً منه فهو جاهلٌ معيوبٌ عند القياس، وهو أنشأ مذهب داود إنشاءً، وعادى عليه، ووالى فيه، وبذل عليه، فكثر ارتباكه وخمدت آثاره.
أما يعلم أبو عبد الله أنّ إسلام عليٍّ كان - على ما روي - وهو ابن إحدى عشرة سنة، وقيل عشر سنين، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يدعو إلى الإسلام ولا يخاطب به إلا مكلّفاً، لا سيّما في أوّل دعوته وأوان مبعثه؟ وتخصيص النبيّ صلّى الله عليه وآله إيّاه بدعوته دون غيره ممّن هو في سنّه يدلّ على أنّه كان كامل العقل عارفاً بما يحسن ويقبح في أمر الدّين، وقد يكون ذلك عن وحيٍ من الله عزّ وجلّ في أمره. ثمّ ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه يدلّ على أنه أفضل من أخيه، وهو قوله عليه وآله السلام: " يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي " ، فقد أثبت له جميع منازل هارون من موسى إلى النبوّة، وليس بعد موسى أفضل من هارون.
قال عبد الله بن الأهتم: إني لا أعجب من رجلٍ تكلّم بين قومٍ فأخطأ في كلامه، أو قصّر في حجّة، لأنّ ذا الحجّة قد تناله الخجلة، ويدركه الحصر، ويعزب عنه بابٌ من أبواب الكلام، أو تذهب الكلمة؛ ولكن العجب ممن أخذ دواةً وقرطاساً وخلا بعقله، كيف يعزب عنه بابٌ من أبواب الكلام أو يذهب عنه وجهٌ من وجوهه.
شاعر: السريع
جاريةٌ أعجبها حسنها ... ومثلها في الناس لم يخلق
خبرّتها أنّي محبٌّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي
والتفتت نحو فتاةٍ لها ... كالرشإ الوسنان في قرطق
قالت لها قولي لهذا الفتى ... انظر إلى وجهك ثم اعشق
دخل أحمد بن يوسف على المأمون وعريب تغمز رجله، فخالسها النّظر وأومى إليها بقبلةٍ، فقالت: حاشية البرد، فلم يدر ما قالت، فلما خرج لقي محمد بن يسير، فحدّثه الحديث، فقال له: أنت تزعم أنك فطنٌ، يذهب عليك مثل هذا؟ أرادت قول الشاعر: الطويل
رمى ضرع نابٍ فاستمّر بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
كان عمر بن الخطاب يقسم على كلّ رأس نصف دينار، فأتاه أعرابيٌ فقال: يا أمير المؤمنين، أعطني لنفسي ولأخ لي حبشيّ، فقال له عمر: أخوك الحبشيّ زقٌّ متعمّمٌ في البيت، قال: اللهم نعم، قال: يا غلام أعطه ديناراً: نصفه قسمه، ونصفه لصدقه.
تغدى سليمان عند يزيد بن المهلّب، فقيل له: صف لنا أحسن ما كان في منزله، فقال: رأيت غلمانه يخدمون بالإشارة دون القول.

قال أبو هفّان لرجلٍ: لو شئت أن أخلق مثلك من خرائي وأنفخ فيه من فسائي لفعلت.
نظر رئيسٌ إلى أبي هفّان وهو يسارّ آخر فقال: فيم تكذبان؟ قال: في مدحك.
نظر أعرابيّ إلى أبي هفّان يتكلّم، فقال لمحرز الكاتب: من هذا؟ قال: شيخٌ لنا مصاب، قال أبو هفّان: نعم يا أعرابيّ، بابن أخي هذا؛ فانقلبت النادرة على محرز.
قال أبو هفّان لمغنّية: يا فساية! قالت: ويلي، عبديّةٌ أنا؟! فكاد يموت من حرارة النادرة وتغلغها إلى صميم فؤاده.
سمعت أبا عبد الله الطّبري يقول: التقى في بعض بلاد الهند رجلان، فقال أحدهما للآخر - وكان غريباً - : ما أقدمك بلادنا؟ قال: جئت أطلب علم الوهم، قال له السائل - وكان أحكم - : فتوهّم أنك قد أصبته وانصرف، فأفحم.
كان أبو عبد الله هذا كثير النّوادر، فصيح اللسان، وكان رئيساً في الباطنية، وكان جريء المقدم، متّقى اللسان، وكان ابن العميد يحبّه ويقدّمه، وله إليه رسالةٌ مشهورةٌ تتضمّن عتباً ممضّاً، وأجابه أبو عبد الله عنها فما عجز عن موازنته. على أنّ الكتابة لم تكن ديدنه، ولكنّه كان عجيب الكلام في كلّ فنّ، وكان معتمده على الإبهام دون الإفهام، وسأحكي عنه ألفاظاً علقتها منه في إشارات الصوفية إن شاء الله. وسمعته يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت في دعوى حالٍ، وتمهيد أمرٍ، واصطلاح طريقة، لما تجاوزت ادّعاء النبّوة، ولكنّي مزّقت ثوب الشّباب، وودّعت راحلة الأمل؛ قيل له: فأنت مع نظرك في الحكمة، واقتباسك من الفلسفة، وتميزك إلى الخاصة، تتمنى حالاً صاحبها عند نفسه كاذبٌ وعند بني جنسه مكذوب، مع علمك أنّ دين الإسلام لا يتداعى بنيانه، ولا تتزعزع أركانه، وأنه مبني على أساسٍ قويّ، وأصلٍ سويّ، فقال: هذا كلام من لم يعرف النبوّة ما هي والنبيّ من هو، وما السبب في ظهور الأديان والنحل، وإفشاء المقالات والملل، وما موجبات هذه الأمور، وما خواصّ هذه العلل، وما دواعي جميع ما في العالم، وكيفية نظم ما فيه واطّراده، وكيف استواؤه واستمراره، وما الغاية المنتهى إليها، والغرض المقصود نحوه، وما محصول الإنسان من الحياة، وما فائدته في كونه، وما الأمر الذي إليه توجهه وهو لا يدري، وبه تعلّله وهو لا يشعر، وما ثمرة الجاهل، وأين العالم منه في الآجل، وهل ما شاع بالخبر مقبولٌ كلّه، أو مردودٌ كلّه، أو مقبولٌ بعضه ومردودٌ بعضه. وإن بطل القسمان الأوّلان هل يصحّ القسم الثالث، وإن صحّ فبماذا يبين المقبول منه مما يردّ منه: أبالعقل، أم بالظنّ، أم بسكون النفس عند إخبار المخبر، وقلق النفس عند رواية الراوي؟ فأتى من هذا النّمط بما حيّر الحاضرين وأملّ المستمعين، ولم يحصّل من جميع ما هوّل به شيءٌ.
وكان إذا ركب هذا المركب سبق في عنقٍ لا يباريه جواد، ولا تسري وراءه ريح. ولقد قاوم بالرّيّ أبا يعقوب الجبّائي شيخ القوم، بل أوفى عليه، فكشف عنه، ودلّ على خافي أمره، ومستكنّ شأنه، ومات سنة تسعٍ وخمسين وثلاثمائة. وكان قد أخذ الحديث عن أبي خازم وتفقّه للشافعي، وناظر في الأصول، إّلا أنه باين الجميع بهذه الغرائب التي لم يحل منها في الدنيا بطائل، ولم يتزود بها للآجل، وعاش عاشقاً لفضله، محجوباً عن الله عزّ وجلّ بنعمته، جاهلاً بالشكر الموجب مزيده، وصار إلى الله عزّ وجلّ،وهو أولى به، وهو أحكم الحاكمين.
دخل أبو يونس على المأمون - وكان فقيه مصر - فقال له: ما تقول في رجلٍ اشترى شاةً فضرطت فخرجت من استها بعرةٌ ففقأت عين رجلٍ: على من الدّية؟ قال: على البائع؛ قال: ولم؟ قال: لأنه باع شاةً في استها منجنيق ولم يبرأ من العهدة.
قالت عائشة: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين سحري ونحري، فمتى أوصى إليه؟ كأنها تعني علياً عليه السلام بهذا الكلام.
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: " استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصّراط " .
قال هشام بن عمّار: خير الأسود كليته.
قال هشام المتكلّم: أوّل شغب الرجل تعلّقه بالألفاظ.
قال رجلٌ لابن أبي داود: متى كان الله عزّ وجلّ؟ قال: ومتى لم يكن؟! قال رجل لهشام بن الحكم: أنت أعلم الناس بالكلام، قال له: كيف ولم تكلّمني؟ قال: رأيت كلّ حاذقٍ يزعم أنه ناظرك وتغلّب عليك، فلولا أنّك الغاية عندهم ما فخروا بذلك أبداً.

سأل غلامٌ أمرد النّظّام عن مسألة فقطعه، فقال له إبراهيم النّظّام: أما إنك تقطعني بحجّةٍ وجبت لك، ولكن قطعتني بالحيرة فيك.
يقال: الطّير الذي خلقه عيسى عليه السّلام في قوله تعالى " وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير " ، هو الخطّاف؛ أما ترى فيه ضعف الآدميين؟ وذاك أنه أضعف من كلّ طائرٍ في مقداره.
قال المسيح عليه السلام: كلّ قتيلٍ يقتصّ له يوم القيامة إلا قتيل الدنيا، فإنه يقتصّ منه.هذا والله كلام عجيب.
نظر ابن أبي عتيق إلى بستانٍ صغير فقال: هذا تسمّده فسوة.
شاعر: المديد
ما لمن تمّت محاسنه ... أن يغادي طرف من رمقا
لك أن تبدي لنا حسناً ... ولنا أن نعمل الحدقا
قال رجلٌ لأبي الهذيل: ما الفرق بين الإنسان والحمار؟ قال: هذه مسألةٌ جوابها فيها؛ لمّا قلت أنت ما الفرق بينهما كنت قد فرقت.
قال بعض المتكلّمين: الدليل على الحدوث أنّ الواهم يتوهّم فيحدث إنسانٌ وشجرة، فقضى ذلك على جميع ما ترى أنه محدث، لأنه أحدثه توهّماً، وكلّ متماثلين يلتقيان في حكمٍ واحد.
قال بعض المتكلّمين: الدليل على أنّ صانعي ليس مثلي أنّي عاجزٌ عن أن أفعل مثلي، فمحالٌ أن يكون فاعلي مثلي.
اعتلّ أبو جعفر الأحول في قول القاضي والله والله ثلاثاً قال: لما قال موسى للخضر عليهما السلام " قد بلغت من لدنّي عذراً " كان هذا في ثلاث قد قطع عذراً.
قيل لمرجفٍ: أحدث شيءٌ؟ قال: نعم، قيل: ما هو؟ قال: لم يبلغنا بعد.
قيل لأبي جعفر: لم حكمت للاستثناء إذا قال له: عليّ عشرة دراهم إّلا خمسة إّلا درهماً فتكون له أربعة؟ فقال: من كتاب الله تعالى " إلا آل لوط نجيناهم بسحر إلا أمرأته " ؛ فاستثنى من المستثنى، ولا يستثنى الكثير من القليل وإنما يستثنى القليل من الكثير، فقال المأمون: أحسنت.
قال هارون لحمويه: صف لي فارس، قال: فيها من كلّ بلدٍ بلدٌ.
لما قتل عبيد الله بن زياد - لعنه الله - الحسين بن علي عليه السلام قال أعرابي: انظروا إلى ابن دعيّها كيف قتل ابن نبيّها.
قيل لبعض الحكماء الزّهاد: يقال جمع فلانٌ مالاً، قال: أفجمع أيّاماً؟ قال أبو الهذيل: ذنب الصامت جرحٌ سريع الاندمال، وذنب الناطق جرحٌ رحيب المجال.
كتب العتّابي إلى المأمون: إن للعرب البديهة، وللعجم الرّويّة، فخذ من العرب آدابها ومباني كلامها، وخذ من العجم مكايدها ونتائج فكرها، تجتمع لك فصاحة العرب ورجاحة العجم.
يقال: من صبّ عليه ماءً بارداً ثم تمسّح وتنّور لم تحرقه النّورة، ومن تنّور وهو عرقٌ أحرقته النّورة لأجل تفتح مسامّ البدن.
اجتمع الجاثليق والموبذ عند المأمون فقال الجاثليق: إنّ هذا يزعم أنّ الجنّة متصلةٌ بحر أمّه، فقال الموبذ: والله لقد أفحشت عليّ، ولقد كنّا نظنّ أنّ الأمر كما وصف حتى رأينا إلهك خرج من ذلك الموضع فزال عنّا الشّك.
قال خالد بن الوليد: إن أبا بكرٍ ولدنا فرقّ علينا رقّة الوالد، وإن عمر ولدناه فعقّنا عقوق الولد.
قيل لصوفيّ: لم لم تعملوا بأبدانكم؟ قال: لأنّ الأبدان تعمل بالقلوب، فلما عملت القلوب سكنت الأبدان.
قال راوية الفرزدق للفرزدق: والله ما تنهاني عن شيءٍ إلا ركبته، قال: فإني أنهاك عن نيك أمّك.
خاصمت امرأةٌ مدنيّةٌ زوجها - وكان في خلقٍ لا يواريه - فقالت له: غيّر الله ما بك من نعمةٍ، قال: استجاب الله دعاءك، لعلّي أصبح في ثوبين جديدين.
قال بعض أهل اللغة: الاستذراء من البرد، والاستظلال من الحرّ، والاستكنان من المطر.
مرّت امرأةٌ جميلة باليعقوبي فقالت له: يا شيخ، أين درب الحلاوة؟ قال: تحت مئزرك يا ستّي.
قال رجل لرقبة بن مصقلة: ما أكثرك في كلّ طريق، فقال له رقبة: إنك مستكثرٌ مني ما تستقلّ من نفسك، هل رأيتني في طريق إلا وأنت فيه؟ قال النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله عن الله عزّ وجلّ: " إنّي تفضّلت على عبادي بأربعة أشياء: سلّطت الدابة على الحبّ، ولولا ذلك لكنزه الملوك كما كنزوا الذهب والفضّة؛ وأنتنت الجسد، ولولا ذلك لنا دفن حميمٌ حميمه؛ وأسليت المصاب عن المصيبة، ولولا ذلك لانقطع النّسل؛ وأقصيت الأجل وبسطت الأمل، ولولا ذلك لخربت الدنيا وما طاب عيشٌ " .

