كتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
{ بسم الله الرحمن الرحيم } ؛ أَيْ : ابدؤوا أوِ افتتحوا بتسمية الله تيمُّناً وتبرُّكاً ، و " الله " : اسمٌ تفرَّد الباري به سبحانه ، يجري في وصفه مجرى أسماء الأعلام ، لا يُعرف له اشتقاق . وقيل : معناه : ذو العبادة التي بها يُقصد . { الرَّحمن الرَّحيم } : صفتان لله تعالى معناهما : ذو الرَّحمة ، [ أَي : الرَّحمة لازمةٌ له ] ، وهي إرادة الخير ، ولا فرق بينهما ، مثل : ندمانٍ ونديم .
{ الحمدُ لله } هو الثَّناء لله ، والشُّكرُ له بإنعامه . { ربِّ العالمين } : مالك المخلوقات كلِّها .
{ مالك يوم الدِّين } [ مأخوذٌ من المِلْك ، والمِلْك مأخوذٌ من المُلْك ، أَيْ ] : قاضي يوم الجزاء والحساب؛ لأنَّه متفرِّدٌ في ذلك اليوم بالحكم .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{ إيَّاك نعبدُ } أَيْ : نخصُّك ونقصدك بالعبادة ، وهي الطَّاعة مع الخضوع . { وإيَّاك نستعين } : ومنك نطلب المعونة .
{ اهدنا الصراط المستقيم } ، أَيْ : دُلَّنا عليه ، واسلكْ بنا فيه ، وثبِّتنا عليه .
{ صراط الذين أنعمتَ عليهم } بالهداية ، وهم قومُ موسى وعيسى عليهما السَّلام قبل أن يُغيِّروا نعمَ الله عزَّ وجلَّ . وقيل : هم الذين ذكرهم الله عزَّ وجلَّ في قوله تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم . . . . . } الآية . { غير المغضوب عليهم } ، أَيْ : غير الذين غضبتَ عليهم ، وهم اليهود ، ومعنى الغضب من الله تعالى : إرادةُ العقوبة . { ولا الضَّالين } ، أَيْ : ولا الذين ضلُّوا ، وهم النَّصارى ، فكأنَّ المسلمين سألوا الله تعالى أن يهديهم طريق الذين أنعم عليهم ولم يغضب عليهم ، كما غضب على اليهود ، ولم يضلُّوا عن الحقِّ كما ضلَّت النَّصارى .
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ الم } أنا الله أعلم .
{ ذلك الكتاب } أَيْ : هذا الكتاب ، يعني : القرآن . { لا ريبَ فيه } أَيْ : لا شكَّ فيه ، [ أَيْ ] : إنَّه صدقٌ وحقٌّ . [ وقيل : لفظه لفظ خبرٍ ، ويُراد به النهي عن الارتياب . قال : { فلا رفث ولا فسوق } ولا ريب فيه أنَّه ] { هدىً } : بيانٌ ودلالةٌ { للمتقين } : للمؤمنين الذين يتَّقون الشِّرْك . [ في تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم ، وقد قال : { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر . . . . } الآية ] .
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{ الذين يؤمنون } : يُصدِّقون { بالغيب } : بما غاب عنهم من الجنَّة والنَّار والبعث . { ويقيمون الصَّلاة } : يُديمونها ويحافظون عليها ، { وممَّا رزقناهم } : أعطيناهم ممّا ينتفعون به . { ينفقون } : يُخرجونه في طاعة الله تعالى .
{ والذين يؤمنون بما أُنزل إليك } نزلت في [ مؤمني ] أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن ، { وما أنزل من قبلك } يعني : التَّوراة ، { وبالآخرة } يعني : وبالدَّار الآخرة { هم يوقنون } : يعلمونها علماً باستدلالٍ .
{ أولئك } يعني : الموصوفين بهذه الصِّفات . { على هدىً } : بيانٍ وبصيرةٍ { من ربِّهم } أَيْ : من عند ربِّهم ، { وأولئك هم المفلحون } : الباقون في النَّعيم المقيم .
{ إنَّ الذين كفروا } : ستروا ما أنعم الله عزَّ وجلَّ به عليهم من الهدى والآيات فجحدوها ، وتركوا توحيد الله تعالى { سواء عليهم } : معتدلٌ ومتساوٍ عندهم { أأنذرتهم } : أعلمتهم وخوَّفتهم [ { أم لم تنذرهم } ] أم تركت ذلك { لا يؤمنون } نزلت في أبي جهلٍ وخمسةٍ من أهل بيته ، ثمَّ ذكر سبب تركهم الإيمان ، فقال :
{ ختم اللَّهُ على قلوبهم } [ أَيْ : طبع الله على قلوبهم ] واستوثق منها حتى لا يدخلها الإيمان ، { وعلى سمعهم } [ أَيْ : مسامعهم حتى لا ينتفعوا بما يسمعون ، { وعلى أبصارهم } : ] على أعينهم { غشاوة } غطاءٌ فلا يبصرون الحقَّ ، { ولهم عذابٌ عظيمٌ } مُتواصل لا تتخلَّله فُرجةٌ .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
{ ومنْ الناسِ مَن يقولُ آمنا بالله وباليوم الآخر . . . . } الآية ، نزلت في المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان ، وأسرُّوا الكفر ، فنفى الله سبحانه عنهم الإِيمان بقوله : { وما هم بمؤمنين } فدلَّ أنَّ حقيقة الإيمان ليس الإِقرار فقط .
{ يخادعون الله والذين آمنوا } أَيْ : يعملون عمل المخادع بإظهار غير ما هم عليه؛ ليدفعوا عنهم أحكام الكفر ، { وما يخدعون إلاَّ أنفسهم } لأنَّ وبال خداعهم عاد عليهم بإطلاع الله تعالى نبيَّه [ عليه السَّلام والمؤمنين ] على أسرارهم وافتضاحهم ، { وما يشعرون } : وما يعلمون ذلك .
{ في قلوبهم مرضٌ } شكٌ ونفاقٌ ، { فزادهم الله مرضاً } أَيْ : بما أنزل من القرآن فشكُّوا فيه كما شكُّوا في الذي قبله ، { ولهم عذابٌ أليم } : مؤلمٌ { بما كانوا يكذبون } بتكذيبهم آيات الله عزَّ وجلَّ ونبيَّه صلى الله عليه وسلم . [ ومَنْ قرأ : " يُكذِّبون " فمعناه : يكذبهم في ادّعائهم الإيمان ] .
{ وإذا قيل لهم } [ لهؤلاء ] المنافقين : { لا تفسدوا في الأرض } بالكفر وتعويق النَّاس عن الإيمان { قالوا إنما نحن مصلحون } أَي : الذين نحن عليه هو صلاحٌ عند أنفسنا ، فردَّ الله تعالى عليهم ذلك ، فقال :
{ ألا إنَّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } : لا يعلمون أنَّهم مُفسدون .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن النَّاس } هم أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء } أَيْ : لا نفعل كما فعلوا ، وهذا القول كانوا يقولونه فيما بينهم ، فأخبر الله تعالى به عنهم .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } إذا اجتمعوا مع المؤمنين ، ورأوهم { قالوا آمنَّا } { وإذا خلوا } من المؤمنين وانصرفوا { إلى شياطينهم } : كبرائِهم وقادتهم { قالوا إنَّا معكم } [ أَيْ : على دينكم ] { إنَّما نحن مستهزئون } : مُظهرون غير ما نضمره .
{ اللَّهُ يستهزىءُ بهم } : يجازيهم جزاء استهزائهم { ويمدُّهم } : يُمهلهم ويطوِّل أعمارهم { في طغيانهم } : في إسرافهم ومجاوزتهم القدر في الكفر { يعمهون } يتردَّدون مُتحيِّرين .
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } : أخذوا الضَّلالة وتركوا الهدى { فما ربحت تجارتُهم } فما ربحوا في تجارتهم ، [ وإضافة الرِّبح إلى التجارة على طريق الاتساع ، كإضافة الإيضاء إلى النار ] . { وما كانوا مهتدين } فيما فعلوا .
{ مثلُهم كمثل الذي استوقد ناراً } أَيْ : حالهم في نفاقهم وإبطانهم الكفر كحالِ مَنْ أَوقد ناراً فاستضاء بها ، وأضاءت النَّار ما حوله ممَّا يخاف ويحذر وأمن ، فبينما هو كذلك إذ طُفئت ناره فبقي مُظلماً خائفاً مُتحيِّراً ، فذلك قوله تعالى : { ذهب الله بنورهم . . . } الآية ، كذلك المنافقون لمَّا أظهروا كلمة الإيمان اغترُّوا بها وأَمِنُوا ، فلمَّا ماتوا عادوا إلى الخوف والعذاب .
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{ صمٌّ } لتركهم قبول ما يسمعون { بُكْمٌ } لتركهم القول بالخير { عُمْيٌ } لتركهم ما يُبصرون من الهداية { فهم لا يرجعون } عن الجهل والعمى إلى الإسلام ، ثمَّ ذكر تمثيلاً آخر فقال :
{ أو كصيِّبٍ } أو كأصحاب مطرٍ شديدٍ { من السَّماء } : من السَّحاب { فيه } : في ذلك السَّحاب { ظلماتٌ ورعدٌ } وهو صوت مَلَكٍ مُوكَّلٍ بالسَّحاب { وبرق } وهي النَّار التي تخرج منه . { يجعلون أصابعهم في آذانهم } يعني : أهل هذا المطر { من الصواعق } من شدَّة صوت الرَّعد يسدُّون آذانهم بأصابعهم كيلا يموتوا بشدَّة ما يسمعون من الصَّوت ، فالمطر مَثَلٌ للقرآن لما فيه من حياة القلوب ، والظُّلماتُ مَثَلٌ لما خُوِّفوا به من الوعيد وذكر النَّار ، والبرقُ مثلٌ لحجج القرآن وما فيه من البيان ، وجعل الأصابع في الآذان حذر الموت مثَلٌ لجعل المنافقين أصابعهم في آذانهم كيلا يسمعوا القرآن مخافةَ ميل القلب إلى القرآن ، فيؤدِّي ذلك إلى الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وذلك عندهم كفرٌ ، والكفر موتٌ . { واللَّهُ محيطٌ بالكافرين } مُهلكهم وجامعهم في النَّار .
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{ يكاد البرقُ يخطف أبصارهم } هذا تمثيلٌ آخر ، يقول : يكاد ما في القرآن من الحجج يخطف قلوبهم من شدَّة إزعاجها إلى النَّظر في أمر دينهم { كلما أضاءَ لهم مشوا فيه } : كُلَّما سمعوا شيئاً ممَّا يُحبّون صدَّقوا ، وإذا سمعوا ما يكرهون وقفوا ، وذلك قولُه عزَّ وجلَّ : { وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } أَيْ : بأسماعهم الظَّاهرة ، وأبصارهم الظَّاهرة ، كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة حتى صاروا صُمَّاً عُمياً ، فليحذروا عاجل عقوبة الله سبحانه وآجلها ، ف { إنَّ الله على كل شيء قديرٌ } من ذلك .
{ يا أيُّها النَّاس } يعني : أهل مكَّة { اعبدوا ربَّكم } : اخضعوا له بالطَّاعة { الذي خلقكم } : ابتدأكم ولم تكونوا شيئاً { والذين من قبلكم } [ آباءكم ] [ وخلق الذين من قبلكم ] . أي : إنَّ عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوق وهو الصَّنم { لعلَّكم تتقون } لكي تتقوا بعبادته عقوبته أن تحلَّ بكم .
{ الذي جعل لكم الأرض فراشاً } بساطاً ، لم يجعلها حَزْنةً غليظةً لا يمكن الاستقرار عليها { والسماء بناءً } سقفاً { وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات } يعني : حمل الأشجار جميع ما ينتفع به ممَّا يخرج من الأرض { فلا تجعلوا لله أنداداً } : أمثالاً من الأصنام التي تعبدونها { وأنتم تعلمون } أنَّهم لا يخلقون ، والله هو الخالق ، وهذا احتجاجٌ عليهم في إثبات التَّوحيد ، ثمَّ احتجَّ عليهم في إثبات نبوَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم به ، فقال :
{ وإنْ كنتم في ريب مما نزلنا } [ أي : وإن كنتم ] في شكٍّ من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وقلتم : لا ندري هل هو من عند الله أم لا { فأتوا بسورة } من مثل هذا القرآن في الإِعجاز ، وحسن النَّظم ، والإِخبار عمَّا كان وما يكون ، { وادعوا شهداءكم } واستعينوا بآلهتكم التي تدعونها { من دون الله إن كنتم صادقين } أنَّ محمداً تقوَّله من نفسه .
{ فإنْ لم تفعلوا } هذا فيما مضى ، { ولن تفعلوا } هُ أيضاً فيما يُستقبل أبداً { فاتقوا } فاحذروا أن تصلوا { النَّار التي وقودها } ما يُوقد به { الناسُ والحجارة } يعني حجارة الكبريت ، وهي أشدُّ لاتِّقادها { أعدَّت } [ خُلقت وهُيِّئت ] جزاءً { للكافرين } بتكذيبهم ، ثمَّ ذكر جزاء المؤمنين فقال :
{ وبشِّر الذين آمنوا } أَيْ : أخبرهم خبراً يظهر به أثر السُّرور على بشرتهم { وعملوا الصالحات } أَي : الأعمال الصَّالحات ، يعني الطَّاعات فيما بينهم وبين ربِّهم { أنَّ لهم } : بأنَّ لهم { جناتٍ } : حدائق ذات الشِّجر { تجري من تحتها } من تحت أشجارها ومساكنها { الأنهار } { كلما رزقوا } : أُطعموا من تلك الجنَّات ثمرةً { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } لتشابه منا يُؤتون به ، وأرادوا : هذا من نوع ما رُزقنا من قبل { وأتوا به متشابهاً } في اللَّون والصُّورة ، مختلفاً في الطَّعم ، وذلك أبلغ في باب الإِعجاب { ولهم فيها أزواجٌ } : من الحور العين والآدميات { مطهرةٌ } عن كلِّ أذىً وقذرٍ ممَّا في نساء الدُّنيا ، ومن مساوىء الأخلاق ، وآفات الشَّيب والهرم { وهم فيها خالدون } لأنَّ تمام النِّعمة بالخلود .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
{ إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ . . . } الآية . لمَّا ضرب الله سبحانه المَثل للمشركين بالذُّباب والعنكبوت في كتابه ضحكت اليهود ، وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله سبحانه ، فأنزل الله تعالى : { إنَّ الله لا يَسْتَحْيِ } لا يترك ولا يخشى { أن يضرب مثلاً } أَنْ يُبيِّنَ شبهاً { ما بعوضةً } " ما " زايدةٌ مؤكِّدة ، والبعوض : صغار البق ، الواحدة : بعوضة . { فما فوقها } يعني : فما هو أكبر منها ، والمعنى : إنَّ الله تعالى لا يترك ضرب المثل ببعوضةٍ فما فوقها إذا علم أنَّ فيه عبرةُ لمن اعتبر ، وحجَّةً على مَنْ جحد [ واستكبر ] { فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون } أنَّ المثل وقع في حقِّه ، { وأَمَّا الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً } أَيْ : أَيُّ شيءٍ أراد الله بهذا من الأمثال؟ والمعنى أنَّهم يقولون : أَيُّ فائدةٍ في ضرب الله المثل بهذا؟ فأجابهم الله سبحانه فقال : { يضلُّ به كثيراًً } أَيْ : أراد الله بهذا المثل أن يضلَّ به كثيراً من الكافرين ، وذلك أنَّهم يُنكرونه ويُكذِّبونه { ويهدي به كثيراً } من المؤمنين ، لأنَّهم يعرفونه ويصدِّقونه { وما يضلُّ به إلاَّ الفاسقين } الكافرين الخارجين عن طاعته .
{ الذين ينقضون } يهدمون ويفسدون { عهدَ الله } : وصيته وأمره في الكتب المتقدِّمة بالإِيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم { من بعد ميثاقه } من بعد توكيده عليهم بإيجابه ذلك { ويقطعون ما أمرَ الله به أَنْ يوصل } يعني : الرَّحم ، وذلك أنَّ قريشاً قطعوا رحم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمعاداة معه { ويفسدون في الأرض } بالمعاصي وتعويق النَّاس عن الإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم { أولئك هم الخاسرون } [ مغبونون ] بفوت المثوبة ، والمصيرِ إلى العقوبة .
{ كيف تكفرون بالله } معنى " كيف " ها هنا استفهامٌ في معنى التَّعجُّب للخلقِ ، أَي : اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون بالله وحالُهم أنَّهم كانوا تراباً فأحياهم ، بأَنْ خلق فيهم الحياة ، فالخطاب للكفَّار ، والتَّعجب للمؤمنين ، وقوله تعالى : { ثم يميتكم } أَيْ : في الدُّنيا { ثمَّ يُحييكم } [ في الآخرة ] للبعث { ثمَّ إليه ترجعون } تردُّون فيفعل بكم ما يشاء ، فاستعظم المشركون أمر البعث والإعادة ، فاحتجَّ الله سبحانه عليهم بخلق السَّموات والأرض ، فقال :
{ هو الذي خلق لكم } لأجلكم { ما في الأرض جميعاً } بعضها للانتفاع ، وبعضها للاعتبار ، { ثمَّ استوى إلى السَّماء } : أقبل على خلقها ، وقصد إليها { فسوَّاهنَّ سبع سموات } فجعلهنَّ سبع سمواتٍ مُستوياتٍ لا شقوق فيها ولا فطور ولا تفاوت { وهو بكلِّ شيءٍ عليم } إذ بالعلم يصحُّ الفعل المحكم .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
{ وإذ قال ربك } واذكر لهم يا محمَّدُ إذ قال ربُّك { للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة } يعني : آدم ، جعله خليفةً عن الملائكة الذين كانوا سكَّان الأرض بعد الجنِّ ، والمراد بذكر هذه القصَّة ذكرُ بدءِ خلق النَّاس . { قالوا أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها } كما فعل بنو الجانِّ ، قاسوا [ الشَّاهد ] على الغائب { ونحن نسبح بحمدك } نُبرِّئُك من كلِّ سوءٍ ، ونقول : سبحان الله وبحمده ، { ونقدِّسُ لك } ونُنزِّهك عمَّا لا يليق بك { قال إني أعلم ما لا تعلمون } من إضمار إبليس العزم على المعصية ، فلمَّا قال الله تعالى هذا للملائكة قالوا فيما بينهم : لن يخلق ربُّنا خلقاً هو أعلمُ منَّا ، ففضَّل الله تعالى عليهم آدم بالعلم ، وعلَّمه اسم كلِّ شيء حتى القصعة [ والقصيعة ] والمِغْرفة ، وذلك قوله تعالى :
{ وعلَّم آدم الأسماءَ كلَّها } أَيْ : خلق في قلبه علماً بالأسماء على سبيل الابتداء { ثمَّ عرَضهم } أَيْ : عرض المسمَّيات بالأسماء من الحيوان والجماد وغير ذلك { على الملائكة فقال أنبئوني } أخبروني { بأسماء هؤلاء } وهذا أمرُ تعجيزٍ ، أراد الله تعالى أن يُبيِّن عجزهم عن علم ما يرون ويُعاينون { إن كنتم صادقين } أنِّي لا أخلق خلقاً أعلمَ منكم ، فقالت الملائكة إقراراً بالعجز واعتذاراً :
{ سبحانك } تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك في حكمك { لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا } اعترفوا بالعجز عن علم ما لم يُعلَّموه { إنَّك أنت العليم } العالم { الحكيم } الحاكم تحكم بالحقِّ وتقتضي به ، فلمَّا ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى لآدم : { يا آدم أنبئهم بأسمائهم } .
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{ يا آدم أنبئهم بأسمائهم } أخبرهم بتسمياتهم ، فسمَّى كلَّ شيءٍ باسمه ، وألحق كلَّ شيءٍ بجنسه { فلما أنبأهم بأسمائهم } : أخبرهم بمسمَّياتهم { قال } الله تعالى للملائكة : { ألم أقل لكم } وهذا استفهامٌ يتضمَّن التَّوبيخ لهم على قولهم : { أتجعل فيها مَنْ يفسد فيها } . { إني أعلم غيب السموات والأرض } أَيْ : ما غاب فيهما عنكم { وأعلم ما تبدون } : علانيتكم { وما كنتم تكتمون } : سرَّكم ، لا يخفى عليَّ شيءٌ من أموركم .
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } سجود تعظيمٍ وتسليمٍ وتحيَّةٍ ، وكان ذلك انحناءاً يدلُّ على التَّواضع ، ولم يكن وضعَ الوجه على الأرض ، { فسجدوا إلاَّ إبليس أبى } امتنع { واستكبر وكان من الكافرين } في سابق علم الله عزَّ وجلَّ .
{ وقلنا يا آدم اسكنْ أنت وزوجك الجنَّة } اتَّخذاها مأوىً ومنزلاً { وكلا منها رغداً } واسعاً { حيث شئتما } ما شئتما [ كيف شئتما ] { ولا تقربا هذه الشجرة } لا تحوما حولها بالأكل منها ، يعني السُّنبلة { فتكونا } فتصيرا { من الظالمين } : العاصين الذين وضعوا أمر الله عزَّ وجلَّ غير موضعه .
{ فأزلَّهما الشيطان } نحَّاهما وبعَّدهما { عنها فأخرجهما ممَّا كانا فيه } من الرُّتبة ولين العيش { وقلنا } لآدم وحواء وإبليس والحيَّة : { اهبطوا } أي : انزلوا إلى الأرض { بعضكم لبعض عدو } يعني : العداوة التي بين آدم وحواء والحيَّة . وبين ذرية آدم عليه السَّلام من المؤمنين وبين إبليس لعنه الله ، { ولكم في الأرض مستقر } موضع قرارٍ { ومتاع إلى حين } ما تتمتَّعون به ممَّا تُنبته الأرض إلى حين الموت .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
{ فتلقى آدم من ربه } أخذ وتلقَّن { كلماتٍ } وهو أنَّ الله تعالى ألهم آدم عليه السَّلام حين اعترف بذنبه وقال : { ربنا ظلمنا أنفسنا } الآية { فتاب عليه } فعاد عليه بالمغفرة حين اعترف بالذَّنب واعتذر { إنَّه هو التواب } يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه .
{ قلنا اهبطوا منها جميعاً } كرَّر الأمر بالهبوط للتَّأكيد { فإمَّا يأتينَّكم مني هدىً } أَيْ : فإنْ يأتكم مني شريعةٌ ورسولٌ وبيانٌ ودعوةٌ { فمن تبع هداي } أَيْ : قَبِل أمري ، واتَّبع ما آمره به { فلا خوف عليهم } في الآخرة ولا حزن ، والخطاب لآدم وحوَّاء ، وذرِّيتهما ، أعلمهم الله تعالى أنَّه يبتليهم بالطَّاعة ، ويجازيهم بالجنَّة عليها ، ويعاقبهم بالنَّار على تركها ، وهو قوله تعالى :
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } أَيْ : بأدلتنا وكتبنا { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ يا بني إسرائيل } أولاد يعقوب عليه السَّلام { اذكروا } اشكروا ، وذكر النِّعمة هو شكرها { نعمتي } يعني : نعمي { التي أنعمت عليكم } يعني : فلق البحر ، والإِنجاء من فرعون ، وتظليل الغمام ، إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم ، والمراد بقوله تعالى : { عليكم } أَيْ : على آبائكم ، والنِّعمة على آبائهم نعمةٌ عليهم ، وشكر هذه النِّعم طاعتُه في الإِيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ صرَّح بذلك ، فقال : { وأوفوا بعهدي } أَيْ : في محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { أُوف بعهدكم } أدخلكم الجنَّة { وإيَّاي فارهبون } فخافوني في نقض العهد .
{ وآمنوا بما أنزلت } يعني : القرآن { مصدقاً لما معكم } موافقاً للتَّوراة في التَّوحيد والنُّبوَّة { ولا تكونوا أوَّل كافر به } أَيْ : أوَّل مَنْ يكفر به من أهل الكتاب؛ لأنَّكم إذا كفرتم كفر أتباعكم ، فتكونوا أئمةً في الضَّلالة ، والخطابُ لعلماء اليهود . { ولا تشتروا } ولا تستبدلوا { بآياتي } ببيان صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته { ثمناً قليلاً } عوضاً يسيراً من الدُّنيا ، يعني : ما كانوا يُصيبونه من سفلتهم ، فخافوا إنْ هم بيَّنوا صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ تفوتهم تلك المآكل والرِّياسة ، { وإيايَّ فاتقون } فاخشوني في أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا ما يفوتكم من الرِّياسة .
{ ولا تلبسوا الحق بالباطل } أَيْ : لا تخلطوا الحقَّ الذي أنزلتُ عليكم من صفة محمَّدٍ عليه السَّلام بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته ، وتبديل نعته ، { وتكتموا الحق } أَيْ : ولا تكتموا الحقَّ ، فهو جزمٌ عُطِفَ على النَّهي ، { وأنتم تعلمون } أنَّه نبيٌّ مرسلٌ قد أُنزل عليكم ذكره في كتابكم ، فجحدتم نبوَّته مع العلم به .
{ وأقيموا الصلاة } المفروضة { وآتوا الزكاة } الواجبة في المال { واركعوا مع الراكعين } وصلُّوا مع المصلِّين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جماعةٍ .
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
{ أتأمرون الناس بالبرِّ } كانت اليهود تقول لأقربائهم من المسلمين : اثبتوا على ما أنتم عليه ، ولا يؤمنون به ، فأنزل الله تعالى توبيخاً لهم : { أتأمرون الناس بالبر } بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { وتنسون } وتتركون { أنفسكم } فلا تأمرونها بذلك { وأنتم تتلون الكتاب } تقرؤون التَّوراة وفيها صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته { أفلا تعقلون } أنَّه حقٌّ فتتَّبعونه؟! ثمَّ أمرهم الله تعالى بالصَّوم والصَّلاة؛ لأنَّهم إنَّما كان يمنعهم عن الإسلام الشَّره ، وخوف ذَهاب مأكلتهم ، وحب الرِّياسة ، فأُمروا بالصَّوم الذي يُذهب الشَّرَه ، وبالصًَّلاة التي تُورث الخشوع ، وتَنفي الكبر ، وأُريدَ بالصَّلاةِ الصَّلاةُ التي معها الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فقال :
{ واستعينوا بالصبر } يعني بالصَّوم ، { والصلاة } لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر { وإنها لكبيرةٌ } لثقيلةٌ [ يعني : وإنَّ الإستعانةَ بالصبر والصلاة لثقيلةٌ ] { إلاَّ على الخاشعين } السَّاكنين إلى الطَّاعة . وقال بعضهم : رجع بهذا القول إلى خطاب المسلمين ، فأمرهم أَنْ يستعينوا على ما يطلبونه من رضاءِ الله تعالى ونيل جنَّتِهِ بالصَّبر على أداء فرائضه [ وهو الصَّوم ] والصَّلاة .
{ الذين يظنون } يستيقنون { أنهم ملاقو ربِّهم } أنَّهم مبعوثون وأنَّهم محاسبون وأنَّهم راجعون إلى الله تعالى ، أَيْ : يُصدِّقون بالبعث والحساب .
{ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } مضى تفسيره ، { وأني فضلتكم } أعطيتكم الزِّيادة { على العالمين } : على عالمي زمانكم ، وهو ما ذكره في قوله تعالى : { إذ جعل فيكم أنبياء . . . } الآية ، والمراد بهذا التَّفضيل سلفهم ، ولكن تفضيل الآباء شرف الأبناء .
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{ واتقوا يوماً } واحذروا واجتنبوا عقاب يومٍ { لا تجزي } لا تقضي ولا تُغني { نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة } أَيْ : لا يكون شفاعةٌ فيكون لها قبول ، وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون : يشفع لنا آباؤنا الأنبياء ، فآيسهم الله تعالى عن ذلك { ولا يؤخذ منها عدل } فِداءٌ { ولا هم ينصرون } يُمنعون من عذاب الله تعالى .
{ وإذ نجيناكم } واذكروا ذلك { من آل فرعون } أتباعه ومَنْ كان على دينه { يسومونكم } : يُكلِّفونكم { سوء العذاب } شديد العذاب ، وهو قوله تعالى : { يذبحون } : يُقتِّلون { أبناءكم ويستحيون نساءكم } يستبقونهنَّ أحياءً [ لقول بعض الكهنة له : إنَّ مولوداً يُولد في بني إسرائيل يكون سبباً له ذهابُ ملكك ] . { وفي ذلكم } الذي كانوا يفعلونه بكم { بلاءٌ } : ابتلاءٌ واختبارٌ وامتحانٌ { من ربكم عظيم } وقيل : وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمةٌ عظيمة ، والبلاء : النِّعمة ، والبلاء : الشِّدَّة .
{ وإذ فرقنا بكم البحر } فجعلناه اثني عشر طريقاً حتى خاض فيه بنو إسرائيل . { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون } إلى انطباق البحر عليهم وإنجائكم منهم .
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
{ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } أَي : انقضاءَها وتمامَها للتَّكلُّم معه { ثمَّ اتخذتم العجل } معبوداً وآلهاً { من بعده } من بعد خروجه عنكم للميقات { وأنتم ظالمون } واضعون العبادةَ في غير موضعها ، وهذا تنبيه على أنَّ كفرهم بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل في زمن موسى عليه السَّلام .
{ ثمَّ عفونا } محونا ذنوبكم { عنكم من بعد ذلك } من بعد عبادة العجل { لعلكم تشكرون } لكي تشكروا نعمتي بالعفو .
{ وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان } [ عطف تفسيري ] يعني : التَّوراة الفارق بين [ الحق والباطل ] والحلال والحرام { لعلكم تهتدون } لكي تهتدوا بذلك الكتاب [ من الضلال ] .
{ وإذ قال موسى لقومه } الذين عبدوا العجل { يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } إلهاً { فتوبوا إلى بارئكم } يعني : خالقكم . قالوا : كيف نتوب؟ قال : { فاقتلوا أنفسكم } أَيْ : ليقتلِ البريءُ منكم المجرمَ { ذلكم } أَي : التَّوبة { خيرٌ لكم عند بارئكم } من إقامتكم على عبادة العجل ، ثم فعلتم ما أُمرتم به { فتاب عليكم } [ : قبل توبتكم . { إنَّه هو التواب الرحيم } ] .
{ وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك } يعني : الذين اختارهم موسى عليه السَّلام ليعتذروا إلى الله سبحانه من عبادة العجل ، فلمَّا سمعوا كلام الله تعالى ، وفرغ موسى من مناجاة الله عزَّ وجلَّ قالوا له : [ { لن نؤمن لك } ] لن نصدِّقك { حتى نرى الله جهرةً } أَيْ : عِياناً لا يستره عنا شيءٌ { فأخذتكم الصاعقة } وهي نارٌ جاءت من السَّماء فأحرقتهم جميعاً { وأنتم تنظرون } إليها حين نزلت ، وإنَّما أخذتهم الصَّاعقة؛ لأنَّهم امتنعوا من الإِيمان بموسى عليه السَّلام بعد ظهور معجزته حتى يُريهم ربَّهم جهرةً ، والإيمانُ بالأنبياء واجبٌ بعد ظهور معجزتهم ، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليه ، فلهذا عاقبهم الله تعالى ، وهذه الآية توبيخٌ لهم على مخالفة الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع قيام معجزته ، كما خالف أسلافهم موسى مع ما أَتى به من الآيات الباهرة .
{ ثم بعثناكم } نشرناكم وأَعدْناكم أَحياءً { من بعد موتكم لعلكم تشكرون } نعمة البعث .
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
{ وظللنا عليكم الغمام } سترناكم عن الشَّمس في التِّيه بالسَّحاب الرَّقيق { وأنزلنا عليكم المنَّ } الطُّرَنْجبين كان يقع على أشجارهم بالأسحار { والسَّلوى } وهي طير أمثال السُّمانى ، وقلنا لهم : { كلوا من طيبات } من حلالات { ما رزقناكم وما ظلمونا } بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول قرية الجبَّارين ، ولكنَّهم ظلموا أنفسهم حين تركوا أمرنا فحبسناهم في التِّيه ، فلمَّا انقضت مدَّة حبسهم وخرجوا من التِّيه قال الله تعالى لهم :
{ ادخلوا هذه القرية } وهي أريحا { وادخلوا الباب } يعني : باباً من أبوابها { سجداً } منحنين متواضعين { وقولوا حطة } وذلك أنَّهم أصابوا خطيئةً بإبائهم على موسى عليه السَّلام دخول القرية ، فأراد الله تعالى أَنْ يغفرها لهم فقال لهم : قولوا حطَّةٌ ، أَيْ : مسألتنا حطَّةٌ ، وهو أن تحط عنا ذنوبنا ، { وسنزيد المحسنين } الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحساناً وثواباً .
