كتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
{ إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } شديدةً ذات صوتٍ { في يوم نحس } شؤمٍ { مستمر } دائم الشُّؤم .
{ تنزع الناس } تقلعهم من مواضعهم { كأنهم أعجاز نخل } أصول نخلٍ { منقعر } مُنقطعٍ ساقطٍ ، شُبِّهوا وقد كبَّتهم الرِّيح على وجوههم بنخيل سقطت على الأرض .
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
{ كذبت ثمود بالنذر } جمع نذير . وقوله :
{ إنا إذاً لفي ضلال } ذهابٍ عن الصَّواب { وسعر } جنون .
{ أألقي الذكر عليه من بيننا } أنكروا أن يكون مخصوصاً بالوحي من بينهم . { بل هو كذَّاب أشر } بَطِرٌ يريد أن يتعظَّم علينا . قال الله تعالى :
{ سيعلمون غداً } عند نزول العذاب بهم { من الكذاب الأشر } .
{ إنا مرسلو الناقة } مخرجوها من الهضبة كما سألوا { فتنة لهم } محنةً لهم لنختبرهم { فارتقبهم } انتظر ما هم صانعون { واصطبر } .
{ ونبئهم أنَّ الماء قسمة بينهم } بين ثمود والناقة غِبَّاً؛ لهم يومٌ ، ولها يومٌ { كلُّ شرب } نصيبٍ من الماء { محتضر } يحضره القوم يوماً ، والنَّاقة يوماً .
{ فنادوا صاحبهم } قُدَاراً عاقر الناقة { فتعاطى } تناول النَّاقة بالعقر فعقرها .
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
{ كهشيم المحتظر } هو الرَّجل يجعل لغنمه حظيرةً بالشَّجر والشَّوك دون السِّباع ، مما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيمُ .
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
{ إلاَّ آل لوط } أَي : أتباعه على دينه من أهله وأُمَّته . { نجيناهم } من العذاب { بسحر } من الأسحار ، كقوله : { فأسر بأهلك . . . } الآية .
{ نعمة من عندنا } عليهم بالإنجاء { كذلك } كما جزينا لوطاً وآله { نجزي مَنْ شكر } آمن بالله وأطاعه .
{ ولقد أنذرهم } خوَّفهم لوط { بطشتنا } أخذنا إيَّاهم بالعقوبة { فتماروا بالنذر } كذَّبوا بإنكاره شكَّاً منهم .
{ ولقد راودوه عن ضيفه } سألوه أن يُخلِّي بينهم وبين القوم الذين أتوه في صورة الأضياف ، وكانوا ملائكةً { فطمسنا أعينهم } أعميناها ، وصيّرناها كسائر الوجه ، وقلنا لهم : { فذوقوا عذابي ونذر } .
{ ولقد صبحهم بكرةً } جاءهم صباحاً { عذابٌ مستقر } ثابتٌ؛ لأنَّه أفضى بهم إلى عذاب الآخرة .
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
{ ولقد جاء آل فرعون النذر } الإنذار على لسان موسى وهارون عليهما السَّلام .
{ كذبوا بآياتنا } التِّسع { كلها فأخذناهم } بالعذاب { أخذ عزيز } قويٍّ { مقتدر } قادرٍ لا يعجزه شيء . ثمَّ خاطب العرب فقال :
{ أكفاركم خيرٌ من أولئكم } الذين ذكرنا قصَّتهم { أم لكم براءة } من العذاب { في الزبر } الكتب تأمنون بها من العذاب .
{ أم يقولون } كفَّار مكَّة : { نحن جميع منتصر } جماعةٌ منصورون .
{ سيهزم الجمع } أَي : جمعهم { ويولون الدبر } ينهزمون فيرجعون على أدبارهم ، وكان هذا يوم بدرٍ .
{ بل الساعة موعدهم } للعذاب { والساعة أدهى وأمر } أشدُّ أمراً وأشدُّ مرارةً ممَّا يلحقهم في الدُّنيا .
{ إنَّ المجرمين في ضلال } في الدُّنيا { وسعر } نارٍ في الآخرة .
{ يوم يسبحون } يجرُّون { في النار على وجوههم } ويقال لهم : { ذوقوا مسَّ سقر } إصابة جهنَّم إيَاكم بالعذاب .
{ إن كلَّ شيء خلقناه بقدر } أَيْ : كلُّ ما خلقناه فمقدورٌ مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ ، وهذه الآيات نزلت في القدرية الذين يُكذِّبون بالقدر .
{ وما أمرنا } لشيءٍ إذا أردنا تكوينه { إلاَّ واحدة } كلمةٌ واحدةٌ ، وهي " كن " { كلمح بالبصر } في السُّرعة كخطفة البصر .
{ ولقد أهلكنا أشياعكم } أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية .
{ وكل شيء فعلوه في الزبر } في كتب الحفظة .
{ وكلُّ صغير وكبير } من أعمالهم { مستطر } مكتوبٌ .
{ إنَّ المتقين في جنات ونهر } ضياءٍ وسعةٍ . وقيل : أراد أنهاراً ، فوحَّد لوفاق الفواصل .
{ في مقعد صدق } في مجلس حقٍّ لا لغوٌ فيه ولا تأثيمٌ { عند مليك مقتدر } وهو الله تعالى . و " عند " إشارةٌ إلى الرُّتبة والقربة من فضل الله ورحمته .
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
{ الرحمن } .
{ علم القرآن } علَّم نبيَّه عليه السَّلام القرآن ، ليس كما يقول المشركون : { إنَّما يُعلِّمه بَشرٌ } وقيل : معناه : يسَّر القرآن لأَنْ يُذكر ، فعلَّمه هذه الأُمَّة حتى حفظوه .
{ خلق الإنسان } يعني : النبيَّ صلى الله عليه وسلم .
{ علَّمه البيان } القرآن الذي فيه بيان كلِّ شيءٍ . وقيل : { خلق الإنسان } يعني ابن آدم ، فعلَّمه النُّطق ، وفضَّله به على سائر الحيوان .
{ الشمس والقمر } يجريان { بحسبان } بحسابٍ لا يجاوزانه .
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
{ والنجم } كلُّ نبتٍ لا يقوم على ساق ، ولا يبقى على الشَّتاء . { والشجر يسجدان } يخضعان لله تعالى بما يريد منهما .
{ والسماء رفعها } فوق الأرض { ووضع الميزان } العدل والإنصاف .
{ أن لا } لئلا { تطغوا } تجاوزوا القدر { في الميزان } .
{ وأقيموا الوزن بالقسط } بالعدل { ولا تخسروا الميزان } لا تنقصوا الوزن .
{ والأرض وضعها للأنام } للجنِّ والإنس .
{ فيها فاكهة } أنواع الفواكه { والنخل ذات الأكمام } أوعية الثَّمر .
{ والحب ذو العصف } أَيْ : ورق الزَّرع . وقيل : هو التِّبن { والريحان } الرِّزق ، ثمَّ خاطب الجن والإنس فقال :
{ فبأي آلاء } نِعمَ { ربكما } من هذه الأشياء التي ذكرها { تكذبان } لأنَّها كلَّها مُنعَمٌ بها عليكُم في دلالتها إيَّاكم على وحدانيَّة الله سبحانه ، ثمَّ كرر في هذه السُّورة هذه الآية توكيداً وتذكيراً لنعمه .
{ خلق الإنسان } آدم { من صلصال } طينٍ يابسٍ يُسمع له صلصلةٌ { كالفخار } وهو ما طبخ من الطِّين .
{ وخلق الجان } أَيْ : أبا الجن { من مارج } من لهب النَّار الخالص .
{ رب المشرقين ورب المغربين } مشرق الصَّيف ومشرق الشَّتاء ، وكذلك المغربان .
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
{ مرج البحرين } خلط البحر العذب والبحر المالح { يلتقيان } يجتمعان ، وذلك أنَّ البحر المالح فيه عيون ماءٍ عذبٍ .
{ بينهما برزخ } حاجزٌ من قدرة الله { لا يبغيان } لا يختلطان ولا يُجاوزان ما قدَّر الله لهما ، فلا الملح يختلط بالعذب ، ولا العذب يختلط بالملح .
{ يخرج منهما } أراد : من أحدهما ، وهو الملح { اللؤلؤ } وهو الحبُّ الذي يخرج من البحر { والمرجان } صغار اللؤلؤ .
{ وله الجوار } السُّفن { المنشئات } المرفوعات . { كالأعلام } كالجبال في العظم .
{ كلُّ مَنْ عليها } على الأرض من حيوانٍ { فانٍ } هالكٌ .
{ ويبقى وجه ربك } وهو السَّيِّد { ذو الجلال } العظمة { والإِكرام } لأنبيائه وأوليائه .
{ يسأله من في السموات والأرض } من مَلَكٍ وإنس وجنِّ الرِّزقَ والمغفرة وما يحتاجون إليه { كلَّ يوم هو في شأن } من إظهار أفعاله ، وإحداث ما يريد من إحياءٍ وإماتةٍ ، وخفضٍ ورفعٍ ، وقبضٍ وبسطٍ .
{ سنفرغ لكم } سنقصد لحسابكم بعد الإمهال { أيها الثقلان } يعني : الجنَّ والإنس .
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)
{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا } تخرجوا { من أقطار السموات والأرض } نواحيها هاربين من الموت { فانفذوا } فاخرجوا { لا تنفذون إلاَّ بسلطان } أَيْ : حيث ما كنتم شاهدتم حجَّة الله وسلطاناً يدلُّ على أنَّه واحد .
{ يرسل عليكما شواطٌ من نار } وهو اللَّهب الذي لا دخان له { ونحاس } وهو الدخان [ الذي لا لهب له ] أَيْ : يُرسل هذا مرَّةً وهذا مرَّةً ، وهو في يوم القيامة يُحاط على الخلق بلسانٍ من نارٍ { فلا تنتصران } أَيْ : تمتنعان .
{ فإذا انشقت السماء } انفرجت أبواباً لنزول الملائكة { فكانت وردة } في اختلاف ألوانها كالدُّهن واختلاف ألوانه .
{ فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه } سؤالَ استفهامٍ ، ولكن يُسألون سؤالَ تقريعٍ وتوبيخٍ .
{ يعرف المجرمون بسيماهم } بعلامتهم ، وهي سواد الوجوه ، وزرقة العيون { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } تضمُّ نواصيهم إلى أقدامهم ، ويُلقون في النَّار ، والنَّواصي : جمع النَّاصية ، وهو شعر الجبهة ، ثم يقال لهم :
{ هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } .
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
{ يطوفون بينها وبين حميم آن } وهو الذي قد انتهى في الحرارة ، والمعنى أنَّهم إذا استغاثوا من النَّار جُعل غياثهم الحميم الآني ، فيُطاف بهم مرَّةً إلى الحميم ، ومرَّةً إلى النَّار .
{ ولمن خاف مقام ربه } قيامه بين يدي الله تعالى للحساب ، فترك المعصية . { جنتان } .
{ ذواتا أفنان } أغصانٍ .
{ فيهما عينان تجريان } إحدهما بالماء الزُّلال ، والأخرى بالخمر .
{ فيهما من كلِّ فاكهة زوجان } نوعان كلاهما حلو .
{ متكئين على فرش } جمع فراش { بطائنها } ما بطن منها ، وهو ضدُّ الظَّاهر { من إستبرق } وهو ما غلظ من الدِّيباج { وجنى الجنتين } ثمرهما { دان } قريبٌ يناله القاعد والقائم .
{ فيهن قاصرات الطرف } حابسات الأعين إلاَّ على أزواجهنَّ ، ولا ينظرن إلى غيرهم { لم يَطْمِثْهُنَّ } لم يُجامعهنَّ { إنس قبلهم } قبل أزواجهن { ولا جانٌ } .
{ كأنهنَّ الياقوت } في الصَّفاء { والمرجان } في البياض .
{ هل جزاء الإِحسان إلاَّ الإِحسان } ما جزاء مَنْ أحسن في الدُّنيا بطاعة الله تعالى إلاَّ الإِحسان إليه في الآخر بالجنَّة ونعيمها .
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64)
{ ومن دونهما } وسوى الجنتين الأُولَيَيْنِ { جنتان } أُخريان .
{ مدهامتان } سوداوان لشدَّة الخضرة .
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
{ فيهن خيرات } نساء فاضلات الأخلاق { حسان } الوجوه .
{ حور } سود الأحداق { مقصورات } محبوساتٌ { في الخيام } من الدُّرِّ المُجوَّفة .
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ متكئين على رفرف } وهو ما فضل من الفرش والبسط . وقيل : الوسائد . { وعبقري } أَيْ : الزَّرابي والطَّنافس { حسان } ثمَّ ختم السورة بما ينبغي أن يُمجَّد به ويُعظَّم ، فقال :
{ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإِكرام } .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
{ إذا وقعت الواقعة } جاءت القيامة .
{ ليس لوقعتها } لمجيئها { كذبٌ } .
{ خافضة رافعة } تخفض قوماً إلى النَّار ، وترفع آخرين إلى الجنَّة .
{ إذا رجَّت الأرض رجّاً } حُرَّكت الأرض حركةً شديدةً .
{ وبست الجبال بساً } فتَّت فتَّاً .
{ فكانت هباء منبثاً } غُباراً متقرِّقاً .
{ وكنتم } في ذلك اليوم { أزواجاً } أَصنافاً { ثلاثة } ثمَّ بيَّن الأصناف ، فقال :
{ فأصحاب الميمنة } وهم الذين يُؤتون كتبهم بأيمانهم . وقيل : الذين كانوا على يمين آدم عليه السَّلام حين أخرج الذُّريَّة من ظهره { من أصحاب الميمنة } أَيُّ شيءٍ هم؟ على التَّعظيم لشأنهم .
{ وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة } أَيْ : الشِّمال . تفسيرها على ضدِّ تفسير التي قبلها .
{ والسابقون } إلى الإِيمان ، من كلِّ أمَّةٍ { السابقون } إلى رحمة الله وجنَّته .
{ أولئك المقربون } إلى كرامة الله .
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
{ ثلة من الأولين } جماعةٌ من الأمم الماضية .
{ وقليل من الآخرين } من هذه الأُمّة . يريد : من سابقي الأمم وسابقي هذه الأُمَّة .
{ على سرر موضونة } منسوجةٍ بقضبان الذَّهب والجواهر .
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
{ ولدان مخلدون } غلمانٌ لا يموتون ولا يهرمون .
{ بأكواب } بأقداحٍ لا عُرى لها { وأباريق } التي لها عُرى وخراطيم { وكأس } إناءٍ { من معين } من خمرٍ جاريةٍ .
{ لا يصدعون عنها } لا ينالهم الصُّداع عن شربها { ولا ينزفون } ولا يسكرون .
{ وفاكهة مما يتخيرون } يختارون .
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
{ وحور } جوارٍٍ وغلمانٌ شديدات سواد الأعين وبياضها { عين } ضخام العيون .
{ كأمثال } كأشباه { اللؤلؤ المكنون } في صفاء اللَّون ، والمكنون : المستور في كِنِّه ، وهو الصَّدَف .
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
{ لا يسمعون فيها } في الجنَّات { لغواً } كاملاً فاحشاً { ولا تأثيماً } ولا ما يوقع في الإِثم .
{ إلاَّ قيلاً } قولاً { سلاماً سلاماً } ما يسلمون فيه اللَّغو والإٍثم ، ثمَّ ذكر منازل أصحاب الميمنة ، فقال :
{ في سدر } وهو نوعٌ من الشَّجر { مخضود } مقطوعِ الشَّوك ، لا كسدر الدُّنيا .
{ وطلح } وهو شجر الموز { منضود } نُضِدَ بالحمل من أوَّله إلى آخره ، فليست له سوقٌ بارزةٌ .
{ وظل ممدود } دائمٍ ثابت .
{ وماء مسكوب } جارٍ غير منقطع .
{ وفاكهة كثيرة } .
{ لا مقطوعة } بالأزمان { ولا ممنوعة } بالأثمان .
{ وفرش مرفوعة } على السُّرر .
إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
{ إنا أنشأناهن } خلقناهنَّ ، أَيْ : الحور العين { إنشاء } خلقاً من غير ولادةٍ .
{ فجعلناهنَّ أبكاراً } عذارى .
{ عُرباً } مُتحبِّبات إلى الأزواج ، عواشق لهم { أتراباً } مُستوياتٍ في السنِّ .
{ لأصحاب اليمين } .
{ ثلة من الأولين } من الأمم الماضية .
{ وثلة من الآخرين } من هذه الأُمَّة . يعني : إنَّ أصحاب الجنَّة نصفان : نصفٌ من الأمم الماضية ، ونصفٌ من هذه الأمَّة ، ثمَّ ذكر منازل أصحاب الشِّمال ، فقال :
{ في سموم } ريحٍ حارَّةٍ { وحميم } .
{ وظلٍّ من يحموم } دخانٍ شديد السَّواد { لا بارد } المنزل { ولا كريم } المنظر .
{ إنهم كانوا قبل ذلك } في الدُّنيا { مترفين } مُنعَّمين لا يتعبون في طاعة الله .
{ وكانوا يصرون على الحنث العظيم } يُقيمون على الذَّنب العظيم ، وهو الشِّرك ، وكانوا يُنكرون البعث . { وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أَإِنّا لمبعوثون } . فقال الله تعالى :
{ قل إنَّ الأولين والآخرين } . { لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } وهو يوم القيامة ومعنى { إلى ميقات } لميقات يوم .
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
{ شرب الهيم } أَيْ : الإِبل العطاش .
{ هذا نزلهم } ما أعدَّ لهم من الرِّزق { يوم الدين } المجازاة .
{ نحن خلقناكم } ابتداءً { فلولا } فهلاَّ { تصدّقون } بالخلق الثَّاني ، وهو البعث .
{ أفرأيتم ما تمنون } تصبُّون في الأرحام من المنيّ .
{ أأنتم تخلقونه } بشراً { أم نحن الخالقون } .
{ نحن قدَّرنا } قضينا { بينكم الموت وما نحن بمسبوقين } .
{ على أن نبدِّل أمثالكم } أَيْ : إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم نُسبق ، ولا فاتنا ذلك { وننشئكم } نخلقكم { فيما لا تعلمون } من الصُّور ، أَيْ : نجعلكم قردةً وخنازير ، والمعنى : لسنا عاجزين عن خلق أمثالكم بدلاً منكم ، ومسخكم من صوركم إلى غيرها .
{ ولقد علمتم النشأة الأولى } الخلقة الأولى ، أَيْ : أقررتم بأنَّ الله خلقكم في بطون أُمَّهاتكم { فلولا تذكرون } أنِّي قادرٌ على إعادتكم .
{ أفرأيتم ما تحرثون } تقلبون من الأرض وتلقون فيه من البذر .
{ أأنتم تزرعونه } تنبتونه { أم نحن الزارعون } .
{ لو نشاء لجعلناه حطاماً } تبناً يابساً لا حَبَّ فيه { فظلتم تفكهون } تعجبون وتندمون ممَّا نزل بكم ، وممَّا علمتم من الحرث ، وتقولون :
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
{ إنا لمغرمون } صار ما أنفقنا على الحرث غُرْماً علينا .
{ بل نحن محرومون } ممنوعون مُنعنا رزقنا .
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
{ أجاجاً } أَيْ : مِلحاً لا يمكن شربه .
{ أفرأيتم النار التي تورون } تقدحون .
{ أأنتم أنشأتم } خلقتم { شجرتها } التي تخرج منها .
{ نحن جعلناها تذكرة } يتذكَّر بها نار جهنَّم { ومتاعاً } ومنفعةً { للمقوين } للمسافرين .
{ فسبح باسم ربك العظيم } أَيْ : نَزِّه الله ممَّا يقول المشركون .
{ فلا أقسم } " لا " زائدة { بمواقع النجوم } مساقطها ومغاربها . وقيل : أراد نجوم القرآن .
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
{ إنه لقرآن كريم } حسنٌ عزيزٌ .
{ في كتاب مكنون } مصونٍ عند الله .
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
{ لا يمسه } باليد ، أَيْ : المصحف { إلاَّ المطهرون } من الجنابات والأحداث .
{ تنزيل من رب العالمين } .
{ أفبهذا الحديث } أَيْ : القرآن { أنتم مدهنون } مُكِّذبون .
{ وتجعلون رزقكم } شكر زرقكم ، فحذف الشُّكر { أنكم تكذبون } بسقيا الله إذا مُطرتم ، وتقولون : مطرنا بنوء كذا .
{ فلولا } فهلاَّ { إذا بلغت } الرُّوح { الحلقوم } .
{ وأنتم } يا أصحاب الميت { حينئذٍ تنظرون } إليه وهو في النَّزع .
{ ونحن أقرب إليه منكم } بالعلم والقدرة { ولكن لا تبصرون } لا تعلمون ذلك .
{ فلولا إن كنتم غير مَدِينين } مملوكين ومجزيين .
{ ترجعونها } أَيْ : تردُّون الرُّوح إلى الميِّت { إن كنتم صادقين } أنَّكم غير مملوكين وغير مُدْبِرين . وقوله : { ترجعونها } جوابٌ واحدٌ لشيئين ، وقوله : { فلولا إذا بلغت الحلقوم } وقوله : { فلولا إن كنتم } ثمَّ ذكر مآل الخلق بعد الموت فقال :
{ فأمَّا إن كان المقربين } . { فروح } فلهم روحٌ ، أَيْ : استراحةٌ وبردٌ { وريحان } ورزقٌ حسنٌ .
{ وأمَّا إن كان من أصحاب اليمين } . { فسلام لك من أصحاب اليمين } أَيْ : إنَّك ترى فيهم ما تحبُّ من السَّلامة وقد علمت ما أعدَّ لهم من الجزاء ، لأنَّه قد بُيِّن لك في قوله : { في سدر مخضود . . . } الآيات .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
{ وإمَّا إن كان من المكذبين الضالين } وهم أصحاب المشأمة .
{ فنزل من حميم } فلهم نزلٌ أعدَّ لهم من شراب جهنَّم .
{ وتصلية جحيم } إدخال النَّار .
{ إنَّ هذا } الذي ذكرت { لهو حق اليقين } .
{ فسبح باسم ربك العظيم } أَيْ : نزِّه الله من السُّوء .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } ذُكر تفسيرها في قوله : { وإنْ مِنْ شيءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بحمده . }
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
{ هو الأوَّل } قبل كلِّ شيءٍ ، فكلُّ شيءٍ دونه { والباطن } العالم بكلِّ شيءٍ .
{ يعلم ما يلج في الأرض } ما يدخل فيها من مطرٍِ وغيره { وما يخرج منها } من نباتٍ وشجرٍ { وما ينزل من السماء } من رزقٍ ومطرٍ ، ومَلكٍ وأمرٍ { وما يعرج فيها } يصعد إليها من عملٍ { وهو معكم } بالعلم والقدرة { أينما كنتم } .
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{ آمنوا بالله ورسوله } صدِّقوا بأنَّ الله تعالى واحدٌ ، وأنَّ محمداً رسول الله { وأنفقوا } من المال الذي { جعلكم مستخلفين فيه } أَيْ : كان لغيركم فملكتموه . وقوله :
{ وقد أخذ ميثاقكم } أَيْ : حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السَّلام بأنَّ الله ربُّكم لا إله لكم سواه { إن كنتم مؤمنين } أي : إِن كنتم على أن تؤمنوا يوماً من الأيام .
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{ وما لكم أنْ لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض } أَيْ : أَيُّ شيءٍ لكم في ترك الإِنفاق في طاعة الله وأنتم ميِّتون تاركون أموالكم ، ثمَّ بيَّن فضل السَّابقين في الإنفاق والجهاد ، فقال : { لا يستوي منكم مَنْ أنفق من قبل الفتح } يعني : فتح مكَّة { وقاتل } جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداء الله . { أولئك أعظم درجة } [ يعني : عند الله ] { من الذين أنفقوا من بعد } الفتح { وقاتلوا وكلاً } من الفريقين { وعد الله الحسنى } الجنَّة .
{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } ذُكر تفسيره في سورة البقرة .
{ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } وهو يوم القيامة { يسعى نورهم } على الصِّراط { بين أيديهم وبأيمانهم } وتقول لهم الملائكة : { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم } .
{ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظروا نقتبس من نوركم } انتظرونا وقفوا لنا نستضىء بنوركم { قيل } لهم { ارجعوا وراءكم } من حيث جئتم { فالتمسوا نوراً } فلا نور لكم عندنا { فضرب بينهم } بين المؤمنين والمنافقين . { بسور } وهو حاجزٌ بين الجنَّة والنَّار . قيل : هو سور الأعراف { له باب } في ذلك السُّور بابٌ { باطنه فيه الرحمة } لأنَّ ذلك الباب يُفضي إلى الجنَّة { وظاهره من قبله } أَيْ : من قبل ذلك الظَّاهر { العذاب } وهو النَّار .
{ ينادونهم } ينادي المنافقون المؤمنين : { ألم نكن معكم } في الدُّنيا نناكحكم ونوارثكم { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } آثمتموها بالنِّفاق { وتربصتم } بمحمدَّ عليه السَّلام الموت { وارتبتم } شككتم في الإيمان { وغرَّتكم الأمانيّ } ما كنتم تمنَّون من نزول الدَّوابر بالمؤمنين { حتى جاء أمر لله } الموت { وغرَّكم بالله } أَيْ : بحلمه وإمهاله { الغرور } الشَّيطان .
{ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } بدلٌ { ولا من الذين كفروا } وهم المشركون { مأواكم النار } منزلكم النَّار { هي مولاكم } أولى بكم { وبئس المصير } هي .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{ ألم يأن للذين آمنوا } ألم يحن { أن تخشع قلوبهم } ترقَّ وتلين { لذكر الله وما نزل من الحق } وهو القرآن ، وهذا حثٌّ من الله تعالى لقومٍ من المؤمنين على الرِّقة والخشوع { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } أي : اليهود والنَّصارى { فطال عليهم الأمد } الزَّمان بينهم وبين أنبيائهم { فقست قلوبهم } لم تَلِنْ لذكر الله ، ونسوا ما عهد الله سبحانه إليهم في كتابهم { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين تركوا الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
{ اعلموا أنَّ الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات } أَيْ : إنَّ إحياء الأرض بعد موتها دليلٌ على توحيد الله تعالى وقدرته .
{ إنَّ المصدِّقين والمصدقات } الذين يتصدَّقون وينفقون في سبيل الله { وأقرضوا الله قرضاً حسناً } بالنَّفقة في سبيله { يضاعف لهم } ما عملوا { ولهم أجرٌ كريم } وهو الجنَّة .
{ والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } المُبالغون في الصِّدق { والشهداء عند ربهم } أَي : الأنبياء عليهم السَّلام { لهم أجرهم ونورهم } في ظلمة القبر . وقيل : هم جميع المؤمنين .