قال جعفر بن محمد عليهما السلام: يهلك الله عزّ وجلّ ستاً بستً: الأمراء بالجور، والعرب بالعصبية، والدهاقين بالكبر، والتجّار بالخيانة، وأهل الرّستاق بالجهل، والفقهاء بالحسد.
ذكر عبد الملك بن مروان الاشدق بعد أن قتله فقال: كان والله ذا طيٍّ لسرّه، نموماً بإعطاء ماله، فارغ القلب بفهم من حدّثه، مشغول القلب بمعرفة ما أشكل عليه.
قال الحجاّج لرجلٍ من ولد ابن مسعود: لم قرأ أبوك تسعٌ وتسعون نعجةً أنثى؟ أترى لا يعلم الناس أن النعجة أنثى؟ فقال: قد قرئ قبله " ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ " ألا يعلم أن سبعةً وثلاثةً عشرةٌ؟ فما أحار الحجّاج جواباً.
أراد رجلٌ بيع جاريةٍ فبكت فسألها، فقالت: لو ملكت منك ما ملكت مني ما أخرجتك من يدي، فأعتقها.
قالت المضرّية: اللسان العربي لإسماعيل، وقالت القحطانية: أوّل من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، فاحتجت المضريّة فقالت: لو كان هذا هكذا لقالوا: يعربي، ولم يقولوا: عربي.
قال هارون بن مسلم: ما بقي أحدٌ يأنف أو يؤنف منه.
قال ابن عباس في رجلٍ حلف أن لا يكلّم فلاناً حتى حين فقال: الحين في اليوم والليلة وهو قوله تعالى " حين تمسون وحين تصبحون " والحين في ثلاثٍ، وهو قوله تعالى في قوم هود " تمتّعوا حتّى حينٍ " والحين في كل سنةٍ وهو قوله تعالى " تؤتي أكلها كلّ حينٍ " .
قال الجمّاز لعلي الرازي، وأراد شراء جارية حبشية: متاعها الدّهر مزبد، وإبطاها منتنان، وجسدها لا يقبل الطّيب، وإذا شربت احمرت عيناها واخضرّت وجنتاها، وإذا تجرّدت فكأنها نخاعةٌ على يد أسود.
تزوّج مدنيٌّ سوداء فعوتب فقال: عتق ما يملك إن لم تكن ضرطتها في الليلة الشاتية في البيت أنفع من عدل فحم.
وساوم مدينيّ دجاجةٍ بعشرة دراهم فقال: والله لو كانت في الحسن كيوسف، وفي العظم ككبش إبراهيم، وكانت كلّ يومٍ تبيض وليّ عهدٍ للمسلمين، ما ساوت أكثر من درهمين.
قال يحيى بن خالد: الغضب والحزن من جوهرٍ واحد، فإذا كان ممّن فوقك كان حزناً، وإذا كان ممّن هو دونك كان غضباً، فترك الصبر على الغضب سوء قدرة، وترك الصبر على الحزن سوء استكانة.
حمل رزام بن حبيب إلى طحّان طعاماً فقال له: اطحنه؛ قال: أنا مشغولٌ عنك، قال: إن طحنته وإّلا دعوت الله عزّ وجلّ على حمارك ورحاك، قال: أومستجاب الدعوة أنت؟ قال: نعم، قال: فادع الله أن يصيّر حنطتك دقيقاً فهو أروح لك.
قال الأصمعي: كان بالبصرة فتىً يغشاه الفتيان في كوخٍ له من قصب، وكانوا إذا شربوا قال بعضهم لبعضٍ: غداً عليّ ألف آجرّةٍ، ويقول آخر: عليّ الجصّ، ويقول آخر: عليّ أجرة البنّاء. فيصير كوخه قصراً من ساعته، ثم يصبح فلا يرى شيئاً من ذلك، فقال في ذلك:
لنا كوخٌ يهدّم كلّ يومٍ ... ويبنى ثم يصبح جذم خصّ
إذا ما دارت الأقداح قالوا ... غداً نبني بآجرٍّ وجصّ
وكيف يشيّد البنيان قومٌ ... يزجّون الشتاء بغير قمص
قال الأصمعي: فحدّثت الرشيد، فاستضحك وقال: أبا سعيدٍ، لكنّا نبني لك قصراً لا تخاف فيه ما خاف الفتى، ثمّ أمر له بألفي دينار.
قال الجمّاز: اشتريت جاريةً سنديّة، فأردت أن أطأها، وكان شعر حرها كثيراً فلم يدخل أيري، فقالت: يا مولاي، زبّك عمياء.
قيل لسلمان بن ربيعة الباهلي: بم تعرف الهجن من العتاق؟ قال: بنظري إلى الأعناق، قيل: فبيّن لنا ذلك، قال: فدعا بطستٍ من ماءٍ فوضعت على الأرض، ثم قدّمت الخيل إليها واحداً واحداً، فما ثنى سنبكه ثم شرب هجّنه، وما شرب ولم يثن سنبكه جعله عتيقاً، وذلك لأنّ في أعناق الهجن قصراً فهي لا تنال الماء إّلا على تلك الحال حتى تثني سنابكها، وأعناق العتاق طوالٌ فهي تشرب ولا تثني سنابكها.
قال أهل اللغة: الغيلم ذكر السّلاحف، والأنثى سلحفاة ويقال: سلحفية؛ والعلجوم ذكر الضفادع؛ والشّيهم ذكر القنافذ؛ والخزر ذكر الأرانب، وجمعه خزّان؛ والظّليم ذكر النّعام؛ والقطّ والضّيون ذكر السّنانير؛ والحيقطان ذكر الدرّاج؛ والعضرفوط ذكر العظاءة؛ والحرباء ذكر أمّ حبين؛ والحنظب ذكر الخنافس، وهو أيضاً الخنفس؛ واليعاقيب ذكور الحجل، واحدها يعقوب، والسّلك الذكر من فراخها، والأنثى سلكة؛ والخرب ذكر الحبارى؛

والفيّاد ذكر البوم، ويقال هو الصّدى؛ وساق حرّ ذكر القماريّ؛ واليعسوب ذكر النّحل؛ هذه كلّها ينبغي أن تكون في صميم صدرك، قد غلب عليها الحفظ، واهتدى إليها الظنّ، فم القبيح بالإنسان أن لا يعرف ما قرب من الحيوان.
واحفظ أيضاً إناث أشياء من هذا الضرب؛ اعلم أنّ: الأنثى من الذّئاب سلقةٌ وذيبة؛ والأنثى من الثعالب ثرملة وثعلبة، والذكر ثعلبان؛ والأنثى من الوعول أرويّة، وثلاث أراويّ إلى العشرة، فإذا جاوزت فهي الأروى؛ والأنثى من القرود قشبة وقردة؛ والأنثى من الأرانب عكرشة؛ والأنثى من العقبان عقبة؛ والأنثى من الأسود لبؤة؛ بضّم الباء والهمزة؛ والأنثى من العصافير عصفورة؛ ومن النّمور نمرة؛ ومن الضّفادع ضفدعة؛ ومن البرذون برذونة؛ وواحد الذّراريح والذّرّاح ذرحرح وذّروح.
واحفظ ما هو من أسماء الناس من ذلك: يقال إن الهوزة قي القطاة؛ والقطاميّ الصّقر - بضمّ القاف وفتحها - ؛ وعكرمة هي الحمامة؛ والهيثم فرخ العقاب؛ وسعدانة هي الحمامة؛ والحيدرة الأسد؛ وكذلك الهيصم وأسامة والدّلهمس وهرثمة والضّيغم؛ وأما نهشل فالذئب؛ وكلثوم الفيل؛ وشبث: دابة تكون في الرّمل، وجمعها شبثان، كأنها سمّيت بذلك لتشبّثها بما دبّت عليه؛ وأما سيابة فواحدة السّياب - خفيفةً - وهو البلح.
وأما حمزة فبقلة.
شاعر: الوافر
دعوتك للنّدى ففررت منه ... كأنّي قد دعوتك للبراز
ولمّا أن كسوتك ثوب مدحٍ ... رأيتك قد خريت على الطّراز
قال ابن طباطبا في عيار الشعر: وينبغي للشاعر أن يتأمّل تأليف شعره وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتّصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامها فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه فينسي السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كلّ بيت، فلا يباعد كلمةً عن أختها ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشوٍ يشينهها، ويتفقّد كلّ مصراعٍ: هل يشاكل ما قبله، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذلك إّلا من دقّ نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشّعر من جهة الرّواة والناقلين له: الشّعر على جهةٍ ويؤدوّنه على غيرها سهواً فلا يذكرون حقيقة ما سمعوه منه. كقول امرئ القيس: الطويل
كأنّي لم أركب جواداً للذةٍ ... ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبإ الزّقّ الرّويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
هكذا الرّواية، وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كلّ واحدٍ منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النّسج، وكان يروى:
كأنّي لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للذةٍ ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
وكقول ابن هرمة: المتقارب
وإنّي وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
وكقول الفرزدق: الطويل
وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيسٍ أوسحوق العمائم
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغرّه ... سرابّ أذاعته رياح السّمائم
كان يجب أن يكون بيت ابن هرمة مع بيت الفرزدق، وبيت الفرزدق مع بيت ابن هرمة فيقال:
وإنّي وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زنداً شحاحا
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغرّه ... سراب أذاعته رياح السمائم
وإنّك إذ تهجو تميماً.. ... ... ... ... الخ
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
حتى يصح التشبيه للشاعرين، وإّلا كان تشبيهاً بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له.
وإذا تأملت أشعار الشعراء لم تعدم فيها أبياتاً مختلفة المصاريع، كقول طرفة: الطويل
ولست بحلاّلٍ التّلاع مخافةً ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
والمصراع الثاني غير مشاكلٍ للأوّل؛ وكقول الشاعر: الطويل
وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فياف تنوفاتٌ ويهماء خيفق

