كتاب : البصائر والذخائر
المؤلف : أبو حيان التوحيدي
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
الجزء الأول
اللهم إني أسألك جداً مقروناً بالتوفيق، وعلماً بريئاً من الجهل، وعملاً عرياً من الرباء، وقولاً موشحاً بالصواب، وحالاً دائرة مع الحق؛ نعم، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس موصولاً بثبات يقين، وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة، حتى تكون غايتي في هذه الدار مقصودة بالأمثل فالأمثل، وعاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل، مع حياة طيبة أنت الواعد بها ووعدك الحق، ونعيم دائم أنت المبلغ إليه.اللهم فلا تخيب رجاء من هو منوط بك، ولا تصفر كفاً هي ممدودة إليك، ولا تذل نفساً هي عزيزة بمعرفتك، ولا تسلب عقلاً هو مستضيء بنور هدايتك، ولا تعم عيناً فتحتها بنعمتك، ولا تحبس لساناً عودته الثناء عليك، وكما أنت أولى بالتفضل فكن أحرى بالإحسان: الناصية بيدك، والوجه عان لك، والخير متوقع منك، والمصير على كل حال إليك، ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة، وحلني في تلك الدار الباقية بزينة الأمن، وأفطم نفسي عن طلب العاجلة الزائلة، وأجرني على العادة الفاضلة، ولا نجعلني ممن سها عن باطن ما لك عليه، بظاهر ما لك عنده، فالشقي من لم تأخذ بيده، ولم تؤمنه من غده، والسعيد من آويته إلى كنف نعمتك، ونقلته حميداً إلى منازل رحمتك، غير مناقش له في الحساب، ولا سائق له إلى العذاب، فإنك على ذلك قدير.
ثبت - أطال الله بقاءك - الرأي بعد المخص والاستخارة، وصح العزم بعد التنقيح والاستشارة، على نقل جميع ما في ديوان السماع، ورسم ما أحاطت به الرواية، وأشتملت عليه الدراية، منذ عام خمسين وثلاثمائة، مع توخي قصار ذلك دون طويله، وسمينه دون غثه، ونادره دون فاشيه، وبديعه دون معتاده، ورفيعه دون سفسافه، ومتى أنصفتك نفسك، وهدتك الرأي، وملكتك الزمام، وجنبتك الهوى، وحملتك على النهج، وحمتك دواعي العصبية، علمت علماً لا يخالطه شك، وتيقنت تيقناً لا يطور به ريب، أنك ممن كفي مؤونة التعب بنصب غيره، ومنح شريف الموهبة بطلب سواه، وذلك بين عند تصفح ما تضمن هذا الكتاب؛ فإنك مع النشاط والحرص ستشرف على رياض الأدب، وقرائح العقول، من لفظ مصون، وكلام شريف، ونثر مقبول، ونظم لطيف، ومثل سائر، وبلاغة مختارة، وخطبة محبرة، وأدب حلو، ومسألة دقيقة، وجواب حاضر، ومعارضة واقعة، ودليل صائب، وموعظة حسنة، وحجة بليغة، وفقرة مكنونة، ولمعة ثاقبة، ونصيحة كافية، وإقناع مؤنس، ونادرة ملهية، عقل ملقح، وقول منقح، وهزل شيب بجد، وجد عجن بهزل، ورأي أستنبط بعناية، وأمر بيت بليل، وسركتم على الزهد، وحجة أستخلصت من شوائب الشبه، وشبهة أنشئت من فرط جهالة، وبلادة طباع رويت بلسان عي، ولفظ مرذول عن صدر حرج، وفؤاد عبام.
جمعت ذلك كله في هذه المدة الطويلة مع الشهوة التامة، والحرص المتضاعف، والدأب الشديد، ولقاء الناس، وفلي البلاد، من كتب شتى حكيت عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الكناني، وكتبه هي الدر النثير، والنور المطير، وكلامه الخمر الصرف، والسحر الحلال؛ ثم كتاب النوادر لأبي عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، ثم كتاب الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد الثمالي، ثم كتاب العيون لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكاتب الدينوري، ثم مجالسات ثعلب، ثم كتاب ابن أبي طاهر الذي وسمه بالمنظوم والمنثور، ثم كتاب الأوراق للصولي، ثم كتاب الوزراء لابن عبدوس، والحيوانات لقدامة. هذا إلى غير ذلك من جوامع للناس مضافات إلى حفظ ما فاهوا به، وأحتجوا له، وأعتمدوا عليه، في محاضرهم ونواديهم، وحواضرهم وبواديهم، مما يطول إحصاؤه، ويمل استقصاؤه، وسيعتزي في التفصيل كل شيء منه إلى معدنه وينتسب إلى قائلة ةالعرض من الكتاب مسوق إليك والمراد فيه معروض عليك، فلا عائدة إذن للإطالة، إلا بقدر التلطف والأستمالة.
وأنا ضامن لك أنك لا تخلو في دراسة هذه الصحيفة من أمهات الحكم، وكنوز الفوائد:
أولها وأجلها ما يتضمن كتاب الله تعالى الذي حارت العقول الناصعة في رصفه، وكلت الألسن البارعة عن وصفه، لأنه المطمع ظاهره في نفسه، الممتنع باطنه بنفسه، الداني بإفهامه إياك إليك، العالي بأسراره وغيوبه عليك، لا يطار بحواشيه، ولا يمل من تلاوته، ولا يحس بإخلاق جدته، كما قال علي ابن أبي طال كرم الله وجهه: ظاهرة أنيق، وباطنه عميق، ظاهره حكم، وباطنه علم.
والثاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنها السبيل الواضح، والنجم اللائح، والقائد الناصح، والعلم المنصوب، والأمم المقصود، والغاية في البيان؛ والنهاية في البرهان، والفزع عند الخصام، والقدرة لجميع الأنام.
والثالث حجة العقل؛ فإن العقل هو الملك المفزوع إليه، والحكم المرجوع إلى ما لديه، في كل حال عارضة، وأمر واقع، عند حيرة الطالب، ولدد الشاغب، ويبس الريق، وأعتساف الطريق، وهو الوصلة بين الله وبين الخلق، به يميز كلام الله عز وجل، ويعرف رسول الله، وينصر دين الله، ويذب عن توحيد الله، ويلتمس ما عند الله، ويتحبب إلى عباد الله، ويساس عباد الله، ويتخلص عباد الله من عذاب الله؛ نوره أسطع من نور الشمس، وهو الحكم بين الجن والإنس، التكليف تابعه، والحمد والذم قريناه، والثواب والعقاب ميزانه، به ترتبط النعمة، وتستدفع النقمة، ويستدام الوارد، ويتألف الشارد، ويعرف الماضي، ويقاس الآتي، شريعته الصدق، وأمره المعروف، وخاصته الأختيار، ووزيره العلم، وظهيره الحلم، وكنزه الرفق، وجنده الخيرات، وحليته الإيمان، وزينته التقوى، وثمرته اليقين، والرابع رأي العين؛ وهو يجمع لك بحكم الصورة، وأعتراف الجمهور، وشهادة الدهور، نتيجة التجارب، وفائدة الأختيار، وعائدة الأختبار، وإذعان الحس، وإقرار النفس، وطمأنينة البال، وسكون الاستبداد.
هذا سوى أطراف من سياسة العجم، وفلسفة اليونانيين، فإن الحكمة ضالة المؤمن، أين ما وجدها أخذها، وعند من رآها طلبها، والحكمة حق، والحق لا ينسب إلى شيء، بل كل شيء ينسب إليه، ولا يحمل على شيء، بل كل شيء يحمل عليه، وهو متفق من كل وجه، يطرب به الراضي، ويقنع به الغضبان، مشرق في نفسه، موثوق بحكمه، معمول بشرطه، معدول إلى قضيته، به خلق الله عز وجل السماء والأرض، وعليه أقام الخلق، وبه قبض وبسط، وحكم وأقسط.
فأستدع - أيدك الله - نشاطك الشارد، وراجع بالك الرخي، وجل بفهمك في رياض عقول القدماء، وأنظر إلى مآثر هؤلاء الحكماء، وأطلع على نوادر فطن الأدباء، وأجمع بين طيب السلف، وخبيث الخلف، فما تخلو عند جولانك فيها من جد أنت سعيد به، وهزل أنت مداري فيه، ورأي أنت فقير إليه، وأمر لعلك محمود عليه: البسيط
فالدهر آخره شبه بأوله ... ناس كناس وأيام كأيام
وإذا حفظت ما مضى، حذرت ما بقي.
وأجعل نهاية حالك، وقصارى أمرك، فيما تستفيد من هذا الكتاب، وعساه يجمع ألفي ورقة، أن تكون سالياً عن هذه الدنيا، قالياً لأمورها، واثقاً بالله تعالى، مطمئناً إليه، ممترياً لمزيده، منتظراً لموعوده، عالماً بأنه أولى بك، وأملك لك، وأقرب إليك، فإنه متى خلاك من توفيقه عثرت عثاراً بعد عثار، وأسرت إساراً بعد إسار، وأستمررت في الخزي استمرارً بعد استمرار، وتلك حال من غضب الله عليه، وأرسله من يده، ووكله إلى حول خفيف، ومتن ضعيف؛ لا أذاقك الله كرب هذه البلوى، ولا أخلاك أبداً من متجدد النعمى.
وأصرف ما أستطعت همتك عن هذا الظل القالص، والزخرف الغاطل، والعيش الزائل، إلى ما وعدك الله، فإن الهامة إياك متى صادف طاعتك له، ودعاءه لك متى وافق إجابة منك، مدت السعادة جناحها عليك، وصافحت يد اليمن كفك، ونجوت من معاطب عالم: الساكن فيه وجل، والصاحي من أهله ثمل، والمقيم على ذنوبه خجل، والراحل عنه مع تماديه عجل؛ وإن داراً هذا من آفاتها وصروفها، لمحقوقة بهجرانها وتركها، والصدوف عنها، خاصة ولا سبيل لساكنها إلى دار قراره إلا بالزهد فيها، والرضى بالطفيف منها كبلغة الثاوي وزاد المنطلق.
عرفنا الله حظنا، وسلك بنا في طرق رشدنا، وسل حب الدنيا من قلوبنا، وحط ثقل الحرص عليها عن ظهورنا، وفتح على ما عنده بصائرنا، وغمض عما ها هنا أبصارنا، ولا أبتلانا بنا، ولا أسلمنا إلينا، إنه ولي النعمة ومانحها، ومرسل الرحمة وفاتحها، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير؛ جل مذكوراً، وعز مراداً.
اللهم فأسمع، وإذا سمعت فأجب، وإذا أجبت فبلغ، وإذا بلغت فأدم، فإنه لا يشقى من كنت له، ولا يسعد من كنت عليه، وصل على نبيك المبعوث من لدنك إلى خلقك، محمد وآله الطاهرين، ولا تنزع من قلوبنا حلاوة ذكره، ولا تضلنا بعد إذ هديتنا، وقرب علينا طريق الاقتداء بأمره، والاهتداء بهديه، فإنك تصرف من تشاء إلى ما تشاء؛ لا راد لقضائك، ولا معقب لحكمك، ولا محيط بكنهك، ولا مطلع على سرك، ولا واصف لقدرك، ولا آمن لمكرك؛ أنت الإله المحمود، وأنت نعم المولى ونعم النصير.
قد تلطفت إلى قلبك بحثي إياك على حظك في فنون من القول، وضروب من الوصايا، وأرجو أن يكون صوابي عندك فيها متقبلاً، وخطأي فيها عندك متأولا، لا لأني لذلك أهل، ولكن لأنك حقيق به، وله خليق، ومهما شككت فيما يرد عليك مني في هذا الكتاب، فلا تشك أني قد نثرت لك فيه اللؤلؤ والمرجان، والعقيق والعقيان، وهكذا يكون عمل من طب لمن حب.
ثبت الله نعمه لديك، وخفف مؤونة شكرها عليك، وتابع لك المزيد، في كل يوم جديد، وحرسك من نفسك، وعصمك من بني جنسك، وعرفك الخير، وحبب إليك الإحسان، ووفقك للرشاد، وختم أمرك بالطهارة بعد بلوغ الأماني ودرك المطالب، بمنه وقدرته.
1 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق، ولا ميراث كالأدب، ولا فائدة كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح، ولا ربح كثواب الله تعالى، ولا ورع كالوقوف عند الشبهة، ولا زهد كالزهد في الحرام، ولا علم كالتفكر، ولا عبادة كأداء الفرائض، ولا إيمان كالحياء والصبر، ولا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم، ولا مظاهرة أوفق من المشورة؛ فأحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وأذكر الموت وطول البلى.
2 - وقال صلى الله عليه وسلم: حب المال والشرف أذهب لدين أحدكم من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح، فماذا يبقيان فيها؟ 3 - وقال الحسن البصري: إنا لو أتعظنا بما علمنا، أنتفعنا بما عملنا، ولكنا علمنا علماً لزمتنا فيه الحجة، وغفلنا غفلة من لا تخاف عليه النقمة، ووعظنا في أنفسنا بالتحول من حال إلى حال: من صغر إلى كبر، ومن صحة إلى سقم، فأبينا إلا المقام على الغفلة بعد لزوم الحجة، إيثاراً لعاجل لا يبقى، وإعراضاًً عن آجل إليه المصير.
4 - وقال بكر بن عبد الله المزني: المستغني عن الدنيا بالدنيا كمطفىء النار بالتبن.
5 - وقال الثوري: إذا استوت السريرة والعلانية فذلك العدل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل.
6 - قيل لمحمد بن واسع: ألا تتكئ؟ قال: تلك جلسة الآمنين.
7 - وقال الحسن: أعمل كأنك ميت غداً، ولا تجمع كأنك تعيش أبداً.
8 - وأنشد لأبي الجهم: السريع
والمرء منسوب إلى فعله ... والناس أخبار وأمثال
يا أيها المرسل آماله ... من دون آمالك آجال
9 - خاصم حجام بصنعته حذاء، فقال الحجام للحذاء: أنت تمشط وتسرح، وأنا أمشط وأسرح، وأنت تخرق وأنا أخرق، وأنت تشق الجلد بشفرتك وأنا أشقه بمشراطي، فأي فضل لك علي؟ 10 - قال الرقاشي، سمعت الأصمعي يقول، سمعت الأعراب تنشد: البسيط
يا باري القوس برياً ليس يحكمه ... لا تفسد القوس أعط القوس باريها
هكذا، ولعل القطع مراد بالاختلاس.
11 - قال أبو هفان: كان مزين يخدم رئيساً، وكان الرئيس قد خالطه بياض، وكان يأمر المزين بلقطه؛ فلما أنتشر البياض وتفضغ الشيب قال المزين: يا سيدي، قد ذهب وقت اللقاط، وحان وقت الصرام، فبكى الرئيس من قوله.
12 - قال الأصمعي، سمعت أعرابية تقول: إلهي، ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، وأوحشه على من لم تكن أنيسه.
13 - وقال الحسن البصري: من عمل بالعافية فيمن دونه، رزق العافية ممن فوقه.
14 - أوصى المخرمي، وكان ذا يسار، فقيل له: ما تكتب؟ فقال: أكتبوا: ترك فلان ما يسوءه وينوءه، مالاً يأكله وارثه، ويبقى عليه وزره.
15 - نظر زاهد إلى باب ملك فقال: باب حديد، وموت عتيد، وفزع شديد، وسفر بعيد.
16 - وقال المغيرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن بخير ما أبقاك الله لنا، فقال له عمر: أنت بخير ما اتقيت الله تعالى.
17 - ذم أعرابي آخر فقال: أفسد آخرته بصلاح دنياه، ففارق ما عمر غير راجع إليه، وقدم على ما أخرب غير منتقل عنه.
18 - يقال: من اعتراه الحدب طال أيره، وأشتد شبقه، وأحدثت الحدبة له خبثاً وظرفاً.
19 - قيل لابن الجصاص وقد كان مات له إنسان: لا تجزع وأصبر، فقال: نحن قوم لم نتعود الموت.
20 - وقال شملة لرملة: تعال حتى لا نفلح أبداً، فقال: أما أنا فأقعد حيث شئت، فإن شئت أنت فتعال.
21 - سئل أبو الريان الحمصي عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: متى تقوم الساعة؟ فأشار بأصابع يده الثلاث، فتأوله على ثلاثمائة سنة؛ قال: إنه أراد الطلاق، لأنه لا يدري متى تقوم الساعة.
22 - وقال المنصور للربيع: كيف تعرف الريح؟ قال: أنظر إلى خاتمي فإن كان سلساً فشمال، وإلا فهي جنوب. وقال المنصور للطلحي: كيف تعرف أنت؟ قال: أضرب بيدي إلى خصيتي فإن كانتا تقلصتا فهي شمال، وإن تدلتا فهي جنوب، فقال المنصور: أنت أحمق.
23 - قال الحسن البصري: اللهم لا تجعلني ممن إذا مرض ندم، وإذا استغنى فتن، وإذا افتقر حزن.
24 - قال العتبي: سأل أعرابي قوماً فقال: أنا جاركم في بلاد الله عز وجل، وأخوكم في كتاب الله عز وجل، وطالب من فضل الله عز وجل، فهل أخ يواسي في ذات الله عز وجل؟ 25 - قال إسماعيل بن عياش، سألت عبد الله بن عثمان بن خثيم: ما كانت معيشة عطاء؟ قال: جوائز السلطان وصلات الإخوان.
26 - خطب عبد الملك بن مروان أهل المدينة فقال: لا نحبكم أبداً ما ذكرنا عثمان، ولا تحبوننا أبداً ما ذكرتم يوم الحرة.
27 - كتب عبد الملك إلى الأحنف بن قيس يدعوه إلى نفسه، فقال الأحنف: يدعوني ابن الزرقاء إلى ولاية أهل الشام؟! فو الله لقد وددت بأن بيننا وبينهم جبلاً من نار، فمن أتانا منهم احترق، ومن أتاهم منا احترق.
28 - قال الهيثم بن عدي: خرج معاوية يريد مكة، حتى إذا كان بالأبواء، أطلع في بئر عادية فأصابته اللقوة، فأتى مكة، فلما قضى نسكه وصار إلى منزله، دعا بثوب فلفه على رأسه وعلى جانب وجهه الذي أصابه فيه ما أصابه، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، وعنده مروان بن الحكم فقال: إن أكن أبتليت فقد أبتلي الصالحون قبلي، وأرجو أن أكون منهم، وأن عوقبت فقد عوقب الظالمون قبلي، وما آمن أن أكون منهم، وقد أبتليت في أحسن ما يبدو مني، وما أحصي صحيحي، وما كان لي على ربي إلا ما أعطاني؛ والله إن كان عتب علي بعض خاصتكم، فقد كنت حدباً على عامتكم، فرحم الله رجلاً دعا لي بالعافية؛ قال: فعج الناس له بالدعاء، فبكى، فقال مروان: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: كبرت سني، وكثر الدمع في عيني، وخشيت أن تكون عقوبة من ربي، ولولا يزيد لأبصرت قصدي، وأنشد: الكامل
وإذا رأيت عجيبة فأصبر لها ... فالدهر قد يأتي بما هو أعجب
ولقد أراني والأسود تخافني ... فأخافني من بعد ذاك الثعلب
29 - قال أعرابي للحسن: أيها الرجل الصالح، علمني ديناً وسوطاً، لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، فقال الحسن: أما إن قلت ذلك: إن خير الأمور أوساطها.
30 - قال العتبي: كان من دعاء الحسن بن علي رضي الله عنهما: اللهم أرزقني خوف الوعيد، وسرور الموعود، حتى لا أرجو إلا ما رجيت، ولا أخاف إلا ما خوفت.
31 - قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: اتق الله يا أمير المؤمنين، فقال له رجل: لا تألت أمير المؤمنين، فقال عمر: دعهم فلا خير فيهم إذا لم يقولوها، ولا خير فينا إذا لم تقل لنا، ومنه قوله تعالى " وما ألتناهم " أي ما نقصناهم.
32 - قال ابن الأعرابي: يقال: قد انفلقت بيضتهم عن كذا، إذا وضح لهم ما يريدون.
33 - وقال ابن الأعرابي: تركت فلاناً يضرب ظهر الأرض وبطنها، ورأس الأمر وعينه، إذا روى فيه.
34 - وقال ابن الأعرابي: قيل لعبد الملك: أقتلت عمراً؟ قال: قتله وهو أعز علي من دم ناظري، ولكن لا يجمع فحلان في شول.
35 - قال آخر: الطويل
ألا أيها الغادي تحمل رسالة ... إليها وبلغها سلامي مع الركب
فكم في حمى القلب الذي نزلت به ... لها من مراد لا وخيم ولا جدب
36 - قال ثعلب: قولهم: ليس له أصل ولا فصل؛ الأصل: الوالد، والفصل: الولد.
37 - خرج عيسى عليه السلام على الحواريين فرآهم يضحكون فقال: لا يضحك من خاف، فقالوا: يا روح الله، مزحنا، فقال: لا يمزح من تم عقله.
38 - قالت عائشة رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يعفو عن زلة السري.
39 - أنشد ثعلب، قال: أنشد إسحاق بن إبراهيم الموصلي: الطويل
أأن غبت عن مولاك دمعك سافح ... بشوق وسهم في فؤادك جارح
كفى حسرة أن المسافة بيننا ... قريب وأني غائب عنك نازح
وإن يك شخصي غاب عنك فإنني ... لشوقي لغاد كل يوم ورائح
وما زلت مذ غيبت عني يعودني ... سقام له في الجسم نار وقادح
40 - عمر بن أبي ربيعة: الطويل
إذا خدرت رجلي أبوح بذكرها ... ليذهب عن رجلي الخدور فيذهب
هذا البيت شاهد في مصدر خدر مع لطف المعنى فيه.
41 - يقال: سمت العاطس وشمته، فأما السين فمن السمت، كأنه قال: جعلك الله على السمت الحسن، وأما الشين فمن قولك: تشمتت الإبل، إذا اجتمعت في المرعى، فكأن المعنى: سألت الله أن يجمع شملك؛ هكذا قال ثعلب؛ قال ابن دريد: الشوامت: اليدان والرجلان وأطراف الرجل، فكأنه قال: حفظ الله أطرافك.
42 - قال المسيح عليه السلام: يا معشر الحواريين، إني بطحت لكم الدنيا على بطنها، وأقعدتكم على ظهرها، فإنما ينازعكم فيها اثنان: الملوك والشياطين، فأما الشياطين فاستعينوا عليهم بالصبر والصلاة، وأما الملوك فخلوا لهم دنياهم يخلوا لكم آخرتكم.
43 - وقيل لمدل بشرف: لعمري لك أول ولكن ليس لأولك آخر.
44 - وقيل لشريف آخر ناقص الأدب: إن شرفك بأبيك لغيرك، وإن شرفك بنفسك لك، فافرق الآن بين ما لك وما لغيرك؛ ألا ترى بأنك لو وصفت أنك تام الأدب أو ظريف الغلام، كان الأدب لك والظرف لغيرك، ولا تفرح بشرف النفس فإنه دون شرف الأدب، وإياك أن يكون إعجابك بشرف غيرك مثل إعجاب الخصي بأير مولاه إذا أتى ربة بيته.
45 - قال بزرجمهر: مما يدل على أن القدر حق تأتي الأمور لأهل الجهل، وتحرفها عن العلماء مع علمهم.
46 - يقال في اللغة: الحصان - بفتح الحاء - العفيفة، والجمع الحواصن، ولا يصرف هذا الوزن؛ والحصان - بكسر الحاء - الفرس، والجمع حصن، يا هذا. يقال: فاد يفيد فيداً وفيوداً إذا مات؛ ويقال: الغطاط أول الصبح؛ ويقال: السريس العنين، وهو الحافظ أيضاً؛ وتقول عنين بين التعنين، وأجتنب قول الفقهاء بين العنة فإنه كلام مرذول؛ وقد مرنوا على فنون من الخطأ لسوء عنايتهم بلغة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
47 - يقال: الوعد وجه والإنجاز محاسنه.
48 - وقال جعفر بن محمد: الفتن حصاد الظالمين، وأنشد: المتقارب
إذا عظمت محنة عن عزاء ... فعادل بها صلب زيد تهن
وأعظم من ذاك قتل الوصي ... وذبح الحسين وسم الحسن
49 - قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: لا ينقضي عجبي من ثلاثة أشياء: إفلات عباس بن عمرو من القرمطي وهلاك أصحابه؛ ووقوع الصفار وإفلات أصحابه؛ وولاية أبي الحسن وأنا متعطل.
50 - وكان للمتوكل مضحكان، يقال لأحدهما شعرة وللآخر بعرة، فقال أحدهما لصاحبه: ما فعل فلان في حاجتك؟ فقال: ما فتني وما قطعك.
51 - عزى سهل بن هارون رجلاً فقال: مصيبة في غيرك لك أجرها خير من مصيبة فيك لغيرك ثوابها.
52 - قال أبو العيناء: قال ملك من الأكاسرة لبنيه: صفوا لي شهواتكم من النساء، فقال الأكبر: تعجبني القدود والخدود والنهود؛ وقال الأوسط: تعجبني الأطراف والأعطاف والأرداف، وقال الأصغر: تعجبني الثغور والنحور والشعور.
53 - قال المدائني: قرأت على قبر بدمشق: نعم المسكن لمن أحسن.
54 - قال رجل لعبد الملك: قلت دراهمي وأنت بحري، إذا فضت فضت، وإذا غضت غضت.
55 - قال جحظة: وصف لي خياط يقول الشعر، فذهبت إليه لأسمع وأهزأ به، فأستنشدته فأنشدني: مجزوء الوافر
أيا من وصله نعم ... ويا من قوله نعم
تقول لقد سعى الواشو ... ن في التحريش لا سلموا
وقد راموا قطيعتنا ... فقلت له: أنا لهم
قال: فحيرني حسنها.
56 - قال المعذل بن غيلان: أخذنا عن غسان بن عبد الحميد أدباً حسناً؛ قال لجاريته: إذا استسقيتك خوضاً فأخثريه، فإنه لا يستحي الرجل أن يدعو بماء فيرقه، ولا ترقيه فإنه يستحي أن يدعو بخوض فيخثره.
57 - وقال علي كرم الله وجهه: قليل للصديق الوقوف على قبره.
58 - كتب رجل إلى طاهر وقعة يسأله فيها، فوقع له عليها: ما شاء الله كان؛ فوقع الرجل في أسفلها: إن الله شاء المعروف؛ فلما قرأها طاهر وصله.
59 - قال أبو هفان: كنت أنزل في جوار المعلى بن أيوب، وكان ابن أبي طاهر قد نزل عندي، وكنا على ضيقة شديدة، فقلت لابن أبي طاهر: هل لك في شيء لا بأس به؟ تجيء حتى أسجيك وأمضي إلى منزل المعلى وأعلمه أن رفيقاً لي توفي، وآخذ ثمن الكفن، فنتسع به أياماً إلى أن يصنع الله، فقال: أفعل؛ وكان المعلى قد أقام وكيلاً يكفن كل من مات ولم يخلف ما يكفن به بثلاثة دنانير؛ قال أبو هفان: فصرت إلى منزل المعلى وأعلمتهم ذلك، فجاء الوكيل ليعرف حقيقة الخبر، ولما دخل منزلي وكشف عن وجه ابن أبي طاهر استراب به، فنقر أنفه فضرط، فالتفت إلي وقال: ما هذا؟ فقلت: هذه بقية روحه كرهت نكهته فخرجت من استه! فضحك حتى استلقى، ودفع لي ثلاثة دنانير وقال: أنتم ظرفاء مجان، فاصرفوها فيما تحتاجونه.
60 - قال محمد بن راشد: كنا يوماً مع إسحاق بن إبراهيم الطاهري نتحدث ونخوض في ضروب من الآداب، إذ أقبل علينا فقال: ما أراد امرؤ القيس بقوله: الطويل
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فكل قال بما حضره فقال: لم يرد هذا، قلنا: ما أراد؟ قال: أراد تملكين قلبك فإن أردت صرمي قدرت عليه، وإن أردت صلتي قدرت عليها، وأنا لا أملك من قلبي إلا صلتك؛ ومعنى أغرك أي جراك علي.
61 - وكان الثوري يعظ أصحابه فيقول: ما تصنعون بشيء إذا بلغتم منه الغاية تمنيتم أن تنجوا منه كفافاً؟ 62 - قال ثعلب: سئل عنك الخبير، أي عرفك فأثنى عليك، ولا يجوز: سأل عنك الخبير، لأنه لا يجهله فيسأل عنه.
63 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي بتسع: الإخلاص في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضى، وأن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبراً.
64 - قال علي بن عبيدة: العقل ملك والخصال رعيته، فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها.
سمع هذا الكلام أعرابي فقال: هذا كلام يقطر عسله.
65 - مدح رجل هشام بن عبد الملك فقال له هشام: يا هذا، إنه قد نهي عن مدح الرجل في وجهه، فقال له: ما مدحتك وإنما ذكرتك نعم الله عليك لتجدد له شكراً، فقال له هشام: هذا أحسن من المدح، وأمر له بصلة.
66 - قال عمر بن عبد العزيز: ما أطاعني أحد من الناس فيما عرفت من الحق حتى بسطت له طرفاً من الدنيا.
67 - لفضل الشاعرة: الكامل
يا من تزينت العلوم بفضله ... وعلا قباب مراتب الأدباء
صرف الإله عن المودة بيننا ... وعن الإخاء شماتة الأعداء
68 - كتب ابن الحرون إلى حمويه اليزدجردي صاحب أبي دلف: أيها السيد الذي جل قدره، وعظم خطره، إن الكتابة والبلاغة عندك شديدة، ولديك وافرة، وفيك كاملة، وقد أهديت إليك من آلتها ما خف محمله، وقلت قيمته، ليجدد عند مشاهدتك إياه، وأستعمالك له، ذكر حرمتي، فيؤكد عقد مودتي، وهي أقلام من القصب، كقداح النبل في أوزانها، وقصب الخيزران في اعتدال قوامها، وسمر القنا في تمالك أجسامها، فكأنما خرطت بشهر استدارتها، وقسمت بقياس أجزاؤها، فهي أحسن اعتدالاً من الأسل الخطية، وأنقى وأبهى من الصفائح اليمانية، فلو كانت رجالاً لوجب أن تكون في ذروة من الشرف من آل آكل المرار وعبد المدان، وفي النجدة كملاعب الأسنة وصناديد الفرسان، وفي الجود كحاتم وابن جدعان، وفي السياسة كأزدشير وأنوشروان، وفي الجمال كما قال الشاعر: الطويل
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وكما قال الآخر: المتقارب
وبيض رقاق خفاف المتو ... ن تسمع للبيض فيها صريرا
مهندة من عتاد الملوك ... يكاد سناهن يعشي البصيرا
69 - وقال الشاعر: الطويل
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الرأي عنك لعازب
بلوتك في أشياء منها منحتني ... أماني محاج وفيك مخالب
70 - وقال آخر: الطويل
فليس أخي من ودني رأى عينه ... ولكن أخي من ودني في المغايب
ومن ماله مالي إذا كنت معدماً ... ومالي له إن عض دهر بغارب
فما أنت إلا كيف أنت ومرحباً ... وبالبيض رواغ كروغ الثعالب
71 - يقال: أرغى القوم إذا أرادوا الرحيل فرغت إبلهم. العد: الماء الذي له مادة. والجميع الأعداد؛ والشياهم هي الدلادل. يقال: الأرش والإتاوة في الحرب ما يشترى به السرب.
72 - قال ابن الكلبي: العرب كلها سدوس. إلا سدوس بن أصمع في طيء، مضموم السين.
73 - ويقال: العرب كلها عدس إلا عدس بن زيد في تميم، فإنه مضموم 74 - وقال معاوية يوماً، وعنده الضحاك بن قيس الفهري، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص، ويزيد ابنه: ما أعجب الأشياء؟ فقال الضحاك: إكداء العاقل، وخفض الجاهل؛ وقال سعيد: أعجب الأشياء ما لم ير مثله؛ وقال عمرو: أعجب الأشياء غلبة من لا حق له ذا الحق على حقه؛ فقال معاوية: أعجب من ذلك أن تعطي من لا حق له ما ليس له بحق من غير غلبة، قال يزيد: أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء والأرض، لا يدعمه شيء.
دعم يدعم دعماً إذا أمسك، والدعامة منه، والجماع الدعائم؛ هكذا قال الثقات.
75 - قال أعرابي لآخر: حاجيتك، ما ذو ثلاث آذان يسبق الخيل بالرديان؟ يعني سهماً. حاجيتك معناه فاطنتك، والحجى: العقل والفطنة؛ والرديان: ضرب من المشي في سكون؛ هكذا قال الثقة.
76 - قال أبو عمرو: قد صرمت سحري منه، أي يئست منه. ويقال: إني منك غير صريم سحر؛ والسحر: الرئة؛ والرئة مهموزة، وأما الرية - بالتشديد - ما أوريت منه النار، هكذا قال أبو حنيفة صاحب النبات. وأما الروية فقد جرت بينهم غير مهموزة، ولها الهمز بحق الأصل كقولك روأت في الأمر، وأما رويت رأسي من الدهن، وأرويت مشاشي من الماء، فلا همز فيه، ومعناه أكثرت ونقعت. يقال: إذا رويت - من الري - نقعت ونقعت غيري بكذا؛ هكذا قال الكسائي في النوادر.
77 - قال يزيد بن المهلب: الكذاب يخيف نفسه وهو آمن.
معناه أنه قد عرض نفسه للمطالبة بحقيقة ما قاله، فهو خائف من الفضيحة، وملاحظ لعار التكذيب، ومستوحش لما فيه أنس الصادقين.
78 - وقال بعض الأدباء: لو لم أدع الكذب تأثماً لتركته تكرماً.
79 - وقال بعض السلف الصالح: لو لم أدع الكذب تعففاً لتركته تظرفاً.
80 - وقال آخر من الأدباء: لو لم أدع الكذب تحوباً لتركته تأدباً.
81 - وقال أبو النفيس: لو لم أدع الكذب تورعاً اتركته تصنعاً.
82 - وقال صلى الله عليه وسلم، وهو المقدم والمعظم، والمأخوذ بقوله في الحرب والسلم: الكذب مجانب للإيمان.
83 - شاعر: الرجز
تقول إحدى البدن الرعابيب ... ما لي أراك عاري الظنابيب
ممشق اللحم كتمشيق الذيب 84 - وقال العباس بن الأحنف: الكامل
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق ... أن لا ينال سواي منك نصيبا
85 - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الحق لو جاء محصاً لما أختلف فيه ذو الحجى، وإن الباطل لو جاء محضاً لما اختلف فيه ذو حجى، ولكن أخذ ضغث من هذا وضغث من هذا.
الضغث من الشيء: القطعة والطائفة منه؛ وهو كلام شريف ويحوي معاني سمحة في العقل.
86 - قال علي رضي الله عنه: ليس من أحد إلا وفيه حمقة فبها يعيش.
87 - أنشد لأعرابي: الطويل
كفى لأمة بالمرء والله عالم ... وعندك من علم الكرام يقين
بأن يخرج المشتار من عند صبية ... سغاب ويأتي الأهل وهو بطين
وإن امرءاً يهنا بطعم ومشرب ... وترك جياع خلفه لمهين
يريد باللأمة اللؤم، وهذا اللفظ غريب، فإن اللأمة الدرع، وكذلك يقال: استلأم الرجل إذا دخل في شكته، والشكة: السلاح؛ فأما استلم - بغير همز - فلمس الحجر، والحجر هو السلام، والألائم: اللئام، والملائم: الخصال اللئيمة، فأما الملاوم فالمعايب ومنه " فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون " . هكذا حصلته عن أبي سعيد السيرافي قراءة وسماعاً ومسألة ومراجعة.
88 - قال أبو زياد: لم يلظ به إلا وهو يريد به خيراً؛ قال: الإلظاظ: اللزوم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ألظوا بياذا الجلال والإكرام.
هكذا فسره أبو عبيد القاسم بن سلام - ولا تقل سلام، فقد كان بعض من صحب أبا الفتح ابن العميد إلى مدينة السلام سنة أربع وستين وثلاثمائة يقول ذلك، فعابه بذلك البغداديون. فأما الإلطاط - بالطاء - فالأحتجاب والمطل؛ وقال الثقة: المرجوب: المهيب، وكأن رجباً منه لأنه كان يهاب فيه الحرب.
89 - قال أعرابي في شأن امرأة: إنها والله عربية اللسان، وقلبها أعرب منها؛ هكذا قال ابن الأعرابي.
90 - قال أبو بكر الواسطي: طلبت قلوب العارفين فوجدتها في أوج الملكوت تطير عنه الله، ووجدت وجه عطاء العاملين أن يكون من الله، ووجدت وجه عطاء العارفين أن يكون مع الله، لأن حاجة العامل إلى بره، وحاجة العارف إلى ذاته.
91 - كتب أبو العتاهية إلى سهل بن هارون، وكان مقيماً بمكة: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله الذي لا بد لك من تقاته، وأتقدم إليك عن الله عز وجل، وأذكرك مكر الله فيما دنت إليك به ساعات الليل والنهار، فلا تخدعن عن دينك، فإنك إن ظفرت بذلك منك وجدت الله عز وجل أسرع فيك مكراً، وأنفذ فيك أمراً، ووجدت ما مكرت به في غير ذات الله عز وجل غير راد عنك يد الله، ولا مانع لك من أمر الله؛ فلعمري لقد ملأت عينك الفكر، وأضطربت في سمعك أصوات العبر، ورأيت آثار نعم الله عز وجل تنسخها آثار نقمه حين استهزىء بأمره، وجوهر بمنابذته، وكأن في حكم الله أن من أكرمه فأستهان بأمره أهانه، والسعيد من وعظ بغيره، لا وعظك الله في نفسك، وجعل عظتك في غيرك، ولا جعل الدنيا عليك حسرة وندامة، فقد تقدم إليك مني كتابان، فإن كانا وصلا فقد أخبرا بحال زماننا، والسلام.
92 - وبكوا على محمد بن النضر الحارثي عند موته، ففتح عينيه وقال: ما لكم تبكون؟ قالوا: لأنك تموت، فقال: أما والله ما أبالي أمت أو رميت في البحر، وإنما أنقلب من سلطانه إلى سلطانه.
93 - قال عبيد الله بن محمد بن عبد الملك بن الزيات في كتاب كتبه: وقريش - حفظك الله - بمحل الشرف، وبيت الكرم، وأهل الجلالة، أعظم الناس أحلاماً، وأصحهم عقولاً، وأبعدهم آراء، وأشدهم عارضة، وألسنهم بحجة، قال الله عز وجل: " بل هم قوم خصمون " الزخرف: 58، وهاشم وبنوه منهم. قال: وقال بعض البلغاء يصفهم: وهم طينة التوحيد، وشجرة الإسلام، ونهية الخير، وبيت الرحمة، وينبوع الحكمة، ومعاذ الخائفين، وملاذ الخائبين، ونهاية الراغبين، مهبط جبريل، وربع التنزيل، ومنزع التأويل، وخدن الإيمان، وواسطة النظام، وأوعية القرآن، ليس إليهم مرتقى، ولا فوقهم متمنى، بيوتهم القبلة، وأفعالهم القدرة، وموالاتهم عصمة، ومحبتهم طهارة، ومقاربتهم نجاة، ومباعدتهم سخط؛ ولما اصطفى الله تعالى رجلاً جعله منهم، ولما أحكم كتاباً أنزله عليهم، ولما أرشد أمة دلها عليهم؛ أولهم ذبيح الله، وأوسطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرهم خلفاء الله في أرضه، وبعصيانهم وطاعتهم أضحى الثقلان فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.