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } في انقضائها وقلَّة حاصلها { وزينة } يتزيَّنون بها { وتفاخرٌ بينكم } يفخر بها بعضكم على بعض { وتكاثر في الأموال والأولاد } مباهاةٌ بكثرتها ، ثمَّ ضرب لها مثلاً فقال : { كمثل غيث } مطرٍ { أعجب الكفار } أي : الزُّراع { نباتُه } ما أنبته ذلك الغيث ، { ثم يهيج } ييبس { فتراه مصفراً } بعد يبسه { ثمَّ يكون حطاماً } هشيماً مُتفتِّتاًَ ، وكذلك الإِنسان يهرم ثمَّ يموت ويبلى { وفي الآخرة عذاب شديد } للكفَّار { ومغفرة من الله ورضوان } لأوليائه .
{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم } ذُكر في سورة آل عمران عند قوله : { وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم . . . } الآية .
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض } بالجدبِ { ولا في أنفسكم } بالمرض والموت والخسران { إلاَّ في كتاب } أي : اللَّوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } نخلق تلك المصيبة { إنَّ ذلك على الله يسير } أَيْ : خلقها في وقتها بعد أَنْ كتبها في اللَّوح المحفوظ .
{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم } من الدُّنيا { ولا تفرحوا بما آتاكم } أعطاكم منها ، أَيْ : لكيلا تحزنوا حزناً يُطغيكم ، ولا تبطروا بالفرح بعد أَنْ علمتم أنَّ ما يصيبكم من خيرٍ وشرٍّ فمكتوب لا يخطئكم . { والله لا يحب كلَّ مختال } مُتكبِّرٍ بما أُوتي من الدُّنيا { فخور } به على النَّاس .
{ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } ذُكر في سورة النِّساء .
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالدّلالات الواضحات { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } العدل { ليقوم الناس بالقسط } ليتعامل النَّاس بينهم بالعدل { وأنزلنا الحديد } وذلك أنَّ آدم عليه السَّلام نزل إلى الأرض بالعلاة والمطرقة وآلة الحدَّادين { فيه بأس شديد } قوَّةٌ وشدَّةٌ يُمتنع بها ويُحارب { ومنافع للناس } يستعملونه في أدواتهم { وليعلم الله } أَيْ : أرسلنا الرُّسل ومعهم هذه الأشياء ليتعامل النَّاس بالحقِّ ، وليرى الله مَنْ ينصر دينه { ورسله بالغيب } في الدُّنيا .
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{ ورهبانية ابتدعوها } أَي : ابتدعوا من قبل أنفسهم رهبانيَّةً ، أَي : التَّرهُّب في الصَّوامع { ما كتبناها عليهم } ما أمرناهم بها { إلاَّ ابتغاء رضوان الله } لكنَّهم ابتغوا بتلك الرَّهبانيَّة رضوان الله { فما رعوها حق رعايتها } أَيْ : قصَّروا في تلك الرَّهبانيَّة حين لم يؤمنوا بمحمد عليه السَّلام ، { فآتينا الذين آمنوا منهم } بمحمَّدٍ عليه السَّلام { أجرهم وكثير منهم فاسقون } وهم الذين لم يؤمنوا به .
{ يا أيها الذين آمنوا } بالتَّوراة والإنجيل { اتقوا الله وآمنوا برسوله } محمد عليه السَّلام { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } نصيباً بإيمانكم الأوَّل ، ونصيباً بإيمانكم بمحمَّد عليه السَّلام وكتابه { ويجعل لكم نوراً تمشون به } في الآخرة على الصِّراط { ويغفر لكم } وعدهم الله هذه الأشياء كلَّها على الإِيمان بمحمد عليه السَّلام ، ثمَّ قال :
{ لئلا يعلم } أي : ليعلم ، و " لا " زائدة { أهل الكتاب } اليهود والنَّصارى { ألا يقدرون على شيء } أنَّهم لا يقدرون على شيءٍ { من فضل الله } يعني : إِنْ لم يؤمنوا لم يُؤتهم الله شيئاً ممَّا ذُكر { وأنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } نزلت في سبب خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصَّامت ، ظاهر منها وكان ذلك أوَّل ظهارٍ في الإِسلام ، وكان الظِّهار من طلاق الجاهليَّة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أنَّ زوجها ظاهر منها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حَرُمْتِ عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وصبيةً صغاراً ، وجعلت تُراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها : حَرُمْتِ عليه هتفت وشكت إلى الله ، وقوله : { والله يسمع تحاوركما } أَيْ : تخاطبكما ومراجعتكما الكلام ،
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
ثمَّ ذمَّ الظَّهار فقال : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنَّ أمهاتهم } أَيْ : ما اللواتي يجعلن من الزَّوجات كالأمهات بأمهاتٍ . { إن أمهاتهم إلاَّ اللائي ولدنهم } ما أُمهاتهم إلاَّ الوالدات { وإنهم ليقولون } بلفظ الظِّهار { منكراً من القول } لا تُعرف صحَّته { وزوراً } وكذباً؛ فإنَّ المرأة لا تكون كالأمِّ { وإنَّ الله لعفو غفور } عفا وغفر للمُظاهِر بجعل الكفَّارة عليه ، ثمَّ ذكر حكم الظِّهار ، فقال :
{ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديرها : والذين يُظاهرون من نسائهم فتحرير رقبةٍ لما قالوا ، ثمَّ يعودون ، أيْ : على المُظاهر عتق رقبةٍ لقوله لامرأته : أنتِ عليَّ كظهر أُمِّي ، ثمَّ يعود إلى استباحة الوطء ، ولا تحلُّ له قبل الكفَّارة ، وهو قوله : { من قبل أن يتماسا } أي : يَجَّامعا { ذلكم توعظون به } أي : ذلك التَّغليظ في الكفَّارة وعظٌ لكم كي تنزجروا به عن الظِّهار فلا تُظاهروا .
{ فمن لم يجد } الرَّقبة لفقره { فصيام شهرين متتابعين } لو أفطر فيما بين ذلك بطل التَّتابع ، ويجب عليه الاستئناف { فمن لم يستطع } ذلك لمرضٍ أو لخوفِ مشقَّةٍ عظيمةٍ { فإطعام ستين مسكيناً } لكلِّ مسكينٍ مدٌّ من غالب القوت . { ذلك } أي : الفرض الذي وصفنا { لتؤمنوا بالله ورسوله } لتصدقوا ما أتى به الرَّسول عليه السَّلام ، وتُصدِّقوا أنَّ الله تعالى به أمر { وتلك حدود الله } يعني : ما وصف في الظِّهار والكفَّارة { وللكافرين } لمن لم يُصدِّق به { عذاب أليم } .
{ إنَّ الذين يحادون الله } يُخالفون الله { ورسوله كُبِتوا } أُذِلُّوا وأُخزوا { كما كُبِتَ الذين من قبلهم } ممَّن خالف الله ورسوله { وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين } بها { عذاب مهين } .
{ يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا } يخبرهم بذلك ليعلموا وجوب الحجَّة عليهم { أحصاه الله } علمه الله وأحاط بعدده { ونسوه } هم . وقوله :
{ ما يكون من نجوى ثلاثة } أَيْ : مناجاة ثلاثةٍ ، وإن شئت قلتَ : من متناجين ثلاثة { إلاَّ هو رابعهم } بالعلم ، يسمع نجواهم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في المنافقين واليهود ، كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ليُواقعوا في قلوبهم ريبةً وتهمةً ، ويظنُّون أنَّ ذلك لشيءٍ بلغهم ممَّا يهمُّهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك ، فعادوا لما نُهوا عنه ، فأنزل الله : { ألم تر إلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لما } أَي : إلى { ما نُهوا عنه ويتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول } أي : يُوصي بعضهم بعضاً سرَّاً بالظُّلم والإِثم ، وترك طاعة الرَّسول عليه السَّلام . { وإذا جاؤوك حيوك بما لم يُحَيِّكَ به الله } يعني : قولهم : السَّام عليك { ويقولون في أنفسهم : لولا يعذِّبنا الله بما نقول } وذلك أنَّهم قالوا : لو كان نبيَّاً لعذَّبنا بهذا ، قال الله : { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير } . ثمَّ نهى المؤمنين عن مثل ذلك ، فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصيت الرسول } { إنما النجوى من الشيطان } أَيْ : النَّجوى بالإِثم والعدوان ممَّا يزيِّن الشَّيطان لهم { ليحزن الذين آمنوا وليس بضارِّهم } وليس الشَّيطان بضارِّهم { شيئاً إلاَّ بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أَيْ : وإِليه فَلْيَكِلُوا أمورهم .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } توسَّعوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم { فافسحوا } أوسعوا المجلس { يفسح الله لكم } يُوسِّعه عليكم . نزلت في قومٍ كانوا يُبكِّرون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون مجالسهم بالقرب منه ، فإذا دخل غيره ضنُّوا بمجالسهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ أن يُكرم أهل بدرٍ ، فدخلوا يوماً فقاموا بين يديه ولم يجدوا عنده مجلساً ، ولم يقم لهم أحدٌ من هؤلاء الذين أخذوا مجالسهم ، فكره النبيُّ عليه السَّلام ذلك ، فنزلت هذه الآية ، وأمرهم أن يُوسِّعوا في المجلس لمن أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم . { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } وإذا قيل لكم : قوموا إلى صلاةٍ أو جهادٍ ، أو عمل خيرٍ فانهضوا { يرفع الله الذين آمنوا منكم } بطاعة الرَّسول { والذين أوتوا العلم درجات } في الجنَّة .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم } أمام مناجاتكم { صدقة } . نزلت حين غلب أهلُ الجدة الفقراءَ على مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناجاته ، فكره الرَّسول ذلك فأمرهم الله بالصَّدقة عند المناجاة ، ووضع ذلك عن الفقراء فقال : { فإن لم تجدوا فإنَّ الله غفور رحيم } ثمَّ نسخ الله ذلك ، فقال :
{ أأشفقتم } بخلتم وخفتم بالصَّدقة الفقر { فإذْ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } عاد عليكم بالتَّخفيف { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } المفروضة .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا قوماً غضب الله عليهم } أَي : المنافقين تولَّوا اليهود وناصحوهم ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين { ما هم منكم } أيُّها المؤمنون { ولا منهم } من اليهود { ويحلفون على الكذب } يحلفون أنَّهم لا يخونون المؤمنين { وهم يعلمون } أنَّهم كاذبون في حلفهم .
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
{ اتخذوا أيمانهم } الكاذبة { جنة } يستجنُّون بها من القتل .
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{ يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له } كاذبين ما كانوا مشركين { كما يحلفون لكم } كاذبين { ويحسبون أنهم على شيء } من نفاقهم ، يأتونكم بوجهٍ ، ويأتون الكفَّار بوجهٍ ، ويظنُّون أنَّهم يسلمون فيما بينكم وبينهم { ألا إنهم هم الكاذبون } .
{ استحوذ عليهم الشيطان } أي : استولى عليهم .
{ إنَّ الذين يحادون الله ورسوله } يخالفونهما . { أولئك في الأذلين } المغلوبين .
{ كتب الله } قضى الله { لأغلبنَّ أنا ورسلي } إمَّا بالظفَّر والقهر ، وإمَّا بظهور الحجَّة .
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله . . . } الآية . أخبر الله في هذه الآية أنَّ المؤمن لا يوالي الكافر وإنْ كان أباه ، أو أخاه ، أو قريبه وذلك أنَّ المؤمنين عادوا آباءَهم الكفَّار وعشائرهم وأقاربهم ، فمدحهم الله على ذلك فقال : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أَيْ : أثبته { وأيديهم بروحٍ منه } أيْ : بنور الإِيمان ، وقيل : بالقرآن ، ثمَّ وعدهم الإِدخال في الجنَّة فقال : { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله أَلاَ إنَّ حزب الله هم المفلحون } .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
{ سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } .
{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني : بني النَّضير { من ديارهم } مساكنهم بالمدينة ، وذلك أنَّه نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف سيِّدهم ، فقتل غيلةً ، وحاصر بني النَّضير ثمَّ صالحهم على أن يخرجوا إلى الشَّام ، فخرجوا وتركوا رباعهم وضياعهم ، وقوله : { لأوَّل الحشر } كانوا أوَّل مَنْ حُشر إلى الشَّام من اليهود من جزيرة العرب وقيل : إنَّه كان أوَّل حشرٍ إلى الشَّام ، والحشر الثَّاني حشر القيامة ، والشَّام أرض المحشر . { ما ظننتم } أَيُّها المؤمنون { أن يخرجوا } لعدَّتهم ومنَعتهم { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } وذلك أنَّهم كانوا أهل حلقةٍ وحصونٍ ، فظنُّوا أنَّها تحفظهم من ظهور المسلمين عليهم { فأتاهم الله } أي : أمر الله { من حيث لم يحتسبوا } من جهة المؤمنين ، وما كانوا يحسبون أنَّهم يغلبونهم ويظهرون عليهم { وقذف في قلوبهم الرعب } ألقى في قلوبهم الخوف بقتل سيِّدهم { يخربون بيوتهم بأيديهم } وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صالحهم على أنَّ لهم ما أقلَّت الإِبل ، وكانوا ينظرون إلى الخشبة والشَّيء في منازلهم ممَّا يستحسنونه ، فيقلعونه وينتزعونه ويهدمون البيوت لأجله ، فذلك إخرابهم بأيديهم ، ويخرِّب المؤمنون باقيها ، وهو قوله : { وأيدي المؤمنين } وأضاف الإخراب بأيدي المؤمنين إليهم؛ لأنَّهم عرَّضوا منازلهم للخراب بنقض العهد . { فاعتبروا } فاتَّعظوا { يا أولي الأبصار } يا ذوي العقول ، فلا تفعلوا فعل بني النَّضير فينزل بكم ما نزل بهم .
{ ولولا أن كتب الله } قضى الله { عليهم الجلاء } الخروج عن الوطن { لعذَّبهم في الدنيا } بالقتل والسَّبى كما فعل بقريظة .
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{ ما قطعتم من لينة } من نخلةٍ من نخيلهم { أو تركتموها قائمة } فلم تقطعوها { فبإذن الله } أي : إنَّه أذن في ذلك ، إِنْ شئتم قطعتم وإنْ شئتم تركتم ، وذلك أنَّهم لمَّا تحصَّنوا بحصونهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وإحراقها فجزعوا من ذلك ، وقالوا : من أين لك يا محمَّد عقر الشَّجر المثمر؟ واختلف المسلمون في ذلك ، فمنهم مَنْ قطع غيظاً لهم ، ومنهم من ترك القطع وقالوا : هو مالنا : أفاء الله علينا به ، فأخبر الله أنَّ كلَّ ذلك من القطع والتَّرك بإذنه { وليخزي الفاسقين } وليذلَّ اليهود وليغيظهم .
{ وما أفاء الله على رسوله } ردَّ الله على رسوله ورجع إليه { منهم } من بني النَّضير من الأموال { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } أَيْ : ما حملتم خيلكم ولا إبلكم على الوجيف إليه ، وهو السَّير السَّريع ، والمعنى : لم تركبوا إليه خيلاً ولا إبلاً ، ولا قطعتم إليه شُقَّة ، فهو خالصٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل فيه ما أحبَّ ، وليس كالغنيمة التي تكون للغانمين ، وهذا معنى قوله : { ولكنَّ الله يسلط رسله على مَنْ يشاء . . . } الآية .
{ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } من أموال أهل القرى الكافرة { فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } وكان الفيء يُخَمَّسُ خمسةَ أخماسٍ ، فكانت أربعةُ أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يشاء ، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية ، وأمَّا اليوم فما كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من الفيء يُصرف إلى أهل الثُّغور المُترصِّدين للقتال في أحد قولي الشَّافعي رحمه الله ، والفيء : كلُّ مالٍ رجع إلى المسلمين من أيدي الكفَّار عفواً من غير قتال ، مثل : مال الصُّلح والجزية والخراج ، أو هربوا فتركوا ديارهم وأموالهم ، كفعل بني النَّضير ، وقوله : { كيلا يكون } يعني : الفيء { دولة } متداولاً { بين الأغنياء } الرُّؤساء والأقوياء { منكم وما آتاكم الرسول } أعطاكم من الفيء { فخذوه وما نهاكم عنه } عن أخذه { فانتهوا } .
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{ للفقراء المهاجرين } يعني : خمس الفيء للذين هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم حُبَّاً لله ولرسوله ، ونصرةً لدينه ، وهو قوله : { وينصرون الله } أي : دينه { ورسوله أولئك هم الصادقون } في إيمانهم .
{ والذين تبوَّؤا الدار والإِيمان } نزلوا المدينة وقبلوا الإيمان { من قبلهم } من قبل المهاجرين وهم الأنصار { يحبون من هاجر إليهم } من المسلمين { ولا يجدون في صدورهم حاجة } غيظاً وحسداً { مما أوتوا } ممَّا أُوتي المهاجرون من الفيء ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النَّضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلاَّ ثلاثة نفرٍ ، كانت بهم حاجة فطابت أنفس الأنصار بذلك ، فذلك قوله : { ويؤثرون على أنفسهم } أَي : يختارون إخوانهم المهاجرين بالمال على أنفسهم { ولو كانت بهم خصاصة } حاجةٌ وفاقةٌ إلى المال { ومَنْ يوق شح نفسه } مَنْ حُفظ من الحرص المهلك على المال ، وهو حرصٌ يحمله على إمساك المال عن الحقوق والحسد { فأولئك هم المفلحون } .
{ والذين جاؤوا من بعدهم } أي : والذين يَجئيون من بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواتنا الذين سبقونا بالإيمان } أي : المهاجرين والأنصار { ولا تجعل في قلوبنا غلاً } حقداً { للذين آمنوا . . . } الآية . فمن ترحَّم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن في قلبه غِلٌّ لهم فهو من أهل هذه الآية ، ومَنْ يشتم واحداً منهم ولم يترحَّم عليه لم يكن له حظٌّ في الفيء ، وكان خارجاً من جملة أقسام المؤمنين ، وهم ثلاثةٌ : المهاجرون والأنصار ، والذين جاؤوا من بعدهم بهذه الصِّفة التي ذكرها الله تعالى .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
{ ألم تر إلى الذين نافقوا . . . } الآية . وذلك أنَّ المنافقين ذهبوا إلى بني النَّضير لمَّا حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : لا تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلكم محمدٌ كنَّا معكم ، وإن أخرجكم خرجنا معكم ، وذلك قوله : { لئن أخرجتم لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً } سألنا خذلانكم { أبداً } فكذَّبهم الله تعالى فيما قالوا بقوله : { والله يشهد إنهم لكاذبون } والآية الثَّانية ، وذكر أنَّهم إن نصروهم انهزموا ولم ينتصروا ، وهو قوله :
{ ولئن نصروهم ليولنَّ الأدبار ثمَّ لا ينصرون } .
{ لأنتم } أيُّها المؤمنون { أشد رهبة في صدروهم } صدور المنافقين من الله ، يقول : أنتم أهيبُ في صدورهم من الله تعالى؛ لأنَّهم يُخفون منك موافقة اليهود خوفاً منكم ، ولا يخافون الله فيتركون ذلك .
{ لا يقاتلونكم جميعاً } أي : اليهود { إلاَّ في قرىً محصنة أو من وراء جدر } أي : لِمَا ألقى الله في قلوبهم من الرعب لا يقاتلونكم إلاَّ مُتحصِّنين بالقرى والجدران ، ولا يبرزون لقتالكم . { بأسهم بينهم شديد } خلافهم بينهم عظيم { تحسبهم جميعاً } مُجتمعين مُتَّفقين { وقلوبهم شتى } مُختلفةٌ مُتفرِّقةٌ ، و { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } عن الله أمره .
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
{ كمثل الذين من قبلهم } أي : المشركين ، يقول : هم في تركهم الإيمان وغفلتهم عن عذاب الله كالذين من قبلهم { قريباً ذاقوا وبال أمرهم } يعني : أهل بدرٍ ذاقوا العذاب بمدَّةٍ قليلةٍ من قبل ما حلَّ بالنَّضير من الجلاء والنَّفي ، وكان ذلك بعد مرجعه من أُحدٍ ، وقوله :
{ كمثل الشيطان } يعني : إنَّ المنافقين في نصرتهم لليهود كمثل الشَّيطان { إذ قال للإِنسان اكفر } يعني : عابداً في بني إسرائيل فتنه الشَّيطان حتى كفر ، ثمَّ خذله ، كذلك المنافقون منَّوا بني النَّضير نصرتهم ثمَّ خذلوهم وتبرَّؤوا منهم .
{ فكان عاقبتهما } عاقبة الشَّيطان والكافر { أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين } .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } بأداء فرائضه واجتناب معاصيه { ولتنظر نفسٌ ما قدَّمت لغد } يوم القيامة من طاعةٍ وعملٍ صالحٍ .
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله } تركوا طاعة اللَّه وأمره { فأنساهم أنفسهم } حظَّ أنفسهم أن يُقدِّموا لها خيراً .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } أخبر الله تعالى أنَّ من شأن القرآن وعظمته أنَّه لو جُعل في الجبل تمييزٌ - كما جعل في الإنسان - وأُنزل عليه القرآن لخشع وتصدَّع ، أَيْ : تشقَّق من خشية الله . قوله :
{ عالم الغيب والشهادة } السِّرِّ والعلانيَة . وقوله :
{ الملك } : ذو الملك { القدوس } الطَّاهر عمَّا لا يليق به { السلام } ذو السَّلامة من الآفات والنَّقائص { المؤمن } المُصدِّق رسله بخلق المعجزة لهم . وقيل : الذي آمن خلقه من ظلمه { المهيمن } الشَّهيد { العزيز } القويُّ { الجبار } الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره { المتكبر } عمَّا لا يليق به .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة لمَّا كتب إلى مشركي مكَّة يُنذرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إليهم { تلقون إليهم بالمودة } أَيْ : تُلقون إليهم أخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وسرَّه بالمودة التي بينكم وبينهم { وقد كفروا } أَي : وحالهم أنَّهم كافرون { بما جاءكم من الحق } دين الإِسلام والقرآن { يخرجون الرسول وإياكم } أيُّها المؤمنون من مكَّة { أن تؤمنوا } لأن آمنتم { بالله ربكم إن كنتم خرجتم } من مكَّة { جهاداً } للجهاد { في سبيلي وابتغاء مرضاتي } وجواب هذا الشَّرط متقدِّم وهو قوله : { لا تتخذوا عدوي } أي : لا تتَّخذوهم أولياء إن كنتم تبتغون مرضاتي ، وقوله : { تسرون إليهم بالمودة } كقوله : { تُلقون إليهم بالمودَّة } { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } وذلك أنَّ الله أطلع نبيَّه عليه السَّلام على مكاتبة حاطبٍ للمشركين حتى استردَّ الكتاب ممَّن دفعه إليه ليوصله إليهم { ومن يفعله منكم } أي : الإسرار إليهم { فقد ضلَّ سواء السبيل } أخطأ طريق الدِّين ، ثمَّ أعلم أنَّه ليس ينفعهم ذلك عند المشركين ، فقال :
{ إن يثقفوكم } أَيْ : يلقوكم ويظفروا بكم { يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم } بالضَّرب والقتل { وألسنتهم بالسّوء } أي : الشَّتم { وودوا لو تكفرون } فلا تُناصِحوهم ، فإنَّهم معكم على هذه الحالة ، ثمَّ أخبر أنَّ أهلهم وأولادهم الذين لأجلهم يُناصحون المشركين لا ينفعونهم شيئاً في القيامة ، فقال :
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } المشركون { يوم القيامة يفصل بينكم } فيدخل المؤمنون الجنَّة ، والكافرون النَّار ، ثمَّ أمرَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأصحاب إبراهيم عليه السَّلام ، فقال : { قد كانت لكم أسوة حسنة } .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
{ قد كانت لكم أسوة حسنة } ائتمامٌ واقتداءٌ [ وطريقةٌ حسنةٌ ] { في إبراهيم والذين معه } من أصحابه إذ تبرَّؤوا من قومهم الكفَّار وعادوهم ، وقالوا لهم : { كفرنا بكم } أَيْ : أنكرناكم وقطعنا محبتكم . وقوله : { إلاَّ قول إبراهيم لأبيه } أَيْ : كانت لكم أسوةٌ فيهم ما خلا هذا ، فإنَه لا يجوز الاستغفار للمشركين ، ثمَّ أخبر أنَّهم قالوا يعني قوم إبراهيم : { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } .
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } أَيْ : لا تُظهرهم علينا فيظنوا أنَّهم على حقٍّ ، فيفتتنوا بذلك .
{ لقد كان لكم فيهم } في إبراهيم والذين معه { أسوة حسنة } تقتدون بهم ، فتفعلون من البراءة من الكفَّار كما فعلوا ، وتقولون كما قالوا ممَّا أخبر عنهم ، ثمَّ بيَّن أنَّ هذا الاقتداء بهم { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } { ومن يتول } عن الحقِّ ووالى الكفَّار { فإنَّ الله هو الغني الحميد } .
{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم } من مشركي مكَّة { مودَّة } بأن يهديهم للدِّين ، فيصيروا لكم أولياء وإخواناً ، ثمَّ فعل ذلك بعد فتح مكَّة ، فتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت سفيان ، ولان أبو سفيان للمؤمنين وترك ما كان عليه من العداوة ، ثمَّ رخص في صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفَّار ، فقال :
{ ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } أَيْ : لا ينهاكم عن برِّ هؤلاء { وتقسطوا إليهم } أَيْ : تعدلوا فيهم بالإحسان ، ثمَّ ذكر أنَّه إنَّما ينهاهم عن أن يتولَّوا مشركي مكَّة الذين قاتلوهم ، فقال : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم . . . . } .
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
{ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات . . . } الآية . نزلت بعد صلح الحديبية ، وكان الصُّلح قد وقع على أن يردَّ إلى أهل مكَّة مَنْ جاء من المؤمنين منهم ، فأنزل الله في النِّساء إذا جئن مهاجراتٍ أَنْ يُمتحنَّ ، وهو وقوله : { فامتحنوهن } وهو أنّْ تُستحلف ما خرجت بُغضاً لزوجها ، ولا عشقاً لرجلٍ من المسلمين ، وما خرجت إلاَّ رغبةً في الإسلام ، فإذا حلفت لم تردَّ إلى الكفَّار ، وهو قوله : { فإن علمتموهنَّ مؤمنات فلا ترجعوهنَّ إلى الكفار } لأنَّ المسلمةَ لا تحلُّ للكافر ، وقوله : { وآتوهم } يعني : أزواجهم الكفَّار ما أنفقوا عليهنَّ من المهر { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا ءاتيتموهنَّ أجورهنَّ } أي : مهورهنَّ وإن كان لهنَّ أزواجٌ كفَّارٌ ، [ في دار الإِسلام ] ، لأنَّ الإِسلام أبطل تلك الزَّوجية ، { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أَيْ : لا تمسكوا بنكاحهنَّ؛ فإنَّ العصمة لا تبقى بين المشركة والمؤمن ، والمعنى : إن لحقت بالمشركين واحدةٌ من نسائكم فلا تتمسكوا بنكاحها { واسألوا ما أنفقتم } عليهنَّ من المهر مَنْ يتزوجهنَّ من الكفَّار { وليسألوا } يعني : المشركين { ما أنفقوا } من المهر ، فلمَّا نزلت هذه الآية أدَّى المؤمنون ما أُمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون ذلك ، فنزلت :
{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } أَيْ : إنْ لحقتْ واحدةٌ من نسائكم مرتدَّةً بالكفَّار { فعاقبتم } فغزوتموهم وكانت العقبى لكم { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفَّار { مثل ما أنفقوا } عليهنَّ من الغنائم ، ثمَّ نزل في بيعة النِّساء :
{ يا أيها النبيُّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنَّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } أَيْ : لا يأتين بولدٍ ينسبنه إلى الزَّوج؛ فإن ذلك بهتانٌ وفِريةٌ { ولا يعصينك في معروف } أيْ : فيما وافق طاعة الله تعالى { فبايعهنَّ } أمره أن يُبايعهنَّ على الشَّرائط التي ذكرها في هذه الآية ، ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود ، فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة } أن يكون لهم فيها ثوابٌ { كما يئس الكفار } الذين لا يوقنون بالبعث { من أصحاب القبور } أن يُبعثوا . وقيل : كما يئس الكفَّار الذين في القبور مَنْ أَنْ يكون لهم في الآخرة خيرٌ .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ سبَّح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم } .
{ يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون } كان المؤمنون يقولون : لو علمنا أحبَّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فأُخبروا بذلك في قوله : { إنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون } الآية .
وقوله : { كَبُر مقتاً عند الله } أَيْ : عَظُم ذلك في البعض { أن تقولوا ما لا تفعلون } وقوله :
{ إنَّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } وأُعلموا أنَّ أحب الأعمال إلى الله الجهاد ، فلم يَفوا بما قالوا وانهزموا يوم أُحدٍ ، فَعُيِّروا بهذه الآية . وقوله : { كأنهم بنيان مرصوص } لاصق ٌ بعضه ببعض لا يزولون عن أماكنهم .
{ وإذ قال موسى } أَيْ : اذكر يا محمَّد لقومك قصَّة موسى إذ قال لقومه : { يا قوم لم تؤذونني } وذلك حين رموه بالأُدْرَة { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } والرَّسول يُعظَّم ولا يُؤذى { فلما زاغوا } عدلوا عن الحقِّ { أزاغ الله قلوبهم } أضلَّهم الله وصرف قلوبهم عن الحقِّ { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أَيْ : مَنْ سبق في علمه أنَّه فاسقٌ .
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{ وأخرى تحبونها } أَيْ : ولكم أخرى تحبُّونها في العاجل مع ثواب الآجل ، ثمَّ بيَّن ما هي فقال : { نصرٌ من الله وفتح قريب } .
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } أعواناً بالسَّيف على أعدائه { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين مَنْ أنصاري إلى الله } أَيْ : مع الله { قال الحواريون نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل } بعيسى { وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا } [ قوّيناهم ] { على عدوهم فأصبحوا ظاهرين غالبين .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } .
{ هو الذي بعث في الأميين } يعني : العرب { رسولاً منهم } محمداً عليه السَّلام .
{ وآخرين منهم } أَيْ : وفي آخرين منهم { لما يلحقوا بهم } وهم التَّابعون وجميعُ مَنْ يدخل في الإسلام ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى كلِّ مَنْ شاهده ، وإِلى كلِّ مَنْ كان بعدهم من العرب والعجم .
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
{ مثل الذين حملوا التوارة } كُلِّفوا العمل بها { ثمَّ لم يحملوها } لم يعملوا بما فيها { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } كتباً . أَيْ : اليهود ، شبَّههم في قلَّة انتفاعهم بما في أيديهم من التَّوراة إذ لم يؤمنوا بمحمد عليه السَّلام بالحمار يحمل كتباً ، ثمَّ قال : { بئس مثلُ القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين } .
{ قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } فسِّر في سورة البقرة عند قوله : { قل إنْ كانت لكم الدَّارُ الآخرةُ . . . . } الآية .
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{ قل إنَّ الموت الذي تفِرُّون منه } وذلك أنَّهم علموا أنَّ عاقبتهم النَّار بتكذيب محمد عليه السَّلام ، فكرهوا الموت ، قال الله : { فإنَّه ملاقيكم } أَيْ : لا بدَّ لكم منه يلقاكم وتلقونه .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } أَيْ : اعلموا على المشي إليه { وذروا البيع } اتركوه بعد النِّداء .
{ فإذا قضيت الصَّلاة } فُرغ منها { فانتشروا في الأرض } أَمرُ إباحةٍ { وابتغوا من فضل الله } الرِّزق .
{ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } أَيْ : تفرَّقوا عنك إلى التِّجارة ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة ، فقدمت عيرٌ وضرب لقدومها الطبل ، وكان ذلك في زمان غلاءٍ بالمدينة ، فتفرَّق النَّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى التِّجارة وصوت الطبل ، ولم يبق معه إلاَّ اثنا عشر نفساً . وقوله : { وتركوك قائماً } أَيْ : في الخطبة . { قل ما عند الله } [ للمؤمنين ] { خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } فإيَّاه فاسألوا ، ولا تنفضُّوا عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم لطلب الرِّزق .
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
{ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إنَّ المنافقين لكاذبون } لإِضمارهم خلاف ما أظهروا .
{ اتخذوا أيمانهم } جمع يمينٍ { جنَّة } سترةً يستترون بها من القتل . يعني : قولهم : { ويحلفون بالله إنَّهم لمنكم } وقوله : { يحلفون بالله ما قالوا } { فصدوا عن سبيل الله } منعوا النَّاس عن الإِيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم { إنهم ساء ما كانوا يعملون } بئس [ العملُ ] عملهم .
{ ذلك بأنهم آمنوا } في الظَّاهر { ثمَّ كفروا } بالاعتقاد .
{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } في طولها واستواء خلقها ، وكان عبد الله بن أبيّ جسيماً صبيحاً فصيحاً ، إذا تكلَّم يَسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله ، وهو قوله : { وإن يقولوا تسمع لقولهم } ثمَّ أعلم أنَّهم في ترك التَّفهُّم بمنزلة الخشب ، فقال : { كأنهم خشب مسندة } أَيْ : ممالةٌ إلى الجدار { يحسبون } من جُبنهم وسوء ظنِّهم { كلَّ صيحة عليهم } أَيْ : إنْ نادى منادٍ في العسكر ، أو ارتفع صوتٌ ، ظنُّوا أنَّهم يُرادون بذلك لما في قلوبهم من الرُّعب { هم العدو } وإن كانوا معك { فاحذرهم } ولا تأمنهم { قاتلهم الله } لعنهم الله { أنى يؤفكون } من أين يُصرفون عن الحقِّ بالباطل؟! .
{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم } وذلك أنَّه لمَّا نزلت هذه الآيات قيل لعبد الله بن أبيّ : لقد نزلت فيك آيٌ شدادٌ ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه وأعرض بوجهه إظهاراً للكراهة { ورأيتهم يصدون } يُعرضون عمَّا دُعوا إليه { وهم مستكبرون } لا يستغفرون ، ثمَّ أخبر أنَّ استغفار الرَّسول عليه السَّلام لا ينفعهم لفسقهم وكفرهم فقال :
{ سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } .
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{ هم الذين يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله } وذلك أَنَّ عبد الله ابن أبيّ قال لقومه وذويه : لا تنفقوا على أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - حتى ينفضُّوا ، أَيْ : يتفرَّقوا { ولله خزائن السموات والأرض } أَيْ : إنَّه يرزق الخلق كلَّهم ، وهو يرزق المؤمنين والمنافقين جميعاً .
{ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة } يعني : عبد الله ابن أبيّ ، وكان قد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق ، وجرى بينه وبين واحدٍ من المؤمنين جدال ، فأفرط عليه المؤمن فقال عبد الله بن أبيّ : { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذل } يعني : بالأعزِّ نفسه ، وبالأذلِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الله تعالى : { ولله العزَّة } القوَّة والغلبة { ولرسوله } بعلوِّ كلمته وإظهار دينه { وللمؤمنين } بنصر الله إيَّاهم على مَنْ ناوأهم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم } لا تشغلكم { أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } أَيْ : الصَّلوات الخمس { ومَنْ يفعل ذلك } يشتغل بشيءٍ عن الصَّلوات { فأولئك هم الخاسرون } .
{ وأنفقوا مما رزقناكم } يعني : أَدُّوا الزَّكاة { من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول : ربِّ لولا أخرتني إلى أجل قريب } هلاَّ أخرتني إلى أجلٍ قريبٍ ، يسأل الرجعة ، وما قصَّر أحدٌ في الزَّكاة والحجِّ إلاَّ سأل الرَّجعة عند الموت { فأصدَّق } أَيْ : أتصدَّق وأُزكِّي { وأكن من الصالحين } أَيْ : أحج . قال الله تعالى :
{ ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبيرٌ بما تعملون } .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } .
{ هو الذي خلقكم } أَيْ : في بطون أمهاتكم { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أَيْ : خلقكم كُفَّاراً ومؤمنين ، وقوله :
{ فأحسن صوركم } أَيْ : خلقكم أحسن الحيوان .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ ألم يأتكم } يا أهلَ مكَّة { نبأ الذين كفروا من قبل } أَيْ : خبر الأمم الكافرة قبلكم { فذاقوا وبال أمرهم } ذاقوا في الدُّنيا العقوبة بكفرهم { ولهم } في الآخرة { عذاب أليم } .
{ ذلك } أَيْ : ذلك الذي نزل بهم { بأنَّه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا : أبشرٌ يهدوننا } استبعدوا أن يكون الدَّاعي إلى الحقِّ بشراً ، والمراد بالبشر ههنا الجمع ، لذلك قال : { يهدوننا ، فكفروا وتولوا } عن الإِيمان { واستغنى الله } أَيْ : عن إيمانهم { والله غنيٌّ } عن خلقه { حميد } في أفعاله .
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{ يوم التغابن } يغبن فيه أهلُ الجنَّة أهلَ النَّار بأخذ منازلهم التي كانت لهم في الجنَّة لو آمنوا ، ويغبن مَنْ ارتفعت منزلته في الجنَّة مَنْ كان دون منزلته ، فيظهر في ذلك اليوم غبن كلِّ كافرٍ بترك الإِيمان ، وغبن كلِّ مؤمنٍ بتقصيره .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{ ما أصاب من مصيبة إلاَّ بإذن الله } بعلمه وإرادته { ومَنْ يؤمن بالله } يُصدِّق بأنَّه لا تصيبه مصيبةٌ إلاَّ بإذن الله { يهد قلبه } يجعله مهتدياً حتى يشكر عند النِّعمة ، ويصبر عند الشدَّة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
{ يا أيها الذين آمنوا إنَّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } نزلت في قومٍ آمنوا ، وأرادوا الهجرة فثبَّطهم أهلهم وأولادهم ، وقالوا : لا نصبر على مفارقتكم ، فأخبر الله تعالى أنَّهم أعداءٌ لهم بحملهم إيَّاهم على المعصية وترك الطَّاعة { فاحذروهم } أن تقبلوا منهم ولا تطيعوهم ، ثمَّ إذا هاجر هذا الذي ثبَّطه أهله عن الهجرة رأى النَّاس قد تعلَّموا القرآن ، وتفقَّهوا في الدِّين فيهمُّ أن يعاقب أهله ، فقال الله تعالى : { وإن تعفوا وتصفحوا فإن الله غفور رحيم } .
{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } اتبلاءٌ واختبارٌ لكم ، فمَنْ كسب الحرام لأجل الأولاد ، ومنع ماله عن الحقوق ، فهو مفتونٌ بالمال والولد { والله عنده أجر عظيم } لمن صبر عن الحرام ، وأنفق المال في حقِّه .
{ فاتقوا الله ما استطعتم } يعني : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عن ذلك . وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى : { اتَّقوا اللَّهَ حقَّ تُقاتِه } وقوله : { وأنفقوا خيراً لأنفسكم } أَيْ : قدِّموا خيراً لأنفسهم من أموالكم { ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفسه } بخلها وحرصها حتى ينفق المال { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بالخير .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
{ يا أيها النبيُّ إذا طلقتم النساء } هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنون داخلون معه في الخطاب ، ومعنى قوله : { إذا طلقتم } : إذا أردتم طلاق النِّساء { فطلقوهنَّ لعدتهنَّّ } أَيْ : لطهرهنَّ الذي يحصينه من عدتهنَّ ، وهذا سنَّةُ الطَّلاق ، ولا تُطلقوهنَّ لحيضتهنَّ التي لا يعتدون بها من زمان العِدَّة . { وأحصوا العدة } أَيْ : عدد أقرائها ، واحفظوها لتعلموا وقت الرَّجعة إن أردتم أن تُراجعوهنَّ ، وذلك أنَّ الرجعة إنَّما تجوز في زمان العِدَّة { واتقوا الله ربكم } وأطيعوه فيما يأمركم وينهاكم { لا تخرجوهنَّ من بيوتهن } حتى تنقضي عدَّتهنَّ { ولا يخرجن } من البيوت في زمان العِدَّة { إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي الزِّنا ، فيخرجن حينئذٍ لإِقامة الحدِّ عليهنَّ { وتلك حدود الله } يعني : ما ذكر من طلاق السُّنَّة { ومَنْ يتعدَّ حدود الله } ما حدَّ الله له من الطَّلاق وغيره { فقد ظلم نفسه لا تدري لعلَّ الله يحدث بعد ذلك أمراً } بعد الطَّلاق مراجعةً ، وهذا يدلُّ على كراهية التَّطليق ثلاثاً بمرَّةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ إحداث الرَّجعة لا يكون بعد الثَّلاث .
{ فإذا بلغن أجلهنَّ } قاربن انقضاء العدَّة { فأمسكوهنَّ } برجعةٍ تراجعونهنَّ بها { بمعروف } وهو أن لا يريد بالرَّجعة ضرارها { أو فارقوهنَّ بمعروف } أَيْ : اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ فتبين ، ولا تضاروهنَّ بمراجعتهنَّ . { وأشهدوا ذوي عدل منكم } على الرَّجعة أو الفراق . { ومَنْ يتَّق الله } يُعطه فيما يأمره وينهاه { يجعل له مخرجاً } من الشدَّة إلى الرَّخاء ، ومن الحرام إلى الحلال ، ومن النَّار إلى الجنَّة ، يعني : من صبر على الضِّيق ، واتَّقى الحرام جعل الله له مخرجاً من الضِّيق .
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } ويروى أنَّ هذا نزل في عوف بن مالك الأشجعيِّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنَّ العدو أسر ابني ، وشكا إليه الفاقة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتَّق الله واصبر ، وأَكْثِرْ من قول : لا حول ولا قوة إلاَّ بالله ، ففعل الرَّجل ذلك ، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو ، وأصابَ إبلاً لهم وغنماً ، فساقها إلى أبيه . { ومَن يتوكل على الله } ما أهمَّه يتوثق به ويسكن قلبه إليه { فهو حسبه } كافيه { إنَّ الله بالغ أمره } يبلغ أمره فيما يريد ، وينفذه { قد جعل الله لكل شيء قدراً } ميقاتاً وأجلاً .
{ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم } أَيْ : القواعد من النِّساء اللاتي قعدن عن الحيض { إن ارتبتم } إنْ شككتم في حكمهنَّ ولم تعلموا عدَّتهنَّ ، وذلك أنَّهم سألوا فقالوا : قد عرفناه عدَّة التي تحيض ، فما عِدَّة التي لا تحيض والتي لم تحض بعد؟ فبيَّن الله تعالى ذلك فقال : { فعدتهنَّ ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } يعني : الصِّغار . { وأولات الأحمال } ذوات الحمل من النِّساء { أجلهنَّ } عدتهنَّ { أن يضعن حملهنَّ } فإذا وضعت الحامل انقضت عدَّتها مُطلَّقةً كانت ، أو مُتوفَّى عنها زوجها { ومن يتق الله } بطاعته في أوامره ونواهيه { يجعل له من أمره يسراً } أتاه باليسر في أموره .
{ ذلك } يعني : ما ذُكر من أحكام العِدَّة { أمر الله أنزله إليكم . . . } الآية .
{ أسكنوهنَّ } أَيْ : المطلَّقات { من حيث سكنتم } أَيْ : من منازلكم وبيوتكم { من وُجدكم } : من سعتكم وطاقتكم { ولا تضاروهنَّ } لا تؤذوهن { لتضيقوا عليهن } مساكنهن فيحتجن إلى الخروج { وإن كنّ } أي المطلقات { أولات حَمْلٍ فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم } أولادكم منهنَّ { فآتوهن أجورهنّ } على إرضاعهنَّ { وائتمروا بينكم بمعروف } أَيْ : ليقبل بعضكم من بعضٍ إذا أمره بمعروف { وإن تعاسرتم } تضايقتم ولم تتوافقوا على إرضاع الأمِّ { فسترضع } الصَّبيَّ [ { له } لوالده ] مرضعةٌ أخرى سوى الأُمَّ ، ولا تُكرَهُ الأمُّ على الإِرضاع .
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{ لينفق ذو سعة من سعته } أمر أهل التَّوسعة أن يُوسِّعوا على نسائهم المرضعات أولادهنَّ { ومَنْ قدر عليه رزقه } مَنْ كان رزقه بمقدار القوت { فلينفق } على قدر ذلك . { لا يكلف الله نفساً إلاَّ ما آتاها } أعطاها . { سيجعل الله بعد عسرٍ يُسْراً } أعلم الله تعالى المؤمنين أنَّهم - وإن كانوا في حالٍ ضيقةٍ - سَيُوَسِّرهم ويفتح عليهم ، وكان الغالب عليهم في ذلك الوقت الفقر والفاقة ، ثمَّ فتح الله عليهم وجاءهم باليسر .
{ وكأين } وكم { من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } عتا أهلها عمَّا أمر الله تعالى به ورسله { فحاسبناها } في الآخرة { حساباً شديداً وعذَّبناها عذاباً نكراً } فظيعاً ، يعني : عذاب النَّار .
{ فذاقت وبال أمرها } ثقل عاقبة أمرها { وكان عاقبة أمرها خسراً } خساراً وهلاكاً . وقوله :
{ قد أنزل الله إليكم ذكراً } أَيْ : القرآن .
{ رسولاً } أَيْ : وأرسل رسولاً . { يتلو عليكم آياتِ الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . وقوله : { قد أحسن الله له رزقاً } أَيْ : رزقهُ الجنَّة التي لا ينقطع نعيمُها . وقوله :
{ يتنزل الأمر بينهنَّ } يعني : إنَّ في كلِّ سماء وكلِّ أرض خلقاً من خلقه ، وأمراً نافذاً من أمره { لتعلموا } أَيْ : أعلمكم ذلك وبيَّنه لتعلموا قدرته على كلّ شيء ، وأنَّه علم كلَّ شيءٍ .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
{ يا أيها النبيُّ لم تحرِّم ما أحلَّ الله لك } رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل على حفصة في يوم نوبتها ، فخرجت هي لبعض شأنها ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مارية جاريته ، وأدخلها بيت حفصة وواقعها ، فلمَّا رجعت حفصة علمت بذلك فغضبت وبكت ، وقالت : أَما لي حرمةٌ عندك وحقٌّ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسكتي فهي حرامٌ عليَّ ، أبتغي بذلك رضاك ، وحلف أن لا يقربها ، وبشَّرها بأنَّ الخليفة من بعده أبوها وأبو عائشة رضي الله عنهم أجميعن ذكوراً وإناثاً ، وقال لها : لا تخبري أحداً بما أسررتُ إليك من أمر الجارية وأمر الخلافة من بعدي ، فلمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها أخبرت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها بذلك وقالت : قد أراحنا الله من مارية ، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّمها على نفسه ، وقصَّت عليها القصَّة ، فنزل : { لم تحرِّم ما أحل الله لك } أَيْ : الجارية { تبتغي } بتحريمها { مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } غفر لك ما فعلت من التَّحريم ، ثمَّ أمره بأن يكفِّر عن يمينه .
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
{ قد فرض الله لكم } أَيْ : بيَّن الله لكم { تحلَّة أيمانكم } ما تستحلُّ به المحلوف عليه من الكفَّار . يعني : في سورة المائدة .
{ وإذ أسرَّ النبيُّ إلى بعض أزواجه } يعني : حفصة { حديثاً } تحريم الجارية وأمر الخلافة { فلما نبأت به } أخبرت به عائشة رضوان الله عليهما وعلى أبيهما { وأظهره الله عليه } أطلع نبيَّه عليه السَّلام على إفشائها السِّرَّ { عرَّف بعضه } أخبر حفصه ببعض ما قالت لعائشة { وأعرض عن بعض } فلم يُعرِّفها إيَّأه على وجه التَّكرُّم والإِغضاء { فلما نبأها به } أخبر حفصة بما فعلت { قالت من أنبأك هذا } من أخبرك بما فعلت؟ { قال نبأني العليم الخبير } .
{ إن تتوبا إلى الله } يعني : عائشة وحفصة { فقد صغت قلوبكما } عدلت وزاغت عن الحقِّ ، وذلك أنَّهما أحبَّتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته { وإن تظاهرا عليه } تتعاعونا على أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإنَّ الله هو مولاه } وليُّه وحافظه فلا يضرُّه تظاهُرُكُما عليه وقوله : { وصالح المؤمنين } قيل : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وهو تفسير النبيِّ صلى الله عليه وسلم { والملائكة بعد ذلك ظهير } أَيْ : الملائكة بعد هؤلاء أعوانٌ .
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
{ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } هذا إخبارٌ عن قدرة الله تعالى على أن يُبدِّله لو طلَّق أزواجه خيراً منهنَّ ، وتخويفٌ لنسائه . وقوله : { قانتات } مطيعاتٍ { سائحات } صائماتٍ .
{ يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً } أَيْ : خذوا أنفسكم وأهليكم بما يُقرِّب من الله تعالى ، وجَنِّبوا أنفسكم وأهليكم المعاصي { وقودها الناس والحجارة } أَيْ : توقد بهذين الجنسين { عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } يعني : خزنة جهنَّم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{ توبة نصوحاً } هي التَّوبة التي تنصح صاحبها حتى لا يعود إلى ما تاب منه ، ونصوحاً معناه بالغةً في النُّصْح . وقوله : { لا يخزي الله النبيَّ والذين آمنوا معه } أَيْ : لا يفضحهم ولا يهلكهم . { نورهم } على الصِّراط { يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } إذا طُفىء نور المنافقين دعوا الله وسألوه أن يتمَّ لهم النُّور ، ثمَّ ضرب مثلاً للنِّساء الصَّالحات والطَّالحات ، فقال : { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح . . . } .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
{ ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما } أَيْ : في الدِّين ، فكانت امرأةُ نوحٍ تخبر قومه أنَّه مجنونٌ ، وامرأة لوط دلَّت على أضيافه { فلم يُغْنيا } يعني : نوحاً ولوطاً { عنهما من } عذاب { الله شيئاً } من شيءٍ ، وهذا تخويفٌ لعائشة وحفصة ، وإخبار أنَّ الأنبياء لا يُغنون عن مَنْ عمل بالمعاصي شيئاً ، وقطعٌ لطمع من ركب المعصية رجاء أن ينفعه صلاح غيره . وقوله :
{ ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة } قيل : إنَّ فرعون لما تبيَّن له إسلامها وَتَدَها على الأرض بأربعة أوتاد على يديها ورجليها ، فقالت وهي تعذَّب : { ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله } أَيْ : تعذيبه إيَّاي ، وفي هذا بيانٌ أنَّها لم تمل إلى معصيته مع شدَّة ما قاست من العذاب ، وكذا فليكن صوالح النِّساء ، وأمرٌ لعائشة وحفصة أن يكونا كآسيةَ وكمريم بنت عمران . وقوله :
{ ومريم ابنة عمران } هو عطفٌ على قوله : " امرأة فرعون " { التي أحصنت فرجها } أَيْ : عفَّت وحفظت { فنفخنا فيه من } جيب درعها من { روحنا } . فُسِّر في سورة الأنبياء ، { وصدَّقت بكلمات ربِّها وكتبه } آمنت بما أنزل الله على الأنبياء { وكانت من القانتين } أَيْ : من القوم المُطيعين لله ، أَيْ : إِنَّها أطاعت فدخلت في جملة المطيعين لله من الرِّجال والنِّساء .
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{ تبارك } أَيْ : تعالى وتعظَّم { الذي بيده الملك } يُؤتيه مَنْ يشاء وينزعه عمَّن يشاء .
{ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم } في الحياة { أيكم أحسن عملاً } أَيْ : أطوع لله وأورع عن محارمه ، ثمَّ يُجازيكم بعد الموت .
{ الذي خلق سبع سموات طباقاً } بعضها فوق بعضٍ { ما ترى في خلق الرحمن } أَيْ : خلقه السَّماء { من تفاوت } اضطرابٍ واختلافٍ ، بل هي مستويةٌ مستقيمةٌ { فارجع البصر } [ أعد فيها النَّظر ] { هل ترى من فطور } صدوعٍ وشقوقٍ . { ثم ارجع البصر } [ كرِّر النظر ] { كرَّتين } مرَّتين .
{ ينقلب إليك البصر } ينصرف ويرجع { خاسئاً } صاغراً ذليلاً { وهو حسير } أيْ : وقد أعيا من قبل أن يرى في السَّماء خللاً .
{ ولقد زيَّنا السماء الدنيا } التي تدنو منكم { بمصابيح } بكواكب { وجعلناها رجوماً } مرامي { للشياطين } إذا استرقوا السَّمع { وأعتدنا لهم } في الآخرة { عذاب السعير } .
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
{ إذا ألقوا فيها سمعوا لها } لجهنَّم { شهيقاً } صوتاً كصوت الحمار { وهي تفور } تغلي .
