كتاب : الوجيز في تفسير الكتاب العزيز
المؤلف : أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{ وإن كان قميصه قُدَّ من دبرٍ فكذبت وهو من الصادقين } .
{ فلما رأى قميصه قُدَّ من دبرٍ } من حكم الشَّاهد وبيانِه ما يُوجب الاستدلال على تمييز الكاذب من الصَّادق ، فلمَّا رأى زوج المرأة قميص يوسف قدَّ من دبرٍ { قال : إنَّه من كيدكنَّ } أَيْ : قولِك : { ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءاً . . . } الآية .
{ يوسف } يا يوسف { أعرض عن هذا } اترك هذا الأمر فلا تذكره { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } الآثمين ، ثمَّ شاع ما جرى بينهما في مدينة مصر حتى تحدَّثت بذلك النِّساء ، وخضن فيه وهو قوله :
{ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها } غلامها { عن نفسه قد شغفها حُبَّاً } قد دخل حبُّه في شغاف قلبها ، وهو موضع الدَّم الذي يكون داخل القلب { إنا لنراها في ضلالٍ } عن طريق الرُّشد بحبِّها إيَّاه .
{ فلما سمعت } امرأة العزيز { بمكرهنَّ } مقالتهنَّ ، وسمِّيت مكراً لأنهنَّ قصدْنَ بهذه المقالة أن تُريهنَّ يوسف ، ليقوم لها العذر في حبِّه إذا رأين جماله ، وكنَّ مشتهين ذلك؛ لأنَّ يوسف وُصف لهنَّ بالجمال { أرسلت إليهن } تدعوهنَّ { وأعتدت } وأعدَّت { لهنَّ مُتّكَأً } طعاماً يقطع بالسِّكين . قيل : هو الأترج { وآتت } وناولت { كلَّ واحدةٍ منهن سكيناً وقالت } ليوسف : { اخرج عليهنَّ فلما رأينه أكبرنه } أعظمنه وهَالَهُنَّ أمره وبُهتن { وقطعن أيديهنَّ } حَززْنَها بالسَّكاكين ، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف { وقلن حاشَ لِلَّه } بَعُدَ يوسف عن أن يكون بشراً { إنْ هذا } ما هذا { إلاَّ ملك كريم } فلمَّا رأت امرأة العزيز ذلك قالت :
{ فذلكنَّ الذي لُمْتُنَّنِي فيه } في حبِّه والشَّغف فيه ، ثم أقرَّّت عندهنَّ بما فعلت فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فامتنع وأبى ، وتوعَّدته بالسِّجن فقالت : { ولئن لم يفعل . . . } الآية؛ فأمرنه بطاعتها ، وقلن له : إنَّك الظَّالم وهي المظلومة ، فقال يوسف :
{ ربِّ السجن أحبُّ إلي ممَّا يدعونني إليه } من معصيتك { وإلاَّ تصرف عني كيدهنَّ } كيد جميع النِّساء { أصبُ إليهنَّ } أمل إليهنَّ { وأكن من الجاهلين } المذنبين .
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{ فاستجاب له ربُّه فصرف عنه كيدهنَّ } حتى لم يقع في شيءٍ ممَّا يطالبنه به { إنَّه هو السميع } لدعائه { العليم } بما يخاف من الإثم .
{ ثم بدا لهم } للعزيز وأصحابه { من بعد ما رأوا الآيات } آيات براءة يوسف { ليسجننه حتى حين } وذلك أنَّ المرأة قالت : إنَّ هذا العبد فضحني في النَّاس يُخبرهم أنِّي راودته عن نفسه ، فاحبسه حتى تنقطع هذه المقالة ، فذلك قوله : { حتى حين } أَيْ : إلى انقطاع اللائمة .
{ ودخل معه السجن فتيان } غلامان للملك الأكبر ، رُفع إليه أنَّ صاحب طعامه يريد أن يَسُمَّه ، وصاحب شرابه مَالأَهُ على ذلك ، فأدخلهما السِّجن ، ورأيا يوسف يُعبِّر الرُّؤيا ، فقالا : لنجرِّب هذا العبد العبرانيّ ، فتحالما من غير أن يكونا رأيا شيئاً ، وهو قوله { قال أحدهما } وهو السَّاقي { إني أراني أعصر خمراً } أَيْ : عنباً ، وقال صاحب الطَّعام : { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً } رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي خبزاً { تأكل الطير منه } فإذا سباعُ الطير يَنْهَشْنَ منه { نبئنا بتأويله } أَيْ : خبرنا بتفسير الرُّؤيا { إنا نراك من المحسنين } تُؤثر الإِحسان ، وتأتي جميل الأفعال ، فعدلَ يوسف عليه السَّلام عن جواب مسألتهما ، ودَلَّهما أولاً على أنَّه عالمٌ بتفسير الرُّؤيا فقال :
{ لا يأتيكما طعام ترزقانه } تأكلان منه في منامكما { إلاَّ نبأتكما بتأويله } في اليقظة { قبل أن يأتيكما } التَّأويل { ذلكما مما علمني ربّي } أَيْ : لست أخبركما على جهة التَّكهُّن والتَّنجُّم ، إنَّما ذلك بوحي من الله عزَّ وجلَّ وعلمٍ ، ثمَّ أخبر عن إيمانه واجتنابه الكفر بباقي الآية .
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
{ ما كان لنا أنْ نشرك بالله من شيء } يريد : إنَّ الله سبحانه عصمنا من أن نشرك به { ذلك من فضل الله علينا } أَيْ : اتِّباعنا للإِيمان بتوفيق الله تعالى وتفضُّله علينا { وعلى الناس } وعلى مَنْ عصمه الله من الشِّرك حتى اتَّبع دينه { ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون } نعمة الله بتوحيده ، والإِيمان برسله ، ثمَّ دعاهما إلى الإِيمان ، فقال :
{ يا صاحبي السجن } يعني : يا ساكنيه : { أأرباب متفرِّقون } يعني : الأصنام { خير } أعظم في صفة المدح { أم الله الواحد القهار } الذي يقهر كلَّ شيءٍ .
{ ما تعبدون من دونه } أنتما ومَنْ على مثل حالكما من دون الله { إلاَّ أسماءً } لا معانيَ وراءها { سميتموها أنتم } ، { إن الحكم إلاَّ لله } ما الفصلُ بالأمر والنَّهي إلاَّ لله { ذلك الدين القيم } المستقيم { ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون } ما للمطيعين من الثَّواب ، وللعاصين من العقاب ، ثمَّ ذكر تأويل رؤياهما بقوله :
{ يا صاحبي السجن أمَّا أحدكما فيسقي ربَّه خمراً ، وأمَّا الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه } فقالا : ما رأينا شيئاً ، فقال : { قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان } يعني : سيقع بكما ما عبَّرت لكما ، صدقْتُما أم كذبتما .
{ وقال } يوسف { للذي ظنَّ } علم { إنَّه ناج منهما } وهو السَّاقي : { اذكرني عند ربك } عند الملك صاحبك ، وقل له : إنَّ في السِّجن غلاماً محبوساً ظلماً { فأنساه الشيطان ذكر ربه } أنسى الشَّيطان يوسف الاستغاثة بربِّه ، وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك ، فعوقب بأن { لبث في السجن بضع سنين } سبع سنين ، فلمَّا دنا فرجه وأراد الله خلاصه رأى الملك رؤيا ، وهو قوله :
{ وقال الملك إني أرى . . . } الآية . فلمَّا استفتاهم فيها .
{ قالوا أضغاث أحلام } أحلامٌ مختلطةٌ لا تأويل لها عندنا { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } أقرُّوا بالعجز عن تأويلها .
{ وقال الذي نجا منهما } وهو السَّاقي { وادَّكر بعد أمةٍ } وتذكَّر أمر يوسف بعد حين من الدَّهر : { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون } فأُرسل ، فأتى يوسف فقال :
{ يوسفُ } أَيْ : يا يوسف { أيها الصديق } الكثير الصِّدق ، وقوله : { لعلي أرجع إلى الناس } يعني : أصحاب الملك { لعلهم يعلمون } تأويل رؤيا الملك من جهتك .
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
{ قال تزرعون } أَيْ : ازرعوا { سبع سنين دأباً } متتابعةً ، وهذا السَّبع تأويل البقرات السِّمان { فما حصدتم } ممَّا زرعتم { فذروه في سنبله } لأنَّه أبقى له وأبعد من الفساد { إلا قليلاً ممًّا تأكلون } فإنَّكم تدوسونه .
{ ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد } مُجدباتٌ صعابٌ ، وهذه تأويل البقرات العجاف { يأكلن } يُفنين ويُذهبن { مَا قدَّمتم لهن } من الحَبِّ { إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون } تحرزون وتدَّخرون .
{ ثمَّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } يمطرون ويخصبون حتى يعصروا من السِّمسم الدُّهن ، ومن العنب الخمر ، ومن الزَّيتون الزَّيت ، فرجع الرَّسول بتأويل الرُّؤيا إلى الملك ، فعرف الملك أنَّ ذلك تأويلٌ صحيحٌ ، فقال :
{ ائتوني } بالذي عبَّر رؤياي ، فجاء الرَّسول يوسف ، وقال : أجب الملك فقال للرسول : { ارجع إلى ربك } يعني : الملك { فسله } أن يسأل { ما بال النسوة } ما حالهنَّ وشأنهنَّ ، ليعلم صحَّة براءتي ممَّا قُذفت به ، وذلك أنَّ النِّسوة كنَّ قد عرفن براءته بإقرار امرأة العزيز عندهنَّ ، وهو قولها : { ولقد رَاودْتُه عن نفسِهِ فاستعصم } فأحبَّ يوسف عليه السَّلام أن يُعلم الملك أنَّه حُبس [ ظلماً ] ، وأنَّه بريءٌ ممَّا قُذِف به ، فسأله أن يستعلم النِّسوة عن ذلك { إن ربي بكيدهنَّ } ما فعلن في شأني حين رأينني وما قلن لي { عليم } فدعا الملك النِّسوة .
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{ ما خطبكنَّ } ما قصتكنَّ وما شأنكنَّ { إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه } جمعهنَّ في المُراوَدة؛ لأنَّه لم يعلم مَنْ كانت المُراوِدة { قلن حاشَ لله } بَعُدَ يوسف عمَّا يُتَّهم به { ما علمنا عليه من سوء } من زنا ، فلمَّا برَّأْنَهُ أقرَّت امرأة العزيز فقالت : { الآن حصحص الحق } أَيْ : بان ووضح ، وذلك أنَّها خافت إنْ كذَّبت شهدت عليها النِّسوة فقالت : { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } في قوله : { هي راودتني عن نفسي } { ذلك } أَيْ : ما فعله يوسف من ردِّ الرَّسول إلى الملك { ليعلم } وزير الملك - وهو الذي اشتراه - { إني لم أخنه } في زوجته { بالغيب وأنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين } لا يرشد مَنْ خان أمانته ، أَيْ : إنَّه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية من الله عزَّ وجلَّ ، فلمَّا قال يوسف عليه السَّلام : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال جبريل عليه السَّلام : ولا حين هممت بها يوسف ، فقال :
{ وما أبرىء نفسي } وما أُزكِّي نفسي { إنَّ النفس لأمَّارة بالسوء } بالقبيح وما لا يحبُّ الله { إلاَّ ما } مَنْ { رحم ربي } فعصمه .
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{ وقال الملك ائتوني به } بيوسف { أستخلصه لنفسي } أجعله خالصاً لي لا يشركني فيه أحدٌ { فلمَّا كلَّمه } يوسف { قال : إنك اليوم لدينا مكين } وجيهٌ ذو مكانةٍ { أمين } قد عرفنا أمانتك وبراءتك ، ثمَّ سأله الملك أن يُعبِّر رؤياه شفاهاً ، فأجابه يوسف بذلك ، فقال له : ما ترى أن نصنع؟ قال : تجمع الطَّعام في السِّنين المخصبة ليأتيك الخلق فيمتارون منك بحكمك ، فقال : مَنْ لي بهذا ومَنْ يجمعه؟ فقال يوسف :
{ اجعلني على خزائن الأرض } على حفظها ، وأراد بالأرض أرض مصر { إني حفيظٌ عليمٌ } كاتبٌ حاسبٌ .
{ وكذلك } وكما أنعمنا عليه بالخلاص من السِّجن { مكنَّا ليوسف } أقدرناه على ما يريد { في الأرض } أرض مصر { يتبوأ منها حيث يشاء } هذا تفسير التَّمكين في الأرض { نصيب برحمتنا مَنْ نشاء } أتفضَّل على مَنْ أشاء برحمتي { ولا نضيع أجر المحسنين } ثواب المُوحِّدين .
{ ولأجر الآخرة خير . . . } الآية . أَيْ : ما يعطي الله من ثواب الآخرة خيرٌ للمؤمنين ، والمعنى : إنَّ ما يعطي الله تعالى يوسف في الآخرة خيرٌ ممَّا أعطاه في الدُّنيا ، ثمَّ دخل أعوام القحط على النَّاس ، فأصاب إخوة يوسف المجاعة ، فأتوه مُمتارين ، فذلك قوله :
{ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون } لأنِّهم على زيِّ الملوك ، وكان قد تقرَّر في أنفسهم هلاك يوسف . وقيل : لأنَّهم رأوه من وراء سترٍ .
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{ ولما جهزهم بجهازهم } يعني : حمل لكلِّ رجلٍ منهم بعيراً { قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم } يعني : بنيامين ، وذلك أنَّه سألهم عن عددهم فأخبروه ، وقالوا : خلَّفنا أحدنا عند أبينا ، فقال يوسف : فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم . { ألا ترون أني أوفي الكيل } أُتمُّه من غير بخسٍ { وأنا خير المنزلين } وذلك لأن حين أنزلهم أحسن ضيافتهم ، ثمَّ أوعدهم على ترك الإِتيان بالأخ بقوله :
{ فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } .
{ قالوا سنراود عنه أباه } نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا { وإنا لفاعلون } ما وعدناك من المراودة .
{ وقال } يوسف { لفتيانه } لغلمانه : { اجعلوا بضاعتهم } التي أتوا بها لثمن الميرة ، وكانت دارهم { في رحالهم } أوعيتهم { لعلَّهم يعرفونها } عساهم يعرفون أنَّها بضاعتهم بعينها { إذا انقلبوا إلى أهلهم } وفتحوا أوعيتهم { لعلهم يرجعون } عساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك؛ لأنَّّهم لا يستحلُّون إمساكها .
{ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منّا الكيل } حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا إن لم نذهب بأخينا . يعنون قوله : { فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } . { فأرسل معنا أخانا نكتل } نأخذ كيلنا .
{ قال هل آمنكم عليه . . . } الآية ، يقول : لا آمنكم على بنيامين إلاَّ كأمني على يوسف ، يريد : إنَّه لم ينفعه ذلك الأمن ، فإنَّهم خانوه ، فهو - وإن أَمِنَهم في هذا - خاف خيانتهم أيضاً ، ثمَّ قال : { فالله خير حافظاً } .
{ ولما فتحوا متاعهم } ما حملوه من مصر { وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي } منك شيئاً تردُّنا به وتصرفنا إلى مصر { هذه بضاعتنا ردت إلينا } فنتصرَّف بها { ونميرُ أهلنا } نجلب إليهم الطَّعام { ونزداد كيل بعير } نزيد حِمْل بعيرٍ من الطَّعام ، لأنَّه كان يُكال لكلِّ رجلٍ وِقْر بعير { ذلك كيلٌ يسير } متيسِّرٌ على مَنْ يكيل لنا لسخائه .
{ قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله } حتى تحلفوا بالله { لَتَأْتُنَّني به إلاَّ أن يحاط بكم } إلا أن تموتوا كلُّكم { فلما آتَوْهُ موثقهم } عهدهم ويمينهم { قال } يعقوب عليه السَّلام : { الله على ما نقول وكيل } شهيد ، فلمَّا أرادوا الخروج من عنده قال :
{ يا بني لا تدخلوا } مصر { من باب واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقة } خاف عليهم العين ، فأمرهم بالتَّفرقة { وما أغني عنكم من الله من شيء } يعني : إنَّ الحذر لا يُغني ولا ينفع من القدر .
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
{ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } وذلك أنَّهم دخلوا مصر متفرِّقين من أربعة أبواب { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } ما كان ذلك ليردَّ قضاءً قضاه الله سبحانه { إلاَّ حاجةً } لكن حاجةً . يعني : إنَّ ذلك الدّخول قضى حاجةً في نفس يعقوب عليه السَّلام ، وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبوابٍ متفرِّقةٍ شفقةً عليهم { وإنه لذو علم لما علمناه } لذو يقينٍ ومعرفةٍ بالله سبحانه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنَّ يعقوب عليه السَّلام بهذه الصِّفة .
{ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } ضمَّه إليه وأنزله عند نفسه { قال إني أنا أخوك } اعترف له بالنِّسب ، وقال : لا تخبرهم بما ألقيت إليك { فلا تبتئس } فلا تحزن ولا تغتم { بما كانوا يعملون } من الحسد لنا ، وصرف وجه أبينا عنا .
{ فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية } وهو إناءٌ من ذهبٍ مرصَّعٌ بالجواهر { في رحل أخيه } بنيامين { ثمَّ أذَّنَ مؤذنٌ } نادى منادٍ { أيتها العير } الرُّفقة { إنكم لسارقون } .
{ قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون } ؟
{ قالوا نفقد صواع الملك } يعني : السِّقاية { ولمن جاء به حمل بعير } أَيْ : من الطَّعام { وأنا به زعيم } كفيل .
{ قالوا تالله لقد علمتم } حلفوا على أنَّهم يعلمون صلاحهم وتجنُّبهم الفساد ، وذلك أنَّهم كانوا معروفين بأنَّهم لا يظلمون أحداً ، ولا يرزأون شيئاً لأحد .
{ قالوا فما جزاؤه } أَيْ : ما جزاء السَّارق { إن كنتم كاذبين } في قولكم : ما كنا سارقين .
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ قالوا جزاؤه مَنْ وجد في رحله } [ وكانوا يستعبدون كلَّ سارقٍ بسرقته ، فلذلك قالوا : جزاؤه مَنْ وجد في رحله ] أَيْ : جزاء السَّرق ، مَنْ وجد في رحله المسروق { فهو جزاؤه } أَيْ : فالسَّرق جزاء السَّارق { كذلك نجزي الظالمين } أَيْ : إذا سرق سارقٌ اسْتُرِقَّ ، فلمَّا أقرُّوا بهذا الحكم صُرف بهم إلى يوسف عليه السَّلام ليفتِّش أمتعتهم .
{ فبدأ } يوسف { بأوعيتهم } وهي كلُّ ما استودع شيئاً من جرابٍ وجوالق ومِخْلاةٍ { قبل وعاء أخيه } نفياً للتُّهمة { ثمَّ استخرجها } يعني : السِّقاية { من وعاء أخيه كذلك كدنا } ألهمنا { ليوسف } أي : ألهمناه مثل ذلك الكيد ، حتى ضممنا أخاه إليه { ما كان ليأخذ أخاه } ويستوجب ضمَّه إليه { في دين الملك } في حكمه وسيرته وعادته { إلاَّ } بمشيئة الله تعالى ، وذلك أنَّ حكم الملك في السَّارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق ، فلم يكن يوسف يتمكَّن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطُّفاً ، حتى وجد السَّبيل إلى ذلك ، وهو ما أجري على ألسنة إخوته أنَّ جزاء السَّارق الاسترقاق ، { نرفع درجات مَنْ نشاء } بضروب الكرامات وأبواب العلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كلِّ شيء { وفوق كلِّ ذي علم عليم } يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه . فلمَّا خرج الصُّواع من رحل بنيامين .
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
{ قالوا } ليوسف { إن يسرق } الصُّواع { فقد سرق أخ له من قبل } يعنون : يوسف عليه السَّلام ، وذلك أنَّه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرَّاً منهم ، فيتصدَّق به في المجاعة ، حتى فطن به إخوته { فأسرَّها يوسف في نفسه } أَيْ : أسرَّ الكلمة التي كانت جواب قولهم هذا { ولم يُبدها لهم } وهو أنَّه قال في نفسه : { أنتم شرٌّ مكاناً } عند الله بما صنعتم من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم { والله أعلم بما تصفون } أَيْ : قد علم أنَّ الذي تذكرونه كذبٌ .
{ قالوا يا أيها العزيز إنَّ له أباً شيخاً كبيراً } في السِّنِّ { فخذ أحدنا مكانه } واحداً منَّا تستعبده بدله { إنا نراك من المحسنين } إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا .
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{ فلما استيأسوا } يئسوا { منه خلصوا نجياً } انفردوا متناجين في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم { قال كبيرهم } وهو روبيل ، وكان أكبرهم سنَّاً : { ألم تعلموا أنَّ أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله } في حفظ الأخ وردِّه إليه { ومن قبل ما فرطتم في يوسف } " ما " زائدة ، أَيْ : قصَّرتم في أمر يوسف وخنتموه فيه { فلن أبرح الأرض } لن أخرج من أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } يبعث إليَّ أنَْ آتيه { أو يحكم الله لي } يقضي في أمري شيئاً { وهو خير الحاكمين } أعدلهم ، وقال لإخوته :
{ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إنَّ ابنك سرق } يعنون في ظاهر الأمر { وما شهدنا إلاَّ بما علمنا } لأنَّه وُجدت السَّرقة في رحله ونحن ننظر { وما كنا للغيب حافظين } ما كنا نحفظه إذا غاب عنا .
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{ واسأل القرية التي كنَّا فيها } أَيْ : أهل مصر { والعير التي أقبلنا فيها } يريد : أهل الرُّفقة ، فلمَّا رجعوا إلى أبيهم يعقوب عليه السَّلام قالوا له هذا ، فقال :
{ بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً } زيَّنته لكم حتى أخرجتم بنيامين من عندي رجاء منفعة ، فعاد من ذلك شرٌّ وضررٌ .