وفي الكتاب أيضاً فصل آخر سأرويه على جهته إذا عثرت به عند النقل. فصرف فهمك ونعم بالك في طرف الحديث، وملح النوادر، وشريف اللفظ، ولطيف المعنى، فإن لك بذلك مزية على نظرائك الذين أصبحوا متناحرين على الدنيا في كسب الدوانيق والحيل والمخاريق، وأصبحت أنت تلتمس موعظة تنهي نفسك بها عن غرورها، وتطلب فضيلة تتحلى بها من شكل الدنيا، وتتحول بها إلى دار القرار.
94 - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الكريم لا يلين على قسر، ولا يقسو على يسر.
95 - وكان سهل بن هارون كاتب المأمون على خزانة الحكمة. وتوفي آخر أيام المأمون.
96 - وكان يقال: بلغ فلان عنان السماء؛ العنان: الغيم الأبيض، وهو أشد الغيوم ارتفاعاً، فأما أعنان السماء فنواحيها؛ هكذا قال الثقات، وبخط السكري مر بي فنقلته، وكان ذلك في كتب أبي بكر القومسي الفيلسوف بمدينة السلام.
97 - وصف أعرابي بعيراً فقال: إذا عصل نابه، وطال قرابه، فبعه بيعاً زليقاً، ولا تحاب به صديقاً. قرابه: خاصرته؛ هكذا وجدته.
98 - العرب تقول: ويل أهون من ويلين، كما تقول: بعض الشر أهون من بعض.
99 - يقال: مشى له الخمر والضراء إذا استنزله وختله، ومشى الملا والبراح إذا مشى ظاهراً بارزاً؛ كأنه في الأول دب خادعاً، وفي الثاني سلك السواء.
100 - وأنشد لحبيب بن خدرة: الطويل
ألا حبذا عصر اللوى وزمانه ... إذ الدهر سلم والجميع حلول
وإذ للصبا حوض من اللهو مترع ... لنا علل من ورده ونهول
الحلول: الحالون، كما تقول: هم قعود أي قاعدون؛ وأما المترع فالمملوء، يقال: إناء مترع إذا كان ملآن، وجرة مترعة إذا كانت ملأى، ولا ينصرفان؛ ويستعار فيقال: عينه مترعة بالدمع، كما يقال: قلبه مطفح بالغيظ؛ وأما العلل فالشرب الثاني، والنهل: الري، والناهل: الريان العطشان، وهكذا جاء في الأضداد؛ وهذا التفسير حفظته سماعاً وأحكمته رواية.
وإذا نحن لم يعرض لألفة بيننا ... تناء ولا مل الوصال ملول
101 - ورجل مغوار: صاحب غارة، ورجل مغيار: من غيرة، والغيرة - بفتح الغين - هذا العارض للزوج على زوجها، وللزوج على زوجه، والزوجة لغة، والأول أعلى - هكذا قيل. وإياك أن تقيس اللغة، وقد رأيت فقيهاً من الناس وقد سئل عن قوم فقال: هم خروج، فقيل: ما تريد بهذا؟ قال: قد خرجوا، كأنه أراد: هم خارجون؛ قيل: هذا ما سمع، قال: هو كما قال الله تعالى: " إذ هم عليها قعود " البروج: 6، أي قاعدون، فضحك به.
102 - والعرب تقول في أمثالها: الغرة تجلب الدرة، أي مع النقصان تؤمل الزيادة، من قولك غارت الناقة إذا انقطع لبنها؛ ويقال: غرة وغرار أي كساد ونقصان - بفتح النون؛ يقال: هلل الرجل إذ فر، وكلل إذا حمل.
103 - قال معاوية: تمردت عشرين، وتفتيت عشرين، ونتفت عشرين، وخضبت عشرين، فأنا ابن ثمانين.
104 - وقال الحسن بن مخلد: كان أحمد بن أبي دواد يستغل عشرة آلاف ألف درهم، وكان ينفق أكثر منها.
105 - يقال: تعلموا العلم وإن لم تنالوا به حظاً، فلأن يذم لكم الزمان أحسن من أن يذم بكم.
106 - يقال في المثل: الرجز
ليس ذنابي الطير كالقوادم ... ولا ذرى الجمال كالمناسم
107 - وسئل ابن عباس عن القدر فقال: هو بمنزلة عين الشمس، كلما أزددت إليها نظراً أزددت عشى.
108 - قال فيلسوف: إن كان من القبيح إذا كان البدن سمجاً بأوساخ وأقذار قد غشيته أن يكون مزيناً من خارج بثياب نظيفة، فأقبح من ذلك أن تكون النفس دنسة بأوساخ العيوب ويكون البدن من خارج مزيناً.
109 - قال فيلسوف آخر: إن كنا نعنى بجميع أجزاء البدن، وخاصة بالأشرف منها، فبالحري أن نعني بجميع أجزاء النفس وخاصة بالأشرف منها، وهو العقل.
يقال عنيت بكذا - بفتح العين وضمها؛ قاله ابن الأعرابي.
110 - وقال معاوية لصعصعة بن صوحان: صف لي الناس، فقال: خلق الله الناس أطواراً، فطائفة للعبادة، وطائفة للسياسة، وطائفة للفقه والسنة، وطائفة للبأس والنجدة، وطائفة للصنائع والحرف، وآخرون بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر.
111 - قال الفضل بن مروان: مثل الكاتب مثل الدولاب، إذا تعطل انكسر.
112 - قال محرز الكاتب: اعتل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فأمر المتوكل الفتح أن يعوده، فأتاه فقال له: أمير المؤمنين يسأل عن علتك، فقال عبيد الله: الهزج
عليل من مكانين ... من الإفلاس والدين
وفي هذين لي شغل ... وحسبي شغل هذين
فلما عاد إليه وأخبره الخبر وصله بمائة ألف درهم.
113 - لضرار بن الخطاب الفهري: المنسرح
مهلاً أزيلوا لنا ظلامتنا ... إن بنا سورة من القلق
لمثلكم تحمل السيوف ولا ... تغمز أحسابنا من الرقق
إني لأنمى إذا انتميت إلى ... عز عزيز ومعشر صدق
بيض سباط كأن أعينهم ... ثكحل يوم الهياج بالعلق
كان بعض الرؤساء يعجب من هذا الكلام ويتعجب به.
114 - وصف أعرابي أجمة فقال: مناقع نز، ومرعى إوز، قضبها تهتز، ونبتها لا يجز.
115 - الكامل
وإذا جددت فكل شيء نافع ... وإذا حددت فكل شيء ضائر
الجد - بالجيم، ها هنا بالفتح - هو إنقياد الأمر، والحد - بالحاء - هو أمتناعه ومنعه، ومنه سمي البواب حداداً لأنه يمنع، كذا قال ثعلب؛ ومنه قيل حدود الله عز وجل أي محارمه، كأنها مانعة من التعدي؛ ومنه حدود الدار كأنها حائزو لما أحاطت به، ومانعة من أنفسها ما ليس منها؛ والحداد: البحر، كأنه مانع من الطريق؛ والحدود: المصور، والمصر: الحاجز ويكتب هكذا: أشترى فلان هذه الدار بمصورها. وقال بعض المتكلمين: حد الشيء حقيقته، ومعناه أنه ليس يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج منه ما هو فيه، وكأن الحداد منه أيضاً، لأن المرأة إذا حدت لبست الحداد، وهي الثياب السود، ومنعت نفسها من العادة في النعمة؛ والنعمة: التنعم، والنعمة: ما ينعم به، والناعم: الشيء اللين، والنعم هو منه، وقولهم: نعم، كأنه من اللين في إيجاب الشيء والإجابة فيه.
117 - أنشد ابن السكيت: البسيط
يا راقد الليل مسروراً بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
أفنى القرون التي كانت مسلطة ... مر الجديدين إقبالاً وإدبارا
يا من يكابد دنيا لا مقام بها ... يمسي ويصبح في دنياه سيارا
كم قد أبادت صروف الدهر من ملك ... قد كان في الأرض نفاعاً وضراراً
117 - يقال في الدعاء: لا ترك الله له شفراً ولا ظفراً، أي عيناً ولا يداً.
118 - وكان واعظ يقول في كلامه: يا أوعية الأسقام وأغراض المنايا، إلى متى هذا التهافت في النار؟ 119 - وأنشد لأبي مسلم: الطويل
تغيرت بعدي والزمان أنيس ... وخست بعهدي والملول يخيس
وأظهرت لي هجراً وأخفيت بغضة ... وقربت وعداً واللسان عبوس
ومما شجاني أنني يوم زرتكم ... حجبت وأعدائي لديك جلوس
وفي دون ذا ما يستدل به الفتى ... على الغدر من أحبابه ويقيس
فإن ذهبت نفسي عليك تحسراً ... فقد ذهبت للعاشقين نفوس
كفرت بدين الحب إن طرت بابكموتلك يمين ما علمت غموس
ولو كان نجمي في السعود لزرتكم ... ولكن نجوم العاشقين نحوس
120 - وقال زاهد: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غيب يوم لم يرد.
121 - أنشد لجحظة: الرمل المجزوء
قلت للحاجب لما ... ردني عنه بجهده
وتألى أنه قد نا ... م من إدمان كده
أنعاساً نام رب البي ... ت أم نام لعبده
112 - وله أيضاً: الكامل
سقياً ورعياً للجزيرة موطناً ... نواره الخيري والمنثور
وترى البهار معانقاً لبنفسج ... فكأن ذلك زائر ومزور
وكأن نرجسها عيون كلها ... كالزعفران جفونها الكافور
123 - وله أيضاً: المتقارب
وقائلة ما دهى ناظريك ... فقلت رويدك إني دهيت
شققت دجاجة بعض الملوك ... فما زلت أصفع حتى عميت
124 - وله: المديد
أنا في قوم أعاشرهم ... ما لهم في الخير عائدة
جعلوا أكلي لخبزهم ... عوضاً من كل فائده
ليت في زماننا من يؤكل خبزه.
125 - قال محمد بن عبد الملك الزيات ليعقوب بن بهرام: كلمت أمير المؤمنين في عمر بن فرج فعزله عن الديوان، فقال له يعقوب: فرغته والله لطلب عيوبك.
126 - قال الماهاني: مررت بمنجم قد صلب فقلت له: هل رأيت هذا في نجمك وحكمك؟ قال: قد كنت أرى لنفسي رفعة، ولكن لم أعلم أنها فوق خشبة.
127 - أتى رجل إلى ابن سيرين فقال له: إني رأيت في المنام كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنك تنكح أمك. فنظر فوجد كذلك.
128 - ناظر شريف الآباء رجلاً شريفاً بنفسه. فقال له الشريف بنفسه: أنت آخر شرف وخاتمته، وأنا أول شرف وفاتحته.
129 - وتناظر آخران في هذا المعنى فقال أحدهما لصاحبه: إن شرفك إليك ينتهي. وشرفي مني يبتدي.
130 - قال ابن الأعرابي: يقال للذي إذا أكل أستظهر بشيء يضعه بين يديه ويضع يده اليسرى عليه ويأكل باليمنى: الجردبان، وأنشد في هذا المعنى: الوافر
إذا ما كنت في قوم شهاوى ... فلا تجعل يسارك جردبانا
يقال: قد جردب إذا فعل ذلك.
131 - أبو الصلت في الصلع: الرجز
بينا الفتى يميس في غراته ... إذ انبرى الدهر إلى لماته
فأجتبها بشفرتي مبراته ... كأن طستاً بين قنزعاته
مرت يزل الطير عن مقلاته 132 - ولمحمد بن يعقوب: المتقارب
وشعر تظرف للعاشقي ... ن فشاع لهم في مكان القبل
سواد إلى حمرة في بياض ... فنصف حلي ونصف حلل
كتاب إلى الحسن توقيعه ... من الله في خده قد نزل
133 - وأنشد ابن الأعرابي: الرجز
ويلك يا عراب لا تبربري ... هل لك في ذا الغرب المخصر
يمشي بعرد كالوظيف الأعجر ... وفيشة متى تريها تشفري
تقلب أحياناً حماليق الحر 134 - قال الكلابي: اللغف - بالغين والفاء - الأكل بالشفة. والندف: الأكل باليد.
135 - وقال فيلسوف: إن كان من القبيح إذا ركبنا الخيل ألا نكون ندبرها ونجريها، ولكن هي التي تدبرنا وتجرينا، فأقبح من ذلك أن يكون هذا البدن الذي لبسناه هو الذي يجري بنا ويدبرنا، لا نحن ندبره.
136 - وقال فيلسوف: الإنسان خير في الطبقة الأولى إذا كان استخراجه للأمور الجميلة من تلقاء نفسه، وهو خير في الطبقة الثانية إذا كان قابلاً للأمور الجميلة من غيره، لأن اللسان يحلف كاذباً، فأما العقل فلا يحلف كاذباً.
137 - وأنشد: الوافر
تقضت سكرتي وأتى خماري ... وما دائي من الراح العقار
بدت صفراء تسرح في كؤوس ... كأن ضياءها ضوء النهار
أرتنا الورد غضا في خدود ... تنير على نضير الجلنار
تقطفه العيون لنا بلحظ ... يؤثر مثل تأثير الشفار
يطوف بها علي قضيب بان ... يهم إذا تأود بانكسار
كأن الخصر منه إذا تثنى ... لدقته يجول على سوار
بها دافعت ضاري الهم عني ... ومنها سكرتي وبها خماري
إذا دارت على الندمان دارت ... نجوم اللهو في فلك مدار
أدمناها فدام لنا عليها اط ... طراح النسك أو خلع العذار
أقامت وهي دون الدن فيه ... لها طمران من خزف وقار
وتاج صاغه الحاني عليها ... فكان خمارها ترك الخمار
بزلناها وستر الليل مرخى ... فكان ضياؤها ضوء النهار
سلالة كرمة خلصت ودن ... كما خلص الهلال من الدراري
138 - قال رجل للفرزدق: إني رأيت في المنام كأنك قد وزنت بحمارك فرجح الحمار بك، فقطع أير الحمار وجعل في استك فرجحت بالحمار، فقطع لسانك وجعل في أست الحمار فأعتدلتما، فقال الفرزدق: إن صدقت رؤياك نكت أمك.
139 - إياك أن تعاف سماع هذا الأشياء المضروبة بالهزل، الجارية على السخف، فإنك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمك، وتبلد طبعك، ولا يفتق العقل شيء كتصفح أمور الدنيا، ومعرفة خيرها وشرها، وعلانيتها وسرها؛ وإنما نثرت هذه الفواتح على ما اتفق، وقد كان الرأي نظم كل شيء إلى شكله، ورده إلى بابه، ولكن منع منه ما أنا مدفوع إليه من انفتات حالي، وأنبتات منتي، والتواء مقصدي، وفقد ما به يمسك الرمق، ويصان الوجه، لا عوجاج الدهر، واضطراب الحبل، وإدبار الدنيا بأهلها، وقرب الساعة إلينا؛ فأجعل الأسترسال بها ذريعة إلى جمامك، والأنبساط فيها سلماً إلى جدك، فإنك متى لم تذق نفسك فرح الهزل، كربها غم الجد، وقد طبعت في أصل التركيب على الترجيح بين الأمور المتفاوتة، فلا تحمل في شيء من الأشياء عليها، فتكون في ذلك مسيئاً إليها، ولأمر ما حمد الرفق في الأمور والتأتي لها، وما أحسن ما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في قوله: إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى.
140 - وأنشد لجحظة: الوافر
لقد أصبحت في بلد خسيس ... أمص به ثماد الرزق مصا
إذا رفعت مسناة لوغد ... توهم جوده ما ليس يحصى
رأيت المجد إحساناً وجوداً ... فصار المجد آجراً وجصا
يقال: جص وجص، وفص وفص، وبزر وبزر، ورطل ورطل؛ فتعود المسموع الجاري، ولا تتمقت بأدبك إلى الناس.
141 - يقال: حمي أنفة - ولا تقل بضم الهمزة فإنه من فاحش الخطأ - يحمى محمية - خفيفة - ، وهو ذو حمية معناه: كأنه يمنع مما أريد به؛ يقال: أحمى أرض كذا، أي جعلها حمى، والحمى ما لا يرعاه أحد؛ وقيل: قلب المؤمن حمى، أي لا يطور به ريب؛ وقيل: قلب المؤمن حرم الله، وما أقدم على إيضاح معناه؛ وأحمى الحديد؛ وأحمومي العنب أي أسود؛ وحمى مريضه حمية إذا منعه؛ والله يحمي عبده المختار من الدنيا لئلا يدنس بها إلا من عصمه؛ وحميا الكأس سورتها؛ هذا حفظي من كتاب الأجناس بعد السماع.
142 - قال بطلميوس: دلالة القمر في الأيام أقوى، ودلالة الشمس والزهرة في الشهر أقوى، ودلالة المشتري وزحل في السنين أقوى.
143 - يقال في الأمثال: قد يبلغ الشدو بالقطو؛ الشدو: سير فيه إسراع، والقطو: سير فيه إبطاء؛ كما يقال: قد يبلغ الخضم بالقضم؛ الخضم: أكل الشيء الناعم، والقضم: أكل الشيء اليابس، وكأن الخضم في الرخاء والقضم في الشدة.
144 - والعرب تقول: فلان صل صفاً وذئب غضاً، أي شرير.
145 - ويقال: فلان منقطع القبال، أي لا رأي له.
146 - أهدى أعرابي إلى هشام ناقة فلم يقبلها، فقال: يا أمير المؤمنين إنها مرباع مقراع، أي سريعة الدر؛ مرباع: أي تنتج في الربيع، مقراع: أي تحمل في أول الضراب وهو القرع.
147 - والعرب تقول في أمثالها: عند الصليان الرزمة، أي إلى الكريم تحن؛ وعند القصيص تكون الكمأة، أي عند الحر يكون المعروف؛ والصليان والقصيص: نبتان معروفان، كذا قال أبو حنيفة صاحب النبات.
148 - سأل رجل محمد بن علي عليه السلام عن القدر، فقال: أجبر اللة العباد على المعاصي؟ فقال: معاذ الله، لو أجبرهم لما عذبهم؛ قال: ففوض إليهم؟ قال: معاذ الله، لو فوض إليهم لما احتج عليهم، قال: فما بعد هذين؟ قال: أمر بين أمرين، لا إجبار ولا تفويض، كذا أنزل إلى الرسول.
149 - العرب تقول: رجل مسواف، أي لا يعطش، ورجل ملواح: سريع العطش؛ والعرب تقول: رماه بخشاش أخشن، ذي ناب أحجن، كأنه يراد به حية؛ والعرب تقول: ما أنا إلا درج يدك: أي في طاعتك.
150 - وأنشد لعبد الصمد بن المعذل: الطويل
هي النفس تجزي الود بالود أهله ... وإن سمتها الهجران فالهجر دينها
إذا ما قرين بت منها حباله ... فأهون مفقود عليها قرينها
لبئس معار الود من لا يوده ... ومستودع الأسرار من لا يصونها
151 - العرب تقول في أمثالها: الحسن أحمر، أي لا ينال النفيس إلا بشق الأنفس، كأنه لا ينال إلا بالقتال وسفك الدم؛ ميم الدم خفيفة، وباء الأب خفيفة، فتوق لحن العامة وأشباه العامة من الخاصة، وروض لسانك على الصواب.
152 - قيل للحسن البصري: كيف لقيت الولاة يا أبا سعيد؟ قال: لقيتهم يبنون بكل ريع آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وإذا بطشوا بطشوا جبارين.
153 - قال بعض اليونانين: مقدم الرأس للفكر، ومؤخر الرأس للذكر، والدليل على ذلك المتفكر والمتذكر، لأن المتفكر بطأطىء رأسه، والمتذكر يرفع رأسه.
154 - وقال: بنات الدهر المكاره، وبنات الصدر الفكر، وبنات الليل النجوم، وبنات طبق الدواهي، وبنات أوبر الكمأة.
155 - قال محمد بن سلام: غرض أعرابي من امرأته - ومعنى غرض ضجر ها هنا - فقال: الطويل
رزقت عجوزاً قد مضى من شبابها ... زمان فما فيها لذي اللبس ملبس
ترى نفسها زيناً وليست بزينة ... إذا رد فيها طرفه المتأنس
لها ركبتا عنز وساقا نعامة ... وكاهل حرباء بدا يتشمس
وعين كعين الضب في ضمن تلعة ... ووجه لها مثل الصلابة أملس
156 - قيل لجمين: كل من هذا الطين السيرافي، وكان على نبيذ، فإنه أطيب، قال: ولم؟ أبلغكم أن في بطني وكفاً؟ 157 - قال أبو العيناء: تقدم الأصمعي إلى جارية له بعدما كبر فأنقطع، فقال: الحمد لله الذي خلق خلقاً فأماته في حياته.
158 - ويقال: زاحم شاب شيخاً في طريق وقال يماجنه: كم ثمن هذا القوس - يعيره بالأنحناء، فقال له الشيخ: إن طال عمرك فإنك تشتريه بلا ثمن.
يقال: عيرته كذا وبكذا، وحذف الباء أغرب، وبالباء أحرى.
159 - وقال أعرابي: حماقة تمونني أحب إلي من عقل أمونه. وهذا عليه كلام في معرفة سداده وفساده، ولكن ألقيته إليك كما علقه القلب ورواه اللسان.
160 - أهدت متيم جارية علي بن هشام إلى مولاها كأساً مخروطة وكتبت في خرطها: الرمل المجزوء
قالت الكأس خذوني ... كم إلى كم تحبسوني
إن جسمي من زجاج ... فاحذروا لا تكسروني
وأجعلوا الساقي غلاماً ... ذا دلال وفتون
فإذا أنتم سكرتم ... فخذوه في سكون
161 - قال القاسم بن الحسين: كان لبعض الظرفاء جاريتان مغنيتان إحداهما حاذقة والأخرى متخلفة، وكان إذا قعد معهما وغنته الحاذقة خرق قميصه، وإذا غنت الأخرى قعد يخيطه.
162 - قال أبو السلام الأسدي: الرجز
تسألني ما عندها وعن دد ... فإنني يا بنت آل مرثد
راحلتي رجلي وآمراتي يدي الدد: اللهو؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا من دد ولا الدد مني.
163 - سأل رجل الحسن البصري: أمؤمن أنت؟ فقال: إن كنت تريد قول الله عز وجل " آمنا بالله وما أنزل إلينا " البقرة: 136، فنعم، به نتناكح ونتوارث ونحقن الدماء؛ وإن كنت تريد قول الله تعالى " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " الأنفال: 2، فنسأل الله أن نكون منهم.
164 - قال فيلسوف: إن الذي يطلب ما ليس له نهاية هو جاهل؛ اليسار شيء ليس له نهاية.
165 - قيل لفيلسوف: لم أخترت السكني في مدينة كذا وهي وبيئة؟ قال: حتى إذا لم أمتنع من الشهوات لمضرة النفس امتنعت منها من خوف مضرة البدن.
166 - قال ابن الأعرابي: قال خالد بن صفوان لرجل: رحم الله أباك. فما رأيت رجلاً أسكن فوراً، ولا أبعد غوراً، ولا آخذ بذنب حجة، ولا أعلم بوصمة، ولا أنبه في كلام منه.
167 - وقال ابن الأعرابي: دفع رجل رجلاً من العرب، فقال المدفوع: لتجدني ذا منكب مزحم، وركن مدغم، ورأس مصدم، ولسان مرجم، ووطء ميثم، أي مكسر.
168 - قال ابن الأعرابي، قيل لأعرابي: ما أشد البرد؟ قال: إذا كانت السماء نقية، والأرض ندية، والريح شآمية.
توق تشديد ياء ندية وشآمية؛ ألا ترى أنك تقول: هذا تراب ند، وروض ند، ورجل شآم، وامرآة شآمية؟ 169 - وقال ابن الأعرابي، قال آخر: إذا صفت الخضراء، ونديت الدقعاء، وهبت الجربياء، يعني في شدة البرد؛ الخضراء: السماء، والدقعاء: الأرض، والجربياء: الشمال؛ هكذا حفظته.
170 - مدح أعرابي نفسه فقيل له: أتمدح نفسك؟ فقال: أفاكلها إلى عدو يشتمني ويذمني؟ 171 - وأنشد ابن الأعرابي لشاعر: الطويل
لحا الله أنآنا عن الضيف بالقرى ... وألأمنا عن عرض والده ذبا
وأدخلنا للباب من قبل آسته ... إذا القور أبدى من جوانبه ركبا
القور: جمع قارة، وهو الجبل الصغير، كأنه يريد طلوع الركب من هذا الوجه.
172 - وأنشد: الطويل
إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة ... جبلت عليها لم تطعك الضرائب
وكم من عديم العقل جد بجده ... ومن عاقل أعيت عليه المكاسب
173 - وأنشد: الوافر
وجرح السيف تدمله فيبرا ... وجرح الدهر ما جرح اللسان
174 - وقيل لفيلسوف: هل رأيت إنساناً أشد تقشفاً منك؟ قال: فلان الملك وفلان الملك، قيل: كيف؟ قال: لأني رفضت هذه الأشياء القليلة اللبث، القصيرة الزمان، ودأبت في طلب الأشياء الدائمة الثابتة، وأولئك اقتصروا على تلك الأشياء القليلة الصحبة والإمتاع، فهم باقتصارهم عليها أشد تقشفاً مني.
175 - وقال سقراطيس: لتكن عنايتك بحسن استعمال ما يكتسب أحسن من عنايتك بأكتساب ما يكسب.
176 - وقال فيلسوف: إذا تزين المرء بالذهب والفضة، فقد دل على نقصه في نفسه عنهما، لأنه عدم الكمال، والفاضل هو الذي يزين بنفسه الذهب والفضة بحسن السياسة فيهما والتدبير في تصريفهما.
177 - للمقنع الكندي: الكامل
وإذا رزقت من النوافل ثروة ... فأمنح عشيرتك الأداني فضلها
وأستبقهم لدفاع كل ملمة ... وارفق بناشئها وطاوع كهلها
وأعلم بأنك لن تسود فيهم ... حتى ترى دمث الخلائق سهلها
178 - وكان أبو حامد ابن بشر المروروذي إذا سمع تراجع المتكلمين في مسائلهم ورأى ثباتهم على مذاهبهم بعد طول جدلهم ينشد: الرجز
ومهمه دليله مطوح ... يدأب فيه القوم حتى يطلحوا
ثم يظلون كأن لم يبرحوا ... كأنما أمسوا بحيث أصبحوا
179 - عاد الخليل بعض تلامذته، فقال له تلميذه: إن زرتنا فبفضلك، وإن زرناك فلفضلك، فلك الفضل زائراً ومزوراً.
180 - وأنشد: المديد
يا نسيم الروض في السحر ... ومثال الشمس والقمر
إن من أسهرت مقلته ... لقرير العين بالسهر
181 - قيل للحسين بن علي رضي الله عنهما: إن فيك عظمة، قال: لا، بل في عزة، قال الله تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8.
182 - قال الحسن بن سهل: لا يكسد رئيس صناعة إلا في شر زمان وأخس سلطان.
183 - وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عليكم بأوساط الأمور فإنه إليها يرجع العالي، وبها يلحق التالي، وشبه ذلك بالحبل إذا قبض على وسطه، فالقابض قريب من طرفيه، والآخذ بأحد طرفيه بعيد من الآخر.
184 - وقال ابن هرمة: الكامل
جعلوا الألى سبقوا إليك فرشتهم ... للأخرين معالماً وسبيلا
فأخذ هذا المعنى الحسن بن وهب وكتب إلى بعض العمال: إن حسن ثناء الصادرين إلينا عنك يزيد في عدد الواردين عليك من قبلنا.
185 - قال حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي: كان لأبي إسحاق غلام يسقي الماء لمن في داره على بغلين، فرآه أبي يوماً وهو يسوق البغل وقد قرب من الحوض الذي يصب فيه الماء فقال: ما خبرك يا فتح؟ قال: خبري يا مولاي أنه ليس من أحد في هذه الدار أشقى مني ومنك، وكيف ذلك؟ قال: لأنك تطعمهم الخبز وأنا أسقيهم الماء، فضحك منه ثم قال له: فما تحب أن أصنع بك؟ قال: تعتقني وتهب لي هذين البغلين، ففعل ذلك.
قيل للنظام: أتناظر أبا الهذيل؟ قال: نعم، وأطرح له رخا من عقلي.
قال المتوكل لمحمد بن عبد الله بن ظاهر: أتجانبني؟ قال: أنا إلى مواصلة أمير المؤمنين أقرب.
قال علي بن عبيدة: قلت أبياتاً من الشعر ووجهت بها إلى إسحاق الموصلي وقلت: إنها عارية فاكسها، فغنى فيها.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي ذر: من أغبط الناس؟ قال: رجل بين أطباق الثرى، قد أمن العقاب، وهو يتوقع الثواب، فقال عمر: لو كان أعد هذا الكلام منذ حول ما زاد على هذا.
ذم رجل عاملاً فقال: لا يضبط حاشيته فكيف يضبط قاصيته؟ وقال عمر بن عبد العزيز لإياس بن معاوية: دلني على قوم من القراء أولهم، فقال له: إن القراء ضربان: ضرب يعلمون للآخرة، وأولئك لا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا فما ظنك بهم إذا مكنتهم منها، فقال: ما أصنع؟ قال: عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأنسابهم ويرجعون إلى أعراقهم فولهم.
وقال بعض الأوائل: أجعل سرك إلى واحد ومشورتك إلى ألف.
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر لولده: عفوا تشرفوا واعشقوا تظرفوا.
جلس ذو اليمينين يوماً من الأيام للمظالم، فعرض عليه رقعة رجل أدعى أجرة على رجل آخر وأحال المدعي على رجل آخر، فوقع: يرجع إلى الفصل الثاني من كتاب كليلة ودمنة، فرجع إلى ذلك الفصل فوجد فيه: أجرة الأجير على من استأجره، فعمل بذلك.
عاتب الفضل بن سهل الحسين بن مصعب في أمر طاهر والتوائه وتلونه، فقال له الحسين: أنا أيها الأمير شيخ في أيديكم، لا تذمون إخلاصي، ولا تنكرون نصيحتي، فأما طاهر فلي في أمره جواب مختصر، وفيه بعض الغلظ، فإن أذنت ذكرته، قال: قل، فقال: أيها الأمير، لو أخذت رجلاً من عرض الأولياء، فشققت صدره، ثم جعلت فيه قلباً قتل به خليفة، وأعطيته آلة ذلك من الرجال والأموال والعبيد، ثم تسومه بعد ذلك أن يذل لك ويكون كما كان أولاً، لا يتهيأ لك هذا إلا أن ترده إلى ما كان، ولا تقدر على ذلك؛ فسكت الفضل.
قال المكي: كنت عند سفيان بن عيينة وجاء رجل فقال له: إن جاري قد آذاني، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من آذى جاره ورثه الله داره، فقال له: إن هذا لفي كتاب الله عز وجل، قال الرجل: وأين ذلك؟ قال: قال الله عز وجل " وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين. ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " إبراهيم: 13 - 14، فقال المكي وقبل رأسه.
كتب أحمد بن إسماعيل إلى ابن المعتز رقعة في فصل منها يصف الحق بقوله: ولم أر كالحق أصدق قائلاً، ولا أفضل عالماً، ولا أجمل ظاهراً، ولا أعز ناصراً، ولا أوثق عروة، ولا أحكم عقدة، ولا أعلى حجة، ولا أوضح محجة، ولا أعدل في النصفة، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري على أحد إلا جرى له، يستوي الملك والسوقة في واحته، ويعتدل البغيض والحبيب في محضه، طالبه حاكم على خصمه، وصاحبه أمير على أميره، من دعا إليه ظهر إليه برهانه، ومن جاهد عليه كثر أعوانه، يمكن دعاته من آلة القهر، ويجعل في أيديهم آلة النصر، ويحكم لهم بغلبة العاجلة، وسعادة الآجلة؛ ولم أر كالباطل أضعف سبباً، ولا أوعر مذهباً، ولا أجهل طالباً، ولا أذل صاحباً، من اعتصم به أسلمه، ومن لجأ إليه خذله، يرتق فينفتق، ويرقع فينخرق، إن حاول صاحبه بيعه بارت سلعته، وإن رام ستره زادت ظلمته، لا يقارنه البرهان، ولا يفارقه الخذلان، قد قذف عليه بالحق يدمغه ويقمعه فيمحقه، صاحبه في الدنيا مكذب، وفي الآخرة معذب، إن نطق دل على عيبه، وإن سكت تردد في ريبه.
قال بعض السلف: الخيل تجري في المروج على أعراقها، وفي الحلبة على جدود أربابها، وفي الطلب على إقبال فرسانها، وفي الهزيمة على آجالهم.
وأنشد لخلف: المتقارب
وحق المراشف من ثغره ... وملتثم طاب من نحره
لما غاب عن ناظري شخصه ... ولا شغل القلب عن ذكره
وإني لأزداد وجداً به ... إذا ازداد بالبخل في هجره
ووالله لو قال مت حسرة ... لبادرت طوعاً إلى أمره
قال جحظة: قلت لإسماعيل بن بلبل وقد ولي الوزارة: الوزارات عوار، واصطناع الخير نهزة، فأغتنم الوجدان قبل الفقدان؛ قال: فضحك وقال: أفعل.
دخل سفيان بن عيينة على الرشيد وهو يأكل من صحفة بملعقة فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني عبيد الله بن أبي يزيد عن جدك ابن عباس في قوله عز وجل " ولقد كرمنا بني آدم " الإسراء: 70 أي جعلنا لهم أيدياً يأكلون بها، فكسر الملعقة.
كتب كلثوم بن عمرو إلى خالد بن يزيد وهو بملطية يستوصله بقصيدة يقول فيها: الكامل
ولكل قوم في مجاري سيلهم ... مرعى ولكن ليس كالسعدان
فوجه إليه بعشرة آلاف درهم.
أعرابي: البسيط
تفتر عن واضح الأنياب ذي أشر ... كعاتق الراح ممزوجاً به العسل
بعد الرقاد إذا ما النوم قلبها ... جنبا لجنب وجافى جسمها الكسل
قال بعض أصحاب أبي حنيفة لأحمد بن المعذل: كتب مالك تكتب في حواشي كتب أبي حنيفة، قال أحمد: " قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " المائدة: 100.
مدح أعرابي رجلاً فقال: هو كالمسك، إن خبأته عبق وإن تركته عتق، أي جاد.
ولما مرض هبة الله بن إبراهيم بن المهدي جزع إبراهيم وقلق، فكان يقول: الرجز
هب واحداً لواحد يا واحد ... فقد علمت ما يلاقي الوالد
أنشد أبو عثمان المازني لأبي لهب بن عبد المطلب: الطويل
سأكتمه سري وأحفظ سره ... ولا غرني أني عليه كريم
حليم فينسى أو جهول فيتقى ... وما الناس إلا جاهل وحليم
لقي عبد الله بن عمر صديقاً له فقال: إني لأغيب عنك بشوق، وألقاك بتوق، فسمع أعرابي كلامه فقال: لو كان كلام يؤتدم به لكان هذا.
لأبي دلف: الكامل
إن المكارم كلها حسن ... والبذل أحسن ذلك الحسن
كم عارف بي لست أعرفه ... ومخبر عني ولم يرني
أحتبس المعتز عبيد الله بن عبد الله بن طاهر للمنادمة، فلما غنت شارية، ولم يكن سمعها قبل يومه، قال له المعتز: كيف ما سمعت؟ قال: يا أمير المؤمنين، حظ العجب أكثر من حظ الطرب.
شاعر: المديد
قد وجدنا غفلة من رقيب ... فسرقنا لحظة من حبيب
ورأينا ثم وجهاً مليحاً ... فوجدناه حجة للذنوب
وقع المعتز تحت دعاء بإطالة البقاء: كفى بالانتهاء قصراً.
وقال: من كان عاقلاً لم يستشر إلا عاقلاً.
قال طاهر بن الحسين لأحمد بن أبي خالد: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي غير ضائع، فتعينني عند أمير المؤمنين؛ فتلطف له عنده حتى قلده خراسان، فلما خرج إليها أرسل إلى أحمد عشرة آلاف درهم.
قيل لفيلسوف: ما بال الثمرة غشاؤها هو المأكول منها والنواة في جوفها، والجوزة بخلاف ذلك؟ قال: لم يكن العناية بما يؤكل من حال الأكل، وإنما كانت العناية ببقاء النوع، فحفظت النواة بالغشاء والجوزة بالقشر.
قال ثعلب: حدثني عبد الله بن شبيب قال: كتب إلي بعض إخواني من البصرة إلى المدينة: أطال الله بقاك كما أطال جفاك، وجعلني فداك وإن جازني نداك: الوافر
كتبت ولو قدرت هوى وشوقاً ... إليك لكنت سطراً في كتاب
قال أبو العيناء: اشتري للواثق عبد فصيح من البادية، فأتيناه وجعلنا نكتب عنه كل ما يقول، فلما رأى ذلك منا قلب طرفه وقال: الرجز إن تراب قعرها لمنتهب يقال ذلك للرجل تسر الناس رؤيته لانتفاعهم به، والأصل فيه أن الحافر يحفر، فإن خرج التراب مراً علم أنه ملح فلم يحفر، وإن كان طيباً علم أن الماء عذب فأنبط، فإذا خرج طيباً آنتهبه الصبيان سروراً به ومضوا إلى الحي يخبرونهم.
وكتب أبو العيناء إلى الوزير أبي الصقر: أنا - أعزك الله - طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي عند عثرة الدهر، وكبوة الكبر، وعلى أية حال حين فقدت الأولياء والأشكال، الذين يفهمون من غير تعب، فحللت مني عقدة الخلة، ورددت إلي بعد النفور النعمة، وكتبت كتاباً إلى الطائي، فكأنما كان منك إليك، لقد أتيته وقد أسكعت به الأمور، وأحاطت به النوائب، فكاثر من بشره، وبذل من يسره وعسره، وأعظى من ماله أحسنه، ومن بره أكرمه، مكرماً مدة ما أقمت، ومنفلاً من ماله لما ودعت، حكمني في ماله فتحكمت، وأنت تعرف جوري إذا تمكنت، فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك ويوم حمامك، فلقد أنفقت علي مما ملكك الله، وأنفقت ما تيسر لي من القول، والله تعالى يقول: " لينفق ذو سعة من سعته " الطلاق: 7، وقد أنفق كل مما ملكه الله، فالحمد لله الذي جعل لك اليد العالية، والمرتبة الشريفة، ولا أزال عن هذه الأمة ما بسط لها من عدلك، وبث فيها من رفدك، والسلام.
قال أبو العيناء: لما أدخلت على المتوكل عابثني جلساؤه، فلما برزت عليهم قال المتوكل: ادفعوا إليه عشرة ألاف درهم اتقاء للسانه، فقلت: د قتلتني والله يا أمير المؤمنين، قال لي: ويحك، وكيف ذلك؟ قلت: لأن من خفته لا يعيش، فقال: ليس خوف فرق ولكن خوف صيانة.
