كتاب : البصائر والذخائر
المؤلف : أبو حيان التوحيدي

قال أعرابي لأخر: خضاب الله أبطأ نصولاً من خضابك، وأعلم أنك إن سترته عن العيون فلن تستره عن المنون.
قال ابن محفض المازني: الوافر
إما تسألي عني فإني ... خزاعي أبي منهم وخالي
فما لك يا يزيد كأن شخصي ... طلاه إليك بالقطران طالي
أأن كنا لكم لجأ وكهفاً ... إذا خرجت مخبأة الحجال
وكنا المدركين بكل وتر ... شآكم في دهوركم الخوالي
وكنا فخر فاخرهم إذا ما ... نبا بالفخر طلاب المعالي
أبحتم حرمة الأعراض منا ... وأظهرتم لنا خنع المقال
وأضمرتم لنا الشنآن لما ... فرعناكم إلى السور العوالي
فأعفونا من الأموال فينا ... وسامونا إلى شرف الفعال
فما ذنب الجواد إلى أخيه ... إذا جريا وكل غير آل
فبرز سبقه، إلا كذنب ال ... يمين من اليدين إلى الشمال
نقلت هذه الأبيات من ديوان بني مازن.
قال ابن أبي طاهر: كتب عمرو بن مسعدة إلى حمزة الشاري كتاباً فقلله، فوقع جعفر على ظهر الكتاب: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً.
قال أحمد بن أبي طاهر، قال نافع بن جبير لأبي الحارث بن عبد الله بن السائب: ألا تخرج بنا إلى الحرة حتى نتمخر الريح؟ قال: إنما تتمخر الحمير، قال: فنستنشىء، قال: إنما تستنشىء الكلاب، قال: فأي شيء أقول؟ قال: نتنسم، فقال له نافع: صه، أنا ابن عبد مناف، قال أبو الحارث: ألصقتك والله عبد مناف بالدكادك، وذهبت عليك هاشم بالنبوة، وأمية بالخلافة، وبقيت بين فرقها والحنة، وأنت في السماء وشرفك في الماء. فقال ابن أبي عتيق: يا نافع، قد كنت فينا مرجوا قبل هذا، قال نافع: وما أصنع بمن صح نسبه وبذؤ لسانه؟ قال أبو عمرو بن العلاء: رأيت أعرابية فلم أر أمجن منها، ورأيتها تبول شيخاً، فلما رأتني قالت: ما تصنع نساؤكم بأحدكم إذا بلغ غاية هذا الشيخ؟ قلت: ترفقته وتلطفته، فقالت: وإن ضعفت قواه وكف بصره؟ قلت: وإن كان ذلك، فضربت بيدها إلى ذكره فقالت: وإن استرخى ذكره وخسفت أنثياه وقل فعله؟ قلت: ما لك ويحك ولهذا الشيخ؟ فقالت: الرجز
لا خير في الشيخ إذا ما أجلخا ... واطلخ ماء عينه ولخا
وأحدودب الظهر فكان فخا ... ونام منه أيره وأسترخى
قال ابن الأعرابي: نظر أعرابي إلى امرأة فأعجبته فقال: وددت أنك محل مقيلي، فقالت: وأن زوجتك محل مقيل زوجي، إذن والله تجده شديد الوتر، قليل الفقر، بعيد الفطر؛ فأفحمته.
قال أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب بغداد وكتاب المنظوم والمنثور، حدثني علي بن عبيدة الريحاني قال: التقى أخوان يتوادان فقال أحدهما: كيف ودك لي؟ قال: حبك توشج بفؤادي، وفكرك سمير سهادي، فقال الآخر: أما أنا فأوجز في وصفي: ما أحب أن يقع على سواك طرفي.
قال ابن أبي طاهر، وحدثني علي بن عبيدة قال: تزاورت أختان من أهل القصر فأرهقهما الظهر، فبادرت إحداهما هكذا، قال: فصلت صلاة خفيفة، فقال لها بعض النساء: كنت حرية أن تطولي الصلاة في هذا اليوم شكراً لله تعالى حين التقيتما، قالت: لا، ولكن أخفف صلاتي اليوم فأتمتع بها وأشكر لله تعالى في صلاتي غداً.
قال ابن أبي طاهر: سمعت علي بن عبيدة يقول لامرأة من أهل القصر: إن قلبي قد فرغ من الهوى وخلا، حتى كاد يخرب من الخوى، وأنا ألتمس له ساكناً فهل لك أن تكوني من سكانه؟ وقال ابن أبي طاهر أيضاً: كنت مع علي بن عبيدة يوماً ونحن عند قيان، وحان وقت الظهر فبادر الناس الصلاة، والجارية قاعدة، وهما في حديث فأطالا حتى كادت الصلاة أن تفوت، هكذا قال، قال فقلت: يا أبا الحسن، الصلاة، ونصبت على الإغراء، فقال علي: حتى تزول الشمس، أي حتى تقوم الجارية.
وقال ابن أبي طاهر: وكنت عند علي بن عبيدة يوماً، فورد عليه كتاب أم محمد ابنة المأمون، وكتب جواب الكتابثم أعطاني القرطاس فقال: اقطعه، فقلت: وما لك لا تقطعه أنت؟ قال: ما قطعت شيئاً قط.

علي بن عبيدة هذا هو صاحب كتاب المصون ويقال: كان بصرياً ويعرف باللطفي، ولست أعرف كنه مذهبه وحقيقة شأنه لكنه يقال: إنه أقلع في شيخوخته عن عادته في شبيبته، وسلك طريق الزهاد، وكلامه في المصون كلام يدل على عقل رزين وأدب ظاهر، وليس فيه من العلم إلا قليل، وأهل خراسان يعجبون بهذا الكتاب جداً، حتى بلغني أن بعض الدهرية من الرؤساء وأصحاب السيف قال مرة لقوم: مصونكم خير من قرآنكم. وهذا جهل بالله العظيم، وجرأة على حلمه الكريم " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " فاطر: 45.
وقال لي بعض مشايخ خراسان: إن هذا القول إنما قاله بعض الأعراب بباديتنا فشاع على وجه الأستبشاع، وزعم أن بخراسان بادية كبيرة وأعراباً مجتمعة، فسألته عن اللغة والهيئة فقال: قد دخلهم النقص من كل شيء ووجهه فصاروا بيضاً وشقراً بعد أن كانوا سوداً وسمراً، وصاروا ضخاماً عظاماً بعد أن كانوا نحافاً شختاً، فأما اللغة فباقية عليهم لم ينتقلوا عنها إلى الفارسية، لكنها فاسدة بينهم زائدة الفساد على لغة البادية، بادية طريق مكة؛ فهذا مما حدثني هذا الشيخ، وكان شديد التحصيل، من أولئك الناس بذلك الماء والشق.
لما هجا محمد بن حازم الباهلي محمد بن حميد الطاهري فأفرط، اتفقت على ابن حازم محنة انتقل بسببها إلى غير محلته مخفياً شخصه، فوجه إليه المهجو بعشرين ألف درهم ومنديل فيه عشرة أثواب وبرذون بسرجه ولجامه وغلام رومي، وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. أكرمك الله وأبقاك، ذو الأدب تبعثه قدرته على نعت الشيء بخلاف هيئته، ويحمله الظرف على هجاء إخوانه في حال دعابته، وليس ما شاع من هجائك لنا يجري سوى هذا المجرى؛ وقد بلغني من خبرك ما لا غضاضة عليك فيه، مع كبر سنك وأدبك، إلا عند العامة من الجهال الذين لا يكرمون ذوي الأخطار إلا على الأموال دون الآداب، ونحن شركاء فيما ملكنا، وقد وجهت إليك ما استفتحت به انبساطك، وإن قل، ليكون سبباً إلى غيره وإن جل.
فرد ابن حازم ما وجه به إليه وكتب الجواب: الكامل
وفعلت فعل ابن المهلب إذ ... فعمم الفرزدق بالندى الغمر
فبعثت بالأموال ترغبني ... كلا ورب الشفع والوتر
لا ألبس النعماء من رجل ... ألبسته عاراً على الدهر
هذا والله خبر طريف، وما أدري ممن أعجب، من ابن حميد في كرمه، أم من ابن حازم في بأوائه، ولله عز وجل في هذا الخلق ألوان لا يحصيها إلا هو، فسبحان من جمعهم على ما فرق فيهم، وسبحان من فرقهم على ما جمع فيهم، جل الإله وعز.
قال بزرجمهر: الإخوان كالسلاح: فمنهم من تحب أن يكون كالرمح تطعن به من بعيد، ومنهم كالسهم الذي ترمي به ولا يعود إليك، ومنهم كالسيف الذي لا يفارقك.
قالت الفرس: وجدنا في مهارقنا القديمة: إذا لم يساعد الجد فالحركة خذلان.
أيضاً: رب لازم لعرصته قد فاز ببغيته.
وأيضاً: من استعان بالنظر راح بالحيرة.
أيضاً: بمفتاح عزيمة الصبر تعالج مغاليق الأمور.
وقالوا أيضاً: من امتطى العز أربع بمحل الظفر.
أيضاً: رب صفو في إناء مشوب بكدر البلاء.
أيضاً: لا يغرنك المرتقى السهل إذا كان المنحدر وعراً.
أيضاً: تأمل مواقع قدمك تقلل فواحش زللك.
تواثب اثنان من المعربدين في مجلس وتواجأا بالسكين، فأصاب السكين طرف أنف أحدهما وكمرة أير الآخر، فسقط من أنف هذا ما أشرف، وكذلك من كمرة هذا، فطلب كل واحد منهما في الظلمة ما انقطع منه، فوقعت كمرة هذا في يد هذا فألزقه على أنفه بحرارة وشده، ووقع طرف أنف هذا في يد صاحبه فألزقه على أيره بحرارة وشده فالتحم الجرحان وبرأا، فصار هذا يتنفس من كمرة صاحبه، وصار هذا يبول وينيك بأنفه ما عاشا.
قال أحمد بن الطيب: كان جالينوس يقدم في الأخلاق ثلاث قوى: الرحمة والحياء والسخاء.
يقال في النوادر: إذا رأيت الرجل يخرج من صلاة الغداة وهو يقول " وما عند الله خير وأبقى " القصص: 60 فأعلم أن في جواره وليمة لم يدع إليها.
وإذا رأيت قوماً يخرجون من عند قاض وهم يقولون: " وما شهدنا إلا بما علمنا " يوسف: 81 فأعلم أن شهادتهم لم تقبل.
وإذا قيل للزوج صبيحة البناء على أهله: كيف ما قدمت عليه؟ فقال: الصلاح خير من كل شيء، فاعلم أن امرأته قبيحة.

وإذا رأيت إنساناً يمشي ويلتفت فاعلم أنه يريد أن يضرط.
وإذا رأيت الغلام في إصبعه خاتم فأعلم أن مولاه ينيكه.
وإذا رأيت فقيراً يعدو فأعلم أنه في حاجة غني.
وإذا رأيت رجلاً خرج من عند الوالي وهو يقول: " يد الله فوق أيديهم " الفتح: 10 فأعلم أنه قد صفع.
وقفت ماجنة على ابن مضاء الرازي فقال له: أنت ابن مضاء؟ قال: نعم، قالت: لي مسألة، قال: وما هي؟ قالت: ما بال الشعرة لا تبيض، واللحية تبيض؟ قال: لأنها بقرب الفقحة، فرائحة السماد تمنعها من أن تبيض، قالت: فلم لا تأخذ منه كفاً في يدك فتجعله على عنفقتك حتى لا تحتاج إلى الخضاب؟ فانقطع ابن مضاء وخجل.
وجازت ماجنة بابن مضاء وهو يأكل فقالت له: في بطنك عرس حتى ترقص لحيتك؟ فقال لها: ففي بطنك مأتم حتى علقت على باب حرك مسحاً أسود، فخجلت.
أحضرت ماجنة حجاماً وتجردت له وأقعدته قدامها وبالت على يدها فبلت به كسها، وقالت للحجام: خذ منه شوابير، فقال لها: كرائي، قالت: خذ منه، فلما فرغ قالت: بارك الله في هذا المتاع الذي حوائجه كلها منه.
اصطحب اثنان من الحمقى في طريق فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نتمنى فإن الطريق يقطع بالحديث والتمني، قال: نعم، أنا أتمنى قطائع غنم حتى أنتفع برسلها ولحمها وصوفها، ويخصب معها رحلي، ويستغني بها أهلي. قال الآخر: أما أنا فأتمنى قطاع ذئاب أرسلها على غنمك حتى تأتي عليها، قال: ويحك، هل هذا من حق الصحبة وحرمة العشيرة؟ وتلاحيا واشتدت الملاحاة بينهما، ثم قالا: نرضى بأول من يطلع علينا ونعرض عليه أمرنا؛ قال: فبينما هما كذلك إذ طلع شيخ على حمار عليه زقان من عسل، فاستوقفاه وحدثاه فقال لهما: قد عرفت وفهمت ما قلتما، ثم نزل عن الحمار وفتح الزقين حتى سال العسل في التراب وقال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن كنتما إلا أحمقين.
حضر بعض المجان مجلساً فيه شراب فلم يسقوه، فصبر ساعة يكيد بنفسه والقوم يستقون منه، ثم قال: يا سادة، هبوني طستاً أو مغسلاً وصبوا في قليل نبيذ! فضحكوا منه وسقوه.
مر مزبد بقبر عليه أثواب فاخرة فقال: موتاهم - يشهد الله - أحسن حالاً من أحيائنا.
قيل لمديني: أيسرك أن يكون أيرك كبيراً؟ قال: لا، قيل: ولم؟ قال: يثقلني ويلتذ غيري به.
اشترى مزبد جارية فسئل عنها فقال: فيها خلتان من خلال الجنة: برد وسعة.
قالت ماجنة لرجل: وجهك خلق، قال: يا ستي، ولكن أيري علق، فخجلت.
وقال ماجن لآخر: خبزك شعير وضراطك حوارى.
قال أحمد بن الطيب: الإسراف في الرحمة يميت النفس، ويضيع الحدود، ويهدم السنن، قال الله تعالى: " ولا تأخذكم بهما رأفة " النور: 2؛ وإسراف السخاء يورث الفقر، والغنى من العافية، والفقر ذل، والرحمة تلحق غني قوم افتقر، والمرحوم شقي، والإسراف في الحياء يورث الفتور والونى.
اجتمع أربعة من الشطار يقال لأحدهم صحناة وللآخر حرملة وللثالث غزوان وللرابع طفشة، ومعهم غلام أمرد يريد أن ينقطع إلى واحد منهم، وكل واحد يطلبه لنفسه، فتحاكموا إلى شيخ منهم فقال الشيخ: ليذكر كل واحد منكم ما فعله وما يقدر عليه حتى أخبر هذا الغلام فيصير إلى من أحب. فقام صحناة فقال: وال أمك، لو تراني ضيعوني في عينك يا ابن الغلابة، أنا هامان، أنا فرعون، أنا عاد، أنا الشيطان الأقلف، أنا الدب الأكلف، أنا البغل الحرون، أنا الحرب الزبون، أنا الجمل الهائج، أنا الكركدن المعالج، أنا الفيل المغتلم، أنا الدهر المصطلم، أنا البعير الشارد، أنا السبع الوارد، أنا سرادق التضريب، أنا بوق الحروب، أنا طبل الشعب، محبوس شرقي غربي مضرب، قايم نايم، مبطوط الأليتين، معطل الدفتين، أبلع أسنة، أخرا جواشن، لو ضرب ربكم عنقي ما مت بعد سنة، وهذا حمدان فروخ في حجري بالأمس حتى جنى جناية رزق الصلب وحملان ديتيه صرف ألف، فما غلس حتى ينطق أحد.

وقام حرملة فقال: يا ابن الصفعانة، أنا حبست في أجمة أكلت ما فيها من السباع، وجعلت الحشيش نقلي، أنا طوق الله الهائج في بحر قلزم، لو كلمني رجل بغير مسألة لعقدت شعر أنفه إلى شعر أستهوأديره حتى يشم فساياته القنفذ، لو كلمني رجل لكمته لكمة فأبدد عظامه فلا تجمع في شهر، أو كلمني رجل لم أخزم أنفه وأخرزه في قرنه وأصفعه فأقلع رأسه مع رطلين من خراه؛ يا أبا الجرادة املأ عينك مني والله وأنت زريق الخف، طعامي الصبر، ريحاني الدم، نقلي أدمغة الأفاعي، أنا أسست الشطارة، أنا بوبت العبارة؛ يا ابن الزراعة الهراشة الفراشة، الفلاشة النعاشة، من يتكلم قولوا.
فقال غزوان: أيش تقول لي يا ابن الطبردانة، أنا القدر والحدر الممزوج بالصخر، أنا أبو إيوان كسرى، حولت المجالس والمطابق، وقطعت أكباد الخلائق، أنا أخرق الصفين، وأضرب العسكرين، رفيقي صياح اللكم، وجعفر ابن الكلب، وموسى سلحة، وعيسى زكرة، وكردويه الباقلاني، وفروخ الشماط، ونفطويه المكاري، انقلوني ونور الله إلى الشاش وفرغانة، ردوني إلى طنجة وافرنجة وأندلس وأفريقية، ابعثوا بي إلى قاف، وخلف الروم، إلى السد وإلى يأجوج ومأجوج، إلى إلىموضع لم يبلغه ذو القرنين، ولم يعرفه الخضر؛ أنا شهدت الغول عند نفاسها، وحملت جنازة الشيطان غير جبان، أنا فرعون ذو الأوتاد إن لم أقبض روحك مشيت سبعة بلا راس، قطعت عروقي بكل خنجر، رضت عظامي بكل منجل، لو نخرت نخرة لخرت صوامع النصارى، وتحطمت قصور بني إسرائيل، لو عضني ونور الله الأسد لفرس، ولو كلمني إبليس لخرس، ولو رآني العفريت لخنس، من ينطق بعد هذا؟ فقال طفشة: أنا قتلت ألفاً وأنا في طلب ألف، يا ابن الخادمة تهيأ لفرعون يا أخا القحبة، تقطب في وجهي، أو تقوم بقربي، أو تناظرني كلمة وكلمة، أما تعلم أن راسي مدور، ولحيتي خنجرية، وسبالي مفضلي، وآستي خرسا، وأنا مشهور في الآفاق بضرب الأعناق، لا يجوز علي المخراق، وأنا الربيع إذا قحط الناس، أنا الغني إذا كثر الأفلاس، أنا أشهر من العيد، سل عني الحديد، في المنطق الجديد، البيضة مني ونور الله، تسوى ألفاً، ولو حضنت خرج منها ألف شيطان؛ أنا شققت شدق النمر، وصيرت على الأسد الإكاف، أنا كلب أنبح، أنا السحر أنا الأمحران، أنا تنور يسجر، لصديق صديقي ورور من عنبر بن الجلندى، أنا ابن الجلندى كنكر بن الأشتر بن طاهر الأعور، إبليس إذا رآني مطى، لو كلمني رجل رأسه من نحاس، ورجليه من رصاص، أصفعه صفعة فأصبر أنفه قفاه، أنا السيل الهاطل، أنا المغيث الشاطر، أنا قلاع القناطر، أنا لم ألعب بك في الطبطاب، وأقسك قسو الصعو في الرطاب، اسم شيطاني سقلاب؛ أنا أقسى من الحجر، وأهدى من القطا، وأزهى من الغراب، وأحذر من العقعق، وأوله من الذباب، وألج من الخنفساء، وأحد من النورة، وأغلا من الدرياق، وأعز من السم، وأمر من العلقم، وأشهر من الزراقة؛ أنا الموج الكدر، أنا القفل العسر، راسي سندان، نابي سكين، يدي مطرقة حداد، أيش تقول؟ صادقني وسل عني، أنا صعصعة الحي، أنا خير لك من غيري هو ذا وجهي إلى الآخر، لك حاجة إلى ربك؛ هوذا أجد ريح الدم، أيش ترون من ينطق؟ فسكت القوم وبادر الغلام وأخذ بيده وصادقه.
روينا - أيدك الله - هذا الكلام على ما به ليكون للنفس فيه استراحة، وللإنسان منه عبرة، فلا تعب علينا ذلك، فلو قد وفيتني حقي في محاسن ما دونت في هذا الكتاب لما ضرني مقدار ما خالف إرادتك وباين اختيارك، وقصر عن مدى مرادك. جعل الله هذا الكتاب لك طريقاً إلى الأستمتاع بهزله، والأنتفاع بجده، وختم عاقبتك بما يبلغك دار رضوانه، مستوجباً كريم غفرانه.
قال كسرى: اجتماع المال عند الأسخياء أحد الخصبين، واجتماعه عند البخلاء أحد الجدبين.
قال أبو العتاهية، قلت لعلي بن الهيثم: ما يجب على الصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة.
قال عبد الملك بن صالح: مشاهدة الإخوان أحسن من إقبال الزمان.
قال أبو تمام: قلت لرجل من أهل الكوفة: أيسرك أنك جاهل ولك مائة ألف درهم؟ قال: لا، قلت: ولم؟ قال: لأن يسر الجاهل شين، وعسر العاقل زين، وما افتقر رجل صح عقله.
أنشد للرقاشي: الوافر
إذا كان النديم له حفاظ ... فأهلاً بالمدام وبالنديم

وحسبك بالنديم إذا تخطا ... إلى الكتمان بالخلق الكريم
وقال الخريمي: البسيط
لما وجدت نديماً لا يخالفني ... صيرت نفسي له عبداً بلا ثمن
وصار لي سكناً أحيا برؤيته ... وصاحب الراح لا يحيا بلا سكن
لعلي بن الجهم: البسيط
ما زلت أطلب ندماناً أحادثه ... وأضرب الناس في بغداد بالناس
حتى وجدت نديماً لا يخالفني ... سمح الخلائق يطوي الدهر بالكاس
لابن الحكم: الرمل المجزوء
أنا مستغن عن النا ... س بندمان كريم
يقطع الدهر كلانا ... بسرور ونعيم
إنما نستعذب الرا ... ح بأخلاق النديم
الخارجي: الطويل
تلطفت الأيام حتى تفضلت ... علي بندمان كريم الخلائق
له سمت عدل واستكانة عاشق ... وهمة جبار وظرف الزنادق
مزجي به كأسي فصادف طعمه ... ألذ وأشهى من ثمار الحدائق
خطب خالد بن عبد الله يوماً فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس، تنافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، وأشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذماً، ولا تعتدوا بمعروف لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء، وأجزل لها عطاء؛ وأعلموا أن حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحور نقما، وأعلموا أن أفضل المال ما أكسب ذكراً، وأورث شكراً، ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين، ولو رأيتم البخل رجلاً لرأيتموه مشوهاً قبيحاً تنفر عنه القلوب، وتغض دونه الأبصار؛ أيها الناس، من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن أكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، ومن لم يطب حرثه لم يزك زرعه، والفروع من مغارسها تنمو ومن أصولها تزكو.
أثنى رئيس وفد على ملك إذ انفلتت منه ضرطة، فالتفت إلى أسته فقال يخاطبها: مثل هذا الملك يصلح أن يثنى عليه بجميع الجوارح، ولكن إذا رأيت اللسان يتكلم فاسكتي؛ فضحك الملك وقضى حاجته.
تخاصم رجلان فأربى أحدهما على الآخر، فبينا هو كذلك إذ ضرط من شدة غضبه وهيجانه فقال: وهذا أيضاً في لحيتك يا فاعل، يا صانع.
قيل لرجل: ما فائدة الصفع؟ قال: هو أول منزلة من التواضع، وهو يحسن الخلق، ويحلي المرار، ويذهب بالصفار، ويحلل الخمار، ويؤمن البدن من الأقشعرار.
وقال آخر: الصفع تعلة ولكنه مذلة.
ويقال: الصفعان محبوب، والقواد مسبوب.
ويقال: الصفعان آمن نوائب الزمان.
وصف ابن القرية يوماً للحجاج فرساً فقال: أصلح الله الأمير، طويل الثلاث، قصير الثلاث، صليب الثلاث، حديد الثلاث، رحيب الثلاث، عريض الثلاث، منيف الثلاث، أسود الثلاث، قال: فاستوى وكان متكئاً وقال: فسر أثلاثك أو لأضربن عنقك، قال: نعم أصلح الله الأمير، طويل العنق والسبيب والساق، قصير الظهر والعسيب والشعر، صليب الكاهل والدخيس والعجب، حديد السمع والقلب والمنكب، رحيب المنخرين والشدق والجوف، عريض اللبة والجبهة والخد، منيف القوائم والجوانح والقذال، أسود العين والحافر والذكر،قال: فعجب الحجاج منه، ووهب له ألف دينار.
لأبي مسلم الرستمي: الرمل
وبنفسي من إذا جمشته ... نثر الورد عليه ورقا
وإذا مدت يدي طرته ... أفلتت مني ودارت حلقا
وأنشد: الطويل
وسارية لم تسر في الليل تبتغي ... مناخاً ولم يقصر لها القيد مانع
تسير وراء الليل والليل ضارب ... بأكنافه فيه سمير وهاجع
إذا وردت لم يردد الله وفدها ... على أهلها والله راء وسامع
سرت حيث لا تجري الرياح ولم تنخ ... لورد ولم يقطع بها البيد قاطع
تفتح أبواب السموات دونها ... إذا قرع الأبواب منهن قارع
وإني لأرجو الله حتى كأنني ... أرى بجميل الظن ما الله صانع
كان بعض أصحابنا يطيل التعجب من هذا الشعر ويحكم بإحسان قائله، يريد الدعاء لله تعالى وقيل يصف دعوة مظلوم.

سئل دغفل عن بعض العرب فقال: أحداث قادة، وشباب سادة، وكهول ذادة، لهم الشرف الشامخ، والعز الباذخ، والكرم الصريح، والعنصر الفسيح، بهاليل أسخياء، غطارفة أغنياء، كرام أعفاء، لهم الأخلاق الطاهرة، والألباب الحاضرة، والوجوه الناضرة، بحار النيل، وأحلاس الخيل، يحملون المغارم والأثقال، ويجدلون الكماة والأبطال، لهم العز والجلد، والسياسة والعدد، شموس البلاد، وأقمار العباد، ونجوم في الناد، لهم في القلوب حلاوة، وعلى الوجوه طلاوة، أسد العرب إذا جثوا على الركب، وأكرمهم في الرضا والغضب، وأضربهم بالسيف المشطب، وأطعنهم بالرمح المكعب، عزمهم غير مخلخل، وشرفهم غير مزلزل؛ آفة البلاد إذا ركبوا، وغيث البلاد إذا أجدبوا، كهولهم غيوث، وشبابهم ليوث، ووقائعهم مشهورة، وأيامهم مذكورة، علا شرفهم فرجح، وطال عزهم فطمح، لهم السيوف البواتر، والرماح الخواطر، والأيد والعدة، والثراء والنجدة، أنجم الأندية، وأفاعي الأودية، هم الليوث الهواصر، والغيوث البواكر.
أنشد لسعيد بن حميد: الطويل
لقد ساءني أن ليس لي عنك مذهب ... ولا لك في حسن الصنيعة مرغب
أفكر في ود تقادم بيننا ... وفي دونه قربى لمن يتقرب
وأنت سقيم الود رث حباله ... وخير من الود السقيم التجنب
تسيء وتأبى أن تعقب بعده ... بحسنى وتلقاني كأني مذنب
وأحذر إن جازيت بالسوء والقلى ... مقالة قوم ودهم منك أجنب
أمل اختياراً أو عرته ملالة ... فعاد يسيء الظن أو يتعتب
فخبت من الود الذي كنت أرتجي ... كما خاب راجي البرق والبرق خلب
قال أعرابي: نحن بأرض لا نريد بها بدلاً، ولا نبتغي عنها حولاً، لا يملولح ماؤها، ولا يتمعر جنابها، ليس فيها أذى ولا قذى، ولا وعك ولا حمى، فنحن بأرفه عيشة، وأخصب معيشة.
كاتب: نحن نستعطفك باعتزالك، ونستديم صلتك بجفائك، ونستكثر مناسمتك باجتنابك، ونرى الزيادة في العتب أدوم لجميل رائك.
كاتب: مثل لا ينبله من غفلة، ولا يوقظ من سنة، ولا يعرف من جهلة.
لما ظهر موسى عليه السلام بمصر قال سقراط: نحن معاشر اليونانيين أقوام مهذبون لا حاجة بنا إلى تهذيب غيرنا.
أنشد: الكامل
ما كان أنضر عيشه وأغضه ... أيام فضل ردائه مسحوب
عبد الحميد الكاتب: أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك، وعوام شؤونك، ودخائل أحوالك، ومستطرف أشغالك.
كاتب: الحمد لله الذي لم يوحش منك ربعك، ولم يخل مجلسك في قومك، فلا أدبر عنك من الصحة ما أقبل إليك، ولا أقبل إليك من السقم ما أدبر عنك، وثبت لك العافية ومد فيها غضارة عيشك، حتى يقبضك على خير عمرك، وأحسن عملك.
قال أعرابي: كان فلان قوالاً بالحق، قواماً بالقسط.
كاتب: صحت قلوبكم من أمراض الخطايا، وبرأت أنفسكم من أسقام الذنوب، وطهرت ثيابكم من دنس الآثام.
كتب يحيى بن خالد إلى الرشيد من الحبس: يا أمير المؤمنين، إن كان الذنب خاصاً فلا تعم بالعقوبة، فإن الله تعالى يقول " ولا تزر وازرة وزر أخرى " الأنعام: 164.
كاتب: أما بعد فإنه ربما ضاق العذر على اتساعه، واتسع على ضيقه، وقوي على ضعفه، وضعف على قوته، وذلك بقدر ما يوافق من رأي من يرد عليه، فمن مستقص محتج ومن مسامح موسع، يكون هذا المحتمل لصاحبه العذر والمحتج له من حيث لا يحتج لنفسه.
قال الشاعر: الطويل
إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
قال أعرابي: اللهم لك الحمد على طول النية، وحسن النظرة.
وقال: الحمد لله الذي أباتنا نائمين وأنبهنا سالمين.
وقال آخر: الحمد لله فالق الإصباح، وباعث الأرواح.
قال هداف التميمي: الحمد لله على نوم الليل وهدوء العروق وسكون الجوارح وكف الأذى والغنى عن الناس.
قيل لأعرابي: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحتسب على الله الحسنة، ولا أحتسب على نفسي السيئة.
قيل لأبي مسمع الوتري: أخبرنا عن قولهم: عطشان نطشان وجائع نائع، قال: كلمة يشد بها الرجل كلامه.
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغارفة، أي جز الشعر؛ يقال منه: غرف شعره.

كاتب: المصايب هدايا لقوم وبلايا على آخرين، فجعلك الله ممن غفل عنه فاستعمل الشكر عند الأتساع، والصبر عند الأرتجاع.
ابن المقفع: إن كان ما فجعت به اليوم من فقد ولدك أحزنك، ليسرنك أحوج ما كنت إلى السرور به، وأفرح ما تكون بمكانه، فأعظم الله أجرك، وأحسن صبرك.
قال كسرى لبزرجمهر: ما بال معاداة الصديق أقرب مأخذاً من مصادقة العدو؟ قال: لأن إنفاق المال أهون من كسبه، وهدم البناء أهون من رفعه، وكسر الإناء أهون من إصلاحه.
قال فيلسوف: العالم يعرف الجاهل لأنه كان جاهلاً، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالماً.
كاتب: إن الله عز وجل جعل الدنيا دار بلوى والأخرى دار عقبي، فجعل بلوى الدنيا عوضاً فيأخذ ما يأخذ مما يعطي، ويبتلي إذا ابتلى ليجزي.
قال أعرابي: المودة من السلف ميراث بين الخلف.
قال آخر: لولا ظلمة الخطأ ما أشرق نور الصواب في القلوب.
قال فيلسوف: القلوب أوعية، والعقول معادن، فما كان في الوعاء ينفد إن لم يمده المعدن.
قال بزرجمهر: لا بد من العيب، ومن لا عيب فيه لا يموت.
قيل لأفلاطون: لم لا تجتمع الحكمة والمال؟ قال: لعزة الكمال.
قال فيلسوف: الدنيا فرس جموح فأطلقوا رسنها، وضعوا أرجلكم منها بحيث أمكن.
كاتب: قد كنت لنكبات الدهر مستعداً ولعداوته متخوفاً، فهل زاد على صدقك عن نفسك وآتاك ما كنت عالماً أنه يأتيك منه؟ فكيف تجزع وأنت تعلم أنه ليس لما وقع مرد، ولا لما ذهب مرتجع؟ قال فيلسوف: الكرام أصبر نفوساً، واللئام أصبر أبداناً.
قال رجل لفيلسوف: ما أبخر فاك!! قال: لا تعجب من هذا، فقد عفنت مساويك في صدري أفلا أخرجها ثم أعطيك شيئاً؟! كاتب: أما بعد، فالحمد لله الذي نجاه مما هنا من الكدر، وخلصه قبل الكبر، مما كان بين يديه من الخطر.
كتب غيلان إلى مروان: أعلم أن كل مصيبة لم يذهب فرح ثوابها حزنها فإن ذلك هو الحزن والمصيبة العظمى.
قال بزرجمهر: يستحب من الخريف الخصب، ومن الربيع الزهر، ومن الجارية الملاحة، ومن الغلام الكيس، ومن الغريب الأنقباض.
يقال: الهوى شريك العمى.
قال فيلسوف: الهالك على الدنيا رجلان: رجل نافس في عزها، ورجل أنف من ذلها.
قال أعرابي: الحسود لا يسود.
وجد في كتاب لجعفر بن يحيى أربعة أسطر بالذهب: الرزق مقسوم، والحريص محروم، والبخيل مذموم، والحسود مغموم.
قال فيلسوف: من زاد أدبه على عقله كان كالراعي الضعيف مع غنم كثيرة.
لمنصور النمري إلى هارون: والله يا أمير المؤمنين ما وخزتنا شوكتهم ولا أمضتنا قرحتهم، وإنما نحن حرمة من حرمك، وطرف من أطرافك، ننشدك الله أن لا تغضب لنا بأن لا تغضب علينا، وأن لا تنتقم فينا بأن لا تنتقم منا.
دخل سالم السندي على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال له: يا سالم، أسرك ما وليت أم ساءك؟ فقال: سرني للناس وساءني لك، قال: فإني أتخوف أن أكون أوبقت نفسي، فقال: ما أحسن حالك إن كنت تخاف، وإنما أخاف أنك لا تخاف، قال: عظني، قال: إن أبانا أخرج من الجنة بخطيئة واحدة.
كاتب: أتيتك وافداً بذنوبي على عفوك، واثقاً لعقوقي ببرك، لا مستظهراً عليك بشفيع قدمته، خلا تطولك بالعفو على الإخوان، وتفضلك عليهم بالإحسان.
قال هارون للفضيل بن عياض: ما أزهدك!! قال: أنت أزهد مني يا أمير المؤمنين، قال: كيف؟ قال: لأني أزهد في الدنيا وهي فانية، وأنت تزهد في الآخرة وهي باقية.
كاتب، يقال هو إسحاق بن يحيى، كتب إلى آخر يهنيه ببنت: رب مكروه أعقب منفعة، ورب محبوب أعقب مضرة، وخالق المنفعة والمضرة أعلم بمواضع الخيرة.
قال فيلسوف: أعجب ما في الإنسان أن ينقص ماله فيقلق، وينقص عمره فلا يقلق.
كاتب، هذا يوم قد سبقت فيه العادة بإلطاف الأتباع للسادة، وكانت البضاعة تقصر عما تبلغه الهمة، فكرهت أن أمسك عن الهدية فأخرج عن حكم السنة، وكرهت أن أهدي فلا أبلغ مقدار الواجب، فجعلت هديتي أبياتاً وهي: الوافر
ولما أن رأيت ذوي التصافي ... تباروا في هدايا المهرجان
جعلت هديتي وداً مقيماً ... على صرف الحوادث والزمان
وعبداً حين تكرمه ذليلاً ... ولكن لا يقيم على الهوان
يزيدك حين تكرمه خضوعاً ... ويرضى من نوالك بالأماني

قال بعض الزهاد: العالم طبيب هذه الأمة، والدنيا داؤها، فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرأ غيره؟ قال آخر: لا يزال العبد بخير ما قال لله وعملا لله.
قال الأحنف: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من جاهل، وبر من فاجر، وشريف من دنيء.
قال كسرى لبزرجمهر: أي الناس أحب إليك أن يكون عاقلاً؟ قال: عدوي، قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنه إذا كان عاقلاً فإنك منه في عافية.
قيل لفيلسوف: ما العقل؟ قال: اعتدال الطبائع.
وقال فيلسوف: إذا فقد الإنسان العقل والتوفيق لم يصلح له شيء من أموره.
قيل لبزرجمهر: تعال حتى نتناظر في القدر، قال: وما أصنع بالمناظرة؟ رأيت ظاهراً دل على باطن: رأيت أحمق مرزوقاً، وعالماً محروماً، فعلمت أن التدبير ليس إلى العباد.
قال ابن أبي طاهر، حدثني أبو تمام قال: حدثني شيخ من كلب عن شيخ منهم قال: كنت مع يزيد بن حاتم بأفريقية، وكنت به خاصاً، فعرض عليه تاجر درعاً فأكثر تقليبها ومداولة صاحبها، فقلت له: أصلح الله الأمير، فعلام تلوم السوقة؟ فقال: ويحك، إني لست أشتري أدراعاً، إنما أشتري أعماراً.
قال أحمد بن يزيد حدثني أب عن عمه حبيب بن المهلب قال: ما رأيت رجلاً قط مستلئماً في حرب إلا كان عندي رجلين، وما رأيت رجلين حاسرين في حرب قط إلا كانا عندي بمنزلة رجل واحد.
قال علي عليه السلام: الحرص مقدمة الكون.
قيل لصوفي: لم لا تعمل عملاً؟ قال: إذا كان مستعملي قد أراحني فما وجه فضولي وتكلفي؟ شاعر: الطويل
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاً وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا
فسر في بلاد الله وألتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
قيل لأعرابي: أيسرك أن تكون أحمق وأن لك مائة ألف درهم؟ قال: لا، قيل: ولم؟ قال: لأن حمقة واحدة تأتي على مائة ألف درهم وأبقى بعدها أحمق.
قيل لصوفي: على من تعول في معاشك؟ قال: على لطف من نقلني إلى الوجود من العدم، وتولاني في اليقظة والحلم.
كان أيمن بن خريم الأسدي مكيناً عند معاوية، وكان يكثر ذكر الجماع، وكان معاوية قد ضعف، فقال له يوماً: ما بقي من طعامك وشرابك وقوتك يا أيمن؟ فقال: آكل الجفنة الكثيرة الودك والعراق، وأشرب الزكرة العظيمة ولا أنقع، وأركض المهر الأرن فأحضر، وأجامع من أول الليل إل السحر. قال: فساءه ذلك وقدح في نفسه، وذلك أن فاختة كانت تسمع من وراء حجاب، فجفاه معاوية، فشكا أيمن ذلك إلى امرأته فقال له: لعلك أذنبت ذنباً أو أشعث سراً، قال: لا بالله ما لي ذنب، قالت: صف ما أنت أحدث عهداً به معه، فأخبرها الخبر، فقالت: هذا الذي أغضبه عليك، قال: فأصلحي ما أفسدت، قالت: كفيتك؛ فأتت معاوية فوجدته جالساً للناس، فدخلت إلى فاختة فقالت: ما لك؟ قالت: جئت أستعدي على أيمن إلىمعاوية، قالت: وما ذاك؟ قالت: ما أدري رجل هو أو امرأة، وما كشف لي ثوباً منذ تزوجني، قالت: فأين قوله لمعاوية كذا وكذا؟ قالت: ذاك الباطل، فأقبل معاوية فقال: من هذه؟ قالت: هذه امرأة أيمن جاءت تشكوه، قال: وما لها؟ قالت: زعمت أنها لا تدري أرجل هو أو امرأة، وأنه ما كشف لها ثوباً منذ تزوجها، قال: أكذلك؟ قالت: نعم، فرق بيني وبينه، فرق الله بينه وبين روحه، قال: أو خير من ذلك ابن عمك وقد صبرت عليه دهراً، فأبت، فلم يزل معاوية يطلب إليها حتى أسمحت، فأعطاها وأحسن إليها؛ ثم إن أيمن دخل على معاوية فأنشده: المتقارب
لقيت من الغانيات العجابا ... لو أدرك مني العذارى الشبابا
يرضن بكل عصا رائض ... ويصبحن كل غداة صعابا
إذا لم تنلهن من ذاك ذاك ... بغينك عند الأمير الكذابا
إذا لم يخالطن كل الخلاط ... أصبحن مخرنطمات غضابا
يميت العتاب خلاط النساء ... ويحيي اجتناب الخلاط العتابا
قال خالد لبلال بن أبي بردة في كلام جرى: إن من سبقته فقد فته، وإن من سبقك فقد فاتك، فقال له بلال: فإنك قد سبقك أجلك أفتفوته؟ وقد سبقك رزقك أفيفوتك؟ فأفحم خالد.

