كتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
{ ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله } يعني : شهداء أُحدٍ { أمواتاً بل أحياء } بل هم أحياءٌ { عند ربهم } في دار كرامته؛ لأنَّ أرواحهم في أجواف طيرٍ خضرٍ . { يرزقون } يأكلون .
{ فرحين } مسرورين { بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } ويفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم يرجون لهم الشَّهادة ، فينالون مثلَ ما نالوا { ألاَّ خوفٌ عليهم } أَيْ : بأن لا خوفٌ عليهم . يعني : على إخوانهم المؤمنين إذا لحقوا بهم .
{ الذين استجابوا لله والرسول } أجابوهما { من بعد ما أصابهم القرح } أَيْ : الجراحات { للذين أحسنوا منهم } بطاعة الرَّسول واتَّقوا مخالفته { أجر عظيم } نزلت في الذين أطاعوا الرَّسول حين ندبهم للخروج في طلب أبي سفيان يوم أُحدٍ لمَّا همَّ أبو سفيان بالانصراف إلى محمَّدٍ عليه السَّلام وأصحابه ليستأصلوهم .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
{ الذين قال لهم الناس . . . } الآية . كان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يوافيه العام المقبل من يوم أُحدٍ بِبَدْرٍ الصُّغرى ، فلمَّا كان العام المقبل بعث نعيم بن مسعود الأشجعيِّ ليجبِّن المؤمنين عن لقائه ، وهو قوله : { الذين } يعني : المؤمنين { قال لهم الناس } يعني : نعيم بن مسعود { إنَّ الناس } يعني : أبا سفيان وأصحابه { قد جمعوا } [ باللطيمة سوق مكة ] { لكم فاخشوهم } ولا تأتوهم { فزادهم } ذلك القول { إيماناً } أَيْ : ثبوتاً في دينهم ، وإقامةً على نصرة نبيِّهم { وقالوا حسبنا الله } أَيْ : الذي يكفينا أمرهم هو الله { ونِعْمَ الوكيل } أَيْ : الموكول إليه الأمر .
{ فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضل } [ ربحٍ ] وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لذلك الموعد ، فلم يلق أحداً من المشركين ، ووافقوا السُّوق ، وذلك أنَّه كان موضع سوقٍ لهم ، فاتَّجروا وربحوا ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ، وهو قوله : { لم يمسسهم سوءٌ } أَيْ : قتل ولا جراح { واتبعوا رضوان الله } [ إلى بدر الصغرى في طاعته و ] في طاعة رسوله . قوله :
{ إنما ذلكم الشيطان يُخوِّف أولياءَه } أَيْ : يُخوِّفكم بأوليائه ، يعني : الكفَّار { فلا تخافوهم وخافون } في ترك أمري { إن كنتم مؤمنين } مُصدِّقين لوعدي .
{ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } أَيْ : في نصرته ، وهم المنافقون واليهود والمشركون { إنَّهم لن يضرُّوا الله } أََيْ : أولياءَه ودينه { شيئاً } وإنَّما يعود وبال ذلك عليهم ، { يريد الله ألا يجعل لهم حظَّاً } نصيباً { في الآخرة } في الجنَّة .
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
[ { إنَّ الذين اشتروا الكفر بالإِيمان } أَيْ : استبدلوا . كرَّر { لن يضروا الله شيئاً } لأنَّه ذكره في الأول عن طريق العلة لما يجب من التَّسلية عن المسارعة إلى الضَّلالة ، وذكره في الثاني على طريق العلة لاختصاص المضرة بالعاصي دون المعصي ] .
{ ولا يحسبنَّ الذين كفروا أنَّما نُملي لهم } أَيْ : أنَّ إملاءنا - وهو الإِمهال والتأخير - { خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم } أَيْ : نُطوِّل أعمارهم ليزدادوا إثماً لمعاندتهم الحق ، وخلافهم الرَّسول ، نزلت الآية في قومٍ من الكفَّار علم الله تعالى أنَّهم لا يؤمنون أبداً . وأنَّ بقاءهم يزيدهم كفراً .
{ ما كانَ الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } أَيُّها المؤمنون من التباس المنافق بالمؤمن { حتى يميز الخبيث من الطيب } أََيْ : المنافق من المؤمن ، ففعل ذلك يوم أُحدٍ ، لأنَّ المنافقين أظهروا النِّفاق بتخلُّفهم { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } فتعرفوا المنافق من المؤمن قبل التَّمييز { ولكنَّ الله } يختار لمعرفة ذلك مَن يشاء من الرُّسل ، وكان محمَّد ممَّن اصطفاه الله بهذا العلم .
{ ولا يحسبنَّ الذين يبخلون } أَيْ : بخل الذين يبخلون { بما آتاهم الله منْ فضله } بما يجب فيه من الزَّكاة . نزلت في مانعي الزَّكاة { هو خيراً لهم } أَيْ : البخلَ خيراً لهم { بل هو شرٌّ لهم } لأَنَّهم يستحقُّون بذلك عذاب الله { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } وهو أنَّه يُجعل ما بَخِل به من المال حيَّةً يُطوَّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه { ولله ميراث السموات والأرض } أَيْ : إنَّه يُغني أهلهما ، وتبقى الأملاك والأموال لله ، ولا مالك لها إلاَّ الله تعالى .
{ لقد سمع الله قول الذين قالوا إنَّ الله فقير ونحن أغنياء } نزلت في اليهود حين قالوا - لمَّا نزل قوله : { مَنْ ذا الذي يقرض الله قرضاً . . . } الآية - : إنَّ الله فقيرٌ يستقرضنا ، ونحن أغنياء ، ولو كان غنيَّاً ما استقرضنا أموالنا { سنكتب ما قالوا } أَيْ : نأمر الحفظة بإثبات ذلك في صحائف أعمالهم . . . الآية .
{ ذلك } أَيْ : ذلك العذاب { بما قدَّمت أيديكم } بما سلف من إجرامكم { وأنَّ الله } وبأن الله { ليس بظلام للعبيد } فيعاقبهم بغير جرمٍ .
{ الذين قالوا إنَّ الله عهد إلينا . . . } أَيْ : اليهود ، وذلك أنَّ الله أمر بني إسرائيل في التَّوراة ألا يُصدقوا رسولاً جاءهم حتى يأتيهم بقربانٍ تأكله النَّار إلاَّ المسيحَ ومحمداً عليهما السَّلام ، فكانوا يقولون لمحمَّد عليه السَّلام : لا نُصدِّقك حتى تأتينا بقربان تأكله النَّار ، لأنَّ الله عهد إلينا ذلك ، فقال الله تعالى لمحمد عليه السَّلام إقامةً للحجَّة عليهم : { قل قد جاءكم رسلٌ من قبلي . . . } الآية ، ثمَّ عزَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم .
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
{ فإن كذَّبوك فقد كُذِّبَ رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر } أَيْ : الكتب { والكتاب المنير } أَيْ : الهادي إلى الحقِّ .
{ كلُّ نفس ذائقةٍ الموت وإنما تُوَفَّونَ أجورَكم يومَ القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أَيْ : ظفر بالخير ، ونجا من الشَّرِّ { وما الحياة الدنيا } أَيْ : العيش في هذه الدَّار الفانية { إلاَّ متاع الغرور } لأنَّه يغرُّ الإِنسان بما يُمنِّيه من طول البقاء ، وهو ينقطع عن قريب .
{ لتبلونَّ } لتختبرُنَّ أيُّها المؤمنون { في أموالكم } بالفرائض فيها { وأنفسكم } بالصَّلاة والصَّوم والحجِّ والجهاد { ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب } وهم اليهود { ومنَ الذين أشركوا } وهم المشركون { أذىً كثيراً } بالشَّتم والتَّعيير { وإن تصبروا } على ذلك الأذى بترك المعارضة { فإنَّ ذلك من عزم الأمور } من حقيقة الإِيمان .
{ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب . . . } الآية . أخذ الله ميثاق اليهود في التَّوراة ليبيننَّ شأن محمَّد ونعته ومبعثه ، ولا يخفونه ، فنبذوا الميثاق ولم يعملوا به ، وذلك قوله : { فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً } أَيْ : ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برئاستهم في العلم { فبئس ما يشترون } قُبِّح شراؤهم وخسروا .
{ لا تحسبنَّ الذين يفرحون . . . } الآية . هم اليهود فرحوا بإضلال النَّاس ، وبنسبة النَّاس إيَّاهم إلى العلم ، وليسوا كذلك ، وأَحبُّوا أن يحمدوا بالتَّمسُّك بالحقِّ ، وقالوا : نحن أصحاب التَّوراة وأولو العلم القديم { فلا تحسبنَّهم بمفازة } بمنجاةٍ { من العذاب } . { ولله ملك السموات والأرض } أَيْ : يملك تدبيرهما وتصريفهما على ما يشاء . الآية والتي بعدها ذُكرت في سورة البقرة .
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } أَيْ : يصلُّون على هذه الأحوال على قدر إمكانهم { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } فيكون ذلك أزيد في بصيرتهم { ربنا } أَيْ : ويقولون : { ربنا ما خلقت هذا } أَيْ : هذا الذي نراه من خلق السَّموات والأرض { باطلاً } أَيْ : خلقاً باطلاً . يعني : خلقته دليلاً على حكمتك وكمال قدرتك .
{ ربَّنا إنَّك مَنْ تدخل النار } للخلود فيها { فقد أخزيته } : أهلكته وأهنته { وما للظالمين } أَيْ : الكفَّار { من أنصار } يمنعونهم من عذاب الله .
{ ربنا إننا سمعنا منادياً } أَيْ : محمَّداً عليه السَّلام والقرآن { ينادي للإِيمان } أَيْ : إلى الإِيمان { أَنْ آمنوا بربكم فآمنّا ، ربَّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكَفِّرْ عنّا سيئاتنا } أَيْ : غطِّ واستر عنا ذنوبنا بقبول الطَّاعات حتى تكون كفَّارةً لها { وتوفنا مع الأبرار } يعني : الأنيباء ، أَيْ : في جملتهم حتى نصير معهم .
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } أَيْ : على ألسنتهم من النَّصر لنا ، والخذلان لعدِّونا { ولا تُخْزِنَا يوم القيامة } أَيْ : لا تهلكنا بالعذاب . وقوله :
{ بعضكم من بعض } أَيْ : حكمُ جميعكم حكمُ واحدٍ منكم فيما أفعل بكم من مجازاتكم على أعمالكم ، وترك تضييعها لكم .
{ لا يغرنَّك تقلُّب الذين كفروا في البلاد } تصرُّفهم للتِّجارات في البلاد ، وذلك أنَّهم كانوا يتَّجرون ويتنعَّمون في البلاد ، فقال بعض المؤمنين : إنَّ أعداء الله فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت هذه الآية .
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{ متاعٌ قليل } أَيْ : ذلك الكسب والرِّبح متاعٌ قليل؛ لأنَّه فانٍ منقطعٌ وقوله :
{ نزلاً } النُّزُل : ما يُهيَّأ للضَّيف ، ومعناه هاهنا الجزاء والثَّواب { وما عند الله خيرٌ للأبرار } ممَّا يتقلَّب فيه الكفَّار ، ثمَّ ذكر مؤمني أهل الكتاب فقال :
{ وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله . . . } الآية .
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا } أَيْ : اصبروا على دينكم فلا تَدعوه لشدِّةٍ نزلت بكم ، وقيل : على الجهاد { وصابروا } عدوَّكم فلا يكوننَّ أصبر منكم { ورابطوا } أَيْ : اقيموا على جهاد عدوِّكم بالحرب والحجَّة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{ يا أيها الناس } يا أهل مكَّة { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدة } آدم { وخلق منها زوجها } حوَّاء . خُلقت من ضلع من أضلاعه { وبث } أَيْ : فرَّق ونشر { منهما } ، { واتقوا الله } أَيْ : خافوه وأطيعوه { الذي تساءلون به } أَيْ : تتساءلون فيما بينكم حوائجكم وحقوقكم به ، وتقولون : أسألك بالله ، وأنشدك الله ، وقوله : { والأرحام } أيْ : واتَّقوا الأرحام أن تقطعوها { إنَّ الله كان عليكم رقيباً } أَيْ : حافظاً يرقب عليكم أعمالكم ، فاتَّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه .
{ وآتوا اليتامى أموالهم } الخطاب للأولياء والأوصياء ، أَيْ : أعطوهم أموالهم إذا بلغوا { ولا تتبدلوا الخبيث } من أموالهم الحرام [ عليكم ] { بالطيب } الحلال من مالكم ، وهو أنَّه كان وليُّ اليتيم يأخذ الجيد من ماله ، ويجعل مكانه الرَّديء { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } لا تضيفوها في الأكل إلى أموالكم إذا احتجتم إليها { إنَّه } أَيْ : إنَّ أكل أموالهم { كان حوباً كبيراً } أيْ : إثماً كبيراً .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
{ وإن خفتم ألا تُقسطوا } : ألا تعدلوا { في اليتامى } [ أي : في نكاح اليتامى ] وهمَّكم ذلك { فانكحوا ما طاب } أَي : الطَّيِّب { لكم من النساء } يعني : من اللاتي تحلُّ دون المحرَّمات ، والمعنى : أنَّ الله سبحانه قال لنا : فكما تخافون ألا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم ، فخافوا أيضاً ألا تعدلوا بين النِّساء إذا نكحتموهنَّ ، فانكحوا من النِّساء { مثنى } أَي : اثنتين اثنتين { وثلاث } ثلاثاً ثلاثاً { ورباع } أربعاً أربعاً { فإن خفتم ألا تعدلوا } أَيْ : في الأربع { فواحدة } أَيْ : فلينكح كلُّ واحدٍ منكم واحدةً و { ذلك } أنَّ نكاح هؤلاء النِّسوة على قلَّة عددهنَّ { أدنى } أَيْ : أقربُ إلى العدل ، وهو قوله : { ألا تعولوا } أَيْ : تميلوا وتجوروا .
{ وآتوا النساء } أَيُّها الأزواج { صدقاتهنَّ } مهورهنَّ { نحلة } فريضةً وتديُّناً { فإنْ طبن لكم } أَيْ : إنْ طابت لكم أنفسهنَّ { عن شيء } من الصَّداق { فكلوه هنيئاً } في الدُّنيا لا يقضي به عليكم سلطانٌ { مريئاً } في الآخرة لا يؤاخذكم الله به .
{ ولا تؤتوا السفهاء } أَي : النِّساء والصِّبيان { أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } لمعايشكم وصلاح دنياكم . يقول : لا تعمدْ إلى مالك الذي خوَّلك الله ، وجعله لك معيشةً فتعطيه امرأتك وبنيك ، فيكونوا هم الذين يقومون عليك ، ثمَّ تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ، وهو قوله : { وارزقوهم فيها } [ أي : اجعلوا لهم فيها رزقاً ] ، { واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً } أَيْ : عدةً جميلةً من البرِّ والصِّلة .
{ وابتلوا اليتامى } أَيْ : اختبروهم في عقولهم وأديانهم { حتى إذا بلغوا النكاح } أَيْ : حال النِّكاح من الاحتلام { فإن آنستم } أبصرتم { منهم رشداً } صلاحاً للعقل وحفظاً للمال . { ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } أَيْ : لا تبادروا بأكل مالهم كبرَهم ورشدهم حذر أن يبلغوا ، فيلزمكم تسليم المال إليهم { ومن كان غنيّاً } من الأوصياء { فليستعفف } عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئاً { ومَنْ كان فقيراً فليأكل بالمعروف } يقدِّر أجرة عمله { فإذا دفعتم } أَيُّها الأولياء { إليهم } إلى اليتامى { أموالهم فأشهدوا عليهم } لكي إنْ وقع اختلافٌ أمكن الوليِّ أن يقيم البيِّنة على ردِّ المال إليه { وكفى بالله حسيباً } محاسباً ومجازياً للمحسن والمسيء .
{ للرجال نصيب . . . } الآية . كانت العرب في الجاهليَّة لا تورث النِّساء ولا الصِّغار شيئاً ، فأبطل الله ذلك ، وأعلم أنَّ حقَّ الميراث على ما ذكر في هذه الآية من الفرض .
{ وإذا حضر القسمة } أَيْ : قسمة المال بين الورثة { أولوا القربى } أَي : الذين يُحجبون ولا يرثون { واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } وهذا على النَّدب والاستحباب . يستحبُّ للوارث أن يرضخ لهؤلاء إذا حضروا القسمة من الذَّهب والفضَّة ، وأن يقولوا لهم قولاً معروفاً إذا كان الميراث ممَّا لا يمكن أن يرضخ منه كالأرضين والرَّقيق .
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
{ وليخش الذين لو تركوا . . . } الآية . أَيْ : وليخش مَنْ كان له وُلدٌ صغارٌ ، خاف عليهم من بعده الضَّيعة أن يأمر الموصي بالإِسراف فيما يعطيه اليتامى والمساكين وأقاربه الذين لا يرثون ، فيكون قد أمره بما لم يكن يفعله لو كان هو الميِّت ، وهذا قبل أن تكون الوصية في الثُّلث ، وقوله : { ذرية ضعافاً } أَيْ : صغاراً { خافوا عليهم } أي : الفقر { فليتقوا الله } فيما يقولون لمن حضره الموت { وليقولوا قولاً سديداً } عدلاً ، وهو أن يأمره أن يخلِّف ماله لولده ، ويتصدَّق بما دون الثُّلث أو الثُّلث ، ثمَّ ذكر الوعيد على أكل مال اليتيم ظلماً ، فقال :
{ إنَّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً . . . } الآية . تؤول عاقبته إلى النَّار { وسيصلون سعيراً } ناراً ذات تلهُّب ، أَيْ : يُقاسون حرَّها وشدَّتها .
{ يوصيكم الله } أَيْ : يفرض عليكم؛ لأنَّ الوصية من الله فرضٌ { في أولادكم } الذُّكور والإِناث { للذكر مثل حظ الأنثيين فإنْ كُنَّ } أَي : الأولاد { نساءً فوق اثنتين } " فوق " ها هنا صلةٌ؛ لأنَّ الثِّنتين يرثان الثُّلثين بإجماعٍ اليوم ، وهو قوله : { فلهن ثلثا ما ترك } ويجوز تسمية الاثنين بالجمع ، { وإن كانت } المتروكة المُخلًّفة { واحدة فلها النصف } وتمَّ بيان ميراث الأولاد ، ثمَّ قال : { ولأبويه } أَيْ : ولأبوي الميِّت { لكلِّ واحدٍ منهما السدس ممَّا ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولدٌ وورثه أبواه فلأمّه الثلث ، فإن كان له } أَيْ : للميِّت { إخوة } يعني أخوين؛ لأنَّ الأُمَّة أجمعت أنَّ الأخوين يحجبان الأمَّ من الثُّلث إلى السُّدس ، وقوله : { من بعد وصية } أَيْ : هذه الأنصباء إنما تُقسم بعد قضاء الدَّين ، وإنفاذ وصية الميت { آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقربُ لكم نفعاً } في الدُّنيا فتعطونه من الميراث ما يستحقُّ ، ولكنَّ الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيُّهم أنفع لكم ، فأفسدتم وضيَّعتم { إنَّ الله كان عليماً } بالأشياء قبل خلقها { حكيماً } فيما دبرَّ من الفرائض ، وقوله :
{ وإن كان رجل يورث كلالة } الكلالة : مَنْ لا ولد له ولا والد ، وكلُّ وارثٍ ليس بوالدٍ ولا ولد للميِّت فهو كلالة أيضاً ، والكلالة في هذه الآية الميِّت ، أَيْ : وإن مات رجلٌ ولا ولدَ له ولا والد { وله أخٌ أو أخت } يريد : من الأمِّ بإجماع من الأُمَّة { فلكلِّ واحدٍ منهما السدس } وهو فرضُ الواحد من ولد الأمِّ { فإن كانوا أكثر من } واحدٍ اشتركوا في الثُّلث . الذَّكر والأنثى فيه سواءٌ ، وقوله : { غير مضارٍّ } أَيْ : مُدخلٍ الضَّرر على الورثة ، وهو أَنْ يُوصي بدين ليس عليه ، يريد بذلك ضرر الورثة { والله عليمٌ } فيما دبَّر من هذه الفرائض { حليمٌ } عمَّن عصاه بتأخير عقوبته .
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{ واللاتي يأتين الفاحشة } يفعلن الزِّنا { فاستشهدوا عليهنَّ أربعة منكم } أَيْ : من المسلمين { فإن شهدوا } عليهنَّ بالزِّنا { فأمسكوهنَّ } فاحبسوهنَّ { في البيوت } في السُّجون ، وهذا كان في أوَّل الإِسلام ، إذا كان الزَّانيان ثَيِّبين حُبسا ومُنعا من مخالطة النَّاس ، ثمَّ نُسخ ذلك بالرَّجم ، وهو قوله : { أو يجعل الله لهنَّ سبيلاً } وهو سبيلهنَّ الذي جعله الله لهنَّ .
{ واللذان يأتيانها } أَي : البكرين يزنيان ويأتيان الفاحشة { فآذوهما } بالتَّعنيف والتَّوبيخ ، وهو أنْ يقال لهما : انتهكتما حرمات الله ، وعصيتماه واستوجبتما عقابه . { فإن تابا } من الفاحشة { وأصلحا } العمل فيما بعد فاتركوا أذاهما ، وهذا كان في ابتداء الإِسلام ، ثمَّ نسخه قوله : { الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ . . . } الآية .
{ إنما التوبةُ على الله } أَي : إنما التوبة التي أوجب الله على نفسه بفضله قَبولَها { للذين يعملون السوء بجهالة } أي : إنّ ذنبَ المؤمن جهلٌ منه ، والمعاصي كلُّها جهالة ، ومَنْ عصى ربَّه فهو جاهل { ثم يتوبون من قريب } أَيْ : من قبل الموت ولو بِفُواق ناقة { فأولئك يتوب الله عليهم } يعود عليهم بالرحمة { وكان اللَّهُ عليماً حكيماً } علم ما في قلوب المؤمنين من التصديق ، فحكم لهم بالتوبة قبل الموت بقدر فُواق ناقة .
{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات } أَي : المشركين والمنافقين { ولا الذين يموتون وهم كفار } يعني : ولا توبة لهؤلاء إذا ماتوا على كفرهم؛ لأنَّ التَّوبة لا تُقبل في الآخرة . { أولئك أعتدنا } أَيْ : هيَّأنا وأعددنا .
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم . . } الآية . كان الرَّجل إذا ماتَ ورث قريبُه من عصبته امرأتَه ، وصار أحقَّ بها من غيره ، فأبطل الله ذلك ، وأعلم أنَّ الرَّجل لا يرث المرأة من الميت ، وقوله : { أن ترثوا النساء كرهاً } يريد : عين النِّساء كرهاً ، أَيْ : [ نكاح النساء ] وهنَّ كارهاتٌ { ولا تعضلوهنَّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } كان الرَّجل يمسك المرأة وليس له فيها حاجةٌ إضراراً بها حتى تفتدي بمهرها ، فَنُهوا عن ذلك ، ثمَّ استثنى فقال : { إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبينة } أيْ : الزِّنا ، فإذا رأى الرَّجل من امرأته فاحشةً فلا بأس أن يضارَّها حتى تختلع منه { وعاشروهنَّ بالمعروف } أَيْ : بما يجب لهنَّ من الحقوق ، وهذا قبل أن يأتين الفاحشة { فإن كرهتموهن . . . } الآية . أَيْ : فيما كرهتم ممَّا هو لله رضى خيرٌ كثيرٌ وثوابٌ عظيمٌ ، والخير الكثير في المرأة المكروهة أن يرزقه الله منها ولداً صالحاً .
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{ وإن أردتم . . . } الآية . أي : إذا أراد الرَّجل طلاق امرأته ، وتزوَّج غيرها لم يكن له أن يرجع فيما آتاها من المهر ، وهو قوله : { وآتيتم إحداهنَّ قنطاراً } أَيْ : مالاً كثيراً { فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً } ظلماً { وإثماً مبيناً } وفي هذا نَهْيٌّ عن الضِّرار في غير حال الفاحشة ، وهو أنْ يضارَّها لتفتدي منه من غير أَنْ أتت بفاحشة .
{ وكيف تأخذونه } أَي : المهر أو شيئاً منه { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } أَيْ : وصل إليه بالمجامعة ، ولا يجوز الرُّجوع في شيءٍ من المهر بعد الجماع { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً } وهو ما أخذه الله على الرِّجال للنِّساء من إمساكٍ بمعروفٍ ، أو تسريحٍ بإحسانٍ .
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم . . . } الآية . كان الرَّجل من العرب يتزوَّج امرأة أبيه من بعده ، وكان ذلك نكاحاً جائزاً في العرب ، فحرَّمه الله تعالى ونهى عنه ، وقوله : { إلاَّ ما قد سلف } يعني : لكن ما قد سلف فإنَّ الله تجاوز عنه { إنَّه } أيْ : إنَّ ذلك النِّكاح { كان فاحشة } زنا عند الله { ومقتاً } بغضاً شديداً { وساء سبيلاً } وقَبُحَ ذلك الفعل طريقاً ، ثمَّ ذكر المحرَّمات من النِّساء فقال :
{ حرِّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم } جمع الرَّبيبة ، وهي بنت امرأة الرَّجل من غيره { اللاتي في حجوركم } أيْ : في ضمانكم وتربيتكم { وحلائل } وأزواج { أبنائكم الذين من أصلابكم } لا مَنْ تبنَّيتموه { وأن تجمعوا } أَيْ : الجمع { بين الأختين إلاَّ ما قد سلف } مضى منكم في الجاهلية ، فلا تُؤاخذون به بعد الإِسلام .
{ والمحصنات } وذوات الأزواج { من النساء } وهنَّ مُحرَّمات على كلِّ أحدٍ غير أزواجهنَّ إلاَّ ما ملكتموهنَّ بالسَّبي من دار الحرب؛ فإنَّها تحلُّ لمالكها بعد الاستبراء بحيضة { كتاب الله عليكم } كتب تحريم ما ذكر من النِّساء عليكم { وأحلَّ لكم ما وراء ذلكم } أَيْ : ما سوى ذلكم من النِّساء { أن تبتغوا } أَيْ : تطلبوا بأموالكم؛ إمَّا بنكاحٍ وصداقٍ؛ أو بملكِ يمينٍ { محصنين } ناكحين { غير مسافحين } زانين { فما استمتعتم } فما انتفعتم وتلذَّذتم { به منهنَّ } أي : من النساء بالنِّكاح الصَّحيح { فآتوهنَّ أجورهنَّ } أَيْ : مهورهنَّ { فريضة } ، فإن استمتع بالدُّخول بها آتى المهر تامّاً ، وإن استمتع بعقد النِّكاح آتى نصف المهر { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } من حطِّ المهر أو إبراءٍ من بعض الصَّداق أو كلِّه { إنَّ الله كان عليماً } بما يصلح أمر العباد { حكيماً } فيما بيَّن لهم من عقد النِّكاح .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ ومَنْ لم يستطع منكم طولاً } أَيْ : قدرةً وغنىً { أن ينكح المحصنات } الحرائر { المؤمنات فمن مّا ملكت أيمانكم } أَيْ : فليتزوَّج ممَّا ملكت أيمانكم . يعني : جارية غيره { من فتياتكم } أَيْ : مملوكاتكم { المؤمنات والله أعلم بإيمانكم } أَي : اعملوا على الظَّاهر في الإِيمان؛ فإنَّكم مُتعبَّدون بما ظهر ، والله يتولَّى السَّرائر { بعضكم من بعض } أَيْ : دينكم واحدٌ ، فأنتم متساوون من هذه الجهة ، فمتى وقع لأحدكم الضَّرورة جاز له تزوُّج الأَمَة { فانكحوهنَّ بإذن أهلهن } أَي : اخطبوهنَّ إلى ساداتهنَّ { وآتوهنَّ أجورهنَّ } مهورهنَّ { بالمعروف } من غير مطلٍ وضرارٍ { محصنات } عفائفَ { غير مسافحات } غير زوانٍ علانيةً { ولا متخذات أخذان } زوانٍ سرَّاً { فإذا أُحصن } تزوَّجن { فإن أتين بفاحشة } بزنا { فعليهنَّ نصف ما على المحصنات } الأبكار الحرائر { من العذاب } أَي : الحدِّ . { ذلك } أَيْ : ذلك النِّكاح نكاح الأَمَة { لمن خشي العنت منكم } أَيْ : خاف أن تحمله شدَّة الغِلمة على الزِّنا ، فيلقى العنت ، أَي : الحدَّ في الدُّنيا ، والعذاب في الآخرة . أَباحَ الله نكاح الأمَة بشرطين : أحدهما : عدم الطَّول ، الثاني : خوف العَنَت . ثمَّ قال : { وأن تصبروا } أَيْ : عن نكاح الإِماء { خيرٌ لكم } لئلا يصير الولد عبداً .
{ يريدُ الله ليبيِّن لكم } شرائع دينكم ، ومصالح أمركم { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام ، وهو دين الحنيفيَّة { ويتوب عليكم } يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته .
{ واللَّهُ يريد أن يتوب عليكم } أَيْ : يُخرجكم من كلِّ ما يكره إلى ما يحبُّ ويرضى ، { ويريد الذين يتبعون الشهوات } وهم الزُّناة وأهل الباطل في دينهم { أن تميلوا } عن الحقِّ وقصد السِّبيل بالمعصية { ميلاً عظيماً } فتكونوا مثلَهم .