لمحقوقةٌ أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أنّ المعان موفّق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفّق غير مشاكل لما قبله؛ وكقوله: البسيط
أغّر أبلج يستسقى الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، وإن كان كلّ واحدٍ منهما قائماً بنفسه.
وأحسن الشّعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتّسق به أوّله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدّم بيتٌ على بيتٍ دخله الخلل، كما يدخل الرسائل والخطب إذا نقص تأليفها فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلّة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها، لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلّها ككلمة واحدةٍ في اشتباه أوّلها وآخرها نسجاً وحسناً وفصاحةً وجزالة ألفاظٍ ودقّة معانٍ وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنىً يصفه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً على ما شرطنا؛ هذا كله كلام صاحب كتاب العيار.
خرج الأعمش يوماً إلى أصحابه وهو يضحك فقالوا له: ما ذاك يا أبا محمد؟ قال: قالت بنيّتي لأمّها: يا امّه، لم تجدي أحداً تزوّجينه إلا هذا الأعمش؟! قال داود بن الزّبرقان: سفه علينا الأعمش يوماً فكلّمتنا امرأةٌ من وراء الباب وقالت: احتملوه، فوالله ما يمنعه من الحجّ مذ ثلاثون سنة إّلا مخافة أن يلاطم زميله أو يشاتم رفيقه.
قال سعيد بن المسيّب: أعوذ بالله من الزّنا، فقالت امرأة إلى جانبه: هذا شيءٌ قد كفيته لسماحة وجهك، قال: أمّا ما دام إبليس حياً فلا أصدّقك.
قال أعرابيّ بعدما خرف: إن في الأير يا قوم عجباً فاحذروه؛ قالوا له: وما هو؟ يأنس إلى من لا يعرف ويستوحش ممن يعرف.
مرّ سائلٌ بمخنّثٍ فأدخله وسقاه وحمله على نفسه فقال: والله ما أدري بم أكافئك، إّلا أنني وددت أنّ لي أيراً مثل منارة المسيّب، قال المخنّث: إذن كنت أمكّنك من استٍ مثل باب خراسان.
قال محمد بن إسحاق بن عطية: دخلت على إسماعيل بن صبيح وهو مريض فقلت: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت تجرّب عليّ الأطباء.
رفع مخنّث إلى السّندي بن شاهك ومعه غلام، فتبعته امرأةٌ فقالت: أما تستحيي من مشيتك ترفع مع مثل هذا؟ فقال: أما والله لو استقبلك بمثل ما استدبرني به ماباليت أن ترفعي إلى ملك الروم.
شاعر: مجزوء الرجز
الصبر مفتاح الظّفر ... والأمر يجري بالقدر
ما كان من خيرٍ وش ... رٍّ ليس يغني من حذر
يقال: لا تقطع القريب وإن أساء، فإنّ المرء لا يأكل لحمه وإن جاع، ولا يقطع يده وإن ضربت عليه.
قال بعض العرب: الق عدوّك بحسن البشر، وأخف عنه ضمير الصّدر، وتربّص به دوائر الدّهر، وال تظهر له سرّك فيكيدك، ولا تمكنّه من قيادك فيرديك، وكثير النّصح يدعوك إلى كثير التّهمة.
قيل لعائشة: إن قوماً يشتمون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله. فقالت: دعوهم، أبعدهم الله، فإنّ الله لما قطع عنهم العمل أحبّ أن لا يقطع عنهم الأجر.
قال المتوكّل لعبّادة: أهب لك هذا الخصيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنا لا أركب زورقاً بلا دقل.
قال عبد الملك بن مروان لابن زبّان القيني: ما لك مغتماً؟ قال: نسأل أمير المؤمنين ما لا نقدر عليه، ويعتذر فيما قد لا يعذر، فقال: ما أحسن ما سألت؛ ووصله.
كاتب: أستجير بك في ما قاسيت من مقارعة الدّهور، وأستعين بك على ما عانيت من ملمّات الأمور.
قال أعرابيٌّ لآخر: من استجار بك من الزّمان، فقد أخذ لنفسه بأوثق الأمان.
كاتب: الشكوى إليك عند النائبة على قدر الشكر لك عند النّعمة، لأنّك في الحالين معاً الرجاء والعدّة، والموئل والعمدة، وكلّ حقٍّ قضيته لأوليائك في عارفة تصطنعها، ونكبة تدفعها، فهو دون قدرتك، وفوق شكرهم.
آخر: محاسن غيرك مساوٍ عند محاسنك، لأنّ إحسانك إجمالٌ وإحسانهم تجمّلٌ.
أعرابيّ: لا على رجائي أخاف التخييب، ولا على أملي أخشى التكذيب.
كاتب: إذا طلبت عند غيرك ما لم أنله، نلت منك ما لم أطلبه، وإذا وجدت عندك ما لم أرجه، عدمت من سواك ما رجوته، فاليأس من خيرك أجدى من الطّمع في فضل غيرك، لأنّك تقول وتفعل، وسواك يقول ولا يفعل، ولأنّك تعتذر من الجزيل إذا تطاول سواك بالقليل، لأنّ الذي أدركته منك من غير تأميلٍ له، عوضٌ مغنٍ مما خانني من الرّجاء في سواك.

كاتب: صافحتني الأيّام بكفّ الغنى إذا قبلتني، ووقفت بي عند أملي إذ حسن رأيك فيّ، وصالحتني بما استصلحت من أمري.
أعرابي: يأسي من عطائك أرجى من رجائي لعطاء غيرك، لان أملي فيك قنيةٌ، ورجائي لك ذخرٌ، لأني أعدّ وعدك غنىً ومطلك إنجازاً.
قال ابن طباطبا في عيار الشعر: ينبغي للشاعر في عصرنا أن لا يظهر شعره إّلا بعد ثقته بجودته وحسنه وسلامته من العيوب التي قد نبّه عليها. وأمر بالتحرّز منها، ونهي عن استعمال نظائرها. لا يضع في نفسه أنّ الشعر موضع اضطرار، وأنّه يسلك سبيل من كان قبله، ويحتج بالأبيات التي قد عيبت على قائليها، فليس يقتدى بالمسيء، وإنما الاقتداء بالمحسن، وكلّ واثق فيه خجلٌ إلا القليل، ولا يغير على معاني الشعراء فيودعها شعره، ويخرجها في أوزان مخالفةٍ لأوزان الأشعار التي يتناول منها ما يتناول، ويتوهّم أنّ تغييره الألفاظ والأوزان مما يستر عليه سرقته، أو يوجب له فضيلته، بل يديم النظر في الأشعار التي قد اخترناها لتلصق معانيها بفهمه، وترسخ أصولها في قلبه، وتصير مواد لطبعه، ويذرب لسانه بألفاظها، فإذا جاش فكره بالشّعر، أدّى إليه نتائج ما استفاده مما نظر من تلك الأشعار، وكانت تلك النتيجة كالسّبيكة المفزغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن، وكما اغترف من وادٍ قد مدّته سيولٌ جارية كثيرة من شعاب مختلفة، وكطبيب يركب على أخلاط من الطّيب كثير، فيستغرب عيانه، ويغمض مستنبطه؛ ويذهب في ذلك إلى ما يحكى عن خالد بن عبد الله القسري فإنّه قال: قد حفّطني أبي ألف خطبةٍ ثم قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أرد بعد ذلك شيئاً من الكلام إّلا سهل عليّ؛ فكان حفظه لتلك الخطب رياضةً لفهمه، وتهذيباً لطبعه، وتلقيحاً لذهنه، ومادة لفصاحته، وسبباً لبلاغته ولسنه ولخطابته.
واعلم أنّ شعراء العرب أودعت أشعارها من الأصناف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها، وأدركه عيانها، ومرّت به تجاربها، وهم أهل وبر، صحونهم البوادي، وسقوفهم السماء، فليس تعدو أوصافهم ما رأوه فيهما وفي كل واحدة منهما، في فصول الأزمان على اختلافها: من شتاءٍ وربيع، وصيفٍ وخريف، من ماءٍ وهواء، ونار وجبل، ونباتٍ وحيوانٍ وجماد، وناطقٍ وصامت، ومتحرّك وساكن، وكلّ متولد، من وقت نشوته وفي حال نموّه إلى حال انتهائه، فضمّنت أشعارها من التشبيهات إلى ما أدركه من ذلك عيانها وحسّها، إلى ما في أنفسها وطبعها من محمود الأخلاق ومذمومها، في رخائها وشدّتها، ورضاها وغضبها، وفرحها وغمها، وأمنها وخوفها، وصحّتها وسقمها، والحالات المتصرّفة بها في خلقها وخلقها، من حال الطفولة إلى حال الهرم، وفي حال الحياة إلى حال الموت، فشبهت الشيء بمثله تشبيهاً صادقاً، ذهبت إليه من معانيها التي أرادتها، فإذا تأملت أشعارها وفتشت جميع تشبيهاتها وجدتها على ضروبٍ مختلفةٍ سنشرح أنواعها، فبعضها أحسن من بعض، وبعضها ألطف من بعض، فأشبه التشبيهات ما إذا عكس لن ينتقض بل يكون كلّ شبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مثله مشبهاً به صورةً ومعنى، فربّما أشبه الشيء الشيء صورةً وخالفه معنىً، وربما أشبهه معنىً وخالفه صورةً وربّما قاربه وداناه أو سامته وأشبهه مجازاً لا حقيقةً، فإذا اتفق لك في أشعار العرب التي يحتجّ بها تشبيهٌ لا تتلقّاه بالقبول، أو حكايةٌ تستغربها، فابحث عنه ونقّر عن معناه، فإنك لا تعدم أن تجد تحته خبيئة، إذا أثرتها عرفت فضل القوم بها، وعلمت أنهم أرقّ طبعاً من أن يلفظوا بكلامٍ لا معنى تحته. وربّما خفي عليك مذهبهم في سنن يستعملونها بينهم، وحالات يصفونها في أشعارهم ولا يمكنك استنباط ما تحت حكاياتهم، ولا يفهم مثلها إّلا سماعاً، فإذا وقفت على ما أرادوه، لطف موقع ما تسمعه من ذلك عند فهمك.
والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه؛ كما قال بعض الحكماء: للكلام جسدٌ وروحٌ، فجسده النّطق وروحه معناه، فأما ما وصفته العرب وشبّهت بعضه ببعض مما أدركه عيانها فكثيرٌ لا يحصى عدده، وأنواعه كثيرةٌ، وسنذكر بعض ذلك ونبيّن حالاته وطبقاته إن شاء الله.

وأما ما وجدته في أخلاقها، وتمدّحت به، ومدحت به من سواها وذمّت من كان على ضدً حالها فيه، فخلالٌ مشهورةٌ، منها في الخلق: الجمال والبسطة؛ ومنها في الخلق: الشجاعة والسخاء والحلم والعلم والحزم والعزم والوفاء والعفاف والأمانة والقناعة والغيرة والصّدق والصبر والورع والشكر والمداراة والعفو والعدل والإحسان وصلة الرّحم وكتم السر والمؤاتاة وأصالة الرأي والأنفة والدعاء وعلوّ الهمّة والتواضع والبيان والبشر والجلد والتجارب والنقض والإبرام. وممّا يتفرّع من هذه الخلال التي ذكرناها من الأصناف: قرى الأضياف وإعطاء العفاة وحمل المغارم وكظم الغيظ وقمع الأعداء وفهم الأمور ورعاية العهد والفكر في العواقب والجد والتشمير وقمع الشّهوات والإيثار على النفس وحفظ الودائع والمجازاة ووضع الأشياء مواضعها والذّب عن الحريم واجتلاب المحبة والتنزّه عن الكذب واطّراح الحرص وادّخار المحامد والاحتراز من العدوّ وسيادة العشيرة واجتناب الحسد والنكاية في الأعداء وبلوغ الغايات والاستكثار من الصديق والقيام بالحجّة وكبت الحسّاد والإسراف في الخير واستدامة النعمة وإصلاح كل فاسد واعتقاد المنن واستعباد الأحرار بها وإيناس النافر وحفظ الجار والإقدام على بصيرة. وأضداد هذه الخلال البخل والجبن والطّيش والجهل والغدر والاغترار والفشل والفجور والعقوق والخيانة والحرص والمهانة والكذب وفيالة الرأي والهلع وسوء الخلق ولؤم الظفر والجور والإساءة وقطيعة الرّحم والنّميمة والخلاف والطّبيعة والدّناءة والغفلة والحسد والبغي والكبر والعبوس والإضاعة والقبح والدّمامة والقماءة والخور والعجز والعيّ والاستحلال. ولتلك الخلال المحمودة حالاتٌ تؤكدها وتضاعف حسنها وتزيد في جلالة المتمسّك بها والمفتخر بالاحتواء عليها، كما أنّ لأضدادها أيضاً حالات تزيد في الحطّ ممن وسم بشيءٍ منها ونسب إلى استشعار مذمومها والتّمسك بفاضحها: فالجود في حال العسر موقعه فوق موقعه في حال الجدة وفي حال الصحو أحسن منه في حال السّكر، كما أن البخل من الواجد القادر أشنع منه من المضطّر العاجز، والعفو في حال القدرة أجلّ موضعاً منه في حال العجز، والشجاعة في حال مبارزة الأقران أحدّ منها في حال الإحواج ووقوع الضّرورة، والعفّة في حال اعتراض الشّهوات والتّمكن منها أفضل منها في حال فقدان اللذات واليأس من نيلها، والقناعة في حال تبرّج الدنيا ومطامعها أحسن منها في حال اليأس وانقطاع الرجاء منا؛ على هذا التّمثيل جميع الخصال التي ذكرناها.
وقال أيضاً: وعيار الشّعر أن يورد على الفهم الثاقب: فما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مجّه ونفاه فهو ناقص. والعّلة في قبول الفهم الثاقب للشّعر الحسن الذي يرد عليه ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله وتكرهه لما ينفيه أنّ كلّ حاسّة من حواسّ البدن إنما تقبل ما يختصّ بها ويتصل بها ممّا طبعت له إذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً باعتدال لا جور فيه وموافقةٍ لا مضادة معها. فالعين تألف المرأى الحسن الأنيق، وتقذى بالمرأى القبيح الكريه؛ والأنف يقبل المشمّ الطّيب ويتأذى بالمنتن الخبيث؛ والفم يتلذّذ بالمذاق الحلو ويمجّ البشع المّر؛ والأذن تتشوّف للصّوت الخفيض السّاكن وتتأذى بالجهير الهائل؛ واليد تنعم باللّمس اللّين وتتأذى بالخشن المؤذي؛ والفهم يأنس من الكلام العدل الصواب الحق الجائز المعروف ويتشوّف إليه ويتجلّى له ويستوحش من الكلام الجائر الخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر وينفر منه ويصدأ له. فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً مصفّىً من كدر العيّ، مقوّماً من أود الخطأ واللّحن، سالماً من جور التأليف، موزوناً بميزان الصّواب لفظاً ومعنىً وتركيباً، اتسعت طرقه ولطفت موالجه، فقبله الفهم وارتاح له وأنس به، وإذا ورد عليه ضدّ هذه الصّفة وكان باطلاً محالاً مجهولاً، انسدّت طرقه، ونفاه الفهم، واستوحش عند حسّه، وصدئ له، وتأذّى به كتأذّي سائر الحواسّ بما يخالفها على ما شرحناه. وعلّة كلّ حسن مقبولٍ الاعتدال، كما أنّ علّة كلّ قبيح منفيّ الاضطراب، والنفس تسكن إلى كلّ ما وافق هواها، وتقلق ممّا خالفه، ولها أحوالٌ تتصرّف بها، فإذا ورد عليها في حالةٍ من حالاتها ما يوافقها اهتزّت له وحدثت لها أريحية وطرب وإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت.