ودخل أبو العيناء يوماً على عبد الرحمن بن خاقان، وكان يوماً شاتياً، فقال له عبد الرحمن: كيف تجد هذا اليوم يا أبا عبد الله؟ قال: تأبى نعماك أن أجده.
وكان أبو العيناء يوماً بحضرة عبيد الله بن سليمان، فأقبل الطائي فعرف مجيئه فقال: هذا رجل إذا رضي عشنا في نوافل فضله، وإذا غضب تقوتنا بقايا بره.
سأل أبو العيناء إبراهيم بن ميمون حاجة، فدفعه عنها وأعتذر إليه وأعلمه أنه قد صدقه فقال له: والله قد سرني صدقك لندور الصدق عندك، فمن صدقه حرمان كيف يكون كذبه؟ قال الزيادي: كان في حواري رجل ضعيف الحال، فعملت هريسة ودعوته ليأكل معي فلم ألحق معه إلا لقمتين، فقلت له: دعوتك رحمة فصيرتني رحمة!
قال أبو العيناء: قال لي عيسى بن زيد المراكبي، وكان من أملح الناس: كان لي غلام من أكسل خلق الله، فوجهته يوماً ليشتري عنباً رازقياً وتيناً، فزاد وأبطأ على العادة، ثم جاء بعد مدة بعنب وحده، فقلت له: أبطأت حتى نوطت الروح ثم جئت بإحدى الحاجتين؟! فأوجعته ضرباً وقلت: إنه ينبغي لك إذا استقضيتك حاجة أن تقضي حاجتين، لا إذا أمرتك بحاجتين أن تجيء بحاجة؛ ثم لم ألبث بعدها أن وجدت علة فقلت له: امض فجئني بطبيب وعجل، فمضى وجاءني بطبيب ومعه رجل آخر، فقلت له: هذا الطبيب أعرفه، فمن هذا؟ قال: أعوذ بالله منك، ألم تضربني بالأمس على مثل هذا؟! قد قضيت لك حاجتين وأنت استخدمتني في حاجة، جئتك بطبيب ينظر إليك، فإن رجاك وإلا حفر هذا قبرك، فهذا طبيب وهذا حفار. أيش أنكرت؟ قلت: لا شيء يا ابن الزانية! كان أحمد بن سليمان بن وهب يكتب، فدخل أبوه فقال: يا بني، سألت علي بن يحيى أمس أن يؤنسني اليوم بمصيره إلي، فاكتب إليه رقعة وسله فيها إنجاز وعده، فأخذ القلم والقرطاس وكتب: السريع
يا من فدت أنفسنا نفسه ... موعدنا بالأمس لا تنسه
لما ولي يحيى بن أكثم قضاء البصرة استصغروا سنه، فقال له رجل: كم سن القاضي أعزه الله تعالى؟ فقال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ فجعل جوابه احتجاجاً.
وأنشدت لعلية بنت المهدي: الطويل
سأمنع طرفي أن يلف بنظرة ... وأحجبه بالدمع عن كل منظر
وأشكر قلبي فيك حسن بلائه ... أليس به ألقاك عند التفكر
الحمدوني: السريع
وليلة قصر لي طولها ... بدر على غصن من الآس
بات يسقيني وألحاظه ... أسرع في عقلي من الكاس
قال أحمد بن الطيب السرخسي: سمعت الكندي يقول، قال بقراط: سلوا القلوب عن المودات فإنها شهود لا تقبل الرشا.
قال إسحاق الموصلي، قال بعض الأوائل: أول العشق النظر، وأول الحريق الشرر.
وقال خالد الكاتب: الكامل
أين الفرار وحب من هو قاتلي ... أدنى إلي من الوريد الأقرب
إني لأعمل فكرتي في سلوتي ... عنه فيظهر في ذل المذنب
قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: ولدت علية بنت المهدي سنة ستين ومائة، وماتت سنة عشرين ومائتين، ومن شعرها: الكامل
لا حزن إلا دون حزن نالني ... يوم الفراق وقد خرجت مودعا
فإذا الأحبة قد تفرق شملهم ... ووقفت فرداً والهاً متفجعا
وأنشد لمروان بن أبي حفصة: الطويل
يقول أناس إن مرواً بعيدة ... وما بعدت مرو وفيها ابن طاهر
وأبعد من مرو رجال أراهم ... بحضرتنا معروفهم غير حاضر
قال رجل للإسكندر: إن عسكر دارا كثير، فقال الإسكندر: إن الغنم وإن كثرت تذل لذئب واحد.
رأى الإسكندر سمياً له لا يزال يهزم فقال له: إما أن تغير فعلك وإما أن تغير اسمك.
رأى فيلسوف مدينة حصينة بسور محكم فقال: هذا موضع النساء لا موضع الرجال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي الدرداء: ما أشرقت الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا غربت شمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان: اللهم عجل لكل منفق خلقاً، اللهم عجل لكل ممسك تلفاً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الدنيا حلوة خضرة، من أخذها بحقها بارك الله فيها، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة وفي رواية: له النار يوم يلقاه.
وروي عن أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول كلكم مذنب إلا من عافيت، فأستغفروني أغفر لكم، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فأستغفرني بقدرتي غفرت له ولا أبالي، وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أرزقكم، ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على قلب أتقى عبد من عبادي لم يزيد ذلك في ملكي جناح بعوضة ولو أن حيكم وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم يسأل كل سائل أمنيته فأعطيت كل سائل ما يسأل، لم ينقصني إلا كما أن أحدكم مر على سيف البحر فغمس إبرة ثم أنتزعها؛ ذلك لأني جواد ماجد واجد، أفعل ما أشاء، عطائي كرم، وإذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، فأرشد الله الأئمة، وغفر للمؤذنين.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي. وبيصه وبصيصه: بريقه.
قال الله عز وجل: " فلا تغضلوهن " البقرة: 232؛ قال الأصمعي وغيره: يقال عضل الرجل أيمه أي منعها التزوج، وأعضل الأمر: اشتد، وعضلت الحامل إذا نشب ولدها في بطنها؛ ومعنى نشب: كأنه صار كالنشاب في ولوجه ولصوقه، ومنه قول أبي ذؤيب: الكامل
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
المنية: المقدورة، منى الماني: قدر القادر، وأنشبت: أدخلت بشدة أظفارها، واحدها ظفر، ومنه يقال: ظفرت بالرجل فهو مظفور به، كأنك تمكنت بيدك وأصابعك منه؛ ومعنى ألفيت: وجدت، والتميمة: التعويذة وما يرقى به، وأما الرتيمة فما تعقده بأصابعك تتذكر به الحاجة، قال الشاعر: الطويل
أبا حسن إن الرتائم إنما ... تذكر بالأمر العبام المغمرا
فأما الذي عيناه حشو فؤاده ... فليس بمحتاج إلى أن يذكرا
العبام: الفدم، والفدم: ذو الفدامة، والفدامة - مخففة - : الوخامة، والمغمر: الغمر، وهو الذي لم تسمه الأيام بصروفها ولم يعان فيها غيرها.
قال أوس في التعضيل: الطويل
ترى الأرض منا كالفضاء عريضة ... معضلة منا بجمع عرمرم
ويقال: ضاقت بنا الأرض كما يضيق الولد بالرحم؛ ويقال: ما كان بذي عضل، ولقد عضل عضلاً، والعضلة كل لحمة صلبة، وداؤه عضال أي صعب، وعقام أيضاً، وهو الذي قد أعيا، قالت الأخيلية: الطويل
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة ثناها
ويقال: ما أبين الضلاعة في جملك، أي ما أبين الشدة والوقاحة، وضلع فلان مع فلان أي ميله، وفي الخلقة ميلها - محركة الياء - ، فكأن الميل من مال يميل ميلاً إذا فعل الميل، والميل خلقة كالعرج والشلل والحدب والقعس. ويقال: لتجدنه مطلعاً لذلك الأمر أي غالباً له، ورأيته مضطلعاً لذلك أيضاً، وبعير ضليع أي شريج، والشريج: الغليظ، والوشيج: المتصل، والعجيج: الصوت، والضجيج: الضوضاء، والفضيج: المكسور، ومنه انفضاج الشيء. والحجيج: الحاج إلى الكعبة، والحجيج أيضاً: المحجوج، والمحجوج: الذي بهرته الحجة، ومنه فحج آدم موسى.
جرى هذا الحديث في مجلس الرشيد، أعني قوله: فحج آدم موسى، فقال رجل من ولد المنصور كان شاهد المجلس: وأين التقيا حتى تحاجا؟ فسمعها الرشيد فقال: كلمة زنديق، أتتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا؟! أضربوا عنقه؛ فما زال الشهود يضرعون إليه سائلين العفو عنه حتى كف، وأنا أروي لك الحديث على وجهه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن موسى قال: يا رب، أبونا آدم هو الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم فقال: أنت آدم؟ فقال: نعم، فقال: الذي نفخ الله فيك من روحه وعلمك الأسماء كلها وأمر ملائكته فسجدوا لك؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ قال: نعم، قال: أفما وجدت في كتاب الله تعالى أن ذلك كائن قبل أن أخلق؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: فحج آدم موسى، أي أخذه بالحجة.
والمحجوج: المقصود، والمحجة: المقصد، والحاجة: ما تكون طلع القصد وتلو المراد.
وهذا الحديث الذي رويته لك هو الذي استفاض بين رواة الأثر وحملة الخبر، والمتكلمون يعتريهم عنده وعند أمثاله قشعريرة وتنكر، ولو حمل الأمر على رأيهم في جميع أركان الشريعة سقط ثلثا الشريعة وحصل الثلث. وما أحوج الناظر في الدين إلى حسن الظن واليقين، وإلى متن متين فيه، فإنه متى حاول معرفة كل شيء بالرأي والقياس كل ومل، ومتى استرسل مع كل شيء زل وضل، والأعتدال بينهما الجمع بين الرأي والأثر، والقياس والخبر، مع التخفف إلى ما بان وأشرق، والتوقف عما أبهم وأغلق.
فأما الأجيج فهو تأجج النار وهو اشتعالها، وأما تأجيجها فإشعالها، وأما الشجيج فالمشجوج، والشحيج للبغل بمنزلة الصهيل للفرس، وأما الوديج فالذي ودج، يقال: ودج دابته، والودج للدابة بمنزلة الفصد للإنسان، وأما الحليج فالمحلوج من القطن، والفليج: المفلوج، وهو المفلج، والفلج: النهر لانفتاحه، والفلج في الأسنان: تفتحها - ضد الضزز - وهو محمود، والفلج: الظفر، كأنه ينفتح فؤاد الظافر، يقال: فلج على خصمه إذا ظهرت حجته عليه، وأفلج الله حجته إذا أظهرها وبهرها؛ وفلج الرجل إذا استرخى جانبه، كأن معاقد عصبه تفلجت وتحللت.
هذا فن لا تستغني - أعزك الله - عنه عند موازنة الكلام، وتشقيق اللفظ، وإيضاح المراد، وتمييز المتشابه؛ فغص على بابه بالقياس الصحيح والسماع الفصيح، وستقع من ذلك على شيء كثير في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وإنما أقلبك من فن إلى فن لئلا تمل الأدب، فإنه ثقيل على من لم تكن داعيته من نفسه، والله يهديك كافياً ونصيراً.
سمعت القاضي أبا حامد المروروذي يقول في كتاب أدب القاضي حاكياً أن الشهادة كانت شائعة بين المسلمين ولم تكن مقصورة على ناس معروفين: قد اتخذوا العدالة حبالة، ونصبوها شركاً ومحالة. وكان الثوري يقول: الناس عدول إلا العدول. وكان بعض البصريين يكره أن يقول العدول ويقول هؤلاء المعدلون. نعم، قال: حتى ظهر إسماعيل القاضي صاحب المبسوط على مذهب الإمام مالك، فجعلها في بيوت منسوبة معروفة، وأستمر القضاة بعده على ذلك، وقال: رحم الله أبا عمر القاضي، فإنه عدل بعض البغدايين، فبلغه عنه في تلك الحال أنه رقص فرحاً، فأسقطه لفرحه وخفته، وقال: كان ينبغي أن يزداد وقاراً في الدين، ورصانة فيما تحمل من المسلمين للمسلمين.
وقال أيضاً أبو حامد: حدثني علي بن أبان الطبري، وكان علامة، قال: كتب لي عهدي على قضاء أصبهان، فتجهزت إليها قاصداً، فلما دانيت المدينة جمعت سوادي في عيبة كانت على الحمار، ولففت رأسي بالفوطة، وتلثمت متنكراً، وخرج العدول مستقبلين، وكانت الشهادة في الدهاقين وأرباب السياسة؛ وأنسلخت من القافلة مقدماً، فسألوني عن القاضي فقلت: إنه قد دخل البلد، فرجعوا يتراطنون بينهم؛ ثم إني وافيت البلد فدخلت المسجد الجامع ولبست السواد وجلست، فما عني بي أحد ولا عاج علي إنسان ولا عرف أحد مكاني، وكان ذلك عن مؤامرة جرت بينهم لكراهية نالت قلوبهم مني بتنكري عليهم. فلما رأيت راسلت صديقاً لي حتى أكترى لي مثوى وثبت الشهود على التقاعد، وأشرفت على الأستيحاش والأنصراف؛ ثم إني تداركت الأمر وقلت للصديق: صف لي قوماً مستورين وحلهم وأحص أسماءهم وأذكر صنائعهم، وأجعل جل ذلك في التجار، ففعل ذلك كله. وكان المحلون عشرين نفساً، فأختلفت إلى مساجدهم ومشاهدهم ومساكنهم، متصفحاً لأحوالهم ومتتبعاً لأمورهم ومتقصياً لآثارهم ومستشفاً لأخبارهم، حتى وضح لي أمر ثمانية عشر نفساً، ثم عدت إلى مجلس الحكم، فتقدم خصمان فثبت الحكم بينهما بشهادة أولئك؛ فلما بلغ العدول ذلك أضجرهم وأقلقهم، فجاءوا معتذرين خاضعين، فقلت: إني لا أعرفكم إلا أن يزكيكم هؤلاء الذين قد عرفتهم وقبلت أقوالهم؛ فأعطوا الصفقة وأظهروا الذلة وألتحفوا بالندم، ثم أستتب أمري بعد ذلك.
النقص في العدول فاش جداً، وفي الناس من بعد؛ أنا سمعت رجلاً من كبار الشهود، كان ابن معروف يقدمه وغيره يعظمه، وقد جرى شيء فأنبرى قائلاً: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعقرها وتوكل، فاستثبته مغالطاً لسمعي، فكان أشد؛ فلما شملنا الأنس على المائدة عرفته وجه الصواب، فكان سبب عداوته لي وإفساده لحق كنت مطالباً به بعض التجار في قطيعة الربيع. والحديث في هذه الضروب يطول، ولعله يمر في عرض ما رسم في هذا الكتاب ما يكون باعثاً على طلب الفضيلة ومجانبة الرذيلة، إن شاء الله تعالى.
قيل لفيلسوف: أي الحيوان أكثر صنعة مع محبة لها؟ فقال: أما ما ينتفع به الناس فالنحل، وأما ما لا ينتفعون به فالعنكبوت.
وجاء بعض الكلبيين، وهم جنس من اليونان، إلى الإسكندر فقال له: هب لي مثقالاً واحداً، فقال له الإسكندر: ليس هذا عطاء الملوك، فقال له: فأعطني قنطاراً، فقال الإسكندر: ولا هذا بسؤال كلبي.
وأشير على الإسكندر بالبيات في بعض الحروب فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر.
آيين: لفظ فارسي يراد به السير والصورة والزي والرسم، وما تعرفه العرب. وإنما ألقي الشيء على حد ما سمعته الأذن، ووعاه الصدر، والعون من الله تعالى على نصرة الحق، والذب عن الصواب، فيما يتعلق بالدين وعاد إلى سياسة الحياة.
كان يوسف بن عمر يقول إذا ركب: الحجاج كان الدخان وأنا اللهب.
قال عبد الله بن عباس: الخط لسان اليد.
قال معن بن زائدة: ما رأيت قفا رجل إلا عرفت عقله، قيل له: فإن رأيت وجهه؟ قال: ذاك حينئذ كتاب أقرأه.
قال ابن السماك: أفضل العبادة الإمساك عن المعصية والوقوف عند الشبهة.
ولأبي محمد اليزيدي: الطويل
وآنسني حتى أنست بقربه ... فلما رأى أنسي به باعد القربا
ونولني نيلاً فلما قبلته ... جفاني كأني نلت ما نلته غصبا
ورغبني في فضله فالتمسته ... فصار التماسي فصله عنده ذنبا
هذا من جيد الكلام وشريفه، وإذا نظرت إلى طابعه وسمته وجدته منقطع القرين محمي الحريم، لا يستأذن على القلب ولا يحتجب عنه العقل ولا يستطيل معه النفس، يعالق الروح معالقة، ويعانق السرور معانقة.
وأنشد ابن أبي طاهر صاحب كتاب بغداد وصاحب المنثور والمنظوم لشاعر: الطويل
فسقياً لأيام الشباب الذي مضى ... ورعياً لعيش عنده غير عائد
لهونا بها حيناً وما كان مرها ... على طولها إلا كرقدة راقد
وأنشد ابن أبي طاهر أيضاً لشاعر: البسيط
وقد رجوتك دون الناس كلهم ... وللرجاء حقوق كلها يجب
فأعطني منك ما أملت في عجل ... فإنني من تقاضي الجد مكتئب
إلا تكن لي أسباب أمت بها ... ففي العلا لك أخلاق هي النسب
قال الحسن البصري: ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر.
وكان يقال: من أنذر كمن بشر.
وكان يقال: من عدم فضيلة الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه.
ويقال: القصد ما إن زيد عليه كان إسرافاً، وإن نقص منه كان تقتيراً.
قال بعض الحكماء: توق الفاحش صديقاً، والأحمق رفيقاً، وأحذر أن تفعل فعلاً يدع الرأي عاقراً، والعقل عقيماً، والحس كليلاً، والحد مفلولاً.
قال محمد بن حجر: لي همة لو غرقت الدنيا فيها ما طلبت إلا بالغاصة، ولو كانت لليل ما تنفس له صبح.
وقيل لأرسطاطاليس: ما بال الحسدة يحزنون أبداً؟ قال: لأنهم لا يحزنون لما ينزل بهم من الشر فقط، بل لما ينال الناس أيضاً من الخير.
وكان بعض السلف يقول: اللهم أحفظني من أصدقائي، فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي.
وقال فيلسوف: حيث يكون الشراب لا تسكن الحكمة، ولا تلبث العفة.
وقال صاحب المنطق: الإقلال حصن للعاقل من الرذائل، وطريق إليها للجاهل.
وكان بعض الفلاسفة يقول: استهينوا بالموت حتى يهون عليكم فراق الدنيا.
كان أبو هشام الرفاعي يعشق جارية سوداء سمينة ضخمة، وكان يمص لسانها ويشم صنانها ويستنشي ريحها عجباً بها.
وكان أبو الخطاب صاحب المستغلات بسر من رأى عشق جارية يقال لها عنان، فكان ينومها على قفاها ويرفع رجليها ويقرقر في جوفها رطل نبيذ، ثم يضع شفتيه على شفرها ويمصه حتى يشربه، ثم يلتمس بولها وهي حائض.
هذا أيدك الله مرض ظريف، والناس في الدنيا على ضروب البلاء؛ نسأل الله الستر السابغ، والقبول للنصيحة، والأمن من الفضيحة.
وكان ابن الكلبي على بريد بغداد يستطيب الخرء، وكان يقدمه في جام، وكان يأخذ منه بإصبعه ويمسحه على شاربه ثم يقول: كذب العطارون، أنت والله أولى من العنبر الشحري.
وكان كاتب زيرك يعشق يهودية، وكان يمص بظرها، ثم يدخل إصبعه في استها ويخرجها، ويصير ما خرج عليها على طرف لسانه ويقول: هذا الماح من الراح، أشهى إلي من التفاح.
وأبو أيوب ابن أخت أبي الوزير، أدخل يوماً إصبعه في استه، فأخرج شيئاً، فدلكه ثم مسح به تحت إبطه وقال: لا يقطع الشر إلا الشر، هكذا قال أبو العنبس.
وأما عبد العزيز بن أبي دلف فإنه دعا بجارية كان يرى الدنيا بعينها فضرب عنقها، فقيل له: لم فعلت ذلك؟ فقال: مخافة أن أموت في حبها فتبقى هي بعدي تحت غيري.
وهذا أيضاً نمط من الجنون؛ إلى الله المفزع منه، ومن كل أمر يجلب السخط ويصلي جهنم.
قال عبد الله لبني نهشل: البسيط
لا أخمد النار أخشى أن يبينها ... عان يريد سناها جائع صرد
لكن أقول لمن يعرو مناكبها ... ألقوا الضرام عليها علها تقد
إما أقوم إلى سيفي فأشحذه ... أو يستهل عليهم محلب زبد
إني لأحمد ضيفي حين ينزل بي ... أن لا يكلفني فوق الذي أجد
يقال: ليس في الطيور أوفى من قمرية، فإنه إذا مات ذكرها لم تقرب ذكراً آخر بعده، ولا تزال تنوح عليه إلى أن تموت.
وكان بايكباك التركي اشترى جارية، وكانت قبله لفتى يحبها وتحبه فمات عنها، فجعلت لله على نفسها أن لا يجمع رأسها إلى رأس رجل وساد؛ فبيعت في الميراث، فلما حصلت بالشراء لبايكباك، نظرت إلى وجهه وخلقته - وكان منكراً متفاوتاً - فبكت، فقال لها: يا بنت الزانية! أيش تبكين؟ في حر أم أمس، وفي بظر أم غد، الشأن في اليوم، قومي حتى نتنايك ونأكل ونشرب، فوقع عليها الضحك واسترخت له وأمكنته.
قال الفرزدق: الرجز
يا رب خود من بنات الزنج ... تمشي بتنور شديد الوهج
أخثم مثل القدح الخلنج قدم بلال بن أبي بردة البصرة أميراً، فقال خالد بن صفوان، سحابة صيف عن قليل تقشع، فقال بلال لما بلغته هذه الكلمة: أما إنها لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب؛ وأمر به فضرب مائة سوط.
والشؤبوب: الدفعة، ويقال للجيل: شؤبوب من الناس، كأنه الطائفة منهم.
قال أعرابي: بلوت فلاناً فلم يزدني اختباره إلا اختياراً له.
وأراد زيد بن ثابت أن يركب، فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، قال زيد: أدن يدك مني، فأدناها، فقبلها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
قالت ماوية بنت النعمان بن كعب بن جشم لزوجها لؤي بن غالب: أي بنيك أحب إليك؟ قال: الذي لا يرد بسطة يده بخل، ولا يلوي لسانه عي، ولا يغير طبعه سفه، وهو أحد ولدك بارك الله لنا ولك فيه - يعني كعب بن لؤي. ولؤي تصغير لأي، وهو بقر الوحش.
شاعر: الطويل
إذا أمل يوماً غزاني حبوته ... كتائب يأس كرها وطرادها
سوى أمل يدني إليك فإنه ... يبلغ أسباب المنى من أرادها
قيل لسقراطيس الفيلسوف - وكان من خطبائهم - : ما صناعة الخطيب؟ قال: أن يعظم شأن الأشياء الحقيرة، ويصغر شأن الأشياء العظيمة.
يقال: فلان قد جمع طهارة المروءة وأريحية الفتوة.
قيل للبوشنجي شيخ خراسان: ما المروءة؟ قال: إظهار الزي؛ قيل: فما الفتوة؟ قال: طهارة السر.
وقال بعض السلف: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان.
لأبي زبيد الطائي: الوافر
إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء والحسب الوثيق
فكل إمارة إلا قليلاً ... مغيرة الصديق على الصديق
فلا تك عندها حلولً فتحسى ... ولا مراً فتنشب في الحلوق
أعاتب كل ذي حسب ودين ... ولا أرضى معاتبة الرفيق
وأغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق
قال الماهاني: سار رجل أبخر رجلاً أصم، فلشدة ما صدم خياشيم الأصم قال للأبخر: قد قهمت ما قلت؛ فلما ولى قيل للأصم: ما الذي قال لك؟ قال: والله ما أدري ولكنه فسا في أذني.
شاعر: الطويل
وقد علم العوج المراضيع تقتري ... عشاء على النيران هدلاً جنوبها
نداي إذا ما الناس جاعوا وأمحلوا ... فكانت كأقراب النعام سهوبها
يقال في مثل من أمثال العرب: لا در إلا بإيالة؛ الإيالة: السياسة. رأيت من صحف بايالة، وكان وجهاً في اللغة، فعد من سقطاته.
شاعر: الكامل
أيديكم نعم تعم بنفعها ... وسيوفكم من كل باغ تقطر
فكأن أنصلها إذا حمي الوغى ... شقق الرياط صباغهن العصفر
ولد المختار بن أبي عبيد سنة هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمه دومة بنت عمرو بن معتب، أتاها آت في نومها فقال لها: الرجز
ألا آبشرن بولد ... أشبه شيء بالأسد
إذا الرجال في كبد ... تغالبوا على بلد
كان له حظ الأسد قال حميد الطويل: لقد غسلنا الحسن البصري وإن في بطنه لعكناً؛ واحدتها عكنة وهي مثاني البطن عند السمن.
هلك ابن عباس سنة إحدى وسبعين، وهلك ابن عمر بعده بسنة.
لمعن بن زائدة وهو إذ ذاك بالسند: الرجز
لو أبصرتني وجوادي ثورا ... والسرج فيه قلق ومور
لضحكت حتى يميل الكور قال شاعر: المديد
ما على الأيام معتبة ... هل من الأيام منتصف
وجدت بي ما وجدت بها ... فكلانا مغرم كلف
قال الصولي: رأيت الفضل بن الحباب أبا خليفة الجمحي وقد قال له إنسان: ما أحسبك أيدك الله تثبتني، قال: وجهك يدل على علو سنك، والإكرام يمنع من مسألتك، فأوجد السبيل إلى معرفتك.
أنشد الأصمعي: الرجز
عام يرى الأفق به مغبرا ... قد أصبح الضر به مفترا
وأوغل الزارع فيه شرا ... وأبت الحلوب أن تدرا
وموتت فيه الخشاش طرا ... فكل جحر قد خوى واقفرا
وأشبع الكلب فعم هرا ... غادر ذا الشدة مقشعرا
قد أظهر العبوس وأقمطرا
الأغبرار: الغبرة، والغبراء: الأرض، والأفترار: الأنكشاف، ومنه: أفتر فلان، أي ضحك، كأنه أبدى أسنانه؛ وفر الرجل إذا ذهب، كأنه انكشف عنك، وعينه فراره أي عيانه خبره؛ والفاء مكسورة، كذا قال أبو سعيد السيرافي، وقد لج في ضمه بعض من لا يعتد برأيه، ومنه قول الحجاج: وفررت عن ذكاء كما تفر الدابة فينظر إلى سنها. وسمعت في البادية بفيد رجلاً من العرب يقول لأخر عند قاضيها أبي العباس: أنا الضامن المخبور والجذع المفرور؛ فحفظت عن غير معرفة، ثم سألت العلماء فوضح الجواب. ورأيت في رواية السكري ديوان امرىء القيس: فلانة حسنة الفرة - خفيفة الراء. وأما الأقترار - بالقاف - فتبردك بالماء وحثيك على يديك، ويقال حثوك، وكأنه من القر وهو البرد. وقرة العين خلاف سخنة العين، كأن دمعة الفرح باردة عن سكون الأخلاط، ودمعة الهموم حارة عند ثوران الأخلاط؛ والقرار: السكون والهدوء، وقر البرد: سكن، وقر فلان: سكن وهدأ، وأقر فلان بكذا أي دخل في الهدوء والسكون، أي لا يضطرب عند المطالبة بما اعترف به، وهي بمنزلة أشهر فلان أي دخل في الشهر، وأحرم أي دخل في الحرام أو الحرم. وأما الاعترار فالزيادة أو الفضل، والمعتر: الذي يغشى رحلك، والقانع: السائل، في قوله عز وجل " القانع والمعتر " الحج: 36، والقنوع: السؤال، والقناعة: الاقتصار على ما دون الكفاية، وخطأ أشباه الخاصة في القنوع إذا وضعوه موضع القناعة ظاهر، وكأن القانع يستر حاجته؛ والقانع في السؤال: الكاشف قناعه، والقناع: خمار المرأة، وهو ما تتقنع به، والقناع: طبق توضع عليه الفاكهة، وذلك لستره وتغطيته. وأما الاجترار للبعير إذا رد إلى فيه ما في جوفه وأعاد جرته؛ وأما الابتيار فأفتعال من برت إذا تحيرت؛ وأما الابتهار فرميك بما لا علم لك فيه. والخشاش - بفتح الخاء - : المنكر كرأس الحية، كذا قال الأموي في النوادر بخط ابن الكوفي، وها هنا يريد جميع الدبيب، والخشاش - بكسر الخاء - خشاش الناقة، هذا لفظ الأموي أيضاً؛ وقال الأموي: ليس الكلام على نبرة واحدة، بالنون.
وقال الأموي أيضاً: إذا استسقى المستسقي الماء فأنتضخ عليه - بالخاء معجمة - من الدلو، فذلك السقي - بتشديد الياء.
وقال الأموي أيضاً: خفس لهم الشراب إذا سقاهم صرفاً، أو أقل فيه من الماء، وكذلك اللبن.
وقال الأموي: نكيت العدو أنكيه، وهو ينكي العدو، ونكيت أنا - بالكسر.
قال فيلسوف: عادم بصر البدن يكون قليل الحياء، كذلك عادم عين العقل يكون كثير القحة - القاف من القحة تفتح وتكسر، هكذا قال سيبويه وغيره.
وقال فيلسوف: ليس ينبغي أن يرام الأنقياد ممن وضع في نفسه ألا يقبل شيئاً، وذلك أنه لا ينقاد إلا للأمتناع من القياد.
وقال أرسطاطاليس: كما أن البهيمة لا تحس من الذهب والفضة والجوهر إلا بثقلها فقط ولا تحس بنفاستها، كذلك الناقص لا يحس من الحكمة إلا بثقل التعب عليه منها ولا يحس نفاستها.
يقال: أحسست الشيء وبالشيء، وفي القرآن بحذف الباء، والفقهاء يخطئون فيه.
تركت حروفاً في أبيات الأصمعي لأن الكلام آخذ بعضه برقبة البعض فلم يقع منه مخلص، كذلك الحديث ذو شجون لأعتراض بعضه بعضاً: وأما قوله خوى وأقفرا: خوى معناه خلا، وخوي النوء معناه إخلاف مطره، وخوى نجمه - في الاستعارة - كقولهم ركدت ريحه، وباح ميسمه، وكبا جواده، وخمد ضرامه، ونضب ماؤه، وانثلم ركنه، وانهار جرفه، ونقب خفه، ودمي ظلفه، ورغم أنفه، وخر سقفه، وجذب عطفه، وعطفه رداؤه، وقد يراد به جماله، وبار ماؤه - نضب، وسقط بهاؤه - ذهب، وقلق وضينه، وعرق جبينه، وانخزل قرينه، وقرينه نفسه، وكذلك قرونه، وجمح حرونه، وساخت قدمه، وانتهى أمره، ونحو ذلك مما يتصرف فيه أرباب صناعة البلاغة ويطبعونه في طابع كلام العرب، وينسجون على منوالهم، بعد التمكن من طرائقهم، والتشبه بخلائقهم، وليس لمن لم يكن ذا مهارة في هذا أن يتعرض لشيء منه، فإنه يصير على صير أمر ما يمر ولا يحلي.
وأما قوله واقفرا، فإنما هو وأقفر مخففة، فشدد ضرورة. وأما قوله وأشبع الكلب لأنه قال وموتت فيه الخشاش طرا، فكأنه أكل ذلك وعاث فيه ثم أشر فهر، وأما المشرة فالكسوة، برفع الكاف وكسرها، هكذا قيل. وقال أبو حنيفة صاحب النبات: المشرة ورق الشجر، وكأن الكسوة للعريان المقشعر كالورق للنبات والشجر. وقال أبو عبيدة في الغريب ما هذا قريب منه؛ ولا أقول: ما هو قريب من هذا، فيكون استطالة على العلماء ومجانبة لمحمود الأدب. ولقد رأيت متكلماً - وقد سمع من فيلسوف مذهب أرسطاطاليس في شيء شرحه فأوضحه - فقال: هذا قول أبي هاشم وبه قال أرسطاطاليس، فعد ذلك من سقطاته، لأن صاحب المنطق قديم، ومن عزا إليه صواب قوله حديث، والثاني يأخذ من الأول ويقتفي أثره ويستقي مما أنبطه وينشر ما بسطه.
وأما قوله العبوس - بضم العين - فمصدر عبس، وأما بفتح العين فهو العابس بعينه والفرق بينهما بقدر الفرق بين الفاعل والمفعول، إذ أحدهما يدل على إنشاء الفعل وهو المفعول، والآخر يدل على استحقاق الاسم، وعل هذا الخائط والخياط، والغادر والغدار، والماكر والمكار. وأما قوله واقمطرا فمعناه اشتد، في قوله عز وجل " يوماً عبوساً قمطريراً " الإنسان: 10، كفانا الله سوء ذلك اليوم، ووقانا كيده وشروره، ولقانا نضرته وسروره.
قال الأموي في النوادر: قال أبو ذر: إن في مالك شركاء ثلاثة - لا تصرف شركاء ولا ما كان في وزنه من الجمع - أنت أحدهم، والقدر يقع فيأخذ خيرها وشرها، ووارثك مجنب لك على الطريق ينتظر متى تضع خدك فيستفيئها وأنت رميم، فلا تكن أعجز الثلاثة.
قال الأموي: يستفيئها أي يرتجعها، من الفي، وهو الرجوع، وقيل: معنى قوله " وما أفاء الله على رسوله " الحشر: 6 ما رجعه عليه، يقال: رجعت أنا ورجعت غيري، ومنه قول الله عز وجل " فإن رجعك الله " التوبة: 83.
قال الراعي: الطويل
إذا ابتدر الناس المكارم عزهم ... عراضة أخلاق ابن ليلى وطولها
يمد إلى المعروف كفاً طويلة ... تنال العدى بلة الصديق فضولها
كذا أنشدهما الأموي عن البكائي، بضم العين من العدى، وكسرها جائز، وفتح العين من عراضة، وفتح الهاء من بلة، وكسر القاف من الصديق.
قال أفلاطون: ينبغي لك مع معرفتك بأنك من هذا البدن بمنزلة من هو في حبس، ألا تروم لنفسك إطلاقك منه من قبل أنك لم تحبس نفسك فيه، لكن تنتظر الذي حبسك فيه أن يطلقك منه.
قال ابن دريد: وفي كلام بعض أهل التوحيد: فما على الأرض مدب راشحة، ولا مستن سابحة؛ هكذا في كتاب الجمهرة.
نظر حمصي إلى ابنته وأعجبته عجيزتها فقال: يا بنية طوبتنا لو كنا مجوسيين.
هذا لفظ هذا الجاهل، والصواب فيه يخل بالنادرة، ولا تنكر اللحن والخطأ إذا كانت الحكاية عن سفيه أو ناقص. وإني سمعت تميمياً من عسكر شيراز، وكان انتجع الملك عضد الدولة، يقول: ملح النادرة في لحنها، وحرارتها في حسن مقطعها، وحلاوتها في قصر متنها، فإن صادف هذا من الراوية لساناً ذليقاً، ووجهاً طليقاً، وحركة حلوة، مع توخي وقتها، وإصابة موضعها، وقدر الحاجة إليها، فقد قضي الوطر، وأدركت البغية. وهذا القائل كان يعرف بأبي فرعون مطل بن حرب التميمي، شاهدته سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وكان طلاب الحديث يثبتون عنه ما يحكي مما يستظرف. ولا يقال في الكلام طوبتك، وإنما يقال طوبى لك.
قال الماهاني: رأيت ثلاثة من الهراسين ببغداد يتكايدون، وقد أخرج أحدهم هريسته على المعرفة وهو يقول: انزلي ولك الأمان؛ والثاني يقول: يا قوم أدركوني الحقوني، أنا أجذبها وهي تجذبني، والغلبة لها؛ والثالث يقول: أنا يا قوم لا أدري ما يقولون، من أكل من هريستي ساعة أسرح ببوله شهراً.
قال الماهاني: رأيت جارية جاءت إلى بقال ببغداد فقالت: تقول لك مولاتي: أحب أن تطيب فمي ببصلة، فأعطاها بصلة وقال لها: قولي لمولاتك: يا قذرة، أكلت خرا حتى تطيبي فمك ببصلة؟! قال كاتب: تفكري في مرارة البين يمنعني من التمتع بحلاوة الوصل، فلي عند الأجتماع كبد ترجف، وعند النأي مقلة تذرف.
قال أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان: الكامل المجزوء
قوم حصونهم الأس ... نة والأعنة والحوافر
نزلوا البطاح ففضلت ... بهم البواطن والظواهر
قال أعرابي لصاحب له: أجعل العوض منه النزوع منه.
كاتب: أنت في زمان إن لم تغالط أهله وتحتلهم عما في أيديهم، وتصبر على مكاره الأمور وبعد المطالبة، لم تصر إلى شيء، ولم تجد أحداً منبهاً عل فضل منك وإن عرفه فيك، ولم يفتنه من محاسنك شيء إلا وجد في مساوىء غيرك عوضاً منه، وكان بذلك أثلج وإليه أسكن؛ فعليك بالصبر، فإن عاقبته إلى خير، وأقل ما فيه أن صاحبه لا يلوم نفسه ولا يلومه أحد، ولعله أن يظفر ويدرك.
كتب عامل إلى المأمون: قل من سارع في بذل الحق من نفسه إذا كان الحق مضراً به، وقل من ترك الاستعانة بالباطل إذا كان فيه صلاح معاشه وسبب كتسبه، وإذا تفرق الحق في أيدي جماعة فطولب به تشابهت في الكره لبذله، وتعاونت على دفعه ومنعه بالحيل والشبه قولاً وفعلاً، واحتاج المبتلى بإستخراج ذلك الحق من أيديها إلى مجاهدتها ومصابرتها.
إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب: وصل كتابك بخط يدك المباركة، فلم أر قليلاً أجمع لكثير، ولا إيجازاً أكفى من إطناب، ولا اختصاراً أبلغ في معرفة وفهم منه، وما رأيت كتاباً على وجازته أحاط بما أحاط به.
قال أعرابي: حق الجليس إذا دنا أن يرحب به، وإذا جلس أن يوسع له، وإذا حدث أن يقبل عليه.
قال أعرابي: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة.
قال أعرابي: هلاك الوالي في صاحب يحسن القول ولا يحسن العمل.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المحسن أمير على المسيء حيث كان.
كتب الكرماني: فإنك ممن إذا أسس بغى، وإذا غرس سقى، لاستتمام بناء أسه، واجتناء غرسه، وأسك في بري قد وهى وقارب الدروس، وغرسك في حفظي قد عطش وشارف اليبوس، فتدارك بالبناء ما أسست، وبالسقيا ما غرست، والسلام.
أمسك رجل بلجام الفضل بن سهل بخراسان وقال: أما بعد، فسلام ممن عرف فضلك فأضمر ودك، وتحية ممن تعود برك فأوجب شكرك، واستغاثة ممن تذكر جاهك فرجا عونك.