قال المدائني: كان الحجاج حسوداً لا ينسى صنيعة إلا أفسدها، فلما وجه عمارة بن تميم اللخمي إلى ابن الأشعث وعاد بالفتح حسده، فعرف ذلك عمارة وكره منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً، فظل يقول: أصل الله الأمير، أنت أشرف العرب، من شرفته شرف، ومن صغرته صغر، وبابن الأشعث وخلعه؛ حتى استوفد عبد الملك الحجاج وسار عمارة معه يلاطفه ولا يكاشفه، وقدموا على عبد الملك، وقامت الخطباء بين يدي عبد الملك في أمر الفتح، فقام عمارة فقال: يا أمير المؤمنين، لقد أظهر الطاعة وأبلى الجميل وأظهر البأس من أيمن الناس نقيبة، وأعفهم سريرة؛ فلما بلغ آخر التقريظ قال عمارة: فلا رضي الله على الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه، فهو الأخرق السيء التدبير الذي قد أفسد عليك العراق، وألب الناس عليك، وما أتيت إلا من خرقه وقلة عقله وفيالة رأيه وجهله بالسياسة، ولك يا أمير المؤمنين منه أمثالها إن لم تعزله، فقال الحجاج: مه يا عمارة، فقال: لامه ولا كرامة، يا أمير المؤمنين، كل امرأة لي طالق وكل مملوك لي حر إن سرت تحت راية الحجاج أبداً، فقال عبد الملك: ما عندنا شيء أوسع لك؛ فلما انصرف عمارة إلى منزله أرسل إليه الحجاج: إني لأظن شيئاً أخرجك إلى هذه المعتبة، فانصرف فلك عندي العتبى، فأجاب عمارة: إني ما كنت أظن عقلك بلغ بك كل ما أرى، أأرجع إليك بعد أن قلت لك عند أمير المؤمنين ما قلت؟ لا ولا كرامة.
قال ثعلب في المجالسات: إذا قلت: هذا الجيش مقبلاً أردت الشخص.
قال ثعلب، قال النضر بن شميل: سمعت أعرابياً حجازياً باع بعيره يقول: أبيعكه يشبع عرضاً وشعباً؛ والشاعب: البعير يهتضم الشجر من أعلاه، والعارض: الذي بيأكل من أعراضه.
قال ثعلب: المؤوب مثل المعوب هو المقور المأخوذ من حافاته؛ أوب الأديم وقوره واحد.
وقال ثعلب، قال إسحاق الموصلي: حدثني شيخ من بني أمية قال، قال سعيد بن العاص: ما وصلت من ألجأته إلى أن ينتح كما ينتح الحميت، يعني يرشح، والحميت: النحي المربوب.
قال، وذكر عن أبي صالح الفزاري أنه قال في وصف ناقة: إذا اكحالت عينها، وأللت أذنها وسجح خدها وهدل مشفرها وأستدارت جمجمتها فهي كريمة.
قال ثعلب: مات أبو طالب وخديجة عليهما السلام في عام واحد وهو عام الهجرة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن.
وأنشد ثعلب: البسيط
لا تسأل الناس عن مالي وكثرته ... قد يفقر المرء يوماً وهو محمود
أمضي على سنة من والد سلفت ... وفي أرومته ما ينبت العود
مطالب بتراث غير مدركه ... محسد والفتى ذو الفضل محسود
قال ثعلب: الأقتماع: إدخال الرجل رأسه إلى داخل، والأختناث إخراج رأسه إلى خارج، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن اختناث الأسقية.
قال ثعلب: وحدثني المأمون عن الزبير بن بكار قال: لما مات حرب بن أمية بالمدينة قالوا: واحرباه، ثم نقلوا فقالوا: واحرباه.
أصحابنا لا يرون هذا حقاً لكني رويت كما وجدت.
كتب الحسن بن وهب إلى الطائي الشاعر: أمتعني الله بما وفد علي من موافقتك، وبلوغ الوطر كل الوطر من انضمام إليك واجتماع بعينك زادك الله في النعمة بطول حياتك، وتراخي أيامك، وغفلة الدهر عنك، وعن حظي منك. كتابي بأبي أنت وأمي وطار في وتالدي، وكتابك في يدي، وفلان عندي، ونحن نصعد ونصوب في الشعر العجيب الذي أنفذته في درجه، وبيننا من ذكرك أطيب من روائح الرياض غب القطار، والحال سارة، والعافية شاملة، نحمد الله على النعمة، ونسأله حسن النماء والزيادة؛ وذكرت مشاركتك إياي في المصيبة، وما كان أحوجني حين طرقت الأيام بها أن تكون حاضراً فتربط قلباً، وتمسك صلباً، فإنها كانت حالاً وافت غريراً بها، شديد الغفلة عنها، حتى يكون كأنني لا أحسب الأيام على هذه الخليقة ولا الدهر على هذا العادة. فسبحان الله لهذا السهو الطويل، والتفريط الذي لا يشبه السفيه فضلاً عمن يجب أن يقال له عاقل حكيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا زالت أقدار السوء تسقط دونك، والردى يخطئك، وكلاءة الله تحضرك.
قال أبو حازم الأعرج: والله ما أنت بسابق أجلك، ولا بالغ أملك، ولا مرزوق ما ليس لك.

اشتكى عبد الرحمن بن زياد، فكتب إلى بكر بن عبد الله المزني يسأله أن يدعو له، فكتب إليه: حق لمن عمل ذنباً لا عذر له فيه، وخاف موتاً لا بد له منه، أن يكون مشفقاً، وسأدعو لك، ولست أرجو أن يستجاب لي بقوة في عمل ولا براءة من ذنب، والسلام.
قال ابن أبلي طاهر، حدثني حبيب، يعني أبا تمام قال، قال أعرابي: من جاد بماله فقد جاد بنفسه، إلا يكن جاد بها فقد جاد بقوامها.
قال ابن أبي طاهر، وحدثني حبيب قال: حدثني شيخ من بني عدي بن عمرو قال: نزلت عندنا أحوية من طيء، فكنت أتحدث إلى فتى يتحدث إلى ابنة عم له وهو من أقرح الناس كبداً؛ قال: فسار فريقها الأدنى إلى الغور، وغبر في أهل بيته، فاشتد جزعه فقال: يا ابن عم، إن الصبر على المحبوب أشد من الصبر على المكروه.
وقال آخر: كنا مع أبي علي وأبي هفان، فجعل أبو هفان يتنادر بشيء من ذكر الخرا، فقال أبو علي لسعيد بن حميد: يا أبا عثمان لا تلمه، فإن ذبابته لا تطن إلا عليه.
وقال ابن أبي طاهر: رأيت أبا علي البصير وقد قام لعبيد الله بن يحيى فقال: يا أبا الحسن أراك الله في عدوك ما يعطفك عليه.
قال إنسان لأبي علي، حسني: أنت منحرف عن أهل البيت، وأنت ترى أنك ترفض، فقال أبو علي: والله ما أعيا عن جوابك، ولا أعمى عن مسابك، ولكني أكون لنسبك خيراً منك له.
أنشد العتبي للنجاشي: الطويل
وأحلف ما شتمي لكم إن شتمتكم ... بسر ولا مشيي لكم بدبيب
ولا ودكم عندي بعلق مضنة ... ولا سخطكم عندي بجد مهيب
كاتب: أما بعد، فإنه لا شيء أدل على مضمر جفاء، وقلة وفاء، من ترك الزيارة في المحضر، والمكاتبة في المغيب، وكل ذلك قد بدا لنا منك، فإن حملنا أمرك على سبيل الرأي، وسلكنا بك نهج الحزم، فقد صفرت أيدينا منك، وفقدناك من عدد إخوانك، وإن سامحنا فيك الهوى واتبعناه، وجرينا في عنانه وأطعناه، فعن قليل يصيرؤ الظن إيقاناً، والشك عرفاناً.
قال أعرابي: من هزل جواده في الرخاء قام به في الشدة؛ يقال: هزل غيره وهزل هو، وأهزل إذا هزلت ماشيته، والهزل منه، كأنه كلام غث ليس بسمين.
وأنشد: الوافر
لعمرك لم أبح لهم بسر ... جعلت بحفظه صدري ضنينا
ولكن رجموا ظنا فلما ... ذعرت لظنهم علموا يقينا
ومن يرني نحيف الجسم أبكي ... بلا شك يظن بي الظنونا
قال ميمون بن مهران: الطالب في حيلة والمطلوب في غفلة، والناس منهما في شغل.
قال بعض البلغاء: إذا كنت ذا لسان قوي وقلب ذكي تحسن بهما تفصيل ما يكره أن يفصل، وتبلغ بهما توصيل ما يجب أن يوصل، فاذكر الزلل، وما نسب إليه المتكلم من الخطأ والخطل، وكن حذراً كأنك غر، وفطناً كأنك غافل، وذاكراً كأنك ناس، والزم الصمت إلى أن يلزمك التكلم، فما أكثر من يندم إذا نطق، وأقل من يندم إذا سكت.
شاعر: الكامل المجزوء
روح فؤادك بالرضا ... ترجع إلى روح وطيب
لا تيأسن وإن أل ... ح الدهر من فرج قريب
كان محمد بن المنكدر يقول: اللهم قو فرجي لأهلي فإنه لا قوام لهم إلا به.
أهدى فلان إلى إسماعيل الأعراج فالوذجة زنخة وكتب: إني اخترت لعملها جيد السكر السوسي، والعسل الماذي، والزعفران الأصفهاني. فأجابه: برئت من الله إن لم تكن قد عملت هذه الفالوذجة قبل أن تمصر أصفهان، وقبل أن تفتح السوس، وقبل أن يوحي ربك إلى النحل.
سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فقالوا: ألا تستحي؟ فقال: ولم أستحي مما لم يستحي منه الملائكة حين قالت " لا علم لنا " البقرة: 32؟ قال ابن الأعرابي: ما لهذا الغناء يخرج من جلجلان القلب إلى قمع الأذن؟ ويقال: ضربت لهذا الأمر حيزومي، أي عرفته وصبرت نفسي عليه.
يقال: فسكلت في كلامك إذا لحنت.
ويقال: فلان معصور منصور إذا كان للنعمة عليه آية وأثر.
ويقال: جمعت هذا المال من عسي وبسي؛ العس: الاحتيال، والبس: بلوغ الجهد.
ويقال: سمعت بذلك ولا أناث الآن مغيبه ومغتابه؛ وكان فلان ثمالاً أي مغتاباً.

قال إبراهيم بن شكلة: أفضل المغنين من رق صوته، وأطرب سماعه، ودام صوابه، وحسنت أداته. وأفضل الغناء ما كان في وصف شجى، أو تذكر سكن، أو نعت شوق، أو شكوى فراق، وأفضل النزهة وجه سماء، وصفوة هواء، وغدير ماء، وخضرة كلاء، وسعة فضاء.
قال فيلسوف: العاقل لا يتفل في بئر يشرب منها، والبار لا يلعن الصلب الذي خرج من متنه، والشاكر من لا يشتم الرحم التي اشتملت عليه.
قيل للحسين بن علي رضي الله عنهما: ما الكرم؟ قال: التبرع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال، والإطعام في المحل.
قال المغيرة بن شعبة: الرجال أربعة، والنساء أربع: فإذا كان الرجل مذكراً والمرأة مذكرة كابدا العيش؛ وإذا كان الرجل مؤنثاً والمرأة مذكرة كان الرجل هو المرأة والمرأة هي الرجل؛ وإذا كان الرجل مؤنثاً والمرأة مؤنثة ماتا هزلاً؛ وإذا كان الرجل مذكراً والمرأة مؤنثة طاب العيش.
شاعر: البسيط
اليأس أبقى لماء الوجه من طمع ... والصبر أفضل في المكروه من جزع
ولست مدرك شيء أنت طالبه ... إن كان شيئاً به الأقدار لم تقع
قال الأحنف: لم تزل العرب تستخف بأبناء الإماء حتى لحق هؤلاء الثلاثة: علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، فاستقل بنو الإماء ولحقوا بهم.
قيل لصوفي: ما صناعتك؟ قال: حسن الظن بالله وسوء الظن بالناس.
قال دغفل البكري: حمى النعمان ظهر الكوفة، قال: ومن ثم قيل: شقائق النعمان، فخرج النعمان يسير في ذلك الظهر فإذا هو بشيخ يخصف نعلاً فقال: ما أولجك ها هنا؟ قال: طرد النعمان الرعاء فأخذوا يميناً وشمالاً، فانتهيت إلى هذه الوهدة في خلاء من الأرض، فنتجت الإبل وولدت الغنم وامتلأت بالسمن، والنعمان ممعتم لا يعرفه الرجل، قال: أو ما تخاف النعمان؟ قال: وما أخاف منه؟ لربما لمست بيدي هذه عانة أمه وسرتها فأجد كأنه أرنب جاثم، فهاج غضباً وسفر عن وجهه فإذا خرزات الملك، فلما رآه الشيخ قال: أبيت اللعن، لا تر أنك ظفرت بشيء، قد علمت العرب أنه ليس بين لابتيها أكذب مني، فضحك النعمان ومضى.
أتي زياد بن عبيد الله الحارثي وهو أمير المدينة بسلال خبيص هدية، فظن أنها فاكهة رطبة فقال: ضعوها وآدعوا مساكين المسجد، فلما جيء بهم وفتحت السلال إذا فيها الخبيص اليابس مما يبقى، فلم تسمح به نفسه فقال: اذهبوا بهؤلاء إلى السجن، قالوا: ولم أصلح الله الأمير؟ قال: لأنكم تقيلون في المسجد وتصلون بغير وضوء، قالوا: فإنا نحلف ألا ندخل المسجد أبداً.
قال صبي لمعلم يستفتحه: " إن أبي يدعوك " القصص: 25، فقال المعلم: هاتوا نعلي، قال الغلام: إنما أستفتحك، قال المعلم: أنكرت أن يفلح أبوك الكشخان.
يقال: من حكمة لقمان أنه كان مع مولاه حتى دخل الخلاء فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إن طول الجلوس على الحاجة تتوجع منه الكبد، ويكون منه الداء، ويصعد منه الحر إلى الرأس، فأجلس هوينا وأخرج هوينا، قال: فخرج مولاه وكتب كلماته على باب المخرج.
وأنشد: البسيط
يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت ... بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه
والمرء يرزق لا من حسن حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي
لا شيمتي تجتوى يوماً ولا خلقي ... وليس حبلي لمن صافيت بالواهي
ما مسني من غنى يوماً ولا عدم ... إلا وقولي عليه: الحمد لله
فصل للجاحظ: وقد صرت أهابك لفضل هيبتي له، واجترىء عليك بفرط بسطك، فمعي في ذلك حرص الممنوع، وخوف المشفق، وأمن الواثق، وقناعة الراضي، وبعد فما طلب ما لا يجاد به، وسأل ما لا يوهب مثله، ممن يجود بكل ثمين، ويهب كل خطير، فواجب أن تكون من الرد مشفقاً، وبالنجح موقناً.
نظر مخنث إلى مسجد لطيف نظيف فقال لآخر: أما ترى هذا المسجد ما أملحه، ولا يصلح والله إلا أن يحمل في السفر.
قال ثعلب، حدثنا أبو العالية قال: مر قوم من بني سليم برجل من مزينة يقال له نضلة، في إبل له، فاستسقوه لبناً فسقاهم، فلما رأوا أنه ليس في الإبل غيره ازدروه فأرادوا أن يستاقوها، فجالدهم حتى قتل منهم رجلاً وأجلى الباقين عن الإبل، فقال في ذلك رجل من بني سليم: الوافر
ألم تسأل فوارس من سليم ... بنضلة وهو موتور مشيح

رأوه فازدروه وهو خرق ... وينفع أهله الرجل القبيح
فشد عليهم بالسيف صلتاً ... كما عض الشبا الفرس الجموح
وأطلق غل صاحبه وأردى ... قتيلاً منهم ونجا جريح
ولم يخشوا مصالته عليهم ... وتحت الرغوة اللبن الصريح
نظر مخنث إلى رجل يتبختر من ولد أبي موسى فقال: انظروا إلى من خدع أباه عمرو بن العاص.
قال أبو هفان، حدثني محمد بن حرب قال: دخلت على العتابي في منزله فإذا هو قاعد على مصلاه بلا تكأة وبين يديه شراب في إناء، وكلب رابض في الفناء، وإذا هو يشرب كأساً ويولغه أخرى، فقلت له: سبحان الله، أنت في نبلك وهذا فعلك؟! قال: إنه يكف عني أذاه، ويمنعني أذى سواه، ويشكر قليلي، ويحفظ مبيتي ومقيلي، قال: فوصفه على البديهة بصفة لو كان غيري لتمنى أن يكون كلباً ليدخل في حسن جملة تلك الصفة.
قالت امرأة لحمصي كان تزوجها: يا أفطس يا كشخان؛ فسجد لله تعالى وقال: إن كنت صادقة فواحدة من الله تعالى والأخرى منك.
رأى أبو القمقام الهلال على وجه بصرية فقال لها: أضحكي في وجهي وخذي هذا الدينار مني، فاستظرفته وأخذت الدينار عبثاً، فقال: قد تفاءلت بوجهك فما لي عندك؟ قالت: أرد دينارك، قال: هذا كما كنا، فأين حلاوة الفأل وصدقه، فأعطته ديناراً، فقال: التجارة بركة والخديعة غنى.
لبعض المازنيين: الكامل
ختم الإله على لسان عذافر ... ختماً فليس على الكلام بقادر
وإذا أراد النطق خلت لسانه ... لحماً يحركه لصقر نافر
رأى يحيى بن أكثم غلاماً أمرد حسن الوجه في دار المأمون فقال: " لولا أنتم لكنا مؤمنين " سبأ: 31، فرفع إلى المأمون فعاتبه فقال: يا أمير المؤمنين، كان انتهى درسي إلى ذلك الموضع؛ فضحك منه.
قال أحمد بن أبي خالد: دخلت على المأمون وهو قاعد يصفي نبيذاً، فبادرت لأتولى ذلك فقال: مه! أنا أجد من يكفيني هذا، ولكن مجراه على كبدي فأحببت أن أتولاه بيدي.
قال عبيد الله بن زياد: نعم الشيء الإمارة لولا قعقعة البريد وتشزن المنبر.
قال الحسن رحمه الله: نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان الله عليه، وذنوب بني آدم أكثر من أن تسلم إلا ما عفا عنه.
شاعر: الكامل
نشرت غدائر شعرها لتظاني ... حذر العداة من العيون الرمق
فكأنها وكأنني وكأنه ... قمران باتا تحت ليل مطبق
كاتب: أفضل القول ما كان سداداً، وأفضل العقل ما كان رشاداً.
قال فيلسوف: الكلام فيما يعنيك خير من السكوت عما يضرك، والسكوت عما يضرك خير من الكلام فيما لا يعنيك.
دخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئاً يقعدون عليه، فلما تولوا قال لهم: لو كانت دار مقام لاتخذنا لها أثاثاً.
قال كليلة: قد تصل النصال إل الجوف فتستخرج وتندمل جراحها، والقول إذا وصل إلى القلب لم يستخرج.
قال شبيب الخارجي: الليل يكفل الجبان ويصف الشجاع.
قال المأمون لطاهر بن الحسين: يا أبا الطيب، صف لي أخلاق أخي محمد، قال: كان واسع الطرب، ضيق الأدب، فقال: كيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفضها بسوء التدبير، قال: كيف كنتم له؟ قال: كنا أسداً تبيت وفي أشداقها علق الناكثين، وتصبح وفي صدورها قلوب المارقين.
شاعر: الطويل
فكم من أخي عقل ولب ومحتد ... تراه أخا جهد وبؤس يكالبه
وآخر لا يدري من العي والعمى ... من أين تهب الريح تصفو مشاربه
قال بعض السلف: لا يجاهد الطالب جهاد المغالب، ولا يتكل على القدر اتكال المستسلم، فإن ابتغاء الفضل من السنة، والإجمال في الطلب من العفة، وليست العفة بدافعة رزقاً، ولا الحرص بجالب فضلاً.
سئل ابن الأعرابي عن قولهم: فلان شديد العارضة، قال: منيع الجانب لا مطمع فيه.
قال ابن هبيرة لخالد القسري: فررت فرار العبد يا أبا المثنى، قال: نعم، حيث نمت نومة الأمة عن عجينها يا أبا الهيثم.
شاعر: الطويل
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ... ونال سواكم أجرها وأصطناعها
أبى لك فعل الخير رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بسوء أطاعها

قال بعض الفرس: الناس أربعة: أسد وذئب وثعلب وضأن. فأما الأسد فالملوك يفرسون ويأكلون، وأما الذئب فالتجار، وأما الثعلب فالقوم المخادعون، وأما الضأن فالمؤمن ينهشه من رآه.
مدح أعرابي رجلاً فقال: هو أصح بصراً من العقاب، وأيقظ عيناً من الغراب، وأصدق حساً من الأعراب.
يقال: ثلاثة لم يمن بها أحد فسلم: صحبة السلطان، وإفشاء السر إلى النساء، وشرب السم في التجربة.
قال أعرابي لامرأته: أقام الله ناعيك، وأشمت بك أعاديك.
ذكر رجل عند أعرابي بشدة العبادة فقال: هذا والله رجل سوء، يظن أن الله عز وجل لا يرحمه حتى يعذ نفسه هذا التعذيب؟! قال أعرابي: من خولك نفسه، وملكك خدمته، وتخيرك لزمانه، وجب حقه وذمامه.
كان يقال: إنما يعد البخيل من يقرض إلى ميسرة.
يقال: الغالب بالشر مغلوب، وما ظفر من ظفر به الأثم.
ويقال: لكل شيء فحل، وفحل العقل مجالسة الناس.
قال مكحول في مرضه الذي قضى فيه: اللحاق بمن يرجى عفوه، خير من البقاء مع من لا يؤمن شره.
قال فيلسوف: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الجد.
دعبل: الكامل
تمت مقابح وجهه فكأنه ... طلل تحمل ساكنوه فأوحشا
لو كان بأستك ضيق كفك أو لكف ... ك رحب دبرك كنت أكرم من مشى
كان معلم يقعد أبناء المياسير في الظل، وأبناء الفقراء في الشمس، ويقول: يا أهل الجنة، أبزقوا على أهل النار.
خاصم رجل امرأته إلى زياد، فشدد على الرجل، فقال: أصلح الله الأمير، إن خير نصفي الرجل آخرهما، يذهب جهله ويثوب حلمه ويجتمع رأيه، وشر نصفي المرأة آخرهما، لسوء خلقها وحدة لسانها ولعقم رحمها، فقال: أسفع بيدها.
أنشد: الرمل
رب قوم غبروا من عيشهم ... في نعيم وسرور وغدق
سكت الدهر زماناً عنهم ... ثم أبكاهم دماً حين نطق
قال العباس بن الحسن العلوي: أعلم أن رأيك لا يسع كل شيء ففرغه للمهم من أمورك، وأن مالك لا يغني الناس كلهم فاخصص به أهل الحق، وأن أكرامتك لا تطيق العامة فتوخ بها أهل الفضل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حوائجك فأحسن قسمتهما بين عملك ودعتك.
قالت الخنساء: النساء يحببن من الرجال المنظراني الغليظ القصرة، العظيم الكمرة، الذي إذا طعن حفر، وإذا أخطأ قشر، وإذا أخرج عقر.
لابن المكاري في ابن طاهر: الكامل
يا أيها الملك الذي في كفه ... صرف الزمان وصولة الحدثان
هل كنت إلا البحر صادف لجة ... فجرى بطوفان على طوفان
ولأنت أثقل إن وزنت من الورى ... من أن يقوم بعدلك الثقلان
أنشد: الطويل
وكأس سبتها التجر من أرض بابل ... كرقة ماء الدمع في الأعين النجل
إذا شجها الساقي حسبت حبابها ... عيون الدبا من تحت أجنحة النحل
نظر بعض الأعاجم إلى شيبة في عارضه فقال لنسائه: أندبنني إذ مات بعضي لأعرف كيف تندبنني إذا مات كلي.
قال فيلسوف: أربع خصال يهدمن البدن: دخول الحمام على البطنة، والجماع على الشبع، وأكل القديد الجاف، وشرب الماء البارد على الريق.
قال أعرابي في امرأة: خلوت بها والقمر يرينيها فلما غاب أرتنيه.
قال بعض الرافضة، قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: يوم السبت يوم مكر وخداع، ويوم الأحد يوم عرس وبناء، ويوم الأثنين يوم سفر وابتغاء رزق، ويوم الثلاثاء يوم حرب ودم، ويوم الأربعاء يوم أخذ وإعطاء، ويوم الخميس يوم دخول على الأمراء وطلب الحوائج، ويوم الجمعة يوم خلوة ونكاح.
قيل لرجل كانت امرأته تشاره: أما أحد يصلح بينكما؟ فقال: لا، قد مات الذي كان يصلح بيننا، يعني أيره.
أنشد: البسيط
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تمنعهم القلل
وأستنزلوا بعد عز من معاقلهم ... وأنزلوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صائح من بعد دفنهم ... أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت محجبة ... من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا فيها وما نعموا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
يقال: أعجب الأشياء بديهة أمن وردت في مقام خوف.
قال إسحاق: وجد علي الفضل بن الربيع في غيبة غبتها عنه فهجرني أياماً فكتبت إليه: إن لكل ذنب عفواً أو عقوبة، فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة، فأما مثلي من العامة فذنبه لا يغفر، وكسره لا يجبر، فإن كان لا بد من عقوبة فعاقبني بإعراض لا يؤدي إلى مقت.
كاتب: أما بعد فإن جميل الأخلاق وإن كان لا مرجوع له أفضل من ذميم الأخلاق وإن تعجل الأستمتاع به، فلا يمنعنك من فعال العرف تخوف من كفره، ولا من النصح جهل من نصحت له، فإن أقل ما في ذلك اللحاق بأهل الفضل وإحراز العرض من الذم، ولعلهما يجمعان لك.
قالت الحكماء: من أكثر من وعي الحكمة أوشك أن ينطق بها.
قال معاوية: معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا هذا معروف زمان يأتي.
وكتب الأحنف إلى آخر: أما بعد فافرغ من جهادك، وزم زادك، وكن وصي نفسك، ولا تجعل الرجال أوصياءك.
قال أعرابي: الصمت أجلب للمودة، وأعمل فيالمهابة، وأزيد في الصيانة، وأبقى للجسد.
بصق عبد الملكبن مروان فقصر فوقع بصاقه فوق البساط، فقام رجل يمسحه بثوبه، فقال عبد الملك: أربعة لا يستحيى من خدمتهم: السلطان والوالد والضيف والدابة، وأمر للرجل بصلة.
قال العتابي: إذا نزلت من الوالي بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق، ولا تكثر له من الدعاء في كل كلمة، فإن ذلك يشبه الوحشة، وعظمه ووقره عند الناس.
سمع أعرابي رجلاً يقع في السلطان فقال: ويحك، إنك غفل لم تسمك التجارب، وفي النصح لدغ العقارب، وكأنني بالضاحك إليك باك عليك.
عزى عطاء بن أبي صيفي يزيد: رزئت خليفة الله وأعطيت خلافة الله؛ قضى معاوية نحبه، فغفر الله عز وجل له ذنبه، وأعطيت بعده الرياسة ومنحت السياسة، فاحتسب عظيم الرزية، واشكر على حسن العطية.
عزى محمد بن الوليد بن عتبة عمر بن عبد العزيز رحمه الله على ابنه عبد الملك فقال عمر: هل رأيت حزناً وغفلة؟ قال: يا أمير المؤمنين، لو أن رجلاً ترك تعزية رجل لعلمه وتيقظه لكنت ذاك، ولكن الله عز وجل قضى أن الذكرى تنفع المؤمنين.
قال شعيب بن الحبحاب: الحزن ينضو كما ينضو الخضاب، ولو بقي الحزن على أحد لقتله.
وعزى رجل سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تجعل أول أمرك كآخره فافعل؛ فكان ذلك مما سكن منه.
هرب الربيع بن العلاء التيمي من الطاعون وهو أبو اثني عشر ولداً، فماتوا جميعاً فقال يرثيهم: الوافر
دفنت الدافعين الضيم عني ... برابية مجاورة سناما
أقول إذا ذكرتهم جميعاً ... بنفسي تلك أصداء وهاما
فلم أر مثلهم هلكوا جميعاً ... ولم أر مثل هذا العام عاما
قيل لمديني: ما عندك من آلة الصيدة؟ قال: الماء.
ضجر أعرابي من كثرة العيال، وبلغه أن الوباء بخيبر شديد، فخرج إليها بعياله يعرضهم للموت وقال: الرجز
قلت لحمى خيبر: استعدي ... هاك عيالي فاجهدي وجدي
وباكري بصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند
فأخذته الحمى فمات وبقي عياله.
نزل النعمان برابية فقال له رجل: أبيت اللعن، لو ذبح رجل، أي موضع كان يبلغ دمه من هذه الرابية؟ قال: المذبوح والله أنت، ولأنظرن إلى أين يبلغ دمك، فقال رجل ممن حضر: رب كلمة تقول لقائلها: دعني.
لابن الجهم: الكامل
فارقتكم وحييت بعدكم ... ما هكذا كان الذي يجب
إني لألقى الناس معتذراً ... من أن أعيش وأنتم غيب
أو لم طفيلي على ابنته فأتاه كل طفيلي، فلما رآهم عرفهم ورحب بهم، ثم أدخلهم فرقاهم إلى غرفة بسلم ثم أخذ السلم حتى فرغ من إطعام الناس، فلما لم يبق أحد أنزلهم وأخرجهم.
قال غسان قاضي الكوفة: قرأت على باب نوبهار ببلخ مكتوباً: قال بيوراسف: أبواب الملوك تحتاج إلى ثلاث: إلى عقل وصبر ومال. وأسفل منه: كذب بيوراسف العاض بظر أمه، فإن الواجب على الحر إذا كان معه واحد منها ألا يلزم السلطان.
قال بعض النساك: لا تصافين من لا شعر في عارضيه ولو كانت الدنيا خراباً إلا منه.
أنشد: الكامل

إن الرجال إذا اختبرت طباعهم ... ألفيتهم شتى على الأخبار
لا تعجلن إلى شريعة مورد ... حتى تبين خطة الإصدار
قال بعض الزهاد: قد أعياني أن أنزل على رجل يعلم أني لست آكل من رزقه شيئاً.
كان الحكم بن المطلب من أبر الناس بأبيه، وكان أبوه يحب ابنه حارثاً حباً مفرطاً، وكان بالمدينة جارية مشهورة بالجمال، فاشتراها الحكم بمال جليل، فقال له أهلها: دعها عندنا حتى نصلح من أمرنا ونزفها إليك، فتركها حتى يجهزوها ويزفوها، وتهيأ الحكم بأجمل ثيابه وتطيب وأنطلق إلى أبيه ليراه، فدخل عليه وعنده ابنه الحارث، فلما رآه أبوه أقبل عليه فقال: إن لي إليك حاجة، قال: يا أبة، إنما أنا عبدك فمرني بما أحببت، قال: هب لي هذه الجارية للحارث أخيك، وأعطه ثيابك هذه التي عليك، ودعه يدخل عليها فإني لا أشك أن نفسه تاقت إليها، فقال الحارث: لم تكدر على أخي لذته، وتفسد علي قلبه؟ وذهب ليحلف، فبدر الحكم فقال: هي حرة لوجه الله تعالى إن لم تفعل ما أمرك أبي، فإن طاعتي له أسر إلي من الجارية، وخلع ثيابه وألبسه إياها وأنفذها إليه، ثم إن الحكم تخلى من الدنيا ولزم الثغور حتى مات بمنبج.
مزرد: الطويل
ولما غدت أمي تزور بناتها ... أغرت على العكم الذي كنت أمنع
لبكت بصاعي حنطة صاع عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتريع
ودبلت أمثال الأثافي كأنها ... رؤوس نقاد قطعت يوم تجمع
وقلت لبطني أبشري اليوم إنه ... حمى أمنا مما تحوز وتجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبع
يقال: قعرت البحر: بلغت قعره، وقعرت الإناء: شربت ما فيه، وأقعرته: جعلت له قعراً.
ويقال: خرج به خراج ولا يقال: عليه.
يقال: استعرض من شيت فسله.
يقال: النقب في خفي البعير، والحفا في رجليه.
قال أبو عمرو بن العلاء: خرجنا حجاجاً، واكترينا من رجل، فجعل يرتجز في طريقه إذ حدا بنا ولا يزيد على قوله: الرجز يا ليت شعري هل بغت عليه فلما انصرفنا من مكة قالها في بعض الطريق، فأجابه صوت في الظلمة: الرجز
نعم نعم وناكها حجيه ... أحمر ضخم في قفاه كيه
فأسكت الرجل، فلما صرنا إلى البصرة أخبرنا قال: دخل علي جيراني يسلمون، وإذا فيهم رجل ضخم أحمر، قلت لأهلي: من هذا؟ قالوا: رجل كان ألطف جيراننا بنا وأحسنهم تعهداً بنا فجزاه الله خيراً؛ فلما ولى إذا أثر كي في قفاه، فقلت للمرأة: ما أسمه؟ قالت: حجية، قلت: الحقي بأهلك فقد أتاني خبر حجية.
اشتهت امرأة مزبد عليه الجراد فسأل عن سعره فقيل: المد بدرهم، فقال: والله لو كان الدجال ينزل المدينة وأنت ماخض بالمسيح ما اشتريته لك بهذا السعر.
جاءت امرأة أبا اعطوف القاضي برجل فقالت: إن هذا افتض ابنتي، فقال للرجل: أفعلت؟ قال: نعم، قال: ولم؟ قال: لاعبتني آمرة مطاعة فقمرتني، فأدخلت في أستي دستة الهاون، ولاعبتها فقمرتها ونكتها، فقال أبو العطوف: يا هذه، إن الذي أدخلت ابنتك في است هذا أشد مما أدخل هذا في أست ابنتك.
قال الأصمعي: قلت لأعرابي كنت أعرفه بالكذب: أصدقت قط؟ قال: لولا أني أصدق في هذا لقلت: لا.
كان أبو حازم يمر في المقابر ويقول: يا أهل المقابر، أصبحتم نادمين على ما خلفتم، وأصبحنا نقتتل على ما أصبحتم عليه نادمين، فما أعجبنا وإياكم.
أنشد أحمد بن الطيب في رسالته التي يسميها مراح الروح: الطويل
لعمرك إن العز للمرء جده ... وأغنى لمستغن عن الناس كده
وقل الذي يرعاك إلا لنفسه ... وللنفع من بعد الصديق يعده
وليس الفقير للغني بصاحب ... وهيهات لا يستصحب الشيء ضده
فلا تتصل إلا بمن أنت شكله ... فحسبك من سي يداه وحده
إذا شرهت نفسي إلى ذل مطمع ... شفاها من اليأس المصرح رده
ولكنما الدنيا إذا جد صاحب ... تصعد لم يحفل بمن حط جده
لعمرك إن العبد للقرع بالعصا ... وللحر تغليظ الحجاب ورده
قال أحمد بن الطيب: العصبية كما قال رجل من الأفاضل هي أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين.