وقال أيضاً: وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفةٌ عند الفهم لا تحدّ كيفيتها، كمواقع الطّعوم الطيّبة المركّبة الخفيّة التركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييح الفائحة المختلفة الطّيب والنسيم، وكالنقوش الملونة التّقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المطرب المختلف التأليف، وكالملامس اللذيذة الشهية الحسن، فهي تلائمه إذا وردت عليه - أعني الأشعار الحسنة على الفهم - فيلذّها ويقبلها ويرشفها كارتشاف الصّديان للبارد الزّلال، لأنّ الحكمة غذاء الرّوح، فأنجع الأغذية ألطفها.
وقال: قال بعض الفلاسفة: إنّ للنفس كلمات روحانية من جنسّ ذاتها، وجعل ذلك برهاناً على نفع الرّقى ونجوعها فيما تستعمل له، فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللّفظ، التامّ البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم وكان أنفذ من نفث السحر وأخفى دبيباً من الرقى وأشد إطراباً من الغناء، فسلّ السخائم، وحلّل العقد، وسخّى الشحيح، وشجّع الجبان. وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه، وهزّه ولذاذته. وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: " إنّ من البيان لسحراً " .
ولحسن الشعر وقبول الفهم إيّاه علةٌ أخرى وهي موافقته للحال التي يعدّ معناه لها، كالمدح في حال المفاخرة، وحضور من يكبت بإنشاده من الأعداء ويسر به من الأولياء، وكالهجاء في حال مباراة المهاجي والحطّ منه، حيث ينكي فيه استماعه له، وكالمراثي في حال جزع المصاب به، وكذكر مناقب المفقود عند تأبينه والتعزية عنه، وكالاعتذار والتنصّل من الذّنب عند سلّ سخيمة المجنيّ عليه المعتذر إليه، وكالتحريض على القتال عنه التقاء الأقران وطلب المغالبة، وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق واهتياج شوقه وخضوعه وحنينه إلى من يهواه. وإذا وافقت هذه المعاني هذا الخلال تضاعف حسن موقعها عند مستمعها لا سيما إذا أيّدت بما يجلب إلى القلوب من الصّدق عن ذات النفس، بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها والاعتراف بالحق في جميعها.
والشعر هو ما إن عري من معنىً بديع لم يعر من حسن الديباجة، وما خالف هذا فليس بشعر. ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدّها استفزازاً لمن يسمعها الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول فيه قبل استتمامه، وقبل توسّط العبارة عنه والتعريض الخفيّ الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه. فموقع هذين عند الفهم كموقع البشرى عند صاحبها لثقة الفهم بحلاوة ما يرد عليها من معناهما انقضى كلامه.
قد دلّ هذا الرجل على مواضع لطيفة واستحقّ المديح بحسب الإصابة.
سأل أبو فرعون رجلاً فمنعه وألح عليه فأعطاه فقال: اللهم اخزنا وإياهم، نسألهم إلحافاً ويعطوننا كرهاً، فلا يبارك الله لنا ولا يأجرهم عليه.
كان عبد الله بن الزبير إذا صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه وخطب الناس وأخذ في سورة الأنعام وقال: إنما يكفيني من الدنيا اليسير، إنما بطني شبر؛ فلما مات أصابوا في خزانته خمسة آلاف طليسان، فقال فيه الشاعر: البسيط
لو كان بطنك شبراً قد شبعت وقد ... أفضلت فضلاً كثيراً للمساكين
لكنّ بطنك باعٌ ليس يشبعه ... خرج العراق ولا مال الدّهاقين
ما زال في سورة الأنعام يدرسها ... حتى فؤادي مثل الخزّ في اللّين
إمّا تصبك من الأيام جائحةٌ ... لم نبك منك على دنيا ولا دين
هذا من غرائب ما يروى، وهو كالسرّ من أسرار هذا الخلق، ولئن كان حقاً فما ينقضي العجب من قومٍ هذا حديثهم وذاك كلامهم.
دعا أعرابيٌّ فقال: ثبّت الله ودّكم، وأغزر رفدكم، وأمّن وفدكم، وأعلى جدّكم، وجمّل أمركم.
قيل لابن جريج: كم صيفكم بمكّة؟ قال: ثلاثة عشر شهراً.
سأل رجل الشعبيّ عن أكل الذباب فقال: إن اشتهيت فكله.
وسأل آخر الشعبي عن أكل لحم الشيطان فقال: ويحك ويدعك الشيطان تأكل لحمه؟ ارض منه بالكفاف! قال أعرابي: من ولد في الفقر أبطره الغنى، ومن ولد في الغنى لم تزده النعمة إلا تواضعاً.

كان أحمد بن يوسف وناس يختلفون إلى باب المأمون، فقال البّواب يوماً: يا هؤلاء، كم تقفون ها هنا؟ اختاروا واحدةٌ من ثلاث: إما أن ميزتم لوقوفكم ناحيةً من الباب، وإما نزلتم فجلستم في المسجد حتى يدعى بكم، قالوا: والخصلة الثالثة؟ فما تهيأ له، فقال: جئتمونا بكلام الزنادقة؟! فدخل أحمد فحدث المأمون فضحك وأمر للبواب بألف درهم وقال: لولا أنها نادرة جهلٍ لاستحقّ بها أكثر من ذلك.
قال القاسم بن محمد: كانوا يستحبّون استقبال المصائب بالتجمّل، ومواجهة النّعم بالتذلّل.
سمع ابن خلف الهمذاني قوماً يذكرون الموت فقال: لو لم يكن في الموت إّلا أنك لا تقدر أن تنفّس لكفى. هكذا حدثنا أبو نصر الأنماطي الهمذاني.
وعد يحيى بن خالد رجلاً مراراً ولم يف، فرفع إليه رقعة فيها: البسيط
البرمكّيون لا يوفون ما وعدوا ... والبرمكيّات لا يخلفن ميعاداً
فلما قرأها اغتمّ وقال: وددت أني افتديت هذا البيت ما أملك؛ وهرب الرجل.
كان لشيرين مولى بكرم عليها، فسألها مسألة الملك ترفيهه أياماً، فقالت له في أمره فقال: ما كنت لأنقض عهدي مع فلان، قالت: فأنا أسأله ذلك، قال: أنت وذاك، ولا أرى لك، فإنه سفيهٌ ولا آمنه، فأبت، فأذن لها، فكتبت إلى الرجل تسأله ترفيهه، فكتب إليها: إني وإياك تولّينا للملك عملين يجب علينا تنظيفهما، فمتى وقع فيهما شفاعةٌ وقع التقصير، وقد وليت أمر الخراج واستنظافه، ووليت أمر حرك وتنظيفه؛ فإن كنت مشفّعةً في التقصير في عملك أحداً أعلمتني لأشفّعك فيما سألت، وأنا متوقّع ما يرد به كتابك فأعمل بحسبه؛ فكتمت الكتاب، وسأل أنوشروان فأنكرت الكتاب والجواب.
قال أبو الأسود رحمه الله: العمامة خير ملبوس: جنّةٌ في الحرب، ووقايةٌ من الأحداث، ومكنّة من الحرّ، ومدفأة في البرد، ووقارٌ في النّديّ، وزيادة في القامة، وهي تعدّ من تيجان العرب.
شاعر: الوافر
إذا لبسوا عمائمهم ثنوها ... على كرمٍ وإن سفروا أناروا
يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطّعان هم تجار
إذا ما كنت جار بني خريم ... فأنت لأكرم الثّقلين جار
قال فيلسوف: ليس سرور النفس بالمال، ولكن بالآمال.
ويقال: نقل المسرور عن سروره أسهل من نقل المهموم من همومه.
اختلف أصحاب السّهمي أيما أبرّ: الوالد أم الولد إذا اجتمعا في البرّ وتساويا فيه فقالوا: إن الوالد أبرّ، لأنّ برّ الوالد طبيعةٌ، وبرّ الولد فرضٌ، والفرض ثقيل.
لما مرض حميد الطّوسي مرضه الذي مات فيه، ذهب ليقبض إحدى رجليه فلم يقدر فقال: خرينا والله.
ختن صبيّ من آل جميل، وحضر محمد بن جميل فقال للحجّام: ارفق بالصبيّ فإنه أول مرة ختنّاه، فضحك منه.
شاعر: الطويل
فإن تكن الأيام قيدن مطلقاً ... وأطلقن من عقد الحبال أخا أسر
فما زالت الأيام تستدرج الفتى ... وتختله من حيث يدري والا يدري
شاعر: المنسرح
أحسن من منزلْ بذي قار ... منزل خمّارةٍ وخمّار
وشرب كرخيّةٍ معتّقةٍ ... أحسن من أينقٍ وأكوار
وشمّ تفاحةٍ ونرجسةٍ ... أحسن من دمنةٍ وآثار
وقبلةٌ لا تزال تخلسها ... من رشإ عاقد لزنار
أحسن من مهمهٍ أضلّ به ... ومن سرابٍ هناك غرّار
وضرب عودٍ إذا ترجّعه ... بنان رود الشّباب معطار
أحسن عندي من أمّ ناجيةٍ ... وأمّ هندٍ وأمّ عمّار
دخل ابن خلف الهمذاني إلى رجل يعزّيه فقال: عظّم الله مصيبتك وأعان أخاك على ما يرد عليه من يأجوج ومأجوج؛ فضحك من حضر فقال: لم تضحكون؟ إنما أردت هاروت وماروت! نقلت من خطّ أبي سعيد السيّرافي - وكان شيخ زمانه ثقةً ومعرفةً وديناً وفضلاً، ومات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة - : دخل عبد الرحمن بن أمّ الحكم على معاوية فقال: بلغني أنّك قد لهجت بقول الشعر، قال: هو ذاك، قال: فإياك والمدح فإنه طعمة الوقاح من الرجال، وإياك والهجاء فإنك تحنق به كريماً، وتستثير به لئيماً، وإياك والتشبيب بالنساء فإنّك تفضح الشريفة، وتعرّ العفيفة، وتقّر على نفسك بالفضيحة؛ ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأشعار ما تزيّن به نفسك، وتؤدّب به غيرك.