{ تكاد تميز من الغيظ } تتقطَّع غضباً على الكفَّار { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها } سؤال توبيخ : { ألم يأتكم نذير } رسولٌ في الدُّنيا ينذركم عذاب الله؟ فقالوا :
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
{ لو كنا نسمع } من الرُّسل سمع مَنْ يفهم ويتفكَّر { أو نعقل } عقل مَن ينظر { ما كنا في أصحاب السعير } . وقوله :
{ فاعترفوا بذنبهم } بتكذيب الرُّسل ، ثمَّ اعترفوا بجهلهم { فسحقاً لأصحاب السعير } أَيْ : أسحقهم الله سحقاً ، أَيْ : باعدهم من رحمته مُباعدةً .
{ إن الذين يخشون ربهم بالغيب } قبل مُعاينة العذاب وأحكام الآخرة .
{ وأسروا قولكم أو اجهروا به } نزلت في المشركين الذين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم ، فيخبره الله تعالى ، فقالوا : فيما بينهم : أَسرّوا قولكم كيلا يسمع إله محمَّدا .
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
{ ألا يعلم من خلق } أَيْ : ألا يعلم ما في صدوركم وما تُسرّون به مَنْ خلقكم؟
{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } سهلاً مُسخَّرةً { فامشوا في مناكبها } جوانبها { وإليه النشور } إليه يبعث الخلق .
{ أأمنتم من في السماء } قدرته وسلطانه وعرشه { أن يخسف بكم الأرض } تغور بكم { فإذا هي تمور } تتحرَّك بكم وترتفع فوقكم . وقوله :
{ فستعلمون } أَيْ : عند مُعاينة العذاب { كيف نذير } أَيْ : إنذاري بالعذاب .
{ ولقد كذَّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير } إنكاري إذ أهلكتهم .
{ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات } باسطاتٍ أجنحتها { ويقبضن } يضربن بها جنوبهنَّ { ما يمسكهنَّ } في حال القبض والبسط { إلاَّ الرحمن } بقدرته .
{ أم مَنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم مِنْ دون الرحمن } يدفع عنكم عذابه .
{ بل لجُّوا } تمادوا { في عتوّ } عصيانٍ وضلالٍ { ونفور } تباعدٍ عن الحقِّ .
{ أفمن يمشي مكباً على وجهه } أَيْ : الكافر يُحشر يوم القيامة وهو يمشي على وجهه . يقال : كببْتُ فلاناً على وجهه فأكبَّ هو . يقول : هذا { أهدى أم من يمشي سوياً } مستوياً مستقيماً { على صراط مستقيم } وهو المؤمن .
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
{ قل هو الذي أنشأكم } خلقكم { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون } أَيْ : لا تشكرون خالقكم وخالق هذه الأعضاء لكم إذ أشركتم به غيره .
{ قل هو الذي ذرأكم } خلقكم { في الأرض وإليه تحشرون } .
{ ويقولون متى هذا الوعد } أَيْ : وعد الحشر .
{ قل إنما العلم } بوقوعه ومجيئه { عند الله وإنما أنا نذير } مُخوِّفٌ { مبين } أُبيِّن لكم الشَّريعة .
{ فلمَّا رأوه } أَيْ : العذاب في الآخرة { زلفة } قريباً { سيئت وجوه الذين كفروا } تبيَّن في وجوههم السُّوء ، وعلتها الكآبة { وقيل هذا } العذاب { الذي كنتم به تَدَّعُون } تفتعلون من الدُّعاء ، أَيْ : تدعون الله به إذ تقولون : { اللَّهم إنْ كان هذا هو الحقَّ من عندك . . . } الآية .
{ قل أرأيتم إن أهلكني الله } فعذَّبني { ومَنْ معي أو رحمنا } غفر لنا { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } يعني : نحن مع إيمناننا خائفون نخاف عذاب الله ونرجو رحمته ، فمن يمنعكم من عذابه وأنتم كافرون؟
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ قُلْ أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً } غائراً ذاهباً في الأرض { فمن يأتيكم بماء معين } ظاهر تناله الأيدي والدِّلاء .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
{ ن } أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرضُ . { والقلم } يعني : القلم الذي خلقه الله تعالى ، فجرى بالكائنات إلى يوم القيامة { وما يسطرون } أَيْ : وما تكتب الملائكة .
{ ما أنت بنعمة ربك } بإنعامه عليك بالنُّبوِّة { بمجنون } أَيْ : إِنَّك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنُّبوَّة ، وهذا جوابٌ لقولهم : { وقالوا يا أيها الذي نُزِّل عليه الذِّكر إنَّك لمجنونٌ } { وإنَّ لك لأجراً غير ممنون } غير مقطوعٍ ولا منقوصٍ .
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{ وإنك لعلى خلق عظيم } أَيْ : أنت على الخُلُقِ الذي أمرك الله به في القرآن .
{ فستبصر } يا محمد { ويبصرون } أَيْ : المشركون الذي رموه بالجنون .
{ بأييكم المفتون } الفتنة ، أَبِكَ أم بهم .
{ فلا تطع المكذبين } فيما دعوك إليه من دينهم .
{ وَدُّوا لو تدهن فيدهنون } تلين فيلينون لك .
{ ولا تطع كلَّ حلاَّفٍ } كثير الحلف بالباطل ، أَيْ : الوليد بن المغيرة { مهين } حقير .
{ همَّاز } عيَّابٍ { مشَّاء بنميم } سَاعٍ بين النَّاسِ بالنَّميمة .
{ مناع للخير } بخيلٍ بالمال عن الحقوق { معتد } مجاوزٍ في الظُّلم { أثيم } آثمٍ .
{ عتل } جافٍ غليظٍ { بعد ذلك } مع ما ذكرنا من أوصافه { زنيم } مُلحَقٍ بقومه وليس منهم .
{ إن كان } لأن كان { ذا مال وبنين } يُكذِّب بالقرآن . وهو قوله :
{ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } والمعنى : أَيجعل مُجازاة نعمة الله عليه بالمال والبنين الكفر بآياتنا؟
{ سنسمه على الخرطوم } سنجعل على أنفه علامةً باقيةً ما عاش ، نخطم أنفه بالسَّيف يوم بدرٍ .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
{ إنا بلوناهم } امتحنا أهل مكَّة بالقحط والجوع { كما بلونا أصحاب الجنة } كما امتحنَّا أصحاب البستان بإحراقها وذهاب قوتهم منها ، وكانوا قوماً بناحية اليمن ، وكان لهم أبٌ وله جنَّةٌ كان يتصدَّق فيها على المساكين ، فلمَّا مات قال بنوه : نحن جماعةٌ ، وإنْ فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، فحلفوا ليقطعنَّ ثمرها بسدفةٍ من اللَّيل كيلا يشعر المساكين فيأتوهم ، وهو قوله : { إذْ أقسموا ليصرمنها مصبحين } .
{ ولا يستثنون } ولا يقولون إن شاء الله .
{ فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } أَيْ : أنزل الله عليها ناراً أحرقتها .
{ فأصبحت كالصريم } كاللَّيل المُظلم سوداء .
{ فتنادوا مصبحين } نادى بعضهم بعضاً لمَّا أصبحوا ليخرجوا إلى الصِّرام ، وهو قوله :
{ أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } قاطعين الثَّمر .
{ فانطلقوا } ذهبوا إليها { وهم يتخافتون } يتسارُّون الكلام بينهم .
ب { ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } .
{ وغدوا على حرد } قصدٍ وجدٍّ { قادرين } عند أنفسهم على ثمر الجنَّة .
{ فلما رأوها } سوداء محترقةً { قالوا إنَّا لضالون } مُخطئون طريقنا ، وليست هذه جنَّتنا ، ثمَّ علموا أنَّها عقوبةٌ من الله تعالى فقالوا :
{ بل نحن محرومون } حُرمنا ثمر جنَّتنا بمنعنا المساكين .
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
{ قال أوسطهم } أعدلهم وأفضلهم : { ألم أقل لكم لولا تسبحون } هلاَّ تستثنون ، ومعنى التَّسبيح ها هنا الاستثناء بإنْ شاء الله؛ لأنَّه تعظيمٌ لله ، وكلُّ تعظيمٍ لله فهو تسبيحٌ له .
{ قالوا سبحان ربنا } نزَّهوه عن أن يكون ظالماً ، وأقرُّوا على أنفسهم بالظُّلم فقالوا : { إنا كنا ظالمين } .
{ فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ومنع حقهم .
{ قالوا يا ويلتنا إنا كنا طاغين } بمنع حقِّ الفقراء وترك الاستثناء .
{ عسى ربنا أن يُبْدِلَنا خيراً منها } من هذه الجنَّة { إنا إلى ربنا راغبون } .
{ كذلك العذاب } كما فعلنا بهم نفعل بمَنْ خالف أمرنا ، ثمَّ بيَّن ما عند الله للمؤمنين فقال تعالى :
{ إنَّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم } فلمَّا نزلت قال بعض قريش : إنْ كان ما تذكرون حقَّاً فإنَّ لنا في الآخرة أكثرَ ممَّا لكم ، فنزل :
{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين } . { ما لكم كيف تحكمون } .
{ أم لكم كتاب } نزل من عند الله { فيه } ما تقولون { تدرسون } تُقرُّون ما فيه .
{ إنَّ لكم فيه } في ذلك الكتاب { لما تخيرون } تختارون .
{ أم لكم أيمان } عهودٌ ومواثيق { علينا بالغة } محكمةٌ لا ينقطع عهدها { إلى يوم القيامة إنَّ لكم لما تحكمون } تقضون . وكسرت " إنَّ " في الآيتين لمكان اللام في جوابها ، وحقُّها الفتح لو لم تكن اللام .
ف { سلهم } يا محمد { أيهم بذلك } الذي يقولون من أنَّ لهم في الآخرة حظّاَ { زعيم } كفيلٌ لهم .
{ أم لهم شركاء } آلهةٌ تكفل لهم بما يقولون { فليأتوا بشركائهم } لتكفل لهم { إن كانوا صادقين } فيما يقولون .
{ يوم يكشف عن ساق } عن شدَّةٍ من الأمر ، وهو يوم القيامة . قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : أشدُّ ساعةٍ في القيامة ، فصار كشف السَّاق عبارةً عن شدَّة الأمر { ويدعون إلى السجود } أَيْ : الكافرون والمنافقون { فلا يستطيعون } يصير ظهرهم طبقاً واحداً كلَّما أراد أن يسجد واحدٌ منهم خرَّ على قفاه .
{ خاشعة أبصارهم } ذليلةً لا يرفعونها { ترهقهم } تغشاهم { ذلَّة وقد كانوا يدعون إلى السجود } في الدُّنيا { وهم سالمون } فيأبون ولا يسجدون لله .
{ فذرني ومَنْ يكذب بهذا الحديث } دعني والمُكذِّبين بهذا القرآن ، أَيْ : كِلْهُمْ إليَّ ولا تشغل قلبك بهم ، فإنِّي أكفيك أمرهم . { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } أَيْ : نأخذهم قليلاً قليلاً ولا نباغتهم .
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{ وأملي لهم } أُمهلهم كي يزدادوا تمادياً في الشِّرك { إنَّ كيدي متين } شديدٌ لا يطاق .
{ أم تسألهم } بل أتسألهم على ما آتيتهم به من الرِّسالة { أجراً فهم من مغرم } ممَّا يعطونك { مُثقلون } .
{ أم عندهم الغيب } علم ما في غدٍ { فهم يكتبون } يحكمون . وقوله :
{ ولا تكن كصاحب الحوت } كيونس في الضَّجر والعجلة { إذ نادى } دعا ربَّه { وهو مكظوم } مملوءٌ غمَّاً .
{ لولا أن تداركه } أدركه { نعمة } رحمةٌ { من ربه لنبذ } لطرح حين ألقاه الحوت { بالعراء } بالأرض الفضاء الواسعة؛ لأنَّها خاليةٌ من البناء والإِنسان والأشجار { وهو مذموم } مجرم .
{ فاجتباه ربه } فاختاره { فجعله من الصالحين } بأن رحمه وتاب عليه .
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر } أَيْ : إنَّهم لشدَّة إبغاضهم وعداوتهم لك إذا قرأت القرآن ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد يصرعك ويسقطك عن مكانك { ويقولون إنه لمجنون } .
{ وما هو } أَيْ : القرآن { إلاّ ذكر } عظةٌ { للعالمين } .
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
{ الحاقة } أَيْ : القيامة؛ لأنَّها حقَّت فلا كاذبة لها .
{ ما الحاقة } استفهامٌ معناه التَّعظيم لشأنها ، كقولك : زيدٌ ما هو؟
{ وما أدراك ما الحاقة } أَيٌّ شيء أعلمك ما ذلك اليوم؟ ثمَّ ذكر أمر مَنْ كذَّب بالقيامة ، فقال :
{ كذبت ثمود وعادٌ بالقارعة } بالقيامة التي تقرع القلوب .
{ فأمَّا ثمود فأهلكوا بالطاغية } أَيْ : بالصَّيحة الطَّاغية ، وهي التي جاوزت المقدار .
{ وأمَّا عادٌ فأهلكوا بريح صرصر عاتية } عتت على خُزَّانها فلم تُطعهم .
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
{ سخرها عليهم } استعملها عليهم كما شاء . وقوله : { حسوماً } أَيْ : دائمةً مُتتابعةً ، والمعنى : تحسمهم حسوماً ، أَيْ : تذهبهم وتفنيهم { فترى القوم } [ أيْ : أهل القرى ] { فيها } أَيْ : في تلك الأيَّام { صرعى } جمع صريعٍ { كأنهم أعجاز } أصول { نخل خاوية } ساقطةٍ .
{ فهل ترى لهم من باقية } أَيْ : هل ترى منهم باقياً .
{ وجاء فرعون ومِنْ قِبَلِه } أَيْ : تُبَّاعه . ومَنْ قرأ : { ومَنْ قَبْلَه } فمعناه : مَنْ تقدَّمه من الأمم { والمؤتفكات } أَيْ : أهل قرى قوم لوط { بالخاطئة } بالخطأ العظيم ، وهو الكفر .
{ فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية } زائدةً تزيد على الأخذات .
{ إنَّا لما طغى الماء } جاوز حدَّه . يعني : أيَّام الطُّوفان { حملناكم } أَيْ : حملنا آباءكم { في الجارية } وهي السَّفينة .
{ لنجعلها } لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوحٍ وإنجاء مَنْ معه { لكم تذكرة } تتذكَّرونها فتتَّعظون بها { وتعيها أذن واعية } لتحفظها كلُّ أذنٍ تحفظ ما سمعت .
{ فإذا تفخ في الصور نفخة واحدة } أَيْ : النِّفخة الأولى لقيام السَّاعة .
{ وحملت الأرض والجبال فدكتا } كُسرتا { دكَّة واحدة } فصارت هباءً منبثاً .
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
{ فيومئذٍ وقعت الواقعة } قامت القيامة .
{ وانشقت السماء فهي يومئذٍ واهية } أَيْ : مُتَشَقِّقةٌ .
{ والملك } يعني : الملائكة { على أرجائها } نواحيها { ويحمل عرش ربك فوقهم } فوق الملائكة { يومئذٍ ثمانية } أملاك .
{ يومئذٍ تعرضون } على ربِّكم { لا تخفى منكم خافية } كقوله : { لا يخفى على الله منهم شيءٌ } { فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } خذوا فاقرؤوا كتابي ، وذلك لما يرى فيه من الحسنات .
{ إني ظننت أني ملاق حسابيه } أَيْ : أيقنت أنِّي أُحاسب .
{ فهو في عيشة راضية } ذات رضىً ، أَيْ : يرضى بها صاحبها .
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{ قطوفها دانية } ثمارها قريبةٌ من مريدها على أيِّ حالٍ كان . يقال لهم : { كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم } قدَّمتم لآخرتكم من الأعمال الصَّالحة { في الأيام الخالية } الماضية في الدُّنيا .
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
{ يا ليتها كانت القاضية } يقول : ليت الموتة التي مُتها لم أَحْيَ بعدها .
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
{ هلك عني سلطانية } ذهب عني حجَّتي ، وزال عني ملكي وقوَّتي ، فيقول الله لخزنة جهنَّم .
{ خذوه فغلُّوه } . { ثم الجحيم صلُّوه } أدخلوه .
{ ثمَّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } أَيْ : أدخلوه في تلك السِّلسلة ، فتدخل في دبره وتخرج من فيه ، وهي سلسلةٌ لو جُمع حديد الدُّنيا ما وزن حلقةً منها .
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
{ ولا يحض على طعام المسكين } لا يأمر بالصَّدقة على الفقراء .
{ فليس له اليوم هاهنا حميم } قريبٌ ينفعه .
{ ولا طعام إلاَّ عن غسلين } وهو صديد أهل النَّار .
{ لا يأكله إلاَّ الخاطئون } وهم الكافرون .
{ فلا أقسم } { لا } زائدة { بما تبصرون } ما ترون من المخلوقات .
{ وما لا تبصرون } ما لا ترون منها .
{ إنه } إنَّ القرآن { لقول } لتلاوةُ { رسول كريم } على الله . يعني : محمَّداً صلوات الله عليه .
{ وما هو بقول شاعر } أَيْ : ليس هو شاعراً { قليلاً ما تؤمنون } { ما } لغوٌ مؤكِّدة .
{ ولا بقول كاهن } وهو الذي يُخبر عن المُغيَّبات من جهة النُّجوم كذباً وباطلاً ، ثمَّ بيَّن أنَّ ما يتلوه تنزيلٌ من الله تعالى ، فقال :
{ تنزيل من رب العالمين } .
{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل } يعني : النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو قال ما لم يُؤمر به ، وأتى بشيءٍ مِنْ قِبَل نفسه . { لأخذنا منه باليمين } { مِنْ } صلةٌ ، والمعنى : لأخذناه بالقوَّة والقدرة .
{ ثمَّ لقطعنا منه الوتين } وهو نياط القلب ، أَيْ : لأهلكناه .
{ فما منكم من أحد عنه حاجزين } أَيْ : لم يحجزنا عنه أحدٌ منكم .
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{ وإنَّه } أَيْ : القرآن { لحسرة على الكافرين } يوم القيامة إذا رأوا ثواب متابعيه .
{ وإنه لحق اليقين } أَيْ : وإنَّه اليقين حقُّ اليقين .
{ فسبح باسم ربك العظيم } نزِّهه عن السُّوء .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
{ سأل سائل } دعا داعٍ { بعذاب واقع } .
{ للكافرين } على الكافرين ، وهو النَّضر بن الحارث حين قال : { اللَّهم إن كانَ هذا هو الحقَّ من عندكَ } الآية . { ليس له دافع } ليس لذلك العذاب الذي يقع بهم دافعٌ .
{ من الله } أَيْ : ذلك العذاب يقع بهم من الله { ذي المعارج } ذي السَّموات .
{ تعرج الملائكة والروح } يعني : جبريل عليه السَّلام { إليه } إلى محل قربته وكرامته ، وهو السَّماء { في يوم } { في } صلةُ " واقعٍ " ، أَيْ : عذابٌ واقعٌ في يومٍ { كان مقداره خمسين ألف سنة } وهو يوم القيامة .
{ فاصبر صبراً جميلاً } وهذا قبل أن أُمر بالقتال . { إنهم } يعني : المشركين { يرونه } يرون ذلك اليوم { بعيداً } مُحالاً لا يكون .
{ ونراه قريباً } لأنَّ ما هو آتٍ قريبٌ ، ثمَّ ذكر متى يكون ذلك اليوم فقال :
{ يوم تكون السماء كالمهل } كدرديِّ الزَّيت . وقيل : كالقار المُذاب ، وقد مَّر هذا .
{ وتكون الجبال } : [ الجواهر . وقيل : الذَّهب والفضَّة والنُّحاس ] { كالعهن } كالصُّوف المصبوغ .
{ ولا يسأل حميم حميماً } لا يسأل قريبٌ عن قريبٍ لاشتغاله بما هو فيه .
{ يبصرونهم } يُعرَّف بعضهم بعضاً ، أَيْ : إنَّ الحميم يرى حميمه ويعرفه ، ولا يسأل عن شأنه . { يودُّ المجرم } يتمنَّى الكافر { لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه } .
{ وصاحبته } وزوجته { وأخيه } .
{ وفصيلته } عشيرته التي فُصِلَ منها { التي تؤويه } تضمُّه إليها في النَّسب .
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
{ ومَنْ في الأرض جميعاً ثم ينجيه } ذلك الافتداء .
{ كلا } ليس الأمر كذلك ، لا ينجيه شيءٌ . { إنها لظى } وهي من أسماء جهنَّم .
{ نزاعة للشوى } يعني : جلود الرَّأس تقشيرها عنه .
{ تدعو } الكافر باسمه والمنافق ، فتقول : إليَّ إليَّ يا { مَنْ أدبر } عن الإِيمان { وتولى } أعرض .
{ وجمع } المال { فأوعى } فأمسكه في وعائه ، ولم يُؤدِّ حقَّ الله منه .
{ إنَّ الإِنسان خُلق هلوعاً } وتفسير الهلوع ما ذكره في قوله :
{ إذا مسَّه الشر جزوعاً } يجزع من الشَّرِّ ولا يستمسك .
{ وإذا مسَّه الخير منوعاً } إذا أصاب المال منع حقَّ الله .
{ إلاَّ المصلين } أَيْ : المؤمنين .
{ الذين هم على صلاتهم دائمون } لا يلتفتون في الصَّلاة عن سمت القبلة .
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
{ والذين هم بشهاداتهم قائمون } يقيمونها ولا يكتمونها .
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{ فما للذين كفروا } ما بالهم { قبلك مهطعين } يُديمون النَّظر إليك ، ويتطلّعون نحوك .
{ عن اليمين وعن الشمال } عن جوانبك { عزين } جماعاتٍ حلقاً حلقاً ، وذلك أنَّهم كانوا يجتمعون عنده ، ويستهزئون به وبأصحابه ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنَّة فلندخلنَّها قبلهم . قال الله تعالى :
{ أيطمع كلُّ امرىءٍ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا } لا يدخلونها . { إنا خلقناهم مما يعلمون } من ترابٍ ومن نطفةٍ ، فلا يستوجب أحدٌ الجنة بشرفه وماله؛ لأنَّ الخلق كلَّهم من أصلٍ واحدٍ ، بل يستوجبونها بالطَّاعة .
{ فلا أقسم } " لا " صلة . يعني : أُقسم . وقوله :
{ وما نحن بمسبوقين } أَيْ : بمغلوبين ، نظيره قد تقدَّم في سورة الواقعة .
{ فذرهم يخوضوا } في باطلهم { ويلعبوا } في دنياهم { حتى يُلاقوا يومهم الذي يوعدون } نسختها آية القتال .
{ يوم يخرجون من الأجداث } القبور { سراعاً كأنهم إلى نصب } إلى شيءٍ منصوبٍ من علمٍ أو رايةٍ { يوفضون } يُسرعون .
{ خاشعة أبصارهم } ذليلةً خاضعةً لا يرفعونها لذلَّتهم { ترهقهم ذلة } يغشاهم هوان { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } يعني : يوم القيامة .
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
{ إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك } أَيْ : بأن خوِّفهم عذاب الله { من قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم } .
{ قال يا قوم إني لكم نذير مبين } . { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } .
{ يغفر لكم من ذنوبكم } { مِنْ } صلة { ويؤخركم } عن العذاب { إلى أجل مسمىً } وهو أجل الموت ، فتموتوا غيرَ ميتة مَنْ يهلك بالعذاب { إنَّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر } إذا جاء الأجل في الموت لا يُؤخَّر { لو كنتم تعلمون } ذلك .
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
{ إلاَّ فراراً } أَيْ : نفاراً عن طاعتك وإدباراً عني .
{ وإني كلما دعوتهم } إلى الإِيمان بك { لتغفر لهم } ما قد سلف من ذنوبهم { جعلوا أصابعهم في آذانهم } لئلا يسمعوا صوتي { واستغشوا ثيابهم } غطُّوا بها وجوههم مبالغةً في الإِعراض عني كيلا يروني { وأصروا } أَقاموا على كفرهم { واستكبروا } عن اتِّباعي { استكباراً } لأنَّهم قالوا : { أَنؤمنُ لك واتَّبعكَ الأَرْذَلون } { ثم إني دعوتهم جهاراً } أظهرتُ لهم الدَّعوة .
{ ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً } أَيْ : خلطتُ دعاءَهم العلانيَة بدعاءِ السِّرِّ .
{ فقلت استغفروا ربكم إنه غفاراً } . { يرسل السماء عليكم مدراراً } .
{ ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } وذلك أنَّهم لما كذَّبوه حبس الله عنهم المطر وأعقم نساءَهم ، فهلكت أموالهم ومواشيهم ، فوعدهم نوحٌ إنْ آمنوا أَنْ يردَّ الله عليهم ذلك ، فقال : { يرسل السماء عليكم مدراراً } كثيرة الدرِّ ، أَيْ : كثيرة المطر ، { ويمددكم بأموالٍ وبنين } : يعطكم زينة الدُّنيا ، وهي المال والبنون .
{ ما لكم لا تَرْجُون لله وقاراً } لا تخافون لله عظمةً .
{ وقد خلقكم أطواراً } حالاً بعد حالٍ . نطفةً ، ثمَّ علقةً ، ثمَّ مضغةً ، إلى تمام الخلق .
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
{ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً } بعضها فوق بعض .
{ وجعل القمر فيهن نوراً } أَيْ : في إحداهنَّ { وجعل الشمس سراجاً } تُضِيءُ لأهل الأرض .
{ والله أنبتكم من الأرض نباتاً } جعلكم تنبتون من الأرض نباتاً ، وذلك أنَّه خلق آدم من الأرض وأولاده [ أحياءً ] منه .
{ ثم يعيدكم فيها } أمواتاً { ويخرجكم } منها إخراجاً . وقوله :
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{ سبلاً فجاجاً } أَيْ : طرقاً بيِّنةً . وقوله :
{ واتبعوا مَنْ لم يزده ماله وولده إلاَّ خساراً } أَيْ : اتَّبعوا أشرافهم الذين لا يزيدون بإنعام الله تعالى عليهم بالمال والولد إلاَّ طغياناً وكفراً .
{ ومكروا مكراً كباراً } أفسدوا في الأرض فساداً عظيماً بالكفر وتكذيب الرُّسل .
{ وقالو } لسفلتهم : { لا تذرنَّ آلهتكم ولا تَذَرُنَّ ودَّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } وفي أسماء أوثانهم .