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
{ فبدَّل الذين ظلموا قولاً } منهم { غير الذي قيل لهم } أَيْ : غيَّروا تلك الكلمة التي أُمروا بها ، وقالوا : حنطةٌ { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً } ظلمةً وطاعوناً ، فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً جزاءً لفسقهم بتبديل ما أُمروا به من الكلمة .
{ وإذ استسقى موسى لقومه } في التِّيه { فقلنا اضرب بعصاك الحجر } وكان حجراً خفيفاً مربَّعاً مثل رأس الرَّجل { فانفجرت } أيْ : فضربَ ، فانفجرت ، يعني : فانشقَّت { منه اثنتا عشرة عيناً } فكان يأتي كلُّ سبط عينَهم التي كانوا يشربون منها ، فذلك قوله تعالى : { قد علم كلُّ أناسٍ مشربهم } وقلنا لهم : { كلوا } من المنِّ والسَّلوى { واشربوا } من الماء ، فهذا كلُّه { من رزق الله } { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أَيْ : لا تسعوا فيها بالفساد ، فَمَلُّوا ذلك العيش ، وذكروا عيشاً كان لهم بمصر .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
فقالوا : { يا موسى لن نصبر على طعام واحد } يعني : المنَّ الذي كانوا يأكلونه والسَّلوى ، فكانا طعاماً واحداً { فادع لنا ربك } سله وقل له : أَخرِجْ { يُخرجْ لنا مما تنبت الأرض من بقلها } وهو كلُّ نباتٍ لا يبقى له ساقٌ { وقثائها } وهو نوعٌ من الخضروات { وفومها } وهو الحنطة ، فقال لهم موسى عليه السَّلام : { أتستبدلون الذي هو أدنى } أَيْ : أخسُّ وأوضع { بالذي هو خيرٌ } أَي : أرفع وأجلُّ؟ فدعا موسى عليه السَّلام فاستجبنا له وقلنا لهم : { اهبطوا مصراً } : أنزلوا بلدةً من البلدان { فإنَّ [ لكم ما سألتم } أَيْ : فإنَّ ] الذي سألتم لا يكون إلاَّ في القرى والأمصار { وضُربت عليهم } أَيْ : على اليهود الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم { الذلَّة } يعني : الجزيةَ وزيَّ اليهوديَّة ، ومعنى ضرب الذِّلة : إلزامهم إيَّاها إلزاماً لا يبرح { والمسكنة } زي الفقر وأثر البؤس { وباؤوا } احتملوا وانصرفوا { بغضب من الله ذلك } أَيْ : ذلك الضَّرب والغضب { بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله } التي أُنزلت على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { ويقتلون النَّبيين } أَيْ : يتولَّون أولئك الذين فعلوا ذلك { بغير حق } أَيْ : قتلاً بغير حقٍّ ، يعني : بالظُّلم { ذلك } الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي وتجاوزهم أمر الله تعالى .
{ إن الذين آمنوا } أَيْ : بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك { والذين هادوا } دخلوا في دين اليهوديَّة { والنصارى والصابئين } الخارجين من دين إلى دين ، وهم قومٌ يعبدون النُّجوم { مَنْ آمن } من هؤلاء { بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً } بالإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام؛ لأنَّ الدليل قد قام أنَّ مَنْ لم يؤمن به لا يكون عمله صالحاً { فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } .
{ وإذ أخذنا ميثاقكم } بالطَّاعة لله تعالى والإيمان بمحمَّدٍ عليه السَّلام في حال رفع الطُّور فوقكم ، يعني : الجبل ، وذلك لأنَّهم أبوا قبول شريعة التَّوراة ، فأمر الله سبحانه جبلاً فانقلع من اصله حتى قام على رؤوسهم ، فقبلوا خوفاً من أن يُرضخوا على رؤوسهم بالجبل ، وقلنا لكم : { خذوا ما آتيناكم } اعملوا بما أُمرتم به { بقوَّةٍ } بجدٍّ ومواظبةٍ على طاعة الله عزَّ وجلَّ { واذكروا ما فيه } من الثَّواب والعقاب { لعلكم تتقون } .
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
{ ثمَّ توليتم بعد ذلك } أعرضتم عن أمر الله تعالى وطاعته من بعد أخذ الميثاق { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } بتأخير العذاب عنكم { لكنتم من الخاسرين } الهالكين في العذاب .
{ ولقد علمتم } عرفتم حال { الذين اعتدوا } جاوزوا ما حُدَّ لهم من ترك الصَّيد في السَّبت { فقلنا لهم كونوا } بتكويننا إيَّاكم { قردةً خاسئين } مطرودين مبعدين .
{ فجعلناها } أَيْ : تلك العقوبة والمسخة { نكالاً } عبرةً { لما بين يديها } للأمم التي ترى الفرقة الممسوخة { وما خلفها } من الأمم التي تأتي بعدها { وموعظة } عبرةً { للمتقين } للمؤمنين [ الذين يتقون ] من هذه الأمَّة .
{ وإذ قال موسى لقومه إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وذلك أنَّه وُجد قتيلٌ في بني إسرائيل ولم يدروا قاتله ، فسألوا موسى عليه السَّلام أن يدعو الله تعالى ليبيِّن لهم ذلك ، فسأل موسى ربَّه فأمرهم بذبح بقرةٍ ، فقال لهم موسى عليه السَّلام : إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة { قالوا أتتخذنا هزواً } أتستهزىء بنا حين نسألك عن القتيل فتأمرنا بذبح البقرة؟! { قال أعوذ بالله } أمتنع به أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين ، فلمَّا علموا أنَّ ذلك عزمٌ من الله عزَّ وجلَّ سألوه الوصف ، فقالوا :
{ ادع لنا ربك } أَيْ : سله بدعائك إيَّأه { يبين ما هي } ما تلك البقرة ، وكيف هي ، وكم سنُّها؟ وهذا تشديدٌ منهم على أنفسهم { قال إنَّه يقولُ : إنها بقرةٌ لا فارضٌ } مُسِنَّةٌ كبيرةٌ { ولا بكرٌ } فتيةٌ صغيرةٌ { عوانٌ } نَصَفٌ بين السِّنَّينِ { فافعلوا ما تؤمرون } [ فيه تنبيهٌ على منعهم ] .
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{ فاقعٌ لونها } أَيْ : شديد الصُّفرة { تسرُّ الناظرين } تعجبهم بحسنها .
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أَسائمةٌ أم عاملةٌ؟ { إنَّ البقر } جنس البقر { تشابه } اشتبه وأشكل { علينا وإنَّا إنْ شاء الله لمهتدون } إلى وصفها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وايمُ اللَّهِ ، لو لم يستثنوا لما بُيِّنت لهم آخر الأبد .
{ قال إنَّه يقول إنها بقرةٌ لا ذلولٌ } مُذلَّلةٌ بالعمل { تثير الأرض } تُقلبها للزراعة ، أَيْ : ليستْ تقلِّب؛ لأنَّها ليست ذلولاً { ولا تسقي الحرث } الأرض المهيَّأة للزِّراعة { مسلَّمة } من العيوب وآثار العمل { لاشية فيها } لا لون فيها يُفارق سائر لونها { قالوا الآن جئت بالحقّ } بالوصف التّام الذي تتميَّز به من أجناسها ، فطلبوها فوجدوها { فذبحوها وما كادوا يفعلون } لغلاء ثمنها .
{ وإذ قتلتم نفساً } هذا أوَّل القصَّة ، ولكنَّه مؤخرَّ في الكلام { فادَّارأتم } فاختلفتم وتدافعتم { والله مخرجٌ } مُظهرٌ { ما كنتم تكتمون } من أمر القتيل .
{ فقلنا اضربوه ببعضها } بلسانها فيحيى ، فَضرب فحييَ { كذلك يُحْيِ الله الموتى } أَيْ : كما أحيا هذا القتيل { ويريكم آياته } آيات قدرته في خلق الحياة في الأموات ، [ كما خلق في عاميل ] .
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{ ثم قست قلوبكم } يا معشر اليهود ، أَي : اشتدَّت وصلبت { من بعد ذلك } من بعد هذه الآيات التي تقدَّمت من المسخ ورفع الجبل فوقهم ، وانبجاس الماء من الحجرِ ، وإحياء الميت بضرب عضوٍ ، وهذه الآيات ممَّا يصدِّقون بها { فهي كالحجارة } في القسوة وعدم المنفعة؛ بل { أشد قسوة } وإنَّما عنى بهذه القسوة تركهم الإِيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا صدقه ، وقدرةَ الله تعالى على عقابهم بتكذيبهم إيَّاه ، ثمَّ عذر الحجارة وفضَّلها على قلوبهم فقال : { وإنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإنَّ منها لما يشقَّق فيخرج منه الماء وإنَّ منها لما يهبط } ينزل من علوٍ إلى أسفلٍ { من خشية الله } . قال مجاهدٌ : كلُّ حجرٍ تفجَّر منه الماء ، أو تشقَّق عن ماء ] ، أو تردَّى من رأس جبلٍ فهو من خشية الله تعالى ، نزل به القرآن . ثمَّ أوعدهم فقال : { وما الله بغافلٍ عمَّا تعملون } ثمَّ خاطب النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فقطع طمعهم عن إيمانهم ، فقال :
{ أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } وحالهم أنَّ طائفةً منهم كانوا { يسمعون كلام الله } يعني التَّوراة { ثم يحرفونه } يُغيِّرونه عن وجهه . يعني : الذين غيَّروا أحكام التَّوراة ، وغيَّروا آية الرَّجم ، وصفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { من بعد ما عقلوه } أَيْ : لم يفعلوا ذلك عن نسيانٍ وخطأٍ ، بل فعلوه عن تعمُّدٍ { وهم يعلمون } أنَّ ذلك مَكْسَبةٌ للأوزار .
{ وإذا لقوا الذين آمنوا } يعني : منافقي اليهود { قالوا آمنا } بمحمَّدٍ ، وهو نبيٌّ صادقٌ نجده في كتبنا { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } يعني : إذا رجع هؤلاء المنافقون إلى رؤسائهم لاموهم فقالوا : { أتحدثونهم } أتخبرون أصحاب محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - { بما فتح الله عليكم } من صفة النَّبيِّ المُبشَّر به { ليحاجُّوكم } ليجادلوكم ويخاصموكم { به } بما قلتم لهم { عند ربكم } في الآخرة ، يقولون : كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقة { أفلا تعقلون } أفليس لكم ذهن الإنسانيَّة؟ فقال الله تعالى :
{ أولا يعلمون أنَّ الله يعلم ما يسرون } من التَّكذيب ، يعني : هؤلاء المنافقين { وما يعلنون } من التَّصديق .
{ ومنهم } ومن اليهود { أميُّون } لا يكتبون ولا يقرؤون { لا يعلمون الكتاب إلاَّ أمانيّ } إلاَّ أكاذيب وأحاديثَ مُفتعلةً يسمعونها من كبرائهم { وإن هم إلاَّ يظنون } أَيْ : إلاَّ ظانِّين ظنَّاً وتوهُّماً ، فيجحدون نُبُوَّتَكَ بالظَّنِّ .
{ فويلٌ } فشدَّةُ عذابٍ { للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } أَيْ : من قِبَلِ أنفسهم من غير أن يكون قد أُنزل { ثم يقولون هذا من عند الله } الآية . يعني اليهود ، عمدوا إلى صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكتبوا صفته على غير ما كانت في التَّوراة ، وأخذوا عليه الأموال فذلك قوله تعالى : { وويلٌ لهم ممَّا يكسبون } [ من حُطَام الدُّنيا ] فلمَّا أوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّار عند تكذيبهم إيَّاه .
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
قالوا : { لن تمسنا النَّارُ إلاَّ أياماً معدودةً } قليلةً ، ويعنون الأيَّام التي عبد آباؤهم فيها العجل ، فكذَّبهم الله سبحانه فقال : قل لهم يا محمَّدُ : { أَتَّخَذْتُمْ عند الله عهداً } أخذتم بما تقولون من الله ميثاقاً؟ [ { فلن يخلف الله عهده } ] والله لا ينقض ميثاقه { أم تقولون على الله } الباطلَ جهلاً منكم ، ثمَّ ردَّ على اليهود قولهم : لن تمسَّنا النَّار ، فقال : { بلى } أُعذِّب .
{ مَنْ كسب سيئة } وهي الشِّرك { وأحاطت به خطيئته } : سدَّت عليه مسالك النَّجاة ، وهو أّنْ يموت على الشِّرك { فأولئك [ أصحاب النار هم فيها خالدون ] } الذين يُخلَّدون في النَّار . ثمَّ أخبر عن أخذ الميثاق عليهم بتبيين نعت محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فقال : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أَيْ : في التَّوراة { لا تعبدون } أَيْ : بأن لا تعبدوا { إلاَّ الله وبالوالدين إحساناً } أَيْ : ووصَّيناهم بالوالدين إحساناً { وذي القربى } أَي : القرابة في الرَّحم [ { واليتامى } يعني : الذين مات أبوهم قبل البلوغ ] { وقولوا للناس حسناً } أَيْ : صدقاً وحقَّاً في شأن محمَّدٍ عليه السَّلام ، وهو خطابٌ لليهود ، { ثم توليتم } أعرضتم عن العهد والميثاق ، يعني : أوائلهم { إلاَّ قليلاً منكم } يعني : مَنْ كان ثابتاً على دينه ، ثمَّ آمن بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { وأنتم معرضون } عمَّا عُهد إليكم كأوائلكم .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } بأن لا يقتل بعضكم بعضاً ، ولا يُخرج بعضكم بعضاً من داره ولا يغلبه عليها ، { ثم أقررتم } أَيْ : قبلتم ذلك { وأنتم } اليوم { تشهدون } على إقرار أوائلكم ، ثمَّ أخبر أنَّهم نقضوا هذا الميثاق فقال :
{ ثم أنتم هؤلاء } [ أراد : يا هؤلاء ] { تقتلون أنفسكم } يقتل بعضكم بعضاً . { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم } تتعاونون على أهل ملَّتكم [ { بالإثم والعدوان } ] : بالمعصية والظُّلم { وإن يأتوكم أسارى } مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم { وهو محرَّم عليكم إخراجهم } أَيْ : وإخراجهم عن ديارهم محَّرمٌ عليكم { أفتؤمنون ببعض الكتاب } يعني : فداء الأسير { وتكفرون ببعض } يعني : القتل والإخراج والمظاهرة على وجه الإباحة؟ قال السُّدِّيُّ : أخذ الله تعالى عليهم أربعة عهودٍ : تركَ القتل ، وترك الإِخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أُسرائهم فأعرضوا عن كلِّ ما أُمروا به إلاَّ الفداء . { فما جزاء مَنْ يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ } فضيحةٌ وهوانٌ { في الحياة الدنيا } ، وقوله :
{ فلا يخفف عنهم العذاب } معناه : في الدُّنيا والآخرة ، وقيل : هذه الحالة مختصَّةٌ بالآخرة .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
{ ولقد آتينا موسى الكتاب وقفَّينا من بعده الرسل } أَيْ : وأرسلنا رسولاً بعد رسول { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } يعني : ما أُوتي من المعجزة { وأيدناه } وقوَّيناه { بِرُوحِ القدس } بجبريل عليه السَّلام ، وذلك أنَّه كان قرينه يسير معه حيث سار ، يقول : فعلنا بكم كلَّ هذا فما استقمتم؛ لأنَّكم { كلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } ثمَّ تعظَّمتم عن الإِيمان به { ففريقاً كذَّبتم } مثل عيسى ومحمَّدٍ عليهما السَّلام { وفريقاً تقتلون } مثل يحيى وزكريا عليهما السَّلام .
{ وقالوا قلوبنا غلفٌ } هو أنَّ اليهود قالوا استهزاءً وإنكاراً لما أتى به محمد عليه السَّلام : قلوبنا غلفٌ عليها غشاوةٌ ، فهي لا تعي ولا تفقه ما تقول ، وكلُّ شيءٍ في غلافٍ فهو أغلف ، وجمعه : غُلْف ، ثمَّ أكذبهم الله تعالى فقال : { بل لعنهم الله } أَيْ : أبعدهم من رحمته فطردهم { فقليلاً ما يؤمنون } أَيْ : فبقليلٍ يؤمنون بما في أيديهم . وقال قتادة : " فقليلاً ما يؤمنون " ، أَيْ : ما يؤمن منهم إلاَّ قليلٌ ، كعبد الله بن سلام .
{ ولما جاءهم كتاب } يعني : القرآن { مصدِّق } موافقٌ { لما معهم } { وكانوا } يعني : اليهود { من قبل } نزول الكتاب { يستفتحون } يستنصرون { على الذين كفروا } بمحمد عليه السَّلام وكتابه ، ويقولون : اللَّهم انصرنا بالنَّبيِّ المبعوث في آخر الزَّمان { فلما جاءهم ما عرفوا } يعني : الكتاب وبعثة النبيّ { كفروا } ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال :
{ بئس ما اشتروا به أنفسهم } أَيْ : بئس ما باعوا به حظَّ أنفسهم من الثَّواب بالكفر بالقرآن { بغياً } أَيْ : حسداً { أن ينزل الله } أَيْ : إنزال الله { من فضله على من يشاء من عباده } وذلك أنَّ كفر اليهود لم يكن من شكٍّ والا اشتباهٍ ، وإنَّما كان حسداً حيث صارت النُّبوَّة في ولد إسماعيل عليه السَّلام { فباؤوا } فانصرفوا واحتملوا { بغضب } من الله عليهم لأجل تضييعهم التَّوراة { على غضب } لكفرهم بالنَّبي محمَّد صلى الله عليه وسلم والقرآن .
{ وإذا قيل } لليهود { آمنوا بما أنزل الله } بالقرآن { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } يعني : التَّوراة { ويكفرون بما وراءه } بما سواه { وهو الحقُّ } يعني : القرآن { مصدِّقاً لما معهم } موافقاً للتَّوراة ، ثمَّ كذَّبَهم الله تعالى في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا بقوله : { فلمَ تقتلون أنبياء الله } أَيْ : أيُّ كتابٍ جُوِّز فيه قتلُ نبيٍّ؟! [ { إن كنتم مؤمنين } شرطٌ ، وجوابه ما قبله ] ، ثمَّ ذكر أنَّهم كفروا بالله تعالى مع وضوح الآيات في زمن موسى عليه السَّلام فقال :
{ ولقد جاءكم موسى بالبينات } يعني : العصا واليد وفلق البحر { ثمَّ اتخذتم العجل من بعده } إلهاً { وأنتم ظالمون } .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{ وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوَّة واسمعوا } مضى تفسيره ، ومعنى : واسمعوا ، أَيْ : [ اقبلوا ] ما فيه من حلاله وحرامه وأطيعوا { قالوا : سمعنا } ما فيه { وعصينا } ما أُمرنا به { وأُشربوا في قلوبهم العجل } وسُقوا حبَّ العجل وخُلطوا بحبِّ العجل حتى اختلط بهم ، والمعنى : حُبَّب إليهم العجل { بكفرهم } باعتقادهم التَّشبيه ، لأنَّهم طلبوا ما يُتَصَوَّرُ في أنفسهم { قل بئس ما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } هذا تكذيبٌ لهم في قولهم : نؤمن بما أنزل علينا ، وذلك أنَّ آباءَهم ادَّعوا الإِيمان ، ثمَّ عبدوا العجل ، فقيل لهم : بئس الإيمان إيمانٌ يأمركم بالكفر ، والمعنى : لو كنتم مؤمنين ما عبدتم العجل ، يعني : آباءهم ، كذلك أنتم لو كنتم مؤمنين بما أُنزل عليكم ما كذَّبتم محمَّداً .
{ قل إنْ كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إنْ كنتم صادقين } كانت اليهود تقول : لن يدخل الجنَّة إلاَّ مَنْ كان هوداً ، فقيل لهم : إن كنتم صادقين فتمنَّوا الموت ، فإنَّ مَنْ كان لا يشكُّ في أنَّه صائر إلى الجنَّةِ ، فالجنَّةُ آثرُ عنده .
{ ولن يتمنوه أبداً } لأنَّهم عرفوا أنَّهم كفرةٌ ، ولا نصيب لهم في الجنَّة ، وهو قوله تعالى : { بما قدَّمت أيديهم } أيْ : بما عملوا من كتمان أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وتغيير نعته { واللَّهُ عليم بالظالمين } فيه معنى التَّهديد .
{ ولتجدنهم } يا محمَّدُ ، يعني : علماءَ اليهود { أحرص الناس على حياةٍ } لأنَّهم علموا أنَّهم صائرون إلى النَّار إذا ماتوا؛ لما أتوا به في أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { ومن الذين أشركوا } أَيْ : وأحرص من منكري البعث ، ومَنْ أنكر البعث أحبَّ طول العمر؛ لأنَّه لا يرجو بعثاً ، فاليهود أحرص منهم؛ لأنَّهم علموا ما جنوا فهم يخافون النَّار { يودُّ أحدهم } أَيْ : أحد اليهود { لو يعمَّرُ ألف سنة } لأنَّه يعلم أنَّ آخرته قد فَسَدَتْ عليه { وما هو } أَيْ : وما أحدهم { بمزحزحه } بِمُبْعِدِهِ من { العذاب أن يعمَّر } تعميره .
{ قل مَنْ كان عدواً لجبريل } سألت اليهود نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن مَنْ يأتيه من الملائكة؟ فقال : جبريل ، فقالوا : هو عدوُّنا ، ولو أتاك ميكائيل آمنَّا بك ، فأنزل الله هذه الآية ، والمعنى : قل مَنْ كان عدوَّاً لجبريل فليمت غيظاً { فإنه نزله } أَيْ : نزَّل القرآن { على قلبك بإذن الله } بأمر الله { مصدقاً } موافقاً لما قبله من الكتب { وهدىًَ وبشرى للمؤمنين } ردٌّ على اليهود حين قالوا : إنَّ جبريل ينزل بالحرب والشِّدَّة ، فقيل : إنَّه - وإنْ كان ينزل بالحرب والشدَّة على الكافرين - فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين .
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ مَنْ كان عدوَّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنَّ الله عدو للكافرين } أَيْ : مَنْ كان عدوّاً لأحد هؤلاء ، فإن اللَّهَ عدوٌّ له؛ لأن عدوَّ الواحدِ عدوُّ الجميع ، وعدوُّ محمَّدٍ عدوُّ الله ، والواو هاهنا بمعنى " أو " كقوله : { ومَن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله } الآية . لأنَّ الكافر بالواحد كافرٌ بالكلِّ ، وقوله { فإنَّ الله عدوٌ للكافرين } أَيْ : إنَّه تولَّى تلك العداوة بنفسه ، وكفى ملائكته ورسله أمر مَنْ عاداهم .
{ ولقد أنزلنا إليك آيات بيّنات } دلالاتٍ واضحاتٍ ، وهذا جوابٌ لابن صوريا حين قال : يا محمد ، ما أُنزل عليك من آيةٍ بيِّنةٍ فَنَتَّبعكَ بها { وما يكفر بها إلاَّ الفاسقون } الخارجون عن أديانهم ، واليهود خرجت بالكفر بمحمَّد صلى الله عليه وسلم عن شريعة موسى عليه السَّلام ، ولمَّا ذكر محمدٌ صلى الله عليه وسلم لهم ما أخذ الله تعالى عليهم من العهد فيه قال مالك بن الصَّيف : والله ما عُهد إلينا في محمدٍ عهدٌ ولا ميثاق ، فأنزل الله تعالى .
{ أَوَكُلَّما عاهدوا عهداً } الآية ، وقوله : { نبذة فريق منهم } يعني : الذين نقضوه من علمائهم { بل أكثرهم لا يؤمنون } لأنهم من بين ناقضٍ للعهد ، وجاحدٍ لنبوَّته معاندٍ له ، وقوله :
{ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب } يعني : علماء اليهود { كتاب الله } يعني التَّوراة { وراء ظهورهم } أَيْ : تركوا العمل به حين كفروا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن { كأنهم لا يعلمون } أنَّه حقٌّ ، وأنَّ ما أتى به صدقٌ ، وهذا إخبارٌ عن عنادهم ، ثمَّ أخبر أنَّهم رفضوا كتابة واتَّبعوا السِّحر فقال : { واتبعوا } يعني : علماء اليهود .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
{ ما تتلوا الشياطين } أَيْ : ما كانت الشَّياطين تُحدِّث وتقصُّ من السِّحر { على ملك سليمان } في عهده وزمان مُلْكه ، وذلك أنَّ سليمان عليه السَّلام لما نُزع ملكه دفنت الشَّياطين في خزانته سحراً ونيرنجات ، فلمَّأ مات سليمان دلَّت الشياطين عليها النَّاس حتى استخرجوها ، وقالوا للنَّاس : إنَّما مَلَكَكُم سليمان بهذا فتعلَّموه ، فأقبل بنو إسرائيل على تعلُّمها ، ورفضوا كتب أنبيائهم ، فبرَّأ الله سليمان عليه السَّلام فقال : { وما كفر سليمان } أَيْ : لم يكن كافراً ساحراً يسحر { ولكنَّ الشياطين كفروا } بالله { يعلمون الناس السحر } يريد : ما كتب لهم الشَّياطين من كُتب السِّحر { وما أنزل على الملكين } أَيْ : ويُعلِّمونهم ما أُنزل عليهما ، أَيْ : ما عُلِّما وأُلْهِمَا ، وقُذِف في قلوبهما من علم التَّفرقة ، وهو رقيةٌ وليس بسحرٍ ، وقوله : { وما يعلِّمان } يعني : المَلَكَيْن السِّحر { من أحدٍ } أحداً { حتى يقولا إنما نحن فتنة } ابتلاءٌ واختبارٌ { فلا تكفر } وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ امتحن النَّاس بالملكين في ذلك الوقت ، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابلُ تعلُّم السِّحر ، فيكفر بتعلُّمه ويؤمن بتركه ، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء ، وهذا معنى قوله : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } أَيْ : محنةٌ من الله نخبرك أنَّ عمل السِّحر كفرٌ بالله ، وننهاك عنه ، فإنْ أطعتنا نجوت وإن عصيتنا هلكت ، وقوله تعالى { فيتعلمون } أَيْ : فيأتون فيتعلَّمون من الملكين { ما يفرّقون به بين المرء وزوجه } وهو أن يؤخذ كلُّ واحدٍ منهما عن صاحبه ويُبغَّض كلُّ واحدٍ منهما إلى الآخر { وما هم } أَيْ : السَّحَرة الذين يتعلَّمون السِّحر { بضارين به } بالسِّحر { من أحدٍ } أحداً { إلاَّ بإذن الله } بإرادته كون ذلك ، أَيْ : لا يضرُّون بالسِّحر إلاَّ مَنْ أراد الله أن يلحقه ذلك الضَّرر { ويتعلمون ما يضرُّهم } في الآخرة { ولا ينفعهم } [ في الدُّنيا ] { ولقد علموا } يعني : اليهود { لمن اشتراه } من اختار السِّحر { ما له في الآخرة من خلاقٍ } من نصيب [ في الجنة ] ، ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال : { ولبئس ما شروا به أنفسهم } أَيْ : بئس شيءٌ باعوا به حظَّ أنفسهم حيث اختاروا السِّحر ونبذوا كتاب الله { لو كانوا يعلمون } كُنه ما يصير إليه مَنْ يخسر الآخرة من العقاب .
{ ولو أنَّهم آمنوا } بمحمَّدٍ عليه السَّلام والقرآن { واتقوا } اليهوديَّة والسِّحر ، لأثيبوا ما هو خيرٌ لهم من الكسب بالسِّحر ، وهو قوله تعالى : { لمثوبةٌ من عند الله خيرٌ لو كانوا يعلمون } .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } كان المسلمون يقولون للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك ، وكان هذا بلسان اليهوديَّة سبَّاً قبيحاً ، فلمَّا سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبتهم ، فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم ، فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك ، وأنزل هذه الآية ، وأمرهم أن يقولوا بدل راعنا { انظرنا } أَيْ : انظر إلينا حتى نُفهمك ما نقول { واسمعوا } أيْ : أطيعوا واتركوا هذه الكلمة؛ لأنَّ الطَّاعة تجب بالسَّمع { ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خيرٍ من ربكم } أَيْ : خيرٌ من عند ربكم .
{ والله يختص برحمته } يخصُّ بنبوَّته { مَنْ يشاء والله ذو الفضل العظيم } .
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
{ ما نَنْسَخْ من آية أو نُنْسِها } أَيْ : ما نرفع آيةً من جهة النَّسخ بأن نُبطل حكمها ، أو بالإِنساءِ لها بأنْ نمحوها عن القلوب { نأت بخير منها } أَيْ : أصلح لمن تُعبِّد بها ، وأنفع لهم وأسهل عليهم ، وأكثر لأجرهم { أو مثلها } في المنفعة والمثوبة { ألم تعلم أنَّ الله على كلِّ شيءٍ } من النِّسخِ والتَّبديل وغيرهما { قدير } : نزلت هذه الآية حين قال المشركون : إنَّ محمداً يأمر أصحابه بأمرٍ ، ثمَّ ينهاهم عنه ، ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً . ما هذا القرآن إلاَّ كلام محمد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقولَهُ : { وإذا بدَّلنا آية مكان آيةٍ . . . } الآية .
{ ألم تعلم أنَّ الله له ملك السموات والأرض } يعمل فيهما ما يشاء ، وهو أعلم بوجه الصَّلاح فيما يتعبَّدهم به من ناسخٍ ومنسوخٍ { ومالكم من دون الله من ولي } أَيْ : والٍ يلي أمركم ويقوم به { ولا نصير } ينصركم ، وفي هذا تحذيرٌ من عذابه إذ لا مانع منه .
{ أم تريدون } أَيْ : بل أتريدون { أن تسألوا رسولكم } محمداً صلى الله عليه وسلم { كما سئل موسى من قبل } وذلك أنَّ قريشاً قالوا : يا محمَّدُ ، اجعل لنا الصَّفا ذهباً ، ووسِّعْ لنا أرض مكَّة ، فَنُهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه السَّلام حين قالوا : { أرنا الله جهرة } وذلك أنَّ السُّؤال بعد قيام البراهين كفرٌ ، ولذلك قال : { ومن يتبدل الكفر بالإِيمان فقد ضلَّ سواء السبيل } قصده ووسطه .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
{ ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب . . . } الآية . نزلت حيت قالت اليهود للمسلمين بعد وقعة أُحدٍ : ألم تروا إلى ما أصابكم ، ولو كنتم على الحقِّ ما هُزمتهم فارجعوا إلى ديننا ، فذلك قوله تعالى : { لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم } أَيْ : في حكمهم وتديّنهم ما لم يؤمروا به { من بعد ما تبين لهم الحق } في التَّوراة أنَّ قول محمَّدٍ صدقٌ ودينه حقٌّ { فاعفوا واصفحوا } وأعرضوا عن مساوىء أخلاقهم وكلامهم وغلِّ قلوبهم { حتى يأتي الله بأمره } بالقتال .
{ وقالوا لن يدخل الجنة . . . } الآية ، أَيْ : قالت اليهود : لن يدخل الجنَّة { إلاَّ مَنْ كان هوداً } وقالت النَّصارى : لن يدخلها إلاَّ النَّصارى { تلك أمانيهم } التي تمنَّوها على الله سبحانه باطلاً { قل هاتوا برهانكم } قرِّبوا حجَّتكم على ما تقولون ، ثمَّ بيَّن مَنْ يدخلها فقال :
{ بلى } يدخلها { مَنْ أسلم وجهه لله } انقاد لأمره وبذلك له وجهه في السُّجود { وهو محسن } مؤمنٌ مصدقٌ بالقرآن .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
{ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } لمَّا قدم وفد نجران فتنازعوا مع اليهود ، وكفَّر كلُّ واحدٍ من الفريقين الآخر ، وقوله تعالى : { وهم يتلون الكتاب } يعني : إنَّ الفريقين يتلون التَّوراة وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد ، فدلَّ بهذا على ضلالتهم { كذلك قال الذين لا يعلمون } يعني : كفَّار الأمم الماضية ، وكفَّار هذه الأمَّة { مثل قولهم } في تكذيب الأنبياء والاختلاف عليهم ، فسبيل هؤلاء الذين يتلون الكتاب كسبيل مَنْ لا يعلم الكتاب [ أنَّه من الله تعالى ] من المشركين في الإنكار لدين الله سبحانه { فالله يحكم بينهم . . . } الآية : أَيْ : يُريهم عياناً مَنْ يدخل الجنَّة ومَنْ يدخل النَّار .