دخل محمد بن الحنفيّة رضوان الله عليه على عبد الملك بن مروان، فلما أراد أن يقوم وضع يده على فخذه فقال: ما هذا؟ فقال: أردت أن أمسّك لتمسّني منك رحمٌ؛ فأمر له بعشرة آلاف دينار.
دخل أيّوب بن جعفر بن سليمان على المأمون، فقال له في بعض خطابه: أنا والله يا أمير المؤمنين أودّك مودةً حرّة، وأبغض أعداك بغضةً مرّة، وأشكرك شكر من لم يعرف الإنعام بعد خالقه إّلا منك، ولا التفضّل من سواك؛ فقال المأمون: إنّك لتقول فتحسن، وتغيب فتؤتمن، وتحضر فتزيّن.
قال بزرجمهر: العاقل لا يجزع من جفاء الولاة وتقدمة الجاهل عليه، لأنّ الأقسام لم توضع على قدر الأحلام.
وشتم رجلٌ عمر بن عبد العزيز فقال: لولا يوم القيامة لأجبتك.فقال الحكماء:المسيء ميت وإن كان في منازل الأحياء والمحسن حي وإن كان في منازل الأموات قال الفضل بن يحيى: الصبر على أخٍ تعتب عليه خيرٌ من صديقٍ تستأنف مودته.
كان أبو سفيان إذا نزل به مستجيرٌ قال: يا هذا، إنك اخترتني جاراً واخترت داري داراً، فجناية يدك عليّ دونك، وإن جنت عليك يدٌ فاحتكم حكم الصبيّ على أهله.
كان على عهد كسرى رجلٌ يقول: من يشتري ثلاث كلماتٍ بألف دينار؟ فتطّير منه، إلى أن اتّصل قوله بكسرى، فأحضره وسأله عنها فقال: حتى يحضر المال، فأحضر، وقال له: قل، فقال: الواحدة: ليس في الناس كلّهم خيرٌ، فقال كسرى: هذا صحيح، ثم ماذا؟ قال: ولا بدّ منهم، فقال: صدقت، ثم ماذا؟ قال: فألبسهم على قدر ذلك، فقال كسرى: قد استوجبت المال فخذه؛ قال: لا حاجة لي فيه، قال: فلم طلبته؟ قال: أردت أن أرى من يشتري الحكمة بالمال؛ فاجتهد به كسرى في قبض المال، فأبى.
قال: كان يونس يقول: لا يحتمل الفقر إّلا بإيمانٍ صلب.
لما افتتحت بلخ في زمن عمر، وجد على بابها صخرةٌ مكتوبٌ عليها: إنما يبين الفقير من الغنيّ عند الانصراف من بين يدي الله عزّ وجلّ بعد العرض.
دخل عطيّة بن عبد الرحمن الثّعلبي على مروان بن محمد، فلما صار على طرف البساط تكلّم، فملأه سروراً، ثم قال: ايذن لي يا أمير المؤمنين أقبّل يدك، فقال له مروان: قد عرف أمير المؤمنين مكانك في قومك وفضلك في نفسك، والقبلة من المسلم ذلّة، ومن الكافر خدعة، ولا حاجة بك إلى أن تذلّ أو تخدع، وأنت الأثير عندنا على كلً حالٍ الخاء من خدعة كانت مضمونة من شكل بخط السيراني وفتحها لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وضمها جائز.
جاءت امرأةٌ من عبس إلى أمير المؤمنين فقالت وهو على المنبر: يا أمير المؤمنين، ثلاثٌ بلبلن القلوب، قال: وما مات هي؟ قالت: رضاك بالقضيّة، وأخذك بالدنيّة، وجزعك عند البليّة، فقال لها: ويحك، إنما أنت امرأةٌ، فامضي واجلسي على ذيلك ودعي ما لست منه ولا هو منك! فقالت: لا والله، ما من جلوسٍ إّلا في ظلال السّيوف! كتب رجلٌ إلى صديق له: أما بعد، فإن كان إخوان الثّقة كثيراً فأنت أوّلهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداُ فأنت هو.
قال عثمان لعامر بن عبد قيس العنبري - وكان ظاهر الأعرابية - : يا عامر، أين ربّك؟ قال: بالمرصاد؛ وقال: ما الخير؟ قال خير " كتب ربّكم على نفسه الرّحمة " .
قال عمرو بن العاص لما قتل عمّار بن ياسر رحمه الله: إنما قتله من ألقاه على ظباة سيوفنا وأسنّة رماحنا. فبلغ ذلك علياً عليه السلام فقال: ورسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم إذن قاتل عمّه حمزة إذ أتى به إليكم يوم أحد فقتلتموه، وكذلك كلّ من استشهد معه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
قال عمر بن عبد العزيز: ما شيءٌ كنت أحبّ علمه إّلا علمته، إّلا أشياء كنت أستصغرها فلا أسأل عنها، فبقي جهلها.
كان يحيى بن خالد يجري على سفيان الثوري كلّ شهرٍ ألف درهم، فسمع يحيى سفيان يقول في سجوده: اللهم، إنّ يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته، فلما مات يحيى رآه بعض إخوانه في منامه فقال له: ما صنع الله بك؟ فقال: غفر لي بدعوة سفيان.
دخل يوسف بن يعقوب على الرّشيد فقال: ممّن أنت؟ فقال: خراساني الآباء، بغدادي المنشأ، هاشميّ الولاء.
كان ابن داود يقول: لله درّ البرامكة، عرفوا تقلّب الزمان فبادروا بالفعل الجميل قبل العوائق.
وقف رجلٌ على قبر بعض الجبابرة فقال: أيها الجبّار، كم نفسٍ قتلتها طالباً للراحة منها أصبحت اليوم وهي أكثر شغلك.
أنشد: الطويل

إذا فاخرتنا من معدٍّ قبيلةٌ ... فخرنا عليهم بالأغرّ ابن حاتم
يجرّ رياط الحمد في دار قومه ... ويختال في عرض من الذمّ سالم
لما عقد معاوية لعمروٍ على مصر، جعل وردان مولاه يضع عقبه على عقب عمروٍ ولا يعلم ما أراد بذلك؛ فلما خرج سأله فقال: أردت أن تستدعي منه ما يبقى لعقبك من بعدك.
الصبر صبران: صبر فريضةٍ وصبر نافلةٍ؛ فالفريضة تركك الحرام لخشية الله، والنافلة تركك الحلال للرغبة فيما عند الله.
قيل لابن عيينة: من أفقر الناس؟ قال: ليس أحدٌ دون أحد؛ قال الله عزّ وجلّ " يا أيّها النّاس أنتم الفقراء إلى الله " .
أم الحباب بنت غالب الكلابية: الطويل
تذكّرتك إذ جيٌّ بحرّ بلادها ... وإذ أهل جيٍّ بالسّيال كثير
إذا فزعوا طاروا إلى كل شطبة ... تكاد إذا صلّ اللّجام تطير
وزغفٍ مثنّاة دلاصٍ كأنّها ... إذا أشرجت فوق الكميّ غدير
سمع رجلٌ موسى بن جعفر عليهما السلام يقول في سجوده آخر الليل: أي رب، عظم الذّنب من عبدك، فليحسن العفو من عندك.
وأنشدت: الهزج
أنا ابن الليل والخيل ... فنزّالٌ ورحّال
وللأموال بذّال ... وللأقران قتّال
نماني السيف والرمح ... فنعم العم والخال
فما تخفضني حالٌ ... ولا ترفعني حال
قيل لبعض الحكماء: لم صار الجواب منصوراً؟ قال: لأنّ الابتداء بغيٌ.
كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام يسأله عن القرآن وما يقول فيه، فكتب إليه عبد الله: عافانا الله وإياك من كلّ فتنة، فإن يفعل فأعظم بها منّة، وإن لم يفعل فهي كالهلكة. نحن نرى الكلام في القرآن بدعةً اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلّف المجيب ما ليس عليه، ولا خالق إّلا الله عزّ وجلّ، وما دون الله تعالى فهو مخلوق، والقرآن كلام الله تعالى، فانته بنفسك والمخالفين إلى أسمائه التي سمّاه الله عزّ وجلّ بها تكن من المهتدين، ولا تسمّ القرآن باسمٍ من عندك فتكون من الضالّين، " وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون " ، جعلنا الله وإياك من " الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من السّاعة مشفقون " .
قال أبو العباس: لمّا علم الله تعالى أنّ أعمال العباد لا تفي بذنوبهم، خلق العلل والأمراض ليكفّر عنهم بها السيّئات.
قال الموبذ بحضرة المأمون: ما أحسنت إلى أحدٍ ولا أسأت، فقال المأمون: وكيف ذلك؟ قال: لأني إن أحسنت فإلى نفسي، وإن أسأت فإليها؛ فلما نهض قال المأمون: أيلومني الناس على حبّ من هذا عقله؟ سخط الرشيد على حميد الطّوسي، فدعا له بالسيف والنّطع، فلما رآه بكى، قفال له: ما يبكيك؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما أفزع من الموت لأنّه لا بدّ لي منه، وإنما بكيت أسفاً على خروجي من الدنيا وأنت ساخطٌ عليّ، فضحك وقال: البسيط
إنّ الكريم إذا خادعته انخدعا
قيل الرجل:لم تركت السلطان أحوج ما كنت إليهم محتاجاً فال يغنيني عنهم الذي تركتهم له أنشد: البسيط
نبّهت زيداً فلم أفزع إلى وكلٍ ... رثّ السلاح ولا في الحيّ مغمور
سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوهٍ كالدنانير
وقّع المنصور: قد أمنّت كلّ مذنب، وشكرت كل بريّ، وجبرت كلّ وليّ.
أنشدت: الطويل
يدي جرحتني أخطأت أم تعمّدت ... فهل لي عن صبرٍ على ذاك من بدّ
ولو غير جلدي رابني لحزرته ... وكنت به طبًّا ولكنّه جلدي
قال أبو يعقوب الأزدي لبعض الولاة: إنّ الناس يتوسّلون إليك بغيرك فينالون معروفك، وإني أتوسّل إليك بك ليكون شكري لك لا لغيرك.
قال عبد الله بن العباس لأمير المؤمنين عليه السلام: اجعلني مع عمرو بن العاص، فلعمري لأعقدنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه، ولا ينتهي طرفه، فقال له عليّ عليه السلام: لست من مكره ومن مكر معاوية في شيء، فقال: والله لا تزال حتى يغلب حقّك بالباطل.

لما دخل حذيفة المدائن خطب فحمد الله عزّ وجلّ وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم ثم قال: " إن الدنيا دار هدنة ومنزل قلعة، والسّير بكم إلى دار المقامة، فأعدّوا الجهاد لبعد المفازة " .
كان رجلٌ من أهل اليمامة يهوى ابنة عمٍّ له، فبلغه أنها استبدلت بدلاً فقال: الطويل
وقال أناسٌ إنّ ليلى تبدّلت ... فقلت: فإني ناظرٌ من قرينها
فإن يك ذا فضلٍ عليّ عذرتها ... وكانت للبلى بيعةٌ لا تشينها
وإن كان من أوباش من تجمع القرى ... أقل: تعست ليلى فشلّت يمينها
كتب معاوية إلى مروان: ابعث إليّ بالمنبر واقلعه؛ فأصاب الناس ريحٌ مظلمةٌ حتى ظهرت الكواكب نهاراً ثم انجلت، فقال مروان: إنكم تزعمون إنّ أمير المؤمنين أمرني بقلع منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وحمله إليه؟! أمير المؤمنين أعلم بالله عزّ وجلّ، إنما برفعه عن الأرض، ثم عمل عليه ستّ درجات، فما زاد أحدٌ بعده.
ومن كلام الخلفاء: اللسان خادم الفؤاد.
ومن جيّد صفات السيوف: الكامل
إنّي لبست لحربكم فضفاضةً ... كالنهي رقرقه هبوب شمال
ومهنّداً كالبرق ليس لحدّه ... عهدٌ بتمويهٍ ولا بصقال
ترضيك هزّته إذا ما شمته ... وتقول حين تراه: لمعة آل
مكتوب في الإنجيل: الحجر الواحد المغصوب في الحائط عربون الخراب.
عيسى بن عقبة: الوافر
بكينا يوم فرقة آل حزوى ... فلاقت مثل فرقتنا الرّكاب
إذا خطراتها خطرت علينا ... ظللنا لا يسوغ لنا شراب
قال ابن الزيّات الوزير: لا يتصوّر لك التّواني بصورة التوكّل فتخلد إليه وتضيع الحزم، فإنّ الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله أمر بذلك؛ قال الله عز وجلّ " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله " ، فجعل التوكّل بعد العزم، والمشورة قبله، وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم لصاحب الناقة: " اعقلها وتوكّل " .
الآمال مصائد الآجال، تطول ولا تتطاول.
توقّي الصّرعة أسهل من طلب الرّجعة.
أيدي العقول تمسك أعنّة الأنفس.
الجاهل صغيرٌ وإن كان كبيراً.
الكبر ذلٌ لمن تعزّز به.
وأنشد: الطويل
وكم باب رزقٍ قد فتحت بصارمٍ ... حسامٍ ولم يغلق عن الضّيف بالعذر
وما أخذت كفّي بقائم نصله ... فحدّثت نفسي بانهزامٍ ولا فقر
وأنشد: الطويل
سقى ورعى الله الأوانس كالدّمى ... إذا قمن جنح الليل منبهرات
إذا مسن قدّام البيوت عشيّةً ... قطاف الخطا يرفلن في الحبرات
ذهبن بحبّات القلوب فأقبلت ... إليهنّ بالأهواء مبتدرات
لقي يحيى عيسى صلّى الله عليهما فتبسّم يحيى، فقال له عيسى: إنك لتبتسم ابتسام آمنٍ، فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانطٍ، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى عيسى: الذي يصنع يحيى أحبّ إليّ.
خطب عبد الملك بن مروان، فلما انتهى إلى موضع العظة من خطبته قام إليه رجل من آل صوحان فقال: مهلاً مهلاً، إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتّعظون، أفنقتدي بسيركم في أنفسكم، أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم: اقتدوا بسيرتنا فأنّى وكيف، وما الحجّة، وأين النصر من الله عزّ وجلّ في الاقتداء بسيرة الظّلمة الخونة الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً؟ وإن قلتم: أطيعوا أمرنا، واقبلوا نصيحتنا، فكيف ينصح غيره من يغشّ نفسه؟ وكيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته؟ وإن قلتم: خذوا الحكمة حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن سمعتموها، فعلام قلّدناكم أزمّة أمورنا، وحكّمناكم في دمائنا وأموالنا وأدياننا؟ وما تعلمون أنّ فينا من هو أفصح بصنوف اللغات، وأعرف بوجوه الكلام منكم، فتحلحلوا لهم عنها، وإّلا فأطلقوا عقالها، وخلّوا سبيلها، يبتدر إليها من شردتموهم في البلاد، وقتلتموهم في كلّ واد؛ وأما لئن ثبتت في أيديكم لاستيفاء المدة، وبلوغ الغاية، وعظم المحنة، إنّ لكلّ قائمٍ يوماً لا يعدوه، وكتاباً يتلوه " لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إّلا أحصاها " " وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون " . هكذا وجدت بخطّ السيرافي، وما رأيت له إسناداً.