{ وتولى عنهم } أعرض عن بنيه ، وتجدَّد وَجْدُه بيوسف { وقال : يا أسفى على يوسف } يا طول حزني عليه { وابيضت عيناه } انقلبت إلى حال البياض ، فلم يبصر بهما { من الحزن } من البكاء { فهو كظيم } مغمومٌ مكروبٌ لا يُظهر حزنه بجزعٍ أو شكوى .
{ قالوا تالله تفتأ } لا تزال { تذكر يوسف } لا تَفْتُر من ذكره { حتى تكون حرضاً } فاسداً دنفاً { أو تكون من الهالكين } الميِّتين . والمعنى : لا تزال تذكره بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه ، أو تموت بغمِّه ، فلمَّا أغلظوا له في القول .
{ قال إنما أشكو بثِّي } ما بي من البثِّ ، وهو الهمُّ الذي تفضي به إلى صاحبك { وحزني إلى الله } لا إليكم { وأعلم من الله ما لا تعلمون } وهو أنَّه علم أنَّ يوسف حيٌّ ، أخبره بذلك مَلَكُ الموت ، وقال له : اطلبه من هاهنا ، وأشار له إلى ناحية مصر .
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{ يا بنيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف } تَبَحَّثوا عنه { ولا تَيْأَسُوا من روح الله } من الفرج الذي يأتي به { إنه لا يَيْأَسُ من روح الله إلاَّ القوم الكافرون } يريد : إنَّ المؤمن يرجو الله تعالى في الشدائد ، والكافر ليس كذلك ، فخرجوا إلى مصر .
{ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر } أصابنا ومَنْ يختصُّ بنا الجوع { وجئنا ببضاعة مزجاة } ندافع بها الأيام ونتقوَّت ، وليست ممَّا يتشبَّع به ، وكانت دراهم زيوفاً { فأوف لنا الكيل } سألوه مساهلتهم في النَّقد ، وإعطاءَهم بدراهمهم مثل ما يعطي بغيرها من الجياد { وتصدَّق علينا } بما بين القيمتين { إن الله يجزي } يتولَّى جزاء { المتصدقين } فلمَّا قالوا هذا أدركته الرِّقَّة ودمعت عيناه ، وقال توبيخاً لهم وتعظيماً لما فعلوا :
{ هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } بإدخال الغمِّ عليه بإفراده من يوسف { إذ أنتم جاهلون } آثمون بيعقوب أبيكم ، وقطع رحم أخيكم جهلاً منكم ، ولمَّا قال لهم هذه المقالة رفع الحجاب .
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{ أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف } الذي فعلتم به ما فعلتم { وهذا أخي } المظلوم من جهتكم { قد منَّ الله علينا } بالجمع بيننا بعد ما فرَّقتم { إنه مَن يتق } الله { ويصبر } على المصائب { فإنَّ الله لا يضيع أَجْرَ المحسنين } أجر مَنْ كان هذا حاله .
{ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا } فضَّلك الله علينا بالعقل والعلم ، والفضل والحسن { وإنْ كنا لخاطئين } آثمين في أمرك .
{ قال لا تثريب عليكم اليوم } لا تأنيب ولا تعيير عليكم بعد هذا اليوم ، ثمَّ جعلهم في حلِّ ، وسأل لهم المغفرة فقال : { يغفر الله لكم . . . } الآية ، ثمَّ سألهم عن أبيه فقالوا : ذهبت عيناه ، فقال :
{ اذهبوا بقميصي هذا } وكان قد نزل به جبريل عليه السَّلام على إبراهيم عليه السَّلام لمَّا أُلقي في النَّار ، وكان فيه ريح الجنَّة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلاَّ صحَّ ، فذلك قوله : { فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } يرجعْ ويَعُدْ بصيراً .
{ ولما فصلت العير } خرجت من مصر مُتوجِّهةً إلى كنعان { قال أبوهم } لمن حضره : { إني لأجد ريح يوسف } وذلك أنَّه هاجت الرِّيح فحملت ريح القميص واتَّصلت بيعقوب ، فوجد ريح الجنَّة ، فعلم أنَّه ليس في الدُّنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص { لولا أن تفندون } تُسفِّهوني وتُجهِّلوني .
{ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم } شقائك القديم ممَّا تكابد من الأحزان على يوسف وخطئك في النِّزاع إليه على بعد عهده منك ، وكان عندهم أنَّه قد مات ، وقوله :
{ فارتدَّ بصيراً } أَيْ : عاد ورجع بصيراً .
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{ سوف أستغفر لكم ربي } أخَّر ذلك إلى السَّحَر؛ ليكون أقرب إلى الإجابة ، وكان قد بعث يوسف عليه السًّلام مع البشير إلى يعقوب عليه السَّلام عُدَّة المسير إليه ، فتهيَّأ يعقوب وخرج مع أهله إليه ، فذلك قوله :
{ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه } أَيْ : ضمَّ إليه { أبويه } أباه وخالته ، وكانت أمُّه قد ماتت ، { وقال ادخلوا مصر } وذلك أنَّه كان قد استقبلهم ، فقال لهم قبل دخول مصر : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ، وكانوا قبل ذلك يخافون دخول مصر إلاَّ بجوازٍ من ملوكهم .
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
{ ورفع أبويه على العرش } أجلسهما على السَّرير { وخرُّوا له سجداً } سجدوا ليوسف سجدة التَّحيَّة وهو الانحناء . { وقد أحسن بي } إليَّ { إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو } وهو البسيط من الأرض ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواشٍ وبريَّة { من بعد أن نزغ الشيطان } أفسد { بيني وبين إخوتي } بالحسد { إنَّ ربي لطيف لما يشاء } عالم بدقائق الأمور { إنَّه هو العليم } بخلقه { الحكيم } فيهم بما شاء ، ثمَّ دعا ربَّه وشكره فقال :
{ رب قد آتيتني من الملك } ملك مصر { وعلمتني من تأويل الأحاديث } يريد : تفسير الأحلام { فاطر السموات والأرض } خالقهما ابتداءً { توفني مسلماً } اقبضني على الإِسلام { وألحقني بالصالحين } من آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السَّلام . يريد : ارفعني إلى درجاتهم .
{ ذلك } الذي قصصنا عليك من أمر يوسف من الأخبار التي كانت غائبة عنك ، وهو قوله { من أنباءِ الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم } لدى إخوة يوسف { إذ أجمعوا أمرهم } عزموا على أمرهم { وهم يمكرون } بيوسف .
{ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو أن تؤمن به قريش واليهود لمَّا سألوه عن قصَّة يوسف ، فشرحها لهم فخالفوا ظنَّه ، فقال الله : { وما أكثر الناس ولو حرصت } على إيمانهم { بمؤمنين } لأنَّك لا تهدي مَنْ أحببت ، لكنَّ الله يهدي مَنْ يشاء .
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{ وما تسألهم عليه } على القرآن { من أجرٍ } مالٍ يعطونك { إن هو } ما هو { إلاَّ ذكر للعالمين } تذكرةٌ لهم بما هو صلاحهم . يريد : إنَّا أزحنا العلَّة في التَّكذيب حيث بعثناك مُبلِّغاً بلا أجرٍ ، غير أنَّه لا يؤمن إلاَّ مَن شاء الله سبحانه وإنْ حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك .
{ وكأين } وكم { من آية } دلالةٍ تدلُّ على التَّوحيد { في السموات والأرض } من الشَّمس والقمر والنُّجوم والجبال وغيرها { يمرُّون عليها } يتجاوزونها غير مُتفكِّرين ولا معتبرين ، فقال المشركون : فإنَّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ، فقال : { وما يؤمن أكثرهم بالله } في إقراره بأنَّ الله خلقه ، وخلق السَّموات والأرض إلاَّ وهو مشركٌ بعبادة الوثن .
{ أفأمنوا } يعني : المشركين { أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم .
{ قل } لهم { هذه } الطَّريقة التي أنا عليها { سبيلي } سنَّتي ومنهاجي { أدعوا إلى الله } وتمَّ الكلام ، ثمَّ قال : { على بصيرة أنا } أَيْ : على دينٍ ويقينٍ { ومن اتبعني } يعني : أصحابه ، وكانوا على أحسن طريقة { وسبحان الله } أَيْ : وقل : سبحان الله تنزيهاً لله تعالى عمَّا أشركوا { وما أنا من المشركين } الذين اتَّخذوا مع الله ندَّاً .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{ وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى } يريد : لم نبعث قبلك نبيَّاً إلاَّ رجالاً غير امرأةٍ ، وكانوا من أهل الأمصار ، ولم نبعث نبيَّاً من باديةٍ ، وهذا ردٌّ لإِنكارهم نبوَّته . يريد : إنَّ الرُّسل من قبلك كانوا على مثل حالك ، ومَنْ قبلهم من الأمم كانوا على مثل حالهم ، فأهلكناهم ، فذلك قوله : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا } إلى مصارع الأمم المُكذِّبة فيعتبروا بهم { ولدار الآخرة } يعني : الجنَّة { خير للذين اتقوا } الشِّرك في الدُّنيا { أفلا تعقلون } هذا حتى تُؤمنوا؟! { حتى إذا استيأس الرسل } يئسوا من قومهم أن يؤمنوا { وظنوا أنهم قد كذبوا } .
أيقنوا أنَّ قومهم قد كذَّبوهم { جاءهم نصرنا فنجِّي مَنْ نشاء } وهم المؤمنون أتباع الأنبياء { ولا يردُّ بأسنا } عذابنا .
{ لقد كان في قصصهم } يعني : إخوة يوسف { عبرة } فكرةٌ وتدبُّرٌ { لأولي الألباب } وذلك أنَّ مَنْ قدر على إعزاز يوسف ، وتمليكه مصر بعد ما كان عبداً لبعض أهلها قادرٌ على أن يعزَّ محمداً عليه السَّلام وينصره { ما كان } القرآن { حديثاً يفترى } يتقولَّه بشر { ولكن تصديق الذي بين يديه } [ ولكن كان تصديق ] ما قبله من الكتب { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه من أمور الدِّين { وهدىً } وبياناً { ورحمةً لقوم يؤمنون } يصدِّقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ المر } أنا الله أعلم وأرى { تلك } يعني : ما ذُكر من الأحكام والأخبار قبل هذه الآية { آيات الكتاب } القرآن { والذي أُنزل إليك من ربك الحق } ليس كما يقوله المشركون أنك تأتي به من قبل نفسك باطلاً { ولكنَّ أكثر الناس } يعني : أهل مكة { لا يؤمنون } .
{ اللَّهُ الذي رفع السموات بغير عمدٍ } جمع عماد ، وهي الأساطين { ترونها } أنتم كذلك مرفوعة بغير عمادٍ { ثمَّ استوى على العرش } بالاستيلاء والاقتدار ، وأصله : استواء التَّدبير ، كما أنَّ أصل القيام الانتصاب ، ثمَّ يقال : قام بالتَّدبير ، و " ثُمَّ " يدلُّ على حدوث العرش المستولى عليه [ لا على حدوث الاستيلاء بعد خلق العرش المستولى عليه ] { وسخر الشمس والقمر } ذلَّلهما لما يُراد منهما { كلٌّ يجري لأجلٍ مسمَّىً } إلى وقتٍ معلومٍ ، وهو فناء الدُّنيا { يُدبِّر الأمر } يُصرِّفه بحكمته { يُفصِّل الآيات } يبيِّن الدلائل التي تدلُّ على التَّوحيد والبعث { لعلَّكم بلقاء ربِّكم توقنون } لكي تُوقنوا يا أهل مكَّة بالبعث .
{ وهو الذي مدَّ الأرض } بسطها ووسًّعها { وجعل فيها رواسي } أوتدها بالجبال { وأنهاراً ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } حلواً وحامضاً ، وباقي الآية مضى تفسيره .
{ وفي الأرض قطعٌ متجاورات } قُرىً بعضُها قريبٌ من بعضٍ { وجنات } بساتين { من أعناب } وقوله : { صنوان } وهو أن يكون الأصل واحداً ، ثمَّ يتفرَّع فيصير نخيلاً يحملن ، وأصلهنَّ واحد { وغير صنوان } وهي المتفرِّقة واحدةً واحدةً { تسقى } هذه القطع والجنَّات والنَّخيل { بماء واحدٍ ونُفضِّل بعضها على بعض } يعني : اختلاف الطُّعوم { في الأكل } وهو الثَّمر فمن حلوٍ وحامضٍ ، وجيِّدٍ ورديءٍ { إنَّ في ذلك لآيات } لدلالاتٍ { لقوم يعقلون } أهل الإِيمان الذين عقلوا عن الله تعالى .
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{ وإن تعجب } يا محمد من عبادتهم ما لا يضرُّ ولا ينفع ، وتكذيبك بعد البيان فتعجَّبْ أيضاً من إنكارهم البعث ، وهو معنى قوله : { فعجب قولهم أإذا كنا تراباً . . . } الآية . { وأولئك الأغلال } جمع غُلٍّ ، وهو طوقٌ تقيَّد به اليد إلى العنق .
{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } يعني : مشركي مكَّة حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاءً . يقول : ويستعجلونك بالعذاب الذي لم أُعاجلهم به ، وهو قوله : { قبل الحسنة } . يعني : إحسانه إليهم في تأخير العقوبة عنهم إلى يوم القيامة { وقد خلت من قبلهم المَثُلاتُ } وقد مضت من قبلهم العقوبات في الأمم المُكذِّبة ، فلم يعتبروا بها { وإنَّ ربَّك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } بالتَّوبة . يعني : يتجاوز عن المشركين إذا آمنوا { وإنَّ ربك لشديد العقاب } يعني : لمَنْ أصرَّ على الكفر .
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آيةٌ من ربِّه } هلاَّ أتانا بآيةٍ كما أتى به موسى من العصا واليد { إنما أنت منذر } بالنَّار لمَنْ عصى ، وليس إليك من الآيات شيءٌ { ولكلِّ قومٍ هاد } نبيٌّ وَدَاعٍ إلى الله عزَّ وجلَّ يدعوهم لما يُعطَى من الآيات ، لا بما يريدون ويتحكَّمون .
{ الله يعلم ما تحملُ كلُّ أنثى } من علقةٍ ومضغةٍ ، وزائدٍ وناقصٍ ، وذَكَرٍ وأنثى { وما تَغِيضُ الأرحام } تنقصه من مدَّة الحمل التي هي تسعة أشهر { وما تزداد } على ذلك { وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار } علم كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً .
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
{ عالم الغيب } ما غاب عن جميع خلقه { والشهادة } وما شهده الخلق { الكبير } العظيم القدر { المتعال } عمّا يقوله المشركون .
{ سواء منكم . . . } الآية . يقول : الجاهر بنطقه ، والمُضمر في نفسه ، والظَّاهر في الطُُّرقات ، والمستخفي في الظُّلمات ، علمُ الله سبحانه فيهم جميعاً سواءٌ ، والمستخفي معناه : المختفي ، والسَّارب : الظَّاهر المارُّ على وجهه .
{ له } لله سبحانه { معقبات } ملائكةٌ حفظةٌ تتعاقب في النُّزول إلى الأرض ، بعضهم باللَّيل ، وبعضهم بالنَّهار { من بين يديه } يدي الإِنسان { ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } أَيْ : بأمره سبحانه ممَّا لم يُقدَّر ، فإذا جاء القدر خلَّوا بينه وبينه . { إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم } لا يسلب قوماً نعمةً حتى يعملوا بمعاصيه { وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً } عذاباً { فلا مردَّ له } فلا ردَّ له { وما لهم من دونه من والٍ } يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم .
{ هو الذي يريكم البرق خوفاً } للمسافر { وطمعاً } للحاضر في المطر { وينشىء } ويخلق { السحاب الثقال } بالماء .
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{ ويسبح الرعد } وهو الملك المُوكَّل بالسَّحاب { بحمده } وهو ما يسمع من صوته ، وذلك تسبيحٌ لله تعالى { والملائكة من خيفته } أَيْ : وتُسبِّح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته { ويرسل الصواعق } وهي التي تَحْرِق من برق السَّحاب ، وينتشر على الأرض ضوؤُه { فيصيب بها من يشاء } كما أصاب أربد حين جادل النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وهو قوله : { وهم يجادلون في الله } والواو للحال ، وكان أربد جادل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ربِّنا ، أمن نحاسٍ أم حديد؟ فأحرقته الصَّاعقة { وهو شديد المحال } العقوبة أَي : القوَّة .
{ له دعوة الحق } لله من خلقه الدعوة الحقُّ ، وهي كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله . { والذين يدعون } يعني : المشركين يدعون { من دونه } الأصنام { لا يستجيبون لهم بشيء إلاَّ كباسط } إلاَّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه يشير إلى الماء ، ويدعوه إلى فيه { وما هو ببالغه } وما الماء ببالغ فاه بدعوته إيَّاه { وما دعاء الكافرين } عبادتهم الأصنام { إلاَّ في ضلال } هلاكٍ وبطلانٍ .
{ ولله يسجد مَنْ في السموات والأرض طوعاً } يعني : الملائكة والمؤمنين { وكرهاً } وهم مَنْ أُكرهوا على السُّجود ، فسجدوا لله سبحانه من خوف السَّيف ، واللَّفظ عامٌّ والمراد به الخصوص { وظلالهم بالغدو والآصال } كلُّ شخصٍ مؤمنٍ أو كافرٍ فإنَّ ظلَّه يسجد لله ، ونحن لا نقف على كيفية ذلك .
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
{ قل } يا محمد للمشركين : { من ربُّ السموات والأرض } ؟ ثمَّ أخبرهم فقل : { الله } لأنَّهم لا ينكرون ذلك ، ثمَّ ألزمْهم الحجَّة فقلْ : { أفاتخذتم من دونه أولياء } تولَّيتم غير ربِّ السَّماء والأرض أصناماً { لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرَّاً } ثمَّ ضرب مثلاً للذي يعبدها والذي يعبد الله سبحانه ، فقال : { قل هل يستوي الأعمى } المشرك { والبصير } المؤمن { أم هل تستوي الظلمات } الشِّرك { والنور } الإِيمان { أم جعلوا لله شركاء . . } الآية . يعني : أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله ، فتشابه خلق الشُّركاء بخلق الله عندهم؟ وهذا استفهامُ إنكارٍ ، أَيْ : ليس الأمرُ على هذا حتى يشتبه الأمر ، بل الله سبحانه هو المتفرِّد بالخلق ، وهو قوله : { قل الله خالق كلِّ شيء } .
{ أنزل من السماء ماءً } يعني : المطر { فسالت أودية } جمع وادٍ { بقدرها } بقدر ما يملأها . أراد بالماء القرآن ، وبالأودية القلوب ، والمعنى : أنزل قرآناً فقبلته القلوب بأقدارها منها ما رُزق الكثير ، ومنها ما رُزق القليل ، ومنها ما لم يُرزق شيئاً { فاحتمل السيل زبداً } وهو ما يعلو الماء { رابياً } عالياً فوقه ، والزَّبَد مَثلُ الكفر . يريد : إنَّ الباطل - وإنْ ظهر على الحقِّ في بعض الأحوال - فإنَّ الله سيمحقه ويُبطله ، ويجعل العاقبة للحقِّ وأهله ، وهو معنى قوله : { فأمَّا الزبد فيذهب جفاء } وهو ما رمى به الوادي { وأمَّا ما ينفع الناس } ممَّا ينبت المرعى { فيمكث } يبقى { في الأرض } ثمَّ ضرب مثلاً آخر ، وهو قوله : { وممَّا يوقدون عليه في النَّار } يعني : جواهر الأرض من الذَّهب والفضَّة والنُّحاس وغيرها ممَّا يدخل النَّار ، فتوقد عليها وتتخذ منها الحُلِيُّ ، وهو الذَّهب والفضَّة ، والأمتعة وهي للأواني ، يعني : النُّحاس والرَّصاص وغيرهما ، وهذا معنى قوله : { ابتغاء حلية أو متاعٍ زبدٌ مثله } أَيْ : مثل زبد الماء . يريد : إنَّ من هذه الجواهر بعضها خبث ينفيه الكير . { كذلك } كما ذُكر من هذه الأشياء { يضرب الله } مثل الحقِّ والباطل ، وهذه الآية فيها تقديمٌ وتأخير في اللَّفظ ، والمعنى ما أخبرتك به .
{ للذين استجابوا لربهم } أجابوه لى ما دعاهم إليه { الحسنى } الجنَّة { والذين لم يستجيبوا له } وهم الكفَّار { لو أنَّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } جعلوه فداء أنفسهم من العذاب { أولئك لهم سوء الحساب } وهو أن لا تُقبل منهم حسنة ، ولا يتجاوز عن سيئة .
{ أفمن يعلم أنَّ ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } نزلت في أبي جهل لعنه الله ، وحمزة رضي الله عنه { إنما يتذكر } يتَّعظ ويرتدع عن المعاصي { أولوا الألباب } يعني : المهاجرين والأنصار .
{ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } يعني : العهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم .
{ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } وهو الإِيمان بجميع الرُّسل .
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{ والذين صبروا } على دينهم وما أُمروا به { ابتغاء وجه ربِّهم } طلب تعظيم الله تعالى { ويدرؤون } يدفعون { بالحسنة } بالتَّوبة { السيئة } المعصية ، وهو أنَّهم كلَّما أذنبوا تابوا { أولئك لهم عقبى الدار } يريد : عقباهم الجنَّة .
{ جنات عدن يدخلونها ومَنْ صلح من آبائهم } ومَنْ صدَّق بما صدَّقوا به - وإن لم يعملْ مثل أعمالهم - يلحق بهم كرامةً لهم { والملائكة يدخلون عليهم من كلِّ باب } بالتَّحيَّة من الله سبحانه ، والهدايا .
{ سلامٌ عليكم } يقولون : سلامٌ عليكم ، والمعنى : سلَّمكم الله من العذاب { بما صبرتم } بصبركم في دار الدُّنيا عمَّا لا يحلُّ { فنعم عقبى الدار } فنعم العقبى عقبى داركم التي عملتم فيها ما أعقبكم الذي أنتم فيه .