{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله } يعني : بيت المقدس ومحاريبه . نزلت في أهل الرُّوم حين خرَّبوا بيت المقدس { أولئك } يعني : أهل الرُّوم { ما كان لهم أن يدخلوها إلاَّ خائفين } لم يدخل بيت المقدس بعد أن عمره المسلمون روميٌّ إلاَّ خائفاً لو عُلم به قُتل { لهم في الدنيا خزيٌ } يعني : القتل للحربيِّ ، والجزية للذميِّ .
{ ولله المشرقُ والمغرب } أَيْ : إنَّه خالقهما . نزلت في قوم من الصَّحابة سافروا فأصابهم الضَّباب فتحرَّوا القِبلة وصلَّوا إلى أنحاءٍ مختلفةٍ ، فلمَّا ذهب الضَّباب استبان أنَّهم لم يصيبوا ، فلمَّا قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وقوله تعالى : { فأينما تولوا } أَيْ : تصرفوا وجوهكم { فثمَّ وجه الله } أَيْ : فهناك قِبلة الله وجهته التي تعبَّدكم الله بالتوجُّه إليها { إنَّ الله واسعٌ عليم } أَيْ : واسع الشَّريعة يُوسِّع على عباده في دينهم . [ اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فمنهم مَنْ قال : هي منسوخة الحكم بقوله : { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } ؛ومنهم مَنْ قال : حكمها ثابت غير أنها مخصوصة بالنَّوافل في السفر . وقيل : إنها نزلت في شأن النجاشي حين صلَّى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وقولهم له : كيف تُصلِّي على رجل صلَّى إلى غير قبلتنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وبيَّن أنَّ النجاشي وإنْ صلَّى إلى المشرق أو المغرب فإنَّما قصد بذلك وجه الله وعبادته ، ومعنى { فثمَّ وجه الله } أَيْ : فَثَمَّ رضا الله وأمره ، كما قال : { إنَّما نُطعمكم لوجه الله } والوجهُ والجِهةُ والوِجهةُ : القِبلةُ ] .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
{ وقالوا اتخذ الله ولداً } يعني : اليهود في قولهم : { عزيز ابنُ الله } والنصارى في قولهم : { والمسيح ابنُ الله } والمشركين في قولهم : الملائكة بناتُ الله ، ثمَّ نزَّه نفسه عن الولد فقال : { سبحانه بل } ليس الأمر كذلك { له ما في السموات والأرض } عبيداً وملكاً . { كلٌّ له قانتون } مطيعون : يعني : أهل طاعته دون النَّاس أجمعين .
{ بديع السموات والأرض } خالقهما وموجدهما لا على مثالٍ سبق . { وإذا قضى أمراً } قدَّره وأراد خلقه { فإنما يقول له كن فيكون } أَيْ : إنما يُكوِّنه فيكون ، وشرطه أن يتعلَّق به أمره . [ وقال الأستاذ أبو الحسن : يُكوِّنه بقدرته فيكون على ما أراد ] .
{ وقال الذين لا يعلمون } يعني : مشركي العرب قالوا لمحمَّدٍ : لن نؤمن لك حتى { يكلّمنا الله } أنَّك رسوله { أو تأتينا آية } يعني : ما سألوا من الآيات الأربع في قوله تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا . . . } الآيات . ومعنى { لولا يكلِّمنا الله } أَيْ : هلاَّ يُكلِّمنا الله أنَّك رسوله . { كذلك قال الذين من قبلهم } يعني : كفَّار الأمم الماضية كفروا بالتَّعنُّتِ بطلب الآيات كهؤلاء { تشابهت قلوبهم } أشبه بعضها بعضاً في الكفر والقسوة ومسألة المحال { قد بيَّنا الآيات لقوم يوقنون } أَيْ : مَنْ أيقن وطلب الحقَّ فقد أتته الآيات؛ لأنَّ القرآن برهانٌ شافٍ .
{ إنا أرسلناك بالحق } بالقرآن والإسلام ، أَيْ : مع الحقِّ { بشيراً } مُبشِّراً للمؤمنين { ونذيراً } مُخوِّفاً ومُحذِّراً للكافرين { ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم } أَيْ : لست بمسؤولٍ عنهم ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أنَّ الله عزَّ وجلَّ أنزل بأسه باليهود لآمنوا " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، أَيْ : ليس عليك من شأنهم عُهدةٌ ولا تبعة .
{ ولن ترضى عنك اليهود . . . } الآية نزلت في تحويل القبلة ، وذلك أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يرجون أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم يرجع إلى دينهم ، فلمَّا صرف الله تعالى القِبلة إلى الكعبة شقَّ عليهم ، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم ، فأنزل الله تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } يعني : دينهم وتصلِّي إلى قبلتهم { قل إنَّ هدى الله هو الهدى } أَي : الصِّراط الذي دعا إليه ، وهدى إليه هو طريق الحقِّ { ولَئِنِ اتبعت أهواءهم } يعني : ما كانوا يدعونه إليه من المهادنة والإِمهال { بعد الذي جاءك من العلم } أَي : البيان بأنَّ دين الله عزَّ وجلَّ هو الإسلام وأنَّهم على الضَّلالة { مالك من الله من وليٍّ ولا نصير } .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{ الذين آتيناهم الكتاب } يعني : مؤمني اليهود { يتلونه حق تلاوته } يقرؤونه كما أُنزل ولا يُحرِّفونه ، ويتَّبعونه حقَّ اتِّباعه .
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
{ وإذا ابتلى إبراهيم ربُّه } اختبره : أَيْ : عامله معاملة المُختبِر { بكلماتٍ } هي عشر خصالٍ : خمسٌ في الرأس ، وهي : الفرق ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسِّواك ، وقصُّ الشَّارب ، وخمسٌ في الجسد ، وهي : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، والاستنجاء ، ونتف الرُّفغين { فأتمهنَّ } أدَّاهنَّ تامَّاتٍ غير ناقصات { قال } الله تعالى : { إني جاعلك للناس إماماً } يقتدي بك الصَّالحون . فقال إبراهيم : { ومِنْ ذريتي } أَيْ : ومن أولادي أيضاً فاجعل أئمةً يُقتدى بهم ، فقال الله عزَّ وجلَّ { لا ينال عهدي الظالمين } يريد : مَنْ كان من ولدك ظالماً لا يكون إماماً ، ومعنى : { عهدي } أَيْ : نُبوَّتي .
{ وإذ جعلنا البيت } يعني : الكعبة { مثابةً للناس } معاداً يعودون إليه لا يقضون منه وطراً ، كلَّما انصرفوا اشتاقوا إليه { وأَمْناً } أَيْ : مؤمناً ، وكانت العرب يرى الرَّجل منهم قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرَّض له ، وأمَّا اليوم فلا يُهاج الجاني إذا التجأ إليه عند أهل العراق ، وعند الشافعيِّ : الأولى أن لا يُهاج ، فإنْ أُخيف بإقامة الحدِّ عليه جاز . وقد قال كثيرٌ من المفسرين : مَنْ شاء آمن ، ومَنْ شاء لم يُؤمن ، كما أنَّه لمَّا جعله مثابةً ، مَنْ شاء ثاب ، ومَنْ شاء لم يثب . { واتَّخذوا } أَيْ : النَّاس { من مقام إبراهيم } وهو الحجر الذي يُعرف بمقام إبراهيم ، وهو موضع قدميه { مصلَّى } وهو أنَّه تُسنُّ الصَّلاة خلف المقام ، قُرىء على هذا الوجه على الخبر ، وقرىء بالكسر على الأمر . { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل } أمرناهما وأوصينا إليهما { أنْ طهِّرا بيتي } من الأوثان والرِّيَب [ { للطائفين } حوله ، وهم النزائع إليه من آفاق الأرض { والعاكفين } أي : المقيمين فيه ، وهم سكان الحرم { والركع } جمع راكع و { السجود } جمع ساجد؛ مثله : قاعد وقعود ] .
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا } أَيْ : هذا المكان وهذا الموضع { بلداً } مسكناً { آمناً } أَيْ : ذا أمنٍ لا يُصاد طيره ، ولا يُقطع شجره ولا يُقتل فيه أهله . { وارزق أهله من الثمرات } أنواع حمل الشَّجر { مَنْ آمن منهم بالله واليوم الآخر } خَصَّ إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق المؤمنين . قال تعالى : { وَمَنْ كفر فأمتعه قليلاً } فسأرزقه إلى منتهى أجله { ثمَّ أضطره } أُلجئه في الآخرة { إلى عذاب النار وبئس المصير } هي .
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد } أصول الأساس { من البيت وإسماعيل } ويقولان : { ربنا تقبلْ منَّا } تقرُّبنا إليك ببناء هذا البيت { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليمُ } بما في قلوبنا .
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } مُطيعين مُنقادين لحكمك { ومن ذريتنا أمة } جماعةً { مسلمة لك } وهم المهاجرون والأنصار والتَّابعون بإحسان { وأرنا مناسكنا } عرّفنا مُتَعبَّداتنا .
{ ربنا وابعث فيهم } في الأمَّة المسلمة { رسولاً منهم } يريد : محمَّداً صلى الله عليه وسلم { يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة } أَي : القرآن { ويزكيهم } ويُطهِّرهم من الشِّرك { إنك أنت العزيز } الغالب القويُّ الذي لا يعجزه شيءٌ ، ومضى تفسير الحكيم .
{ ومَنْ يرغب عن ملة إبراهيم } أَيْ : وما يرغب عنها ولا يتركها { إلاَّ مَنْ سفه نفسه } أَيْ : جهلها بأَنْ لم يعلم أنَّها مخلوقةٌ لله تعالى يجب عليها عبادة خالقها { ولقد اصطفيناه في الدُّنيا } اخترناه للرِّسالة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } أَيْ : من الأنبياء .
{ إذ قال له ربه أسلم } أخلص دينك لله سبحانه بالتَّوحيد ، وقيل : أسلم نفسك إلى الله { قال أسلمت } بقلبي ولساني وجوارحي { لرب العالمين } .
{ ووصَّى بها } أَيْ : أمر بالملَّة ، وقيل : بكلمة الإِخلاص { إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيَّ } أراد : أَنْ يا بنيَّ { إنَّ الله اصطفى لكم الدين } أَي : الإِسلام دين الحَنيِفيَّة { فلا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون } أَي : الزموا الإِسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
{ أم كنتم شهداء } ترك الكلام الأوَّل ، وعاد إلى مُخاطبة اليهود . المعنى : بل أكنتم شهداء ، أَيْ : حضوراً { إذ حضر يعقوب الموت } وذلك أنَّ اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألستَ تعلم أنَّ يعقوب يوم مات ما أوصى بنيه باليهوديَّة؟ فأكذبهم الله تعالى ، وقال : أكنتم حاضرين وصيته { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي } .
{ تلك أمة } يعني : إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه { قد خلت } قد مضت { لها ما كسبت } من العمل { ولكم } يا معشر اليهود { ما كسبتم } أَيْ : حسابهم عليهم ، وإنَّما تُسألون عن أعمالكم .
{ وقالوا كونوا هوداً أو نصارى } نزلت في يهود المدينة ونصارى نجران ، قال كلُّ واحدٍ من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلاَّ ذلك ، فقال الله تعالى : { قل بل ملَّة إبراهيم حنيفاً } يعني : بل نتبع ملَّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن الأديان كلِّها إلى دين الإسلام ، ثمَّ أمر المؤمنين أن يقولوا :
{ آمنا بالله وما أنزل إلينا } يعني : القرآن { وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } وهم أولاد يعقوب ، وكان فيهم أنبياء لذلك قال : وما أنزل إليهم . وقوله تعالى : { لا نفرِّق بين أحدٍ منهم } أَيْ : لا نكفر ببعضٍ ونؤمن ببعضٍ ، كما فعلت اليهود والنَّصارى .
{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به } أَيْ : إِنْ أتوا بتصديقٍ مثلِ تصديقكم ، وكان إيمانُهم كإيمانكم { فقد اهتدوا } فقد صاروا مسلمين { وإن تولوا } أعرضوا { فإنما هم في شقاق } في خلافٍ وعداوةٍ { فَسَيَكْفِيْكَهُمُ الله } ثمَّ فعل ذلك ، فكفاه أمر اليهود بالقتل والسَّبي في قريظة ، والجلاء والنَّفي في بني النَّضير ، الجِزية والذَّلَّة في نصارى نجران .
{ صبغة الله } أَي : الزموا دين الله { ومَنْ أحسن من الله صبغة } أي : ومَنْ أحسنُ من الله ديناُ؟ .
{ قل } يا محمَّدُ لليهود والنَّصارى : { أتحاجوننا في الله } أَتُخاصموننا في دين الله؟ وذلك أنَّهم قالوا : إنَّ ديننا هو الأقدم ، وكتابنا هو الأسبق ، ولو كنتَ نبيّاً لكنتَ منَّا { ولنا أعمالنا } نُجازى بحسنها وسيِّئها ، وأنتم في أعمالكم على مثل سبيلنا { ونحن له مخلصون } مُوحِّدون .
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
{ أم تقولون } إنَّ الأنبياء من قبل أن تنزَّل التَّوراة والإِنجيل { كانوا هوداً أو نصارى } { قل أأنتم أعلم أم الله } أَيْ : قد أخبرنا الله سبحانه أنَّ الأنبياء كان دينهم الإِسلام ، ولا أحدٌ أعلم منه { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } هذا توبيخٌ لهم ، وهو أنَّ الله تعالى أشهدهم في التِّوراة والإِنجيل أنَّه باعثٌ فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم من ذريَّة إبراهيم عليه السَّلام ، وأخذ مواثيقهم أَنْ يُبيِّنوه ولا يكتموه ، ثمَّ ذكر قصَّة تحويل القبلة .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{ سيقول السفهاء من الناس } يعني : مشركي مكَّة ويهود المدينة { ما ولاَّهم } ما صرفهم؟ يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { عن قبلتهم التي كانوا عليها } وهي الصَّخرة { قل لله المشرق والمغرب } يأمر بالتَّوجُّه إلى أيٍّ جهةٍ شاء { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } دينٍ مستقيمٍ . يريد : إنِّي رضيتُ هذه القِبلة لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ مدح أمَّته فقال :
{ وكذلك } أي : وكما هديناكم صراطاً مستقيماً { جعلناكم أمة وسطاً } عدولاً خياراً { لتكونوا شهداء على الناس } لتشهدوا على الأمم بتبليغ الأنبياء { ويكون الرسول عليكم } على صدقكم { شهيداً } وذلك أنَّ الله تعالى يسأل الأمم يوم القيامة ، فيقول : هل بلَّغكم الرُّسل الرِّسالة؟ فيقولون : ما بلَّغنا أحدٌ عنك شيئاً ، فيسأل الرُّسل فيقولون : بلَّغناهم رسالتك فعصوا ، فيقول : هل لكم شهيدٌ؟ فيقولون : نعم ، أُمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فيشهدون لهم بالتِّبليغ وتكذيب قومهم إيَّاهم ، فتقول الأمم : يا ربِّ ، بمَ عرفوا ذلك ، وكانوا بعدنا؟ فيقولون : أخبرنا بذلك نبيُّنا في كتابه ، ثمَّ يُزكِّيهم محمّدٌ صلى الله عليه وسلم . { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أَي : التي أنتَ عليها اليوم ، وهي الكعبةُ ، قِبلةً { إلاَّ لنعلم } لنرى [ وقيل : معناه : لنميّز ] { مَنْ يتبع الرسول } في تصديقه بنسخ القِبلة { ممن ينقلب على عقبيه } يرتدُّ ويرجع إلى الكفر ، وذلك أنَّ الله تعالى جعل نسخ القِبلة على الصَّخرة إلى الكعبة ابتلاءً لعباده المؤمنين ، فمَنْ عصمه صدَّق الرَّسول في ذلك ، ومَنْ لم يعصمه شكَّ في دينه وتردَّد عليه أمره ، وظنَّ أنَّ محمداً عليه السَّلام في حيرةٍ من أمره ، فارتدَّ عن الإِسلام ، وهذا معنى قوله { وإن كانت لكبيرة } أَيْ : وقد كانت التَّولية إلى الكعبة لثقيلةً إلاَّ { على الذين هدى الله } عصمهم الله بالهداية ، فلمَّا حوِّلت القبلة قالت اليهود : فكيف بمَنْ مات منكم وهو يصلِّي على القبلة الأولى؟ لقد مات على الضَّلالة ، فأنزل الله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أَيْ : [ صلاتكم التي صلَّيتم و ] تصديقكم بالقِبلة الأولى { إنَّ الله بالناس } يعني : بالمؤمنين { لرؤوف رحيم } والرَّأفة أشدُّ الرَّحمة .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
{ قد نرى تقلُّب وجهك . . . } الآية . كانت الكعبة أحبَّ القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأى أنَّ الصَّلاة إليها أدعى لقومه إلى الإسلام ، فقال لجبريل عليه السَّلام : وددتُ أنَّ الله صرفني عن قِبلة اليهود إلى غيرها ، فقال جبريل عليه السَّلام : إنَّما أنا عبدٌ مثلك ، وأنت كريم على ربِّك فسله ، ثمَّ ارتفع جبريل عليه السَّلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُديم النَّظر إلى السَّماء رجاء أَنْ يأتيه جبريل عليه السَّلام بالذي سأل ، فأنزل الله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } أَيْ : في النَّظر إلى السَّماء { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } فلنُصَيِّرَنَّك تستقبل { قبلة ترضاها } تحبُّها وتهواها { فَوَلِّ وجهك } أَيْ : أَقبل بوجهك { شطر المسجد الحرام } نحوه وتلقاءه { وحيثما كنتم } في برٍّ أو بحرٍ وأردتم الصَّلاة { فولوا وجوهكم شطره } فلمَّا تحوَّلت القِبلة إِلى الكعبة قالت اليهود : يا محمد ما أُمرتَ بهذا ، وإنَّما هو شيءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك ، فأنزل الله تعالى : { وإنَّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنَّه الحق } أنَّ المسجد الحرام قِبلة إبراهيم وأنَّه لحقٌّ { وما اللَّهُ بغافل عما تعملون } يا معشر المؤمنين مِنْ طلب مرضاتي .
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب } يعني : اليهود والنَّصارى { بكلِّ آية } [ دلالةٍ ومعجزةٍ ] { ما تبعوا قبلتك } لأنَّهم مُعاندون جاحدون نبوَّتك مع العلم بها { وما أنت بتابعٍ قبلتهم } حسمَ بهذا أطماع اليهود في رجوع النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم؛ لأنَّهم كانوا يطمعون في ذلك { وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعض } أخبر أنَّهم - وإنِ اتَّفقوا في التَّظاهر على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - مُختلفون فيما بينهم ، فلا اليهود تتبع قِبلة النَّصارى ، ولا النَّصارى تتبع قِبلة اليهود { ولئن اتبعت أهواءهم } أَيْ : صلَّيت إلى قِبلتهم { بعد ما جاءك من العلم } أنَّ قِبلة الله الكعبة { إنك إذاً لمن الظالمين } أيْ : إِنَّك إذاً مثلُهم ، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في الظَّاهر ، وهو في المعنى لأُمَّته .
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } يعرفون محمَّداً صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته { كما يعرفون أبناءَهم وإنَّ فريقاً منهم ليكتمون الحق } من صفته في التَّوراة { وهم يعلمون } لأنَّ الله بيَّن ذلك في كتابهم .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
{ الحق من ربك } أَيْ : هذا الحقُّ من ربِّك { فلا تكوننَّ من الممترين } الشَّاكِّين في الجملة التي أخبرتك بها من أمر القِبلة ، وعناد اليهود وامتناعهم عن الإِيمان بك .
{ ولكلٍّ } أَيْ : ولكلِّ أهل دينٍ { وجهةٌ } قِبلةٌ ومُتوجَّةٌ إليها في الصَّلاة { هو مُوَلِّيْها } وجهَه ، أَيْ : مستقبلها { فاستبقوا الخيرات } فبادروا إلى القبول من الله عزَّ وجل ، ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم الله تعالى { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } يجمعكم الله تعالى للحساب ، فيجزيكم بأعمالكم ، ثم أَكَّد استقبال القبلة أينما كان بآيتين ، وهما قوله تعالى .
{ ومن حيث خرجت . . . } الآية ، وقوله : { ومن حيث خرجت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجَّةٌ } يعني : اليهود ، وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون : ما درى محمَّدٌ أين قِبلته حتى هديناه ، ويقولون : يخالفنا محمَّدٌ في ديننا ويتَّبِع قِبلتنا ، فهذا كان حجِّتهم التي كانوا يحتجُّون بها تمويهاً على الجُهَّال ، فلمَّا صُرفت القِبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجَّة ، ثمَّ قال تعالى : { إلاَّ الذين ظلموا منهم } من النَّاس ، وهم المشركون فإنَّهم قالوا : توجَّه محمدٌ إلى قِبلتنا ، وعلم أنَّا أهدى سبيلاً منه ، فهؤلاء يحتجُّون بالباطلِ ، ثمَّ قال : { فلا تخشوهم } يعني : المشركين في تظاهرهم عليكم في المُحاجَّة والمحاربة { واخشوني } في ترك القِبلة ومخالفتها ، { ولأُتمَّ نعمتي عليكم } أَيْ : ولكي أَتمَّ - عطفٌ على { لئلا يكون } - نعمتي عليكم بهدايتي إيّاكم إلى قِبلة إبراهيم ، فَتَتِمُّ لكم الملَّة الحنيفيَّة { ولعلكم تهتدون } ولكي تهتدوا إلى قِبلة إبراهيم .
{ كما أرسلنا فيكم } المعنى : ولأتمَّ نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولاً ، أَيْ : أتمُّ هذه كما أتممت تلك بإرسالي { رسولاً منكم } تعرفون صدقه ونسبه { يتلو عليكم آياتنا } يعني : القرآن ، وهذا احتجاجٌ عليهم؛ لأنَّهم عرفوا أنَّه أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ، فلمَّا قرأ عليهم القرآن تبيَّن لهم صدقه في النُّبوَّة { ويزكيكم } أَيْ : يُعرِّضكم لما تكونوا به أزكياء من الأمر بطاعة الله تعالى .
{ فاذكروني } بالطَّاعة { أذكركم } بالمغفرة { واشكروا لي } نعمتي { ولا تكفرون } أَيْ : لا تكفروا نعمتي .
{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا } على طلب الآخرة { بالصبر } على الفرائض ، { والصلاة } وبالصَّلوات الخمس على تمحيص الذُّنوب { إنَّ الله مع الصابرين } أَيْ : إنِّي معكم أنصركم ولا أخذلكم .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات } نزلت في قتلى بدر من المسلمين ، وذلك أنَّهم كانوا يقولون لمَنْ يُقتل في سبيل الله : مات فلانٌ وذهب عنه نعيم الدُّنيا ، فقال الله تعالى : ولا تقولوا للمقتولين في سبيلي هم أمواتٌ { بل } هم { أحياء } لأنَّ أرواح الشُّهداء في أجواف طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنَّة . { ولكن لا تشعرون } بما هم فيه من النَّعيم والكرامة .
{ ولنبلونكم } ولنعاملنَّكم مُعاملة المبتلي { بشيء من الخوف } يعني : خوف العدوِّ { والجوع } يعني : القحط { ونقص من الأموال } يعني : الخسران والنُّقصان في المال وهلاك المواشي { والأنفس } يعني : الموت والقتل في الجهاد والمرض والشَّيب { والثمرات } يعني : الجوائح وموت الأولاد ، فمَنْ صبر على هذه الأشياء استحقَّ الثَّواب ، ومَنْ لم يصبر لم يستحق . يدلُّ على هذا قوله تعالى : { وبشر الصابرين } .
{ الذين إذا أصابتهم مصيبة } ممَّا ذُكر { قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } أَيْ : أموالنا لله ، ونحن عبيدة يصنع بنا ما يشاء ، ثمَّ وعدهم على هذا القول المغفرة .
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم } أَيْ : مغفرةٌ { ورحمة } ونعمةٌ { وأولئك هم المهتدون } إلى الجنَّة والثَّواب ، والحقِّ والصَّواب . وقيل : زيادة الهدى ، وقيل : هم المنتفعون بالهداية .
{ إنَّ الصفا والمروة } [ وهما جبلان معروفان بمكَّة ] { من شعائر الله } أَيْ : مُتعبَّداته { فمن حجَّ البيت } زاره معظِّماً له { أو اعتمر } قصد البيت للزِّيارة { فلا جناح عليه } فلا إثم عليه { إن يطوَّف بهما } بالجبلين ، وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما ، فكره المسلمون الطَّواف بينهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { ومن تطوَّع خيراً } فعل غير المفترض عليه من طوافٍ ، وصلاةٍ ، وزكاةٍ ، وطاعةٍ { فإنَّ الله شاكر } مجازٍ له بعمله { عليم } بنيَّته .
{ إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا } يعني : علماء اليهود { من البينات } من الرَّجم والحدود والأحكام { والهدى } أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته { من بعد ما بيناه للناس } لبني إسرائيل { في الكتاب } في التَّوراة { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } كلُّ شيءٍ إلاَّ الجنَّ والإِنس .
{ إلاَّ الذين تابوا } رجعوا من بعد الكتمان { وأصلحوا } السَّريرة { وبيَّنوا } صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { فأولئك أتوب عليهم } أعود عليهم بالمغفرة .
{ إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفَّار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } يعني : المؤمنين .
{ خالدين فيها لا يخففُ عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أَيْ : ولا هم يُمهلون للرَّجعة والتَّوبة والمعذرة ، إذ قد زال التَّكليف .
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{ وإلهكم إله واحدٌ } كان للمشركين ثلثمائةٍ وستون صمناً يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى ، فبيَّن الله سبحانه أنَّه إِلههم ، وأّنَّه واحدٌ ، فقال : { وإلهكم إله واحدٌ } أَيْ : ليس له في الإِلهيَّة شريكٌ ، ولا له في ذاته نظيرٌ { لا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم } كذَّبهم الله عزَّ وجلَّ في إشراكهم معه آلهةً ، فعجب المشركون من ذلك ، وقالوا : إنَّ محمداً يقول : { وإلهكم إله واحد } فليأتنا بآيةٍ إن كان من الصَّادقين ، فأنزل الله تعالى :
{ إنَّ في خلق السموات والأرض } مع عظمهما وكثرة أجزائهما { واختلاف الليل والنهار } ذهابهما ومجئيهما { والفلك } السُّفن { التي تجري في البحر بما ينفع الناس } من التِّجارات { وما أنزل الله من السماء من ماء } من مطرٍ { فأحيا به الأرض } أخصبها بعد جدوبتها { وبثَّ } وفرَّق { فيها من كلِّ دابة وتصريف الرياح } تقليبها مرَّة جنوباً ومرَّة شمالاً ، وباردةً وحارَّة { والسحاب المسخَّر } المُذلَّل لأمر الله { بين السماء والأرض لآياتٍ } لدلالاتٍ على وحدانية الله { لقوم يعقلون } فعلَّمهم الله عزَّ وجلَّ بهذه الآية كيفية الاستدلال على الصَّانع وعلى توحيده ، وردَّهم إلى التًّفكُّر في آياته والنَّظر في مصنوعاته ، ثمَّ أعلم أنَّ قوماً بعد هذه الآيات والبيِّنات يتَّخذون الأنداد مع علمهم أنَّهم لا يأتون بشيءٍ ممَّا ذكر .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{ ومن النَّاس مَنْ يتخذ من دون الله أنداداً } يعني : الأصنام التي هي أندادٌ بعضها لبعضٍ ، أَيْ : امثال { يحبونهم كحب الله } أي : كحبِّ المؤمنين الله { والذين آمنوا أشد حباً لله } لأنَّ الكافر يُعرِضُ عن معبوده في وقت البلاء ، والمؤمن لا يُعرض عن الله في السِّراء والضَّراء ، والشِّدَّة والرَّخاء ، { ولو يرى الذين ظلموا } كفروا { إذ يرون العذاب } شدَّة عذاب الله تعالى وقوّته لعلموا مضرَّة اتِّخاذ الأنداد ، وجواب " لو " محذوفٌ ، وهو ما ذكرنا .
{ إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا } هذه الآية تتصل بما قبلها؛ لأنَّ المعنى : وإنَّ الله شديد العذاب حين تبرَّأ المُتَّبَعُون في الشِّرك من أتباعهم عند رؤية العذاب ، يقولون : لم ندعُكم إلى الضَّلالة وإلى ما كنتم عليه { وتقطعت بهم } عنهم { الأسباب } الوصلات التي كانت بينهم في الدُّنيا من الأرحام والموَّدة ، وصارت مُخالَّتهم عداوةً .
{ وقال الذين اتبعوا } وهم الأتباع { لو أنَّ لنا كرَّةً } رجعةً إلى الدُّنيا تبرَّأنا منهم { كما تبرَّؤوا منا كذلك } أَيْ : كتبرُّىء بعضهم من بعضٍ { يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم } يعني : عبادتهم الأوثان رجاء أن تُقرِّبهم إلى الله تعالى ، فلمَّا عُذِّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسَّروا .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } نزلت هذه الآية في الذين حرَّموا على أنفسهم السَّوائب والوصائل والبحائر ، فأَعلمَ الله سبحانه أنَّها يَحلُّ أكْلُها ، وأنَّ تحريمها من عمل الشَّيطان ، فقال : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أَيْ : سُبله وطرقه ، ثمَّ بيَّن عداوة الشَّيطان ، فقال :
{ إنما يأمركم بالسوء } بالمعاصي { والفحشاء } البخل ، وقيل : كلُّ ذنبٍ فيه حدٌّ { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من تحريم الأنعام والحرث .
{ وإذا قيل لهم } أي : لهؤلاء الذين حرَّموا من الحرث والأنعام أشياء { اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا } ما وجدنا { عليه آباءنا } فقال الله تعالى مُنكراً عليهم : { أَوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } يتَّبعونهم؟ والمعنى : أيتَّبعون آبائهم وإنْ كانوا جهَّالاً؟! ثمَّ ضرب للكفَّار مثلاً ، فقال :
{ ومثل الذين كفروا } في وعظهم ودعائهم إلى الله عزَّ وجلَّ { كمثل } الرَّاعي { الذي ينعق } يصيح بالغنم وهي لا تعقل شيئاً ، ومعنى يَنْعِق : يصيح ، وأراد { بما لا يسمع إلاَّ دعاءً ونداءً } البهائم التي لا تعقل ولا تفهم ما يقول الرَّاعي ، إنَّما تسمع صوتاً لا تدري ما تحته ، كذلك الذين كفروا يسمعون كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهم كالغنم؛ إذ كانوا لا يستعملون ما أمرهم به ، ومضى تفسير قوله : { صم بكم عمي } ، ثمَّ ذكر أنَّ ما حرَّمه المشركون حلالٌ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } أَيْ : حلالات ما رزقناكم من الحرث والنَّعم وما حرَّمه المشركون على أنفسهم منهما { واشكروا لله إنْ كنتم إياه تعبدون } أَيْ : إنْ كانت العبادة واجبةً عليكم بأنَّه إلهكم فالشُّكر له واجبٌ ، بأنه منعمٌ عليكم ، ثمَّ بيَّن المُحرَّم ما هو فقال :
{ إنما حرَّم عليكم الميتة } وهي كلُّ ما فارقه الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يذبح { والدم } يعني : الدَّم السَّائل لقوله في موضع آخر : { أو دماً مسفوحاً } وقد دخل هذين الجنسين الخصوصُ بالسُّنَّةِ ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " أُحلَّت لنا ميتتان ودمان " الحديث . وقوله تعالى : { ولحم الخنزير } يعني : الخنزير بجميع أجزائه ، وخصَّ اللَّحم لأنَّه المقصود بالأكل { وما أُهِلَّ به لغير الله } يعني : ما ذُبح للأصنام ، فذكر عليه غير اسم الله تعالى { فمن اضطر } أَيْ : أُحوج وأُلْجِىءَ في حال الضَّرورة . [ وقيل : مَنْ أكره على تناوله ، وأُجبر على تناوله كما يُجبر على التَّلفُّظ بالباطل ] { غير باغٍ } أَيْ : غير قاطعٍ للطَّريق مفارقٍ للأئمة مُشاقًّ للأمَّة { ولا عادٍ } ولا ظالم متعدٍّ ، فأكلَ { فلا إثم عليه } وهذا يدلُّ على أنَّ العاصي بسفره لا يستبيح أكل الميتة عند الضَّرورة { إنَّ الله غفور } للمعصية فلا يأخذ بما جعل فيه الرُّخصة { رحيمٌ } حيث رخَّص للمضطر .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ إنَّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } يعني : رؤساء اليهود { ويشترون به } بما أنزل الله من نعت محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في كتابهم { ثمناً قليلاً } يعني : ما يأخذون من الرُّشى على كتمان نعته { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلاَّ النار } إلاَّ ما هو عاقبته النَّار { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } أَيْ : كلاماً يسرُّهم { ولا يزكيهم } ولا يُطهِّرهم من دنس ذنوبهم .