{ وقد أضلوا كثيراً } أَيْ : ضلَّ كثيرٌ من النَّاس بسببها ، كقوله : { إنهنَّ أضللْنَ كثيراً من النَّاس } { ولا تزد الظالمين إلاَّ ضلالاً } دعاءٌ من نوحٍ عليهم بأن يزيدهم الله ضلالاً ، وذلك أن الله تعالى أخبره أنه لن يؤمن من قومه إلاَّ من قد آمن ، فلما أيس نوح من إيمانهم دعا عليهم بالضَّلال والهلاك . قال الله تعالى :
{ ممَّا خطيئاتهم } { ما } صلة ، أَيْ : مِن خطيئاتهم التي ارتكبوها { أغرقوا } بالطُّوفان { فأدخلوا ناراً } بعد الغرق ، أَيْ : أُدخلوا جهنَّم { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً } لم يجدوا مَنْ يمنعهم من عذاب الله .
{ وقال نوحٌ ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّاراً } أَيْ : نازل دار ، أَيْ : أحداً .
{ إنك إن تذرهم } فلا تهلكهم { يضلوا عبادك } بدعوتهم إلى الضَّلال { ولا يلدوا إلاَّ فاجراً كفاراً } إلاَّ مَنْ يفجر ويكفر ، وذلك أنَّ الله أخبره أنَّهم لا يلدون مؤمناً .
{ ربِّ اغفر لي ولوالدي } وكانا مؤمنين { ولمن دخل بيتي } مسجدي { مؤمناً للمؤمنين والمؤمنات } إلى يوم القيامة { ولا تزد الظالمين إلاَّ تباراً } هلاكاً ودماراً .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
{ قل أوحي إليَّ } أَيْ : أُخبرت بالوحي من الله إليَّ { أنَّه استمع نفرٌ من الجن } وذلك أنَّ الله تعالى بعث نفراً من الجنِّ ليَستمعوا قراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي الصُّبح ببطن نخلة ، وهؤلاء الذين ذكرهم الله في سورة الأحقاف في قوله : { وإذ صرفنا إليك نفراً . . . . } الآية . فلما رجعوا إلى قومهم قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً } في فصاحته وبيانه وصدق إخباره .
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
{ وأنَّه تعالى جدُّ ربنا } أي : جلاله وعظمته عن أن يتَّخذ ولداً أو صاحبة .
{ وأنَّه كان يقول سفيهنا } جاهلنا { على الله شططاً } غلوَّاً في الكذب حتى يصفه بالولد والصاحبة .
{ وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً } أي : كنَّا نظنُّهم صادقين في أنَّ لله صاحبةً وولداً حتى سمعنا القرآن ، وكنَّا نظنُّ أنَّ أحداً لا يكذب على الله . انقطع هاهنا قول الجن . قال الله تعالى :
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } وذلك أنَّ الرَّجل في الجاهليَّة كان إذا سافر فأمسى في الأرض القفر . قال : أعوذ بسيِّد هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه ، أَي : الجنِّ . يقول الله : { فزادوهم رهقاً } أَيْ : فزادوهم بهذا التَّعوُّذ طغياناً ، وذلك أنَّهم قالوا : سُدْنا الجنَّ والإِنس .
{ وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً } يقول : ظنَّ الجنُّ كما ظننتم أيُّها الإِنس أن لا بعث يوم القيامة ، وقالت الجنُّ :
{ وأنا لمسنا السماء } أَي : رُمْنَا استراق السَّمع فيها { فوجدناها ملئت حرساً شديداً } من الملائكة { وشهباً } من النُّجوم . يريدون : حُرست بالنُّجوم من استماعنا .
{ وأنا كنَّا } قبل ذلك { نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } أي : كواكب حفظةً تمنع من الاستماع .
{ وأنَّا لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض } بحدوث رجم الكواكب { أم أراد بهم ربهم رشداً } أَيْ : خيراً .
{ وأنا منا الصالحون } بعد استماع القرآن ، أَيْ : بررةٌ أتقياءُ { ومنا دون ذلك } دون البررة { كنا طرائق قدداً } أَيْ : أصنافاً مختلفين .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
{ وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } علمنا أن لا نفوته إِنْ أراد بنا أمراً { ولن نعجزه هرباً } إِنْ طلبنا . وقوله :
{ فلا يخاف بَخْساً } أَيْ : نقصاً { ولا رهقاً } أَيْ : ظلماً ، والمعنى : لا نخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يُزاد في سيئاته .
{ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون } الجائرون عن الحقّ { فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً } قصدوا طريق الحقّ .
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
{ وأن لو استقاموا على الطريقة } لو آمنوا جميعاً ، أَي : الخلق كلُّهم أجمعون الجنُّ والإِنس { لأسقيناهم ماءً غدقاً } لوسَّعنا عليهم في الدُّنيا ، وضرب المثل بالماء لأنَّ الخير كلَّه والرِّزق بالمطر ، وهذا كقوله تعالى : { ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا . . . . } الآية .
{ لِنَفْتنهم فيه } لنختبرهم فنرى كيف شكرهم { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه } يدخله { عذاباً صعداً } شاقاً .
{ وأنَّ المساجد لله } يعني : المواضع التي يُصلَّى فيها . وقيل : الأعضاء التي يسجد عليها . وقيل : يعني : إنَّ السَّجدات لله ، جمع مسجد بمعنى السُّجود { فلا تدعوا مع الله أحداً } أمرٌ بالتَّوحيد لله تعالى في الصَّلاة .
{ وإنه لما قام عبد الله يدعوه } أي : النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قام ببطن نخلة يدعو الله { كادوا يكونون عليه } كاد الجنُّ يتراكبون ويزدحمون حرصاً على ما يسمعون ، ورغبةً فيه .
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{ ولن أجد من دونه ملتحداً } أَيْ : ملجأً .
{ إلاَّ بلاغاً من الله ورسالاته } لكن أُبلِّغ عن الله ما أُرسلت به ، ولا أملك الكفر والإِيمان وهو قوله : { لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً } . وقوله :
{ حتى إذا رأوا } أي : الكفَّار { ما يوعدون } من العذاب والنَّار { فسيعلمون } حينئذٍ { مَنْ أضعف ناصراً } أنا أو هم { وأقل عدداً } .
{ قل إن أدري } ما أدري { أقريب ما توعدون } من العذاب { أم يجعل له ربي أمداً } أجلاً وغايةً .
{ عالم الغيب } أي : هو عالم الغيب { فلا يظهر } فلا يُطلع على ما غيَّبه عن العباد { أحداً } .
{ إلاَّ من ارتضى } اصطفى { من رسول } فإنَّه يُطلعه على ما يشاء من الغيب معجزةً له { فإنَّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } أي : يجعل من جميع جوانبه رصداً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشَّياطين ، فتلقيه إلى الكهنة ، فيساوون الأنبياء .
{ ليعلم } الله { أن قد أبلغوا رسالات ربهم } أي : ليُبلِّغوا رسالات ربِّهم ، فإذا بلَّغوا علم الله ذلك ، فصار كقوله : { ولمَّا يعلمِ اللَّهُ الذين جاهدوا منكم } أي : ولمَّا يجاهدوا . { وأحاط بما لديهم } علم الله ما عندهم { وأحصى كلَّ شيء عدداً } أي : علم عدد كلِّ شيء فلم يخف عليه شيءٌ .
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{ يا أيها المزمل } أي : المُتَلفِّف بثيابه . نزل هذا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو مُتلَفِّفٌ بقطيفةٍ .
{ قم الليل إلاَّ قليلاً } أي : صلِّ [ كلَّ ] اللَّيلِ إلاَّ شيئاً يسيراً تنام فيه ، وهو الثُّلث ، ثمَّ قال :
{ نصفه } أَيْ : قم نصفه { أو انقص منه } من النِّصف { قليلاً } إلى الثُّلث .
{ أو زد عليه } على النِّصف إلى الثُّلثين ، جعل له سعةً في مدَّة قيامه في اللَّيل ، فكأنَّه قال : قم ثلثي اللَّيل أو نصفه أو ثلثه ، فلمَّا نزلت هذه الآية أخذ المسلمون أنفسهم بالقيام على هذه المقادير ، وشقَّ ذلك عليهم؛ لأنَّهم لم يمكنهم أن يحفظوا هذه المقادير ، وكانوا يقومون اللَّيل كلَّه انتفخت أقدامهم ، ثمَّ خفَّف الله عنهم بآخر هذه السُّورة ، وهو قوله : { إنَّ ربك يعلمُ أنَّك تقوم . . . } الآية ، ثمَّ نسخ قيام اللَّيل بالصَّلوات الخمس ، وكان هذا في صدر الإِسلام . وقوله :
{ ورتل القرآن ترتيلاً } أَي : بيِّنه تبييناً بعضُه على إثر بعضٍ في تُؤّدةٍ .
{ قولاً ثقيلاً } رصيناً رزيناً ، ليس بالسفساف والخفيف؛ لأنَّه كلام الله .
{ إنَّ ناشئة الليل } ساعاته { هي أشد وطأ } أثقلُ على المُصلِّين من ساعات النَّهار ، ومَنْ قرأ : " وِطاء " فمعناه : أشدُّ موافقةً بين القلب والسَّمع والبصر واللِّسان؛ لأنَّ اللَّيل تهدأ فيه الأصوات ، وتنقطع الحركات ، ولا تحول دون تسمُّعه وتفهُّمه شيءٌ . { وأقوم قيلاً } وأصوب قراءةً .
{ إنَّ لك في النهار سبحاً طويلاً } أَيْ : تصرُّفاً في حوائجك إقبالاً وإدباراً ، وهذا حثٌ على القيام باللَّيل لقراءة القرآن .
{ واذكر اسم ربك } بالتَّعظيم والتَّنزيه { وتبتل إليه تبتيلاً } وانقطع إليه في العبادة . وقوله :
{ فاتخذوه وكيلاً } أَيْ : قيِّماً بأمورك مُفوَّضاً إليه .
{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً } وهو أن لا تتعرَّض لهم ولا تشتغل بمكافآتهم ، وهذه الآية نسختها آية القتال .
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{ وذرني والمكذبين } لا تهتمَّ لشأنهم فإني أكفيكهم ، يعني : رؤساء المشركين ، كقوله : { فذرني ومَنْ يُكذِّب بهذا الحديث } وقد مرَّ . { أولي النعمة } ذوي التَّنعُّم والتًَّرفُّه { ومهِّلهم قليلاًَ } يعني : إلى مدَّة آجالهم .
{ إنَّ لدينا } يعني : في الآخرة { أنكالاً } قيوداً { وجحيماً } ناراً عظيمةً .
{ وطعاماً ذا غُصَّةٍ } يغصُّ في الحلوق ولا يسوغ ، وهو الغِسلين والضَّريع والزَّقُّوم .
{ يوم ترجف الأرض والجبال } تضطرب وتتحرَّك { وكانت الجبال كثيباً مهيلاً } رملاً سائلاً .
{ إنا أرسلنا إليكم رسولاً } محمداً صلى الله عليه وسلم { شاهداً عليكم } يشهد عليكم يوم القيامة بما فعلتم . وقوله :
{ فأخذناه أخذاً وبيلاً } ثقيلاً غليظاً .
{ فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً } أَيْ : فكيف تتحصَّنون من عذاب يومٍ يشيب الطِّفل لهوله وشدَّته إن كفرتم اليوم في الدُّنيا .
{ السماء منفطر به } متشقِّق في ذلك اليوم .
{ إنَّ هذه } الآيات { تذكرة } تذكيرٌ للخلق { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } بالطَّاعة والإِيمان .
{ إنَّ ربك يعلم أنك تقوم } للصَّلاة والقراءة { أدنى } أقلَّ { من ثلثي الليل ونصفه وثلثه } أي : وتقوم نصفه وثلثه { وطائفة من الذين معك ، والله يقدِّر الليل والنهار } فيعلم مقادير أوقاتهما { علم أن لن تحصوه } لن تُطيقوا قيام اللَّيل { فتاب عليكم } رجع لكم إلى التَّخفيف { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } رخَّص لهم أن يقوموا ، فيقرؤوا ما أمكن وخفَّ بغير مقدارٍ معلومٍ من القراءة والمُدَّة . { علم أن سيكون منكم مرضى } فيثقل عليهم قيام اللَّيل ، وكذلك المسافرون للتِّجارة والجهاد ، وهو قوله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } يريد : أنَّه خفف قيام اللَّيل لما علم من ثقله على هؤلاء { فاقرؤوا ما تيسر منه } قال المُفسِّرون : وكان هذا في صدر الإِسلام ، ثمَّ نُسخ بالصَّلوات الخمس ، وقوله : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً } مما خلَّفتم وتركتم . { واستغفروا الله إن الله غفور } [ لذنوب المؤمنين { رحيم } بهم ] .
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
{ يا أيها المدثر } [ أي : المدثِّر ] في ثوبه .
{ قم فأنذر } النَّاس .
{ وربك فكبر } فصفه بالتَّعظيم .
{ وثيابك فطهر } لا تلبسها على معصيةٍ ولا على غدر؛ فإنَّ الغادر والفاجر يُسمَّى دنس الثِّياب .
{ والرجز فاهجر } أي : الأوثان فاهجر [ عبادتها ] ، وكذلك كلَّ ما يؤدي إلى العذاب .
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
{ ولا تمنن تستكثر } لا تُعطِ شيئاً لتأخذَ أكثر منه ، وهذا خاصَّة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّه مأمورٌ بأجلِّ الأخلاق ، وأشرفِ الآداب .
{ ولربك فاصبر } اصبر لله على أوامره ونواهيه وما يمتحنك به حتى يَكون هو الذي يُثيبك عليها .
{ فإذا نقر في الناقور } نُفخ في الصُّور . الآية . وقوله :
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
{ ذرني ومن خلقت وحيداً } أَيْ : لا تهتمَّ لشأنه فإني أكفيك أمره ، أَي : الوليد بن المغيرة ، يقول : خلقته وحيداً لا ولد له ولا مال .
{ وجعلت له مالاً ممدوداً } دائماً لا ينقطع عنه من الزَّرع والضَّرع والتّجارة .
{ وبنين شهوداً } حضوراً معه بمكَّة ، وكانوا عشرةً .
{ ومهدت له تمهيداً } بسطت له في العيش والمال بسطاً .
{ ثم يطمع أن أزيد } يرجو أن أزيده مالاً وولداً .
{ كلا } قطعٌ لرجائه { إنَّه كان لآياتنا عنيداً } للقرآنِ معانداُ غير مطيعٍ .
{ سأرهقه صعوداً } سأغشيه مشقَّةً من العذاب .
{ إنَّه فكر وقدَّر } وذلك أنَّ قريشاً سألته ما تقول في محمَّد؟ فتفكَّر في نفسه وقدَّر القول في محمَّد عليه السَّلام والقرآن ماذا يمكنه أن يقول فيهما .
{ فقتل } لُعن وعُذِّب { كيف قدَّر } ؟ استفهامٌ على طريق التَّعجُّب .
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
{ ثم نظر } . { ثم عبس وبسر } كلح وجهه .
{ ثمَّ أدبر واستكبر } عن الإِيمان .
{ فقال إن هذا } ما هذا الذي يقرؤه محمد { إلاَّ سحرٌ يؤثر } يُروى عن السَّحرة .
{ إن هذا إلاَّ قول البشر } كما قالوا : { إنَّما يُعلِّمه بشرٌ } قال الله تعالى :
{ سأصليه سقر } سأُدخله جهنَّم ، ثمَّ أعلم عظم شأن سقر من العذاب ، فقال :
{ وما أدراك ما سقر } ما أعلمك أيُّ شيءٍ سقر . !
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
{ لواحة للبشر } محرّقةٌ للجلد حتى تُسوِّده .
{ عليها تسعة عشر } من الخزنة ، الواحدة منهم يدفع بالدُّفعة الواحدة في جهنَّم أكثر من ربيعة ومضر ، فلمَّا نزلت هذه الآية قال بعض المشركين : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر ، فاكفوني اثنين ، فأنزل الله :
{ وما جعلنا أصحاب النار إلاَّ ملائكة } لا رجالاً ، فمن ذا يغلب الملائكة؟ { وما جعلنا عدتهم } عددهم في القلَّة { إلاَّ فتنة للذين كفروا } لأنَّهم قالوا : ما أعوان محمَّدٍ إلاَّ تسعة عشر { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } ليعلموا أنَّ ما أتى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم موافقٌ لما في كتبهم { ويزداد الذين آمنوا } لأنَّهم يُصدِّقون بما أتى به الرَّسول عليه السَّلام ، وبعدد خزنة النَّار { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } أَيْ : لا يشكُّون في أنَّ عددهم على ما أخبر به محمد عليه السَّلام { وليقول الذين في قلوبهم مرض } شكٌّ { والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلاً } أيُّ : شيءٍ أراد الله بهذا العدد وتخصيصه؟ { كذلك } كما أضلَّهم الله بتكذيبهم { يضلُّ الله مَنْ يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلاَّ هو } هذا جوابٌ لقولهم : ما أعوانه إلاَّ تسعة عشر { وما هي } أي : النَّار { إلاَّ ذكرى للبشر } أَيْ : إنَّها تُذكِّرهم في الدُّنيا النّار في الآخرة .
{ كلا } ليس الأمر على ما ذكروا من التَّكذيب له { والقمرِ } قسمٌ .
{ والليل إذ أدبر } جاء بعد النَّهار .
{ والصبح إذا أسفر } أضاء .
{ إنها لإِحدى الكبر } إنَّ سقر لإِِحدى الأمور العظام .
{ نذيراً } إنذاراً { للبشر } .
{ لمن شاء منكم أن يتقدَّم } فيما أُمِرَ به { أو يتأخر } عنه ، فقد أُنذرتم .
{ كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينةٌ } مأخوذةٌ بعملها .
{ إلاَّ أصحاب اليمين } يعني : أهل الجنَّة فهم لا يُرتهنون بذنوبهم ، ولكنَّ الله يغفرها لهم . وقيل : أصحاب اليمين ها هنا أطفال المسلمين .
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
{ ما سلككم في سقر } أَيْ : ما أدخلكم جهنَّم؟
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
{ وكنا نخوض مع الخائضين } ندخل الباطل مع مَنْ دخله .
{ وكنا نكذب بيوم الدين } بيوم الجزاء .
{ حتى أتانا اليقين } الموت .
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{ فما لهم عن التذكرة معرضين } ما لهم يُعرضون عن تذكيرك إيَّاهم .
{ كأنَّهم حمر مستنفرة } نافرةٌ مذعورة .
{ فرَّت من قسورة } أي : الأسد . وقيل : الرُّماة الصَّيَّادون .
{ بل يريد كلُّ امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منتشرة } وذلك أنَّهم قالوا : إنْ سرَّك أن نتَّبعك فأت كلَّ واحدٍ منا بكتابٍ من ربِّ العالمين نؤمر فيه باتِّباعك ، كما قالوا : { لن نُؤمنَ لرقيِّك حتى تنزِّلَ علينا كتاباً نقرؤه . . . } الآية .
{ كلا } ردٌّ لما قالوا { بل لا يخافون الآخرة } حيث يقترحون أن يُؤتوا صحفاً منشرة .
{ كلا إنه تذكرة } إنَّ القرآن تذكيرٌ للخلق ، وليس بسحرٍ .
{ فمن شاء ذكره } .
{ وما يذكرون إلاَّ أن يشاء الله هو أهل التقوى } أهلٌ أن يُتَّقى عقابه { وأهل المغفرة } أهلٌ أنْ يعمل بما يُؤدِّي إلى مغفرته .
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
{ لا أقسم } " لا " صلةٌ ، معناه : أقسم ، وقيل : " لا " ردٌّ لإِنكار المشركين البعث ، ثمّ قال : أقسم { بيوم القيامة } .
{ ولا أقسم بالنفس اللوامة } وهي نفس ابن آدم تلومه يوم القيامة إنْ كان عمل شرَّاً لِمَ عمله ، وإنْ كان عمل خيراً لأمته على ترك الاستكثار منه ، وجواب هذا القسم مضمرٌ على تقدير : إنَّكم مبعوثون ، ودلَّ عليه ما بعده من الكلام ، وهو قوله :
{ أيحسب الإِنسان } أي : الكافر { أن لن نجمع عظامه } للبعث والإِحياء بعد التَّفرقة والبلى!
{ بلى قادرين } بلى نقدر على جمعها و { على أن نسوي بنانه } نجعله كخفِّ البعير ، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً ، وقيل : نُسوِّي بنانه على ما كانت وإنْ دقَّت عظامها وصغرت .
{ بل يريد الإِنسان ليفجر أمامه } يُؤخِّر التَّوبة ويمضي في معاصي الله تعالى قُدُماً قُدُماً ، فيقدّم الأعمال السَّيِّئة . وقيل : معناه ليكفر بما قدَّامه ، يدلُّ على هذا قوله : { يسأل أيان . . . } .
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
{ يسأل أيان } متى { يوم القيامة } تكذيباً به واستبعاداً لوقوعه .
{ فإذا برق البصر } فزع وتحيَّر .
{ وخسف القمر } أظلم وذهب ضوءه .
{ وجمع الشمس والقمر } أَيْ : جُمعا في ذهاب نورهما .
{ يقول الإنسان يومئذٍ أين المفر } أَي : الفرار؟
{ كلا } لا مفرَّ ذلك اليوم و { لا وزر } ولا ملجأ ولا حِرز .
{ إلى ربك يومئذٍ المستقر } المنتهى والمصير .
{ ينبأ الإِنسان } يُخبر { بما قدَّم وأخر } بأوَّل عمله وآخره .
{ بل الإِنسان على نفسه بصيرة } أَيْ : شاهدٌ عليها بعملها ، يشهد عليه جوارحه ، وأُدخلت الهاء في البصيرة للمبالغة . وقيل : لأنَّه أراد بالإِنسان الجوارح .
{ ولو ألقى معاذيره } ولو اعتذر وجادل فعليه من نفسه من يُكذِّب عذره ، وقيل : معناه : ولو أرخى السُّتور وأغلق الأبواب ، والمِعذار : السِّتر بلغة اليمين .
{ لا تحرّك به } بالوحي { لسانك لتعجل به } كان جبريل عليه السَّلام إذا نزل بالقرآن تلاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل فراغ جبريل كراهيةَ أن ينفلت منه ، فأعلم الله تعالى أنَّه لا يُنسيه إيَّاه ، وأنَّه يجمعه في قلبه .
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
{ إنَّ علينا جمعه وقرآنه } قراءته عليك حتى تعيه .
{ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } أَي : لا تعجل بالتِّلاوة إلى أن يقرأ عليك .
{ ثم إنَّ علينا بيانه } أَيْ : علينا أن ننزِّله قرآناً فيه بيانٌ للنَّاس .
{ كلا } زجرٌ وتنبيهٌ . { بل تحبون العاجلة } .
{ وتذرون الآخرة } أي : تختارون الدُّنيا على العقبى .
{ وجوهٌ يومئذٍ } يوم القيامة { ناضرة } مُضِيئةٌ حسنةٌ . { إلى ربها ناظرة } تنظر إلى خالقها عياناً .
{ ووجوه يومئذ باسرة } كالحةٌ .
{ تظن } توقن { أن يفعل بها فاقرة } داهيةٌ عظيمةٌ من العذاب .
{ كلا إذا بلغت التراقي } يعني : النَّفس . بلغت عظام الحلق .
{ وقيل مَنْ راق } مال مَنْ حضر ذلك الذي قارب الموت : هل من طبيبٍ يداويه ، وراقٍ يرقيه فيشفى برقيته؟
{ وظن } أيقن الذي نزل به الموت { أنَّه الفراق } من الدُّنيا والأهل والمال .
{ والتفت الساق بالساق } التفَّت ساقاه لشدَّة النَّزع . وقيل : تتابعت عليه الشَّدائد .
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{ إلى ربك يومئذ المساق } المنتهى والمرجع بسوق الملائكة الرُّوح إلى حيث أمر الله سبحانه .
{ فلا صدَّق ولا صلى } يعني : أبا جهلٍ لعنه الله .
{ ولكن كذب وتولى } عن الإِيمان .
{ ثمَّ ذهب إلى أهله يتمطى } يتبختر .
{ أولى لك فأولى } . { ثم أولى لك فأولى } هذا تهديدٌ ووعيدٌ له ، والمعنى : وليك المكروه يا أبا أجهل ، [ أي : لزمك المكروه ] .
{ أيحسب الإنسان أن يترك سدى } مُهملاً غير مأمورٍ ولا منهيٍّ .
{ ألم يك نطفة من مني يمنى } يصبُّ في الرَّحم .
{ ثمَّ كان علقة فخلق فسوى } فخلقه الله فسوَّى خلقه ، حتى صار إنساناً بعد أن كان علقةً .
{ فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } فخلق من الإِنسان صنفين الرَّجل والمرأة .
{ أليس ذلك } الذي فعل هذا { بقادر على أن يحيي الموتى } ؟ [ بلى ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير ] .
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
{ هل أتى على الإنسان } قد أتى على آدم { حين من الدَّهر } أربعون سنةً { لم يكن شيئاً مذكوراً } لأنَّه كان جسداً مُصوَّراً من طينٍ ، لا يُذكر ولا يُعرف ، ويجوز أن يريد جميع النَّاس ، لأنَّ كلَّ أحدٍ يكون عدماً إلى أَنْ يصير شيئاً مذكوراً .
{ إنا خلقنا الإِنسان } يعني : ابن آدم { من نطفة أمشاج } أخلاطٍ ، يعني : ماء الرَّجل وماء المرأة واختلاف ألوانهما { نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } أَيْ : خلقناه كذلك لنختبره بالتَّكليف والأمر والنَّهي .
{ إنَّا هديناه السبيل } بيَّنا له الطَّريق { إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً } إنْ شكر أو كفر ، يعني : أعذرنا إليه في بيان الطَّريق ببعث الرَّسول آمن أو كفر .
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
{ إنَّ الأبرار } المُطيعين لربِّهم . { يشربون من كأس } إناءٍ فيه شرابٌ { كان مزاجها كافوراً } يُمزج لهم بالكافور .
{ عيناً } من عينٍ { يشرب بها } بتلك العين { عباد الله يفجرونها تفجيراً } يقودونها حيث شاؤوا من منازلهم .
{ يوفون بالنذر } إذا نذروا في طاعة الله وفوا به { ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً } منتشراً فاشياً .
{ ويطعمون الطعام على حبّه } على قلَّته وحبِّهم إيَّاه { مسكيناً } فقيراً { ويتيماً } لا أب له { وأسيراً } أي : المملوك والمحبوس في حقٍّ من المسلمين ، ويقولون لهم :
{ إنما نطعمكم لوجه الله } لطلب ثواب الله { لا نريد منكم } بما نُطعمكم { جزاءً } مكافأةً منكم { لا شكوراً } شكراً .
{ إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً } كريه المنظر لشدَّته { قمطريراً } صعباً شديداً طويل الشَّر .
{ فوقاهم الله شرَّ ذلك اليوم } الذي يخافون { ولقَّاهم نضرة } [ ضياءً ] في وجوههم { وسروراً } في قلوبهم .