قال أعرابي: مروءة الرجل في نفسه نسب لقوم آخرين، فإنه إذا فعل الخير عرف له، وبقي في الأعقاب والأصحاب، ولقيه يوم الحساب.
قال أعرابي: الناس رحلان، عالم لا غنى به عن الأزدياد، وجاهل الحاجة به إلى التعلم أعظم، وليس في كل حال يكون العالم لما يبدهه من الأمور مفيداً، ولا المتعلم على استفادة ما يستفيد منه قادراً.
كاتب: إذا أنت عطلتنا من أمورك، وأعفيت ظهورنا من حمل أثقالك ومؤنتك، وتركتنا غفلاً في ولايتك من تنبيهك وتحريكك، فقد أنزلتنا منزلة من لا خير عنده: وجعلت نفسك أسوة من لا يعبأ به، وكفى بذلك لنفسك ظلماً.
نظر أعرابي إلى ابن أبي دواد فقال: ضفته شافية للقلوب، ونصيحته جالبة للمنافع.
كاتب: يرى حفظ الحرمة ديناً، ورعاية الذمام فرضاً، يأوون إلى كنف رحب من كرمه، ويردون على منهل عذب من فضله، ويتصلون بحبل متين من رعايته؛ فنسأل الله الذي أهله لهذه المنزلة واختصه بمزيتها، أن يجعله في مزيد من أجمل ما آتاه منها، واكمل ما أنعم به عليه فيها.
قال أعرابي في الثناء على الرشيد عام حج: قد أصبح المختلفون مجتمعين على تقريظك ومدحك، حتى إن العدو يقول اضطراراً ما يقوله الولي اختياراً، والبعيد يثق من إنعامك عاماً بما يثق به القريب خاصاً.
كاتب: أتاني كتابك فطامن من قلبي وطرفي بعدما كان شاخصاً إليه، ومتشوقاً إلى وروده، ثم ملأني سروراً بما رأيت فيه من آثار برك، وكريم تفقدك، واتصل بما عندي وقبله مما إن ذكرته فللاستراحة إلى الذكر، وإن أمسكت فللعجز عن الشكر، فأما الضمير فمبني على الإقرار بفضلك، والنية خالصة بشكرك، وقليل ذلك لك.
دخل يحيى بن الحسين الطالبي على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين حيرتني عارفتك حتى ما أدري كيف أشكرك، قال: لا عليك، فإن الزيادة في الشكر على الصنيعة ملق، والنقصان عي، وحسبك أن تبلغ حيث بلغ بك.
شاعر: الوافر
يطيب العيش أن تلقي أديباً ... غذاه العلم والنظر المصيب
فيكشف عنك حيرة كل ريب ... وفضل العلم يعرفه الأديب
قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف صرت تقتل فأكون أنا ونفسه عليه.
وقال رضي الله عنه: من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.
دخل ميمون بن مهران على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال له - وقد قعد في أخريات الناس - : عظني، فقال ميمون: إنك لمن خير أهلك إن وقيت ثلاثة، قال: ما هن؟ قال: إن وقيت السلطان وقدرته، والشباب وغرته، والمال وفتنته، فقال: أنت أولى بمكاني مني، ارتفع إلي؛ فأجلسه على سريره.
فصل من تعزية لكاتب: إن الله جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبي، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وجعل ثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً.
أعرابي: كانت لهم الكرة علينا وعليهم الدبرة، فحملوا حملة كاذبة أتبعناها بأخرى صادقة.
ذم أعرابي رجلاً فقال: لا أصل نبت في الأرض، ولا فرع بسق في السماء، من شكر أو وفاء أو حياء.
كاتب: ولفلان لدينا حرمة واجبة، وله مع الهوى منا فيه فضل ودين ومذهب.
قال محمد بن مسعر: كنت أنا ويحيى بن أكثم عند سفيان، فبكى سفيان، فقال له يحيى: ما يبكيك يا أبا محمد؟ فقال له: بعد مجالستي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بليت بمجالستكم، فقال له يحيى، وكان حدثاً: فمصيبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجالستهم إياك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مصيبتك بمجالستنا، فقال سفيان: يا غلام، أظن السلطان سيحتاج إليك.
لبعض العرب: الكامل المجزوء
يا دار بالبلد الخراب ... والمنزل القفر اليباب
ومجر أذيال الهوى ... ومصب أوداق السحاب
دار التأسف والبلى ... ومحل نأي وأغتراب
بيدي فيك دفنت عم ... راً بين أطباق التراب
كشبا المهند أو كشبل ال ... ليث أو فرخ العقاب
ماذا صنعت بوجهه ... وبسنه الغر العذاب
قالت لنا دار البلى ... والدار تنطق بالصواب
أوما علمت بأن عم ... راً يا أبا عمرو ثوى بي
فسكوته ثوب البلى ... وسلبته جدد الثياب
ومحوت غرة وجهه ... بالترب محوك للكتاب
قال فيلسوف: كما لا تشفق على عضو منك إذا وقع فيه شيء من القطع مخافة أن يسري بك ذلك، كذلك ينبغي أن تشفق على اختلاف التعب والصبر في المكروه على إصلاح النفس.
وقال فيلسوف: من القبيح أن تكون حاجة الإنسان إلى العقل أكثر من حاجته إلى المال.
سئل فيلسوف: أي الرسل أحرى بالنجح؟ قال: الذي له جمال وعقل.
وقال فيلسوف: الحساد مناشير لأنفسهم.
رأى فيلسوف غلاماً جميلاً لا أدب له، فقال: أي بيت لو كان له أساس؟! سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة؛ قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام؛ قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال جهد المقل؛ قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما حرم الله؛ قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بنفسه وماله؛ قيل: فأي القتل أفضل؟ قال: من هريق دمه في سبيل الله عز وجل.
يقال أهرقت الماء وأرقت الماء، وقيل: أهرورق الماء؛ قال الشاعر: الطويل
شربنا فأهرقنا على الأرض فضلة ... للأرض من كأس الكرام نصيب
الجريض: الذي يغص بريقه، وفي المثل: حال الجريض دون القريض؛ والوسق: الطرد، وجماعه وسائق؛ الطلي: ولد الضائنة، والطلا: الصغير من ولد الظلف، وإنما سمي طلياً لأنه يطلى في رجله بخيط، هكذا حفظت من المجالس.
يقال: ما فلان بخل ولا خمر، أي ليس عنده خير ولا شر.
يقال للرجل: نبلني، أي أعطني سهماً، والعرب تقول: أتتني خطوب تنبلت ما عندي؛ قال الشاعر: الطويل
ولما رأيت العدم قيد نائلي ... وأملق ما عندي خطوب تنبل
ويقال: أردمت الحمى عليه وأغبطت عليه، أي لزمته؛ وكساء ليس فيه متردم، أي مرقع.
ويقال: ما زلت أصاده أي أرفق به.
ويقال: ما عندي فرج ولا نفس، ويقال منفس، والمنفس: النفيس، وكأن المنفس ذو النفس، وكأن النفيس المنفوس به، أي المضنون به، أي المأخوذ في النفس؛ والنفساء: لأنها تعالج نفسها. والنفس يذكر ويؤنث، والنفس مردود إلى النفس، لأنه إذا انقطع بطل ذو النفس.
وسئل بعض المتكلمين، وأنا أسمع، عن النفس فقال: هي النفس، وسئل عن الروح فقال: هي الريح؛ فقال السائل: فعلى هذا كلما تنفس الرجل خرجت نفسه، وكلما ضرط خرجت روحه؟! فأنقلب المجلس ضحكاً.
والكلام في النفس والروح صعب ضاق، ومن الحقيقة بعيد، ولأمر ما ستر الله معرفة هذا الضرب عن الخلق حيث قال: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " الإسراء: 85. والروح من الروح، والراحة أيضاً من ذلك، والأستراحة: طلب الراحة، والرائحة جالبة للروح وملاطفة للروح - هذا متى لم تكن عاصفاً، فكأنها مؤذية للروح إذا كانت عاصفاً أو معصفاً.
قال العتبي: رأيت أعرابياً في طريق مكة يسأل الناس ولا يعطونه شيئاً، وبين يديه صبي صغير له؛ فلما ألح وأخفق قال: ما أراني إلا محروماً، فقال الصبي: يا أبة، المحروم من سئل فبخل، ليس من سأل فلم يعط؛ قال: فعجب الناس من كلامه، وأقبلوا يهبون له حتى كسوه.
العرب تقول: رضيت من الوفاء باللفاء، أي من النفيس بالخسيس.
قال الواقدي: رأيت بالمدينة بقالاً وقد أشعل سراجاً بالنهار ووضعه بين يديه، فقلت: ما هذا يا هذا؟ قال: أرى الناس يبيعون ويشرون حولي ولا يدنو مني أحد، فقلت: عسى ليس يراني إنسان، فأسرجت.
أنشد لشاعر: الكامل المجزوء
يا نفس قد حق السفر ... أين المفر من القدر
كل امرىء مما يخا ... ف ويرتجيه على خطر
من يرتشف صفو الزما ... ن يغض يوماً بالكدر
قال أعرابي: الدنيا دحض فحد عنها.
العرب تقول: الخنق يخرج الورق.
أتي عتاب ن ورقاء بخوارج فيهم امرأة فقال: أي عدوة الله، ما دعاك إلى الخروج؟ أما سمعت قول الله عز وجل:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
فقالت: يا عدو الله، إنما أخرجني حسن معرفتك بكتاب الله تعالى.
قيل لأبي هارون الخياط: أنت تسبح كثيراً، فما تقول في تسبيحك؟ قال: أقول في دبر كل صلاة ألف مرة: حسبي الله.
العرب تقول: أصبحوا في مخض وطب خاثر، وفي أبي جاد ومرامر، أي في غير شيء.
دخل الحجاج بن هارون على نجاح، فذهب ليقبل رأسه، فقال: لا تفعل، فإن رأسي مملوء دهناً، فقال: والله لأقبلنه ولو أن عليه ألف رطل خراء.
دخل رجل على ابن الجصاص وهو يقرأ في مصحف، فأستحسن خطه، فقال ابن الجصاص: ما بقي اليوم من يكتب مثل هذا الخط، وبعد: هذا كتب منذ خمسمائة سنة.
قال الماهاني: دعاني ابن الكلبي يوماً، فأجلسني في بيت خيش على فرش ميساني وأطعمني فجلية، ثم قال في حديثه: لما مات أبي ندم أمير المؤمنين أشد ندامة في الدنيا، قلت: أكان نديمه؟ قال: لا، قلت: أفجليسه؟ قال: لا، قلت: أفمات حتف أنفه؟ قال: نعم، قلت: فما سبب ندامة أمير المؤمنين؟ قال: كذا أخبرني سعيد غلامنا.
قيل للفضل بن عبد الرحمن: ما لك لا تتزوج؟ قال: إن أبي دفع لي ولأخي جارية، قيل: ويحك دفع إليك وإلى أخيك جارية؟! قال: أيش تعجبون من هذا؟ هذا جارنا أبو زريق القاضي له جاريتان.
قال ابن الجصاص يوماً: أشتهي بغلة مثل بغلة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسميها دلدل.
وجد على خاتم ملك الهند: من ودك لأمر ولى عنك عند انقضائه.
وكان على خاتم أفلاطون: تحريك الساكن أسهل من تسكين المتحرك.
وكان على خاتم ملك الصين: من رد ما لا يعلم فهو أعذر ممن قبل ما يجهل.
قيل لفيلسوف: أي السباع أحسن؟ قال: المرأة.
قال المغيرة بن شعبة: ملكت النساء على ثلاث طبقات: كنت أرضيهن في شبيبتي بالباه، فلما أسننت أرضيتهن بالمداعبة والفكاهة، فلما هرمت أرضيتهن بالمال.
قال ركن بن حبيش: لما خلق الله المرأة قال إبليس لها: أنت رسولي، وانت نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي الذي أرمي بك ولا أخطىء.
وقال صاحب المنطق: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء آنس منه بلين العيش مع السفهاء.
وقال فيلسوف: الدنيا لذات معدودة، منها لذة ساعة، ولذة يوم، ولذة أسبوع، ولذة شهر، ولذة سنة، ولذة الدهر؛ فأما لذة ساعة فالجماع، وأما لذة يوم فمجلس الشرب، وأما لذة أسبوع فلين البدن من النورة، وأما لذة شهر فالفرح بالعرس، وأما لذة سنة فالفرح بالمولود الذكر، وأما لذة الدهر فلقاء الإخوان مع الجدة.
سئل عمار بن ياسر عن الكوفة فقال: رأيتها حلوة الرضاع، مرة الفطام، يعني الولاية. يقال: رضاع ورضاع.
قال نضلة: أجتزت في درب الزعفران يوماً فرأيت بين يدي جاريتين تمشيان وتتماجنان ولا تشعران بمكاني، فضرطت إحداهما وقالت: غلالة شرب، وضرطت الأخرى وقالت: رداء أصبغ الأصل، وعادت الأولى فضرطت وقالت: سراويل نيلي، وضرطت الثانية فقالت: طاق فستقي؛ قال نضلة: فضرطت أنا من خلفهما، فالتفتت واحدة وقالت: هذا أيش؟ قلت: منديل دبيقي يشدون فيه الثياب.
والعرب تقول في أمثالها: آخر الذلة إحراز المرء نفسه وإسلامه عرسه.
العرب تقول: أفضيت إليه بشقوري وبقوري، أي بحت له بكل ما في نفسي، وهو نظير قولهم: أخبرته بعجري وبجري.
ومن كلامهم: القول رداف والعثرات تخاف.
ومن كلامهم: اندب إلى طعانك من تدعوه إلى خوانك.
ومن كلام العرب: قليل الماء يروي من الظلماء، وكثيره يتلف الأحشاء.
ومن كلام العرب: من أشترى اشتوى؛ فأما قولهم: المستري، أي طالب سراة الشيء، فغير هذا، ويقولون من هذا اللفظ: استرى الموت بني فلان، أي أخذ سراتهم وأماثلهم؛ والسروة النبل، والشاعر يقول: الكامل
إن السري هو السري بنفسه ... وابن السري إذا سرا أسراهما.
ومن كلام العرب: هو كالأرقم، إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم.
ومن كلام العرب: الحيلة لعطف المتجني أعسر من نيل التمني.
سئل أعرابي من عبس عن ولده فقال: ابن قد كهل، وابن قد رفل، وابن قد عسل، وابن قد فسل، وابن قد مثل، وابن قد فضل.
سئلت أعرابية عن ابنها فقالت: أنفع من غيث، وأشجع من ليث، يحمي العشيرة، ويبيح الذخيرة، ويحسن السريرة.
وكان عبد الله بن الزبير يسب ثقيفاً إذا فرغ من خطبته بقدر أذان المؤذن، وكان فيما يقول: قصار الخدود، لئام الجدود، سود الجلود، بقية قوم ثمود.
العرب تقول: العقل وزير ناصح، والهوى وكيل فاضح.
العرب تقول: رب واثق خجل، ورب آمن وجل.
كتب عبد الحميد الكاتب عن مروان كتاباً إلى أبي مسلم صاحب الدعوة، وقال لمروان: إني قد كتبت كتاباً إن أنجع فذاك، وإلا فالهلاك؛ وكان من كبر حجمه يحمل على بعير، وكان نفث فيه حواشي صدره، وجمع فيه غرائب عجره وبحره، وقال: إني ضامن أنه متى قرأ الرسول على المستكفين حول أبي مسلم بمشهد منه اختلفوا عليه، وإذا اختلفوا عليه كل حدهم وذل جدهم. فلما ورد الكتاب على أبي مسلم أخذه ودعا بنار فطرحه فيها إلا قدر ذراع، فإنه كتب عليه هذين البيتين جواباً: الطويل
محا السيف أسطار البلاغة وأنتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
فإن تقدموا نعمل سيوفاً شحيذة ... يهون عليها العتب من كل عاتب
ورده؛ فحينئذ وقع اليأس من معالجته.
قال أعرابي: اللهم إنك كفلت لنا الرزق وأمرتنا بالعبادة، فاكفنا ما شغلتنا به عما خلقتنا له، فإن ما عندنا يفنى، وما عندك يبقى.
ومر بي في كتاب الرتب مثل للعرب: ربضك منك وإن كان سماراً؛ السمار - خفيفية - : اللبن الممذوق؛ معناه فيما زعم: القريب منك وإن كان ردياً، كأنه شقيق قولهم: عيصك منك وإن كان أشباً. والعيص: الأصل، والأشب: الذي فيه خلط، ومنه نسب مؤتشب - بفتح الشين - إذا كان مغموراً.
دعا الحجاج رجلاً ليوجهه إلى محاربة عدو فقال له: عندك خير؟ قال: لا، ولكن عندي شر، قال: ذلك الذي أردتك له؛ امض لوجهك.
شاعر: الوافر
سأرحل عنك معتصماً بيأس ... وأقنع بالذي لي فيه قوت
وآمل دولة الأيام حتى ... تجيء بما أؤمل أو أموت
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا تجالسوا أصحاب القدر ولا تفاتحوهم.
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، فاحمر وجهه وغضب وقال: أبهذا أمرتم؟ إنما هلكت الأمم قبلكم بهذا.
وقال أبو الدرداء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة عاق ولا مكذب بقدر ولا مدمن خمر.
والكلام في القدر لطيف، وسأحكي لك عنه مسألة جرت في مجلس كبير، وأوضح المعنى والاسم، وأدرس لك مقالة الناس، ليتبين لك الحق إن شاء الله تعالى؛ والعرب تقول: الحق أبلج، والباطل لجلج، ومعناهما واضح ومشكل؛ والسكوت عن هذه الأشياء أنفع، ولكن الحكاية ما على صاحبها لوم ولا عتاب، فتوقع ذلك من بعد.
لمست أعرابية كف أبيها فألقتها خشنة فقالت: الرمل
هذه كف أبي خشنها ... ضرب مسحاة ونقل بالزبيل
فأجابها أبوها: الرمل
ويك لا تستنكري خشن يدي ... ليس من كد لعز بذليل
إنما الذلة أن يمشي الفتى ... ساحب الذيل إلى باب البخيل
وقال فيلسوف: لأن تستغني عن الشيء وتكفاه خير من أن تسأله وتعطاه.
وقال المغيرة بن حبناء التميمي، وقدم على طلحة الطلحات: الطويل
لقد كنت أسعى في هواك وأبتغي ... رضاك وأرجو منك ما لست لاقيا
وأبذل نفسي في مواطن غيرها ... أحق وأعصي في هواك الأدانيا
حفاظاً وتمساكاً بما كان بيننا ... لتجزيني ما لا إخالك جازيا
رأيتك ما تنفك منك رغيبة ... تقصر دوني أو تحل ورائيا
أراني إذا أملت منك سحابة ... لتمطرني عادت عجاجاً وسافيا
إذا قلت جادتني سماؤك يا منت ... شآبيبها أو ياسرت عن شماليا
وأدليت دلوي في دلاء كثيرة ... فأبن ملاء غير دلوي كما هيا
فإن تدن مني تدن منك مودتي ... وإن تنأ عني تلقني عنك نائيا
إذا أنت أكرمت امرءاً أو أهنته ... وأخفيت فأعلم أنه ليس خافيا
وتجعل دوني من يقصر رأيه ... ومن ليس يغني عنك مثل غنائيا
فلا تحسبني عن ثوابك غافلاً ... ولا للذي استودعتني منك ناسيا
قال بعض السلف: الناس ثلاثة: فقير وغني ومستزيد؛ فالفقير من منع حقه، والغني من أعطي ما يستحق، والمستزيد من طلب الفضل بعد درك الغنى.
قال أعرابي لصاحب له: عليك بالثريد فإنه يجلو البصر، ويجلب الخير، ويجتمع فيه ربيعة ومضر.
وقال فيلسوف: بلوت الأشياء فلم أجد شيئاً أشد من صالح يلي أمر صالح، ولم أر لهذا الدهر دواء إلا الصبر عليه، ولم أر هلاك أهله إلا في الطمع.
وقال بزرجمهر: من رجا الحزم بغير روية، والحمد بغير استحقاق، والمحبة بغير لين الكلمة، ومناصحة الأنصار بغير التوسعة، وما عند القضاة بغير حجة، فقد رجا ما يصعب على رجائه، واتكل على ما الغرور في الاتكال عليه.
أنشدت لبعض علوية الكوفة: الوافر
أرى ناراً تشب على يفاع ... لها في كل ناحية شعاع
وقد رقدت بنو العباس عنها ... ونامت وهي آمنة رتاع
كما رقدت أمية ثم هبت ... لتدفع حين ليس لها دفاع
هذا الأبيات نظيرة أبيات نصر بن سيار حين جاشت خراسان بالمسودة إلى مروان، وهي: الوافر
أرى تحت الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الشر مبداه الكلام
وقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن يك أصبحوا وثووا نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام
فما نفعت، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
وقال مروان لكاتبه: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة.
قيل لفيلسوف وقد مات أخوه: ما كانت علته؟ قال: كينونته في الدنيا.
قال أعرابي في وصف اثنين: أين المنسم من السنام؟ وأين النحيت من النضار؟ وأين الخروع من النبع؟ وأين الخوافي من القوادم؟ وأين المغاني من المعالم؟ وأين الثمد من الغدير؟ وأين الجزر من المد؟ وأين القبول من الرد؟ وأين الوصل من الصد؟ قال أبو عبيدة: القرآن على عشرة أحرف: حلال. وحرام، ومحكم، ومتشابه، وعظه، وأمثال، وبشير، ونذير، وأخبار الأولين. وأخبار الآخرين.
أنشد الحارثة بن بدر الغداني: الطويل
طربت بفاثور وما كدت تطرب ... سفاهاً وقد جربت فيمن يجرب
وجربت ماذا العيش إلا تعلة ... وما الدهر إلا منجنون يقلب
وما اليوم إلا مثل أمس الذي مضى ... ومثل غد الجائي وكل سيذهب
وقال محمد بن هاشم: التعليق في حواشي الكتب كالشنوف في آذان الأبكار.
قال فيلسوف: أحسن الكلام ما كان له نظام، وعرفه الخاص والعام.
وصف أعرابي نساء فقال: أقبلن بحجول تخفق، وأوشحة تقلق، فمن أسير ومطلق.
شاعر: الطويل
إذا افترشت أعناقها الأرض طيرت ... دقاق الحصى أنفاسها وزفيرها
شددنا بها الأنساع وهي قصيرة ... فطال على طول السفار قصيرها
قال سفيان: يا ابن آدم، إن جوارحك سلاح الله عليك، بأيها شاء قتلك.
قال بكر بن عبد الله، قائد التوكل الإخلاص، وخطامه حسن الظن، وزمامه نفي الحرص.
وقال أعرابي: لا تقل ما لا تعلم، فتتهم فيما تعلم.
قيل لمعاوية: أنت أمكر أم زياد؟ قال: إن زياداً لا يدع أن يتفرق الأمر عليه، وإنه ليتفرق علي فأجمعه.
كان ملوك الدهر الأول، وكذلك الخلفاء، يراجعون الحديث، وينازعون الكلام، ويسألون عن علل الرأي المقول به، والحكم المصير إليه، فكانت الحكم تنثر عنهم، والفوائد تنشر منهم، والدعاء يكثر لهم، والثناء يحسن عليهم؛ وإنك ترى زمانك فاسد المزاج، أبي الخير، معدوم الفضل، قليل الناصر، بعيد المنعطف؛ لا جرم، والله الموت متمنى، والحياة مقلية، واليأس واقع، والرجاء برقع.
شاعر يصف جيشاً: البسيط
في جحفل كسواد الليل منبعق ... فيه الردى وهو بالأبطال منعقد
لا يجمع الطرف أدناه وآخره ... ولا يسايره التحصيل والعدد
إذا أناخت على قوم كلاكله ... لم تطف حرته إلا وقد خمدوا
قال ابن أبي طاهر: ذكر أعرابي البراغيث فقال: قبحها الله، ليلها ناصب، وطالبها دائب، ومددها ثائب.
وقال إسحاق: ذكر آخر البراغيث فقال: أخزاها الله ما آذى صغارها، وما أشر كبارها، وما أخفى انطمارها، وما أسرع مطفارها، وأقبح آثارها. كذا حكي لي.
لبعض أهل المغرب: الوافر
أتضحي في كتامة ذا اكتئاب ... تقارعها قياماً في قيام
إذا ما وقعة دارت رحاها ... بحز معاصم وبفلق هام
أتت أخرى تطم وتعتليها ... يشيب لوقعها رأس الغلام
أألتذ الحياة بخفض عيش ... معاذ الله والشهر الحرام
ولكن التجلد لي خدين ... فسني ضاحك والقلب دام
لعل الله يجمعنا جميعاً ... وقد تمت لنا رتب الكرام
قدم حماد بن جميل من فارس، فأتى آل المهلب في حق لهم وعليه جبة وشي، فنظر إليه يزيد بن المنجاب وقال: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً " الإنسان: 1، فقال حماد: " كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم " النساء: 94.
ومن نوادر كلام الأعراب قيل لأعرابي: أتأكل الضب؟ قال: وما ظلمني أن آكله؟ أي ما منعني؛ قال أبو عثمان سعيد بن هارون: ومنه قول الله عز وجل " ولم تظلم منه شيئاً " الكهف: 33، أي لم تمنع.
قال التوزي: دابة مهزول ثم منق إذا سمن قليلاً، ثم شنون، ثم سمين، ثم ساح، ثم مترطم الذي قد انتهى سمناً.
قال الأشنانداني: كل نار يشتوى عليها فالمشتوى حنيذ.
يقال شارب وشاربون وشرب، مثل: صاحب وصحب، وشربة، مثل: كاتب وكتبة وحاسب وحسبة، وشرباء، مثل: عالم وعلماء، ويكون شرباء جمع شريب، مثل: نديم وندماء؛ ورجل شريب وشراب وشروب بمعنى واحد؛ الشاربة: الذين يردون الماء فيشربون.
هكذا حفظت عن أئمة هذا اللسان، وما لي منه إلا حظ الرواية، إن وقعت موقعها منك، وحلت محلها عندك، وإن تكن الأخرى فما أقدرك على رد ما أروي، وإفساد ما أقول، حتى يصير ما جمعته ونقلته، وكددت نفسي فيه، خاملاً في عينك، ومهين القدر بحكمك، وغير هذا أجمل بمطبوع على الخير، ومغذو بالأدب، وناشىء مع البر، وجار على طرق الطهارة. ولا أقول إن ما تمر بك ها هنا لا تصيبه في الكتب، ولا تجده عند الشيوخ، ولكن كم بين من يستقبل كفاية غيره، وبين من يستأنف كفاية نفسه. أنصف وأحسن، وانظر إلي بعين الرضا، ثم اقتحم بي حمر الغضا، ومهما أثبت فاقصد به تأديبي وتهذيبي، لتكون لائمتك عن غير حسد، وإنكارك خارجاً عن التنافس، فإني أخاف أن يقلينا قال: ويشبك حالنا شابك، فأستحي لك من جنايتك علي برد ما أثبته، وتزييف ما نقدته، والسلام عليك شبت أو خلصت، وزدت في إحساني أو نقصت، ورحمة الله وبركاته.
يقال: مصير ومصران ومصارين، مثل بعير وبعران وأباعير؛ هكذا السماع.
قال التوزي عن أبي عبيدة: سمعت العرب تقول: تمر وخواخ، ولا حلاوة فيه؛ وقال أيضاً: العرب تقول لجماعة الغيم: غيوم، ولجماعة الحمير: حمور.
قال فيلسوف: المحسن معان والمسيء مهان.
الغراث: الجياع؛ جوع يرقرع، وجوع هلقس، وجوع هنبغ بالغين معجمة - ، إذا كان شديداً؛ هذا من الغريب المتروك لثقله، وإنما آتي به مع غيره كالمازج خمراً بماء. فإن الشيء يظهر حسلنه الضد.
قال التوزي: تحيرت البقاع والغدران إذا امتلأت، كأن تحير النفس بالأمر الوارد عليها والمعنى المبحوث عنه إنما هو من هذا.
ويقال: ماث الملح بالماء يميثه ميثاً إذا أذابه به.
ويقال: اشتغر عليه الحساب أي انتشر، واشتغرت الإبل: كثرت وأختلطت، ويقال: داهية وزباء ووبراء. وشغر الكلب برجله إذا رفعها وفرج إذا بال.
ويقال: حفاه يحفوه حفواً أي منعه وحرمه، ويقال: تحفاه أي بش به تحفياً، وأحسن مسألته، ومثله حفي به حفاوة، وأنا حفي به إذا فرحت به، وأحفي في المسألة والوصية إذا بالغ، وأحفى شاربه إذا استأصله، وأحفى دابته إذا سارها حتى تحفى؛ يقال: سرت الدابة، هذا هو الفصيح، وينشد: الطويل
فلا تخرجن عن سنة أنت سرتها ... وأول راض سنة من يسيرها
وأول راضي سنة على الإضافة يروى أيضاً؛ والبيت لابن أخت أبي ذؤيب، وله حديث، ولعله يعتن لك في عرض النوادر؛ وحفي فلان إحفاء بفلان أي يلزق به ما يكره، وحفي الرجل إذا رق أسفل قدمه من المشي، ورجل حاف وناعل، فأما الحفاء - مديدة - فالأسم، ويقال في المثل بيت: الخفيف
لا تزدني على الحفاء شقوقا ... فمن البر ما يكون عقوقا
شاعر: الطويل
وما رفع النفس الدنية كالغنى ... ولا وضع النفس الكريمة كالفقر
قال المأمون: من أراد أن يطيب عيشه فليدفع الأيام بالأيام.
قال محمد بن الحنفية: من كرمت نفسه عليه هانت الدنيا في عينيه. محمد هذا قليل الكلام، لكنه مفيد شريف، وكان ذا إيجاز شديد.
وحد الإيجاز بعض أشياخ العلم فقال: هو تقليل الكلام من غير إخلال؛ كأنه إقلال بلا إخلال. وهذا الشيخ حد البلاغة فقال: هي ما أدى المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. وله حدود كثيرة في كتاب صنفه في القرآن، وأصحابنا يأبون طريقته. وكان البديهي يقول فيه: ما رأيت - على سني وتجوالي وحسن إنصافي لمن صبغ يده بالأدب - أحداً أعرى من الفضائل كلها ولا أشد ادعاء لها من صاحب الحدود، فإني مع وزني له، ونظري إليه، واستكثاري منه في عنفوان شبيبتي، لم أقطع على كفره حتى راجعت العلماء في أمره، فقال المتكلمون: ليس فنه من الكلام فننا، وقال النحويون: ليس شأنه في النحو شأننا، وقال المنطقيون: ليس ما يزعم أنه منطق منطقاً عندنا؛ وقد خفي مع ذلك أمره على عامة من ترى.
وكان البديهي هذا شاعراً، وكان شهرزورياً، وكان مغسول الشعر، ما طن له بيت. وإنما هاجه على هذا الثلب اختلافه إلى يحيى بن عدي المنطقي، ولم يحل منه بشيء من الفلسفة قليل ولا كثير، ولكن كان يجعل إصابته في حفظ العروض، وعقد القافية، وإقامة الوزن، ورواية اللغة، وحفظ الغريب المصنف، إعجاباً بنفسه، ويتدرع به على الناس، متذرباً ببذاء وسفه. ولقد شاهدته وهو على شفير عمره فما كان يحلي ولا يمر، وسمعته يقول: بين الجلوس والقعود فرق، وبين صد وعاق فصل، ولكل كلمة من كلام العرب معنى يخصها، وغرض منوط بها، وعجز من لم يدرك لا يصير حجة على من أدرك ذلك؛ وحديثه طويل، وكان لنا شيخ يستحلي أبياتاً له وهي: الكامل
لا تحسدن على تظاهر نعمة ... شخصاً تبيت له المنون بمرصد
أوليس بعد بلوغه آماله ... يفضي إلى عدم كأن لم يوجد
لو كنت أحسد ما يجاوز خاطري ... حسد النجوم على بقاء سرمد
وقال محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له من ذلك فرجاً ومخرجاً. وهذا كلام عجيب من معدن شريف، ومكانة تامة.
وقال محمد أيضاً: الحسن والحسين أشرف مني، وأنا أعلم بحديث أبي منهما. هكذا حكاه الكعبي، وناهيك بأبي القاسم عالماً وراوياً، وثقة وأمانة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحفة الصائم الطيب، هكذا رواه الحسن بن علي عن أبيه.
العرب تقول: جاز الله عنه، أي تجاوز؛ حكاه ابن الأعرابي.
وقال راشد بن أبي الحمد الحسني: السبب أولى من النسب، والسبب التقوى، وبها تظهر الكرامة، قال الله تعالى: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " الحجرات: 13. هكذا سمعته من أبي حامد القاضي، شيخ أصحاب الشافعي.
وكان يقول عند هذا: إن النسب لا يمدح به ولا يثاب عليه، وإنما هو كالطول في الطويل، والقصر في القصير، والحسن في الحسن، والقبح في القبيح؛ وإنما المدح والذم، والثواب والعقاب، راجعة إلى الفعل، والفعل موقوف على الأمر والنهي، والأمر والنهي ظاهران عند تمام العقل بحكم العقل، مع التمكين من النظر، والوصول إلى الدليل؛ ثم إن الأمر والنهي مؤيدان بالشرع من قبل المبعوث من الله تعالى، إلا ما خرج إلى تجويز العقل من باب الإيجاب، فإنه حينئذ يرد ما أختلف فيه إلى ظاهر الكتاب المنزل، وباطن معناه المتأول. وكان يقول: فليس إذن في حكم العقل أن هذا الشخص متى خلق من صلب هذا الشخص، وأرتكض في رحم هذا الشخص، وأنه لاحق به في طريق الخير، أو راجع إليه في باب الشر، بل ليس له إلا ما سعى، ولا يزر وازرة غيره، وهو مأخوذ بما أخذ به سلفه من حكم العقل، وتوقيف الشرع، ومن ظن غير هذا فإنما يتعسف طريقاً مظلماً، ويعتقد أمراً مبهماً.
طال أيدك الله هذا الفضل، وما أدري كيف لصوقه بفؤادك، ولا كيف صحبته لقبولك.
قال محمد بن الحنفية أيضاً: ليس بعاقل من أشتاق إلى غير نفسه.
وقيل لمحمد بن الحنفية: كيف كان علي عليه السلام يقحمك في المآزق، ويولجك في المضايق، دون الحسن والحسين؟ قال: لأنهما كانا عينيه، وكنت يديه، فكان يتقي بيديه عن عينيه. هكذا الدر من البحر.
كان عروة بن الزبير قضى شطر عمره بالمدينة، ثم هاجه رأي في سكنى العقيق، فتجهز إليه واتخذ به قصراً، فقيل له: لم تركت الناس وحديثهم ومناقلتهم قال: لأني رأيت الناس قلوبهم لاهية، ومجالسهم لاغية، والفاحشة فيهم فاشية، فخفت عليهم الداهية، فتنحيت عنهم ناحية، وصرت منهم في عافية.
قال فتح الموصلي: رأيت صوفياً في البادية فقلت له: أين الزاد؟ فقال لي: قدمته في المعاد، قلت: فأبن الراحلة؟ قال: مناخة في الآخرة.
شاعر: المتقارب
سقى الله أيامنا بالنقا ... وأيامنا بذرى الأجفر
وإذ لمتي كجناح الغدا ... ف تضمخ بالمسك والعنبر
وأنت كلؤلؤة المرزبا ... ن بماء شبابك لم يعصر
قال علي رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته.
قيل لرابعة، وكانت ناسكة مفوهة، وشأنها شهير، وأمرها خطير: كيف حبك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: إني لأحبه، ولكني شغلني حب الخالق عن المخلوق.
هذا الكلام عويص التأويل، خرط القتاد دونه، ولقط الرمل أسهل منه، وهي موكولة فيه إلى الله تعالى، وقد رويته كما رأيته.
قال يحيى بن معاذ الرازي: إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه، وإن سخط نفاه وأقصاه.
وقالت أعرابية عند الكعبة: إلهي لك أذل، وعليك أدل.
وقال أبو القاسم الجنيد الصوفي: إذا أحبك سترك وغار عليك، وإذا أحببته شهرك ونادى عليك.
وفخار أهل بغداد بالجنيد عظيم، وهم يقدمونه على أبي يزيد البسطامي، وكان أبو يزيد أيضاً غزير الركية، بعيد القعر، عويص الإشارة، غريب العبارة، وكان مع ذلك بعيداً قريباً، بغيضاً حبيباً، معك إلا أنه غائب عنك، غائب عنك إلا أنه معك. ومن مليح قوله أنه قال لبعض خدمهمن تلامذته وهو يعظه ويرقق الكلام له، وذلك التلميذ في غلوائه وعدوائه، فقال أبو يزيد: يا هذا، والله إذا وافقتني كنت ثقيلاً علي، فكيف إذا خالفتني؟! وقال أبو زيد أيضاً: من لم يكن الله تعالى في جميع المعاني همته، كان منقوصاً من الله في جميع المعاني حظه.
وقال الجنيد: من أحبنا أفلس، ومن أبغضنا توسوس.
وقال أبو يزيد: لا يزال العبد عارفاً ما دام جاهلاً، فإذا زال جهله زالت معرفته.
وقال الزقاق: لولا أن الله تعالى أمرنا بحفظ هذه النفوس لجعلنا على ذروة كل جبل قطعة منها.
وقال الجنيد: لو علمت أن تحت أديم السماء علماً أجل من علمنا لقصدته وسعيت إليه.
ما أحوجنا إلى عالم منطيق يكشف لنا كلام هذه الطائفة، وسأسوق إليك من غرائب ألفاظ الصوفية، وبدائع كلام النساك، ومحاسن كلام أرباب المقالات، وطرائق ما لاح لذوي الآراء والديانات، على غيلا إطالة مملة، ولا إيجاز مخل، ما يكون غرة هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.
وصف أعرابي رجلاً فقال: ذاك رجل سبق معروفه إلي قبل طلبتي إليه، فالعرض وافر، والوجه بمائه، وما أستقل بحمل نعمة منه إلا أثقلني بأخرى، وكان والله مع هذا منهاجاً للأمور المشكلة، إذا ما تناحى ذوو الألباب باللائمة.
وصف آخر قوماً فقال: منهم من يقطع كلامه قبل أن يصل إلى لسانه، ومنهم من لا يبلغ كلامه أذن جليسه، ومنهم من يغشى كلامه الآذان فيحملها إلى الأذهان شراً طويلاً.
وقال يونس النحوي: إني لفي ظل دار ابن عامر، في يوم من أيام ناجر: قد اتقدت فيه الهواجر، إذ أقبلت امرأة لم أر مثلها في شبابها وهيئتها، فما ملكنا أنفسنا حتى رمينا بأبصارنا نحوها، فأنعطفت في زقاق ومضت؛ فإنا لفي حديثهان إذا بفتى في مثل هيئتها قد أقبل مدهوشاً، فقال له بعض القوم: ها هنا حاجتم، وأشار إلى الزقاق، فقال بوجه مسفر، وقلب مجتمع، ولسان عضب: الطويل
إذا سلكت قصد الطريق سلكته ... وإن هي عاجت عجت حيث تعوج
يقال في اللغة: أزففت الإبل إذا حملتها على الزفيف، وهو سير سريع. وأما الرفيف فهو الخفيف من مر الريح وصوت النار. وأما الجفيف فهو الشيء اليابس. وأما الكنيف فهو موضع الغنم وما أشبهه. وأما الغريف فهو المغروف، والمعرفة يقال لها المقدحة أيضاً. وأما الرفيف فهو بريق الشيء. وخم اللحم خموماً إذا أروح بعد الطبخ، والخمامة ما كنس من البيت، والمخمة المكنسة، وهي المقمة أيضاً والمكسحة، وقيل: هو السمن الذي لا يخم، يعنى به الثناء.