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة } استبدلوها { بالهدى والعذاب بالمغفرة } حين جحدوا أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكتموا نعته { فما أصبرهم } أَيْ : فأيُّ شيءٍ صبَّرهم على النَّار ، ودعاهم إليها حين تركوا الحقَّ واتبعوا الباطل؟! وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ لهم . [ وقيل : ما أجرأهم على النار! ] .
{ ذلك } أَيْ : ذلك العذاب لهم { بأنَّ الله نزل الكتاب بالحق } يعني : القرآن فاختلفوا فيه { وإنَّ الذين اختلفوا في الكتاب } فقالوا : إنَّه رَجَزٌ ، وشِعرٌ ، وكهانةٌ ، وسحرٌ { لفي شقاق بعيد } لفي خلافٍ للحقِّ طويلٍ .
{ ليس البر . . } الآية . كان الرَّجل في ابتداء الإِسلام إذا شهد الشَّهادتين ، وصلَّى إلى أَيٍّ ناحيةٍ كانت ثمَّ مات على ذلك وجبت له الجنَّة ، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وصُرفت القِبلة إلى الكعبة أنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال : { ليس البر } كلَّه أن تُصلُّوا ولا تعملوا غير ذلك { ولكنَّ البرَّ } أَيْ : ذا البرِّ { مَنْ آمن بالله واليومِ الآخر والملائكة والكتاب والنَّبيين وآتى المال على حبه } أَيْ : على حبِّ المال . [ وقيل : الضميرُ راجعٌ إلى الإِيتاء ] { ذوي القربى } قيل : عنى به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : أراد به قرابة الميت ] { وابن السبيل } هو المنقطع يمرُّ بك ، والضَّيف ينزل بك { وفي الرِّقاب } أَيْ : وفي ثمنها . يعني : المكاتبين { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } اللَّهَ أو النَّاسَ { والصابرين في البأساء } الفقر { والضراء } المرض { وحين البأس } وقت القتال في سبيل الله { أولئك } أهل هذه الصفة هم { الذين صدقوا } في إيمانهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } نزلت في حَيَّينِ من العرب أحدهما أشرف من الآخر ، فقتل الأوضع من الأشرف قتلى ، فقال الأشرف : لنقتلنَّ الحرَّ بالعبد ، والذَّكر بالأنثى ، ولَنُضاعِفَنَّ الجراح ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقوله : { كُتب } : أُوجب وفُرض { عليكم القصاص } اعتبار المماثلة والتَّساوي بين القتلى ، حتى لا يجوز أن يقتل حرٌّ بعبدٍ ، أو مسلمٌ بكافرٍ ، فاعتبارُ المماثلةِ واجبٌ ، وهو قوله : { الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى } ودلَّ قوله في سورة المائدة : { أنَّ النَّفس بالنَّفس } على أنَّ الذَّكر يُقتل بالأنثى فيقتل الحرُّ بالحرَّة { فمن عفي له } أَيْ : تُرك له { من } دم { أخيه } المقتول { شيءٌ } وهو أن يعفو بعض الأولياء فيسقط القود { فاتباع بالمعروف } أَيْ : فعلى العافي الذي هو ولي الدَّم أن يتبع القاتل بالمعروف ، وهو أن يطالبه بالمال من غير تشدُّد وأذىً ، وعلى المطلوب منه المال { أداءٌ } تأدية المال إلى العافي { بإحسانٍ } وهو ترك المطل والتَّسويف . { ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة } هو أنَّ الله تعالى خَيَّرَ هذه الأمَّة بين القصاص والدية والعفو ، ولم يكن ذلك إلاَّ لهذه الأُمَّة { فمن اعتدى } أَيْ : ظلم بقتل القاتل بعد أخذ الدية { فله عذابٌ أليم } .
{ ولكم في القصاص حياة } أَيْ : في إثباته حياةٌ ، وذلك أنَّ القاتل إذا قُتل ارتدع عن القتل كلُّ مَنْ يهمُّ بالقتل ، فكان القصاص سبباً لحياة الذي يُهَمُّ بقتله ، ولحياة الهامِّ أيضاً؛ لأنه إنْ قَتلَ قُتل { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول { لعلكم تتقون } [ إراقة ] الدِّماء مخافة القصاص .
{ كتب عليكم . . . } الآية . كان أهل الجاهليَّة يُوصون بمالهم للبعداء رياءً وسُمعةً ، ويتركون أقاربهم [ فقراء ] ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { كتب عليكم } فُرض عليكم وأُوجب { إذا حضر أحدكم الموت } أَيْ : أسبابه ومُقدِّماته { إنْ ترك خيراً } مالاً { الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف } يعني : لا يزيد على الثلث { حقاً } أي : حقَّ ذلك حقَّاً { على المتقين } الذين يتَّقون الشِّرك ، وهذه الآية مسنوخةٌ بآية المواريث ، ولا تجب الوصية على أحدٍ ، [ ولا تجوز الوصية للوارث ] .
{ فَمَنْ بدَّله بعد ما سمعه } أَيْ : بدَّل الإِيصاء وغيَّره من وصيٍّ ووليٍّ وشاهدٍ بعد ما سمعه عن الميت { فإنما إثمه } إثم التَّبديل { على الذين يبدلونه } وبَرِىءَ الميِّت { إن الله سميع } سمع ما قاله المُوصي { عليم } بنيَّته وما أراد ، فكانت الأولياء والأوصياء يمضون وصيه الميت بعد نزول هذه الآية وإن استغرقت المال ، فأنزل الله تعالى :
{ فمن خاف } أَيْ : علم { من موصٍ جنفاً } خطأً في الوصية من غير عمدٍ ، وهو أن يُوصي لبعض ورثته ، أو يوصي بماله كلِّه خطأً { أو إثماً } أَيْ : قصداً للميل ، فَخافَ في الوصية وفعل ما لا يجوز مُتعمِّداً { فأصلح } بعد موته بين ورثته وبين المُوصى لهم { فلا إثم عليه } أَيْ : إِنَّه ليس بمبدلٍ يأثم ، بل هو متوسطٌ للإِصلاح ، وليس عليه إثمٌ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } يعني صيام شهر رمضان { كما كتب } يعني : كما أُوجب { على الذين من قبلكم } أَيْ : أنتم مُتَعَبِّدون بالصَّيام كما تُعبِّد مَنْ قبلكم { لعلكم تتقون } لكي تتقوا الأكل والشُّرب والجماع في وقت وجوب الصَّوم .
{ أياماً معدودات } يعني : شهر رمضان { فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ } فأفطر { فعدَّةٌ } أَيْ : فعليه عدَّةٌ ، أَيْ : صوم عدَّةٍ ، يعني : بعدد ما أفطر { من أيام أُخر } سوى أيَّام مرضه وسفره { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } هذا كان في ابتداء الإسلام؛ مَنْ أطاق الصوم جاز له أن يُفطر ، ويُطعم لكلِّ يومٍ مسكيناً مُدَّاً من طعام ، فَنُسِخ بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } { فمن تطوع خيراً } زاد في الفدية على مُدٍّ واحدٍ { فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم } أيْ : والصَّوم خيرٌ لكم من الإِفطار والفدية ، وهذا [ إنَّما ] كان قبل النَّسخ .
{ شهر رمضان } أَيْ : هي شهر رمضان . يعني : تلك الأيام المعدودات شهر رمضان { الذي أُنزل فيه القرآن } أُنزل جملةً واحدً من اللَّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان ، فوضع في بيت العزَّة في سماء الدُّنيا ، ثمَّ نزل به جبريل عليه السَّلام على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً عشرين سنةً { هدىً للناس } هادياً للنَّاس { وبينات من الهدى } وآياتٍ واضحاتٍ من الحلال والحرام ، والحدود والأحكام { والفرقان } الفرق بين الحقِّ والباطل { فمن شهد منكم الشهر } فمَنْ حضر منكم بلده في الشَّهر { فليصمه } { ومَنْ كان مريضاً أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أخر } أعاد هاهنا تخيير المريض والمسافر؛ لأنَّ الآية الأولى وردت في التَّخيير للمريض والمسافر والمقيم ، وفي هذه الآية نُسخ تخيير المقيم ، فأُعيد ذكر تخيير المريض والمسافر ليعلم أنَّه باقٍ على ما كان { يريد الله بكم اليسر } بالرُّخصة للمسافر والمريض { ولا يريد بكم العسر } لأنَّه لم يشدِّد ولم يُضيِّق عليكم { ولتكملوا } [ عطف على محذوف ] والمعنى : يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر لِيَسْهُلَ عليكم { ولتكملوا العدَّة } أَيْ : ولتكملوا عدَّة ما أفطرتم بالقضاء إذا أقمتم وبرأتم { ولتكبروا الله } يعني التَّكبير ليلة الفطر إذا رُئي هلال شوال { على ما هداكم } أرشدكم من شرائع الدِّين .
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{ وإذا سألك عبادي عني . . . } الآية . سأل بعض الصَّحابة النبيَّ صلى الله عليه وسلم : أقريبٌ ربُّنا فنناجيَه ، أم بعيدٌ فنناديَه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله تعالى : { فإني قريبٌ } يعني : قربه بالعلم { أجيب } أسمع { دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي } أَيْ : فليجيبوني بالطَّاعة وتصديق الرُّسل { وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ليكونوا على رجاءٍ من إصابة الرُّشد .
{ أحلَّ لكم ليلة الصيام . . . } الآية . كان في ابتداء الإسلام لا تحلُّ المجامعة في ليالي الصَّوم ، ولا الأكل ولا الشُّرب بعد العشاء الآخرة ، فأحلَّ الله تعالى ذلك كلَّه إلى طلوع الفجر ، وقوله : { الرفث إلى نسائكم } يعني : الإِفضاء إليهنَّ بالجماع { هنَّ لباسٌ لكم } أَيْ : فراشٌ { وأنتم لباس } لحافٌ { لهنَّ } عند الجماع { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } تخونون أنفسكم بالجماع ليالي رمضان ، وذلك أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره فعلوا ذلك ، ثمَّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ، فنزلت الرُّخصة { فتاب عليكم } فعاد عليكم بالترخيص { وعفا عنكم } ما فعلتم قبل الرُّخصة { فالآن باشروهنَّ } جامعوهنَّ { وابتغوا } واطلبوا { ما كتب الله لكم } ما قضى الله سبحانه لكم من الولد { وكلوا واشربوا } اللَّيل كلَّه { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } يعني : بياض الصُّبح { من الخيط الأسود } من سواد اللَّيل { من الفجر } بيانُ أنَّ هذا الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره { ثمَّ أتموا الصيام إلى الليل } بالامتناع من هذه الأشياء { ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد } نهيٌ للمعتكف عن الجماع؛ لأنه يُفسده ، { تلك } أَيْ : هذه الأحكام التي ذكرها { حدود الله } ممنوعاته { فلا تقربوها } فلا تأتوها { كذلك } أَيْ : مثل هذا البيان : { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } المحارم .
{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أَيْ : لا يأكل بعضكم مال بعضٍ بما لا يحلُّ في الشَّرع ، من الخيانة والغصب ، والسَّرقة والقمار ، وغير ذلك { وتُدْلُوا بها إلى الحكام } ولا تصانعوا [ أَيْ : لا ترشوا ] بأموالكم الحكَّام لِتقتطعوا حقَّاً لغيركم { لتأكلوا فريقاً } طائفةً { من أموال الناس بالإِثم } بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم { وأنتم تعلمون } أنَّكم مُبطلون ، وأنَّه لا يحلُّ لكم ، والأصل في الإِدلاء : الإِرسال ، من قولهم : أدليتُ الدَّلو .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
{ يسألونك عن الأهلَّة } يسأل معاذ بن جبلٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن زيادة القمر ونقصانه ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } وهي جمع هلال { قل هي مواقيت للناس والحج } أخبر الله عنه أنَّ الحكمة في زيادته ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات النَّاس في حجِّهم ومَحِلِّ دُيونِهم ، وعِدَدِ نسائهم ، وأجور أُجرائهم ، ومُدَد حواملهم ، وغير ذلك { وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها } كان الرَّجل في الجاهليَّة إذا أحرم نقب من بيته نقباً من مؤخره يدخل فيه ويخرج ، فأمرهم الله بترك سنَّة الجاهليَّة ، وأعلمهم أنَّ ذلك ليس ببرٍّ { ولكن البرَّ } برُّ { من اتقى } مخالفةَ الله { وأتوا البيوت من أبوابها . . . } الآية .
{ وقاتلوا في سبيل الله . . . } الآية . نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انصرف من الحديبية إلى المدينة المنورة حين صدَّه المشركون عن البيت ، صالحهم على أن يرجع عامة القابل ويُخَلُّوا له مكَّة ثلاثة أيَّام ، فلمَّا كان العام القابل تجهزَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي لهم قريشٌ وأن يصدُّوهم عن البيت ويقاتلوهم ، وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشَّهر الحرام في الحرم ، فأنزل الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله } أَيْ : في دين الله وطاعته { الذين يقاتلونكم } يعني : قريشاً { ولا تعتدوا } ولا تظلموا فتبدؤوا في الحرم بالقتال .
{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وجدتموهم وأخذتموهم { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } يعني : من مكَّة { والفتنة أشدّ من القتل } يعني : وشركُهم بالله تعالى أعظمُ من قتلكم إيَّاهم في الحرم { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } نُهوا عن ابتدائهم بقتلٍ أو قتالٍ حتى يبتدىء المشركون { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } أَيْ : إن ابتدؤوا بقتالكم عند المسجد الحرام فلكم القتال على سبيل المكافأة ، ثم بيَّن أنهم إن انتهوا ، أَيْ : كفُّوا عن الشِّرك والكفر والقتال وأسلموا { فإنَّ الله غفور رحيم } أَيْ : يغفر لهم كفرهم وقتالهم من قبل ، وهو منعمٌ عليهم بقبول توبتهم وإيمانهم بعد كفرهم وقتالهم .
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } أَيْ : شركٌ . يعني : قاتلوهم حتى يُسلموا ، وليس يُقبل من المشرك الوثنيِّ جزيةٌ { ويكون الدين } أَيْ : الطَّاعة والعبادة { لله } وحده فلا يُعبد دونه شيءٌ { فإن انتهوا } عن الكفر { فلا عدوان } أَيْ : فلا قتل ولا نهب { إلاَّ على الظالمين } والكافرين .
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } أَيْ : إن قاتلوكم في الشَّهر الحرام فقاتلوهم في مثله { والحرمات قصاص } أَي : إن انتهكوا لكم حرمةً فانتهكوا منهم مثل ذلك ، أَعلمَ الله سبحانه أنَّه لا يكون للمسلمين أنْ ينتهكوها على سبيل الابتداء ، ولكن على سبيل القصاص ، وهو معنى قوله : { فمن اعتدى عليكم . . . } الآية . { وأنفقوا في سبيل الله } في طاعة الله تعالى من الجهاد وغيره { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ولا تُمسكوا عن الإِنفاق في الجهاد { وأحسنوا } أَيْ : الظنَّ بالله تعالى في الثَّواب والإِخلاف عليكم .
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{ وأتموا الحج والعمرة لله } بمناسكهما وحدودهما وسننهما ، وتأدية كلِّ ما فيهما { فإن أحصرتم } حُبستم ومُنعتم دون تمامهما { فما استيسر } فواجبٌ عليكم ما تيسَّر { من الهدي } وهو ما يُهدى إلى بيت الله سبحانه ، أعلاه بدنةٌ ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاةٌ ، فعليه ما تيسَّر من هذه الأجناس { ولا تحلقوا رؤوسكم } أَيْ : لا تَحِلُّوا من إحرامكم { حتى يبلغ الهدي محلَّه } حتى يُنحر الهدي بمكَّة في بعض الأقوال ، وهو مذهب أهل العراق ، وفي قول غيرهم : مَحِلُّه حيث يَحِلُّ ذبحه ونحره ، وهو حيث أُحصر ، وهو مذهب الشَّافعي { فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه } [ يعني الهوام تقع في الشَّعر وتكثر ] فحلق { ففديةٌ من صيامٍ } وهو صيام ثلاثة أيَّام { أو صدقة } وهي إطعام ستة مساكين . لكلِّ مسكينٍ مُدَّان { أو نسك } ذبيحةٍ { فإذا أمنتم } أَيْ : من العدوِّ ، أو كان حجٌّ ليس فيه خوفٌ من عدوٍّ { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } أيْ : قدم مكَّة مُحرماً واعتمر في أشهر الحجِّ ، وأقام حلالاً بمكَّة حتى يُنشىء منها الحجَّ عامَه ذلك ، واستمتع بمحظورات الإحرام؛ لأنَّه حلَّ بالعمرة ، فمن فعل هذا { ف } عليه { ما استيسر من الهدي فمن لم يجد } ثمن الهدي { فصيام ثلاثة أيام في } أشهر { الحج وسبعة إذا رجعتم } أَيْ : بعد الفراغ من الحجِّ { تلك عشرة كاملة ذلك } أَيْ : ذلك الفرض الذي أُمرنا به من الهدي أو الصِّيام { لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } أَيْ : لمَنْ لم يكن من أهل مكَّة .
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{ الحج أشهر } أًيْ : أشهرُ الحجِّ أشهرٌ { معلوماتٌ } مُوقَّتةٌ معيَّنةٌ ، وهي شوال وذو القعدة وتسعُ من ذي الحجَّة { فمن فرض } أوجب على نفسه { فيهنَّ الحجَّ } بالإحرام والتَّلبية { فلا رفث } فلا جِماعَ { ولا فسوق } ولا معاصي { ولا جدال } وهو أَنْ يُجادلَ صاحبه حتى يُغضبه ، والمعنى : لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا { في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله } أَيْ : يُجازيكم به الله العالم { وتزوَّدوا } نزلت في قومٍ كانوا يحجُّون بلا زادٍ ويقولون : نحن متوكِّلون ، ثمَّ كانوا يسألون النَّاس وربَّما ظلموهم وغصبوهم ، فأمرهم الله أَنْ يتزوَّدوا فقال : { وتزوَّدوا } ما تتبلَّغون به { فإن خير الزاد التقوى } يعني : ما تكفُّون به وجوهكم عن السُّؤال وأنفسكم عن الظُّلم .
{ ليس عليكم جناح . . . } الآية . كان قومٌ يزعمون أنَّه لا حَجَّ لتاجرٍ ولا جَمَّالٍ ، فأعلمَ اللَّهُ تعالى أنه لا حرج في ابتغاء الرِّزق بقوله : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } أَيْ : رزقاً بالتجِّارة في الحجِّ { فإذا أفضتم } أَيْ : دفعتم وانصرفتم من { عرفات فاذكروا الله } بالدُّعاء والتَّلبية { عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم } أَيْ : ذكراً مثلَ هدايته إيَّاكم ، أَيْ : يكون جزاءً لهدايته إيَّاكم { وإن كنتم من قبله } أَيْ : وما كنتم من قبل هُدَاه إلاَّ ضالِّين .
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{ ثمَّ أفيضوا من حيث أفاض الناس } يعني : العرب وعامِّة النَّاس إلاَّ قريشاً ، وذلك أنَّهم كانوا لا يقفون بعرفات وإنَّما يقفون بالمزدلفة ويقولون : نحن أهل حرم الله ، فلا نخرج منه ، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفاتٍ ، كما يقف سائر النَّاس حتى تكون الإفاضة معهم منها . { فإذا قضيتم مناسككم } أَيْ : فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحجِّ { فاذكروا الله كذكركم آباءَكم } كانت العرب إذا فرغوا من حجِّهم ذكروا مفاخر آبائهم ، فأمرهم الله عزَّ وجلَّ بذكره { أو أشدَّ ذكراً } يعني : وأشدَّ ذكراً { فمن الناس . . . } الآية ، وهم المشركون كانوا يسألون المال والإبل والغنم ، ولا يسألون حظَّاً في الآخرة؛ لأَنهم لم يكونوا مؤمنين بها ، والمسلون يسألون الحظَّ في الدُّنيا والآخرة ، وهو قوله :
{ ومنهم مَنْ يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة . . . } الآية . [ ومعنى : { في الدنيا حسنة } : العمل بما يرضي الله ، { وفي الآخرة حسنة } : الجنة ] .
{ أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا } أَيْ : ثوابُ ما عملوا { والله سريعُ الحساب } مع هؤلاء؛ لأنَّه يغفر سيئاتهم ويضاعف حسناتهم .
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{ واذكروا الله في أيام معدودات } يعني : التَّكبير أدبار الصَّلوات في أيام التَّشريق { فمن تعجَّل في يومين } من أيام التَّشريق فنفر في اليوم الثّاني من مِنىً { فلا إثم عليه } في تعجُّله ، { ومن تأخر } عن النَّفر إلى اليوم الثالث { فلا إثم عليه } في تأخُّره { لمن اتقى } أَيْ : طرحُ المأثم يكون لمن اتَّقى في حجِّه تضييعَ شيءٍ ممَّا حدَّه الله تعالى .
{ ومن الناس مَن يعجبك قوله . . . } الآية . يعني : الأخنس بن شريق ، وكان منافقاً حلو الكلام ، حسن العلانيَة سيِّىء السَّريرة ، وقوله : { في الحياة الدنيا } لأنَّ قوله إنَّما يعجب النَّاس في الحياة الدُّنيا ، ولا ثواب له عليه في الآخرة { ويشهد الله على ما في قلبه } لأنَّه كان يقول للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : واللَّهِ ، إنِّي بك لمؤمنٌ ، ولك محبٌّ { وهو ألدُّ الخصام } أَيْ : شديد الخصومة ، وكان جَدِلاً بالباطل .
{ وإذا تولى سعى في الأرض . . . } الآية ، وذلك أنَّه رجع إلى مكَّة ، فمرَّ بزرعٍ وحُمُرٍ للمسلمين ، فأحرق الزَّرع وعقر الحُمُر ، فهو قوله : { ويهلك الحرث والنسل } أَيْ : نسل الدَّوابِّ .
{ وإذا قيل له اتق الله } وإذا قيل له : مهلاً مهلاً { أخذته العزَّةُ بالإِثم } حملته الأنفة وحميَّة الجاهليَّة على الفعل بالإِثم { فحسبه جهنم } كافيه الجحيم جزاءً له { ولبئس المهاد } ولبئس المقرُّ جهنَّم .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{ ومن الناس مَنْ يشري } أَيْ : يبيع { نفسه } يعني : يبذلها لأوامر الله تعالى { ابتغاء مرضاة الله } لطلب رضا الله . نزلت في صهيب الرُّوميِّ .
{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْمِ } أَيْ : في الإسلام { كافة } أيْ : جميعاً ، أيْ : في جميع شرائعه . نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنَّهم بعدما دخلوا في الإِسلام عظَّموا السَّبت ، وكرهوا لُحمان الإِبل فأُمروا بترك ذلك ، وإنَّه ليس من شرائع الإِسلام تحريم السَّبت وكراهة لحوم الإبل { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أيْ : آثاره ونزغاته { إنه لكم عدوٌّ مبين } .
{ فإن زللتم } تنحَّيتم عن القصد بتحريم السَّبْت ولحوم الإِبل { من بعد ما جاءتكم البينات } أَيْ : القرآن { فاعلموا أنَّ الله عزيز } في نقمته لا تعجزونه ولا يُعجزه شيءٌ { حكيم } فيما شرع لكم من دينه .
{ هل ينظرون } أَيْ : هل ينتظرون . يعني : التَّاركين الدُّخول في الإِسلام ، و " هل " استفهامٌ معناه النَّفي ، أيْ : ما ينتظر هؤلاء في الآخرة { إلاَّ أن يأتيهم } عذاب { اللَّهُ في ظلل من الغمام } والظُّلَل جمع : ظُلَّة ، وهي كلُّ ما أظلَّك ، والمعنى : إنَّ العذاب يأتي فيها ، ويكون أهول { والملائكة } أَيْ : الملائكةُ الذين وُكِّلوا بتعذيبهم { وقضي الأمر } فُرغ لهم ممَّا يوعدون بأنْ قُدِّر ذلك عليهم { وإلى الله تُرجع الأمور } يعني : في الجزاء من الثَّواب والعقاب .
{ سل بني إسرائيل } سؤال توبيخ وتبكيتٍ وتقريعٍ [ كما يُقال : سله كم وعظته فلم يقبل ] { كم آتيناهم من آية بينةً } من فلق البحر ، وإنجائهم من عدوِّهم ، وإنزال المنِّ والسًّلوى ، وغير ذلك { ومَنْ يُبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته } يعني : ما أنعم الله به عليهم من العلم بشأن محمِّدٍ عليه السَّلام ، فبدَّلوه وغيَّروه .
{ زين للذين كفروا } أَيْ : رؤساء اليهود { الحياة الدُّنيا } فهي هِمَّتهم وطِلبتهم ، فهم لا يريدون غيرها { ويسخرون من الذين آمنوا } أَيْ : فقراء المهاجرين { والذين اتقوا } الشِّرك وهم هؤلاء الفقراء { فوقهم يوم القيامة } لأنَّهم في الجنَّة ، وهي عاليةٌ ، والكافرين في النَّار ، وهي هاويةٌ { والله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب } يريد : إِنَّ أموال قريظة والنَّضير تصيرُ إليهم بلا حسابٍ ولا قتالٍ ، بل بأسهل شيءٍ وأيسره .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{ كان الناس } على عهد إبراهيم عليه السَّلام { أمة واحدة } كفاراً كلَّهم { فبعث الله النبيين } إبراهيم وغيره { وأنزل معهم الكتاب } والكتابُ اسم الجنس { بالحق } بالعدل والصِّدق { ليحكم بين الناس } أَيْ : الكتابُ { فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً } أَيْ : وما اختلفَ في أمر محمَّدٍ بعد وضوح الدّلالات لهم بغياً وحسداً إلاَّ اليهودُ الذين أوتوا الكتاب؛ لأنَّ المشركين - وإن اختلفوا في أمر محمَّد عليه السَّلام - فإنَّهم لم يفعلوا ذلك للبغي ، والحسد ، ولم تأتهم البيِّنات في شأن محمَّد عليه السَّلام ، كما أتت اليهود ، فاليهود مخصوصون من هذا الوجه { فهدى الله الذين آمنوا } { ل } معرفة { ما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } بعلمه وإرادته فيهم .
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة . . . } الآية . نزلت في فقراء المهاجرين حين اشتدَّ الضُّرُّ عليهم؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ ، فقال الله لهم [ أَيْ لهؤلاء المهاجرين ] : أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة من غير بلاءٍ ولا مكروهٍ { ولما يأتكم } أَيْ : ولم يأتكم { مثل الذين خلوا } أَيْ : مثل محنة الذين مضوا { من قبلكم } أَيْ : ولم يُصبكم مثل الذي أصابهم ، فتصبروا كما صبروا { مَسَّتْهُم البأساء } الشدَّة { والضرَّاء } المرض والجوع { وزلزلوا } أَيْ : حُرِّكوا بأنواع البلاء { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } أَيْ : حين استبطؤوا النَّصر ، فقال الله : { ألا إنَّ نصر الله قريب } أَيْ : أنا ناصر أوليائي لا محالة .
{ يسألونك ماذا ينفقون } نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخاً كبيراً وعنده مالٌ عظيمٌ ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعُها؟ فنزلت هذه الآية . قال كثيرٌ من المفسرين : هذا كان قبل فرض الزكاة ، فلمَّا فُرضت الزَّكاة نسخت الزَّكاة هذه الآية .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
{ كتب عليكم القتال } فُرض وأوجب عليكم الجهاد { وهو كرهٌ لكم } أَيْ : مشقَّةٌ عليكم لما يدخل منه على النَّفس والمال { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم } لأنَّ في الغزو إحدى الحسنيين؛ إمَّا الظفر والغنيمة؛ وإمَّا الشَّهادة والجنَّة { وعسى أن تحبُّوا شيئاً } أَيْ : القعود عن الغزو { وهو شرٌّ لكم } لما فيه من الذُّل والفقر ، وحرمان الغنيمة والأجر { والله يعلم } ما فيه مصالحكم ، فبادروا إلى ما يأمركم به وإنْ شقَّ عليكم .
{ يسألونك عن الشهر الحرام } نزلت في سريةٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا المشركين وقد أهلَّ هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك ، فاستعظم المشركون سفك الدِّماء في رجب ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك } يعني : المشركين . وقيل : هم المسلمون { عن الشهر الحرام قتالٍ فيه } أَيْ : وعن قتالٍ فيه { قل قتالٌ فيه كبير } ثمَّ ابتدأ فقال : { وصد } ومنعٌ { عن سبيل الله } أَيْ : طاعته . يعني : صدَّ المشركين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت الحرام عام الحديبية { وكفر به } بالله { والمسجد الحرام } أَيْ : وصدٌّ عن المسجد الحرام { وإخراج أهله } أَيْ : أهل المسجد . يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أُخرجوا من مكَّة { منه أكبرُ } وأعظم وِزْراً { عند الله والفتنة } أَيْ : والشِّرك { أكبر من القتل } يعني : قتل السِّرية المشركين في رجب { ولا يزالون } يعني : المشركين { يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم } إلى الكفر { إن استطاعوا ومن يَرْتَدِدْ منكم عن دينه } الإِسلام ، أَيْ : يرجع فيموت على الكفر { فأولئك حبطت أعمالهم . . . } الآية . [ بطلت أعمالهم ] . فقال هؤلاء السَّرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أصبنا القوم في رجب ، أنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى :
{ إنَّ الذين آمنوا والذين هاجروا } فارقوا عشائرهم وأوطانهم { وجاهدوا } المشركين { في سبيل الله } في نصرة دين الله { أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } غفر لهؤلاء السِّرية ما لم يعلموا ورحمهم ، والإِجماعُ اليوم منعقدٌ على أنَّ قتال المشركين يجوز في جميع الأشهر حلالها وحرامها .
{ يسألونك عن الخمر والميسر } نزلت في عُمَر ، ومعاذٍ ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر؛ فإنَّهما مَذْهَبةٌ للعقل ، مَسْلَبةٌ للمال ، فنزلت قوله عزَّ وجلَّ { يسألونك عن الخمر } وهو كلُّ مسكرٍ مخالطٍ للعقل مُغطٍّ عليه { والميسر } : القمار { قل فيهما إثم كبير } يعني : الإِثم بسببهما لما فيهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزُّور وغير ذلك { ومنافع للناس } ما كانوا يصيبونه من المال في بيع الخمر والتِّجارة فيها ، واللَّذَّة عند شربها ، ومنفعةُ الميسر ما يُصاب من القمار ، ويرتفق به الفقراء ، ثمَّ بيَّن أنَّ ما يحصل بسببهما من الإِثم أكبر من نفعهما ، فقال { وإثمهما أكبر من نفعهما } ، وليست هذه الآيةُ المُحرِّمةَ للخمر والميسر ، إنَّما المُحرِّمةُ التي في سورة المائدة ، وهذه الآية نزلت قبل تحريمها .