{ يريد الله أن يخفف عنكم } في كلِّ أحكام الشَّرع { وخلق الإِنسان ضعيفاً } يضعف من الصَّبر عن النِّساء .
{ يا أَيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وهو كلُّ ما لا يحلُّ في الشَّرع ، كالرِّبا ، والغصب ، والقمار ، والسَّرقة ، والخيانة { إلاَّ أن تكون تجارةً } لكن إن كانت تجارة { عن تراضٍ منكم } برضى البَيِّعْين فهو حلال { ولا تقتلوا أنفسكم } لا يقتل بعضكم بعضاً .
{ ومَنْ يفعل ذلك } أَيْ : أكل المال بالباطل وقتل النَّفس { عدواناً } وهو أن يعدوَ ما أُمر به { وظُلماً فسوف نصليه } أَيْ : نُدخله ناراً { وكان ذلك على الله يسيراً } أَيْ : هو قادر على ذلك ، ولا يتعذَّر عليه .
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وهي كلُّ ذنبٍ ختمه اللَّهُ بنارٍ ، أو غضبٍ ، أو لعنةٍ ، أو عذابٍ ، أو وعيدٍ في القرآن { نكفر عنكم سيئاتكم } التي هي دون الكبائر بالصَّلوات الخمس { وندخلكم مدخلاً كريماً } أَيْ : الجنَّة .
{ ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض . . . } الآية . قالت أمُّ سلمة : يا رسول الله ، ليتنا كنَّا رجالاً ، فجاهدنا وغزونا ، وكان لنا مثل أجر الرِّجال ، فنزلت هذه الآية . { للرجال نصيب } ثواب { مما اكتسبوا } من الجهاد { وللنساء نصيبٌ } [ ثوابٌ ] { ممَّا اكتسبن } من حفظ فروجهنَّ وطاعة أزواجهنَّ { واسألوا الله من فضله } إن احتجتم إلى مَا لِغَيركم فيعطيكم من فضله .
{ ولكلٍّ } أَيْ : ولكلِّ شخصٍ من الرِّجال والنِّساء { جعلنا موالي } عصبة وورثة { ممَّا ترك الوالدان والأقربون } أَيْ : ممَّن تركهم والداه وأقربوه ، أَيْ : تشعَّبت العصبة والورثة عن الوالدين والأقربين ، ثمَّ ابتدأ فقال : { والذين عقدت أيمانكم } وهم الحلفاء ، أَيْ : عاقدت حلفَهم أيمانُكم ، وهي جمع يمين من القَسَم ، وكان الرَّجل في الجاهليَّة يعاقد الرَّجل ، ويقول له : دمي دمُّك ، وحربي حربُك ، وسلمي سلمُك ، فلمَّا قام الإِسلام جعل للحليف السُّدس ، وهو قوله : { فآتوهم نصيبهم } ثمَّ نسخ ذلك بقوله : { وأولوا الأرحام بعضُهم أولى ببعضٍ في كتاب الله } { إنَّ الله كان على كلّ شيء شهيداً } أَيْ : لم يغب عنه علم ما خلق .
{ الرجال قوَّامون على النساء } على تأديبهنَّ والأخذ فوق أيديهنَّ { بما فضَّل الله } الرِّجال على النِّساء بالعلم ، والعقل ، والقوَّة في التَّصرف ، والجهاد ، والشَّهادة ، والميراث { وبما أنفقوا } عليهنَّ { من أموالهم } أَي : المهر والإِنفاق عليهنَّ { فالصالحات } من النِّساء اللواتي هنَّ مطيعاتٌ لأزواجهنَّ ، وهو قوله : { قانتات حافظاتٌ للغيب } يحفظن فروجهنَّ في غيبة أزواجهنَّ { بما حفظ الله } بما حفظهنَّ الله في إيجاب المهر والنَّفقة لهنَّ ، وإيصاء الزَّوج بهنَّ { واللاتي تخافون } تعلمون { نشوزهنَّ } عصيانهنَّ { فعظوهنَّ } بكتاب الله ، وذكِّروهنَّ الله وما أمرهنَّ به { واهجروهن في المضاجع } فرِّقوا بينكم وبينهم في المضاجع [ في الفرش ] { واضربوهنَّ } ضرباً غير مبرِّح شديد ، وللزَّوج أن يتلافى نسوز امرأته بما أذن الله تعالى فيه ، يعظها بلسانه ، فإنْ لم تنتهِ هجر مضجعها ، فإنْ أبت ضربها ، فإن أبت أن تتَّعظ بالضرب بُعثَ الحكمان { فإن أطعنكم } فيما يُلتمس منهنَّ { فلا تبغوا عليهنَّ سبيلاً } لا تتجنَّوا عليهنَّ من العلل .
{ وإنْ خفتم } [ علمتم ] { شقاق بينهما } علمتم خلافاً بين الزَّوجين { فابعثوا حكماً } أَيْ : حاكماً وهو المانع من الظُّلم من أقاربه { وحَكَماً من أهلها } حتى يجتهدا وينظرا الظَّالم منهما ، فيأمراه بالرُّجوع إلى ما أمر الله ، أو يُفرِّقا إنْ رأيا ذلك { إن يريدا } أَي : الحكمان { إصلاحاً يوفق الله بينهما } مِن الزَّوج المرأة بالصَّلاح { إنَّ الله كان عليماً خبيراً } بما في قلوب الزَّوجين والحكمين .
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{ وبالوالدين أحساناً } أَيْ : أحسنوا بهما إحساناً ، وهو البرُّ مع لين الجانب { وبذي القربى } وهو ذو القرابة يصله ويتعطَّف عليه { واليتامى } يرفق بهم ويُدنيهم { والمساكين } ببذلٍ يسيرٍ ، أو ردٍّ جميلٍ { والجار ذي القربى } وهو الذي له مع حقِّ الجوار حقُّ القرابة { والجار الجنب } البعيد عنك في النَّسب { والصاحب بالجنب } هو الرَّفيق في السَّفر { وابن السبيل } عابر الطَّريق . [ وقيل : الضيف ] يؤويه ويطعمه حتى يرحل { وما ملكت أيمانهم } أَيْ : المماليك { إنَّ الله لا يحبُّ مَنْ كان مختالاً } عظيماً في نفسه لا يقوم بحقوق الله { فخوراً } على عباده بما خوَّله الله من نعمته .
{ الذين يبخلون } أي : اليهود . بخلوا بأموالهم أن ينفقوها في طاعة الله تعالى { ويأمرون الناس بالبخل } أمروا الأنصار ألا ينفقوا أموالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إنَّا نخشى عليكم الفقر { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } أَيْ : ما في التَّوراة من أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته .
{ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } أَيْ : المنافقين { ومَنْ يكن الشيطانُ له قريناً } يسوِّل له ويعمل بأمره { فساء قريناً } بئس الصَّاحب الشَّيطان .
{ وماذا عليهم } أَيْ : على اليهود والمنافقين ، أَيْ : ما كان يضرُّهم { لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا ممَّا رزقهم الله وكان الله بهم عليماً } لا يُثيبهم بما ينفقون رئاء النَّاس .
{ إنَّ الله لا يظلم } لا ينقص أحداً { مثقال } [ مقدار ] { ذرة } إن كان مؤمناً أثابه عليها الرِّزق في الدُّنيا ، والأجر في الآخرة ، وإنْ كان كافراً أطعمه بها في الدُّنيا { وإن تك حسنة } من مؤمنٍ { يضاعفها } بعشرة أضعافها { ويؤتِ مِنْ لدنه } من عنده { أجراً عظيماً } وهو الجنَّة .
{ فكيف } أَيْ : فكيف يكون حال هؤلاء اليهود والمنافقين [ يوم القيامة ] ؟ ، وهذا استفهامٌ ومعناه التَّوبيخ { إذا جئنا من كلِّ أُمَّة بشهيدٍ } أَيْ : بِنبيِّ كلِّ أُمَّةٍ يشهد عليها ولها { وجئنا بك } يا محمَّد { على هؤلاء شهيداً } على هؤلاء المنافقين والمشركين شهيداً تشهد عليهم بما فعلوا .
{ يومئذٍ } أَيْ : في ذلك اليوم { يودُّ الذين كفروا وعصوا الرسول } وقد عصوه في الدُّنيا { لو تسوَّى بهم الأرض } أَيْ : يكونون تراباً ، فيستوون مع الأرض حتى يصيروا وهي شيئاً واحداً { ولا يكتمون الله حديثاً } لأنَّ ما عملوه ظاهرٌ عند الله لا يقدرون على كتمانه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة } أَيْ مواضع الصَّلاة ، أيْ : المساجد { وأنتم سكارى } نُهوا عن الصَّلاة وعن دخول المسجد في حال السُّكْر ، وكان هذا قبل نزول تحريم الخمر ، وكان المسلمون بعد نزول هذه الآية يجتنبون السُّكْر والمُسكر أوقات الصَّلاة ، والسَّكران : المُختلط العقل الذي يهذي ، ولا يستمرُّ كلامه ، ألا ترى أنَّ الله تعالى قال : { حتى تعلموا ما تقولون } فإذا علم ما يقول لم يكن سكران ، ويجوز له الصَّلاة ودخول المسجد { ولا جُنباً } أَيْ : ولا تقربوها وأنتم جنبٌ { إلاَّ عابري سبيل } إلاَّ إذا عبرتم المسجد فدخلتموه من غير إقامةٍ فيه { حتى تغتسلوا } من الجنابة { وإنْ كنتم مرضى } أَيْ : مرضاً يضرُّه الماء كالقروح ، والجُدّري ، والجراحات { أو على سفر } أَيْ : مسافرين { أو جاء أحدٌ منكم من الغائط } أو الحدث { أو لامستم النساء } أَيْ : لمستموهنَّ بأيديكم { فلم تجدوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صعيداً طيباً } تمسَّحوا بترابٍ طيِّبٍ مُنبتٍ .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } وهم اليهود { يشترون الضلالة } أَيْ : يختارونها على الهدى بتكذيب محمَّدٍ عليه السَّلام { ويريدون أن تضلوا السبيل } أن تضلُّوا أيُّها المؤمنون طريق الهدى .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{ والله أعلم بأعدائكم } فهو يُعْلِمكم ما هم عليه { وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً } أَيْ : إنَّ ولايته ونصرته إيَّاكم تُغنيكم عن غيره من اليهود ، ومَنْ جرى مجراهم .
{ ومن الذين هادوا } أَيْ : قومٌ { يحرِّفون الكلم عن مواضعه } أَيْ : يُغيِّرون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم وزمانه ، ونبوَّته في كتابهم { ويقولون سمعنا } قولك { وعصينا } أمرك { واسمع غير مسمع } كانوا يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : اسمع ، ويقولون في أنفسهم : لا سمعت { وراعنا ليَّاً بألسنتهم } أَيْ : ويقولون راعنا ، ويوجِّهونها إلى شتم محمَّد عليه السَّلام بالرُّعونة ، وذكرنا أنَّ هذا كان سبَّاً بلُغتهم { ولو أنَّهم قالوا سمعنا وأطعنا } مكان قولهم : سمعنا وعصينا وقالوا { واسمع وانظرنا } أَيْ : انظر إلينا؛ بدل قولهم : راعنا { لكان خيراً لهم } عند الله { ولكن لَعَنَهُمُ الله بكفرهم } فلذلك لا يقولون ما هو خيرٌ لهم { فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً } أَيْ : إيماناً قليلاً ، وهو قولهم : اللَّهُ ربُّنا ، والجنَّةُ حقٌّ ، والنَّارُ حقٌّ ، وهذا القليل ليس بشيءٍ مع كفرهم بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وليس بمدحٍ لهم .
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً } أَيْ : نمحو ما فيها من عينٍ ، وفم ، وأنفٍ [ ومارن ] ، وحاجب ، فنجعلها كخفِّ البعير ، أو كَحَافِرِ الدَّابة { فنردها على أدبارها } نُحوِّلها قبل ظهورهم { أو نلعنهم } أو نجعلهم قردة وخنازير كما فعلنا بأوائلهم { وكان أمر الله مفعولاً } لا رادَّ لحكمه ولا ناقض لأمره .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
{ إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به . . . } الآية . وعد الله تعالى في هذه الآية مغفرة ما دون الشِّرك ، فيعفو عن مَنْ يشاء ، ويغفر لمِنْ يشاء إلاَّ الشِّرك؛ تكذيباً للقدريَّة ، وهو قوله : { ويغفر ما دون ذلك } أَيْ : الشِّرك { لمن يشاء ومَنْ يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } أَيْ : اختلق ذنباً غير مغفور .
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } أَيْ : اليهود قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وما عملناه باللَّيل كُفِّر عنَّا بالنَّهار ، وما عملناه بالنَّهار كُفِّر عنَّا باللَّيل { بل الله يزكِّي من يشاء } أَيْ : يجعل مَنْ يشاء زاكياً طاهراً نامياً في الصَّلاح . يعني : أهل التَّوحيد { ولا يُظلمون فتيلاً } لا ينقصون من الثواب قدر الفتيل ، وهو القشرة الرَّقيقة التي حول النَّواة ، ثمَّ عجَّب نبيَّه عليه السَّلام من كذبهم ، فقال :
{ انظر كيف يفترون على الله الكذب } يعني : قولهم : يكفِّر عنَّا ذنوبنا { وكفى به } بافترائهم { إثماً مبيناً } أَيْ : كفى ذلك في التَّعظيم .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } يعني : علماء اليهود { يؤمنون بالجبت } أَيْ : الأصنام { والطاغوت } سدنتها وتراجمتها ، وذلك أنَّهم حالفوا قريشاً على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسجدوا لأصنام قريش ، وقالوا لهم : أنتم أهدى من محمَّدٍ عليه السَّلام ، وأقوم طريقةً وديناً ، وهو قوله : { ويقولون للذين كفروا } يعني : قريشاً { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } ، وقوله :
{ أم لهم نصيبٌ } أَيْ : بل أَلهم نصيب من الملك؟ يعني : ليس لليهود ملك ، ولو كان إذاً لهم لم يُؤتوا أحداً شيئاً ، وهو قوله : { فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً } أَيْ : لضنُّوا بالقليل . وصفهم الله بالبخل في هذه الآية ، والنَّقير يُضرب مثلاً للشَّيء القليل ، وهو نقرةٌ في ظهر النَّواة [ منها ] تنبت النَّخلة .
{ أم يحسدون الناس } يعني : محمَّداً عليه السَّلام { على ما آتاهم الله من فضله } حسدت اليهود محمَّداً عليه السَّلام على ما آتاه الله من النُّبوَّة ، وما أباح له من النِّساء ، وقالوا : لو كان نبيَّاً لشغله أمر بالنُّبوَّة عن النِّساء ، فقال الله تعالى : { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } يعني : النُّبوَّة { وآتيناهم ملكاً عظيماً } يعني : ملك داود وسليمان عليهما السَّلام ، وما أُوتوا من النِّساء ، فكان لداود تسعٌ وتسعون ، ولسليمان ألفٌ من بين حُرَّةٍ ومملوكةٍ ، والمعنى : أيحسدون النَّبيَّ عليه السَّلام على النُّبوَّة وكثرة النِّساء وقد كان ذلك في آله؛ لأنَّه من آل إبراهيم عليه السَّلام .
{ فمنهم } من أهل الكتاب { من آمن به } بمحمَّدٍ عليه السَّلام { ومنهم مَن صدَّ عنه } أعرض عنه فلم يؤمن { وكفى بجهنَّم سعيراً } عذاباً لمَنْ لا يؤمن .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها } يعني : أنَّ جلودهم إذا نضجت واحترقت جُدِّدت ، بأن تُردَّ إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة { ليذوقوا العذاب } ليقاسوه وينالوه { إنَّ الله كان عزيزاً } قوياً لا يغلبه شيء { حكيماً } فيما دبَّر ، وقوله :
{ وندخلهم ظلاً ظليلاً } يعني : ظلَّ هواء الجنَّة ، وهو ظليلٌ ، أَيْ : دائمٌ لا تنسخه الشَّمس .
{ إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } نزلت في ردِّ مفتاح الكعبة على عثمان بن طلحة الحجبيِّ حين أُخذ منه قسراً يوم فتح مكة ، فأمره الله تعالى بردِّه عليه ، ثمَّ هذه الآية عامَّةٌ في ردِّ الأمانات إلى أصحابها كيف ما كانوا { إنَّ الله نِعِمَّا يعظكم به } أَيْ : نِعمَ شيئاً يعظكم به ، وهو القرآن { إنَّ الله كان سميعاً } لمقالتكم في الأمانة والحكم { بصيراً } بما تعملون فيها ، قال أبو روق : " قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعثمان : أعطني المفتاح ، فقال : هاكَ بأمانة الله ، ودفعه إليه ، فأراد عليه السَّلام أن يدفعه إلى العباس ، فنزلت هذه الآية ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعثمان : هاك [ بأمانة الله ] ، خالدةً تالدةً ، لا ينزعها عنكم إلاَّ ظالم ، ثمَّ إنَّ عثمان هاجر ودفع إلى أخيه شيبة ، فهو في ولده إلى اليوم " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وهم العلماء والفقهاء . وقيل : الأمراء والسَّلاطين ، وتجب طاعتهم فيما وافق الحقَّ . { فإن تنازعتم } اختلفتم وتجادلتم وقال كلُّ فريق : القولُ قولي : فَرُدُّوا الأمر في ذلك إلى كتاب الله وسنَّة رسوله { ذلك خيرٌ } أََيْ : ردُّكُمُ ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة ، وردُّك التجادل { وأحسن تأويلاً } وأحمدُ عاقبةً .
{ ألم تر إلى الذين يزعمون . . . } الآية . وقع نزاعٌ بين يهوديِّ ومنافق ، فقال اليهوديُّ : بيننا أبو القاسم ، وقال المنافق : لا بل نُحكِّم بيننا كعب بن الأشرف ، فنزلت هذه الآية . وهو قوله : { يريدون أنْ يتحاكموا إلى الطاغوت } ومعناه : ذو الطُّغيان { وقد أمروا أن يكفروا به } أَيْ : أُمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم { ويريد الشيطان أن يضلَّهم ضلالاً بعيداً } لا يرجعون عنه إلى دين الله أبداً ، وهذا تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من جهل مَنْ يعدل عن حكم الله إلى حكم الطَّاغوت مع زعمه بأنَّه يؤمن بالله ورسوله .
{ وإذا قيل لهم } أَيْ : للمنافقين { تعالوا إلى ما أنزل الله } أَيْ : في القرآن من الحكم { وإلى الرسول } وإلى حكم الرَّسول { رأيت المنافقين يَصُدُّون عنك صدوداً } يُعرضون عنك إعراضاً إلى غيرك عداوةً للدِّين .
{ فكيف } أَيْ : فكيف يصنعون ويحتالون { إذا أصابتهم مصيبة } مجازاةً لهم على ما صنعوا ، وهو قوله : { بما قدَّمت أيديهم } وتمَّ الكلام ههنا ، ثمَّ عطف على معنى ما سبق فقال : { ثم جاؤوك يحلفون بالله } أَيْ : تحاكموا إلى الطَّاغوت ، وصدُّوا عنك ، ثمَّ جاؤوك يحلفون ، وذلك أنَّ المنافقين أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وحلفوا أنَّهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة إلاَّ توفيقاً بين الخصوم ، أَيْ : جمعاً وتأليفاً ، وإحساناً بالتَّقريب في الحكم دون الحمل على مُرِّ الحقِّ ، وكلُّ ذلك كذبٌ منهم؛ لأنَّ الله تعالى قال :
{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } أَيْ : من الشِّرك والنِّفاق { فأعرض عنهم } أيْ : اصفح عنهم { وعظهم } بلسانك { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } أَيْ : خوِّفهم بالله ، وازجرهم عمَّا هم عليه بأبلغ الزَّجر كيلا يستسِرُّوا الكفر .
{ وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ ليطاع } فيما يأمرُ به ويحكم ، لا ليُعصى ويُطلب الحكم من غيره ، وقوله : { بإذن الله } أَيْ : لأنَّ الله أذن في ذلك ، وأمر بطاعته { ولو أنهم } أَيْ : المنافقين { إذ ظلموا أنفسهم } بالتَّحاكم إلى الكفَّار { جاؤوك فاستغفروا الله } فزعوا وتابوا إلى الله .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
{ فلا } أَيْ : ليس الأمر كما يزعمون أنَّهم آمنوا وهم يخالفون حكمك { وربك لا يؤمنون } حقيقة الإِيمان { حتَّى يحكموك فيما شجر } اختلف واختلط { بينهم ثمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً } ضيقاً وشكَّاً { ممَّا قضيت } أَيْ : أوجبتَ { ويسلموا } الأمر إلى الله وإلى رسوله من غير معارضةٍ بشيءٍ .
{ ولو أنَّا كتبنا عليهم } أَيْ : على هؤلاء المنافقين [ من اليهود ] { أن اقتلوا أنفسكم } كما كتبنا ذلك على بني إسرائيل { أو اخرجوا من دياركم } كما كتبنا على المهاجرين { ما فعلوه إلاَّ قليلٌ منهم } للمشقَّة فيه مع أنَّه كان ينبغي أن يفعلوه { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } ما يُؤمرون به من أحكام القرآن { لكان خيراً لهم } في معاشهم وفي ثوابهم { وأشدَّ تثبيتاً } منهم لأنفسهم في الدِّين ، وتصديقاً بأمر الله .
{ وإذاً لآتيناهم من لدنَّا } أَيْ : ممَّا لا يقدر عليه غيرنا { أجراً عظيماً } أَيْ : الجنَّة .
{ ولهديناهم } أرشدناهم { صراطاً مستقيماً } [ إلى دينٍ مستقيمٍ ] وهو دين الحنيفيَّة لا دين اليهوديَّة .
{ ومَن يطع الله . . . } الآية . قال المسلمون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : ما لنا منك إلاَّ الدُّنيا ، فإذا كانت الآخرة رُفِعَت في الأعلى ، فحزن وحزنوا ، فنزلت { ومَنْ يطع الله } في الفرائض { والرسول } في السُّنن { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين } أَيْ : إنَّه يستمتع برؤيتهم وزيارتهم ، فلا يتوهمنَّ أنَّه لا يراهم { والصديقين } أفاضل أصحاب الأنبياء { والشهداء } القتلى في سبيل الله { والصالحين } أَيْ : أهل الجنَّة من سائر المسلمين { وحسن أولئك } الأنبياء وهؤلاء { رفيقاً } أَيْ : أصحاباً ورفقاء .
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
{ ذلك } أَيْ : ذلك الثَّواب ، وهو الكون مع النَّبييِّن { الفضل من الله } تفضَّل به على مَنْ أطاعه { وكفى بالله عليماً } بخلقه ، أَيْ : إنَّه علامٌ لا يخفى عليه شيء ، ولا يضيع عنده عمل ، ثمَّ حثَّ عباده المؤمنين على الجهاد ، فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } سلاحكم عند لقاء العدوِّ { فانفروا } أَيْ : فانهضوا إلى لقاء العدوِّ { ثباتٍ } جماعاتٍ مُتفرِّقين إذا لم يكن معكم الرَّسول { أو انفروا جميعاً } إذا خرج الرَّسول إلى الجهاد .
{ وإنَّ منكم لَمَنْ ليُبطئنَّ } أَيْ : ليتخلفنَّ ويتثاقلنَّ عن الجهاد ، وهم المنافقون ، وجعلهم من المؤمنين من حيث إنَّهم أظهروا كلمة الإِسلام ، فدخلوا تحت حكمهم في الظَّاهر { فإن أصابتكم مصيبةٌ } من العدوِّ ، وجهدٌ من العيش { قال قد أنعم الله عليَّ } بالقعود حيث لم أحضر فيصيبني ما أصابكم .
{ ولئن أصابكم فضلٌ من الله } فتحٌ وغنيمة { ليقولنَّ } هذا المنافق قولَ نادمٍ حاسدٍ : { يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيماً } أَيْ : لأسعدَ مثل ما سعدوا به من الغنيمة ، وقوله : { كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة } متصلٌ في المعنى بقوله : { قد أنعم الله عليَّ إذا لم أكن معهم } ، { كأن لم تكن بينكم وبينه مودَّة } . أَيْ : كأنْ لم يعاقدكم على الإِسلام ويعاضدكم على قتال عدوٍّكم ، ولم يكن بينكم وبينه مودة في الظَّاهر ، ثمَّ أمر المؤمنين بالقتال فقال :
{ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون } أَيْ : يبيعون { الحياة الدُّنيا بالآخرة } أَيْ : بالجنَّة ، أَيْ : يختارون الجنَّة على البقاء في الدُّنيا { ومَنْ يُقاتل في سبيل الله فيقتل } فيستشهد { أو يغلب } فيظفر ، فكلاهما سواءٌ ، وهو معنى قوله : { فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } ثواباً لا صفة له ، ثمَّ حضَّ المؤمنين على الجهاد في سبيله لاستنقاذ ضعفة المؤمنين من أيدي المشركين ، فقال :
{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوِلدان } وهم قومٌ بمكَّة استُضعفوا فَحُبسوا وعُذِّبوا { الذين يقولون ربنا أخرجنا } إلى دار الهجرة { من هذه القرية } مكَّة { الظالم أهلها } أَيْ : جعلوا لله شركاء { واجعل لنا من لَدُنْكَ ولياً } أَيْ : ولِّ علينا رجلاً من المؤمنين يوالينا { واجعل لنا من لدنك نصيراً } ينصرنا على عدوِّك ، فاستجاب الله دعاءَهم ، وولَّى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عتَّابَ بن أسيد ، وأعانهم [ الله ] به ، فكانوا أعزَّ بها من الظَّلمة قبل ذلك .
{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } في طاعة الله { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } أَيْ : في طاعة الشَّيطان { فقاتلوا أولياء الشيطان } عبدة الأصنام { إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً } يعني : خذلانه إيَّاهم يوم قُتلوا ببدرٍ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } عن قتال المشركين ، وأَدُّوا ما فُرض عليكم من الصَّلاة والزَّكاة . نزلت في قوم من المؤمنين استأذنوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهم بمكَّة في قتال المشركين ، فلم يأذن لهم { فلما كتب عليهم القتال } بالمدينة { إذا فريقٌ منهم يخشون الناس } أَيْ : عذاب النَّاس بالقتل { كخشية الله } كما يخشى عذاب الله { أو أشدَّ } أكبرَ { خشية } وهذه الخشية إنَّما كانت لهم من حيث طبع البشريَّة ، لا على كراهية أمر الله بالقتال { وقالوا } جزعاً من الموت ، وحرصاً على الحياة : { ربنا لمَ كتبت } فرضتَ { علينا القتال لولا } هلاًّ { أخرتنا إلى أجل قريب } وهو الموت ، أَيْ : هلاَّ تركتنا حتى نموت بآجالنا ، وعافيتنا من القتل ، { قل } لهم يا محمَّدُ : { متاع الدنيا قليل } أجل الدُّنيا قريبٌ ، وعيشها قليلٌ { والآخرة } الجنَّةُ { خيرٌ لمن اتقى } ولم يُشرك به شيئاً { ولا تظلمون فتيلاً } أَيْ : لا تُنقصون من ثواب أعمالكم مثل فتيل النَّواة ، ثمَّ أعلمهم أنَّ آجالهم لا تخطئهم ولو تمنَّعوا بأمنع الحصون ، فقال :
{ أينما تكونوا يردككم الموت ولو كنتم في بروج } حصونٍ وقصور { مشيدة } مطوَّلة مرفوعة . [ وقيل : بروج السَّماء ] { وإن تصبهم } يعني : المنافقين [ واليهود ] { حسنة } خصب ورخص سعر { يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة } جدبٌ وغلاءٌ { يقولوا هذه من عندك } من شؤم محمد ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قدم المدينة وكفرت اليهود أمسك الله عنهم ما كان قد بسط عليهم ، فقالوا : ما رأينا أعظم شؤماً من هذا ، نقصت ثمارنا ، وغلت أسعارنا منذ قدم علينا ، فقال الله تعالى : { قل كلٌّ } أًي : الخصب والجدب { من عند الله } من قِبَل الله { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } لا يفهمون القرآن .
{ ما أصابك } يا ابن آدم { من حسنة } فتح وغنيمةٍ وخصبٍ فمن تفضُّل الله { وما أصابك من سيئة } من جدبٍ وهزيمةٍ وأمرٍ تكرهه { فمن نفسك } فبذنبك يا ابن آدم { وأرسلناك } يا محمدُ { للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً } على رسالتك .
{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } يعني : إنَّ طاعتكم لمحمد طاعةٌ لله { ومَنْ تولى } أعرض عن طاعته { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } أَيْ : حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع ، أَيْ : ليس عليك بأسٌ لتولِّيه؛ لأنَّك لم ترسل عليهم حفيظاً من المعاصي .
{ ويقولون } أَي : المنافقون { طاعةٌ } أَيْ : طاعةٌ لأمرك { فإذا برزوا } خرجوا { من عندك بيَّت } قدَّر وأضمر { طائفة منهم غير الذي تقول } لك من الطَّاعة أَيْ : أضمروا خلاف ما أظهروا ، وقدَّروا ليلاً خلاف ما أعطوك نهاراً { واللَّهُ يكتب ما يبيِّتون } أَيْ : يحفظ عليهم ليُجَازَوا به { فأعرض عنهم } أَيْ : فاصفح عنهم ، وذلك أنه نُهي عن قتل المنافقين في ابتداء الإِسلام ، ثمَّ نُسخ ذلك بقوله : { جاهِد الكفَّار والمنافقين . }
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
{ أفلا يتدبرون القرآن } أَي : المنافقون ، [ أفلا ] يتأمَّلون ويتفكرون فيه { ولو كان } القرآن { من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } بالتَّناقض والكذب ، والباطل ، وتفاوت الألفاظ .
{ وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن . . . } الآية . نزلت في أصحاب الأراجيف ، وهم قومٌ من المنافقين كانوا يُرجفون بسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويُخبرون بما وقع بها قبل أن يُخبرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَيُضعفون قلوب المؤمنين بذلك ، ويُؤذون النبيَّ عليه السَّلام بسبقهم إيَّاه بالإِخبار ، وقوله : { أمرٌ من الأمن } حديثٌ فيه أمنٌ { أو الخوف } يعني : الهزيمة { أذاعوا به } أَيْ : أفشوه { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } ولو سكتوا عنه حتى يكون الرَّسول هو الذي يُفشيه ، وأولوا الأمر مثل أبي بكر وعمر وعليٍّ رضي الله عنهم . وقيل : أمراء السَّرايا { لعلمه الذين يستنبطونه } يتبعونه ويطلبون علمَ ذلك . { منهم } من الرسول وأولي الأمر { ولولا فضلُ الله } أي : الإِسلام { ورحمته } القرآن { لاتبعتم الشيطان إلاَّ قليلاً } ممَّن عصم الله ، كالذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان بغير رسولٍ ولا كتابٍ ، نحو زيد بن عمرو ، وورقة بن نوفل ، وطُلاَّب الدِّين ، وهذا تذكيرٌ للمؤمنين بنعمة الله عليهم حتى سلموا من النِّفاق ، وما ذُمَّ به المنافقون .
{ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلاَّ نفسك } أَيْ : إلاَّ فعلَ نفسك ، على معنى : أنَّه لا ضرر عليك في فعل غيرك ، فلا تهتمَّ بتخلُّف مَنْ يتخلَّف عن الجهاد { وحرِّض المؤمنين } حُضَّهم على القتال { عسى الله } واجبٌ من الله { أن يكفَّ } يصرف ويمنع { بأس الذين كفروا } شدَّتهم وشوكتهم { واللَّهُ أشدُّ بأساً } عذاباً { وأشدُّ تنكيلاً } عقوبة .
{ مَنْ يشفع شفاعة حسنةً } هي كلُّ شفاعة تجوز في الدِّين { يكن له نصيبٌ منها } كان له فيها أجر { ومَنْ يشفع شفاعة سيئة } أَيْ : ما لا يجوز في الدين أن يشفع فيه { يكن له كفلٌ منها } أيْ : نصيبٌ من الوِزر والإِثم { وكان الله على كلِّ شيءٍ مقيتاً } مقتدراً .
{ وإذا حييتم بتحيَّةٍ } أَيْ : إذا سُلِّم عليكم بسلامٍ { فحيوا بأحسن منها } أَيْ : أجيبوا بزيادةٍ على التحيَّة إذا كان المُسَلِّم من أهل الإِسلام { أو ردُّوها } إذا كان من أهل الكتاب . [ فقولوا : عليكم ، ولا تزيدوا على ذلك ] . { إنَّ الله كان على كلِّ شيء حسيباً } [ حفيظاً ] مجازياً .
{ الله لا إله إلاَّ هو ليجمعنَّكم } أَيْ : واللَّهِ ليجمعنَّكم في القبور { إلى يوم القيامة لا ريبَ فيه } [ لا شكَّ فيه ] { ومَنْ أصدقُ من الله حديثاً } أَيْ : قولاً وخبراً ، يريد : أنَّه لا خُلفَ لوعده .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{ فما لكم في المنافقين فئتين } نزلت في قومٍ قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقاموا ما شاء الله ، ثمَّ قالوا : إنَّا اجتوينا المدينة ، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم أَنْ يخرجوا ، فلمَّا خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلةً مرحلةً ، حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فقال بعضهم : إنَّهم كفار مرتدُّون ، وقال آخرون : هم مسلمون حتى نعلم أنَّهم بدَّلوا ، فبيَّن الله كفرهم في هذه الآية ، والمعنى ما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين على فئتين ، على فرقتين { والله أركسهم } ردَّهم إلى حكم الكفَّار من الذُّلِّ والصَّغار ، والسَّبي والقتل { بما كسبوا } بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النِّفاق { أتريدون } أيُّها المؤمنون { أن تهدوا } أَيْ : ترشدوا { مَنْ أضلَّ الله } لم يرشده الله ، أَيْ : يقولون : هؤلاء مهتدون ، والله قد أضلَّهم { ومَنْ يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } أَيْ : ديناً وطريقاً إلى الحجَّة .
{ ودُّوا } أَيْ : هؤلاء { لو تكفرون كما كفروا فتكونون } أنتم وهم { سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء } أَيْ : لا تُوالوهم ولا تُباطنوهم { حتى يهاجروا في سبيل الله } حتى يرجعوا إلى رسول الله { فإن تولوا } عن الهجرة وأقاموا على ما هم عليه { فخذوهم } بالأسر { ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً } أيْ : لا تتولوهم ولا تستنصروا بهم على عدوِّكم .
{ إلاَّ الذين يصلون } أَيْ : فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلاَّ الذين يتصلون ويلتجئون { إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } فيدخلون فيهم بالحلف والجوار { أو جاؤوكم حصرت صدورهم } يعني : أو يتصلون بقوم جاؤوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم ، وهم بنو مدلجٍ كانوا صلحاً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا بيان أنَّ مَن انضمَّ إلى قومٍ ذوي عهدٍ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فله مثلُ حكمهم في حقن الدم والمال ، ثمَّ نُسخ هذا كلُّه بآية السَّيف ، ثمَّ ذكر الله تعالى مِنَّته بكفِّ بأس المعاهدين فقال : { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } يعني : إنَّ ضيق صدورهم عن قتالكم إنَّما هو لقذف الله تعالى الرُّعب في قلوبهم ، ولو قوَّى الله تعالى قلوبهم على قتالكم لقاتلوكم ، { فإن اعتزلوكم } أَيْ : في الحرب { وألقوا إليكم السلم } أَي : الصُّلح { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } في قتالهم وسفك دمائهم ، ثمَّ أمره بقتال مَنْ لم يكن على مثل سبيل هؤلاء ، فقال :
{ ستجدون آخرين . . } الآية . هؤلاء قومٌ كانوا يظهرون الموافقة لقومهم من الكفَّار ، ويظهرون الإِسلام للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، يريدون بذلك الأمن في الفريقين ، فأطلع الله نبيَّه عليه السَّلام على نفاقهم ، [ وهو قوله : { يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } وقوله : { كلما رُدُّوا إلى الفتنة أركسوا فيها } كلَّما دُعوا إلى الشِّرك رجعوا فيه { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً } أَيْ : حجَّة بيِّنةً في قتالهم؛ لأنَّهم غَدَرةٌ لا يُوفون لكم بعهدٍ .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
{ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً } ألْبَتَّةَ { إلاَّ خطأ } إلاَّ أنَّه قد يخطىء المؤمن بالقتل { ومَنْ قتل مؤمناً خطأ } مثل أن يقصد بالرَّمي غيره فأصابه { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } إلى جميع ورثته { إلاَّ أن يصدقوا } أَيْ : يعفوا ويتركوا الدية { فإن كان } المقتول { من قوم } حربٍ لكم وكان مؤمناً { فتحرير رقبة مؤمنة } كفارةً للقتل ، ولا دية ، لأنَّ عصبته وأهله كفَّار فلا يرثون ديته { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } كأهل الذِّمة فتجب فيه الدِّية والكفَّارة { فمن لم يجد } الرَّقبة { فصيام شهرين متتابعين توبة من الله } أَيْ : ليقبل الله توبة القاتل حيث لم يبحث عن المقتول وحاله ، وحيث لم يجتهد حتى لا يخطىء .
{ ومَنْ يقتل مؤمناً متعمداً . . . } الآية . غلَّظ الله وعيد قاتل المؤمن عمداً للمبالغة في الرَّدع والزَّجر .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم } أَيْ : سرتم { في الأرض فتبيَّنوا } أَيْ : تأنَّوا وتثَّبتوا . نزلت في رجلٍ كان قد انحاز بغنمٍ له إلى جبلٍ ، فلقي سريةً من المسلمين عليهم أسامة بن زيد ، فأتاهم وقال : السَّلام عليكم ، لا إله إلاَّ الله ، محمد رسول الله ، وكان قد أسلم ، فقتله أسامة واستاقوا غنمه ، فنزلت نهياً عن سفك دم مَنْ هو على مثل هذه الحالة ، وذلك أنَّ أسامة قال : إنَّما قالها مُتعوِّذاً ، فقال الله : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } أَيْ : حيَّاكم بهذه التَّحيَّة { لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا } أَيْ : متاعها من الغنائم { فعند الله مغانم كثيرة } يعني : ثواباً كبيراً لمَنْ ترك قتل مَنْ ألقى إليه السَّلام . { كذلك كنتم من قبل } كُفَّاراً ضُلالاً كما كان هذا المقتول قبل إسلامِهِ ، ثمَّ منَّ الله عليكم بالإِسلام كما منَّ على المقتول ، أَيْ : إنَّ كلَّ مَنْ أسلم ممَّن كان كافراً فبمنزلة هذا الذي تعوَّذ بالإِسلام قُبِلَ منه ظاهرُ الإِسلام ، ثمَّ أعاد الأمر بالتبيُّن فقال : { فتبينوا إنَّ الله كان بما تعملون خبيراً } أَي : علم أنَّكم قتلتموه على ماله ، ثمَّ حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ، وردَّ عليهم غنمه ، واستغفر لأسامة ، وأمره بعتق رقبةٍ .
{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر } أي : الأصحَّاء الذين لا علَّة بهم تضرُّهم وتقطعهم عن الجهاد . لا يستوي هؤلاء { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين } من أهل العذر { درجةً } ؛ لأنَّ المجاهدين باشروا الطَّاعة ، والقاعدين من أهل العذر قصدوها ، وإن كانوا في الهمَّة والنيَّة على قصد الجهاد ، فمباشرة الطَّاعة فوق قصدها بالنِّيّة { وكلاً } من المجاهدين والقاعدين المعذورين { وعد الله الحسنى } الجنَّة { وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين } من غير عذرٍ { أجراً عظيماً } .
{ درجاتٍ منه } أَيْ : منازلَ بعضُها فوقَ بعضٍ ، من منازل الكرامة .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{ إنَّ الذين توفاهم الملائكة } أَيْ : قبضت أرواحهم . نزلت في قومٍ كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا حتى خرج المشركون إلى بدر ، فخرجوا معهم فقتلوا يوم بدرٍ ، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وقوله : { ظالمي أنفسهم } بالمقام في دار الشِّرك والخروج مع المشركين لقتال المسلمين { قالوا : فيم كنتم } أَيْ : قالت الملائكة لهؤلاء سؤال توبيخٍ وتقريع : أكنتم في المشركين أم كنتم في المسلمين؟ فاعتذروا بالضَّعف عن مقاومة أهل الشِّرك في دارهم ف { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } أَيْ : في مكة ، فحاجَّتهم الملائكة بالهجرة إلى غير دارهم و { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً } أخبر الله تعالى أنَّ هؤلاء من أهل النَّار ، ثمَّ استثنى من صدق في أنَّه مستضعفٌ فقال : { إلاَّ المستضعفين } أي : الذين يوجدون ضعفاء { لا يستطيعون حيلة } لا يقدرون على حيلةٍ ولا نفقةٍ ولا قوَّةٍ للخروج { ولا يهتدون سبيلاً } لا يعرفون طريقاً إلى المدينة .
{ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً } أَيْ : مهاجراً ومتحوَّلاً { كثيراً وسعة } في الرِّزق { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله . . . } الآية . نزلت في حبيب بن ضمرة اللَّيثي ، وكان شيخاً كبيراً خرج متوجِّهاً إلى المدينة فمات في الطَّريق ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو وافى المدينة لكان أتمَّ أجراً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأخبر أنَّ مَنْ قصد طاعةً ، ثمَّ أعجزه العذر عن تمامها كتب الله ثواب تمام تلك الطَّاعة ، ومعنى { وقع أجره على الله } وجب ذلك بإيجابه .
{ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا . . . } الآية . نزلت في إباحة قصر الصَّلاة في السَّفر ، وظاهر القرآن يدل على أنَّ القصر يستباح بالسَّفر والخوف ، لقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } أَيْ : يقتلكم ، والإِجماع منعقدٌ على أنَّ القصر يجوز في السَّفر من غير خوف ، وثبتت السنَّة بهذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولكن ذكر الخوف في الآية ، على حال غالب أسفارهم في ذلك الوقت ، ثمَّ ذكر صلاة الخوف فقال : { وإذا كنت فيهم } .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{ وإذا كنت فيهم } أَيْ : إذا كنت أيُّها النبيُّ مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم { فأقمت لهم الصلاة } أَي : ابتدأت بها إماماً لهم { فلتقم طائفة منهم معك } نصفهم يصلُّون معك { وليأخذوا } أَيْ : وليأخذ الباقون أسلحتهم { فإذا سجدوا } فإذا سجدت الطَّائفة التي قامت معك { فليكونوا من ورائكم } أَي : الذين أمروا بأخذ السِّلاح { ولتأت طائفة أخرى } أَي : الذين كانوا من ورائهم يحرسونهم { لم يصلوا } [ معك الركعة الأولى ] { فليصلوا معك } [ الركعة الثانية ] { وليأخذوا حذرهم } [ من عدوهم ] { وأسلحتهم } [ سلاحهم معهم ] . يعني الذين صلَّوا أولَّ مرَّةٍ { وذّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في صلاتكم { فيميلون عليكم ميلة واحدة } بالقتال { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذىً من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } ترخيصٌ لهم في ترك حمل السِّلاح في الصَّلاة ، وحملُه فرضٌ عند بعضهم ، وسنة مؤكدة عند بعضهم ، فرخص الله لهم في تركه لعذر المطر والمرض؛ لأنَّ السِّلاح يثقل على المريض ، ويفسد في المطر { وخذوا حذركم } أَيْ : كونوا على حذرٍ في الصَّلاة كيلا يتغفَّلكم العدوُّ .
{ فإذا قضيتُمُ الصلاة } فرغتم من صلاة الخوف { فاذكروا الله } بتوحيده وشكره في جميع أحوالكم { فإذا اطمأننتم } رجعتم إلى أهلكم وأقمتم { فأقيموا الصلاة } أتمُّوهها { إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } مفروضاً موقَّتاً فرضه .
{ ولا تهنوا } أَيْ : لا تضعفوا { في ابتغاء القوم } يعني : أبا سفيان ومَنْ معه حين انصرفوا من أُحدٍ . أمر الله تعالى نبيَّه عليه السَّلام أن يسير في آثارهم بعد الوقعة بأيَّام ، فاشتكى أصحابه ما بهم من الجراحات ، فقال الله تعالى : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون } أَيْ : إنْ ألمتم من جراحكم فهم أيضاً في مثل حالتكم من ألم الجراح { وترجون من الله } من نصر الله إيَّاكم ، وإظهار دينكم [ في الدنيا ] ، وثوابه في العقبى { ما لا يرجون } هم { وكان الله عليماً } بخلقه { حكيماً } فيما حكم .
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة طعمة بن أُبيرق؛ سرق درعاً ، ثمَّ رمى بها يهودياً ، فلما طُلبت منه الدِّرع أحال على اليهوديِّ ، ورماه بالسَّرقة ، فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهوديِّ ، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل قوم طعمة النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل عن صاحبهم ، وأن يُبرِّيَه ، وقالوا : إنك إنْ لم تفعل افتضح صاحبنا وبرىء اليهوديُّ ، فهمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يفعل ، فنزل قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } في الحكم لا بالتَّعدي فيه { لتحكم بين الناس بما أراك الله } أَيْ : فيما علَّمك الله { ولا تكن للخائنين } طعمة وقومه { خصيماً } مخاصماً عنهم .
{ واستغفر الله } من جدالك عن طعمة ، وهمِّك بقطع اليهوديِّ .
{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } يخونونها بالمعصية؛ لأنَّ وبال خيانتهم راجعٌ عليه . يعني : طعمة وقومه { إنَّ الله لا يحبُّ مَنْ كان خوَّاناً أثيماً } أَيْ : طعمة ، لأنَّه خان في الدِّرع ، وأَثِم في رميه اليهوديَّ .
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
{ يستخفون } يستترون بخيانتهم { من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم } عالم بما يخفون { إذ يبيِّتون } يُهيِّئون ويُقدِّرون ليلاً { ما لا يرضى من القول } وهو أنَّ طعمة قال : أرمي اليهوديَّ بأنَّه سارق الدِّرع ، وأحلف أنِّي لم أسرق فيقبل يميني؛ لأنِّي على دينهم { وكان الله بما يعملون محيطاً } عالماً ، ثمَّ خاطب قوم طعمة فقال : { ها أنتم هؤلاء جادلتم } خاصمتم { عنهم } عن طعمة وذويه { في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة } أَيْ : لا أحد يفعل ذلك ، ولا يكون في ذلك اليوم عليهم وكيلٌ يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم ، ثمَّ عرض التَّوبة على طعمة وقومه بقوله : { ومَنْ يعمل سوءاً } معصيةً كما عمل قوم طعمة { أو يظلم نفسه } بذنبٍ كفعل طعمة { ثم يستغفر الله . . . } الآية . ثمَّ ذكر أنَّ ضرر المعصية إنَّما يلحق العاصي ، ولا يلحق الله من معصيته ضررٌ ، فقال : { ومَنْ يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً } بالسَّارق { حكيماً } حكم بالقطع على طعمة .
{ ومَنْ يكسب خطيئةً } ذنباً بينه وبين الله تعالى . يعني : يمينه الكاذبة أنَّه ما سرق { أو إثماً } ذنباً بينه وبين النَّاس . يعني : سرقته { ثمَّ يرمِ به } أَيْ : بإثمه { بريئاً } كما فعل طعمة حين رمى اليهوديَّ بالسَّرقة { فقد احتمل بهتاناً } برمي البريء { وإثماً مبيناً } باليمين الكاذبة والسَّرقة .
{ ولولا فضلُ الله عليك ورحمته } بالنبوَّة والعصمة { لهمَّت } لقد همَّت { طائفة منهم } من قوم طعمة { أن يضلوك } أَيْ : يُخطِّئوك في الحكم ، وذلك أنَّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنهم ويقطع اليهوديَّ { وما يضلون إلاَّ أنفسهم } بتعاونهم على الإِثم والعدوان وشهادتهم الزُّور والبهتان { وما يضرونك من شيء } لأنَّ الضَّرر على مَنْ شهد بغير حقٍّ ، ثمَّ منَّ الله عليه فقال : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } أَي : القضاء بالوحي ، وبيَّن لك ما فيه الحكمة ، فلمَّا بان أنَّ السَّارق طعمة تناجى قومه في شأنه ، فأنزل الله تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم } أَيْ : مسارَّتهم { إلاَّ مَنْ أمر } أَيْ : إلاَّ في نجوى من أمر { بصدقةٍ } وقال مجاهد : هذه الآية عامَّةٌ للناس . يريد : أنَّه لا خير فيما يتناجى فيه النَّاس ، ويخوضون فيه من الحديث إلاَّ ما كان من أعمال البرِّ ، ثمَّ بيَّن أنَّ ذلك ينفع مَن ابتغى به ما عند الله ، فقال : { ومَنْ يفعل ذلك . . . } الآية . ثمَّ حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على طعمة بالقطع ، فخاف على نفسه الفضيحة ، فهرب إلى مكة ولحق بالمشركين .
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{ ومَنْ يشاقق الرسول } أَيْ : يخالفه { من بعد ما تبيَّن له الهدى } الإِيمان بالله ورسوله ، وذلك أنَّه ظهر له من الآية ما فيه بلاغ بما أطلع الله سبحانه على أمره ، فعادى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الحجَّة وقيام الدليل { ويتبع غير سبيل المؤمنين } غير دين الموحِّدين { نوله ما تولى } ندعه وما اختار لنفسه { ونصله جهنم } ندخله إيَّاها ونلزمه النَّار ، ثمَّ أشرك بالله طعمة فكان يعبد صنماً إلى أن مات ، فأنزل الله فيه :
{ إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به . . . } الآية . ثمَّ نزل في أهل مكة :
{ إن يدعون من دونه } أَيْ : ما يعبدون من دون الله { إلاَّ إناثاً } أَيْ : أصنامهم اللاَّت والعزَّى ومناة { وإن يدعون إلاَّ شيطاناً مريداً } ما يعبدون بعبادتهم لها إلاَّ شيطاناً خارجاً عن طاعة الله تعالى . يعني : إبليس؛ لأنَّهم أطاعوه فيما سوَّل لهم من عبادتها .
{ لعنه الله } دحره وأخرجه من الجنَّة { وقال } يعني إبليس : { لأتخذنَّ من عبادك } بإغوائي وإضلالي { نصيباً مفروضاً } معلوماً ، أَيْ : مَن اتَّبعه وأطاعه .
{ ولأُضلنَّهم } عن الحقِّ { ولأمنينَّهم } أن لا جنَّة ولا نار . وقيل : ركوب الأهواء . { ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام } [ أي : فليقطعنَّها ] يعني : البحائر ، وسيأتي بيان ذلك فيما بعد [ في سورة المائدة ] . { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } أَيْ : دينه . يكفرون ويحرِّمون الحلال ، ويحلون الحرام { ومَنْ يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } أيْ : [ مَنْ ] يُطعه فيما يدعو إليه من الضَّلال { فقد خسر خسراناً مبيناً } خسر الجنَّة ونعيمها .
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
{ يعدهم } طول العمر في الدُّنيا { ويمنيهم } نيل المراد منها { وما يعدهم الشيطان إلاَّ غروراً } أَيْ : إلاَّ ما يغرُّهم من إيهام النَّفع فيما فيه الضِّرر .
{ أولئك } أَي : الذين اتَّخذوا الشَّيطان وليَّاً { مأواهم } مرجعهم ومصيرهم { جهنم ولا يجدون عنها محيصاً } معدلاً .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . . } الآية .
{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } نزلت في كفَّار قريش واليهود . قالت قريش : لا نُبعث ولا نُحاسب ، وقالت اليهود : { لن تمسَّنَا النَّارُ إلاَّ إيَّاماً معدودةً } فنزلت هذه الآية . أَيْ : ليس الأمر بأمانيِّ اليهود والكفَّار { مَنْ يعمل سوءاً } كفراً وشركاً { يُجزَ به ولا يجد له من دون الله ولياً } يمنعه { ولا نصيراً } ينصره ، ثمَّ بيَّن فضيلة المؤمنين على غيرهم بقوله :
{ ومن يعمل من الصالحات . . . } الآية . وبقوله :
{ ومَنْ أحسن ديناً ممَّن أسلم وجهه } أَيْ : توجَّه بعبادته إلى الله خاضعاً له { وهو محسنٌ } مُوَحِّدٌ { واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفاً } ملَّةُ إبراهيم داخلةٌ في ملَّة محمد عليهما السَّلام ، فمَنْ أقرَّ بملَّة محمَّدٍ فقد اتَّبع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } صفيَّاً بالرِّسالة والنُّبوَّة ، مُحبَّاً له خالص الحبِّ .
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{ ويستفتونك } يطلبون منك الفتوى { في النساء } في توريثهنَّ : كانت العرب لا تورث النِّساء والصِّبيان شيئاً من الميراث { قل الله يفتيكم فيهنَّ وما يتلى عليكم } أَي : القرآن يُفتيكم أيضاً . يعني : آية المواريث في أوَّل هذه السورة { في } ميراث { يتامى النساء } ؛ لأنَّها نزلت في قصَّة أم كجَّة ، وكانت لها بنات { اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهنَّ } أَيْ : فُرض لهن من الميراث { وترغبون } عن { أن تنكحوهنَّ } لدمامتهنَّ . قالت عائشة رضي الله عنها : نزلت في اليتيمة يرغب وليها عن نكاحها ، ولا يُنكحها فيعضلها طمعاً في ميراثها ، فنُهي عن ذلك { والمستضعفين من الولدان } أَيْ : يُفتيكم في الصِّغار من الغلمان والجواري أن تعطوهنَّ حقهنَّ { وأن تقوموا } أَيْ : وفي أن تقوموا { لليتامى بالقسط } أَي : بالعدل في مهورهنَّ ومواريثهنَّ { وما تفعلوا من خير } من حسنٍ فيما أمرتكم به { فإنَّ الله كان به عليماً } يجازيكم عليه .
{ وإن امرأة خافت } علمت { من بعلها } زوجها { نشوزاً } ترفُّعاً عليها لبغضها ، وهو أن يترك مجامعتها { أو إعراضاً } بوجهه عنها { فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحاً } في القسمة والنَّفقة ، وهي أن ترضى هي بدون حقِّها ، أو تترك من مهرها شيئاً ليسوِّي الزَّوج بينها وبين ضرَّتها في القسمة ، وهذا إذا رضيت بذلك لكراهة فراق زوجها ، ولا تجبر على هذا لأنَّها إنْ لم ترض بدون حقِّها كان الواجب على الزَّوج أن يوفيها حقَّها من النَّفقة والمبيت { والصلحُ خيرٌ } من النُّشوز والإِعراض . أَيْ : إنْ يتصالحا على شيءٍ خيرٌ من أن يُقيما على النُّشوز والكراهة بينهما { وأحضرت الأنفس الشح } أَيْ : شحَّت المرأة بنصيبها من زوجها ، وشحَّ الرَّجل على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحبَّ إليه منها { وإن تحسنوا } العشرة والصُّحبة { وتتقوا } الجور والميل { فإنَّ الله كان بما تعملون خبيراً } لا يضيع عنده شيء .
{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } لن تقدروا على التَّسوية بينهنَّ في المحبَّة ولو اجتهدتم { فلا تميلوا كلَّ الميل } إلى التي تحبُّون في النَّفقة والقسمة { فتذروها كالمعلقة } فتدعوا الأخرى كأنَّها معلَّقةٌ لا أيِّماً ولا ذات بعل { وإن تصلحوا } بالعدل في القسم { وتتقوا } الجور { فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً } لما ملت إلى التي تحبُّها بقلبك ، ولمَّا ذكر جواز الصُّلح بينهما إنْ أحبَّا أن يجتمعا ذكر بعده الافتراق ، فقال :
{ وإن يتفرقا } أَيْ : إنْ أبت المرأة الكبيرة الصُّلْح ، وأبت إلاَّ التَّسوية بينها وبين الشَّابَّة فتفرَّقا بالطَّلاق ، فقد وعد الله لهما أن يُغني كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بعد الطَّلاق من فضله الواسع بقوله : { يغن الله كُلاً من سعته وكان الله واسعاً } لجميع خلقه في الرِّزق والفضل { حكيماً } فيما حكم ووعظ .
{ إنْ يشأ يذهبكم أيها الناس } يعني : المشركين والمنافقين { ويأت بآخرين } أمثل وأطوع لله منكم .
{ مَنْ كان يريد ثواب الدنيا } أَيْ : متاعها { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } أَيْ : خير الدُّنيا والآخرة عنده ، فليطلب ذلك منه ، وهذا تعريضٌ بالكفَّار الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث ، وكانوا يقولون : ربنا آتنا في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خَلاق .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } قائمين بالعدل { شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } أَي : اشهدوا لله بالحقِّ ، وإن كان الحقُّ على نفس الشَّاهد ، أو على والديه ، أو أقربيه { إن يكن } المشهود عليه { غنياً أو فقيراً } فلا تحابوا غنياً لغناه ، ولا تحيفوا على الفقير لفقره { فالله أولى بهما } أَيْ : أعلمُ بهما منكم؛ لأنَّه يتولَّى علم أحوالهما { فلا تتبعوا الهوى } في الشَّهادة ، واتقوا { إن تعدلوا } أَيْ : تميلوا وتجوروا { وإنْ تلووا } أَيْ : تدّافعوا الشَّهادة { أو تعرضوا } تجحدوها وتكتموها { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
{ يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله } أَي : اثبتوا على الإِيمان { والكتاب الذي نزَّل على رسوله } القرآن { والكتاب الذي أنزل من قبل } أَيْ : كلِّ كتاب أنزل على نبيٍّ قبل القرآن .
{ إنَّ الذين آمنوا } أَي : اليهود آمنوا بالتَّوراة { ثمَّ كفروا } بمخالفتها { ثم آمنوا } بالإِنجيل { ثمَّ كفروا } بمخالفته { ثم ازدادوا كفراً } بمحمدٍ { لم يكن الله ليغفر لهم } ما أقاموا على ما هم عليه { ولا ليهديهم سبيلاً } سبيل هدى ، ثمَّ ألحق المنافقين بهم؛ لأنَّهم كانوا يتولَّونهم .
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{ بشر المنافقين بأنَّ لهم عذاباً أليماً } .
{ الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } هذه الآية من صفة المنافقين ، وكانوا يُوالون اليهود مخالفةً للمسلمين يتوهَّمون أنَّ لهم القوَّة والمنعة ، وهو معنى قوله : { أيبتغون عندهم العزَّة } أَي : القوَّة بالظهور على محمدٍ صلى الله عليه وسلم { فإنَّ العزة } أَي : الغلبة والقوَّة { لله جميعاً } .