وأنشد أحمد أيضاً لصالح بن عبد القدوس: الطويل
لئن كنت محتاجاً إلى الحلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الشر خدناً وصاحباً ... ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قال بعض الناس فيه سماجة ... فقد صدقوا والذل بالحر أسمج
قال السيرافي: فإني مقوم، فإني معوج: بالكسر، واستدرك عليه.
قال بعض أصحابنا: بت ليلة بالبصرة مع جماعة من المسجديين، فلما حان وقت السحر حركهم واحد فقال: كم هذا النوم عن أعراض الناس؟ وأنشد أحمد: الكامل
وضغائن داويتها بضغائن ... حتى يمتن وبالحقود حقودا
وعلى ذكر الحقد فممن اعترف بالحقد حتى صيره من أخلاق الأشراف: عبد الملك بن صالح؛ فإن يحيى بن خالد أو أحد ابنيه الفضل أو جعفر، قال له: أظنك حقوداً، فقال: إن كنت تريد بقولك حقوداً إن للخير من نفسي مكاناً يقتضي الشكر والجزاء، وللشر مكاناً يقتضي الأمتعاض والإباء، فإن ذلك لدي وعندي؛ وإن كنت أردت اللقاء.
قال: ومن الناس من يألف التمرغ في أعراض الناس؛ قيل لرجل من هذا الضرب: كنت دخلت إلى فلان زائراً ومستمنخاً، فما صنع؟ قال: منعني لذة الذم إذ برني ووصلني.
قيل لمحمد بن واسع: ألا تتكىء؟ قال: تلك جلسة الآمنين.
قال أبو عوانة: سأل رقبة بن مصقلة الأعمش عن حديث فلم يجبه، فقال له رقبة: يا أعمش، إنك ما علمت لسريع الملال، دائم القطوب، مستخف بحق الزوار، كأنما تسعط الخردل إذا سئلت الحكمة؛ ولكني أنزلك بمنزلة دواء السقيم، أتصبر عليه لما أرجو من منفعته، فإن إتيانك ذل، وتركك غبن.
قال جراب الريح: جامع عمرو الخوزي امرأته يوماً بسجستان فقالت: إن القصار لا يقصر الثوب مرة ولكن مراراً، تستزيد النيك بهذا المثل، فقال لها: لو كنت تحتاجين إلى أن ينفخ حرك كما أحتاج إلى أن أنفخ أيري لعلمت أن القصار لا يقصر أبداً.
قيل لأعرابي: أتحب الريف؟ قال: لا، قيل: ولم؟ قال: الريف مبطنة.
أنشد ثعلب في المجالسات لخارجة: البسيط
ما تدلك الشمس إلا حذو منكبه ... في حومة حولها الهامات تبتدر
آل الزبير بحور سيب أنملهم ... إذا دجا الليل في ظلمائه زهروا
قال ثعلب: العرب تسمي السل داء إلياس، وهو إلياس بن مضر، كان أصابه السل.
وقال ثعلب: الخزرج ريح الجنوب.
وأنشد: البسيط
تأتي أمور فلا تدري أعاجلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيراً وأرضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي عليه غريب ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حال دهارير
قال جراب الريح: مازح رجل عندنا بسجستان عمراً الخوزي فقال له: متى نكت يا عمرو؟ قال: سل امرأتك، فإني قد نسيت وهي أذكر له، فخجل.
وسئل عن امرأته كيف هي وعن حسنها، قال: هي كباقة نرجس، رأسها أبيض، ووجهها أصفر، ورجلها خضراء؛ هكذا قال.
وباع عمرو حماراً فرد عليه وقالوا: إنه أعشى لا يبصر بالليل، فقال: لم أعلم أنكم تريدونه للطلائع والسرايا بالليل، وإذا سافرت فحيث أدركك الليل فانزل وبت.
قال المدائني: دخل أعرابي إلى معاوية ومعه ابنه، فدعاهما إلى الغداء، فكان ابن الأعرابي لا يمر بشيء إلا حطمه، فأمر معاوية أن يحجب الأأعرابي وابنه، فلم يزل الأعرابي يحتال حتى دخل فقال له معاوية: ما فعل التلقامة؟ قال: كظ به يا أمير المؤمنين ساعة خروجه من عندك، قال: قد رأيت ذاك مما يصنع، وعلمت أنه لا ينجو؛ وسهل إذن الأعرابي.
أنشد: الطويل
أرى بصري في كل يوم وليلة ... يكل وخطوي عن مداهن يقصر
ومن يصحب الأيام تسعين حجة ... يغيرنه والدهر لا يتغير
لعمري لئن أمسيت أمشي مقيداً ... لما كنت أمشي مطلق القيد أكثر

قال ثعلب: درع كأن قتيرها حدق الأفاعي، وحدق الجراد وحدق الأساود؛ ورأيت جمعاً مثل الحرجة، وهي جماعة من العضاه تجمع.
قال، ويقال: تكلم بكلام كأنه القطر، لاستوائه، ونطق منطقاً مثل فوائق النبل.
قال: شبوا ناراً مثل الفجر، يعني إيقادها ولهبها؛ ورأيت له معزى كأنها الحرة، ووجدت بالأرض عشباً كأنه الخروع، وأمترنا عجوة كأنها أنوف الزنج، أي هي فطس.
قال ابن أبي طاهر، حدثني حبيب قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات ابن لأرطاة بن سهية فجزع عليه جزعاً شديداً كاد يذهب عقله، وكان مات فجأة، فلما كان الحول أتى قبره فبكى وأطال ثم قال: اغد يا ابن سلمى معنا، ثم أنشأ يقول: الطويل
وقفت على قبر ابن سلمى فلم يكن ... وقوفي عليه غير مبكى ومجزع
سوى الدهر فاعتب إنه غير معتب ... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
هل أنت ابن سلمى إن نظرتك رائح ... مع الركب أو غاد غداة غد معي
قال ثعلب، يقال: طعام شديد العلقمة إذا كان مراً.
قيل لابنة الخس: ما أحسن شيء؟ قالت: ديمة على أثر ديمة، على عهاد غيرقديمة، قيل: فما أحد شيء؟ قالت: ضرس جائع، ألقى في معاء ضائع. قيل: فما أشفى شيء؟ قالت: قليل مني، من ابن عم حفي، على فراش وطي.
عزى رجل الرشيد فقال: آجرك الله بالباقي، وأمتعك بالفاني، قال: ويحك ما تقول؟ وظن أنه غلط فقال: ألم تسمع ما يقول الله عز وجل " ما عندكم ينفذ وما عند الله باق " النحل: 96 فسري عنه.
بعث الجنيد بن عبد الرحمن المري إلى خالد بن عبد الله القسري بسبي من الهند، فجعل خالد يهب أهل البيت كما هو للرجل من قريش ومن وجوه الناس، حتى بقيت جارية منهن جميلة أراد أن يدخرها وعليها ثياب أرضها، فقال لأبي النجم: هل عندك فيها شيء حاضر وتأخذها الساعة، قال: نعم أصلحك الله، فقال العريان بن الهيثم النخعي: كذب والله ما يقدر على ذلك - وكان على شرطة خالد - حتى يروي فيه؛ فأنشأ أبو النجم يقول: الرجز
علقت خوداً من بنات الزط ... ذات جهاز مضغط ملط
رابي المجس جيد المحط ... كأنما قط على مقط
إذا بدا منها الذي تغطي ... كأن تحت ثوبها المنعط
شطاً رميت فوقه بشط ... لم ينز في البطن ولم ينحط
فيه شفائي من أذى التمطي ... كهامة الشيخ اليماني الثط
ثم أوما بيده إلى رأس العريان،فضحك خالد وقال للعريان: هل تراه يحتاج إلى أن يروي؟ فقال: لا والله، ولكنه ملعون ابن ملعون.
لابن أبيض العلوي الأفطسي: الكامل
وأنا ابن معتلج البطاح يضمني ... كالدر في أصداف بحر زاخر
ينشق عني ركنها ومقامها ... كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها ... خلقي ومثل ظبائهن مجاوري
هذا والله كلام فاخر ومعنى عجيب وسلاسة حلوة.
أنشد: الوافر
لهم همم يجاورن الثريا ... وحال قد تعرقها الصروف
جواد في مكارمه شجاع ... ولكن الثراء به قطوف
وأنشد: السريع
وحية في رأسها درة ... تسبح في بحر قصير المدى
إذا تناءت فالعمى حاضر ... وإن بدت بان طريق الهدى
يعني الفتيلة في المصباح؛ وأصحابنا يرون هذين البيتين غاية في الإصابة.
خطب رجل امرأة فقالت: إن في تقززاً، وإني أخاف أن أرى منك بعض ما أتقزز منه فتنصرف نفسي عنك، فقال الرجل: أرجو أن لا تري ذلك، فتزوجها؛ فمكث أياماً ثم قعد معها يتغدى، فلما رفع الخوان تناول ما سقط من الطعام تحت الخوان فأكله، فنظرت إليه وقالت: أما كان يقنعك ما على ظهر الخوان حتى تلتقط ما تحته؟ قال: إنه بلغني أنه يزيد في القوة على النيك، فكانت بعد ذلك تغافله وتفتت له الخبز كما تفتت للفروج.
يقال: ما البر وما البر أيضاً، وما التر وما الثر، وما الجر والحر والخر، وما الدر وما الذر وما الزر وما السر والشر، وما الصر والضر، وما الطر وما الغر، وما القر والكر، والمر والهر والأر، والعر؟

جواب هذه الكلمات يأتي من بعد، وإنما أتباعد قليلاً، وأتقارب قليلاً، وأذكر فصلاً نحوياً، وفصلاً كتابياً، وفصلاً كلامياً، وفصلاً فقهياً، وفصلاً فلسفياً، وفصلاً لغوياً، وفصلاً شعرياً، وأوشح ذلك كله بما احتمل من الأعتراض والبحث والتفسير لشيئين: أحدهما - وهو أكبرهما - أنك أيها القارىء إن تثبت على الكتاب، وتبرأ من الملالة، فستجد حرصاً على الأستكثار من العلم، وتنخدع للحكمة، وتصل إلى حظك بخفة المؤونة؛ والآخر: أني عرفت زماناً وحالاً لا يعينان على تقريب الباب في فن من الباب في فن آخر، وهذا عجز إلى الله أرفعه، وعليك أعرضه.
قال ابن دريد عن أبي عثمان الأشنانداني عن التوزي عن أبي عبيدة، قال: ولم يقل رؤبة شعراً غير هذين البيتين: الوافر
إذا ما الموت أقبل قبل قوم ... أكب الحظ وانتقص العديد
أرانا لا يفيق الموت عنا ... كأن الموت إياناً يكيد
آخر: الخفيف
أيها الشامت المعير بالشي ... ب أقلن بالشباب افتخارا
قد لبست الشباب غضاً جديداً ... فوجدت الشباب ثوباً معارا
قال الكعبي: قال جعفر بن محمد بن حرب، سألت أبا الهذيل عمن لم يقل من العامة: القرآن مخلوق، أيكفر؟ قال: لا، قلت: فإن قال: السماء ليست مخلوقة، أيكفر؟ قال: نعم، قلت: وما الفرق؟ قال: لأن الأول مختلف فيه والثاني مجمع عليه.
هذا قول أبي الهذيل، وأرى المعتزلة في دهرنا يتسارعون إلى التكفير كتسارع الورد إلى المنهل، وما أدري ما يبعثهم على ذلك إلا سوء الرعة، وقلة المراقبة، وأكثرهم قذفاً لخصمه بالتكفير أعلقهم بأسباب الفسق والهتك، والله تعالى لهم، ولكل من سلك سبيلهم.
قال الكعبي، قال محمد بن شبيب: المشبه كافر والمجبر ليس بكافر، لأن التشبيه غلط في صفات الله وفي نفسه، والجبر غلط في فعله.
لو حرر الكلام على ابن شبيب لما انفك في التشبيه من مثل ما أحاله على الخصم، ولكن من ينظر في مذهبه بنفس عاشقة فيتخطى مساوية إما جهلاً بها أو متسمحاً فيها فينظر في مقالة خصمه بنفس قامعة مزيفة لقوله واختياره فيستخرج الدر.
قال الكعبي، قال بعض الإباضية: ليس المنافق بريئاً من الشرك، وأحتج بقوله تعالى " لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " النساء: 143.
سئل بزرجمهر في نكبته عن حاله فقال: إني لما دفعت إلى المحنة بالأقدار السالفة، والخفيات السماوية، إلى العقل الذي به يعتدل كل مزاج، وإليه يرجع كل علاج، فركب لي شربة أنا أتحساها وأتمزز بها؛ قيل له: عرفناها، قال: هي مركبة من أشياء: أولها أني قلت: القضاء والقدر لا بد من جريانه؛ والثاني أني قلت: إن لم أصبر فما أصنع؟ والثالث أني قلت: يجوز أن يكون أشد من هذا؛ والرابع أني قلت: لعل الفرج قريب وأنت لا تدري؛ قال، فقلت: أورثني هذا سكوناً، ووكل بي راحة، وعلى الله أعتمد في تمام المأمول.
سمعت الشيخ المجتبى يقول: كان عندنا بالشام مجنون يستظرف حديثه، قال: رأيته يوماً وقد رفع رأسه إلى السماء وهو يقول: الناس كذا يعلمون، وهذياناً كثيراً، فقيل له: ما تقول ويحك؟ قال: أعاتب ربي، قيل له: فكذا تخاطب الله؟ قال: وما علمكم بمخاطبة الملوك؟ قيل له: فما قلت؟ قال، قلت: بدل ما خلقت مائة وجوعتهم كنت تخلق عشرة وتشبعهم.
وهذا كلام مجنون لا يحاج فيما يقول، ولا يرد عليه ما يأتي به، وإنما يستطرف فقط لأنه يخرج منه ما لا يتوقع من مثله. وعلى هذا يتعجب من الصبي إذا أجاب وفطن وأهتدى وتكايس، ومن وهب الله له عقلاً، وكلفه الإقرار، وألزمه الأمر والنهي، فهو صحيح العقيدة، ثابت الأساس، وإنما يخرج بطبعه الذي بني على العجز، وعجن من الخور، وأسس للفناء، وعلى أن الله تعالى لا يخليه في هذه الصفات من ثواب كريم، ونعيم مقيم، في دار الرضوان؛ كفانا الله تعالى وساوس الصدور، وغمر أسرارنا بالمعرفة والخوف، إنه جواد كريم واحد أحد.
قيل لراهب: ما لك إذا تكلمت بكينا، وإذا تكلم غيرك لم نبك؟ فقال: ليس النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
قال قاص بالمدينة في قصصه: ود إبليس أن لكل رجل منكم خمسين ألف درهم يطغى بها، فقال رجل من القوم: اللهم أعط إبليس سؤله فينا.
قيل لجمين: ما فعلت مولاتكم فلانة؟ قال: ماتت، قال: فما ورثتموها؟ قال: العار، كفنها غيرنا.

أنشد لمنصور بن باذان في عقبة: الكامل المجزوء
قالوا يسود فقلت لا ... هم الفتى جمع الدراهم
إن كنت تطمع أن تسو ... د ولا تنيل فأنت ظالم
يبغي العلاء وماله ... أبداً من الآفات سالم
وقصاعه مجلوة ... قد علقت منها التمائم
قال رجل لشيخ بدوي: تمرنا أجود من تمركم، قال: تمرنا جرد فطس عراض كأنها ألسن الطير، تضع التمرة في شدقك فتجد حلاوتها في عنقك.
وسمع قاص يقول: المؤمن قوته علقة، ومرقته سلفة، وحذاؤه فلقة، ورداؤه خرقة.
وأنشد: الطويل
لكل كريم من ألائم قومه ... على كل حال حاسدون وكشح
وأنشد في تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء: الخفيف
شبه الغيث فيه والليث والبد ... ر بسمح ومحرب وجميل
وأنشد لأعرابية: الرجز
إن حريحي حسن مشقه
يغلظه الصك فلا يرقه
كأن من يصكه يزقه
سئل بعض الأدباء عن قول الشاعر: الخفيف
مرحباً بالذي إذا جاء جاء ال ... خير أو غاب غاب عن كل خير
أهو مدح أم هجو؟ فأطرق ثم قال: هو مدح، فخطىء، وبيانه أنه هجو في بسط نظمه؛ قال: وذلك أن القائل عنى أنه يغيبه عن كل خير، جاء الخير أو غاب.
وأنشد لأبي يعلى العلوي القزويني، وكان داهية، يقول في أخيه، وكان جلفاً: الوافر
أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... أبي قد كان يزرع في السباخ
تجاريني فلا تجري كجريي ... وهل تجري البياذق كالرخاخ
وأنشد علي بن الحسين العلوي في أخيه: السريع
مثلك لا يطعن في مثلي ... لأنني فوقك في الفضل
لي فضل سني وغنائي الذي ... تعرفه في الجد والهزل
حكى أبو سعيد السيرافي أنه دخل إلى مسجد ابن دريد ورجل ينشد: الوافر
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
فقال أبو بكر: هذا والله عجب، أول من قال الشعر أقوى؛ قال، قلت: له مخرج في النحو إذا ترك الإقواء، قال: ما هو؟ قلت: وقل بشاشة الوجه الصبيح، بحذف التنوين وبنصب، والتنوين يراد، ويكون نصبه على مذهب التمييز؛ قال: فجمع أبو بكر نفسه مني وزاد في تكرمتي.
حدثني بهذا الحديث بعض أصحابنا ولم أسمعه منه.
أنشد لشاعر في البخر: الرمل المجزوء
أنت لو جزت ببيت ... رض فيه المسك رضا
وتنفست لقال الن ... اس فيه متوضا
وأنشد العلوي لنفسه في مثله: الرمل المجزوء
أنا في موت صراح ... من فم كالمستراح
طال نتني منه حتى ... خلت أني من سلاح
لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن رضي الله عنهم على المنصور، رأى المنصور فيما يرى النائم كأنه قد صارع محمداً وأن محمداً قد صرعه وقعد على صدره، فأهمه ذلك وبقي واجماً، وجمع العابرين، فكل وقف، فسأل جد أبي العيناء فقال: إنك تغلبه وتظهر عليه، قال: وكيف؟ قال: لأنك كنت تحته والأرض لك، وكان من فوقك والسماء له، فسري عنه.
قال بعض المجان: وقف مخنث في بعض العشيات يطلب من يشفيه مما به، فاجتاز به تركي وهو سكران ملتخ، فتعرض المخنث وهو في هيئة امرأة، فظنه التركي امرأة قد هويته، فاستجره، فلما حصلا في المنزل قال التركي بسكره: نامي يا بظراء، فنام المخنث على وجهه، فقال التركي: أيش هذا؟ قال: الله الله إن زوجي قد حلف ألا أنام إلا كذا، ومتى خالفته فأنا طالق، وليس في طلاقي فائدة، خذ شهوتك من ها هنا ودعني في حبال الرجل؛ قال: فأقحم عليه التركي ودفع بقوته، وبقي يتلمس بيده ما تحته، فوقعت كفه على أير المخنث فقال: هذا أيش؟ قال: هذا أيرك قد نفذ، فقال التركي: هذا وأبيك الشجاعة، أدخلت من ها هنا وأنفذت إلى ثم! فطار من الفرح وهو يظن أن أيره نفذ في جسمها.
قال أبو الهندي: تحرشت بشجاع فخرج يطردني كأنه سهم زالج، ثم سكت كأنه كفة، فرميته فانتظمت أنثاويه أخذاً ورأسه.
قيل لبني الحارث: كيف تعملون؟ قالوا: كنا لا نبدأ أحداً بظلم، ولم نك بالكثير فتتخاذل، ولا بالقليل فنتواكل، وكنا نصبر بعد الناس بساعة.

قال أبو عمرو بن العلاء، سمعت أعرابياً يقول: مكثت ثلاثاً لا أذوق فيهن شيئاً، فقلت: انعت لي، فقال: أما أول يوم فكان شهوة، وكان الثاني جوعاً، والثالث مرضاً.
قال الأصمعي: حدثني شيخ عن رجل من الأعراب قال: مكثت ثلاثاً لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى خوى رأسي فسمعت له دوياً، فلما أصابني الجهد دعوت الله تعالى، وإذا دعا الله العبد بقلب صادق كانت معه من الله عين بصيرة، فأتيت جفراً فيه ذئبان فرميتهما فأصبتهما، ثم أتيت جفراً آخر فيه ماء فاستقيت، ثم رجعت وهما على مهيديتيهما وإذا لهما نخفة يعني شبه الزفير، فأكلت وادهنت.
للبرقعي: الوافر
ألا لله ما صنعت برأسي ... صروف الدهر والحقب الخوالي
تركن مفارقي سطراً بياضاً ... وسطراً للسواد من النزال
فما جاشت لطول الأنس نفسي ... علي ولا بكت لذهاب مالي
ولم أخضع لريب الدهر يوماً ... ولم أستخذ للأمر العضال
ولكني لدى اللزبات آوي ... إلى قلب أشد من الجبال
وأصبر للشدائد والرزايا ... وأعلم أنها محن الرجال
وأن وراءها خفضاً وعيشاً ... وعطفاً للمديل من المدال
فيوماً في السجون مع ابن أبزى ... ويوماً في القصور رخي بال
ويوماً للسيوف تعاورتني ... ويوماً للتعانق والدلال
كذا عيش الفتى ما دام حياً ... دوار لا يدوم على مثال
وأنشد: الرمل المجزوء
عش نقي العرض ما عش ... ت وإن كنت مقلا
وأرض بالقوت ولا تح ... مل على الإخوان كلا
إن فيهم من إذا حم ... لته كلك ملا
وأخو الإقلال إن كا ... ن له عقل تسلى
مر مزبد بقوم وهو على حماره فقالوا: انزل إلينا يا أبا إسحاق، فقال: هذا عرض سابري، قالوا: فانزل يا ابن الزانية.
كاتب: وإنه ليتربص بك الدوائر، ويتمنى لك الغوائل، ولا يؤمل صلاحاً إلا بفساد حالك، ولا رفعة إلا بسقوط قدرك.
تمثل يزيد عند غشية معاوية عند موته: المنسرح
لو فات شيء يرى لفات أبو ... حيان لا عاجز ولا وكل
الحول القلب اللبيب وهل ... تدفع ريب المنية الحيل
كاتب: ورأيته لا ينفك في جاه يبذله، وفضل يفعله، فهو الدهر إما شاكر لمن شفعه، أو مشكور بما اصطنعه، كما قال الشاعر: السريع
أفدي أبا اسحاق من شافع ... ومنعم إحسانه ينشر
يعطيك أو يهديك نحو امرىء ... فؤاده بالجود مستهتر
فهو طوال الدهر لا يأتلي ... يشكر في العالم أو يشكر
قال أعرابي: سألت فلاناً حاجة أقل من قيمته فردني رداً أقبح من خلقته.
للحارث المخزومي: الطويل
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما أنجلت قطعت نفسي ألومها
فما بي إذا أقصيتني من ضراعة ... ولا أفتقرت نفسي إلى من يسومها
عطفت عليك النفس حتى كأنما ... بكفيك بؤسي أو لديك نعيمها
قال فيلسوف: أشد الناس مصيبة مغلوب لا يعذر، ومبتلى لا يرحم.
الجواب عن حروف اللغة التي تقدمت، فاسمع وأحفظ فإنها قد تلقفت من أفواه العلماء بعد الخدمة والصبر.
أما البر فخلاف البحر، وهي بلاد لا حيطان فيها، ولا نعتقد أن البلد لا تكون إلا ما فيها حيطان، ولم أقل لا أبنية فيها لأن جزيرة العرب بر وفيها أبنية وهي أخبيتهم، والبلد يقال له الملزم، ومنه تبلد في أمره أي تلازم في نفسه أي تجمع؛ ويقال البلد الأبر. والبحر معروف، وكأنه من السعة، ومن أجله قيل: فلان بحر، إذا وصف بغزارة الندى أو العلم، وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم فرساً وقال: إنا وجدناه بحراً، أي واسع الجري جواداً، ومنه تبحر الإنسان في العلم، والبحيرة: المشقوقة الأذن من الشاء؛ وأما قول الناس: البحران، فليس من كلام العرب.

والبر أيضاً هو البار فاعل البر، وفي صفات الله عز وجل أنه البر الرحيم، فكأن معنى الأشتقاق يجمع اللفظين إذا اعتبرت السعة؛ والحج المبرور الذي قبل على وجه البر، كأنه قبل كما يقبل البر. والأمر من البر: بريا هذا، بفتح الباء على مذهب الجمع، والمضارع منه يبر، وبررت بكسر الراء، والفتح مردود؛ قال أبو حاتم، يعني صاحب الأصمعي: فأما أبر فلان على فلان، فكأنه قريب من هذا ومعناه زاد عليه، والمصدر منه الإبرار - بالكسر؛ فأما الأبرار - بالفتح - فجمع بر؛ فأما البر نفسه فما سمع له جمع، وهم يتبارون - بشدة الراء - يبر بعضهم بعضاً، فأما يتبارون - بخفة الراء - فليس من قبيل هذا، إنما هو على معنى المباهاة، كأن هذا بذاه وذاك بذاه أي يحثه، أي جريه في المحاكاة؛ والمبار جمع مبرة. وأما بريت القلم فلا يهمز، وأما برئت إليك من كذا فصحيح الهمز، ويقال برأت من المرض وبرئت جميعاً، هكذا قال أبو زيد، وثعلب يختار برأت، ويزعم أنه أفصح، وإذا كان اللفظان من كلام العرب ولم يكن للمعنى فيه شاهد على مزية أحدهما فكلاهما صحيح، يقال:فصيح، وفصيحان، مرة يرد على اللفظ ومرة على المعنى، هكذا المحفوظ عن العلماء.
وأما البارىء فيكون من المرض، الناجي منه؛ وأما البارىء في أسماء الله الكريم هو الخالق؛ ويقال: ليس بيننا براء ولا مبارأة، ولا يبرأ أحدنا من الآخر ولا ينافسه، وقول الله عز وجل " من قبل أن نبرأها " الحديد: 22 معناه نخلقها، كذا قال اليزيدي وهو معنى قول البارىء؛ وفلان برور وصدوق، وصدقت وبررت.
وقد طمعت فيك السآمة فأصرفها بما يعرض في جملة هذه النوادر.
جرى بين عمرو الجوهري وبين أمه كلام فقالت: قد والله شيبتني وبيضت رأسي، قال عمرو: إن كنت أنا بيضت رأسك فمن قلع أضراسك؟ وجاء بعض الخلعاء إلى باب الجوهري هذا فدق فقالت امرأته: من هذا؟ قال: أنا فلان، قالت: ما تريد؟ قال: افتحي حتى أدخل وأنظر أنت أطيب في النيك أم امرأتي؟ قالت: وما أحوجك إلى ذلك؟ سل عمراً عن ذلك فإنه قد ناكني وناكها، فخجل الرجل وانصرف.
وجاء جراب الريح راكباً حماراً فقال له رجل: هذا الحمار كله لك؟ فقال: كله لي إلا أيره فإنه لك، فخجل الرجل.
وأما التر - بالتاء - فهو كثرة اللحم في جسم الإنسان، يقال: أما ترى ترارته أي امتلاءه؛ ويجيء: ما تر شيء على هذا.
وأما الثر - بالثاء - فالماء الغزيز.
وأما الجر فمصدر جر، وبئر جرور إذا كانت طويلة الرشاء كأنها تجر الماتح - بالتاء - لأن المائح يكون في البئر والماتح فوقها، متح أي أي نزع، هذا مثل: أعلم به من المائح بأست الماتح إذا كان المستقي يعالج به، فإذا استقى بالبكرة فليس بمائح، هكذا قال الثقة.
قال أصحاب الأشتقاق: الجرجير في البقل أخذ من الجر، أخذ فيه بالتضعيف، قال: وسمي به لأنه يجرجر من الأرض، فقيل لأبي بكر المروزي الفقيه هذا فقال: ينبغي أن تكون لحيته جرجرى لأنها تتجرجر من ذقنه، فضحك من نادرته. وكان قليل الهزل كثير الصمت على ناموس المشايخ؛ وسمعت ابن المرزبان يقول: لم أر أشد نفاقاً منه، فرغب في مال حصل عندي في سبيل من السبل، فانتقض معنى الوصية بعد وفاة الموصي، ولم يكن إنفاذ ذلك المنصوص على الوجه المخصوص إليه، فقال لي بعد كلام كثير: إن ضقت به ذرعاً فسق المال إلي حتى أتولاه عنك، وخلاك إثم من الله، فراعني ذلك وخرجت من عنده ولم أعد إليه؛ هكذا قال المرزباني، وكان عالماً ثقة، عاشرته وأطلعت على سره فما أنكرت شيئاً، وما أدري ما أقول بعد.
وأما ابن سيار فإنه حدثنا أنه ورد الأهواز على القاضي التنوخي بمرقعة، وأنه أنزله وبره، وكان أبو بكر لا يظهر عليه من إحسان التنوخي شيء، ويشكو مع ذلك ويستزيد؛ قال: فلما كثر ذلك قال له التنوخي: ما قصة هذا المروزي، أما يكفيه ما يصير إليه من جهتنا؟ قال بعض حاضري المجلس: أيها القاضي، إن الرجل يتبع الصبيان، وشغفه فهو يحمله على تبذير ما ينال من جهة القاضي؛ قال: فكره ذلك وأقبل علي في الخلوة فقال: أتعرف هذا الغلام بشيء مما قرنه به فلان؟ قلت: أكره أن أهتك ستره، وأكره أن أكذبك، فقال: حسبك؛ وطرده من المجلس.
هذا قول ابن سيار، وقد قضى ببغداد، وكان نبيلاً جليلاً أديباً مفوهاً؛ وهذا أيضاً عجيب، وأصحابنا يقولون إنه بلغ من زهده في الدنيا أنه عرض عليه القضاء بمدينة السلام فتنزه عنه.

أما أبو حامد فإنه أربى على أصحاب هذه الحكايات، زعم أنه ثنوي، وأنه يعتقد ذلك، وبسببه طرده الكرخي من مجلسه، وذلك أنه كان صحب رجلاً مشهوراً بهذا المذهب، فلما وقف الكرخي على ملازمته ذلك الرجل نهاه عنه وقال له: لعلك أحسنت به الظن، وأنت بجهلك بحاله مغرور، فأما الآن وقد عرفناك ما تتابع إلينا فلا خير لك في خلطته، قال: فضمن للكرخي أن لا يلقاه ولا يغشاه وحلف على ذلك، ثم إن الكرخي أذكى عليه عيناً فبلغه أنه يخالطه في السر وأنه لقن عنه مذهب الثنوية فطرده.
هذا أيضاً غريب، ولو كان ما قلته مسموعاً من أنذال الناس لم أعج به ولم أعرج عليه، ولكن هؤلاء هم كالشمس إذا أشرقت، والسماء إذا زهرت، والأودية إذا زخرت بهاء وعلواً وغزارة وفضلاً ونبلاً، وأصحابنا بالري يزيدون على جميع ما حكيته، ونعوذ بالله من قالة الناس، وفتنة الناس بالناس، فهو خالق الخلق ومالك الأزمة.
انظر إلى هذا الحديث كيف يلتبس بعضه ببعض، ويتراكم بعضه على بعض.
ويقال: الحر أيضاً أسفل الجبل، وضد البرد، يقال: حر يومنا، وحر الغلام؛ والحرة: عطش الكبد؛ والحرارة في الجوف وفي الهواجر؛ والحرور: الريح الحارة بالليل كهبة السموم بالنهار، ويقال: السموم قد تمون بالليل أيضاً؛ قال بعض أصحاب الأشتقاق: السموم سمي به لدخولها في مسام البدن، هكذا رأيته في كتاب عتيق فيه أراجيز رؤبة بتفسير أبي عمرو، ولا أدري من أبو عمرو ولعله المازني أو الشيباني.
وأما الخر فمصدر خر عليه السقف، وقد سأل سائل عن هذه الآية " فخر عليهم السقف " النحل: 26 وقال: قد علم من خر هذا المعنى ثم صح ذلك بقوله: عليهم، ثم معلوم أن السقف هو ما علا رأس الإنسان، فما معنى بعد هذا المعلوم " من فوقهم " ؟ والجواب عن هذا يمر مع نظائره في موضعه إن شاء الله، فقد أجاب عنه ابن مهدي الطبري، وشاهدته، ولعلي أحكيه على وجهه، فإضافة الصواب إلى العلماء أحمد من التفرد بالأدعاء.
وقال بعض العاشقين للكلام في الأشتقاق: إن خرير الماء مأخوذ منه.
وأما الدر فاللبن، وقولهم: لله دره يقال معناه: لله خيره وفضله، مثل قولهم: لله أبوه، إذا وقع ترجيح وأستحسان، ولما يكون من المثنى عليه بهذا اللفظ.
وأما الذر فصغار النمل، والذرة واحدة لقول الله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة " الزلزلة: 7 الآية، من ذلك يقال إنه لا وزن للذر وإنما يضرب به المثل، يقال: سميت الذرة بذلك لصغر أجزائها ومعنى قولهم: ذر عليه في الشيء يعرف بالتبر، إنما أراه أريد الشبيه بالذر؛ قال بعض العلماء: إنما قدم الخير في ذلك لأنه في الأول مبشر وفي الآخر منذر، ومتى وقعت الإجابة في الأول ثبت السوق إلى الجزاء ووقع النهي عن مواقعة المنهي عنه، فإن عرض قام سلطان الوعيد بالسطوة، فمنع من إيثار الشر بعد ترك الخير.
هذه لطائف قوم لهم بكلام الله تعالى عناية دينية، وليس من نمط الغريب المفسر، والنحو المقدم، ولعل ترك هذا الفن أعم، والعاقبة فيه أسلم، والله أسأل نفعاً بالقرآن العظيم وإجابة إلى دار السلام.
وأما الزر فهو نهيق الحمار.
وأما السر فهو من سررت الصبي إذا قطعت سرره، والسرة وهي الباقية؛ وأما السر فهو إصلاح الزند الإجوف، وكأن السرور من سررته أي فرجت عن قلبه فأزال منه الضيق، والسرور فرج من الكرب، والكرب ثقل، والسرور خفة وأنها ترقص، ولهذا ترى الفرحان يرقص ويخف، وصاحب الغم يثقل ويذبل، ويقال: رجل فرحان غير مصروف، وامرأة فرحى.
وأما الشر فضد الخير، والشر أيضاً مصدر شررت الشيء أي بسطته، وتشرير النبات منها، كأنها من شررت بتشديد الراء؛ وأما أشررت فقيل: لغة في شررت، ويقال: هو أظهرت، ومنه قول الشاعر في صفين: الطويل وحتى أشرت بالأكف المصاحف ويقال: كلما كبرت شررت، ولا يقال: كلما تكبر، كذا قال بعض العلماء: والمشهور قلته. وكأن الشرارة من النار منه، وهذا مأخوذ منها، والشرار جمع واحدته شرارة، وأما الشرة فحال الشرير، والشرير صاحب الشر المعتاد له، وجمع الشر شرور، وحكى أبو زيد في الخير: خيور، وهو شر من فلان، لا ألف في اللفظ على قياس الباب، وهو خير منه، وروي: ما أشره - في التعجب - وما أخيره، والدائر: ما خيره وما شره.
وأما الصر فجمع الدراهم في صرة، والصرة ما صررت فيه، والصر: البرد، وقال: قيل في قوله تعالى " فأقبلت امرأته في صرة " الذاريات: 29.

والضر ضد النفع، والضر بالضم: الهزال وسوء الحال، وفلان ضرير أي مضرور، ولا يختص بالأعمى بل لمن عرته هذه الحال، يقال: ضررتني وأضررت بي، ولا يقال: ضررت بي ولا أضررتني.
أحكم أيها السامع هذه الأبنية والأصول، وفيها تكون إنساناً على الحقيقة، وأريد بقولي على الحقيقة لأن عادم الفضائل إنسان أيضاً ولكن على التوسع، كأنه إنسان بالخلقة والتخطيط، أي كأنه من هذه الأمة وهذا الجمهور بالنسبة؛ فأما تمييز الأمر من الأمر، وتخليص الشيء من الشيء، وإضافة الشيء إلى الشيء، فلا.
حدثنا السيرافي أن رجلاً من المتكلمين الكلابية ببغداد بلغ من نقصه في معرفة العربية أنه قال في مجلس مشهور بين جماعة حضور: إن العبد مضطر بفتح الطاء، والله مضطر بكسر الطاء، وزعم أن القائل: الله مضطر كافر. فانظر أين يذهب به جهله، وعلى أي رذيلة دله نقصه، ونعوذ بالله من فضيحة الجهل فإنها بعد ادعاء العلم مشمتة، وفضيحة الحال مع التجمل مستعطفة، فكم بين العدمين، هذا يعان عليه ويواسى فيه وهذا يرفض به ويهان معه.
والضرة: لحمة تحت الإبهام، والضرة امرأة يتزوجها الرجل على امرأة، فإحداهما ضرة للأخرى، كأنها مضارة، ويقال: الضرة: الثدي، وما أدري ما يقول صاحب الأشتقاق.
وأما الغر فمصدر فغررته، ويقال: تغررت الرجل أي أتيته على غرة، والغر أيضاً تكسر الثوب في غره، والغر: الحد. وقد مر هذا في موضع على إشباع، وأكره التكرار لسوء ظني بالسامع، وإلا فلا مصنف إلا وهو يلهج بالتكرير والإعادة: هذا يعقوب ابن السكيت في كتبه وأبو عثمان عمرو الجاحظ وأبو زيد وغيرهم.
وسمعت بعض الرافضة يحكي عن علي بن يقطين أنه قال يوماً: قد والله حرجت من سبي لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ولمزي بفي لأعراضهما، وبرمت، فقال له من حضره: بين يديك مصحف، افتح على هذا الخاطر، فإن خرج ما دل على تمسكك به أعرضت عن تحرجك، وإن خرج ما دل على ما خطر لك استمررت عليه، قال: ففتح المصحف فخرج " ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس " فصلت: 29 فقال: اللهم إني أستغفرك من ندمي على شتمهما. وهذا والله طريف، ولا شك أنه مفتعل لا حقيقة له.
وقد ابتليت برجلين: رجل يقول: ما سمعنا حقاً ولا باطلاً، ورجل شيخ يعرف بيحيى له مع أهل الكرخ مواقف، وكثيراً ما يقول: خلفاء الله في الأرض ثلاثة: آدم عليه السلام لقول الله تعالى " إني جاعل في الأرض خليفة " البقرة: 30 وداود لقوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " ص: 26، وأبو بكر لقول جميع الأمة: يا خليفة رسول الله؛ ويقول: الأمناء ثلاثة: جبريل عليه السلام لأنه يحمل عن الله تعالى، ومحمد صلى الله عليه وسلم لأنه بلغ الأمة، ومعاوية لأنه كتب الوحي. وإذا سئل عمن خرج على أبي بكر وعمر رحمهما الله قال: حلال الدم، وإذا سئل عمن يخرج على علي رضي الله عنه قال: الله أولى به وأعلم؛ ومن غفلته أنه رأى عقرباً في داره فقال لها: يا مشؤومة أخرجي لا تقتلي أمي؛ وهو مولع بإطعام الكلاب ويقول: إنما أطعمها لأنها أذل من الرافضة؛ وبين هذين الرجلين رمي الرامي.
وكان أبو حامد يقول: لولا أن الخوارج قالت: علي كافر، لما قالت الغالية: علي إله، عز الله وجل وتعالى، ولولا أن المعتزلة قالت: الأمر كله إلينا، لما قالت الجهمية: نحن كالشجر إن هبت الريح تحركت، وإن ركدت سكنت، وكان يعد من هذه الأمثال شيئاً كثيراً.
وأما الطر فالقطع، وقد مر هذا الحرف.
وأما القر فصب الكلام في الأذن، وصب الماء أيضاً، والقر أيضاً الهودج، والقرار: السكون، والقارورة لسكون الماء فيها.
وأرى هذا يطول، وعلى قدر طوله يمل.
والكر: الرجوع، والكر: حبل يصعد الرجل إلى النخل عليه، والكر أيضاً قطعة من خيش.
والمر: جميع مرة، والمر كالنبل.
والهر: الكراهة، ولا يقال الكراهية، ولا بد من التخفيف، والهر مصدر هر الكلب، كأنه كرهك فنبحك، ولا يقال: نبح عليك؛ وهرت الهرة وهرهرت إذا بغمت مستعطفة.
والأر: النكاح.
وأما العر فاللطخ، والعر الجرب.
وقد مر جواب كل حرف على ما اقتضاه، والزيادة على هذا إبرام وخروج عن الحد المحتمل والأدب المرضي، على أنني وصلت كل ذلك بما يفتق شهوتك، ويبعث راحتك، ويقوي عزمك، فهذا عادة الرفيق من الأطباء بالعليل المضرور بالأدواء، نفعك الله بالخير.