ولما ولى يزيد بن المهلب ابنه جرجان قال له: استظرف الكاتب، واستعقل الحاجب. ولا أدري لم خص الكاتب بالظرف والحاجب بالعقل.
قال أكثم بن صيفي: يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي؛ إن بين حيزومي وصدري لبحراً من الكلم لا أجد له مواقع غير أسماعكم، ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوها بأسماع صاغية، وقلوب واعية، تحمدوا عواقبها. إن الهوى يقظان والعقل راقد، والشهوات مطلقة والحزم معقول، والنفس مهملة والروية مقيدة، ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشداً، والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل؛ من سمع سمع به، ومصارع الألباب تحت ظلال الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام، وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ويشغل فكره ويوري غيظه، ولا يجاوز ضره نفسه. يا بني تميم: الصب على جرع الحلم أعذب من جني ثمرة الندم، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم الحسام، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت فهي سبع حرب أو نار تلتهب، ولكل خافية مختف، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في الحرب أنفذ من الطعن والضرب.
قال ابن سيابة: حضرت جنازة بمصر فقال لي بعض القبط: يا كهل، من المتوفي؟ قلت: الله عز وجل، فضربت حتى مت.
لمحمد بن ياقوت: الخفيف
يا بديعاً طغى به الحسن جدا ... وتصدى جماله فتعدى
مشبهاً للغزال والبدر والغص ... ن جميعاً عيناً ووجهاً وقدا
لابساً فوق در فيه عقيقاً ... فارشاً تحت نرجس العين وردا
لو تبدى في ظلمة لاستنارت ... أو تمشى على الصفا لتندى
وأستعار الهوى له لحظات ... كن في عسكر الصبابة جندا
لا تلمني فلست أول حر ... صار للحب والأحبة عبدا
الذي رويته وحكيته عن أكثم رواه أبو بكر ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي.
قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعراً؟ قال: والبة ابن الحباب: قال صدقت، قال: فما منعك من منادمته يا أمير المؤمنين؟ قال: قوله: السريع
قلت لساقينا على خلوة ... أدن كذا رأسك من راسي
وأدن وضع رأسك لي ساعة ... إني امرؤ أنكح جلاسي
أفتريد أن ينكحنا لا أم لك؟!
أتى رجل من الخوارج الحسن البصري فقال له: ما تقول في الخوارج؟ قال: هم أصحاب دنيا، قال: ومن أين قلت، وأحدهم يمشي في الرمح حتى ينكسر فيه ويخرج من أهله وولده؟ قال الحسن: حدثني عن السلطان أيمنعك من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والعمرة؟ قال: لا، قال: فأراه إنما منعك الدنيا فقاتلته عليها.
قال إسحاق: فحدثت بهذا الحديث الغاضري، وكان ظريفاً بالمدينة، فقال: صدق الحسن، ولو أن أحدهم صام حتى يتعقد، وسجد حتى يحز جبينه، واتخذ عسقلان مراغه، ما منعه السلطان، فإذا جاء يطلب ديناراً أو درهماً لقي بالسيوف الحداد والأدرع الشداد.
خطب رجل من قريش إلى الكميت بن زيد، فظل يفتخر عليه ويذكر فضل قريش، وأكثر من ذلك، فقال له الكميت: يا هذا، إن أنكحناك لم نبلغ السماء، وإن رددناك لم نبلغ الماء، وقد رددناك.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فأصبر، فبكليهما أنت مختبر.
ذكر أعرابي آخر فقال: ما أقوم الطريقة، وأكرم الخليقة، وأكف الأذى، وأبعد القذى، وألين الجانب، وأرغب الصاحب، يصبح جارك سالماً، ويمسي غانماً.
قال العتبي: من كلام العرب: طالت خصومتهم بأطراف الرماح.
وقال أعرابي: لا يلفى حلمه إلا حديداً.
وقال أعرابي: غيث كسا الأرض حلل النبات.
وقال أعرابي وذكر قوماً: هرمت بعدهم الدنيا.
وقالت أعرابية: لهم صبر على غصص الهوان.
وقالت أعرابية وسمعت كلاماً أعجبها: هذا كلام يشبع منه الجائع.
وقالت أعرابية: ثوب كأنه نسج بأنوار الربيع.
وقال آخر لصاحبه: كفاك من القطيعة سوء ظنك بي.
وقال أعرابي يمدح: له كف ضمنت يسار المعدمين.
وقال آخر: الناس نهب المصائب.
وقال أعرابي من عذرة: لو أطاعني الهوى أطعت العاذلين.
وقال آخر: العجز شريك الحرمان، واليأس من أعوان الصبر.
قد ظن هذا القاتل أن العجز حارم والقوة منيلة، وهذا الإطلاق تحته تقييد، إذ العجز قد يقترن به الحرمان، ويقترن هو بالحرمان، والقوة تصادف النيل، وقد يصادفها النيل، ولكن ليس النيل مجلوب القوة ولا الحرمان مكسوب العجز؛ كيف وأنت متى حققت العجز وجدته فقدان الفعل وعدمه، وعدم الشيء لا يكون سبباً لوجود شيء آخر، ولا علة له ولا مشيراً، فأما القوة فإنما هي حال معرض بها للنيل، وقد يحرم لا بها ولكن معها، والعجز فإنما هي حال معرض بها للحرمان، وقد ينال لا بها ولكن عندها. وإنما لبس عليهم وهمهم أنهم رأوا النيل قرين القوة والحرمان قرين العجز في الغالب أو في الظاهر، ونسوا ما قدر فيهما من الحرمان مع القوة والنيل مع العجز؛ ومن صفا لبه وأجتمع قلبه، ولحظ المعنى الملقى إليه، علم أن العالم بأسره منساق إلى غاية واحدة في تفصيله وجملته، والإنسان أحد ما ضم إليه العالم، فهو تابع لحكمه الذي هو من شؤونه، لا ينفرد عنه شيء، كيف وكله فائدة العالم، ونسجه وتأليفه، وإنما هو مجموع مفرقه، ومؤلف أجزائه، وهو على هذا ينساق لما غلبه ويسوق لما غلب عليه، وهذه النسبة وإن اختلفت بالعبارة والإضافة، فإنه مطرد فيها ومحمول عليها، تارة بالإكراه الشديد، وتارة بالدواعي العارضة، وتارة بالقصد الذي يترجح بين الأسباب الحاضرة والغائبة، والأختيار الذي هو مستند إلى الضرورة التي هي محيلة للأختيار.
وقد طاب الكلام في هذا الفصل لأنه شيء مجاوز للنفس، وجار مع النفس، ومع ذلك أراني أمد الكلام فيه قليلاً، آخذاً بما يكون زائداً في الشرح وجامعاً للفهم، إن شاء الله تعالى. وأروي لك أبياتاً من قبيل ذلك، فإنها تلم بالمعنى الذي قرعنا بابه، ونوعنا أسبابه؛ قال محمد بن عبد الله النجراني أو البحراني الشك مني - : الهزج
صبرت النفس لا أجز ... ع من حادثة الدهر
رأيت الرزق لا يكس ... ب بالعرف ولا النكر
ولا بالعقل والدين ... ولا بالجاه والقدر
ولا بالسلف الأمث ... ل أهل الفضل والذكر
ولا بالسمر اللدن ... ولا بالخذم البتر
ولا يدرك بالطيش ... ولا بالهزل والهذر
ولكن قسم تجري ... بما ندري ولا ندري
انظر إلى الصدق كيف يلوح لك من خلل هذا الكلام، وإذا صح لك النظر في حاشية من حواشي أسباب العالم وأمور الكون بمثال واضح، أو قياس مستنبط، أو علة ظاهرة، أو سبب قائم، فانته إليه، وأعتكف عليه، ولا تدندن، فإن الرأي يموج بك، والمطلوب يتوارى عنك، فافهم الآن أكرمك الله ما يلقى إليك، ويورد عليك، واجمع لتحصيله بالك، وخذ برفق منه ما لك، فقد بان من مكنون الغيب ما يزول معه كل ريب: أعلم أن الأضطرار موشح بالأختيار، والأختيار مبطن بالأضطرار، وهما جاريان على سننهما، وماضيان في عنهما، لا ينفرد هذا عن هذا، ولا يخلو هذا من هذا، والملحوظ فيهما بالعين البصيرة معنى واحد، وإن كانت العبارة مصروفة على معنيين، إما لعسر المراد في هذا المقصود، وإما لضيق الإعراب عن عين الحقيقة، وإما للأصطلاح الذي يجهل سببه؛ فإن تباعد عن منال فهمك، وغمر عقلك، فأرجع إلى نقصك في تعرف رسم الحق، تجد منه نفس الحق، وليكن ذلك الرسم خط كاتب وخط كاتب: أما ترى أيها المعتبر القياس أن خط هذا الكاتب يماثل خط هذا الكاتب من جهة الأختيار، حين أدى هذا أعيان حروف ذاك، وقوم صور تلك الكلم؟ ثم أعطف عليه ثانياً بإعتبار جديد وأنظر: هل يباين خط هذا الكاتب من جهة حقائق أشكال خط هذا الكاتب، وحقائق خواص هذا الكاتب؟ فإنك تجد المباينة عياناً لا تحتاج إلى ترجمان، كما وجدت المشابهة حساً لم تحتج إلى بيان. أفليس المعنى الذي وقعت الشركة به بينهما إنما هو الأختيار الذي أدى هذا الكاتب به كلام هذا الكاتب في رسم ألف وميم، ولام وجيم، وحاء وكاف، وفاء وقاف، والمعنى الذي وقعت به المباينة بينهما إنما هو الأضطرار، حتى صار هذا الخط منسوباً إلى هذا، وهذا الخط مقصوراً على هذا، يقومان لهما مقام الحلية المميزة، والصورة المقررة؟ فقد برزت لك اللطيفة التي بها يكون الأضطرار موشحاً بالأختيار، ولاح لك السر الذي به يكون الأختيار مبطناً بالأضطرار، في هذا الرسم الحاوي متني الخط في حال وأصل الفعل بحركة واحدة وزمان واحد.
وإن قاصر الأختيار على الإنسان ذاهل عما نطق به الأختيار من الأضطرار، وكذلك مدعي الأضطرار للإنسان ساه عما وشح به الأضطرار من الأختيار، وكمال المعرفة في تفصيل ما أشكل منهما، وتلخيص ما التبس بهما.
وهذا فصل كاف على اختصاره، مع لطفه ودقته، وليس يدق على صارف الهوى عن نفسه دقيق، ولا يضح لأسير الهوى جليل. ولا يصرفنك عن استشفاف ما تضمنه هذا الفصل ما تجد فيه من ألفاظ غير ألفاظ المتكلمين فإنها تجل عن ألفاظهم ولا تسقط، وتعلو عليها ولا تنحط.
وسيمر في عرض الكتاب ما يكون رافداً لهذا الذي مضى وشاهداً، وعوناً له وناصراً، إن شاء الله تعالى.
وقال أعرابي: الأمثال مصابيح الأقوال.
وقال أعرابي: استقلال الكثير يعرض للتقتير.
وقال أعرابي: الحفاظ عمود المؤاخاة.
قال أعرابي: النبيذ قبل الحديث.
وقال المأمون: لا تستعن في حاجتك من هو لمطلوب إليه أنصح منه لك.
لا تطالبني بأن أقول: لا تستعن في حاجتك بمن، فإن الباء تدخل من ها هنا وتخرج والمعنى على صحته، ويدلك عليه قوله تعالى " إياك نعبد وإياك نستعين " الفاتحة: 4، ولا تقل به، وقولك: اللهم إنا نستعينك.
وإنما محصت لك هذا لنقص بان لي من كاتب كبير ذي رزق واسع وجاه عريض، قرأ عليه صاحب لي من رقعة هذه الكلمة بحذف الباء فقال له: من كتب هذا؟ قال: أبو حيان، فقال: يا قوم، ما اغتراركم بما يكتب هذا الرجل ويقول؟! أما كتبه فثقيلة، وأما هذا الكلام فلا يجوز أن يكون له لرشاقته وحسنه، وإن كان له فمن قبل هذا الخطأ الفاحش الذي قد دل على عورته؛ أما يعلم أبو حيان أنه لا يقال اشتغلت كذا إلا بعد أن يقال بكذا، ولا يقال استعنت كذا حتى يقال بكذا؟ فأعاد صاحبي هذا علي، فبقيت مبهوتاً لا أحير حديثاً. ولم يكفه ذلك حتى دخل دواوين الكتاب فحكى ذلك لهم وأراهم أنه قد ظفر، فعل من لم يقع له مثل ما وقع له.
وأعلم أن شين أشتغلت ليست نظير سين أستعنت، لأن الاشتغال افتعال، والشين من سنخ الكلمة، وهي أحد أجزائها، بها تتم وعليها تنتظم، وأما الأستعانة فإن سينها مجتلبة، لأن أصل الكلمة أعان يعين، ثم تجلب بها السين للمعنى المراد، وهو سين استفعل التي هي في قولك استمال من مال، واستقال من الإقامة، وأستمتع من المتعة، وكان الأصل على التمام استعونت، ولكن قصد التخفيف على جاري العادة في كلامهم. فظن هذا البائس أن هذا الوزن إذا جمعهما فالحكم قد جمعهما، والشيء قد يخالف منظره مخبره، وظاهره باطنه، وجليته سره.
لا تنكر - أيدك الله - تدافع الحديث فيما يشتمل عليه هذا الكتاب، فالشرط قد سلف مقروناً بالأعتذار، وبقي أن تجري على عادتك في تحسين ما لم يملك هواك، ولم يظفر بإختيارك. وقد تطلع في هذا الكتاب على من أختياره فيما تبغيه، وهواه فيما تقع فيه. وقد قيل: لكل كلمة قائل، كما قيل: لكل طعام آكل؛ وبعض الكتاب يقول: وما خلق الله شيئاً لا موضع له حتى يسقط ألبتة.
وهذا من رسالة لبعض من أنتجع بها الرئيس أبا الفضل ابن العميد، وبقي على بابه أسير طمع، يزلقه على مداحض الذل، ومتوقع يأس لا يصح له، فينتهي إلى العز. فكتب إليه بعد ملاحم رسالة، أولها: محاسبة النفس على الواجبات كرم، أقتضاؤها قضاء الحق، والتسهيل في اللوازم كإقامة الفرائض، وتوفية العمال أجورهم قوام الدنيا، والتغميض في واجب التعويض من الرأي المريض، وحرمان المجتهد من الرئيس ككفران النعمة من المؤوس وفي فصل منها يقول لأبي الفضل: وليعلم المرء وإن عز سلطانه، وعلا مكانه، وكثرت حاشيته وغاشيته، وملك الأعنة، وقاد الأزمة، أنه ينعم له في الحمد على الحسن والذم على القبيح، وأن المخوف يغتاب من ورائه كما يقرع المأمون في وجهه، فأعلاهما حالاً أكثرهما عند التقصير وبالاً، وهذا باب يعرفه من أساس الناس.
وله فصل منها: ولو أستطعت أن أمسك نوابض عروقي عن النبض، وخياشيمي عن روح النفس، وشفتي ولهاتي عن الهمس، كل ذلك لجدوى أحظى بها من حظ أو جاه، لفعلت.
وهذا نمط حسن الوشي، دقيق المرام، حلو المقتضب، ولعلي أكتب لك الرسالة على ما هي إن شاء الله تعالى.
أنشد المأموني: السريع
داء قديم في بني آدم ... صبوة إنسان بإنسان
قال أعرابي لصاحبه: لا تقل ما لا تعلم، فتتهم فيما تعلم.
قال المعتمد لبعض الندماء: إذا عدم أهل التفضل، هلك أهل التجمل.
وقال أعرابي: قليل النار يكوي، وكثيرها يتوي ومعنى يتوي يهلك.
وقال فيلسوف: لا يزكو طبع بلا أدب، ولا يكون علم بلا طلب.
وقال أعرابي: قلما ينصف اللسان، في وصف إساءة أو إحسان.
وقال أعرابي: من منع أخاه مساعدة، أعتاض منها معاندة.
قال فيلسوف: حوائج الدنيا تنهك القوى.
وقيل لسهل بن هارون: خادم القوم سيدهم، فقال: هذا من أخبار الكسالى.
قيل لقاضي الفتيان: نيك الرجال زينة، قال: هذا من أراجيف الزناة.
وقيل لابن ماسويه: الباقلاء بقشرة أصح في الجوف، قال: هذا من طب الجياع.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الخيل تجري بأحسابها، فإذا كان يوم الرهان جرت بجدود أربابها.
أنشد ماجن: الكامل
لا يغضبن منادمي إن نكته ... إني لنيك منادمي معتاد
وكذا النديم إذا أراد ينيكني ... ولقد علمت كما أكيد أكاد
اشترت مدينة من رجل ثوباً في شعبان على أن تسوق إليه الثمن في رمضان، فقال الرجل: أخاف أن تمطليني، قالت: لا أمطلك والذي خاتمه على فمي، قال: وما الخاتم؟ قالت: علي بقية من رمضان الماضي، قال: أذهبي، قد ماطلت ربك سنة فكيف أثق بك؟ سمعت شيخاً نبيلاً يقول في مجلس خلوة وأنس: اجتمع بغاء ولوطي، فشمرخ البغاء أير اللوطي فرأى مثل ذراع البكر، فقال: يا هذا، انبسط بنيكي، بخت أي بخت؟! قال: وما معنى بخت أي بخت؟ قال: إما أن تشقني وإما أن يندق أيرك.
قال حمل بن بدر بن جؤية بن لوذان: الطويل
قتلنا بعوف مالكاً وهو ثأرنا ... فإن تطلبوا شيئاً سوى الحق تندموا
خذوا الحق منا قد أخذناه منكم ... وهل بعد عقل كامل متكلم
وإن تقطعوا ما بيننا من قرابة ... وبينكم عند التشاجر فأعلموا
بأن سوف يحدوكم لذبيان جحفل ... إلى جحفل منه الوشيح المقوم
وإنكم لا تلبثون ببلدة ... من الأرض إلا والقلوب ترجم
بني عمنا لا تجزعوا إن حربنا ... يغص بها ذو النخوة المتقدم
؟قال أعرابي: الكتب لا تستنفر، والحديد لا يستعصر، والصخور لا تستمطر.
؟قال حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، جاهلي: البسيط
ولوا عيينة من بعدي أموركم ... وأستوسقوا أنه بعدي لكم حامي
إما هلكت فإني قد بنيت لكم ... عز الحياة بما قدمت قدامي
ولى حذيفة إذ ولى وغادرني ... يوم الهباة يتيماً بين أيتام
لا أرفع الطرف من ذل ومحقرة ... ألقى العدو بوجه خده دامي
حتى أخذت لوا قومي فقمت به ... ثم أنثنيت إلى الجفني بالشام
والدهر آخره شبه بأوله ... ناس كناس وأيام كأيام
؟قالت أسماء بنت عميس لما تفاخر بنوها من جعفر وأبي بكر وعلي، وقال علي لها: أقضي بينهم، قالت: ما رأيت شاباً أطهر من جعفر، ولا شيخاً أفضل من أبي بكر، وإن ثلاثة أنت أحسنهم لفضلاء. هكذا حكاه الهيثم بن عدي؛ وفي اللفظ تحريش وإن كان على مذهب العرب.
؟؟ولما قدم عبيد الله بن علي يدعو الناس قال الأحنف: جنبونا حسناً وأبا حسن، فإنا لم نجد عندهما علماً بالحرب ولا إيالة للمال.
وقيل لأبي برزة الأسلمي: لم اخترت صاحب الشام على صاحب العراق؟ قال: وجدته أطوى لسره، وأملك لعنان جيشه، وأفطن لما في نفس عدوه.
هذا رأي معكوس لأن صاحب العراق لم يؤت عن عجز في جميع ما نعت به صاحب الشام، ولكن كان شعاره الدين ودثاره الدنيا، وإلى الله عز وجل أمره، ولعله يرحمه فما أحوجه إلى الرحمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو الدرداء: لتدخلن الجنة كلكم أجمعون إلا من شرد على الله عز وجل شراد البعير.
رأى أبو الدرداء منزل رجل قد شاده فقال: ما أحكم ما تبنون، وما أطول ما تأملون، وأقرب ما تموتون.
قال فيلسوف: القوب أوعية السرائر، والشفاه أقفالها، والألسنة مفاتيحها، فليحفظ كل منكم مفتاح وعاء سره.
قال فيلسوف: أعلم الناس بالدهر أقلهم تعجباً من أحداثه.
يقال: من أثر الخير سار به ذكره، وتوفر عليه أجره.
شاعر: المنسرح
لاح له بارق فأرقه ... فبات يرعى النجوم مكتئبا
يطيعه الطرف عند دمعته ... حتى إذا حاول الرقاد أبى
قال أعرابي: خير المعروف ما لم يتقدمه مطل ولم يتبعه من.
قال ابن السماك: لولا ثلاث لم يسل سيف، ولم يقع حيف: سلك أدق من سلك، ووجه أصبح من وجه، ولقمه أسوغ من لقمة.
قال فيلسوف: الموت ساحل الحياة.
قال الحسن بن سهل في رجل: افتديت مكاشفته، واشتريت مكاشرته، بألف ألف درهم.
قال سهل بن عبد الله: الإرادة باب القدرة، والمشيئة باب العلم، ثم قال: ألا تراه يقول " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، ثم قال: ألا ترى إلى قوله " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40.
قال أعرابي: الرجز
ليس من الحنظل يجنى العسل ... ولا من البحر يصاد الورل
قال معاوية: مهما كان في الملك فإنه لا ينبغي أن يكون فيه أربع خصال: الكذب، فإنه إن وعد خيراً لم يرج، وإن أوعد شراً لم يخف؛ والبخل، فإنه إذا بخل لم ينصحه أحد، ولا تصلح الولاية إلا بالمناصحة؛ والحسد، فإنه إذا حسد لم يشرف أحد في دولته، ولا يصلح الناس إلا على أشرافهم؛ والجبن: فإنه إذا جبن اجترأ عليه عدوه، وضاعت ثغوره.
وكان معاوية جيد الكلام، عجيب الجواب، عظيم الحلم، صبوراً على الخصم، معتاداً للكظم، ماضي الجنان، مفلق البيان، عارفاً بالدنيا، متأتياً لها، مالكاً لزمامها، جاذياً لخطامها، راكباً لسنامها؛ وكان عمرو بن العاص باقعة؛ وكان زياد أنكر القوم؛ وكان المغيرة لا يشق غباره، ولا تصطلى ناره؛ وليس علي كرم الله وجهه يجري في مضمارهم: علي بحر علم، ووعاء دين، وقرين هدى، ومسعر حرب، ومدره خطب، وفارج كرب، مضاف السبب إلى النسب، معطوف النسب على الأدب، ولكن شيعته شديدة الخلاف عليه، قليلة الانتهاء إلى أمره، وكلهم الله إلى أمرهم، وإلى الله إيابهم، وعليه جزاؤهم وحسابهم.
كتب أبو الحسن الفلكي - وكان بليغاً، وكان بصرياً ومات بأذربيجان، هكذا حدثني شيوخ المراغة - إلى أخ من إخوانه: لو لم يكن الأنس - أعزك الله - بيننا نسباً يوجب التشارك في الأرواح دون سائر الأموال، وما يضن به من سائر الأملاك، لكان يجب أن لا أنشد مشروباً من الراح سواك، إذ كنت أخاها في نجارها، وكانت أخلاقها أخلاقك، وأعراقها أعراقك، التي حليتها بالآداب، وفضلتها بكرم الأنساب، فكيف وأحوالنا فيما نملكه متكافية، وأمورنا فيه متساوية؟ ونحن - أعزك الله - روح اقتسمه جسمان، ونفس مثل بها شخصان، وأنت بموضع الأنس والثقة إذا انقبض سائل من مسؤول، فأحب أن تأمر لي بملء الظرف الذي مع الغلام، وتتوصل بالإشراف عليه بوجهك، ليزيد في رونقه رونقك، وصفاته صفاؤك، ويباشر نسيمه منك نسيماً فيحمله إلينا، وطيباً يمثل به لدينا، أبو فلان، فيجمع شمل السرور، وهو شراب ثان نلتذ منه قربه، إذا التذ من ذلك شربه، وهو والله يصفو صفاء الراح ويروق، وأنا وحياتك إليه صب مشوق، فإن آثرتنا به زدت في إحسانك، وكان من شكرنا عن امتنانك، وإن شاححتنا عليه سامحناك، إيثاراً لهواك، والتماساً لرضاك، والسلام.
قال أعرابي: مدة الأبد في اليوم أو غد.
قال أعرابي: ما أساء من تاب، ولا جهل من أناب.
قال آخر: الجهل هوة، والعلم قوة.
وأنشد لابن عرفة: الكامل
يا أحمد بن محمد يا أحمد ... نفسي فداؤك أين ذاك الموعد
حسبي بقلبي شاهداً لي في الهوى ... والقلب أعدل شاهد يستشهد
إن كنت أوحد في الجمال فإنني ... في صدق ودي والوفاء لأوحد
وإذا القلوب تفرقت أهواؤها ... فهواك مجموع لدي مجدد
سأل أعرابي رجلاً حاجة فمنعه، فقال: الحمد لله الذي أفقرني من معروقك، ولم يغنك عن شكري.
قال أعرابي: نبو النظر عنوان الشر.
كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: إذا قرأت كتابي هذا فاطلب لي رجلاً يحب أن يعدل في النصيحة، وينصف في المودة، سيماه سيما الشيوخ، وقلبه قلب الفتيان، وعقله عقل الكهول، لا يغابن من يواصل، ولا يرائم من يخالل، أحب الأشياء إليه الأثرة، وأحسن الأشياء عنده حسن المؤازرة، معروف في القلوب بالصدق، مقدم في النفوس بالأمانة. فكتب إليه الحجاج: يا أمير المؤمنين، هذه شهوة خفية لا توجد أبداً، فاسل عنها، والسلام.
سمعت شيخاً من النحويين يقول: المعاني هي الهاجسة في النفوس، المتصلة بالخواطر، والألفاظ ترجمة للمعاني، وكل ما صح معناه صح اللفظ به، وما بطل معناه بطل اللفظ به؛ فالأسم ما وقع على معنى غير مقرون بزمان محصل، ويعرف أيضاً بدخول الجر عليه، ويصلح فيه ضربي ونفعني، ويدخل عليه أيضاً الألف واللام على واحده وتثنيته؛ والفعل يعم ما تصرف بالزمن، كقولك ضرب للماضي، ويضرب للحال وللمستقبل من الزمان؛ والحرف ما كان جامداً لا يدل على معنى، نحو هل وبل وقد. وكأنه يريد أن معاني الحروف تتضح بقرائنها، فكأنه لا تأثير لها بتجريدها حتى يصحبها غيرها.
وسمعت أبا سعيد السيرافي يقول: والإعراب حركة تحل بآخر حرف من الأسم كالدال من زيد؛ وكان غيره يقول: الأسماء أصول والأفعال فروع عنها.
وسمعته يقول: المذكر أصل والمؤنث فرع، والمذكر أخف والمؤنث أثقل، والنكرة أخف من المعرفة، لأن النكرة حال الاسم في الأول؛ والوصف أثقل من الموصوف، لأن الموصوف أصل والوصف أصل والوصف تابع له لأنه تشبيه بالفعل في وقوعه موقعه، كقولك: هذا رجل يضرب زيداً، فتصفه به، كما تقول: هذا رجل ضارب زيداً.
وسمعت غيره يقول: الأفعال ثلاثة: ماض، وهو مبني على الفتح؛ ومستقبل، وهو محتمل للزوائد التي هي الياء والتاء والنون والألف؛ والدائم؛ وهو الحال.
وسمعت أبا حفص الأشعري يقول: لا معنى للحال، إنما هو الماضي والمستقبل، وتحصيل الحال محال، وتوهمها باطل، لأنك لا تفرغ من الماضي إلى المستقبل، ومتى فرضت واسطة بينهما كنت فيها واهماً. فقيل له: إن الذي يوضح الحال إذا أتيت بالسين في قولك: سيصلي، لم يكن المعنى إلا في الاستقبال، فلولا أن هذا الغرض قد كان كامناً في قولنا يصلي لم توضحه السين، وكأن الشبهة أن يصلي دالة على الحال متضمنة معنى الاستقبال حتى يقترن باللفظ ما يصبه على الغرض الواضح. وكان يكابر عند هذا البيان ويقول: لو صح هذا لصح قول الفلاسفة في الفصل بين الشيئين إن ما يكون مشتركاً بين شيئي كأنه مركب من بدنيهما. فقيل له: وهذا أيضاً كما قاله من خالفته، وأنت في ذلك أجهل من هرة فإنها تمشي على حافة الجدار غير متمكنة على سمته وتريغ مع ذلك مكاناً آخر للقصد الذي يتلوح لها، لا تمسك نفسها وترسلها، فما ظنك يا أبا المبارك بشبهة تكشفها عنك هرة؟! ويقال في المثل: الدخان وإن لم يحرق البيت سوده.
شاعر: الوافر
أسر بمر يوم بعد يوم ... وبالجولين والعام الجديد
وأفرح بالمحاق وبالدآدي ... يسقن البيض في أكناف سود
وفي تكرارهن نفاذ عمري ... ولكن كي يشيب أبو يزيد
غلام من سراة بني لؤي ... منافي العمومة والجدود
خليق عن تكامل خمس عشر ... بإنجاز المواعد والوعيد
في هذا البيت معنى لطيف ربما غفل عنه، وذلك أن الذين أبوا الوعيد وحققوا الإنجاز، زعموا أن الأعراب لا تتمادح بتحقيق الوعيد وإنما تتمادح بإنجاز الموعود، لأن في تحقيق الوعيد ضرباً من اللؤم وفي إنجاز الوعد كل الكرم؛ فعلى هذا، إذا قال الله تعالى في الوعيد ما قال فأمره إليه، إن شاء حقق وإن شاء صفح، ورووا بيتاً أنشده أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد في منازعة هذا المعنى وهو: الطويل
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
ونفسهم في نصرة هذا الرأي قصير؛ ولعل دليلهم من غير هذا الوجه أوكد، وعذرهم بغير هذا الكلام أمهد. هذا أبو وجزة السعدي يقول مادحاً بلسانه، جارياً على فطرته: الكامل
صدق إذا وعد الرجال وأوعدوا ... فأحث بادرة وأوفى موعد
أنشدني هذا البيت أبو سعيد السيرافي وقلت له: إن أبا وجزة إسلامي، قال: فما تصنع بقول بعض الأسديين، وهو جاهلي: الطويل
رويدك يا ابن المستهل ولا تته ... بجهل فحد الجهل بين الغوائل
أنا الصاب إن شورست يوماً وإنني ... جنى النحل إن سومحت إلا لآكل
بسيط يد بالعرف والنكر إن أقل ... بوعد وإيعاد أقل قول عامل
صؤول على الصعب المنوع وممسك ... عرامي عن الواهي القوى المتضائل
وما أخلت الأيام كفي من يد ... إلى الناس في إشرافها والأصائل
إذا سنة حالت بأزم تلقحت ... بمعروفنا حتى ترى غير حائل
وقرأتها عليه في جملة أبيات من كتاب الشدة.
وأعلم بعد هذا أن الكلام من الحكيم وإن اختلفت صفاته بأن يكون مرة خبراً ومرة استخباراً، ومرة وعيداً ومرة وعجاً، ومرة نهياً ومرة أمراً، ومرة إباحة ومرة حظراً، ثم لا يكون الحظر إباحة، ولا الأمر بالشيء نهياً عنه، ولا الخبر بالشيء استخباراً عنه، وهو مع هذا التفاوت الواقع فيه لا يخلو من أن يكون حقاً وصدقاً، كما لا يخلو أن يكون مفهوماً معلوماً، لأنا قد جعلناه الحكم. فإذا كان هذا البحث صحيحاً، وهذا الكلام ظاهراً، فقد وضح أن كلام الله عز وجل يتضمن الحق، ويتغشى الصدق، وأن ذلك من خواص نعته، وأوائل موجبه، وإن اختلفت أقسامه، فما لا يكون قادحاً في صدقه، ولا مبطلاً لحقيقة حقه. ومتى ثبت هذا، وهو ثابت، ذهب ظن من ظن ما ظن في مدارج السيول ومهاب الرياح، وكان ربك نصيراً للحق بصيراً بالخلق.
سمعت في مجلس أبي سعيد شيخاً من أهل الأدب يقول: ومن الأفعال ما له وجهان، كشيء ينصرف على معنيين، مثل: أصاب عبد الله مالاً، وأصاب عبد الله مال، إذا أصابه مال من قسمة، ووافق زيد حديثنا إذا صادفهم يتحدثون، ووافق زيداً حديثنا إذا سره وأعجبه، وأحرز زيد سيفه إذا صانه في غمده، وأحرز زيداً سيفه إذا خلصه من القتل وشبهه؛ ولو قلت أحرز امرؤ أجله لم يجز، لأن الرجل لا يحرز أجله ولكن أجله يحرزه، إلا أن تذهب إلى قولك: أحرزت أجلي بالعمل الصالح.
انظر - فديتك - إلى أثر النحو في هذا القدر اليسير، وتعجب عنده من أبي حنيفة الصوفي حين قال لك: إن الله عز وجل أمرنا بالطاعة والإيمان وإن لم يأمرنا بالنحو، وإلا فهات أنه يدل على أنه أمرنا بأن نتعلم ضرب عبد الله زيداً. وقد رأيت روغانه عن تحصيل الحجة في معرفة ذلك: ألا يعلم أن الكلام كالجسم والنحو كالحيلة، وأن التمييز بين الجسم والجسم إنما يقع بالحلى القائمة والأعراض الحالة فيه، وأن حاجته إلى حركة الكلمة بأخذه وجوه الإعراب حتى يتميز الخطأ من الصواب كحاجته إلى نفس الخطاب. وليس على كلامه قياس، ولا في ركاكة بني جنسه التباس، وإنما غره من هو أنقص منه فطرة، وأخس نظراً وفكرة. أتراه يصل إلى تخليص اللفظ المبني على معنى دون اللفظ المبني على معنى آخر، إلا بحفظ الأسماء وتصريفها؟ أتراه يقف على تحصيل المعنى المدفون في هذا اللفظ دون المعنى المدفون في هذا اللفظ إلا بتمييز وجوه حركات اللفظ؟ فبان لك أن الحالف بالتورية في يمينه: والله ما رأيته، وهو يريد ما ضربت رئته، ووالله ما قلبته، وهو يريد ما ضربت قلبه، ليدفععن نفسه ضيماً نزل به بما يفهم من الرؤية والقلب الذي هو العكس، إنما يبرأ من الحنث ويتخلص من الضيم لقيامه بحفظ اللغة، كذلك من يعرف الفرق الواقع بين الإعراب الذي هو حركة آخر الكلمة في قوله: أنت طالق إن دخلت الدار، وأنت طالق أن دخلت الدار، وفي قوله: " فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " يس: 76 وأنا نعلم فرق، متى لم يقف عليه زل إلى الكفر، وكذلك في قوله " أن الله بريء من المشركين ورسوله " التوبة: 3، فرق يتوسط بين الصواب والخطأ، صوابه إيمان وخطأه كفر. وبسبب هذا الحرف وضع النحر، لأن علياً ابن أبي طالب رضي الله عنه سمع قارئاً يقراً على غير وجه الصواب، فساءه ذلك، فتقدم إلى أبي الأسود الدؤلي حتى وضع للناس أصلاً ومثالاً وباباً وقياساً، بعد أن فتق له حاشيته، ومهد له مهاده، وضرب له قواعده؛ وإنما فشا اللحن للسبايا التي كثرت في الإسلام من الأعاجم وأولادهن، فإنهم نزعوا في اللكنة إلى الأخوال، وأما قوله: قد نقض على النحويين ابن الراوندي نحوهم، فإنه ذاهب بهذا القول عن وجه الرشد، لأن ابن الراوندي لا يلحن ولا يخطىء، لأنه متكلم بارع وجهبذ ناقد وبحاث جدل ونظار صبور، ولكنه استطال باقتداره على علل النحويين، ورآها مفروضة بالتقريب، وموضوعة على التمثيل، لأنها تابعة للغة جيل من الأجيال، ومقترنة بلسان أمة من الأمم، فلم يكن للعقل فيها مجال، إلا بمقدار الطاقة في إيضاح الأمثال وتصحيح الأقوال.
طال هذا الفصل أيضاً، وإذا كنت منقاداً للحديث كلفاً بفنونه، فأنا رهن في يديه في كل ما عثرت عليه، وأنت أولى من أخذ فائدته شاكراً، وترك ما عداها عاذراً.
يقال في مثل هذا الفن الذي كنا فيه: وقف رجل حسن الشارة حلو الإشارة على المبرد، فسأله عن مسألة وأطال ولحن وتسكع في الخطأ، فقال المبرد: يا هذا، ما أنصفتنا من نفسك: إما أن تلبس على قدر كلامك، وإما أن تتكلم على قدر لباسك! فعجب الناس من بديهته في هذه الحكمة الجامعة للزجر، الباعثة على القبول، المثيرة للائمة.
قيل ليزيد بن المهلب: إنك لتلقي نفسك في المهالك، قال: إني إن لم آت الموت مسترسلاً، أتاني مستعجلاً؛ إني لست أتي الموت من حبه، إنما آتيه من بغضه، ثم تمثل: الطويل
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
شاعر: الوافر
فما منك الصديق ولست منه ... إذا لم يعنه شيء عناكا
دخل مزبد بيته يوماً وبين رجلي امرأته رجل ينيكها، وباب الدار مفتوح وقد علا نفسها، فقال: سبحان الله، أنت على هذه الحال وباب الدار مفتوح؟ لو كان غيري أليس كانت الفضيحة؟!
مر رجل بأبي الحارث جمين فسلم عليه بسوطه، فلم يرد عليه، فقيل له في ذلك فقال: إنه سلم علي إيماء فرددت عليه بالضمير.
لمحمد بن طاهر: الطويل
عيون إذا عاينتها فكأنما ... دموع الندى من فوق أجفانها در
محاجرها بيض وأحداقها صفر ... وأجسامها خضر وأنفاسها عطر
بروضة بستان كأن نباته ... تفتح وشي حين باكره القطر
أتي نوفل بن مساحق بابن أخيه وقد أحبل جارية من جيرانه فقال: يا عدو الله، لما ابتليت بالفاحشة هلا عزلت؟ فقال: يا عم، بلغني أن العزل مكروه، فقال: أفما بلغك أن الزنا حرام؟! لبعض الطالبيين: الطويل
لقد فاخرتنا من قريش جماعة ... بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا الفخار قضى لنا ... عليهم بما نهوى نداء الصوامع
ترانا سكوتاً والشهيد بفضلنا ... عليهم جهير الصوت من كل جامع
بأن رسول الله لا شك جدنا ... ونحن بنوه كالنجوم الطوالع
كتب جوهر غلام المعز الفاطمي بمصر موقعاً في قصة رفعها إليه أهلها: سوء الاجترام أوقع بكم حلول الانتقام، وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاجتناب، لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعديتم، فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة تقتضي إلا الذم لكم، والإعراض عنكم، ليرى أمير المؤمنين رأيه فيكم.