{ وقد نزل عليكم } أيها المؤمنون { في الكتاب } في القرآن { أنْ إذا سمعتم } الكفر بآيات الله والاستهزاء بها { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثٍ } غير الكفر والاستهزاء . يعني : قوله في سورة الأنعام { وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا . . . } الآية . هذه كانت مما نزل عليهم في الكتاب ، وقوله : { إنكم إذاً مثلهم } يعني : إنْ قعدتم معهم راضين بما يأتون من الكفر بالقرآن والاستهزاء به ، وذلك أنَّ المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود ، فيسخرون من القرآن ، فنهى الله سبحانه المسلمين عن مجالستهم { إنَّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } يريد : أنَّهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بالآيات يجتمعون في جهنَّم على العذاب .
{ الذين يتربصون بكم } يعني : المنافقين ينتظرون بكم الدَّوائر { فإن كان لكم فتحٌ من الله } ظهورٌ على اليهود { قالوا ألم نكن معكم } فأعطونا من الغنيمة { وإن كان للكافرين نصيبٌ } من الظَّفر على المسلمين { قالوا } لهم : { ألم نستحوذ } [ نغلب ] { عليكم } نمنعكم عن الدُّخول في جملة المؤمنين { ونمنعكم من المؤمنين } بتخذيلهم عنكم ، ومراسلتنا إيَّاكم بأخبارهم { فالله يحكم بينكم } يعني : بين المؤمنين والمنافقين { يوم القيامة } يعني : أنَّه أخَّر عقابهم إلى ذلك اليوم ، ورفع عنهم السَّيف [ في الدُّنيا ] ، { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } أَيْ : حجَّةً يوم القيامة؛ لأنَّه يفردهم بالنَّعيم ، وما لا يشاركونهم فيه من الكرامات بخلاف الدُّنيا .
{ إنَّ المنافقين يخادعون الله } أَيْ : يعملون عمل المخادع بما يظهرونه ، ويبطنون خلافه . { وهو خادعهم } مجازيهم جزاءَ خداعهم ، وذلك أنَّهم يُعطون نوراً كما يُعطى المؤمنون ، فإذا مضوا قليلاً أطفىء نورهم ، وبقوا في الظُّلمة { وإذا قاموا إلى الصلاة } مع النَّاس { قاموا كسالى } متثاقلين { يراؤون الناس } ليرى ذلك النَّاس ، لا لاتِّباع أمر الله . يعني : ليراهم النَّاس مُصلِّين لا يريدون وجه الله { ولا يذكرون الله إلاَّ قليلاً } لأنَّهم يعملونه رياءً وسمعةً ، ولو أرادوا به وجه الله لكان كثيراً .
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{ مذبذبين بين ذلك } مُردَّدين بين الكفر والإِيمان ، ليسوا بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مصرِّحين بالشِّرك { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } لا من الأنصار ، ولا من اليهود { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } من أضلَّه الله فلن تجد له ديناً .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } يعني : الأنصار . يقول : لا توالوا اليهود من قريظة والنَّضير { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً } حجَّة بيِّنة في عقابكم بموالاتكم اليهود ، أيْ : إنَّكم إذا فعلتم ذلك صارت الحجُّة عليكم في العقاب .
{ إنَّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار } أَيْ : في أسفل درج النَّار { ولن تجد لهم نصيراً } مانعاً يمنعهم من عذاب الله .
{ إلاَّ الذين تابوا } من النِّفاق { وأصلحوا } العمل { واعتصموا بالله } التجأوا إليه { وأخلصوا دينهم لله } من شائب الرِّياء { فأولئك مع المؤمنين } أَيْ : هم أدنى منهم بعد هذا كلِّه ، ثمَّ أوقع أجر المؤمنين في التَّسويف لانضمامهم إليهم فقال : { وسوف يُؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً } .
{ ما يفعل الله بعذابكم } بعذاب خلقه { إن شكرتم } اعترفتم بإحسانه { وآمنتم } بنبيِّه { وكان الله شاكراً } للقليل من أعمالكم { عليماً } بنيَّاتكم .
{ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } نزلت ترخيصاً للمظلوم أنْ يجهر بشكوى الظَّالم ، وذلك أنَّ ضيفاً نزل بقوم فأساؤوا قِراه ، فاشتكاهم ، فنزلت هذه الآية . رخصةً في أن يشكوا ، وقوله : { إلاَّ من ظلم } لكن مَنْ ظُلم فإنَّه يجهر بالسُّوء من القول ، وله ذلك { وكان الله سميعاً } لقول المظلوم { عليماً } بما يضمره ، أَيْ : فليقل الحقِّ ، ولا يتعدَّ ما اُذن له فيه .
{ إن تبدوا خيراً } من أعمال البرِّ { أو تخفوه أو تعفوا عن سوء } يأتيك من أخيك المسلم { فإنَّ الله كان عفواً } لمَنْ عفا { قديراً } على ثوابه .
{ إنَّ الذين يكفرون بالله ورسله } هم اليهود كفروا بعيسى عليه السَّلام والإِنجيل ، ومحمدٍ عليه السَّلام والقرآن { ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله } بأن يؤمنوا بالله ويكفروا بالرُّسل { ويقولون نؤمن ببعض } الرّسل { ونكفر } ببعضهم { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً } بين الإِيمان بالبعض ، والكفر بالبعض ديناً يدينون به .
{ أولئك هم الكافرون حقاً } أَيْ : إنَّ إيمانهم ببعض الرُّسل لا يُزيل عنهم اسم الكفر ، ثمَّ نزل في المؤمنين .
{ والذين آمنوا بالله ورسله . . } الآية .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
{ يسألك أهل الكتاب . . . } الآية . سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يأتيهم بكتابٍ جُمْلَةً من السَّماء ، كما أتى به موسى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقوله : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } يعني : السَّبعين الذين ذكروا في قوله : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك . . . } الآية . { ثمَّ اتخذوا العجل } يعني : الذين خلَّفهم موسى مع هارون { من بعد ما جاءتهم البينات } العصا ، واليد ، وفلق البحر { فعفونا عن ذلك } لم نستأصل عبدة العجل { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } حجَّةً بيِّنةً قوي بها على مَنْ ناوأه .
{ ورفعنا فوقهم الطور } حين امتنعوا من قبول شريعة التَّوراة { بميثاقهم } أَيْ : بأخذ ميثاقهم { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } لا تعتدوا باقتناص السَّمك فيه { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } عهداً مؤكَّداً في النبيِّ صلى الله عليه وسلم . { فبما نقضهم ميثاقهم } أَيْ : فبنقضهم ، و " ما " زائدةٌ للتَّوكيد ، وقوله : { بل طبع اللَّهُ عليها بكفرهم } أَيْ : ختم الله على قلوبهم فلا تعي وَعْظاً ، مجازاةً لهم على كفرهم ، { فلا يؤمنون إلاَّ قليلاً } يعني : الذين آمنوا .
{ وبكفرهم } بالمسيح { وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } حين رموها بالزِّنا .
{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابنَ مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } أَيْ : ألقي لهم شبه عيسى على غيره حتى ظنُّوه لمَّا رأوه أنَّه المسيح { وإنَّ الذين اختلفوا فيه } أَيْ : في قتله ، وذلك أنَّهم لمَّا قتلوا الشَّخص المشَبَّه به كان الشَّبَه أُلقي على وجهه ، ولم يُلق على جسده شبهُ جسدِ عيسى ، فلمَّا قتلوه ونظروا إليه قالوا : الوجه وجه عيسى ، والجسد جسد غيره ، فاختلفوا ، فقال بعضهم : هذا عيسى ، وقال بعضهم : ليس بعيسى ، وهذا معنى قوله : { لفي شك منه } أَيْ : مِنْ قتله { ما لهم به } بعيسى { من علم } قُتِل أو لم يقتل { إلاَّ اتباع الظن } لكنَّهم يتَّبعون الظَّنَّ { وما قتلوه يقيناً } وما قتلوا المسيح على يقين من أنَّه المسيح .
{ بل رفعه الله إليه } أَيْ : إلى الموضع الذي لا يجري لأحدٍ سوى الله فيه حكمٌ وكان رفعُه إلى ذلك الموضع رفعاً إليه؛ لأنَّه رُفع عن أن يجري عليه حكم أحدٍ من العباد { وكان الله عزيزاً } في اقتداره على نجاة مَنْ يشاء من عباده { حكيماً } في تدبيره في النَّجاة .
{ وإن من أهل الكتاب إلاَّ ليؤمنن به } أَيْ : ما مِن أهل الكتاب أحدٌ إلاَّ ليؤمننَّ بعيسى { قبل موته } إذا عاين المَلَك ، ولا ينفعه حينئذٍ إيمانه ، ولا يموت يهوديٌّ حتى يؤمن بعيسى { ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } على أنْ قد بلَّغ الرِّسالة ، وأقرَّ بالعبوديَّة على نفسه .
{ فبظلم من الذين هادوا . . . } الآية . عاقب الله اليهود على ظلمهم وبغيهم بتحريم اشياء عليهم ، وهي ما ذُكر في قوله : { وعلى الذين هادوا حرَّمنا كلَّ ذي ظُفرٍ . . . } الآية .
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
ثمَّ استثنى مؤمنيهم فقال : { لكن الراسخون } يعني : المبالغين في علم الكتاب منهم ، كعبد الله بن سلام وأصحابه { والمؤمنون } من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً } ظاهرةً إلى قوله : { رسلاً مبشرين } .
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
{ رسلاً مبشرين } أَيْ : بالثَّواب على الطَّاعة { ومنذرين } بالعقاب على المعصية { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فيقولوا : ما أرسلت إلينا رسولاً يعلّمنا دينك ، فبعثنا الرُّسل قطعاً لعذرهم .
{ ولكن الله يشهد . . . } الآية . نزلت حين قالت اليهود - لما سُئلوا عن نبوَّة محمَّدٍ - : ما نشهد له بذلك ، فقال الله تعالى : { لكن الله يشهد } أَيْ : يبيِّن نبوَّتك { بما أنزل إليك } من القرآن ودلائله { أنزله بعلمه } أَيْ : وهو يعلم أنَّك أهلٌ لإِنزاله عليك لقيامك به { والملائكة يشهدون } لك بالنُّبوَّة إنْ جحدت اليهود ، وشهادة الملائكة إنَّما تُعرف بقيام المعجزة ، فمَنْ ظهرت معجزته شهدت الملائكة بصدقه { وكفى بالله شهيداً } أَيْ : كفى الله شهيداً .
{ إنَّ الذين كفروا } يعني اليهود { وظلموا } محمداً عليه السَّلام بكتمان نعته { لم يكن الله ليغفر لهم } هذا فيمن علم أنَّه يموت على الكفر { ولا ليهديهم طريقاً } ولا ليرشدهم إلى دين الإِسلام .
{ إلاَّ طريق جهنم } يعني : طريق اليهوديَّة ، وهو الطَّريق الذي يقودهم إلى جهنَّم { خالدين فيها أبداً وكان ذلك } أَيْ : خلودهم { على الله يسيراً } لأنَّه لا يتعذَّر عليه شيءٌ .
{ يا أيها الناس } يعني : المشركين { قد جاءكم الرسول بالحق } بالهدى والصِّدق { من ربكم فآمنوا خيراً لكم } أَيْ : ايتوا خيراً لكم من الكفر بالإِيمان به { وإنْ تكفروا } تُكذِّبوا محمداً وتكفروا نعمة الله عليكم به { فإنَّ لله ما في السموات والأرض } أَيْ : لا تضرُّون إلاَّ أنفسكم؛ لأنَّ الله غنيٌّ عنكم { وكان الله عليماً } بما تصيرون إليه من إيمان أو كفر { حكيماً } في تكليفه مع علمه بما يكون منكم .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
{ يا أهل الكتاب } يريد : النَّصارى { لا تغلوا } لا تتجاوزوا الحدَّ ولا تتشدَّدوا { في دينكم ولا تقولوا على الله إلاَّ الحق } فليس له ولدٌ ، ولا زوجة ، ولا شريك ، وقوله : { وكلمته ألقاها } يعني : أنَّه قال له : كن فيكون { وروحٌ منه } أَيْ : روحٌ مخلوقٌ من عنده { ولا تقولوا ثلاثة } أَيْ : لا تقولوا : آلهتنا ثلاثة . يعني قولهم : اللَّهُ ، وصاحبته ، وابنه [ تعالى الله عن ذلك ] . { انتهوا خيراً لكم } أَي : ائتوا بالانتهاء عن هذا خيراً لكم مما أنتم عليه .
{ لن يستنكف المسيح } لن يأنف الذي تزعمون أنَّه إِلهٌ { أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون } من كرامة الله تعالى ، وهم أكثرُ من البشر .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{ يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم } يعني : النبيَّ عليه السَّلام { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } وهو القرآن .
{ فأمَّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به } أَي : امتنعوا بطاعته من زيغ الشَّيطان { فسيدخلهم في رحمة منه } يعني : الجنَّة { وفضل } يتفضَّل عليهم بما لم يخطر على قلوبهم { ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } ديناً مستقيماً .
{ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } فيمن مات ولا ولد له ، ولا والد { إن امرؤٌ هلك ليس له ولد } أراد : ولا والد ، فاكتفى بذكر أحدهما ، لأنَّه الكلالة { وله أختٌ } يعني : من أبٍ وأمٍّ ، أو أبٍٍ؛ لأنَّ ذكر ولد الأم قد مضى في أوَّل السُّورة { فلها نصف ما ترك وهو يرثها } الأخ يرث الأخت جميع المال { إنْ لم يكن لها ولد فإن كانتا } أَيْ : الأختان ، [ { فلهما الثُّلثان ممَّا ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً } من أب وأمّ أو من أبٍ { فللذكر مثل حظ الأنثيين } ] . وقوله : { يبيِّن الله لكم أن تضلوا } أي : أن لا تضلوا ، أو كراهة أن تضلوا [ { والله بكل شيء عليم } من قسمة المواريث ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } يعني : بالعهود المؤكَّدة التي عاهدتموها مع الله والنَّاس ، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر ، فقال : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } قيل : هي الأنعام نفسها ، وهي الإِبلُ والبقر والغنم ، وقيل : بهيمة الأنعام : وحشِيُّها كالظِّباء ، وبقر الوحش ، وحمر الوحش { إلا ما يتلى عليها } [ أي : ما يقرأ عليكم في القرآن ] يعني : قوله : { حرِّمت عليكم الميتة . . . } الآية . { غير محلي الصيد } يعني : إلاَّ أن تحلُّوا الصَّيد في حال الإِحرام؛ فإنَّه لا يحلُّ لكم { إنَّ الله يحكم ما يريد } يحلُّ ما يشاء ، ويحرِّم ما يشاء .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تُحِلُّوا شعائر الله } يعني : الهدايا المُعلَمة للذَّبح بمكة . نزلت هذه الآية في الحُطَم [ بن ضبيعة ] أغار على سرح المدينة ، فذهب به إلى اليمامة ، " فلمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبية حجَّاج اليمامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم فدونكم ، وكان قد قلَّد ما نهب من سرح المدينة ، وأهداه إلى الكعبة " ، فلمَّا توجَّهوا في طلبه أنزل الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } يريد : ما أُشعر لله ، أَيْ : أُعْلِمَ { ولا الشهر الحرام } بالقتال فيه { ولا الهدي } وهي كلُّ ما أُهدي إلى بيت الله من ناقةٍ ، وبقرةٍ وشاةٍ ، { ولا القلائد } يعني : الهدايا المقلَّدة من لحاء شجر الحرم { ولا آمِّين البيت الحرام } قاصديه من المشركين . قال المفسرون : كانت الحرب في الجاهليَّة قائمة بين العرب إلاَّ في الأشهر الحرم ، فمَن وُجد في غيرها أُصيب منه إلاَّ أنْ يكونَ مُشعراً بدنه ، أو سائقاً هدايا ، أو مُقلِّداً نفسه أو بعيره من لحاء شجر الحرم ، أو مُحرماً ، فلا يُتعرَّض لهؤلاء ، فأمر الله سبحانه تعالى المُسْلمين بإقرار هذه الأَمنة على ما كانت لضربِ من المصلحة إلى أنْ نسخها بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله : { يبتغون فضلاً من ربهم } أَيْ : ربحاً بالتِّجارة { ورضواناً } بالحجِّ على زعمهم { وإذا حللتم } من الإحرام { فاصطادوا } أمرُ إباحةٍ { ولا يجرمنَّكم } ولا يحملنَّكم { شنآن قومٍ } بُغض قومٍ ، يعني : أهل مكَّة { أن صدوكم عن المسجد الحرام } يعني : عام الحدييبية { أن تعتدوا } على حُجَّاج اليمامة ، فتستحلُّوا منهم مُحرَّماً { وتعاونوا } لِيُعِنْ بعضكم بعضاً { على البر } وهو ما أمرتُ به { والتقوى } ترك ما نهيتُ عنه { ولا تعاونوا على الإثم } يعني : معاصي الله { والعدوان } التَّعدي في حدوده ، ثمَّ حذَّرهم فقال : { واتقوا الله } فلا تستحلوا محرَّماً { إنَّ الله شديد العقاب } إذا عاقب .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{ حرِّمت عليكم الميتة } سبق تفسير هذه الاية في سورة البقرة ، إلى قوله : { والمنخنقة } وهي التي تختنق فتموت بأيِّ وجهٍ كان { والموقوذة } المقتولة ضرباً { والمتردية } التي تقع من أعلى إلى أسفل فتموت { والنطيحة } التي قُتلت نطحاً { ما أكل } منه { السبع } فالباقي منه حرامٌ ، ثمَّ استثنى ما يُدرك ذكاته من جميع هذه المحرَّمات فقال : { إلا ما ذكيتم } أَيْ : إلاَّ ما ذبحتم { وما ذبح على النصب } أَيْ : على اسم الأصنام فهو حرام { وأن تستقسموا بالأزلام } تطلبوا على ما قُسم لكم من الخير والشَّرِّ من الأزلام : القداح التي كان أهل الجاهليَّة يُجيلونها إذا أرادوا أمراً { ذلكم } أَيْ : الاستقسامُ من الأزلام { فسق } خروجٌ عن الحلال إلى الحرام { اليوم } يعني : يوم عرفة عام حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح ، { يئس الذين كفروا } أن ترتدُّوا راجعين إلى دينهم { فلا تخشوهم } في مظاهرة محمد ، واتِّباع دينه { واخشون } في عبادة الأوثان { اليوم } يعني : يوم عرفة { أكملتُ لكم دينكم } أحكام دينكم ، فلم ينزل بعد هذه الآية حلالٌ ولا حرامٌ { وأتممت عليكم نعمتي } يعني : بدخول مكَّة آمنين كما وعدتكم { فمن اضطر } إلى ما حُرِّم ممَّا ذُكر في هذه الآية { في مخمصة } مجاعةٍ { غير متجانفٍ لإِثم } غير متعرِّضٍ لمعصيةٍ ، وهو أن يأكل فوق الشِّبع ، أو يكون عاصياً بسفره { فإنَّ الله غفورٌ } له ما أكل ممَّا حرَّم عليه { رحيم } بأوليائه حيث رخَّص لهم .
{ يسألونك ماذا أحلَّ لهم } سأل عديُّ بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنَّا نصيد بالكلاب والبُزاة ، وقد حرَّم الله الميتة ، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية . { قل أحلَّ لكم الطيبات } يعين : ما تستطيبه العرب ، وهذا هو الأصل في التَّحليل ، فكلُّ حيوانٍ استطابته العرب ، كالضِّباب ، واليرابيع ، والأرانب فهو حلال ، وما استخبثته العرب فهو حرام { وما علَّمتم } يعني : وصيد ما علَّمتم { من الجوارح } وهي الكواسب من الطَّير والكلاب والسِّباع { مكلِّبين } مُعلِّمين إيَّاها الصَّيد { تعلمونهن مما علمكم الله } تؤدبوهنَّ لطلب الصَّيد { فكلوا ممَّا أمسكن عليكم } هذه الجوارح وإنْ قتلن إذا لم يأكلن منه ، فإذا أكلن فالظَّاهر أنَّه حرام { واذكروا اسم الله عليه } عند إرسال الجوارح .
{ اليوم أحلَّ لكم الطيبات } التي سألتم عنها { وطعام الذين أوتوا الكتاب } وهو اسمٌ لجميع ما يؤكل { حلٌّ لكم وطعامكم حل لهم } أَيْ : حلٌّ لكم أن تطعموهم { والمحصنات } العفائف { من المؤمنات والمحصنات } الحرائر { من الذين أوتوا الكتاب } من أهل الكتاب { إذا آتيتموهنَّ أجورهنَّ } يعني : مهورهنَّ { محصنين } مُتزوِّجين { غير مسافحين } معالنين بالزِّنا { ولا متخذي أخذان } مُسرّين بالزِّنا بهنَّ { ومَنْ يكفر بالإِيمان } بالله الذي يجب الإِيمان به { فقد حبط عمله } إذا مات على ذلك { وهو في الآخرة من الخاسرين } ممَّنْ خسر الثَّواب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أَيْ : إذا أردتم القيام إليها { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } يعني : مع المرفقين { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } وهما النَّاشزان من جانبي القدم { وإن كنتم جنباً فاطَّهَروا } فاغتسلوا { وإن كنتم مرضى } مفسَّرٌ في سورة النِّساء غلى قوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } من ضيقٍ في الدِّين ، ولكنْ جعله واسعاً بالرُّخصة في التَّيمُّم { ولكن يريد ليطهركم } من الأحداث والجنابات والذُّنوب؛ لأنَّ الوضوء يكفِّر الذُّنوب { وليتم نعمته عليكم } ببيان الشَّرائع و { لعلكم تشكرون } نعمتي فتطيعوا أمري .
{ واذكروا نعمة الله عليكم } بالإِسلام { وميثاقه الذي واثقكم به } يعني : حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمع والطَّاعة في كلِّ ما أمر ونهى ، وهو قوله : { إذ قلتم } [ حين قلتم ] { سمعنا وأطعنا واتقوا الله إنَّ الله عليم بذات الصدور } بخفيَّات القلوب .
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله } تقومون لله بكلِّ حقٍّ يلزمكم القيام به { شهداء بالقسط } تشهدون بالعدل { ولا يجرمنكم شنآن قوم } لا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل { اعدلوا } في الوليِّ والعدوِّ { هو } أَيْ : العدل { أقرب للتقوى } أَيْ : لاتِّقاء النَّار .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم . . . } الآية . يعني : ما أنعم الله على نبيِّه حين أتى اليهودَ هو وجماعة من أصحابه يستعينون بهم في دية ، فتآمروا بينهم أن يطرحوا عليهم رحىً ، فأعلمهم الله بذلك على لسان جبرائيل حتى خرجوا ، ثمَّ أخبر عن نقض بني إسرائيل عهد الله ، كما نقضت هذه الطَّبقة العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله حين همُّوا بالاغتيال به .
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } على أن يعملوا بما في التَّوراة { وبعثنا } وأقمنا بذلك { منهم اثني عشر نقيباً } كفيلاً وضميناً ضمنوا عن قومهم الوفاء بالعهد { وقال الله } لهم : { إني معكم } بالعون والنُّصرة { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم } أَيْ : وقَّرتموهم { وأقرضتم الله قرضاً حسناً } يريد : الصَّدقات للفقراء والمساكين { فمن كفر بعد ذلك } أَيْ : بعد هذا العهد والميثاق { فقد ضلَّ سواء السبيل } أخطأ قصد الطَّريق .
{ فبما نقضهم } فبنقضهم { ميثاقهم } وهو أنَّهم كذَّبوا الرُّسل بعد موسى فقتلوا الأنبياء ، وضيَّعوا كتاب الله { لعنَّاهم } أخرجناهم من رحمتنا { وجعلنا قلوبهم قاسية } يابسة عن الإِيمان { يحرفون الكلم } يغيِّرون كلام الله { عن مواضعه } من صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في كتابهم وآية الرَّجم { ونسوا حظاً مما ذكروا به } وتركوا نصيباً ممَّا أمروا به في كتابهم من اتِّبَاع محمَّدٍ { ولا تزال } يا محمد { تطلع على خائنة } خيانة { منهم } مثل ما خانوك حين همُّوا بقتلك { إلاَّ قليلاً منهم } يعني : مَنْ أسلم { فاعفُ عنهم واصفح } منسوخٌ بآية السَّيف { إنَّ الله يحب المحسنين } المتجاوزين .
{ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } كما أخذنا ميثاق اليهود { فنسوا حظاً ممَّا ذكروا به } فتركوا ما أُمروا به من الإِيمان بمحمَّد صلى الله عليه وسلم { فأغرينا بينهم } فألقينا بين اليهود والنصارى { العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } وعيدٌ لهم ، ثمَّ دعاهم إلى الإِيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{ يا أهل الكتاب } يعني : اليهود والنَّصارى { قد جاءكم رسولنا } محمَّد { يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } تكتمون ممَّا في التَّوراة والإِنجيل ، كآية الرَّجم ، وصفة محمَّد عليه السَّلام { ويعفو عن كثير } يتجاوز عن كثير فلا يخبركم بكتمانه { قد جاءكم من الله نور } يعني : النبيَّ { وكتاب مبين } القرآن فيه بيانٌ لكلِّ ما تختلفون فيه .
{ يهدي به الله } يعني : بالكتاب المبين { مَنِ اتبع رضوانه } اتَّبع ما رضيه الله من تصديق محمَّد عليه السَّلام { سُبُل السلام } طرق السَّلامة التي مَنْ سلكها سلم في دينه { ويخرجهم من الظُّلمات } الكفر { إلى النور } الإِيمان { بإذنه } بتوفيقه وإرادته { ويهديهم إلى صراط مستقيم } وهو الإِسلام .
{ لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله هو المسيح ابن مريم } يعني : الذين اتَّخذوه إِلهاً { قل فمن يملك من الله شيئاً } فمَنْ يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئاً { إن أراد أن يهلك المسيح } أَيْ : يُعذِّبه ، ولو كان إلهاً لقدر على دفع ذلك .
{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } أَمَّا اليهود فإنّهم قالوا : إنَّ الله من حِنَّتِهِ وعطفه علينا كالأب الشفيق ، وأمَّا النَّصارى فإنَّهم تأوَّلوا قول عيسى : إذا صلَّيتم فقولوا : يا أبانا الذي في السَّماء تقدَّس اسمه ، وأراد أنَّه في برِّه ورحمته بعباده الصالحين كالأب الرحيم . وقيل : أرادوا نحن أبناء رسل الله ، وإنما قالوا هذا حين حذَّرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عقوبة الله ، فقال الله : { قل فلمَ يعذِّبكم بذنوبكم } أَيْ : فلمَ عذَّب مَنْ قبلكم بذنوبهم ، كأصحاب السَّبت وغيرهم { بل أنتم بشرٌ ممَّن خلق } كسائر بني آدم { يغفر لمن يشاء } لَمنْ تاب من اليهودية { ويعذب من يشاء } مَنْ مات عليها ، وقوله :
{ على فترة من الرسل } على انقطاع من الأنبياء { أن تقولوا } لئلا تقولوا { ما جاءنا من بشير ولا نذير } وقوله :
{ وجعلكم ملوكاً } أَيْ : جعل لكم الخدم والحشم ، وهم أوَّل مَن ملك الخدم والحشم من بني آدم { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } من فلق البحر لكم ، وإغراق عدوِّكم ، والمنِّ والسَّلوى ، وغير ذلك .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدَّسة } المطهَّرة . يعني : الشَّام ، وذلك أنَّها طُهِّرت من الشِّرك ، وجُعلت مسكناً للأنبياء { التي كتب الله لكم } أمركم الله بدخولها { ولا ترتدوا على أدباركم } لا ترجعوا إلى دينكم الشِّركِ بالله .
{ قالوا يا موسى إنَّ فيها قوماً جبارين } طوالاً ذوي قوَّة ، وكانوا من بقايا عادٍ يقال لهم العمالقة .
{ قال رجلان } هما يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا { من الذين يخافون } اللَّهَ في مخالفة أمره { أنعم الله عليهما } بالفضل واليقين { ادخلوا عليهم الباب . . . } الآية ، وإنَّما قالا ذلك تيقُّناً بنصر الله ، وإنجاز وعده لنبيِّه ، فخالفوا نبيَّهم وعصوا أمر الله ، وأتوا من القول بما فسقوا به ، وهو قوله :
{ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } فقال موسى عند ذلك :
{ لا أملك إلاَّ نفسي وأخي } يقول : لم يُطعني منهم إلاَّ نفسي وأخي { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فاقض بيننا وبين القوم العاصين ، فحرَّم الله على الذين عصوا دخول القرية ، وحبسهم في التِّيه أربعين سنةً حتى ماتوا ، ولم يدخلها أحدٌ من هؤلاء ، وإنَّما دخلها أولادهم ، وهو قوله :
{ فإنها محرَّمة عليهم . . . } الآية . وقوله : { يتيهون في الأرض } يتحيَّرون فلا يهتدون للخروج منها { فلا تأس على القوم الفاسقين } لا تحزن على عذابهم .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{ واتل عليهم } يعني : على قومك { نبأ } خبر { ابني آدم } هابيل وقابيل { إذ قرَّبا قرباناً } تقرَّب إلى الله هابيل بخيرِ كبشٍ في غنمه ، فنزلت من السَّماء نارٌ فاحتملته ، فهو الكبش الذي فُدي به إسماعيل ، وتقرَّب إلى الله قابيل بأردأ ما كان عنده من القمح ، وكان صاحب زرع ، فلم تحمل النَّار قربانه ، والقربان : اسمٌ لكلِّ ما يُتقرَّب به إلى الله ، فقال الذي لم يُتقبَّلْْ منه : { لأقتلنك } حسداً له ، فقال هابيل : { إنما يتقبل الله من المتقين } للمعاصي [ لا من العاصين ] .