{ وجزاهم بما صبروا } على طاعة الله وعن معصيته { جنة وحريراً } .
{ متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً } حرَّاً ولا برداً ، صيفاً ولا شتاءً .
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
{ ودانية عليهم ظلالُها } أَيْ : قريبةً منهم ظلال أشجارها { وذللت قطوفها تذليلاً } أُدنيت منهم ثمارها ، فهم ينالونها قعوداً كانوا أو قياماً .
{ ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا } أَيْ : لها بياض الفضَّة وصفاء القوارير وهو قوله :
{ قوارير من فضة قدروها تقديراً } أي : جُعلت الأكواب على قدر رِيِّهِمْ ، وهو ألذُّ الشَّراب .
{ ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً } والزَّنجبيل : شيءٌ تستلذُّه العرب ، فوعدهم الله ذلك في الجنَّة .
{ عيناً } من عينٍ { فيها } في الجنَّة { تسمى } تلك العين { سلسبيلاً }
{ ويطوف عليهم ولدان } أي : غلمانٌ { مخلَّدون } لا يشيبون { إذا رأيتهم حسبتهم } في بياضهم وصفاء ألوانهم { لؤلؤاً منثوراً } .
{ وإذا رأيت ثمَّ } إذا رميت ببصرك في الجنَّة { رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } وهو أنَّ أدناهم منزلاً ينظر في ملكه في مسيرة ألف عامٍ .
{ عاليهم } فوقهم { ثياب سندس } أي : الحرير . وقوله : { شراباً طهوراً } طاهراً من الأقذاء والأقذار ، ليس بنجس كخمر الدُّنيا .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
{ ولا تطع منهم آثماً } يعني : عتبة بن ربيعة { أو كفوراً } يعني : الوليد بن المغيرة ، وذلك أنَّهما ضمنا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم المال والتَّزويج إِنْ ترك دعوتهم إلى الإِسلام .
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{ إنَّ هؤلاء يحبُّون العاجلة } يعني : الدُّنيا { ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً } ويتركون العمل ليومٍ شديدٍ أمامهم ، وهو يوم القيامة .
{ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } خلقهم وخلق مفاصلهم .
{ إنَّ هذه } السُّورة { تذكرة } تذكيرٌ للخلق { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً } وسيلةً بالطَّاعة .
{ وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله } أَيْ : لستم تشاؤون شيئاً إلاَّ بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ الأمر إليه .
{ يدخل من يشاء في رحمته } جنَّته ، وهم المؤمنون ، { والظالمين } الكافرين الذين عبدوا غيره { أعدَّ لهم عذاباً أليماً } .
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
{ والمرسلات عرفاً } أي : الرِّياح التي أُرسلت مُتتابعةً كعُرْف الفرس .
{ فالعاصفات عصفاً } أي : الرِّياح الشَّديدة الهبوب .
{ والناشرات نشراً } الرِّياح التي تأتي بالمطر .
{ فالفارقات فرقاً } يعني : آي القرآن فرَّقت بين الحلال والحرام .
{ فالملقيات ذكراً } أي : الملائكة التي تنزل بالوحي .
{ عذراً أو نذراً } للإِعذار والإِنذار من الله تعالى .
{ إنَّ ما توعدون } من البعث والثَّواب والعقاب { لواقع } .
{ فإذا النجوم طمست } مُحي نورها .
{ وإذا السماء فُرِجَتْ } شُقَّت .
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
{ وإذا الجبال نسفت } قُلعت من أماكنها ، فأُذهبت بسرعةٍ .
{ وإذا الرسل أقتت } جُمعت لوقتٍ ، وهو يوم القيامة .
{ لأيِّ يومٍ أجِّلت } أُخِّرت وأُمهلت .
{ ليوم الفصل } القضاء بين النَّاس .
{ وما أدراك ما يوم الفصل } على التَّعظيم لذلك اليوم . { ويلٌ يومئذٍ للمكذبين } .
{ ألم نهلك الأولين } من الأمم المكذِّبة .
{ ثم نتبعهم الآخرين } ممَّن سلكوا سبيلهم في الكفر والتَّكذيب .
{ كذلك } مثل الذي فعلنا بهم { نفعل بالمجرمين } بالمُكذِّبين من قومك .
{ ألم نخلقكم من ماء مهين } أي : النُّطفة .
{ فجعلناه في قرار مكين } أي : الرَّحم .
{ إلى قدر معلوم } وهو وقت الولادة .
{ فقدرنا } أَيْ : قدَّرنا وقت الولادة { فنعم القادرون } فنعم المُقدِّرون نحن ، وقُرئت بالتَّشديد والتَّخفيف ، لغتان بمعنى واحدٍ .
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
{ ألم نجعل الأرض كفاتاً } وعاءً . وقيل : ذات كفات ، أَيْ : ضمٍّ وجمعٍ تَكْفِتُ الخلق أحياءً على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها .
{ وجعلنا فيها رواسي } جبالاً ثوابت { شامخات } مرتفعاتٍ . { وأسقيناكم ماءً فراتاً } عذباً .
{ ويل يومئذ للمكذبين } ويُقال لهم ذلك اليوم .
{ انطلقوا } اذهبوا . { إلى ما كنتم به تكذبون } في الدنُّيا .
{ انطلقوا إلى ظل } إلى دُخان جهنَّم { ذي ثلاث شعب } إذا ارتفع انْشَعَبَ ثلاث شُعَبٍ ، فيقف على رؤوس الكافرين .
{ لا ظليل } باردٍ { لا يغني من اللهب } ولا يدفع من لهب النَّار شيئاً .
{ إنها ترمي بشرر } وهو ما يتطاير من النَّار { كالقصر } من البناء في العظم .
{ كأنه جُمالاتٌ } جمع جمالٍ { صفر } سود .
{ هذا يوم لا ينطقون } .
{ ولا يؤذن لهم فيعتذرون } يعني : في بعض ساعات ذلك اليوم يُؤمرون بالسُّكوت .
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
{ هذا يوم الفصل } بين أهل الجنَّة والنَّار { جمعناكم والأولين } .
{ فإن كان لكم كيدٌ فكيدون } إنْ كان عندكم حيلةٌ فاحتالوا لأنفسكم .
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{ كلوا وتمتعوا } في الدُّنيا { قليلاً إنكم مجرمون } مشركون .
{ وإذا قيل لهم اركعوا } صلُّوا { لا يركعون } لا يصلُّون .
{ فبأيّ حديث بعده } بعد القرآن الذي آتاهم فيه البيان { يؤمنون } إذا لم يؤمنوا به .
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
{ عمَّ يتساءلون } [ عمَّا يتساءلون ] والمعنى : عن أيِّ شيءٍ يتساءلون . يعني : قريشاً ، وهذا لفظ استفهامٍ معناه تفخيم القصَّة ، وذلك أنَّهم اختلفوا واختصموا فيما أتاهم به الرَّسول صلى الله عليه وسلم فمن مصدِّق ومكذِّبٍ ، ثمَّ بيَّن فقال :
{ عن النبأ العظيم } [ يعني : البعث ] .
{ الذي هم في مختلفون } لا يُصدِّقون به .
{ كلا } ليس الأمر على ما ذكروا من إنكارهم البعث { سيعلمون } حقيقة وقوعه .
{ ثم كلا سيعلمون } تأكيدٌ وتحقيقٌ ، ثمَّ دلَّهم على قدرته على البعث ، فقال :
{ ألم نجعل الأرض مهاداً } أَيْ : فرشناها لكم حتى سكنتموها .
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
{ وخلقناكم أزواجاً } ذكوراً وإناثاً .
{ وجعلنا نومكم سباتاً } راحةً لأبدانكم .
{ وجعلنا الليل لباساً } يلبس كلَّ شيءٍ بسواده .
{ وجعلنا النهار معاشاً } سبباً للمعاش .
{ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً } سبع سمواتٍ شدادٍ محكمةٍ .
{ وجعلنا سراجاً } أي : الشَّمس { وهَّاجاً } وقَّاداً حارَّاً .
{ وأنزلنا من المعصرات } السَّحاب { ماء ثجاجاً } صبَّاباً .
{ لنخرج به حبَّاً } ممَّا يأكله النَّاس { ونباتاً } ممَّا ترعاه النَّعم .
{ وجنات ألفافاً } مُلتفَّةً مُجتمعةً .
{ إنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً } لما وعده الله من الجزاء والثَّواب .
{ يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً } زُمراً وجماعاتٍ .
{ وفتحت السماء } شُقِّقت { فكانت أبواباً } حتى يصير فيها أبواب .
{ وسيِّرت الجبال } عن وجه الأرض { فكانت سراباً } في خفَّة سيرها .
{ إنَّ جهنم كانت مرصاداً } ترصد أهل الكفر ، فلا يجاوزونها .
{ للطاغين } للكافرين { مآباً } مرجعاً .
{ لابثين } ماكثين { فيها أحقاباً } جمع حقب ، وهو ثمانون سنة ، كلُّ سنةٍ ثلثمائة وستون يوماً . كلُّ يومٍ كألف سنةٍ من أيَّام الدُّنيا ، فإذا مضى حقبٌ عاد حقبٌ إلى ما لا يتناهى .
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
{ لا يذوقون فيها برداً } نوماً وراحةً { ولا شراباً } .
{ إلاَّ حميماً } ماءً حارَّاً من حميم جهنَّم { وغسَّاقاً } وهو ما سال من جلود أهل النَّار .
{ جزاءً وفاقاً } أَيْ : جُوزوا وفق أعمالهم ، فلا ذنب أعظم من الشِّرك ، ولا عذاب أعظم من النَّار .
{ إنهم كانوا لا يرجون حساباً } لا يخافون أن يحاسبهم الله .
{ وكذبوا بآياتنا كذاباً } تكذيباً .
{ وكلَّ شيء } من أعمالهم { أحصيناه } كتبناه { كتاباً } لنحاسبهم عليه .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
{ إنَّ للمتقين مفازاً } فوزاً بالجنَّة ونجاةً من النَّار .
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
{ وكواعب } جواري قد تكعَّبت ثُدُيّهن . { أتراباً } مُستوياتٍ في السِّنِّ .
{ وكأساً دهاقاً } ممتلئةً .
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{ عطاءً حساباً } كثيراً كافياً ، وقوله :
{ لا يملكون منه خطاباً } أَيْ : لا يمكلون أن يخاطبوه إلاَّ بإذنه ، كقوله تعالى : { لا تكلَّمُ نفسٌ إلاَّ بإذنه } وقد فُسِّر هذا فيما قبل . وقوله :
{ يوم يقوم الروح } قيل : هو جبريل عليه السَّلام . وقيل : هو مَلَكٌ يقوم صفاً . وقيل : الرُّوح جندٌ من جنود الله ليسوا من الملائكة ولا من النَّاس يقومون { والملائكة صفاً } صفوفاً . { لا يتكلمون إلاَّ من أذن له الرحمن وقالوا صواباً } حقاً في الدُّنيا . يعني : لا إله إلاَّ الله .
{ ذلك اليوم الحقُّ فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً } مرجعاً إلى طاعته .
{ إنا أنذرناكم عذاباً قريباَ } يعني : يوم القيامة ، { يوم ينظر المرء ما قدَّمت يداه } ما عمل من خيرٍ وشرٍّ { ويقول الكافر } في ذلك اليوم : { يا ليتني كنت تراباً } ولك حين يقول الله تعالى للبهائم والوحوش : كوني تراباً ، فيتمنَّى الكافر أن لفو كان تراباً فلا يُعذَّب .
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
{ والنازعات } أي : الملائكة التي تنزع أرواح الكفَّار { غرقاً } إغراقاً كما يُغرق النَّازع في القوس . يعني : المبالغة في النَّزع .
{ والناشطات نشطاً } يعني : الملائكة تقبض نفس المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير ، أَيْ : يُفتح .
{ والسابحات سبحاً } أي : النُّجوم تسبح في الفلك .
{ فالسابقات سبقاً } أرواح المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقاً إلى لقاء الله عزَّ وجلَّ . وقيل : النُّجوم يسبق بعضها بعضاً في السَّير .
{ فالمدبرات أمراً } يعني : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام ، يُدبِّر أمر الدُّنيا هؤلاء الأربعة من الملائكة ، وجواب هذه الأقسام مضمرٌ على تقدير : لَتُبعَثُنَّ .
{ يوم ترجف الراجفة } تضطرب الأرض وتتحرَّك حركةً شديدةً .
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
{ تتبعها الرادفة } يعني : نفخة البعث تأتي بعد الزَّلزلة .
{ قلوب يومئذٍ واجفة } قلقةٌ زائلةٌ عن أماكنها .
{ أبصارها خاشعة } ذليلةٌ .
{ يقولون } يعني : منكري البعث { أإنا لمردودون في الحافرة } أَيْ : إلى أوَّل الأمر من الحياة بعد الموت ، وهو قوله :
{ أإذا كنا عظاماً نخرة } أَيْ : باليةً .
{ قالوا تلك إذاً كرَّة خاسرة } رجعةٌ يُخسر فيها ، فأعلم الله تعالى سهولة البعث عليه فقال :
{ فإنما هي زجرة واحدة } أي : صيحةٌ ونفخةٌ .
{ فإذا هم بالساهرة } يعني : وجه الأرض بعد ما كانوا في بطنها .
{ هل أتاك } يا محمَّد { حديث موسى } .
{ إذ ناداه ربُّه بالوادي المقدس طوى } طوى اسم ذلك الوادي .
{ اذهب إلى فرعون إنَّه طغى } جاوز الحدَّ في الكفر .
{ فقل هل لك إلى أن تزكى } أترغب في أن تتطهَّر من كفرك بالإِيمان .
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
{ فأراه الآية الكبرى } اليد البيضاء .
{ فكذَّب } فرعون موسى { وعصى } أمره .
{ ثم أدبر } أعرض عنه { يسعى } في الأرض يعمل فيها بالفساد .
{ فحشر } فجمع السَّحرة وقومه { فنادى } .
{ فقال أنا ربكم الأعلى } ليس ربٌّ فوقي .
{ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } أَيْ : نكَّل الله به في الآخرة بالعذاب في النَّار ، وفي الدُّنيا بالغرق .
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
{ أأنتم } أيُّها المنكرون للبعث { أشدُّ خلقاً أم السماء بناها } .
{ رفع سمكها } سقفها { فسوَّاها } بلا شقوقٍ ولا فطورٍ .
{ وأغطش } أَظلم { ليلها وأخرج ضحاها } أظهر نورها بالشَّمس .
{ والأرض بعد ذلك دحاها } بسطها ، وكانت مخلوقةً غير مدحوَّةٍ .
{ أخرج منها ماءها ومرعاها } ما ترعاه النَّعم من الشَّجر والعشب .
{ والجبال أرساها } . { متاعاً } منفعةً { لكم ولأنعامكم } .
{ فإذا جاءت الطامة الكبرى } يعني : صيحة القيامة .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{ يسألونك عن الساعة } يعني : القيامة . { أيَّان مرساها } متى وقوعها وثبوتها؟ قال الله تعالى :
{ فيم أنت } يا محمد { من ذكراها } أي : ليس عندك علمها .
{ إلى ربك منتهاها } منتهى علمها .
{ إنما أنت منذر مَنْ يخشاها } إنَّما ينفع إنذارك من يخشاها .
{ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا } في قبورهم { إلاَّ عَشِيَّةً أو ضحاها } أَيْ : نهارها .
استقصروا مدَّة لبثهم في القبور لما عاينوا من الهول .
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
{ عبس } كلح { وتولَّى } أعرض .
{ أن } [ لأَنْ ] . { جاءه الأعمى } وهو عبد الله بن أمِّ مكتوم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يدعوا أشراف قريش إلى الإِسلام ، فجعل يُناديه ويكرِّر النِّداء ، ولا يدري أنَّه مشتغلٌ حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعبس وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات .
{ ومَا يدريك لعله } لعلَّ الأعمى { يزكَّى } يتطهَّر من ذنوبه بالإِسلام ، وذلك أنَّه أتاه يطلب الإِسلام ، ويقول له : علِّمني ممَّا علمك الله .
{ أو يَذكَّر } يتَّعظ { فتنفعه الذكرى } الموعظة ، ثمَّ عاتبه عزَّ وجلَّ فقال :
{ أمَّا من استغنى } أثرى من المال .
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
{ فأنت له تصدَّى } تُقبِلُ عليه وتتعرَّض له .
{ وما عليك ألا يزكَّى } أيُّ شيء عليك في أنْ لا يُسلم؛ لأنَّه ليس عليك إسلامه ، إنَّما عليك البلاغ .
{ وأمَّا مَنْ جاءك يسعى } أي : الأعمى .
{ وهو يخشى } الله تعالى .
{ فأنت عنه تلهى } تتشاغل .
{ كلا } ردعٌ وزجرٌ ، أيْ : لا تفعل مثل ما فعلت { إنها } إنَّ آيات القرآن { تذكرة } تذكيرٌ للخلق .
{ فمن شاء ذكره } يعني : القرآن ، ثمَّ أخبر بجلالته في اللَّوح المحفوظ عنده ، [ فقال ] :
{ في صحف مكرمة } .
{ مرفوعة } رفيعة القدر { مطهرة } لا يمسُّها إلاَّ المطهرون .
{ بأيدي سفرة } كَتَبةٍ ، وهم الملائكة .
{ كرام بررة } جمع بارٍّ .
{ قتل الإنسان } لُعن الكافر . يعني : عُتبة بن أبي لهب { ما أكفره } ما أشدَّ كفره .
{ من أي شيء خلقه } استفهامٌ معناه التَّقرير ، ثمَّ فسَّر فقال :
{ من نطفة خلقه فقدَّره } أطواراً من علقةٍ ومضغةٍ إلى أن خرج من بطن أُمِّه ، وهو قوله : { ثم السبيل يسره } .
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
{ ثم السبيل يسره } أي : طريق خروجه من بطن أُمِّه .
{ ثمَّ أماته } قبض روحه { فأقبره } جعل له قبراً يُوارى فيه ، ولم يجعله ممَّن يُلقى إلى السِّباع والطير .
{ ثمَّ إذا شاء أنشره } أحياه بعد موته .
{ كلا } حقاً [ { لما } ] لم { يقض } هذا الكافر { ما أمره } به ربُّه .
{ فلينظر الإنسان إلى طعامه } كيف قدَّره ربُّه ودبَّره له .
{ أنّا صببنا الماء صباً } أي : المطر من السَّحاب .
{ ثم شققنا الأرض شقاً } بالنَّبات .
{ فأنبتنا فهيا حباً } . { وعنباً وقضباً } وهو القتُّ الرَّطب .
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
{ وحدائق غلباً } بساتين كثيرة الأشجار .
{ وفاكهة وأباً } أي : الكلأ الذي ترعاه الماشية .
{ متاعاً } منفعةً { لكم ولأنعامكم } .
{ فإذا جاءت الصاخَّة } صيحة القيامة .
{ يوم يفرُّ المرء من أخيه } . { وأمه وأبيه } .
{ وصاحبته وبنيه } لا يلتفت إلى واحدٍ منهم لشغله بنفسه ، وهو قوله :
{ لكلِّ امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه } يشغله عن شأن غيره .
{ وجوهٌ يومئذٍ مسفرة } مضيئةٌ .
{ ضاحكة مستبشرة } فرحةٌ .
{ ووجوه يومئذ عليها غبرة } غبارٌ .
{ ترهقها } تغشاها { قترة } ظلمةٌ وسوادٌ .
{ أولئك } أهل هذه الحال { هم الكفرة الفجرة } .
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
{ إذا الشمس كورت } ذهب ضوؤها .
{ وإذا النجوم انكدرت } تساقطت وتناثرت .
{ وإذا الجبال سيرت } عن وجه الأرض فصارت هباءً منبثاً .
{ وإذا العشار } يعني : النُّوق الحوامل { عطلت } سُيِّبت وأُهملت ، تركها أربابها ، ولم يكن مالٌ أعجب إليهم منها ، لإِتيان ما يشغلهم عنها .
{ وإذا الوحوش حشرت } جُمعت للقصاص .
{ وإذا البحار سجرت } أُوقدت فصارت ناراً [ ويقال : تقذف الكواكب فيها ثم تضطرم فتصير ناراً ] .
{ وإذا النفوس زوجت } قُرِن كلُّ أحدٍ بمَنْ يعمل عمله ، فأُلحق الفاجر بالفاجر والصَّالح بالصَّالح ، وقيل : قُرنت الأجساد بالأرواح .
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
{ وإذا المَوْءُوْدَةُ } وهي الجارية تدفن حيَّةً . { سئلت } .
{ بأيِّ ذنب قتلت } وسؤالها سؤال توبيخ لوائدها؛ لأنها تقول : قتلت بغير ذنبٍ ، وهذا كقوله تعالى لعيسى عليه السَّلام : { أَأَنتَ قلتَ للنَّاسِ . . . } الآية .
{ وإذا الصحف نشرت } كُتُب الأعمال .
{ وإذا السماء كشطت } قُلعت كما يكشط الغطاء عن الشَّيء .
{ وإذا الجحيم سعِّرت } أُوقدت .
{ وإذا الجنة أزلفت } قرِّبت لأهلها حتى يروها .
{ علمت نفس ما أحضرت } أي : إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة علمت في ذلك الوقت كلُّ نفسٍ ما أحضرت من عملٍ .
{ فلا أقسم } " لا " زائدة . { بالخنس } وهي النُّجوم الخمس تخنس ، أَيْ : ترجع في مجراها وراءها ، وتكنس : تدخل في كناسها ، أَيْ : تغيب في المواضع التي تغيب فيها ، فهي الكنَّس ، جمع كانسٍ .
{ والليل إذا عسعس } أقبل بظلامه ، وقيل : أدبر .
{ والصبح إذا تنفس } امتدَّ حتى يصير نهاراً بيِّناً .
{ إنه لقول رسول كريم } أي : القرآن لتنزيلُ جبريلٍ .
{ ذي قوة } من صفة جبريل { عند ذي العرش مكين } ذي مكانةٍ ومنزلةٍ .
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{ مطاع ثمَّ } تطيعه الملائكة في السَّماء { أَمين } على الوحي .
{ وما صاحبكم } محمد صلى الله عليه وسلم { بمجنون } كما زعمتم .
{ ولقد رآه } رأى جبريل عليه السَّلام في صورته { بالأفق المبين } وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق .
{ وما هو } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { على الغيب } أي : على الوحي وخبر السَّماء { بظنين } بمتَّهم ، أَيْ : هو الثِّقة بما يؤدِّيه عن الله تعالى .
{ وما هو } يعني : القرآن { بقول شيطان رجيم } .
{ فأين تذهبون } فأيَّ طريقٍ تسلكون أبينَ من هذه الطَّريقة التي قد بُيِّنت لكم؟
{ إن هو إلاَّ ذكر } ليس القرآن إلاَّ عظةٌ { للعالمين } .
{ لمن شاء منكم أن يستقيم } يتبع الحقَّ ويعمل به ، ثمَّ أعلمهم أنَّهم لا يقدرون على ذلك إلاَّ بمشيئة الله تعالى ، فقال :
{ وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله رب العالمين } .
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
{ إذا السماء انفطرت } انشقَّت .
{ وإذا الكواكب انتثرت } تساقطت .
{ وإذا البحار فجِّرت } فُتح بعضها في بعضٍ فصارت بحراً واحداً .
{ وإذا القبور بعثرت } قُلب ترابها وبُعث الموتى الذين فيها .
{ علمت نفسٌ ما قدَّمت } من عملٍِ أُمرت به { و } ما { أخرت } منه فلم تعمله .
{ يا أيها الإِنسان ما غرَّك بربك الكريم } أَي : ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى أضعت ما أوجب عليك .
{ الذي خلقك فسوَّاك } جعلك مستوي الخلق { فعدلك } قوَّمك وجعلك معتدل الخلق والقامة .
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
{ في أيِّ صورة ما شاء ركَّبك } إمَّا طويلاً؛ وإمَّا قصيراً؛ وإمَّا حسناً؛ وإمَّا قبيحاً .
{ كلا بل تكذبون بالدين } بالمجازاة بالأعمال .
{ وإنَّ عليكم لحافظين } يحفظون أعمالكم .
{ كراماً } على الله { كاتبين } يكتبون أقوالكم وأعمالكم .
{ يعلمون ما تفعلون } لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم .
{ إنَّ الأبرار } الصَّادقين في إيمانهم . { لفي نعيم } .
{ وإنَّ الفجار } الكفَّار . { لفي جحيم } .
{ يصلونها } يقاسون حرَّها . { يوم الدين } .
{ وما هم عنها بغائبين } بمخرجين ، ثمَّ عظَّم شأن يوم القيامة ، فقال :
{ وما أدراك ما يوم الدين } .
{ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً } لا تملك أن تُنجيها من العذاب ، { والأمر يومئذٍ لله } وحده ، لم يملك أحدٌ أمراً في ذلك اليوم كما ملك في الدُّنيا .
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
{ ويل للمطففين } يعني : الذين يبخسون حقوق النَّاس في الكيل والوزن .
{ الذين إذا اكتالوا } أخذوا بالكيل { على الناس } من النَّاس { يستوفون } يأخذون حقوقهم تامَّة وافيةً .
{ وإذا كالوهم } كالوا لهم { أو وزنوهم } وزنوا لهم { يخسرون } ينقصون .
{ ألا يظن أولئك } ألا يستيقن أولئك الذين يفعلون ذلك { أنهم مبعوثون } .
{ ليوم عظيم } يعني : يوم القيامة .
{ يوم يقوم الناس } من قبورهم { لربِّ العالمين } والمعنى أنَّهم لو أيقنوا بالبعث ما فعلوا ذلك .
{ كلا } ردعٌ وزجرٌ ، أَيْ : ليس الأمر على ما هم عليه ، فليرتدعوا { إنَّ كتاب الفجار } الذي فيه أعمالهم مرقومٌ مكتوبٌ مثبتٌ عليهم في { سجين } في أسفل سبع أرضين ، وهو محل إبليس وجنده .
{ وما أدراك ما سجين } أي : ليس ذلك ممَّا كنتَ تعلمه أنت ولا قومُك . وقوله :
{ كتاب مرقوم } فمؤخَّرٌ معناه التَّقديم؛ لأنَّ التَّقدير كما ذكرنا : إنَّ كتاب الفجَّار كتابٌ مرقومٌ في سجِّين .
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
{ كلا بل ران على قلوبهم } أي : غلب عليها حتى غمرها وغشيها { ما كانوا يكسبون } من المعاصي ، وهو كالصَّدأ يغشى القلب .
{ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } يحجبون عن الله تعالى فلا يرونه .
{ ثم إنهم لصالوا الجحيم } لداخلو النَّار .