{ ويسألونك ماذا ينفقون } نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لمَّا نزل قوله : { فللوالدين والأقربين } في سؤاله أعاد السّؤال ، وسأل عن مقدار ما ينفق؟ فنزل قوله : { قل العفو } أَيْ : ما فضل من المال عن العيال ، وكان الرَّجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ما يكفيه ، وينفق باقيه إلى أن فُرضت الزَّكاة ، فنسخت آية الزَّكاة التي في براءة هذه الآية وكلَّ صدقةٍ أُمروا بها قبل الزَّكاة { كذلك } أَيْ : كبيانه في الخمر والميسر ، أو في الإِنفاق { يبين الله لكم الآيات } لتتفكَّروا في أمر الدُّنيا والآخرة ، فتعرفوا فضل الآخرة على الدُّنيا .
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
{ ويسألونك عن اليتامى } كانت العرب في الجاهليَّة يُشدِّدون في أمر اليتيم ولا يُؤاكلونه ، وكانوا يتشاءمون بملابسة أموالهم ، فلمَّا جاء الإِسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله : { قل إصلاح لهم خير } يعني : الإِصلاح لأموالهم من غير أجرةٍ خيرٌ وأعظم أجراً { وإن تخالطوهم } تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضاً عن قيامكم بأمورهم { فإخوانكم } أَيْ : فهم إخوانكم ، والإِخوانُ يُعين بعضهم بعضاً ، ويُصيب بعضهم من مال بعضٍ ، { والله يعلم المفسد } لأموالهم { من المصلح } لها ، فاتقَّوا الله في مال اليتيم ، ولا تجعلوا مخالطتكم إيَّاهم ذريعةً إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقٍّ { ولو شاء الله لأعنتكم } لضيَّق عليكم وآثمكم في مخالطتكم . ومعناه : التَّذكير بالنِّعمة في التَّوسعة { إنَّ الله عزيزٌ } في ملكه { حكيم } فيما أمر به .
{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ } نزلت في أبي مرثد الغنويِّ ، كانت له خليلةٌ مشركةٌ ، فلمَّا أسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحلُّ له أن يتزوَّج بها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمشركات ها هنا عامَّة في كلِّ مَنْ كفرت بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم . حرَّم الله تعالى بهذه الآية نكاحهنَّ ، ثمَّ استثنى الحرائر الكتابيات بالآية التي في المائدة ، فبقي نكاح الأَمَة الكتابية على التَّحريم { ولأَمةٌ مؤمنةٌ } نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أَمَةٌ مؤمنةٌ فأعتقها وتزوَّجها ، فطعن عليه ناسٌ ، وعرضوا عليه حُرَّةً مشركةً ، فنزلت هذه الآية ، وقوله : { ولو أعجبتكم } المشركة بمالها وجمالها { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحالٍ { أولئك } أَي : المشركون { يدعون إلى النَّار } أَي : الأعمال الموجبة للنَّار { والله يدعو إلى الجنة والمغفرة } أَيْ : العمل الموجب للجنَّة والمغفرة { بإذنه } بأمره . يعني : إنَّه بأوامره يدعوكم .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{ ويسألونك عن المحيض } [ ذكر المفسرون أنَّ العرب كانت إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ، ولم يَسَّاكَنُوا معها في بيت ، كفعل المجوس ] فسأل أبو الدَّحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف نصنع بالنِّساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية ، والمحيض : الحيض { قل هو أذىً } أَيْ : قذرٌ ودمٌ { فاعتزلوا النساء في المحيض } أَيْ : مجامعتهنَّ إذا حضن { ولا تقربوهنَّ } أَيْ : ولا تجامعوهنَّ { حتى يَطَّهَّرْنَ } أي : يغتسلن ، ومَنْ قرأ : { يَطْهُرْنَ } بالتَّخفيف ، أَيْ : ينقطع عنهنَّ الدَّم ، أَيْ : توجد الطَّهارة وهي الغسل { فإذا تطهَّرن } اغتسلن { فأتوهنَّ } أَيْ : جامعوهنَّ { من حيث أمركم الله } بتجنُّبه في الحيض - وهو الفرج - { إنَّ الله يحب التوابين } من الذُّنوب و { المتطهرين } بالماء من الأحداث والجنابات .
{ نساؤكم حرثٌ لكم } أَيْ : مزرعٌ ومنبتٌ للولد { فأتوا حرثكم أنى شئتم } أَيْ : كيف شئتم ومن أين شئتم بعد أن يكون في صِمام واحدٍ ، فنزلت هذه الآية تكذيباً لليهود ، وذلك أنَّ المسلمين قالوا : إِنَّا نأتي النِّساء باركاتٍ وقائماتٍ ومستلقياتٍ ، ومن بين أيديهنَّ ، ومن خلفهنَّ بعد أن يكون المأتي واحداً ، فقالت اليهود : ما أنتم إلاَّ أمثال البهائم ، لكنَّا نأتيهنَّ على هيئةٍ واحدةٍ ، وإنَّا لنجد في التَّوراة أنَّ كلَّ إِتيانٍ يؤتى النِّساء غير الاستلقاء دنسٌ عند الله ، فأكذب الله تعالى اليهود { وقدموا لأنفسكم } أَي : العمل لله بما يحبُّ ويرضى { واتقوا الله } فيما حدَّ لكم من الجماع وأمرِ الحائض { واعلموا أنكم ملاقوه } أَيْ : راجعون إليه { وبشر المؤمنين } الذين خافوه وحذروا معصيته .
{ ولا تجعلوا الله عرضةٌ لأيمانكم } أَيْ : لا تجعلوا اليمين بالله سبحانه علَّةً مانعةً من البرِّ والتَّقوى من حيث تتعمَّدون اليمين لتعتلُّوا بها . نزلت في عبد الله بن رواحة حلف أن لا يُكلِّم ختنه ، ولا يدخل بينه وبين خصم له ، جعل يقول : قد حلفتُ أَنْ لا أفعل فلا يحلُّ لي ، وقوله : { أن تبروا } أَي : في أَنْ لا تبرُّوا ، أو لدفع أن تبرُّوا ، ويجوز أن يكون قوله : { أن تبروا } ابتداءً ، وخبره محذوف على تقدير : أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين النَّاس أولى ، أَي : البرُّ والتُّقى أولى . { والله سيمعٌ عليمٌ } يسمع أيمانكم ، ويعلم ما تقصدون بها .
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } أَيْ : ما يسبق به اللِّسان من غير عقدٍ ولا قصدٍ ، ويكون كالصِّلة للكلام ، وهو مِثلُ قول القائل : لا والله ، وبلى واللَّهِ . وقيل : لغو اليمين : اليمينُ المكفَّرة ، سمِّيت لغواً لأنَّ الكفَّارة تُسقط الإِثم منه { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أَيْ : عزمتم وقصدتم ، وعلى القول الثاني في لغو اليمين معناه : ولكن يؤاخذكم بعزمكم على ألا تبرُّوا وتعتلُّوا في ذلك بأيمانكم بأنَّكم حلفتم { والله غفورٌ حليم } يؤخِّر العقوبة عن الكفَّار والعُصاة .
{ للذين يؤلون من نسائهم } أَيْ : يحلفون أن لا يطؤوهنَّ { تربص أربعة أشهر } جعل الله تعالى الأجل في ذلك أربعة أشهر ، فإذا مضت هذه المدَّة فإمَّا أن يُطلِّق أو يطأ ، فإن أباهما جميعاً طلَّق عليه الحاكم { فإن فاؤوا } رجعوا عمَّا حلفوا عليه ، أَيْ : بالجماع { فإنَّ الله غفورٌ رحيم } يغفر له ما قد فعل ، [ ولزمته كفَّارة اليمين ] .
{ وإن عزموا الطلاق } أَيْ : طلَّقوا ولم يفيؤوا بالوطء { فإنَّ الله سميع } لما يقوله { عليمٌ } بما يفعله .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
{ والمطلقات } أَيْ : المُخلَّيات من حبال الأزواج . يعني : البالغات المدخول بهنَّ غير الحوامل؛ لأنَّ في الآية بيان عدتهنَّ { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } أَيْ : ثلاثة أطهار ، يعني : ينتظرن انقضاء مدة ثلاثة أطهارٍ حتى تمرَّ عليهن ثلاثة أطهارٍ ، وقيل : ثلاث حيضٍ . { ولا يحلُّ لهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنَّ } يعني : الولد؛ ليبطلن حقَّ الزوج من الرَّجعة { إن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر } وهذا تغليظٌ عليهنَّ في إِظهار ذلك { وبعولتهن } أَيْ : أزواجهنَّ { أحقُّ بردهنَّ } بمراجعتهنَّ { في ذلك } في الأجل الذي أُمرْنَ أن يتربصن فيه { إن أرادوا إصلاحاً } لا إضراراً { ولهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف } أَيْ : للنِّساء على الرَّجال مثلُ الذي للرِّجال عليهنَّ من الحقِّ بالمعروف ، أَيْ : بما أمر الله من حقِّ الرَّجل على المرأة { وللرجال عليهن درجة } يعني : بما ساقوا من المهر ، وأنفقوا من المال { والله عزيز حكيم } يأمر كما أراد ويمتحن كما أحبَّ .
{ الطلاق مرتان } كان طلاقُ الجاهلية غير محصورٍ بعددٍ ، فحصر الله الطلاق بثلاثٍ ، فذكر في هذه الآية طلقتين ، وذكر الثَّالثة في الآية الأخرى ، وهي قوله : { فإن طلقها فلا تحلُّ له من بعد . . . } الآية ، وقيل : المعنى في الآية : الطَّلاق الذي يُملك فيه الرَّجعة مرَّتان .
{ فإمساك بمعروف } يعني : إذا راجعها بعد الطَّلقتين فعليه إمساكٌ بما أمر الله تعالى { أو تسريحٌ بإحسان } وهو أَنْ يتركها حتى تَبِينَ بانقضاء العِدَّة ، ولا يراجعها ضراراً { ولا يحلُّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } لا يجوز للزَّوج أن يأخذ من امرأته شيئاً ممَّا أعطاها من المهر ليطلِّقها إلاَّ في الخُلع ، وهو قوله : { إلاَّ أن يخافا } أيْ : يعلما { ألا يُقيما حدود الله } والمعنى : إنَّ المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بُغضاً له ، وخاف الزَّوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها حلَّ له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك { فإنْ خفتم } أيُّها الولاة والحكَّام { ألا يقيما حدود الله } يعني : الزَّوجين { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } المرأة ، لا جُناح عليها فيما أعطته ، ولا على الرَّجل فيام أخذ { تلك حدود الله } يعني : ما حدَّه من شرائع الدِّين .
{ فإن طلقها } يعني : الزوج المُطلِّق اثنتين { فلا تحلُّ له } المطلَّقة ثلاثاً { من بعد } أَيْ : من بعد التَّطليقة الثَّالثة { حتى تنكح زوجاً غيره } غير المُطلِّق [ ويجامعها ] { فإن طلقها } أَيْ : الزَّوج الثَّاني { فلا جناح عليهما أن يتراجعا } بنكاحٍ جديدٍ { إن ظنا } أَيْ : علما وأيقنا { أن يقيما حدود الله } ما بيَّن الله من حقِّ أحدهما على الآخر .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ } أَيْ : قاربن انقضاء عدتهنَّ { فأمسكوهنَّ بمعروف } أَيْ : راجعوهنّ بإشهادٍ على الرَّجعة وعقد لها لا بالوَطْء كما يقول أبو حنيفة { أو سرحوهنَّ بمعروف } أَي : اتركوهنَّ حتى تنقضي عدتهنَّ ويكنَّ أملك بأنفسهنَّ { ولا تمسكوهنَّ ضراراً } أَيْ : لا تُراجعوهنَّ مضارَّةً وأنتم لا حاجة بكم إليهنَّ { لتعتدوا } عليهنَّ بتطويل العِدَّة { ومن يفعل ذلك } الاعتداء { فقد ظلم نفسه } ضرَّها وأثم فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } كان الرَّجل يُطلِّق في الجاهليَّة ويقول : إنَّما طلَّقت وأنا لاعبٌ ، فيرجع فيها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { واذكروا نعمة الله عليكم } بالإِسلام { وما أنزل عليكم من الكتاب } يعني : القرآن { والحكمة } مواعظ القرآن .
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنَّ } انقضت عدتهنَّ { فلا تعضلوهنَّ } لا تمنعوهنَّ { أن ينكحن أزواجهنَّ } بنكاحٍ جديدٍ ، أَي : الذين كانوا أزواجاً لهنَّ . نزلت في أخت معقل بن يسار طلَّقها زوجها ، فلمَّا انقضت عدَّتها جاء يخطبها ، فأبى معقلٌ أن يُزوِّجها ومنعها بحقِّ الولاية { إذا تراضوا بينهم بالمعروف } بعقدٍ حلالٍ ومهرٍ جائزٍ { ذلك } أَيْ : أَمْرُ اللَّهِ بتَرْكِ العضل { يوعظ به مَنْ كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى } أَيْ : ترك العضل خير { لكم } وأفضلُ { وأطهر } لقلوبكم من الرِّيبة ، وذلك أنَّهما إذا كان في قلب كلِّ واحدٍ منهما علاقةُ حبِّ لم يُؤمن عليهما { والله يعلم } ما لكم فيه من الصَّلاح .
{ والوالداتُ يرضعن أولادهن } لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر ، وهو أمر استحبابٍ لا أمر إيجابٍ . يريد : إنهنَّ أحقُّ بالإِرضاع من غيرهنَّ إذا أردن ذلك { حولين } سنتين { كاملين } تامين ، وهذا تحديدٌ لقطع التَّنازع بين الزَّوجين إذا اشتجرا في مدَّة الرَّضاع . يدلُّ على هذا قوله : { لمن أراد } أَيْ : هذا التَّقدير والبيان { لمن أراد أن يتمَّ الرضاعة } ، { وعلى المولود له } أَي : الأب { رزقهن وكسوتهنَّ } رزق الوالدات ولباسهنَّ . قال المفسرون : وعلى الزَّوج رزق المرأة المُطلَّقة وكسوتها إذا أرضعت الولد { بالمعروف } بما يعرفون أنَّه عدلٌ على قدر الإِمكان ، وهو معنى قوله : { لا تكلف نفس إلاَّ وسعها } لا تلزم نفسٌ إلاَّ ما يسعها { لا تضار والدة بولدها } لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أَنْ رضيت بإرضاعه ، وألفها الصَّبيُّ ، ولا تُلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها تُضَارُّه بذلك ، وهو قوله : { ولا مولودةٌ له بولده } ، { وعلى الوارث مثل ذلك } هذا نسقٌ على قوله : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهنَّ } بمعنى : على وارث الصبيِّ - الذي لو مات الصبيُّ وله مالٌ ورثه - مثل الذي كان على أبيه في حياته ، وأراد بالوارث مَنْ كان من عصبته كائناً من كان من الرِّجال { فإن أرادا } يعني : الأبوين { فصالاً } فطاماً للولد { عن تراضٍ منهما } قبل الحولين { وتشاور } بينهما { فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } مراضع غير الوالدة { فلا جناح عليكم } فلا إثم عليكم { إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } أَيْ : إذا سلَّمتم إلى الأُمِّ أجرتها بمقدار ما أرضعت .
{ والذين يتوفون منكم } أَيْ : يموتون { ويذرون } ويتركون [ ويُخَلِّفُون ] { أزواجاً } نساءً { يتربصن بأنفسهنَّ } خبرٌ في معنى الأمر { أربعة أشهر وعشرا } هذه المدَّة عدَّة المُتوفَّى عنها زوجها إلاَّ أن تكون حاملاً { فإذا بلغن أجلهنَّ } انقضت عدَّتهنَّ { فلا جناح عليكم } أيُّها الأولياء { فيما فعلن في أنفسهنَّ بالمعروف } أَيْ : مِنْ تزوُّج الأكفاء بإذن الأولياء . هذا تفسير المعروف ها هنا ، لأنَّ التي تُزَوِّج نفسها سمَّاها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زانية ، وهذه الآية ناسخةٌ لقوله تعالى : { متاعاً إلى الحول غير إخراج } الآية .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{ ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به } أَيْ : تكلَّمتم به من غير تصريح ، وهو أن يُضمِّن الكلام دلالةً على ما يريد { من خطبة النساء } أَي : التماس نكاحهنَّ في العدَّة . يعني : المتوفَّى عنها الزَّوج يجوز التعريض بخطبتها في العدَّة ، وهو أن يقول لها وهي في العدَّة : إنَّك لجميلةٌ ، وإنَّك لنافقةٌ ، وإنَّك لصالحةٌ ، وإنَّ من عزمي أَنْ أتزوَّج ، وما اشبه ذلك { أو أَكْنَنْتُمْ } أسررتم وأضمرتم { في أنفسكم } من خطبتهنَّ ونكاحهنَّ { علم الله أنكم ستذكرونهنَّ } يعني : الخطبة { ولكن لا تواعدوهن سراً } أَيْ : لا تأخذوا ميثاقهنَّ أن لا ينكحن غيركم { إلاَّ أن تقولوا قولاً معروفاً } أَي : التَّعرض بالخطبة كما ذكرنا { ولا تعزموا عقدة النكاح } أيْ : لا تصححوا عقدة النِّكاح { حتى يبلغ الكتاب أجله } حتى تنقضي العدَّة المفروضة { واعلموا أنَّ الله يعلم ما في أنفسكم } أَيْ : مُطَّلعٌ على ما في ضمائركم . { فاحذروه } فخافوه .
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
{ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنَّ } نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوَّج امرأة ولم يسمِّ لها مهراً ، ثمَّ طلَّقها قبل أن يمسَّها ، فأعلم الله تعالى أنَّ عقد التَّزويج بغير مهرٍ جائز ، ومعناه : لا سبيل للنِّساء عليكم إنْ طلقتموهنَّ من قبل المسيس والفرض بصداقٍ ولا نفقة ، وقوله : { أو تفرضوا لهنَّ فريضة } أَيْ : تُوجبوا لهنَّ صداقاً { ومتعوهنَّ } أَيْ : زوِّدوهنَّ وأعطوهنَّ من ما لكم ما يتمتَّعْنَ به ، فالمرأة إذا طُلِّقت قبل تسمية المهر وقبل المسيس فإنَّها تستحق المتعة بإجماع العلماء ، ولا مهرَ لها و { على الموسع } أَي : الغنيِّ الذي يكون في سعةٍ من غناه { قدره } أَيْ : قدر إمكانه { وعلى المقتر } الذي في ضيق من فقره قدر إمكانه . أعلاها خادم ، وأوسطها ثوب ، وأقلُّها أقلُّ ماله ثمن . قال الشافعيُّ : وحسنٌ ثلاثون درهماً . { متاعاً } أَيْ : متعوهنَّ متاعاً { بالمعروف } بما تعرفون أنَّه القصد وقدر الإِمكان { حقاً } واجباً { على المحسنين } .
{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهنَّ } هذا في المُطلَّقة بعد التَّسمية وقبل الدُّخول ، حكم الله تعالى لها بنصف المهر ، وهو قوله : { فنصف ما فرضتم } أَيْ : فالواجبُ نصف ما فرضتم { إلاَّ أن يعفون } أَي : النِّساء ، أَيْ : إلاَّ أَنْ يتركن ذلك النِّصف ، فلا يُطالبن الأزواج به { أو يعفو الذي بيده عقده النكاح } أَي : الزَّوج لا يرجع في شيءٍ من المهر ، فيدع لها المهر الذي وفَّاه عملاً { وأن تعفو } خطابٌ للرِّجال والنِّساء { أقرب للتقوى } أَيْ : أدعى إلى اتِّقاء معاصي الله؛ لأنَّ هذا العفو ندبٌ ، فإذا انتدب المرء له عُلم إنَّه - لما كان فرضاً - أشدُّ استعمالاً { ولا تنسوا الفضل بينكم } لا تتركوا أن يتفضَّل بعضكم على بعض . هذا أمرٌ للزَّوج والمرأة بالفضل والإِحسان .
{ حافظوا على الصلوات } بأدائها في أوقاتها { والصلاة الوسطى } أَيْ : صلاة الفجر ، [ لأنَّها بين صلاتي ليلٍ وصلاتي نهارٍ ] أفردها بالذِّكر تخصيصاً { وقوموا لله قانتين } مُطيعين .
{ فإن خفتم فرجالاً } أَيْ : إن لم يمكنكم أن تصلُّوا موفِّين للصَّلاة حقًَّها فصلُّوا مُشاةً على أرجلكم { أو ركباناً } على ظهور دوابِّكم ، وهذا في المطاردة والمسايفة { فإذا أمنتم فاذكروا الله } أَيْ : فصلُّوا الصَّلوات الخمس تامَّةً بحقوقها { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } كما افترض عليكم في مواقيتها .
{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية } فعليهم وصيةٌ { لأزواجهم } لنسائهم ، وهذا كان في ابتداء الإِسلام لم يكن للمرأة ميراثٌ من زوجها ، وكان على الزَّوج أن يُوصي لها بنفقة حولٍ ، فكان الورثة ينفقون عليها حولاً ، وكان الحول عزيمةً عليها في الصَّبر عن التَّزوُّج ، وكانت مُخيَّرة في أن تعتدَّ إن شاءت في بيت الزَّوج ، وإن شاءت خرجت قبل الحول وتسقط نفقتها ، فذلك قوله : { متاعاً إلى الحول } أَيْ : متعوهنَّ متاعاً .
يعني : النَّفقة { غير إخراجٍ } أَيْ : من غير إخراج الورثة إيَّاها { فإن خرجن فلا جناح عليكم } يا أولياء الميِّت في قطع النَّفقة عنهنَّ ، وترك منعها عن التَّشوف للنَّكاح والتَّصنُّع للأزواج ، وذلك قوله : { فيما فعلن في أنفسهنَّ من معروف } وهذا كلُّه منسوخٌ بآية المواريث وعدَّةِ المتوفى عنها زوجها .
{ وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين } لمَّا ذكر الله تعالى متعة المُطلَّقة في قوله : { حقاً على المحسنين } قال رجلٌ من المسلمين : إنْ أحسنتُ فعلتُ ، وإن لم أُرد ذلك لم أفعل ، فأوجبها الله تعالى على المتقين . الذين يتَّقون الشِّرك .
{ كذلك يبين الله لكم آياته } شبّه اللَّهُ البيانَ الذي يأتي بالبيان الذي مضى في الأحكام التي ذكرها .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } ألم تعلم ، ألم ينته علمك إلى هؤلاء ، وهم قومٌ من بني إسرائيل خرجوا من بلدتهم هاربين من الطَّاعون ، حتى نزلوا وداياً فأماتهم الله جميعاً ، فذلك قوله : { حذر الموت } أَيْ : لحذر الموت { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم عقوبةً لهم ثمَّ بعثهم ليستوفوا بقيَّة آجالهم { إنَّ الله لذو فضل على الناس } أَيْ : تفضُّلٍ عليهم بأَنْ أحياهم بعد موتهم .
{ وقاتلوا في سبيل الله } يحرِّض المؤمنين على القتال { واعلموا أنَّ الله سميعٌ } لما يقوله المُتعلِّل { عليمٌ } بما يضمره ، فإيَّاكم والتَّعلُّلَ .
{ مَنْ ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } أَيْ : مَنْ ذا الذي يعمل عمل المُقرض ، بأن يقدِّم من ماله فيأخذ أضعاف ما قدَّم ، وهذا استدعاءٌ من الله تعالى إلى أعمال البرِّ { والله يقبض } أَيْ : يُمسك الرِّزق على مَنْ يشاء { ويبسط } أي : ويوسِّع على من يشاء .
{ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } أَي : إلى الجماعة { إذ قالوا لنبيٍّ لهم ابعث لنا ملكاً } سألوا نبيَّهم أشمويل عليه السَّلام ملكاً تنتظم به كلمتهم ، ويستقيم حالهم في جهاد عدوِّهم ، وهو قوله : { نقاتل في سبيل الله } { فقال } لهم ذلك النَّبيُّ : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } أَيْ : لعلَّكم أَنْ تجبنوا عن القتال { قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله } أَيْ : وما يمنعنا عن ذلك؟ { وقد أخرجنا من ديارنا } { و } أُفردنا من { أبنائنا } بالسِّبي والقتل . يعنون : إذا بلغ الأمر منَّا هذا فلا بدَّ من الجهاد . قال الله تعالى : { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلاَّ قليلاً منهم } وهم الذين عبروا النَّهر ، ويأتي ذكرهم .
{ وقال لهم نبيُّهم إنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } أَيْ : قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك { قالوا } كيف يملك علينا؟ وكان من أدنى بيوت بني إسرائيل ، ولم يكن من سبط المملكة ، فأنكروا ملكه وقالوا : { ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال } أَيْ : لم يُؤت ما يتملَّك به الملوك { قال } النبيُّ : { إنَّ الله اصطفاه عليكم } [ اختاره ] بالملك { وزاده بسطة في العلم والجسم } كان طالوت يومئذٍ أعلم رجلٍ في بني إسرائيل وأجمله وأتمَّه . والبسطة : الزِّيادة في كلِّ شيء { والله يؤتي ملكه من يشاء } ليس بالوراثة { والله واسع } أَيْ : واسع الفضل والرِّزق والرَّحمة ، فسألوا نبيَّهم على تمليك طالوت آيةً .
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
{ قال لهم نبيُّهم إنَّ آية ملكه أن يأتيكم التابوت } وكان تابوتاً أنزله الله تعالى على آدم عليه السَّلام فيه صور الأنبياء عليهم السَّلام ، كانت بنو إسرائيل يستفتحون به على عدوِّهم ، فغلبتهم العمالقة على التَّابوت ، فلمَّا سألوا نبيَّهم البيِّنة على ملك طالوت قال : إنَّ آية ملكه أن يردَّ الله تعالى التَّابوت عليكم ، فحملت الملائكة التَّابوت حتى وضعته في دار طالوت ، وقوله : { فيه سكينة من ربكم } أَيْ : طمأنينةٌ . كانت قلوبهم تطمئنُّ بذلك ، ففي أيِّ مكانٍ كان التَّابوت سكنوا هناك ، وكان ذلك من أمر الله تعالى { وبقيةٌ ممَّا ترك آل موسى وآل هارون } أَيْ : تركاه هما ، وكانت البقيَّة نعلي موسى وعصاه وعمامة هارون ، وقفيزاً من المنِّ الذي كان ينزل عليهم { تحمله الملائكة } أَي : التَّابوت . { إنَّ في ذلك لآية } أَيْ : في رجوع التَّابوت إليكم علامة أنَّ الله قد ملَّك طالوت عليكم { إن كنتم مؤمنين } أَيْ : مصدِّقين .
{ فلما فصل طالوت بالجنود } أَيْ : خرج بهم من الموضع الذي كانوا فيه إلى جهاد العدوِّ { قال } لهم طالوت : { إنَّ الله مبتليكم } أَيْ : مُختبركم ومُعاملكم مُعاملة المختبر { بنهرٍ } أَيْ : بنهر فلسطين ليتميِّز المحقِّق ومَنْ له نيَّةٌ في الجهاد من المُعذِّر { فمن شرب منه } أَيْ : من مائه { فليس مني } أَيْ : من أهل ديني { ومن لم يطعمه } لم يذقه { فإنَّه مني إلاَّ مَن اغترف غرفة بيده } أَيْ : مرَّةً واحدةً ، أَيْ : أخذ منه بجرَّةٍ أو قِربةٍ وما أشبه ذلك مرَّةً واحدةً ، قال لهم طالوت : مَنْ شرب من النَّهر وأكثر فقد عصى الله ، ومن اغترف غرفة بيده أقنعته ، فهجموا على النَّهر بعد عطشٍ شديدٍ ، ووقع أكثرهم في النَّهر وأكثروا الشُّرب ، فهؤلاء جَبُنوا عن لقاء العدو ، وأطاع قومٌ قليلٌ عددهم فلم يزيدوا على الاغتراف ، فقويت قلوبهم وعبروا النَّهر ، فذلك قوله : { فشربوا منه إلاَّ قليلاً منهم } وكانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً { فلما جاوزه } أَي : النَّهر { هو والذين آمنوا معه قالوا } يعني : الذين شربوا وخالفوا أمر الله تعالى : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال } يعني : القليل الذين اغترفوا وهم { الذين يظنون } أَيْ : يعلمون { أنهم ملاقو الله } أَيْ : راجعون إليه : { كم مِنْ فئة قليلة } أَيْ : جماعةٍ قليلةٍ { غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } بالمعونة والنَّصر .
{ ولما برزوا } أَيْ : خرجوا { لجالوت وجنوده } أَيْ : لقتالهم { قالوا ربنا أفرغ } أصببْ { علينا صبراً وثبت أقدامنا } بتقوية قلوبنا .
{ فهزموهم } فردُّوهم وكسروهم { بإذن الله } بقضائه وقدره { وقتل داود } النَّبيُّ ، وكان في عسكر بني إسرائيل { جالوت } الكافر { وآتاه الله الملك } [ أعطى الله داود ملك بني إسرائيل ] { والحكمة } أَيْ : جمع له الملك والنُّبوَّة { وعلَّمه مما يشاء } صنعة الدُّروع ومنطق الطَّير { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } لولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض ، فقتلوا المؤمنين وخرَّبوا البلاد والمساجد .
{ تلك آيات الله } أَيْ : هذه الآيات التي أخبرتك بها آيات الله ، أَيْ : علامات توحيده { وإنك لمن المرسلين } أَيْ : أنت من هؤلاء الذين قصصتُ عليك آياتهم .
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{ تلك الرسل } أَيْ : جماعة الرُّسل { فضلنا بعضهم على بعض } أَيْ : لم نجعلهم سواءً في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرِّسالة { منهم مَنْ كلَّم الله } وهو موسى عليه السَّلام { ورفع بعضهم درجات } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى النَّاس كافَّةً { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } مضى تفسيره ، { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } أَيْ : من بعد الرُّسل { من بعد ما جاءتهم البينات } من بعد ما وضحت لهم البراهين { ولكن اختلفوا فمنهم مَنْ آمن } ثبت على إيمانه { ومنهم مَنْ كفر } كالنَّصارى بعد المسيح اختلفوا فصاروا فِرقاً ، ثمَّ تحاربوا { ولو شاء الله ما اقتتلوا } كرَّر ذكر المشيئة باقتتالهم تكذيباً لمن زعم أنَّهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ، لم يجرِ به قضاءٌ من الله { ولكنَّ الله يفعل ما يريد } فيوفِّقُ مَنْ يشاء فضلاً ، ويخذل من يشاء عدلاً .
{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا ممَّا رزقناكم } أَي : الزَّكاة المفروضة ، وقيل : أراد النَّفقة في الجهاد { من قبل أن يأتي يومٌ لا بيع فيه } يعني : يوم القيامة . يعني : لا يؤخذ في ذلك اليوم بدَلٌ ولا فداءٌ { ولا خلة } ولا صداقةٌ { ولا شفاعة } عمَّ نفي الشَّفاعة لأنَّه عنى الكافرين بأنَّ هذه الأشياء لا تنفعهم ، ألا ترى أنَّه قال : { والكافرون هم الظالمون } أَيْ : هم الذين وضعوا أمر الله في غير موضعه .
{ الله لا إله إلاَّ هو الحي } الدَّائم البقاء { القيوم } القائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم { لا تأخذه سنة } وهي أوَّل النُّعاس { ولا نوم } وهو الغشية الثَّقيلة { له ما في السموات وما في الأرض } مِلكاً وخلقاً { مَنْ ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه } أَيْ : لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ بأمره ، إبطالاً لزعم الكفَّار أنَّ الأصنام تشفع لهم { يعلم ما بين أيديهم } من أمر الدُّنيا { وما خلفهم } من أمر الآخرة . { ولا يحيطون بشيء من علمه } أَيْ : لا يعلمون شيئاً من معلوم الله تعالى : { إلاَّ بما شاء } إلاَّ بما أنبأ الله به الأنبياء وأطلعهم عليه { وسع كرسيه السموات والأرض } أي : احتملهما وأطاقهما . يعني : ملكه وسلطانه . وقيل : هو الكرسيُّ بعينه ، وهو مشتمل بعظمته على السَّموات والأرض . وروي عن ابن عباس أنَّ كرسيه علمه . { ولا يَؤُوْدُهُ } أَيْ : لا يُجهده ولا يُثقله { حفظهما } أَيْ : حفظ السَّموات والأرض { وهو العليُّ } بالقدرة ونفوذ السُّلطان عن الأشباه والأمثال { العظيم } عظيم الشَّأن .