قال وهب بن منبه: من لم يسخط نفسه في شهوته لم يرض ربه في طاعته.
وقال: مكتوب في التوراة: المال يفنى، والبدن يبلى، والعمل يحصى، والذنب لا ينسى.
وقال بعض النساك: ابن آدم، ما لك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، وتفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت؟ يقال: الإناث من الإبل والخيل تحمل بمآخرها، والذكور تحمل بصدورها؛ وعلامة الفرس الجواد أن تراه رقيق الشعر لين الجلد طيب الريح.
شاعر: الرمل المجزوء
أنا في كل سحير ... في مداراة لأيري
أبداً يطلب مني ... قمراً في بيت غيري
قلت: نك ويلك من ير ... تع في خيري وميري
قال: من يقوى على ني ... ك كسير وعوير
للطرمي: البسيط
للخبز أحسن شيء في الزنابيل ... والزيت أجمل شيء في القناديل
والنيك خذ لا تسل يغشى علي لذا ... من شدة الشهو أخرى في السراويل
للطرمي ديوان كبير، كان في أيام المعتمد، وله ترخيم طريف، وسمع المعتمد شعره فنال به هباته، وأمر فكتب ديوانه بالذهب، وديوانه مشهور، وإنما دللت في هذا المكان عليه تعجباً منه.
قرىء من حجر: ابن آدم، لو عاينت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طول ما ترجو من أملك، ولقل حرصك وختلك، ولرغبت في الزيادة من عملك، فأعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة.
وكان الحسن يقول: فضح الموت الدنيا، ولم يترك لذي لب فيها فرحاً.
قال أعرابي: إن في السكوت ما هو أبلغ من الكلام، فإن السفيه إذا أعرضت عنه تركته في أغتمام.
قال أعرابي: مواقعة الرجل أهله من غير عبث من الجفاء.
قال بعض السلف: قد أسمعك الداعي، وأعذر فيك الطالب، وانتهت الأمور فيك إلى الرجاء، ولا أحد أعظم رزية ممن ضيع اليقين، وأخطأ الأمل.
قال الكندي: كان فيما مضى رجل زاهد وقع عليه من السلطان طلب، بقي مدلهاً لا يدري ما يصنع، وذلك أنه أذكيت عليه العيون، وأخذت المراصد، فجاء إلى طنبور فأخذه ولبس ثياب البطالين وتعرض للخروج من باب البلد، فجاء إلى الباب وهو يتهادى في مشيته كالسكران، فقالت العيون له عند الباب: من أنت؟ فقال: من أنا، ومن ترى أكون؟ أنا فلان الزاهد، ومال منهزماً، فقال القوم متضاحكين: ما أحمقه!! وخلوا سبيله، فخرج ونجا، وإنما فعل ذلك لئلا يكذب.
وقال سهل بن هارون: اللسان الجيد والشعر لا يكادان يجتمعان في أحد، قال: وأعسر من ذلك أن تجتمع بلاغة القلم وبلاغة الشعر.
قال حذيفة بن اليمان: الحسد أهلك الجسد.
قال بشر بن المعتمر: إذا كان العقل تسعة أجزاء احتاج إلى جزء من الجهل ليقدم على الأمور، فإن العاقل أبداً متوان متوقف، مترقب متخوف.
قيل لأعرابية في البادية: من أين معاشكم؟ فقالت: لو لم نعش إلا من حيث يعلم لم نعش.
قال بعض الشجعان لرفيق له، وقد أقبل العدو: أشدد قلبك، قال: أنا أشده وهو يسترخي.
قال أعرابي: الصبر قطب الأمر الذي عليه تدور الأمور، وليس علم من أعلام الفضل إلا والصبر سببه ومسببه.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمسافر: وجهك الله في الخير، وزودك التقى، وجعلك مباركاً أينما كنت.
شاعر: المتقارب
وكم من نؤوم على غبطة ... أتته المنية في نومته
وكم من مقيم على لذة ... أتته الحوادث في لذته
وكل جديد على ظهرها ... سيأتي الزمان على جدته
وأنشد: السريع
أصبحت الدنيا لنا غرة ... والحمد لله على ذلكا
وأجمع الناس على ذمها ... وما نرى فيهم لها تاركا
قال النبي صلى الله عليه وسلم: مثل الفقير المؤمن كمثل فرس مربوط بحكمته إلى أخيه، كلما رأى شيئاً مما يهوى ردته حكمته.
وقال ابن بكار، سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: نحن نسل من نسل الجنة سبانا منها إبليس بالمعصية، وحقيق على ابن آدم ألا يهنأ بعيشه حتى يرجع إلى وطنه.
قال محمد بن وهب عن عمه: رأيت ميلاً في بلاد الروم عليه كتاب فقرأته فإذا هو شعر: الطويل
صريع رماح تحجل الطير حوله ... شهيد أصابت نفسه ما تمنت
وقيل لمحمد بن واسع: هؤلاء زهاد، فقال: وما قدر الدنيا حتى يحمد من يزهد فيها؟

قال أحمد بن حنبل رحمه الله: هب المسيء قد عفي عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين؟! قال ابن عباس: إن صغار هذه الأمة تعلموا من كبارها في صدر الإسلام، وسيجيء زمان يتعلم كبارها من صغارها.
وقال معاوية يوماً على المنبر: يا أهل الشام، ما أنتم بخير من أهل العراق، ثم ندم فتداركها فقال: إلا أنكم أعطيتم بالطاعة وحرموا بالمعصية.
قال المدائني: كان ملك له وزير صالح في قديم الزمان لا يأمر إلا بالخير ولا يحض إلا على الجميل، وكان الملك عاتياً جباراً يمقت النسك ويقلي النساك، وكان الوزير بخلاف ذلك يقربهم ويصلهم ويتلبس بهم، فحسده قرابة الملك، فأتوا الملك وقالوا: إن هوى وزيرك في إخراجك من ملكك، فقال الملك: وما آية ذلك؟ قالوا: شاوره وقل: إني عزمت على أن أخلع ملكي وألحق بالعزاز والشعاب، وأصحب النساك وأعبد الله رب الخلق، فإنك ستجد عنده قبولاً لهذا الرأي وتحسيناً له ورضى به، وإنما ينتهز لذلك الفرصة التي هو راقبها، وحينئذ تقف على صدق مقالنا؛ ففعل الملك ذلك فرأى غير ما كانوا قالوا، وبان للوزير في وجه الملك، وعلم أنه دهي من حيث لا يعلم، فانصرف على حزن قد خامره، وكآبة قد أخذت بكظمه. وقد كان مر في بعض مسيره برجل ظاهر الزمانة فقال: أيها الوزير ضمني إليك فإن لك عندي ما تحب، قال: وما ذاك؟ قال: أنا رجل أرتق الكلام، قال: وما رتق الكلام؟ قال: إذا وجدت فتقاً رتقته، قال: أنا أفعل ذلك، وإن لم يكن عندك نفع، فذكر الوزير قوله فدعا به فقال: فافعل الذي وعدت، قال: قص علي قصتك وما دهاك، ففعل، فقال: أيها الوزير، قد حسدك عنده بعض أقاربه، وسبعك بحضرته، قال: فما الطريق إلى تحقق هذا من نفس الملك وصرفه على أحسن وجه؟ قال: الوجه في ذلك أن تلبس مسحاً وتأتي باب الملك في غلس، فإذا علم بمكانك وسأل عن قصتك فقل: إن الملك دعاني إلى أمر الموت أهون علي منه، ولكن كرهت خلافه، ففعل الوزير ذلك فتحلل ما كان عرض في نفس الملك.
استأذن رجل على عبد الملك بن مروان فأذن له فوقف بين يديه ووعظه، فقال عبد الملك بن مروان لرجل: قل للحاجب: إذا جاء هذا لا تمنعه، قال: وإنما أراد أن يعرفه الحاجب فلا يأذن له.
قال الأصمعي: كان رجل من ألأم الناس على اللبن، وكان كثير الرسل، فقال بعض الظرفاء: الموت أو أشرب من لبنه؛ وكان معه صاحب له فجاء وتغاشى على باب صاحب اللبن فخرج فقال: ما باله؟ فقال صاحبه: أتاه أمر الله تعالى، وهو أشرف بني تميم، أما إن آخر كلامه: أسقني اللبن، فقال اللئيم: يا غلام جىء بعلبة من لبن، فأتاه بها وأسنده إلى ظهره فسقاه فأتى عليها ثم تجشأ، فقال الظريف صاحب اللئيم: أرى هذه الجشأة راحة الموت، فقال اللئيم: أماتك الله وإياه.
أتي الحجاج بدواب لابن الأشعث فإذا سماتها عدة فوسم تحت ذلك للفرار.
أنشد: الكامل
نجل العيون سواحر اللحظات ... هيجن منك سواكن الحركات
أقبلن يرمين الجمار تنسكاً ... فجعلن قلبك موضع الجمرات
فكأنهن غصون بان ناعم ... يحملن تفاحاً على الوجنات
كاتب: إن لم يكن في اعتذار زماننا ما يفي بإساءتنا، ففي جنب فضلك ما يجوز حظنا منك ومن يحاذرك، والسلام.
قال فيلسوف: العقل أمور بالمعروف، نهو عن المنكر، فمن لم ينهه عقله نهاه أدبه، ومن لم ينهه أدبه نهته التجارب.
قال فيلسوف: من عرف من نفسه الكذب لم يصدق الصادق.
قيل لأبي غانم التنوخي: كيف تجدك؟ قال: أجد ما علي من البلاء أقل مما قضيت من لذة الهوى، ولو أصابني من البلاء بقدر ما قضيت من لذة الهوى لتجمع البلاء.
مرض قيس بن سعد بن عبادة فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي: ألا من كان لقيس عليه حق فهو منه في حل وسعة، فكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده.
قال الأصمعي، قيل لأعرابي: إنك تموت، قال: فإلى أين يذهب بي؟ قالوا: إلى الله تعالى، قال: فما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير قط إلا منه.

قال الأصمعي: سمعت أعرابياً وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: إلهي، من أولى بالزلل والتقصير مني، وقد خلقتني ضعيفاً؛ إلهي، من أولى بالعفو منك، وقضاؤك علي نافذ، وعلمك بي محيط؛ أطعتك بإذنك والمنة لك علي، وعصيتك بعلمك، فالحجة لك علي، فبثبات حجتك وانقطاع حجتي، وبفقري إليك وغناك عني، إلا غفرت لي ذنوبي.
قال منذر الثوري: مررت بعلي بن الحسين رضي الله عنه فرأيته في حائط له يتفكر فقلت: ما وقوفك ها هنا؟ قال: وقفت أفكر، فهتف بي هاتف فقال: يا ابن الحسين! ما هذا الفكر، أفي الدنيا والرزق حاضر للبر والفاجر؟ أم في الآخرة والوعد صادق من ملك قادر؟ قلت: لا في هذا ولا في هذا، قال: ففيم؟ قلت: فيما يخوفنا الناس من فتنة ابن الزبير؛ قال: فأعاد الصوت فقال له: أرأيت رجلاً خاف الله فلم يكفه؟ أو توكل عليه فوكله إلى غيره؟ قال: ثم قال: أنا الخضر يا ابن الحسين.
قيل لأعرابي: ما أشد البرد؟ قال: إذا دمعت العينان، وقطر المنخران، ولجلج اللسان.
قيل لأعرابي: ما تصنع بالبادية إذا اشتد القيظ وحمي ومتع الحر؟ قال: يمشي أحدنا ميلاً حتى يرفض عرقاً ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساءه ويجلس في قبة يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى.
قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس: ما منع علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يبعثك مكان أبي موسى؟ فقال عبد الله: منعه من ذلك حاجز القدر، وقصر المدة، ومحنة الابتلاء، أما والله لو بعثني مكانه لاعترضت في مدارج نفس عمرو، ناقضاً لما أبرم، ومبرماً لما نقض، أسف إذا طار، وأطير إذا أسف، ولكن مضى قدر وبقي أسف، ومع يومنا غد، وللآخرة خير لأميرالمؤمنين رضي الله عنه.
أنشد: المتقارب
أبى الناس أن يدعوا موسراً ... سليم الأديم سليم النشب
فقد خيروك فإن لم تطب ... بعرضك نفساً فطب بالذهب
ويقال: من تمنى طول العمر فليوطن نفسه على المصائب.
وأنشد: الطويل
فما سرت من ميل ولا بت ليلة ... من الدهر إلا أعتادني لك طائف
ولا مر يوم مذ تراخت بي النوى ... ولا ليلة إلا هوى منك رادف
أهم سلوا عنك ثم يردني ... إليك وتثنيني عليك العواطف
فلا تحسبن النأي أبلى مودتي ... ولا أن عيني ردها عنك طارف
وكم من نريل قد وجدناه طرفة ... فتأبى عن التعبير تلك الطرائف
كان مسروق بن الأجدع ينهى عن السلطان، فدعاه زياد فولاه السلسلة، فقيل له في ذلك فقال: اجتمع علي زياد وشريح والسلطان، فكانوا ثلاثة وكنت وحدي فغلبوني.
قال هشام الكلبي: قدمت ليلى الأخيلية على الحجاج فامتدحته فقال: قد أمرت لك بمائة، فقالت: زدني، حتى بلغت ثلاثمائة، فقال بعض جلسائه: إنما أمر لك بغنم، قالت: الأمير أكرم من ذلك، فجعلها إبلاً؛ قال هشام: وإنما كان أمر لها بغنم، فلما سمع ما قالت استحيا فجعلها إبلاً.
وقدم يزيد بن قيس الأرحبي، وكان والياً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبعث إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما بهدايا، وترك ابن الحنفية، ودخل يزيد على علي رضي الله عنه وعنده محمد بن الحنفية فضرب علي على جنب ابن الحنفية وأنشده: الوافر
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
ثم رجع يزيد إلى منزله فبعث بهدية إلى ابن الحنفية.
هذا رواية المدائني، وما أدري ما أقول فيه.
وأنشد للعليمي: الطويل
ولست بهياب الأمور ولا الذي ... إذا مكنته جاء للصلح خاضعا
وقد يصبر الحر الكريم على الأذى ... ولا يظهر الشكوى وإن كان موجعا
وقد يأنف المرء الكريم ويستحي ... وإن ذاق طعم الموت أن يتوجعا
قال عبد الملك: من كل شيء قضيت وطراً إلا محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفر.
أنشد: الوافر
إذا لم تحظ في أرض فدعها ... وحث اليعملات على سواها
ولا يغررك حظ أخيك منها ... إذا صفرت يمينك من جداها
قال الحسن: من أحسن في نهاره كوفىء في ليلته، ومن أحسن في ليلته كوفىء في نهاره، ومن صدق في ترك شهوته كفي مؤونتها، إن الله تعالى أكرم من أن يعذب قلباً ترك له شهوة.

قيل لأعرابي: إنكم لتكثرون الرحل والتحول وتهجرون الأوطان، فقال: إن الوطن ليس بأب والد ولا أم مرضع، فأي بلد طاب فيه عيشك، وحسنت فيه حالك، وكثر فيه دينارك ودرهمك، فاحطط به رحلك، فهو وطنك وأبوك وأمك ورحلك.
قال الأحنف: ما عرضت الإنصاف على أحد فقبله إلا هبته، ولا أباه إلا طمعت فيه.
قال ابن المقفع: العقول رسل الله تعالى إلى أهلها، والألسنة ترجمانها، والأقلام بردها.
هذا تمام الجزء الرابع، والخامس يقفوه على أثره، على المذهب المألوف في تحبير الكلام على فنونه، ورواية ما متح السماع به، وذكر ما تمت الشهادة عليه، فقدم مراقبة ربك على جميع أربك، وأعلم أنك بمرأى منه ومسمع، يعلم خائنة طرفك، وخافية صدرك، ولاحظ نعمة التي قد أكتنفتك، من شباب وجدة، وكفاية وراحة، وأرتبطها بالشكر، وأستدمها بالمواساة، وودعها بالحمد، وشرف نفسك بالعلم، وزينها بالحلم، تنل خير الدارين، وشرف المنزلتين.
والحمد الله وحده وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أكمل في ثاني شهر ذي حجة سنة ثمان وعشرين وستمائة، أحسن الله مبتدأه وخاتمته وحسبي الله ونعم الوكيل.
//بسم الله الرحمن الرحيم

رب عونك بمنك
الجزء الخامس
اللهم اجعل عدونا إليك مقرونا بالتوكل عليك، ورواحنا عنك موصولاً بالنجاح منك. وإجابتنا لك راجعة إلى التهالك فيك، وذكرنا إياك منوطاً بالسكون معك، وثقتنا بك هادية إلى التفويض إليك، ولا تخلنا من يد تستوعب الشكر، ومن شكر يمترى خلف المزيد، ومن مزيد يسبق اقتراح المقترحين، وصنع هو من ذرع الطالبين، حتى نلقاك مبشرين بالرضا، محكمين في الحسنى، غير مناقشين ولا مطرودين.
اللهم أعذنا من جشع الفقير، وريبة المنافق، وتجليح المعاند، وطيشة العجول، وفترة الكسلان، وحيلة المستبد، وتهور الغافل، وحيرة المحرج، وحسرة المحوج، وفلتة الذهول، وحرقة النكول، ورقبة الخائف، وطمأنينة المغرور، وغفلة الغرور، واكفنا مؤونة أخ يرصد مسكوناً إليه، ويمكر موثوقاً به، ويخيس معتمداً عليه، وصل الكفاية بالسلوة عن هذه الدنيا، واجعل التهافنا عليها حنيناً إلى دار السلام ومحل القرار، وغلب إماننا بالغيب على يقيننا بالعيان، أحرسنا من أنفسنا فإنها ينابيع الشهوة ومفاتيح البلوى، وأرنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك، وأوضح لنا من حكمتك ما يقلبنا في ملكوتك، وأسبغ علينا من نعمتك ما يكون لنا عوناً على طاعتك، وأشع في صدورنا من نورك ما تتجلى به حقائق توحيدك، واجعل ديدننا ذكرك، وعادتنا الشوق إليك، وعلمنا النصح لخلقك، واجعل غايتنا الاتصال بك، واحجبنا عن قول يبرأ من رضاك، وعمل يعمى صاحبه عن هداك، وألف بيننا وبين الحق، وقربنا من معادن الصدق، واعصمنا من بوائق الخلق، وانقلنا من مضايق الرزق، واهدنا إلى فوائد العتق.
اللهم إنك بدأت بالصنع، وأنت أهله، فأنعم بالتوفيق فإنك أهله. اللهم إنا نتضاءل عند مشاهدة عظمتك، وندل عليك عند تواتر برك، ونذل لك عند ظهور آياتك، نلح عليك عند علمنا بحودك، ونسألك من فضلك ما لا يرزأك ولا ينكأك، ونتوسل إليك بتوحيد لا ينتمي إليه خلق، ولا يفارقه حق.

هذا الجزء الخامس من البصائر، وهو صنو ما سلف منه، فاجعله درسك ليلك ونهارك، واجعله تلاوتك سرك وجهارك، واختلس حظك من المعارف فيه تتخلص من المناكر، وخض بحر المعارف تنج من المجاهل، واعلم أن عملك لا يزكو، وسرك لا يصفو، وعاقبتك لا تحلو، حتى تقف بين أمر الله ونهيه، غير محتج بإرادة الله تعالى وعمله، متوقفاً عما وقفك عنه، متخففاً إلى ما أنهضك إليه، عالماً بأن البدء منه، والحجة منه عليك، وان الذي عليك بنسبتك إليه أن تكون عبداً ذليلاً، والذي لك عنده أن يجعلك ملكاً عزيزاً، ولا تفوتن نفسك فإنك حظها، ولا تفوتنك نفسك فإنها حظك، واتق عذاباً يستغرقك، وخف حساباً يأتي عليك، وافتح ديوان نفسك، وكن رقيب أمرك، قبل أن يشركك من لا يوطئ عشوة، ولا يقبل رشوة، واعلم انك في هذه الدار بين طيب وخبيث وقديم وحديث وقول وعمل وعذر وعذل وإضرار واختيار، وشكر وصبر، ووفاء وغدر، وعزاء وجزع، وأمان وفزع، وظلمة ونور وترحة وسرور، وغمة وانجلاء، وهبطة واعتلاء، وعافية وابتلاء، وصحوة وسكر، ولذة وحسرة، ويقين وحيرة، واجتماع وفرقة، وإمتاع وحرقة، ووحشة وانس، وهم وعرس، وإطلاق وحبس، واستقلال ونكس، وسعادة ونحس، ونزاهة وحرص، وحفظ وإضاعة، وكتمان وإذاعة، ودرك وفوت، وحياة وموت، فخذ نفسك بالإعراض عن زهرة تحول، ونعم تيلى، ومدة تنصرم، وشهوة تنقضي، وتبعة تبقى، وندم يصير لزاماً، والزم الصمت إلى أن ترى هلكك فيه، والزم النطق إلى أن ترى ضياعه عنك عند مستمعيه، وعاشر ما قبل نصحك في العشرة، وتفرد ما رأيت الخلل في الخلة، واعمل ما دام الإخلاص صاحبك، واعتقد ما صحب اليقين عقيدتك، واصرف غاية اجتهادك ونهاية سعيك وبليغ كدحك في اقتباس العلم فإنه نور وضياء، وبر وشفاء، وحلية وجمال، ومتعة وراحة، وهدي وبيان، وسعادة ونجاة، ودنيا وآخرة، وغنى ويسار، إن لم يغنك بالبضاعة أغناك بالقناعة، وإن لم يبلغك منزلة النيل به لم يخلك من الاستراحة إليه.
وقف متعلم بباب عالم فقال: واسونا مما رزقكم الله؛ فأخرجوا له طعاماً فقال: فاقتي إلى كلامكم أشد من حاجتي إلى طعامكم؛ اعلموا أن فلاناً طالب هدى لا سائل ندى. فأذن له وأوسعه فوائد، فخرج وهو يقول: علم أوضح لبساً، خير من مال أغنى نفساً.
نظر عالم إلى تلامذته فقال: ما كل ذي تحصيل يرجع إلى تفصيل، وما كل ذي سماع يأوي إلى قلب يراع، وما كل ذي اقتباس يستند إلى قياس، وأنشد: البسيط
لا تبخلن بفضل العلم تمنحه ... ما كل قابس علم حلف مقباس
إن النجوم يراها كل ذي بصر ... وليس يعرفها جيل من الناس
وكن من مصيرك إلى الله على فرق، فإن ذلك يسهل عليك الكد في طلب الراحة، ولا يغرنك ظاهر ما ترى من هذا العالم عن باطن ما تغفل عنه، فإن ناظم هذا الفلك، ومزين هذه السماء، وساطح هذه الأرض، وجاسي هذا الجو، وفالق هذا البحر، وبارئ هذه النسمة، لم يخلقها عبثاً، ولم يتركها سدى؛ فاعرفه معرفة تنسيك ما سواه، واعتصم بحبل من حسن الظن به فإنه يجزيك، وتحبب إليه بالتحبب إلى خلقه، وتطامن للحق، وأعز الحق، فإن معاذ بن جبل قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاذ، المؤمن لدى الحق أسير؛ يا معاذ، إن المؤمن من لا يسكن من روعته، ولا يأمن من اضطرابه، حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره؛ يا معاذ، إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته، فالقرآن دليله، والخوف محجته، والشوق مطيته. والصلاة كهفه، والصوم جنته، والصدقة فكاكه. والصدق أميره. والحياء وزيره؛ يا معاذ، إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأنهي لك ما أنهى إلي خليلي جبريل عليه السلام؛ يا معاذ، المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى عن كحل عينيه، وفتات الطين بإصبعيه، فلا ألفين يوم القيامة واحداً أسعد بما آتاه الله منك؛ روي هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن أحمد بن أبي الحواري.
وامقت الدنيا مقتا، ولا يقنطنك من الله تعالى بعض ما يضيق عليك من رزقك، ويخيب من آملك، ويفوت من مرادك، فإنك عند السعة مطالب بشكر أثقل من الضيق عند الضيق، ممتحن بصبر تحمله أيسر من اليسر، والقائل يقول: الوافر
فلا تجزع وإن أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر ... لعل الله يغني عن قليل

ولا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل
ولعل صنع الله في طيها عنك أكثر من انتشارها عليك.
وما أحسن ما قال عبد الله بن طاهر بن صفة الدنيا حين كتب إلى المعتصم: أما بعد، فإن الدنيا قد عاينت نفسها بما أبدت من تصرفها، وأنبأت عن مساوئها بما أظهرت من مصارع أهلها، ودلت على عوراتها بعين حالاتها، وقطعت ألسنة العز فيها عين زوالها. وشهد إخلاق شؤونها على فنائها. فلم يبق لمرتاب في أمرها ريب، ولا لناظر في عواقبها شك، بل عرفها جل من عرفها معرفة يقين، وكشفوها أبرز تكشف، ثم أضلتهم الأهواء عن منافع العلم، ودلتهم الآمال بغرور، فلججوا في غمرات العجز، فسبحوا في بحورها موقنين بالهلكة، ورتعوا في عراضها عارفين بالخدعة، وكان يقينها شكاً، وعلمهم جهلاً، لا بالعلم انتفعوا، ولا بما عاينوا اعتبروا، قلوبهم عالمة جاهلة، وأبدانهم شاهدة غائبة، حتى طرقتهم المنية، فأعجلتهم عن الأمنية، فبعثتهم القيامة. وأقدمتهم الندامة، وكذلك الأمل: ينسئ طويلاً ويأخذ وشيكا، فانتفع امرؤ بعلمه وجاهد هواه أن يضله، وخاف أمله أن يغره، وقوي يقينه على العمل، ونفي عنه الشك بقطع الأمل، فإن الهوى والأمل إذا استضعفا اليقين صرعاه، وإذا تعاونا على ذي غفلة خدعاه، فصريعهما لا ينهض سالماً وخديعهما لا يزال نادماً، والقوي من قوي عليهما، والحارس من احترس منهما؛ ألبسنا الله وإياكم جنة الحذر، ووقانا وإياكم سوء القضاء والقدر.
ولو كان هذا الكلام لابن المبارك أو منصور بن عمار أو ابن السماك لكان كبيراً. فكيف وهو لعبد الله بن طاهر، ونصيبه من عشق العاجلة ومحبته للدنيا ما نعرفه؟ إلا أن يكون غيب حاله خلاف مشهده، والتفاوت في الكلام أمر راتب في الخلق، وكذلك في العمل، وكذلك في الإخلاص، وكذلك فيما ينتصب للإخلاص من الدرجات والمنازل، فسبحان من هذا خلقه في خلقه وهذا أمره في أمره.
1 - كتب طاووس إلى مكحول: أما بعد فإنك قد اصبت بما ظهر من علمك عند الناس منزلة وشرفاً، فالتمس بما بطن من عملك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تقربك للأخرى والسلام.
2 - قال ابن السماك: من جرعته الدنيا حلاوتها بميله إليها، جرعته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها.
3 - قال بعض السلف: إنكم لا تنالوا ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، ولا تبلغون ما تهوون إلا بترك ما تشتهون.
4 - وقال بعض الزهاد: بمرارة دواء العبادة تنال حلاوة شفاء العاقبة.
5 - قال بزرجمهر: إياك وقرناء السوء، فإنك إن عملت قالوا: راءيت، وإن قصرت قالوا: أثمت، وإن بكيت قالوا: بهت، وإن ضحكت قالوا: جهلت، وإن نطقت قالوا: تكلفت، وإن سكت قالوا: عييت، وإن اقتصدت قالوا: بخلت.
6 - وقال بعض السلف: قارب إخوانك في خلائقهم تسلم من بوائقهم.
7 - وقال أعرابي: دع مصارمة أخيك، وإن حثا التراب في فيك.
8 - وقال بعض السلف: من أفحش الظلم أن يلزمك حقك في مال أخيك فيبذله لك، وتلزمه حقه في تعظيمك إياه، فإذا أنت قد جشمته إفضال المنعمين، وابتذلته ابتذال الأكفاء.
9 - كتب أحمد بن المعذل إلى أخيه عبد الصمد: أما بعد، فقد شمل عرك، وعم أذاك، وصرت فيك كأب الابن العاق، إن عاش نغصه، وإن مات نقصه؛ فأجابه عبد الصمد: المتقارب
أطاع الفريضة والسنة ... فتاه على الإنس والجنه
كأن لنا النار من دونه ... وأفرده الله بالجنه
وينظر نحوي إذا جئته ... بعيني حماة إلى كنه
10 - قال ابن الغريض الكاتب: عشق رجل غلاماً ظريفاً فكتب إليه يسأله زيارته، فأجابه الغلام: شدة شكواك تدعو إلى إسعافك. وصانتنا أنفسنا وإياك تدعو إلى منعك، ولمكروه المنع مع السلامة من شناعة القول خير من محبوب الإسعاف مع شماتة الحاسد. وإطلاق لسانه بما يشيننا ويشينك، وإن أجد فرصة أثق معها بالستر، وآمن من سوء الذكر، أصر إليك، فأديل الهوى من الرأي، وأملكه أزمتنا.
ثم إنهما اجتعما في مجلس فلم يمكنهما المفاوضة، فكتب الرجل في رقعة: انظر إلي، فوقع الغلام نظري إليك فتنة. وإعراضي عنك محنة، فارض باللحظة، واستمتع باللفظة بعد اللفظة، واحذر عادية الحفيظة.

11 - قال الحجاج على المنبر: أيها الناس، من أعيا داؤه فعندي دواؤه، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقية؛ إن للشيطان طيفاً، وللسلطان سيفاً، فمن سقمت سريرته، صحت عقوبته، ومن وضعه ذنبه، رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية، لم تضق عنه الهلكة، ومن سبقت بادرته فقد سبق بدنه سفك دمه؛ وإني أنذركم ثم لا أنظركم، وأحذركم ثم لا أعذركم، وأتوعدكم ثم لا أغفر، إنما أفسدكم وهن ولاتكم، ومن استرخى لببه ساء أدبه؛ إن الحزن والعزم سلباني سوطي، وأبدلاني سيفي، فقائمه في يدي، ونجاده في عنقي، وذبابه قلادة من عصاني، والله لا آمر أحدكم أن يدخل من أحد أبواب المسجد فيدخل من الباب الآخر إلا ضربت عنقه.
12 - نظر مروان بن أبي حفصة إلى عنان جارية الناطفي تبكي من ضرب مولاها فقال: السريع
بكت عنان فجرى دمعها ... كالدر إذ يسبق من خيطه
فقالت:
فليت من يضربها ظالماً ... تجف يمناه على سوطه
واستجازها بيتاً آخر وهو: الطويل
وما زال يشكو الحب حتى رأيته ... تنفس من أحشائه وتكلما
فقالت:
ويبكي فأبكى رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
13 - أهدى المعلى بن أيوب إلى المتوكل في يوم نيروز سكرة عليها خيارة صغيرة، فسئل عن ذلك فقال: الحلاوة للسكر، والخيارة فلأنه في إقبال أيامه وابتداء ظهوره، ولأن اسمه بالفارسية والعربية والنبطية خيار، وهم خيار وخيرة وأخيار وخير.
14 - لما ذهب بهدبة ليقتل انقطع قبال نعله فجلس يصلحه فقيل له: أتصلحه وأنت على ما أنت؟ فقال: الوافر
أشد قبال نعلي أن يراني ... عدوي للحوادث مستكينا
15 - اعتذر كاتب إلى صديق له من تأخر اللقاء فأجابه: أنت في أوسع عذر عند ثقتي، وفي أضيق العذر عند شوقي.
16 - وكتب حمد بن مهران إلى أبي دلف بن عبد العزيز في يوم نيروز: قدر الأمير أدام الله تمكينه يجل عما تحيط به المقدرة، وفي سؤدده ما يوجب التفضل ببسط المعذرة.
17 - وكتب رجل إلى ابن سيابة يسأله عن رجل فكتب في الجواب: هو والله غث في دينه، قذر في دنياه، رث في مروءته، منقطع إلى نفسه، راض عن عقله، بخيل بما وسع عليه من رزقه، كتوم لما آتاه الله من فضله، حلاف لجوج، لا ينصف إلا صاغراً، ولا يؤمر إلا كابراً، ولا يعدك إلا راغماً، يرفع نفسه عن منزلة الأذل بعد تعززه فيها.
18 - عتبت متيم على علي بن هشام فهجرته، وترضاها بكل شيء فلم ترض، فكتب إليها: الإدلال داعية الملال، والتغضب مقدمة التجنب، ورب هجر يدعو إلى صبر، وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه، وما أحسن ما قال العباس: الخفيف
ما أراني إلا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران
ملني واثقاً بحسن وفائي ... ما أضر الوفاء بالإنسان
19 - لسعيد بن حميد: الطويل
قربت فلم نرج اللقاء ولا نرى ... لنا حيلة يدنيك منا احتيالها
فأصبحت كالشمس المضيئة نورها ... قريب ولكن أين منا منالها
كظاعنة ضنت بها غربة النوى ... علينا ولكن قد يلم خيالها
تقربها الآمال ثم تعوقها ... مماطلة الدنيا بها واعتلالها
ولكنها أمنية فلعلها ... يجود بها صرف النوى وانفتالها
20 - قال علي بن الجهم: لحظت فضل الشاعرة لحظة استرابت بها فقالت: الرجز
يا رب رام حسن تعرضه ... يرمي ولا يشعر أني غرضه
فقلت:
أي فتى لحظك لا يمرضه ... وأي عقد محكم لا ينقضه
21 - وجد أبو العباس ابن ثوابة على سعيد بن حميد فكتب إليه سعيد: الكامل
أقلل عتابك فالزمان قليل ... والدهر يعدل مرة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمت مدة ... ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحداث الليالي أولعت ... بنوى تفرق بيننا وتحول
فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن علي منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول

ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين ... من لا يشاكله لدي عديل
وليذهبن جمال كل مروءة ... وليقفرن فناؤها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودنا ... باق عليه من الوفاء دليل
ود بدا لذوي الإخاء صفاؤه ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول
22 - جحد رجل مال رجل فاحتكما إلى إياس بن معاوية، فقال للطالب: أين دفعت إليه هذا المال؟ قال: عند شجرة في مكان كذا وكذا، قال: فانطلق إلى ذلك المكان فلعلك تتذكر كيف كان أمر هذا المال، ولعل الله يوضح لك سبباً. فمضى الرجل، وجلس خصمه، فقال إياس بعد ساعة: أترى خصمك بلغ موضع الشجرة؟ قال: لا، بعد، قال: يا عدو الله، أنت خائن، قال: أقلني أقالك الله، فاحتفظ به حتى أقر ورد المال.
23 - شهد سوار عند بلال بن أبي بردة وآخر معه، فقال بلال: يا سوار، ما تقول في هذا الرجل؟ قال: إنما جئت شاهداً ولم آت مزكياً، قال: أفحضر معك هذه الشهادة؟ قال: نعم.
24 - قال أعرابي: الكلام فنون، وخيره ما وفق به القائل، وانتفع به السائل والمستمع.
25 - قال بعض العلماء: أصح الأخبار ما نقله خيار الخلف عن أبرار السلف.
26 - قال أعرابي: دع النمائم فإن أولها سمائم، وآخرها مآثم.
27 - قال أعرابي: رب مخوف ينال، ومرجو لا ينال.
28 - قال بكر بن عبد الله المزني: إذا رأيت قبيحاً من ناسك فالفظه، وإذا رأيت حسناً من فاتك فاحفظه.
29 - قال أعرابي: أطيب الزمان ما قرت به العينان.
30 - من كلام الجاهلية الأولى: كل مقيم شاخص، وكل زائد ناقص.
31 - وقال آخر: أكثر الناس بالقول مدل، وبالفعل مقل.
32 - وقال آخر: أعد لصديقك بذلك، ولعدوك عذلك.
33 - وقال أعرابي: ليس العمل للوفاء، كالسعي للرجاء.
34 - وقال آخر: رب بعيد لا يفقد بره، وقريب لا يؤمن شره.
35 - وقال آخر: من أحم قرم، ومن تهور ندم 36 - وقال آخر: أبين العجز قلة الحيلة، وملازمة الحليلة.
37 - وقيل لصوفي: كيف أنت؟ قال: طلبت فلم أرزق، وحرمت فلم أصبر.
38 - وقال بعض الهند في كتابه: لا ظفر مع بغي، ولا صحة مع حرص، ولا ثناء مع كبر، ولا صداقة مع خب، ولا شرف مع سوء الأدب، ولا بر مع شح، ولا اجتناب محرم مع حرص، ولا ولاية حكم مع عدم فقه، ولا عذر مع إصرار، ولا سلامة مع غيبة، ولا راحة قلب مع حسد، ولا سؤدد مع انتقام، ولا رياسة مع عجب، ولا صواب مع استبداد، ولا ثبات مع جهل الوزراء.
39 - قال عبد الملك الكاتب: تزوج بعض أصحابنا سراً من أهله، فأولدها بنتاً ولم يكن هناك بينة، ثم عشق أخرى وفارقها وجحد ابنتها، وكان يأتي الجديد على السفاح، فاحتالت القديمة حتى علمت حضوره عند الزانية، ثم مضت إلى صاحب الرفع وسلمتها إليه، ثم وجهت إلى زوجها: إني إن خلصتك أقررت بنكاحي وبنتي؟ قال: نعم، فجاءت فدخلت السجن كأنها تزور وقالت للزانية: أخرجي بلباسي كأنك أنا، ففعلت، وقالت: قولي للرجل إني امرأتك، وقوي قلبك ولسانك فإن الجيران يشهدون لي بذلك، ففعلت وتعرف الوالي من الجيران فاعترفوا فخلاهما.
40 - قال المدائني: تذاكر قوم من ظراف البصرة الحسد، فقال رجل: إن الناس ربما حسدوا على الصلب، فانكروا ذلك، ثم جاءهم بعد أيام فقال: إن الخليفة قد أمر أن يصلب الأحنف، ومالك بن مسمع، وقيس بن الهيثم، وحجام يعرف بحمدان، فقالوا: هذا الخبيث يصلب مع هؤلاء؟! فقال: ألم أقل إن الناس يحسدون على الصلب؟! 41 - خطب عتبة بن غزوان فقال: أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بتصرم. وولت حذاء، فلم يبق فيها إلا صبابة كصبابة الإناء، فتزودوا خير ما يحضركم. وهو تقوى الله جل جلاله وطاعته، والانتهاء عن معصيته، ولقد رأيتني في سبعة نفر مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، نأكل العضاة حتى قرحت أشداقنا. ثم أصبحنا وما منا أحد إلا على كورة من هذه الكور.