{ والذين ينقضون . . . } الآية . مُفسَّرة في سورة البقرة .
{ الله يبسط الرزق } يُوسِّعه { لمن يشاء ويقدر } ويضيِّق { وفرحوا } يعني : مشركي مكة بما نالوا من الدُّنيا ، وبطروا { وما الحياة الدنيا في الآخرة } في حياة الآخرة أَيْ : بالقياس إليها { إلاَّ متاع } قليلٌ ذاهبٌ يُتمتَّع به ثمَّ يفنى .
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{ ويقول الذين كفروا لولا } هلاَّ { أنزل عليه آيةٌ من ربه } نزلت في مشركي مكَّة حين طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات { قل إنَّ الله يضلُّ مَنْ يشاء } عن دينه ، كما أضلَّكم بعدما أنزل من الآيات ، وحرمكم الاستدلال بها { ويهدي إليه } يرشد إلى دينه { مَنْ أناب } رجع إلى الحقِّ .
{ الذين آمنوا } بدلٌ من قوله : { مَنْ أناب } { وتطمئن قلوبهم بذكر الله } إذا سمعوا ذكر الله سبحانه وتعالى أحبُّوه واستأنسوا به { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } يريد : قلوب المؤمنين .
{ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم } وهي شجرةٌ غرسها الله سبحانه بيده . وقيل : فرحٌ لهم وقُرَّة أعينٍ .
{ كذلك } كما أرسلنا الأنبياء قبلك { أرسلناك في أمة } في قرنٍ { قد خلت } قد مضت { من قبلها أمم } قرونٌ { لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك } يعني : القرآن { وهم يكفرون بالرحمن } وذلك أنَّهم قالوا : ما نعرف الرَّحمن إلاَّ صاحب اليمامة { قل هو ربي } أَي : الرَّحمن الذي أنكرتم معرفته هو إلهي وسيِّدي { لا إله إلاَّ هو } .
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{ ولو أنَّ قرآناً . . . } الآية . نزلت حين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنْ كنت نبيَّاً كما تقول فسيِّر عنا جبال مكة ، فإنَّها ضيِّقةٌ واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نزرع ونغرس ، وابعث لنا آباءنا من الموتى يكلِّمونا أنَّك نبيٌّ ، فقال الله سبحانه : { ولو أنَّ قرآناً سيرت به الجبال } يريد : لو قضيت على أن لا يقرأ القرآن على الجبال إلاَّ سارت ، ولا على الأرض إلاَّ تخرَّقت بالعيون والأنهار ، وعلى الموتى أن لا يُكلَّموا؛ ما آمنوا لما سبق عليهم في علمي ، وهذا جواب " لو " وهو محذوف . { بل } دع ذلك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره فالأمر لله جميعاً ، لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا ، وإذا لم يشأ لم ينفع ما اقترحوا من الآيات ، وكان المسلمون قد أرادوا أن يُظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم آيةً ليجتمعوا على الإِيمان ، فقال الله : { أفلم ييئس الذين آمنوا } يعلم الذين آمنوا { أن لو يشاء الله } لهداهم من غير ظهور الآيات { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم وأعمالهم الخبيثة { قارعة } داهيةٌ تقرعهم من القتل والأسر ، والحرب ، والجدب { أو تحلُّ } يا محمد أنت { قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله } يعني : القيامة . وقيل : فتح مكَّة .
{ ولقد استهزىء برسل من قبلك } أُوذي وكُذِّب { فأمليت للذين كفروا } أطلتُ لهم المدَّة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية { ثمَّ أخذتهم } بالعقوبة { فكيف كان عقاب } كيف رأيت ما صنعتُ بمن استهزأ برسلي ، كذلك أصنع بمشركي قومك .
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{ أفمن هو قائم على كلِّ نفس بما كسبت } أَيْ : بجرائه . يعني : متولٍّ لذلك ، كما يقال : قام فلان بأمر كذا : إذا كفاه وتولاَّه ، والقائم على كلِّ نفس هو الله تعالى والمعنى : أفمن هو بهذه الصِّفة كمَنْ ليس بهذه الصِّفة من الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع؟ وجواب هذا الاستفهام في قوله : { وجعلوا لله شركاء قل سموهم } بإضافة أفعالهم إليهم إن كانوا شركاء لله تعالى ، كما يضاف إلى الله أفعاله بأسمائه الحسنى ، نحو : الخالق والرَّازق ، فإن سمَّوهم قل أتنبئونه { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } أَيْ : أتخبرون الله بشريكٍ له في الأرض ، وهو لا يعلمه ، بمعنى : أنَّه ليس [ له شريك ] { أم بظاهرٍ من القول } يعني : أم تقولون مجازاً من القول وباطلاً لا حقيقة له ، وهو كلامٌ في الظَّاهر ، ولا حقيقة له في الباطن ، ثمَّ قال : { بل } أَيْ : دع ذكر ما كنَّا فيه { زين للذين كفروا مكرهم } زيَّن الشَّيطان لهم الكفر { وصدوا عن السبيل } وصدَّهم الله سبحانه عن سبيل الهدى { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بالقتل والأسر { ولعذاب الآخرة أشقُّ } أشدُّ وأغلظ { وما لهم من الله } من عذاب الله { من واق } حاجزٍ ومانعٍ .
{ مثل الجنة } صفة الجنَّة { التي وعد المتقون } . وقوله : { أكلها دائم } يريد : إنَّ ثمارها لا تنقطع كثمار الدُّنيا { وظلها } لا يزول ولا تنسخه الشَّمس .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{ والذين آتيناهم الكتاب } يعني : مؤمني أهل الكتاب { يفرحون بما أنزل إليك } وذلك أنَّهم ساءهم قلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التَّوراة ، فلما أنزل الله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } فرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب ، وكفر المشركون بالرَّحمن ، وقالوا : ما نعرف الرَّحمن إلاَّ رحمان اليمامة ، وذلك قوله : { ومن الأحزاب } يعني : الكفَّار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم { مَنْ ينكر بعضه } يعني : ذكر الرَّحمن .
{ وكذلك } وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلسانهم { أنزلناه حُكْماً عربياً } يعني : القرآن؛ لأنَّه به يحكم ويفصل بين الحقِّ والباطل ، وهو بلغة العرب { ولئن اتبعت أهواءهم } وذلك أنَّ المشركين دعوه إلى ملَّة آبائه ، فتوعَّده الله سبحانه على ذلك بقوله : { ما لك من الله من ولي ولا واق } .
{ ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً } ينكحونهنَّ { وذرية } وأولاداً أنسلوهم ، وذلك أنَّ اليهود عيَّرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة النِّساء ، وقالوا : ما له همَّةٌ إلاَّ النِّساء والنِّكاح { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاَّ بإذن الله } أَيْ : بإطلاقه له الآية ، وهذا جوابٌ للذين سألوه أن يوسِّع لهم مكَّة . { لكل أجل كتاب } لكلِّ أجلٍ قدَّره الله ، ولكلِّ أمرٍ قضاه كتابٌ أثبت فيه ، فلا تكون آيةٌ إلاَّ بأجلٍ قد قضاه الله تعالى في كتابٍ .
{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمُّ الكتاب } اللَّوح المحفوظ ، يمحو منه ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وظاهر هذه الآية على العموم ، وقال قوم : إلاَّ السَّعادة والشَّقاوة ، والموت والرِّزق ، والخَلق والخُلق .
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ وإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم } من العذاب { أو نتوفينك } قبل ذلك { فإنما عليك البلاغ } يريد : قد بلَّغت { وعلينا الحساب } إليَّ مصيرهم فأجازيهم ، أَيْ : ليس عليك إلاَّ البلاغ كيف ما صارت حالهم .
{ أَوَلَمْ يروا } يعني : مشركي مكَّة { أَنَّا نأتي الأرض } نقصد أرض مكَّة { ننقصها من أطرافها } بالفتوح على المسلمين . يقول : أولم ير أهل مكَّة أنَّا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ما حولها من القرى ، أفلا يخافون أن تنالهم يا محمد { والله يحكم } بما يشاء { لا معقب لحكمه } لا أحدٌ يتتبع ما حكم به فيغيِّره ، والمعنى : لا ناقض لحكمه ولا رادَّ له { وهو سريع الحساب } أَي : المجازاة .
{ وقد مكر الذين من قبلهم } يعني : كفَّار الأمم الخالية ، مكروا بأنبيائهم { فلله المكر جميعاً } يعني : إنَّ مكر الماكرين له ، أَيْ : هو من خلقه ، فالمكر جميعاً مخلوق له ليس يضرُّ منه شيءٌ إلاَّ بإذنه { يعلم ما تكسب كلُّ نفس } جميع الأكساب معلومٌ له { وسيعلم الكافر } وهو اسم الجنس { لمن } العاقبة بالجنَّة ، وقوله تعالى :
{ ومن عند علم الكتاب } هم مؤمنو أهل الكتابين ، وكانت شهادتهم قاطعةً لقول أهل الخصوم .
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
{ الر } أنا الله أرى . هذا { كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } من الشِّرك إلى الإِيمان { بإذن ربهم } بقضاء ربِّهم؛ لأنَّه لا يهتدي مهتدٍ إلاَّ بإذن الله سبحانه ، ثمَّ بيَّن ما ذلك النُّور فقال : { إلى صراط العزيز الحميد } .
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ الذين يستحبون } يُؤثرون ويختارون { الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله } ويمنعون النَّاس عن دين الله { ويبغونها عوجاً } مضى تفسيره { أولئك في ضلال } في خطأ { بعيد } عن الحقِّ .
{ وما أرسلنا من رسول إلاَّ بلسان قومه } بلغة قومه ليفهموا عنه ، وهو معنى قوله : { ليبيِّن لهم فيضل الله من يشاء } بعد التَّبيين بإيثاره الباطل { ويهدي مَنْ يشاء } باتباع الحقِّ .
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } بالبراهين التي دلَّت على صحَّة نبوَّته { أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور } من الشِّرك إلى الإِيمان { وذكرهم } وَعِظهم { بأيام الله } بنعمه ، أَي : بالتَّرغيب والتَّرهيب ، والوعد والوعيد { إنَّ في ذلك } التَّذكير بأيَّام الله { لآيات } لدلالاتٍ { لكلِّ صبَّار } على طاعة الله { شكور } لأنعمه ، والآية الثانية مفسَّرة في سور البقرة ، وقوله :
{ وإذ تأذَّن } معطوفٌ على قوله { إذ أنجاكم } والمعنى : وإذ أعلم ربُّكم { لئن شكرتم } وحَّدْتم وأطعتم { لأزيدنَّكم } ممَّا يجب الشُّكر عليه ، وهو النِّعمة { ولئن كفرتم } جحدتم حقِّي وحقَّ نعمتي { إنَّ عذابي لشديد } تهديدٌ بالعذاب على كفران النِّعمة .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
{ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم } يعني : من بعد هؤلاء الذين أهلكهم الله { لا يعلمهم إلاَّ الله } لكثرتهم ، ولا يعلم عدد تلك الأمم وتعيينها إلاَّ الله { جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم } أيدي أنفسهم { في أفواههم } أَيْ : ثقل عليهم مكانهم ، فعضُّوا على أصابعهم من شدَّة الغيظ .
{ قالت رسلهم أفي الله شكٌّ } أفي توحيد الله سبحانه شكٌّ؟ وهذا استفهامٌ معناه الإنكار ، أيْ : لا شكَّ في ذلك ، ثمَّ وصف نفسه بما يدلُّ على وحدانيته ، وهو قوله : { فاطر السموات والأرض يدعوكم } إلى طاعته بالرُّسل والكتب { ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمَّى } لا يعاجلكم بالعقوبة ، والمعنى : إن لم تجيبوا عوجلتم ، وباقي الآية وما بعدها إلى قوله :
{ ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } ظاهر ، ومعنى : { خاف مقامي } معناه : خاف مقامه بين يدي ، { وخاف وعيدِ } : ما أوعدت من العذاب .
{ واستفتحوا } واستنصروا الله سبحانه على قومهم ، ففازوا بالنَّصر { وخاب كلُّ جَبَّار } متكبِّرٍ عن طاعة الله سبحانه { عنيدٍ } مجانب للحقَّ .
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
{ من ورائه جهنم } أَيْ : أمامه جهنَّم فهو يردها { ويُسقى من ماء صديد } وهو ما يسيل من الجرح مُختلطاً بالدَّم والقيح .
{ يتجرَّعه } يتحسَّاه بالجرع لا بمرَّةٍ لمرارته { ولا يكاد يسيغه } لا يجيزه في الحلق إلاَّ بعد إبطاءٍ { ويأتيه الموت } أَيْ : أسباب الموت من البلايا التي تصيب الكافر في النَّار { من كلِّ مكان } من كلِّ شعرةٍ في جسده { وما هو بميت } موتاً تنقطع معه الحياة { ومن ورائه } ومن بعد ذلك العذاب { عذاب غليظ } متَّصل الآلام ، ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكفَّار فقال :
{ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } أَيْ : شديد هبوب الرِّيح ، ومعنى الآية : إنَّ كلَّ ما تقرَّب به الكافر إلى الله تعالى فَمُحْبَطٌ غيرُ منتفعٍ به لأنَّهم أشركوا فيها غير الله سبحانه وتعالى ، كالرَّماد الذي ذرته الرِّيح وصار هباءً لا يُنتفع به ، فذلك قوله : { لا يقدرون مما كسبوا على شيء } أَيْ : لا يجدون ثواب ما عملوا . { ذلك هو الضلال البعيد } يعني : ضلال أعمالهم وذهابها ، والمعنى : ذلك الخسران الكبير .
{ ألم تر } يا محمد { أنَّ الله خلق السموات والأرض بالحق } أَيْ : بقدرته وصنعه وعلمه وإرادته ، وكلُّ حقٌّ { إن يشأ يذهبكم } يُمتكم أيُّها الكفَّار { ويأت بخلق جديد } خيرٍ منكم وأطوع .
{ وما ذلك على الله بعزيز } بممتنعٍ شديدٍ .
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{ وبرزوا لله جميعاً } خرجوا من قبورهم إلى المحشر { فقال الضعفاء } وهم الأتباع لأكابرهم الذين { استكبروا } عن عبادة الله : { إنَّا كنَّا } في الدُّنيا { لكم تبعاً فهل أنتم مغنون } دافعون { عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم } أَيْ : إنَّما دعوناكم إلى الضَّلال لأنَّا كنَّا عليه ، ولو أرشدنا الله لأرشدناكم .
{ وقال الشيطان } يعني : إبليس { لما قضي الأمر } فصار أهل الجنَّة في الجنَّة ، وأهل النَّار في النَّار ، وذلك أنَّ أهل النَّار حينئذٍ يجتمعون باللائمة على إبليس ، فيقوم خطيباً ويقول : { إنَّ الله وعدكم وعد الحق } يعني : كون هذا اليوم ، فصدقكم وعده { ووعدتكم } أنَّه غير كائنٍ { فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان } أَيْ : ما أظهرت لكم حجَّةً على ما وعدتكم { إلاَّ أن دعوتكم } لكن دعوتكم { فاستجبتم لي } فصدَّقتموني { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } حيث أجبتموني من غير برهانٍ { ما أنا بمصرخكم } بمغيثكم { وما أنتم بمصرخي إني كفرتُ بما أَشْرَكْتُمونِ من قبل } بإشراككم إيَّاي مع الله سبحانه في الطَّاعة ، إنَّي جحدت أن أكون شريكاً لله فيما أشركتموني { إنَّ الظالمين } يريد : المشركين . وقوله :
{ تحيتهم فيها سلام } يحييهم الله سبحانه بالسَّلام ، ويحيي بعضهم بعضاً بالسَّلام .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{ ألم تر كيف ضرب الله مثلاً } بيَّن شبهاً ، ثمَّ فسَّره فقال : { كلمة طيبة } يريد : لا إله إلاَّ الله { كشجرة طيبة } يعني : النَّخلة { أصلها } أصل هذه الشَّجرة الطَّيِّبة { ثابت } في الأرض { وفرعها } أعلاها عالٍ { في السماء } .
{ تؤتي } هذه الشَّجرة { أكلها } ثمرها { كلَّ حين } كلَّ وقتٍ في جميع السَّنة ، ستة أشهرٍ طلعٌ رخص ، وستة أشهرٍ رطبٌ طيِّبٌ ، فالانتفاع بالنَّخلة دائمٌ في جميع السَّنة . كذلك الإِيمان ثابتٌ في قلب المؤمن ، وعمله ، وقوله ، وتسبيحه عالٍ مرتفع إلى السَّماء ارتفاع فروع النَّخلة ، وما يكتسبه من بركة الإِيمان وثوابه كما ينال من ثمرة النَّخلة في أوقات السَّنة كُلِّها من الرُّطَب والبسر والتَّمر { ويضرب الله الأمثال للناس } يريد : أهل مكَّة { لعلَّهم يتذكرون } لكي يتَّعظوا .
{ ومثل كلمة خبيثة } يعني : الشِّرك بالله سبحانه { ك } مثل { شجرة خبيثة } وهي الكشوث { اجتثت } انتزعت واستؤصلت ، والكشوت كذلك { من فوق الأرض } لم يرسخ فيها ، ولم يضرب فيها بعرق . { ما لها من قرار } مستقرٌّ في الأرض . يريد : إنَّ الشَّرك لا ينتفع به صاحبه وليس له حجَّةٌ ولا ثباتٌ كهذه الشَّجرة .
{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } وهو قول لا إله إِلاَّ الله { في الحياة الدنيا } على الحقَّ { وفي الآخرة } يعني : في القبر يُلقِّنهم كلمة الحقِّ عند سؤال الملكين { ويضل الله الظالمين } لا يُلقِّن المشركين ذلك ، حتى إذا سُئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري { ويفعل الله ما يشاء } من تلقين المؤمنين الصَّواب وإضلال الكافرين .
{ ألم تر إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً } بدَّلوا ما أنعم الله سبحانه عليهم به من الإِيمان ببعث الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً حيث كفروا به { وأحلوا قومهم } الذين اتَّبعوهم { دار البوار } الهلاك ، ثمَّ فسَّرها فقال :
{ جهنم يصلونها وبئس القرار } أَي : المقرُّ .
{ وجعلوا لله أنداداً } يعني : الأصنام { ليضلوا عن سبيله } النَّاس عن دين الله { قل تمتعوا } بدنياكم { فإنَّ مصيركم إلى النار } وقوله :
{ لا بيع فيه } لا فداء فيه { ولا خلال } مخالة . يعني : يوم القيامة ، وهو يوم لا بيعٌ فيه ، ولا شراءٌ ، ولا مُخالَّةٌ ، ولا قرابةٌ ، إنَّما هي أعمالٌ يُثاب بها قومٌ ، ويعاقب عليها آخرون .
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
{ وسخر لكم الشمس والقمر } ذلَّلهما لما يُراد منهما { دائبين } مقيمين على طاعة الله سبحانه وتعالى في الجري { وسخر لكم الليل } لتسكنوا فيه { والنهار } لتبتغوا من فضله ومعنى " لكم " في هذه الآية لأجلكم ، ليس أنَّها مسخَّرة لنا ، هي مسخَّرةٌ لله سبحانه لأجلنا [ ويجوز أنَّها مسخَّرة لنا لانتفاعنا بها على الوجه الذي نريد ] .
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ وإن تعدوا نعمة الله } إنعام الله عليكم { لا تحصوها } لا تطيقوا عدَّها { إن الإنسان } يعني : الكافر { لظلوم } لنفسه { كفَّار } نعمة ربِّه . وقوله :
{ واجنبني } أَيْ : بعِّدني واجعلني من على جانبٍ بعيدٍ .
{ ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس } أَيْ : ضلُّوا بسببها { فمن تبعني } على ديني { فإنه مني } من المتدينين بديني { ومن عصاني } فيما دون الشِّرك { فإنك غفور رحيم } .
{ ربنا إني أسكنت من ذريتي } يعني : إسماعيل عليه السَّلام { بوادٍ غير ذي زرعٍ } مكَّة حرسها الله { عند بيتك المحرَّم } الذي مضى في علمك أنَّه يحدث في هذا الوادي { ربنا ليقيموا الصلاة } ليعبدوك { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } تريدهم وتحنُّ إليهم لزيارة بيتك { وارزقهم من الثمرات } ذُكر تفسيره في سورة البقرة { لعلَّهم يشكرون } كي يُوحِّدوك ويُعظِّموك .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{ الحمد لله الذي وهب لي } أعطاني { على الكبر إسماعيل } لأنَّه وُلد له وهو ابن تسع وتسعين { وإسحاق } وُلد له وهو ابن مائة سنة واثنتي عشرة سنة . وقوله :
{ ومن ذريتي } أَيْ : واجعل منهم مَنْ يقيم الصَّلاة ، وقوله :
{ ولوالدي } استغفر لهما بشرط الإِيمان .
{ ولا تحسبن الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون } يريد : المشركين من أهل مكَّة { إنما يؤخرهم } فلا يعاقبهم في الدُّنيا { ليوم تشخص } تذهب فيه أبصار الخلائق إلى الهواء حيرةً ودهشةً .
{ مهطعين } مسرعين منطلقين إلى الداعي { مقنعي } رافعي { رؤوسهم } إلى السماء لا ينظر أحدٌ إلى أحدٍ { لا يرتدُّ إليهم طرفهم } لا ترجع إليهم أبصارهم من شدَّة النَّظر فهي شاخصةٌ { وأفئدتهم هواء } وقلوبهم خاليةٌ عن العقول بما ذهلوا من الفزع . وقوله :
{ فيقول الذين ظلموا } أَيْ : أشركوا { ربنا أخرنا إلى أجل قريب } استمهلوا مدَّةً يسيرةً كي يجيبوا الدَّعوة ، فيقال لهم : { أَوَلَمْ تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } حلفتم في الدُّنيا أنَّكم لا تُبعثون ولا تنتقلون إلى الآخرة ، وهو قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت . . . } الآية .