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{ لا إكراه في الدِّين } بعد إسلام العرب؛ لأنهم أُكرهوا على الإِسلام فلم يُقبل منهم الجزية؛ لأنَّهم كانوا مشركين ، فلمَّا أسلموا أنزل الله تعالى هذه الآية . { قد تبين الرشد من الغي } ظهر الإِيمان من الكفر ، والهدى من الضَّلالة بكثرة الحجج { فمن يكفر بالطاغوت } بالشَّيطان والأصنام { ويؤمن بالله } واليوم الآخر { فقد استمسك } أَيْ : تمسَّك { بالعروة الوثقى } عقد لنفسه عقداً وثيقاً ، وهو الإِيمان وكلمة الشَّهادتين { لا انفصام لها } أي : لا انقطاع لها { والله سميع } لدعائك يا محمَّدُ أيَّايَ بإسلام أهل الكتاب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إسلام أهل الكتاب الذين حول المدينة ، ويسأل الله ذلك { عليم } بحرصك واجتهادك .
{ والله وليُّ الذين آمنوا } أَيْ : ناصرهم ومتولِّي أمورهم { يخرجهم من الظلمات } من الكفر والضَّلالة إلى الإِيمان والهداية { والذين كفروا } أي : اليهود { أولياؤهم الطاغوت } يعني : رؤساءهم كعب بن الأشرف وحُيي بن أخطب { يخرجونهم من النور } يعني : ممَّا كانوا عليه من الإِيمان بمحمدٍ عليه السَّلام قبل بعثه { إلى الظلمات } إلى الكفر به بعد بعثه .
{ ألم تر إلى الذي حاجَّ } جادل وخاصم { إبراهيم في ربه } حين قال له : مَنْ ربُّك؟ { أن آتاه الله الملك } أي : الملك الذي آتاه الله . يريد : بطرُ الملك حمله على ذلك ، وهو نمروذ بن كنعان { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } فقال عدو الله : { أنا أحيي وأميت } فعارضه بالاشتراك في العبارة من غير فعل حياةٍ ولا موتٍ ، فلما لبَّس في الحجَّة بأنْ قال : أنا أفعل ذلك احتجَّ إبراهيم عليه بحجَّةٍ لا يمكنه فيها أن يقول : أنا أفعل ذلك ، وهو قوله : { قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر } أي : انقطع وسكت .
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{ أو كالذي مرَّ على قرية } [ عطفٌ على المعنى لا على اللفظ ، كأنه قال : أرأيت الذي حاجَّ ، أو كالذي مرَّ ] وهو عزيرٌ { على قرية } وهي إيليا { وهي خاوية } ساقطةٌ مُتهدِّمةٌ { على عروشها } أي : سقوفها { قال : أنى يحيي هذه الله } أَيْ : من أين يُحيي هذه الله { بعد موتها } يعمرها بعد خرابها؟! استبعد أَنْ يفعل الله ذلك ، فأحبَّ الله أن يُريه آيةً في نفسه في إحياء القرية { فأماته الله مائة عام } وذلك أنه مرَّ بهذه القرية على حمارٍ ومعه ركوة عصيرٍ ، وسلةُ تينٍ ، فربط حماره ، وألقى الله عزَّ وجلَّ عليه النَّوم ، فلمَّا نام نزع الله عزَّ وجلَّ روحه مائة سنةٍ ، فلمَّا مضت مائة سنةٍ أحياه الله تعالى ، وذلك قوله : { ثمَّ بعثه } { قال كم لبثت } كم أقمت ومكثت ها هنا؟ { قال : لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } أَي : التِّين { و } إلى { شرابك } أي : العصير { لم يتسنَّه } أَيْ : لم يتغيَّر ولم ينتن بعد مائة سنةٍ ، وأراه علامة مكثه مائة سنةٍ . ببلى عظام حماره ، فقال : { وانظر إلى حمارك } فرأى حماره ميتاً ، عظامه بيضٌ تلوح { ولنجعلك آية للناس } الواو زائدة ، والمعنى : لبثتَ مائة عامٍ لنجعلك آيةً للنَّاس ، وكونه آيةً أَنْ بعثه شابّاً أسود الرَّأس واللِّحية ، وبنو بنيه شِيبٌ { وانظر إلى العظام } أَيْ : عظام حماره { كيف نُنْشِزُها } أَيْ : نحييها ، يقال : أَنشرَ اللَّهُ الموتى ، وقرىء : { ننشزها } أَيْ : نرفعها من الأرض ، ونشوز كلِّ شيءٍ : ارتفاعه { ثم نكسوها لحماً فلما تبيَّن له } شاهدَ ذلك { قال : أعلم أنَّ الله على كلِّ شيء قدير } أَيْ : أعلم العلم الذي لا يعترض عليه الإِشكال ، وتأويله : إنِّي قد علمت مُشاهدةً ما كنت أعلمه غيباً . { وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى } وذلك أنَّه رأى جيفةً ساحل البحر يتناولها سباع الطير والوحش ودوابُّ البحر ، ففكَّر كيف يجتمع ما قد تفرَّق منها ، وأحبَّ أن يرى ذلك ، فسأل الله تعالى أن يُريه إحياء الموتى ، فقال الله تعالى : { أو لم تؤمن } ألست آمنت بذلك؟ { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } بالمُعاينة بعد الإِيمان بالغيب { قال : فخذ أربعة من الطير } طاوُساً ونسراً وغراباً وديكاً { فصرهنَّ إليك } أَيْ : قطِّعهنَّ ، كأنَّه قال : خذ إليك أربعة من الطَّير فقطعهنَّ { ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهنَّ جزءاً } ثمَّ أُمر أن يخلط ريشها ولحومها ، ثمَّ يفرِّق أجزاءها بأن يجعلها على أربعة أجبلٍ ففعل ذلك إبراهيم ، وأمسك رؤوسهنَّ عنده ، ثمَّ دعاهنَّ فقال : تعالين بإذن الله ، فجعلت أجزاء الطُّيور يطير بعضها إلى بعض حتى تكاملت أجزاؤها ، ثمَّ أقبلن على رؤوسهنّ فذلك قوله : { ثم ادعهنَّ يأتينك سعياً واعلم أنّ الله عزيز } لا يمتنع عليه ما يريد { حكيم } فيما يدبِّر ، فلمَّا ذكر الدَّلالة على توحيده بما أتى الرُّسل من البيِّنات حثٍّ على الجهاد والإِنفاق فيه .
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{ مثلُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله . . . } الآية ، أَيْ : مَثلُ صدقاتهم وإنفاقهم { كمثل حبَّةٍ أنبتت سبع سنابل . . . } الآية ، يريد أنَّه يضاعف الواحد بسبع مائةٍ ، وجعله كالحبَّة تنبت سبع مائة حبَّةٍ ، ولا يشترط وجود هذا؛ لأنَّ هذا على ضرب المثل .
{ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منَّاً . . . } الآية ، وهو أن يقول : أحسنتُ إلى فلانٍ ونعشته ، وجبرت خلله ، يمنُّ بما فعل { ولا أذىً } وهو أن يذكر إحسانه لمن لا يحبُّ الذي أُحسن إليه وقوفه عليه .
{ قول معروفٌ } كلامٌ حسنٌ وردٌّ على السَّائل جميل { ومغفرة } أَيْ : تجاوزٌ عن السَّائل إذا استطال عليه عند ردِّه { خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى } أَيْ : مَنٌّ وتعييرٌ للسَّائل بالسُّؤال ، { والله غنيٌّ } عن صدقة العباد { حليم } إذ لم يعجِّل بالعقوبة على مَنْ يمنُّ .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم } أَيْ : ثوابها { بالمنِّ } وهو أنْ يمنَّ بما أعطى { والأذى } وهو أن يوبِّخ المُعطي المُعطى له { كالذي ينفق } أَيْ : كإبطاله رياء النَّاس ، وهو المُنافق يعطي ليوهم أنَّه مؤمنٌ { فمثله } أَيْ : مَثلُ هذا المنافق { كمثل صفوانٍ } وهو الحجر الأملس { عليه ترابٌ فأصابه وابل } مطرٌ شديدٌ { فتركه صلداً } برَّاقاً أملس . وهذا مَثلٌ ضربه الله تعالى للمانِّ والمنافق ، يعني : إنَّ النَّاس يرون في الظَّاهر أنَّ لهؤلاء أعمالاً كما يُرى التُّراب على هذا الحجر ، فإذا كان يوم القيامة اضمحلَّ كلُّه وبطل ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان ، فلا يقدر أحدٌ من الخلق على ذلك التُّراب ، كذلك هؤلاء إذا قدموا على ربِّهم لم يجدوا شيئاً ، وهو قوله جلَّ وعزَّ : { لا يقدرون على شيء } أَيْ : على ثواب شيءٍ { مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين } لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم ، [ ثمَّ ضرب مثلاً لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمنُّ ولا يؤذي فقال ] :
{ ومَثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً } أَيْ : يقيناً وتصديقاً { من أنفسهم } بالثَّواب لا كالمنافق الذي لا يؤمن بالثَّواب { كمثل جنة بربوةٍ } وهي ما ارتفع من الأرض ، وهي أكثر ريعاً من المستفل { أصابها وابلٌ } وهو أشدُّ المطر { فآتت } أعطت { أكلها } ما يؤكل منها { ضِعْفَيْن } أَيْ : حملت في سنة من الرَّيع ما يحمل غيرها في سنتين { فإن لم يصبها وابلٌ } وهو أشدُّ المطر ، وأصابها طلٌّ وهو المطر الضعيف ، فتلك حالها في البركة ، يقول : كما أنَّ هذه الجنَّة تُثمر في كلِّ حالٍ ولا يخيب صاحبها قلَّ المطر أو كَثُر ، كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلَّت نفقته أم كثرت ، ثمَّ قرَّر مَثَل المُرائي في النَّفقة والمُفرِّط في الطَّاعة إلى أَنْ يموت .
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
{ أيودُّ أحدكم . . . } الآية ، يقول : مثلُهم كمثل رجلٍ كانت له جنَّةٌ فيها من كلِّ الثمرات { وأصابه الكبر } فضعف عن الكسب ، وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه { فأصابها إعصار } وهي ريحٌ شديدةٌ { فيه نارٌ فاحترقت } ففقدها أحوج ما كان إليها عند كبر السِّنِّ وكثرة العيال وطفولة الولد ، فبقي هو وأولاده عجزةً مُتحيِّرين { لا يقدرون على } حيلةٍ ، كذلك يُبطل الله عمل المنافق والمرائي حتى لا توبة لهما ولا إقالة من ذنوبهما { كذلك يبين الله } كمثل بيان هذه الأقاصيص { يبين الله لكم الآيات } في أمر توحيده .
{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } نزلت في قومٍ كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ، والمراد بالطَّيِّبات ها هنا الجياد الخيار ممَّا كسبتم ، أَيْ : التِّجارة { وممَّا أخرجنا لكم من الأرض } يعني : الحبوب التي يجب فيها الزَّكاة { ولا تيمموا } أَيْ : لا تقصدوا { الخبيث منه تنفقون } أَيْ : تنفقونه { ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا } أَيْ : بآخذي ذلك الخبيث لو أُعطيتم في حقٍّ لكم إلاَّ بالإِغماض والتَّساهل ، وفي هذا بيانُ أنَّ الفقراء شركاء ربِّ المال ، والشَّريك لا يأخذ الرَّديء من الجيِّد إلاَّ بالتَّساهل .
{ الشيطانُ يعدكم الفقر } أَيْ : يُخوِّفكم به . يقول : أَمسك مالك؛ فإنَّك إنْ تصدَّقت افتقرت { ويأمركم بالفحشاء } بالبخل ومنه الزَّكاة { والله يعدكم } أَنْ يجازيكم على صدقتكم { مغفرة } لذنوبكم وأَنْ يُخلف عليكم .
{ يؤتي الحكمة } علم القرآن والفهم فيه . وقيل : هي النُّبوَّة { من يشاء } . { وما يذكر إلاَّ أولوا الألباب } أَيْ : وما يتَّعظ إلاَّ ذوو العقول .
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
{ وما أنفقتم من نفقة } أدَّيتم من زكاة { أو نذرتم من نذر } في صدقة التَّطوُّع ، أَيْ : نويتم أن تصَّدَّقوا بصدقة { فإن الله يعلمه } يجازي عليه { وما للظالمين من أنصار } وعيدٌ لمَنْ أنفق في غير الوجه الذي يجوز له من رياءٍ أو معصيةٍ ، أو من مال مغصوبٍ .
{ إنْ تبدوا الصدقات . . . } الآية . سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : صدقة السرِّ أفضلُ أم صدقة العلانيَة؟ فنزلت هذه الآية ، والمفسرون على أنَّ هذه الآية في التَّطوُّع لا في الفرض ، فإِنَّ الفرضَ إظهاره أفضل ، وعند بعضهم الآية عامَّةٌ في كلِّ صدقةٍ ، وقوله : { ويكفر عنكم من سيئاتكم } أَيْ : يغفرها لكم ، و " مِنْ " للصلة والتأكيد .
{ ليس عليك هداهم } نزلت حين سألت قُتيلة أمُّ أسماء بنت أبي بكر ابنتها أن تعطيها شيئاً وهي مشركةٌ ، فأبت وقالت : حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . والمعنى : ليس عليك هُدى مَن خالفك فمنعهم الصَّدقة ليدخلوا في الإسلام { وما تنفقوا من خيرٍ } أَيْ : مالٍ : { فلأنفسكم } ثوابه { وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله } خبرٌ والمراد به الأمر . وقيل : هو خاصٌّ في المؤمنين ، أَي : قد علم الله ذلك منكم { وما تنفقوا من خيرٍ } [ من مالٍ على فقراء أصحاب الصُّفَّة ] . { يوفَّ لكم } أًيْ : يوفَّر لكم جزاؤه { وأنتم لا تظلمون } أَيْ : لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً .
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{ للفقراء } أَيْ : هذه الصَّدقات والإِنفاق التي تقدَّم ذكرها { للفقراء الذين أحصروا } أَيْ : حُبسوا ، أَيْ : هم فعلوا ذلك . حبسوا أنفسهم { في سبيل الله } في الجهاد . يعني : فقراء المهاجرين { لا يستطيعون ضرباً } أَيْ : سيراً { في الأرض } لا يتفرَّغُون إلى طلب المعاش؛ لأنهم قد ألزموا أنفسهم أمر الجهاد ، فمنعهم ذلك من التَّصرُّف ، حثَّ الله تعالى المؤمنين على الإِنفاق عليهم { يحسبهم الجاهل } يخالهم { أغنياء من التعفف } عن السُّؤال { تعرفهم بسيماهم } بعلامتهم ، التَّخشُّع والتَّواضع وأثر الجهد { لا يسألون الناس إلحافاً } أَيْ : إلحاحاًً . إذا كان عندهم غداءٌ لم يسألوا عشاءً ، وإذا كان عندهم عَشاءٌ لم يسألوا غداءً .
{ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار . . . } الآية . نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها ، فَتَصدَّق بدرهمٍ سرَّاً ، ودرهمٍ علانيةً ، ودرهمٍ ليلاً ، ودرهمٍ نهاراً .
{ الذين يأكلون الربا } أيْ : يُعاملون به ، فَنَبَّه بالأكل على غيره { لا يقومون } من قبورهم يوم القيامة { إلاَّ كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان } يصيبه بجنونٍ { من المس } من الجنون ، وذلك أنَّ آكل الرِّبا يُبعث يوم القيامة مجنوناً { ذلك } أَيْ : ذلك الذي نزل بهم { بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } وهو أنَّ المشركين قالوا : الزِّيادة على رأس المال بعد مَحِلِّ الدَّين كالزِّيادة بالرِّبح في أوَّل البيع ، فكذَّبهم الله تعالى فقال : { وأحلَّ الله البيع وحرَّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه } أَيْ : وُعظ { فانتهى } عن أكل الرِّبا { فله ما سلف } أَّيْ : ما أكل من الرِّبا ، ليس عليه ردُّ ما أخذ قبل النَّهي { وأمره إلى الله } والله وليُّ أمره { ومَنْ عاد } إلى استحلال الرِّبا { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
{ يمحق الله الربا } أَيْ : ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيراً ، كما يمحق القمر { ويربي الصدقات } يربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله { والله لا يحبُّ كل كفار } بتحريم الرِّبا مستحلٍّ له { أثيم } فاجر بأكله [ مُصِرٍّ عليه ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } نزلت في العباس وعثمان رضي الله عنهما طلباً رباً لهما كانا قد أسلفا قبل نزول التَّحريم ، فلمَّا نزلت هذه الآية سمعا وأطاعا ، وأخذا رؤوس أموالهما ، ومعنى الآية : تحريم ما بقي ديناً من الرِّبا ، وإيجاب أخذ رأس المال دون الزِّيادة على جهة الرِّبا ، وقوله : { إن كنتم مؤمنين } أَيْ : إنَّ مَنْ كان مؤمناً فهذا حكمه .
{ فإن لم تفعلوا } فإن لم تذروا ما بقي من الرِّبا { فأذنوا } فاعلموا { بحرب من الله ورسوله } أَيْ : فأيقنوا أنَّكم في امتناعكم من وضع ذلك حربٌ لله ورسوله { وإن تبتم } عن الرِّبا { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } بطلب الزِّيادة { ولا تُظلمون } بالنُّقصان عن رأس المال .
{ وإنْ كان ذو عسرة } أَيْ : وإن وقع غريم ذو عسرة ] { فنظرةٌ } أَيْ : فعليكم نظرةٌ ، أَيْ : تأخيرٌ { إلى ميسرة } إلى غنىً ووجود المال { وأن تصدقوا } على المعسرين برأس المال { خيرٌ لكم } .
{ واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } يعني : يوم القيامة تُرَدُّون فيه إلى الله { ثمَّ توفى كلُّ نفسٍ ما كسبت } أَيْ : جزاء ما كسبت من الأعمال { وهم لا يظلمون } لا ينقصون شيئاً ، فلمَّا حرَّم الله تعالى الرِّبا أباح السِّلَم فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مُسمَّىً } أَيْ : تبايعتم بدين { فاكتبوه } أمرَ الله تعالى في الحقوق المؤجَّلة بالكتابة والإِشهاد في قوله : { واشهدوا إذا تبايعتم } حفظاً منه للأموال ثمَّ نسخ ذلك بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً . . . } الآية . { وليكتب بينكم } بين المُستدين والمدين { كاتب بالعدل } بالحقِّ والإِنصاف ، ولا يزيد في المال والأجل ولا ينقص منهما : { ولا يَأْبَ كاتبٌ أن يكتب } أي : لا يمتنع من ذلك إذا أُمر وكانت هذه عزيمةً من الله واجبة على الكاتب والشَّاهد ، فنسخها قوله : { ولا يضارَّ كاتب ولا شهيدٌ } ثمَّ قال : { كما علَّمه الله فليكتب } أَيْ : كما فضَّله الله بالكتابة { وليملل الذي عليه الحق } أَيْ : الذي عليه الدِّين يملي؛ لأنَّه المشهود عليه فيقرُّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه { ولا يَبْخَسْ منه شيئاً } أُمِرَ أَنْ يُقِرَّ بمبلغ المال من غير نقصان { فإن كان الذي عليه الحقُّ } [ أي : الدَّين ] { سفيهاً } طفلاً { أو ضعيفاً } عاجزاً أحمق { أو لا يستطيع أن يملَّ هو } لخرسٍ أو لعيٍّ { فليملل وليه } وارثه أو مَنْ يقوم مقامه { بالعدل } بالصدق والحقِّ { واستشهدوا } وأشهدوا { شهيدين من رجالكم } أَيْ : من أهل ملَّتكم من الأحرار البالغين ، وقوله : { ممن ترضون من الشهداء } أَيْ : من أهل الفضل والدِّين { أن تضلّ أحداهما } تنسى إحداهما { فتذكر إحداهما الأخرى } الشَّهادة { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } لتحمُّل الشَّهادة وأدائها { ولا تسأموا أن تكتبوه } لا يمنعكم الضَّجر والملالة أن تكتبوا ما أشهدتم عليه من الحقِّ { صغيراً أو كبيراً إلى أجله } إلى أجل الحقِّ { ذلكم } أَيْ : الكتابة { أقسط } أعدل { عند الله } في حمكه { وأقوم } أبلغ في الاستقامة { للشهادة } لأنَّ الكتاب يُذكِّر الشُّهود ، فتكون شهادتهم أقوم { وأدنى ألا ترتابوا } أيْ : أقرب إلى أن لا تشكُّوا في مبلغ الحقِّ والأجل { إلاَّ أن تكون } تقع { تجارة حاضرة } أَيْ : متجرٌ فيه حاضر من العروض وغيرها ممَّا يتقابض ، وهو معنى قوله : { تديرونها بينكم } وذلك أنَّ ما يُخاف في النَّساء والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيدٍ ، وذلك قوله : { فليس عليكم جناحٌ إلاَّ تكتبوها وأَشْهِدوا إذا تبايعتم } قد ذكرنا أنَّ هذا منسوخ الحكم فلا يجب ذلك { ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد } نهى الله تعالى الكاتب والشَّاهد عن الضِّرار ، وهو أن يزيد الكاتب أو ينقص أو يحرِّف ، وأن يشهد الشَّاهد بما لم يُستشهد عليه ، أو يمتنع من إقامة الشَّهادة { وإنْ تفعلوا } شيئاً من هذا { فإنه فسوق بكم } .
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً . . . } الآية ، أمر الله تعالى عند عدم الكاتب بأخذ الرَّهن ليكون وثيقةً بالأموال ، وذلك قوله : { فَرِهَانٌ مقبوضة } أَيْ : فالوثيقةُ رهنٌ مقبوضةٌ { فإن أَمن بعضكم بعضاً } أَيْ : لم يخف خيانته وجحوده الحقَّ { فليؤدّ الذي اؤتمن } أَيْ : أُمن عليه { أمانته وليتق الله ربه } بأداء الأمانة { ولا تكتموا الشهادة } إذا دُعيتم لإِقامتها { ومن يكتمها فإنه آثمٌ } فاجرٌ { قلبه } .
{ لله ما في السموات وما في الأرض } ملكاً ، فهو مالك أعيانه { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } " لمَّا نزل هذا جاء ناس من الصَّحابة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق ، إن أحدنا ليحدِّث نفسه بما لا يحبُّ أن يثبت في قلبه ، فنحن نحاسب بذلك؟ فقال النبيُّ : فلعلَّكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا ، وقولوا : سمعنا وأطعنا فقالوا : سمعنا وأطعنا " ، فأنزل الله تعالى الفرج بقوله : { لا يكلِّف الله نفساً إلاَّ وسعها } فنسخت هذه الآية ما قبلها ، وقيل : إنَّ هذا في كتمان الشَّهادة وإقامتها ، ومعنى قوله : { يحاسبكم به الله } يخبركم به ويُعرِّفكم إيَّاه .
{ آمن الرسول . . . } الآية ، لمَّا ذكر الله تعالى في هذه السُّورة الأحكام والحدود ، وقصص الأنبياء وآيات قدرته ، ختم السورة بذكر تصديق نبيِّه عليه السَّلام والمؤمنين بجميع ذلك ، { لا نفرق بين أحد } أَيْ : يقولون : لا نفرِّق بين أحد من رسله كما فعل أهل الكتاب ، آمنوا ببعض الرُّسل وكفروا ببعض ، بل نجمع بينهم في الإِيمان بهم { وقالوا سمعنا } قوله { وأطعنا } أمره { غفرانك } أَيْ : اغفر غفرانك .
{ لا يكلف الله نفساً إلاَّ وسعها } ذكرنا أنَّ هذه الآية نسخت ما شكاه المؤمنون من المحاسبة بالوسوسة وحديث النَّفس { لها ما كسبت } [ من العمل بالطاعة ] { وعليها ما اكتسبت } [ من العمل بالإثم ] أَيْ : لا يُؤَاخَذ أحدٌ بذنب غيره { ربنا لا تؤاخذنا } أَيْ : قولوا ذلك على التَّعليم للدُّعاء ، ومعناه : لا تعاقبنا إن نسينا . كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً ممَّا شرع لهم عُجِّلت لهم العقوبة بذلك ، فأمر الله نبيَّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك { أو أَخْطأْنا } تركنا الصَّواب : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } أَيْ : ثقلاً ، والمعنى : لا تحمل علينا أمراً يثقل { كما حملته على الذين من قبلنا } نحو ما أُمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أَيْ : لا تعذِّبنا بالنَّار { أنت مولانا } [ ناصرنا ] والذي تلي علينا أمورنا { فانصرنا على القوم الكافرين } في إقامة حجَّتنا وغلبتنا إيَّاهم في حربه ، وسائر أمورهم حتى يظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا .
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{ الم } .
{ الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيوم } .
{ نزل عليك الكتابَ } أي : القرآن { بالحق } بالصِّدق في إخباره { مصدقاً لما بين يديه } مُوافقاً لما تقدَّم الخبر به في سائر الكتب { وأنزل التوراة والإِنجيل } .
{ من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان } ما فرق به بين الحقِّ والباطل . يعني : جميع الكتب التي أنزلها . { إنَّ الذين كفروا بآيات الله لهم عذابٌ شديدٌ والله عزيز ذو انتقام } ذو عقوبة .
{ هو الذي يصوركم } يجعلكم على صورٍ في أرحام الأُمَّهات { كيف يشاء } ذكراً وأنثى ، قصيراً وطويلاً ، وأسود وأبيض .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{ هو الذي أنزل عليك الكتابَ منه آيات محكماتٌ } وهنَّ الثَّلاث الآيات في آخر سورة الأنعام : { قل تعالوا أتل } إلى آخر الآيات الثَّلاث { هنَّ أمُّ الكتاب } هنَّ أمُّ كلِّ كتاب أنزله الله تعالى على كلِّ نبيٍّ ، فيهنَّ كلُّ ما أحلَّ وحرَّم ، ومعناه : أنهنَّ أصل الكتاب الذي يُعمل عليه { وأخر } أَيْ : آياتٌ أُخر { متشابهات } يريد : التي تشابهت على اليهود ، وهي حروف التَّهجِّي في أوائل السُّور ، وذلك أنَّهم أوَّلوها على حساب الجُمَّل ، وطلبوا أن يستخرجوا منها مدَّة بقاء هذه الأُمَّة ، فاختلط عليهم واشتبه { فأمَّا الذين في قلوبهم زيغٌ } وهم اليهود الذين طالبوا علمَ أجل هذه الأمَّة من الحروف المقطَّعة { فيتبعون ما تشابه منه } من الكتاب . يعني : حروف التَّهجِّي { ابتغاء الفتنة } طلب اللَّبس ليضلُّوا به جُهَّالهم { وابتغاء تأويله } طلب أجل أمَّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم . { وما يعلم تأويله إلاَّ الله } يريد : ما يعلم انقضاء ملك أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلاَّ الله ، لأنَّ انقضاء ملكهم مع قيامِ السَّاعة ، ولا يعلم ذلك أحد إلاَّ الله ، ثمَّ ابتدأ فقال : { والراسخون في العلم } أَي : الثَّابتون فيه . يعني : علماء مؤمني أهل الكتاب { يقولون آمنا به } أَيْ : بالمتشابه { كلٌّ من عند ربنا } المحكم والمتشابه ، وما علمناه ، وما لم نعلمه { وما يذكر إلاَّ أولوا الألباب } ما يتعَّظ بالقرآن إلاَّ ذوو العقول .
{ ربنا } أي : ويقول الرَّاسخون في العلم { ربنا لا تزغ قلوبنا } لا تُملها عن الهدى والقصد كما أزغت قلوب الذين في قلوبهم زيغ { بعد إذ هديتنا } للإِيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك .
{ ربنا إنك جامع الناس } حاشرهم { ليوم } الجزاء في يومٍ { لا ريب فيه إنَّ الله لا يخلف الميعاد } للبعث والجزاء .
{ إنَّ الذين كفروا } يعني : يهود قريظة والنَّضير { لن تغني عنهم } [ أي : لن تنفع و ] لن تدفع عنهم { أموالهم } { ولا أولادهم } يعني : التي يتفاخرون بها { من الله } من عذاب الله { شيئاً وأولئك هم وقود النار } هم الذين تُوقد بهم النَّار .
{ كدأب آل فرعون } كصنيع آل فرعون وفعلهم في الكفر والتَّكذيب كفرت اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
{ قل للذين كفروا } يعني : يهود المدينة ومشركي مكَّة { ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } بئس ما مُهِّد لكم .
{ قد كان لكم آية } علامة تدلُّ على صدق محمَّدٍ عليه السَّلام { في فئتين } يعني : المسلمين والمشركين { التقتا } اجتمعتا يوم بدرٍ للقتال { فئةٌ تقاتل في سبيل الله } وهم المسلمون { وأخرى كافرة يرونهم مثليهم } وهم كانوا ثلاثة أمثالهم ، ولكنَّ الله تعالى قلَّلهم في أعينهم ، وأراهم على قدر ما أعلمهم أنَّهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم ، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ كان قد أعلم المسلمين أنَّ المائة منهم تغلب المائتين من الكفَّار { رأي العين } أَيْ : من حيث يقع عليهم البصر { والله يؤيد } يقوّي { بنصره } بالغلبة والحجَّة مَنْ يشاء { إنَّ في ذلك لعبرة } وهي الآية التي يُعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم { لأولي الأبصار } لذوي العقول .
{ زُيِّن للناس حبُّ الشهوات } جمع الشَّهوة ، وهي تَوَقَانُ النَّفس إلى الشَّيء { والقناطير المقنطرة } الأموال الكثيرة المجموعة { والخيل المسوَّمة } الرَّاعية ، وقيل : المُعلَّمة كالبلق وذوات الشِّياتِ ، وقيل : الحسان . والخيل : الأفراس { والأنعام } الإِبل والبقر والغنم [ { والحرث } وهو ما يُزرع ويغرس ] ، ثمَّ بيَّن أنَّ هذه الأشياء متاع الدُّنيا ، وهي فانيةٌ زائلةٌ { واللَّهُ عنده حسن المآب } المرجع ، ثمَّ أعلم أنَّ خيراً من ذلك كلِّه ما أعدَّه لأوليائه .
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } الذي ذكرت { للذين اتقوا } الشِّرك { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد } .
{ الصابرين } على دينهم وعلى ما أصابهم { والصادقين } في نيَّاتهم { والقانتين } المطيعين لله { والمنفقين } من الحلال في طاعة الله { والمستغفرين بالأسحار } المُصلِّين صلاة الصُّبح قيل : نزلت في المهاجرين والأنصار .
{ شهد الله } بيَّن وأظهر بما نصب من الأدلَّة على توحيده { أنَّه لا إله إلاَّ هو والملائكة } أَيْ : وشهدت الملائكة ، بمعنى : أقرَّت بتوحيد الله { وأولوا العلم } هم الأنبياء والعلماء من مؤمني أهل الكتاب والمسلمين { قائماً بالقسط } أَيْ : قائماً بالعدل ، يُجري التَّدبير على الاستقامة في جميع الأمور .
{ إنَّ الدين عند الله الإِسلام } افتخر المشركون بأديانهم ، فقال كلُّ فريقٍ : لا دين إلاَّ ديننا ، وهو دين الله ، فنزلت هذه الآية وكذَّبهم الله تعالى فقال : { إنَّ الدين عند الله الإِسلام } الذي جاء به محمَّدٌ عليه السَّلام { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } أَي : اليهود ، لم يختلفوا في صدق نبوَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لما كانوا يجدونه في كتابهم { إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم } يعني : النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، سمِّي علماً لأنَّه كان معلوماً عندهم بنعته وصفته قبل بعثه ، فلمَّا جاءهم اختلفوا فيه؛ فآمن به بعضهم وكفر الآخرون { بغياً بينهم } طلباً للرِّياسة وحسداً له على النُّبوَّة { ومن يكفر بآيات الله فإنَّ الله سريع الحساب } أَي : المجازاة له على كفره .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ فإن حاجوك } أَيْ : جادلوك { فقل أسلمتُ وجهي لله } أَيْ : أخلصت عملي لله وانقدت له { ومن اتبعني } يعني : المهاجرين والأنصار { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين } يعني : العرب { أأسلمتم } استفهامٌ معناه الأمر : أَيْ : أسلموا ، وقوله : { عليك البلاغ } أَي : التَّبليغ وليس عليك هداهم { والله بصيرٌ بالعباد } أيْ : بمَنْ آمن بك وصدَّقك ، ومَنْ كفر بك وكذَّبك ، وكان هذا قبل أنْ أُمر بالقتال .
{ إنَّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق } قد مضى تفسيره في سورة البقرة ، وقوله { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبياً من أوَّل النَّهار في ساعةٍ واحدةٍ ، فقام مائةٌ واثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني إسرائيل ، فأمروا مَنْ قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فَقُتلوا جميعاً من آخر النَّهار في ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية " وهؤلاء الذين كانوا في عصر النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانوا يتولَّونهم ، فهم داخلون في جملتهم .
{ أولئك الذين حبطت أعمالهم } بطلت أعمالهم التي يدَّعونها من التَّمسُّك بالتَّوراة ، وإقامة شرع موسى عليه السَّلام { في الدنيا } لأنَّها لم تحقن دماءَهم وأموالهم { و } في { الآخرة } لأنَّهم لم يستحقوا بها ثواباً .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } يعني : اليهود { يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } وذلك أنَّهم أنكروا آية الرَّجم من التَّوراة ، " وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حدِّ المحصنين إذا زنيا ، فحكم بالرَّجم فقالوا : جُرْتَ يا محمد ، فقال : بيني وبينكم التَّوراة ، ثمَّ أتوا بابن صوريا الأعور فقرأ التَّوراة ، فلمَّا أتى على آية الرَّجم سترها بكفِّه ، فقام ابن سلاَّم فرفع كفَه عنها ، وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود ، فغضبت اليهود لذلك غضباً شديداً وانصرفوا " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { ثمَّ يتولى فريق منهم } يعني : العلماء والرؤساء { وهم معرضون } .
{ ذلك } أَْيْ : ذلك الإِعراض عن حكمك بسبب اغترارهم حيث قالوا : { لن تمسنا النار إلاَّ أياماً معدودات وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون } افتراؤهم ، وهو قوله : { لن تمسنا النار } وقد مضى هذا في سورة البقرة .
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{ فكيف إذا جمعناهم } أَيْ : فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم { ل } جزاء { يومٍ لا ريبَ فيه ووفيت كلُّ نفس } جزاء { ما كسبت وهم لا يظلمون } بنقصان حسناتهم أو زيادة سيئاتهم .
{ قل اللهم مالك الملك . . . } الآية . " لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة ، ووعد أُمَّته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، [ الفارس والروم أعزُّ وأمنع من أن يُغلَّب على بلادهم ] " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقوله : { تؤتي الملك مَنْ تشاء } محمداً وأصحابه { وتنزع الملك ممن تشاء } أبي جهلٍ وصناديد قريشٍ { وتعزُّ من تشاء } المهاجرين والأنصار { وتذلُّ مَنْ تشاء } أبا جهلٍ وأصحابه حتى حُزَّت رؤوسهم وأُلْقُوا في القليب { بيدك الخير } أَيْ : عزُّ الدُّنيا والآخرة ، وأراد : الخير والشَّرَّ ، فاكتفى بذكر الخير ، لأنَّ الرغبة إليه في فعل الخير بالعبد دون الشَّر .
{ تولج الليل في النهار } تُدخل اللَّيل في النَّهار ، أَيْ : تجعل ما نقص من أحدهما زيادةً في الآخر { وتخرج الحيَّ من الميت وتخرج الميت من الحيِّ } تخرج الحيوان من النُّطفة ، وتخرج النُّطفة من الحيوان ، وتخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن { وترزق من تشاء بغير حساب } بغير تقتيرٍ وتضييقٍ .
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أَيْ : أنصاراً وأعواناً من غير المؤمنين وسواهم ، نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا يُباطنون اليهود ، [ أي : يألفونهم ] ويوالونهم . { ومَنْ يفعل ذلك } الاتخِّاذ { فليس من الله في شيء } أَيْ : من دين الله ، أَيْ : قد برىء من الله وفارق دينه ، ثمَّ استثنى فقال : { إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة } [ أَيْ : تقيَّة ] هذا في المؤمن إذا كان في قومٍ كفَّارٍ ، وخافهم على ماله ونفسه ، فله أن يُخالفهم ويُداريهم باللِّسان ، وقلبُه مطمئنٌّ ، بالإِيمان دفعاً عن نفسه . قال ابنُ عبَّاسٍ : يريد مدارةً ظاهرةً { ويحذركم الله نفسه } أَيْ : يُخَوِّفكم الله على موالاة الكفار عذاب نفسه ، [ يريد : عذابه ، وخصَّصه بنفسه تعظيماً له ] فلمَّا نهى عن ذلك خوَّف وحذَّر عن إبطان موالاتهم ، فقال :
{ قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه } من ضمائركم في موالاتهم وتركها { يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض } إتمامٌ للتَّحذير؛ لأنَّه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما ، فكيف يخفى عليه الضَّمير؟ { واللَّهُ على كلِّ شيءٍ قدير } تحذيرٌ من عقاب مَنْ لا يعجزه شيء .
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{ يوم تجد كلُّ نفسٍ } أَيْ : ويحذّركم الله عذاب نفسه يوم تجد ، أَيْ : في ذلك اليوم ، وقوله : { ما عملت من خير محضراً } أَيْ : جزاء ما عملت بما ترى من الثَّواب { وما عملت من سوء تودُّ لو أنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً } غاية بعيدةً كما بين المشرق والمغرب .
{ قل } [ أي : للكفَّار ] { إن كنتم تحبون الله } . وقف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على قريشٍ وهم يسجدون للأصنام ، فقال : يا معشر قريش ، واللَّهِ لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم ، فقالت قريش : إنَّما نعبد هذه حبّاً لله ليقرِّبونا إلى الله ، فأنزل الله تعالى : { قل } يا محمد { إن كنتم تحبون الله } وتعبدون الأصنام لتقرِّبكم إليه { فاتبعوني يحببكم الله } فأنا رسوله إليكم ، وحجَّته عليكم ، ومعنى محبَّة العبد لله سبحانه إرادته طاعته وإيثاره أمره ، ومعنى محبَّة الله العبد إرادته لثوابه وعفوه عنه وإنعامه عليه .
{ قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا } عن الطَّاعة { فإنَّ الله لا يحب الكافرين } لا يغفر لهم ولا يثني عليهم .
{ إنَّ الله اصطفى آدم } بالنُّبوَّة والرِّسالة { ونوحاً وآل إبراهيم } يعني : إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط { وآل عمران } موسى وهارون { على العالمين } على عالمي زمانهم .
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{ ذريةً } أَي : اصطفى ذريَّةً { بعضها من بعض } أَيْ : من ولد بعض؛ لأنَّ الجميع ذريَّة آدم ، ثمَّ ذريَّة نوح { والله سميع } لما تقوله الذُّريَّة المصطفاة { عليمٌ } بما تضمره ، فلذلك فضَّلها على غيرها .
{ إذ قالت امرأة عمران } وهي حنَّة أمُّ مريم : { إني نذرت لك ما في بطني } أيْ : أوجبتُ على نفسي أن أجعل ما في بطني { محرَّراً } عتيقاً خالصاً لله ، خادماً للكنيسة ، مفرَّغاً للعبادة ولخدمة الكنيسة ، وكان على أولادهم فرضاً أن يُطيعوهم في نذرهم ، فتصدَّقت بولدها على بيت المقدس .
{ فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى } اعتذرت ممَّا فعلت من النَّذر لمَّا ولدت أنثى { وليس الذكر كالأنثى } في خدمة الكنيسة لما يلحقها من الحيض والنِّفاس { وإني أعيذها بك } أَيْ : أمنعها وأجيرها { من الشيطان الرجيم } الملعون المطرود .
{ فتقبلها ربُّها بقبول حسن } أَيْ : رضيها مكان المحرَّر الذي نذرته { وأنبتها نباتاً حسناً } في صلاحٍ وعفَّةٍ ومعرفةٍ بالله وطاعةٍ له { وكفلها زكريا } ضمن القيام بأمرها ، فبنى لها محراباً في المسجد لا يرتقى إليه إلاَّ بسلَّم ، والمحراب : الغرفة ، وهو قوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً } أَيْ : فاكهة الشِّتاء في الصَّيف ، وفاكهة الصَّيف في الشِّتاء تأتيها به الملائكة من الجنَّة ، فلمَّا رأى زكريا ما أُوتيت مريم من [ فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ] على خلاف مجرى العادة طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف العادة .
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ هنالك } أَيْ : عند ذلك { دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك } أَيْ : من عندك { ذريةً طيبةً } أَيْ : نسلاً مباركاً تقيّاً ، فأجاب الله دعوته وبعث إليه الملائكة مبشرين ، وهو قوله :
{ فنادته الملائكة وهو قائمٌ يصلي في المحراب أنَّ الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله } أَيْ : مُصدِّقاً بعيسى أنَّه روح الله وكلمته ، وسُمِّي عيسى كلمة الله؛ لأنَّه حدث عند قوله : { كُنْ } فوقع عليه اسم الكلمة؛ لأنَّه بها كان { وسيداً } وكريماً على ربِّه { وحصوراً } وهو الذي لا يأتي النِّساء ولا أرب له فيهنَّ .
{ قال } زكريا لمَّا بُشِّر بالولد : { ربِّ أنى يكون لي غلامٌ } أَيْ : على أيِّ حالٍ يكون ذلك؟ أَتردُّني إلى حال الشَّباب وامرأتي أَمْ مع حال الكبر؟ { وقد بلغني الكبر } أَيْ : بَلغْتُه؛ لأنَّه كان ذلك اليوم ابن عشرين ومائة سنةٍ { وامرأتي عاقر } لا تلد ، وكانت بنتَ ثمانٍ وتسعين سنةً . قيل له : { كذلك } أَيْ : مثل ذلك من الأمر ، وهو هبة الولد على الكبر يفعل الله ما يشاء ، فسبحان مَنْ لا يعجزه شيء ، فلمَّا بُشِّر بالولد سأل الله علامةً يعرف بها وقت حمل امرأته ، وذلك قوله :
{ قال رب اجعل لي آية } فقال الله تعالى : { آيتك ألاَّ تكلم الناس ثلاثة أيام } جعل الله تعالى علامة حمل امرأته أَنْ يُمسك لسانه فلا يقدر أنْ يُكلِّم النَّاس ثلاثة أيَّامٍ { إلاَّ رمزاً } أَيْ : إيماءً بالشَّفتين والحاجبين والعينين ، وكان مع ذلك يقدر على التَّسبيح وذكر الله ، وهو قوله : { واذكر ربك كثيراً وسبِّح } أَيْ : وصَلِّ { بالعشي } وهو آخر النَّهار { والإِبكار } ما بين طلوع الفجر إلى الضُّحى .
{ وإذ قالت الملائكة } أَيْ : جبريل عليه السَّلام وحده : { يا مريم إنّ الله اصطفاك } أَيْ : بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته { وطهرك } من ملامسة الرِّجال والحيض { واصطفاك على نساء العالمين } على عالمي زمانك .
{ يا مريم اقنتي لربك } قومي للصَّلاة بين يدي ربكِّ ، فقامت حتى سالت قدماها قيحاً { واسجدي واركعي } أَي : ائتي بالرُّكوع والسُّجود ، والواو لا تقتضي الترتيب { مع الراكعين } أَي : افعلي كفعلهم ، وقال : { مع الراكعين } ولم يقل : مع الرَّاكعات؛ لأنَّه أعمُّ .
{ ذلك } أَيْ : ما قصصنا عليك من حديث زكريا ومريم { من أنباء الغيب } أَيْ : من أخباره { نوحيه إليك } أَيْ : نلقيه { وما كنت لديهم } فتعرف ذلك { إذ يلقون أقلامهم } وذلك أنَّ حنَّة لمَّا ولدت مريم أتت بها سدنة بيت المقدس ، وقالت لهم : دونكم هذه النَّذيرة ، فتنافس فيها الأحبار حتى اقترعوا عليها ، فخرجت القرعة لزكريا ، فذلك قوله : { إذ يلقون أقلامهم } أَيْ : قداحهم التي كانوا يقترعون بها لينظروا أيُّهم تجب له كفالة مريم .
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
{ إذ قالت الملائكة } يعني : جبريل عليه السَّلام : { يا مريم إنَّ الله يبشرك بكلمة منه } يعني : عيسى عليه السَّلام؛ لأنَّه في ابتداء أمره كان كلمة من الله ، وكُوِّن بكلمة منه ، أَيْ : من الله { اسمه المسيح } وهو معرَّب من مشيحا بالسِّريانية ، لقبٌ لعيسى ثمَّ فَسَّر وبيَّن من هو فقال : { عيسى ابن مريم وجيهاً } أَيْ : ذا جاهٍ وشرفٍ وقدرٍ { في الدنيا والآخرة ومن المقربين } إلى ثواب الله وكرامته .
{ ويكلم الناس في المهد } صغيراً { وكهلاً } أَيْ : يتكلَّم بالنُّبوَّة كهلاً . وقيل : بعد نزوله من السَّماء { ومن الصالحين } يريد : مثل موسى ويعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السِّلام .
{ قالت } مريم مُتعجِّبةً : { أنى يكون لي ولد } من غير مسيس بشرٍ؟ { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } مثل ذلك من الأمر ، وهو خلق الولد من غير مسيس بشرٍ ، أَي : الأمر كما تقولين ، ولكنَّ الله { إذا قضى أمراً } ذُكر في سورة البقرة [ إلى آخرها ] .
{ ويعلمه الكتاب } أراد : الكتابة والخطَّ .
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
وقوله : { ورسولاً إلى بني إسرائيل } أَيْ : ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل { أني } أَيْ : بأنِّي { قد جئتكم بآية من ربكم } وهي { أني أخلق } أَيْ : أُقدِّر وأُصوّر { كهئية الطير } كصورته { وأبرىء الأكمه } وهو الذي وُلد أعمى { والأبرص } أَيْ : الذي به وَضَحٌ [ أي : بياضٌ ] { وأُنبئكم بما تأكلون } في غدوكم { وما } كم { تدخرون } لباقي يومكم .
{ ومصدِّقاً } أَيْ : وجئتكم مُصدِّقاً { لما بين يدي } أَي : الكتاب الذي أنزل من قبلي { ولأُحلَّ لكم بعض الذي حرّم عليكم } أحلَّ لهم على لسان المسيح لحوم الإِبل ، والثُّروب ، وأشياء من الطَّير ، والحيتان ممَّا كان محرَّماً في شريعة موسى عليه السَّلام { وجئتكم بآية من ربكم } أَيْ : ما كان معه من المعجزات الدَّالَّة على رسالته ، ووحَّدَ لأنَّها كلَّها جنسٌ واحدٌ في الدَّلالة .
{ فلما أَحسَّ عيسى } علم ورأى { منهم الكفر } وذلك أنَّهم أرادوا قتله حين دعاهم إلى الله تعالى ، فاستنصر عليهم ، و { قال مَنْ أنصاري إلى الله } أَيْ : مع الله ، وفي ذات الله { قال الحواريون } وكانوا قصَّارين يحوّرون الثِّياب ، أَيْ : يُبيِّضونها ، آمَنوا بعيسى واتَّبعوه : { نحن أنصار الله } أنصار دينه { آمنا بالله واشهد } يا عيسى { بأنا مسلمون } وقوله :
{ فاكتبنا مع الشاهدين } مع الذين شهدوا للأنبياء بالصِّدق ، والمعنى : أَثْبِتْ أسماءنا مع أسمائهم؛ لنفوز بمثل ما فازوا .
{ ومكروا } سعوا في قتله بالمكر { ومكر اللَّهُ } جازاهم على مكرهم بإلقاء شبه عيسى على مَنْ دلَّ عليه حتى أُخذ وصُلب { والله خير الماكرين } أفضل المجازين بالسَّيئةِ العقوبةَ ، لأنَّه لا أحد أقدر على ذلك منه .
{ إذ قال الله يا عيسى } والمعنى : ومكر الله إذ قال الله يا عيسى : { إني متوفيك } أَيْ : قابضك من غير موتٍ وافياً تاماً ، أَيْ : لم ينالوا منك شيئاً { ورافعك إليَّ } أَيْ : إلى سمائي ومحل كرامتي ، فجعل ذلك رفعاً إليه للتَّفخيم والتَّعظيم ، كقوله : { إني ذاهبٌ إلى ربي } وإنَّما ذهب إلى الشَّام ، والمعنى : إلى أمر ربِّي { ومطهِّرك من الذين كفروا } أَيْ : مُخرجك من بينهم { وجاعل الذين اتبعوك } وهم أهل الإِسلام من هذه الأمَّة . اتَّبعوا دين المسيح وصدَّقوه بأنَّه رسول الله ، فواللَّهِ ما اتَّبعه مَنْ دعاه ربّاً { فوق الذين كفروا } بالبرهان والحُجَّة والعزِّ والغلبة .
{ ذلك } أَيْ : ما تقدَّم من النَّبأ عن عيسى ومريم عليهما السَّلام { نتلوه عليك } نخبرك به { من الآيات } أَي : العلامات الدَّالَّة على رسالتك؛ لأنَّها أخبارٌ عن أمورٍ لم يشاهدها ولم يقرأها من كتاب { والذكر الحكيم } أَي : القرآن المحكم من الباطل . وقيل : الحكيم : الحاكم ، بمعنى المانع من الكفر والفساد .
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{ إنَّ مثل عيسى . . . } الآية . نزلت في وفد نجران حين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ولداً من غير ذَكَرٍ؟ فاحتجَّ الله تعالى عليهم بآدم عليه السَّلام ، أَيْ : إنَّ قياس خلق عيسى عليه السَّلام من غير ذَكَرٍ كقياس خلق آدم عليه السَّلام ، بل الشَّأنُ فيه أعجب؛ لأنَّه خُلق من غير ذكر ولا أنثى ، وقوله : { عند الله } أَيْ : في الإنشاء والخلق ، وتَمَّ الكلام عند قوله : { كمثل آدم } ثمَّ استأنف خبراً آخر من قصَّة آدم عليه السَّلام ، فقال : { خلقه من تراب } أَيْ : قالباً من تراب { ثم قال له كن } بشراً { فيكون } بمعنى فكان .
{ الحقُّ من ربِّك } أَي : الذي أَنْبَأْتُكَ من خبر عيسى الحقُّ من ربِّك { فلا تكن من الممترين } أَيْ : من الشَّاكِّين . الخطاب للنبيِّ عليه السَّلام ، والمرادُ به نهيُ غيره عن الشَّكِّ .
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{ فمن حاجَّك } خاصمك { فيه } في عيسى { من بعد ما جاءَك من العلم } بأنَّ عيسى عبد الله ورسوله { فقل تعالوا } هلمُّوا { ندع أبناءَنا وأبناءَكم } " لمَّا احتجَّ الله تعالى على النَّصارى من طريق القياس بقوله : { إنّ مثل عيسى عند الله . . . } الآية أمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يحتجَّ عليهم من طريق الإِعجاز ، فلمَّا نزلت هذه الآية دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة ، وهي الدُّعاء على الظَّالم من الفريقين ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وعليٌّ وفاطمة عليهم السَّلام وهو يقول لهم : إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا " ، فذلك قوله : { ندع أبناءَنا . . . } الآية . وقوله : { وأنفسنا وأنفسكم } يعني : بني العمِّ { ثمَّ نبتهل } نتضرع في الدُّعاء وقيل : ندعو بالبَهلةَ ، وهي اللَّعنة ، فندعوا الله باللَّعنةِ على الكاذبين ، فلم تُجبه النَّصارى إلى المباهلة خوفاً من اللَّعنه ، وقَبِلوا الجزية .
{ إنَّ هذا } الذين أوحيناه إليك { لهو القصص الحق } الخبر الصِّدق .
{ فإن تولوا } أعرضوا عمَّا أتيت به من البيان { فإنَّ الله } يعلمُ مَنْ يفسد من خلقه فيجازيه على ذلك .
{ قل يا أهل الكتاب } يعني : يهود المدينة ، ونصارى نجران { تعالوا إلى كلمة سواءٍ } معنى الكلمة : كلامٌ فيه شرحُ قصَّةٍ { سواءٍ } عدلٍ { بيننا وبينكم } ثمَّ فسرَّ الكلمة فقال : { ألاَّ نعبدَ إلاَّ الله ولا نشرك به شيئاً } أَيْ : لا نعبد معه غيره { ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } كما اتَّخذت النَّصارى عيسى ، وبنو إسرائيل عُزيراً . وقيل : لا نطيع أحداً في معصية الله ، كما قال الله في صفتهم لمَّا أطاعوا في معصيته علماءهم : { اتخذوا أحبارهم . . . } الآية . { فإن تولوا } أعرضوا عن الإِجابة { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } مُقِرِّون بالتَّوحيد .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
{ يا أهل الكتاب لمَ تحاجون في إبراهيم } نزلت لمَّا تنازعت اليهود والنَّصارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبراهيم عليه السَّلام ، فقالت اليهود : ما كان إبراهيم إلاَّ يهوديَّاً ، وقالت النَّصارى : ما كان إلاَّ نصرانيَّاً ، وقوله : { وما أنزلت التوراة والإِنجيل إلاَّ من بعده } أَيْ : إِنَّ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة حدثتا بعد نزول الكتابين ، وإنَّما نزلا بعد موته بزمانٍ طويلٍ . { أفلا تعقلون } فساد هذه الدَّعوى .
{ ها أنتم } أَيْ : أنتم { هؤلاء } أًيْ : يا هؤلاء { حاججتم } جادلتم وخاصمتم { فيما لكم به علم } يعني : ما وجدوه في كتبهم وأُنزل عليهم بيانه وقصَّته { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } من شأن إبراهيم عليه السَّلام ، وليس في كتابكم أنَّه يهوديَّاً أو نصرانيَّاً { والله يعلمُ } شأن إبراهيم { وأنتم لا تعلمون } ثمَّ بيَّن حاله فقال :
{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً . . . } الآية ، ثمَّ جعل المسلمين أحقَّ النَّاس به ، فقال :
{ إنَّ أولى الناس بإبراهيم } أَيْ : أقربهم إليه وأحقَّهم به { للذين اتبعوه } على دينه وملَّته { وهذا النبيُّ } محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا } أَيْ : فهم الذين ينبغي أن يقولوا : إنَّا على دين إبراهيم عليه السَّلام .
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{ ودَّت طائفةٌ من أهل الكتاب لو يضلونكم } أراد اليهود أن يستزلُّوا المسلمين عن دينهم ويردُّوهم إلى الكفر ، فنزلت هذه الآية . { وما يضلون إلاَّ أنفسهم } لأنَّ المؤمنين لا يقبلون قولهم ، فيحصل الإِثم عليهم بتمنِّيهم إِضلال المؤمنين { وما يشعرون } أَنَّ هذا يضرُّهم ولا يضرُّ المؤمنين .
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } أَيْ : بالقرآن { وأنتم تشهدون } بما يدلُّ على صحَّته من كتابكم؛ لأنَّ فيه نعتَ محمَّدٍ عليه السَّلام وذكره .
{ يا أهل الكتاب لم تلبسون } ذُكر في سورة البقرة .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب . . . } الآية . وذلك أنَّ جماعةً من اليهود قال بعضهم لبعض : أظهروا الإِيمان بمحمَّدٍ والقرآنِ في أوَّل النَّهار ، وارجعوا عنه في آخر النهار ، فإنَّه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينه ويشكُّوا إذا قلتم : نظرنا في كتابكم فوجدنا محمَّداً ليس بذاك ، فأطلع الله نبيَّه عليه السَّلام على سرِّ اليهود ومكرهم بهذه الآية .
{ ولا تؤمنوا } هذا حكايةٌ من كلام اليهود بعضهم لبعض . قالوا : لا تُصدِّقوا ولا تُقِرّوا ب { أَنْ يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم } من العلم والحكمة ، والكتاب ، والحجَّة والمنِّ والسَّلوى ، والفضائل والكرامات { إلاَّ لمن تبع دينكم } اليهوديَّة وقام بشرائعه ، وقوله : { قل إنَّ الهدى هدى الله } اعتراضٌ بين المفعول وفعله ، وهو من كلام الله تعالى ، وليس من كلام اليهود ، ومعناه : إنَّ الدِّين دين الله ، وقوله : { أو يحاجُّوكم } عطف على قوله : { أن يؤتى } والمعنى : ولا تؤمنوا بأن يحاجُّوكم عند ربكم؛ لأنَّكم أصحُّ ديناً منهم ، فلا يكون لهم الحجَّة عليكم ، فقال الله تعالى : { قل إنَّ الفضل بيد الله } أَيْ : ما تفضَّل الله به عليك وعلى أُمتِّك .
{ يختصُّ برحمته } بدينه الإِسلام { مَنْ يشاء والله ذو الفضل } على أوليائه { العظيم } لأنَّه لا شيءَ أعظمُ عند الله من الإِسلام ، ثمَّ أخبر عن اختلاف أحوالهم في الأمانة والخيانة بقوله :
{ ومِنْ أهل الكتاب مَنْ إنْ تأمنه بقنطارٍ يؤدِّه إليك } يعني : عبد الله بن سلام ، أُودع ألفاً ومائتي أوقية من ذهب ، فأدَّى الأمانة فيه إلى مَنْ ائتمنه { ومنهم من إِنْ تأمنه بدينار لا يؤدِّه إليك } يعني : فنحاص بن عازوراء ، أودع ديناراً فخانه { إلاَّ ما دمت عليه قائماً } على رأسه بالاجتماع معه ، فإن أنظرته وأخَّرته أنكر . { ذلك } أَيْ : الاستحلال والخيانة { بأنَّهم } يقولون : { ليس علينا } فيما أصبنا من أموال العرب شيءٌ؛ لأنَّهم مشركون ، فالأميُّون في هذه الآية العرب كلُّهم ، ثمَّ كذَّبهم الله تعالى في هذا ، فقال : { ويقولون على الله الكذب } لأنَّهم ادَّعوا أنَّ ذلك في كتابهم وكذبوا ، فإنَّ الأمانة مؤدَّاة في كلِّ شريعة { وهم يعلمون } أَنَّهم يكذبون ، ثمَّ ردَّ عليهم قولهم : { ليس علينا في الأُمييِّن سبيل } .
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{ بلى } أَيْ : بلى عليهم سبيل [ في ذلك ] ، ثمَّ ابتدأ فقال : { مَنْ أوفى بعهده } أَيْ : بعهد الله الذي عهد إليه في التَّوراة من الإِيمان بمحمدٍ عليه السَّلام والقرآن ، وأَدَّى الأمانة ، واتَّقى الكفر والخيانة ، ونَقْضَ العهد { فإنَّ الله يحب المتقين } أََيْ : مَنْ كان بهذه الصفة .
{ إنَّ الذين يشترون بعهد الله } نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ضَيعةٍ ، فهمَّ المدَّعَى عليه أن يحلف ، فنزلت هذه الآية فنكل [ المُدَّعى عليه ] عن اليمين وأقرَّ بالحقِّ ، ومعنى { يشترون } يستبدلون ، { بعهد الله } بوصيته للمؤمنين أن لا يحلفوا كاذبين باسمه { وأيمانهم } جميع اليمين ، وهو الحلف { ثمناً قليلأً } من الدُّنيا { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أَيْ : لا نصيب لهم فيها { ولا يكلِّمهم الله } بكلامٍ يسرُّهم { ولا ينظر إليهم } بالرَّحمة ، وأكثر المفسرين على أنَّ الآية نزلت في اليهود ، وكتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانهم الذي بدَّلوه من صفة محمد عليه السَّلام هو الحقُّ في التَّوراة ، والدَّليل على صحَّة هذا قوله :
{ وإنَّ منهم } أَيْ : من اليهود { لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب } يحرِّفونه بالتَّغيير والتَّبديل ، والمعنى : يلوون ألسنتهم عن سنن الصَّواب بما يأتونه به من عند أنفسهم { لتحسبوه } أَيْ : لتحسبوا ما لووا ألسنتهم به { من الكتاب } .
{ ما كان لبشرٍ . . . } الآية . لمَّا ادَّعت اليهود أنَّهم على دين إبراهيم عليه السَّلام وكذَّبهم الله تعالى غضبوا وقالوا : ما يرضيك منَّا يا محمد إلاَّ أَنْ نتَّخذك ربّاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذَ الله أَنْ نأمر بعبادة غير الله ، ونزلت هذه الآية . { ما كان لبشر } أن يجمع بين هذين : بين النبوَّة وبين دُعاء الخلق إلى عبادة غير الله { ولكن } يقول : { كونوا ربانيين . . . } الآية . أَيْ : يقول : كونوا معلِّمي الناس بعلمكم ودرسكم ، علِّموا النَّاس وبيِّنوا لهم ، وكذا كان يقول النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لليهود؛ لأنَّهم كانوا أهل كتاب يعلمون ما لا تعلمه العرب .
{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } كما فعلت النَّصارى والصَّابئون { أيأمركم بالكفر } استفهامٌ معناه الإِنكار ، أَيْ : لا يفعل ذلك { بعد إذ أنتم مسلمون } بعد إسلامكم .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب } " ما " ها هنا للشرط ، والمعنى ، لئن آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة ، ومهما آتيتكم { ثمَّ جاءكم رسول مصدِّق لما معكم لتؤمننَّ به } ويريد بميثاق النَّبييِّن عهدهم ليشهدوا لمحمد عليه السَّلام أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : { ثمَّ جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم } يريد محمداً { لتؤمننَّ به ولتنصرنَّه } أَيْ : إن أدركتموه ولم يبعث الله نبيَّاً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمَّدٍ عليه السَّلام ، وأمره بأنْ يأخذ العهد على قومه لَيُؤمننَّ به ، ولئنْ بُعث وهم أحياءٌ لينصرنَّه ، وهذا احتجاجٌ على اليهود ، وقوله : { أأقررتم } أَيْ : قال الله للنَّبييِّن : أقررتم بالإِيمان به والنُّصرة له { وأخذتم على ذلكم إصري } أَيْ : قبلتم عهدي؟ { قالوا أقررنا قال فاشهدوا } أَي : على أنفسكم وعلى أتباعكم { وأنا معكم من الشاهدين } عليكم وعليهم .
{ فَمَن تولى } أعرض من { بعد ذلك } بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبيِّ صلى الله عليه وسلم { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن الإيمان .
{ أفغير دين الله يبغون } بعد أخذ الميثاق عليهم بالتَّصديق بمحمَّد عليه السَّلام { وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعاً } الملائكة والمسلمون { وكرهاً } الكفَّار في وقت البأس { وإليه يُرجعون } وعيدٌ لهم ، أَيْ : أيبغون غير دين الله مع أنَّ مرجعهم إليه؟
{ قل آمنا بالله } أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقول : آمنَّا بالله وبجميع الرُّسل من غير تفريقٍ بينهم في الإِيمان كما فعلت اليهود والنَّصارى ، ونظير هذه الآية قد مضى في سورة البقرة .
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
{ كيف يهدي الله } هذا استفهامٌ معناه الإِنكار ، أَيْ : لا يهدي الله { قوماً كفروا بعد إيمانهم } أَي : اليهود كانوا مؤمنين بمحمَّدٍ عليه السَّلام قبل مبعثه ، فلمَّا بُعث كفروا به ، وقوله : { وشهدوا } أَيْ : وبعد أنْ شهدوا { أنَّ الرسول حقٌّ وجاءهم البينات } ما بيِّن في التَّوراة { والله لا يهدي القوم الظالمين } أَيْ : لا يرشد مَنْ نقض عهود الله بظلم نفسه .
{ أولئك جزاؤهم أنَّ عليهم لعنة الله } مثل هذه الآية ذُكر في سورة البقرة .
{ إلاَّ الذين تابوا من بعد ذلك } أَيْ : راجعوا الإِيمان بالله وتصديق نبيِّه { وأصلحوا } أعمالهم .
{ إنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم } وهم اليهود { ثم ازدادوا كفراً } بالإِقامة على كفرهم { لن تقبل توبتهم } لأنهم لا يتوبون إلاَّ عند حضور الموت ، وتلك التَّوبة لا تُقبل .
{ إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } وهو القدر الذي يملؤها . يقول : لو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم يُقبل منه .
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
{ لن تنالوا البر } [ التقوى . وقيل : ] أَي : الجنَّة { حتى تنفقوا مما تحبون } أَيْ : تُخرجوا زكاة أموالكم .