42 - وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول: لو حدرت صخرة على شفير النار لهوت قبل أن تقع في قعرها سبعين خريفاً، وإن بين مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين يوم كظيظ الزحام، ألا وإنها لم تكن نبوة إلا كان بعدها ملك وجبرية، وأعوذ بالله أن أكون في عين الله صغيراً وفي عيني عظيماً، وستجربون الأمراء بعدي. وكان عمر عزله بالمغيرة عن البصرة.
43 - قال الأعرابي: السعيد من أغضى بصرة لهول المرجع، وأراق دمعه لخوف المصرع.
44 - لمكنف من ولد زهير بن أبي سلمى: الكامل
بكت العيون فأقرحت عبراتها ... أجفانها حزناً على إسحاق
ولئن بكت جزعاً عليه لقد بكت ... جزعاً مكارم الأخلاق
يا خير من بكت المكارم فقده ... لم يبق بعدك للمكارم باق
لو طاف في شرق البلاد وغربها ... لم يلق إلا حامداً لك لاق
ما بت من كرم الطبائع ليلة ... إلا لعرضك من نوالك واق
بخلت بما حوت الأكف وإنما ... خلق الإله يديك للإنفاق
45 - قال يونس: العرب تقول: وجدان الرقين يغطي أفن الأفين، يعني أن الذهب والفضة يغطيان حمق الأحمق.
46 - قال الزبير بن بكار: كان غلام يسوق بأصحابي ويرطن بالزنجية شيئاً، يوقع عليه شبه الشعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه فاستمع له ثم قال: إنه يقول: الطويل
فقلت لها أني اهتديت لفتيه ... أناخوا بجعجاع قلائص سهما
فقالت كذاك العاشقون ومن يخف ... عيون الأعادي يجعل الليل سلما
47 - قال مسلم بن عبد الله بن مسلم الهذلي: خرجت أريد العقيق ومعي زبان، فلقينا نسوة فيهن جارية قد بهرتهن حسناً، فأنشد زبان بيتي أبي وهما: الطويل
ألا يا عباد الله هذا أخوكم ... قتيلاً فهل منكم به اليوم ثائر
خذوا بدمي إن مت كل خريدة ... مريضة جفن العين والطرف ساحر
ثم قال لي: شأنك بها يا ابن الكرام فوالله إن لم يكن دم أبيك في ثيابها، فأقبلت علي فقالت: أنت ابن أبي جندب؟ قلت: نعم، قالت: إن قتيلنا لا يودى، وأسيرنا لا يفدى، فاغتنم نفسك، واحتسب أباك.
48 - قال الأصمعي: تقول العرب في العدد: آخر حرف من الثالث إلى العاشر أحاد وثنا وثلاث ورباع وخماس وسداس وسباع وثمان وتساع وعشار؛ قال الأخفش: الأكثر أثنا، وأنشد: الرمل المجزوء
قل لعمرو يا ابن هند ... لو شهدت اليوم شنا
لرأت عيناك منهم ... كل ما كنت تمنى
إذا أتتنا فيلق شهيا ... ء من هنا وهنا
وأتت دوسر والملحا ... ء سيراً مطمئنا
ومشى القوم إلى القو ... م أحادا وأثنا
وثلاثاً ورباعاً ... وخماساً فطعنا
وسداساً وسباعاً ... وثماناً فاجتلدنا
لا ترى إلا كميا ... قاتلاً منهم ومنا
قال المبرد: لخلف الأحمر نحلة بعض الأعراب وأنشد: الرجز
يفديك يا ويح أبي وخالي ... قد مر شهران وهذا الثالي
وأنت بالهجران لا تبالي
آخر: الطويل
ثلاثة أملاك كرام ورابع ... وما الخام منهم باللئيم المذمم
آخر: الوافر
إذا ما عد أربعة لجود ... فزوجك خامس وأبوك سادي
آخر: الوافر
مررت بربعها فوقفت فيه ... على سفع جوائم فوق آس
وقد مرت به من بعد عهدي ... ثمانية وهذا العام تاس
آخر: المتقارب
تراهن في الجو تلو النسيم ... فطوراً أحاداً وطوراً ثنا
49 - قال عبد الكريم بن وهب، سمعنا الشافعي ينشد: الوافر
وأنطقت الدراهم بعد صمت ... أناساً طال ما كانوا سكوتا
فما عطفوا عل أحد بفضل ... ولا عرفوا لمكرمة بيوتا
50 - قال الهيثم بن عدي: خرج سوار بن عبيد وهو أحد الخوارج على عبد الملك بن مروان بعد أبي فديك باليمامة، وكان عامله عليها يزيد بن هبيرة، فقتل يزيد سواراً، ثم إنه تزوج ابنة امرأة من الطلبيات؛ من ولد طلبه بن قيس ابن عاصم المنقري، فلما دخل عليها قالت: الوافر

للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
وخرق من بني عمي نحيف ... أحب إلي من علج عنيف
51 - قال محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة: هذه الملح تعجب عقلاء الرجال.
52 - قال المبرد: الوجذ: جمعه وجاذ، وهي النقرة التي يستنقع فيها الماء، كالوهد والوهاد؛ قال أبو عمر الجرمي: الوجذ: كل مستنقع ماء.
53 - قيل لأعرابي: ما أحسن الثناء عليك؟ قال: بلاء الله عندي أحسن من وصف المادحين وإن أحسنوا، وذنوبي إلى الله أكثر من عيب الذامين وإن أكثروا، فواحسرتي على ما فرطت، وواسوأتي مما قدمت، بلى، ثلجت القلوب لما ترجو من عفوه عن المذنب، وقبوله من المعتب.
54 - وصف أعرابي رجلاً فقال: لا تراه الدهر إلا كأنه لا غنى به عنك وإن كنت إليه أحوج، إن أذنبت غفر وكأنه المذنب، وإن احتجت إليه أحسن وكأنه المسيء.
55 - وقال أعرابي: ألم أكن نهيتك أن تريق ماء وجهك بمسألتك من لا ماء في وجهه؟! 56 - وقال: والله لو وقع فلان في ضحضاح معروفة لغرق.
57 - وقال أعرابي لأخيه ورآه حريصاً على الدنيا: يا أخي أنت طالب ومطلوب، ويطلبك من لا تفوته، وتطلب ما قد كفيته، وكأن ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه؛ يا أخي كأنك لم تر حريصاً محروماً. ولا زاهداً مرزوقاً.
58 - سئل أعرابي: من أبلغ الناس؟ قال: أحسنهم لفظاً، وأمثلهم بديهة، قيل: فمن أصبر الناس؟ قال: أردهم لجهله بحلمه، إن قاتل أبلى. وإن أعطى أغنى.
59 - قيل لأعرابي: كيف فلان؟ قال: يقطع نهاره بالمنى، ويتوسد ذراع الهم إذا أمسى.
60 - وقال أعرابي: أما فلان فلسانه أحلى من الشهد، وصدره سجن الحقد.
61 - وقال آخر في وصف آخر: إذا نزلت به النوائب قام إليها، ثم قام بها ولم تقعد به علات الأنفس.
62 - وقال أعرابي في وصف قوم: والله ما نالوا بأطراف أناملهم شيئاً إلا قد وطئنا بأقدامنا، وإن أقصى مداهم لأدنى فعالنا.
63 - ذم أعرابي آخر فقال: لا يخشى عاجل عار، ولا آجل نار، كالبهيمة تأكل ما وجدت، وتنكح ما لحقت.
64 - قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ليس خياركم من ترك الآخرة للدنيا، ولا من ترك الدنيا للآخرة، ولكن من أخذ من هذه لهذه.
65 - وقال أعرابي: خطب رجل منا مغمور امرأة مغمورة، فقيل لولي المرأة: تعمم لكم فزوجتموه، فقال: إنا تبرقعنا له قبل أن يتعمم لنا.
66 - وقال غيره: لئن هملجت في الباطل إنك عن الحق لقطوف، ولئن أبطأت عن الحق ليسر عن إليك.
67 - وقال أعرابي: إن لم يعدلك الحق عدلك الباطل.
68 - وقال آخر لصاحب له: قد نهيتك عن مسألة أقوام أرزاقهم من ألسن الموازين، ورؤوس المكاييل.
69 - وذم أعرابي آخر فقال: لا يكون في موضع إلا حرمت الصلاة فيه، ولو أفلتت كلمة سوء لم تصر إلا إليه، ولو نزلت لعنة لم تقع إلا عليه.
70 - وذم آخر رجلاً فقال: سمين المال، مهزول المعروف، معدم مما يحب، مثر مما يكره، وهو أكثر ذنوباً من الدهر.
71 - وذم آخر رجلاً فقال: هو من قوم سلخت أقفاؤهم بالشؤم، ودبغت جلودهم باللؤم، لباسهم في الدنيا الملامة، وزادهم في الآخرة الندامة.
72 - قال أعرابي لرجل شريف: ما أحوج عرضك إلى أن يكون لمن يصونه، وتكون أنت فوق من أنت اليوم دونه.
73 - وقال آخر لصاحب له: إنما يستجاب لمؤمن أو مظلوم، ولست بواحد منهما.
74 - قال المسيح عليه السلام: لا تنظروا إلى ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا إلى ذنوبكم كأنكم عبيد.
75 - قال المنصور لشريك: أني لك هذا العلم؟ قال: لم أرغب عن قليل أستفيده، ولم أبخل بكثير أفيده.
76 - وقال أعرابي: سيد القوم أشقاهم.
77 - وقال آخر: أعطاك الله ولا سلبك، وكلاك ولا وكلك، ومنحك ولا امتحنك.
78 - قال بعض الصالحين: من أذنب وهو يضحك دخل النار وهو يبكي، ومن أذنب وهو يبكي دخل الجنة وهو يضحك.
79 - نظر فيلسوف إلى امرأة قد خنقت على شجرة فقال: ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الثمرة.
80 - وقال الثوري لما شاء الله المنجم: أنت تغدو بطالع، وأنا أغدو بالاستخارة، وأنت تخاف زحل، أنا أخاف ذنبي، وأنت ترجو المشتري، وأنا أرجو الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
81 - وقال أبو حازم وقد نظر إلى فواكه منضدة في السوق: يا مقطوعة ممنوعة.

82 - ذكر المزاح عند خالد بن صفوان: يصك أحدكم قفا أخيه بأصلب من الجندل، وينشقه أحر من الخردل، ويفرع عليه أحر من المرجل، ثم يقول: أنا أمازحك.
83 - قال محمد بن أحمد الكاتب: سمعت بشر بن الحارث ينشد لبعض المحدثين: السريع
أقسم بالله لمص النوى ... وشرب ماء القلب المالحه
أعز للإنسان من حرصه ... ومن سؤال الأوجه الكالحه
فاستغن بالله تكن ذا غنى ... مغتبطاً بالصفقة الرابحه
اليأس عز والتقى سؤدد ... ورغبة النفس لها فاضحه
من كانت الدنيا به برة ... فإنها يوماً له ذابحه
84 - قال أبو سعيد، واسمه عبد الوهاب بن الحريش: حضر علي بن حمزة الكسائي وأبو حنيفة عند هارون الرشيد، فقال أبو حنيفة للكسائي: ما لك لا تنظر في الفقه؟ فقال له الكسائي: أنا أفقه منك، ثم قال له: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار؟ فقال أبو حنيفة: ما لم تدخل لم يحنث، فقال له الكسائي: أخطأت، أما سمعت قول الله تعالى " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً " مريم: 90 - 91: أن دعوا أو لم يدعوا فقد دخلت، وقد حنث يا أيا حنيفة، فقال هارون: أحسنت يا أبا الحسن.
85 - كتب إبراهيم بن العباس الصولي إلى صديق له: أنصف الله شوقي إليك من جفائك، وأخذ لبري من تقصيرك، لا سلط الدهر على حسن الظن بك، كما سلطه على لطيف محلي منك.
86 - لشاعر في تهنئة بمولود: الرجز
مد لك الله البقاء مداً ... حتى ترى نجلك هذا جداً
مؤزراً بمجده مردى ... ثم يفدى مثل ما تفدى
كأنه أنت إذا تبدى ... شمائلاً محمودة وقداً
87 - قال صاحب كليلة ودمنة: الدنيا كالماء الملح متى يزدد شار به منه رياً يزدد ظمأ وعطشاً.
88 - وقال أحمد بن المعذل لأخيه عبد الصمد: أنت كالإصبع الزائدة، إن تركت شانت، وإن قطعت آلمت.
89 - وقال صاحب كليلة ودمنة: الأدب يذهب عن العاقل السكر، ويزيد الأحمق سكراً، كالنهار يزيد البصير بصراً، ويزيد الخفاش سوء بصر.
90 - قيل لفيلسوف: لا تتكلم، فسكت، قيل له: لا تنظر، فغمض عينه، قيل له: لا تسمع، فسد أذنه، قيل له: لا تعلم، قال: لا أقدر على ذلك.
91 - قال الجماز: دخل مخنث الحمام فرأى رجلاً كبير الأير، كثير الشعر، فقال: انظروا إلى الخليفة في القطيفة! 92 - قيل لمخنث عليل، وكان يشرب لبن الأتان: كيف أصبحت؟ قال: لا تسل عمن أصبح أخا الحمار.
93 - وقال في كليلة ودمنة: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً.
94 - قيل لأعرابي: صف الزلزلة، فقال: كأنها فرس انتفض ثم راجع.
95 - قيل لرجل: صف لنا وليمة فلان، قال: كأنها زمن البرامكة في حسنها.
96 - قال صاحب كليلة: من نصح لمن لا يشكر له كان كمن ينثر بذره في السباخ، أو كمن أشار على معجب، أو كمن سار الأصم.
97 - وقال أيضاً: لا يخفى فضل ذي فضل وإن أخفاه بجهده، كالمسك الذي يخبأ ويستر ثم لا يمنع ذلك ريحه من التذكي.
98 - وذكر الجماز رجلاً فقال: كأن قيامه من عندنا سقوط جمرة من الشتاء.
99 - وقال صاحب كليلة أيضاً: من لا يقبل من نصحائه ما يثقل عليه مما ينصحون له فيه، لم يحمد غب أمره، وكان كالمريض الذي يترك ما يصف له الطبيب ويعمد لما يشتهي.
100 - قالت عجوز وقد رأت طلحة يوم الجمل: من هذا الذي كأن وجهه الدينار الهرقلي؟ قالوا: طلحة، قالت: فمن ذا الذي يتلمظ كأنه أرقم؟ قالوا: الزبير، قالت: فمن ذا الذي كسر ثم جبر؟ قالوا: علي بن أبي طالب.
101 - وقال صاحب كليلة: المودة بين الصالحين سريع اتصالها بطيء انقطاعها، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بعيد اتصالها.
102 - تكلم وفد بين يدي سليمان بن عبد الملك فأخطأوا، وتكلم بعدهم رجل فأبلغ، فقال سليمان: كان كلامه بعد كلامهم سحابة لبدت عجاجة.
103 - وصف المعلى بن أيوب ابن الزيات فقال: كأنه لسان حية من ذكائه.
104 - وقال ابن الرومي الشاعر: شهر رمضان بين شعبان وشوال كمخشلبة بين درتين.
105 - قال أبو سلمان الطنبوري: شعبان درب لا ينفذ.
106 - وقال آخر: الصاحب كالرقعة في الثوب فالتمسه مشاكلاً.

107 - وقال صاحب كليلة: لا يرد بأس العدو القوي بمثل التذلل والخضوع، كما أن الحشيش يسلم من الريح العاصف بلينه لها وانثنائه معها.
108 - وقال أيضاً: ليس العدو بموثوق به وإن أظهر جميلاً، فإن الماء ولو أطيل إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفاء النار إذا صب عليها.
109 - وصف ملاح لصاً دخل عليه فقال: كان طويلاً مثل الدقل، أسود مثل قير السفينة، فخذه مثل السكان.
110 - سمع المازني قرقرة في بطن رجل فقال: هذه ضرطة مضمرة.
111 - قال سعيد بن حميد: عمل السلطان كالحمام، من دخل فيه يريد الخروج، ومن هو خارج يريد الدخول.
112 - وقال صاحب كليلة: الدنيا كدودة القز التي لا يزداد الإبريسم عليها عقداً إلا ازدادت من الخروج بعداً.
113 - وصف رجل ابن حجية المغني فقال: كأنه خلق من كل قلب، فهو يغني كل إنسان ما يشتهي.
114 - وقال بعض الفلاسفة: العقل كالسيف والنظر كالمسن.
115 - وقال علي رضي الله عنه: الدنيا لين مسها، وفي حشاها السم الناقع.
116 - رأى من بدر رجلً كبير الأنف وفيه شعر كثير فقال: كأنما مليء أنفه شسوعاً.
117 - وقال: المرأة كالنعل يلبسها الرجل إذا شاء لا إذا شاءت.
118 - وقال ابن مسعود: ذاكر الله في الغافلين، كالمقاتل خلف الفارين.
119 - وقال ابن الرومي وقد نظر إلى غيم أبيض متقطع في السماء: كأنه قطن يندف على بطانة زرقاء.
120 - نظر مزبد إلى رجل مديني أسود ينيك غلاماً رومياً فقال: كأن أيره في أسته كراع عنز في صحفة أرز.
121 - وقال ابن الرومي في كلية الجدي: كأنها لوبياء.
122 - وقال أبو العيناء وكان عند رئيس يخفض كلامه: كأنك قد طفل بك في منزلك.
123 - قدم ابن مكرم إلى أبي علي البصير جنباً غير نضيج فقال أبو علي: هذه شريحة قصب لا جنب.
124 - نظر عبادة إلى جارية سوداء على رأسها وقاية حمراء فقال: كأنها فحمة في رأسها نار.
125 - ذكر أبو العيناء ولد موسى بن عيسى فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير القبلة.
126 - قال رجل لابن الزيات: إني أتوسل إليك بالجواز وأسألك العطف، فقال: أما الجواز فنسب بين الحيطان، وأما العطف والرقة فهما للنساء والصبيان.
127 - قيل لراهب: إن فلاناً رجع عن القراءة، فقال: دعوه فإنه لا يرجع إلى شيء أحلى من عبادة الله عز وجل.
128 - وقيل لراهب: أين الطريق؟ يسألونه الهداية، فأشار إلى السماء وقال: ها هنا.
129 - وقدم بعض الصوفية إلى المحراب ليصلي بالناس، فوقف ثم التفت يميناً وشمالاً وقال: استووا رحمكم الله، ثم خرج، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إني استحييت من ربي أن آمركم بالاستواء، وأكون مقيماً على عوج.
130 - وقيل لأعرابية معها شاة تبيعها: بكم تبيعين هذه الشاة؟ قالت: بكذا، قيل لها: أحسني، فتركت الشاة؟ وانصرفت، فقيل لها: ما هذا؟ فقالت: لم تقولوا أنقصي وإنما قلتم أحسني، فالإحسان ترك الكل.
131 - قال الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنهما: التقية ديني ودين آبائي.
132 - قال أعرابي: من الكلام ما هو كسلك النظام، ومنه ما هو كرجيع الطعام.
133 - قصد رجل من الشعراء باب زبيدة بنت جعفر بن المنصور ببيتين مدحها بهما وهما: الكامل المجزوء
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب
فتبادر الشعراء والغلمان ليوقعوا به فقالت: كفوا عنه فإنه أراد خيراً فأخطأه، ومن أراد خيراً فأخطأه فهو خير ممن أراد شراً فأصاب.
143 - قال أبو عمرو بن العلاء: لا يزال الناس بخير ما اشتد ضرسهم وأيرهم.
135 - وقال حماد عجرد: إن كان الناس عصوا الله من حيث أراد فقد أطاعوه، وإن كانوا عصوه من حيث لم يرد فقد غلبوه.
136 - وأنشد حماد: البسيط
أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا أكرم الناس أعراقاً وعيدانا
فأنت أكرم من يمشي على قدم ... وأنضر الناس عند المحل أغصانا
لو مج عود على قوم عصارته ... لمج عودك فينا المسك والبانا
137 - قال بعض الصوفية: إذا ألفت القلوب الإعراض عن الله جل اسمه عاقبها بالوقيعة في أولياء الله تعالى.
138 - قال منصور بن عمار: لا أبيع الحكمة إلا بحسن الاستماع، ولا آخذ عليها ثمناً إلا فهم القلوب.
139 - كاتب: قادهم الله بخزائم أنوفهم إلى مصارع حتوفهم.

140 - قال أبو العباس الصولي: ما تعملت لشيء من الكلام قط إلا في شيئين: فكان ما يحرزه يبرزه، وما يعقله يعتقله.
141 - قيل لابن سيابة: ما تقول في فلان؟ قال: فيه كياد مخنث، وحسد نائحة. وشره قوادة، وملق داية، وذل قابلة، وبخل كلب، وحرص نباش.
142 - نظر مديني إلى قوم يستسقون ومعهم صبيان فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: نرجو بهم الإجابة، فقال: لو كان دعاؤهم مجاباً لما بقي في الأرض معلم.
143 - تقاضى ثابت بن عبيد الله بن أبي بكرة غريماً له بأربعين ألف درهم، فقال له الغريم: أدخلني دارك حتى أتوضأ، فأذن له، فخرج أبوه فقال له: ما لك؟ قال: حبسني ابنك، فخرج إليه فقال: أما وجدت لغرمائك محبساً إلا داري؟ هي علي، خل عنه.
144 - كان بهرام بن بهرام بن بهرام من ملوك فارس، والحارث بن الحارث بن الحارث من ملوك غسان، وحسن بن حسن بن حسن من الطالبيين، وأبو البختري وهب بن وهب بن وهب. وثلاثة سادوا فس نسق: المهلب بن أبي صفرة، وابنه يزيد، وابن يزيد مخلد وهو صبي.
145 - ويقال: كان أبو طالب عطاراً، وكان أبو بكر بزازاً، وكان عمر دلالاً يسعى بين البائع والمشتري، وكان عثمان بزازاً، وكذلك طلحة وعبد الرحمن بن عوف، وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل، وكان العوام أبو الزبير خياطاً، وكان عمرو بن العاص جزاراً، وكان الوليد بن المغيرة حداداً، وكذلك العاص بن هشام أخو أبي جهل وكان عقبة بن أبي معيط خماراً. وكان الخطاب بن نفيل مراقاً، وكان عثمان بن طلحة الذي دفع إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله مفتاح البيت خياطاً، وقيس بن مخرمة كذلك، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت؛ والأدم، وكان عتبة بن أبي وقاص أخو سعد نجاراً، وكان أمية بن خلف يبيع البرام، وكان عبد الله بن جدعان نحاساً يبيع الجواري، وكان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص بيطاراً يعلاج الخيل، وكان النضر بن الحارث بن كلدة يضرب العود، وكان الحكم بن العاص خصاء يخصي الغنم، وكذلك حريث بن عمرو بن حريث، وكذلك قيس الفهري أبو الضحاك بن قيس، وكذلك سيرين أبو محمد بن سيرين، وكان مالك بن دينار وراقاً، وكان أبو حنيفة صاحب الرأي والقياس خزازاً، وكان المهلب بن أبي صفرة بستانياً، وكان مسلم أبو قتيبة جمالاً، وكان سفيان بن عيينة معلماً، وكذلك الضحاك بن مزاحم وعطاء بن أبي رباح، وكذلك الكميت بن زيد الشاعر، وكذلك عبد الحميد بن يحيى كاتب الرسائل، وكذلك الحجاج بن يوسف وأبوه وكذلك أبو عبيد الله كاتب الرسائل وأبو عبيد القاسم بن سلام والكسائي؛ هذه صناعات الأشراف سقتها على ما وجدتها.
146 - وأما أديان العرب فإن النصرانية كانت في ربيعة وغسان وبعض قضاعة؛ واليهودية كانت في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة؛ والمجوسية كانت في تميم، منهم زرارة ابن عدس وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس؛ وكانت الزندقة في قريش، وكانت بنو حنيفة اتخذوا إلهاً من حيس فعبدوه دهراً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال رجل من بني تميم: الخفيف
أكلت ربها حنيفة من جو ... ع قديم بها ومن إعواز
147 - ويقال: سميت النصارى لقرية يقال لها ناصرة، ويقال على معنى قول الله تعالى: " من أنصاري إلى الله " آل عمران: 52.
148 - وقال بعض الصوفية: وجدت على خاتم: من ألف مسامرة الأماني، بقي في مدرجة التواني.
149 - قال الصولي: كاتبت أبا خليفة فأغفلت التاريخ فكتب إلي: وصل كتابك مبهم الأوان، مظلم البيان، فأدى خبراً ما القرب فيه بأولى من البعد، فإذا كتبت - أعزك الله - فلتكن كتبك موسومة بالتاريخ لأعرف به أدنى آثارك، وأقرب أخبارك.
150 - وقال محمد بن عبد الملك: بالقلم تزف بنات العقول إلى خدور الكتب.
151 - وأنشد: الكامل المجزوء
دعني وإيا خالد ... فلأقطعن عرى نياطه
رجلي يعد لك الوعي ... د إذا جلست على بساطه
فإن انتظرت غداءه ... خفت البوادر من سماطه
انظر إلى غلوائه ... في نطقه وإلى احتلاطه
سألت أعرابياً؛ عن الاحتلاط - بالحاء غير معجمة فقال: هو الغضب، وأنشد هذا الشعر، وليس هذا بحجة، ولكن أفادنا لأن الكلام أشهر من ذلك.
152 - أنشدنا أبو سعيد في القار للعماني: مجزوء الرجز
أما ترون الأوجه السباطا ... والقار والألسنة السلاطا

إن الندى حيث ترى الضغاطا ... وحيث وافى الموكب السخاطا
ينبذن لي أن أطأ البساطا
153 - خطب الحجاج فقال: أيها الناس إنكم أغراض حمام، وفرضة هلكة، قد أنذركم القرآن، وصفر برحيلكم الجديدان، وإن لكم أجلاً لا تؤخر ساعته، ولا تدفع مقدمته، وكأن قد دلفت إليكم نازلته فنعق بكم، وحثكم حث مستقصى، فماذا عبأتم للرحيل؟ وماذا أعددتم للنزول؟ ومن لم يأخذ أهبة الحذر، نزل به سوء القدر. هذا قد تقدم.
154 - خطب الزبير فقال: عباد الله، دعوة واعظ وهدية ناصح، إن السبيل إلى الفوز والطريق إلى الخلد قد أوضحت معالمها، ولاحت آثارها، فلا أنتم بصروفها تتعظون، ولا من سيء أعمالكم تتنصلون، انظروا إلى من كان قبلكم متعوا فما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون، انهمكوا فهلكوا، وشردوا فأخذوا، فالعقر خراب والعمار يباب، فإلا تسلكوا سبيل الحذر، تطلبكم فجائع القدر، جعلنا الله وإياكم من الواعين لما يسمع، والمتعظين بما ينفع.
154ب - قال الجاحظ: فلو كان العمل شريك المقال، لكان القوم من الأبدال، ولكنهم بحلاوة ألفاظهم، وتنسيق كلامهم وحيلهم، وحسن تأتيهم في الأمور، ملكوا قلوب الرعية، هذا قاله في الملح.
155 - قال المغيرة بن شعبة: ما خدعني غير غلام من بني الحارث بن كعب، فإني ذكرت امراة منهم فقال: أيها الأمير، لا خير لك فيها، قلت: ولم؟ قال: رأيت رجلاً يقبلها.
156 - كان نصراني يختلف إلى الضحاك بن مزاحم فقال يوماً: ما زلت معجباً بالإسلام مذ عرفتك، قال: فما يمنعك منه. قال: حبي الخمر، قال: فأسلم واشربها، قال: فلما أسلم قال له الضحاك: إنك قد أسلمت، فإن شربت الخمر حددناك، وإن رجعت عن الإسلام قتلناك، فترك الخمر وحسن إسلامه.
157 - قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما ملك رفيقاً من لم يتجرع بغيظ ريقاً.
158 - كان لعبد الله بن مطيع غلام مولد، قد أدبه وخرجه وصيره قهرمانه، وكان قد أتاهم قوم من العدو في ناحية البحر. فرآه يوماً يبكي فقال: ما لك؟ قال: تمنيت أن أكون حراً فأخرج مع المسليمن، قال: أو تحب ذاك؟ قال: نعم، قال: فأنت حر لوجه الله فاخرج، قال: فإنه قد بدا لي أن لا أخرج، قال: خدعتني.
159 - اعتذر رجل إلى أعرابي فقال الأعرابي: سأتخطى ذنبك إلى عذرك، وإن كنت من أحدهما على يقين ومن الآخر على شك، ليتم المعروف مني إليك، وتقوم الحجة لي عليك.
160 - قالت الهند: السكران تعتريه أربعة أحوال: طاووسية، ثم سبعية، قردية، ثم خنزيرية.
161 - قال المفضل بن محمد الضبي: حضرت الرشيد يوماً، ومحمد عن يمينه والمأمون عن يساره والكسائي بين يديه وهو يطارحهما في معاني القرآن، فالتفت إلي الرشيد وقال: كم اسم في قوله " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " البقرة: 137 فقلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، أولها: اسم الله عز وجل، والثاني: اسم رسول صلى الله عليه وسلم، والكفار فالياء الأولى هي اسم الله تعالى، والكاف الثانية لرسول الله عليه السلام، والهاء والميم للكفار، فقال الرشيد: هكذا أجاب هذا الرجل، وأومأ إلى الكسائي، ثم التفت إلى محمد فقال: أفهمت؟ قال: نعم.
162 - كتب إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى إبراهيم بن المهدي: من كان كله لك، وقع كله عليك.

163 - دخل الحارث بن كلدة على كسرى أنوشروان، وهو طبيب العرب، فقال له كسرى: ما أصل الطب؟ قال: ضبط الشفتين والرفق باليدين، قال: أصبت، فما الداء الدوي؟ قال: إدخال الطعام على الطعام هو الذي أفنى البرية، وقتل السباع في البرية، قال: أصبت، فما الجمرة التي تلتهب منها الأدواء؟ قال: التخمة التي إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت، قال: فما تقول في الحجامة؟ قال: في نقصان الهلال في يوم صحو لا غيم فيه والنفس طيبة والسرور حاضر، قال: فما تقول في الحمام؟ قال: لا تدخل الحمام وأنت شبعان، ولا تغش أهلك وأنت سكران، ولا تقم بالليل وأنت عريان، وارتفق بيمينك يكن أرخى لمقيلك؛ قال: فما تقول في شرب الدواء؟ قال: اجتنب الدواء ما لزمتك الصحة، فإذا أحسست من الداء بحركة فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه، فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت، وإن أفسدتها خربت، قال: فما تقول في الشراب؟ قال: أطيبه أهنوه، وأرقه أمرؤه، وأعذبه أشهاه، ولا تشربه صرفاً فيورثك صداعاً. ويثير عليك من الأدواء أنواعاً، قال: فأي اللحمان أحمد؟ قال: الضأن الفتي، واجتنبت أكل القديد والمالح والجزور والبقر، قال: فما تقول في الفاكهة؟ قال: كلها في إقبال دولتها، وخير أوانها، واتركها إذا أدبرت وانقضى زمانها، وأفضل الفاكهة الرمان والأترج، وأفضل البقول الهندبا والخس، قال: فما تقول في شرب الماء؟ قال: هو حياة البدن وبه قوامه، وشربه بعد النوم ضرر، وأقوى المياه مياه الأنهار، وأبرده أصفاه، قال: فما طعمه؟ قال: شيء لا يوصف، مشتق من الحياة، قال: فما لونه؟ قال: اشتبه على الأبصار لونه، لأنه على لون كل شيء، قال: فأخبرني عن اصل الإنسان، قال: أصله من حيث يشرب الماء، يعني رأسه، قال: فما هذا النور الذي تبصر به الأشياء؟ قال: العيون مركبة، فالبياض شحمه، والسواد ماؤه، والناظر ريح، قال: فعلى كم طبائع هذا البدن؟ قال: على أربع: على المرة السوداء وهي باردة شديدة يابسة، والمرة الصفراء وهي حارة يابسة، والدم وهو حار رطب، والبلغم وهو بارد رطب، قال: فلم لم يكن من طبيعة واحدة؟ قال: لو كان من طبيعة واحدة لم يأكل ولم يشرب ولم يمرض ولم يمت، قال: فمن طبيعتين؟ قال: كانتا تقتتلان، وكذلك لو كان من ثلاث، قال: فاذكر لي أفعال الطبائع في كلمة جامعة، قال: كل حلو حار، وكل حامض بارد، وكل حريف حار، وكل مر معتدل، وفي المر حار وبارد، قال: فما أفضل ما عولجت به المرة الصفراء؟ قال: البارد اللين، قال: فالسوداء؟ قال: الحار اللين، قال: فالرياح؟ قال: الحقن اللينة والأدهان الحارة، قال: أتأمر بالحقنة؟ قال: نعم، قرأت في بعض كتب الحكماء أن الحقنة تنقي الجوف وتكسح الأدواء، وعجبت لمن احتقن كيف يهرم أو يعدم الولد، والجهل كل الجهل أكل ما عرفت مضرته، قال: فما الحمية؟ قال: الاقتصاد في كل شيء، فإن تجاوز المقدار يضيق على الروح ساحتها، قال: فما تقول في إتيان النساء؟ قال: الإكثار مضر، وإياك والمولية منهن فإنها كالشن البالي، تسقم بدنك وتجدب قواك، ريقها سم قاتل، ونفسها موت عاجل، تأخذ منك ولا تعطيك، عليك بالشابة، ريقها عذب زلال، وعناقها غنج ودلال، تزيدك قوة ونشاطاً، قال: فأي النساء القلب إليها أنشط، والنفس بمباشرتها أغبط؟ قال: إذا أصبتها فلتكن مديدة القامة، عظيمة الهامة، واسعة الجبين، قنواء العرنين، كحلاء برجاء، صافية الخدين، عريضة الصدر، مليحة النحر، ناهدة الثديين، لطيفة الخصر والقدمين، بيضاء فرعاء، جعدة غضة بضة، تخالها في الظلماء بدراً، قد جمعت لك طيباً وعطراً، تبسم عن أقحوان زاهر، وإن تكشف عنها تكشف عن بيضة مكنونة، وإن تعانق تعانق ألين من الزبد، وأحلى من الشهد، وأبرد من الفرودس والخلد، وأذكى من الياسمين والورد، قال: فأي الأوقات الجماع أفضل؟ قال: عند إدبار الليل وقد غور، وعند إقبال الصبح وقد نور، فالبطن أخلى، والمتن أقوى، والنفس أشهى، والرحم أحلى، قال كسرى: لله درك من أعرابي أعطيت علماً، ووصله وقام إلى نسائه.
164 - قال ابن الأعرابي: إذا أردت أن يخرج ولدك ذكياً فأغضب أمه ثم واقعها، وانشد: الطويل
يجامعها غضبى فجاء مسهداً ... وأنفع أولاد الرجال المسهد

165 - قال أبو المعتمر: الناس ثلاثة أصناف: أغنياء وفقراء وأوساط؛ فالفقراء موتى إلا من أغناه الله بعز القناعة، والأغنياء سكارى إلا من عصمه الله بتوقع الغير، وأكثر الخير مع الأوساط، وأكثر الشر مع الأغنياء، والفقر يسخف الفقير، والغنى يبطر الغني.
166 - كان يقال: من أراد العلم والسخاء والجمال فليأت دار العباس، كان عبد الله أعلم الناس، وعبيد الله أسخى الناس، والفضل أجمل الناس.
176 - ضرب شرطي رجلاً فصاح الرجل: واعمراه! فرفع إلى المأمون فدعا به فقال: من أين أنت؟ فقال: من مآب، قال: أما إن عمر بن الخطاب كان يقول: من كان له جار نبطي واحتاج إلى ثمنه فليبعه، فإن كنت تطلب سيرة عمر رحمه الله فهذا حكمه؛ وأمر له بألف درهم.
168 - قال فيلسوف: إفراط العقل مضر بالجسد، وأنشد: السريع
إن المقادير إذا ساعدت ... ألقحت العاجز بالحازم
169 - وقال عمر رضي الله عنه: أشيعوا الكنى فإنها منبهة.
170 - وقع علي بن عيسى إلى ابن مرانة العطار في قصة يسأله أن يكلم أمير المؤمنين المقتدر بالله حتى يصفح عنه: من تحقق بالوزراء، وجالس الأمراء، وداس بسط الخلفاء، وماثل الكبراء، وأمر ونهى في مجالس الرؤساء، بعقل يسير، وفهم قصير، ورأي حقير، وأدب صغير، كان خليقاً بالنكبة، وحرياً بالمصيبة، وجديراً بالمحنة، وأنا أتكلم إذا حضرني الكلام فيك بما يقربني إلى الله تعالى.
171 - ووقع أيضاً إلى عامل بالثغر: قد كثرت منك الشكية، وعظمت فيك البلية، بفساد طويتك، ورداءة نيتك، وليس مثلك من يرتب لمعالي الأمور، ولا من يعتمد في صلاح الثغور، وقد وقفت من خبرك على الجلي منه، وعرفت حقيقة ما تناهى إلي عنه، فانصرف خسيس القدر، بت الله منك العمر.
172 - ووقع أيضاً: مثلك من باع العلو بالانحطاط، وجليل المرتبة بالإسقاط، وساريك عند الاحتياط، أنك بالخمول ذو اغتباط.
173 - ووقع أيضاً: وليتك من عملي جليلاً، وكنت حقيراً قليلاً، مهنياً ذليلاً، حصراً كليلاً، فانصرف عليك اللعن طويلاً.
174 - كان لعمران بن حطان زوجة جليلة جميلة، حسنة الخلق والخلق، وكان هو قصيراً دميماً سي الخلق، فقالت له ذات يوم: اعلم أني وإياك في الجنة، قال: كيف ذاك؟ قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وابتليت بمثلك فصبرت، والصابر والشاكر في الجنة.
175 - قال بعض الأطباء: إذا أخذ الترمس والحنظل فطبخا بماء ثم نضح ذلك الماء على زرع لم يقربه الجراد.
176 - وقيل: النمل يهرب من دخان أصول الحنظل.
177 - ويقال: إذا زرع الخردل في نواحي زرع لم يقربه الدبا.
178 - ويقال: إذا أخذ الأفيون والشونيز والباذروج وقرن الأيل وباذهنج وظلف المعز، وخلط ذلك ودق وعجن بخل حاذق ثم قطع قطعاً ودخن بقطعة خرب الهوام والحيات والعقارب والنمل.
179 - قال بعض الأطباء: الغلام ينهر لسبع، ويحتلم لأربع عشرة، ويتم طوله لإحدى وعشرين، ويكمل عقله لثمان وعشرين، وما بعد تجارب.
180 - قيل لبعض السلف: ما شيء أوسع من الأرض؟ قال: الحق، قيل: فما شيء أثقل من السماء؟ قال: الأمانة والبهتان على البريء، قيل: فما شيء أغنى من البحر؟ قال: القانع، قيل: فما شيء أقسى من الحجر؟ قال: قلب الكافر، قيل: فما شيء أحر من النار؟ قال: شره الحريص، قيل: فما أبرد من الزمهرير؟ قال: اليأس، قيل: فما أضعف من اليتيم؟ قال: النمام.
181 - لما اعتقت عائشة جاريتها بريرة، وكان زوجها حبشياً واسمه مغيث، مشى خلفها ودموعه تسيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: يا عم أما ترى حب مغيث بريرة فلو كلمناها أن تتزوجه؟ فدعاها فكلمها فقالت: يا رسول الله إن أمرتني فعلت، فقال: أما أمر فلا، ولكن أشفع، فأبت أن تتزوجه؛ حدثنا بهذا أبو حامد المروروذي.
182 - لدعبل الخزاعي: الكامل
أهلاً وسهلاً بالمشيب فإنه ... سمة العفيف وحلية المتحرج
ضيف أحل بك النهى فقريته ... رفض الغواية واقتصار المنهج
183 - قال أعرابي: الخير محضور الباب، والشر مهجور الجناب.
184 - وقال أبان بن تغلب: رأيت أعرابياً يعاتب ابناً له صغيراً ويذكره حقه عليه، فقال الصبي: يا أبة إن عظيم حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك، والذي تمت به إلي أمت بمثله إليك، ولست أقول أنا سواء.