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{ وسكنتم } في الدُّنيا { في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } يعني : الأمم الكافرة { وتبيَّن لكم كيف فعلنا بهم } فلم تنزجروا { وضربنا لكم الأمثال } في القرآن فلم تعتبروا .
{ وقد مكروا مكرهم } يعني : مكرهم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وما همُّوا به من قتله أو نفيه { وعند الله مكرهم } هو عالمٌ به لا يخفى عليه ما فعلوا ، فهو يجازيهم عليه { وإن كان } وما كان { مكرهم لتزول منه الجبال } يعني : أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أَيْ : ما كان مكرهم ليبطل أمراً هو في ثبوته وقوَّته كالجبال .
{ فلا تحسبن الله } يا محمد { مخلف وعده رسله } ما وعدهم من الفتح والنَّصر { إنَّ الله عزيز } منيع { ذو انتقام } من الكفَّار يجازيهم بما كان من سيئاتهم .
{ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات } تُبدَّل الأرض بأرضٍ كالفضَّة بيضاء نقيَّة يُحشر النَّاس عليها ، والسَّماء من ذهبٍ { وبرزوا } وخرجوا من القبور ، كقوله تعالى : { وبرزوا لله جميعاً } .
{ وترى المجرمين } الذين زعموا أنَّ لله شريكاً وولداً يوم القيامة { مقرنين } موصولين بشياطينهم . كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ في غلٍّ ، والأصفاد : سلاسل الحديد والأغلال .
{ سرابيلهم } قُمصهم { من قطران } وهو الهِناء الذي يُطلى به الإِبل ، وذلك أبلغ لاشتعال النَّار فيهم { وتغشى وجوههم } وتعلو وجوههم { النار } .
{ ليجزي الله كلَّ نفس } من الكفَّار { ما كسبت } أَيْ : ليقع لهم الجزاء من الله سبحانه بما كسبوا .
{ هذا } القرآن { بلاغ للناس } أَيْ : أنزلناه إليك لتبلِّغهم { ولينذروا به } ولتنذرهم أنت يا محمد { وليعلموا } بما ذُكر فيه من الحجج { أنما هو إله واحدٌ وليذكر } وليتَّعظ { أولوا الألباب } أهل اللُّبِّ والعقل والبصائر .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
{ الر } أنا الله أرى { تلك آيات } هذه آيات { الكتاب } الذي هو قرآن مبين للأحكام .
{ ربما يودُّ . . . } الآية . نزلت في تمنِّي الكفَّار الإِسلام عند خروج مَنْ يخرج من النَّار .
{ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } يقول : دع الكفَّار يأخذوا حظوظهم من دنياهم { ويلههم الأمل } يشغلهم الأمل عن الأخذ بحظِّهم من الإِيمان والطَّاعة { فسوف يعلمون } إذا وردوا القيامة وبال ما صنعوا .
{ وما أهلكنا من قرية } يعني : أهلها { إلاَّ ولها كتابٌ معلوم } أجلٌ ينتهون إليه . يعني : إنَّ لأهل كلِّ قرية أجلاً مؤقَّتاً لا يُهلكهم حتى يبلغوه .
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
{ ما تسبق من أمة أجلها } أيْ : ما تتقدَّم الوقت الذي وُقَّت لها { وما يستأخرون } لا يتأخَّرون عنه .
{ وقالوا يا أيُّها الذي نُزِّل عليه الذكر } أَي : القرآن . قالوا هذا استهزاءً .
{ لو ما } هلا { تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين } أنَّك نبيٌّ ، فقال الله عزَّ وجلَّ :
{ ما ننزل الملائكة إلاَّ بالحق } أَيْ : بالعذاب { وما كانوا إذاً منظرين } أَيْ : لو نزلت الملائكة لم يُنظروا ولم يُمهلوا .
{ إنا نحن نزلنا الذِّكر } القرآن { وإنا له لحافظون } من أن يُزاد فيه أو يُنقص .
{ ولقد أرسلنا من قبلك } أَيْ : رسلاً { في شيع الأوَّلين } أَيْ : فِرَقِهم .
{ وما يأتيهم من رسول إلاَّ كانوا به يستهزئون } تعزيةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم .
{ كذلك } أَيْ : كما فعلوا { نسلكه } ندخل الاستهزاء والشِّرك والضَّلال { في قلوب المجرمين } ثمَّ بيَّن أَيَّ شيء الذي أدخل في قلوبهم ، فقال :
{ لا يؤمنون به } أَيْ : بالرَّسول { وقد خلت } مضت { سنَّة الأولين } بتكذيب الرُّسل ، فهؤلاء المشركون يقتفون آثارهم في الكفر .
{ ولو فتحنا عليهم } على هؤلاء المشركين { باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون } فطفقوا فيه يصعدون لجحدوا ذلك وقالوا : { إنما سكِّرت أبصارنا } .
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{ إنما سكِّرت أبصارنا } أَيْ : سُدَّت بالسِّحر ، فتتخايل لأبصارنا غير ما نرى { بل نحن قوم مسحورون } سحرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا نبصر .
{ ولقد جعلنا في السماء بروجاً } يعني : منازل الشَّمس والقمر { وزيناها } بالنُّجوم للمعتبرين والمستدلِّين على توحيد صانعها .
{ وحفظناها من كلّ شيطان رجيم } مرميٍّ بالنُّجوم .
{ إلاَّ من استرق السمع } يعني : الخطفة اليسيرة { فأتبعه } لحقه { شهاب } نارٌ { مبين } ظاهرٌ لأهل الأرض .
{ والأرض مددناها } بسطناها على وجه الماء { وألقينا فيها رواسي } جبالاً ثوابت لئلا تتحرَّك بأهلها { وأنبتنا فيها } في الجبال { من كلِّ شيء موزون } كالذَّهب والفضَّة والجواهر .
{ وجعلنا لكم فيها معايش } من الثِّمار والحبوب { ومَنْ لستم له برازقين } العبيد والدَّوابَّ والأنعام ، تقديره : وجعلنا لكم فيها معايش وعبيداً وإماءً ودوابَّ نرزقهم ولا ترزقونهم .
{ وإن من شيء } يعني : من المطر { إلاَّ عندنا خزائنه } أَيْ : في حكمنا وأمرنا { وما ننزله إلاَّ بقدر معلوم } لا ننقصه ولا نزيده ، غير أنَّه يصرفه إلى مَنْ يشاء ، حيث شاء ، كما شاء .
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
{ وأرسلنا الرياح لواقح } السَّحاب تَمُجُّ الماء فيه ، فهي لواقح ، بمعنى : ملقحاتٌ . وقيل : لواقح : حوامل؛ لأنَّها تحملُ الماء والتُّراب والسَّحاب { فأسقيناكموه } جعلناه سقياً لكم { وما أنتم له } لذلك الماء المنزل من السَّماء { بخازنين } بحافظين ، أَيْ : ليست خزائنه بأيديكم .
{ وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون } إذا مات جميع الخلائق .
{ ولقد علمنا المستقدمين . . . } الآية . حضَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصَّف الأوَّل في الصَّلاة ، فازدحم النَّاس عليه ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية . يقول : قد علمنا جميعهم ، وإنَّما نجزيهم على نيَّاتهم .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{ ولقد خلقنا الإنسان } آدم { من صلصال } طينٍ منتنٍ { من حمأ } طينٍ أسود { مسنون } متغيِّر الرَّائحة .
{ والجانَّ } أبا الجنِّ { خلقناه من قبل } خَلْقِ آدم { من نار السموم } وهي نارٌ لا دخان لها .
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
{ فإذا سويته } عدَّلت صورته { ونفخت فيه } وأجريت فيه { من روحي } المخلوقة لي { فقعوا } فخرُّوا { له ساجدين } سجود تحيَّةٍ .
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
{ وإنَّ عليك اللعنة . . . } الآية . يقول : يلعنك أهل السَّماء وأهل الأرض إلى يوم الجزاء ، فتحصل حينئذٍ من عذاب النَّار .
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
{ إلى يوم الوقت المعلوم } يعني : النَّفخة الأولى حين يموت الخلائق .
{ قال رب بما أغويتني } أَيْ : بسبب إغوائك إيَّاي { لأُزَيِّنَنَّ لهم } لأولاد آدم الباطل حتى يقعوا فيه .
{ إلاَّ عبادك منهم المخلصين } أَيْ : المُوحِّدين المؤمنين الذي أخلصوا دينهم عن الشِّرك .
{ قال هذا صراط عليّ } هذا طريق عليَّ { مستقيم } مرجعه إليَّ ، فأجازي كلاً بأعمالهم . يعني : طريق العبوديَّة .
{ إنَّ عبادي } يعني : الذين هداهم واجتباهم { ليس لك عليهم سلطانٌ } قوَّةٌ وحجَّةٌ في إغوائهم ، ودعائهم إلى الشِّرك والضَّلال .
{ وإنًّ جهنم لموعدهم أجمعين } يريد : إبليس ومَنْ تبعه من الغاوين .
{ لها } لجهنم { سبعة أبواب } سبعة أطباقٍ ، طبقٌ فوق طبقٍ { لكلِّ باب منهم } من أتباع إبليس { جزء مقسوم } .
{ إنَّ المتقين } للفواحش والكبائر { في جنات وعيون } يعين : عيون الماء والخمر .
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{ ادخلوها بسلامٍ } بسلامةٍ { آمنين } من سخط الله سبحانه وعذابه .
{ ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ } ذكرناه في سورة الأعراف { إخواناً } متآخين { على سرر } جمع سرير { متقابلين } لا يرى بعضهم قفا بعض .
{ لا يمسهم } لا يصيبهم { فيها نصب } إعياءٌ .
{ نبىء عبادي } أخبر أوليائي { أني أنا الغفور } لأوليائي { الرحيم } بهم .
{ وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم } لأعدائي .
{ ونبئهم عن ضيف إبراهيم } يعني : الملائكة الذين أتوه في صورة الأضياف .
{ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً } سلَّموا سلاماً ف { قال } إبراهيم : { إنَّا منكم وجلون } فَزِعُون .
{ قالوا : لا توجل } : لا تفزع . وقوله :
{ على أن مسَّني الكبر } أَيْ : على حالة الكبر { فبم تبشرون } استفهامُ تعجُّبٍ كأنَّه عجب من الولد على كبره .
{ قالوا بشرناك بالحق } بما قضاه الله أن يكون { فلا تكن من القانطين } الآيسين .
{ قال : ومَنْ يقنط } ييئس { من رحمة ربِّه إلاَّ الضالون } المكذِّبون .
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{ قال : فما خطبكم } ما شأنكم وما الذي جئتم له؟
{ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } يعني : قوم لوط .
{ إلاَّ آل لوط } أتباعه الذين كانوا على دينه . وقوله :
{ قدَّرنا } قضينا ودبَّرنا أنَّها تتخلَّف وتبقى مع مَنْ بقي حتى تهلك .
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
{ منكرون } أَيْ : غير معروفين .
{ قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } بالعذاب الذي كانوا يشكُّون في نزوله .
{ وأتيناك بالحق } بالأمر الثَّابت الذي لا شكَّ فيه من عذاب قومك .
{ فأسر بأهلك } مُفسَّرٌ في سورة هود . { واتبع أدبارهم } امش على آثارهم ببناتك وأهلك لئلا يتخلَّف منهم أحدٌ { ولا يلتفت منكم أحد } لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من العذاب { وامضوا حيث تؤمرون } حيث يقول لكم جبريل عليه السَّلام .
{ وقضينا إليه } أوحينا إليه وأخبرناه { ذلك الأمر } الذي أخبرته الملائكة إبراهيم من عذاب قومه وهو { أنَّ دابر هؤلاء } أَيْ : أواخر مَنْ تبقَّى منهم { مقطوع } مُهلَكٌ { مصبحين } داخلين في وقت الصُّبح . يريد : إنَّهم مهلكون هلاك الاستئصال في ذلك الوقت .
{ وجاء أهل المدينة } مدينة قوم لوط ، وهي سذوم { يستبشرون } يفرحون طمعاً منهم في ركوب المعاصي والفاحشة حيث أُخبروا أنَّ في بيت لوطٍ مُرداً حساناً ، فقال لهم لوط :
{ إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون } عندهم بقصدكم إيَّاهم ، فيعلموا أنَّه ليس لي عندكم قدرٌ .
{ واتقوا الله ولا تخزون } مذكورٌ في سورة هود .
{ قالوا أَوَلَمْ ننهك عن العالمين } عن ضيافتهم؛ لأنَّا نريد منهم الفاحشة ، وكانوا يقصدون بفعلهم الغرباء .
{ قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين } هذا الشَّأن . يعني : اللَّذة وقضاء الوطر . يقول : عليكم بتزوجهنَّ ، أراد أن يقي أضيافه ببناته .
{ لعمرك } بحياتك يا محمد { إنهم } إنَّ قومك { لفي سكرتهم يعمهون } في ضلالتهم يتمادون . وقيل : يعني : قوم لوط .
{ فأخذتهم الصيحة } صاح بهم جبريل عليه السَّلام صيحةً أهلكتهم { مشرقين } داخلين في وقت شروق الشَّمس ، وذلك أنَّ تمام الهلاك كان مع الإِشراق .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
{ للمتوسمين } أَي : المُتفرِّسين المُتثبِّتين في النَّظر حتى يعرفوا حقيقة سمة الشَّيء .
{ وإنها } يعني : مدينة قوم لوط { لبسبيل مقيم } على طريق قومك إلى الشَّام ، وهو طريقٌ لا يندرس ولا يخفى .
{ إنَّ في ذلك لآية للمؤمنين } لعبرةً للمصدِّقين . يعني : إنَّ المؤمنين اعتبروا بها .
{ وإن كان أصحاب الأيكة } قوم شعيب ، وكانوا أصحاب غياضٍ وأشجار .
{ فانتقمنا منهم } بالعذاب . أخذهم الحرُّ أيَّاماً ، ثمَّ اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا . { وإنَّهما } يعني : الأيكة ومدينة قوم لوطٍ { لبإمامٍ مبين } لبطريقٍ واضحٍ .
{ ولقد كذَّب أصحاب الحجر } يعني : قوم ثمود ، والحِجر اسم واديهم { المرسلين } يعين : صالحاً ، وذلك أنَّ مَنْ كذَّب نبيَّاً فقد كذَّب جميع الرُّسل .
{ وآتيناهم آياتنا } يعني : ما أظهر لهم من الآيات في النَّاقة .
{ وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً } لطول عمرهم كان لا يبقى معهم السُّقوف ، فاتَّخذوا كهوفاً من الجبال بيوتاً { آمنين } من أن يقع عليهم .
{ فأخذتهم الصيحة } صحية العذاب { مصبحين } حين دخلوا في وقت الصُّبح .
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{ فما أغنى عنهم } ما دفع العذاب { ما كانوا يكسبون } من الأموال والأنعام .
{ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلاَّ بالحق } أي : للثَّواب والعقاب . أُثيب مَنْ آمن بي وصدَّق رسلي ، وأعاقب مَنْ كفر بي ، والموعد لذلك السَّاعة ، وهو قوله تعالى : { وإنَّ الساعة لآتية } أَيْ : إنَّ القيامة تأتي ، فيجازى المشركون بقبيح أعمالهم { فاصفح } عنهم { الصفح الجميل } أَيْ : أعرض إعراضاً بغير فحشٍ ولا جزعٍ .
{ إن ربك هو الخلاق العليم } بما خلق .
{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } يعني : الفاتحة ، وهي سبع آيات ، وتثنى في كلِّ صلاةٍ . امتنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه السُّورة ، كما امتنَّ عليه بجميع القرآن حين قال : { والقرآن العظيم } أي : العظيم القدر .
{ لا تمدنَّ عينيك إلى ما متعنا به } نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرَّغبة في الدُّنيا ، فحظر عليه أن يمدَّ عينيه إليها رغبةً فيها . وقوله : { أزواجاً منهم } أَيْ : أصنافاً من الكفَّار ، كالمشركين ، واليهود ، وغيرهم . يقول : لا تنظر إلى ما متَّعناهم به في الدُّنيا { ولا تحزن عليهم } إن لم يؤمنوا { واخفض جَناحَكَ للمؤمنين } ليِّن جانبك وارفق بهم .
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{ وقل إني أنا النذير المبين } أنذركم عذاب الله سبحانه ، وأُبيِّن لكم ما يقرِّبكم إليه .
{ كما أنزلنا } أَيْ : عذابنا { على المقتسمين } وهم الذين اقتسموا طرق مكة يصدُّون الناس عن الإِيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى بهم خزياً ، فماتوا شرَّ ميتةٍ .
{ الذين جعلوا القرآن عضين } جزَّؤوه أجزاءً ، فقالوا : سحرٌ ، وقالوا : أساطير الأولين ، وقالوا : مفترى .
{ فوربك لنسألنهم أجمعين } .
{ عما كانوا يعملون } أَيْ : يفترون من القول في القرآن . يريد : لنسألنَّهم سؤال توبيخٍ وتقريعٍ .
{ فاصدع بما تؤمر } يقول : أَظهرْ ما تؤمر ، واجهر بأمرك ، { وأعرض عن المشركين } لا تُبالِ بهم ، ولم يزل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية .
{ إنا كفيناك المستهزئين } وكانوا خمسة نفرٍ : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، سلَّط الله سبحانه عليهم جبريل عليه السَّلام حتى قتل كلَّ واحدٍ منهم بآفةٍ ، وكفى نبيه عليه السَّلام شرَّهم .
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ فسبح بحمد ربك } قل : سبحان الله وبحمده { وكن من الساجدين } المصلِّين .
{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أَي : الموت .
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{ أتى أمر الله } أَيْ : عذابه لمَنْ أقام على الشِّرك ، أَيْ : قد قَرُبَ ذلك { فلا تستعجلوه } فإنَّه نازلٌ بكم لا محالة { سبحانه } براءةٌ له من السُّوء { وتعالى } ارتفع بصفاته { عما يشركون } عن إشراكهم .
{ ينزل الملائكة } يعني : جبريل عليه السَّلام وحده { بالروح } بالوحي { من أمره } والوَحْيُ من أمر الله سبحانه { على مَنْ يشاء من عباده } يريد : النَّبيِّين الذين يختصُّهم بالرِّسالة { أن أنذروا } بدلٌ من الرُّوح ، أَيْ : أعلموا أهل الكفر { أنه لا إله إلاَّ أنا } مع تخويفهم إنْ لم يقرُّوا { فاتقون } بالتَّوحيد والطَّاعة ، ثمَّ ذكر ما يدلُّ على توحيده ، فقال :
{ خلق السموات . . . } الآية .
{ خلق الإِنسان من نطفة } يعني : أُبيَّ بن خلف { فإذا هو خصيم } مخاصمٌ { مبين } ظاهرُ الخصومة ، وذلك أنَّه خاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم في إنكاره البعث .
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
{ لكم فيها دفء } يعني : ما تستدفئون به من الأكسية والأبنية من أشعارها وأصوافها وأوبارها { ومنافع } من النَّسل والدَّرِّ والرُّكوب .
{ ولكم فيها جمال } زينةٌ { حين تريحون } تردُّونها إلى مَراحها بالعشايا { وحين تسرحون } تخرجونها إلى المرعى بالغداة .
{ وتحمل أثقالكم } أمتعتكم { إلى بلد } لو تكلَّفتم بلوغه على غير الإِبل لشقَّ عليكم ، والشِّقِّ : المشقَّة { إنَّ ربكم لرؤوف رحيم } حيث منَّ عليكم بهذه المرافق . وقوله :
{ ويخلق ما لا تعلمون } لم يُسمِّه ، فالله أعلم به .
{ وعلى الله قصد السبيل } أَي : الإِسلام والطَّريق المستقيم يُؤدِّي إلى رضا الله تعالى ، كقوله : { هذا صراط عليَّ مستقيم } { ومنها } ومن السَّبيل { جائر } عادلٌ مائل كاليهوديَّة والنَّصرانية { ولو شاء لهداكم } أرشدكم { أجمعين } حتى لا تختلفوا في الدِّين ، وقوله :
{ ومنه شجر } يعني : ما ينبت بالمطر ، وكلُّ ما ينبت على الأرض فهو شجر { فيه تسيمون } ترعون مواشيكم .
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
{ وما ذرأ لكم } أَيْ : وسخَّر لكم ما خلق في الأرض { مختلفاً ألوانه } أَيْ : هيئته ومناظره ، يعني : الدَّوابَّ والأشجار وغيرهما .
{ وهو الذي سخر البحر } ذلَّله للرُّكوب والغوص { لتأكلوا منه لحماً طرياً } السَّمك والحيتان { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } الدُّرَّ والجواهرَ { وترى الفلك } السُّفن { مواخر فيه } شواقّ للماء تدفعه بِجُؤْجُئِها بصدرها { ولتبتغوا من فضله } لتركبوه للتِّجارة ، فتطلبوا الرِّبح من فضل الله .
{ وألقى في الأرض رواسي } جبالاً ثابتةً { أن تميد } لئلا تميد ، أَيْ : لا تتحرَّك { بكم وأنهاراً } وجعل فيها أنهاراً كالنِّيل والفرات ودجلة { وسبلاً } وطرقاً إلى كلِّ بلدةٍ { لعلكم تهتدون } إلى مقاصدكم من البلاد . فلا تضلُّوا .
{ وعلامات } يعني الجبال ، وهي علاماتُ الطُّرق بالنَّهار { وبالنجم } يعني : جميع النُّجوم { هم يهتدون } إلى الطُّرق والقِبلة في البرِّ والبحر .
{ أفمن يخلق } يعني : ما ذُكر في هذه السُّورة ، وهو الله تعالى { كمَنْ لا يخلق } يعني : الأوثان . يقول : أَهما سواءٌ حتى يسوَّى بينهما في العبادة؟ { أفلا تذكرون } أفلا تتَّعظون كما اتَّعظ المؤمنون .
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } مرَّ تفسيره { إنَّ الله لغفور } لتقصيركم في شكر نعمه { رحيم } بكم حيث لم يقطعها عنكم بتقصيركم .