{ ثمَّ يقال هذا } العذاب { الذي كنتم به تكذِّبون } في الدُّنيا .
{ كلا إنَّ كتاب الأبرار لفي عليين } في السَّماء السَّابعة تحت العرش .
{ وما أدراك } وما الذي أعلمك يا محمد { ما عليون } كيف هي ، وأيُّ شيءٍ صفتها .
{ كتاب مرقوم } يعني : كتاب الأبرار كتابٌ مرقومٌ .
{ يشهده المقربون } تحضره الملائكة؛ لأنَّ عليين محلُّ الملائكة .
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ على الأرائك ينظرون } أَيْ : إلى ما أعطاهم الله سبحانه من النَّعيم والكرامة .
{ تعرف في وجوههم نَضْرَةَ النعيم } أي : غضارته وبريقه .
{ يسقون من رحيق } وهو الخمر الصَّافية . { مختوم } .
{ ختامه مسك } يعني : إذا فني ما في الكأس وانقطع الشَّراب يختم ذلك الشَّراب برائحة المسك . { وفي ذلك فيتنافس المتنافسون } فليرغب الرَّاغبون بالمبادرة إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ .
{ ومزاجه } ومزاج ذلك الشَّراب { من تسنيم } وهو عينُ ماءٍ تجري في جنَّة عدنٍ ، وهي أعلى الجنَّات ، ثمَّ فسَّره فقال :
{ عيناً يشرب بها المقربون } أَيْ : يشربها المُقرَّبون .
{ إنَّ الذين أجرموا } أشركوا : يعني : أبا جهلٍ وأصحابه { كانوا من الذين آمنوا } من فقراء المؤمنين { يضحكون } استهزاءً بهم .
{ وإذا مروا بهم يتغامزون } يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون إليهم .
{ وإذا انقلبوا } رجعوا { إلى أهلهم } أصحابهم وذويهم { انقلبوا فاكهين } مُعجبين بما هم فيه ، يتفكَّهون بذكر المؤمنين .
{ وإذا رأوهم } رأوا المؤمنين { قالوا : إنَّ هؤلاء لضالون } .
{ وما أرسلوا } يعني : الكفَّار { عليهم } على المؤمنين { حافظين } لأعمالهم موكلين بأموالهم .
{ فاليوم } يعني : يوم القيامة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } كما ضحكوا منهم في الدُّنيا .
{ على الأرائك ينظرون } إليهم كيف يُعذَّبون .
{ هل ثوِّب الكفار ما كانوا يفعلون } أي : هل جُوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدُّنيا؟
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
{ إذا السماء انشقت } تنشقُّ السَّماء يوم القيامة .
{ وأذنت لربها } سمعت أمر ربِّها بالانشقاق { وحقت } وحقَّ لها أن تطيع .
{ وإذا الأرض مدَّت } من أطرافها فَزِيد فيها ، كما يمدُّ الأديم .
{ وألقت ما فيها } ما في بطنها من الموتى والكنوز { وتخلَّت } وخَلَتْ منها .
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً } عاملٌ لربِّك عملاً { فملاقيه } فملاقٍ عملك ، والمعنى : إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله .
{ فأمَّا مَنْ أوتي كتابه بيمينه } .
{ فسوف يحاسب حساباً يسيراً } وهو العرض على الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ مَنْ نُوقش الحساب عُذِّب .
{ وينقلب إلى أهله } في الجنَّة { مسروراً } .
{ وأمَّا مَنْ أوتي كتابه وراء ظهره } وذلك أنَّ يديه غُلَّتا إلى عنقه ، فيُؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره .
{ فسوف يدعو ثبوراً } فينادي بالهلاك على نفسه .
{ ويصلى سعيراً } ويدخل النَّار .
{ إنَّه كان في أهله } في الدُّنيا { مسروراً } متابعاً لهواه .
{ إنَّه ظنَّ أن لن يحور } لن يرجع إلى ربِّه .
{ بلى } أيْ : ليس الأمر كما ظنَّ ، يرجع إلى ربِّه .
{ فلا أقسم } معناه فأقسم { بالشفق } وهو الحمرة التي تُرى بعد سقوط الشَّمس . وقيل : يعني : اللَّيل والنَّهار .
{ والليل وما وسق } جمع وحمل ، وضمَّ وآوى من الدَّوابِّ والحشرات ، والهوام والسباع ، وكلّ شيء دخل عليه اللَّيل .
{ والقمر إذا اتسق } اجتمع واستوى .
{ لتركبنَّ طبقاً عن طبق } حالاً بعد حالٍ ، من النُّطفة وإلى العلقة ، وإلى الهرم والموت حتى يصيروا إلى الله تعالى .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{ والله أعلم بما يوعون } أي : يحملون في قلوبهم ، ويُضمرون .
{ فبشرهم } أخبرهم { بعذاب أليم } . وقوله :
{ غير ممنون } أي : غير منقوصٍ ولا مقطوعٍ .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
{ والسماء ذات البروج } يعني : بروج الكواكب ، وهي اثنا عشر برجاً .
{ واليوم الموعود } يوم القيامة .
{ وشاهد } يوم الجمعة { ومشهود } يعني : يوم عرفة .
{ قتل } لُعن { أصحاب الأخدود } وهو الشَّقُّ يحفر في الأرض طولاً ، وهم قومٌ كفرةٌ كانوا يعبدون الصنم ، وكان قومٌ من المؤمنين بين أظهرهم يكتمون إيمانهم ، فاطَّلعوا على ذلك منهم فشقُّوا أخدوداً في الأرض ، وملؤوه ناراً وعرضوهم على النَّار ، فمن لم يرجع عن دينه قذفوه فيها .
{ النار ذات الوقود } ذات الالتهاب .
{ إذ هم عليها قعود } وذلك أنَّهم قعدوا عند تلك النَّار .
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
{ وهم على ما يفعلون بالمؤمنين } من التَّعذيب والصَّدِّ عن الإِيمان { شهود } حاضرون . أخبر الله تعالى عن قصَّة قومٍ بلغت بصيرتهم في إيمانهم إلى أن صبروا على أَنْ أُحرقوا بالنَّار في الله .
{ وما نقموا منهم إلاَّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } أَيْ : ما أنكروا عليهم ذنباً إلاَّ إيمانهم .
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
{ إنَّ الذين فتنوا } أَيْ : أحرقوا { المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا } لم يرجعوا عن كفرههم { فلهم عذاب جهنم } بكفرهم { ولهم عذاب الحريق } بما أحرقوا المؤمنين .
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
{ إنَّ بطش ربك } أخذه بالعذاب { لشديد } .
{ إنَّه هو يبدىء } الخلق ، يخلقهم ابتداءً ثمَّ يُعيدهم عند البعث .
{ وهو الغفور الودود } المحبُّ أولياءه .
{ ذو العرش } خالقه ومالكه { المجيد } المستحقُّ لكمال صفات العلوِّ والمدح .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ هل أتاك حديث الجنود } خبر الجموع الكافرة ، ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال :
{ فرعون وثمود } .
{ بل الذين كفروا } من قومك { في تكذيب } كذبٍ لك .
{ والله من ورائهم محيط } قدرته مشتملةٌ عليهم فلا يعجزه منهم أحدٌ .
{ بل هو قرآن مجيد } كثير الخير ، وليس كما زعم المشركون .
{ في لوح محفوظ } من أن يبدِّل ما فيه أو يُغيِّر .
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
{ والسماء والطارق } يعني : النُّجوم كلَّها؛ لأنَّ طلوعها باللَّيل ، وكلُّ ما أتى ليلاً فهو طارق ، وقد فسَّر الله تعالى ذلك بقوله :
{ النجم الثاقب } المضيء النَّيِّرُ .
{ إن كلُّ نفسٍ لما عليها } لَعَليها ، و { ما } صلة { حافظ } من ربِّها يحفظ عملها .
{ فَلْيَنْظُرِ الإِنسان ممَّ خلق } من أيِّ شيءٍ خلقه ربُّه ، ثمَّ بيَّن فقال :
{ خلق من ماءٍ دافق } مدفوقٍ مصبوبٍ في الرَّحم . يعني : النُّطفة .
{ يخرج من بين الصلب } وهو ماء الرَّجل { والترائب } عظام الصَّدر ، وهو ماء المرأة .
{ إنَّه } إنَّ الله { على رجعه } على بعث الإِنسان وإِعادته بعد الموت { لقادر } .
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
{ يوم تبلى السرائر } يعني : يوم القيامة ، وفي ذلك اليوم تختبر السَّرائر ، وهي الفرائضُ التي هي سرائر بين العبد وربِّه ، كالصَّلاة والصَّوم وغسل الجنابة ، ولو شاء العبد أن يقول : فعلت ذلك ولم يفعله أمكنه ، فهي سرائر عند العبد ، وإنما تبين وتظهر صحَّتها وأمانة العبد فيها يوم القيامة .
{ فما له } يعني : الإِنسان الكافر { من قوة ولا ناصر } .
{ والسماء ذات الرجع } أَيْ : المطر .
{ والأرض ذات الصدع } تتشقَّق عن النَّبات .
{ إنه } أَيْ : القرآن { لقول فصل } يفصل بين الحقّ والباطل .
{ وما هو بالهزل } أَيْ : باللَّعب والباطل .
{ إنهم } يعني : مشركي مكَّة { يكيدون كيداً } يُظهرون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما هم على خلافه .
{ وأكيد كيداً } وهو استدارجُ الله تعالى إيَّاهم من حيث لا يعلمون { فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً } يقول : أخِّرهم قليلاً؛ فإني آخذهم بالعذاب ، فأُخذوا يوم بدرٍ ، وذلك أنَّه كان يدعو الله تعالى عليهم ، فقال الله تعالى : { أمهلهم رويداً } ، أَيْ : قليلاً .
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)
{ سبِّح اسم ربك الأعلى } نزِّه ذات ربِّك من السُّوء . وقيل : معناه : قل : سبحان ربِّي الأعلى .
{ الذي خلق فسوَّى } خلق الإنسان مُستوي الخلق .
{ والذي قدَّر فهدى } قدَّر الأرزاق ثمَّ هدى لطلبها .
{ والذي أخرج } من الأرض { المرعى } النَّبات .
{ فجعله غثاء } يابساً وهو ما يحمله السَّيل ممَّا يجف من النَّبات { أحوى } أسود بالياً .
{ سنقرئك } سنجعلك قارئاً لما يأتيك به جبريل عليه السَّلام من الوحي { فلا تنسى } شيئاً ، وهذا وعدٌ من الله سبحانه لنبيِّه عليه السَّلام أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيءٌ .
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{ إلاَّ ما شاء الله } أن ينسخه . وقيل : إلاَّ ما شاء الله ، وهو لا يشاء أن تنسى { إنَّه يعلم الجهر } من القول والفعل { وما يخفى } .
{ ونيسِّرك لليسرى } أَيْ : نُهوِّن عليك الشَّريعة اليسرى ، وهي الحنيفيَّة السَّمحة .
{ فذكر } فَعِظْ بالقرآن { إن نفعت الذكرى } التَّذكير .
{ سيذكر } سيتَّعظ { من يخشى } الله .
{ ويتجنبها } ويتجنَّب الذِّكرى ويتباعد عنها { الأشقى } في علم الله .
{ الذي يصلى النار الكبرى } الذي يدخل جهنَّم .
{ ثمَّ لا يموت فيها ولا يحيى } لا يموت فيها موتاً يستريح به من العذاب ، ولا يحيا حياةً يجد فيها روح الحياة .
{ قد أفلح } صادف البقاء في الجنَّة { مَنْ تزكَّى } أكثر من العمل الصالح .
{ وذكر اسم ربه فصلى } أَيْ : الصَّلوات الخمس .
{ بل تؤثرون } تختارون { الحياة الدنيا } .
{ والآخرة خير وأبقى } من الدُّنيا .
{ إنَّ هذا } الذي ذكرتُ من فلاح المُتزكِّي ، وكون الآخرة خيراً من الدُّنيا { لفي الصحف الأولى } مذكورٌ في الكتب المتقدِّمة .
{ صحف إبراهيم وموسى } يعني : ما أنزل الله عليهما من الكتب .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
{ هل أتاك حديث الغاشية } يعني : القيامة؛ لأنَّها تغشى الخلق ، ومعنى : { هل أتاك } أَيْ : إنَّ هذا لم يكن من علمك ، ولا من علم قومك .
{ وجوه يومئذٍ خاشعة } ذليلةٌ .
{ عاملة } في النار تعالج حرَّها وعذابها { ناصبة } ذات نصبٍ وتعبٍ .
{ تصلى ناراً } تقاسي حرَّها { حامية } حارَّةً .
{ تسقى من عين آنية } متناهيةٍ في الحرارة .
{ ليس لهم } في جهنم { طعام إلاَّ من ضريع } وهو يبيس الشِّبْرِقِ ، وهو نوعٌ من الشَّوك لا تقربه دابَّةٌ ولا ترعاه ، وصفته ما ذكر الله : { لا يسمن ولا يغني من جوع } .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
{ وجوهٌ يومئذٍ ناعمة } حسنةٌ .
{ لسعيها } في الدُّنيا { راضية } حين أًعطيت الجنَّة بعملها .
{ في جنة عالية } .
{ لا تسمع فيها لاغية } لغواً ولا باطلاً .
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
{ ونمارق مصفوفة } أَيْ : وسائد بعضها بجنب بعضٍ .
{ وزرابيُّ } وهي البسط والطَّنافس { مبثوثة } مفرَّقة في المجالس ، ثمَّ نبَّههم على عظيمٍ من خلقه قد ذلَّله لصغير؛ ليدلَّهم ، بذلك على توحيده ، فقال :
{ أفلا ينظرون إلى الإِبل كيف خلقت } .
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ سطحت } أَيْ : بُسطت .
{ فذكِّر إنما أنت مذكِّر } ذكِّرهم نعم الله ودلائل توحيده ، فإنَّك مبعوثٌ بذلك .
{ لست عليهم بمسيطر } بمسلِّط تُكرههم على الإِيمان ، وهذا قبل أَنْ أُمر بالحرب .
{ إلاَّ من تولى } لكنْ من تولَّى عن الإيمان { وكفر } .
{ فيعذِّبه الله العذاب الأكبر } عذاب جهنم .
{ إنَّ إلينا إيابهم } رجوعهم .
{ ثمَّ إنَّ علينا حسابهم } .
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
{ والفجر } يعني : فجر كلِّ يومٍ .
{ وليالٍ عشر } عشر ذي الحجَّة .
{ والشفع } يعني : يوم النَّحر؛ لأنَّه يوم العاشر { والوتر } يوم عرفة؛ لأنَّه يوم التَّاسع .
{ والليل إذا يسر } يعني : ليل المزدلفة إذا مضى وذهب . وقيل : إذا جاء وأقبل .
{ هل في ذلك } الذي ذكرت { قَسَمٌ لذي حجر } أَيْ : مقنعٌ ومكتفى في القسم لذي عقلٍ ، ثمَّ ذكر الأمم التي كذَّبت الرُّسل كيف أهلكهم فقال :
{ ألم تر كيف فعل ربك بعاد } .
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
{ إرم } يعني : عاداً الأولى ، وهو عاد بن عوص بن إرم ، وإرم : اسم القبيلة . { ذات العماد } أَيْ : ذات الطُّول ، وقيل : ذات البناء الرفيع ، وقيل : ذات العمد السيَّارة ، وذلك أنَّهم كانوا أهل عمدٍ سيَّارة ينتجعون الغيث .
{ التي لم يخلق مثلها في البلاد } في بطشهم وقوَّتهم وطول قامتهم .
{ وثمود الذي جابوا } قطعوا { الصخر } فاتَّخذوا منها البيوت { بالواد } يعني : وادي القرى ، وكانت مساكنهم هناك .
{ وفرعون ذي الأوتاد } ذي الجنود والجموع الكثيرة ، وكانت لهم مضارب كثيرةٌ يوتدونها في أسفارهم .
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
{ فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب } أَيْ : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب .
{ إنَّ ربك } جواب القسم الذي في أوَّل السُّورة { لبالمرصاد } بحيث يرى ويسمع ويرصد أعمال بني آدم .
{ فأمَّا الإنسان } يعني : الكافر { إذا ما ابتلاه ربُّه } امتحنه بالنِّعمة والسَّعة { فأكرمه } بالمال { ونعَّمة } بما وسَّع عليه { فيقول ربي أكرمنِ } لا يرى الكرامة من الله إلاَّ بكثرة الحظِّ من الدُّنيا .
{ وإمَّا إذا ما ابتلاه فقدر } فضيَّق { عليه رزقه فيقول : ربي أهانن } يرى الهوان في قلَّة حظِّه من الدنيا ، وهذا صفة الكافر ، فأما المؤمن فالكرامة عنده أن يُكرمه الله بطاعته ، والهوان أن يُهينه بمعصيته ، ثم رَدَّ هذا على الكافر ، فقال :
{ كلا } أَيْ : ليس الأمر كما يظنُّ هذا الكافر . { بل لا تكرمون اليتيم } إخبارٌ عمَّا كانوا يفعلونه من ترك توريث اليتيم ، وحرمانه ما يستحقُّ من الميراث .
{ ولا تَحَاضُّون على طعام المسكين } لا تأمرون به ، ولا تُعينون عليه .
{ وتأكلون التراث } يعني : ميراث اليتامى { أكلاً لمّاً } شديداً ، تجمعون المال كلَّه في الأكل ، فلا تُعطون اليتيم نصيبه .
{ وتحبون المال حباً جماً } كثيراً .
{ كلا } ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر { إذا دكت الأرض دكاً دكاً } إذا زُلزلت الأرض فكَسر بعضها بعضاً .
{ وجاء ربك } أَيْ : أمر ربِّك وقضاؤه { والملك } أَيْ : الملائكةُ { صفاً صفاً } صفوفاً .
{ وجيء يومئذٍ بجهنم } تُقاد بسبعين أَلْفِ زمامٍ ، كلُّ زمامٍ بأيدي سبعين ألف مَلَكٍ { يومئذٍ يتذكَّر الإنسان } يُظهر الكافر التَّوبة { وأنى له الذكرى } ومن أين له التَّوبة؟
{ يقول يا ليتني قدمت لحياتي } أَيْ : للدَّار الآخرة التي لا موت فيها .
{ فيومئذٍ لا يعذِّب عذابه أحد } لا يتولَّى عذاب الله تعالى يومئذٍ أحدٌ ، والأمر يومئذ أمره ، ولا أمر غيره .
{ ولا يوثق وثاقه } يعني بالوثاق الإِسار والسًَّلاسل والأغلال ، والمعنى : لا يبلغ أحدٌ من الخلق كبلاغ الله سبحانه في التَّعذيب والإِيثاق .
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{ يا أيتها النفس المطمئنة } إلى ما وعد الله سبحانه المصدِّقة بذاك .
{ ارجعي إلى ربك } يقال لها ذلك عند الموت . { راضية } بما آتاها الله { مرضية } رضي عنها ربُّها . هذا عند خروجها من الدُّنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل :
{ فادخلي في عبادي } أَيْ : في جملة عبادي الصَّالحين .
{ وادخلي جنتي } .
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
{ لا أقسم } المعنى : أقسم ، و { لا } توكيدٌ . { بهذا البلد } يعني : مكَّة .
{ وأنت } يا محمَّدُ { حلٌّ بهذا البلد } تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، أُحلَّت له مكَّةُ ساعةً من النَّهار يوم الفتح حتى قاتل وقتل من شاء .
{ ووالدٍ } أقسم بآدم عليه السَّلام { وما ولد } وولده ، و { ما } بمعنى " مَنْ " .
{ لقد خلقنا الإِنسان في كبد } أَيْ : مشقَّةٍ يكابد أمر الدُّنيا والآخرة وشدائدهما . وقيل مُنتصباً معتدلاً .
{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } نزلت في رجلٍ من بني جمح يُكنى أبا الأشدين ، كان يوصف بالقوَّة؛ فقال الله تعالى : أيحسب بقوَّته أن لن يقدر عليه أحدٌ ، والله قادر عليه .
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
{ يقول أهلكت مالاً } على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم { لبداً } كثيراً بعضه على بعض ، وهو كاذبٌ في ذلك ، قال الله تعالى :
{ أيحسب أن لم يره أحد } في إنفاقه ، فيعلم مقدار نفقته ، ثمَّ ذكر ما يستدلُّ به على أنَّ الله تعالى قادرٌ عليه ، وأَنْ يحصي عليه ما يعمله ، فقال :
{ ألم نجعل له عينين } . { ولساناً وشفتين } .
{ وهديناه النجدين } يقول : ألم نُعرِّفه طريق الخير وطريق الشَّرِّ .
{ فلا اقتحم العقبة } أَيْ : لم يدخل العقبة ، وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمنفق في طاعة الله يحتاج أن يتحمَّل الكُلفة ، كمَنْ يتكلَّف صعود العقبة ، يقول : لم ينفق هذا الإنسان في طاعة الله شيئاً .
{ وما أدراك ما العقبة } أَيْ : ما اقتحام العقبة ، ثمَّ فسَّره فقال :
{ فك رقبة } وهو إخراجها من الرِّقِّ بالعون في ثمنها .
{ أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة } مجاعةٍ .
{ يتيماً ذا مقربة } ذا قرابةٍ .
{ أو مسكيناً ذا متربة } أَيْ : ذا فقرٍ قد لصق من فقره بالتُّراب .
{ ثم كان من الذين آمنوا } أَيْ : كان مقتحم العقبة وفاكُّ الرَّقبة والمُطعم من الذين آمنوا؛ فإنَّه إنْ لم يكن منهم لم ينفعه قربةٌ { وتواصوا } أوصى بعضهم بعضاً { بالصبر } على طاعة الله تعالى { وتواصوا بالمرحمة } بالرَّحمة على الخلق .
{ أولئك أصحاب الميمنة } مَنْ كان بهذه الصفة فهو من جملة أصحاب اليمين .
{ والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة } أصحاب الشِّمال . وقيل في أصحاب اليمين : إنَّهم الميامين على أنفسهم ، وفي أصحاب المشأمة : إنَّهم المشائيم على أنفسهم .
{ عليهم نار مؤصدة } مُطَبقةٌ .
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
{ والشمس وضحاها } وضيائها .
{ والقمر إذا تلاها } تبعها في الضِّياء والنُّور ، وذلك في النِّصف الأوَّل من الشَّهر يخلف الشَّمسَ القمرُ في النُّور .
{ والنهار إذا جلاَّها } جلَّى الظُّلمة وكشفها . وقيل : جلَّى الشَّمس وبيَّنها؛ لأنها تبين إذا انبسط النَّهار .
{ والليل إذا يغشاها } يستر الشَّمس .
{ والسماء وما بناها } أَيْ : وبنائها .
{ والأرض وما طحاها } وطحوها ، أَيْ : بسطها .
{ ونفس وما سوَّاها } وتسوية خلقها .
{ فألهمها فجورها وتقواها } علَّمها الطَّاعة والمعصية .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
{ قد أفلح } سعد { مَنْ زكاها } أصلح الله نفسه وطهَّرها من الذُّنوب .
{ وقد خاب مَنْ دسَّاها } جعلها الله ذليلةً خسيسةً حتى عملت بالفجور ، ومعنى دسَّاها : أخفى محلها ، ووضع منها وأحملها وخذلها .
{ كذبت ثمود بطغواها } بطغيانها كذَّبت الرُّسل .
{ إذِ انبعث } قام { أشقاها } عاقر النَّاقة .
{ فقال لهم رسول الله } [ صالحٌ ] . { ناقة الله } ذَروا ناقة الله { وسقياها } وشربها في يومها .
{ فكذَّبوه فعقروها } فقتلوا النَّاقة { فدمدم عليهم ربهم } أهلكهم هلاك استئصال { بذنبهم فسوَّاها } سوَّى الدمامة عليهم فعمَّهم بها . وقيل : سوَّى ثمود بالهلاك ، فأنزله بصغيرها وكبيرها .
{ ولا يخاف عقباها } لا يخاف اللَّهُ من أحدٍ تبعةَ ما أنزل بهم . وقيل : لا يخاف أشقاها عاقبة جنايته .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
{ والليل إذا يغشى } أيْ : يغشى الأُفق بظلمته .
{ والنهار إذا تجلى } بان وظهر .
{ وما خلق } ومَنْ خلق { الذكر والأنثى } وهو الله تعالى ، [ وجواب القسم وهو قوله : ]
{ إنَّ سعيكم لشتى } إنَّ عملكم لمختلفٌ . يريد : بينهما بُعدٌ يعني : عمل المؤمن وعمل الكافر . نزلت في أبي بكر الصِّديق وأبي سفيان بن حرب .
{ فأمَّا مَنْ أعطى } ماله { واتقى } ربَّه واجتنب محارمه .
{ وصدَّق بالحسنى } أيقن بأنَّ الله سبحانه سيخلف عليه . وقيل : صدَّق ب لا إله إلاَّ الله .
{ فسنيسره } فسنهيِّئه { لليسرى } للخلَّة اليسرى ، أَي : الأمر السَّهل من العمل بما يُرضي الله تعالى ، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه اشترى جماعةً يُعذِّبُهم المشركون ليرتدُّوا عن الإِسلام ، فوصفه الله تعالى بأنَّه أعطى وصدَّق بالمُجازاة من الله له .
{ وأمَّا مَنْ بخل } بالنَّفقة في الخير { واستغنى } عن الله ، فلم يرغب في ثوابه .
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{ فسنيسره للعسرى } أَيْ : نخذله حتى يعمل بما يُؤدِّيه إلى العذاب والأمر العسير .
{ وما يغني عنه ماله إذ تردَّى } أَيْ : مات وهلك . وقيل : سقط في جهنَّم .
{ إنَّ علينا للهدى } أَي : إِنَّ علينا أَّنْ نبيِّن طريق الهدى من طريق الضَّلال .
{ وإن لنا للآخرة والأولى } فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ .
{ فأنذرتكم } خوَّفتكم { ناراَ تلظى } تتوقَّد .
{ لا يصلاها إلاَّ الأشقى } لا يدخلها إلاَّ الكافر . { الذي كذَّب وتولَّى } .
{ وسيجنبها } أَيْ : يبعد منها { الأتقى } يعني : أبا بكر رضوان الله عليه .
{ الذي يؤتي ماله يتزكى } يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، ولا يطلب رياءً ولا سمعةً .
{ وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى } وذلك أنَّ الكفَّار قالوا لمَّا اشترى أبو بكر رضي الله عنه بلالاً فأعتقه : ما فعل أبو بكر ذلك إلاَّ ليدٍ كانت عنده لبلال ، فقال الله تعالى : وما لأحد عنده من نعمةٍ تُجزى ، أَيْ : لم يفعل ذلك مجازاة ليدٍ أُسديت إليه .