ولقد ملكني العجب بهذا الكلام، فإني ما سمعت أحسن موقعاً منه. والذي يزيد في التعجب قيام هذا الرجل إلى ذلك العفريت بهذا الكلام الذي ينفذ منفذ السهم ويعمل عمل السمّ، سبحان الله ما كان أبلّ ريقه، وأجلح وجهه، وأقوى منته، وأصدق نيّته، وأقتل مرّته؛ وما تكاد ترى مثل هذا في زمانك، أي والله ولا من دونه ولا من يحكي هذا القول بعينه. لقد خسّ حظّ الأديب، وخوى نجم الأدب، وانثلم ركن الدين، وخاس عهد المسلمين، وأصبح أهل زمانك أتباع مرغوب إليه ومرهوب منه.
ومن إنشادات إسحاق بن إبراهيم: الكامل
إنّا إليك مع الذّميل رمت بنا ... قلصٌ لها تحت الرّكاب عرام
يحملننا ومدائحاً من لؤلؤٍ ... لو كان من درٍّ يكون كلام
الصّمة القشيري: الطويل
ولمّا رأينا سبخة الرمل أعرضت ... ولاحت لنا حزوى وأعلامها الغبر
شربنا سجال الشوق حتى كأنما ... جرت فاستقرت في مفاصلنا الخمر
يظلّ لعينيك اللجوجين واكفٌ ... من الدّمع أّلا ينطق الطّلل القفر
علام تقول الهجر يشفي من الجوى ... ألا لا ولكن أوّل الكمد الهجر
أنشد: الطويل
ولمّا رأت هند أنابيب رأسه ... كأنّ بجبينها هشيم حماط
بكت عين هندٍ عن بياضٍ وتحته ... رياطٌ من الأحساب أيّ رياط
شاعر: البسيط
ما كان في الأرض إّلا اثنان قد علما ... معنٌ وذو هيدب دانٍ له درر
يحيي البهائم هذا وهي راتعةٌ ... وكان معنٌ حياً للجود ينتظر
فأضحت الأرض قد ولّت غضارتها ... فليس جودٌ ولا معنٌ ولا مطر
انشد: الطويل
وقد كنت أرجو منكم خير ناصرٍ ... على حين خذلان اليمين شمالها
فإن انتم لم تحفظوا لمودّتي ... ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها
عشق مدنيٌّ امرأةً، وكان سميناً، فقالت له: تزعم انك تهواني وقد ذهبت طولاً وعرضاً، فقال: إنما سمنت من فرط الحبّ، لأني آكل ولا أشعر، وأشبع ولا أعلم.
يقال: كلّ شيءٍ إذا كثر رخص إّلا العقل، فإنه إذا كثر غلا هذا من جيد الكلام؛ هكذا كان بخط أبي سعيد فنقلته على هيئته.
أنشد: الكامل
ناهضت بالحسن عمران الندى ... فتنبّهت لرجائه آمالي
سكناته عدةٌ وفي نطقاته ... تفريق جمع خزائن الأموال
وإذا استجرت أجار عدمك ماله ... من صولة الحدثان والإقلال
وجه الواثق رجلاً إلى رجلٍ يعرف مقدار عقله، فمضى وعاد، فسأله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، دخلت على رجلٍ في حصنٍ من عقله.
قال موبذ: مات بعض الأكاسرة، فوجدوا له سفطاً، ففتح فإذا فيه حبّة رمّانٍ كأكبر ما يكون من النّوى، ومعها رقعةٌ فيها مكتوب: هذا حبّ زمّنٍ عمل في خراجه بالعدل.
تعزّ عن الشيء إذا منعته لقلّة ما يصحبك إذا أعطيته، وما خفّف الحساب وقلله خيرٌ مما كثّره وثقّله.
قال زياد لابنه: عليك بالحجاب، فإنّما تجرّأت الرّعاة على السّباع بكثرة نظرها إليها؛ وهذا يخالف ما روي عن سعيد بن المسيّب أنه قال: نعم الرجل عمر بن عبد العزيز لولا حجابه، إن داود ابتلي بالخطإ لحجابه.
في قوله: " فاصفح الصّفح الجميل " ، قال: الرّضا بلا عتاب، وفي قوله: " فاصبر صبراً جميلاً " ، وقال: صبراً لا شكوى معه.
حجّ أبو دلف القاسم بن عيسى، فامتدحه شاعر فقال: أحسنت، فقال الرجل: إن القاضي إذا أسجل عجّل، فقال أبو دلف: إيت الكرج فقال: أخاف العرج؛ فأمر له بخمسين ألف درهم.
" لينذر من كان حياً " قال: من كان عاقلاً.
بعضهم: الدنيا تضرّ بمقدار ما نفعت، وتفجع بمقدار ما متّعت، وتغصّ بمقدار ما أساغت، وتسيء بمقدار ما أحسنت.
قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام: المستدين تاجر الله في أرضه.
خالد الكاتب: المتقارب
مثالٌ من المسك والعنبر ... سباني بطرفٍ له أحور
وكم ذقت من ريقه خمرةً ... جرت بين سمطين من جوهر
سمع يحيى بن معاذ الرازي يقول: لولا ثلاث تثقل المؤمن لهام سروراً؛ قيل له: وما هي؟ قال: ألم المصائب، وتذكّره الذنوب، وشغله بطلب المعاش.
ومن كلامه: الحكمة عروس العلم.

يحيى بن معاذ: عامل الله بالإخلاص، والناس بالمداراة، والنفس بالزّراية عليها.
قال عمر بن الخطاب: إذا رأيناكم كان أحسنكم جهرةً أقربكم من قلوبنا، فإذا كلّمناكم كان أحسنكم بياناً أزلفكم عندنا، وإذا خبرناكم كانت الخبرة من وراء ذلك.
قال عبد الملك بن عمير - وأومأ بيده إلى قصر الإمارة بالكوفة - : دخلت هذا القصر فرأيت عجباً؛ رأيت عبيد الله بن زياد جالساً على سريره وبين يديه ترسٌ فيه رأس الحسين بن علي عليهما السلام ولعن قاتلهما، ثم دخلت هذا القصر فرأيت المختار جالساً على السّرير وبين يديه ترسٌ فيه رأس عبيد الله بن زياد، ثم دخلت هذا القصر فرأيت مصعب بن الزبير بن العوّام وهو جالسّ على السّرير وبي يديه ترسّ فيه رأس المختار، ثم دخلت القصر فرأيت عبد الملك بن مروان جالساً على السرير وبين يديه ترسٌ فيه رأس مصعب.
هكذا وجدت بخطّ السيّرافي، والخبر مشهور، إلا أنني أنست بخطّه.
قال جعفر بن محمد عليهما السّلام: كان أبي لا يتّخذ السّلاح في بيته ويقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " من اتخذ شيئاً احتاج إليه، وأنا لا أحبّ أن أحتاج إلى السّلاح " .
حثّ رجلٌ رجلاً على الأكل من الطعّام فقال: عليك تقريب الطعام، وعلينا تأديب الأجسام.
لمّا أتي الحجّاج بكميل بن زيادٍ وابن ضابئ قال لبعض الحرس: اضرب عنقه، فقال الحرسي: ولي أجره؟ فغضب الحجّاج وقال: إذا قلنا إن الله تعالى ساق إلينا أجراً نتفرّد به سألنا أحدهم أن يشركنا فيه؛ اضرب عنقه، ولك ثلث أجره ولي ثلثاه.
قيل لابن الدكين: ما الدليل على أنّ المشتري سعدٌ؟ قال: حسنه.
مات الهادي وولي الرشيد وولد المأمون في ليلةٍ واحدة.
كان مسلم اليتيم جميلاً فقيل له: ما منعك من مراسلة النساء الحسان مع جمالك ورغبتهنّ في أمثالك، فقال: عفةٌ طباعية، وغيرةٌ إسلامية، وكرمٌ موروث، ومعرفةٌ بقبح العار.
وجّه أبو مسلم قحطبة بن شبيب الطائي يحارب يزيد بن عمر ابن هبيرة - وكان عامل مروان على العراقين - فغرق قحطبة وانهزم يزيد بن عمر، فكتب إلى مروان بالخبر، فقال مروان: هذا والله الإدبار، وإلا فهل سمعتم بميتٍ هزم حياً؟! كانت حربهما فيما أظنّ بالفلج، كذا كان بخطّ السّيرافي.
قام رجلٌ لبعض الولاة فقال له: لم قمت؟ قال: لأجلس فوّلاه.
شاعر: المتقارب
هم القوم إن نابهم حادثٌ ... من الدّهر في شدّةٍ يصبروا
وإن نعمةٌ مسّهم بردها ... مشوا قاصدين ولم يبطروا
خضارمةٌ عسرهم كالغنى ... وهم كالرّبيع إذا أيسروا
سعى للمكارم آباؤهم ... وكانوا بينهم فما قصّروا
آخر: الطويل
تودّعني والدّمع يجري كأنّه ... لآل وهت من سلكها تتحدّر
وتسألني هل أنت بي متبدّلٌ ... فقلت: نعم سقماً إلى يوم أحشر
فقالت: تصبّر لا تمت بي صبابةً ... فقلت لها: هيهات مات التصبّر
قيل لعبد الملك بن مروان: متى ولدت؟ قال عند معترك المنايا، يريد: أيام الشّورى.
قال أنس بن مالك: كنت عند الحسين عليه السلام، فدخلت عليه جاريةٌ بيدها ريحانٌ فحيّته بها فقال بها: أنت حرّةٌ لوجه الله فقلت له: تحييك جارية بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ فقال: كذا أدّبنا الله تعالى قال الله عزّ وجلّ " وإذا حييتم بتحيةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها " وكان أحسن منها عتقها.
وقّع هارون إلى عامله بالكوفة: حاب علية الناس في كلامهم، وسوّ بينهم وبين السّفلة في أحكامك.
قدم بريدٌ من الشام على عمر بن عبد العزيز فقال له عمر: كيف تركت الشام؟ فقال: تركت ظالمهم مقهوراً، ومظلومهم منصوراً، وغنيّهم موفوراً، وفقيرهم محبورا؛ فقال عم: الله أكبر، والله لو كانت لا تتمّ خصلةٌ من هذه إّلا بفقد عضوٍ من أعضائي لكان ذلك عليّ يسيراً.
شاعر: البسيط
لا تعرف الناس أعلاهم وأسفلهم ... وإن ظننت بهم خيراً وإن ظرفوا
حتّى تكلّفهم عند امتحانهم ... في الجاه والمال حاجات فينكشفوا
قيل لعمارة بن عقيل: ما أجود الشعر؟ قال: ما كان كثير العيون، أملس المتون، لا يمجّه السّمع، ولا يستأذن على القلب.
في قول الله تعالى " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم " قال: زاد في طول الثياب شبراً.