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
{ أموات } أَيْ : هي أمواتٌ لا روح فيها . يعني : الأصنام { غير أحياء } تأكيد { وما يشعرون أيان يبعثون } وذلك أنَّ الله سبحانه يبعث الأصنام لها أرواحٌ ، فيتبرَّؤون من عابديهم ، وهي في الدُّنيا جماد لا تعلم متى تُبعث ، وقوله :
{ إلهكم } ذكر الله سبحانه دلائل وحدانيته ، ثمَّ أخبر أنَّه واحد ، ثمَّ أتبع هذا إنكار الكفَّار وحدانيَّته بقوله : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } جاحدةٌ غير عارفة { وهم مستكبرون } ممتنعون عن قبول الحقِّ .
{ لا جرم } حقاً { أنَّ الله يعلم ما يسرون وما يعلنون . . . } الآية . أَيْ : يُجازيهم بذلك { إنه لا يحب المستكبرين } لا يمدحهم ولا يُثيبهم .
{ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } الآية نزلت في النَّضر بن الحارث ، وذكرنا قصَّته .
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{ ليحملوا أوزارهم } هذه لام العاقبة؛ لأنَّ قولهم للقرآن : أساطير الأولين ، أدَّاهم إلى أن حملوا أوزارهم كاملة لم يُكفَّر منها شيء بنكبةٍ أصابتهم في الدُّنيا لكفرهم . { ومن أوزار الذين يضلونهم } لأنَّهم كانوا دعاةَ الضَّلالة ، فعليهم مثل أوزار من اتَّبعهم ، وقوله : { بغير علم } أَيْ : يضلُّونهم جهلاً منهم بما كانوا يكسبون من الإِثم ، ثمَّ ذمَّ صنيعهم فقال : { ألا ساء ما يزرون } أَيْ : يحملون .
{ قد مكر الذين من قبلهم } وهو نمروذ بنى صرحاً طويلاً ، ليصعد منه إلى السَّماء فيقاتل أهلها { فأتى الله } فأتى أمر الله ، وهو الرِّيح وخَلْقُ الزَّلزلة { بنيانهم } بناءهم { من القواعد } من أساطين البناء التي يعمده ، وذلك أنَّ الزَّلزلة خُلقت فيها حتى تحرَّكت بالبناء فهدمته ، وهو قوله : { فخرَّ عليهم السقف من فوقهم } يعني : وهم تحته { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } من حيث ظنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه .
{ ثم يوم القيامة يخزيهم } يُذلُّهم { ويقول أين شركائي } أَي : الذين في دعواكم أنَّهم شركائي ، أين هم ليدفعوا العذاب عنكم { الذين كنتم تشاقون } تخالفون المؤمنين { فيهم قال الذين أوتوا العلم } وهم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفَّار في القيامة : { إنَّ الخزي اليوم والسوء } عليهم لا علينا .
{ الذين تتوفاهم الملائكة } مرَّ تفسيره في سورة النِّساء . وقوله : { فألقوا السلم } أَي : انقادوا واستسلموا عند الموت ، وقالوا : { ما كنا نعمل من سوء } شرك ، فقالت الملائكة : { بلى إنَّ الله عليمٌ بما كنتم تعملون } من الشِّرك والتَّكذيب .
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
{ فادخلوا أبواب جهنم . . . } الآية . وقوله : { فلبئس مثوى } مقام { المتكبرين } عن التَّوحيد وعبادة الله سبحانه .
{ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم } هذا كان في أيَّام الموسم ، يأتي الرَّجل مكَّة فيسأل المشركين عمَّا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : أساطير الأولين ، ويسأل المؤمنين عن ذلك فيقولون : { خيراً } أَيْ : ثواباً لمَنْ آمن بالله ، ثمَّ فسَّر ذلك الخير فقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } قالوا : لا إله إلاَّ الله ثوابٌ مضاعف { ولدار الآخرة } وهي الجنَّة { خير } من الدُّنيا وما فيها .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
{ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } طاهرين من الشِّرك .
{ هل ينظرون إلاَّ أن تأتيهم الملائكة } لقبض أرواحهم { أو يأتي أمر ربك } بالقتل ، والمعنى : هل يكون مدَّة إقامتهم على الكفر إلاَّ مقدار حياتهم إلى أن يموتوا أو يُقتلوا { كذلك فعل الذين من قبلهم } وهو التَّكذيب ، يعني : كفَّار الأمم الخالية { وما ظلمهم الله } بتعذيبهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بإقامتهم على الشِّرك .
{ فأصابهم } هذا مؤخَّر في اللَّفظ ، ومعناه التَّقديم ، لأنَّ التَّقدير : كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم ، الآية ، ثمَّ يقول : { وما ظلمهم الله . . . } الآية . ومعنى : أصابهم { سيئات ما عملوا } أَيْ : جزاؤها { وحاق } أحاط { بهم ما كانوا به يَسْتهزئون } من العذاب .
{ وقال الذين أشركوا } يعني : أهل مكَّة : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } أَيْ : ما أشركنا ، ولكنَّه شاءه لنا { ولا حرَّمنا من دونه من شيء } أَيْ : من السَّائبة والبحيرة ، وإنَّما قالوا هذا استهزاءً . قال الله تعالى : { كذلك فعل الذين من قبلهم } أَيْ : من تكذيب الرُّسل ، وتحريم ما أحلَّ الله { فهل على الرسل إلاَّ البلاغ المبين } أَيْ : ليس عليهم إلاَّ التَّبليغ ، وقد بلَّغتَ يا محمَّدُ ، وبلَّغوا ، فأمَّا الهداية فهي إلى الله سبحانه وتعالى ، وقد حقَّق هذا فيما بعد ، وهو قوله :
{ ولقد بعثنا في كلِّ أمة رسولاً } كما بعثناك في هؤلاء { أن اعبدوا الله } بأن اعبدوا الله { واجتنبوا الطاغوت } الشيطان وكلَّ من يدعو إلى الضلاَّلة { فمنهم مَنْ هدى الله } أرشده { ومنهم مَنْ حقَّت } وجبت { عليه الضلالة } الكفر بالقضاء السابق { فسيروا في الأرض } معتبرين بآثار الأمم المكذِّبة ، ثمَّ أكَّد أنَّ مَنْ حقَّت عليه الضَّلالة لا يهتدي ، وهو قوله :
{ إن تحرص على هداهم } أَيْ : تطلبها بجهدك { فإنَّ الله لا يهدي مَنْ يضل } كقوله : { من يُضللِ اللَّهُ فلا هادي له . }
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } أغلظوا في الأيمان تكذيباً منهم بقدرة الله على البعث ، فقال الله تعالى : { بلى } ليبعثنَّهم { وعداً عليه حقاً } .
{ ليبيِّن لهم } بالبعث ما اختلفوا فيه من أمره ، وهو أنَّهم ذهبوا إلى خلاف ما ذهب إليه المؤمنون { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } ثمَّ أعلمهم سهولة خلق الأشياء عليه بقوله :
{ إنما قولنا لشيء . . . } الآية .
{ والذين هاجروا } نزلت في قومٍ عذَّبهم المشركون بمكَّة إلى أن هاجروا ، وقوله : { في الله } أَيْ : في رضا الله { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } داراً وبلدةً حسنةً ، وهي المدينة { ولأجر الآخرة } يعني : الجنَّة .
{ الذين صبروا } على أذى المشركين وهم في ذلك واثقون بالله تعالى مُتوكِّلون عليه .
{ وما أرسلنا من قبلك } ذكرنا تفسيره في آخر سورة يوسف . وقوله : { فاسألوا أهل الذكر } يعني : أهل التَّوراة فيخبرونكم أنَّ الأنبياء كلَّهم كانوا بشراً .
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{ بالبينات } أَيْ : أرسلناهم بالبيِّنات بالحجج الواضحة { والزبر } الكتب { وأنزلنا إليك الذكر } القرآن { لتبين للناس ما نزل إليهم } في هذا الكتاب من الحلال والحرام ، والوعد والوعيد { ولعلهم يتفكرون } في ذلك فيعتبرون .
{ أفأمن الذين مكروا السيئات } عملوا بالفساد ، يعني : عبادة الأوثان ، وهم مشركو مكَّة { أن يخسف الله بهم الأرض } كما خسف بقارون { أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } أَيْ : من حيث يأمنون ، فكان كذلك؛ لأنَّهم أُهلكوا يوم بدر ، وما كانوا يُقدِّرون في ذلك .
{ أو يأخذهم في تقلبهم } للسَّفر والتِّجارة { فما هم بمعجزين } بممتنعين على الله .
{ أو يأخذهم على تخوّف } على تنقُّص ، وهو أن يأخذ الأوَّل حتى يأتي الأخذ على الجميع { فإنَّ ربكم لرؤوف رحيم } إذ لم يعجل عليهم بالعقوبة .
{ أَوَلَمْ يروا إلى ما خلق الله من شيء } له ظلٌّ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ { يتفيَّأ } يتميَّل { ظلاله عن اليمين والشمائل } في أوَّل النَّهار عن اليمين ، وفي آخره عن الشِّمال إذا كنت مُتوجِّهاً إلى القبلة { سجداً لله } قال المُفسِّرون : ميلانها سجودها ، وهذا كقوله : { وظلالهم بالغدو والآصال } وقد مرَّ { وهم داخرون } صاغرون يفعلون ما يُراد منهم : يعني : هذه الأشياء التي ذكرها أنَّها تسجد لله .
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ ولله يسجد } أَيْ : يخضع وينقاد بالتَّسخير { ما في السموات وما في الأرض من دابة } يريد : كلَّ ما دبَّ على الأرض { والملائكة } خصَّهم بالذِّكر تفضيلاً { وهم لا يستكبرون } عن عبادة الله تعالى . يعني : الملائكة .
{ يخافون ربهم من فوقهم } يعني : الملائكة ، هم فوق ما في الأرض من دابَّة ، ومع ذلك يخافون الله ، فلأَنْ يخافَ مَنْ دونهم أولى { ويفعلون ما يؤمرون } يعني : الملائكة .
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ وله الدين واصباً } دائماً ، أَيْ : طاعته واجبةٌ أبداً . { أفغير الله } الذي خلق كلَّ شيء ، وأمر أن لا تتَّخذوا معه إلهاً { تتقون } .
{ وما بكم من نعمة } من صحَّة جسمٍ ، أو سعةِ رزقٍ ، أو إمتاعٍ بمالٍ وولدٍ ، فكلُّ ذلك من الله ، { ثمَّ إذا مسكم الضرُّ } الأسقام والحاجة { فإليه تجأرون } ترفعون أصواتكم بالاستغاثة .
{ ثمَّ إذا كشف الضر عنكم } يعني : مَنْ كفر بالله ، وأشرك بعد كشف الضُّرَّ عنه .
{ ليكفروا بما آتيناهم } ليجحدوا نعمة الله فيما فعل بهم { فتمتعوا } أمر تهديد { فسوف تعلمون } عاقبة أمركم .
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{ ويجعلون } يعني : المشركين { لما لا يعلمون } أَي : الأوثان التي لا علم لها { نصيباً مما رزقناهم } يعني : ما ذُكر في قوله : { وهذا لشركائنا } { تالله لتسألنَّ } سؤال توبيخٍ { عمَّا كنتم تفترون } على الله من أنَّه أمركم بذلك .
{ ويجعلون لله البنات } يعني : خزاعة وكنانة ، زعموا أنَّ الملائكة بنات الله ، ثمَّ نزَّه نفسه فقال تعالى : { سبحانه } تنزيهاً له عمَّا زعموا { ولهم ما يشتهون } يعني : البنين ، وهذا كقولهم : { أم له البنات . . . } الآية .
{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى } أُخبر بولادة ابنةٍ { ظلَّ } صار { وجهه مسودّاً } متغيِّراً تغيُّرَ مغتمٍّ { وهو كظيم } ممتلىءٌ غمّاً .
{ يتوارى } يختفي ويتغيب مقدّراً مع نفسه { أيمسكه على هون } أيستحييها على هوانٍ منه لها { أم يدسُّه } يخفيه { في التراب } فعل الجاهليَّة من الوأد { ألا ساء } بئس { ما يحكمون } أَيْ : يجعلون لمن يعترفون بأنَّه خالقهم البناتِ اللاتي محلهنَّ منهم هذا المحل : ونسبوه إلى اتِّخاذ الأولاد ، وجعلوا لأنفسهم البنين .
{ للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } العذاب والنَّار { ولله المثل الأعلى } الإِخلاص والتَّوحيد ، وهو شهادة أن لا إله إلاَّ الله .
{ ولو يؤاخذ الله الناس } المشركين { بظلمهم } بافترائهم على الله تعالى { ما ترك عليها من دابة } يعني : أحداً من المشركين { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } وهو انقضاء عمرهم .
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{ ويجعلون لله ما يكرهون } لأنفسهم ، وذلك هو البنات ، أَيْ : يحكمون له به ، { وتصف ألسنتهم الكذب } ثمَّ فسَّر ذلك الكذب بقوله : { أنَّ لهم الحسنى } أَي : الجنَّة والمعنى : يصفون أنَّ لهم مع قبح قولهم الجنَّة إن كان البعث حقّاً ، فقال الله تعالى : { لا } أَيْ : ليس الأمر كما وصفوه { جرم } كسب قولهم هذا { أنَّ لهم النار وأنَّهم مُفرْطون } متروكون فيها . وقيل : مُقدَّمون إليها . وقوله :
{ فهو وليُّهم اليوم } يعني : يوم القيامة ، وأُطلق اسم اليوم عليه لشهرته ، وقوله :
{ لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } أَيْ : تُبيِّن للمشركين ما ذهبوا فيه إلى خلاف ما يذهب إليه المسلمون ، فتقوم الحجَّة عليهم ببيانك . وقوله : { وهدى } أَيْ : والهداية والرَّحمة للمؤمنين . وقوله :
{ والله أنزل } ظاهرٌ إلى قوله : { يسمعون } أَيْ : سماع اعتبار . يريد : إنَّ في ذلك دلالة على البعث .
{ وإنَّ لكم في الأنعام لعبرة } لدلالةً على قدرة الله تعالى ووحدانيَّته { نسقيكم مما في بطونه من بين فرث } وهو سرجين الكرش { ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين } جائزاً في حلوقهم .
{ ومن ثمرات } أَيْ : ولكم منها ما { تتخذون منه سكراً } وهو الخمر . نزل هذا قبل تحريم الخمر { ورزقاً حسناً } وهو الخلُّ والزَّبيب والتَّمرُ { إنَّ في ذلك لآية لقومٍ يعقلون } يريد : عقلوا عن الله تعالى ما فيه قدرته .
{ وأوحى ربك إلى النخل } ألهمها وقذف في أنفسها { أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر } هي تتَّخذ لأنفسها بيوتاً إذا كانت لا أصحاب لها ، فإذا كانت لها أرباب اتِّخذت بيوتها ممَّا تبني لها أربابها ، وهو قوله : { ومما يعرشون } أَيْ : يبنون ويسقفون لها من الخلايا .
{ ثمَّ كلي من كلِّ الثمرات فاسلكي سبل ربك } طرق ربِّك تطلب فيها الرَّعي { ذللاً } منقادة مُسخَّرة مطيعة { يخرج من بطونها شراب } وهو العسل { مختلف ألوانه } منه أحمر وأبيض وأصفر { فيه } في ذلك الشَّراب { شفاء للناس } من الأوجاع التي شفاؤها فيه .
{ والله خلقكم } ولم تكونوا شيئاً { ثمَّ يتوفاكم } عند انقضاء آجالكم { ومنكم مَنْ يردُّ إلى أرذل العمر } وهو أردؤه ، يعني : الهرم { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } يصير كالصبيِّ الذي لا عقل له . قالوا : وهذا لا يكون للمؤمنين؛ لأنَّ المؤمن لا ينزع عنه علمه وإن كبر { إنّ الله عليم } بما يصنع { قدير } على ما يريد .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ والله فضَّل بعضكم على بعض في الرزق } حيث جعل بعضكم يملك العبيد ، وبعضكم مملوكاً { فما الذين فضلوا } وهم المالكون { برادي رزقهم } بجاعلي رزقهم لعبيدهم ، حتى يكونوا عبيدهم معهم { فيه سواء } وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمشركين في تصييرهم عباد الله شركاء له ، فقال : إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ { أفبنعمة الله يجحدون } حيث يتَّخذون معه شركاء .
{ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يعني : النِّساء { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } يعني : ولد الولد { ورزقكم من الطيبات } من أنواع الثِّمار والحبوب والحيوان { أفبالباطل يؤمنون } يعني : الأصنام ، { وبنعمة الله هم يكفرون } يعني : التَّوحيد .
{ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات } يعني : الغيث الذين يأتي من جهتها { والأرض } يعني : النَّبات والثِّمار { شيئاً } أَيْ : قليلاً ولا كثيراً { ولا يستطيعون } لا يقدرون على شيء .
{ فلا تضربوا لله الأمثال } لا تشبِّهوه بخلقه ، وذلك أنَّ ضرب المثل إنَّما هو تشبيه ذاتٍ بذاتٍ ، أو وصفٍ بوصفٍ ، والله تعالى منزَّه عن ذلك { إنَّ الله يعلم } ما يكون قبل أن يكون { وأنتم لا تعلمون } قدر عظمته حيث أشركتم به .
{ ضرب الله مثلاً } بيَّن شبهاً فيه بيانٌ للمقصود ، ثمَّ ذكر ذلك فقال : { عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء } لأنَّه عاجرٌ مملوكٌ لا يملك شيئاً ، وهذا مثَلٌ ضربه الله لنفسه ولمَنْ عُبِدَ دونه . يقول : العاجز الذي لا يقدر أن ينفق ، والمالك المقتدر على الإِنفاق لا يستويان ، فكيف يُسوَّى بين الحجارة التي لا تتحرَّك ، وبين الله الذي هو على كلِّ شيء قدير ، وهو رازقُ جميع خلقه ، ثمَّ بيَّن أنَّه المستحقُّ للحمد دون ما يعبدون من دونه فقال : { الحمد لله } لأنَّه المنعم { بل أكثرهم لا يعلمون } يقول : هؤلاء المشركون لا يعلمون أنَّ الحمد لي؛ لأنَّ جميع النِّعم مني ، والمراد بالأكثر ها هنا الجميع ، ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
{ وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء } من الكلام ، لأنَّه لا يَفْهم ولا يُفهم عنه { وهو كَلٌّ } ثِقْلٌ ووبالٌ { على مولاه } صاحبه وقريبه { أينما يوجهه } يرسله { لا يأت بخير } لأنَّه عاجزٌ لا يَفهم ما يقال له ، ولا يُفهم عنه { هل يستوي هو } أَيْ : هذا الأبكم { ومَنْ يأمر بالعدل } وهو المؤمن يأمر بتوحيد الله سبحانه { وهو على صراط مستقيم } دينٍ مستقيمٍ ، يعني : بالأبكم أُبيَّ بن خلف ، وكان كلاًّ على قومه؛ لأنَّه كان يؤذيهم ، ومَن يأمر بالعدل حمزة بن عبد المطلب .
{ ولله غيب السموات والأرض } أَيْ : علم ما غاب فيهما عن العباد { وما أمر الساعة } يعني : القيامة { إلاَّ كلمح البصر } كالنَّظر بسرعةٍ { أو هو أقرب } من ذلك إذا أردناه ، يريد : إنه يأتي بها في أسرع من لمح البصر إذا أراده . { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } أَيْ : غير عالمين { وجعل لكم السَّمْعَ والأبصار } أَيْ : خلق لكم الحواسَّ التي بها يعلمون ، ويقفون على ما يجهلون .
{ ألم يروا إلى الطير مسخرات } مذلَّلاتٍ { في جوِّ السماء } يعني : الهواء ، وذلك يدلُّ على مُسخِّرٍ سخَّرها ، ومدبِّرٍ مكَّنها من التَّصرُّف { ما يُمسكهنَّ إلاَّ الله } في حال القبض والبسط والاصطفاف .
{ والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } موضعاً تسكنون فيه ، ويستر عوراتكم وحرمكم ، وذلك أنَّه خلق الخشب والمدر والآلة التي يمكن بها تسقيف البيوت { وجعل لكم من جلود الأنعام } يعني : الأنطاع والأدم { بيوتاً } وهي القباب والخيام { تستخفونها يوم ظعنكم } يخفُّ عليكم حملها في أسفاركم { ويوم إقامتكم } لا يثقل عليكم في الحالتين { ومن أصوافها } يعني : الضَّأن { وأوبارها } يعني : الإِبل { وأشعارها } ، وهي المعز { أثاثاً } طنافس وأكسية وبُسطاً { ومتاعاً } تتمتَّعون به { إلى حين } البلى .
{ والله جعل لكم مما خلق } من البيوت والشَّجر والغمام { ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً } يعني : الغِيران والأسراب { وجعل لكم سرابيل } قمصاً { تقيكم الحر } تمنعكم الحرَّ والبرد ، [ فترك ذكر البرد ] ؛ لأنَّ ما وقى الحرَّ وقى البرد ، فهو معلوم { وسرابيل } يعني : دروع الحديد { تقيكم } تمنعكم { بأسكم } شدَّة الطَّعْن والضَّرب والرَّمي { كذلك } مثل ما خلق هذه الأشياء لكم { يتمُّ نعمته عليكم } يريد : نعمة الدُّنيا ، والخطاب لأهل مكَّة { لعلَّكم تسلمون } تنقادون لربوبيته فتوحِّدونه .
{ فإن تولوا } أعرضوا عن الإِيمان بعد البيان { فإنما عليك البلاغ المبين } وليس عليك من كفرهم وجحودهم شيء .
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
{ يعرفون نعمة الله ثمَّ ينكرونها } يعني : الكفَّار ، يُقرُّون بأنَّها كلَّها من الله تعالى ثمَّ يقولون بشفاعة آلهتنا ، فذلك إنكارهم { وأكثرهم } جميعهم { الكافرون } .