185 - دخل رجل فجاءة عل بعض الشاميين وبين يدي الشامي فراريج مشوية، فلما بصر بالداخل غطى الفراريج بذيله وأدخل رأسه في جربانه وقال للداخل: انتظرني على الباب حتى أفرغ من بخوري.
186 - قال بعض الأطباء: مما يذهب رائحة الشراب من الفم مضغ قرطاس، واستفاف دقيق الأرز، وأكل الجبن المشوي والكمون والقرنفل والدارصيني.
187 - قال بزرجمهر: أنعم تشكر، وأرهب تحذر، ولا تهزل فتحقر؛ فكتبها الملك على خاتمه.
188 - قال عيسى بن مريم عليه السلام لرجل: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: فمن يعود عليك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك.
189 - مر عمر رضي الله عنه بعامل من عماله وهو يبني بالآجر والجص فقال: تأبى الدراهم إلى أن تخرج أعناقها، وشاطره ماله.
190 - وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حتى يبدو عقباك.
191 - ولما بنى عمر بن عبد العزيز بفاطمة بنت عبد الملك أسرج تلك الليلة في مسارجه الغالية.
192 - قال عمر بن عبد العزيز لولده: العبوا فإن المروءة لا تكون إلا بعد اللعب.
193 - وأنشد: الطويل
فسري كإعلاني وتلك خليقتي ... وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري
194 - قال ابن عباس: غضب العربي في رأسه، فإذا غضب لم يهدأ حتى يجرح بلسان أو يد، وغضب النبطي في استه، فإذا خرئ ذهب غضبه.
195 - قال فيلسوف: لو صور العقل لأظلمت معه الشمس، ولو صور الحمق لأضاء معه الليل.
196 - قيل ليحيى بن خالد: إنك لا تؤدب غلمانك، فقال: هم أمناؤنا على أنفسنا، فإذا أخفناهم كيف نأمنهم؟ 197 - قال عمر رضي الله عنه لغلام له يبيع الحلل: إذا كان الثوب عاجزاً فانشره وأنت جالس، وإذا كان واسعاً فانشره وأنت قائم، فقال أبو موسى: الله يا عمر، فقال: إنما هو سوق.
198 - وكان عبد الله بن عمر يقول: إلى الله أشكو حمدي ما لا آتي، وذمي ما لا أترك.
199 - كان بعض السلف يقول: ذو المروءة يكرم وإن كان معدماً كالأسد يهاب إن كان رابضاً، والسخيف يهان وإن كان موسراً، كالكلب يخسأ وإن حلي طوقاً.
200 - وأنشد: الطويل
سأعمل نص العيس حتى يكفني ... غنى المال مني أو غنى الحدثان
فللموت خير من حياة يرى لها ... على الحر بالإقلال وسم هوان
متى يتكلم يلغ حسن كلامه ... وإن لم يقل قالوا عديم بيان
كأن الغنى في أهله بورك الغنى ... بغير لسان ناطق بلسان
201 - قال رجل لروح بن حاتم: لقد طال وقوفك في الشمس، فقال: نعم، ليطول مقامي في الظل.
202 - شاعر: الطويل
تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف
203 - قيل لمديني: ما عندك من آلة الحج؟ قال: التلبية.
204 - قيل لمديني: يمكنك أن تحج، قال: ليت أمكنني القيام أو المقام.
205 - وأنشد الوافر
أظن الدهر قد آلى فبرا ... بأن لا يكسب الأموال حراً
لقد قعد الزمان بكل حر ... ونقض من عراه المستمرا
ومن جعل الظلام له قعوداً ... أصاب به الدجى خيراً وشرا
206 - قيل لمديني: ما عندك من آلة العصيدة؟ قال: الماء.
207 - يقال: الفاضل يحب أن لا يرى إلا مع الملوك مكرماً، ومع النساك متبتلاً.
208 - يقال: ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا علواً كالشعلة تصان وهي تعلو.
209 - يقال: ما العز إلا ما تحت ثوب الكد، وأنشد الكامل
العز في دعة النفوس ولا أرى ... عز المعيشة دون أن تسعى لها
210 - قيل: من أراد الراحة فيلقنع، ومن أراد الذكر فليجهد.
211 - قال بعض السلف: الأيدي ثلاث، يد بيضاء وهي الابتداء بالمعروف، يد خضراء وهي المكافأة، ويد سوداء وهي المن.
212 - يقال: إن البكاء يحدث من الخوف، والحزن، والفرح والجزع، والفزع، والوجع، والعشق.
123 - قال بعض السلف: ما طابت رائحة الإنسان إلا قل همه، ولا نقيت ثيابه إلا قل غمه.
214 - وقع علي بن عيسى إلى هشام العامل: قلتك في نفسك، وزري منظرك، ودقة حسبك، وخمول نسبك، وسقوط أدبك، وموهن قوتك، واختلال مروءتك، وضعف نيتك، يمنع من تقويمك والانتصاف منك ويحجب من تناولك بالعقوبة فقد نجاك لؤمك وأطلقتك. مقاذيرك، فأنت كما قال الشاعر: المتقارب
نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا

ولست أرضاك لي عبداً، ولو كنته لرايتك عتقك؛ احتقاراً لقدرتك، واستصغاراً لأمرك.
215 - وأنشد: الطويل
ظننت بكم ظنا فقصر دونه ... فيا رب مظنون به الخير يخلف
إذا المرء لم يحببك إلا تكرها ... فدعه ولا يكثر عليه التلهف
فما كل من تهوى يحبك قلبه ... ولا كل من عاشرته لك منصف
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تألف
216 - قول الحنف: السؤدد مع السواد، يكون له وجهان: أحدهما السؤدد يكون مع سواد الشعر والحداثة، والثاني يكون السؤدد مع العامة أي يقعدون ذلك الرجل.
217 - قال أبو اليقظان: ولى الحجاج القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي فارس، فقاتل الأكراد بها وهم يومئذ عدد كثير فأبادهم واستأصل شأفتهم، وولاه السند ففتحها، وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة، وفيه يقول الشاعر: الكامل
إن السماحة والمروءة والحجى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب سؤدد مشهد من مولد
وهو الذي جعل الشيراز معسكراً.
وولي معاذ اليمن وهو ابن نيف وعشرين سنة، وولى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله عتاب بن أسيد لثمان عشرة سنة، وحمل أبو مسلم أمر الدعوة هو ابن إحدى وعشرين سنة، وسودت قريش أبا جهل ولم يطر شاربه، وأدخلته مع الكهول دار الندوة.
218 - قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: من استغنى بالله أحوج الله الناس إليه.
219 - قال: وكان على فص ذي اليمينين: وضع الخد للحق عز؛ وكان على خاتم حاتم: جد تسد؛ وكان على خاتم سابور: الصبر درك.
220 - راودت أعرابية شيخاً عن نفسه، فلما دنا منها أبطأ فأعجلته، فقال: يا هذه، أنت تفتحين بيتاً وأنا أنشر ميتاً.
221 - قال أعرابي: أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك، ولا يحقرك معها من فوقك.
222 - قال أبو بكر بن عياش: رأيت زيد بن علي رضي الله عنهما مصلوباً زمان هشام بن عبد الملك، وكان خميص البطن، وصلب عريان فنزلت سرته فغطت عورته.
223 - قال ثعلب كان العرب تسمي الأحد أول، والأثنين أهون، والثلاثاء جباراً والأربعاء دباراً، والخميس مؤنساً، الجمعة عروبة، والسبت شياراً، وأنشد: الوافر
أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبارا
أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيارا
224 - قال ابن الأنباري: قال لي أبي، قال أحمد بن عبيد المدائني: معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن من الشعر لحكماً وإن من البيان لسحراً، وإن من القول لعياً، إن من العلم لجهلاً، قال: قوله إن من الشعر لحكماً يريد المواعظ، وإن من البيان لسحراً هو أن يكون ألحن بحجته من الآخر فيسحر من يسمعه حتى يرى أن الحق له، وإن من القول لعياً أن تعرض علمك على من لايريده، إن من العلم لجهلاً هو أن يضم العالم إلى علمه ما لا يعلمه فيجهله ذلك.
225 - قال منصور بن عمار لأهل مجلسه: ما أرى إساءة تكثر على عفو الله، فلا تيأس، وربما آخذ الله على الصغيرة فلا تأمن، وبعد فقد علمت أنك بطول عفو الله عنك عمرت مجالس الاغترار به، ورضيت لنفسك المقام على سخطه، ولو كنت تعاقب نفسك بقدر تجاوزه عن سيئاتك ما استمر بك لجاج فيما نهبت عنه، ولا قصرت دون المبالغة، ولكنك رهين غفلة، وأسير حيرة.
226 - وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله لرجل: بادر بخمس قبل خمس: شاببك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، غناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك.
227 - مر شيخ على غلام من الأعراب فقال: يا عماه، قد قصر قيدك، فقال: يا ابن أخي، أما إن الذي قصر قيدي تركته يفتل لك القيد.
228 - سمع سعيد بن المسيب رجلاً يقول: أين الراغبون في الآخرة؟ فقال له سعيد: اقلب مسألتك، وضع يدك حيث شئت.
229 - قال الزهري: كان يقال: بنو أمية دن خل أخرج الله منه زق عسل، يعني عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
230 - استوصف كوفي بصرياً الحسن فقال: فيه بهاء الملوك، وخشوع العابدين.
231 - قال ابن سلام عندما توفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مسجى: رحمك الله يا عمر إن كنت لعفيف الطرف، نقي الظرف، طيب العرف.

232 - قيل للشعبي: كيف بت البارحة؟ فطوى كساءة في الأرض ثم نام عليه وتوسد يده وقال: هكذا بت.
233 - جاء هانئ بن قبيصة بنت النعمان وهي تبكي فقال لها: مالك، لعل بعضنا آذاك؟ قالت: لا، ولكني رأيت دارك ملئت غضارة، وقل دار ملئت حبوراً إلا ملئت ثبوراً.
234 - قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بجناتها، وجئنا بالحجاج بن يوسف لغلبناها.
235 - قيل للشعبي: أكان الحجاج مؤمناً؟ قال: نعم بالطاغوت، كافراً بالله.
236 - وقيل للأحنف: إنك لتغشى سدد السلطان فتقعد ناحية، قال: أبعد فأقرب، أحب إلي من أن أقرب فأبعد.
237 - كان عمر بن عبد العزيز إذا جلس للقضاء قرأ " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " الشعراء: 205 - 206، وينشد الطويل
يغر بما يبلى ويشغل بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
238 - قال الربيع بن خثيم: قولوا خيراً واعملوا خيراً.
239 - قال الأصمعي: حدثنا ابن عمير النمري قال: دخلت أعرابية على عبيد الله بن أبي بكرة بالبصرة فوقفت بين السماطين فقالت: أصلح الله الأمير وأمتع به، حدرتنا إليك سنة اشتد بلاؤها، وانكشف غطاؤها، فجئتك أقود صبية صغاراً وأخرى كباراً، تخفضنا خافضة وترفعنا رافعة، وغشيتني ملمات برين عظمي، وأذهبن لحمي، وتركنني بالحضيض، قد ضاق بي البلد العريض، وسألت في أحياء العرب، من المرتجى المعطي سائله؟ فدللت عليك أصلحك الله؛ وأنا امرأة من هوازن، قد مات الوالد، وغاب الرافد، وأنت بعد الله رجائي ومتهى أملي، افعل بي إحدى ثلاث: إما أن تردني إلى بلدي، أو تحسن صفدي، أو تقيم أودي، فقال: بل اجمعهن لك وحياً؛ فلم يزل يجزي عليها كما يجري على عياله حتى مات.
240 - قال الأصمعي: حدثني بعض العتابيين قال: كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى رجل في حاجة: بسم الله الرحمن الرحيم، أطال الله بقاءك، وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة، أما بعد فإنك كنا عندنا روضة من رياض الكرم، تبتهج النفوس بها، وتستريح القلوب إليها، وكنا نيعفها من النجعة إجلالاً لزهرتها، وشفقة على خضرتها، وادخاراً لثمرتها، حتى مرت بنا في سفرتنا هذه سنة كانت من سني يوسف، اشتد علينا كلبها، وأخلفت غيومها، وكذبتنا بروقها، وفقدنا صالح الإخوان فيها، وانتجعتك وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك، مع علمي بأنك نعم وضع الزاد، وأنك تغطي أعين الساد، والله يعلم أني لا أعتد بك إلا في حومة الأهل، واعلم أن الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل، ولم يحضره الكثير، لم يعرف جوده، ولم تعل همته، وأنا أقول في ذلك: البسيط
ظل اليسار على العباس ممدود ... وقلبه أبداً بالنيل معقود
إن الكريم يخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرمت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود
بث النوال ولا تمنعك قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود
فشاطره ماله حتى بعث إليه قيمة نصف خاتمه، وأعطاه فرد نعله.
240ب - قال أهل اللغة: معنى شاطره ناصفه، أي بعث إليه بشطر ماله، يقال: لك شطر هذا المال أي نصفه؛ فأما قول الله تالى " فول وجهك شطر المسجد الحرام البقرة 149 أي نحوه؛ يقال: الشاطر البعيد، فأما الشطارة في كلام العامة فمردودة عند العلماء، وقيل: إن ذلك إنما قيل لأن الشطارة كالبعيد مما عليه الجمهور؛ وأما قول العامة: شطور الثوب فغير مرضي.
241 - قال أبو عمرو: الزنيم: الدعي، والمقلات من النساء: التي لا يعيش لها ولد؛ ولا أعرف أبا عمرو هذا، ولله الشيباني صاحب كتاب الجيم.
242 - وانشد الشاعر: الخفيف
عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقلهم ألذ وأحلى
لو رأوا ما لقيت من حرفة العق ... ل لطاروا إلى الحماقة رسلا
حمقي قائم بقوت عيالي ... ويموتون إن تعاقلت هزلا

243 - يقال ما النشر، وما الحشر، وما الجشر، وما العشر، وما القشر، وما الكشر، وما المشر، وما الوشر.
244 - ويقال في فن آخر: ما الأوب، وما الثوب، وما الجوب، وما الحوب، وما الذوب، وما الروب أيضاً، وما الشوب، وما الصوب، وما اللوب، وما النوب.
245 - ويقال في فن آخر: ما الدس، وما البس، وما الحس، وما الرس، وما العس، وما القس، وما اللس، وما النس.
246 - ويقال في فن آخر: ما الشائف، وما الخائف، وما الزائف، وما السائف، وما الصائف، وما الضائف، وما العائف، وما القائف، وما الرائف، وما النائف، وما الطائف، وما الآيف، وما الحائف.
وجواب كل واحد من هذه الكلمات يمر بك بعد أوراق على انتظام واتساق إن شاء الله.
247 - قال الأصمعي، قيل لأعرابي من بني كلاب: كيف تأكل الرأس؟ قال: أفك لحييه، وألخص عينيه - هذا قوله باللام وقال غيره بالباء، وله وجه - وأعرك أذنيه، وأسحي خديه، وأرمي بالدماغ إلى من هو أحوج مني إليه؛ فقيل له: إنك لأحمق من ربع، قال: وما حمق الربع؟ فوالله إنه ليجتنب العدوى، ويتبع المرعى، ويراوح بين الأطباء، فما حمق ربع يا هؤلاء؟ 247ب - وقد رأيت ابن هلال الخوزي يقرأ: ويرواج بين الأطباء، يريد جمع طبيب، فضحك به، وكان ضحكة، يقال: هو ضحكة إذا ضحك به، وضحكة إذا كان كثير الضحك، وبابه مطرد في نظائره.
247ج - وهذا الخوزي يدعي كل شيء وهو لا يقوم بشيء؛ وكان ابن هلال الخوزي وفد على قابوس صاحب جرجان، فقال في كلام دار بينهما: فهزم أعداء الله، وكسر، فزوى قابوس وجهه، وكان أمر له بأربعة آلاف درهم ولآخر بألفي درهم، فقال لحاجبه: اجعل ما لهذا لصاحب الألفين واجعل الألفين لهذا، ووالله ما يستحق هذا المقدار أيضاً، وأظن أن موفده أراد أمراً.
وهذا الانتباه ولمعرفة محمودان من كل رئيس جليل، وأمير خطير، وإنما استنكر ذلك في هذا الزمان لخلوه من أهل الأدب، وتنكره لمن تتبع الصواب وأنف من الخطأ.
248 - وأنشد: المتقارب
دع الدهر يجري بمقداره ... ويقضي عجائب أوطاره
ونم نومة عن ولاة الأمور ... وثق بالزمان وأدواره
لعلك ترحم من قد غبطت ... وتعجب من سوء آثاره
249 - اجتمع شريك بن عبد الله ويحيى بن عبد الله بن الحسن البصري في دار الرشيد فقال يحيى لشريك: ما تقول في النبيذ؟ قال: حلال، قال: شربه خير أم تركه؟ قال: بل شربه، قال: فقليله خير أم كثيره؟ قال: بل قليله، قال: ما رأيت خيراً قط إلا والازدياد منه خير إلا خيرك هذا، فإن قليله خير من كثيره. رواه لنا أبو حامد القاضي، وكان يقول: جمعت هذه الحكاية الملاحة والحجة.
250 - قال رجل لامرأة رآها على طريق: إلى أين الغزالة:؟ قالت: إلى مغزلها يا قليل المعرفة بأصحابك، فخجل الرجل.
251 - قال بنان الطفيلي: الجوذاب صاروج المعدة، اشرب عليه ما شئت.
252 - وقيل لطفيلي: لم أنت حائل اللون؟ قال: للفترة بين القصعتين، مخافة أن يكون قد فني الطعام.
253 - قال سحيم بن حفص: رأى إياس بن قتادة العبشمي شيبة في لحيته فقال: أرى الموت يطلبني، وأراني لا أفوته، أعوذ بك من فجاءة الأمور؛ يا بني سعد، قدو وهبت لكم شبابي فهبوا إلي شيبي، ولزم بيته، فقال له أهله: تموت هزلاً، قال: لأن أموت هزلاً مؤمناً أحب إلي من أن أموت فاسقاً سميناً. قال الحسن لما بلغه كلامه: علم والله أن القبر يأكل اللحم والشحم والجسم، ولا يأكل الإيمان.
254 - قال ابن أبي المدور، سمعت سعيد بن حميد يقول لما تشعث بينه وبين فضل: أصبحت والله من أمور فضل في غرور، أخادع نفسي بتكذيب العيان، وأمنيها ما قد حيل دونها ودونه، والله إن استرسالي إليها بعد ما بان لي مها لذل، وإن عدو لي عنها وفي الأمر شبهة لعجز، وإن صبري عنها لمن دواعي التلف.
255 - لمتيم جارية ابن هشام: السريع
يا منزلاً لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى
256 - لمحمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي: الكامل
وكتيبة كالليل بل هي أظلم ... فيها شعار بني النزال تقدموا
تذر الإكام صفاصفاً مسلوكة ... والبحر رنقاً ماؤه يتقسم

ولها يمين لا تشل بنانها ... ولها شمال صوب درتها الدم
نهنهت أولاها بضرب صادق ... هبر كما عط الرداء المعلم
وعلي سابغة الذيول كأنها ... سلخ كسانيه الشجاع الأرقم
257 - سمعت القاضي أبا حامد يقول: اجتمعت الحرورية في مكان يقال له حروراء، وإليه نسبوا وبه سموا، وكانوا زهاء ستة آلاف، فوقف عليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ما نقمتم علي؟ قالوا: نقمنا عليك ثلاثاً، قال: ما هن؟ قالوا: أنك قاتلت ولم تغنم ولم تسب، فإن كانوا مسلمين فما حل قتالهم ولا سبيهم، وإن كانوا كفاراً فقد حل قتالهم وسبيهم، فقال: هذه واحدة، قالوا: وحكمت الرجال في دين الله، قال الله " إن الحكم إلا لله " الأنعام: 57، قال: ثنتان، قالوا: ومحوت نفسك من إمرة المؤمنين، فإن لم تكن أمير المؤمنين فأنت أمير الكافرين؛ قال: هذه ثلاث. فأقبل عليهم وقال: أرأيتم إن أتاكم من كتاب الله وسنة نبيه ما يرد قولكم أترجعون؟ قالوا: نعم، قال: أترون أن تسبوا أمكم عائشة عليها السلام وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فإن قلتم: نعم، كفرتم، وإن قلتم: ليست أمنا، كفرتم، قال الله عز وجل " وأزواجه أمهاتهم " الأحزاب: 6. وأما قولكم حكمتم الرجال في دين الله فإن الله عز وجل حكم الرجال في أرنب يقتله محرم فقال " يحكم به ذوا عدل منكم " المائدة: 95، ولو شاء لحكم ولكن جعل حكمه إلى الرجال، وقال في بضع امرأة: " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " النساء: 35. وأما قولكم محوت نفسك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم صالح أهل الحديبية قال لي: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال له سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله فما قاتلناك، قال: فا تريدون؟ قال: اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، وامح رسول الله، ولم يكن محو رسول الله من الكتاب محواً لنبوة، وكذلك ليس اقتصاري على اسمي دون أمير المؤمنين مضيعاً حقاً ولا موجباً لي باطلاً. قال: فرجع ناس كثير منهم معه وعرفوا الحق وأذعنوا له.
وقال لنا غير أبي حامد: إن علياً لم يمح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمره، حمية للدين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرني موضعه في الكتاب، فأراه، فمحاه.
258 - قال ثعلب: أضاق أبو العالية الشامي فجعل بنو سعد بن مسلم مالاً بينهم ودفعوه إليه فقال: أنتم كما قيل في أهليكم: الطويل
وفي آل منظور بن زبان فتية ... يرون بناء المجد سهلاً صعابها
إذا ما ارتقوا في سلم المجد أصعدوا ... بأقدام عز لا تزل كعابها
259 - قال الأصمعي: لما ولي مروان بن محمد الخلافة أرسل إلى ابن رغبان الذي نسب إليه بعد ذلك مسجد ابن رغبان ليوليه القضاء، فرأى له سجادة مثل ركبة البعير فقال: يا هذا إن كان ما بك من عادة فما يحل لنا أن نشغلك، وإن كان رياء فما يحل لنا أن نوليك.
260 - وأنشد: الوافر
أرى الأيام في صور الأعادي ... تعاندني فتسرف في عنادي
كأن الدهر يطلبني بذحل ... وثأري عنده ثأر الأعادي
يرى هممي فيبعث لي شجوناً ... يفل بها يدي عن الأيادي
ولو عدل الزمان على كريم ... لما أدت يداي ولا زنادي
261 - أشرف قوم في سفينة في بحر على الهلاك فاخذوا يدعون الله بالنجاة، فقالوا لرجل: لم لا تدعو أنت؟ فقال: هو مني إلى هنا هنا - وأشار بيده إلى أنفه - وإن تكلمت غرقتم.
262 - قيل لأبي الحارث جمين: ما تقول في الفلوذج؛ قال: لوددت أنه وملك الموت اعتلجا في صدري، والله لو أن موسى لقي فرعون بفالوذجة لآمن، ولكنه لقيه بالعصا.
263 - قال أبو نواس: لما أنشدت الفضل بن يحيى فصيدتي فبلغت قولي: الطويل
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هواك لعل الفضل يجمع بيننا
فقال: ما زدت على أن جعلتني قواداً، فقلت له: إنه جمع تفضل لا جمع توصل.
264 - تخطى فتى هاشمي رقاب الناس عند ابن أبي دواد فقال له: إن الأدب ميراث الأشراف، ولست أرى عندك لسلفك أثراً.

265 - حبس المأمون رجلاً ثم أطلقه، فتصدى له فقال له: من أنت؟ فقال: غذي نعمتك وحبيس نقمتك يا أمير المؤمنين، فقال: أحسنت.
266 - ودخل رجل على ابن طاهر فهذر، فقال له عبد الله: إما أقللت فضولك وإما أقللت دخولك.
267 - قالت ابنة عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة: ما رأيت أحداً ألأم من أصحابك: إذا أيسرت أبرموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال: يا هذه، هذا من كرمهم، يأتونا في حال القوة منا عليهم، ويفارقونا في حال الضعف منا عنهم.
268 - أهدى رجل إلى ملك هدية فأظهر الغم بها، فقال له له جلساؤه في ذلك فقال: وكيف لا أغتم وهي لا تخلو أن تكون من مبتدئ أتقلد له يداً، أو من رجل قلدته نعمة فأكون قد أخذت منه على نعمتي جزاء؟! 269 - وأنشد الخفيف
وبدا النجم في السماء سحيراً ... مستقلاً كأنه عنقود
وتدلت بنات نعش فعادت ... مثل نعش عليه ثوب جديد
وكأن الجوزاء لما استقلت ... وتولت سرادق ممدود
وكأن النجوم في فحمة اللي ... ل قناديل بينهن الوقود
270 - وقال الخليل: الدنيا أمد والآخرة أبد، فقال له رجل: زدني، فقال: والباطل عند والحق جدد، فقال: زدني، فقال: والعقل عدد والجهل بدد، فسكت الرجل، فقال الخليل: لو استزادني لزدته.
271 - قيل لرجل انصرف من عند أمير: ما ولاك؟ قال: ولاني سمعه، وأعطاني منعه، وحماني نفعه.
272 - قصد رجل طلحة الطلحات بسجستان واستأذن حاجبه عليه، فقال له: بم تمت؟ فقال: لي عند الأمير يد، فقال: خبرني أرفع إليه، فقال: لا أقول إلا له، فدخل وعرف مكانه فأذن له، فمثل بين يدي طلحة فقال: ما هذه اليد التي لك عندنا؟ قال: كنت مع الأمير يوماً جالساً فأماط عن لحيتي أذى، فقال: هذه يدي لا يدك، قال: صدقت أيها الأمير، ولكن جئت لتربها، قال: حباً وكرامة.
نعود إلى الكلام في تلك الألفاظ المتقدمة فقد تباعدنا عنها، وإن استننا على العادة نسينا الرجوع إليها: 273 - أما النشر فمصدر نشر الثوب ينشره نشراً، والنشر أيضاً من نشر الخشبة على من قال منشار، والنشر أيضاً ريح الرجل، وفم الجارية، يقال: هي طية النشر. والنشر علة تعتري الإبل من أكل الأعشاب التي لا تنجع فيها. الأعشاب - بفتح الهمزة - جمع عشب، فأما الإعشاب - بالكسر - فمصدر أعشب البلد، ويقال أيضاً: بل عاشب كما يقال معشب، واعشوشب الجبل. وأما النشر - بفتح الشين - فاسم جماعة منتشرة، ويقال: أنشر الله الموتى فنشروا - بفتح النون - ؛ قال الله عز وجل " ثم إذا شاء أنشره " عبس: 22. ويقال انتشر الحبل، وكذلك الرأي، وكذلك الرجل إذا أمنى، ويقال أيضاً: منى، وقد قرئ " أفرأيتم ما تمنون " الواقعة: 58 بفتح التاء، هكذا قال يونس، وهو سيد العلماء ومقدم في الثقة. وأما النشارة فهي التي تتساقط من الشجرة إذا نشرت بالمنشار؛ والمنشور في كلام الكتاب استعارة، إذا كتبوا أمراً في كتاب وجعلوه حجة أو تذكرة أو طلاقاً.
وأما الحشر فمصدر حشرت القوم، وفي القرآن " والطير محشورة " ص: 19، والحشر في القيامة اجتماع الخلائق في الصعيد للحساب والعرض، وقانا الله شر ذلك اليوم.
وأما الجشر، جشر الصبح إذا تبدت تباشيره، والجاشرية شرب السحر، وهو غير الصبوح والغبوق، يقال أنا صبحان وأنا غبقان، ولم يسمع من الحرف الأخير. والجشر أيضاً إرسال الدواب في المروج والثواء معها.
وأما العشر، إن شئت كان مصدر عشرت القوم إذا صرت عاشرهم، وإن شئت كان مصدر عشرت ماله إذا أخذت عشر ماله، وإن شئت كان عقداً في العدد المؤنث، ومنه قوله عز وجل " وأتممناها بعشر " الأعراف: 142.

وأما القشر فقشطك الشيء وهو أخذك عاليته وصفحته وجلدته، والقشار شيء تسجر به الحمامات، وهو مصدر قشرت العود والشجرة إذا لحوتها، وذاك إذا أخذت لحاءها، ونحتها قشرتها، وكأن النحيت هو المنحوت أي ما استخلص لبه وشد نجبه، وكذلك المنتجب، ويقال: هو نجيب العود، ولا تقس عليه إلا مسموعاً؛ ويقال: حنوت العود وحنيته، ويقال: فلان محني الضلوع على العصا، ولو قيل محنو كان كلاماً سمجاً، ولم يقولوا: دعيت الله وشكيت الرجل، وإنما هذا من لفف العامة، ولكنه كلام من لم يلبس لباس الأدب، ولم يذهب لسانه بالصواب ورضي أن يكون شريك غيره بالجسم وإن باينه في المعنى، وهذا من الإهمال والفسولة وضيق العطن وسوء العادة، نعوذ بالله من الحرمان.
وأما الكشر فهو من قولك: كشر فلان إذا أبدى أسنانه تريد أج يضحك، وفلان يكاشر فلاناً إذا دمجه أي داهنه، ومعنى المداهنة أن يداهن هذا بهذا وهذا هذا، وهو استعارة ولكنه داثر خلق؛ ويقال في مجاز كلام الكتاب وعن العرب: شمرت الحرب عن ساقها وكشرت عن نواجذها، وهي جمع ناجذ وهو سن الحلم، والحلم ها هنا العقل كما في قوله عز وجل " أم تأمرهم أحلامهم بهذا " الطور: 32.
وأما المشر: يقال مشرت الشجرة. وأما الوشر فمصدر وشرت الخشبة، ويقال أيضاً: وشرت الجارية أسنانها إذا حددتها وبيضتها ونقت فروجها التي هي عمورها.
274 - وأما الأوب فمصدر آب يؤوب إذا رجع، أبني الهم إذا أتاني ليلاً، والأوب هو الإياب وهو الرجوع، ويقال جماعة أيب أيضاً؛ وأما الثوب فمعروف وهو من باب يثوب إذا رجع، ويقال في المفيق من غشية أو سكرة: قد ثابت نفسه إليه وقد ثاب عقله، قال كاتب: قد يذنب المرء ثم يتوب، ويعزب عقله ثم يثوب، ويثوب المؤذن أيضاً، وهو رجوعه إلى ما قاله، وذلك هو إعادته، الثواب ما يرجع على الإنسان من أجل عمله الصالح، وهو الجزاء على العمل، لكنه مخصوص الطائعين، فأما العصاة فلا ثواب لهم إنما لهم العقاب، وهو ما تعقب أعمالهم السيئة، جعلنا الله من أهل ثوابه بمنه ورحمته.
وأما الجوب فالترس، وهو أيضاً مصدر قولك جاب يجوب، ومنه قول الله عز وجل " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " الفجر: 9 وجبت القميص: قطعت موضع جيبه، وللجيب معنى غير الجوب ليقع الفرق بين المعنيين، ويقال الجواب إنما هو من ذلك لأنه قطع المسألة للسائل؛ وأما أجيبت القميص فمناه جعلت له جيباً، والجوبة أيضاً مكان مقطوع عن واجبه لا مراد له؛ وجب أيضاً قطع وكأنه منه بتصرف، وجب الرجل ذكره، وفلان مجبوب، وقد قيل غارب أجب بمعنى مجبوب، والجبوب الأرض، هكذا قال الثقات، وإنما أعول على ما قال العلماء وأخلص نفسي من ألسنة العائبين.
وأما الحوب فهو الإثم، وقد سمعت فيه حاب الرجل إذا أثم، الحوب - بالضم - أشهر وينفرد الكتاب به؛ وحوب أيضاً زجر للإبل، فأما الحوبة فهي الأم كأنها تؤثم بعقوقها، والحيبة الحاجة، ويقال بات فلان بحيبة سوء؛ وأما الحوباء فهي النفس - ممدود - .
وأما الذوب فمصدر ذاب الشيء يذوب، معروف، والذوب: العسل، ولعله ما لا شمع فيه، وما أحق ذلك، يقال: حققت الشيء وأحققته أيضاً؛ ويقال: ذاب لي على فلان حق أي وجب، ولعله استعارة، فقد قيل أيضاً: برد على فلان حق بمعنى وجب. فحصل - أيدك الله - هذه النكت، ولا تجعل جزاءنا عليها العيب، فالكريم ستور للعيوب مغض على الإساءة.
وأما الروب فمصدر راب اللبن يروب، إذا خثر، ويقال خثر أيضاً، ومعنى خثر: غلظ وتجمع، ويقال: اصبح فلان خاثر النفس إذا فقد النشاط، والنشاط الهشاشة، والهشاشة الخفة والطلاقة، وفلان نشيط كأنه منشوط أي محلول الفؤاد من فكر السوء، يقال: نشطت بمعنى حللت، وأنشطت بمعنى عقدت، وود فلان بأنشوطة أي فيه استرخاء، أي لا ثبات له؛ والروبة أيضاً خميرة اللبن، وهي أيضاً قطعنة من الليل، وقوم روبى أي نيام، وأما رؤبة فاسم الراجز، وإنما قلت بلا ألف ولام لشهرته كأنه عروف غير منكر، وهو مأخوذ من قولهم: رأبت الشيء إذا شعبته وأصلحته، ويقال: أشعبته بمعنى فرقته، وشعوب اسم المنية، معروفة، ولا يصرف، هكذا قال الناس.

ولقد رأيت رئيساً قد كتب ربأت مكان رأبت فلما نبهته أنف من كلامي، وعدل إلى الحيلة فقال: يقال رابت كما قلت أنت، وربأت كما كتبت أنا، وهو مثل حديث جندب. فلما وقفت على سوء صحبته للأدب، وجنوحه إلى القحة، وظنه أن هذا يشككني في صوابي، ويدفع عنه ما لحقه من هجنة الرد، أمسكت إمساك متعجب ممن يتجاهل على علم ويتغاضى عن بصيرة، ويوطئ نفسه العشوة ويكذب عقله. وهذا داء فقد طبيبه، وعلة أعوص علاجها بالناس، ومن كان كذلك لم يؤمن على مال، ولم يوثق به في حال.
وأما الشوب فالخلط، ومنه شاب الرجل إذا ابيضت لحيته كأنه خلط سواداً ببياض، وكأنه الأشمط، هذا لازم؛ فأما إذا أردت شبت شيئاً بشيء فذاك على التعدي، والفرق بين وشبت - بضم الشين - وشبت بكسر الشين، فقد وضح فيما مضى؛ والشوائب جمع شائبة، وتقول: هذا صاف وهذا مشوب، وسمعت قوماً يقولون: العالم مشوب، فاستزدتهم فقالوا: نعم، بالخير والشر، والحق والباطل، والصلاح والفساد، والحسن والقبيح، والحجة والشهبة، والراحة والتعب، والنجوة والعطب، والسرور والحزن، والنجاح والخيبة؛ قالوا: وهذا على الترتيب يدل على أمر عجيب، وقال الله عز وجل " ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " الذاريات: 49.
وأما الصوب فهو صوب الغمام، وكنت أسمع البادية تقول لي إذا سألتها على الطريق والمسلك: خذ في ذلك الصوب، خذ في هذا الصوب، كأنهم يريدون الناحية؛ وقلت: سمعت البادية، هذا كثير من كلامهم وأنا جار على السماع. وأما السهم فيقال فيه صاب يصيب، ولعل المصدر صوب، وما أحقه أي ما أتيقنه، ويقال أيضاً: أصاب السهم، هكذا قال يعقوب، وهو ضابط، في كتابه في: أفعل وفعل؛ ويقال: هذه سهام صياب، وسمع في الأمثال: مع الخواطئ سهم صائب، والخواطئ - مهموز - يكون من خطأ وأخطأ وكأنها جمع خاطئة، وأما الخواطي - بحذف الهمزة - فجمع الخاطية، وهي التي تخطو الخطوة، ويقال الخطوة بالفتح أيضاً، وقد يجوز أن تحذف الهمزة وأنت تريدها، ولكن الفرق ما سلف، فلا تعمل ما تحب لما يجوز، فإن الواجب لا يسد مسد الجائز، وإن كان بعض الجائز ينوب عن الواجب. وكأن الصواب من الكلام من الصوب، لأن الصوب من المكان ومن الغمام استبان فاستوى، كذا القطر وكذا المسافة؛ وأما الصواب - بالهمز - فجمعه صئبان، ويقال: صئب رأسه إذا وقعت فيه صغار القمل وآذته، وهذا باب ضيق ومركب صعب وأنا من شرحي له على خطر. وتعال في الفن الآخر: 275 - أما الدس فمصدر دس يدس دساً، قال الله عز وجل " أيمسكه على هون أم يدسه في التراب " النحل: 59، والدساس: دابة، كأن تدس نفسها؛ ويذكر في الكلام: اندس، وما عرفته ممن يستنام إليه ويعقد الخنصر عليه، ومعنى يستنام: يسكن، وهو من النوم لأن السكون يصحبه، ويقال: نامت حقيقة فلان إذا أخبروا من جبنه وتكذيبه وإحجامه ونكوله، يقال: كذب فلان إذا رجع عن قوله فكأنه كذب نفسه حين أقدم وتكلف، وكذب ناصره حين زعم انه شجاع؛ ويقال أيضاً: خامت حقيقته، وخام فلان عن قرنه، والقرن - بكسر القاف - القرين، والقرن بفتح القاف، تقول: هو على قرني أي على سني، وهو قرني من غير على.
وأما البس فاللت، واللت هو البل، يقال: هذا سويق مبسوس أي مبلول، وكأنه لا بد في البس من المرس لأنه يقال دهن مبسوس على أنه مبلول، فأما قول العامة " بس " في معنى حسب فالبس كالفت، يقال بسست الخبزة إذا فتتها، وقال جل وعز " وبست الجبال بسا " الواقعة: 5 كأنه من فتتت تفتيتاً وفتت فتاً، الشيء مفتوت ومفتت وفتيت، ويقال: فتوت؛ والبسيسة: طعام العرب، والبسوس: اسم ناقة هاجت بسببها حرب.
وأما الحسى فمرة من حسَّ بمعنى قتل، من حسهم بالسيف ومنه قوله عز وجل " إذ تحسونهم بإذنه " آل عمران: 152 ومرة من حسست الدابة، وقد مرت هذه الكلمة شافية، ولهذا أقللت ها هنا.
وأما الرس فيقال إنه بئر، قال الله جل وعز " وأصحاب الرس " الفرقان: 38، وقيل في الرس مصدر رسست بين القوم إذا سفرت، ورسيس الهوى من هذا.
وأما العس فمصدر عس الرجل بالليل إذا نفضه، ومعنى نفضه طلب في الظلمة من يرتاب به، ومنه العسس، ويقال " والليل إذا عسعس " التكوير: 17 أي إذا أظلم.
وأما القس فواحد القسس وتقسسه تسمع صوته، وقسست أثر القوم، إذا تتبعته قساً.
فأما اللس فمصدر لست العير النبات إذا مكنت فاها منه وتناولته، ويقال في المثل: قلما تبقى على اللس.