{ كلُّ الطعام كان حلاً لبني إسرائيل } أَيْ : حلالاً { إلاَّ ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } " وذلك أنَّ يعقوب عليه السَّلام مرض مرضاً شديداً ، فنذر لئن عافاه الله تعالى لَيُحرِّمنَّ أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه ، وكان أحبَّ الطَّعام والشَّراب إليه لحمانُ الإِبل وألبانها ، فلمَّا ادَّّعى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه علم دين إبراهيم عليه السَّلام قالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإِبل وألبانها؟ فقال النَّبيُّ عليه السَّلام : كان ذلك حلالاً لإِبراهيم عليه السَّلام ، فادَّعت اليهود أنَّ ذلك كان حراماً عليه " ، فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم ، وبيَّن أنَّ ابتداء هذا التَّحريم لم يكن في التَّوراة ، إنَّما كان قبل نزولها ، وهو قوله : { من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتَّوراة . . . . } الآية .
{ فمن افترى على الله الكذب } أَيْ : بإضافة هذا التَّحريم إلى الله عزَّ وجلَّ على إبراهيم في التَّوراة { من بعد ذلك } من بعد ظهور الحجَّة بأنَّ التَّحريم إنَّما كان من جهة يعقوب عليه السَّلام { فأولئك هم الظالمون } أنفسهم .
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{ قل صدق الله } في هذا وفي جميع ما أخبر به .
{ إنَّ أوَّل بيتٍ وُضع للناس } يُحَجُّ إليه { للذي ببكة } مكَّة { مباركاً } كثير الخير ، بأن جُعل فيه وعنده البركة { وهدىً } وذا هدىً { للعالمين } لأنَّه قِبلة صلاتهم ، ودلالةٌ على الله بما جعل عنده من الآيات .
{ فيه آياتٌ بيناتٌ } أَيْ : المشاعر والمناسك كلُّها ، ثمَّ ذكر بعضها فقال : { مقام إبراهيم } أَيْ : منها مقام إبراهيم { ومَنْ دخله كان آمناً } أَيْ : مَنْ حجَّه فدخله كان آمناً من الذُّنوب التي اكتسبها قبل ذلك . وقيل : من النَّار { ولله على الناس حج البيت } عمَّم الإِيجاب ثمَّ خصَّ ، وأبدل من النَّاس فقال : { من استطاع إليه سبيلاً } يعني : مَنْ قوي في نفسه ، فلا تلحقه المشقَّة في الكون على الرَّاحلة ، فمَنْ كان بهذه الصِّفة وملك الزَّاد والرَّاحلة وجب عليه الحج { ومَنْ كفر } جحد فرض الحجِّ { فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين } .
{ قل يا أهل الكتاب لم تصدُّون عن سبيل الله مَنْ آمن } كان صدُّهم عن سبيل الله بالتَّكذيب بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ صفته ليست في كتابهم { تبغونها عوجاً } تطلبون لها عوجاً بالشُّبَه التي تلبسونها على سفلتكم { وأنتم شهداء } بما في التَّوراة أنَّ دين الله الإِسلام .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
{ يا أيها الذين آمنوا إنْ تطيعوا فريقاً . . . } الآية . نزلت في الأوس والخزرج حين أغرى قومٌ من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم ، ثمَّ خاطبهم فقال :
{ وكيف تكفرون } أَيْ : على أيِّ حالٍ يقع منكم الكفر وآياتُ الله التي تدلُّ على توحيده تُتلى عليكم { وفيكم رسوله ومَنْ يعتصم بالله } يؤمن بالله .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته } وهو أَنْ يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر ، فلما نزل هذا قال أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ومَنْ يقوى على هذا؟ وشقَّ عليهم ، فأنزل الله تعالى : { فاتَّقوا الله ما استطعتم } فنسخت الأولى { ولا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون } أَيْ : كونوا على الإِسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم عليه ، وهو في الحقيقةِ نهيٌ عن ترك الإِسلام .
{ واعتصموا بحبل الله جميعاً } أَيْ : تمسَّكوا بدين الله ، والخطاب للأوس والخزرج { ولا تفرقوا } كما كنتم في الجاهليَّة مُقتتلين على غير دين الله { واذكروا نعمة الله عليكم } بالإِسلام { إذ كنتم أعداءً } يعني : ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب إلى أن ألَّفَ الله بين قلوبهم بالإِسلام ، فزالت تلك الأحقاد ، وصاروا إخواناً مُتوادِّين ، فذلك قوله : { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار } أَيْ : طرف حفرةٍ من النَّار لو متم على ما كنتم عليه { فأنقذكم } فنجَّاكم { منها } بالإِسلام وبمحمد عليه السَّلام { كذلك } أَيْ : مثل هذا البيان الذي تُلي عليكم { يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } .
{ ولتكن منكم أمة . . . } الآية . أَيْ : وليكن كلُّكم كذلك ، ودخلت " مِنْ " لتخصيص المخاطبين من غيرهم .
{ ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا } أَي : اليهود والنَّصارى { واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } أَيْ : إنَّ اليهود اختلفوا بعد موسى ، فصاروا فرقاً ، وكذلك النَّصارى .
{ يومَ تبيض وجوه } أَيْ : وجوه المهاجرين والأنصار ومَنْ آمنَ بمحمدٍ عليه السَّلام ، { وتسودّ وجوه } اليهود والنَّصارى ومَنْ كفر به { فأمَّا الذين اسودَّت وجوههم } فيقال لهم : { أكفرتم بعد إيمانكم } لأنَّهم شهدوا لمحمدٍ عليه السَّلام بالنُّبوَّة ، فلمَّا قدم عليهم كذَّبوه وكفروا به .
{ وأمَّا الذين ابيضَّت وجوههم ففي رحمة الله } أَيْ : جنَّته .
{ تلك آيات الله } أَي : القرآن { نتلوها عليك } نُبيِّنها { بالحقِّ } بالصِّدق { وما الله يريد ظلماً للعالمين } فيعاقبهم بلا جرمٍ .
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{ كنتم خير أمة } عند الله في اللَّوح المحفوظ . يعني : أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { أُخرجت للناس } أُظهرت لهم ، وما أَخرج الله تعالى للنَّاس أُمَّة خيراً من أُمَّة محمَّد عليه السَّلام ، ثمَّ مدحهم بما فيهم من الخصال فقال : { تأمرون بالمعروف . . . } الآية .
{ لن يضرُّوكم } أَي : اليهود { إلاَّ أذىً } إلاَّ ضرراً يسيراً باللِّسان ، مثل الوعيد والبهت { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } منهزمين . وعد الله نبيَّه والمؤمنين النُّصرة على اليهود ، فصدق وعده فلم يقاتل يهود المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاًّ انهزموا .
{ ضربت عليهم الذلة } ذكرناه { أينما ثقفوا } وُجدوا وصُودفوا { إلاَّ بحبل من الله } أَيْ : لكن قد يعتصمون بالعهد [ إذا أعطوه ، والمعنى : أنَّهم إذلاء في كلِّ مكان إلاَّ أنَّهم يعتصمون بالعهد ] ، والمراد : { بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس } العهد والذِّمَّة والأمان الذي يأخذونه من المؤمنين بإذن الله ، وباقي الآية ذُكر في سورة البقرة ، ثمَّ أخبر أنَّهم غير متساوين في دينهم فقال :
{ ليسوا سواء } وأخبر أنَّ منهم المؤمنين فقال : { من أهل الكتاب أمة قائمة } أَيْ : على الحقِّ { يتلون } يقرؤون { آيات الله } كتاب الله { آناء الليل } ساعاته . يعني : عبد الله بن سلام ومَنْ آمن معه من أهل الكتاب { وهم يسجدون } أَيْ : يُصلُّون .
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{ وما يفعلوا من خيرٍ فلن يكفروه } لن تُجحدوا جزاءه .
{ إنَّ الذين كفروا . . . } الآية . سبقت في أوَّل هذه السورة .
{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } يعني : نفقة سفلة اليهود على علمائهم { كمثل ريح فيها صرٌّ } بردٌ شديدٌ { أصابت حرث قومٍ ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعصية . أعلم الله تعالى أنَّ ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الرِّيح على هذا الزَّرع { وما ظلمهم الله } لأنَّ كلَّ ما فعله بخلقه فهو عدلٌ منه { ولكن أنفسهم يظلمون } بالكفر والعصيان ، ثمَّ نهى المؤمنين عن مباطنتهم فقال :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } أَيْ : دخلاً وخواصَّ { من دونكم } من غير أهل ملَّتكم { لا يألونكم خبالاً } أَيْ : لا يدعون جهدهم في مضرَّتكم وفسادكم { ودُّوا ما عنتم } تمنَّوا ضلالكم عن دينكم { قد بدت البغضاء } أَيْ : ظهرت العداوة { من أفواههم } بالشَّتيمة والوقيعة في المسلمين { وما تخفي صدورهم } من العداوة والخيانة { أكبر قد بيّنا لكم الآيات } أَيْ : علامات اليهود في عداوتهم . { إن كنتم تعقلون } موقع نفع البيان .
{ ها أنتم } " ها " تنبيهٌ دخل على " أنتم " { أولاء } بمعنى : الذين . كأنَّه قيل : الذين { تحبُّونهم ولا يحبُّونكم } أَيْ : تريدون لهم الإِسلام ، وهم يريدونكم على الكفر { وتؤمنون بالكتاب كلِّه } أَيْ : بالكتب ، وهو اسم جنس { وإذا خلوا عضُّوا عليكم الأنامل } أَيْ : أطراف الأصابع { من الغيظ } التَّقدير : عضُّوا الأنامل من الغيظ عليكم ، وذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم { قل موتوا بغيظكم } أمر الله تعالى نبيَّه أن يدعو عليهم بدوام غيظهم إلى أن يموتوا { إنَّ الله عليمٌ بذات الصدور } بما فيها من خيرٍ وشرٍّ .
{ إن تمسسكم حسنةٌ } نصرٌ وغنيمةٌ { تسؤهم } تحزنهم { وإنْ تصبكم سيئة } ضد ذلك ، وهو كسرٌ وهزيمةٌ { يفرحوا بها وإن تصبروا } على ما تسمعون من آذاهم { وتتقوا } مقاربتهم ومخالطتهم { لا يضرُّكم كيدهم } عداوتهم { شيئاً إنَّ الله بما يعملون محيط } عالمٌ به فلن تعدموا جزاءه .
{ وإذ غدوت } يعني : يوم أُحدٍ { من أهلك } من منزل عائشة رضي الله عنها { تبوِّىء } تُهيِّىءُ للمؤمنين { مقاعد } مراكز ومثابت { للقتال والله سميع } لقولكم { عليم } بما في قلوبكم .
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
{ إذ همَّت طائفتان منكم } بنو سَلِمة وبنو حارثة { أن تفشلا } أَنْ تجبنا ، وذلك أنَّ هؤلاء همُّوا بالانصراف عن الحرب ، فعصمهم الله { والله وليُّهما } ناصرهما وموالٍ لهما { وعلى الله فليتوكل } فليعتمد في الكفاية { المؤمنون } .
{ ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلَّةٌ } بقلَّة العدد وقلَّة السِّلاح { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } أَيْ : فاتقونِ فإنه شكر نعمتي .
{ إذ تقول للمؤمنين } يوم بدرٍ : { ألن يكفيكم أَنْ يمدَّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } .
{ بلى } تصديقٌ لوعد الله { إن تصبروا } على لقاء العدوِّ { وتتقوا } معصية الله ومخالفة النبيِّ عليه السَّلام [ { ويأتوكم من فورهم } قيل : من وجههم : وقيل : من غيظهم ] { يمددكم ربكم بخسمة آلاف من الملائكة مسوِّمين } مُعلَّمين ، وكانت الملائكة قد سوِّمت يوم بدر بالصُّوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها ، ثمَّ صبر المؤمنون يوم بدر فأُمدّوا بخمسة آلاف من الملائكة .
{ وما جعله الله } أَيْ : ذلك الإِمداد { إلاَّ بشرى } أَيْ : بشارةً لكم { ولتطمئن قلوبكم به } فلا تجزع من كثرة العدو { وما النصر إلاَّ مِنْ عند الله } لأنَّ مَن لم ينصره الله فهو مخذولٌ وإنْ كثرت أنصاره .
{ ليقطع طرفاً } أَيْ : نصركم ببدرٍ [ ليقطع طرفاً ، أي : ] ليهدم ركناً من أركان الشِّرك بالقتل والأسر { أو يكبتهم } أَيْ : يخزيهم ويُذلَّهم . يعني : الذين انهزموا . قوله :
{ ليس لك من الأمر شيء . . . } الآية . لمَّا كان يوم أُحدٍ من المشركين ما كان من كسر رباعيَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشجِّه ، فقال : كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيِّهم وهو يدعوهم إلى ربِّهم؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية يُعلمه أنَّ كثيراً منهم سيؤمنون ، والمعنى : ليس لك من الأمر في عذابهم أو استصلاحهم شيءٌ ، حتى يقع إنابتهم أو تعذيبهم ، وهو قوله : { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } فلمَّا نفى الأمر عن نبيِّه عليه السَّلام ذكر أنَّ جميع الأمر له ، فمَنْ شاء عذَّبه ، ومن شاء غفر له ، وهو قوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء } أَي : الذَّنب العظيم للموحِّدين { ويعذّب من يشاء } يريد : المشركين على الذَّنب الصَّغير { والله غفورٌ } لأوليائه { رحيمٌ } بهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا . . . } الآية . هو أنَّهم كانوا يزيدون على المال ويؤخِّرون الأجل ، كلَّما أُخرِّ أجلٌ إلى غيره زِيد في المال زيادةٌ { لعلكم تفلحون } لكي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة .
{ واتقوا النَّار } بتحريم الرِّبا وترك الاستحلال له { التي أعدَّت للكافرين } دون المؤمنين .
{ وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم } أَي : الإِسلامِ الذي يوجب المغفرة . وقيل : إلى التَّوبة ، وقيل : إلى أداء الفرائض { وجنَّة عرضها السموات والأرض أُعدّت } لكلِّ واحدٍ من أولياء الله .
{ الذين ينفقون في السراء والضرَّاء } في اليسر والعسر ، وكثرة المال وقلَّته { والكاظمين الغيظ } الكافيِّن غضبهم عن إمضائه { والعافين عن الناس } أيْ : المماليك وعمَّنْ ظلمهم وأساء إليهم { والله يحبُّ المحسنين } الموحِّدين الذين فيهم هذه الخصال .
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } أَي : الزِّنا ، نزلت في نبهان التَّمَّار أتته امراةٌ حسناء تبتاع منه التمر ، فضمَّها إلى نفسه وقبَّلها ، ثمَّ ندم على ذلك فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية ، وقوله : { أو ظلموا أنفسهم } يعني : ما دون الزِّنا من قُبلةٍ ، أو لمسةٍ ، أو نظرٍ { ذكروا الله } أيْ : ذكروا عقاب الله { ولم يُصرُّوا } أَيْ : لم يقيموا ولم يدوموا { على ما فعلوا } بل أقرُّوا واستغفروا { وهم يعلمون } أنَّ الذي أوتوه حرامٌ ومعصية .
{ قد خلت من قبلكم سننٌ } قد مضت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الكافرة سننٌ بإمهالي إيَّاهم ، حتى يبلغوا الأجل الذي أجَّلته في إهلاكهم ، وبقيت لهم آثارٌ في الدُّنيا فيهم أعظم الاعتبار . { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة } آخرُ أمرِ { المُكذِّبين } منهم : نزلت في قصَّة يوم أُحدٍ . يقول الله : فأنا أُمهلهم حتَّى يبلغ أجلي الذي أجَّلْتُ في نصرة النبيِّ عليه السَّلام وأوليائه ، وإهلاك أعدائه .
{ هذا بيانٌ للناس } أي : القرآن بيانٌ للنَّاس عامَّة { وهدىً وموعظة للمتقين } خاصَّة وهم الذين هداهم الله بفضله .
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{ ولا تهنوا } ولا تضعفوا عن جهاد عدوِّكم بما نالكم من الهزيمة { ولا تحزنوا } أَيْ : على ما فاتكم من الغنيمة { وأنتم الأعلون } أَيْ : لكم تكون العاقبة بالنَّصر والظَّفر { إن كنتم مؤمنين } أَيْ : إنَّ الإِيمان يُوجب ما ذكر من ترك الوهن والحزن .
{ إن يمسسكم } يصبكم { قرحٌ } جراحٌ وألمها يوم أُحدٍ { فقد مسَّ القوم } المشركين { قرحٌ مثله } يوم بدرٍ { وتلك الأيام } أَيْ : أيَّام الدُّنيا { نداولها } نُصرِّفها { بين الناس } مرَّةً لفرقةٍ ومرَّةً عليها { وليعلم الله الذين آمنوا } مُميَّزين بالإٍيمان عن غيرهم . أَيْ : إِنَّما نجعل الدَّولة للكفَّار على المؤمنين ليميَّز المؤمن المخلص ممَّن يرتدُّ عن الدِّين إذا أصابته نكبة ، والمعنى : ليعلمهم مشاهدةً كما علمهم غيباً { ويتخذ منكم شهداء } أَيْ : ليكرم قوماً بالشَّهادة { والله لا يحبُّ الظالمين } أَي : المشركين ، أَيْ : إنَّه إنما يُديل المشركين على المؤمنين لما ذُكر؛ لا لأنَّه يحبُّهم .
{ وليمحص الله الذين آمنوا } أَيْ : ليخلِّصهم من ذنوبهم بما يقع عليهم من قتلٍِ وجرحٍ وذهاب مال { ويمحق الكافرين } يستأصلهم إذا أدال عليهم : يعني : أنه يُديل على المؤمنين لما ذُكر ، ويُديل على الكافرين لإِهلاكهم بذنوبهم .
{ أم حسبتم } بل أحسبتم : أَي : لا تحسبوا { أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله . . . } الآية : أَيْ : ولمَّا يقع العلم بالجهاد مع العلم بصبر الصَّابرين ، والآية خطابٌ للذين انهزموا يوم أُحدٍ . قيل لهم : أحسبتم أن تدخلوا الجنَّة كما دخل الذين قُتلوا وثبتوا على ألم الجرح والضَّرب من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟!
{ ولقد كنتم تمنون الموت } كانوا يتمنَّون يوماً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويقولون : لنفعلنَّ ولنفعلنَّ ، ثمَّ انهزموا يوم أُحدٍ ، فاستحقُّوا العقاب ، وقوله : { من قبل أن تلقوه } أَيْ : من قبل يوم أحدٍ { فقد رأيتموه } رأيتم ما كنتم تتمنُّون من الموت ، أَيْ رأيتم أسبابه [ ولم تثبتوا مع نبيّكم . نزلت في معاتبة الرسول إياهم ، فقالوا : بلغنا أنَّك قد قُتلْتَ لذلك انهزمنا { وأنتم تنظرون } ] وأنتم بُصراءُ تتأمَّلون الحال في ذلك كيف هي ، فَلِمَ انهزمتم؟
{ وما محمدٌ إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل } أَيْ : يموت كما ماتت الرُّسل قبله { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ارتددتم كفَّاراً بعد إيمانكم ، وذلك لمَّا نُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحدٍ وأُشيع أنَّه قد قُتل قال ناس من أهل النِّفاق للمؤمنين : إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأوَّل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } أَيْ : فإنما يضرُّ نفسه باستحقاق العذاب { وسيجزي الله } بما يستحقون من الثَّواب { الشاكرين } الطَّائعين لله من المهاجرين والأنصار ، ثمَّ عاتب المنهزمين .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
{ وما كان لنفس أن تموت } أَيْ : ما كانت نفسٌ لتموت { إلاَّ بإذن الله } بقضائه وقدره ، كتب الله ذلك { كتاباً مؤجلاً } إلى أجله الذي قدِّر له ، فلمَ انهزمتم؟ والهزيمة لا تزيد في الحياة . { ومَنْ يرد } بعمله وطاعته { ثواب الدنيا } زينتها وزخرفها { نؤته منها } نُعْطه منها ما قدَّرناه له ، [ أَيْ : لهؤلاء المنهزمين طلباً للغنيمة ] ، { ومن يرد ثواب الآخرة } يعني : الذين ثبتوا حتى قُتلوا { نؤته منها } ثمَّ احتجَّ على المنهزمين بقوله :
{ وكأين } أَيْ : وكم { من نبيٍّ قتل } في معركةٍ { معه ربيون كثير } جماعاتٌ كثيرةٌ { فما وهنوا لما أصابهم } أَيْ : ما ضعفوا بعد قتل نبيِّهم . . . الآية .
{ وما كان قولهم } أَيْ : قول أصحاب ذلك النبيِّ المقتول عند الحرب بعد قتل نبيِّهم { إلاَّ أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا } تجاوزنا ما حُدَّ لنا { في أمرنا وثَبِّتْ أقدامَنا } بالقوَّة من عندك والنُّصرة .
{ فآتاهم الله ثواب الدنيا } النَّصر والظَّفر { وحسن ثواب الآخرة } الأجر والمغفرة .
{ يا أيها الذين آمنوا إِنْ تطيعوا الذين كفروا } أَيْ : اليهود والمشركين حيث قالوا لكم يوم أُحدٍ : ارجعوا إلى دين آبائكم ، وهو قوله : { يردوكم على أعقابكم } يرجعوكم إلى أوَّل أمركم من الشِّرك بالله .
{ بل الله مولاكم } أَيْ : فاستغنوا عن موالاة الكفَّار ، فأنا ناصركم فلا تستنصروهم ، ولمَّا انصرف المشركون من أحدٍ همُّوا بالرُّجوع لاستئصال المسلمين ، وخاف المسلمون ذلك فوعدهم الله تعالى خذلان أعدائهم .
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرُّعب } الخوف حتى لا يرجعوا إليكم { بما أشركوا } أيْ : بإشراكهم بالله { ما لم ينزل به سلطاناً } حجَّةً وبرهاناً ، أيْ : الأصنام التي يَعبدونها مع الله بغير حجَّة { ومأواهم النار } أَيْ : مرجعهم النَّار { وبئس مثوى الظالمين } مقامهم .
{ ولقد صدقكم الله وعده } بالنَّصر والظَّفر { إذْ تحسُّونهم } تقتلون المشركين يوم أُحدٍ في أوَّل الأمر { بإذنه } بعلم الله وإرادته { حتى إذا فشلتم } جَبنْتُم عن عدوِّكم { وتنازعتم } اختلفتم في الأمر . يعني : قول بعضهم : ما مقامنا وقد انهزم القوم الكافرون ، وقول بعضهم : لا نجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الاختلاف كان بين الرُّماة الذين كانوا عند المركز { وعصيتم } الرَّسول بترك المركز { من بعد ما أراكم ما تحبُّون } من الظَّفر والنَّصر على أعدائكم { منكم مَنْ يريد الدنيا } وهم الذين تركوا المركز ، وأقبلوا إلى الذَّهب { ومنكم مَن يريد الآخرة } أَيْ : الذين ثبتوا في المركز { ثمَّ صرفكم } ردَّكم بالهزيمة { عنهم } عن الكفَّار { ليبتليكم } ليختبركم بما جعل عليكم من الدَّبرة ، فيتبيَّن الصَّابر من الجازع ، والمخلص من المنافق { ولقد عفا عنكم } ذنبَكم بعصيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم والهزيمة { والله ذو فضلٍ على المؤمنين } بالمغفرة .
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
{ إذْ تصعدون } تَبعدون في الهزيمة { ولا تلوون } لا تقيمون { على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } من خلفكم يقول : إليَّ عبادَ الله [ إليَّ عباد الله ، إليَّ عباد الله ] ، وأنتم لا تلتفتون إليه { فأثابكم } أَيْ : جعل مكان ما ترجعون من الثَّواب { غمَّاً } وهو غمُّ الهزيمة وظفر المشركين { بغمٍّ } أَيْ : بغمِّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ عصيتموه { لكيلا تحزنوا } أَيْ : عفا عنكم لكيلا تحزنوا { على ما فاتكم } من الغنيمة { ولا ما أصابكم } من القتل والجراح .
{ ثمَّ أنزل عليكم من بعد الغمِّ أمةً نعاساً } وذلك أنَّهم خافوا كرَّة المشركين عليهم ، وكانوا تحت الحَجَف مُتأهِّبين للقتال ، فأمَّنهم الله تعالى أمناً ينامون معه ، وكان ذلك خاصَّاً للمؤمنين ، وهو قوله : { يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمَّتهم } وهم المنافقون . كان همَّهم خلاص أنفسهم { يظنون بالله غير الحق } أَيْ : يظنون أن أمر محمد عليه السَّلام مضحملٌّ ، وأنه لا ينصر { ظنّ الجاهلية } أَيْ : كظنِّ أهل الجاهليَّة ، وهم الكفَّار { يقولون : هل لنا من الأمر من شيء } ليس لنا من النصر والظَّفَر شيء كما وُعدنا . يقولون ذلك على جهة التكذيب . فقال الله تعالى : { إنَّ الأمر كلّه لله } أَيْ : النصر والشهادة ، والقدر والقضاء { يخفون في أنفسهم } من الشك والنفاق { ما لا يُبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء } أَيْ : لو كان الاختيار إلينا { ما قتلنا هَهُنَا } يعنون : أنَّهم أخرجوا كُرهاً ، ولو كان الأمر بيدهم ما خرجوا ، وهذا تكذيبٌ منهم بالقدر ، فردَّ الله عليهم بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } مصارعهم ، ولم يكن لِيُنجيهم قعودُهم { وليبتلي الله ما في صدوركم } أيُّها المنافقون ، فعلَ الله ما فعلَ يوم أُحدٍ { وليمحِّص } ليظهر ويكشف { ما في قلوبكم } أيُّها المؤمنون من الرِّضا بقضاء الله { والله عليمٌ بذات الصدور } بضمائرها .
{ إنَّ الذين توَّلوا منكم } أيُّها المؤمنون { يوم التقى الجمعان } أَيْ : الذين انهزموا يوم أحد { إنما استزلَّهم الشيطان } حملهم على الزَّلَّة { ببعض ما كسبوا } يعني : معصيتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم بترك المركز { ولقد عفا الله عنهم } تلك الخطيئة .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } أَيْ : المنافقين { وقالوا لإِخوانهم } أَيْ : في شأن إخوانهم في النَّسب { إذا ضربوا في الأرض } أَيْ : سافروا فماتوا وهلكوا { أو كانوا غُزَّىً } جمع غازٍ ، فقتلوا { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } تكذيباً منهم بالقضاء والقدر { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } أَيْ : ليجعل ظنَّهم أنَّهم لو لم يحضروا الحرب لاندفع عنهم القتل { حسرة في قلوبهم } ينهى المؤمنين أن يكونوا كهؤلاءِ الكفَّار في هذا القول منهم ، ليجعل اللَّهُ ذلك حسرةً في قلوبهم دون قلوب المؤمنين { واللَّهُ يحيي ويميت } فليس يمنع الإِنسان تحرُّزه من إتيان أجله .
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{ ولئن قتلتم } [ أي : والله لئن قتلتم ] . { في سبيل الله } في الجهاد أيُّها المؤمنون { أو متم } في سبيل الله ليغفرنَّ لكم وهو { خيرٌ مما يَجمعون } من أعراض الدُّنيا .
{ ولئن متم } مُقيمين على الجهاد { أو قتلْتُم } مجاهدين { لإِلى الله تحشرون } في الحالين .
{ فبما رحمة من الله } أَيْ : فَبِرَحْمةٍ ، أَيْ : فبنعمةٍ من الله وإحسانٍ منه إليك { لِنت لهم } يا محمد : أَيْ : سهلت أخلاقك لهم ، وكثر احتمالك { ولو كنت فظاً } غليظاً في القول { غليظ القلب } في الفعل { لانفضُّوا } لتفرَّقوا { من حولك فاعف عنهم } فيما فعلوا يومَ أُحدٍ { واستغفر لهم } حتى أُشفِّك فيهم { وشاورهم في الأمر } تطييباً لنفوسهم ، ورفعاً من أقدارهم ، ولتصير سنَّةً { فإذا عزمت } على ما تريد إمضاءه { فتوكل على الله } لا على المشاورة .
{ إنْ ينصركم الله فلا غالب لكم } من النَّاس { وإن يخذلكم } [ يوم أُحد ] لا ينصركم أحدٌ من بعده ، والمعنى : لا تتركوا أمري للنَّاس ، وارفضوا النَّاس لأمري .
{ وما كان لنبيٍّ أن يغلَّ } أَيْ : يخون بكتمان شيءٍ من الغنيمة عن أصحابه . نزلت في قطيفة حمراء فُقدت يوم بدرٍ ، فقال النَّاس : لعلَّ النَّبيَّ أخذها ، فنفى الله تعالى عنه الغلول ، وبيَّن أنَّه ما غلَّ نبيٌّ ، والمعنى : ما كان لنبيٍّ غلولٌ { ومن يَغْلُلْ يأت بما غلَّ } حاملاً له على ظهره { يوم القيامة ثمَّ توفى كل نفس ما كسبت } أَيْ : تُجازى ثواب عملها { وهم لا يظلمون } لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً .
{ أفمن اتَّبع رضوا الله } بالإيمان به والعمل بطاعته ، يعني : المؤمنين { كمَنْ باء بسخطٍ من الله } احتمله بالكفر به ، والعمل بمعصيته ، يعني : المنافقين .
{ هم درجاتٌ عند الله } أَيْ : أهل درجات عند الله . يريد أنَّهم مختلفو المنازل فَلِمَن اتِّبع رضوان الله الكرامة والثَّواب ، ولِمَنْ باء بسخطٍ من الله المهانةُ والعذاب { والله بصيرٌ بما يعملون } فيه حثٌّ على الطَّاعة ، وتحذيرٌ عن المعصية .
{ لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } أَيْ : واحداً منهم عُرِف أمره ، وخبرُ صدقه وأمانته ، ليس بمَلَك ولا أحدٍ من غير بني آدم ، وباقي الآية ذُكر في سورة البقرة . { وإن كانوا من قَبْلُ } [ وقد كانوا ] من قبل بعثه { لفي ضلالٍ مبين } .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{ أَوَ لَمّا أصابتكم } أَوَ حين أصابتكم مصيبة . يعني : ما أصابهم يوم أُحدٍ { وقد أصبتم } أنتم { مثليها } يوم بدر ، وذلك أنَّهم قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، وقُتل منهم يوم أحد سبعون { قلتم أنَّى هذا } من أين أصابنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا؟! { قل هو من عند أنفسكم } أَيْ : إنَّكم تركتم المركز وطلبتم الغنيمة ، فَمِنْ قِبَلِكُمْ جاءكم الشَّرُّ { إنَّ الله على كل شيء قدير } من النَّصر مع طاعتكم نبيَّكم ، وترك النَّصر مع مخالفتكم إيَّاه .
{ وما أصابكم يوم التقى الجمعان } يوم أُحدٍ { فبإذن الله } بقضائه وقدره ، يُسلِّيهم بذلك { وليعلم المؤمنين } ثابتين صابرين ، وليعلمَ المنافقين حازعين ممَّا نزل بهم .
{ وقيل لهم } لعبد الله بن أُبيِّ وأصحابه لمَّا انصرفوا ذلك اليوم عن المؤمنين { تَعالَوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } عنَّا القوم بتكثيركم سوادنا إنْ لم تقاتلوا { قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم } أَيْ : لو نعلم أنَّكم تقاتلون اليوم لاتَّبعناكم ، ولكن لا يكون اليوم قتال ، ونافقوا بهذا لأنَّهم لو علموا ذلك ما اتَّبعوهم . قال الله تعالى : { هم للكفر يومئذٍ } بما أظهروا من خذلان المؤمنين { أقربُ منهم للإِيمان } لأنهم كانوا قبل ذلك أقربَ إلى الإِيمان بظاهر حالهم ، فلمَّا خذلوا المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر من حيث الظَّاهر .
{ الذين قالوا } يعني : المنافقين { لإِِخوانهم } لأمثالهم من أهل النِّفاق { وقعدوا } عن الجهاد ، الواو للحال { لو أطاعونا } يعنون : شهداء أُحدٍ في الانصراف عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم والقعود { ما قُتلوا } فردَّ الله تعالى عليهم وقال : { قل } لهم يا محمَّدُ { فادْرَؤُوا } فادفعوا { عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } إنْ صدقتم أنَّ الحذر ينفع من القدر .