{ ويوم } أَيْ : وأنذرهم يوم { نبعث } وهو يوم القيامة { من كلِّ أمة شهيداً } يعني : الأنبياء عليهم السَّلام يشهدون على الأمم بما فعلوا ، { ثم لا يؤذن للذين كفروا } في الكلام والاعتذار { ولا هم يستعتبون } ولا يُطلب منهم أن يرجعوا إلى ما يرضي الله تعالى .
{ وإذا رأى الذين ظلموا } أشركوا { العذاب } النَّار { فلا يخفف عنهم } العذاب { ولا هم ينظرون } يمهلون .
{ وإذا رأى الذي أشركوا شركاءهم } أوثانهم التي عبدوها من دون الله { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا } وذلك أنَّ الله يبعثها حتى تُوردهم النَّار ، فإذا رأوها عرفوها ، فقالوا : { ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول } أَيْ : أجابوهم فقالوا لهم : { إنكم لكاذبون } وذلك أنَّها كانت جماداً ما تعرف عبادة عابديها ، فيظهر عند ذلك فضيحتهم حيث عبدوا مَن لم يشعر بالعبادة ، وهذا كقوله تعالى : { سيكفرون بعبادتهم } { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } استسلموا لحكم الله تعالى { وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون } بطل ما كانوا يأملون من أنَّ آلهتهم تشفع لهم .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{ ويوم نبعث في كلِّ أمَّة شهيداً } وهو يوم القيامة ، يبعث الله في كلِّ أُمَّةٍ شهيداً { عليهم من أنفسهم } وهو نبيُّهم؛ لأنَّ كلَّ نبيٍّ بُعث من قومه ، { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } على قومك ، وتمَّ الكلام ها هنا ، ثمَّ قال : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً } بياناً { لكلِّ شيء } ممَّا أُمر به ونُهي عنه .
{ إنَّ الله يأمر بالعدل } شهادة أن لا إله إلاَّ الله { والإِحسان } وأداء الفرائض ، وقيل : بالعدل في الأفعال ، والإِحسان في الأقوال { وإيتاء ذي القربى } صلة الرَّحم ، فتؤتي ذا قرابتك من فضل ما رزقك الله . { وينهى عن الفحشاء } الزِّنا { والمنكر } الشِّرك { والبغي } الاستطالة على النَّاس بالظُّلم { يعظكم } ينهاكم عن هذا كلِّه ، ويأمركم بما أمركم به في هذه الآية { لعلكم تذكرون } لكي تتَّعظوا .
{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } يعني : كلَّ عهدٍ يحسن في الشريعة الوفاء به { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } لا تحنثوا فيها بعد ما وكَّدتموه بالعزم { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } بالوفاء حيث حلفتم ، والواو للحال .
{ ولا تكونوا كالتي نقضت } أفسدت { غزلها } وهي امرأة حمقاء كانت تغزل طول يومها ، ثمَّ تنقضه وتفسده { من بعد قوة } الغزل بإمراره وفتله { أنكاثاً } قطعاً ، وتمَّ الكلام ها هنا ، ثمَّ قال : { تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم } أَيْ : غشَّاً وخديعةً { أن تكون } بأن تكون [ أو لأن تكون ] { أمة هي أربى من أمة } أَيْ : قوم أغنى وأعلى من قوم ، وذلك أنهم كانوا يحالفون قوماً فيجدون أكثر منهم وأعزَّّ ، فينقضون حلف أولئك ، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزُّ ، فنُهوا عن ذلك . { إنما يبلوكم الله به } أَيْ : بما أمر ونهى { وليبينن لكم يومَ القيامة ما كنتم فيه تختلفون } في الدُّنيا ، ثمَّ نهى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عاهدوه على نصرة الإِسلام عن أيمان الخديعة .
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{ ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها } تزلّ عن الإِيمان بعد المعرفة بالله تعالى ، وهذا إنَّما يستحقُّ في نقض معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرة الدِّين { وتذوقوا السوء } العذاب { بما صَدَدتُم عن سبيل الله } وذلك أنَّهم إذا نقضوا العهد لم يدخل غيرهم في الإِسلام ، فيصير كأنهم صدُّوا عن سبيل الله وعن دين الله .
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً } لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً من الدُّنيا { إنَّ ما عند الله } أَيْ : ما عند الله من الثَّواب على الوفاء { خير لكم إن كنتم تعلمون } ذلك .
{ ما عندكم ينفد } يفنى وينقطع ، يعني : في الدُّنيا { وما عند الله } من الثَّواب والكرامة { باق } دائمٌ لا ينقطع { ولنجزين الذين صبروا } على دينهم وعمَّا نهاهم الله تعالى { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } يعني : الطَّاعات ، وقوله :
{ فلنحيينه حياة طيبة } قيل هي القناعة ، وقيل : هي حياة الجنَّة .
{ فإذا قرأت القرآن } أَيْ : إذا أردت أن تقرأ القرآن { فاستعذ بالله } فاسأل الله أن يعيذك ويمنعك { من الشَّيطان الرجيم } .
{ إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا } أَيْ : حجَّةٌ في إغوائهم ودعائهم إلى الضَّلالة ، والمعنى : ليس له عليهم سلطان الإِغواء .
{ إنما سلطانه على الذين يتولونه } يُطيعونه { والذين هم به } بسببه وطاعته فيما يدعوهم إليه { مشركون } بالله .
{ وإذا بدلنا آية } أَيْ : رفعناها وأنزلنا غيرها لنوعٍ من المصلحة { والله أعلم } بمصالح العباد في { ما ينزَّل } من النَّاسخ والمنسوخ { قالوا } يعني : الكفَّار { إنما أنت مفترٍ } كذَّابٌ تقوله من عندك { بل أكثرهم لا يعلمون } حقيقةَ القرآن وفائدةَ النَّسخ والتَّبديل .
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{ قل نزله روح القدس } جبريل عليه السَّلام { من ربك } من كلام ربِّك { بالحق } بالأمر الحقِّ { ليثبت الذين آمنوا } بما فيه من الحجج والآيات { وهدىً } وهو هدىً .
{ ولقد نعلم أنَّهم يقولون : إنما يُعلِّمه } القرآنَ { بشرٌ } يعنون عبداً لبني الحضرمي كان يقرأ الكتب { لسان الذي يلحدون إليه } لغةُ الذي يميلون القول إليه ويزعمون أنَّه يُعلِّمك { أعجميّ } لا يُفصح ولا يتكلَّم بالعربية { وهذا } يعني القرآن { لسان } لغة { عربيّ مبين } أفصح ما يكون من العربيَّة وأبينه ، ثمَّ أخبر أنَّ الكاذبين هم .
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
{ إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } لأنَّهم يقولون لما لا يقدر عليه إلاَّ الله هذا من قول البشر ، ثمَّ سمَّاهم كاذبين بقوله : { وأولئك هم الكاذبون } .
{ مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه } هذا ابتداء كلام ، وخبره في قوله : { فعليهم غضب من الله } ثمَّ استثنى المُكره على الكفر ، فقال : { إلاَّ مَنْ أكره } أَيْ : على التَّلفظ بكلمة الكفر { وقلبه مطمئن بالإِيمان ولكن من شَرَحَ بالكفر صدراً } أَيْ : فتحه ووسَّعه لقبوله .
{ ذلك } الكفر { بأنهم استحبوا الحياة الدنيا } اختاروها { على الآخرة وأنَّ الله } لا يهديهم ولا يريد هدايتهم ، ثمَّ وصفهم بأنَّهم مطبوعٌ على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وأنَّهم غافلون عمَّا يُراد بهم ، ثمَّ حكم عليهم بالخسار .
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
{ لا جرم } أَيْ : حقَّاً { أنهم في الآخرة هم الخاسرون } المغبونون .
{ ثمَّ إنَّ ربك للذين هاجروا } يعني : المُستضعفين الذين كانوا بمكَّة { من بعد ما فتنوا } أَيْ : عُذِّبوا وأُوذوا حتى يلفظوا بما يرضيهم { ثمَّ جاهدوا } مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم { وصبروا } على الدِّين والجهاد { إنَّ ربك من بعدها } أَيْ : من بعد تلك الفتنة التي أصابتهم { لغفور رحيم } يغفر لهم ما تلفَّظوا به من الكفر تقيَّة .
{ يوم تأتي } أَيْ : اذكر لهم ذلك اليوم وذكِّرهم ، وهو يوم القيامة { كلُّ نفس } كلُّ أحدٍ لا تهمُّه إلاَّ نفسه ، فهو مخاصمٌ ومحتجٌ عن نفسه ، حتى إنَّ إبراهيم عليه السَّلام ليدلي بالخلَّة { وتوفى كلُّ نفس ما عملت } أَيْ : جزاء ما عملت { وهم لا يظلمون } لا ينقصون ، ثمَّ أنزل الله تعالى في أهل مكَّة وما امتُحنوا به من القحط والجوع قوله تعالى :
{ وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة } ذات أمنٍ لا يُغار على أهلها { مطمئنة } قارَّةً بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوفٍ أو ضيقٍ { يأتيها رزقها رغداً من كلِّ مكان } يُجلب إليها من كلِّ بلدٍ ، كما قال : { يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيء } { فكفرت بأنعم الله } حين كذَّبوا رسوله { فأذاقها الله لباس الجوع } عذَّبهم الله بالجوع سبع سنين { والخوف } من سرايا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي كان يبعثهم إليهم فيطوفون بهم { بما كانوا يصنعون } من تكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإخراجه من مكَّة .
{ ولقد جاءهم } يعني : أهل مكَّة { رسول منهم } من نسبهم ، يعرفونه بأصله ونسبه { فكذبوه فأخذهم العذاب } يعني : الجوع .
{ فكلوا } يا معشر المؤمنين { مما رزقكم الله } من الغنائم ، وهذه الآية والتي بعدها سبق تفسيرهما في سورة البقرة .
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } أَيْ : لوصف ألسنتكم الكذب ، والمعنى : لا تقولوا لأجل الكذب وسببه لا لغيره : { هذا حلال وهذا حرام } يعني : ما كانوا يحلُّونه ويُحرِّمونه من الحرث والأنعام { لتفتروا على الله الكذب } بنسبة ذلك التَّحليل والتَّحريم إليه ، ثمَّ أوعد المفترين فقال : { إنَّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } .
{ متاع قليل } أَيْ : لهم في الدُّنيا متاعٌ قليلٌ ، ثم يردُّون إلى عذابٍ أليمٍ .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{ وعلى الذين هادوا حرَّمنا ما قصصنا عليك من قبل } يعني : في سورة الأنعام : { وعلى الذين هادوا حرمنا كلَّ ذي ظفر . . . } الآية . { وما ظلمناهم } بتحريم ما حرَّمنا عليهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بأنواع المعاصي .
{ ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة } أَيْ : الشِّرك { ثم تابوا من بعد ذلك } آمنوا وصدَّقوا { وأصلحوا } قاموا بفرائض الله وانتهوا عن معاصيه { إن ربك من بعدها } من بعد تلك الجهالة { لغفور رحيم } .
{ إنَّ إبراهيم كان أمة } مؤمناً وحده ، والنَّاس كلُّهم كفَّارٌ { قانتاً } مُطيعاً { لله حنيفاً } لأنَّه اختتن وقام بمناسك الحجِّ .
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ وآتيناه في الدنيا حسنة } يعني : الذِّكر والثَّناء الحسن في النَّاس كلِّهم { وإنَّه في الآخرة لمن الصالحين } هذا ترغيبٌ في الصَّلاح؛ ليصير صاحبه من جملة مَنْ منهم إبراهيم عليه السَّلام مع شرفه .
{ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } أمر باتِّباعه في مناسك الحجِّ ، كما علَّم جبريل عليه السَّلام إبراهيم عليه السَّلام .
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{ إنما جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فيه } وهم اليهود ، أمروا أن يتفرَّغوا للعبادة في يوم الجمعة ، فقالوا لا نريده ، ونريد اليوم الذي فرغ الله سبحانه فيه من الخلق ، واختاروا السَّبْتَ ، ومعنى اختلفوا فيه ، أَيْ : على نبيِّهم حيث لم يطيعوه في أخذ الجمعة ، فجعل السَّبْتَ عليهم ، أَيْ : غَلَّظَ وضيَّق الأمر فيه عليهم .
{ ادع إلى سبيل ربك } دين ربِّك { بالحكمة } بالنُّبوَّة { والموعظة الحسنة } يعني : مواعظ القرآن { وجادلهم } افتلهم عمَّا هم عليه { بالتي هي أحسن } بالكلمة اللَّيِّنة ، وكان هذا قبل الأمر بالقتال ، { إن ربك هو أعلم . . . } الآية . يقول : هو أعلم بالفريقين ، فهو يأمرك فيهما بما هو الصَّلاح .
{ وإن عاقبتم . . . } الآية . نزلت حين نظر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى حمزة وقد مُثِّل به ، فقال : واللَّهِ لأُمَثِلنَّ بسبعين منهم مكانك ، فنزل جبريل عليه السَّلام بهذه الآيات ، فصبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكفَّر عن يمينه ، وأمسك عمَّا أراد . وقوله سبحانه { ولئن صبرتم } أَيْ : عن المجازاة بالمثلة { لهو } أَيْ : الصَّبر { خير للصابرين } ثمَّ أمره بالصَّبر عزماً ، فقال :
{ واصبر وما صبرك إلاَّ بالله } أَيْ : بتوفيقه ومعونته { ولا تحزن عليهم } على المشركين بإعراضهم عنك { ولاتك في ضيق مما يمكرون } لا يضيق صدرك من مكرهم .
{ إنَّ الله مع الذين اتقوا } الفواحش والكبائر { والذين هم محسنون } في العمل بالنَّصرة والمعونة .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
{ سبحان الذي } براءةٌ له من السُّوء { أسرى بعبده } سيَّر محمَّداً عليه السَّلام { من المسجد الحرام } يعني : مكَّة ، ومكَّةُ كلُّها مسجد { إلى المسجد الأقصى } وهو بيت المقدس ، وقيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام { الذي باركنا حوله } بالثِّمار والأنهار { لنريه من آياتنا } وهو ما أُري في تلك اللَّيلة من الآيات التي تدلُّ على قدرة الله سبحانه . ثمَّ ذكر أنَّه سبحانه أكرم موسى عليه السَّلام أيضاً قبله بالكتاب ، فقال :
{ وآتينا موسى الكتاب } التَّوراة { وجعلناه هدىً لبني إسرائيل } دللناهم به على الهدى { ألا تتخذوا } فقلنا : لا تتخذوا ، و " أن " زائدة ، والمعنى : لا تتوكَّلوا على غيري ولا تتَّخذوا من دوني ربَّاً .
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{ ذرية } يا ذريَّةَ { مَنْ حملنا مع نوح } يعني : بني إسرائيل ، وكانوا ذريَّةَ مَنْ كان في سفينة نوح عليه السَّلام ، وفي هذا تذكيرٌ بالنِّعمة إذْ أنجى آباءهم من الغرق ، ثمَّ أثنى على نوحٍ ، فقال : { إنَّه كان عبداً شكوراً } كان إذا أكل حمد الله ، وإذا لبس ثوباً حمد الله .
{ وقضينا إلى بني إسرائيل } أوحينا إليهم وأعلمناهم في كتابهم { لتفسدنَّ في الأرض مرتين } بالمعاصي وخلاف أحكام التَّوراة { ولتعلن علواً كبيراً } لتتعظمنَّ ولتبغُنَّ .
{ فإذا جاء وعد أولاهما } يعني : أوَّل مرَّة في الفساد { بعثنا عليكم } أرسلنا عليكم وسلَّطنا { عباداً لنا } يعني : جالوت وقومه { أولي بأسٍ شديد } ذوي قوَّةٍ شديدةٍ { فجاسوا خلال الديار } تردَّدوا وطافوا وسط منازلهم ليطلبوا مَنْ يقتلونهم { وكان وعداً مفعولاً } قضاءً قضاه الله تعالى عليهم .
{ ثمَّ رددنا لكم الكرَّة عليهم } نصرناكم ، ورددنا الدَّولة لكم عليهم بقتل جالوت { وأمددناكم بأموالٍ وبنين } حتى عاد أمركم كما كان { وجعلناكم أكثر نفيراً } أكثر عدداً من عدوِّكم .
{ إن أحسنتم } أَيْ : وقلنا : إن أحسنتم { أحسنتم لأنفسكم } إن أطعتم الله فيما بقي عفا عنكم المساوىء { وإنْ أسأتم } بالفساد وعصيان الأنبياء وقتلهم { فلها } فعليها يقع الوبال . { فإذا جاء وعد الآخرة } المرَّة الأخيرة من إفسادكم وجواب " إذا " محذوف على تقدير : بعثناهم { لِيَسُوْءُوْا وجوهكم } وهو أنَّه بعث عليهم بختنصر ، فسبى وقتل وخرب ، ومعنى لِيَسُوْءُوْا وجوهكم : ليخزوكم خزياً يظهر أثره في وجوهكم ، كسبي ذراريكم وإخراب مساجدكم { وليتبروا ما علوا } وليدمِّروا ويُخرِّبوا ما غلبوا عليه .
{ عسى ربكم } وهذا أيضاً ممَّا أُخبروا به في كتابهم ، والمعنى : لعلَّ ربكم { أن يرحمكم } ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل . { وإن عدتم } بالمعصية { عدنا } بالعقوبة ، هذا في الدُّنيا ، وأمَّا في الآخرة فقد { جعلنا جهنم للكافرين حصيراً } أَيْ : سجناً ومحبساً .
{ إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } يرشد إلى الحالة التي هي أعدل وأصوب ، هي توحيد الله تعالى والإِيمان برسله { ويبشر المؤمنين } بأنَّ { لهم أجراً كبيراً } وأنَّ أعداءهم معذَّبون في الآخرة .
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ ويدعو الإِنسان . . . } الآية . ربَّما يدعو الإنسان على نفسه عند الغضب والضَّجر ، وعلى ولده وأهله بما لا يحبُّ أن يستجاب له ، كما يدعو لنفسه بالخير { وكان الإِنسان عجولاً } يعجل في الدُّعاء بالشَّرِّ كعجلته في الدُّعاء بالخير .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{ وجعلنا الليل والنهار آيتين } علامتين تدلاَّن على قدرة خالقهما { فمحونا } طمسنا { آية الليل } نورها بما جعلنا فيها من السَّواد { وجعلنا آية النهار مبصرة } مُضيئةً يُبصر فيها { لتبتغوا فضلاً من ربكم } لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم { ولتعلموا عدد السنين والحساب } بمحو آية اللَّيل ، ولولا ذلك ما كان يُعرف اللَّيل من النَّهار ، وكان لا يتبيَّن العدد . { وكل شيء } ممَّا يُحتاج إليه { فصلناه تفصيلاً } بينَّاه تبييناً لا يلتبس معه بغيره .
{ وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه } كتبنا عليه ما يعمل من خيرٍ وشرٍّ { ونخرج له } ونُظهر له { يوم القيامة } صحيفة عمله منشورةً .
{ اقرأ كتابك } أَيْ يُقال له : اقرأ كتابك { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } مُحاسباً يقول : كفيتَ أنت في محاسبة نفسك .
{ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } ثواب اهتدائه لنفسه { ومن ضلَّ فإنما يضلُّ عليها } على نفسه عقوبة ضلاله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وذلك أنَّ الوليد بن المغيرة ، قال : اتَّبعوني وأنا أحمل أوزاركم ، فقال الله تعالى : { ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى } أَي : لا تحمل نفسٌ ذنب غيرها { وما كنا معذبين } أحداً { حتى نبعث رسولاً } يُبيِّن له ما يجب عليه إقامةً للحجَّة .
{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } أمرناهم على لسان رسولٍ بالطَّاعة ، وعنى بالمترفين : الجبَّارين والمُسلَّطين والملوك ، وخصَّهم بالأمر لأنَّ غيرهم تبعٌ لهم . { ففسقوا فيها } أَيْ : تمرَّدوا في كفرهم ، والفسق في الكفر : الخروج إلى أفحشه { فحقَّ عليها القول } وجب عليها العذاب { فدمرناها تدميراً } أهلكناها إهلاك استئصال .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{ من كان يريد العاجلة } بعمله وطاعته وإسلامه الدُّنيا { عجلنا له فيها ما نشاء } القدر الذي نشاء { لمن نريد } أن نعجِّل له شيئاً ، ثمَّ يدخل النَّار في الآخرة { مذموماً } ملوماً { مدحوراً } مطروداً لأنَّه لم يرد الله سبحانه بعمله .
{ ومن أراد الآخرة } الجنَّة { وسعى لها سعيها } عمل بفرائض الله { وهو مؤمن } لأنَّ الله سبحانه لا يقبل حسنةً إلاَّ من مؤمنٍِ { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } تُضاعف لهم الحسنات .
{ كلاً } من الفريقين { نمدُّ } نزيد ، ثمَّ ذكرهما فقال : { هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } يعني : الدُّنيا ، وهي مقسومةٌ بين البرِّ والفاجر { وما كان عطاء ربك محظوراً } ممنوعاً في الدُّنيا من المؤمنين والكافرين ، ثمَّ يختصُّ المؤمنين في الآخرة .
{ وانظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } في الرِّزق ، فمن مُقلٍّ ومُكثرٍ { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } من الدُّنيا؛ لأنَّ درجات الجنَّة يقتسمونها على قدر أعمالهم .
{ لا تجعل } أَيُّها الإِنسان المخاطب { مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً } ملوماً { مخذولاً } لا ناصر لك .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{ وقضى } وأمر { ربك أن لا تعبدوا إلاَّ إيَّاه وبالوالدين إحساناً } وأمرَ إحساناً بالوالدين { إمَّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } يقول : إن عاش أحد والديك حتى يشيب ويكبر ، أو هما جميعاً { فلا تقل لهما أف } [ لا تقل لهما ] رديئاً من الكلام ، ولا تستثقلنَّ شيئاً من أمرهما { ولا تنهرهما } لا تُوجِهْهُما بكلامٍ تزجرهما به { وقل لهما قولاً كريماً } ليِّناً لطيفاً .