سمعت من بعض النحويين يقول: الرفع في الكلام على سبعة أوجه بأربعة ألفاظ: بالواو والضمة والألف والنون؛ فالأوجه: الفاعل، وما شبه به، والمبتدأ والمبني عليه، والوصف، وما يرفعه الظرف، وأسم كان وأدواتها، وخبر إن. فالفاعل قولك: ذهب زيد؛ وما شبه به: ضرب زيد لأنه يقام مقام الفاعل؛ المبتدأ: زيد قائم، فقام مبني على زيد؛ وما يرفعه الظرف نحو: عندك أخوك، فعندك في معنى الفعل كأنه استقر عندك زيد؛ واسم كان مثل: كان زيد قائماً؛ وخبر إن وأخواتها مثل: إن زيداً قائم. وموضع آخر رفع على غير الوجه المعتاد، وإنما هو بإسكان الواو والياء نحو يغزو ويرمي.
كتب علي بن الجهم إلى جارية كان يهواها: الطويل
خفي الله فيمن قد بتلت فؤاده ... وتيمته حتى كأن به سحرا
دعي البخل لا أسمع به منك إنما ... سألتك شيئاً ليس يعري لكم ظهرا
فكتبت إليه على ظهر الرقعة: إنه إن لم يعر لنا ظهراً فإنه يملأ لنا بطناً. الرجال؛ وأما التبل - بتقديم التاء - فإنه العداوة؛ وأما النبل فالسهام؛ وأما العبل فالضخم؛ وأما الكبل فالقيد؛ وأما الهبل فمصدر هبلته أمه؛ وأما الطبل فالخلق، يقال: ما أدري أي الطبل هو؛ وأما السبل فمصدر سبلت الشيء فأنسبل؛ وأما السدل فكذلك، ويقال منه انسدل؛ وأما الأبل فمصدر الأسم الذي هو الإبل، وهو من أبل إذا كان حسن القيام على الإبل؛ وأما الوبل فأشد الجود من المطر وهو المنتهى، كما أن الطرف الآخر هو الطل؛ وأما الزبل فمصدر زبل يزبل، ومنه الزبال، وكأن الزبيل منقول فيه ذلك، والزبل هو ما أخذه الزبال، وفي كلام العرب: ما رزأته زبالة أي ما نقصته ما تحمله النملة.
وسألت رجلاً كان يتعاطى هذا النمط قلت: ما الفرق بين الرزان والرازن؟ فتلعثم. وأراد شيخ من سراة أذربيجان أن يخجلني فخجل، وذلك أنه قال لي: ما تقول في رجل زنا؟ فقلت: الحال معتبرة، فإن كان بكراً فالجلد، وإن كان ثيباً فالرجم، والتغريب على ما يرى الإمام، ففيه الخلاف؛ فقال لي: أخطأت، إني ما أردت إلا غير هذا المعنى، قلت: كأنك أردت رجلاً زنا بامرأة، قال: أردت صعد الجبل، قلت: فأعلم أيها المخطىء أنك مخطىء، قال: كيف؟ قلت: لأن ذاك بالهمز لا غير، ومتى حذفت الهمز فسد المعنى، فالتقم حصاة سكوتاً.
دخل الجماز على صاحب قيان وعنده عشيقته، فقال له الرجل: أتأكل شيئاً؟ قال: قد أكلت، فسقاه نبيذ عسل، فلما كظه جعل يأكل الورد كأنه ينتقل به، ففطنت الجارية فقالت لمولاها: يا مولاي أطعم هذا الرجل شيئاً وإلا خرج خراه جلنجبين معسل.
قال مسعر، حدثني علي بن الحسين العلوي قال: كان بهمذان رجل يعرف بأبي محمد القمي، وكان متصرفاً بها، وكان شديد الحماقة في بغضه معاوية؛ فورد البلد غلام بغدادي، وكان يكتب الحديث، وبلغ القمي خبره، وأنه صبيح الوجه موصوف بالملاحة، فوجه غلاماً له إليه بدينارين، ودعاه إلى منزله، فمضى الغلام وأحتفل القمي في المائدة والزينة والكرامة، حتى إذا كان وقت النوم قام الغلام وطرح جنبه ناحية، فنهض وراءه القمي وراوده وداوره، فلما أجاب كرهاً أقحم عليه أيره، فتأوه الغلام وصرخ وقال: أخرج أمك بظراء، فقال القمي: دعني من هذا وانزل على أحد ثلاثة أمور: إما أن تلعن معاوية، وإما أن ترد الدينارين، وإما أن تستدخل أيري كله، فقال الغلام: أما لعن معاوية فلا سبيل إليه، وأما الديناران فقد أنفقت أحدهما ولا ترضى أرتجاعه إلا مع الآخر، وأما الصبر على مرادك فأنا أستعين بالله عليه؛ فغمز عليه بالحمية، وجعل الغلام يتلوى ويقول: هذا في رضاك يا أبا عبد الرحمن قليل.
لما انصرف عبد الله بن جعفر من الحج، وقفت عليه امرأة من غطفان معها دجاجة مشوية فقالت: بأبي وأمي إن دجاجتي هذه كانت مؤنستي في الخلاء، ومزينتي في الملاء، ومعينتي على الدهر، وإني شكرت لها ذلك، فحلفت ألا أدفنها إلا في أكرم بقعة، وما وجدت ذلك إلا بطنك؛ فضحك عبد الله وأمر بأخذها وقال لها: ائتني المدينة، فأتته، فأمر لها بعشرة آلاف درهم وعشرة أحمال دقيقاً وسويقاً وزيتاً، فلما رأت ذلك قالت: لا تسرف إن الله لا يحب المسرفين.
اعتل ذو الرياستين الفضل بن سهل بخراسان مدة طويلة، ثم أبل وأستقل، فجلس للناس ودخلوا عليه يهنئونه بالعافية، فأنصت لهم حتى تقضى كلامهم، ثم أندفع فقال: إن في العلل لنعماً لا ينبغي لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها، منها تمحيص الذنب، والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، وأستدعاء التوبة، والحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد الخيار؛ فأنصرف الناس بكلامه ونسوا ما قال غيره. وكان الفضل فضلاً كما هو، وكان مع ذلك يرتضخ ركاكة وضعفاً، وسأبين ذلك من بعد.
شاعر: الطويل
وما نلت منها محرماً غير أنني ... أقبل بساماً من الثغر صافيا
وألثم فاها تارة بعد تارة ... وأترك حاجات النفوس كما هيا
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا كتب إلى أهل الكوفة يكتب لهم: رأس العرب ورمح الله الأطول.
قال عمرو بن دينار: توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد أبيها عليه الصلاة والسلام وهي ابنة أربع وعشرين سنة.
أكل أعرابي من بني عذرة مع معاوية، فجرف ما بين يدي معاوية ثم مد يده ها هنا وها هنا، ثم رأى بين يدي معاوية ثريدة كثيرة السمن فجرها؛ فقال معاوية: " أخرقتها لتغرق أهلها " الكهف: 71، فقال الأعرابي: لا ولكن " سقناه لبلد ميت " الأعراف: 57.
قال الحسن البصري رحمه الله: من وسع الله عليه في ذات يده فلم يخف أن يكون ذلك مكراً من الله عز وجل فقد أمن مخوفاً، ومن ضيق الله عليه في ذات يده فلم يرج أن يكون ذلك نظراً من الله تعالى له فقد ضيع مأمولاً.
لو كان كلام الناس حجراً لكان كلام هذا الرجل ذهباً وفضة؛ لله دره فقد أوتي عقلاً وفقهاً وزهداً وبياناً. وكان شيخ لنا يحدث أن ثابت بن قرة الحراني الصابىء الفيلسوف كان يقول: فضلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم العربي على جميع الأمم الخالية بثلاثة لا يوجد فيمن مضى مثلهم:
بعمر بن الخطاب في سياسته، فإنه قلم أظفار العجم، ولطف في إيالة العرب، وتأتى لتدبير الحروب، وأشبع بطون العرب، وألبس الدين جلباباً، وفتح له أبواباً، وهيأ له شرائط وأسباباً، ثم لم يرزأ من جميع الغنائم والفتوح شيئاً، وصحب عمره بالقناعة التي لا تجيب إليها نفس، مع القدرة والتمكين والسلطان والسطوة والهيبة والطاعة والإجابة، ومزج الدنيا بالدين، وأعان الدين بالدنيا، ودارى في موضع المداراة، ومارى في موضع المماراة، وأظهر الضعف مع قرة، وأظهر القوة مع رأفة، وأظهر الرأفة مع التقصي، فدانت له القلوب، وذلت له الرقاب، وتناجت القلوب بمحبته، وتناصرت الألسنة بالثناء عليه، نومه لليقظة، وراحته للدأب، وقسوته للرحمة، ومنعه للعطاء، وصمته للعبرة، وقوله للفائدة، ومشيه للإغاثة، ينفض الليل بنفسه، ويعترف في كل أمر بتقصيره، ولا يرضى ببذل مجهوده، نقاب يحدث بالغائب، إن آرتأى لم يقل، وإن قال لم يخل، وإن تواضع لم يذل، أحواله تتناسب، وأموره تتشابه، ليله كنهاره، وسره كإجهاره، وإبطانه كإظهاره، وعلانيته كإسراره، لا يقفوه قاف وإن تقصى السداد، ولا يلحقه لاحق وإن ركض الجواد؛ والحسن البصري، فإنك إذا نظرت إلى كلامه ومواعظه وزهده وحكمته، عرفت علو درجته، وسلطان دينه، وقوة عقدته، وانفتال مريرته، ونقاء طويته، مع العفة في الدين، والصبر المتين، والأحتساب العظيم؛ وأبي عثمان الجاحظ، فإنك لا تجد مثله، وإن رأيت ما رأيت رجلاً أسبق في ميدان البيان منه، ولا أبعد شوطاً، ولا أمد نفساً، ولا أقوى منة، إذا جاء بيانه خجل وجه البليغ المشهور، وكل لسان المستحنفر الصبور، وانتفح سحر العارم الجسور؛ ومتى رأيت ديباجة كلامه رأيت حوكاً كثير الوشي، قليل الصنعة، بعيد التكلف، حلو الحلى، مليح العطل، له سلاسة كسلاسة الماء، ورقة كرقة الهواء، وحلاوة كحلاوة الناظل، وعزة كعزة كليب وائل. فسبحان من سحر له البيان وعلمه، وسلم في يده قصب الرهان وقدمه، مع الأتساع العجيب، والأستعارة الصائبة، والكتابة الثابتة، والتصريح المغني، والتعريض المنبي، والمعنى الجيد، واللفظ المفخم، والطلاوة الظاهرة، والحلاوة الحاضرة، إن جد لم يسبق، وإن هزل لم يلحق، وإن قال لم يعارض، وإن سكت لم يعرض له.
هذا رأي ثابت بن قرة وأعجابه، أتينا به على ما عن لنا، فإن وقع موافقاً لرأيك، مطابقاً لأختيارك، فأعتد به، وإن نفيته بحكمك، وزيفته بنظرك، فدعه لغيرك: الطويل فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم كان بهلول المجنون يقول: الهزج
كم تمرض وكم تبرا ... وكم تأكل وكم تخرا
وكم تستقبل اليوم ... وكم تستدبر الشهرا
وكم تنقل من يفنى ... بمن يفنى إلى الصحرا
وقال محمد بن يزيد الأموي: الخفيف
فطمتك الأيام قبل الفطام ... وأتاك النقصان قبل التمام
بأبي أنت ظاعناً لم أمتع ... بوداع منه ولا بسلام
كنت أرجوك للمهم من الأم ... ر وأنسى تعرض الأيام
حاربتني فيك الليالي ولم يح ... فظن عهدي ولا رعين ذمامي
أيها القبر إن فيك لروحي ... نزعت من مفاصلي وعظامي
وبرغمي أمسيت أمنحك الود ... وأهدي إليك صوب الغمام
تقول العرب: من طال أمده نفد جلده.
دخل على معاوية رجل مرتفع العطاء، فرأى في عينيه رمصاً فحط من عطائه وقال: أيعجز أحدكم إذا أصبح أن يتعهد أديم وجهه؟ ومن جود عبد الله بن عباس أنه أرعى رجلاً من الأعراب إبلاً فأسمنها وردها كأنها قصور، أو عذارى حور، فقال: كيف تراها؟ قال: تسر الناظر، وتخصب الزائر، قال: فإنها لك، ولك أجرك، فبكى الأعرابي فقال له: ما يبكيك؟ قال: أبكي ضنا بهذا الوجه أن يعفر في التراب، فقال: هذا القول أحسن من قصيدة.
قال أعرابي: اللهم أجعل لي قلباً يخشاك كأنه يراك، إلى يوم يلقاك، وأدعوك دعاء قليلة حيلته، متظاهرة ذنوبه، ظنين على نفسه.
الظنين: المظنون، والمظنون: المتهم، وقد قرىء " وما هو على الغيب بظنين " التكوير: 24 أي بمتهم، وقرىء بضنين، أي ببخيل، أي لا يسأل أجراً على ما يخب به على الله عز وجل؛ وكان أبو نصر السدي يقول: بالضاد أقوى في المعنى، وأخلص إلى الحق، وذلك أن التهمة أسرعت إليه من المشركين المباينين، ومن المنافقين المخالطين، فلو كان معنى النفي صحيحاً على الإطلاق، كان لا تقع التهمة، ولا تعرض الريبة، فقيل له: وتأويله أنه غير متهم في نفسه أو عند الله، فقال - وأنا أسمع - : إن زوال التهمة عنه عند الله، أو عن نفسه، لا يصح به مدح ولا يتم به إطلاق، لأنه يبقى على المعارض أن يقول: هذا دعوى بغير برهانها. فأما الضن فهو الشح، يقال: هو به ضنين، أي بخيل، من ضن به ضنا وضنانة.
قال معاوية لقريش في خلافته: أنا أقع إذا طرتم، وأطير إذا وقعتم، ولو وافق طيراني طيرانكم للأختلفنا. هذا يحتاج إلى تفسير إلا عند من هو أعلم ممن هو في طبقتي.
وأنشد للحماني علي بن محمد الكوفي العلوي: الكامل المجزوء
كم منزل لك بالخور ... نق ما يوازى بالمواقف
بين الغدير إلى السدي ... ر إلى ديارات الأساقف
فمواقف الرهبان في ... أطمار خائفة وخائف
دمن كأن ؤياضها ... يكسين أعلام المطارف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في المصاحف
تلقى أوائلها أوا ... خرها بألوان الرفارف
بحرية شتواتها ... برية فيها المصايف
درية الحصباء كا ... فورية منها المشارف
باتت سواريها تمخ ... ض في رواعدها القواصف
وكأن لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقف
ثم أنبرت سحاً كبا ... كية بأربعة ذوارف
فكأنما أنوارها ... تهتز في الدرج العواصف
طرر الوصائف يلتقي ... ن بها إلى طرر الوصائف
دافعتها عن دجنها ... بالغلب والبيض الغطارف
يغنون يوم البأس شر ... أبون في يوم المعارف
سمح بحر المال وق ... افون في يوم المتالف
واهاً لأيام الشبا ... ب وما لبسن من الزخارف
وزوالهن بما عرف ... ت من المناكر والمعارف
أيام ذكرك في دوا ... وين الصبا صدر الصحائف
واهاً لأيامي وأي ... ام النقيات المراشف
والغارسات البان قض ... باناً على كثب الروادف
والجاعلات البدر ما ... بين الحواجب والسوالف
أيام يظهرن الخلا ... ف بغير نيات المخالف
وقف النعيم على الصبا ... وزللت عن تلك المواقف
وقال الفضيل بن عياض: قال إبليس: يا رب، الخليقة تحبك وتبغضني، وتعصيك وتطيعني، فقال الله سبحانه: لأغفرن لهم طاعتهم إياك ببغضهم لك، ولأغفرن لهم معصيتهم إياي بحبهم لي.
وأنشد لبشار بن برد: البسيط
حتى متى أنا مربوط بذكركم ... أهذي وقلبك مربوط بنسياني
لهفي عليها ولهفي من تذكرها ... يدنو تذكرها مني وتنآني
إني لمنتظر أقصى الزمان بها ... إن كان أدناه لا يصفو لحران
قال ابن هبيرة: الشجاعة لمن كانت معه الدولة.
وقال ناسك: ما تبالي حسنت جوراً ودخلت فيه، أو قبحت عدلاً وخرجت منه.
وصف أعرابي فرساً فقال: كأنه شيطان في أشطان.
قال الأحنف: الأدب في الإنسان نور العقل، كما أن النار في الظلمة نور البصر. وهذا بكلام الفلاسفة أشبه، ولكن كذا أصبته في كتاب ابن أبي طاهر في الحلي والحلل صاحب المنظوم والمنثور، وإنما أحكي ما أجد.
وأنشد ابن أبي طاهر لبشار: الكامل
فسد الزمان وساد فيه المقرف ... وجرى مع الطرف الحمار الموكف
فدع التبحث عن أخيك فإنه ... كسبيكة الذهب الذي لا يكلف
قال الحسن: إن من أعظم نعم الله على خلقه أن خلق لهم النار تحوشهم إلى الجنة.
وقال العتبي: لا تنازع الرأي من لا ينازعك الحظ.
قيل لراهب: متى عيدكم؟ قال: كل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد.
قيل للنظام في علته: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أشتهي.
شاعر: المتقارب
جرى والجياد فلما جرى ... حثا في وجوه الجياد الثرى
قيل لعابد: أمن أطال في القنوت أحسن أم من أطال في الصلاة أم من أطال في السجود؟ قال العابد: بل من أخلص فيها.
قيل لديوجانس، وكان يونانياً: أملك الروم أفضل أم ملك الفرس؟ فقال: من كان منهما أملك لهواه.
وقيل لصوفي: أرفع اليدين في الصلاة أفضل أم إرسالهما؟ فقال: رفع القلب إلى الله تعالى أنفع منهما.
سئل دغفل عن قومه فقال: يسمنون في الحرب ويهزلون في السلم.
العرب تقول: نعوذ بالله من الشظف والضفف والجفف؛ الشظف: الشدة، والضفف: أن يكون المأكول بإزاء الأكلة، والجفف: اليبس، وهو أن يكون المال دون الأكلة.
قال أعرابي في دعائه: قطع الله مفصله، وبتر مقوله.
ويقال: هؤلاء زوار هؤلاء، وزيارهم الذي يمنعهم، ومنه زيار البيطار؛ هكذا حفظت حفظك الله.
قال أبو العباس الكرخي: دب شيخ إلى غلام فأنتبه، فولى قليلاً فقال الغلام: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً " الأحزاب: 25، ثم دب إليه ثانية فقضى حاجته، وانتبه فقال الشيخ: " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها " القصص: 15.
روى التوزي، قال أعرابي: الرجز
يغنيك عن سلمى وعن دهانها ... ونقطها الوجه بزعفرانها
مري يد لا عيب في بنانها وأنشد: الرجز
إن العجوز حين شاب صدغها ... كالحية الصماء طال لدغها
وأنشد: الرجز
إن العجوز حين شاب راسها ... وسقطت من كبر أضراسها
وطاب في خبائها اندساسها ... محقوقة بأن يخاف باسها
قال فيلسوف: العجب فضيلة يراها صاحبها في غيره فيدعيها لنفسه.
قال فيلسوف: الذي يعلم الناس الخير ولا يفعله بمنزلة الأعمى الذي في يده سراج، غيره يستضيء به وهو خال من منفعته منه.
فيلسوف: ما اخترت أن تحيا عليه فمت دونه.
شاعر: الخفيف
حي طيفاً من الأحبة زارا ... بعدما صرع الكرى السمارا
قلت ما بالنا جفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال إنا كما عهدت ولكن ... شغل الحلي أهله أن يعارا
قال زاهد: من بلغ أقصى أمله فليتوقع دنو أجله.
لما غصب المعتضد منازل الناس لبناء دار عزم أن ينتقل إليها في علته، كتب إليه القطربلي: الكامل
قل للإمام مقال ذي العلم ... لا تطلبن شفاك بالظلم
لا ترحلن إلى المعاد بها ... فتصير من سقم إلى سقم
أنشد اليشكري: البسيط
لا تنكحي ابن حبيب عن مؤامرة ... ولا ابن ريطة منحوساً ولا وزرا
ثلاثة كفلوس النقد أمثلهم ... عبد تبين فيه النوك والخورا
جنباه جنبا حمار ساف محرأة ... لما قضى نهمة الصادي لها نثرا
كعتق الرأل رجته قوائمه ... يرى طويلاً وإن هزهزته انكسرا
كأنه حين تلقاه وتخبره ... عير شددت على حمائه الثفرا
يقال: كان من دعاء شريح: اللهم إني أسألك الجنة بلا عمل عملته. وأعوذ بك من النار بلا ذنب تركته.
قيل لإبراهيم البلخي: فيك حدة، فقال: أستغفر الله مما أملك، وأستصلحه لما لا أملك.
قال بعض العرب: من لقيك بالسؤال الملحف، فالقه بالمنع الحابس.
قال بعض العباد: أضل عباد الله من يسأل حاجة غير الله.
قيل لراهب: كيف سخت نفسك عن الدنيا، فقال: أيقنت أني خارج منها كارهاً، فأحببت أن أخرج منها طائعاً.
ذكر أعرابي مسيره فقال: خرجت حين انحدرت النجوم، وشالت أرجلها، فما زلت أصدع الليل حتى أنصدع الفجر.
قال أعرابي: استشر عدوك العاقل ولا تستشر صديقك الأحمق، فإن العاقل يتقي على رأيه الزلل كما يتقي الورع على دينه الحرج.
وقال أبو الدرداء: أحب ثلاثة لا يحبهن غيري: أحب المرض تكفيراً لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعاً لربي، وأحب الموت اشتياقاً إليه. فذكر ذلك لابن سيرين فقال: لكني لا أحب واحدة من الثلاثة؛ أما الفقر فو الله للغنى أحب إلي منه، لأن الغنى به يوصل الرحم، ويحج البيت، وتعتق الرقاب، وتبسط اليد إلى الصدقة؛ وأما المرض فو الله لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر؛ وأما الموت فو الله ما يمنعنا من حبه إلا ما قدمناه وسلف من أعمالنا، فنستغفر الله عز وجل.
انظر بالله إلى خروج ابن سيرين من كل ما دخل فيه أبو الدرداء، حتى كأن الصدق في جلبه أبين، والبرهان على ما قاله أقرب، ولولا أن الطرق إلى الله مختلفة، ما عرض هذا الرأي للأول ولا عارضه هذا الثاني.
وكان أبو حامد القاضي يقول: الزهد في الدنيا لا يصح، لأن الإنسان خلق منها وعمرها وسكن فيها، فلا سبيل إلى انسلاخه منها على ما يرى جفاة الصوفية وما يقولون، فإنهم يرون الجلالة له حجاباً وحجازاً، ويجعلونها مانعة من إصابة الزهد وسلوك محجته وإقامة مناره، وزعم أن الزهد إنما أريد به القيام بالأمر والنهي على قدر الطاقة، وكنه القوة، مع التقلب بين الرجاء والخوف، وإصلاح القلب بحسن النية في الخير، وبذل المجهود من الموجود. لمن يحسن معه الجود.
وكان أبو بكر الفارسي صاحب كتاب الأصول بخراسان يشرب في آنية الذهب والفضة، وإذا قيل له: أما تروي في كتاب المزني أن الذي يشرب في آنية الفضة والذهب فإنما يجرجر في جوفه نار جهنم؟ يقول: إن الله عز وجل يقول: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده " الأعراف: 32 وإن النبي لا يحرم ما أحل الله، والخبر لا يرفع القرآن، لأن القرآن أساس والخبر بناء وفرع، على أن الخبر معتمده على حسن الظن بالرواة والنقلة، والقرآن يبرأ من رجم الظنون، ولو صح هذا المأثور لكان لاحقاً بباب النهي على التنزيه، ومحمولاً على تفخيم الأمر إشفافاً من البطر، وتذكيراً بالخبر، لأن الخبر متى لم ينطبق على علة بها يقع النهي، ومن أجلها يرد الأمر، كان الخبر موقوفاً دونه ومسكوتاً عنه؛ وإذا كان هذا الذي قتله قريباً وممكناً، وكان الخبر يتضمن معنى النهي عن البطر، فأنا وأضرابي من العلماء في نجوة من البطر، وفي مأمن من السطوة والشر، ومن جرى منكم مجراي فحكمه حكمي. وكان له كلام كثير في هذا النمط، وكان إماماً من أصحاب الشافعي رضي الله عنه.
وأما أبو سعيد البسطامي، وكان من عجائب الرجال، فإنه سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً وأحشرني مسكيناً، فأندفع مغضباً يقول: من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسكين فهو كافر، وقال للسائل: والله لولا أنني أعلم أنك جاهل وغر لأمرت بك حتى تستحب على وجهك وتضرب بالسياط، ولكنك تلقفت هذا من هؤلاء الحمقى المكدين المحتالين الملحدين الذين وصموا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النعت وبما يجري مجراه. إن النبي صلى الله عليه وسلم كان غنياً، ولا أعني بقولي كان غنياً غنياً بالله، ذاك غنى مربوط بالإيمان والتوحيد والإخلاص والطهارة، وما أريد شيئاً من ذلك، فإن ذلك موفور له في العاجل ومذخور له في الآجل، إنما أعني الغنى الذي هو الأثاث والثياب والدواب والخدم، فقيل له: فإن الله عز وجل يقول: " ووجدك عائلاً فأغنى " الضحى: 8، قال: هذا حجتي، فإن العائل المثقل بالدين، وقد كان هذا قبل المبعث؛ فلما بعثه الله أزاح علله فنور قلبه، وملأ من الدنيا كفه، وإلا فبم جيش الجيوش، وعقد السرايا، وهادى الملوك، ونحل الصحابة، وزود الوفود، وأنفق على النساء، وأين بغلته دلدل، وأين سيفه الصمصامة، وأين بردته وحلته، وأين ما كان يدخره لنفقة عامه، وقوت عياله؟ والله ما أتيتم إلا من تقليدكم لقوم تحلوا عندكم بأدعاء الدين، وخاتلوكم عما حوته اليمين. وأنتم أيها الأغنياء أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصحابته من هؤلاء الذين لبسوا الأخضر والأحمر والأصفر والأسود، ورقعوها بالتكليف.
وكان مع هذا يتعدى طبقة زمانه إلى أبي يزيد البسطامي ويقول: أبو يزيد من بلدي، وأنا أعرف به وبأصله وفصله، وحديثه عندنا غض، وأمره عندنا بين، وإنه بعيد من دين المسلمين.
وكان شديد التهور، عظيم العجرفة، وأنا سمعته يقول بأصبهان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وقد قال له قائل: أيها الأستاذ - وكذا كان يخاطب - إن فلاناً يقول: متى عرض كلام أستاذكم أبي سعيد على كتاب الله عز وجل خالفه ولم يوافقه، فقال جهلاً: كلام الله عز وجل ينبغي أن يعرض على كلامي! ومضى على ذلك، فلم أجد نكراً من أحد حضر من أصحابه ولا من غيرهم، وكنت حينئذ وحيداً غريباً حديث السن، فوقذتني الحمية لله عز وجل ولرسوله عند جهله. وكان اعتماده على الهذيان، ولم يكن هناك - مع طول النفس، وبلة الريق، والصبر على الكرم - شيء من التحصيل. ولقد سمعته يقول: نقضت على الفلاسفة سبعين ألف ورقة، فلما طولب بأن يذكر أسماء خمسة من كتبهم أفتضح وأفحم، وكان ذلك سبب طرده من أرجان. وحديثه طويل، وكان كلامياً لا يحسن من المذهب إلا النص، فإذا نازعه الخصم أفلت وأنحص.
أنشد ابن أبي طاهر في البعوض: الرجز
أرقني وكنت بالعراق ... بعوضة ذات شوى دقاق
تسفعني بمبضع مزاق ... كأن صوت شارب مشتاق
صوت تغنيها على التراقي قيل لسعيد بن المسيب: لم صارت قريش أضعف العرب شعراً؟ قال: لأن مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قطع متن الشعر عنها.
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم وقدره، ولكنه يطالبهم من حيث نهى وأمر، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك تنج.
شاعر: البسيط
يا أم عتبة إني أيما رجل ... إذا النفوس أدرعن الرعب والرهبا
لا أمدح المرء أبغي من فضائله ... ولا أظل أداجيه إذا غضبا
ولا يراني على باب أراقبه ... أبغي الدخول إذا ما بابه حجبا
وذكر أعرابي الملوك فقال: أقرب ما يكون إليهم أخوف ما يكون منهم، شاهد يظهر حبك، وغائب يبتغي غيرك.
كتب علي بن الحسين رضي الله عنهما إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإنك أعز ما تكون بالله أحوج ما تكون إليه، فإن عززت به فاعف له، فإنك به مقدر، وإليه ترجع.
ابن أبي عيينة في عيسى بن سليمان: الطويل
أفاطم قد زوجت من غير خبرة ... فتى من بني العباس ليس بطائل
فإن قلت من آل النبي فإنه ... وإن كان حر الأصل عبد الشمائل
بشار بن برد: الكامل
وإذا نسيبك غل ساعده ... ونأى فليس بنافع نسبه
خذ من صديقك غير متعبه ... إن الجواد يؤوده تعبه
قال أعرابي: من فاس الأخلاق بالصور حسن منه النظر.
قال أعرابي: الهرم يعدم الأطيبين، ويحدث الأخبثين؛ والأطيبان: النوم والنكاح، والأخبثان: السهر والبخر.
قال أبو روق المقراني: رأى النهدي في المنام كأنه يصلي بالناس إلى الكعبة، وكأن شريك بن عبد الله يصلي إلى غيرها، فأهتم بذلك وقال للربيع: سل عن تعبيره، قال: فسأل، فقيل له: هذا رجل مخالف لرأي الخليفة، فأمر المهدي الربيع بأن يحضر شريكاً، فمضى إليه، فرأى شريك في وجه الربيع أزوراراً، فسأله عن ذلك فقال: إن أمير المؤمنين رأى رؤيا غلظ قلبه عليك لها، قال: ما هي؟ قال: سيخبرك، فلما دخل على المهدي سلم عليه فلم يرد عليه، فقال: حييت أمير المؤمنين بتحية الإسلام، فلم يرد عليه، وما كانت هذه من أفعاله، فقال: إني رأيت رؤيا دلتني على خلافك إياي وساد طويتك في طاعتي، فقال: يا أمير المؤمنين إنها ليست رؤيا يوسف عليه السلام؛ إن الرؤيا على أربعة أوجه: منها وحي عن الله عز وجل؛ منها حديث الرجل نفسه؛ ومنها أحلام؛ ومنها تلعب الشيطان؛ فمن أي الوجوه رؤيا أمير المؤمنين؟ قال: تلعب الشيطان، يا ربيع أخلع على شريك وأحسن إليه.
قال أبو ذر عن عبيد الله: إن أول رام رمى بسهم في سبيل الله عز وجل سعد.
مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحريش بين البهائم.
نافع قال، سئل ابن عمر: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت في الصلاة؟ فقال: لا، ولا في غير الصلاة.
وقال أبو مسعود الأنصاري: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعمل العمل أستره فيظهر فأفرح به، فقال: كتب لك أجران، أجر السر وأجر العلانية.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الدنيا لا تصفو للمؤمن، هي سجنه وبلاؤه.
بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس لفاسق غيبة.
قال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفة والغنى.
وسمعت القاضي أبا حامد يقول: قيل لشريح: أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين؟ قال: هذا يدل على تيسير الأمر، لأن الذي ذبح بغير سكين لا يكون كالمذبوح بسكين، فكأنه أخبر عن سلامته.
وقال أبو حامد: كان شريح لا يقبل قول من يركب البحر ويقول: هذا لا يحفظ نفسه، كيف يحفظ أمور المسلمين عليهم؟ سمعت هبة الله بن الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشيخ شاب في حب اثنين: في حب الحياة وفي حب المال، ثم رواه بإسناد عن أبي هريرة، هذا سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
وروى أبو ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صمت الشهر فصم ثلاث عشره، وأربع عشره، وخمس عشره؛ قال أبو بكر العلاف: إنما قال بحذف الهاء فيها وهو يريد الأيا، وهذه عبارة عن الليالي، لأن تاريخ الشهور بالعربية إنما هو بالأهلة، فأول الشهر الليلة التي يهل فيها، ولهذه العلة عبر عن الأيام بالليالي، ثم المعلوم من الصوم أنه يقع في النهار دون الليل، والمعلومات يتسع فيها ويعول على ما علم من معانيها.
وحكى لنا أبو بكر: قال عبد الله بن المبارك، قال سفيان: كان يقال: إذا عرفت نفسك لم يضرك ما قيل لك.
وقال سفيان: قال رجل من الأنصار: ما استوى رجلان أحدهما يشار إليه والآخر لا يشار إليه.
وقال سفيان: قال رجل لمحمد بن واسع: إني أحبك لله، قال: أحبك الله الذي أحببت له، اللهم إني أعوذ بك أن أحب لك وأنت لي ماقت.
أبو نواس: الكامل
عين الخليفة بي موكلة ... عقد الحذار بطرفها طرفي
صحت علانيتي له وأرى ... دين الضمير له على حرف
فلئن وعدتك تركها عدة ... إني عليك لخائف خلفي
سلبوا قناع الطين عن رمق ... حي الحياة مشارف الختف
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
هذا أختيار ابن المعتز.
قال أعرابي يصف آخر: هو بحر يزجر عند العطاء، وأسد يزار عند اللقاء.
شاعر: الكامل
الله يعلم أن فرقة بيننا ... مع ما أرى شيء علي يهون
ولد لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لصلبه: الحسن، والحسين، ومحسن، وزينب، ورقية، وأم كلثوم من فاطمة رضي الله عنها، وولد له من خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية: محمد؛ ومن ليلى بنت مسعود الدارمية: عبيد الله وهو أبو بكر؛ ومن أم البنين بنت حزام الكلابية: العباس، وعثمان، وعبد الله، ومحمد الأوسط؛ ومن الصهباء التغلبية: عمر، وأسماء، ويحيى، وعون؛ ومن أم ولد: محمد الأصغر؛ ومن أمامة بنت العاصي: محمد الثالث.
يقال: أقلل طعامك تحمد منامك.
قال أحمد بن مؤمل: قاتل الله رجالاً كنا نؤاكلهم، ما رأيت قصعة رفعت من بين أيديهم إلا وفيها فضل، وكانوا يعلمون أن الجدي إنما هو شيء من زينة المائدة الرفيعة، وإنما جعل كالخاتمة والعاقبة، وعلامة الفراغ، ولم يحضر للتمزيق، وأن أهله لو أرادوا به الأكل لقدموه قبل كل شيء حتى تقع به الحدة، ولقد كانوا يتحامون بيضة البقيلة، واليوم إن أردت أن تمتع طرفك بنظرة إليها أو إلى شيء من بيض الشلقة لم تقدر على ذلك.
سمعت شيخاً من النحويين يقول: النصب في الكلام يكون من اثني عشر وجهاً، ثم عدها، ثم قال: هذه الوجوه هي المفعول به، والمصدر، والظرف، والحال، والتعجب، والنداء، والتبييين والتفسير، والتمييز مع التبيين واحد، وإن وأخواتها، والوصف، والأستثناء، والنفي، وخبر لات وما، عملهما واحد. تقول: ضربت زيداً الظريف اليوم ضرباً شديداً قائماً، فزيد مفعول به، والظريف وصف له، واليوم ظرف، وضرباً مصدر، وشديداً وصف ضرب، وقائماً حال، وإنما يتولد الحال من المعرفة؛ وسمي المصدر مصدراً لأنه صدر من لفظ الفعل، ويسمى الظرف ظرفاً لأنه كالوعاء، ألا ترى أنك إذا قلت: سرت اليوم، فالسير كان في اليوم؛ والتعجب: ما أحسن زيداً، فزيد منصوب بفعل التعجب، لأنه وقع في التقدير موقع المفعول به، والنداء قولك: يا عبد الله، ويا رجلاً، فبها أقبل؛ والتبيين قولك: عشرون درهماً، لأنك لما قلت عشرون أبهمت، ثم بينت بالدرهم، والدرهم لا يقدم على العدد؛ وأما إن فقولك: إن زيداً قائم؛ والأستثناء: أتاني القوم إلا زيداً؛ والنفي: لا ثوب لك، ولا بأس عليك؛ وخبر لات قولك: لات حين مناص، فالأسم مضمر في لات لأنها أجريت مجرى ليس، وقد يجوز الرفع في حين والجر، وأما الرفع فعلى اسم لات، والجر على تشبيه لات بمن.
قال الشاعر: الرجز
قالوا تمن ما هويت واجتهد ... فقلت قول مستكين مقتصد
حضور من غاب وفقد من شهد خطب معاوية رضي الله عنه عند مقدمه المدينة فقال: أما بعد، فإنا قدمنا على صديق مستبشر، وعدو مستبصر، وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون، " فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " التوبة: 58، ولست أسع الناس كلهم، فإن تكن محمدة فلا بد من لائمة، فليكن لوماً هوناً، إذا ذكر غفر، وإياكم والعظمى التي إذا ظهرت أوبقت، وإذا خفيت أوتغت.
الإيباق: الإفساد، والإيتاغ أيضاً مثله في الدين.
قال عبد الملك بن صالح للرشيد: سرك الله فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعل هذه بهذه جزاء للشاكر. وثواباً للصابر.
دعبل: الطويل
وأصبحت تستحيي القنا أن تردها ... وقد وردت حوض المنايا صواديا
إذا الناس حلوزا باللجين سيوفهم ... رددت السيوف بالقلوب حواليا
مساعي لا يعيا المقال بذكرها ... وينفذ ذكر الناس وهي كما هيا
وله: الرجز
يصافح الموت بوجه دام ... حر رقيق واضح بسام
يسل من فكيه كالحسام ... صفيحة تلعب بالكلام
كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني أسد بن خزيمة ومن تألف إليهم من أحياء مضر: إن لكم حماكم ومرعاكم، ولكم مفيض السما حيث انتهى، وصديع الأرض حيث ارتوى، ولكم مهيل الرمال وما حازت، وتلاع الحزن وما جاورت.
أنشد ثعلب: البسيط
تلقاهم وهم خضر النعال كأن ... قد نشرت كتفيها فيهم الضبع
لو صاب واديهم سيل فأترعه ... ما كان للضيف في تغميره طمع
الضبع: السنة، وهو الجدب، والجدب: قلة المطر وذهاب النبات، والتغمير: الشرب دون الري، والإتراع: الملء، والملء مصدر ملأ يملأ، والملء: ما حمل الظرف، يقال: أعطى ملأه وملأيه وثلاثة أملائه.