وأما النس فالشوق، والمشوق منسوس، ويقال: كانت مكة ناسة لأنها كانت تخرج الجاني.
وقد بقيت ألفاظ يسيرة سنأتي عليها ها هنا مخافة أن أنساها، وقد وعدت في الكتاب أشياء كثيرة، قصرت في إنجاز كثير منها للطول وقلة المعين، وأظن أني قد قرنت الملل بفؤادك، وجلبت الثقل إلى نفسك بهذا الفن الذي أنا فيه، فما أصنع والكلام كله متدافع، وليس منه شيء إلا وفيه غرض وله معنى وعليه معول.
276 - نعم، فأما الشائف فهو الجالي، أعني الذي يجلو الشيء، وليس هذا الجالي من الجالي الذي ينصرف عن بلد بشيء في المعنى، وإنما يلتقيان في اللفظ، والشيء مجلو ولا يقال مجلي؛ وتقول شفت الشيء أشوفه شوفاً، وإذا قيل: ما الشوف فهذا هذا. وأما السوف فهو شم التراب والطريق وغيرها، ومنه المسافة، هكذا قال البصير بالاشتقاق، وأما " سوف " فحرف يدل على الأفعال فيقررها عما مضى وعما حضر إلى ما يكون بعد ويستقبل، تقول: سوف يقوم هذا، وهي شقيقة السين في قولك: سيقوم هذا، ليس بينهما فضل.
وأما الخائف فمشهور، والخوف بين القوم، قال يعقوب: تقول: أخفتك، ولا تقول: فزعتك، ولكن فزعت، وتقول: خفت منك، هذا قد جاء كذا؛ وفرس خيفاء: إذا كانت إحدى عينيه زرقاء والأخرى كحلاء، كأنها قد نقصت عن شبه الآخرين؛ والخيف ما انحدر من الجبل وتصعد عن المسير، هذا أيضا للنقص العارض في المكان؛ والناس أخياف: مختلفون من ذلك لأنهم يتفاوتون، أي هذا يفوت هذا وهذا يفوت هذا، فالنقص بينهم سجال؛ والخيف جمع خيفة، وتقول: هذا طريق مخوف إذا كان يخاف فيه ولا تقل: منه. ويقال: وجع مخيف إذا كان الناظر يخافه على صاحبه أو يخاف مه على نفسه، هكذا قال العلماء منهم يعقوب والفراء.
وأما الزائف فإنه يقال: درهم زائف إذا كان بهرجاً أي ستوقاً أي فاسد الضرب غير متعامل به، ويقال أيضاً: زيف، وصرف الفعل منه فيقال: زيفت الدرهم، والزائف أيضاً من قولك: زافت الحمامة والمرأة إذا تبخترت وتطاولت وأقبلت.
وأما السائف فصاحب السيف، وسفت الرجل إذا ضربته بالسيف، وسفت الشيء - بالضم - إذا أدنيته من أنفك للشم والإشمام والتشمم، كل ذلك واحد، وأما السواف - بالضم والخفة - فداء ينال الإبل.
وأما الصائف فالذي ينزل في الصيف مكاناً معروفاً، يقال: صاف فلان بكذا وكذا إذا كانت صيفيه هناك، والصائف أيضاً السهم الذي يحيد عن الهدف؛ وكبش صاف أي كثير الصوف، وشيء صاف لا كدر فيه، والمصيف كالمربع، والمشتى كالمخرف، وهي أماكن النازلين بها في هذه الفصول من الزمان المعروف.
وأما الضائف فهو من ضفت فلاناً إذا كنت ضيفه، وأضفت فلاناً إذا كان ضيفك، وكأن ضفته ملت إليه، وأضفته أملته، كما يقال: أضاف كذا إلى كذا إضافة، هذا ذاك بعينه، ولكن الضيافة تفردت بمعنى، والإضافة تميزت بمعنى، وكلاهما معروفان في الأصل، وقول الكتّاب انضاف هذا إلى هذا، وسينضاف كلمة خطأ، كذا قال أبو سعيد السيرافي سمعت ذلك منه لفظاً، وتتبعت ذلك في كلام الأولين وهم الحجة فما عثرت عليه؛ يقال: ضيف وضيفان وأضياف وضيوف كل ذلك معروف، قال الله تعالى " إن هؤلاء ضيفي " الحجر: 68 وقال " فأبوا أن يضيفوهما " الكهف 77.
وأما العائف فيكون من وجهين، أحدهما من العيافة وهي الزجر، ويقال له العياف، وسمعت من يحكي فيه المعتاف، والوجه الثاني يكون من عفت الشيء إذا كرهته، وفي الأثر: ما عاف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه؛ وهذا يقال فيه العائف، والشيء معيف أي مكروه، ومضارع هذا أعاف، ومضارع ذلك أعيف، وليس المعوف من هذا، والعوف يقال هو المال، هكذا قال بعض الثقات، وقال أبو زيد الأنصاري: العوف الذكر، يقال لمن أصبح بانياً معرساً بأهله: نعم عوفك.

وأما القائف فهو م يقفو شيئاً أي يتبعه، كأنه أخذ من القفا، لأنك إذا اتبعت غيرك كنت خلفه ومقابلاً قفاه، وقال الله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم " الإسراء 36 أي لا تتبع ولا تعمل. فأما القفية فطعام طيب يرفع لمن يكرم حتى إذا حضر قدم إليه، وقافية الشعر ما انساق الكلام الموزون إليه، وانقطع تمام البيت عليه، والتفقية صناعة الشاعر والساجع، كأنما يقفوان كلاماً على وزن واحد، قال الله تعالى " ثم قفينا على آثارهم " الحديد: 27 أي أرسلنا وراءهم. والقائف عند العرب الذي يقفو أقدام السالكين فيقول: هذه قدم فلان، والشافعي رحمه الله يلحق الولد بحكم القائف إذا قال هذه القدم خلقت من هذه القدم، وكان المدلجي منهم في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وشهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ويقال لصناعة هذا القيافة، قال أبو حامد: وبنو مدلح مخصوصون بهذا الشان، ولهم إصابة ظاهرة وحذق معروف مشهور، والعرب تعترف لها بذلك وتسلم. قال أبو زيد: يقال: وأخذ فلان بقاف رقبته وقوف رقبته، يقال: قاف يقوف فهو قائف، مثل: طاف يطوف فهو طائف.
وأما الرائف فهو الموصوف بالرأفة وهو الرؤوف معوض، إلا أن الفعول أجمع للصفة، هكذا المعنى في بنية الكلام في الأفعال، كما أن مفعالاً أكثر من مفعول، وأما فعال فقال بعضهم: هو أعرف من فعلو، وقال آخر: بل فعال أعرف، وزعم أن قول الله تعالى " فعال لما يرد " هود 107 شاهد بذلك، وقال آخر: بل هما يتقاسمان المعنى سواء، وليس أحدهما كالآخر، هكذا قال. والرأفة رقة تعتري طبائع الصالحين، هذا حقيقتهما في الخلق، فأما الله تعالى فرائف ورؤوف، أي يجزي جزاء كأنه من الرقة وليس بها، والصفات الجائزة بين الخلق، الدائرة بين الناس على طرف الحقيقة هي منفية المعاني عن الله تعالى، مطلقة الأسماء على الله، فإذا رأيت الله تعالى يقول " قد سمع الله قول التي تجادلك " المجادلة: فلا تقس ذلك على قد " سمع زيد " ، فإن السابق إلى النفس من معنى سمع زيد مفهوم، ومثل هذا ومعناه صحيح، وهذا ليس بمطرج على خالق هذا السمع والسامع والمسموع، لأنه لا يتلبس بما خلق ولا يتم بما نقص، والكلام في هذا أعرف مما طال الخوض، وهذا التخريج والتعريف إنما هو كله ليقوي منتك، وتقف على عين العلم همتك، وتطلق من غل الجهل رقبتك، فانظر كيف تكون لنفسك، فإني قد أعذرت وانذرت، وقلت ونقلت، وقومت وعدلت، وبلغت غاية مثلي في الاجتهاد، فالحق نهاية مثلك في حسن الارتياد، ولا تشغل بالك ببعض ما قصرت ودللت على نقصي به، فإن ذلك يستردفك عن حظك، ويسوي بينك وبين من هو أنقص منك، ولكن خذ نفسك بحسن هذا الكتاب ودع قبيحه، ليس عليك تبعته، والسلام.
فأما النائف فهي في ناف على الشيء وأناف إذا أشرف عليه، ومنه مناف في بني عبد مناف.
وأما الطائف فهو الخيال، وهو الذي يطوف بالبيت، بيت الله الحرام، وطاف الخيال يطيف، هكذا السماع، وأطاف يطاف إذا برز للغائط، ويقال: قد يبس طوفه في جوفه، ويقال للطائف الذي هو الخيال الطيف أيضاً، والطيف مه دليل على يطيف. فأما أطاف فلان به فمعناه صار طائفاً به كأنه أطاف أمره، وطاف هو فاعل الأمر، بتعدية الألف؛ والطف مكان بالعراق معروف، والطائف بلد وراء مكة، وكان الحجاج منه.

وأما الآيف فكأنه من الآفة، يقال: إيفت الشجرة الأرض فهما مؤوفتان، وإياك أن تقول ما يقول المتكلمون مأووف فإنه مردود، وليس للمتكلمين حجة في اللسان فضلاً عن أن يكونوا حجة في المعاني، لأن حقيقة المعاني لا تثبت إلا بحقائق الألفاظ، وإذا تحرفت المعاني فذلك لتزيف الألفاظ فالألفاظ متلاحمة متواشجة متناسجة، فما ثلم هذه فقد أجحف بهذه، وما نقص من هذه فسد من هذه، وليس الشأن على أن يفهم من أعجمي طمطمته فإن ذلك المفهوم لم يكن عن تمام اللفظ وصحة التأليف، وإنما حدث بدلالة ما سمع على ما كان قاراً في الصدر، ومنسوخاً عند العقل، فلا يغرنك ذلك فتظن أنك متى سمعت كلاماً آخر فقهته كذلك، أو قسته إلى هناك، وما أخص العربية بهذا بل كل لغة فقيرة إلى مقادير الخطاب ورسوم الصواب، فإن الأغراض إلى ذلك العلم تتوافى على تلك الطريقة، ومتى ظهر بها الزيغ مال بها إلى التناقص والفساد والمحال والخلل على قدر ذلك، وأظن العربية أحوج إلى ما خطبنا من كل لغة لاتساع طرقها، وتزاحم فرقها، وتنافر أوانسها، وتواصل وحشيها، واختلاف أسبابها استعارتها، وتباعد أقطار الصواب منها، يدلك على هذا القول وعلى ما يتلوه مما يطول به الكلام تصرف وجوه التأويل في حكم أنواع الاحتمال.
وأما الحائف فهو اسم لمن حاف أي ظلم، والحيف والإخفاء والحفاء والحف والتحيف والتحوف والحفوف متقاربة المعنى فافطن لذلك، فقد أبرمت هذا الفصل إبراماً، وأظن أني قد استوجبت من الناظر فيه ملاماً، وقد مر في عرض الكتاب ما هو مفصح عن هذه الخبايا، فاسمح لنفسك بالنظر فيه يسمح لك بالظفر به، جعل الله الخير إذاءك، والسلامة لباسك، والإحسان عادتك، بمنة ولطفه.
يجب أن تأخذ فيما سقنا كتابنا عليه من النتف والأخبار والنوادر والأسرار، والله أسال صدراً فسيحاً بالصبر، وإيماناً قوياً على الطاعة، ويقيناً مقوماً للدنيا، وعاقبة ميسرة بالنجاة، ومصيراً إلى الله تعالى بأداء ما وجب له، وحسن الظن به فيما خولف فيه، إنه أكرم مسؤول وأعظم مأمول.
277 - قيل لبعض المغفلين: ما تقول في معاوية؟ قال أقول: رحمه الله ورضي عنه، قيل: فما تقول في ابنه يزيد؟ قال : أقول: لعنه اله ولعن أبويه.
278 - مدح أعرابي رجلاً فقال: هو والله فصيح النسب فسيح الأدب، من أي أقطاره أتيته انثني إليك بكرم المقال وحسن الفعال.
فصيح النسب حلو جداً، وهو استعارة، إلا انه ها هنا لاصق بالمعنى وذلك أنه أشار إلى صحة النسب سلامة العرق وكرم المنبت؛ وأما قوله فسيح الأدب، فقد والله جمع بين غزارة الموصوف في أدب النفس والعلم، وهذا نمط لا يتسع الكلام فيه على جميع ما يمر في الكتاب، ولو أمكن ذلك لبلغ الكتاب عشرة آلاف ورقة أو أكثر.
279 - وصف أعرابي قوماً فقال: صدورهم قبور الأسرار، وسيوفهم آفات الأعمار.
280 - وصف ابن المقفع رجلاً فقال: رفعه التقتير عن التقدير، وحطه التبذير عن التدبير.
281 - وصف رجل آخر فقال: هو أحلى من رخص السعر، وأمن السبل، ودرك الماني، وبلوغ الآمال.
282 - ووصف أعرابي رجلاً فقال: نعم حشو الدرع، ومقبض السيق، وصدر الرمح؛ كان إذا لوين أحلى من العسل، وإذا خولف أمر من الحنظل.
283 - وذم أعرابي رجلاً فقال: عبد البدن، حر الثياب، عظيم الرواق، صغير الأخلاق، الدهر يرفعه، ونفسه تضعه.
284 - وصف أعرابي آخر فقال: إن أتيته احتجب، وإن غبت عنه عتب، وإن عاتبته غضب.
285 - وقال الرياشي: ذم أعرابي رجلاً فقال: ليس له أول يحمل عليه، ولا آخر يرجع إليه، ولا عقل يزكو به عاقل إليه.
286 - شاعر الكامل
ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ... إن الكلاب طويلة الأعمار
187 - أنشد ثعلب الطويل
حسبتك إنساناً على غير خبرة ... فكشفت عن كلب أكب على عظم
لحى الله رأياً قاد نحوك همتي ... فأعقبني طول المقام على الذم
288 - كاتب: قد عرضت لي قبلك حاجة فإن نجحت فالفاني منها حظي والباقي حظك، وإن تعذرت فالخير مظنون بك، والعذر ممهد لك.
289 - كاتب: من توسل إليك بغير فضلك كان خارجاً من حكم الأدب، داخلاً في حد النقص، إذ كان محالاً أن يستعان بالمفضول على الفاضل، وبالناقص على الكامل.

290 - كاتب: من كاتب الرغبة إليه غضاضة وذلاً، فقد جعل الله الرغبة إليك عزاً ونبلاً، وذلك لخلال فيك خار الله تعالى لك فضلها، منها أنك توطئ ذوي الأمل منك كنفاً سهلاً، فتسهل سبيل الرغبة، وتقدم متأخر الصلة، ومنها أنك ترى للآمل عليك حقوقاً تلزمك رعايتها، وحرمة توجب عليك القيام بواجبها، وهمتي أدام الله عزك، التي اعتمدت بها على فضلك، أن تجعلني في عداد من يرجو يومك وغدك، وأن تضمني في دهماء عبيد شكرك، خدم طاعتك.
291 - قال يزيد الراوية: كنت عند المهدي، فجاء رجل فسأله فأعطاه، وسأله آخر فأعطاه، وعلى هذا، فقلت: يا أمير المؤمنين قد أصاب فيك القائل حيث يقول: الخفيف
صم عن منطق الخنا وتراه ... حين يدعى للمكرمات سميعاً
قوله أعط ذا وذاك وهذا ... لم يقل لا مذ كان طفلاً رضيعاً. فأمر لي بألفي دينار.
292 - قدم بعض المغفلين للصلاة على جنازة امرأة فقال: رب، إنها كانت تسيء خلقها، وتعصي بعلها، وتبذل فرجها، وتخون جارها، فحاسبها حساباً أدق من شعر آستها.
293 - قال ابن عائشة: كان للحسن بن قيس بن حصن ابن أخي عيينة بن حصن ابن رافضي وابنة حرورية وامرأة معتزلة وأخت مرجئة، فقال: أراني وإياكم طرائق قدداً.
294 - وقف مديني على قاص وهو يذكر ضغطة القبر فقال: يا قوم كم في الصلب ن الفرج العظيم ونحن لا ندري، فقال صاحبه: إنا نستصلب إن شاء الله تعالى.
295 - أخذ الطائف شارعة وهو سكران فقال: احبسوا الخبيث، فقال: أصلحك الله علي يمين الطلاق أن لا أبيت بعيداً عن منزلي، فضحك وخلاه.
296 - سافر أبو الغريب إلى الجبل ثم عاد سريعاً، فقيل له: لم عدت؟ فقال: آخذ امرأتي فإني تركتها ببغداد، وكانت تزني، وكنت بالجبل أزني، فقلت: تزني جميعاً في مكان واحد أملح من أن نتفرق فتقل المؤونة.
297 - وكان الواجب أن نذكر شيئاً من تفسير ما تضمنت الأبيات التي رواها ابن الأعرابي، ولكن عرض الخلل على حسب ما قد عم الوقت، والفرج مأمول من الله سبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء؛ والآن نقول في حروف منها ما يكون بياناً لها، وإنما أفعل ذلك بها خصوصية لشغفي برصفها، وصدق المرمى بها، وجودة متنها، وكثرة مائها، وكل حسن مخدوم، وكل طيب شهي، وكل كريه مجتنب، وكل قبيح مقصي.
289 - أول الأبيات: الكامل المجزوء
المرء يكدح للحيا ... ة وحسبه خبلاً حياته
المرء هو الإنسان، وخلوه من أمارة التأنيث دليل على التذكير، والمرء مذكر على هذا الذكر، والمروءة هي الإنسانية، والإنسانية لم تسمع من العرب لكنها مقيسة بالتوليد على كلامهم؛ وأما قول أبي تمام: الكامل سميت إنساناً لأنك ناس خطأ، كذا قال أبو سعيد السيرافي. وفلان يتمرأ بنا أي يبدي مروءنه بسوء القول فينا، يقل امرأة وامرأتان ونساء ونسوة، والمراء والمماراة متقاربان عند القائل بالاشتقاق على تعسف في التأويل، وإنما أقول بالواجب ولا أتعدى الحد في ذلك.
والكدح: المشقة، وفي القرآن " إنك كادح " الإنشقاق: 6، والمكادح منه، والخبل: الفساد، والارفتات: التكسر. والماضغ يدير أضراسه.
ويهدا بعد ما انصاتت قناته يريد ينحني بعد الشطاط، وكلول البصر: سوء البصر، ويكمه سمعه أي تثقل أذنه، والكمة في العين معروف، ولكن هذا قيل هكذا، ونهي حصاته يعني يضعف عقله، يقال: وهي الشيء يهي وهيا، وأوهاه فلان يوهيه إيهاء، وفي الأمثال: الرجز
خل سبيل من وهي سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه
والحصاة: الفهم، وقيل العقل، ومنه قول طرفة: الطويل
وإن لسان المرء ما لم تكن له ... حصاة على عوراته لدليل
رأيت كتاباً للأزهري عند الهروي صاحب اللغة يقول فيه: حصيت مأخوذ من الحصى؛ وأنكر ذلك أصحابنا ببغداد.
وتقف جلدته: يريد تقحل وتجف، ويقال انقحل إذا كان شيخاً، قال الأصمعي: زعموا أنه من القحولة والنون زائدة، يقال: قحلت الأرض وأقحلت.
وتعرى من ملابسها شواته يعني فروة رأسه تصلع، والصلع الاسم، وقيل إن شواته أطرافه وأنها تعرى من البضاضة والحسن؛ ويغيب شاهده: أي يغيب شبابه.
ويشهد غيبه وتموت ذاته

أي تخمد شرته وتذهب ميعته، والميعة: الجري، وهو من ماع الشيء إذا سال، وماعه غيره وإنماع قليل مرذول، وهو في كلام الفقهاء كثير.
ويمل من برم: فالبرم ها هنا الضجر، وهو الإبرام، وكأنه التضايق، من أبرم حبلاً إذا فتله، فقد منع القضاء من إثباته، ورجل برم: أي ضجر، والمبرم كالملح، والإبرام والنقض في الأمور مستعار من الحبل، وقال بعض وزراء خرسان: ريما قضينا حاج الناس برماً لا حرماً، أي من الضجر لا من طباع؛ وما كان أغناه عن إظهار هذه السوأة. والحاج جمع حاجة، وأبى المبرد أن الحوائج صحيحة في جمع حاجة.
وقوله: وقد فرطت لداته، أي تقدم أقرانه وأترابه، والترب في المؤنث أيضاً.
299 - سألني بعض الفقهاء فقال: أين مولودك؟ وهو يريد: أين ولدت، فقلت: ما لي مولود، فقال: سبحان الله، وزاد تعجبه، فقلت: لعلك تسألني عن مكاني الذي ولدت فيه؟ قال: نعم، قلت: فهلا قلت: أين مولدك؟! قال: فخجل هو من الحاضرين، وذاك أردت ليكون خجلة باعثاً له على الأدب، أو على إكرام الأديب، وهذا الفقيه هو الداركي، وكان ركيك اللسان، فدم الطباع، سيء الخلق، شهوداً بالزور، خبيث الدين، ومات ببغداد سنة خمس وسبعين وثلاثمائة في شوال، ومات الأبهري بعده بجمعة.
وقال لي رجل من العجم يدعي العلم ويزعم انه منطقي: اقعد حتى تتغدى بنا، قلت: لا أبلانا الله بذلك، قال: فلم قلت هذا؟ قلت: لأنك أتيت بكلام لو فقهته عن نفسك لما أنكرته على جليسك، قال: فما هو؟ فعرفته الفرق بين الخطأ الذي قد أتى به والصواب الذي لم يوفق له، فنبا طرفه بعد ذلك عني، وثقل حجابه علي، فأف له ولأضرابه، فما شين الدنيا والدين إلا بقوم هذا منهم؛ رزقنا الله الأدب الذي به نعلم ما نقول، وإليه نفزع فيما نعمل، وكفانا شر كل ذي شر بمنه. فاعذر - أيدك الله - في هذا التصرف كله، وكن من إخوان الصدق يزدك الله به شرفاً إن شاء الله.
كان أبو داود السجستاني ثقة محدثاً راوية، زعموا أنه في أيام حداثته وزمان طلبته للحديث وكتابته، جلس في مجلس بعض الرواة يكتب، فدنا رجل إلى محبرته وقال له: أستمد من هذه المحبرة؟ فالتفت إليه أبو داود فقال: لا، فانخزل الرجل حياء، وأقبل عليه أبو داود وقال: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فسمي أبو داود منذ ذلك اليوم حكيماً.
وأنشد المنسرح
أختان إحداهما إذا انتحبت ... تبكي كباك بعبرة حرى
وما بها علة ولا سقم ... تضحك مها الأخية الأخرى
يقال إن الشاعر أراد بهما السماء والأرض، ويقال إن ثعلباً أنشدهما.
قال الحسن بن عثمان القنطري: دفنت كتبي وأقبلت على العبادة والتشمير والاجتهاد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام كأنه صعد المنبر، وأشار بيده وفيها أقلام محشوة طيباً ومسكاً، فجعل يناول أقواماً قلماً قلماً، فلما تقدمت ووقفت بين يديه وقلت: يا رسول الله ناولني قلماً، فقال: كيف أناولك وقد دفنت علمي؟ فأصبحت فحدثت بهذا الحديث؛ حدثني به أحمد بن منصور الحافظ.
قال بشر بن الحارث: قال الله تعالى في بعض كتبه: إن مما عاقبت عبادي به أني ابتليتهم بفراق الأحبة.
للراضي: المنسرح
يصفر وجهي إذا تأمله ... طرفي ويحمر وجهه خجلاً
حتى كأن الذي بوجنته ... من دم جسمي إليه قد نقلا
قال إياس بن معاوية: ما كلمت أحداً بعقلي إلا أصحاب القدر، فإني قلت لهم: ما الظلم في كلام العرب؟ قالوا: أن يأخذ الرجل ما ليس له، قلت: فإن الله تعالى له كل شيء.
قال عمرو بن العاص: إمام عادل خير من غيث وابل، وأسد حطوم من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم، ولأن تمازح وأنت مجنون خير من أن يمازحك مجنون، وزلة الرجل عظم يجبر، وزلة اللسان لا تبقى ولا تذر.
وقال: يا بني استراح من لا عقل له.
وأنشد: الكامل
ما زلت منتظراً لوعدك مفرداً ... بالبيت مرتقباً لقرع الباب
حتى يئست فقلت قول مدله ... مزج الدماء بعبرة تسكاب
يا كاذباً في وعده بلسانه ... من لي بعض لسانك الكذاب
قيل ليوسف بن أسباط: ما لا زهد؟ قال: أن لا تفرح بما أقبل، ولا تأسف على ما أدبر.

وقف ابن عيينة على ابن معروف وهو على رمل بطحاء مكة واضعاً خده عليه، فقال له: يا أبا محمد إنه من ترك شيئاً من الدنيا عوضه الله تعالى، قال: بأي شيء عوضك الله مما تركت؟ قال: الرضا بما أنا فيه.
لما حضرت حذيفة بن اليمان رحمه الله الوفاة قيل له: ما تشتهي؟ قال: الجنة، قيل: فما تشتكي؟ قال: الذنوب، قيل: أفلا نداويك بدواء؟ قال: دواني رحمة ربي، ثم قال: انظروا هل أصبحنا؟ قالوا: نعم، قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، اللهم إنك تعلم أني لم أعن غادراً على غدر، ولقد عشت على خلال ثلاث: الضعة أحب إلي من الرفعة، والفقر أحب إلي من الغنى، ومن حمدني أو لامني في الحق سيان.
وقال بعض الصالحين: مررت براهب في صومعته وهو يبكي ويقول: أمر قد عرفته فقصرت في طلبه، وحدت عن سبيله فأبكاني يوم مضى وبقيت حسرته، ونقص له أجلي، ولم ينته إليه أملي.
قال الأحنف: من حق الصديق أن يحتمل له ثلاث: ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة.
قال الأصمعي، سمعت أعرابياً يقول: العاقل حقيق أن يسخي نفسه عن الدنيا علمه بأنه لا ينال أحد مها شيئاً إلا قل انتفاعه به، وكثر عناؤه فيه، واشتدت ندبته عند فراقه، وعظمت تبعته بعد وفاته.
قال هرم بن حيان: صاحب الكلام إلى إحدى منزلتين، إن قصر فيه حصر، وإن أغرق فيه أثم.
وقال أيضاً: ما آثر الدنيا على الآخرة حكيم قط، ولا عصى الله كريم.
قال الأصمعي، قيل لأعرابية: ما أحسن عزاءك عن ابنك؟ فقالت: إن فقدي ابني أمنني من المصائب بعده.
قال ابن السماك يوماً: إن الله تعالى ملأ الدنيا لذات، وحشاها بالآفات، ومزح حلالها بالمؤونات، وحرامها بالتبعات.
قال ابن عائشة: قيل لبعض السلف: ما الكرم؟ قال: التأني للمعروف، قيل له: فما اللؤم؟ قال: التقصي على الملهوف.
قال الأصمعي، قال أعرابي: إن الآمال قطعت أعناق الرجال، كالسراب غر من رآه، وأخلف من رجاه، ومن كان الليل والنهار مطيتيه أسرعا به، ثم أنشد: البسيط
المرء يفرح بالأيام يقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل
قال الأصمعي، قال أعرابي: إن أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا نبتت الأصول في القلوب، نطقت الألسن بالفروع، والله يعلم أن قلبي لك شاكر، ولساني ذاكر، هيهات لن يظهر الود المسقيم إلا من القلب السليم.
قال الأصمعي، قلت لأعرابي: ما أنحل جسمك؟ قال: سوء الإذاء، وجدوب المرعى، واعتلاج الهموم، ثم أنشأ يقول: الكامل
الهم ما لم تمضه لسبيله ... داء تضمنه الضلوع مقيم
ولربما استأيست ثم أقول لا ... إن الذي ضمن النجاح كريم
قال سعد مولى عتبة بن أبي سفيان: قال لي عتبة: يا سعد تعهد صغير ضيعتي يكبر، ولا تمهل كبيرها فيصغر، فإنه ليس يمنعني كثير من ما في يدي عن إصلاح قليل مالي.
قال الأصمعي: قيل لبعض حكماء فارس عند الموت: كيف حالك؟ فقال: كيف حال من يريد سفراً بعيداً من غير زاد، ويقدم على ملك عادل بغير حجة، ويسكن قبراً بغير أنيس؟ قال أعرابي: الشكوى على قدر البلوى طالت أم قصرت، إلا أن يكون بالشاكي انقباض، وبالمشكو إليه إعراض.
قال أعرابي لصاحبه: وما تولعك بقوم قد هدأت ريحهم عنك، وانحسمت مادتهم منك، حتى تستثير رابضهم، وتستقدح خامدهم؟ كاتب: لا أعدك فأطعمك، ولا أويسك فأقطعك، فإن أمكنتني فرصة فعلت.
قال أعرابي: لو عددتني أخاك ا استبطأتك إلا بالصبر، ولا استزدتك إلا بالشكر قال أعرابي: إن يسير ما أتاني عفواً لم أبذل فيه وجهاً، ولم أبسط له كفاً، ولم أعضض له طرفاً، أحب إلي من كثير ما أتاني بالكد، واستفراغ الجهد.
كاتب: أعليت من يد كانت مقبوضة، وأسميت من مقلة كانت مغضوضة.
كاتب: حل محل النور في نواظر الأولياء، والغصة في حلوق الأعداء.
قال أعرابي: لا أخلاك الله من بلاء جميل توليه، وجناب خصيب ترعيه، ومعروف عظيم تسديه.
كاتب: اعتدلت قناة الملك في يده، وسطح سراج الحق في دعوته، وأفل نجم الباطل في دولته.
كاتب: من انصرف من الاحتجاج إلى الاعتراف، فقد لطف للاستعطاف، واستوجب المسامحنة بعد الإنصاف.

قيل لمخنث: كيف ترى الدنيا؟ قال: مثلنا، يوماً عند الأسخياء، ويوماً عند البخلاء.
قيل لطفيلي قدم من مكة: كيف سعر النعال بمكة؟ قال: النعل بحمل وطبق فاكهة.
وقيل لطفيلي آخر مثل ذلك فقال: النعل بالحجاز بثمن جدي بالعراق.
نظر ملاح إلى رجل قد وثب على ظهر فرسه فقال: ما أحسن ما استوى على كوثله.
قال إبراهيم بن الفرات: سمعت صبياً وهو في جنب أبيه في يوم عيد وقد نظر إلى الناس فقال: يا أبه ما هذا؟ قال: هذا والي البصرة يريد المصلى، قال: وما يصنع يا أبه؟ قال: يصلي، قال: ولمن يصلي؟ قال: لربه تبارك وتعالى، قال: فقال: يا آبة ما هذا؟ قال: هذا والي البصرة يريد المصلى، قال: وما يصنع يا أبة؟ قال يصلي، قال: ولمن يصلي؟ قال: لربه تبارك وتعالى، قال يا آبة وهكذا يقصد الأرباب؟ قال أبو علي الرازي: مررت على صبية في طريق الشام وهم يلعبون بالتراب وقد ارتفع الغبار فقلت: مهلاً غبرتم، وبادرت لأجوزهم، فقال صبي منهم: يا شيخ إلى أين تفر إذا هيل عليك التراب في القبر، فغشي علي فقلت: أعندك حيلة في الفرار من تراب القبر؟ قال: لا أعلم، ولكن سل غيري، قال: فقلت: من هو؟ قال: عقلك.
قال أعرابي: قد تعوق العوائق مما عليه النية، وتمنع المقادير مما عليه الطوية.
قيل لفيلسوف: لم صار الحمق أحظى من العقل؟ قال: لأن العقل تدخله الآفة، والحمق لا تدخله الآفة. وقد قال الحق، لأن الحمق آفة فليس تدخل عليه آفة.
حمل جحا جرة خضراء إلى السوق ليبيعها فقيل: هي مثقوبة، فقال: يكذبون، ليس يسيل منها شيء، فإن قطن أمي كان فيها فما سال منه شيء.
وذكروا عنده الضراط وقيل: هو شؤم فقال: وما شؤمه؟ قالوا: يبدد الجماعات، ويفرق الشمل، قال: فهذا باطل، أهل السجن يضرطون الليل والنهار ولا يفترقون.
يقال: ما الحفيف، وما الخفيف، ومال الجفيف، وما العفيف، وما الأنيف، وما الشنيف، وما الرفيف، وما الطريف، وما النظيف، وما العريف، وما الخريف، وما الشريف، وما السريف، ومال الغريف، وما القريف، وما الصريف، وما الظريف، وما النقيف، وما الطفيف، وما النتيف، وما الأسيف، وما العسيف، وما اللفيف، وما الضفيف، وما الصفيف، وما السفيف، وما السقيف، وما الذفيف، وما الزفيف، وما الشفيف، وما الكنيف، وما اللطيف، وما الكثيف، وما القطيف، وما العنيف، وما العليف، وما السخيف، وما الكتيف.
ويقال في باب آخر: ما الحز، ما البز، وما الجز، ومال الخز أيضاً، وما الرز، وما الشز، وما العز، وما القز، وما القز، وما الكز، وما اللز، وما النز، وما الهز، والهز أيضاً، وما الأز، والوز.
ويقال في باب آخر: ما الجهر، وما البهر، وما الدهر، وما الزهر، وما الصهر، وما الطهر، وما الظهر، وما العهر، وما الفهر، وما الكهر، وما النهر، وما المهر، وما الشهر، وما القهر.
وسيمر في جواب هذه الحروف ما يشفى قرم المتأدب، وينفي عن الملول عادة السوء، ويكون سمراً لمن أحب السمر، وفائدة لمن رغب في الفائدة، وجمالاً لمن عشق الجمال، وحلية لمن هو عار، ووسيلة لمن هو منقبض، ومتعة لمن هو مهموم، إن شاء الله.
مات أبو جحا فلم يشيع جنازته، فقيل له: لم فعلت كذا؟ قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله: لا يتبع مول، قالوا: ويحك، ذاك في الحرب، قال: أنا آخذ بالثقة.
واجتاز بامرأة تندب على زوجها، فقال لها: ما كان صنعة زوجك؟ قالت: كان حفار القبور، قال: أفلم يعلم القواد أنه من حفر لأخيه حفرة فسوف يقع فيها.
ضرط أبوه يوماً في كنيف، فقال جحا: على أيري، فقال أبوه: إيش قلت ويلك؟ قال: حسبتك أمي.
وتبخر يوماً فاحترقت ثيابه فقال: والله لا أتبخرن بعدها إلا عرياناً.

قال ابن طباطبا في " عيار الشعر " : الشعر تدفع به العظائم، وتسل به السخائم، وتخلب به العقول، وتسحر به الألباب، لما يشتمل عليه من رقيق اللفظ، ولطيف المعنى، وإذ قالت الحكماء: إن للكلام جسداً وروحاً، فجسده النطق وروحه معناه، فواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة مقبولة مستحسنة، مجتلبة لمحبة السامع له، والناظر إليه بعقله، مستدعية لعشق المتأمل لمحاسنه، فيحسنه جسماً ويبدعه معنى، وجيتنب إخراجه على ضد هذه الصفة، فيكسوه قبحاً ويبرزه مسخاً، بل يسوي أعضاءه وزناً، ويعدل أجزاءه تأليفاً، ويحسن صورته إصابة، ويكثر رونقه رقة، ويحصنه جزالة، ويدنيه سلاسة، ويتأتى به إعجازاً، ويعلم أنه نتيجة عقله، وثمرة لبه، وصورة علمه، الحاكم له أو عليه.
هذا حكاية لفظه في كتابه.
وما أصبت أحداً تكلم في نقد الشعر وترصيفه أحسن مما آتى به الناشئ المتكلم، وإن كلامه ليزيد على كلام قدامة وغيره، وله مذهب حلو، وشعر بديع، واحتفال عجيب، فمن شعره إلى أبي الصقر الوزير: الطويل
تبلج بروح اليأس أو روحة الغنى ... أو الصدق لي في الوعد أو طلب العذر
فما لي ثقي يحيى ولا حلم يوسف ... ولا صبر أيوب ولا مدة الخضر
وله أيضاً: الطويل
لها جيد ظبي واهتزاز يراعة ... وعينا مهاة واعتدال قضيب
ولفظة مناع ولحظة باذل ... وعتب بريء واغتياب مريب
وإيماض ذي جد وإعراض هازل ... وسورة ذي طيش وعطف لبيب
وهذا فن لطيف المرام حلو جداً.
وله: الكامل المجزوء
كالبدر في إشراقه ... والبحر في إغداقه
والأثم في إطراقه ... والريم في إرهاقه
وله: الكامل
راح إذا علت الأكف كؤوسها ... فكأنها من دونها في الراح
وكأنما الكاسات مما حولها ... من نورها يسبحن في ضحضاح
لو بث في غسق الظلام شعاعها ... طلع المساء بغرة الإصباح
نفضت على الأجسام ناصع لونها ... وسرت بلذتها إلى الأرواح
وله أيضاً: الكامل
ومدامة لا يبتغي من ربه ... أحد حباه بها لديه مزيدا
في كأسها صور تظن لحسنها ... عرباً برزن من الجنان وغيدا
وإذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهباً ودراً توأماً وفريدا
وكأنهن لبسن ذاك مجاسداً ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا
هذه الأبيات رواها صاحب " عيار الشعر " لفلان الهمذاني، والصحيح ما تقدم ذكره؛ وإذا رأيت تلك الرواية محرفة، والعبارة فاسدة، علمت بأن سارقاً سرق، ومنتحلاً انتحل، والغارة من الكتاب والمصنفين سديدة على ما سلف للمقدمين.
انتهى طفيلي إلى عرس، ورام الدخول فمنع، فأخذ قرطاساً وطواه ثم ختمه، ولم يكتب فيه شيئاً وعنون: من أخي العروس إليها، ثم جاء به كالمدل فقيل له: كأنه كتب الساعة، قال: نعم ومن العجب للعجلة أنه لم يكتب فيه شيء، فاستملحوه وأخذوه فأدخلوه.
لما غلب يزيد بن المهلب على البصرة حلف محمد بن المغيرة ألا يخرج من البصرة إلا بإذنه، فأتى البواب فقال: أتأذن لي أن أخرج؟ قال: لا، فأتى يزيد بن المهلب فقال: إن البواب قد منعني فأذن لي أيها الأمير، فأذن له، وأرسل معه رجلاً إلى البواب، فخرح وجعل ذلك إذناً وخرج من البصرة؛ وكانت بأهلة تقول: محمد أجهل الناس غلب عاقل الأزد.
لما أراد عمر بن الخطاب قتل الهرمزان استسقى ماء، فأتي به، فأمسك القدح في يده اضطرب، فقال له عمر: لا بأس عليك، إني غير قاتلك حتى تشربه، فألقى القدح من يده؛ وأمر عمر بقتله، قال: أو لم تؤمني؟ قال: كيف أمنتك؟ قال: قلت: لا بأس عليك حتى تشربه، فقولك: لا بأس أمان، ولم أشربه، فقال الزبير وأنس وأبو سعيد الخدري: صدق يا أمير المؤمنين، فقال عمر: قاتلك الله أخذت أماناً ولم أشعر.
ماتت أم جحا، فقعد يبكي عند رأسها ويقول: رحمك الله، فلقد كان بابك مفتوحاً ومتاعك مبذولاً.
قال ابن كناسة: كان جحا كوفياً، وكان مولى لبني أسد، وقد روى الحديث وحمل عنه؛ ومات صديق له، فظل يبكي خلف جنازته ويقول: من لي يحلف إذا كذبت، ومن لي يحثني على شرب الخمر إذا تبت، ومن لي يعطي عني في الفسوق إذا أفلست، لا ضيعني الله بعدك، ولا حرمني أجرك.