{ واخفض لهما جناح الذل } ألن لهما جانبك واخضع لهما { من الرحمة } أَيْ : من رقَّتك عليهما وشفقتك { وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني } مثل رحمتهما إيَّاي في صغري حتى ربَّياني { صغيراً } .
{ ربكم أعلم بما في نفوسكم } بما تُضمرون من البِرِّ والعقوق { إن تكونوا صالحين } طائعين لله { فإنَّه كان للأوابين } الرَّاجعين عن معاصي الله تعالى { غفوراً } يغفر لهم ما بدر منهم ، وهذا فيمن بدرت منه بادرةٌ وهو لا يُضمر عقوقاً ، فإذا رجع عن ذلك غفر الله له ، ثمَّ أنزل في برِّ الأقارب وصلة ارحامهم بالإِحسان إليهم قوله :
{ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } ممَّا جعل الله لهما من الحقِّ في المال { ولا تبذر تبذيراً } يقول : لا تنفق في غير الحقِّ .
{ إنَّ المبذرين } المنفقين في غير طاعة الله { كانوا إخوان الشياطين } لأنَّهم يُوافقونهم فيما يأمرونهم به ، ثمَّ ذمَّ الشَّيطان بقوله : { وكان الشيطان لربه كفوراً } جاحداً لنعم الله ، وهذا يتضمنَّ أنَّ المُنفق في السَّرف كفور .
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{ وإمَّا تعرضنَّ عنهم . . . } الآية . كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا سأله فقراء الصَّحابة ولم يكن عنده ما يعطيهم أعرض عنهم حياءً منهم ، وسكت ، وهو قوله : { وإمَّا تعرضنَّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك } انتظار الرِّزق من الله تعالى يأتيك { فقل لهم قولاَ ميسوراً } ليِّناً سهلاً ، وكان إذا سُئل ولم يكن عنده ما يُعطي قال : يرزقنا الله وإيَّاكم من فضله .
{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } لا تُمسكها عن البذل كلَّ الإِمساك حتى كأنَّها مقبوضة إلى عنقك لا تنبسط بخيرٍ { ولا تبسطها كلَّ البسط } في النَّققة والعطيَّة { فتقعد ملوماً } تلوم نفسك وتُلام { محسوراً } ليس عندك شيء ، من قولهم : حسرتُ الرَّجل بالمسألة : إذا أفنيتَ جميع ما عنده . نزلت هذه الآية حين وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ، ولم يجد ما يلبسه للخروج ، فبقي في البيت .
{ إنَّ ربك يبسط الرزق لمَنْ يشاء ويقدر } يُوسِّع على مَنْ يشاء ، ويُضيِّق على مَنْ يشاء { إنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً } حيث أجرى رزقهم على ما علم فيه صلاحهم .
{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم } سبق تفسيره في سورة الأنعام وقوله : { خِطْئاً } أَيْ : إثماً .
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{ ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق } بكفرٍ بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصانٍ ، أو قتل نفسٍ بتعمُّدٍ { ومَنْ قتل مظلوماً } أَيْ : بغير إحدى هذه الخصال { فقد جعلنا لوليه } وارثه { سلطاناً } حجَّةً في قتل القاتل إن شاء ، أو أخذ الدِّية ، أو العفو { فلا يسرف في القتل } فلا يتجاوز ما حدَّ له ، وهو أن يقتل بالواحد اثنين ، أو غير القاتل ممَّنْ هو من قبيلة القاتل ، كفعل العرب في الجاهليَّة . { إنَّه } إنَّ الوليَّ { كان منصوراً } بقتل قاتل وليِّه والاقتصاص منه . وقيل : { إنَّه } إنَّ المقتول ظلماً { كان منصوراً } في الدُّنيا بقتل قاتله ، وفي الآخرة بالثَّواب .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلاَّ بالتي هي أحسن } يعني : الأكل بالمعروف ، وذكرنا هذا في سورة الأنعام . { وأوفوا بالعهد } وهو كلُّ ما أمر به ونهى عنه { إنَّ العهد كان مسؤولاً } عنه .
{ وأوفوا الكيل } أتمُّوه { إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المسقيم } بأقوم الموازين { ذلك خيرٌ } أقرب إلى الله تعالى { وأحسن تأويلاً } عاقبةً .
{ ولا تقف ما ليس لك به علم } لا تقولنَّ في شيءٍ بما لا تعلم { إنَّ السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً } أَيْ : يسأل الله العباد فيم استعملوا هذه الحواس .
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
{ ولا تمش في الأرض مرحاً } أَيْ : بالكبر والفخر { إنَّك لن تخرق الأرض } لن تثقبها حتى تبلغ آخرها ، ولا تطاول الجبال ، والمعنى : إنَّ قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ ، فيكون ذلك وصلةً إلى الاختيال ، يريد : إنَّه ليس ينبغي للعاجز أن يبذخ ويستكبر .
{ كلُّ ذلك } إشارةٌ إلى جميع ما تقدَّم ذكره ممَّا أمر به ونهى عنه { كان سَيِّئُهُ } وهو ما حرَّم الله سبحانه ونهى عنه .
{ ذلك } يعني : ما تقدَّم ذكره { ممَّا أوحى إليك ربك من الحكمة } من القرآن ومواعظه وباقي الآية مفسَّر في هذه السُّورة . ثمَّ نزل فيمن قال من المشركين : الملائكة بنات الله :
{ أفأصفاكم ربكم بالبنين } أَيْ : آثركم وأخلص لكم البنين دونه ، وجعل لنفسه البنات { إنكم لتقولون قولاً عظيماً } .
{ ولقد صرَّفنا } بيَّنَّا { في هذا القرآن من كلِّ مثل } يوجب الاعتبار به ، والتَّفكُّر فيه { ليذكروا } ليتَّعظوا ويتدبَّروا { وما يزيدهم } ذلك البيان والتَّصريف { إلاَّ نفوراً } من الحقِّ ، وذلك أنَّهم اعتقدوا أنَّها شُبَهٌ وحيلٌ ، فنفروا منها أشدَّ النُّفور .
{ قل } للمشركين : { لو كان معه } مع الله { آلهة كما يقولون إذاً لابْتَغَوْا إلى ذي العرش سبيلاً } إذاً لابتغت الآلهة أن تزيل ملك صاحب العرش .
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{ تسبح له السموات . . } الآية . المراد بالتَّسبيح في هذه الآية الدَّلالة على أنَّ الله سبحانه خالقٌ حكيمٌ مبرَّأٌ من الأسواء ، والمخلوقون والمخلوقاتُ كلُّها تدلُّ على هذا وقوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } مخاطبة للكفَّار؛ لأنَّهم لا يستدلُّون ولا يعتبرون .
{ وإذا قرأت القرآن . . . } الاية . نزلت في قومٍ كانوا يُؤذون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن ، فحجبه الله تعالى عن أعينهم عند قراءة القرآن ، حتى كانوا يمرُّون به ولا يرونه . وقوله : { مستوراً } معناه : ساتراً .
{ وجعلنا على قلوبهم أكنة } سبق تفسيره في سورة الأنعام . { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده } قلت : لا إله إلاَّ الله وأنت تتلو القرآن { ولوا على أدبارهم نفوراً } أعرضوا عنك نافرين .
{ نحن أعلم بما يستمعون به } نزلت حين دعا عليٌّ رضي الله عنه أشراف قريش إلى طعام اتَّخذه لهم ، ودخل عليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وقرأ عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله سبحانه ، وهم يقولون فيما بينهم متناجين : هو ساحرٌ ، وهو مسحورٌ ، فأنزل الله تعالى : { نحن أعلم بما يستمعون به } أَيْ : يستمعونه . أخبر الله سبحانه أنَّه عالمٌ بتلك الحال ، وبذلك الذي كان يستمعونه { إذ يستمعون } إلى الرَّسول { وإذ هم نجوى } يتناجون بينهم بالتَّكذيب والاستهزاء { إذ يقول الظالمون } المشركون : { إن تتبعون } ما تتبعون { إلاَّ رجلاً مسحوراً } مخدوعاً أن اتَّبعتموه .
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال } بَيَّنوا لك الأشباه حين شبَّهوك بالسَّاحر والكاهن والشَّاعر { فضلوا } بذلك عن طريق الحقِّ { فلا يستطعيون سبيلاً } مخرجاً .
{ وقالوا أإذا كنا عظاماً } بعد الموت { ورفاتاً } وتراباً ، أَنُبعث ونخلق خلقاً جديداً؟
{ قل كونوا حجارة أو حديداً . . . } الآية . معناها يقول : قدِّروا أنَّكم لو خُلقتم من حجارةٍ أو حديدٍ ، أو كنتم الموت الذي هو أكبر الأشياء في صدوركم لأماتكم الله ، ثمَّ أحياكم؛ لأنَّ القدرة التي بها أنشأكم بها يُعيدكم ، وهذا معنى قوله : { فسيقولون من يُعيدنا قل الذي فطركم } خلقكم { أول مرَّة فسينغضون إليك رؤوسهم } يُحرِّكونها تكذيباً لهذا القول { ويقولون متى هو } ؟ أَي : الإِعادة والبعث { قل عسى أن يكون قريباً } يعني : هو قريب .
{ يوم يدعوكم } بالنداء الذي يُسمعكم ، وهو النَّفخة الأخيرة { فتستجيبون } تجيبون { بحمده } وهو أنَّهم يخرجون من القبور يقولون : سبحانك وبحمدك ، حمدوا حين لا ينفعهم الحمد { وتظنون إن لبثتم إلاَّ قليلاً } استقصروا مدَّة لبثهم في الدُّنيا ، أو في البرزخ مع ما يعلمون من طول لبثهم في الآخرة .
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
{ وقل لعبادي } المؤمنين : { يقولوا التي هي أحسن } نزلت حين شكا أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليه أذى المشركين ، واستأذنوه في قتالهم ، فقيل له : قل لهم : يقولوا للكفَّار الكلمة التي هي أحسن ، وهو أن يقولوا : يهديكم الله . { إن الشيطان } هو الذي يفسد بينهم .
{ ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم } يُوفِّقكم فتؤمنوا { أو إن يشأ يعذبكم } بأن يميتكم على الكفر { وما أرسلناك عليهم وكيلاً } ما وكل إليك إيمانهم ، فليس عليك إلاَّ التَّبليغ .
{ وربك أعلم بمَنْ في السموات والأرض } لأنَّه هو خالقهم { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } عن علمٍ بشأنهم ، ومعنى تفضيل بعضهم على بعض : تخصصٌ كلِّ واحد منهم بفضيلة دون الآخر { وآتينا داود زبوراً } أَيْ : فلا تنكروا تفضيل محمد عليه السَّلام ، وإعطاءه القرآن ، فقد جرت سنَّتنا بهذا في النَّبيين .
{ قل ادعوا الذين زعمتم . . . } الآية . ابتلى الله سبحانه قريشاً بالقحط سنين ، فشكوا ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { قل ادعو الذين زعمتم } ادَّعيتم أنَّهم آلهةٌ { من دونه } ثمَّ أخبر عن الآلهة فقال : { فلا يملكون كشف الضر } يعني : البؤس والشِّدة { عنكم ولا تحويلاً } من السَّقم والفقر إلى الصَّحة والغنى .
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
ثمَّ ذكر أولياءَه فقال : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } يتضرَّعون إلى الله تعالى في طلب الجنَّة { أيُّهم } هو { أقرب } إلى رحمة الله سبحانه يبتغي الوسيلة إليه بصالح الأعمال .
{ وإن من قرية . . . } الآية . أَيْ : وما من أهل قريةٍ إلاَّ ستهلك؛ إمَّا بموت؛ وإمَّا بعذاب يستأصلهم ، أمَّا الصَّالحة فبالموت ، وأمَّا الطَّالحة فبالعذاب . { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } مكتوباً في اللَّوح المحفوظ .
{ وما منعنا أن نرسل بالآيات } لمَّا سأل المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يُوسِّع لهم مكَّة ، ويجعل الصَّفا ذهباً أتاه جبريل عليه السَّلام فقال : إن شئت كان ما سألوا ، ولكنَّهم إن لم يؤمنوا لم يُنظروا ، وإن شئت اتسأنيت بهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ومعناها : أنَّا لم نرسل بالآيات لئلا يُكذِّب بها هؤلاء ، كما كذَّب الذين من قبلهم فيستحقُّوا المعاجلة بالعقوبة { وآتينا ثمود الناقة مبصرة } آيةً مُضيئةً بيِّنةً { فظلموا بها } جحدوا أنَّها من الله سبحانه { وما نرسل بالآيات } أَي : العبر والدِّلالات { إلاَّ تخويفاً } للعباد لعلَّهم يخافون القادرعلى ما يشاء .
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{ وإذْ قلنا لك إنَّ ربك أحاط بالناس } أَيْ : فهم في قبضته وقدرته ، يمنعك منهم حتى تبلِّغ الرِّسالة ، ويحول بينك وبينهم أن يقتلوك . { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } يعني : ما أُري ليلة أُسري به ، وكانت رؤيا يقظة { والشجرة الملعونة في القرآن } وهي شجرة الزَّقوم { إلاَّ فتنةً للناس } فكانت الفتنة في الرُّؤيا أنَّ بعضهم ارتدَّ حين أعلمهم بقصَّة الإسراء ، وازداد الكفَّار تكذيباً ، وكانت الفتنة في الزَّقوم أنَّهم قالوا : إنَّ محمداً يزعم أنَّ في النار شجراً ، والنَّار تأكل الشَّجر ، وقالوا : لا نعلم الزَّقوم إلاَّ التَّمر والزُّبد ، فأنزل الله تعالى في ذلك : { إنَّا جعلناها فتنةً للظالمين } الآيات { ونخوفهم } بالزَّقوم فما يزدادون إلاَّ كبراً وعتوَّاً .
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
{ قال } يعني : إبليس { أرأيتك } أَيْ : أرأيت ، والكاف توكيدٌ للمخاطبة { هذا الذي كرَّمت عليّ } فضَّلته . يعني : آدم عليه السَّلام { لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأَحتنكنَّ ذريته } لأستأصلنَّهم بالإغواء ولأستولينَّ عليهم { إلاًّ قليلاً } يعني : ممَّن عصمه الله تعالى .
{ قال } الله : { اذهب } إنِّي أنظرتك إلى يوم القيامة { فمن تبعك } أطاعك { منهم } من ذُرِّيَّتِهِ { فإنَّ جهنم جزاؤكم جزاءً موفوراً } وافراً .
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{ واستفزز من استطعت منهم } أَيْ : أزعجه واستخفَّه إلى إجابتك { بصوتك } وهو الغناء والمزامير { وأجلب عليهم } وصحْ { بخيلك ورجلك } واحثثهم عليهم بالإِغواء ، وخيلُه : كلُّ راكبٍ في معصية الله سبحانه وتعالى ، وَرَجِلُه : كلُّ ماشٍ على رجليه في معصية الله تعالى { وشاركهم في الأموال } وهو كلُّ ما أُخذ بغير حقٍّ { والأولاد } وهو كلُّ ولد زنا { وعدهم } أن لا جنَّة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب ، وهذه الأنواع من الأمر كلُّها أمر تهديد ، قال الله تعالى : { وما يعدهم الشيطان إلاَّ غروراً } .
{ إنَّ عبادي } يعني : المؤمنين { ليس لك عليهم سلطانٌ } حجَّةٌ في الشِّرك { وكفى بربك وكيلاً } لأوليائه يعصمهم من القبول مِن إبليس .
{ ربكم الذي يزجي } يسيِّر { لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله } في طلب التِّجَارة { إنه كان بكم } بالمؤمنين { رحيماً } .
{ وإذا مسَّكم الضرُّ } خوف الغرق { في البحر ضلَّ } زال وبطل { من تدعون } من الآلهة { إلاَّ إياه } إلاَّ الله { فلما نجاكم } من الغرق وأخرجكم { إلى البر أعرضتم } عن الإيمان والتَّوحيد { وكان الإِنسان } الكافر لربِّه { كفوراً } لنعمة ربِّه جاحداً ، ثمًّ بيَّن أنَّه قادر أن يهلكهم في البرِّ ، فقال :
{ أفأمنتم } يريد : حيث أعرضتم حين سلمتم من هول البحر { أن يخسف بكم } يُغيِّبكم ويذهبكم في { جانب البَرِّ } وهو الأرض { أو يرسل عليكم حاصباً } عذاباً يحصبهم ، أَيْ : يرميهم بحجارةٍ { ثمَّ لا تجدوا لكم وكيلاً } مانعاً ولا ناصراً .
{ أم أمنتم أن يعيدكم } في البحر { تارةً } مرةً { أخرى فيرسل عليكم قاصفاً } ريحاً شديدةً تقصف الفلك وتكسيره { فيغرقكم بما كفرتم } بكفركم حيث سلمتم المرة الأولى { ثمَّ لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً } ثائراً ولا ناصراً ، ولامعنى : لا تجدوا مَنْ يتًّبعنا بإنكار ما نزل بكم .
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{ ولقد كرَّمنا } فضَّلنا { بني آدم } بالعقل والنُّطق والتَّمييز { وحملناهم في البر } على الإِبل والخيل والبغال والحمير { و } في { البحر } على السُّفن { ورزقناهم من الطيبات } الثِّمار والحبوب والمواشي والسَّمن والزُّبد والحلاوى { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا } يعني : البهائم والدَّوابَّ والوحوش .
{ يوم ندعو } يعني : يوم القيامة { كلَّ أناسٍ بأمامهم } بنبيِّهم ، وهو أن يقال : هاتوا مُتَّبعي إبراهيم عليه السَّلام ، هاتوا مُتبَّعي موسى عليه السَّلام ، هاتوا مُتَّبعي محمد عليه السَّلام ، فيقوم أهل الحقِّ فيأخذون كتبهم بأيمانهم ، ثمَّ يقال : هاتوا مُتَّبِعي الشَّيطان ، هاتوا مُتَّبعي رؤساء الضَّلالة ، وهذا معنى قول ابن عباس : إمام هدى وإمام ضلالة { ولا يظلمون } ولا ينقصون { فتيلاً } من الثَّواب ، وهي القشرة التي في شقِّ النَّواة .
{ ومَنْ كان في هذه أعمى } في الدُّنيا أعمى القلب عمَّا يرى من قدرتي في خلق السَّماء والأرض والشَّمس والقمر وغيرهما { فهو في الآخرة } في أمر الآخرة ممَّا يغيب عنه { أعمى } أشدُّ عمىً { وأضلُّ سبيلاً } وأبعد حجَّةً .
{ وإن كادوا . . . } الآية . نزلت في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : متِّعنا باللاَّت سنةً ، وحرِّمْ وادينا كما حرَّمت مكَّة؛ فإنَّا نحبُّ أن تعرف العربُ فضلنا عليهم ، فإنْ خشيت أن تقول العرب : أعطيتهم ما لم تعطنا فقل : الله أمرني بذلك ، وأقبلوا يلحُّون على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقد همَّ أنْ يعطيهم ذلك ، فأنزل الله : { وإن كادوا } همُّوا وقاربوا { ليفتنونك } ليستزلُّونك { عن الذي أوحينا إليك } يعني : القرآن ، والمعنى : عن حكمه ، وذلك أنَّ في إعطائهم ما سألوا مخالفةً لحكم القرآن { لتفتري علينا غيره } أَيْ : لتختلق علينا أشياء غير ما أوحينا إليك ، وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك . { وإذاً } لو فعلت ما أرادوا { لاتخذوك خليلاً } .
{ ولولا أن ثبتناك } على الحقِّ بعصمتنا إيَّاك { لقد كدت تركن } تميل { إليهم شيئاً } ركوناً { قليلاً } ، ثمَّ توعَّد على ذلك لو فعله فقال :
{ إذاً لأذقناك ضعف الحياة } ضِعْفَ عذاب الدُّنيا { وضعف الممات } وضعف عذاب الآخرة . يعني : ضعف ما يعذِّب به غيره .
{ وإن كادوا لَيَسْتَفزٌّونَكَ } يعني : اليهود . قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ الأنبياء بُعثوا بالشَّام ، فإنْ كنت نبيَّاً فالحق بها ، فإنَّك إنْ خرجتَ إليها آمنَّا بك ، فوقع ذلك في قلبه لحبِّ إيمانهم ، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ، ومعنى ليستفزونك : ليزعجونك { من الأرض } يعني : المدينة { وإذا لا يلبثون خلافك إلاَّ قليلاً } أعلم الله سبحانه أنَّهم لو فعلوا ذلك لم يلبثوا حتى يستأصلوا ، كسنَّتنا فيمن قبلهم .
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{ سنة من قد أرسلنا قبلك . . . } الآية . يقول : لم نرسل قبلك رسولاً فأخرجه قومه إلاَّ أهلكوا . { ولا تجد لسنتنا تحويلاً } لا خُلف لسنَّتي ، ولا يقدر أحدٌ أن يقلبها .
{ أقم الصلاة } أَيْ : أدمها { لدلوك الشمس } من وقت زوالها { إلى غسق الليل } إقباله بظلامه ، فيدخل في هذا صلاة الظُّهر والعصر والعشاءين { وقرآن الفجر } يعني : صلاة الفجر ، سمَّاها قرآناً لأنَّ الصَّلاة لا تصحُّ إلاَّ بقراءة القرآن . { إنَّ قرآن الفجر كان مشهوداً } تشهده ملائكة اللَّيل وملائكة النَّهار .
{ ومن الليل فتهجد } فصلِّ { به } بالقرآن { نافلة لك } زيادةً لك في الدَّرجات؛ لأنه غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر ، فما عمل من عملٍ سوى المكتوبة فهو نافلةٌ لك ، من أجل أنَّه لا يعمل ذلك في كفَّارة الذُّنوب { عسى أن يبعثك ربك } " عسى " من الله واجبٌ ، ومعنى يبعثك ربُّك : يقيمك ربُّك في مقامٍ محمودٍ ، وهو مقام الشَّفاعة يحمده فيه الخلق .