قال بعض الحكماء: يحسن الامتنان إذا وقع الكفران، ولولا أنّ بني إسرائيل كفروا النّعمة ما قال الله تعالى " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " .
قال الحجّاج على المنبر: يقول سليمان " ربّ اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي " إن كان لحسوداً.
دخل على المهديّ وفدٌ من خراسان، فقام إليه رجلٌ من أهل سمرقند فقال: أطال الله بقاء الأمير أمير المؤمنين، إنّا قومٌ نأينا عن العرب، وشغلتنا الحروب عن الخطب، وأمير المؤمنين يعرف طاعتنا، وما فيه مصلحتنا، فيكتفي منا باليسير من الكثير، ويقتصر على ما في الضّمير دون التفسير، فقال له المهدي: أنت أخطب من سمعت.
يقال: من كانت فيه لله حاجةٌ لم تزل له إلى الله حاجة - هكذا كانت هذه اللفظة بخطّ السّيرافي ونقلتها كما وجدتها، وأنا أستجفي ما دونها، والمغزى فيها صحيح، وإن كانت العبارة نابيةً، ولولا أنّي وجدتها بخطّ هذا الرجل ما تجوّزت روايتها. على أنّ الله تعالى يتعالى عن جميع ما حوته الضّمائر، وصاغته الأوهام، وعنته الألسن، ونحته الإشارات، فليس يلحقه نقص الناقصين، ولا يكمل بكمال الكاملين.
قال عبد الملك بن مروان لزفر بن الحارث: ما ظنّك بي؟ قال: أنّك تقتلني، فقال: قد أكذب الله ظنّك، وقد عفوت عنك.
قال الحسن: من كانت الدنيا عنده وديعةً أدّاها إلى من ائتمنه عليها ثم راح إلى ربه مخفًّا؛ ما لي أراكم أخصب شيءٍ ألسنة وأجدبه قلوباً؟ قال عمر بن الخطاب: ليت شعري متى أشفي غيظي؛ أحين أقدر فيقال هلاّ غفرت، أم حين أعجز فيقال هلا صبرت!! قال عبيد الله بن يحيى لأبي العيناء: كيف الحال؟ قال: أنت الحال، فانظر كيف أنت لي؛ فأحسن صلته.
وأنشد: المنسرح
يا بدر ليلٍ توسّط الفلكا ... ذكرك في القلب حيثما سلكا
إن تك عن ناظري نأيت فقد ... تركت عقلي عليك مشتركا
أسلمت عيّني للسّهاد كما ... أسلم جفني عليك ما ملكا
ما كنت أرجو السّلوّ من سنن ال ... دّمعة إلا لشانئ فبكى
ولا بدا لي شيءٌ سررت به ... بعدك إلا نظرت لي ولكا
الخليل: الطويل
ألا أيها المهديّ غير مدافعٍ ... رجاؤك خيرٌ من عطاء سواكا
ففعلك موصولٌ بقولك كلّه ... وأطيب ما سمع العباد ثناكا
العرب تقول: الغنى طويل الذيل ميّاس.
ذكر عند سلام بن أبي مطيع الرجل تصيبه البلوى فتبطئ عنه الإجابة فقال: بلغني أن الله عزّ وجلّ يقول: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ شاعر: الكامل
إنّي لأدّرع الفلاة وما أرى ... شبحاً فيسنح ذكرها بحيالها
فأنص راحلتي بها وأهزها ... بعد اتصال كلالها بكلالها
وكأنّني والعيس تدّرع الفلا ... مصغٍ بأذنٍ لاستماع مقالها
فكأنّ طرفي حيث كنت وإن نأت ... دارٍ بها متعلّقٌ بمثالها
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: قيمة كلّ امرئٍ ما يحسنه.
كتب الحجّاج إلى عبد الملك كتاباً يقول فيه: كنت أقرأ في المصحف فانتهيت إلى قوله تعالى " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّقين والشّهداء " فأردت ألحق به: والخلفاء قال: فجعل عبد الملك يقول: يا للحجاج ما أكفره وأجسره قاتله الله! قال إياس: كان لي أخٌ صغيرٌ فقال لي: من أي ّ شيء خلقنا؟ قلت: من طين، فتناول مدرةً فقال: من هذا؟ قلت: نعم منها خلق الله تعالى آدم، قال: أفيعيدنا الذي خلقنا كما كنّا؟ قلت: نعم، قال: لم؟ قلت: ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، قال: فينبغي أن نخافه إذن؟ قلت، أجل، فمات وهو صغير.
شاعر: الطويل
أناقش من ناجاك مقدار لحظةٍ ... ويعتاد نفسي إن نأيت حنينها
وإنّ وجوهاً يصطبحن بنظرةٍ ... إليك لمحسودٌ عليك عيونها
قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أتفترّ عن واضحة، وقد كسبت الذنوب الفاضحة؟ شاعر: البسيط
موفقٌ لسبيل الرّشد متّبعٌ ... يزينه كلّ ما يأتي ويجتنب
له خلائقٌ بيضٌ لا يغيّرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذّهب

قال أمير المؤمنين عليه السلام: توقّ من إذا حدّثك كذبك، وإذا حدّثته كذّبك، وإذا ائتمنته خانك، وإذا ائتمنك اتهمك.
قطع على قومٍ بالبادية فكتب الحجاج إلى بني عمرو بن حنظلة: من الحجّاج بن يوسف إلى من بلغه كتابه: أمّا بعد، فإنكم أقوامٌ قد استحكمتم على هذه الفتنة، فلا على حقٍّ تقيمون، ولا على باطلٍ تمسكون، وإني أقسم بالله تعالى لتأتينّكم مني خيلٌ تدع أبناءكم يتامى ونساءكم أيامى، ألا وأيّما رفقةٍ مرّت بأهل ماءٍ فأهله ضامنون لها حتى تأتي الماء الآخر والسلام. فكانت الرفقة إذا وردت أهل الماء أخذوها حتى يؤدّوها إلى الماء الآخر.
نازع عبد الملك بن مروان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأربى عليه فقيل له: اشكه إلى عمّك معاوية لينتقم لك منه، فقال: مثلي لا يشكو، ولا يعدّ انتقام غيري لي انتقاماً. فلما استخلف قيل له في ذلك فقال: حقد السلطان عجزٌ.
قال بعضهم: من طالت لحيته تكوسج عقله.
قال أبو الدرداء: بئس المعين على الدّين، قلبٌ نخيب وبطن رغيب.
مما يستدلّ به على شرف الرجل أّلا يزال يحنّ إلى أوطانه، ويصبو إلى إخوانه، ويبكي على ما مضى من زمانه.
كتب رجلٌ إلى أخيه: أنا وإن كنت مستبطئاً لنفسي في مكاتبتك ومواصلتك فإنّي غير مستبطئ لها في العلم بفضلك والتوفّر على إخائك.
قال الأحنف: إنّ الرجل يعذر أّلا يصيب الحقّ، ولا يعذر إذا سمع الصواب أن لا يعرفه.
قال بعض الزّهّاد: أعداء الإنسان ثلاثة: نفسه في دينه، ودنياه، وشيطانه؛ فالاحتراس من النفس بقطع الشّهوة، ومن الشيطان بتعمّد المخالفة، ومن الدّنيا بالزّهد فيها.
شاعر: الكامل
يعطي على الغضب المشدّد والرّضى ... وعلى التّهلّل والعبوس الأربد
كالغيث يسقي العالمين بأبيضٍ ... من غيمه وبأحمرٍ وبأسود
آخر: مجزوء الوافر
له خلقان لم يدعا ... له مالاً ولا نشبا
سخاءٌ ليس يملكه ... وحلمٌ يملك الغضبا
وحلمٌ لم يكن ذلاًّ ... وجودٌ لم يكن لعبا
قيل لصوفيّ: ما علامة حقيقة التعبّد؟ قال: أن يقبل إذا أعطي ويرضى إذا منع.
ومن كلام يحيى بن معاذ: الاقتصاد في العيش ضيعةٌ لم تتكلّف منها؛ تمتّع القلوب في الدنيا غفلتها عن الآخرة؛ الزهد حلوٌ مرّ، أما حلاوته فاسمه والمذاكرة به، وأما مرارته فمعالجته.
كان بالبصرة أهل بيت يلقّبون الناس على الوجه، فخطب إليهم رجلٌ وقال: أتزوج إليكم على شريطة، فقالوا: وما هي؟ قال: على أن لا تلقّبوني وتدعوني رأساً برأس، قالوا: فتلقبّك رأساً برأس، فعرف بذلك اللقب.
قوله تعالى " فإذا جاءت الطّامّة الكبرى " أي إذا دفع إلى مالك؛ وقوله تعالى " فبصرك اليوم حديدٌ " قال إلى عين الميزان.
يقال: من أصبح لا يحتاج إلى حضور باب سلطانٍ لحاجة، أو طبيب لضّر، أو صديقٍ لمسألة، فقد عظمت عنده النّعمة.
قيل لبعض أهل البيت صلوات الله عليهم: أيّما خيرٌ للإنسان: الموت أو الحياة؟ قال: الموت، قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله عزّ وجلّ قال " وما عند الله خيرٌ للأبرار " فإن كان برّاً فالموت خير له، وقال في الفجار " ليزدادوا إثماً " فلان لا يزداد إثماً خيرٌ له.
يقال: الحاجات تطلب بالرّجاء وتدرك بالقضاء.
من كلامهم: كلّ مكسوب مسلوب.
دخل حاتم الأصمّ على عاصم بن يوسف فقال: يا حاتم، أتحسن أن تصلي؟ قال: نعم، قال: وممن تعلّمت الصّلاة؟ قال: من شقيق، قال: فكيف تعمل؟ قال: إذا حان وقت الصلاة أتوضأ وأدخل المسجد وأقوم فأرى الخالق عزّ وجلّ فوقي، والصّراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن يساري، وملك الموت وراء ظهري، والكعبة قبلتي، ومقام إبراهيم في قلبي، ثم أكبّر تكبيراً بالخوف، وأقرأ قراءةً بالترتيل، وأركع ركوعاً بالتّمام، وأسجد سجوداً بالتّواضع، وأتشهّد تشهّداً بالرّجاء، وأسلّم بالرحمة؛ فبكى عاصم وقال: يا حاتم، لم أصلّ هذه الصلاة منذ ثلاثين سنةً على هذه الطريقة.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم: عظني، قال: يكفيك من التوسّل إليه صدق التوكّل عليه.