وقال ابن الغمر: أول ما يخرج البقل والعشب فهو البذر ساعة يخرج، يقال: قد بذرت الأرض، ويقال: قد بذر البقل، وقد ظفر البقل تظفيراً في أول ما يخرج كأنه أظفار الطير، ثم لا يزال البذر ما كان ورقتين، فإذا زاد على ذلك قيل: قد تشعب ورقه وعرف وجهه، وذلك أنه إذا خرجت الورقة الثالثة عرف أي الضروب هو، فيعرف وجوه البقل والعشب، ويعرف بعضها من بعض؛ كذا قال يعقوب ابن السكيت عن ابن الغمر.
كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: أعلم أن عليك عيوناً من الله عز وجل ترعاك وتراك، فإذا لقيت العدو فأحرص على الموت توهب لك السلامة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم فإن دم الشهيد يكون نوراً له يوم القيامة.
قال معاوية: العيال أرضة المال.
وقيل لمعاوية: ما بلغ من عقلك؟ قال: لم أثق بأحد.
ونظر إلى يزيد وهو يضرب غلاماً له فقال: لا تفسد أدبك بتأديبه.
وقيل لسهل بن هارون: ما البلاغة؟ فقال: الكلام المتحدر عن الغريزة على رسل تحدر الدر من عقد أسلمته كف جارية إلى حجرها، لا يحمل فيه اللسان على غير مذهب السجية فيظهر فيه قبح التكلف.
وقال أرسطاطاليس في كتاب للإسكندر: الملك لزحل؛ والوزارة للشمس، والعدل للمشتري، والزينة للزهرة، والتدبير لعطارد، والخدمة للقمر، والجوز للمريخ.
أعرابي ذكر الريح فقال: أصبحت الشمال تتنفس الصعداء.
قيل لأم البنين: ما أحسن شيء رأيته؟ قالت: نعم الله مقبلة.
قال أعرابي لرجل: لا جعلك الله آخراً يتكل على أوله.
قيل لأعرابية: ما خبر قدرك؟ قالت: حليمة مغتاظة، أي هي ساكنة الغلي لم تبرد.
وكتب علي بن هشام إلى الموصلي: ما أدري كيف أصنع، أغيب فأشتاق، وألتقي فلا أشتفي، ثم يحدث لي اللقاء نوعاً من الحرقة للوعة الفرقة.
وكتب آخر: من العجب إذكار معني، وحث متيقظ، وأستبطاء ذاكر، إلا أن ذا الحاجة لا يدع أن يقول في حاجته، حل بذلك منها أو عقل، وكتابي تذكرة والسلام.
وكتب آخر: شاهدك وأجتماع الوصف بالجميل لك يبسطان ذا الأنقباض، ويؤنسان ذا الحشمة بك، والله يديم لك النعمة ويبقيها لديك.
وقال بكر بن عبد الله المزني: ما رأيت أحداً إلا رأيت له الفضل علي، لأني من نفسي على يقين، ومن الناس في شك.
قيل لابن هبيرة: ما حد الحمق؟ قال: لاحد له.
أنشد لابن النطاح: الرمل المجزوء
وندامى كاملي الوص ... ف شباباً وكهولاً
باكروا في شمال الري ... ح من الراح شمولا
فأجتنوا منها سروراً ... وآجتنت منهم عقولا
قال معاوية: ينيت الدنيا على نسيان الأحبة.
وقال أعرابي: من العجز والتواني نتجت الفاقة.
وقال فيلسوف: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به، والتفكر في الشر يدعو إلى تركه.
قال فيلسوف: عقل الغريزة سلم إلى عقل التجربة.
قال واصل بن عطاء: كان الحسن له خشوع الناسكين، وبهاء الملوك.
شاعر: الخفيف
رب ليل وصلته بنهار ... ورضاب مزجته بعقار
ومدام أدرتها بيمين ... وسلاف أخذتها بيسار
وكبار شربتها لحبيب ... وحبيب صرعته بصغار
قال فيلسوف: اذكر حسرات التفريط تلتذ الحزم، والحظ مصارع الهزل تؤثر الجد، والق خطرات الهوى تذكر عواقبه.
قدم إلى عثمان بن عفان في جناية فقال: انظروا هل أخضر إزاره.
كاتب إلى محمد بن عبد الملك: إن من النعمة على المثني عليك أن لا يخاف الإفراط، ولا يأمن التقصير، ولا يحذر أن تلحقه نقيضة الكذب، ولا ينتهي به المدح إلى غاية إلا وجد في فضلك عوناً على تجاوزها، ومن سعادة جدك أن الداعي لك لا يعدم كثرة المادحين، ومساعدة النية على ظاهر القول.
كاتب: ما قصرت بي همة صيرتني إليك، ولا أقعدني إرشاد دلني عليك، ولا أخرني رجاء حداني إلى بابك، وحسب معتصم بك ظفراً بفائدة وغنيمة.
قال ابن عباس: لا كبيرة مع توبة وأستغفار، ولا صغيرة مع لجاجة وإصرار.
ولما أحتضر معاوية رفع يديه وقال متمثلاً: الطويل
هو الموت لا أدهى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم فأقل العثرة، واعف عن الزلة، وعد بحلمك على جهل من لا يرجو غيرك، ولا يثق إلا بك، فإنك واسع الرحمة تعفو بقدرة، وما وراءك مذهب لذي خطيئة موبقة، يا أرحم الراحمين.
فبلغ سعيد بن المسيب قوله فقال: لقد وفق عند الموت في الطلب إلى من لا مثله مطلوب إليه، فإن ينج أبو عبد الرحمن من النار غداً فهو الرجل الكامل؛ ما أخوفني عليه! كان سبب استتار أبي علي ابن مقلة أنه أصاب في طيارة رقعة قرأ منها: الكامل
ثكلتك أمك يا ابن رأس المنقب ... فبخست صبرك حين تضرب فأضرب
الأمر محتد وقد خردلتها ... وعليك ألف مضرب ومؤلف
فأنظر بعينك ما صنععت تأملاً ... فأرحم قذالك والدراهم فأهرب
كتب أحمد إلى محمد بن عبد الملك ابن الزيات: إن مما يطمعني في بقاء النعمة عليك، ويزيدني بصيرة في دوامها لك، أنك أخذتها بحقها، وأستدمتها بما فيك من أسبابها، ومن شأن الأجناس أن تتقادم، والشيء يتقلقل إلى معدنه، ويحن إلى عنصره، فإذا أصاب منبته، ركن في مغرسه، وضرب بعرقه، وسما بفرعه، وتمكن للإقامة، وثبت ثبات الطبيعة.
كاتب إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان: رأيتني فيما أتعاطى من مدحك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على ناظر، وأيقنت أني حيث أنتهي من القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فأنصرفت من الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
قال العتبي: وسمعت أعرابياً يقول: ليس المبتدي كالمعتدي.
عرض على الحجاج عطاء الكلابي، وكان دميماً، فأقتحمته عينه، فقال عطاء: قد علم القوم أني أطعن بالرمح شزراً، وأضرب بالسيف هبراً، وآخذ المستلئم أسراً، فقال المهلب: صدق أيها الأمير.
الدميم - بالدال غير معجمة - هي القصر والقبح، ودممت القدر: أصلحتها، ودام الماء: وقف، وشجر الدوم: شجر المقل، والدوام: دوار يصيب الرأس، والديمة: مطرة، يقال: دامت السماء وديمت، وجمع الديمة ديم. فأما الذميم - بالذال معجمة - فالمذموم، والذمامة: الذمام، وسمعت من يقول: أذمني، أعطاني الذمام، وأما كلام العرب: أذم الرجل - مثل ألام - إذا أتى ما يذم به ويلام عليه.
كاتب: ابتدأتنا بمعروفك تفضلاً بلا استحاق، ثم أردفته جفاء بغير استجاب، فالمقدم من فضلك مرعي مشكور، والمترادف من جفائك منسي مهجور، ومثلك مأمول ورب الابتداء بالتفضل.
كاتب: كيف تشكو جفائي إياك بتأخري عن لقائك، وذلك إيثار مني بموافقتك على سروري بمؤانستك، مخافة استدعاء الملالة بكثرة الزيارة، والتعرض للقلى بإدمان التعهد، فتركت ما أحب فيك لما أكره منك.
قال المأمون لعبد الله بن طاهر: تثبت فإن الله عز وجل قد قطع عذر العجول بما يمكنه من التثبت، وأوجب الحجة على القلق بما بصره من فضل الأناة؛ قال ابن طاهر: أكتبه؟ قال: نعم.
سمع عبادة من جوف ابن حمدون النديم قرقرة فقال: يا ابن حمدون، ولدت في شباط؟ أي أنت كثير الرياح.
شاعر: السريع
أستغن بالرحمن عن خلقه ... تغن عن الكاذب والصادق
واسترزق الرحمن من فضله ... فليس بعد الله من رازق
من ظن أن الناس يغنونه ... فليس بالرحمن بالواثق
وظن أن الرزق في كفه ... زلت به النعلان من حالق
سمع طلحة امرأة تقول: من جسر أيسر، ومن هاب خاب.
وسمعت امرأة بغدادية تقول: من ليس له علقة ليس له حرقة.
قال الجماز: حرم النبيذ على ثلاثة عشر نفساً: على من غنى بالخطأ، واتكأ على اليمين، وأكثر النقل، وكسر الزجاج، وسرق الريحان، وبل ما بين يديه، واقترح الغناء، وقطع البيت، وحبس أول القدح، وأكثر الحديث، وآمتخط في منديل الشراب، وبات موضعاً لا يحتمل المبيت، ولحن المغني.
المهلبي: البسيط
جاءت بمعمولة من جنس قامتها ... ليناً وفي كفها من خدها قبس
حتى إذا قربت من ذيل صاحبها ... أصغى إلى سرها فالرأس منتكس
فنم بينهما ما كان مكتتماً ... ما نمه اللفظ لكن نمه النفس
يعني المجمرة.
كانت الفرس تقول: من قدر على أن يتحرز من أربع خصال لم يكن في تدبيره خلل: الحرص، والعجب، وأتباع الهوى، والتواني.
لقد صدقت الفرس في هذا، والأمم كلها شركاء في العقول، وإن اختلفوا في اللغات، ولا أحد قد نطح إلى الكمال وتطاول إلى الفضل إلا وهو يعلم أن الحرض يسلب الحياء، والعجب يجلب المقت، وأتباع الهوى يورث الفضيحة، والتواني يكسب الندامة، ولا أحد أيضاً إلا وهو متسم بهذه الأشياء على هذا التفاضل الواقع؛ نسأل الله الهداية والعصمة.
محمد بن أبي أمية: الوافر
أقني قد ندمت على الصدود ... وبالإقرار عذت من الجحود
أنا استدعيت سخطك من قريب ... كما أستدعيت عفوك من بعيد
فإن عاقبتني فبسوء فعلي ... وإن ظلمت عقوبة مستفيد
وإن تصفح فإحسان جديد ... عطفت به على شكر جديد
قال الحسن بن زيد العلوي: مرت بي امرأة وأنا أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتقيتها بيدي فوقعت على فرجها، فقالت: يا فتى، ما أتيت أشد مما أتقيت.
عرضت جارية على المعتز فقال لها: ما أنت من شرطي، قالت: ولكنك من شرطي والله، فأعجبته فأشتراها وحظيت عنده.
طالب الجماز امرأته بالجماع، فقالت: أنا حائض، ثم تحركت فضرطت، فقال لها: قد حرمتينا خير حرك فأكفينا شراستك.
قال الجماز: حضرت مجلساً فيه مغنية، وفيه رجل بغير جبة، والدنيا باردة، فقال وهو يرعد للمغنية: أشتهي أن أعانقك، فقالت له: أنت إلى أن تعانق جبة أحوج منك إلى عناقي.
وقال الجماز: قلت لمغنية وقد غنت صوتاً: أين الصيحة؟ فقالت: خبيتها لثالثك؛ هذا لفظ النساء.
قال أحمد بن يوسف: كنت أعزل عن جارية فقالت لي يوماً: يا مولاي ما أقل حاجة الدرد إلى السواك.
عرضت جارية على المتوكل فقال لها: أيش تحسنين؟ فقالت: عشرين لوناً من الرهز، فأعجبته فاشتراها.
خطب مدائني عراقية، فأبته وكرهته، فقيل لها: لم أمتنعت؟ قالت: لأنهم يقلون الصداق، ويعجلون الطلاق، ويعتري النساء من نيكهم حلاق.
قال أبو العيناء: اشتريت جارية مليحة ماجنة، فلما قمت إليها لم يقم، فأخذته بيدها وقالت: يا مولاي هذا يصلح للمضيرة، قلت: كيف؟ قالت: أليس هو البقلة الحمقاء.
سأل الحسين أخاه الحسن عن المروءة فقال: الدين وحسن اليقين.
قالت أعرابية سائلة: وقاكم الله هول المطلع، وضيق المضطجع، وبعد المرتجع.
قال بعض العلماء: الشعر على أربعة أركان: مديح رافع، وهجاء واضع، وتشبيب واقع، وعتاب نافع.
قيل لرجل مستهتر بجمع المال: ما تصنع بهذا المال كله؟ قال: إنما أجمعه لروعة الزمان، وجفوة السلطان، وبخل الإخوان، ودفع الأحزان؛ وقال الحسن البصري: دأب فيه الليل والنهار، وقطع فيه لجج البحار والقفار، جمعه فأوعاه، وشده فأوكاه، من باطل جمعه، ومن حق منعه.
قال جحظة: حدثني محرز الكاتب قال: كتب الحسن بن وهب إلى صديق له يدعوه: افتتحت الكتاب - جعلني الله فداك - والآلات معدة، والأوتار ناطقة، والكأس محثوثة، والجو صاف، وحواشي الدهر رقاق، ومخايل السرور لائحة، ونسأل الله عز وجل إتمام النعمة بتمام السلامة من شوب العوائق، وطروق الحوادث، وأنت نظام شمل السرور، وكمال بهاء المجلس، فلا تخرم ما به ينتظم سروري، وبهاء مجلسي.
قال فيلسوف: كل مخلوق يجري إلى ما لا يدري.
العرب تقول: الحسود لا يسود.
العرب تقول في أمثالها: ليس من أنمى كمن أصمى، أي ليس من تحاملت رميته من بين يديه فنجت أو هلكت كمن أصاب رميته.
قال أعرابي: خير المال نعجة صفراء في أرض خضراء.
قال أعرابي: علة الكذب أقبح علة، وزلة المتوفي أشنع زلة.
قال أعرابي: من لم تسمه التجارب دبت إليه العقارب.
العرب تقول: الواقية خير من الراقية.
قال بعض الأدباء: أهتك الناس من إذا لزمه الحق صعب عليه، وإذا سنح له الباطل أسرع إليه.
الفرس تقول: لم يجتمع ضعفاء إلا قووا حتى يمنعوا، ولم يتفرق أقوياء إلا ضعفوا حتى يخضعوا.
قال أعرابي: إن أمامي ما لا أسامي به، أي أسود به.
قال فيلسوف: من أيسر فتن، ومن أعسر حزن، وفي ممر الأيام معتبر الأنام.
قال بعض السلف: من آثر عاجل الخسيس، فقد ضيع آجل النفيس.
العرب تقول: الأظلاف لا ترى مع الأخفاف.
قال أعرابي: هو أملح من المدارى في شعور العذارى.
العرب تقول: المدائح على الرجاء أبلغ من المراثي على الوفاء.
قال رجل من أصحاب الحديث لأحمد بن حنبل: ما ينبغي لك إن منعك السلطان حقك من الدنيا أن تمنعنا حقنا من الدين، ولا إن جار عليك أن تجور علينا، أعطنا ميراث نبينا عندك.
شاعر: السريع
يا أيها الظاعن في حظه ... وإنما الظاعن مثل المقيم
حظك يأتيك وإن لم ترم ... ما ضر من يرزق ألا يريم
كم من أديب عاقل قلب ... مصحح الجسم مقل عديم
قال فيلسوف: كيف السلامة لمن ليست له إقامة.
قال بعض السلف: خير الرزق ما يكفي، وخير الغنى ما يخفي.
ويقال في المثل: بطني عطري؛ هذا رجل كان جائعاً، فجاءته امرأته ببخور، فقال لها: بطني عطري.
أو لم طير فأرسل رسله ليدعو إخوانه، فغلط بعض الرسل فجاء إلى الثعلب فقال: أخوك يقرأ عليك السلام، ويسألك أن تتجشم العناء إليه في يوم كذا، وتجعل غداءك عنده، فقال الثعلب: قل له السمع والطاعة؛ فلما رجع وأخبر الطير بغلطه، اضطربت الطيور من ذلك، وقالوا له: يا مشؤوم أهلكتنا، وعرضتنا للحتف، ونغصت أمرنا علينا، فقالت القنبرة: إن أنا صرفت الثعلب بحيلة لطيفة ما لي عندكم؟ قالوا: تكوني سيدتنا، وعن رأيك نصدر، وعلى أمرك نعتمد، فقالت: مكانكم؛ ومشت إلى الثعلب فقالت له: أخوك يقرأ عليك السلام ويقول: غداً يوم الأثنين، وقد قرب الأنس بحضورك، فأين تحب أن يكون مجلسك؟ مع الكلاب السلوقية أم الكلاب الكردية؟ فتجرعها الثعلب ثم قال: أبلغي أخي السلام، وقولي له: والله أنا مسرور بقربك، شاكر لله سبحانه على ما منحني من مكانك، ولكن تقدم لي نذر، منذ دهر، بصوم الاثنين والخميس، فلا تنتظروني.
كتب عبيد الله بن زياد إلى معاوية يستشيره في تولية الأحنف بن قيس السند، فأجابه معاوية: بأي أيامه يستحق ذلك؟ أبخذلانه أمير المؤمنين يوم الجمل، أم بقتاله يوم صفين، أم بمشورته على علي يوم صفين بأمر الحكمين؟ أضرب عنه.
سمعت أبا الحسن ابن كعب الأنصاري يقول: القياس ينقسم ثلاثة أقسام: جلي، وواضح، وخفي، فالجلي لا يرد الشرع بخلافه مثل " فلا تقل لهما أف " الإسراء: 23، و " ما يملكون من قطمير " فاطر: 13؛ والواضح أن يرد الشرع بخلافه مثل: العبد قياس الأمة، بعلة الرق، والنبيذ قياس الخمر، بعلة الشدة؛ عرضت هذا على أبي حامد المروروذي فلم يهش له ولم يقدح فيه.
وسمعت أبا الحسين القطان يقول: حد النص مساواة باطنه لظاهره؛ وحد الظاهر ما كان أحد الأحتمالين أولى من الآخر؛ وحد العموم مساواة بعض ما تناوله لبعض بغير مزية، وأقله ما تناول شيئين فصاعداً؛ وحد الخصوص ما تناول شيئاً واحداً. ثم قال: وقد يكون الشيء عاماً إلى جنب ما هو أخص منه، وخاصاً إلى جنب ما هو أعم منه. قال: حد المجمل مالا يفهم المراد به؛ وحد الأمر مالا يجوز تركه بحال؛ وحد المندوب إليه ما كان فعله أفضل من تركه؛ وحد الجائز ما كان فعله وتركه سواء؛ وحد النهي الأمتناع، وهو على قسمين: نهي تحريم، فحده وجوب الأمتناع منه، ونهي تنزيه، فحده ما كان تركه أفضل من فعله؛ وحد الشرط ما يقر الحكم بوجوده وعدمه؛ وحد العلة ما طلب الحكم من جهتها بالسبب، وحد السبب ما وافق الحكم، فقد يكون علة له ويكون مضادا؛ وحد المطلق إرسال الكلام؛ وحد المقيد حصر الكلام؛ وحد الإجماع عدم الخلاف بين من يسمع وينسب القول إليهم؛ وحد التخصيص بيان المراد باللفظ العام؛ وحد التفسير بيان المراد بالمجمل؛ وحد النسخ بيان مدة التعبد به وانقضاء وقته، ويجمع هذا كله اسم البيان؛ وحد البيان الكشف عن الشيء.
وفي شرح هذا الكلام كثير، وليس في جميع ما قاله مقروناً بالسلامة، لكني رويته على ما علقته، ولم أزين لفظه، ولا نمقت عبارته. وكان رديء اللفظ طويله، قليل الحلاوة، وكان مع هذا قوي النفس في النظر، وقح الوجه، ومات في آخر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وسيمر في الكتاب فن آخر من حدود الفلاسفة للأمور الطبيعة والمنطقية والإلهية على قدر ما وقع لي منهم باللقاء والمذاكرة، ولا عليك أن تستقصي النظر في جميع ما حواه هذا الكتاب لأنه كبستان يجمع أنواع الزهر، وكبحر يضم على أصناف الدرر، وكالدهر الذي يأتي بعجائب العبر.
قال عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية لأخ له - وكان من صالحي قريش - : أترضى بما أنت فيه؟ قال: لا، قال: فأجمعت على أن تقلع؟ قال: لا، قال: فلك دار غير هذه تعمل فيها؟ قال: لا، قال: أفتأمن أن يأتيك الموت الساعة؟ قال: لا، قال: فهل رأيت عاقلاً رضي بهذا؟ شاعر: المجتث
لما ملكت قيادي ... وحزت صفو ودادي
وصرت أعرف مني ... بما يجن فؤادي
هجرت من غير جرم ... كهجر جفني رقادي
أنت الحبيب ولكن ... هذي فعال الأعادي
قال عطاء الخراساني: يقتدى من قول العالم بما لا يقتدى به من فعله.
شاعر، وهو مالك بن حريم الهمداني: الطويل
ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا ... بما زخرت قدري به حتى ودعا
فإن يك غثاً أو سميناً فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعا
الزبر: الكتب في الكتاب - بفتح الكاف - ، والزبر: الذي يعجب به النساء ويعجبنه، وكأنه أخذ من الزيارة، وأما الزئير فصوت الأسد. قال النابغة: البسيط ولا قرار على زأر من الأسد والقير والقار معروف، والبئر معروف، يذكر ويؤنث ويجمع على آبار وبئار، والكير والكور للحداد، والعير: رفقة تحمل المتاع، والصير، تقول: أنا على صير أمر، إي إشراف منه، والصير شيء يؤكل رأيته بجدة، ولا أدري أهو من أسامي العرب أم لا، والظئر: الداية، وفي أمثالها: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، أي لا تدخل مرضعة في دور الناس، وكأن هذا الأسم مأخوذ من ظأرته أي عطفته، والمصدر الظأر. والنير: خشبة البقرة الحارثة، والعرب تقول: فلان لا ينير - بفتح الياء - ولا يسدي، ولا يعيد ولا يبدي، ولا ولا يردي؛ والنير للثوب أيضاً، ومنه المنبر.
قيل لراهب: قد أطلت سجن لسانك، فقال: إنه غير مأمون إذا أطلق. فتحت السين لأنك أردت الفعل، ولو أردت الأسم بطل المعنى؛ وتقول مثله: ستر الله عليك ستراً جميلاً، وأسبغ عليك سابغاً، فيتميز الأسم من الفعل.
نظر أعرابي زمن الحجاج إلى ما فيه الناس من الجهد فقال: إنه ليهون علي ما أرى علمي بأنه بعين الله عز وجل؛ كيف الطريق إلى المسجد الجامع.
لقي تميم الداري رجلاً من إخوانه في أزم وشدة فقال: يا أخي ما عندك مما فيه الناس؟ قال: تدبير تكسر به العلة، وصيانة تسد بها الخلة، وصبر تمر عليه الأباء.
وسمعت أرباب النحو يقولون: الفعل خمسة أجناس: فمنها فعل لا يتعدى البتة مثل قام؛ وفعل يتعدى إلى واحد مثل ضرب زيد عمراً؛ وفعل يتعدى إلى مفعولين يقع المعنى عن أحدهما مثل كسوت زيداً ثوباً، وحرمت زيداً عطاءه؛ وفعل يتعدى إلى مفعولين لا يستغنى عنهما مثل ظننت زيداً قائماً، إلا أن تريد بظننت أتهمت فيقف على مفعول واحد، وكذلك حسبت وخلت، ولهما مفعولان فلا غنى البتة عنه؛ وفعل يتعدى إلى ثلاثة غنى عنهم مثل أعلم أن الله خلق زيداً بشراً خير الناس. وهذه الأجناس كلها يتعدى إلى الزمان والمكان، لأن الفعل والفاعل لا يستغنيان عنهما ولا يجدان بدا منهما.
قال ابن أبي طاهر: حدثني علي بن سليمان البرمكي قال: كانت وظيفة المنصور كل يوم لطعامه ملبقة، وخمسة ألوان، وجنب شواء، وجام فالوذج أو عصيدة، وكان يؤثر العصيدة.
قال السندي بن شاهك: كان السواد الذي يلبسه المنصور مرقوع الجربان.
قال محمد بن عبد الملك الرقاشي البصري: حدثني دينار الحجام قال: حجمت أبا جعفر المنصور في خلافته فأعطاني أربعة دوانيق فضة، وأخذت شعر سعيد بن أبي عروة فأمر لي بقوصرة فارغة.
ولد الرشيد بالري.
قال الربيع: نظر في نفقة المنصور فإذا مبلغها في كل يوم ستة آلاف درهم.
قال الربيع: لقب المنصور بأبي الدوانيق لأنه لما أراد حفر الخندق بالكوفة، قسط على كل رجل منهم دانق فضة، وأخذه وصرفه في حفر الخندق.
قال محمد بن الجهم: العيون التي تبص - أي تضيء - بالليل عين الأسد والنمر والسنور والأفعى.
ويقال: كل حيوان إذا أكل حرك فكه الأسفل إلا التمساح، فإنه لا يحرك ألا فكه الأعلى.
شاعر: المتقارب
ألا إن قلبي له خلقة ... ولست أرى مثلها في الخلق
سريع العلوق إذا ما اشتهى ... سريع النزوع إذا ما علق
فبينا يرى عاشقاً إذ صحا ... وبينا يزى صاحياً إذ عشق
قال بعض السلف: الأقارب عقارب، وأمسهم بك رحماً أشدهم لك ضرراً.
قال سليمان بن مهاجر لما قتل السفاح أبا سلمة الخلال، وكان يقال له وزير آل محمد: الكامل
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
إن السلامة قد تسيء وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
قال يعقوب بن السكيت: الأمنة كثير الأمن للناس، مثل نومة على القياس؛ قال يعقوب: والأمنة الأمن والسكون، قال الله تعالى " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه " الأنفال: 11. وقال غيره: الأمنة الكثير التصديق لما يسمعه، كأنه أخذه من قوله " وما أنت بمؤمن لنا " يوسف: 17، أي مصدق لنا. وقال آخر: رجل أمنة إذا كان يأمن الناس كثيراً، وهو يثق بهم.
قال ابن أبي عيينة يعاتب طاهر بن الحسين: المتقارب
أيا ذا اليمينين إن العتا ... ب يسفي صدوراً ويغري صدورا
وكنت أرى أن ترك العتا ... ب خير وأجدر أن لا يضيرا
إلى أن ظننت بما قد ظنن ... ت بأني لنفسي أرضى الحقيرا
ولا يلبث الماء في مرجل ... على النار يغلي به أن يفورا
ومن أشرب اليأس كان الغن ... ي ومن أشرب الحرص كان الفقيرا
يقال: صديق المرء عقله ورفيقه، وعدوه جهله وخرقه.
وفي القرآن: " ظهر الفساد في البر والبحر " الروم: 41. قال: قلة المطر.
قيل لسفيان بن عيينة: أفهذا البر كيف البحر؟ قال: إذا قل المطر قل الغوص وعمت الحيتان ودواب البحر.
وسمعت أبا النفيس الرياضي يقول: " ظهر الفساد في البر والبحر " ، أي في النفس والقلب، أي في السر والعلانية.
العرب تقول: بر وبحر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخبر تقله، الهاء زعم الرواة أنها للسكت.
وقال بعض السلف: أقل تخبر، أي أبغض فقد وقع الخبر، أي أنك غني عن اختباره لأنه من بني جنسه فهو يخلفك كما أخلفك غيره.
قال عبد الملك بن مروان: من كان الحرص شعاره، كان البخل دثاره.
سمعت بدوياً من المنتهب وكان قد ورد فيد ممتاراً يقول: منشيء الأرماق متكفل بالأرزاق.
قال أعرابي: حافظ على الصديق ولو في الحريق.
قال فيلسوف: القناعة عز، والأعتبار كنز، والخنوع عجز.
قال أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه: أفضل الناس عند الله من عز به الحق، وانتشر عنه الصدق، ورتق برأيه الفتق.
هذا آخر الجزء الأول، وقد مر به ما إذا أعرتني رضاك علمت أني قد وفيت بما وعدت به، وزدت وأربيت، فتوقع ما يتلوه على رسم الأول إن شاء الله تعالى.
الحمد لله وحده، وصلى الله على سيد المرسلين محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه، وحسبي الله ونعم الوكيل. أنجز في الرابع من شهر جمادى الآخرة من سنة ثمان وعشرين وستمائة. والله ينفع به، ويغفر لكاتبه.
بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن بمنك وكرمكالجزء الثاني
اللهم إنك الحق المبين، والإله المعبود، والكريم المنان، والمحسن المتفضل، وناعش كل عاثر، ورائش كل عائل، بك أحيا، وبك أموت، وإليك أصير، وإياك أؤمل، أسألك أن تحبب إلي الخير وتستعملني به، وتكره إلي الشر وتصرفني عنه، بلطفك الخافي، وصنعك الكافي، إنك على ما تشاء قدير.وبعد: هذا الجزء الثاني من بصائر القدماء، وسرائر الحكماء، ونوادر الملحاء، وخواطر البلغاء، وقد صار إليك الأول على اضطراب من تشتت أجناسه وفصوله، وليس يبعد منه الغرض المستفاد والأدب المقتبس، إذا صحت النية، وصدقت الشهوة، وتمت الإرادة، وساعدت القريحة، وأستجابت النفس، وكان تقدير الله من وراء اللطف بك، وتدبيره أمام الصنع لك، وتوفيقه مشتملاً عليك، وإحسانه متتابعاً إليك، فكد أيدك الله عز وجل الذي بيده ينقاد الصعب، ويذل الشرس، وينجلي المظلم، وينفتح المبهم، ويؤاتي الممتنع، ويعود البعيد قريباً، والقريب سهلاً، والسهل حاضراً، والحاضر هنياً، والهني مستداماً، وأجتهد في طلب العلم، وأقتباس الأدب، وتحصيل الحكمة، اجتهاد من لا يرى لكونه فائدة إلا بها، ولا يعرف لحياته عائدة إلا منها، ولا لعقله مرجوعاً إلا معها، وصن نفسك بأمتهانها في مطانها، وأبل العذر منها غير تارك ممكناً، ولا مهمل مستطاعاً، وخذ بزمامها إلى البصرة، وأشعرها حلاوة الحكمة، وألبسها جلباب المعرفة، وزينها بأنوار العصمة، وبصرها مواقع اليقين، وروحها بمواد السكون، وشوقها إلى مقعد الصدق، وأطرابها بأغاني الملكوت، وأجلها في رياض القدس، وناغمها بأسرار الحق، فإنها إن أجابتك - أعني نفسك - أفقت من سكرة الدنيا. وربحت الآخرة والأولى، وشهدت غيباً لا عبارة عنه، وأصبت نعيماً لا متمنى فوقه، وأعلم أنك وعاء قد ملىء سراً، وظرف قد حشي نوراً، وجرم أسكن حكمة، وبحر أودع دراً، وإنما ينبغي لك أن تعرف منك ما هو فيك، بترتيب العقل الموهوب لك، وتنبىء عنه بتفصيل اللسان الخطيب عليك، فلا تأس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم، ولا تثق بالعلم ما دمت مقصراً في العمل ولكن أجمع بينهما، وإن قل نصيبك منهما، فإنك إن وهبت للعمل كلك أقعدك وأكلك، وإن منحت للعلم كلك حيرك وأضلك، وآفة العمل تعلقه بالرياء، وآفة العلم تعلقه بالكبرياء، والخير بين طرفيهما مرتفع.
قال واصل بن عطاء في هذا المعنى الذي قد طال القول فيه: ما آذى شيء كما آذى رجلان: عالم فاسق ترك الناس علمه لفسقه، وعابد جاهل أخذ الناس بجهله لعبادته، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة، إذا تفضل الله تعالى بالرحمة، وتمم على عبده النعمة.
وإياك والمدافعة والوكال وحب الهوينا والأسترسال، وإيثار الخفض والدعة، والميل إلى الراحة والسعة، فإن خواتم هذه الخصال مذمومة، وعقباها كريهة وخيمة، وتجنب الهوى طاقتك، ولا تعره من طرفك لامحا، ولا من قلبك سامحاً، وأقبض عنه يدك، وأحبس دونه أذنك، فإنه سحار خدوع، وقرن جدوع، وقرين خلوب، وله تمويه وتشبيه، يستمدهما من حاشية العقل، وقد قال بعض الأولين: كيف يفلح الإنسان وعقله أسير الهوى في الشهوة، ولهذا يعسر الحكم في كل مطلوب، ويشتبه القضاء على كل مراد، وكأنه - أعني الهوى - مركب من فرط الشهوة وفاضل العقل، يخدع بالشهوة ويعذر بالعقل، ويجر الدواعي كلها، ويستعبد الحواس بأسرها، ولا سلامة إلا بسابق توفيق، وحادث رأي وثيق.
ودع الضجر والكسل وحب العاجلة، فإنها من أخلاق البهائم، وهي داء دوي، واجنح نحو الأجتهاد، فإنه كاسب النجح وجالب الظفر، وتحرك فإن التحرك طريق إلى المنالة، مشرف على حميد العاقبة، ولذلك قيل: الحركة ولود والسكون عاقر؛ فإن قلت: وما أصنع بالحركة والأجتهاد، والسعي والأرتياد، في طلب العلم، وأنتجاع الرزق، والتماس المأمول، والأمر كله مرقوم بالقدر، ومردود إلى القضاء، فأعلم أن كلامك مشوب، ورأيك فائل، وحسبانك باطل، وظنك محلف؛ أما تعلم أن الأجتهاد والحركة مدمجان في أثناء القدر، والقصد والسعي مدرجان في طي القضاء، وأن الذي عليك بحكم عقلك، وصحيح نظرك، أن تعمل بظاهر ما ألقي إليك، لأنك جاهل بحقيقة ما غيب عنك، فكيف تجنح إلى خفي عنك، وتستوحش من جلي عندك، إنك إذن لمن الجاهلين.
قد خوفك العقل، وسنح لك الخاطر، ونبهك الداعي، وأبلغك الواعظ، وعرفت آثار الله عز وجل في الظالمين، وثوابه للمحسنين، وتوبيخه للعاصين، وتحذيره للغاوين؛ أفمن بعد هذا يغمض عينه بصير، ويسد أذنه سامع؟ إن ذلك لهو الضلال المبين.
سأل ابن الكواء علياً رضي الله عنه عن القدر فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأمهل ثم سأل، فقال: ستر الله فلا تكشفه، نقول بظاهر ما نرى، ثم يقضي الله تعالى بغيب ما يعلم؛ هذا ما قاله.
وقد تردد الحديث في هذا المعنى، وذلك بسب ظاهر لا يحتاج الناظر إليه إلى تحديق، وإن كان الباطن يحتاج فيه إلى تحقيق: لما كان التفاوت واقعاً بين الخلق في السعادة والشقاء، والشدة والرخاء، والبلادة والذكاء، والعلم والجهل، والعي والإفصاح، والشجاعة والجبن، والصدق والكذب، والحسن والقبح، والكرم واللؤم، والحب والبغض، والكراهة والإيثار، والتوقي والأسترسال، والشراسة والأستخذاء، والأمن والخوف، والعدل والحيف، والغنى والحاجة، والعز والمذلة، والسلامة والعطب، والراحة والتعب، والرجاء والقنوط، والأرتقاء والهبوط، والإجابة والإباء، والعافية والبلاء، والفسولة والغناء، والمنع والعطاء، أحب كل أحد أن يقف من ذلك على غيبه، وحقيقته المطلوبلة من عقله، فمن مضيف جميع ذلك إلى إله واحد، ومن مضيف إلى اثنين، ومن ظان أنه اتفق اتفاقاً، وانبجس جزافاً، ومن متوهم أنه على ذلك ممتد الماضي من الزمان، وممتد الباقي من البرهان، ومن راجع إلى الحيرة، ومتسكع في متشابه الأدلة، ومن مقرب بالجدل، ومبعد بالنظر، ومن ظان أنه جار على التناسخ مع إقامة الجزاء على قدر الخير السالف، والطاعة المتقدمة، ورأس هذا الأمر كله وأنفه في التسليم، فإنه الدين كله، والإسلام الذي شرفنا الله به وجعلنا من أهله، ومن القائلين بفضله، والناضحين عن حوزته، والذابين عن حريمه، هو معقود بالتسليم، لكن ينبغي أن يكون التسليم والتفويض سابقين للنظر والجدال، والمراء والضلال، والحيرة في تناقض الأقوال، لأن التلاعب بحجج الله عز وجل، والأجتراء على عقول عباد الله عز وجل، ليس من سنن أنبياء الله، ولا من أدب أولياء الله تعالى، وقلما يظفر من المتكلمين بمتأله له حرقة من قد فاته مطلوب، أو توفي من قد حصل له يقين، هكذا شهدت من شهدت طوال هذا السنين بالعراقين والحجاز وفارس والجبال، ولولا الإطالة لسميت لك واحداً بعد واحد، وأنت بكل عارف، وعلى أحوالهم واقف.
وكان أبو حامد شديد الأزورار عن الخلاف، شديد القعة في أهله. وكان أدنى ما يقول فيهم: الفقهاء إذا قالوا: قال الإجماع، وأنعقد الإجماع، أنهم لا يرادون بهذا اللفظ، لأن الإجماع لا ينعقد بهم، والخلاف منهم لا يعتد به، وشريعة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي الحلال والحرام، والنظر في قواعد الأحكام، وتسليم ما غمض في هذه الفصول على الأفهام؛ وكان يقول أشياء غير هذا سأرويها لك.
وإنما أولع بذكر ما يقوله هذا الرجل لأنه أنبل من شاهدته في عمري، وكان بحراً يتدفق حفظاً للسير، وقياماً بالأخبار، وأستنباطاً للمعاني، وثباتاً على الجدل، وصبراً في الخصام.
ومن قبل ذلك أعود إلى العادة في نثر شيء من البصائر والنوادر، لئلا أكون خارجاً عما عقدت الكتاب عليه، وسقت ضماني إليه، ثم أذكر مسائل من فنون مختلفة، على قدر ما تم لي في الحفظ، وإذا وقع التمكن من جواباتها في الجزء الثالث ألممت بالبيان الشافي على وجه الأختصار، إن شاء الله تعالى.
قال بعض السلف: إذا صح العقل التحم بالأدب التحام الطعام بالجسد الصحيح، وإذا مرض العقل نبا عنه ما يسمع من الأدب، كما يقيء الممعود ما أكل من الطعام، وإن آثر الجاهل أن يتعلم شيئاً من الأدب تحول ذلك الأدب جهلاً، كما يتحول ما خالط جوف المريض من طيب الطعام داء.
وقال أيضاً: أحمد العقلاء من عقله عن صحة طبيعة، ورأيه عن سبب معرفة، وعلمه من قبل حجة، ومنطقه عن صدق مقال، وفعله عن حسن نية، وأدبه عن فضل رغبة، وعطاياه عن شجاعة غريزة، وأمانته عن عفاف، وأجتهاده في قصد سبيل.