وماتت امرأة حجا، فقعد عند رجليها يبكي، فقيل له: لو قعدت عند رأسها، فقال: إنما قعدت مكاناً ينفعني.
نظر إنسان إلى جحا في المقابر فقال: يا أبا الغصن ما تصنع ها هنا؟ فقال: اطرح لقبر أمي قبا فقد تمزق قبه.
كاتب: وصل الله سرور يومك بسرور شهرك، وسرور شهرك بعلو قدرك، وعلو قدرك بنفاذ أمرك ونهيك؛ النفس أعزك الله لا حظ فيها، والمال لم يكن إلا منك، فإن أهديت وجدته خالصاً لك، وإن أهديت الميسور من الوجد كنت المهدي إليك مالك، وإن كان ذلك كذلك لم يبق إلا النشر والثناء والحمد، والاعتراف بالتقصير ولعجز، ولقد أحسن سعيد بن حميد حيث يقول: الكامل
إن أهد نفسي فهو مالكها ... ولها أصون كرائم الذخر
أو أهد مالي فهو واهبه ... وأنا الحقيق عليه بالشكر
أو أهد حمدي فهو مرتهن ... بجميل فعلك آخر الدهر
والشمس تستغني إذا طلعت ... أن تستضيء بسنة البدر
اختصم رجلان إلى إياس بن معاوية في مطرف خز، وادعى كل واحد منهما المطرف، فدعا إياس بمشط وماء فبل رأس كل واحد منهما وسرح شعره، فخرج المشط وعليه غفر المطرف، فدفع المطرف إلى صاحبه.
كان عمر بن هبيرة أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان إذا أتاه كتاب فتحه ونظر فيه كأنه يقرأه، فإذا نهض من مجلسه حملت الكتب معه، فيدعو جارية كاتبة ويدفع إليها الكتب فتقرأها عليه، فيأمرها فتوقع بما يريد ويخرج الكتاب، فاستراب به بعض أصحابه، فكتب كتاباً على لسان بعض العمال وطواه منكساً. فلما أخذه قرأه ولم ينكر تنكيسه، فعلم أنه أمي.
قال صالح المري: التهنئة على آجل الثواب أولى من التعزية على عاجل المصيبة.
قال الأصمعي: سألت امرأة من الأعراب عن حال لحقتهم فقالت: سنة جردت، ونار خمدت، وحال جهدت، فهل فاعل للخير، أو دال عليه، أو لا، فمن يجير، رحم الله من رحم، وأقرض من لا يظلم.
قال الأصمعي، قيل لأعرابي: صلب الخليفة زنديقاً فقال: من طلق الدنيا فالآخرة صاحبته، ومن فارق الحق فالجذع راحلته.
قال الأصمعي، قيل لأعرابي: أتؤمن بالموت؟ قال: إي والله، قيل: كيف تؤمن به؟ قال: إني رايت آبائي وإخواني وأهلي وأكثر عشيرتي قد ماتوا، فعلمت أني لاحق بهم، قيل: أفتؤمن بالبعث؟ قال: هيهات إنها لحفيرة سوء ما دخلها أحد فخرج.
قال الأصمعي، سمعت أشياخنا يقولون: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين: عامر بن عبد قيس، وهرم بن حيان، والحسن، وأبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، والربيع بن خثيم، ومسروق، والأسود بن يزيد.
قال حماد بن زيد، سمعت يونس يقول: توشك عينك أن ترى ما لم تر، وتوشك أذنك أن تسمع ما لم تسمع، ولا تخرج من طبقة إلا دخلت فما هو أشد منها، حتى يكون آخر ذلك الجواز على الصراط.
قال حماد بن زيد: شكا رجل إلى يونس وجعاً يجده فقال يونس: يا عبد الله، هذه دار لا توافقك، فاطلب داراً توافقك.
قال الأصمعي، تقول العرب: بينهم ملحمة أي مقتلة.
قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله في الجنين غرة، عبد أو أمة: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أراد بالغرة معنى لقال: في الجنين عبد أو أمة، ولكنه عنى البياض لأنه لا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء.
خطب عبد الله بن الحسن بالبصرة على منبرها فأنشد في خطبته بيتاً: البسيط
أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
تزوج عثمان رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سنة اثنتين من الهجرة ودخل بها، وماتت يوم جاء البشير بفتح بدر؛ ثم تزوج عثمان بأم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ودخل بها في شهر ربيع الأول سنة ثلاث؛ ومات عبد الله بن عثمان من رقية سنة أربع.
قال الأصمعي، حدثنا حزم القطعي قال: سمعت الحسن يقول: حقيق على من كان الموت موعده، والقبر مورده، والوقوف عند الله مشهده، أن يطول بكاؤه وحزنه.
يقال إن أول من ارتشى من القضاة بالبصرة الحجاج بن أرطاة.
غنت جارية بدف: الطويل
لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت ... سعيداً فأمسى قد قلى كل مسلم
وألقى مفاتيح القراءة واشترى ... وصال الغواني بالكتاب المنمنم

قال ثمامة: قلت لجعفر البرمكي: ما البيان؟ فقال: أن يكون الاسم محيطاً بالمعنى، ويجلى عن المغزى، ويخرج من الشركة، ولا يستعان عليه بالفكرة، والذي لا بد له منه أن يكون سليماً من التكلف، بعيداً من التعسف، بريئاً من التعقد، غنياً عن التأويل.
عاد رجل من الأعراب إلى حيه بعد غيبة طويلة، فلم ير فيهم خياراً، فأنشأ يقول: الرجز
ومجلس ليس بشاف للقرم ... ولا بمنسوب إلى الفرع الأشم
نزلته من عوز ومن عدم ... رجاء أن ينفع من سقم ألم
فازددت منه سقماً إلى سقم
نمر بأطراف تلك الحروف التي في شرحها فائدة، فقد أضربنا عنها بما اعترض من رواية الملح ومكنة ملل الناظر بذلك.
أما الحفيف نحفيف الناب، وحفيف الطير، وهو صوت أجنحتها؛ وحفاف الشيء طرفه، و " حافين من حول العرش " الزمر: 75 كأنهم محيطون بحواشيه، وحف الشعر إذا استأصله أي أخذ أصوله، كأنه بلغ أطرافه في مغارزه ومقاصه، " وحففناهما بنخل " الكهف: 32 منه، والحفيف المحفوف، فإن الفعيل شقيق المفعول في مواضع كثيرة، والحفف: اليبس، والحفوف: الفقر، والمحفة معروفة، والحفان: طائر.
وأما الخفيف فضد الثقيل، نقول منه: خف الرجل إذا عجل، وخف القطين إذا رحل، القطين والقطان والقاطنون واحد، ويقال للرجل: من أين خفوفك؟ وقد أزف خفوفه أي رحيله، وزعم بعض المولعين بالاشتقاق أن الخف سمي خفاً لأن صاحبه خف به للحركة، لأنه لا يلبس للقعود والرفاهية والتثاقل؛ ويقال في الكلام المتابع: هو خفيف دفيف، وجمع الخف خفاف، وزعم القائل بالاشتقاق أن قولك: خف وخاف يتعاقبان معنى واحداً، وإنما اختلف الوزن لأن من خاف خف واضطراب، كما أن من أمن ركن واستقر؛ وتقول هو خفيف وهما خفيفان وهم خفيفون، وفي التأنيث: هن خفائف لأنه جمع خفيفة، كما تقول في جمع فتيلة فتائل.
وأما الجفيف فالشي اليابس، تقول: جف يجف، الجيم مفتوحة، وقد جاء يجف، والأول اختيار أبي حاتم، ومصدره الجفوف، وجفت يده أي يبست، وحشت يده أي جفت كأنها صارت في يبس الحشيش، لأن الحشيش هو اليابس الذي يحش أي يقطع.
فأما العفيف فالممسك نفسه عن القاذورات، يقال منه: عف فلان يعف عفة وعفافة، وكل هذا مسموع، واستعفف أيضاً، قال الله تعالى " ومن كان غنياً فليستعفف " النساء: 6 وعفافة اللبن - بضم العين - كالبقية، والعفيف فعيل ينقسم بين فاعل ومفعول، وإذا تماسك وتوقى وأخذ نفسه مأخذ الواجب فهو في طريق الفاعل، ثم قد يكون في معنى المفعول به لأن العفة طباع، فكأنها توجد في فطرته.
وأما الأنيف فالذي أصيب أنفه، كأنه مأنوف، والكلام في الأنوف قد مر في الجزء الخامس وإعادته تشق.
وأما الشنيف فالمبغض، ولا تقل المبغوض، لأنه لا يقال بغضه، هذا لفظ العامة وهو مرود عند البصراء بالأصول، ولكنه يقال: بغض الشيء في نفسه فهو بغيض، فكأنه أخذ من شنفته إذا أبغضته، وكذلك: شنفت له. وقال بعض الأدباء: وهو أيضاً الذي علق في أذنه الشنف - بفتح الشين وسكون النون - وهو أيضاً بمعنى مفعول؛ وأما فلان شنف أنف صلف فهو الشنف - بحركة النون - وهو البغض والأنفة والصلف؛ ويقال: شانفني مشانفة أي عاداني معاداة، وهذا كله محصل عن السماع والكتب والصحاح وأهل الأدب الموثوق بهم بالعراق.
وأما الرفيف فهو بريق الشيء وبصيصه ونوره وبهاؤه وماؤه، ويقال منه: رف الشيء إذا أنار ونار واستنار، كل ذلك بمعنى واحد، ومضارع هذا يرف بكسر الراء، فأما رف يرف بالضم فمعناه أكل، وأما رف خفيفه يرف فمعناه كثر، والرف سألت عنه السيرافي فقال: هو من كلام العرب، وهو الذي يضاف إلى الحائط ليوضع عليه شيء.

وأما الطريف - بالطاء غير معجمة - فهو ضد التالد، وفي الكلام يقال: بذلت له طريفي وتالدي، والتالد: الموروث، والطريف: المكتسب، وأما الطرف فهو الفرس الكريم، وأما الطراف فالخباء من الأدم وجمعه الطرف، والطرف: العين نفسها، بل قيل: هو جفنها، وقال بعض الكتاب: كبدي بيد العراق مخطوفة، وعيني بقذى الفراق مطروفة؛ وهذا أمر طريف أي لم يعتد؛ ورجل طريف أي معجب؛ وقال صاحب الاشتقاق: الطرف دائر في هذه الأبنية، لأن الطارف في طرف من التالد، لن هذا ولد عندك، وذاك كسبت، فهما طرفان، والطرف الذي هو الفرس الكريم في طرف من الدواب على ذلك. والطرائف جمع طريفة، والطرفة من جملة الكلام، وفلان طريف بين الطرافة، وقد سمع، وهو نظير قولهم: غريب بين الغرابة، وقد رأيت من يأبى الغرابة والطرافة.
وأما النظيف فاسم الشيء الذي لا تنبو عنه العين، ولا تكف عنه اليد، تقول: هذا إناء نظيف فاشرب فيه، تقول منه: نظف نظافة وهو نظيف، ونظفة تنظيفاً فهو منظف، وقول الكتاب: فلان العامل قد استنظف المال في ناحية، فذا مردود قال الثقة.
فأما العريف فهو مأخوذ من المعرفة، والميم في المعرفة زائدة لأنه يقال: عرفته؛ والعرافة للعريف كالنقابة للنقيب، وكأنه ينقسم بين أن يكون عارفاً من أن يكون عريفاً عليهم، وبين أن يكون معروفاً فيمن هو عريف لهم، تقول: عرف الرجل أي صار عريفاً، كما يقول: أمر بالفتح، والقياس أمر وعرف كما تقول: فقه وظرف، تقول منه: عرفه يعرفه معرفة، والعارف الصبور، كذا قال أبو عبيد في " الغريب " ، كأن الصبر من المعرفة، كما أن الجزع من الجهل؛ والعوارف: الصلات والجوائز والخيرات، كأنها معروفة أو عارفة، لأنها جمع عارفة وهي بمعنى معرفة، لأن المعروف هو الجزء الذي تعرفه النفس، وتطرب له الروح، وأما خرجت في يده عرفة: فقرحة، وعرفات مكة، قالوا: سميت بذلك لأن آدم بها عرف حواء، وتصرف فنقول: عرفته كذا فعرف، واعترف بما عرف، والنفس عروف، والمعارف: أماكن تعرف، وأشياء تعرف، وقول الفقهاء في العرف والعادة، وهذا مقبول، فأما المعرفة وما حدها وحقيقتها وكيف طريقها ففن طويل الذيل، تكلم الكعبي فيه في " كتاب المقالات " مالئاً لأوراق يقل محصولها عند التناقد والتناصف، وقد مر في آخر الجزء الثاني فصل في هذا الباب، وسيمر أيضاً نوع من الكلام فيه، إذا صرنا إلى الجزء الذي نفرده للعارفين وأصحاب الصوف إن شاء الله.
وأما الخريف ففصل من الزمان معروف، وإنما سمي خريفاً لاختراف الثمار، والعرب تقول: فلان يخترف الكلام إذا اقتضبه على حسن، ويقال إن قولهم: فلان خرف على التفاؤل، والمخرفة: ما يخترف بها الثمر، والخروف: ولد الضائنة إذا بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه، والأنثى خروفة، والخرافة: الحديث الحسن يكاد يتهم محدثه.
وأما الشريف فمعروف، وهو مشتق من الشرف وهو العلو، ويقال: شرف لحكمك إذا كثر، والشارف: الناقة المسنة، كأنها العالية في السن، ومشارف الشام: أعاليها، يقال: شارفته فشرفته، كما تقول: فاضلته ففضلته، وناضلته فنضلته، وهم أشراف في الجمع، وسألت العالم عن شراف فوقف، فقلت له: ألم تقل هم شرار في أشرار، فلم لا تقول شراف في أشراف، قال: القياس يتضاءل مع السماع.
وأما السريف فما سرفته أي أغفلته وغفلت عنه كأنه مفعول، يقال: مررت بكم فسرقتكم أي سهوت عنكم؛ والسرفة: دابة صناع، يقال: أصنع من سرفة؛ والسرف في مقابلة التبذير وهو الإسراف، واستسرفت من فلان كذا، إذا نسبته فيه إلى السرف.
وأما الغريف فالمغروف، وهو الذي تغرفه وتغترفه من ماء أو مرقة، والمغرفة: الآلة، بكسر الميم، ويقال لها أيضاً: المقدحة، لأنه يقال: قدحت بمعنى غرفت ويقال أيضاً: عرفت ناصية الفرس، وعرفت الشعر: إذا أخذته.
فأما القريف فالمقروف، وهو العود تأخذ ما عليه من قشرة، وتقول: لا تقرف جرحك حتى يندمل ويبرأ.
وأما الصريف فصريف الناب، وقد يسمع من النائم ذلك، فإذا غرق في النوم كأنه يحك أسنانه العليا بأسنانه السفلى؛ وصرفت الكلبة إذا أرادت الذكر، كأنها خاجت، والصرف من الشراب ما لا يمزج، يقال منه: أصرفت الخمر إذا تركتها صرفاً، كذا قال الثقة.

وأما الظريف فروى لنا شيخ عن الأصمعي وابن الأعرابي انهما قالا: الظرف ما يكون في اللسان، يقال: فلان ظريف أي بليغ جيد المنطق، ومنه: إذا كان اللص ظريفاً لم يقطع، وهذا قول عمر رضي الله عنه، يعني إذا كان حسن التخلص إلى الحجة بالشبهة درأ بها حدة وقرب أمل فرجه برأيه؛ قال بعض السلف: الظريف من فيه أربع خصال وهي: الفصاحة والبلاغة والعفة والنزاهة.
قلت لبعض العلماء: ذكر اربعاً وهي اثنتان: لأن البلاغة والفصاحة خصلة واحدة، والعفة والنزاهة خصلة واحدة، فقال لي: ظلمت، الفصاحة خلوص اللسان من التعقيد والنغنغة، والبلاغة تناهي المتكلم إلى الإرادة، فقد يخلص ولا ينتهي، وقد ينتهي ولا يخلص، فإذا جمع بينهما كان فصيحاً بليغا. والعفة الإمساك عن المحظور، والنزاهة الوقوف عن المباح، وفي العفة ذب عن الدين، وفي النزاهة حفظ للمروءة.
وقال بعض الأدباء: الظريف المتمرس بكل أمر، المتخلص من كل ذم.
سمعت أبا النفيس الرياضي يقول: الظريف من صار ظرفاً للمناقب، وحسن المناقب. والكلام يفتن إلى هذا الفن، وأنا إلى اختصار ينفي سآمة القارئ أحوج مني إلى تطويل يسد باب النشاط؛ وللصوفية ألفاظ مهذبة في جواب نظائر هذه المسألة كقولهم: من الظريف، ومن الفاضل، ومن العارف، ومن العاشق، فإذا دخلنا في ميدانهم أتينا على بيانهم إن شاء الله.
وأما النقيف فالمنقوف من الحنظل، كأنك نقفته إذا أخذته بأطراف يدك.
وأما الطفيف فالشيء القليل القليل التافه، قال الله تعالى: " ويل للمطففين " المطففين: 1 يعني المقللين، وطفاف المكوك: جوانبه، كأن المطفف في الكيل يحب أن ينقص المشتري، وقد بين الله ذلك.
وأما النتيف فالمنتوف، يقال: هذا طائر نتيف، والنتف: جمع نتفة، كالطرف جمع طرفة، والغرف جمع غرفة، ويقال: تناتف الديكان عند القتال، والنتيف لقب كثير من الناس الذين ينتفون شعور وجوههم، وهي علة من احتراق المرة السوداء.
وأما الأسيف فالتابع.
وأما العسيف فالعبد، هكذا حفظت عن الثقة.
وأما اللفيف فجماعة لا تعرف، واللفيف أيضاً الملفوف، واللف: التواء في اللسان كالردة. وسمعت بدوياً يصف قوماً لقوا قوماً في الحرب، قال: ما تصافوا حتى تلافوا، واللفافة: ما يلف فيها الشيء، وجمعها لفائف كأنه جمع لفيفة، ورجل ألف إذا كان عيياً، وامرأة لفاء، وكذلك إذا كانا ضاويين، وإذا كانا نحيلين، وكل هذا من خفة اللحم والشحم والجسم.
وأما الضفيف فهو من المضفوف، ويقال: هذا ماء مضفوف إذا تزاحمت عليه وأردته، فكأنه مأخوذ من ضفة النهر أي طرفه، لأنهم يتزاحمون على جوانبه، وقولهم: هذا مضفوف كقولهم: هذا ماء مشفوف إذا شفوه أي نزفوه؛ فأما قولهم: ماء مشفوه - بالهاء - فأخذ من الشفة كأنه كثرت عليه الاربة حتى وضعوا على جوانبه شفاههم، وعلى هذا تكون جوانب الحوض وأطراف الموارد شفاهاً فأصابوها بالشرب، لأنه يقال: شفهته: إذا ضربت شفته، وقولهم: كلمته مشافهة أي شفتي مقابلة لشفته، لأن الكلام يسمع من الإنسان بآلات كثيرة كاللسان والأسنان والشفة، ومتى نقص شيء من ذلك نقص الكلام على مقداره.
وأما الصفيف فاللحم المصفوف، يقال: صففته أصفه صفاً فأنت صاف وهو مصفوف، وقول الله تعالى: " صواف فإذا وجبت جنوبها " الحج: 36 إذا شددت الفاء كان من هذا، كأن الهدي يصف، وقد قرئ صوافي أي قائمة، وقيل أيضاً: صوافي جمع صافية كأنها صفت لله تعالى لأنه متقرب بها إليه.
وأما السفيف فهو ما تسفه أي تتناوله، ويقال لأدوية معروفة: فهو يسف - بضم السين فهو الخوض لأن الخواص يعمل من الخوص قفة وسفوف كذا وسفوف كذا، والسين مفتوحة، والعامة تقول لبائع هذه الأدوية: سفوفي - بضم السين - وإنما هو سفوفي - بالفتح - ؛ وأما سف فهو وزنبيلاً وغير ذلك، فعمله السف وهو ساف وسفاف. وإذا قلت: أسف انقلب المعنى، أسف الطائر إذا دنا من الأرض، وأسف الرجل للأمر إذا قاربه، والإسفاف إلى القبيح كالدنو منه والتلطخ به.
وأما السقيف فكأنه قد سقف إذا كان سقفاً، وسقيفة بني ساعدة منه.
وأما الذفيف فالسريع.
وأما الزفيف فزفيف الناقة، وهو ضرب من ضروب سيرها.
وأما الشفيف فالبرد.
وأما الكنيف فالحظيرة.
وأما اللطيف فمعروف.
وأما الكثيف فخلافة لأن اللطافة في اللطيف ضد الكثافة في الكثيف.
وأما القطيف فما قمطف.

وأما العنيف فالخشين المس فيما يباشر، ومنه العنف وهو التشديد.
وأما العليف فما علف عن العلف، تقول: علفته، والشاعر يقول: الطويل
إذا كنت في قوم عدى لست منهم ... فكل ما غلفت من خبيث وطيب
العلف يستعمل في البهائم، ولكنه استعارة.
وأما السخيف فالخفيف.
وأما الكتيف فمن كتف أي ضرب كتفه.
طال هذا فأرجو أن لا يثقل إن شاء الله؛ وقد بقيت حروف أجمك عنها ببعض النوادر والأخبار لتعود إليها وأنت شهوان، وهذه مداراة مني لنفسي أولاً، ثم لك أيها الناظر، فقد علمت أنك من طينتي، وجارياً على خليقتي، تمل كما أمل، وتكل كما أكل، وتعرض لك الحال التي تدل على عجزك عن حظك، ولولا أني وإياك على هذا النعت لما احتجنا إلى ما يتأدب به، لأن التمام كان لنا بالجوهر، والكمال فينا بالعنصر، ولكنا بنينا من الضعف والقوة، والعجز والقدرة، والنقصان والزيادة، فنحن على ذلك نتماثل إلى أن يأخذ الله بأيدينا من أيدينا فنخلص من دار، الغني بها مفلس، والطاهر بها نجس.
سأل المهدي رجلاً عن طائر جرى من الغاية فقال: يا أمير المؤمنين لو لم يبن بفضيلة السبق لبان بحسن الصورة، فقال: صفه لي، فقال: قد قد الجلم، وقوم تقويم القلم، لو كان في ثوب خرقه، أو صندوق فلقه، يمشي على عنمتين، ويلقط بدرتين، وينظر بجمرتين، إذا أقبل فديناه، وإذا أدبر حميناه.
قال رجل لإبراهيم النخعي: كيف أصبحت؟ فقال: إن كان من رأيك أن تسد خلتي، وتقضي ديني، وتكسو عورتي أخبرتك، وإلا ليس المسؤول بأعجب من السائل.
شاعر: الطويل
فآه من الأحزان قد أسفر الضحى ... وفي كبدي من حرهن حريق
مزجنا دماً بالدمع حتى كأنما ... يذاب بعيني لؤلؤ وعقيق
قال العتابي: وجد علي الرشيد: فدخلت عليه في المتكلمين فقلت: يا أمير المؤمنين قد أدبني الزمان لك، وأرشدني إلى الهداية تقويمك، وردني ابتلاء الناس إليك، وما مع تذكرك قناعة، ولا في سؤالك عار، وقد قلت: الطويل
أخضني المقام الغمر إن كان غرني ... سنا خلب أو زلت القدمان
أتتركني جدب المعيشة صنكها ... وكفاك من ماء الندى تكفان
وتجعلني سهم المطامع بعدما ... ملكت يميني بالندى ولساني
بلغ يحيى بن خالد أن إبراهيم بن سيابة هجاه فحجبه ومنعه رزقاً له، فكتب إليه ابن سيابة: للسيد الجواد، الواري الزناد، الماجد الأجداد، والمنجب الأولاد، من الخاضع المسكين، والخائف المستكين. أما بعد، فإنك تعلم أن من يرحم، ومن يحسن يغنم، ومن يعف لا يندم، وقد منيت من غضبك علي، واطراحك لي، وإعراضك عني، بغير لفظ تحقق، ولا قول يصدق، بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أستيقظ منه ولا أرقد، فلست بحي صحيح، ولا ميت مستريح، وقد فرزت منك إليك، فاستعنت بك عليك. وقلت: الخفيف
راغب راهب أتاك يرجي ... ك وما زلت موضعاً للرجاء
ومقر بما جناه ولم يج ... ن لترضى وحامل للثناء
فلعمري ما من أضر ومن ظ ... ل مقرا بذنبه بسواء
فوقع يحيى بن خالد: قد عفونا عن الخائف والحاكم لنفسه ببراءته، وأمرنا له بصلة تنير ظلمته، وتؤنس وحشته، ووهبنا ماضيه لمستقبله، وسالفه لمستأنفه.
قال جعفر بن يحيى لبعض الندماء: إنا نستبين ما في باطن القلوب بظواهرها، ونعرف فحوى العيون بلواحظها.
قال عبد الصمد بن المعذل لأبي تمام: الخفيف
أنت بين اثنتين تبرز للنا ... س وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك طالباً لوصال ... من حبيب أو طالباً لنوال
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال
قال الحارث الأعور: ما رأيت رجلاً قط أحسب من علي بن أبي طالب عليه السلام، أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، رجل مات وخلف ابنتين وأبوين وزوجة، فقال: قد صار ثمنها تسعاً.
قال أبو حامد: هذه الفريضة من أربعة وعشرين، للبنتين الثلثان، وللأبوين السدسان، وكمل المال، وعالت الفريضة، واحتيج للمرأة إلى ثمن الأربعة والعشرين ثلاثة أسهم، فزيد على الأربعة والعشرين، فصارت السهام سبعة وعشرين، وصار الثمن من أربعة وعشرين تسعاً من سبعة وعشرين، فتقسم الفريضة على ذلك.
لفضل الشاعرة: الكامل المجزوء

علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم
ونصبتني يا منيتي ... غرض المنية والتهم
فارقتني بعد الدن ... و فصرت عندي كالحلم
فلو أن نفسي فارقت ... جسمي لفقدك لم تلم
ما كان ضرك لو وصل ... ت فخف عن قلبي الألم
برسالة أهديتها ... أو زورة تحت الظلم
أو لا بطيف في المنا ... م فلا أقل من اللمم
صلة الحبيب محبة ... الله يعلمه كرم
استجاز علي بن الجهم فضل الشاعرة بين يدي المتوكل بيتاً وقال: البسيط
لاذ بها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا
فأطرقت هنيهة قم قالت:
ولم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد عشقاً ... فمات عشقاً فكان ماذا
فطرب المتوكل ووصلهما.
ولعريب المأمونية: الوافر المجزوء
وذي كلف بكى جزعاً ... وسفر القوم منطلق
به قلق يململه ... وكان وما به قلق
جوارحه على خطر ... بنار الشوق تحترق
جفون حشوها الأرق ... تجافي ثم تنطبق
أجاب الوابل الغدق ... ونادى النرجس الغرق
فهات الكأس مترعة ... كأن حبابها الحدق
قال بعض الأوائل: ثلاثة أشياء تورث الهزال: شرب الماء البارد على الريق، والنوم على غير وطاء، وكثرة الكلام برفع الصوت.
وقال آخر: أربعة أشياء تفسد العقل: الإكثار من البصل، والباقلي، والجماع، والخمار.
شاعر: البسيط
عشرون ألف فتى ما منهم أحد ... إلا كألف فتى مقدامة بطل
راحت ماودهم مملوءة أملاً ... ففرغوها وأوكوها من الأجل
شاعر: البسيط
غصن من البان مثل البدر يحمله ... مثل الكثيب تعالى الله باريه
الشمس تحسده والبدر يعشقه ... والدر يشبهه والظبي يحكيه
قال المأمون لذي اليمينين وقد سايره: ما أقدم برذونك هذا، قال: من بركة الدابة صحبته، وقلة علته، قال: وكيف حمدك له؟ قال: همه أمامه، وسوطه لجامه، ما ضرب قط إلا ظلماً لسيره، ولا استحث إلا للعادة في غيره، فقال: مثلك يا أبا الطيب فليصف الشيء.
شاعر: الطويل
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم
فأنت طلاق والطلاق عزيمة ... ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم
فبيني بها إن كنت غير رفيقة ... فما لامرئ بعد الثلاث مقدم
آخر: الخفيف
لو قضي الله للمنون بحتف ... صير البين للمنون منونا
أخر: البسيط
الجود والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
آخر: الكامل
كتب الفرزدق في السجل بأيره ... ثم استمد به من آست جرير
فسلوا جريراً ما مداد دواته ... أمداد بر أم مداد شعير
وقال الحسن البصري: لم يبق من العيش إلا ثلاثة: أخ تصيب من عشرته خيراً وإن زعت قومك، وكفاف من المعاش ليس لأحد عليك فيه تبعة وصلاة تكفى سهوها وتستوجب أجرها.
قال ابن عباس: الشيب في مقدمة الرأس كرم، وفي الشارب سفه، وفي العارض روع، وفي القفا لؤم.
لو ذكر عللها لكان العلم أبين، والظن عندها أبعد، ولكنه أرسله إرسالاً، والله المستعان على ما يصفون.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استراث خبراً تمثل بقول طرفة: الطويل
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
قال، فكان يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار.
قال أبو العباس ابن سريج: من أنكر الحس أنكر نفسه، ومن أنكر العقل أنكر صانعه، ومن أنكر الغيرة أنكر أباه وأمه، ومن أنكر الإجماع أنكر نبيه، ومن أنكر عموم القرآن أنكر حكمته، ومن أنكر خبر الواحد أنكر الشريعة، ومن أنكر اللغة أنكر المحاورة.
العرب تقول: إنه لمنحار بوائكها، أي كثير النحر لسمانها التي لا علة بها.
شاعر: الكامل المجزوء
إن يغدروا أو يجنبوا ... أو يجهلوا لا يحفلوا
وغدوا عليك مرجلي ... ن كأنهم لم يفعلوا

قال وكيع، قال لي أبو حنيفة النعمان بن ثابت: أخطأت في خمسة أبواب من المناسك بمكة فعلمنيها حجام، وذاك أني جئت أريد أن أحلق رأسي فقال لي: أعراقي أنت؟ قلت: نعم، وقد كنت قلت له: بكم تحلق رأسي؟ فقال: النسك لا يشارط فيه، اجلس، فجلست منحرفاً عن القبلة، فأومأ إلي باستقبال القبلة، وأدرت رأسي من الجانب الأيسر فقال: أدر شقك الأمين من رأسك فأدرته، فجعل يحلق رأسي وأنا ساكت، فقال لي: كبر، فجعلت أكبر حتى قمت لأذهب فقال: أين تريد؟ قلت: رحلي، فقال: صل ركعتين ثم امض، فقلت: ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام إلا ومعه علم؛ فقلت له: من أين لك ما رأيتك أمرتني به؟ فقال: رأيت عطاء بن أبي رباح بفعل هذا.
أنشد ابن السماك: الكامل
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء من السقام لذي الضنى ... ومن الضنى ما زلت أنت سقيم
قال بعض النحويين لرجل من الرافضة كان يتعلم النحو: ما علامة النصب في عمر؟ قال: بغض علي بن أبي طالب، عليه السلام.
زعم بعض أصحابنا أن السيرافي قال: هذا الإنسان من باب الطاق، وما سمعته منه.
قال بعض البلغاء: السيف أكرم مواهب الله لخلقه، لأنه آلة النجدة، وأداة المعرفة والمنعة، وعدة العزة، وعتاد الرفعة، وسلاح القوة، وظهير الحزم، وعقدة التكرم، وعضد الوحيد، وأنس الفريد، وحلية الأنس، وزينة الفارس، وسند الرجل، وشفاء الموتور، ودرك الواتر، وجمال الأسير، وقوام المأمور، وحامي الذمار، وحارس الحريم، ومانع الجار، وجليس مأمون، وأنيس ميمون، ورسول إلى المطالب ناهض، وخادم في المآرب نافذ، وعون على الملم بليغ، وظهير على العدو قدير، وشهاب للعتاة مبير.
قال نديم لكسرى: إن المستأنس بسخونة الشمس في الشتاء يتقي أذى حرها في القيظ؛ معناه: إني وإن كنت ساكناً إليك في حال الرضا فذلك لا يؤمنني من الوجل منك في حال الغضب.
قيل لأبي مسلم: ما كان سبب خروج الدولة عن بني أمية؟ قال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألفاً لهم، فلم يصر العدو صديقاً بالدنو، وصار الصديق بالإبعاد عدوا.
قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الضبع كبشاً، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب جفرة، يعني في المحرم.
للسعدي لما صدر عن الحج: الرجز
ما لك بالحرة من صديق ... ولا بمران ولا العقيق
غيري وغير وضح الطريق ... ناشطة من الجبال الروق
عامدة لمطلع العيوق
قال ابن ثوابة لأبي العيناء: كنت أكتب انفاس الرجال، قال: صدقت، حين كانوا وراء ظهرك.
شكا المأمون إلى طبيبه علة، فقال: اجتنب اثنين: الرطب الماء البارد، فقال: لولاهما لما احتجنا إليك.
قال بعض السلف: إذا أرسلت لتأتي ببعر فلا تأت بتمر، فيؤكل تمرك وتذم على الخلاف.
قال عبيد الله بن سليمان لأبي العيناء: اعذرني فإني مشغول، قال: إذا فرغت لم أحتج إليك، وما اصنع بك فارغاً، وأنشد: الطويل
ولا تعتذر بالشغل عنا فإنما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل
قيل لجعفر بن محمد رضي الله عنهما: ما بال الناس يكلبون أيام الغلاء ويزيد جوعهم على العادة في الرخص؟ قال: لأنهم بنو الأرض، فإذا قحطت أقحطوا، وإذا أخصبت أخصبوا.
قال مجاهد: حججت في بعض السنين فصاحبت رجلاً من قريش فقلت له: هلم نتناتج الرأي، فقال: دع الود بيننا كما هو، فعلمت أنه خصمني.
قال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: أربعة أشياء القليل منها كثير: النار، والعداوة، والفقر، والمرض.
دخل أبو العيناء على إسماعيل القاضي، وأخذ يرد عليه إذا غلط في أسم رجل وكنية آخر، فقال له بعض من حضر: أترد على القاضي أعزه الله؟ قال: نعم لم لا أرد على القاضي وقد رد الهدهد على سليمان، وقال: أحطت بما لم تحط به؟ وأنا أعلم من الهدهد، وسليمان أعلم من القاضي.
قال عبيد الله بن يحيى لأبي العيناء: كيف كنت بعدي؟ قال: في أحوال مختلفة، شرها غيبتك، وخيرها أوبتك.
قال أبو العيناء لمحمد بن خالد: لئن كان آدم أساء إلى نفسه في إخراجها من الجنة، لقد أحسن إلينا انه ولد مثلك.
سأل أبو العيناء أحمد بن صالح حاجة فوعده، ثم اقتضاه فقال: دونها المطر والطين، فقال أبو العيناء: فحاجتي إذاً صيفية.

قال رجل لأبي العيناء: ما أنتن إبطك! قال: نلقاك - أعزك الله - بما يشبهك.
قال ابن الزيات للوليد بن يحيى: من أنت ومن أبوك؟ قال: أبي الذي تعرفه، ومات وهو لا يعرفك.
قال فيلسوف: لا تصغر أمر من حاربت أو عاديت، فإنك إذا ظفرت لم تحمد، وإذا عجزت لم تعذر.
عاد رجل مزبداً وقال له: احتم، فقال: يا هذا ما اقدر على شيء إلا على الأماني فأحتمي عنها؟! قال رجل من آل سعيد بن سلم لأبي العيناء: إن أبي يبغضك، قال: يا بني إن لي أسوة بآل رسول الله صلى الله عليه.
قال المنصور لإسحاق بن مسلم: أفرطت في وفائك لبني أمية، قال له: أتسمع جوابي؟ قال: قل، قال: من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى، قال: صدقت.
حبس محمد بن سليمان رجلاً من المرجفين ثم أخرجه وأمر بضربه فضحك الجلاد فقال له محمد: ما يضحكك؟ قال: أصلح الله الأمير، زعم أنك لم تأمر بضربه حتى أتاك كتاب العزل، فقال: خل عنه فلو ترك الإرجاف يوماً لتركه اليوم.
أحضر زياد رجلاً فأمر بضرب عنقه فقال: أيها الأمير إن لي بك حرمة، قال: وما هي؟ قال: كان أبي جارك بالبصرة، قال: ومن أبوك؟ قال: نسيت والله نفسي فكيف أذكر اسم أبي؟ قال: فرد زياد كمه إلى فيه وخلى سبيله.
قال الأصمعي: ضرب أبو الجحش الأعرابي غلماناً للمهدي فاستعدوا عليه إليه فقال: اجترأت على غلماني قضربتهم، قال: كلنا يا أمير المؤمنين غلمانك ضرب بعضنا بعضاً، فخلى سبيله.
قال المأمون: لأن أخطئ باذلاً أحب إلي من أن أصيب باخلاً.
قال ابن سيابة: نيك البغاء الفقير زكاة الأير.
قيل لمسور بن مخرمة الزهري: أي الندماء أحب إليك؟ قال: لم أجد نديما كالحائط، إن بصقت في وجهه لم يغضب، وإن أسررت إليه شيئاً لم يفشه عني.
قال ابن مناذر - هكذا قال الثقة - : كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسع نعلي، فخلع نعله فقلت: ما تصنع؟ فقال: أواسيك في الحفاء.
قال بعض السلف: إياك وكثرة الإخوان فإنه لا يؤذيك إلا من تعرف، وأنشد: الطويل
جزى الله عنا الخير من ليس بيننا ... ولا بينه ود ولا نتعارف
فما سامنا ضيماً ولا شفنا أذى ... من الناس إلا من نود ونألف
قال بعض الظرفاء: غضب العاشق مثل مطر الربيع.
أضاف مزبد رجلاً فأطال المكث، فقال ليلة لامرأته: كيف نعمل برحيل هذا عنا؟ قالت: أخاصمك ونحتكم إليه، ففعلا، فقالت المرأة: بالذي يبارك لك في ركوبك غداً لما حكمت بيننا بالحق، قال: والذي يبارك لي مقامي عندكم هذه السنة ما أعرف من الحكم شيئاً.
لقي عبد الله بن بكار سعيد بن العاص فقال له: البشرى، قال: وما ذاك؟ قال: قدم أبي، قال: فخذ البشرى من حر أمك.
دخل أبو العيناء على أحمد بن علي وقد صرف عن ولايته فقال: إن صرفت عن عملك لم تصرف عن كرمك، فأمر له بمال.
دعا أعرابي فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك، أو أذل في عزك، أو أضام في سلطانك، أو أضطهد والأمر لك.
تركنا تصريف حروف مرت مجاورة لأخواتها عن غير قصد، ولكن لسوء التأتي في نظم الباب إلى الباب، ورد الشبيه إلى الشبيه، وهذا كله من جناية الدهر في فقد حبيب تقر العين به، وصلاح حال تسكن النفس إليه، ولله أمر هو بالغه، ونهاية هو أعلم بها، وليس للعبد إلا ما لاق بعبوديته، وجبل على فطرته؛ فابسط أيها القارئ العذر، إما على قدر مروءتك الغافرة للذنب، وإما على قدر الضراعة من المصنف، ولا تكن خزياً له، فإنه أتم لثناء الناس عليك، وأقطع للسان المكروه عنك، واعلم أن العلل لو أزاحت، والأحوال لو ساعدت، لكنت لا أحوج إلى هذا الاعتذار، ولا يفلت مني تشوف إلى الاغتفار: أما الحز فهو القطع، يقال: حز يحز حزاً، وليس في فلان محز، على الاستعارة، والحزيز: المحزوز، وفلان يحز المفصل: إذا أجاد فيما مدح به، وحزاز النفس كأنها تقطع الكبد بالحسرة، والشاعر يقول: الطويل
وتبقى حزازات النفوس كما هيا
وأما البز فمصدر بززته أي سلبته، ابتززته أيضاً، والشيء مبزوز ومبتز، والبزاز والمبازة كالنهاب والمناهبة والسلاب والمسالبة، والبز: السلاح أيضاً، وكأنه يبز أي يؤخذ، والبز: الثياب، ومنه قولك: البزاز.
وأما الجز فاخذ الصوف من الشاة.
وأما الحر فمعروف، ويقال: الخز أيضاً وضع الشوك على رأس الحائط لئلا يتسلق عليه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9