{ لئن بَسَطتَ إليَّ يدك } لئن بدأتني بالقتل فما أنا بالذي أبدؤك بالقتل { إني أخاف الله } في قتلك .
{ إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } أَنْ تحتمل إثم قتلي وإثم الذي كان منك قبل قتلي .
{ فَطَوَّعَتْ له نفسه قتل أخيه } سهَّلته وزيَّنت له ذلك { فقتله فأصبح من الخاسرين } خسر دنياه بإسخاط والديه ، وآخرته بسخط الله عليه ، فلمَّا قتله لم يدرِ ما يصنع به؛ لأنَّه كان أوَّل ميِّت على وجه الأرض من بني آدم ، فحمله في جرابٍ على ظهره .
{ فبعث الله غراباً يبحث في الأرض } يثير التُّراب من الأرض على غرابٍ ميِّتٍ { ليريه كيف يواري } يستر { سوءة } جيفة { أخيه } فلمَّا رأى ذلك قال : { يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فَأُوَارِيَ سوءة أخي فأصبح من النادمين } على حمله والتَّطوف به .
{ من أجل ذلك } من سبب ذلك الذي فعل قابيل { كتبنا } فرضنا { على بني إسرائيل أنَّه مَنْ قتل نفساً بغير نفسٍ } بغير قَوَدٍ { أو فسادٍ } شركٍ { في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } يُقتل كما لو قتلهم جميعاً ، ويصلى النَّار كما يصلاها لو قتلهم { ومَن أحياها } حرَّمها وتورَّع عن قتلها { فكأنما أحيا الناس جميعاً } لسلامتهم منه؛ لأنَّه لا يستحلُّ دماءهم { ولقد جاءتهم } يعني : بني إسرائيل { رسلنا بالبينات } بأنَّ لهم صدق ما جاؤوهم به { ثم إنَّ كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } أَيْ : مجاوزون حدَّ الحقِّ .
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } أَيْ : يعصونهما ولا يطيعونهما . يعني : الخارجين على الإِمام وعلى الأمَّة بالسَّيف . نزلت هذه الآية في قصة العُرَنيين ، وهي معروفةٌ ، تعليماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة مَن فعل مثل فعلهم ، وقوله : { ويسعون في الأرض فساداً } بالقتل وأخذ الأموال { أن يقتلوا أو يصلبوا أن تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } معنى " أو " ها هنا الإِباحة ، فاللإِمام أن يفعل ما أراد من هذه الأشياء ، ومعنى النَّفي من الأرض الحبسُ في السِّجن؛ لأنَّ المسجون بمنزلة المُخرج من الدُّنيا { ذلك لهم خزي } هوانٌ وفضيحةٌ { في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهذا للكفَّار الذين نزلت فيهم الآية؛ لأنَّ العُرنيين ارتدُّوا عن الدِّين ، والمسلم إذا عوقب في الدُّنيا بجنايته صارت مكفَّرةً عنه .
{ إلاَّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } آمنوا من قبل أن تعاقبوهم فالله غفورٌ رحيمٌ لهم . هذا في المشرك المحارب إذا آمن قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود ، فأمَّا المسلم المحارب إذا تاب واستأمن قبل القدرة عليه سقط عنه حدود الله ، ولا تسقط حقوق بني آدم .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا } عقاب { الله } بالطَّاعة { وابتغوا إليه الوسيلة } تقرَّبوا إليه بطاعته { وجاهدوا } العدوَّ { في سبيله } في طاعته { لعلكم تفلحون } كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة .
{ إنَّ الذين كفروا . . . } الآية . ظاهرة .
{ يريدون } يتمنَّون بقلوبهم { أن يخرجوا من النار } .
{ والسارق والسارقةُ فاقطعوا أيديهما } يمينَ هذا ويمين هذه ، فجمع { جَزَاءً بما كسبا } أَيْ : بجزاء فعلهما { نكالاً } عقوبةً { من الله والله عزيز } في انتقامه { حكيم } فيما أوجب من القطع .
{ فمن تاب من بعد ظلمه } النَّاس { وأصلح } العمل بعد السَّرقة { فإنَّ الله يتوب عليه } يعود عليه بالرَّحمة .
{ ألم تعلم أنَّ الله له ملك السموات والأرض يعذب مَنْ يشاء } على الذَّنب الصَّغير { ويغفر لمن يشاء } الذَّنب العظيم .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } إذ كنت موعودَ النَّصر عليهم ، وهم المنافقون ، وبان لهم ذلك بقوله : { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون } أَيْ : فريقٌ سمَّاعون { للكذب } يسمعون منك ليكذبوا عليك ، فيقولون : سمعنا منه كذا وكذا لما لمْ يسمعوا { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أَيْ : هم عيونٌ لأولئك الغُيَّب ينقلون إليهم أخبارك { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } من بعد أن وضعه الله مواضعه . يعني : آية الرَّجم . { يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه } يعني : يهود خيبر بالجلد ، وهم الذين ذكروا في قوله : { لقوم آخرين لم يأتوك } وذلك أنَّهم بعثوا إلى قريظة ليستفتوا محمداً صلى الله عليه وسلم في الزَّانيين المحصنين ، وقالوا لهم : إنْ أفتى بالجلد فاقبلوا ، وإن أفتى بالرَّجم فلا تقبلوا ، فذلك قوله : { إن أوتيتم هذا } يعني : الجلد { فخذوه } فاقبلوه { وإن لم تؤتوه فاحذروا } أن تعملوا به { ومن يرد الله فتنته } ضلالته وكفره { فلن تملك له من الله شيئاً } لن تدفع عنه عذاب الله { أولئك الذين } أَيْ : مَنْ أراد الله فتنته فهم الذين { لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أن يُخلِّص نيَّاتهم { لهم في الدنيا خزيٌ } بهتك ستورهم { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو النَّار .
{ سماعون للكذب أكالون للسحت } وهو الرِّشوة في الحكم . يعني : حكَّام اليهود ، يسمعون الكذب ممَّنْ يأتيهم مُبطلاً ، ويأخذون الرِّشوة منه فيأكلونها { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } خيَّر الله نبيَّه في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه ، ثمَّ نسخ ذلك بقوله : { وأن احكم بينهم . . . } الآية .
{ وكيف يحكمونك } عجَّب الله نبيَّه عليه السَّلام من تحكيم اليهود إيَّاه بعد علمهم بما في التَّوراة من حكم الزَّاني وحدِّه ، وقوله : { فيها حكم الله } يعني : الرَّجم { ثمَّ يتولون من بعد ذلك } التَّحكيم فلا يقبلون حكمك بالرَّجم { وما أولئك } الذين يُعرِضون عن الرَّجم { بالمؤمنين } .
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً } بيان الحكم الذي جاؤوك يستفتونك فيه { ونور } بيانٌ إنَّ أمرك حَقٌّ { يحكم بها النبيون } من لدن موسى إلى عيسى ، وهم { الذين أسلموا } أَي : انقادوا لحكم التَّوراة { للذين هادوا } تابوا من الكفر ، وهم بنو إسرائيل إلى زمن عيسى { والربانيون } العلماء { والأحبار } الفقهاء { بما استحفظوا } استرعوا [ أَيْ : بما كُلِّفُوا حفظه من كتاب الله . وقيل : العمل بما فيه ، وذلك حفظه ] { من كتاب الله وكانوا عليه شهداء } أنَّه من عند الله ، ثمَّ خاطب اليهود فقال : { فلا تخشوا الناس } في إظهار صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم والرَّجم { واخشون } في كتمان ذلك { ولا تشتروا بآياتي } بأحكامي وفرائضي { ثمناً قليلاً } يريد : متاع الدُّنيا { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نزلت في مَنْ غيرَّ حكم الله من اليهود ، وليس في أهل الإسلام منها ومن اللتين بعدها شيءٌ .
{ وكتبنا عليهم فيها } وفرضنا عليهم في التَّوراة { أنَّ النفس } تُقتل { بالنفس ، والعين بالعين . . . } الآية . كلُّ شخصين جرى القصاص بينهما في النَّفس جرى القصاص بينهما في جميع الأعضاء والأطراف إذا تماثلا في السَّلامة ، وقوله : { والجروح قصاص } في كلِّ ما يمكن أن يُقتصَّ فيه ، مثل الشَّفتين ، والذَّكَر ، والأُنثيين ، والأليتين ، والقدمين ، واليدين ، وهذا تعميمٌ بعد التَّفصيل بقوله : { العين بالعين والأنف بالأنف } . { فمن تصدَّق به فهو كفارة له } مَنْ عفا وترك القصاص فهو مغفرةٌ له عند الله ، وثواب عظيم .
{ وقفينا على آثارهم بعيسى } أَيْ : جعلناه يقفو آثار النَّبيِّين . يعني : بعثناه بعدهم على آثارهم { مصدقاً لما بين يديه من التوراة } يُصدِّق أحكامها ويدعو إليها { وآتيناه الإِنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة } معناه : وهادياً وواعظاً .
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{ وليحكم أهل الإِنجيل } أَيْ : وقلنا لهم : ليحكموا بهذا الكتاب في ذلك الوقت .
{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } أَيْ : شاهداً وأميناً ، [ وحفيظاً ورقيباً ] على الكتب التي قبله ، فما أخبر أهل الكتاب بأمرٍ؛ فإنْ كان في القرآن فصدِّقوا ، وإلأَّ فكذِّبوا { فاحكم بينهم } بين اليهود { بما أنزل الله } بالقرآن والرَّجم { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } يقول : لا تتَّبعهم عمَّا عندك من الحقِّ ، فتتركه وتتَّبعهم { لكلٍّ جعلنا منكم } من أُمَّة موسى وعيسى ومحمَّد صلَّى الله عليهم أجمعين { شرعة ومنهاجاً } سبيلاً وسنَّة ، فللتَّوراة شريعة ، وللإِنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } على أمرٍ واحدٍ ملَّة الإِسلام { ولكن ليبلوكم } ليختبركم { فيما آتاكم } أعطاكم من الكتاب والسُّنن { فاستبقوا الخيرات } سارعوا إلى الأعمال الصَّالحة [ الزَّاكية ] { إلى الله مرجعكم جميعاً } أنتم وأهل الكتاب { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } من الدِّين والفرائض والسُّنن . يعني : إنَّ الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الشُّكوك بما يحصل من اليقين .
{ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أَيْ : يَسْتَزِلُّوكَ عن الحقِّ إلى أهوائهم . نزلت حين قال رؤساء اليهود بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى محمد لعلَّنا نفتنه ، فنزدَّه عمَّا هو عليه ، فأتوه وقالوا له : قد علمت أنَّا إن اتَّبعناك اتَّبعك النَّاس ، ولنا خصومةٌ فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك ، ونحن نؤمن بك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله هذه الآية : { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } [ أي : فإن أعرضوا عن الإِيمان ، والحكم بالقرآن فاعلم أنَّ ذلك من أجل أنَّ الله يريد أن يعجِّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم ] ويجازيهم في الآخرة بجميعها ، ثمَّ كان تعذيبهم في الدُّنيا الجلاء والنَّفي { وإنَّ كثيراً من الناس لفاسقون } يعني : اليهود .
{ أفحكم الجاهلية يبغون } أَيْ : أيطلب اليهود في الزَّانيين حكماً لم يأمر الله به ، وهم أهل كتاب ، كما فعل أهل الجاهليَّة؟! { ومَنْ أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } أَي : مَنْ أيقن تبيَّن عدل الله في حكمه ، ثمَّ نهى المؤمنين عن موالاة اليهود ، وأوعد عليها بقوله :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . . } الآية .
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{ فترى الذين في قلوبهم مرض } يعني : عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه { يسارعون فيهم } في مودَّة أهل الكتاب ومعاونتهم على المسلمين بإلقاء أخبارهم إليهم { يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة } أَيْ : يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها . يعنون : الجدب فتنقطع عنا الميرة والقرض { فعسى الله أن يأتي بالفتح } يعني : لمحمدٍ على جميع مَنْ خالفه { أو أمرٍ من عنده } بقتل المنافقين ، وهتك سترهم { فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم } يعني : أهل النِّفاق على ما أضمروا من ولاية اليهود ، ودسِّ الأخبار إليهم { نادمين } .
{ ويقول الذين آمنوا } المؤمنون إذا هتك الله ستر المنافقين : { أهؤلاء } يعنون : المنافقين { الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } حلفوا بأغلظ الأيمان { إنهم لمعكم } إنَّهم مؤمنون وأعوانكم على مَنْ خالفكم { حبطت أعمالهم } بطل كلُّ خيرٍ عملوه بكفرهم { فأصبحوا خاسرين } صاروا إلى النَّار ، وورث المؤمنون منازلهم من الجنَّة .
{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } علم الله تعالى أنَّ قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، فأخبرهم تعالى أنَّه س { يأتي اللَّهُ بقوم يحبهم ويحبونه } وهم أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرِّدة { أذلة على المؤمنين } كالولد لوالده ، والعبد لسيِّده { أعزة على الكافرين } غلاظٍ عليهم ، كالسَّبع على فريسته { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } كالمنافقين الذين كانوا يرقبون الكافرين ، ويخافون لومهم في نصرة الدِّين { ذلك فضل الله } أَيْ : محبَّتهم لله عزَّ وجلَّ ، ولين جانبهم للمسلمين ، وشدَّتهم على الكفَّار بفضلٍ من الله عليهم .
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
{ إنما وليكم الله ورسوله } نزلت لمَّا هجر اليهود مَنْ أسلم منهم ، فقال عبد الله بن سلام : يا رسول الله ، إنَّ قومنا قد هجرونا ، وأقسموا ألا يجالسونا ، فنزلت هذه الآية ، فقال : رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء ، وقوله : { وهم راكعون } يعني : صلاة التَّطوع .
{ ومن يَتَوَلَّ الله ورسوله } يتولَّى القيام بطاعته ونصرة رسوله والمؤمنين { فإنَّ حزب الله } جند الله وأنصار دينه { هم الغالبون } غلبوا اليهود فأجلوهم من ديارهم ، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولَّوا اللَّهَ ورسوله .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا . . . } الآية . نزلت في رجالٍ كانوا يوادُّون منافقي اليهود ، ومعنى قوله : { اتَّخذوا دينكم هزواً ولعباً } إظهارهم ذلك باللِّسان ، واستبطانهم الكفر تلاعباً واستهزاءً { والكفار } يعني : مشركي العرب وكفَّار مكَّة { واتقوا الله } فلا تتَّخذوا منهم أولياء { إن كنتم مؤمنين } بوعده ووعيده .
{ وإذا ناديتم إلى الصلاة } دعوتم النَّاس إليها بالأذان { اتخذوها هزواً ولعباً } تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السُّخف والمجون تجهيلاً لأهلها { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } ما لهم في إجابتها لو أجابوا إليها ، وما عليهم في استهزائهم بها .
{ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا . . . } الآية . [ أي : هل تنكرون وتكرهون ] . أتي نفرٌ من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمَّن يُؤمن به من الرُّسل؟ فقال : " أؤمنُ بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون " ، فلمَّا ذكر عيسى جحدوا نبوَّته ، وقالوا : ما نعلم ديناً شرَّاً من دينكم ، فأنزل الله تعالى : { هل تنقمون } أَي : هل تكرهون وتنكرون منا إلاَّ إيماننا وفسقكم ، أَيْ : إنَّما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حقٍّ ، لأنَّكم قد فسقتم ، بأن أقمتم على دينكم لمحبَّتكم الرِّئاسة ، وكسبكم بها الأموال ، وتقدير قوله : { وأنًّ أكثركم فاسقون } ولأنَّ أكثركم ، والواو زائدةٌ ، والمعنى : لفسقكم نقمتم علينا الإِيمان ، قوله :
{ قل هل أنبئكم } أخبركم ، جوابٌ لقول اليهود : ما نعرف أهل دين شراً منكم ، فقال الله : { هل أنبئكم } أخبركم { بشرٍّ من } ذلكم المسلمين الذين طعنتم عليهم { مثوبة } جزاءً وثواباً { عند الله؟ مَنْ لعنه الله } أَيْ : هو مَنْ لعنه الله : أبعده عن رحمته { وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } يعني : أصحاب السَّبت { وعبد الطاغوت } [ نسقٌ على { لعنه الله } وعبد الطاغوت : ] أطاع الشَّيطان فيما سوَّله له . { أولئك شر مكاناً } لأنَّ مكانهم سَقَر { وأضل عن سواء السبيل } قصد الطَّريق ، وهو دين الحنيفيَّة ، فلمَّا نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود ، وقالوا : يا إخوان القردة والخنازير ، فسكتوا وافتضحوا .
{ وإذا جاؤوكم قالوا آمنا } يعني : منافقي اليهود { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } أَيْ : دخلوا وخرجوا كافرين ، والكفر معهم في كِلْتي حالهم .
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{ وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان } يجترئون على الخطأ والظُّلم ، ويبادرون إليه { وأكلهم السُّحت } ما كانوا يأخذونه من الرَّشا على كتمان الحقِّ ، ثمَّ ذمَّ فعلهم بقوله : { لبئس ما كانوا يعملون } .
{ لولا } [ هلاَّ ] { ينهاهم } عن قبح فعلهم { الربانيون والأحبار } علماؤهم وفقهاؤهم { لبئس ما كانوا يصنعون } حين تركوا النَّكير عليهم .
{ وقالت اليهود يد الله مغلولة } مقبوضةٌ عن العطاء وإسباغ النِّعم علينا . قالوا هذا حين كفَّ الله تعالى عنهم بكفرهم بمحمَّد عليه السَّلام ما كان يسلِّط عليهم من الخِصب والنِّعمة ، فقالوا - لعنهم الله على جهة الوصف بالبخل - : { يد الله مغلولة } وقوله : { غلت أيديهم } أَيْ : جعلوا بخلاء وأُلزموا البخل ، فهم أبخل قوم { ولعنوا بما قالوا } عُذِّبوا في الدُّنيا بالجِزية [ والذلَّة والصَّغار ، والقحط والجلاء ] ، وفي الآخرة بالنَّار { بل يداه مبسوطتان } قيل : معناه : الوصف بالمبالغة في الجود والإِنعام . وقيل : معناه : نِعمُه مبسوطةٌ ، ودلَّت التَّثنية على الكثرة ، كقولهم : [ لبيك وسعديك ] . وقيل : نعمتاه ، أَيْ : نعمة الدُّنيا ، ونعمة الآخرة { مبسوطتان ينفق كيف يشاء } يرزق كما يريد؛ إن شاء قتَّر ، وإنْ شاء وسَّع { وليزيدَّن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً } كلَّما أنزل عليك شيءٌ من القرآن كفروا به ، فيزيد كفرهم { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } بين طوائف اليهود ، وجعلهم الله مختلفين متباغضين ، كما قال : { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى } { كلما أَوْقَدُوا ناراً للحرب أطفأها الله } كلَّما أرادوا محاربتك ردَّهم الله ، وألزمهم الخوف { ويسعون في الأرض فساداً } يعني : يجتهدون في دفع الإِسلام ، ومحو ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كتبهم .
{ ولو أنَّ أهل الكتاب آمنوا } بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { واتقوا } اليهوديَّة والنصرانيَّة { لكفَّرنا عنهم سيئاتهم } كلَّ ما صنعوا قبل أن تأتيهم .
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإِنجيل } عملوا بما فيهما من التَّصديق بك { وما أنزل إليهم } من كتب أنبيائهم { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } لأنزلتُ عليهم القطر ، وأخرجتُ لهم من نبات الأرض كلَّما أرادوا { منهم أمة مقتصدة } مؤمنةٌ .
{ يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك } أَيْ : لا تراقبنَّ أحداً ، ولا تتركنَّ شيئاً ممَّا أُنزل إليك تخوُّفاً مِنْ أَنْ ينالك مكروهٌ . بلِّغ الجميع مجاهراً به { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } إنْ كتمت آية ممَّا أنزلتُ إليك لم تبلِّغ رسالتي . يعني : إنَّه إنْ ترك بلاغ البعض كان كمَنْ لم يُبلِّغ { والله يعصمك من الناس } أن ينالوك بسوء . قال المفسرون : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفَّار ، وكان لا يُجاهرهم بعيب دينهم وسبِّ آلهتهم ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك } فقال : يا ربِّ ، كيف أصنع وأنا واحدٌ أخاف أن يجتمعوا عليَّ؟ فأنزل الله تعالى : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين } لا يرشد مَنْ كذَّبك .
{ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء } من الدِّين { حتى تُقيموا } حتى تعملوا بما في الكتابين من الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته ، وباقي الآية مضى تفسيره إلى قوله : { فلا تأس على القوم الكافرين } يقول : لا تحزن على أهل الكتاب إنْ كذَّبوك .
{ إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا } سبق تفسيره في سورة البقرة .
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{ وحسبوا ألا تكون فتنة } ظنُّوا وقدَّروا إلا تقع بهم عقوبة ، وعذابٌ في الإِصرار على الكفر بقتل الأنبياء ، وتكذيب الرُّسل { فعموا وصموا } عن الهدى فلم يعقلوه { ثمَّ تاب الله عليهم } بإرساله محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الصِّراط المستقيم { ثمَّ عموا وصموا كثيرٌ منهم } بعد تبيُّن الحقِّ لهم بمحمَّد عليه السَّلام { والله بصيرٌ بما يعملون } من قتل الأنبياء وتكذيب الرُّسل .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{ لقد كفر الذين قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثة } أَيْ : ثالث ثلاثةٍ من الآلهة ، والمعنى : أنَّهم قالوا : اللَّهُ واحدُ ثلاثةِ آلهة : هو ، والمسيح ، ومريم؛ فزعموا أنَّ الإِلهيَّة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة ، فكفروا بذلك .
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
{ ما المسيحُ ابن مريم إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل } أَيْ : إنَّه رسولٌ ليس بإلهٍ ، كما أنَّ مَنْ قبله كانوا رسلاً { وأمه صديقة } صدَّقت بكلمات ربِّها وكتبه { كانا يأكلان الطعام } يريد : هما لحمٌ ودمٌ يأكلان ويشربان ، ويبولان ويتغوَّطان ، وهذه ليست من أوصاف الإِلهيَّة { انظر كيف نبيِّن لهم الآيات } نفسِّر لهم أمر ربوبيتي { ثم انظر أنى يؤفكون } يُصرفون عن الحقِّ الذي يؤدِّي إليه تدبُّر الآيات .
{ قل } للنَّصارى : { أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً } يعني : المسيح؛ لأنَّه لا يملك ذلك إلاَّ الله عزَّ وجلَّ { والله هو السميع } لكفركم { العليم } بضميركم .
{ قل يا أهل الكتاب } يعني : اليهود والنَّصارى { لا تغلوا في دينكم } لا تخرجوا عن الحدِّ في عيسى ، وغُلوُّ اليهود فيه بتكذيبهم إيَّاه ، ونسبته إلى أنَّه لغير رِشدة ، وغُلوُّ النصارى فيه ادِّعاؤهم الإِلهيَّة له ، قوله : { غير الحق } أَيْ : مخالفين للحق { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } يعني : رؤساءهم الذين مضوا من الفريقين : أَيْ : لا تتبعوا أسلافكم فيما ابتدعوه بأهوائهم { وضلوا عن سواء السبيل } عن قصد الطَّريق بإضلالهم الكثير .
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل } يعني : أصحاب السَّبت ، وأصحاب المائدة { على لسان داود } لأنَّهم لمَّا اعتدوا قال داود عليه السَّلام : اللَّهم العنهم واجعلهم آيةً لخلقك ، فمسخوا قردة [ على لسان داود ] { وعيسى ابن مريم } عليه السَّلام؛ لأنَّه لعن مَنْ لم يؤمن من أصحاب المائدة ، فقال : اللهم العنهم كما لعنتَ السَّبت ، فمسخوا خنازير .
{ كانوا لا يتناهون } لا ينتهون { عن منكر فعلوه } .
{ ترى كثيراً منهم } من اليهود { يتولون الذين كفروا } كفَّار مكة { لبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم } بئسما قدَّموا من العمل لمعادهم في الآخرة سُخطَ الله عليهم .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
{ لتجدنَّ } يا محمد { أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } وذلك أنَّهم ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيِّ عليه السَّلام { ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } يعني : النَّجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى الله وعليه وسلم وآمنوا به ، ولم يرد جميع النَّصارى { ذلك } [ يعني : قرب المودَّة ] { بأنَّ منهم قسيسين ورهباناً } أَيْ : علماء بوصاة عيسى بالإِيمان بمحمَّد عليه السَّلام { وأنهم لا يستكبرون } عن اتِّباع الحقِّ كما يستكبر اليهود وعبدة الأوثان .
{ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } يعني : النجاشيَّ وأصحابه ، قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة { كهعيص } فما زالوا يبكون ، وهو قوله : { ترى أعينهم تَفيضُ من الدمع ممَّا عرفوا من الحق } يريد : الذي نزل على محمَّد وهو الحقُّ { يقولون ربنا آمنا } وصدَّقنا { فاكتبنا مع الشاهدين } مع أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحقِّ .
{ ومالنا لا نؤمن بالله } أَيْ : أيُّ شيءٍ لنا إذا تركنا الإِيمان بالله { وما جاءنا من الحق } أَيْ : القرآن { و } نحن { نطمع أن يدخلنا ربنا } الجنَّة مع أمَّة محمَّد عليه السَّلام . يعنون : أنَّهم لا شيء لهم إذا لم يؤمنوا بالقرآن ، ولا يتحقق طمعهم في دخول الجنَّة .
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
{ فأثابهم الله بما قالوا } يعني : بما سألوا الله من قولهم : { فاكتبنا مع الشاهدين } وقولهم : { ونطمع أن يدخلنا ربنا . . . } الآية . { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك } [ أي : الثَّواب ] { جزاء المحسنين } الموحِّدين ، ثمَّ ذكر الوعيد لمَنْ كفر من أهل الكتاب وغيرهم ، فقال :
{ والذين كفروا وكَذَّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلَّ الله لكم } هم قومٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم تعاهدوا أن يحرِّموا على أنفسهم المطاعم الطَّيِّبة ، وأن يصوموا النَّهار ويقوموا اللَّيل ، ويُخْصُوا أنفسهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وسمَّى الخِصاء اعتداءً ، فلمَّا نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، إنَّا كنَّا قد حلفنا على ذلك .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وفسَّرْنا هذا في سورة البقرة { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وهو أن يقصد الأمر ، فيحلف بالله ويعقد عليه اليمين بالقلب متعمِّداً { فكفارته } إذا حنثتم { إطعام عشرة مساكين } لكلِّ مسكين مدٌّ ، وهو [ رطلٌ وثلث ، ] وهو قوله : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } لأنَّ هذا القدر وسط في الشِّبع . وقيل : من خير ما تطعمون أهليكم ، كالحنطة والتمر { أو كسوتهم } وهو أقلُّ ما يقع عليه اسم الكسوة من إزارٍ ، ورداءٍ ، وقميصٍ { أو تحرير رقبة } يعني : مؤمنة ، والمُكفِّر في اليمين مُخيَّر بين هذه الثَّلاث { فمن لم يجد } يعني : لم يفضل من قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم عشرة مساكين { ف } عليه { صيام ثلاثة أيام } { واحفظوا أيمانكم } فلا تحلفوا ، واحفظوها عن الحنث .
{ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر } يعني : الأشربة التي تخمَّر حتى تشتدَّ وتُسْكِر { والميسر } القمار بجميع أنواعه { والأنصاب } الأوثان { والأزلام } قداح الاستقسام التي ذُكرت في أوَّل السُّورة { رجسٌ } قذرٌ قبيحٌ { من عمل الشيطان } ممَّا يسِّوله الشِّيطان لبني آدم { فاجتنبوه } كونوا جانباً منه .
{ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } وذلك لما يحصل بين أهلها من العداوة والمقابح ، والإِقدام على ما يمنع منه العقل { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } لأنَّ مَن اشتغل بهما منعاه عن ذكر الله والصَّلاة { فهل أنتم منتهون } [ استفهامٌ بمعنى الأمر ] قالوا : انتهينا ، ثمَّ أمر بالطَّاعة .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } المحارم والمناهي { فإن توليتم } عن الطَّاعة { فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } فليس عليه إلاَّ البلاغ ، فإن أطعتم وإلاَّ استحققتم العقاب ، فلمَّا نزل تحريم الخمر قالوا : يا رسول الله ، ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربونها ، ويأكلون الميسر؟ فنزل :
{ ليس على الذين آمنوا وعلموا الصالحات جناح فيما طعموا } من الخمر والميسر قبل التحريم { إذا ما اتقوا } المعاصي والشِّرك { ثمَّ اتقوا } داموا على تقواهم { ثم اتقوا } ظلم العباد من ضمِّ الإِحسان إليه .
{ يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } كان هذا عام الحديبية ، كانت الوحش والطيَّر تغشاهم في رحالهم كثيرة ، وهم مُحْرِمون ابتلاءً من الله تعالى . { تناله أيديكم } يعني : الفراخ والصِّغار { ورماحكم } يعني : الكبار { ليعلم الله } ليرى الله { مَنْ يخافه بالغيب } أَيْ : مَنْ يخاف الله ولم يره { فمن اعتدى } ظلم بأخذ الصَّيد { بعد ذلك } بعد النَّهي { فله عذابٌ إليم } .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } حرَّم الله قتل الصَّيد على المُحْرِم ، فليس له أن يتعرَّض للصَّيد بوجهٍ من الوجوه ما دام مُحرماً { ومَنْ قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } أَيْ : فعليه جزاءٌ مماثل للمقتول من النَّعم في الخِلقة ، ففي النَّعامة بدنة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي الضَّبع كبش ، على هذا التَّقدير { يحكم به ذوا عدل } يحكم في الصَّيد بالجزاء رجلان صالحان { منكم } من أهل [ ملَّتكم ] فينظران إلى أشبه الأشياء به من النَّعم ، فيحكمان به { هدياً بالغ الكعبة } أَيْ : إذا أتى مكة ذبحه ، وتصدَّق به { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك } أَيْ : مثل ذلك { صياماً } والمُحرِم إذا قتل صيداً كان مخيَّراً؛ إن شاء جزاه بمثله من النَّعم؛ وإن شاء قوَّم المثل دراهم ، ثمَّ الدراهم طعاماً ، ثمَّ يتصَّدق به ، وإن شاء صام عن كلِّ مدٍّ يوماً { ليذوق وبال أمره } جزاء ما صنع { عفا الله عما سلف } قبل التَّحريم { ومن عاد فينتقم الله منه } مَنْ عاد إلى قتل الصَّيد مُحرماً حُكم عليه ثانياً ، وهو بصدد الوعيد { والله عزيز } منيع { ذو انتقام } من أهل معصيته .
{ أحلَّ لكم صيد البحر } ما أُصيب من داخله ، وهذا الإِحلالُ عامٌّ لكلِّ أحد مُحرِماً كان أو مُحِلاًّ { وطعامه } وهو ما نضب عنه الماء ولم يُصَد { متاعاً لكم وللسيارة } منفعة للمقيم والمسافر ، يبيعون ويتزوَّدون منه ، ثمَّ أعاد تحريم الصَّيد في حال الإِحرام ، فقال : { وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً واتقوا الله الذي إليه تحشرون } خافوا الله الذي إليه تبعثون .
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{ جعل الله الكعبة البيت الحرام } يعني : البيت الذي حرَّم أن يصاد عنده ، ويختلى للحجِّ وقضاء النُّسك { والشهر الحرام } يعني : الأشهر الحرم ، فذكر بلفظ الجنس { والهدي والقلائد } ذكرناه في أولَّ السورة ، وهذه الجملة ذُكرت بعد ذكر البيت؛ لأنَّها من أسباب الحج فذكرت معه { ذلك } أَيْ : ذلك الذي أنبأتكم به في هذه السُّورة من أخبار الأنبياء ، وأحوال المنافقين واليهود ، وغير ذلك { لتعلموا أنَّ الله يعلم ما في السموات . . . } الآية . أَيْ : يدلُّكم ذلك على أن لا يخفى عليه شيء .
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب } أَيْ : الحرام والحلال { ولو أعجبك كثرة الخبيث } وذلك أنَّ أهل الدُّنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدُّنيا .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم } نزلت حين " سُئل النبيُّ حتى أحفوه بالمسألة ، فقام مُغضباً خطيباً ، وقال : لا تسألوني في مقامي هذا عن شيء إلاَّ أخبرتكموه ، فقام رجلٌ من بني سهم يُطعن في نسبه فقال : مَنْ أبي؟ فقال : أبوك حذافة ، وقام آخر فقال : أين أنا؟ فقال : في النَّار " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونهاهم أن يسألوه عمَّا يُحزنهم جوابه وإبداؤه ، كسؤالِ مَنْ سأل عن موضعه ، فقال : في النَّار ، { وإن تسألوا عنها } أيْ : عن أشياء { حين ينزل القرآن } فيها { تُبدَ لكم } يعني : ما ينزل فيه القرآن من فرضٍ ، أو نهيٍ ، أو حكمٍ ، ومسَّت الحاجة إلى بيانه ، فإذا سالتم عنها حينئذٍ تبدى لكم . { عفا الله عنها } أَيْ : عن مسألتكم ممَّا كرهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا حاجة بكم إلى بيانه . نهاهم أن يعودوا إلى مثل ذلك ، وأخبر أنَّه عفا عمَّا فعلوا { والله غفورٌ حليم } لا يعجل بالعقوبة ، ثمَّ أخبرهم عن حال مَنْ تكلَّف سؤال ما لم يُكلَّفوا .
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{ قد سألها } أَي : الآيات { قومٌ من قبلكم . . . } الآية . يعني : قوم عيسى سألوا المائدة ثمَّ كفروا بها ، وقوم صالح سألوا النَّاقة ثمَّ عقروها .
{ ما جعل الله من بحيرة } أَيْ : ما أوجبها ولا أمر بها ، والبحيرة : النَّاقة إذا نُتجت خمسة أبطن شقُّوا أُذنها ، وامتنعوا من ركوبها وذبحها { ولا سائبة } هو ما كانوا يُسيبِّونه لآلهتهم في نذرٍ يلزمهم إنْ شفي مريض ، أو قضيت لهم حاجة { ولا وصيلة } كانت الشَّاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم ، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذَّكر لآلهتهم { ولا حامٍ } إذا نُتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره ، فلم يُركب ولم يُنتفع ، وسيِّب لأصنامهم فلا يُحمل عليه { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } يتقوَّلون على الله الأباطيل في تحريم هذه الأنعام ، وهم جعلوها مُحرَّمة لا الله ، { وأكثرهم } يعني : أتباع رؤسائهم الذين سنُّوا لهم تحريم هذه الأنعام ، { لا يعقلون } أنَّ ذلك كذبٌ وافتراءٌ على الله من الرُّؤساء .
{ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله } في القرآن من تحليل ما حرَّمتم { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } من الدِّين { أَوَلوْ كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون } مفسَّرة في سورة البقرة .
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } احفظوها من ملابسة المعاصي والإِصرار على الذّنوب { لا يضرُّكم مَنْ ضلَّ } من أهل الكتاب { إذا اهتديتم } أنتم { إلى الله مرجعكم جميعاً } مصيركم ومصير مَنْ خالفكم ، { فينبئكم بما كنتم تعملون } يُجازيكم بأعمالكم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } نزلت هذه الآيات في قصّة تميمٍ وعديٍّ وبُديلٍ ، خرجوا تجاراً إلى الشَّام ، فمرض بُديل ودفع إليهما متاعه ، وأَوصى إليهما أن يدفعاه إلى أهله إذا رجعا ، فأخذا من متاعه إناءً من فِضَّة ، وردَّا الباقي إلى أهله فعلموا بخيانتهما ورفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، ومعنى الآية : ليشهدكم { إذا حضر أحدكم الموت } وأردتم الوصية { اثنان ذوا عدل منكم } من أهل ملَّتكم تشهدونهما على الوصية { أو آخران من غيركم } من غير دينكم إذا { ضربتم } سافرتم { في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } علم الله أنَّ من النَّاس مَنْ يسافر فيصحبُهُ في سفره أهل الكتاب دون المسلمين ، ويحضره الموت فلا يجد مَنْ يُشهده على وصيته من المسلمين ، فقال : { أو آخران من غيركم } فالذِّميان في السَّفر [ خاصَّة ] إذا لم يوجد غيرهما [ تُقبل شهادتهما في ذلك ] ، وقوله : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتُمْ لا نشتري به ثمناً } أَيْ : أن ارتبتم في شهادتهما وشككتم ، وخشيتم أن يكونا قد خانا حبستموهما على اليمين بعد صلاة العصر ، فيحلفان بالله ويقولان في يمينهما : لا نبيع الله بعرضٍ من الدُّنيا ، ولا نُحابي أحداً في شهادتنا { ولو كان ذا قربى } ولو كان المشهود له ذا قربى { ولا نكتم شهادة الله } أَيْ : الشَّهادة التي أمر الله بإقامتها { إنا إذاً لمن الآثمين } إنْ كتمناها ، ولمًّا رفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما ، وذلك أنَّهما كانا نصرانيين ، وبُديل كان مسلماً ، فحلفا أنَّهما ما قبضا غير ما دفعا إلى الورثة ، ولا كتما شيئاً ، وخلَّى سبيلهما ثمَّ اطُّلِع على الإِناء في أيديهما ، فقالا : اشتريناه منه ، فارتفعوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنزل قوله :
{ فإن عثر } أَيْ : ظهر واطلع { على أنهما استحقا إثماً } أَيْ : استوجباه بالخيانة والحنث في اليمين { فآخران يقومان مقامهما } من الورثة ، وهم الذين { استحق عليهم } أَيْ : استحق عليهم الوصية ، أو الإِيصاء ، وذلك أنَّ الوصية تستحق على الورثة { الأوليان } بالميت ، أَيْ : الأقربان إليه ، والمعنى : قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت ، فيحلفان بالله : لقد ظهرنا على خيانة الذِّميِّيْن وكذبهما وتبديلهما ، وهو قوله : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحقٌّ من شهادتهما } أَيْ : يميننا أحقُّ من يمينهما { وما اعتدينا } فيما قلنا ، فلمَّا نزلت هذه الآية قام اثنان من ورثة الميِّت فحلفا بالله أنَّهما خانا وكذبا ، فدفع الإناء إلى أولياء الميت .
{ ذلك } أَيْ : ما حَكم به في هذه القصَّة ، وبيَّنه من ردِّ اليمين { أدنى } إلى الإِتيان بالشَّهادة على ما كانت { أو يخافوا } أَيْ : أقرب إلى أن يخافوا { أن ترد أيمان } على أولياء الميِّت بعد أيمان الأوصياء ، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا { واتقوا الله } أن تحلفوا أيماناً كاذبةً ، أو تخونوا أمانةً { واسمعوا } الموعظة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } لا يرشد مَنْ كان على معصيته .
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{ يوم يجمع الله الرسل } أَيْ : اذكروا ذلك اليوم { فيقول } لهم : { ماذا أُجِبْتُمْ } ما أجابكم قومكم في التَّوحيد؟ { قالوا لا علم لنا } من هول ذلك اليوم يذهلون عن الجواب ، ثمَّ يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم ، فيشهدون لمن صدَّقهم ، وعلى مَنْ كذَّبهم .
{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم } مضى تفسير الآية إلى قوله : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } أَيْ : عن قتلك .
{ وإذ أوحيت إلى الحواريين } أَيْ : ألهمتهم .
{ إذ قال الحواريون يا عيسى ابنَ مريم هل يستطيع ربك } لم يشكُّوا في قدرته ، ولكنْ معناه ، هل يقبل ربُّك دعاءَك ، وهل يسهل لك إنزال مائدة علينا من السَّماء ، عَلَماً لك ودلالةً على صدقك؟ فقال عيسى : { اتقوا الله } أن تسألوه شيئاً لم تسأله الأمم من قبلكم .
{ قالوا : نريد أن نأكل منها } أَيْ : نريد السُّؤال من أجل هذا { وتطمئن قلوبنا } نزداد يقيناً بصدقك { ونكون عليها من الشاهدين } لله بالتَّوحيد ، ولك بالنُّبوة . وقوله :
{ تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا } أَيْ : نتّخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً نُعظِّمه نحن ومَنْ يأتي بعدنا { وآيةً منك } دلالةً على توحيدك وصدق نبيِّك { وارزقنا } عليها طعاماً نأكله ، وقوله :
{ فمن يكفر بعد منكم } أَيْ : بعد إنزال المائدة { فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } أراد : جنساً من العذاب لا يُعذَّب به غيرهم من عالمي زمانهم .
{ وإذْ قال الله يا عيسى ابن مريم } واذكر يا مُحمَّدُ حين يقول الله تعالى يوم القيامة لعيسى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّي إلهين من دون الله } هذا استفهامٌ معناه التُّوبيخ لمن ادَّعى ذلك على المسيح؛ ليكِّذبهم المسيح ، فتقوم عليهم الحجَّة { قال سبحانك } أَيْ : براءتك من السُّوء . { تعلم ما في نفسي } أَيْ : ما في سرِّي وما أضمره { ولا علم ما في نفسك } أَيْ : ما تخفيه أنت ، وما عندك علمه ولم تُطلعنا عليه .
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{ وكنتُ عليهم شهيداً } أَيْ : كنت أشهد على ما يفعلون ما كنتُ مقيماً فيهم { فلما توفيتني } [ يعني : رفعتني ] إلى السَّماء { كنت أنت الرقيب } الحفيظ { عليهم وأنت على كلِّ شيء شهيد } أَيْ : شهدت مقالتي فيهم ، وبعد ما رفعتني شهدتَ ما يقولون من بعدي .
{ إن تعذبهم } أَيْ : من كفر بك { فإنهم عبادك } وأنت العادل فيهم { وإن تغفر لهم } أَيْ : مَنْ تاب منهم وآمن فأنت عزيرٌ لا يمتنع عليك ما تريد ، حيكمٌ في ذلك .
{ قال الله : هذا يوم } يعني : يوم القيامة { ينفع الصادقين } في الدُّنيا { صدقهم } لأنَّه يوم الإِثابة والجزاء { رضي الله عنهم } بطاعته { ورضوا عنه } بثوابه { ذلك الفوز العظيم } لأنهم فازوا بالجنَّة .
{ لله ملك السموات والأرض } عظَّم نفسه عمَّا قالت النصارى : إنَّ معه إلهاً .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } وخلق اللَّيل والنَّهار { ثمًّ الذين كفروا } بعد قيام الدَّليل على وحدانيَّته بما ذكر من خلقه { بربهم يعدلون } الحجارةَ والأصنام فيعبدونها معه .
{ هو الذي خلقكم من طين } يعني : آدم أبا البشر { ثمَّ قضى أجلاً } يعني : أجل الحياة إلى الموت { وأجل مسمى عنده } من الممات إلى البعث { ثم أنتم } أيُّها المشركون بعد هذا { تمترون } تشكُّون وتكذِّبون بالبعث . يريد : إنَّ الذي ابتدأ الخلق قادرٌ على إعادته .
{ وهو الله } أَي : المعبود المعظَّم المتفرِّد بالتَّدبير { في السموات وفي الأرض } .
{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } الدَّالَّة على وحدانيَّته ، كما ذكر من خلق آدم ، وخلق اللَّيل والنَّهار { إلاَّ كانوا عنها معرضين } تاركين التًّفكُّر فيها .
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{ فقد كذبوا } يعني : مشركي أهل مكة { بالحق لما جاءهم } يعني : القرآن { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } أَيْ : أخبار استهزائهم وجزاؤه .
{ ألم يروا } يعني : هؤلاء الكفَّار { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } من جيلٍ وأمَّةٍ { مكنَّاهم في الأرض ما لم نمكِّن لكم } أعطيناهم من المال والعبيد والأنعام ما لم نُعطكم { وأرسلنا السماء } المطر { عليهم مدراراً } كثير الدَّرِّ ، وهو إقباله ونزوله بكثرة { فأهلكناهم بذنوبهم } بكفرهم { وأنشأنا } أوجدنا { من بعدهم قرناً آخرين } وهذا احتجاجٌ على منكري البعث .
{ ولو نزلنا عليك . . . } الآية . قال مشركو مكَّة : لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من السَّماء [ جملةً واحدةً ] مُعانيةً ، فقال الله : { ولو نزلنا عليك كتاباً } أَيْ : مكتوباً { في قرطاس } يعني : الصَّحيفة { فلمسوه بأيديهم } فعاينوا ذلك مُعاينةً ، ومسُّوه بأيديهم { لقال الذين كفروا إن هذا إلاَّ سحر مبين } أخبر الله تعالى أنَّهم يدفعون الدَّليل حتى لو رأوا الكتاب ينزل من السَّماء لقالوا : سحر .
{ وقالوا : لولا أنزل عليه ملك } طلبوا ملكاً يرونه يشهد له بالرِّسالة ، فقال الله عزَّ وجلَّ : { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } لأُهلكوا بعذاب الاستئصال ، كسُنَّة مَنْ قبلهم ممَّن طلبوا الآيات فلم يؤمنوا { ثم لا ينظرون } لا يُمهلون لتوبةٍ ولا لغير ذلك .
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{ ولو جعلناه ملكاً } أيْ : ولو جعلنا الرَّسول الذي ينزل عليهم ليشهدوا له بالرِّسالة مَلَكاً كما يطلبون { لجعلناه رجلاً } لأنَّهم لا يستطيعون أن يروا المَلَك في صورته ، لأنَّ أعين الخلق تحار عن رؤية الملائكة ، ولذلك كان جبريل عليه السَّلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبيِّ { وللبسنا عليهم ما يلبسون } ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكُّوا فلا يدروا أمَلَكٌ هو أم آدميٌّ ، أَيْ : فإنَّما طلبوا حال لبسٍ لا حال بيانٍ ، ثمَّ عزَّى الله نبيَّه عليه السَّلام بقوله :
{ ولقد استهزىء برسل من قبلك } وكُذِّبوا ونُسبوا إلى السّحر { فحاق } فحلَّ ونزل { بالذين سخروا } من الرُّسل { ما كانوا به يستهزئون } من العذاب وينكرون وقوعه .
{ قل } لهم يا محمَّدُ : { سيروا في الأرض } سافروا في الأرض { ثم انظروا } فاعتبروا { كيف كان عاقبة } مُكذِّبي الرُّسل : يعني : إذا سافروا رأوا آثار الأمم الخالية المهلكة ، يحذِّرهم مثلَ ما وقع بهم .
{ قل لمن ما في السموات والأرض } فإن أجابوك وإلاَّ { قل لله كتب على نفسه الرحمة } أوجب على نفسه الرَّحمة ، وهذا تلطُّفٌ في الاستدعاء إلى الإنابة { ليجمعنَّكم } أَيْ : والله ليجمعنَّكم { إلى يوم القيامة } أَيْ : ليضمنَّكم إلى هذا اليوم الذي أنكرتموه ، وليجمعنَّ بينكم وبينه ، ثمَّ ابتدأ فقال : { الذين خسروا أنفسهم } أهلكوها بالشِّرك { فهم لا يؤمنون } .
{ وله ما سكن في الليل والنهار } أَيْ : ما حلَّ فيهما ، واشتملا عليه . يعني : جميع المخلوقات .
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
{ قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض } خالقهما ابتداءً { وهو يطعم ولا يطعم } يَرزق ولا يُرزق .
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ من يصرف عنه } أَي : العذاب { يومئذ } يوم القيامة { فقد رحمه } فقد أوجب الله له الرَّحمة لا محالة .
{ وإن يمسسك الله بضر . . . } الآية . أيْ : إنْ جعل الضُّرَّ وهو المرض والفقر يمسُّك .
{ وهو القاهر } القادر الذي لا يعجزه شيء { فوق عباده } أَيْ : إنَّ قهره قد استعلى عليهم ، فهم تحت التَّسخير .
{ قل أي شيء أكبر شهادة } قال أهل مكة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : ائتنا بمَنْ يشهد لك بالنُّبوَّة ، فإنَّ أهل الكتاب ينكرونك ، فنزلت هذه الآية ، أمر الله تعالى محمداً عليه السَّلام أن يسألهم ، ثمَّ أمر أن يخبرهم فيقول : { الله شهيد بيني وبينكم } أَي : الله الذي اعترفتم بأنَّه خالق السَّموات والأرض ، والظُّلمات والنُّور يشهد لي بالنُّبوَّة بإقامة البراهين ، وإنزال القرآن عليَّ . { وأوحي إلي هذا القرآن } المُعجز بلفظه ونظمه وأخباره ، عمَّا كان ويكون { لأنذركم } لأخوِّفكم { به } عقاب الله على الكفر { ومَنْ بلغ } يعني : ومَنْ بلغه القرآن من بعدكم ، فكلُّ مَنْ بلغه القرآن فكأنَّما رأى محمداً عليه السَّلام . قل : { أإنكم لتشهدون أنَّ مع الله آلهة أخرى } استفهام معناه الجحد والإِنكار { قل لا أشهد . . . } الآية .
{ الذين آتيناهم الكتاب } مفسَّرة في سورة البقرة .
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } أَيْ : لا أحد أظلم ممَّن اختلق على الله كذباً . يعني : الذين ذكرهم في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة . . . } الآية . { أو كذَّب بآياته } بالقرآن وبمحمد عليه السَّلام { إنَّه لا يفلح الظالمون } لا يسعد مَنْ جحد ربوبيَّة ربِّه ، وكذَّب رسله ، وهم الذين ظلموا أنفسهم بإهلاكها بالعذاب .
{ ويوم } واذكروا يوم { نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } أصنامكم وآلهتكم { الذين كنتم تزعمون } أنَّها تشفع لكم ، وهذا سؤال توبيخ .
{ ثم لم تكن فتنتهم } أَيْ : لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان وحبِّهم لها { إلاَّ أن } تبرَّؤوا منها ف { قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } .
{ انظر } يا محمد { كيف كذبوا على أنفسهم } بجحد شركهم في الآخرة { وضلَّ } وكيف ضلَّ ذلك : زال وبطل { عنهم ما كانوا يفترون } بعبادته من الأصنام .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{ ومنهم } ومن الكفَّار { من يستمع إليك } إذا قرأت القرآن { وجعلنا على قلوبهم أكنَّة } أغطيةً { أن يفقهوهُ } لئلا يفهموه ، ولا يعلموا الحقَّ { وفي آذانهم وقراً } ثِقلاً وصمماً ، فلا يعون منه شيئاً ، ولا ينتفعون به { وإن يروا كلَّ آية } علامةٍ تدلُّ على صدقك { لا يؤمنوا بها } هذا حالهم في البعد عن الإِيمان { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } [ مخاصمين معك في الدِّين ] { يقول الذين كفروا } مَنْ كفر منهم : { إن هذا } ما هذا { إلاَّ أساطير الأوَّلين } أحاديث الأمم المتقدمة التي كانوا يسطرونها في كتبهم .
{ وهم ينهون } النَّاس عن اتَّباع محمد { وينأون } ويتباعدون { عنه } فلا يؤمنون به { وإنْ } وما { يهلكون إلاَّ أنفسهم } بتماديهم في معصية الله تعالى { وما يشعرون } وما يعلمون ذلك .
{ ولو ترى } يا محمد { إذ وقفوا على النار } أَيْ : حُبسوا على الصِّراط فوق النَّار ، { فقالوا يا ليتنا نرد } تمنَّوا أن يردُّوا إلى الدُّنيا فيؤمنوا ، وهو قوله : { ولا نكذب } أَيْ : ونحن لا نكذِّب { بآيات ربنا } بعد المعاينة { ونكون من المؤمنين } ضمنوا أنْ لا يُكذِّبوا ويؤمنوا ، فقال الله تعالى :
{ بل } ليس الأمر على ما تمنَّوا في الردِّ { بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وهو أنَّهم أنكروا شركهم ، فأنطق الله سبحانه جوارحهم حتى شهدت عليهم بالكفر ، والمعنى : ظهرت فضيحتهم في الآخرة ، وتهتكت أستارهم { ولو ردوا لعادوا لما نهوا } إلى ما نُهوا { عنه } من الشِّرك ، للقضاء السَّابق فيهم بذلك ، وأنَّهم خلقوا للشَّقاوة { وإنهم لكاذبون } في قولهم : { ولا نكذِّب بآيات ربنا } .
{ وقالوا } يعني : الكفار : { إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا . . . } الآية . أنكروا البعث .
{ ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } عرفوا ربَّهم ضرورة . وقيل : وقفوا على مسألة ربِّهم وتوبيخه إيَّاهم ، ويؤكِّد هذا قوله : { أليس هذا بالحق } أَيْ : هذا البعث ، فيقرُّون حين لا ينفعهم ذلك ، ويقولون : { بلى وربنا } فيقول الله تعالى : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بكفركم .
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } بالبعث والمصير إلى الله { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } فجأة { قالوا يا حسرتنا على ما فرَّطنا فيها } قصَّرنا وضيَّعنا عمل الآخرة في الدُّنيا { وهم يحملون أوزارهم } أثقالهم وآثامهم { على ظهورهم } وذلك أنَّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله عمله أقبح شيءٍ صورةً ، وأخبثه ريحاً ، فيقول : أنا عملك السَّيِّىء طال ما ركبتني في الدُّنيا ، فأنا أركبك اليوم . { ألا ساء ما يزرون } بئس الحمل ما حملوا .
{ وما الحياة الدنيا إلاَّ لعبٌ ولهو } لأنَّها تفنى وتنقضي كاللَّهو واللَّعب ، تكون لذَّةً فانيةً عن قريبٍ { وللدار الآخرة } الجنَّة { خير للذين يتقون } الشِّرك { أفلا تعقلون } أنَّها كذلك ، فلا تَفْتُروا في العمل لها ، ثمَّ عزَّى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على تكذيب قريش إيَّاه .
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } في العلانيَة : إنَّك كذَّابٌ ومُفترٍ { فإنهم لا يكذبونك } في السرِّ قد علموا صدقك { ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } بالقرآن بعد المعرفة . نزلت في المعاندين الذين تركوا الانقياد للحقِّ ، كما قال عزَّ وجلَّ : { وجحدوا بها واستيقنّتْها أنفسهم . . . } الآية .
{ ولقد كذِّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا } رجاء ثوابي { وأوذوا } حتى نشروا بالمناشير ، وحرِّقوا بالنَّار { حتى أتاهم نصرنا } معونتنا إيَّاهم بإهلاكِ مَنْ كذَّبهم { ولا مبدل لكلمات الله } لا ناقِضَ لحكمه ، وقد حكم بنصر الأنبياء في قوله : { كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي } { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } أَيْ : خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودَمَّرنا قومهم .
{ وإن كان كبر } عَظُمَ وثَقُل { عليك إعراضهم } عن الإيمان بك وبالقرآن ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان قومه ، فكانوا إذا سألوه آيةً أحبًّ أن يريهم ذلك طمعاً في إيمانهم ، فقال الله عزَّ وجلَّ : { فإن استطعت أن تبتغي } تطلب { نفقاً } سرباً { في الأرض أو سلماً } مصعداً { في السماء فتأتيهم بآية } فافعل ذلك ، والمعنى : أنَّك بشرٌ لا تقدر على الإِتيان بالآيات ، فلا سبيل لك إلاَّ الصَّبر حتى يحكم الله { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } أَيْ : إنَّما تركوا الإِيمان لسابق قضائي فيهم ، لو شئت لاجتمعوا على الإِيمان { فلا تكوننَّ من الجاهلين } بأنّه يؤمن بك بعضهم دون بعض ، وأنَّهم لا يجتمعون على الهدى ، وغلَّظ الجواب زجراً لهم عن هذه الحال .
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{ إنما يستجيب } أَيْ : يُجيبك إلى الإيمان { الذين يسمعون } وهم المؤمنون الذين يستمعون الذِّكر ، فيقبلونه وينتفعون به ، والكافر الذي ختم الله على سمعه كيف يصغى إلى الحقِّ!؟ { والموتى } يعني : كفَّار مكة { يبعثهم الله ثمَّ إليه يرجعون } يردُّون فيجازيهم بأعمالهم .
{ وقالوا } يعني : رؤساء قريش { لولا } هلاَّ { نُزِّلَ عليه آية من ربه } يعنون : نزول ملك يشهد له بالنُّبوَّة { قل إنَّ الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون } ما عليهم في ذلك من البلاء ، وهو ما ذكرناه في قوله : { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر } { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } يعني : جميع الحيوانات؛ لأنَّها لا تخلو من هاتين الحالتين { إلاَّ أمم أمثالكم } أصناف مصنَّفة تُعرف بأسمائها ، فكلُّ جنس من البهائم أُمَّةٌ ، كالطَّير ، والظِّباء ، والذُّباب ، والأُسود ، وكلُّ صنفٍ من الحيوان أُمَّةٌ مثل بني آدم يعرفون بالإِنس { ما فرَّطنا في الكتاب من شيء } ما تركنا في الكتاب من شيءٍ بالعباد إليه حاجةٌ إلاَّ وقد بيَّناه؛ إمَّا نصّاً؛ وإمَّا دلالة؛ وإمَّا مجملاً؛ وإمَّا مفصَّلاً كقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلِّ شيء } أَيْ : لكلِّ شيءٍ يُحتاج إليه من أمر الدِّين { ثم إلى ربهم } أَيْ : هذه الأمم { يحشرون } للحساب والجزاء .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
{ والذين كذَّبوا بآياتنا } بما جاء به محمَّد عليه السَّلام { صمٌّ } عن القرآن لا يسمعونه سماع انتفاع { وبكم } عن القرآن لا ينطقون به ، ثمَّ أخبر أنَّهم بمشيئته صاروا كذلك ، فقال : { من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراطٍ مستقيم } .
{ قل } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله { أرأيتكم } معناه : أخبروني { إن أتاكم عذاب الله } يريد : الموت { أو أتتكم الساعة } القيامة { أغير الله تدعون } أَيْ : أتدعون هذه الأصنام والأحجار التي عبدتموها من دون الله { إن كنتم صادقين } جوابٌ لقوله : { أرأيتكم } لأنَّه بمعنى أخبروني ، كأنَّه قيل : إنْ كنتم صادقين أخبروا مَنْ تدعون عند نزول البلاء بكم .
{ بل } أَيْ : لا تدعون غيره { إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه } أَيْ : يكشف الضُّرَّ الذي من أجله دعوتموه { إن شاء وتنسون } وتتركون { ما تشركون } به من الأصنام فلا تدعونه .
{ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } رسلاً فكفروا بهم { فأخذناهم بالبأساء } وهو شدَّة الفقر { والضرَّاء } الأوجاع والأمراض { لعلهم يتضرعون } لكي يتذللَّوا ويتخشعوا .
{ فلولا } فهلاَّ { إذ جاءهم بأسنا } عذابنا { تضرعوا } تذلَّلوا ، والمعنى : لم يتضرعوا { ولكن قست قلوبهم } فأقاموا على كفرهم { وزيَّن لهم الشيطان } الضَّلالة التي هم عليها ، فأصروا .
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
{ فلما نسوا ما ذكروا به } تركوا ما وُعظوا به { فتحنا عليهم أبواب كلِّ شيء } من النِّعمة والسُّرور بعد الضُّرِّ الذي كانوا فيه { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم } في حال فرحهم؛ ليكون أشدَّ لتحسُّرهم { بغتةً فإذا هم مبلسون } آيسون من كلِّ خير .
{ فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أنفسهم أَيْ : غابرهم الذي يتخلَّف في آخر القوم ، والمعنى : استؤصلوا بالهلاك فلم يبق منهم باقية { والحمد لله رب العالمين } على نصر الرُّسل ، وإهلاك الظَّالمين .
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أَيْ : أَصمَّكم وأعماكم { وختم على قلوبكم } حتى لا تعرفوا شيئاً . يعني : أذهب هذه الأعضاء عنكم أصلاً { مَنْ إله غير الله يأتيكم به } أَيْ : بما أخذ عنكم { انظر كيف نصرِّف } نبيِّن لهم في القرآن { الآيات ثم هم يصدفون } يعرضون عمَّا ظهر لهم .
{ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة } ليلاً أو نهاراً { هل يهلك إلاَّ القوم الظالمون } الذين جعلوا لله شركاء .
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } التي منها يرزق ويعطي { ولا أعلم الغيب } فأخبركم بعاقبة ما تصيرون إليه { ولا أقول لكم إني ملك } أشاهد من أمر الله ما لا يشاهده البشر { إن أتبع إلاَّ ما يوحى إلي } أَيْ : ما أخبركم إلاَّ بما أنزل الله عليَّ { قل هل يستوي الأعمى والبصير } الكافر والمؤمن { أفلا تتفكرون } أَنَّهما لا يستويان .
{ وأنذر به } خوِّف بالقرآن { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يريد : المؤمنين ، يخافون يوم القيامة ، وما فيها من الأهوال { ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع } يعني : إنَّ الشفاعة إنَّما تكون بإذنه ، ولا شفيعٌ ولا ناصرٌ لأحدٍ في القيامة إلاَّ بإذن الله { لعلهم يتقون } كي يخافوا في الآخرة وينتهوا عمَّا نهيتهم .
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم . . . } الآية . نزلت في فقراء المؤمنين لمَّا قال رؤساء الكفَّار للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : نَحِّ هؤلاء عنك لنجالسك ونؤمن بك . ومعنى : { يدعون ربهم بالغداة والعشي } يعبدون الله بالصَّلوات المكتوبة . { يريدون وجهه } يطلبون ثواب الله { ما عليك من حسابهم } من رزقهم { من شيء } فَتَمَلُّهم وتطردهم { وما من حسابك عليهم من شيء } أَيْ : ليس رزقك عليهم ، ولا رزقهم عليك ، وإنَّما يرزقك وإيَّاهم الله الرَّازق ، فدعهم يدنوا منك ولا تطردهم { فتكون من الظالمين } لهم بطردهم .
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ابتلينا الغنيّ بالفقير ، والشَّريف بالوضيع { ليقولوا } يعني : الرُّؤساء { أهؤلاء } الفقراء والضُّعفاء { منَّ الله عليهم من بيننا } أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلةٍ ، أو خصُّوا بنعمةٍ ، فقال الله تعالى : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أيْ : إنَّما يهدي إلى دينه مَنْ يعلم أنَّه يشكر .
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } يعني : الصَّحابة وهؤلاء الفقراء { فقل سلام عليكم } [ سلّم عليهم ] بتحيَّة المسلمين { كتب ربكم على نفسه الرحمة } أوجب الله لكم الرَّحمة إيجاباً مُؤكَّداً { أنه من عمل منكم سوءاً بجالهة } يريد : إنَّ ذنوبكم جهلٌ ليس بكفرٍ ولا جحود ، لأنَّ العاصي جاهلٌ بمقدار العذاب في معصيته { ثم تاب من بعده } رجع عن ذنبه { وأصلح } عمله { فأنَّه غفور رحيم } .
{ وكذلك } وكما بينَّا لك في هذه السُّورة دلائلنا على المشركين { نفصل } نبيِّن لك حجَّتنا وأدلتنا ، ليظهر الحقُّ ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين في شركهم بالله في الدُّنيا ، وما يصيرون إليه من الخزي يوم القيامة بإخباري إيَّاك .
{ قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } الأصنام التي يعبدونها من دون الله { قل لا أتبع أهواءكم } أَيْ : إنَّما عبدتموها على طريق الهوى لا على طريق البرهان ، فلا أتَّبعكم على هواكم { قد ضللت إذاً } إنْ أنا فعلت ذلك { وما أنا من المهتدين } الذين سلكوا سبيل الهدى .
{ قل إني على بينة } يقينٍ وأمرٍ بيِّنٍ { من ربي } لا مُتَّبع لهوىً { وكذبتم به } أَيْ : بربِّي { ما عندي ما تستعجلون به } يعني : العذاب أو الآيات التي اقترحتموها ، ثمَّ أعلم أنَّ ذلك عنده ، فقال : { إن الحكم إلاَّ لله يقص الحق } أَيْ : يقول [ القصص ] الحقّ . ومَنْ قرأ : { يقضي الحق } فمعناه : يقضي القضاء الحق { وهو خير الفاصلين } الذين يفصلون بين الحقِّ والباطل .
{ قل لو أنَّ عندي ما تستعجلون به } من العذاب لعجَّلت لكم ، ولا نفصل ما بيني وبينكم بتعجيل العقوبة ، وهو معنى قوله : { لَقُضِيَ الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين } هو أعلم بوقت عقوبتهم ، فهو يؤخِّرهم إلى وقته ، وأنا لا أعلم ذلك . قوله :
{ وعنده مفاتح الغيب } خزائن ما غاب عن بني آدم من الرِّزق ، والمطر ، ونزول العذاب ، والثَّواب ، والعقاب { لا يعلمها إلاَّ هو ويعلم ما في البر } القفار { والبحر } كلُّ قرية فيها ماءٌ؛ لا يحدث فيهما شيء إلاَّ بعلم الله { وما تسقط من ورقة إلاَّ يعلمها } ساقطة ، وقبل أنْ سقطت { ولا حبة في ظلمات الأرض } في الثرى تحت الأرض { ولا رطب } وهو ما ينبت { ولا يابس } وهو ما لا ينبت { إلاَّ في كتاب مبين } أثبت الله ذلك كلَّه في كتابٍ قبل أن يخلق الخلق .
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } يقبض أرواحكم في منامكم { ويعلم ما جرحتم } ما كسبتم من العمل { بالنهار ثمَّ يبعثكم فيه } يردُّ إليكم أرواحكم في النَّهار { ليقضى أجل مسمى } يعني : أجل الحياة إلى الموت ، أَيْ : لتستوفوا أعماركم المكتوبة .
{ وهو القاهر فوق عباده } مضى هذا { ويرسل عليكم حفظة } من الملائكة يحصون أعمالكم { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } أعوان ملك الموت { وهم لا يفرطون } لا يعجزون ولا يُضيِّعون .
{ ثم ردوا } يعني : العباد . يُردُّون بالموت { إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم } أَي : القضاء فيهم { وهو أسرع الحاسبين } أقدر المجازين .
{ قل من ينجيكم } سؤال توبيخٍ وتقريرٍ . أَيْ : إنَّ الله يفعل ذلك { من ظلمات البر والبحر } أهوالهما وشدائدهما { تدعونه تضرعاً وخفية } علانيَةً وسرَّاً { لئن أنجانا من هذه } أَيْ : من هذه الشَّدائد { لنكوننَّ من الشاكرين } من المؤمنين الطَّائعين ، وكانت قريش تسافر في البر والبحر ، فإذا ضلُّوا الطَّريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين فأنجاهم ، وهو قوله :
{ قل الله ينجيكم منها . . . } الآية . أعلم الله سبحانه أنَّ الله الذي دعوه هو ينجِّيهم ، ثمَّ هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنَّها من صَنعتهم ، وأنَّها لا تضرُّ ولا تنفع . والكرب أشدُّ الغمِّ ، ثمَّ أخبر أنَّه قادر على تعذيبهم .
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } كالصَّيحة ، والحجارة ، والماء { أو من تحت أرجلكم } كالخسف والزَّلزلة { أو يلبسكم شيعاً } يخلطكم فرقاً بأن يبثَّ فيكم الأهواء المختلفة ، فتخالفون وتقاتلون ، وهو معنى قوله : { ويذيق بعضكم بأس بعض . انظر كيف نصرِّف } نُبيِّن لهم { الآيات } في القرآن { لعلهم يفقهون } لكي يعلموا .
{ وكذَّب به } بالقرآن { قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } [ بمسلَّط ] أَيْ : إنَّما أدعوكم إلى الله ، ولم أُومر بحربكم ، ولا أَخْذكم بالإِيمان ، وهذا منسوخٌ بآية القتال .
{ لكلِّ نبأ مستقر } لكلِّ خبرٍ يخبره الله وقتٌ ومكانٌ يقع فيه من غير خلف { وسوف تعلمون } ما كان منه في الدُّنيا فستعرفونه ، وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لكم . يعني : العذاب الذي كان يعدهم في الدُّنيا والآخرة .
{ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } بالتَّكذيب والاستهزاء { فأعرض عنهم } أمر الله تعالى رسوله عليه السَّلام فقال : إذا رأيت المشركين يُكذِّبون بالقرآن ، وبك ، ويستهزئون فاترك مجالستهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } حتى يكون خوضهم في غير القرآن { وإمَّا ينسينَّك الشيطان } إنْ نسيت فقعدت { فلا تقعد بعد الذكرى } فقم إذا ذكرت ، فقال المسلمون : لئن كنَّا كلَّما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم ، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ، وأن نطوف بالبيت ، فرخَّص للمؤمنين في القعود معهم يُذكِّرونهم فقال :
{ وما على الذين يتقون } الشِّرك والكبائر { من حسابهم } آثامهم { من شيء ولكن ذكرى } يقول : ذكِّروهم بالقرآن وبمحمَّد ، فرخَّص لهم بالقعود بشرط التَّذكير والموعظة { لعلَّهم يتقون } لِيُرجى منهم التَّقوى .
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } يعني : الكفَّار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها وتلاعبوا عند ذكرها { وذكِّر به } وعِظْ بالقرآن { أن تبسل نَفْسٌ بما كسبت } تُسلم للهلكة ، وتحبس في جهَّنم فلا تقدر على التَّخلص ، ومعنى الآية : وذكرِّهم بالقرآن إسلام الجانين بجناياتهم لعلَّهم يخافون فيتَّقون { وإن تعدل كل عدل } يعني : النَّفس المُبسلة . تفدِ كلَّ فداء . يعني : تفدِ بالدُّنيا وما فيها { لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } أُسْلِموا للهلاك { لهم شرابٌ من حميم } وهو الماء الحارُّ .
{ قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } أنعبد ما لا يملك لنا نفعاً ولا ضرَّاً؛ لأنَّه جماد؟ { ونردُّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله } نردُّ وراءنا إلى الشِّرك بالله ، فيكون حالنا كحال { الذي استهوته الشياطين في الأرض } استغوته واستفزَّته الغِيلان في المهامة { حيران } متردِّداً لا يهتدي إلى المحجَّة { له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا } هذا مثَلُ مَنْ ضلَّ بعد الهدى ، يجيب الشَّيطان الذي يستهويه في المفازة ، فيصبح في مضلَّة من الأرض يهلك فيها ، ويعصي مَنْ يدعوه إلى المحجَّة ، كذلك مَنْ ضلَّ بعد الهدى { قل إنَّ هدى الله هو الهدى } ردٌّ على مَنْ دعا إلى عبادة الأصنام ، أَيْ : لا نفعل ذلك؛ لأنَّ هدى الله هو الهدى لا هدى غيره .
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } أَيْ : بكمال قدرته ، وشمول علمه ، وإتقان صنعه ، وكلُّ ذلك حقٌّ { ويوم يقول } واذكر يا محمَّد يوم يقول للشَّيء { كن فيكون } يعني : يوم القيامة ، يقول للخلق انتشروا فينتشرون .
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
{ وكذلك نُرِي إبراهيم . . . } الآية . أَيْ : وكما أرينا إبراهيم استقباح ما كان عليه أبوه من عبادة الأصنام نريه { ملكوت السموات والأرض } يعني : ملكهما ، كالشَّمس ، والقمر ، والنُّجوم ، والجبال ، والشَّجر ، والبحار . أراه الله تعالى هذه الأشياء حتى نظر إليها مُعتبراً مُستدلاًّ بها على خالقها ، وقوله : { وليكون من الموقنين } عطفٌ على المعنى . تقديره : ليستدلَّ بها وليكون من الموقنين .
{ فلما جنَّ } أَيْ : ستر وأظلم { عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي } أَيْ : في زعمكم أيُّها القائلون بحكم النَّجم ، وذلك أنَّهم كانوا أصحاب نجومٍ يرون التَّدبير في الخليقة لها { فلما أفل } أَيْ : غاب { قال : لا أحبُّ الآفلين } عرَّفهم جهلهم وخطأهم في تعظيم النُّجوم ، ودلَّ على أنَّ مَنْ غاب بعد الظُّهور كان حادثاً مُسخَّراً ، وليس بربٍّ .
{ فلما رأى القمر بازغاً } طالعاً ، فاحتجَّ عليهم في القمر والشَّمس بمثل ما احتجَّ به عليهم في الكوكب ، وقوله : { لئن لم يهدني ربي } أَيْ : لئن لم يُثبِّتني على الهدى . وقوله للشَّمس :
{ هذا ربي } ولم يقل هذه؛ لأنَّ لفظ الشَّمس مذكَّرٌ ، ولأنَّ الشَّمس بمعنى الضياء والنُّور ، فحمل الكلام على المعنى { هذا أكبر } أَي : من الكوكب والقمر ، فلمَّا توجَّهت الحجَّة على قومه قال : { إني بريء مما تشركون } .
{ إني وجهت وجهي } أَيْ : جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عزَّ وجلَّ ، وباقي الآية مفسَّر فيما مضى .
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{ وحاجَّة قومه } جادلوه وخاصموه في تركه آلهتهم ، وعبادة الله ، وخوَّفوه أن تصيبه آلهتهم بسوء ، فقال : { أتحاجوني في الله } أَيْ : في عبادته وتوحيده { وقد هدان } بيَّن لي ما به اهتديت { ولا أخاف ما تشركون به } من الأصنام أن تصيبني بسوء { إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً } إني لا أخاف إلاَّ مشيئة الله أن يعذِّبني { وسع ربي كلَّ شيء علماً } علمه علماً تاماً { أفلا تتذكرون } تتعظون وتتركون عبادة الأصنام .
{ وكيف أخاف ما أشركتم } يعني : الأصنام . أنكر أن يخافها { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } ما ليس لكم في إشراكه بالله حجَّةٌ وبرهانٌ { فإيُّ الفريقين أحق بالأمن } بأن يأمن العذاب ، الموحِّدُ أم المشرك؟
{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } لم يخلطوا إيمانهم بشركٍ { أولئك لهم الأمن } من العذاب { وهم مهتدون } إلى دين الله .
{ وتلك حجتنا } يعني : ما احتجَّ به عليهم { آتيناها إبراهيم } ألهمناها إبراهيم ، فأرشدناه إليها { نرفع درجات مَنْ نشاء } مراتبهم بالعلم والفهم ، ثمَّ ذكر نوحاً ومَنْ هدى من الأنبياء من أولاده .
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ وكلاً } أَيْ : من المذكورين ها هنا { فضلنا على العالمين } عالمي زمانهم .
{ ومن آبائهم } أَيْ : وهدينا بعض آبائهم { وذرياتهم وإخوانهم } ف " مِنْ " ها هنا للتَّبعيض .
{ ذلك هدى الله } دين الله الذي هم عليه { يهدي به مَنْ يشاء } يريد : يرشد إليه مَنْ يشاء { من عباده ولو أشركوا } عبدوا غيري { لحبط } بطل عملهم .
{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب } يعني : الكتب التي أنزلها عليهم { والحكم } العلم والفقه { فإن يكفر بها } أي : بآياتنا { هؤلاء } أهل مكَّة { فقد وكلنا بها } أَيْ : أرصدنا لها { قوماً } وفَّقناهم لها ، وهم المهاجرون والأنصار .
{ أولئك الذين هدى الله } يعني : النَّبيِّين الذين تقدَّم ذكرهم { فبهداهم اقتده } أَي : اصبر كما صبروا؛ فإنَّ قومهم كذَّبوهم فصبروا { قل لا أسألكم عليه } على القرآن وتبليغ الرِّسالة { أجراً } مالاً تعطونيه { إن هو } يعني : القرآن { إلاَّ ذكرى للعالمين } موعظة للخلق أجمعين .
{ وما قدروا الله حق قدره } ما عظَّموا الله حقَّ عظمته ، وما وصفوه حقَّ صفته { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وذلك أنَّ اليهود أنكروا إنزال الله عزَّ وجلَّ من السَّماء كتاباً إنكاراً للقرآن { قل } لهم يا محمد : { مَنْ أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } يعني : التَّوراة { تجعلونه قراطيس } مكتوبة وتودعونه إيَّاها { تبدونها } يعني : القراطيس يبدون ما يحبُّون ، ويكتمون صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم { وعُلِّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } في التَّوراة ، فضيَّعتموه ولم تنتفعوا به { قل الله } أي : الله أنزله { ثم ذرهم في خوضهم } إفكهم وحديثهم الباطل { يلعبون } يعملون ما لا يُجدي عليهم .
{ وهذا كتاب } يعني : القرآن { أنزلناه مبارك } كثيرٌ خيره ، دائمٌ نفعه ، يبشِّر بالثواب ، ويزجر عن القبيح ، إلى ما لا يحصى من بركاته { مصدق الذي بين يديه } موافقٌ لما قبله من الكتب { ولتنذر أم القرى } أَهل مكَّة { ومَنْ حولها } يعني : أهل سائر الآفاق { والذين يؤمنون بالآخرة } إيماناً حقيقياً { يؤمنون به } بالقرآن .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } نزلت في مسيلمة والأسود العنسي؛ ادَّعيا النُّبوَّة ، وأنَّ الله أوحى إليهما ، وهذا معنى قوله : { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومَنْ قال سأنزل مثل ما أنزل الله } يعني : المستهزئين الذين قالوا : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } { ولو ترى } يا محمد { إذ الظالمون } يعني : الذين ذكرهم { في غمرات الموت } شدائده ، وأهواله { والملائكة باسطوا أيديهم } إليهم بالضَّرب والتَّعذيب { أخرجوا أنفسكم } أَيْ : يقولون ذلك ونفس الكافر تخرج بمشقةٍ وكُرهٍ ، لأنَّها تصير إلى أشدِّ العذاب ، والملائكة يكرهونهم على نزع الرُّوح ، ويقولون : { أخرجوا أنفسكم } كرهاً { اليوم تجزون عذاب الهون } أَي : العذاب الذي يقع به الهوان الشَّديد { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } من أنَّه أوحي إليكم ولم يوح { وكنتم عن آياته تستكبرون } عن الإِيمان بها تتعظَّمون .
{ ولقد جئتمونا فرادى } يقال للكفَّار في الآخرة : جئتمونا فرادى بلا أهل ، ولا مالٍ ، ولا شيءٍ قدَّمتموه { كما خلقناكم أوَّل مرَّة } كما خرجتم من بطون أُمَّهاتكم { وتركتم ما خوَّلناكم } ملَّكناكم وأعطيناكم من المال والعبيد والمواشي { وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنَّهم فيكم شركاء } وذلك أنَّ المشركين كانوا يعبدون الأصنام على أنَّهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده { لقد تقطع بينكم } وصلكم ومودتكم { وضلَّ عنكم } ذهب عنكم { ما كنتم تزعمون } تُكذِّبون في الدُّنيا .
{ إنَّ الله فالق الحبّ } شاقُّة بالنَّبات { والنوى } بالنَّخلة { يخرج الحي من الميت } يخرج النُّطفة بشراً حيّاً { ومُخرج الميت } النُّطفة { من الحيّ } وقيل : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن { ذلكم الله } الذي فعل هذه الأشياء التي تشاهدونها ربكم { فأنى تؤفكون } فمن أين تُصرفون عن الحقِّ بعد البيان! .
{ فالق الإِصباح } شاقُّ عمود الصُّبح عن ظلمة اللَّيل وسواده ، على معنى أنَّه خالقه ومُبديه { وجاعل الليل سكناً } للخلق يسكنون فيه سكون الرَّاحة { والشمس والقمر حسباناً } وجعل الشَّمس والقمر بحسبانٍ لا يجاوزانه فيما يدوران في حسابٍ { ذلك تقدير العزيز } في ملكه يصنع ما أراد { العليم } بما قدَّر من خلقهما .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } يعني : آدم { فمستقر } أَيْ : فلكم مستقرٌّ في الأرحام { ومستودع } في الأصلاب .
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{ وهو الذي أنزل من السماء ماء } يعني : المطر { فأخرجنا به نبات كلٍّ شيء } يَنبت { فأخرجنا } من ذلك النَّبات { خضراً } أخضر ، كالقمح ، والشَّعير ، والذُّرة ، وما كان رطباً أخضر مما ينبت من الحبوب { نخرج منه } من الخضر { حباً متراكباً } بعضه على بعض في سنبلةٍ واحدةٍ { ومن النخل من طلعها } أوَّل ما يطلع منها { قنوان } يعني : العراجين التي قد تدلَّت من الطَّلع { دانية } ممَّن يجتنيها . يعني : قصار النَّخل اللاَّحقة عذوقها بالأرض { وجنات } أَيْ : وأخرجنا بالماء جنَّات { من أعناب والزيتون } وشجر الزَّيتون { والرمان } وشجر الرُّمان { مشتبهاً } [ في اللون : يعني : الرُّماني ] { وغير متشابه } [ في الطَّعم . أي : مختلفة في الطَّعم . وقيل : ] مُشتبهاً ورقها ، مُختلفاً ثمرها { انظروا إلى ثمره } نظر الاستدلال والعبرة أوَّل ما يعقد { وينعه } نضجه { إنَّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } يصدِّقون أنَّ الذي أخرج هذا النَّبات قادرٌ على أن يحيي الموتى .
{ وجعلوا لله شركاء الجن } أطاعوا الشَّياطين في عبادة الأوثان ، فجعلوهم شركاء لله { وخَرَقوا له بنين وبنات } افتعلوا ذلك كذباً وكفراً ، يعني : الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود والنَّصارى حين دعوا لله ولداً { بغير علم } لم يذكروه عن علمٍ ، إنَّما ذكروه تكذُّباً . وقوله :
{ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } أَيْ : مِنْ أين يكون له ولدٌ؟ ولا يكون الولد إلاَّ من صاحبةٍ ، ولا صاحبة له { وخلق كلَّ شيء } أَيْ : وهو خالق كلِّ شيء .
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{ لا تدركه الأبصار } في الدُّنيا؛ لأنَّه وعد في القيامة الرُّؤية بقوله : { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة . . . } الآية . والمُطلق يحمل على المقيد . وقيل : لا يحيط بكنهه وحقيقته الأبصار وهي تراه ، فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به { وهو يدرك الأبصار } يراها ويحيط بها علماً ، لا كالمخلوقين الذين لا يدركون حقيقة البصر ، وما الشَّيء الذي صار به الإِنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما { وهو اللطيف } الرَّفيق بأوليائه { الخبير } بهم .
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{ قد جائكم بصائر من ربكم } يعني : بيِّنات القرآن { فمن أبصر } اهتدى { فلنفسه } عمل { ومن عمي فعليها } فعلى نفسه جنى العذاب { وما أنا عليكم بحفيظ } برقيب على أعمالكم حتى أجازيكم بها .
{ وكذلك } وكما بيَّنا في هذه السُّورة { نصرِّف } نبيِّن { الآيات } في القرآن ندعوهم بها ونخوِّفهم { وليقولوا درست } عطف على المضمر في المعنى والتقدير : [ نصرِّف الآيات ] لتلزمهم الحجَّة وليقولوا درست ، أَيْ : تعلَّمت مِن يسار ، وجبر ، واليهود . ومعنى درس : قرأ على غيره ، ومعنى هذه اللام في قوله : { وليقولوا } معنى لام العاقبة ، أَيْ : نصرِّف الآيات ليكون عاقبة أمرهم تكذيباً للشَّقاوة التي لحقتهم { ولنبينه لقوم يعلمون } يعني : أولياءه الذين هداهم ، والذين سعدوا بتبيين الحقِّ .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ ولو شاء الله ما أشركوا } أَيْ : ولو شاء الله لجعلهم مؤمنين { وما جعلناك عليهم حفيظاً } لم تبعث لتحفظ المشركين من العذاب ، إنَّما بُعثت مُبَلِّغاً فلا تهتمَّ لشركهم؛ فإنَّ ذلك لمشيئة الله .
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } يعني : أصنامهم ومعبوديهم ، وذلك أنَّ المسلمين كانوا يسبُّون أصنام الكفَّار ، فنهاهم الله عزَّ وجلَّ عن ذلك لئلا يسبُّوا { الله عدواً بغير علم } أَيْ : ظُلماً بالجهل { كذلك } أَيْ : كما زيَّنا لهؤلاء عبادة الآوثان وطاعة الشَّيطان بالحرمان والخذلان { زينا لكلِّ أمة عملهم } من الخير والشَّرِّ .
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } اجتهدوا في المبالغة في اليمين { لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } وذلك أنَّه لمَّا نزل : { إن نشأ ننزل عليهم . . . } الآية . أقسم المشركون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمننَّ بها ، وسأل المسلمون ذلك ، وعلم الله سبحانه أنَّهم لا يؤمنون ، فأنزل الله هذه الآية . { قل إنما الآيات عند الله } هو القادر على الإتيان بها { وما يشعركم } وما يدريكم إيمانهم ، أَيْ : هم لا يؤمنون مع مجيء الآيات إيَّاهم ، ثمَّ ابتدأ فقال : { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } ومَنْ قرأ " أنَّها " بفتح الألف كانت بمعنى " لعلَّها " ، ويجوز أن تجعل " لا " زائدة مع فتح " أنَّ " .
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية بتقليب قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن تكونَ عليه فلا يؤمنون { كما لم يؤمنوا به } بالقرآن ، أو بمحمَّدٍ [ عليه السَّلام ] { أوَّل مرَّة } أتتهم الآيات ، مثل انشقاق القمر وغيره { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون .
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{ ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة } فرأوهم عياناً { وكلمهم الموتى } فشهدوا لك بالصِّدق والنُّبوَّة { وحشرنا عليهم } وجمعنا عليهم { كلَّ شيء } في الدُّنيا { قُبلاً } و { قِبَلاً } أَيْ : مُعاينةً ومُواجهةً { ما كانوا ليؤمنوا } لما سبق لهم من الشَّقاء { إلاَّ أنْ يشاء الله } أن يهديهم { ولكنَّ أكثرهم يجهلون } أنَّهم لو أُوتوا بكلِّ آيةٍ ما آمنوا .
{ وكذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوّاً } كما ابتليناك بهؤلاء القوم كذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ قبلك أعداءً؛ ليعظم ثوابه ، والعدوُّ ها هنا يُراد به الجمع ، ثمَّ بيَّن مَنْ هم فقال : { شياطين الإِنس } يعني : مردة الإِنس ، والشَّيطان : كلُّ متمرِّدٍ عاتٍ من الجنَّ والإِنس { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً } يعني : إنَّ شياطين الجنِّ الذين هم من جند إبليس يوحون إلى كفار الإِنس ومردتهم ، فيغرونهم بالمؤمنين ، وزخرف القول : باطله الذي زُيِّن ووُشِّي بالكذب ، والمعنى أنَّهم يُزيِّنون لهم الأعمال القبيحة غروراً { ولو شاء ربك ما فعلوه } لَمَنع الشَّياطين من الوسوسة للإِنس .
{ ولتصغى إليه } ولتميل إلى ذلك الزُّخرف والغرور { أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } قلوب الذين لا يصدِّقون بالبعث { وليرضوه } ليحبُّوه { وليقترفوا } ليعملوا ما هم عاملون .
{ أفغير الله } أَيْ : قل لأهل مكَّة : أفغير الله { أبتغي حكماً } قاضياً بيني وبينكم { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } القرآن { مفصلاً } مُبَيِّناً فيه أمره ونهيه { والذين آتيناهم الكتاب } من اليهود والنَّصارى { يعلمون } أنَّ القرآن { منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين } من الشَّاكين أنَّهم يعلمون ذلك .
{ وتمت كلمات ربك } أقضيته وعِداته لأوليائه في أعدائه { صدقاً } فيما وعد { وعدلاً } فيما حكم . والمعنى : صادقةً عادلةً { لا مبدِّل لكلماته } لا مُغيِّر لحكمه ، ولا خلف لوعده { وهو السميع } لتضرُّع أوليائه ، ولقول أعدائه { العليم } بما في قلوب الفريقين .