وقال أيضاً: ثم وصل صحة الطبيعة بحسن العادة، وذكاء العقل بشدة الفحص، ونفاذ الرأي بدرك المنافع، وحسن المنطق بخير العرض، وحسن العمل بالفقه في الدين، وحسن الأدب بكثرة التعهد، وبث العطايا بصواب الموضع، وفضل الورع بفضل الحرية.
كتب بعض النساك إلى صديق له: أوصيك بتقوى الله العظيم، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما أدخرت، أعانني الله وإياك عليها، وأوجب لنا ولك ثوابها.
قال جعفر بن محمد: لأمير المؤمنين عليه السلام تسع كلمات أيمن جواهر الكلام، وأيتمن حقائق البلاغة، وقطعن أطماع المحاولين عن اللحاق بهن، ثلاث منها في المناجاة، وثلاث في الحكمة، وثلاث منها في الأدب؛ فأما اللواتي في المناجاة فقوله: إلهي، كفاني فخراً أن تكون لي رباً، وكفاني عزاً أن أكون لك عبداً، أنت لي كما أحب، فأجعلني لك كما تحب. وأما اللواتي في الحكمة فقوله: أمنن على من شئت فأنت أميره، وآحتج إلى من شئت فأنت أسيره، وأستغن عمن شئت تكن نظيره، وأما اللواتي في الأدب فقوله: قيمة كل امرىء ما يحسنه، والمرء مخبوء تحت لسانه، والناس أعداء ما جهلوا.
قال أعرابي: من طال رشاؤه، كثر متحه.
وقال أبو فرعون التميمي: قل من أجتلب حلف الزمان، إلا رمي بقدم الحدثان.
قال الرشيد: أربعة أشياء ممسوخة: أكل الأرز البارد، والقبلة على النقاب، والنيك في الماء، والغناء من وراء ستارة.
قال الماهاني: قيل لمجنون مرة: نكت أباك وأبوك وأبيك، فأطرق وقال: المسألة في هذا محال والصحيح نكت - بالنصب.
قال أبو زيد الحارثي لابنه: والله لا أفلحت أبداً، فقال له ابنه: لست أحنثك والله يابه.
حمل إلى معاوية مال فصب في صحن داره، وعلى رأسه خصي يذب عنه، فقال: يا سيدي، مر لي بكف مال، فقال: ويحك ما تصنع به؟ أن مت فتركته كويت يوم القيامة به؛ فقال: يا مولاي، إن كان هذا حقاً، ما يساوي جلدك يوم القيامة فلسين! فضحك معاوية وامر له بمال.
وقال صفعان: نحن معاشر الصفاعنة خلقنا حلماء، فإذا خرق علينا الجاهل لقيناه بالتغافل.
وسمعت ابن سيار القاضي يقول: الصفع على الريق أصلح من شربة سويق.
وسمعته يحكي قال، قال الجاحظ: دخلت الجامع ببغداد، فرأيت شيخاً مهيباً فجلست إليه وقلت له: أفدني رحمك الله مما علمك الله، قال: أكتب، إذا جاءتك الفسو فلا تحبسها ولو كنت بين الركن والمقام، قلت: زدني، قال: أستعمل الدهن مع البزاق وأستعن بهما على هذه العفاج الضيقة، قلت: زدني، قال: إذا كانت لك جارية فنكها من خلف ومن قدام حتى تكون كأنها جارية وغلام، قلت: زدني، قال: تمسك بهذه الثلاث وأنت لقمان الحكيم.
شاعر: الكامل
إن كنت تنشط للصبوح فيومنا ... يوم أغر محجل الأطراف
وأرى الغمامة في السماء مخيلة ... مسودة الأوساط والأكناف
طوراً تبلل بالرذاذ وتارة ... تمري عليك بدلوها الغراف
وانعم صباحاً وأتنا متفضلاً ... ودع الخلاف ولات حين خلاف
رفع إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في قصة أن غلاماً أخذ مع فتيان في صحراء، فوقع: ما السبيل على فتية خرجوا لمتنزههم، يقضون أوطارهم على قدر أخطارهم، ولعل الغلام ابن أحدهم أو قرابة بعضهم.
نظر أعرابي في سبع وعشرين من رمضان إلى الهلال فقال: الحمد لله الذي أنحل جسمك، كما أخمصت بطني.
قال الإسكندر: السعيد من لا نعرفه ولا يعرفنا، لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه، وأطرنا نومه.
قرىء على قدح: البسيط
اشرب على طرب من كف ذي طرب ... قد قام في طرب يسقي على طرب
قال ابن أبي طاهر: خلا المنصور بأبي أيوب المورياني وسلمة بن مجاهد وعبد الملك بن حميد كاتبه فقال: بمن تشبهونني من الخلفاء؟ فقال ابن حميد: أما أنا فأشبهك بعبد الملك بن مروان، فقال: ذاك شنأة الخلفاء وما أشبهه، قال: بالوليد، قال: ذاك لاعب، قال: بعمر بن عبد العزيز، قال: ذاك شديد الأنقطاع، قالوا: فيزيد، قال: ذاك ماجن، قالوا: فهشام، قال: بخ بخ وما أشبهه، فقالوا: فلا ندري بمن تشبه، قال: أشبه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
سمع هذه الحكاية أبو الفضل ابن العميد فقال: ما كان أحوج أبا جعفر عند هذا القول إلى من يسلح بيد يديه من أن يشبه عمر بن الخطاب، ثم قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت.
وأبو جعفر أكبر من ذاك، ولعل الحكاية موضوعة عليه، فآفة الأخبار كثيرة، والظنة إلى أهلها سريعة، وتخليص السقيم من الصحيح صعب، وقد دهي الناس في جميع وأتوا منها، كذاك الرافضي في رفضه، والحروري في تحكيمه، ومجال العقل فيها ضيق، وسلطانه عليها واه، ولسانه فيها كليل، وإنما الأمر في الأخبار موقوف على السابق في النفس، وعلى حسن الظن بالرواية، وعلى مخرج الكلام في التأويل، والكلام كله مصرف ومتعسف، ومتى تدبرت هذا الباب في صروف الدهر وحوادث الليالي، وجدته كما حكيته ورويته؛ نسأل الله عز وجل رب الأولين والأخرين ستر العورة، وإقامة العثرة، ومجانبة الهوى والمعصية، فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
قال الحكم بن هشام الثقفي: قيل لأبي حنيفة: أرأيت ما تقوله هو الحق بعينه؟ قال: والله ما أدري، لعله الباطل بعينه. هذا مما كنا فيه.
وقال أحمد بن أبي طاهر: رفع رجل رقعة إلى المنصور يسأله فيها بناء مسجد في محتله، فوقع على ظهر رقعته: من شرائط الساعة كثرة المساجد، فزد في خطاك تزدد في الثواب.
كيف ترى كلام هذا الإمام؟ تعجب ففيه متعجب، ومن أين له أن كثرة المساجد من شرائط الساعة؟ أفقلة المسجد من شرائط بعد الساعة أم ماذا؟ اللهم غفراً. ولعل الخبر من الضرب المعمول، والقول المنحول؛ حرس الله تعالى سرائرنا عن مقت الأئمة، وعداوة الصالحين، والأعتراض على السلف الطيب.
شاعر: الكامل
عند الملوك مضرة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضر وتنفع
إن العروق إذا استسر بها الثرى ... أندى النبات بها وطاب المزرع
وإذا جهلت من امرىء أعراقه ... وقديمه فأنظر إلى ما يصنع
أظن أني رويتها لبشار، ثم ذهبت عني، وقد رواها أبو عثمان الجاحظ في كتاب الإبل.
قال الربيع بن خثيم: إن الله علم علماً فعلمكم منه شيئاً وأصطفى لنفسه ما لستم بنائليه ولا بمسؤولين عنه، وما علمكم من علمه فعنه تسألون، وبه تجزون.
هذا فصل نافع وكلام شريف، وفي تتبعه وتدبره إرشاد وهدى وسلوان.
أنشد أبو محلم: الوافر
غلام وغى تقحمها فأبلى ... فخان بلاءه الزمن الخؤون
فكان على الفتى الإقدام فيها ... وليس عليه ما جنت المنون
زعم بعض أصحابنا أن أبا تمام من ها هنا أخذ قوله: الطويل
لأمر عليهم أن تتم صدوره ... وليس عليهم أن تتم عواقبه
ما أكثر أن يقال: أخذ فلان من فلان، وأغار فلان على فلان، والخواطر تتلاقى وتتواصل كثيراًن والعبارة تتشابه دائماً، ومن عرف خواص النفس وقوى الطبيعة وأسرار العقل لم يستنكر توارد لسانين عل لفظ، ولا تسانح خاطرين على معنى حاضر، وباطنه ظاهر.
قال أبو ذكوان: سمعت الثوري يقول: سأل أعرابي فقال: داووا سقمي بصحتكم، أي فقري بغناكم. الغنى مقصور، والغناء - ما يسمع - ممدود.
ونظر أعرابي إلى رجل جالس على ماء غدير يرمي فيه الدنانير، فقال: يا هذا، لقد أراحتك النعمة وأتعبتها.
قال المهلب: ما رأيت أحداً بين يدي قط إلا أحببت أن أرى ثيابي عليه، وأعلموا يا بني أن ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم.
قال العتبي: رأيت أعرابياً وقد دفن ابناً له، فلما حثا عليه التراب وقف على شفير قبره فقال: يا بني، كنت هبة ماجد، وعطية واجد، ووديعة مقتدر، وعارية متفضل، فأسترجعك واهبك، وقبضك مالك، وأخذك معطيك، فألحفني الله عليك الصبر، ولا حرمني بك الأجر. ثم قال: أنت في حل وبل من قبلي، والله أولى بالتفضل عليك مني، ثم أنشأ يقول: الكامل
نفسي ونفسك والنفوس معارة ... يدعو بها إما يشاء معيرها
فلئن ذهبت فقد ذهبت ومقلتي ... صبابة يجري عليك غزيرها
فعليك من منح الإله صلاته ... وسقى عظامك في الضريح عبورها
تقدم رجل وامرأته إلى أبي ديشة القاضي فقال الزوج: لي عليها - أيد الله القاضي - ألف درهم، فقال القاضي: ما تقولين رحمك الله؟ فقالت: يسخر بك أيها القاضي، فنظر إلى الرجل مغضباً، فقال الرجل: أصلح الله القاضي لا تصدقها، فإنك لو عرفتها حق معرفتها ابزقت في استها.
يقال في كلام العرب: ذهبت بلة الشباب.
ويقال: بينهم نوى أي مناوأة، وذربت معدته أي فسدت.
ويقال: لئن بللت منه لتبلن بما يسوؤك، أي إن صادقته.
ويقال: الخرص برد مع ندى، والخصر برد بلا ندى.
ويقال: لا أدخل قريعة بيت أي وسطه، وفلان قريع قومه أي رئيس، كأنه واسطة بينهم يفزعون إليه من كل جانب.
ويقال: مصر فلان خيره إذا قلله.
ويقال لقوائم الدابة الشوى، والشواة: جلدة الرأس، وشوى اللحم شياً وأنشوى هو، وهذا أمر شوى أي هين، ورماه فأشواه أي أصاب غير مقتله.
ذكرت في هذا المكان شيئاً حدثنا به ابن الجعاني، وكان حافظاً متقدماً، وشاهدته سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة قال: كان لنا جار يؤم بنا، فقرأ يوماً " نزاعة للشوى " المعارج: 16 بكسر الشين.
وروى أيضاً عن الباغندي أنه قرأ على أصحاب الحديث " وكل شيء فعلوه في الزبر " القمر: 52: في الدبر، فقالوا له: ما هذا؟ فقال: الباء منقوطة. وزادنا بعض أصحابنا فيه شيئاً قال: زعم الباغندي لما حاجهم أن الذي يدل على أنه بالباء أن السورة فيها مقعد.
وهذا من النوادر مضحك معجب من شيخ سرى ثوب شبابه ولبس خلع الإمام، فكان هذا فائدته. وأصحاب الحديث لا يبرؤون من مثل هذا، وقد شبهوا بحاطب ليل.
ويقال: فلان حسن سنة الوجه، والوجه المسنون: الذي فيه انصباب وأنخراط، وسن الماء على وجهه إذا صبه، وأستنت الإبل على وجه، وسن فاه: إذا استاك بالسنون - بفتح السين.
ويقال: ما تمالك عن كذا أن وقع فيه، أي ما تماسك. وفلان في سر قومه أي في خالصتهم، وهذا سرارة الوادي أي وسطه، وسري عن المريض أفاق، وكذلك الغضبان، وتسرى فلان: تزوج سرية، وسرى ثوبه: ألقاه، وفلان يقرد بعيره ويحمله أي ينزع قردانه وحلمه، ونضج الثمام إذا سال شيء منه كالعسل، وهذا من حديث الملاحم أي الفتن. والعقار: أصل الدار، والعقار: الخمر، والعقر: المهر، والعاقر: التي لا تلد. وحم الأمر أي قضي، وأحمني أي أقلفني. وما نحن إلا في رجيع من القول أي مردود، وألقى عصاه أي أقام، قال الشاعر: الطويل
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
ومر فلان يعتصي على عصاً أي يتوكأ عليها، وعصاه أي ضربه بالعصا. والعصا من العصية أي بعض الأمر من بعض؛ هذا كله عن الأصمعي.
قال أرسطاطاليس: سوء العادة كمين لا يؤمن وثوبه.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: خلتان ليس معهما غربة: حسن الأدب وتجنب الريب.
شاعر: الطويل
فتى لا تراه الدهر إلا مشمراً ... ليدرك مجداً أو ليرغم لوما
تبسمت الأموال عن طيب ذكره ... وإن كان يبكيها إذا ما تبسما
وقال علي رضي الله عنه لرجل حروري: نوم على يقين خير من صلاة على شك.
دخل ابن عباس على بعض الأنصار في وليمة لهم فقاموا له، فأستحيى من ذلك وقال: بالإيواء والنصر إلا جلستم.
حكى هذا ابن كعب الأنصاري، وكان أديباً متكلماً، جاحظياً حافظاً، وكان يذهب مذهب ابن الإخشيد.
نظرت امرأة إلى شعرة بيضاء في رأس زوجها فقالت له: ما هذا؟ قال: رغوة الشباب.
قال رجل لسفيان بن عيينة: ما بال قريش كانت يتعلم بعضها من بعض المثالب؟ قال: تعلموها لينتهوا عنها.
قال الغاضري: أعطانا الملوك الآخرة طائعين، وأعطيناهم الدنيا كارهين.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الحسن البصري: أعني بأصحابك، فأجابه الحسن: من كان من أصحابي ييد الدنيا فلا حاجة لك فيه، ومن كان منهم يريد الآخرة فلا حاجة له قبلك، ولكن عليك بذوي الأحساب، فإنهم إن لم يتقوا استحيوا، وإن لم يستحيوا تكرموا.
صدق والله الحسن، وكان صدوقاً، وقد رأيت من توقى بحسبه ما لم يتوقه ذو الورع بورعه.
قال فيلسوف: إذا غلب الهوى العقل صرف محاسن خصاله إلى المساؤى، فجعل الحلم حقداً، والعلم رياء، والعقل مكراً، والأدب فخراً، والبيان هذراً، والجود سرفاً، والقصد بخلاً، والعفو جبناً. وإذا بلغ الهوى من صاحبه هذا المبلغ تركه لا يرى الصحة إلا صحة جسده، ولا العلم إلا ما استطال به، ولا الغنى إلا في كسب المال، ولا الذخر إلا في أتخاذ الكنوز، ولا الأمن إلا في قهر الناس، وكل ذلك مخلف في الظن، مباعد من البغية، مقرب من الهلكة. وإذا غلب العقل الهوى صرف المساوىء إلى المحاسن، فجعل البلادة حلماً، والحدة ذكاء، والمكر عقلاً، والهذر بلاغة، والعي صمتاً، والعقوق أدباً، والجرأة عزماً، والجبن حذراً، والإسراف جوداً.
شاعر: الكامل
قوم شراب سيوفهم ورماحهم ... فيكل معترك دم الأشراف
رجعت إليهم خيلهم بمعاشر ... كل لكل جسيم أمر كاف
يتحننون إلى لقاء عدوهم ... كتحنن الألاف للألاف
ويباشرون ظبى السيوف بأنفس ... أمضى وأقطع من ظبي الأسياف
ضريت على سفك الدماء نفوسهم ... وأكفهم ضريت على الإتلاف
وعروا من العار المدنس مثل ما ... عريت مواعدهم من الإخلاف
جعلوا الطعان محللاً لوجوههم ... ومحرماً منهم على الأكتاف
فإذا هم صدموا العدو بصارم ... خضبوا الأسنة من دم الأجواف
فسيوفهم تفني نفوس عداتهم ... وعطاؤهم يفني سؤال العافي
جاء الجماز إلى صديقة له فوجد بابها قد أغلق، فقال لها: افتحي، قالت: لا يمكنني، قال لها: فقبليني من خلف الباب، فأدارت استها إليه، فلما قبل فقحتها فست، فقال لها: سيدتي، تعشيت بكرش! كان لطاهر بن الحسين جارية اسمها السكون، فواعدها الزيارة ثم غفل عنها، وكانت حلقت ونتفت وتهيأت، فكتبت إليه رقعة عنوانها: الخفيف
للأمير المظفر الميمون ... ذي اليمينين طاهر من سكون
وفي الرقعة: الوافر
ألا يا أيها الملك الهمام ... لأمرك طاعة ولنا ذمام
حلقنا للزيارة وانتظرنا ... ولم يك غير ذلك والسلام
فأعجبه ذلك منها ودعا بها.
تزوج صدقة بن سليمان امرأة من كلب، فلما ضاجعها لمسها بيده فقال: إنك لمهزولة، فقالت: الهزال أولجني بيتك.
وقالت ابنة الخس في النيك: الأول داء، والثاني دواء، والثالث شفاء، والرابع نفسي له الفداء.
قيل لرؤبة: ما عندك للنساء؟ قال: أطيل الظمء ثم أورد فأقصب، والقاصب: الذي لا يشرب إلا تمزازاً.
قيل للحطيئة: ما أنكرت من نفسك؟ قال: نومي في الملاء. ويقظتي في الخلاء.
قال أبو إسحاق السبيعي لقثم بن العباس بن عبد المطلب: كيف ورث علي بن أبي طالب عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم دونكم؟ قال: إنه كان أولنا به لحوقاً، وأشدنا به لزوقاً.
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أخبرنا عن أيام جاهليتك، قال: ما داعبت أمة، ولا جالست إلا لمة، ولا دأبت إلا في حمل جريرة، أو خيل مغيرة، وأما أيام الاسلام فكفى برغائها منادياً.
قيل لابنة الخس: أي الهنين أحب إليك؟ قالت: الشديد عتره، والقليل قطره، البطيء قره، الصغير ضمره، العظيم نشره، في عيس جمل، في حر كبش، في رهز كلب، في حقو رجل.
أنشد لمضرس بن ربعي الأسدي: الطويل
وليس يزين الرحل قطع ونمرق ... ولكن يزين الرحل من هو راكبه
كأن الفتى لم يحي يوماً إذا جرى ... على قبره هابي التراب وحاصبه
قال السكري عن الرياشي عن العتبي عن أبيه قال، كان يقال: إذا كانت محاسن الرجل أكثر من مساويه فذلكم الكامل، وإذا كانتا متعادلتين فذلكم المتماسك، وإذا كانت المساوىء أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك.
قال ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، قال: قال عبد الله بن جعفر: كمال المرء بخلال ثلاث: معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالفة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة؛ فذو الثلاث سابق، وذو الأثنتين راهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم يكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق.
قال ابن دريد عن الرياشي عن العتبي، قال: من كلام البغاء: الإنصاف راحة، والإلحاح وقاحة، والشح مشنعة، والتواني مضيعة، والصحة بضاعة، والحرص مفقرة، والرياء محقرة، والبخل ذل، والسخاء قربة، واللؤم غربة، والذل استكانة، والعجز مهانة، والعجب هلاك، والصبر ملاك، والقصد مثراة، والسرف مهواة، والعجلة زلل، والإبطاء ملل، والحقد سخيمة، والصفح غنيمة، والوفاء كيل، والهوى ميل، والحلم عز، والحكم كنز، والعلم حلة زين، والعقل قرة عين، والجهل حيرة حين.
أنشد ابن دريد عن الأشنانداني لأعرابي: الكامل
إن كنت تجعل من حباك بوده ... ظهر البعير فثق بأنك عاقره
من ذا حملت عليه كلك كله ... إلا اشمأز وظن أنك حاقره
كلف جوادك ما يطيق فبالحرى ... أن تستقل بما تطيق حوافره
السكري عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، قال: رأيت صبية تقود أباً لها ضريراً وهو يقول: يا بنية شيمي السماء، فقال له: يا أبة كأن كسف السحاب فيها نوافر خيل تجر جلالها، ثم مشى قليلاً وقال لها: تأملي السماء كيف هي، فقالت: كأنها إبل شوارد همت بالانصرام، فمشى قليلاً ثم قال لها: أبصري السماء، فقالت: كأنها بطن عير أصحر، فمشى قليلاً ثم قال لها: توسمي السماء، فقالت: كأنها عين بعير تنطف، فقال لها: أوضعي قبل أن ترخي عزاليها.
وقال السكري عن الرياشي عن العتبي: رأيت أعرابياً يقول لأخيه: هل لك أن ننتجع أحساء رملات نجد علنا نجد بها رياً، فقال له الآخر: ذاك مطلب لا ينال إلا بشق وبعد، ولعل المحلىء عنه يذود الحوم منه.
السكري عن أبي حاتم عن الأصمعي، قال: وصف أعرابي ناقة فقال: تقطع الأرض عرضاً، وترض الحجارة رضا، وتنهض في الزمام نهضاً، سريعة الوثوب، بطيئة النكوب، مدلاج سروب.
السكري عن الأصمعي قال: قالت أعرابية لزوجها: أنحن أنعم عيشاً أم بنو مروان، فقال: هم أطيب طعاماً منا، ونحن أردأ كسوة منهم، وهم أنعم منا نهاراً، ونحن أظهر ليلاً.
وبإسناده أنشد أبو عمرو بن العلاء: الطويل
يطيل قصير الليل بالسوس عاذل ... وأنى يقص الجود قادمتي وفري
ومستنور والليل يطفىء ناره ... وماء كراه بين أعيننا يجري
قدحت له ناري فبات كأنه ... يساير قرن الشمس صبحاً وما يدري
ثنيت له مسك الجزور موسداً ... وما لي وساد غير أمسكة الجزر
وصارعت عنه الجوع بابنة ملة ... يشيعها أبناء طابخة القدر
وقمت بملء القعب من درة التي ... نحرت له حتى توسد بالسكر
فبات صريع الشبع والري نائماً ... وبت أرى في وجهه ناطق الشكر
قال ثعلب، قال ابن الأعرابي عن الفضل: تكلم صعصعة عند معاوية فعرق، فقال معاوية: بهرك القول، فقال صعصعة: إن الجياد نضاحة للماء.
قال ثعلب، قال ابن الأعرابي عن المفضل الضبي، قال: قال الأحنف بن قيس: السخاء والبخل في الطعام لا في المال.
وبهذا الإسناد قيل لبعض البخلاء: ما أجل الطعام؟ قال: ما أمسك الرمق.
السكري عن الزيادي عن الأصمعي، قيل لأعرابي: إنك لكذوب خوار، فقال: والله لأنا أصدق من قطاة، وأصلب من صفاة.
قال الأصمعي: سئل عبيد الله بن عتبة عن الفصاحة فقال: دنو المأخذ، وقرع الحجة، وقدح المراد، وقليل من كثير.
قال السكري: حدثني صديق لي قال: اشتريت جارية فلما خلوت بها فترت، فجعلت تعضني وتعبث بي، فلما رأته لا يتحرك قالت: يا مولاي ليس هذا من عملي، هذا من عمل المسيح عليه السلام.
المبرد عن التوزي عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: قال أكثم بن صيفي لبعض ولده: يا بني، الغنى أنفع، والسلطان أرفع، والعدو أمنع، والعافية أوسع.
وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأنصار إلى بعض ملوك العجم يدعوه إلى الإسلام، فقدم عليه في وقت ثمار بلاده، فجعل يدور به في بساتينه ويريه عجائب ثمارها ويقول: يا عمري، هل رأيت مثل هذا قط؟ ولم يبق له ثمرة إلا أراه إياها، فقال الأنصاري له: عندنا شجر ينبت على ساق، فمنها ما يناله القاعد، ومنها ما يبسق فيرتقى إليه، إذا كان إبان حملها خرج فيها مثل آذان الحمر، ثم لم ينشب أن ينشق عن مثل اللؤلؤة، ثم لا ينشب أن يصير مثل الزمرد الأخضر، ثم لم ينشب أن يصير مثل الياقوت الأحمر والأصفر، ثم لا ينشب أن ييبس فيصرم فيدخر، فمنه طعام المقيم، وزاد المسافر، وتحفة الصبي إذا بكى، فقال الأعجمي: إن كنت صادقاً فهذه الشجرة التي أهبط بها آدم من الجنة، وأهلها الذين يغلبون على شرق الأرض وغربها.
قال أبو العيناء: رأيت جارية في النخاسين وهي تحلف أن لا ترجع إلى مولاها، فقلت لها: ما له؟ قالت: يا سيدي، ينيكني من قيام ويصلي من قعود، ويشتمني بإعراب ويلحن في القرآن، ويصوم الأثنين والخميس ويفطر شهر رمضان، ويصلي الضحى ويترك الفجر.
العرب تقول: قد أعور الثغر، إذا لم يكن فيه حافظ.
أنشد الأصمعي لحسان: الرمل
آذنت شعثاء صرماً فابتكر ... إنما يدهن ذو القلب الحصر
سألت حسان من أخواله ... إنما يسأل بالشيء الغمر
رب خال لي لو أبصرته ... سبط الكفين في اليوم الخصر
قال ابن المعتز: كان أحمد بن علي الإسكافي عنيناً، فراود امرأة عن نفسها فلما أمكنته عجز، فقام مشيطاً وأخذ السكين ليقطع ذكره، فقالت له الماجنة: لا تفعل يا سيدي، دعه تبول فيه.
طالب مزبد امرأته من خلف فأمكنته، ثم طالبها أيضاً فقالت له: أذكر أنك اليوم تنيك وحدك.
قال بعض الحكماء: إساءة المحسن أن يمنعك جداواه، وإحسان المسيء أن يكف عنك أذاه.
وقال فيلسوف: تأميل الناس خيرك، خير لك من خوفهم نكالك.
قال فيلسوف: كما يتوخى بالوديعة أهل الثقة والأمانة، فكذلك ينبغي أن يتوخى بالمعروف أهل الوفاء والشكر.
وقال أعرابي: الرزق الواسع لمن لا يستمتع به بمنزلة الطعام الموضوع على فبر.
كاتب: القلم صائغ الكلام، يسبك ما يفرغه القلب، ويصوغ ما يجمعه اللب.
قال سهل بن هارون: الدواة منهل، والقلم ماتح، والكتاب عطن.
كاتب: شددت بعنايتك ظهري، وسطوت بك على دهري، وحاربت بك الزمان بعد الأستسلام، وأرهبته بعد الرهبة منه، فلا زال معادياً، ولا زلت لي عليه معدياً.
قال أعرابي: أعيمتني والضرع حافل، وأقرمتني وأنت لاحم.
أنشد ثعلب: الطويل
رأيت اليراع ناطقاً عن فخاركم ... إذا هرمت أثباجه وتعبنا
ونحن أناس ينطق الصبح دوننا ... ولم تر كالصبح الجلي مبينا
أي فخركم كالريح في الزمر؛ كذا قال ثعلب.
شاعر: الكامل المجزوء
يا هذه الجبل الأش ... م وضيقة الباع الرحيب
كم أعين ذرفت علي ... ك وأوجعت بك من قلوب
ما أشرقت بك شمسنا ... حتى تدلت للغروب
إن المنون إذا انتضل ... ن رمين بالسهم المصيب
كان ابن الكعبي يعجب بهذه الأبيات، والبيت الأخير شقيق قول أبي يعقوب الخريمي: الطويل
وأعددته ذخراً لكل ملمة ... وسهم المنايا بالذخائر مولع
والقصيدة غراء، وإن فسحت بالك وزدت في نشاطك رويتها لك، وإنما لقطت قصار الألفاظ من هذه البصائر والنوادر لتكون بالقلب أعلق، وإلى الحفظ أسبق.
قال فيلسوف: هيبة الزلل تورث حصراً، وهيبة العافية تورث جبناً.
قال أعرابي: لا ينبغي لأحد أن يدع الحزم لظفر ناله عاجز، ولا يرغب في التضييع لنكبة دخلت على حازم.
قد نطق بالصواب هذا الأعرابي، لأنك متى أضعت الحزم اتكالاً واسترسالاً، جانبت الرشد، وجريت في عنان الغي، وكنت أحد لوام نفسك، وعاذلي رأيك، ومتى أخذت بالحزم ظفرت، فإن لم تظفر لم تقطع نفسك باللوم. على أن ظفر العاجز لم يكن عن تكلف العجز، ولا نكبة الحازم عن اختيار الحزم، ولكن جرياً بالعجز والحزم على ما كانا واقعين عليه، ومصروفين إليه، لأنهما متحركان بمحرك، ومتصرفان بمصرف: الحازم غير مدرك ما ليس له، والعاجز غير محروم مما له، وإنما سعى الساعي وأجتهد المجتهد وكدح الكادح لأنه معلل بالتأميل، ومؤمل بالتعليل، والغاية مقصودة ولكن بالجهد، وكذلك قعد القاعد واستسلم المستسلم وأمسك الممسك لأنه يعلل بالتأميل، ويؤمل بالتعليل، وهو شريك صاحبه في آخر الحساب، وإن باينه في أول العمل.
وكان أبو أحمد الجرجاني القاضي يقول: أهل الدنيا بين تأميل بتضليل، وبين تعليل بتسويل، وهذه أخلاق العالم وأعراقه، وعليه سوسه وطباعه، ولن يحول عن جوهره بكراهة كاره، وغضب غاضب.
الحديث يتدافع كما ترى، وقد أنشأت هذا الكتاب على رواية ما حصلت، لأنه ثمرة العمر، وزبدة الأيام، ووديعة التجارب، وفي حفظ مضمونه، واعتبار ما اجتمع فيه، تبصرة من العمى، وتذكرة من العي، والنجاة من الله عز وجل إنما تكون بالله، والأولى بالمرء اللبيب، والحازم المميز، الأنقطاع إليه، والإناحة بين يديه، فإنك متى دبرت نفسك، وأملت لها، وسقت الأماني إليها، لم تتجاوز حدك من العبودية، لأنك عبد، متى أسلمت وجهك، وخنست من حولك إليه، برك بلطفه، وصرفك بإلهيته، لأنه إله، فهو خير لك منك لنفسك، لأنه أولك وآخرك، ولو كنت أولك، أو رجوت أن تكون آخرك، أو صرفت فيما بين طرفيك نفسك، كان لهربك منه وجه، ولإعراضك عنه تأويل، فأما وأنت محبوس في ملكه، مقيد بحكمه، مرتبط بعلمه، مراد بمشيئته، ملحوظ بعينه، محفوظ بعونه، فلا.
وأنشد لعقيل بن علفة: البسيط
تعجبت أن رأت رأسي تجلله ... من الروائع شيب ليس بالكبر
ومن أديم تولى بعد جدته ... والجفن يخلق فوق الصارم الذكر
يقال خلق الشيء وأخلق بمعنى، هكذا قال يونس في كتاب اللغات وقرأته على أبي سعيد السيرافي، وكأن خلق إذا لزمته الخلوقة ونبا عن الجدة، وهو يجري فيه كالصفة الحالة والنعت المصحوب، وكأن أخلق أخذ في الخلوقة وأمكنها من نفسه، كقوله أقطف العنب أي أخذ في إمكان قاطفه من نفسه، أي آن له أن يقطف، وكذلك أركب المهر.
أهدى جعفر بن سليمان إلى المهدي جارية فقال لها المهدي: أكان من جعفر إليك شيء؟ فكرهت أن تقول لا فتكذب، أو تقول نعم فتهجن، فقالت: كان شيء ينبغي أن يعاد عليه، فأستحسن كلامها ومال إليها.
مرت امرأة يقال لها قرة بماجن، فقال لأصحابه: بارك الله على من حشا هذه، لقد جود حشوها، فقالت المرأة: إن كان قد أعجبك هذا الحشو فابعث بامرأتك إلى من حشاني حتى يحشوها، فخجل الرجل وندم على مجونه.
وللنساء جواب مخوف، وإنما خيف المخنث لأنه يشبه بهن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود: لا تسبوا قريشاً فإن عالمها يملأ؟ الأرض علماً، اللهم أذقت أولها نكالاً، فأذق آخرها نوالاً.
لا يعجبك رحب الذراعين بالذم، فإن له عند الله قاتلاً لا يموت، ولا يعجبك امرؤ كسب مالاً من حرام، فإنه إن أنفق لم يتقبل منه، وإن أمسك لم يبارك له فيه، وإن مات وتركه كان زاده إلى النار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك: أحسنوا جوار نعم الله ولا تنفروها، فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم.
قرأت لكاتب: والنعم تألف أهلها ما أحسنوا جوارها، وشكروا معيرها، فالله عز وجل يحب الصابرين، ويزيد الشاكرين.
قيل لفيلسوف: ماذا غنمت من الحكمة؟ فقال: أن صرت كالقائم على الشط أنظر إلى آخرين يتكفأون بين أمواج البحر.
وأنا والله أجد بهذا الكلام وأرتاح إليه، وأراه من الحكم اليتيمة، والكلم المحتومة؛ نسأل الله تعالى ألا يجعل حظنا من الحكمة ونصيبنا من الموعظة الإعجاب بها دون المصير إلى حقها، والقيام بواجبها.
قال فيلسوف: الأعداء يعيرون المرء بمساويه فيرعوي عنها، والأصدقاء يستحيون أن يستقبلوه بها فيتمادى فيها.
قال أعرابي: الإفراط في النصيحة يهجم بك على كثرة الظنة.
قال رجل لابن ماسويه: إني أشكو إليك قصوري عن الباه، أي الجماع، فقال له: عليك بالشراب والكباب وشعر أبي الخطاب - يعني عمر بن أبي ربيعة، لغزله.
قال طبيب العرب الحارث بن كلدة: من أحب أن لا يولد له فليدهن حشفته عند الجماع بدهن.
أنشد جحظة: المتقارب
ولي صاحب زرته للسلام ... فقابلني بالحجاب الصراح
وقالوا تغيب عن داره ... لخوف غريم ملح وقاح
ولو كان عن داره غائباً ... لأدخلني أهله للنكاح
أستأذن جحظة على صديق له مبخل، فقال غلمانه: هو محموم، فقال: كلوا بين يديه حتى يعرق.
قال ثمامة: قال لي مجنون مرة: أنت تزعم أن الأستطاعة إليك؟ قلت: نعم، قال: فإن كنت صادقاً فاخرأ ولا تبل.
قال جحظة: سأل رجل رجلاً عن جارة له أراد أن يتزوجها، فقال: إن كنت تريدها خالصة لك من دون المسلمين فلا تطمع.
قيل للفرزدق: أي الشراب أحب إليك؟ قال: أقربه من الثمانين.
قال جحظة: أكلت مرة مع بخيل، فقال لي: يا هذا، ما رأيت أذل من الرغيف في يدك.
قال إسحاق الموصلي: ما جمشت الدنيا بأطيب من شرب النبيذ، ولا عوتبت بأظرف من الغناء.
قال السدي للجماز: ولد لي البارحة مولود كأنه دينار منقوش، فقال له الجماز: لا عن أمه ويحك! فبلغت النادرة أبا العيناء فقال: بودي أنها لي بجميع ما قلته.
وأنشدت لجحظة: الطويل
ولي كبد لا يصلح الطب سقمها ... من الوجد ما تنفك دامية حرى
فيا ليت شعري والظنون كثيرة ... أيشعر بي من بت أرعى له الشعرى
وقال الجماز: اجتزت في طريق فإذا قيان ملاح، فقلت وقد زحمتهن: الخفيف حمل الله بعضنا فوق بعض فقالت واحدة: عاجلاً في دوام عيش وخفض كان إبراهيم بن العباس الصولي بخيلاً على الطعام، فجلست معه جارية في بعض الأيام على المائدة والخبز مفرق، فقالت: يا سيدي، إبراهيم بن ميمون صديق لك؟ قال: نعم، وما سؤالك عنه؟ قالت: أستعير منه بغلاً من بغال البريد أدور عليه خلف هذا الخبز، فخجل وغير الرسم.
سمعت أبا حامد المروروذي يقول، كان المزني يقول، قال الشافعي رضي الله عنه: آفة المتعلم الملل في قلة صبره على الدرس؛ وقال: الملول لا يكون حافظاً.
وكان أبو حامد يقول: سبيل الحدث أن يدرس، وسبيل الشاب أن يتفهم، وسبيل الكهل أن يناظر، وسبيل الشيخ أن يعلم.
وسمعته يقول لأبي طاهر العباداني، وكان يتصوف ويتفقه: لا ينبغي أن تصحب ثلاثة: الجندي والعلوي والصوفي؛ أما الجندي فإنه يقول: لولا جاهي وعزي لطلبك السلطان؛ وأما العلوي فإنه يقول: متى شئت بعتك، أنت ومالك لي، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأنا وارث النبي؛ وأما الصوفي فإنه يقول - وقد أنفقت عليه جهدك - : من أنت؟ بهذا كله أمرتم.
وسمعت أبا حامد يقول، سمعت يحيى بن حرملة يقول، قال الشافعي رحمه الله، قال لي بشر المريسي: لوددت أنا لم نرد عليك الشاهد واليمين، وأنك لم تخرج عيوبنا.
يقال: الباضع الريان، والشاهد عليه: الطويل
ألا ليت لي من وطب أمي شربة ... تشاب بماء من صبيح فأبضع
أي أروى. وبضع أي قطع، والبضعة: القطعة من اللحم، والباء مفتوحة، فأما بضع سنين فالباء مكسورة، وهي سنون دون العشرة وفوق الخمس؛ وملك فلان بضعها أي حل له نكاحها، ومنه سمي المبضع وجمعه المباضع، والبضاعة لأنها قطعة من المال؛ والبضاع: الجماع؛ قال أبو حنيفة صاحب النبات: وحب القلقل مهيج على البضاع، بكسر القافين.
سمعت ابن قريعة القاضي يقول: رفع إلى السلطان صبي قد افتض صبية، فقال الوالي: انظروا هل نبت قضيبه؟ فقالوا: لم ينبت بعد، وقضيبه صغير لا يفتض مثله جارية، فقالت الصبية: ما هكذا كان، قولوا له ينفحه كما كان، هكذا حكي، والنادرة في قلب الخاء إلى الحاء.
وسمعت ابن قريعة أيضاً يقول: خرجت جارية في جنازة مولاها فأرادت أن تقول: واحزناه، فلم يطاوعها لسانها، فقالت: واخراه، فأخذ الناس الضحك.
كان السلف يقولون: ذهب أهل الدثور بالأجور.