{ إلاَّ ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي : لكن طلب ثواب الله .
{ ولسوف يرضى } سيدخل الجنَّة .
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
{ والضحى } أيْ : النَّهارِ كلِّه .
{ والليل إذا سجى } سكن بالخلق واستقرَّ بظلامه .
{ ما ودَّعك ربك وما قلى } وما تركك منذ اختارك ، وما أبغضك منذ أحبَّك ، وهذا جواب القسم . وقد كان تأخَّر الوحي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً ، فقال ناس : إنَّ محمداً ودَّعه ربُّه وقلاه ، فأنزل الله هذه السورة .
{ وللآخرة خير لك من الأولى } لأّنَّ الله يعطيك فيها الكرامات والدَّرجات .
{ ولسوف يعطيك ربك } في الآخرة من الثَّواب ، وفي مقام الشَّفاعة { فترضى } .
يروى أنَّه قال عليه السَّلام لمَّا نزلت هذه الآية : إذن لا أرضى وواحدٌ من أُمَّتي في النَّار . ثمَّ أخبر عن حاله قبل الوحي ، وذكَّره نعمه عليه فقال :
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{ ألم يجدك يتيماً } حين مات أبواك ولم يُخلِّفا لك مالاً ولا مأوى { فآوى } فآواك إلى عمِّك [ أبي طالب ] وضمَّك إليه حتى كفلك وربَّاك .
{ ووجدك ضالاً } عمَّا أنت عليه اليوم من معالم النُّبوَّة وأحكام القرآن والشَّريعة ، فهداك إليها ، كقوله : { ما كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الإيمانُ . . . } الآية .
{ ووجدك عائلاً } فقيراً ولا مال لك ، فأغناك بمال خديجة رضي الله عنه ، ثمَّ بالغنائم .
{ فأما اليتيم فلا تقهر } على ماله ، واذكر يُتمك .
{ وأما السائل فلا تنهر } فلا تزجره ، ولكن بذلٌ يسير ، أو ردٌّ جميلٌ ، واذكر فقرك .
{ وأمَّا بنعمة ربك } أَيْ : النُّبوَّة والقرآن { فحدِّث } أخبر بها .
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
{ ألم نشرح لك صدرك } أَلم نفتحْ ونوسِّع ، ونليِّن لك قلبك بالإِيمان والنُّبوَّة ، والعلم والحكمة؟ هذا استفهامٌ معناه التَّقرير .
{ ووضعنا } [ حططنا ] { عنك وزرك } ما سلف منك في الجاهليَّة . وقيل : يعني : الخطأ والسَّهو . وقيل : معناه : خفَّفنا عليك أعباء النُّبوَّة ، والوِزر في اللُّغة : الحِمل الثقيل :
{ الذي أنقض } أثقل { ظهرك } .
{ ورفعنا لك ذكرك } أي : إذا ذُكرت ذكرتَ معي .
{ فإنَّ مع العسر يسراً } أي : مع الشِّدَّة التي أنتَ فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً ، بإظهاري إيَّاك عليهم حتى تغلبهم ، وينقادوا لك طوعاً أو كرهاً .
{ إنَّ مع العسر يسراً } تكرارٌ للتَّأكيد . وقيل : إنَّ هذا عامٌّ في كلِّ عسرٍ أصاب المؤمن ، وهو من الله تعالى على وعد اليسر؛ إمَّا في الدُّنيا ، وإمَّا في الآخرة ، فالعسر واحدٌ ، واليسر اثنان .
{ فإذا فرغت } من صلاتك { فانصب } أَي : اتعب في الدُّعاء وسله حاجتك ، وارغب إلى الله تعالى به .
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
{ والتين والزيتون } هما جبلان بالشَّام ، طور تينا ، وطور زيتا بالسِّريانية ، سمِّيا بالتِّين والزَّيتون؛ لأنَّهما يُنبتانهما .
{ وطور سِنين } جبل موسى عليه السَّلام ، وسينين : المبارك بالسِّريانية .
{ وهذا البلد الأمين } [ الآمن ] . يعني : مكَّة ، سمَّاه أميناً لأنه آمنٌ لا يُهاج أهله .
{ لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم } صورةٍ؛ لأنَّه معتدل القامة ، يتناول مأكوله بيده .
{ ثمَّ رددناه أسفل سافلين } إلى أرذل العمر ، والسَّافلون : هم الهرمى والزَّمنى والضَّعفى .
{ إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ ممنون } يعني : إنَّ المؤمن إذا ردَّ إلى أرذل العمر كُتب له مثل أجره إذا كان يعمل ، بخلاف الكافر ، فذلك قوله : { فلهم أجرٌ غير ممنون } أي : غير مقطوعٍ . وقيل : معنى : { ثم رددناه أسفل سافلين } : إلى النَّار ، يعني : الكافر ، ثمَّ استثنى المؤمنين ، فقال : { إلاَّ الذين آمنوا } وهذا القول أظهر ، ثمَّ قال توبيخاً للكافر :
{ فما يكذبك } أيُّها الإِنسان { بعد } هذه الحُجَّة { بالدين } بالحساب والجزاء ، ومعنى : ما يُكذِّبك : ما الذي يجعلك مكذِّباً بالدِّين . وقيل : إنَّ هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فما الذي يكذِّبك يا محمد بعد ما تبيَّن من قدرتنا على خلق الإِنسان ، وظهر من حجَّتنا ، كأنَّه قال : فمَنْ يقدر على تكذيبك بالثَّواب والعقاب .
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } في جميع ما خلق وصنع ، وكلُّ ذلك دالٌّ على علمه وحكمته [ جلَّ جلاله ، وتقدَّست أسماؤه ، ولا إله غيره ] .
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
{ أقرأ باسم ربك } يعني : اقرأ القرآن باسم ربك ، وهو أن تذكر التَّسمية في ابتداء كلِّ سورةٍ . { الذي خلق } الأشياء والمخلوقات .
{ خلق الإِنسان } يعني : ابن آدم { من علق } جمع عَلَقةٍ .
{ اقرأ وربك الأكرم } يعني : الحليم عن جهل العباد ، فلا يعجل عليهم بالعقوبة .
{ الذي علَّم بالقلم } ثمَّ بيَّن ما علَّم ، فقال :
{ علَّم الإنسان ما لم يعلم } وهو الخطُّ والكتابة .
{ كلا } حقَّاً { إنَّ الإِنسان ليطغى } ليتجاوز ويستكبر على ربِّه .
{ أن رآه } رأى نفسه { استغنى } .
{ إنَّ إلى ربك الرجعى } المرجع في الآخرة ، فيجازي الطَّاغي بما يستحقُّه .
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{ أرأيت الذي ينهى } يعني : أبا جهلٍ .
{ عبداً إذا صلى } وذلك أنَّه قال : لئن رأيتُ محمداً يصلي لأطأنَّ على رقبته ، ومعنى : أرأيتَ ها هنا تعجُّبٌ ، وكذلك قوله :
{ أرأيت إن كان على الهدى } . { أو أمر بالتقوى } .
{ أرأيت إن كذب وتولى } . والمعنى : أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلَّى وهو على الهدى آمرٌ بالتَّقوى ، والنَّاهي كاذبٌ مُتولٍّ عن الذِّكرى ، أَيْ : فما أعجب من ذا!
{ ألم يعلم } أبو جهلٍ { بأنَّ الله يرى } أَيْ : يراه ويعلم ما يفعله .
{ كلا } ردعٌ وزجرٌ { لئن لم ينته } عمَّا هو عليه من الكفر ومعاداة النبيِّ صلى الله عليه وسلم { لنسفعن بالناصية } لنجرَّن بناصيته إلى النَّار ، ثمَّ وصف ناصيته ، فقال :
{ ناصيةٍ كاذبة خاطئة } وتأويلها : صاحبُها كاذبٌ خاطىءٌ .
{ فليدع ناديه } فليستعن بأهل مجلسه ، وذلك أنَّه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لأملأنَّ عليك هذا الوادي خيلاً جُرداً ، ورجالاً مُرداً ، فقال الله تعالى : { فليدع ناديه } .
{ سندع الزبانية } وهم الملائكة الغلاظ الشِّداد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو دعا ناديه لأخذته الزَّبانية عياناً "
{ كلا } ليس الأمر على ما عليه أبو جهلٍ { لا تطعه واسجد } وصلِّ { واقترب } تقرّب إلى ربِّك بطاعته .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
{ إنا أنزلناه } أي : أنزلنا القرآن { في ليلة القدر } ليلة الحكم والفصل ، يقضي الله فيها قضاء السَّنة ، والقَدْر : بمعنى التَّقدير . أنزل الله تعالى القرآن كلَّه في ليلة القدر جُملةً واحدةً من اللَّوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا ، ثمَّ نزل به جبريل عليه السَّلام على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عشرين سنةً .
{ وما أدراك } يا محمَّد عليه السَّلام { ما ليلة القدر } على التَّعظيم لشأنها والتَّعجيب منها ، ثمَّ أخبر عنها فقال :
{ ليلة القدر خير من ألف شهر } أي : من ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر .
{ تنزل الملائكة والروح } يعني : جبريل عليه السَّلام { فيها } في تلك اللَّيلة { بإذن ربهم من كل أمر } أي : بكلِّ أمرٍ قضاه الله تعالى في تلك اللَّيلة للسَّنة ، وتمَّ الكلام ها هنا ، ثمَّ قال :
{ سلام هي } أَيْ : تلك اللَّيلة كلها سلامةٌ وخيرٌ لا داء فيها ، ولا يستطيع الشَّيطان أن يصنع فيها شيئاً . وقيل : يعني : تسليم الملائكة في تلك اللَّيلة على أهل المساجد { حتى مطلع الفجر } إلى وقت طلوع الفجر .
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
{ لم يكن الذين كفروا } بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { من أهل الكتاب } أي : اليهود والنَّصارى { والمشركين } يعني : كفَّار العرب { منفكين } مُنتهين زائلين عن كفرهم { حتى تأتيهم البينة } يعني : أتتهم البينة ، أَي : البيان والبصيرة ، وهو محمد عليه السَّلام والقرآن . يقول : لم يتركوا كفرهم حتى بُعث إليهم محمَّدٌ عليه السَّلام ، وهذا فيمَنْ آمن من الفريقين ، ثمَّ فسَّر البيِّنة فقال :
{ رسول من الله يتلو صحفاً } كتباً { مطهرة } من الباطل .
{ فيها كتب } أحكامٌ { قيِّمة } مستقيمةٌ عادلةٌ ، ثمَّ ذكر كفَّار أهل الكتاب ، فقال :
{ وما تفرَّق الذين أوتوا الكتاب } أي : ما اختلفوا في كون محمَّدٍ عليه السَّلام حقاً لما يجدون من نعته في كتابهم { إلاَّ مِنْ بعد ما جاءتهم البينة } إلاَّ من بعد ما بيَّنوا أنَّه النبيُّ الذي وُعدوا به في التَّوراة والإِنجيل ، يريد : أنَّهم كانوا مجتمعين على صحَّة نبوَّته ، فلمَّا بُعث جحدوا نبوَّته وتفرَّقوا ، فمنهم مَنْ كفر بغياً وحسداً ، ومنهم مَنْ آمن ، وهذا كقوله تعالى : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم . . . } الآية .
{ وما أمروا } يعني : كفَّار الذين أُوتوا الكتاب { إلاَّ ليعبدوا الله } إلاَّ أنْ يعبدوا الله { مخلصين له الدين } الطَّاعة ، أَيْ : مُوحِّدين له لا يعبدون معه غيره . { حنفاء } على دين إبراهيم عليه السَّلام ودين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وذلك دين القيمة } أي : دين الملَّة القيِّمة ، وهي المستقيمة ، وباقي الآية ظاهرٌ .
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
{ إذا زلزلت الأرض زلزالها } أي : حُرِّكت حركةً شديدةً لقيام السَّاعة .
{ وأخرجت الأرض أثقالها } كنوزها وموتاها ، فألقتها على ظهرها .
{ وقال الإِنسان } يعني : الكافر الذي لا يؤمن بالبعث { ما لها } إنكاراً لتلك الحالة .
{ يومئذ تحدّث أخبارها } أَيْ : تُخبر بما عُمل عليها من خيرٍ وشرٍّ .
{ بأنَّ ربك أوحى لها } أي : أمرها بالكلام وأذن لها فيه .
{ يومئذ يصدر الناس } ينصرف النَّاس { أشتاتاً } متفرِّقين عن موقف الحساب ، فآخذٌ ذات اليمين ، وآخذٌ ذات الشِّمال { ليروا أعمالهم } أَيْ : ثوابها .
{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } يرى المؤمن ثوابه في الآخرة ، والكافر في الدُّنيا يراه في نفسه وأهله وماله .
{ ومَنْ يعمل مثقال ذرة شراً يره } جزاء المؤمن في الدُّنيا بالأحزان والمصائب ، والكافر في الآخرة .
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
{ والعاديات } يعني : الخيل في الغزو { ضبحاً } تضبح ضبحاً ، وهو صوت أجوافها إذا عدت .
{ فالموريات } وهي الخيل التي تُوري النَّار { قدحاً } بحوافرها إذا عدت في الأرض ذات الحجارة باللَّيل .
{ فالمغيرات صبحاً } يعني : الخيل تُغير على العدوِّ وقت الصبح ، وإنما يُغير أصحابها ولكن جرى الكلام على الخيل .
{ فأثرن } هيَّجن { به } بمكان عدوها { نقعاً } غباراً .
{ فوسطن } توسطن { به } بالمكان الذي هي به { جمعاً } من النَّاس أغارت .
عليهم ، يريد : صارت في وسط قومٍ من العدوِّ تُغير عليهم .
{ إن الإنسان } جواب القسم { لربه لكنود } لكفورٌ . يعني : الكافر يجحد نعم الله تعالى .
{ وإنه } وإنَّ الله تعالى { على ذلك } على كنوده { لشهيد } .
{ وإنّه لحب الخير } لأجل حبِّ المال { لشديد } لبخيلٌ .
{ أفلا يعلم } هذا الإنسان { إذا بعثر } قُلب فَأُثير { ما في القبور } يعني : إذا بُعث الموتى .
{ وحصِّل } بيِّن وأُبرز { ما في الصدور } [ من الكفر والإيمان .
{ إنَّ ربهم بهم يومئذٍ لخبير } عالمٌ فيجازيهم على كفرهم في ذلك اليوم ، وإنَّما قال " بهم " لأنَّ الإِنسان اسم الجنس ] .
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
{ القارعة } يعني : القارعة؛ لأنَّها تقرع القلوب بأهوالها .
{ ما القارعة } تفخيمٌ لشأنها وتهويلٌ ، كما قلنا في الحاقَّة .
{ يوم يكون الناس كالفراش } كغوغاء الجراد لا يتَّجه إلى جهةٍ واحدةٍ ، كذلك النَّاس إذا بُعثوا ماج بعضهم في بعضٍ للحيرة { المبثوث } المفرَّق .
{ وتكون الجبال كالعهن } كالصُّوف { المنفوش } المندوف ، لخفَّة سيرها .
{ فأمَّا مَنْ ثقلت موازينه } بالحسنات .
{ فهو في عيشة راضية } يرضاها .
{ وأما من خفت موازينه } . { فأمه هاوية } فمسكنه النَّار .
{ وما أدراك ماهِيَهْ } ثمَّ فسرها فقال :
{ نار حامية } شديدة الحرارة .
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
{ ألهاكم التكاثر } . { حتى زرتم المقابر } شغلكم التَّكاثر بالأموال والأولاد والعدد عن طاعة الله تعالى : { حتى زرتم المقابر } : حتى أدرككم الموت على تلك الحالة . نزلت في اليهود قالوا : نحن أكثرُ من بني فلانٍ ، وبنو فلان أكثرُ من بني فلانٍ ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلالاً .
{ كلا } ليس الأمر الذي ينبغي أَنْ تكونوا عليه التَّكاثر { سوف تعلمون } عند النَّزع سوء عاقبة ما كنتم عليه .
{ ثمَّ كلا سوف تعلمون } سوء عاقبة ما كنتم عليه في القبر ، والتَّكرير لتأكيد التَّهديد .
[ { كلا لو تعلمون عليم اليقين } أَيْ : لو علمتم الأمرَ حقَّ علمه لشغلكم ذلك عمَّا أنتم فيه ، وجواب { لو } محذوف ] ثمَّ ابتدأ فقال :
{ لترون الجحيم } .
{ ثم لترونها } تأكيدٌ أيضاً { عَيْنَ اليقين } عياناً لستم عنها بغائبين .
{ ثمَّ لتسألنَّ يومئذ عن النعيم } عن الأمن والصَّحة فيما أفنيتموها .
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
{ والعصر } هو الدَّهر ، أَقسم الله به .
{ إنَّ الإِنسان } يعني : الكافر العامل لغير طاعة الله { لفي خسر } خسرانٍ ، يعني : إنَّه يخسر أهله ومحله ومنزلته في الجنَّة .
{ إلاَّ الذين آمنوا } فإنَّهم ليسوا في خسرٍ . { وتواصوا بالحق } وصَّى بعضهم بالإِقامة على التَّوحيد والإِيمان { وتواصوا بالصَّبر } على طاعة الله والجهاد في سبيله . ويروى [ مرفوعاً ] : { إن الإنسان لفي خسرٍ } يعني : أبا جهلٍ ، { إلاَّ الذين آمنوا } يعني : أبا بكر { وعملوا الصالحات } يعني : عمر بن الخطاب . { وتواصوا بالحقِّ } يعني : عثمان . { وتواصوا بالصَّبر } يعني : علياً . رضي الله عنهم أجمعين .
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
{ ويلٌ لكلِّ همزة لمزة } يعني : الإنسان الذي يغتاب النَّاس ويعيبهم . نزلت في أُميَّة بن خلف . وقيل : في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
{ الذي جمع مالاً وعدده } أعدَّه للدَّهر ، وقيل : أكثر عدده .
{ يحسب أنَّ ماله أخلده } في الدُنيا حتى لا يموت .
{ كلا } ليس الأمر على ما يحسب . { لينبذنَّ في الحطمة } ليطرحنَّ في النار .
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
{ التي تطلع على الأفئدة } أَيْ : يبلغ ألمها وإحراقها إلى الأفئدة .
{ إنها عليهم مؤصدة } مطبقةٌ .
{ في عمد } جمع عمودٍ . { ممددة } . قيل : يعني : أوتاد الأطباق التي تطبق عليهم ، ومعنى { في عمدٍ } : بعمدٍ . وقيل : إنَّها عمدٌ يُعذَّبون بها في النَّار .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
{ ألم ترَ } ألم تعلم . وقيل : ألم تخبر { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } .
{ ألم يجعل كيدهم في تضليل } أضلَّ كيدهم عمَّا أرادوا من تخريب الكعبة .
{ وأرسل عليهم طيراً أبابيل } جماعاتٍ جماعاتٍ .
{ ترميهم بحجارة من سجيل } من آجرٍ .
{ فجعلهم كعصف مأكول } كزرعٍ أكلته الدَّوابُّ فداسته وفتَّتته . والعصف : ورق الزرع .
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
{ لإِيلاف قريش } قيل : هذه اللام تتَّصل بما قبلها ، على معنى : أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وتألف رحلتيها . وقيل : معنى اللام التَّأخير ، على معنى : فليعبدوا ربَّ هذا البيت { لإِيلاف قريش } أَيْ : ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النِّعم واعترافاً بها . يقال : ألف الشَّيء وآلفه بمعنىً واحد ، والمعنى : لإِلف قريش رحلتيها ، وذلك انَّه كانت [ لهم ] رحلتان رحلةٌ في الشِّتاء إلى اليمين ، و [ رحلة ] في الصَّيف إلى الشَّام ، وبهما كانت تقوم معايشهم وتجاراتهم . وكان لا يتعرَّض لهم في تجارتهم أحدٌ . يقول : هم سكَّان حرم الله وولاة بيته ، فمنَّ الله عليهم بذلك ، وقال :
{ فليعبدوا ربَّ هذا البيت } . { الذي أطعهم من جوع } أَيْ : بعد جوعٍ ، وكانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الميتة والجيف ، ثمَّ كشف الله ذلك عنهم { وآمنهم من خوف } فلا يخافون في الحرم الغارة ، ولا يخافون في رحلتهم .
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
{ أرأيت الذي يكذب بالدين } نزلت في العاص بن وائل . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة . وقيل : في أبي سفيان ، وذلك أنَّه نحر جزوراً فأتاه يتيمٌ يسأله ، فقرعه بعصاه ، فذلك قوله تعالى : { يدعُّ اليتيم } أَيْ : يدفعه بجفوةٍ من حقِّه .
{ ولا يحضُّ على طعام المسكين } لا يُطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه .
{ فويل للمصلين } . { الذين هم عن صلاتهم ساهون } غافلون يُؤخِّرونها عن وقتها .
{ الذين هم يراؤون } يعني : المنافقين يُصلُّون في العلانيَة ، ويتركون الصَّلاة في السِّرِّ .
{ ويمنعون الماعون } الزَّكاة وما فيه منفعةٌ من الفأس والقِدر والماء والملح .
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
{ إنَّا أعطيناك الكوثر } قيل : هو نهرٌ في الجنَّة حافتاه الدُّرُّ . وقيل : هو الخير الكثير .
{ فصلِّ لربك } صلاة العيد ، يعني : يوم النَّحر { وانحر } نُسكك . وقيل : { فصلِّ } فضع يدك على نحرك في صلاتك .
{ إنَّ شانئك } مُبغضك { هو الأبتر } المُنقطع العقب . [ وقيل : المنقطع عن كلِّ خير . نزلت في العاص بن وائل سمَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم أبتر عند موت ابنه القاسم ] .
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{ قل يا أيها الكافرون } نزلت في رهطٍ من قريشٍ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم تعبد آلهتنا سنةً . ونعبد إلهك سنةً ، فأنزل الله هذه السُّورة .
{ لا أعبد ما تعبدون } في الحال .
{ ولا أنتم عابدون ما أعبد } في الحال ما أعبده .
{ ولا أنا عابد } في الاستقبال { ما عبدتم } .
{ ولا أنتم عابدون } في الاستقبال { ما أعبد } فنفى عنهم عبادة الله في الحال ، وفيما يستقبل ، وهذا في قومٍ أعلمه الله أنَّهم لا يؤمنون ، ونفى أيضاً عن نفسه عبادة الأصنام في الحال وفيما يستقبل ، لييئسوا عنه في ذلك .
{ لكم دينكم } الشِّرك { ولي ديني } الإِسلام ، وهذا قبل أَنْ يُؤمر بالحرب .
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
{ إذا جاء نصر الله } إيَّاك على مَنْ ناوأك من اليهود والعرب { والفتح } يعني : فتح مكة .
{ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } جماعاتٍ جماعاتٍ بعد ما كان يدخل واحدٌ فواحدٌ . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزلت هذه السورة قال : قد نُعِيَتْ إليَّ نفسي .
{ فسبح بحمد ربك } أمره الله عزَّ وجل أن يُكثر التَّسبيح والاستغفار ، ليختم له في آخر عمره بالزِّيادة في العمل الصّالح .
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
{ تبت يدا أبي لهب وتب } لمَّا نزل قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّفا ، ونادى بأعلى صوته يدعو قومه ، فاجتمعوا إليه فأنذرهم النَّار ، وقال : إنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديدٍ ، فقال أبو لهب : تبَّاً لك ، ما دعوتنا إلاَّ لهذا ، فأنزل الله : { تبت يدا أبي لهب } أَيْ : خابت وخسرت { وتب } وخسر هو ، ولمَّا خوَّفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال : إنَّه إنْ كان ما يقوله ابن أخي حقاً؛ فإني أفتدي منه بمالي وولدي ، فقال الله تعالى :
{ ما أغنى عنه ماله وما كسب } يعني : ولده .
{ سيصلى ناراً ذات لهب } .
{ وامرأته حَمّالةَ الحطب } نقَّالة الحديث الماشية بالنَّميمة ، وهي أمُّ جميلٍ أخت أبي سفيان .
{ في جيدها } في عنقها { حبل من مسد } سلسلةٌ من حديدٍ ذرعها سبعون ذراعاً ، تدخل في فيها وتخرج من دبرها ، ويلوى سائرها في عنقها ، والمسد : كلُّ ما أُحكم به الحبل .
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
روي أنَّ قوماً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : انسب لنا ربَّك ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ :
{ قل هو الله أحد } أَيْ : الذي سألتم نسبته هو الله أحدٌ .
{ الله الصمد } السَّيِّد الذي قد انتهى إليه السُّؤدد . وقيل : الصَّمد : الذي لا جوف لَه ، ولا يأكل ولا يشرب . وقيل : هو المقصود إليه في الرَّغائب .
{ لم يلد ولم يولد } .
{ ولم يكن له كفواً أحد } لم يكن أحدٌ مثلاً له .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
{ قل أعوذ برب الفلق } نزلت هذه السُّورة والتي بعدها لمَّا سحر لبيدُ بن الأعصم اليهوديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتكى شكوى شديدةً ، فأعلمه الله بما سحر به ، وأين هو ، فبعث مَنْ أتى به ، وكان وَتَراً فيه إحدى عشرة عقدةً ، فجعلوا كلما حلُّوا عقدةً وجد راحةً حتى حلُّوا العقد كلَّها ، وأمره الله تعالى أن يتعوَّذ بهاتين السُّورتين ، وهما إحدى عشرة آية على عدد العقد ، وقوله : { برب الفلق } يعني : الصُّبح .
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{ ومن شر غاسق } يعني : اللَّيل { إذا وقب } دخل .
{ ومن شر النفاثات } يعني : السَّواحر تنفث { في العقد } كأنَّها تنفخ فيها بشيءٍ تقرؤه .
{ ومن شرِّ حاسد إذا حسد } يعني : لبيداً الذي سحره .
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
{ قل أعوذ برب الناس } . { ملك الناس } . { إله الناس } .
{ من شرِّ الوسواس } [ يعني : ذا الوسواس ] وهو الشيطان { الخناس } وهو الذي يخنس ويرجع إذا ذُكر الله ، والشَّيطان جاثمٌ على قلب الإِنسان ، فإذا ذَكر الله تنحَّى وخنس ، وإذا غفل التقم قلبه فحدَّثه ومنَّاه ، وهو قوله :
{ الذي يوسوس في صدور الناس } .
{ من الجِنَّة } أَيْ : الشيطان الذي هو من الجنِّ { والناس } عطف على قوله : الوسواس . والمعنى : من شرِّ ذي الوسواس ومن شر النَّاس ، كأنَّه أُمر أن يستعيذه من شرِّ الجنِّ ومن شر النَّاس .