قال المدائني: أوّل من قطع ألسن الناس عن الخطبة عبد الملك: خطب الناس فقام إليه رجل فقال عبد الملك: والله ما أنا بالخليفة المستضعف ولا الإمام المصانع، وإنكم تأمرونا بأشياء تنسونها من أنفسكم؛ والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إّلا أوردته تلفه.
لما تولّع زياد بشيعة أمير المؤمنين عليه السلام، قال الحسن: اللهم تفرّد بموته فإن القتل كفّأرة.
وقال يحيى بن أبي كثير في قول الله عزّ وجلّ " في روضةٍ يحبرون " قال: السمّاع.
قال ابن السمّاك: وجدت الدنيا كحلم نائم، وبرقٍ لامع، وفيءٍ زائل.
ثعلب: الكامل
غيثان مكروهان: غيثٌ سحابةٍ ... يمحو الرّسوم من الحبيب الظاعن
أو غيث عينٍ أسبلت عبراتها ... تبدي مصوناً من سرير صائن
هذا خرابٌ للدّيار وهذه ... فيها خراب محاجرٍ ومحاسن
لما استخلف المهدي أخرج من في السجون من أصحاب الجرائم فقيل له: إنما تزري على أبيك، فقال: أنا لا أزري علىأبي، وإنما أبي حبس بالذّنب وأنا أعفو عنه.
ولي رجلٌ أصبهان، فدخل عليه الناس يثنون ويقرّظون، فدخل في أخريات الناس رجلٌ فقال: قدمت خير مقدم، إن تحسن تجد عندنا شكراً، أو تسئ تجد عندنا غفراً، والثناء من بعد البلاء، والتزكية بعد الاختبار، والشهادة بالإحسان تقع بعد الامتحان؛ فقال الوالي: ما هذا رجل؛ هذا بلد! شاعر: الطويل
وعاذوا عياذاً بالفرار وقبلها ... أضاعوا بدار السّلم حرزاً ومعقلا
بني عمّنا أيقظتم الشرّ بيننا ... وكانت إليكم عدوة الشرّ أعجلا
ولما أشبّوا الحقد تحت صدورهم ... حسمناه عنّا قبل أن يتكهّلا
قدم قومٌ من بني أميّة على عبد الملك بن مروان فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن من تعرف، وحقّنا لا ينكر، جئناك من بعد نمتّ بقرابةٍ، فمهما تعطنا من خير فنحن أهله منك، كما أنّك أهل الشكر منّا. قال: فتطاول عبد الملك وقال: يا أهل الشام، هؤلاء قومي وهذا كلامهم.
أوّل كلام الحسن البصري أنه صلّى بأصحابه يوماً ثم انفتل إليهم وأقبل عليهم وقال: " أيّها الناس، إني أعظكم وأنا كثير الإسراف على نفسي، غير مصلحٍ لها، ولا حامل لها على المكروه من طاعة ربّها، قد بلوت نفسي في السّرّاء، فلم أجد لها تكبير شكرٍ عند الرّخاء، ولا كبير صبر عند البلاء، ولو أنّ الرجل لم يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل في الذي خلق له من طاعة ربّه، لقلّ الواعظون السامعون الدّاعون إلى الله بالحثّ على طاعته؛ ولكن في اجتماع الإخوان واستماع الحديث بعضهم من بعض حياةٌ للقلوب، وتذكيرٌ من النسيان. أيها الناس، إنما الدنيا دار من لا دار له، وبها يفرح من لا عقل له، فأنزلوها منزلتها " ؛ ثم أمسك.
كان من دعاء أمير المؤمنين عليه السّلام: اللهمّ لا تجعل الدنيا لي سجناً، ولا فراقها عليّ حزناً، أعوذ بك من دنيا تحرمني خير الآخرة، ومن أملٍ يحرمني خير العمل، ومن حياةٍ تحرمني خير الممات.
قال الحسن في قوله تعالى " وما نرسل بالآيات إّلا تخويفاً " قال: الموت الذّريع.
وقال رجلٌ لسليمان الشاذكوني: أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان، فقال له سليمان: إن كان ولا بدّ فعلى خراجها، فإنّ أخذ أموال الأغنياء أسهل من أكل أموال الأيتام.
سمع أبو سليمان الداراني يقول: إلهي وسيدي، إن طالبتني بشرّي طالبتك بتوحيدي، وإن طالبتني بذنوبي طالبتك بكرمك، وإن حبستني في النار أخبرت أهلها بمحبتي لك.
استأذن عبد الله بن عمر على الحجّاج ليلاً، فقال الحجّاج: إحدى حمقات أبي عبد الرحمن، فدخل، فلما وصل إليه قال له الحجّاج: ما جاء بك؟ قال: ذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " من مات ولم يبايع إمام عصره وزمانه مات ميتةً جاهليةً " ، فقال له: أتتخلّف عن بيعة عليّ بن أبي طالب وتبايع عبد الملك؟ بايع رجلي فإنّ يدي عنك مشغولة، ومدٌ إليه رجله.
أتي المنصور برأس بشير الرحال، وكان خرج مع محمد بن عبد الله، فقال له: رحمك الله، لقد كنت أسمع لصدرك همهمةً لا يسكنها إلا برد عدلٍ، أو حرّ سنان.

أوصى أبو بكر خالد بن الوليد لما وجّهه إلى بعض غزواته فقال له: استكثر من الزاد، واستظهر بالأدلاّء، وإذا جاءتك رسل أعداءك فامنع الناس من محادثتهم حتى يخرجوا جاهلين، وأقلل الكلام، فإنما لك ما وعي عنك، وكن بعيداً من الحملة، فإنني لا آمن عليك من الجولة، ولا تقاتلنّ على جزعٍ فإنّه فاتٌّ بعضدك.
قال رجلٌ لخالد بن صفوان: علّمني كيف أسلّم على الإخوان، قال: لا تبلغ بهم النّفاق، ولا تقصّر بهم عن الاستحقاق.
دخل صبيٌّ مع أبيه الحمّام فعاد إلى أمه فقال: يا أمّي، ما رأيت أصغر زبّاً من أبي، فقالت: في أيّ شيءٍ كان لأمك بختٌ حتى يكون لها في هذا؟ قال عبد الحميد: إن الله عزّ وجلّ يعطي الكثير من الخير باليسير من العمل، ويعفو عن العظيم من الذّنب بالصغير من الطّلب، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
من دعاء العرب: فتّه الله فتاً، وحتّه حتّا، وجعل أمره شتّى ووصف مدينيّ لرجلٍ مغنيةً بحسن المسموع فقال: والله لو سمعتها ما أدركت ذكاتك.
قيل لأبي الأسود عند الموت: أبشر بالمغفرة، قال: وأين الحياء مما كانت له المغفرة؟ أبو الشيّص: البسيط
يا من تمنّى على الدّنيا منىً شططا ... هلاّ سألت أبا بشرٍ فتعطاها
إذا أخذت بحبلٍ من حبائله ... دانت لك الأرض أدناها وأقصاها
ما هبّت الريح إّلا هبّ نائله ... ولا ارتقى غايةً إّلا تخطّاها
قيل لزياد النّميري: ما منتهى الخوف؟ قال: إجلال الله تعالى عن مقام السؤال؛ قيل: فما منتهى الرجاء؟ قال: تأميل الله تعالى على كل حال.
وصف أعرابي قوماً فقال: يقتحمون الحرب حتى كأنّما يلقونها بأنفس أعدائهم.
دخل الأوزاعي على المهدي فوعظه وذكّره، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى أعطاك فضل الدنيا وكفاك طلبها، فاطلب فضيلة الآخرة فقد فرّغك لها؛ فاستحسن قوله.
قال يزيد بن المهلّب: دخلت الحمّام مع سليمان بن عبد الملك ومعنا عمر بن عبد العزيز، فقال لي عمر: إني محدّثك حديثين: أحدهما سرّ والآخر علانية؛ أما العلانية فإن هذا سيولّيك العراق، فاتق الله، وأما السرّ فإني كنت فيمن دلّى الوليد بن عبد الملك في حفرته، فلما صار في أيدينا اضطراب في أكفانه فقال ابنه: عاش أبي وربّ الكعبة، فقلت: كلاّ، ولكن عوجل أبوك وربّ الكعبة.
كان جوثة الضمري صديقاً لعبد الملك بن مروان وخرج مع ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير استأمن الناس وأحضر جوثة، فقال له عبد الملك: كنت مني بحيث علمت فأعنت ابن الزبير، فقال: لا تعجلنّ حتى تسمع عذري، قال: هاته، قال: هل رأيتني في حربٍ أو سباقٍ أو نضالٍ إّلا والفئة التي أنا معها مهزومةٌ بحرفي؟ وإنما خرجت مع ابن الزبير لتقتله على رسمي فضحك عبد الملك وقال: والله كذبت، ولكن عفوت عنك.
احتاجت امراةٌ العزيز إلى يوسف تسأله، فلما رأته عليه السلام عرفته فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد بطاعتهم ملوكاً، والملوك بمعصيتهم عبيداً.
قال كسرى لشيرين: ما أحسن هذا الملك لو دام لنا، فقالت له: لو دام ما انتقل إلينا.
قيل لفيلسوف: ما بال الحسود أشدّ الناس غمّاً؟ قال: لأنّه أخذ بنصيبه من غموم الدنيا ويضاف إلى ذلك غمّه لسرور الناس.

من دعاء يحيى بن معاذ: اللهم إن كان ذنبي أخافني فإنّ حسن ظنّي بك قد أجارني؛ اللهم إنّي قد جعلت الاعتراف بالذّنب وسيلةً لي إليك، واستظللت بتوكّلي عليك، فإن غفرت فمن أولى بذلك منك، وإن عاقبت فمن أعدل في الحكم منك؟ اللهم إني لا أيأس من نظرك ورحمتك بعد مماتي، ولم تولني غير الجميل في حياتي، تتابع إحسانك إليّ يدلّني على تفضلك عليّ، فكيف يشقى من أسلفته جميل النظر؟ اللهم إن نظرت إليّ بالهلكة عيون سخطك فلم تغفل عن استنقاذي منها عيون كرمك؛ اللهمّ إن كنت غير مستأهلٍ لكرمك ومعروفك فكن أهلاً للتطّول، فإنّ الكريم ليس يضيع جميع مستحقيه إلهي سترت علي في الدنيا ذنوباً أنا إلى سترها يوم القيامة أحوج، وقد أحسنت بي إذ لم تظهرها لعصابةٍ من المسلمين، فلا تفضحني في ذلك اليوم على رؤوس العالمين، يا أرحم الراحمين؛ إلهي إن كان ذنبي عرّضني لعقابك، فقد رجوت الدنوّ برجائي من ثوابك، لولا ما اقترفته من الذنوب ما خفت من العقاب، ولولا ما عرفت من الكرم ما رجوت الثّواب؛ إلهي لو عرفت اعتذاراً من الذنب أبلغ من التنصّل والاعتراف به لأتيته، ولو عرفت شفيعاً لحاجتي ألطف من الاستخذاء لك عملته، فهب لي ذنبي بالاعتراف ولا تسوّد وجهي عند الانصراف؛ إلهي إن كنت لا ترحم إّلا أهل طاعتك فإلى من يفزع المذنبون، وإن كنت لا تكرّم إّلا أهل خدمتك فبمن يستغيث المسيئون؟ اجعلني عبداً: إمّا طائعاً فأكرمت، وإما عاصياً فرحمت.
هذا آخر ما نقلته من خطّ السّيرافي، ولم أضف إليه شيئاً من مواضع أخر، وحكيت خطّه وشكله، وأعود الآن إلى الطريقة الأولى في اعتراض ما يجري حسب ما ينتظم المعنى فيه. على أني شديد المراعاة لقلبك في جميع ما جمعته وقلته، أنفاً واستحياءً وإعظاماً وإكراماً.
قيل لبقراط: صف لنا الدنيا، فقال: أوّلها فوت، وآخرها موت.
قال بزرجمهر: كن شديداً بعد رفقٍ لا رفيقاً بعد شدةّ، لأنّ الشدّة بعد الرفق عزٌ، والرفق بعد الشدّة ذلٌّ.
كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أما بعد، فإنّي كتبت إليك كتاباً في القضاء لمآلك ونفسي فيه خيراً؛ الزم خمس خصالٍ يسلم لك دينك وتأخذ فيها بأقصى حظّك: إذا تقدّم إليك خصمان فعليك بالبيّنة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدن الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه، وتعهّد الغريب فإنك إن لم تتعهده ترك حقّه ورجع إلى أهله، وإنما ضيّع حقّه من لم يرفق به، وآس بينهم في لفظك وطرفك، وعليك بالصّلح ما لم يستبن لك فصل القضاء وإياك والقضاء بين اثنين وأنت غضبان.
خطب بلال بن أبي بردة فعرف أنّ الناس قد استحسنوا كلامه فقال: لا يمنعكم ما تعلمون فينا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منّا.
وعظ عيسى عليه السلام بني إسرائيل فبكوا وأقبلوا يمزّقون الثياب، فقال: ما ذنب الثياب؟ أقبلوا على القلوب فعاتبوها.
كان رجلٌ من أهل حمص شديد الخلاف جدّاً فقيل له يوماً اجلس فقال: لا أجلس، فقيل له: قم، فقال: لا أقوم، قيل: فما تصنع؟ قال: وما لا أصنع؟! قال رجل لمزبّد: أماتك الله! قال: آمين، بعدك بألف سنة! قال أبان عن أنس، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: " الشّؤم في أربع: في الدار والدابّة والسيف والمرأة؛ قالوا: يا رسول الله، وما شؤم المرأة؟ قال: تكون غالية المهر سيّئة الخلق لا تلد؛ قالوا: فما شؤم الدار؟ قال: تكون ضيّقةً على أهلها لها جيران سوء؛ قيل: فما شؤم الدابة؟ قال: تكون حروناً عند القتال في سبيل الله عزّ وجلّ؛ قالوا: فما شؤم السيف؟ قال: كل سيف مطبوع يسلّه صاحبه في غير سبيل الله عزّ وجلّ فهو شؤم عليه " .
قال أبو العيناء: قلت لرقيعً كان في جواري وهو يأكل قشور الموز: ويحك أيش هذا؟ هذا مما يؤكل؟ فقال: هو على كل حال أطيب من الهندبا.
بعثت الزرجونة مع غندر غلامها بقارورة فيها ماؤها إلى الطبيب، فقال الطبيب لغندر: أيّ شيء طبعها؟ قال: قحبة، قال: ويحك عن طبيعتها سألت، قال: خرا يا بغيض، قال: رقيق غليظ أي شيء هو؟ قال: خرا البنت يعرف لا ينكر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9