{ وإن تطع أكثر من في الأرض } يعني : المشركين { يضلوك عن سبيل الله } دين الله الذي رضيه لك ، وذلك أنَّهم جادلوه ، في أكل الميتة ، وقالوا : أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟ { إن يتبعون إلاَّ الظن } في تحليل الميتة { وإن هم إلاَّ يخرصون } يكذبون في تحليل ما حرَّمه الله .
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } أَيْ : ممَّا ذكِّي على اسم الله { إن كنتم بآياته مؤمنين } تأكيدٌ لاستحلال ما أباحه الشَّرع ثمَّ أبلغَ في إباحة ما ذبح على اسم الله .
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } عند الذَّبح { وقد فصَّل } بيَّن { لكم ما حرَّم عليكم } في قوله : { حُرِّمت عليكم الميتة . . . } الآية . { إلاَّ ما اضطررتم إليه } دعتكم الضَّرورة إلى أكله ممَّا لا يحلُّ عند الاختيار { وإنَّ كثيراً ليضلون بأهوائهم } أَيْ : الذين يُحلُّون الميتة ، ويناظرونكم في إحلالها ضلُّوا باتِّباع أهوائهم { بغير علمٍ } إنَّما يتَّبعون فيه الهوى ، ولا بصيرة عندهم ولا علم { إنَّ ربك هو أعلم بالمعتدين } المتجاوزين الحلال إلى الحرام .
{ وذروا ظاهر الإِثم وباطنه } سرَّه وعلانيته ، ثمَّ أوعد بالجزاء فقال : { إن الذين يكسبون الإِثم سيجزون بما كانوا يقترفون } .
{ ولا تأكلوا ممَّا لم يذكر اسم الله عليه } ممَّا لم يُذَكَّ ومات { وإنه } وإنَّ أكله { لفسقٌ } خروجٌ عن الحقِّ { وإنَّ الشياطين } يعني : إبليس وجنوده وسوسوا { إلى أوليائهم } من المشركين ليخاصموا محمداً وأصحابه في أكل الميتة { وإن أطعتموهم } في استحلال الميتة { إنكم لمشركون } لأنَّ مَنْ أحلَّ شيئاً ممَّا حرَّمه الله فهو مشركٌ .
{ أَوْ مَنْ كان ميتاً فأحييناه } ضالاًّ كافراً فهديناه { وجعلنا له نوراً } ديناً وإيماناً { يمشي به في الناس } مع المسلمين مُستضيئاً بما قذف الله في قلبه من نور الحكمة والإِيمان { كمَنْ مثله } كمَن هو { في الظلمات } في ظلمات الكفر والضَّلالة { ليس بخارجٍ منها } ليس بمؤمن أبداً . نزلت في أبي جهلٍ وحمزة بن عبد المطلب { كذلك } كما زُيِّن للمؤمنين الإِيمان { زين للكافرين ما كانوا يعملون } من عبادة الأصنام .
{ وكذلك جعلنا في كلِّ قرية أكابر مجرميها } يعني : كما أنَّ فسَّاق مكَّة أكابرها ، كذلك جعلنا فسَّاق كلِّ قرية أكابرها . يعني : رؤساءَها ومترفيها { ليمكروا فيها } بصدِّ النَّاس عن الإِيمان { وما يمكرون إلاَّ بأنفسهم } لأنَّ وبال مكرهم يعود عليهم { وما يشعرون } أنَّهم يمكرون بها .
{ وإذا جاءتهم آية } ممَّا أطلع الله عليه نبيَّه عليه السَّلام ممَّا يخبرهم به { قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فنصدِّق [ به ] ، وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من القوم سأل أن يُخصَّ بالوحي ، كما قال الله : { بل يريد كلُّ امرىءٍ منهم أَنْ يُؤتى صحفاً مُنشَّرة } فقال الله سبحانه : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } يعني : أنَّهم ليسوا بأهل لها ، هو أعلم بمَنْ يختصُّ بالرِّسالة { سيصيب الذين أجرموا صغار } مذلَّةٌ وهوانٌ { عند الله } أَيْ : ثابت لهم عند الله ذلك .
{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام } يوسِّعْ قلبه ويفتحه ليقبل الإِسلام { ومن يرد أن يضلَّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً } شديد الضِّيق { كأنما يصَّعد في السماء } إذا كُلَّف الإِيمان لشدَّته وثقله عليه { كذلك } مثل ما قصصنا عليك { يجعل الله الرجس } العذاب { على الذين لا يؤمنون } .
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{ وهذا صراط ربك } هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربِّك { مُستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون } وهم المؤمنون .
{ لهم دار السلام } الجنة { عند ربهم } مضمونةً لهم حتَّى يُدخلهموها { وهو وليهم } يتولَّى إيصال الكرامات إليهم { بما كانوا يعملون } من الطَّاعات .
{ ويوم يحشرهم جميعاً } الجنّ والإِنس ، فيقال لهم : { يا معشر الجن قد استكثرتم من الإِنس } أَيْ : من إغوائهم وإضلالهم { وقال أولياؤهم } الذين أضلَّهم الجنُّ { من الإِنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } يعني : طاعة الإِنس للجنِّ وقبولهم منهم ما كانوا يغرونهم به من الضَّلالة ، وتزيين الجنِّ للإِنس ما كانوا يهوونه حتى يسهل عليهم فعله { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } يعني : الموت ، والظَّاهر أنَّه البعث والحشر { قال النار مثواكم } فيها مقامكم { خالدين فيها إلاَّ ما شاء الله } مَنْ شاء الله ، وهم مَنْ سبق في علم الله أنَّهم يُسلمون { إنَّ ربك حكيم } حكم للذين استثنى بالتَّوبة والتَّصديق { عليم } علم ما في قلوبهم من البرِّ .
{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً } كما خذلنا عُصاة الجنِّ والإنس نَكِلُ بعض الظَّالمين إلى بعض حتى يضلَّ بعضهم بعضاً .
{ يا معشر الجن والإِنس ألم يأتكم رسل منكم } الرُّسل كانت من الإنس والذين بلَّغوا الجنَّ منهم عن الرُّسل كانوا من الجنِّ ، وهم النُّذر كالذين استمعوا القرآن [ من محمد صلى الله عليه وسلم ] من الجنِّ ، فأبلغوه قومهم .
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
{ ذلك } الذي قصصنا عليك من أمر الرُّسل لأنَّه { لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } أَيْ : بذنوبهم ومعاصيهم من قبل أن يأتيهم الرَّسول فينهاهم ، وهو معنى قوله : { وأهلها غافلون } أَيْ : لكلِّ عاملٍ بطاعة الله درجات في الثَّواب ، ثمَّ أوعد المشركين ، فقال : { وما ربك بغافل عما يعملون } .
{ وربك الغني } عن عبادة خلقه { ذو الرحمة } بخلقه فلا يُعَجِّل عليهم بالعقوبة { إن يشأ يذهبكم } يعني : أهل مكَّة { ويستخلف من بعدكم } وينشىء من بعدكم خلقاَ آخر { كما أنشأكم } خلقكم ابتداءً { من ذرية قوم آخرين } يعني : آباءَهم الماضين .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم } على حالاتكم التي أنتم عليها { إني عامل } على مكانتي ، وهذا أمرُ تهديدٍ . يقول : اعملوا ما أنتم عاملون ، إنِّي عاملٌ ما أنا عاملٌ { فسوف تعلمون مَنْ تكون له عاقبة الدار } أيُّنا تكون له الجنَّة { إنه لا يفلح الظالمون } لا يسعد مَنْ كفر بالله وأشرك بالله .
{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام } كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم { نصيباً } وللأوثان نصيباً ، فما كان للصَّنم أُنْفِقَ عليه ، وما كان لله أُطعم الضِّيفان والمساكين ، فما سقط ممَّا جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه ، وقالوا : إنَّ الله غنيٌّ عن هذا ، وإن سقط ممَّا جعلوه للأوثان من نصيب الله التقطوه وردُّوه إلى نصيب الصَّنم ، وقالوا : إنَّه فقير ، فذلك قوله : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم } ثمَّ ذمَّ فعلهم فقال : { ساء ما يحكمون } أَيْ : ساء الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوه لله على جهة التَّبرُّز إلى الأوثان .
{ وكذلك } ومثل ذلك الفعل القبيح { زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } يعني : الشَّياطين أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العَيْلَة { ليردوهم } ليهلكوهم في النَّار { وليلبسوا عليهم دينهم } ليخلطوا ويُدخلوا عليهم الشَّكَّ في دينهم ، ثمَّ أخبر أنَّ جميع ما فعلوه كان بمشيئته ، فقال : { ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } من أنَّ لله شريكاً .
{ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } حرَّموا أنعاماً وحرثاً ، وجعلوها لأصنامهم ، فقالوا : { لا يطعمها إلاَّ مَنْ نشاء بزعمهم } أعلم الله سبحانه أنَّ هذا التَّحريم كذبٌ من جهتهم { وأنعام حرّمت ظهورها } كالسَّائبة والبحيرة والحامي { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } يقتلونها لآلهتهم خنقاً ، أو وقذاً { افتراءً عليه } أَيْ : يفعلون ذلك للافتراء على الله ، وهو أنَّهم زعموا أنَّ الله أمرهم بذلك .
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } يعني : أجِنَّة ما حرَّموها من البحائر والسَّوائب { خالصةٌ لذكورنا } حلالٌ للرِّجال خاصَّة دون النِّساء . هذا إذا خرجت الأجنَّة أحياء ، وإن كان ميتةً اشترك فيها الرِّجال والنِّساء { سيجزيهم وصفهم } سيجزيهم الله جزاء وصفهم الذي هو كذبٌ ، أَيْ : سيعذِّبهم الله بما وصفوه من التَّحليل والتَّحريم الذي كلُّه كذبٌ { إنه حكيم عليم } أَيْ : هو أعلم وأحكم من أن يفعل ما يقولون .
{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم } بالوأد { سفهاً } للسَّفه { وحرَّموا ما رزقهم الله } من الأنعام . يعني : البحيرة وما ذُكر معها .
{ وهو الذي أنشأ } أبدع وخلق { جنات معروشات } يعني : الكرم { وغير معروشات } ما قام على ساق ولم يُعرش له ، كالنَّخل والشَّجر { والنخل والزرع مختلفاً أكله } أُكُلُ كلِّ واحدٍ منهما ، وكلِّ نوعٍ من الثَّمر له طعمٌ غير طعم النَّوع الآخر ، وكلُّ حبٍّ من حبوب الزَِّرع له طعمٌ غير طعم الآخر { كلوا من ثمره إذا أثمر } أمر إباحة { وآتوا حقه يوم حصاده } يعني : العشر ونصف العشر { ولا تسرفوا } فتعطوا كلَّه حتى لا يبقى لعيالكم شيء { إنه لا يحب المسرفين } يعني : المجاوزين أمر الله .
{ ومن الأنعام } وأنشأ من الأنعام { حمولة } وهي كلُّ ما حمل عليها ممَّا أطاق العمل والحمل { وفرشاً } وهو الصِّغار التي لا يحمل عليها ، كالغنم ، والبقر ، والإِبل الصِّغار { كلوا مما رزقكم الله } أَيْ : أحلَّ لكم ذبحه { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } في تحريم شيءٍ ممَّا أحله الله { إنه لكم عدو مبين } بيِّنُ العداوة أخرج أباكم من الجنَّة ، وقال : لأحتنكنَّ ذريته ، ثمَّ فسر الحمولة والفرش فقال :
{ ثمانية أزواج } الذَّكر زوجٌ ، والأنثى زوجٌ ، وهي الضَّأن والمعز ، وقد ذُكرا في هذه الآية ، والإِبل والبقر ذُكرا فيما بعد ، وجعلها ثمانيةً؛ لأنَّه أراد الذَّكر والأُنثى من كلِّ صنفٍ ، وهو قوله : { من الضَّأن اثنين ومن المعز اثنين } والضَّأن : ذوات الصُّوف من المعز ، والغنم : ذوات الشَّعر { قل } يا محمَّد للمشركين الذين يُحرِّمون على أنفسهم ما حرَّموا من النَّعم : { آلذكرين } من الضَّأن والمعز { حرَّم } الله عليكم { أم الأُنثيين } فإن كان حرَّم من الغنم ذكورها ، فكلُّ ذكورها حرام ، وإن كان حرَّم الأنثيين ، فكلُّ الإِناث حرام { أمَّا اشتملت عليه أرحام الأُنثيين } وإن كان حرَّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضَّأْنِ والمعز ، فقد حرَّم الأولاد كلَّها ، وكلُّها أولادٌ فكلُّها حرام { نبئُوني بعلم } أَيْ : فسِّروا ما حرَّمتم بعلمٍ إن كان لكم علمٌ في تحريمه ، وهو قوله : { إن كنتم صادقين } .
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{ أم كنتم شهداء إذْ وصاكم الله بهذا } هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا إذْ كنتم لا تؤمنون برسول الله؟! فلمَّا لزمتهم الحجَّة بيَّن الله تعالى أنَّهم فعلوا ذلك كذباً على الله ، فقال : { فمن أظلم ممَّن افتَرى على الله كذباً ليضلَّ الناس بغير علم . . . } الآية . يعني : عمرو بن لحي ، وهو الذي غيَّر دين إسماعيل ، وسنَّ هذا التَّحريم . ثمَّ ذكر المحرَّمات بوحي الله ، فقال :
{ قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرَّماً على طاعم يطعمه إلاَّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً } يعني : سائلاً { أو فسقاً أهلَّ لغير الله به } يعني : ما ذًبح على النُّصب .
{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } يعني : الإِبل ، والنَّعامة { ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومهما إلاَّ ما حملت ظهورهما أو الحوايا } وهي المباعر { أو ما اختلط بعظم } فإنِّي لم أحرّمه . يعني : ما تعلَّق من الشَّحم بهذه الأشياء { ذلك } التَّحريم { جزيناهم ببغيهم } عاقبناهم بذنوبهم { وإنا لصادقون } في الإِخبار عن التَّحريم ، وعن بغيهم ، فلمَّا ذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حُرِّم على المسلمين ، وما حرِّم على اليهود قالوا له : ما أصبت ، وكذَّبوه ، فأنزل الله تعالى :
{ فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة } ولذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة { ولا يرد بأسه } عذابه إذا جاء الوقت { عن القوم المجرمين } يعني : الذين كذَّبوك بما تقول .
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{ سيقول الذين أشركوا } إذا لزمتهم الحجة وتيقَّنوا باطل ما هم عليه : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من شيء كذلك كذَّب } جعلوا قولهم : { لو شاء الله ما أشركنا } حجَّةً لهم على إقامتهم على الشِّرك ، وقالوا : إنَّ الله رضي منَّا ما نحن عليه وأراده منَّا ، وأمرنا به ، ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه ، ولا حجة لهم في هذا؛ لأنَّهم تركوا أمر الله وتعلَّقوا بمشيئته ، وأمرُ الله بمعزلٍ عن إرادته؛ لأنَّه مريدٌ لجميع الكائنات ، غير آمرٍ بجميع ما يريد ، فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتَّبعه ، وليس له أن يتعلَّق بالمشيئة بعد ورود الأمر ، فقال الله تعالى : { كذلك كذب الذين من قبلهم } أَيْ : كما كذَّبك هؤلاء كذَّب كفَّار الأمم الخالية أنبياءهم ، ولم يتعرَّض لقولهم : { لو شاء الله } بشيءٍ { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } من كتابٍ نزل في تحريم ما حرَّمتم { إن تتبعون إلاَّ الظن } ما تتَّبعون فيما أنتم عليه إلاَّ الظَّنَّ لا العلم واليقين { وإن أنتم إلاًّ تخرصون } وما أنتم إلاَّ كاذبين .
{ قل فللَّه الحجة البالغة } بالكتاب والرَّسول والبيان { فلو شاء لهداكم أجمعين } إخبار عن تعلُّق مشيئة الله تعالى بكفرهم ، وأنَّ ذلك حصل بمشيئته ، إذ لو شاء الله لهداهم .
{ قل هلم شهداءكم } أَيْ : هاتوا شهداءكم وقرِّبوهم ، وباقي الآية ظاهر .
{ قل تعالوا أتل ما حرَّم ربكم عليكم } أَقرأ عليكم الذي حرَّمه الله ، ثمَّ ذكر فقال : { ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } وأوصيكم بالوالدين إحساناً { ولا تقتلوا أولادكم } من أولادكم من مخافة الفقر { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } يعني : سر الزِّنا وعلانيته { ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق } يريد : القصاص .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلاَّ بالتي هي أحسن } وهو أن يصلح ماله ويقوم فيه بما يثمره ، ثمَّ يأكل بالمعروف إن احتاج إليه { حتى يبلغ أشده } أَي : احفظوه عليه حتى يحتلم { وأوفوا الكيل } أتِمُّوه من غير نقصٍ { والميزان } أَيْ : وزن الميزان { بالقسط } بالعدل لا بخسٍ ولا شططٍ { لا نُكَلِّفُ نفساً إلاَّ وسعها } إلاَّ ما يسعها ولا تضيق عنه ، وهو أنَّه لو كلَّف المعطي الزِّيادة لضاقت نفسه عنه ، وكذلك لو كلَّف الآخذ أن يأخذ بالنُّقصان { وإذا قلتم فاعدلوا } إذا شهدتم أو تكلَّمتم فقولوا الحقَّ { ولو } كان المشهود له أو عليه { ذا القربى } .
{ وأنًّ هذا } ولأنَّ هذا { صراطي مستقيماً } يريد : ديني دينُ الحنيفيَّة أقومُ الأديان { فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } اليهوديَّة ، والنصرانيَّة ، والمجوسية ، وعبادة الأوثان { فتفرَّق بكم عن سبيله } فتضلَّ بكم عن دينه { ذلكم } الذي ذكر { وصَّاكم } أمركم به في الكتاب { لعلكم تتقون } كي تتقوا السُّبل .
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
{ ثم آتينا } أَيْ : ثمَّ أُخبركم أنَّا آتينا { موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن } أَيْ : على الذي أحسنه موسى من العلم والحكمة ، وكتب الله المتقدِّمة ، أَيْ : علمه ، ومعنى : { تماماً } على ذلك : أَيْ : زيادة عليه حتى تمَّ له العلم بما آتيناه { وتفصيلاً } أَيْ : آتيناه للتَّمام والتفصيل ، وهو البيان { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } لكي يُؤمنوا بالبعث ويُصدِّقوا بالثَّواب والعقاب .
{ وهذا كتابٌ } يعني : القرآن { أنزلناه مبارك } مضى تفسيره في هذه السُّورة .
{ أن تقولوا } لئلا تقولوا : { إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } يعني : اليهود والنَّصارى { وإن كنَّا عن دراستهم لغافلين } وما كنَّا إلاَّ غافلين عن تلاوة كتبهم ، والخطابُ لأهل مكَّة ، والمرادُ : إثبات الحجَّة عليهم بإنزال القرآن على محمَّد عليه السَّلام كيلا يقولوا يوم القيامة : إنَّ التَّوراة والإِنجيل أُنزلا على طائفتين من قبلنا ، وكنَّا غافلين عمَّا فيهما ، وقوله :
{ وصدف عنها } أَيْ : أعرض .
{ هل ينظرون } إذا كذَّبوك { إلاَّ أن تأتيهم الملائكة } عند الموت لقبض أرواحهم ، وذكرنا معنى { ينظرون } في سورة البقرة { أو يأتي ربك } أَيْ : أمره فيهم بالقتل { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني : طلوع الشَّمس من مغربها ، والمعنى : إنَّ هؤلاء الذين كذَّبوك إمَّا أن يموتوا فيقعوا في العذاب ، أو يؤمر فيهم بالسَّيف ، أو يمهلون قدر مدَّة الدُّنيا فيتوالدون ويتنعَّمون فيها ، فإذا ظهرت أمارات القيامة { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً } قدَّمت طاعةً وهي مؤمنةٌ { قل انتظروا } أحد هذه الأشياء { إنا منتظرون } بكم أحدها .
{ إنَّ الذين فارقوا دينهم } يعني : اليهود والنَّصارى ، أخذوا ببعض ما أُمروا ، وتركوا بعضه ، كقوله إخباراً عنهم : { نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض } { وكانوا شيعاً } أحزاباً مختلفة . بعضهم يُكفِّر بعضاً { لست منهم في شيء } يقول : لم تؤمر بقتالهم ، فلمَّا أُمر بقتالهم نُسخ هذا .
{ من جاء بالحسنة } من عمل من المؤمنين حسنةً { فله عشر أمثالها } كتبت له عشر حسناتٍ { ومَنْ جاء بالسيئة } الخطيئة { فلا يجزى إلاَّ مثلها } أَيْ : جزاءً مثلها لا يكون أكثر منها { وهم لا يظلمون } لا ينقص ثواب أعمالهم .
{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً } أَيْ : عرَّفني ديناً { قيماً } مستقيماً .
{ قل إنَّ صلاتي ونسكي } عبادتي من حجِّي وقرباني { ومحياي ومماتي لله رب العالمين } أَيْ : هو يحييني وهو يميتني ، وأنا أتوجَّه بصلاتي وسائر المناسك إلى الله ، لا إلى غيره .
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{ وبذلك أمرت } بذلك أوحي إليَّ { وأنا أول المسلمين } من هذه الأمَّة .
{ قل أغير الله أبغي رباً } سيِّداً وإلهاً { وهو ربُّ كلِّ شيء } مالكه وسيِّده { ولا تكسب كلُّ نفس إلاَّ عليها } لا تجني نفسٌ ذنباً إلاَّ أُخذت به { ولا تزر وازرة وزر أخرى } يعني : الوليد بن المغيرة ، كان يقول : اتَّبعوا سبيلي أحمل أوزاركم . [ فأنزل الله ] : { ولا تزر وازرةٌ وِزرَ أُخرى } لا يحمل أحدٌ جناية غيره حتى لا يُؤَاخذ بها الجاني .
{ وهو الذي جعلكم } يا أُمَّةَ محمَّدٍ { خلائف } الأمم الماضية في { الأرض } بأنْ أهلكهم وأورثكم الأرض بعدهم { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } بالغنى والرِّزق { ليبلوكم فيما آتاكم } ليختبركم فيما رزقكم { إنَّ ربك سريع العقاب } لأعدائه { وإنه لغفور } لأوليائه { رحيم } بهم .
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{ المص } أنا الله أعلم وأُفصِّل .
{ كتاب } أَيْ : هذا كتابٌ { أنزل إليك } من ربَّك { فلا يكن في صدرك حرج منه } فلا يضيقنَّ صدرك بإبلاغ ما أرسلت به { لتنذر به } أَيْ : أُنزل لتنذر به النَّاس { وذكرى للمؤمنين } مواعظ للمصدِّقين .
{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } يعني : القرآن { ولا تتبعوا من دونه أولياء } لا تتخذوا غير الله أولياء { قليلاً ما تذكرون } قليلاً يا معشر المشركين اتَّعاظكم .
{ وكم من قرية أهلكناها } يعني : أهلها { فجاءها بأسنا } عذابنا { بياتاً } ليلاً { أو هم قائلون } نائمون نهاراً . يعني : جاءهم بأسنا وهم غير متوقِّعين له .
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{ فما كان دعواهم } دعاؤهم وتضرُّعهم { إذ جاءهم بأسنا إلاَّ أن } أقرُّوا على أنفسهم بالشِّرك و { قالوا إنا كنا ظالمين } .
{ فلنسئلنَّ الذين أرسل إليهم } نسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرُّسل ، ونسأل الرُّسل هل بلَّغوا ما أُرسلوا به .
{ فلنقصنَّ عليهم بعلم } لنخبرنَّهم بما عملوا بعلمٍ منَّا { وما كنا غائبين } عن الرُّسل والأمم ما بلَّغت وما ردَّ عليهم قومهم .
{ والوزن يومئذ } يعني : وزن الأعمال يوم السُّؤال الذي ذُكر في قوله : { فلنسألنَّ } { الحق } العدل ، وذلك أنَّ أعمال المؤمنين تتصوَّر في صورةٍ حسنةٍ ، وأعمال الكافرين في صورةٍ قبيحة ، فتوزن تلك الصُّورة ، فذلك قوله : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } النَّاجون الفائزون ، وهم المؤمنون .
{ ومَنْ خفَّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } صاروا إلى العذاب { بما كانوا بآياتنا يظلمون } يجحدون بما جاء به محمَّد عليه السَّلام .
{ ولقد مكنَّاكم في الأرض } ملَّكناكم فيما بين مكَّة إلى اليمن ، وإلى الشَّام . يعني : مشركي مكَّة { وجعلنا لكم فيها معايش } ما تعيشون به من الرِّزق والمال والتجارة { قليلاً ما تشكرون } أَيْ : إنَّكم غير شاكرين لما أنعمت عليكم .
{ ولقد خلقناكم } يعني : آدم { ثم صوَّرناكم } في ظهره . . . الآية .
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{ قال ما منعك إلا تسجد } " لا " زائدة . معناها : ما منعك أن تسجد؟! وهو سؤالُ التَّوبيخ والتَّعنيف { قال أنا خير منه . . . } الآية . معناه : منعني من السُّجود له أنِّي خيرٌ منه إذ كنتُ ناريَّاً ، وكان طينيَّاً ، فترك الأمر وقاس ، فعصى .
{ قال فاهبط منها } فانزل من الجنَّة . وقيل : من السَّماء { فما يكون لك أن تتكبر فيها } عن أمري وتعصيني { فأخرج إنك من الصاغرين } الأذلاء بترك الطَّاعة .
{ قال انظرني } أمهلني { إلى يوم يبعثون } يريد : النَّفخة الثَّانية .
{ قال إنك من المنظرين } .
{ قال : فبما أغويتني } يريد : فبما أضللتني ، أيْ : بإغوائك إيَّاي { لأقعدَّن لهم صراطك المستقيم } على الطَريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنَّة ، بأن أُزيِّن لهم الباطل .
{ ثم لآتينَّهم من بين أيديهم } يعني : آخرتهم التي يردون عليها ، فَأُشكِّكهم فيها { ومن خلفهم } دنياهم التي يُخَلِّفونها ، فأُرغِّبهم فيها { وعن أيمانهم } أُشبِّه عليهم أمر دينهم { وعن شمائلهم } أُشهِّي لهم المعاصي .
{ قال اخرج منها } من الجنَّة { مذؤوماً } مذموماً بأبلغ الذَّمِّ { مدحوراً } مطروداً ملعوناً { لمن تبعك منهم } من أولاد آدم { لأَمْلأَنَّ جهنم منكم } يعني : من الكافرين وقرنائهم من الشَّياطين .
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{ ويا آدم اسكن } سبق تفسيره في سورة البقرة .
{ فوسوس لهما الشيطان } أَيْ : حدَّث لهما في أنفسهما { ليبدي لهما } هذه اللام لام العاقبة ، وذلك أنَّ عاقبة تلك الوسوسة أدَّت إلى أن بدت لهما سوآتهما ، يعني : فروجهما بتهافت اللَّباس عنهما ، وهو قوله : { ما ووري } أَيْ : سُتر { عنهما من سوآتهما } { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة } أَيْ : عن أكلها { إلاَّ أن تكونا } " لا " ها هنا مضمرة ، أَيْ : إلاَّ أن لا تكونا { ملكين } يبقيان ولا يموتان ، كما لا تموت الملائكة . يدلُّ على هذا المعنى قوله : { أو تكونا من الخالدين } .
{ وقاسمهما } حلف لهما { إني لكما لمن الناصحين } .
{ فدلاهما بغرور } غرَّهما باليمين ، ومعنى دلاَّهما : جَرَّأَهُما على أكل الشَّجرة بما غرَّهما به من يمينه { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } تهافت لباسهما عنهما ، فأبصر كلُّ واحدٍ منهما عورة صاحبه ، فاستحييا { وطفقا يخصفان } أقبلا وجعلا يُرقِّعان الورق كهيئة الثَّوب ليستترا به { وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنَّ الشيطان لكما عدو مبين } .
{ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين } .
{ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر } موضع قرار .
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{ فيها تحيون؟ . . . } الآية . ولمَّا ذكر عُريَّ آدم وحواء منَّ علينا بما خلق لنا من اللِّباس ، فقال :
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم } أَيْ : خلقنا لكم { لباساً يواري سوآتكم } يستر عوراتكم { وريشاً } أَيْ : مالاً ، وما تتجمَّلون به من الثِّياب الحسنة { ولباس التقوى } أَيْ : ستر العورة لمَنْ يتَّقي الله فيواري عورته { ذلك خيرٌ } لصاحبه إذا أخذ به ، أو خيرٌ من التَّعري ، وذلك أنَّ جماعةً من المشركين كانوا يتعبَّدون بالتَّعريِّ وخلع الثَّياب في الطَّواف بالبيت . { وذلك من آيات الله } أَيْ : من فرائضه التي أوجبها بآياته . يعني : ستر العورة { لعلهم يذكرون } لكي يتَّعظوا .
{ يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان } لا يخدعنَّكم ولا يُضلنَّكم { كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما } أضاف النَّزع إليه - وإن لم يتولَّ ذلك -؛ لأنَّه كان بسببٍ منه { إنَّه يراكم هو وقبيله } يعني : ومَنْ كان من نسله { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } سلَّطناهم عليهم ليزيدوا في غيِّهم ، كما قال : { إنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين . . . } الآية .