{ وقل ربِّ أدخلني } لمَّا أُمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة أُنزلت عليه هذه الآية ، ومعناها : أدخلني المدينة إدخال صدق ، أَيْ : إدخالاً حسناً لا أرى فيه ما أكره { وأخرجني } من مكة إخراج صدق لا ألتفت إليها بقلبي { واجعل لي من لَدُنْكَ سلطاناً نصيراً } قوَّة القدرة والحجَّة حتى أُقيم بهما دينك .
{ وقل جاء الحق } الإِسلام { وزهق الباطل } واضمحلَّ الشِّرك { إن الباطل } الشِّرك { كان زهوقاً } مضمحلاً زائلاً . أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا عند دخول مكَّة يوم الفتح .
{ وننزل من القرآن } أَيْ : من الجنس الذي هو القرآن { ما هو شفاء } من كلِّ داءٍ؛ لأنَّ الله تعالى يدفع به كثيراً من المكاره { ورحمةٌ للمؤمنين } ثوابٌ لا انقطاع له في تلاوته { ولا يزيد } القرآن { الظالمين } المشركين { إلاَّ خساراً } لأنَّهم يكفرون به ولا ينتفعون بمواعظه .
{ وإذا أنعمنا على الإِنسان } يريد : الوليد بن المغيرة { أعرض } عن الدُّعاء والابتهال ، فلا يبتهل كابتهاله في البلاء والمحنة { ونأى بجانبه } بَعُد بنفسه عن القيام بحقوق نعم الله تعالى { وإذا مسه الشر } أصابه المرض والفقر { كان يؤساً } يائساً عن الخير ومن رحمة الله سبحانه؛ لأنَّه لا يثق بفضل الله تعالى على عباده .
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{ قل كلٌّ يعمل على شاكلته } على مذهبه وطريقته ، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإِعراض عند الإِنعام ، واليأس عند الشدَّة ، والمؤمن يفعل ما يشبه طريقته من الشكر عند الرَّخاء ، والصَّبر والاحتساب عند البلاء ، ألا ترى أنَّه قال : { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } أَيْ : بالمؤمن الذي لا يُعرض عند النِّعمة ولا ييئس عند المحنة .
{ ويسألونك } يعني : اليهود { عن الروح } والرُّوح : ما يحيا به البدن ، سألوه عن ذلك وحقيقته وكيفيَّته ، وموضعه من البدن ، وذلك ما لم يُخبر الله سبحانه به أحداً ، ولم يُعط علمه أحداً من عبادِه ، فقال : { قل الروح من أمر ربي } أَيْ : من علم ربِّي ، أَيْ : إنَّكم لا تعلمونه ، وقيل : من خلق ربِّي ، أيْ : إنَّه مخلوقٌ له . { وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً } وكانت اليهود تدَّعي علم كلِّ شي بما في كتابهم ، فقيل لهم : وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلاً بالإِضافة إلى علم الله تعالى .
{ ولئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا إليك } لنمحونَّه من القلوب ومن الكتب حتى لا يوجد له أثر { ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً } لا تجد مَنْ تتوكَّلُ عليه في ردِّ شيءٍ منه .
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{ إلاَّ رحمة من ربك } لكنَّ الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين { إن فضله كان عليك كبيراً } حيث جعلك سيِّد وَلدِ آدم ، وأعطاك المقام المحمود .
{ قل لئن اجتمعت الإِنس والجن . . . } الآية . لمَّا تحدَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وعجزوا عن معارضته أنزل الله : { قل لِئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } في نظمه وبلاغته { لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } مُعيناً مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعرٍ فيقيمونه .
{ ولقد صرَّفنا } بَيَّنّا { للناس في هذا القرآن } لأهل مكَّة { من كلِّ مثل } من الأمثال التي يجب بها الاعتبار { فأبى أكثر الناس } أكثر أهل مكَّة { إلاَّ كفوراً } جحوداً للحقِّ ، واقترحوا من الآيات ما ليس لهم ، وهو قوله تعالى :
{ وقالوا لن نؤمن لك } لن نصدِّقك { حتى تفجر } تشقق { لنا من الأرض ينبوعاً } عيناً من الماء ، وذلك أنَّهم سألوه أَن يجريَ لهم نهراً كأنهار الشَّام والعراق .
{ أو تكون لك جنَّة . . . } الآية . هذا أيضاً كان فيما اقترحوه عليه .
{ أو تسقط السماء كما زعمت } أنَّ ربَّك إن شاء فعل ذلك { كسفاً } أَيْ : قطعاً { أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً } تأتي بهم حتى نراهم مقابلةً وعياناً .
{ أو يكون لك بيتٌ من زخرف } من ذهبٍ ، فكان فيما اقترحوا عليه أن يكون له جنَّاتٌ وكنوزٌ وقصورٌ من ذهبٍ { أو ترقى في السماء } وذلك أنَّ عبد الله بن أبي أُميَّة قال : لا أؤمن بك يا محمَّد أبداً حتى تتَّخذ سلماً إلى السماء ، ثمَّ ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ، وتأتي بنسخةٍ منشورةٍ معك ، ونفر من الملائكة يشهدون لك أنَّك كما تقول ، فقال الله سبحانه : { قل سبحان ربي هل كنت إلاَّ بشراً رسولاً } أَيْ : إنَّ هذه الأشياء ليس في قوى البشر .
{ وما منع الناس } يعني : أهل مكَّة { أن يؤمنوا } أَيْ : الإِيمان { إذ جاءهم الهدى } البيان ، وهو القرآن { إلاَّ أن قالوا } إلاَّ قولهم في التَّعجب والإِنكار : { أبعث الله بشراً رسولاً } أَيْ : هلاَّ بعث مَلَكاً ، فقال الله تعالى :
{ قل لو كان في الأرض } بدل الآدميين { ملائكة يمشون مطمئنين } مستوطنين الأرض { لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } يريد : إنَّ الأبلغ في الأداء إليهم بشرٌ مثلهم .
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } يمشيهم الله سبحانه على وجوههم عُمياً لا يرون شيئاً يسرُّهم { وبكماً } لا ينطقون بحجَّةٍ { وصماً } لا يسمعون شيئاً يسرُّهم { كلما خبت } أَيْ : سكن لهبها { زدناهم سعيراً } ناراً تتسعر .
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
{ ذلك جزاؤهم } هذه الآية مفسَّرة في هذه السُّورة .
{ أَوَلَمْ يروا } أَوَلَمْ يعلموا { أنَّ الله الذي خلق السموات والأرض قادرٌ على أن يخلق مثلهم } أَيْ : يخلقهم ثانياً ، وأراد ب { مثلهم } إيَّاهم ، وتمَّ الكلام ، ثمَّ قال : { وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه } يعني : أجل الموت وأجل القيامة { فأبى الظالمون } المشركون { إلاَّ كفوراً } جحوداً بذلك الأجل ، وهو البعث والقيامة .
{ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } خزائن الرِّزق { إذاً لأمسكتم } لبخلتم { خشية الإِنفاق } أن تنفقوا فتفتقروا { وكان الإِنسان قتوراً } بخيلاً ، ثمَّ ذكر قصَّة موسى عليه السَّلام وما آتاه من الآيات وإنكار فرعون ذلك ، فقال :
{ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } وهي العصا واليد ، وفلق البحر ، والطمسة ، وهي قوله : { ربَّنا اطمسْ على أموالِهم } والطُّوفان ، والجراد ، والقُمَّل ، والضفادع ، والدَّم { فاسأل } يا محمد { بني إسرائيل } المؤمنين من قريظة والنَّضير { إذ جاءهم } يعني : جاء آباءَهم ، وهذا سؤال استشهاد ليعرف اليهود صحَّة ما يقول محمَّد عليه السَّلام بقول علمائهم { فقال له فرعون : إني لأظنُّك يا موسى مسحوراً } ساحراً فقال موسى عليه السَّلام :
{ لقد علمت ما أنزل هؤلاء } الآيات { إلاَّ رب السموات والأرض بصائر } عبراً ودلائل { وإني لأظنك } لأعلمك { يا فرعون مثبوراً } ملعوناً مطروداً .
{ فأراد } فرعون { أن يستفزهم } يخرجهم ، يعني : موسى وقومه { من الأرض } أرض مصر . وقوله :
{ فإذا جاء وعد الآخرة } يريد : يوم القيامة . { جئنا بكم لفيفاً } مُجتمعين مُختلطين .
{ وبالحق أنزلناه } أَيْ : أنزلنا القرآن بالدِّين القائم ، والأمر الثَّابت { وبالحق نزل } وبمحمَّد نزل القرآن ، أَيْ : عليه نزل ، كما تقول : نزلتُ بزيدٍ .
{ وقرآناً فرقناه } قطعناه آيةً آيةً ، وسورةً سورةً في عشرين سنة { لتقرأه على الناس على مكث } تُؤَدةٍ وَتَرسُّلٍ ليفهموه { ونَزَّلْناهُ تنزيلاً } نجوماً بعد نجومٍ وشيئاً بعد شيءٍ .
{ قل } لأهل مكَّة : { آمنوا } بالقرآن { أو لا تؤمنوا } به ، وهذا تهديد ، أَيْ : فقد أنذر الله ، وبلَّغ رسوله { إنَّ الذين أوتوا العلم من قبله } من قبل القرآن . يعني : ناساً من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم خرُّوا سُجَّداً . وقوله :
{ إن كان وعد ربنا لمفعولاً } أَيْ : وعده بإنزال القرآن وبعث محمِّد عليه السَّلام لمفعولاً .
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{ ويخرون للأذقان يبكون } كرَّر القول لتكرُّر الفعل منهم { ويزيدهم } القرآن { خشوعاً } .
{ قل ادعوا الله . . . } الآية . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا الله ، يا رحمان ، فسمع ذلك أبو جهل فقال : إنَّ محمداً ينهاناً أن نعبد إلهين ، وهو يدعو إلهاً آخر مع الله يقال له : الرَّحمن ، فأنزل الله سبحانه : { قل } يا محمد { ادعوا الله } يا معشر المؤمنين { أو ادعوا الرحمن } إن شئتم قولوا : يا الله وإن شئتم قولوا : يا رحمان { أياً ما تدعوا } أَيَّ أسماءِ اللَّهِ تدعوا { فله الأسماء الحسنى } . { ولا تجهر بصلاتك } بقراءتك فيسمعها المشركون فيسبُّوا القرآن { ولا تخافت بها } ولا تُخفها عن أصحابك فلا تسمعهم { وابتغِ بين ذلك سبيلاً } اسلك طريقاً بين الجهر والمخافتة ، وقوله :
{ ولم يكن له وليٌّ من الذل } لم يكن له وليٌّ ينصره ممَّن استّذلَّه من البشر { وكبره تكبيراً } عظمه عظمةً تامَّةً .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً } اختلافاً والتباساً .
{ قيماً } مستقيماً . يريد : أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ، ولم يجعل له عوجاً { لينذر } الكافرين { بأساً } عذاباً { شديداً من لدنه } من قِبَلِه ، وقوله : { أجراً حسناً } يعني : الجنَّة .
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{ وينذر } بعذابِ الله { الذين قالوا اتخذ الله ولداً } وهم اليهود والنَّصارى .
{ ما لهم به } بذلك القول { من علمٍ } لأنَّهم قالوه جهلاً وافتراءً على الله { ولا لآبائهم } الذين قالوا ذلك . { كبرت كلمة } مقالتهم تلك كلمةً .
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ فلعلك باخع نفسك } قاتلها { على آثارهم } على أثر تولِّيهم وإعراضهم عنك لشدَّة حرصك على إيمانهم { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } يعني : القرآن { أسفاً } غيظاً وحزناً .
{ إنا جعلنا ما على الأرض } يعني : ما خلق في الدُّنيا من الأشجار والنَّبات ولاماء وكلِّ ذي روح على الأرض { زينة لها } زيَّناها بما خلقنا فيها { لنبلوهم أيهم أحسن عملاَ } أزهد فيها ، وأترك لها ، ثمَّ أعلم أنَّه يُفني ذلك كلَّه ، فقال :
{ وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً } بلاقع ليس فيها نبات .
{ أم حسبت } بل أحسبت { أنَّ أصحاب الكهف } وهو المغارة في الجبل { والرقيم } وهو اللَّوح الذي كُتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم { كانوا من آياتنا عجباً } أَيْ : لم يكونوا بأعجب آياتنا ، ولم يكونوا العجب من آياتنا فقط؛ فإنَّ آياتنا كلَّها عجب ، وكانت قريش سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن خبر فتيةٍ فُقدوا في الزمان الأوَّل بتلقين اليهود قريشاً ذلك ، فأنزل الله سبحانه على نبيِّه عليه السَّلام خبرهم ، فقال :
{ إذ أوى } اذكر إذ أوى { الفتية إلى الكهف } هربوا إليه ممَّن يطلبهم ، فاشتغلوا بالدُّعاء ، والتَّضرُّع { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } أعطنا من عندك مغفرةً ورزقاً { وهيِّىء } أصلح { لنا من أمرنا رشداً } أَيْ : أرشدنا إلى ما يُقرِّب منك .
{ فضربنا على آذانهم } سددنا آذانهم بالنَّوم { في الكهف سنين عدداً } معدودةً .
{ ثم بعثناهم } ايقظناهم من نومهم { لنعلم } لنرى { أيّ الحزبين } من المؤمنين والكافرين { أحصى } أعدُّ { لما لبثوا } للبثهم في الكهف نائمين { أمداً } غايةً ، وكان وقع اختلافٌ بين فريقين من المؤمنين والكافرين في قدر مدَّة فقدهم ، ومنذ كم فقدوهم ، فبعثهم الله سبحانه من نومهم ليتبيَّن ذلك .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{ نحن نقصُّ عليك نبأهم } خبرهم { بالحق } بالصِّدق { إنهم فتية } شُبَّانٌ وأحداثٌ { آمنوا بربهم وزدناهم هدى } ثبَّتناهم على ذلك .
{ وربطنا على قلوبهم } ثبتناها بالصَّبر واليقين { إذ قاموا } بين يديّ ملكهم الذي كان يفتن أهل الأديان عن دينهم { فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً } كذباً وجوراً إنْ دعونا غيره .
{ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة } يعنون : الذين عبدوا الأصنام في زمانهم { لولا } هلاَّ { يأتون عليهم } على عبادتهم { بسلطانٍ بيِّن } بحجَّةٍ بيِّنةٍ { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } فزعم أنَّ معه إلهاً ، فقال لهم تمليخا - وهو رئيسهم - :
{ وإذ اعتزلتموهم } فارقتموهم { وما يعبدون } من الأصنام { إلاَّ الله } فإنكم لن تتركوا عبادته { فأووا إلى الكهف } صيروا إليه { ينشر لكم ربكم من رحمته } يبسطها عليكم { ويهيَّىء لكم من أمركم مرفقاً } يُسهَّل لكم غذاءً تأكلونه .
{ وترى الشمس إذا طلعت تزاور } تميل عن كهفهم { ذات اليمين } في ناحية اليمين { وإذا غربت تقرضهم } تتركهم وتتجاوز عنهم { ذات الشمال } في ناحية الشِّمال ، فلا تصيبهم الشَّمس ألبتةَ؛ لأنَّها تميل عنهم طالعةَ غاربةً ، فتكون صورهم محفوظة ، { وهم في فجوة منه } مُتَّسعٍ من الكهف ينالهم برد الرِّيح ونسيم الهواء . { ذلك } التَّزوار والقرض { من آيات الله } دلائل قدرته ولطفه بأصحاب الكهف . { من يهد الله فهو المهتد } أشار إلى أنَّه هو الذي تولَّى هدايتهم ، ولولا ذلك لم يهتدوا .
{ وتحسبهم أيقاظاً } لأنَّ أعينهم مُفتَّحة { وهم رقود } نيامٌ { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } لئلا تأكل الأرض لحومهم { وكلبهم باسط ذراعيه } يديه { بالوصيد } بفناء الكهف { لو اطلعت } أشرفت { عليهم لوليت } أعرضت { منهم فراراً ولملئت منهم رعباً } خوفاً وذلك أنَّ الله تعالى منعهم بالرُّعب لئلا يراهم أحد .
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{ وكذلك } وكما فعلنا بهم هذه الأشياء { بعثناهم } أيقظناهم من تلك النَّومة التي تشبه الموت { ليتساءلوا بينهم } ليكون بينهم تساؤلٌ عن مدَّة لبثهم { قال قائل منهم كم لبثتم } كم مرَّ علينا منذ دخلنا الكهف؟ { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } وذلك أنَّهم دخلوا الكهف غدوةً ، وبعثهم الله في آخر النَّهار ، لذلك قالوا : يوماً ، فلمَّا رأوا الشمس قالوا : أو بعض يوم ، وكان قد بقيت من النَّهار بقيةٌ ، فقال تمليخا : { ربكم أعلم بما لبثتم } ردَّ علم ذلك إلى الله سبحانه { فابعثوا أحدكم بورقكم } بدراهمكم { هذه إلى المدينة فلينظر أيها } أَيُّ أهلها { أزكى طعاماً } أحلّ من جهةِ أنَّه ذبيحةُ مؤمن ، أو من جهة أنَّه غير مغصوب ، وقوله : { وليتلطف } في دخول المدينة وشراء الطَّعام حتى لا يَطَّلِع عليه أحدٌ { ولا يشعرنَّ بكم } ولا يخبرنَّ بكم ولا بمكانكم { أحداً } .
{ إنهم إن يظهروا عليكم } يطَّلعوا ويُشرفوا عليكم { يرجموكم } يقتلوكم { أو يعيدوكم في ملتهم } يردُّوكم إلى دينهم { ولن تفلحوا إذاً أبداً } لن تسعدوا في الدُّنيا ولا في الآخرة إن رجعتم إلى دينهم .
{ وكذلك } وكما بعثناهم وأنمناهم { أَعْثرنا } أطلعنا { عليهم ليعلموا } ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت { أنَّ وعد الله } بالثَّواب والعقاب { حقٌّ وأنَّ الساعة } القيامة { لا ريب فيها } لا شكَّ فيها ، وذلك أنَّهم يستدلُّون بقصَّتهم على صحَّة أمر البعث { إذ يتنازعون } أَي : اذكر يا محمد إذ يتنازع أهلُ ذلك الزَّمان أمرَ أصحاب الكهف { بينهم } وذلك أنَّهم كانوا يختلفون في مدَّة مكثهم وفي عددهم . وقيل : تنازعوا فقال المؤمنون : نبني عندهم مسجداً ، وقال الكافرون : نُحوِّط عليهم حائطاً . يدلُّ على هذا قوله : { ابنوا عليهم بنياناً } استروهم عن النَّاس ببناءٍ حولهم ، وقوله : { ربُّهم أعلم بهم } يدلُّ على أنَّه وقع تنازعٌ في عدَّتهم . { قال الذين غلبوا على أمرهم } وهم المؤمنون ، وكانوا غالبين في ذلك الوقت . { لنتخذنَّ عليهم مسجداً } فذكر في القصَّة أنّه جعل على باب الكهف مسجد يصلَّى فيه .
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{ سيقولون ثلاثة . . . } الآية . أخبر الله تعالى عن تنازعٍ يجري في عدَّة أصحاب الكهف ، فجرى ذلك بالمدينة حين قدم وفد نصارى نجران ، فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقالت اليعقوبيَّة منهم : كانوا ثلاثةً رابعُهم كلبهم ، وقالت النِّسطورية : كانوا خمسةً سادسهم كلبهم ، وقال المسلمون : كانوا سبعةً وثامنهم كلبهم ، فقال الله تعالى : { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلاَّ قليل } من النَّاس . قال ابن عباس : أنا من ذلك القليل ، ثمَّ ذكرهم بأسمائهم فذكر سبعة . { فلا تمار } فلا تجادل في أصحاب الكهف { إلاَّ مراءً ظاهراً } بما أنزل عليك ، أَيْ : أَفتِ في قصَّتهم بالظَّاهر الذي أنزل إليك ، وقل : لا يعلمهم إلاَّ قليل كما أنزل الله : { ما يعلمهم إلاَّ قليل } ، { ولا تستفت فيهم } في أصحاب الكهف { منهم } من أهل الكتاب { أحداً } .
{ ولا تقولنَّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلاَّ أن يشاء الله } هذا تأديبٌ من الله سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وأمرٌ له بالاستثناء بمشيئة الله سبحانه فيما يعزم . يقول : إذا قلت لشيءٍ : إني فاعله غداً فقل : إن شاء الله . { واذكر ربك إذا نسيت } أراد : إذا نسيت الاستثناء بمشيئة الله سبحانه فاذكره وقله إذا تذكَّرت { وقل عسى أن يهديني ربي } أَيْ : يعطيني ربِّي من الآيات والدّلالات على النُّبوَّة ما يكون أقرب في الرُّشد ، وأدلَّ من صحَّة قصَّة أصحاب الكهف ، ثمَّ فعل الله به ذلك حيث أتاه علم غيوب المرسلين وخبرهم ، ثمَّ أخبر عن قدر مدَّة لبثهم في الكهف بقوله :
{ ولبثوا في كهفهم } منذ دخلوه إلى أن بعثهم الله { ثلثمائةٍ سنين وازدادوا } بعدها تسع سنين .
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
{ قل } يا محمد : { الله أعلم بما لبثوا } ممَّن يختلف في ذلك { له غيبُ السموات والأرض } علم ما غاب فيهما عن العباد { أبصر به وأسمع } ما أبصرَ الله تعالى بكلِّ موجودٍ ، وأسمعَه تعالى لكلِّ مسموعٍ { ما لهم } لأهل السَّموات والأرض { من } دون الله { من ولي } ناصرٍ { ولا يشرك } الله { في حكمه أحداً } فليس لأحدٍ أن يحكم بحكمٍ لم يحكمْ به الله .
{ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك } اتَّبع القرآن { لا مبدِّل لكلماته } لا مغيِّر للقرآن { ولن تجد من دونه ملتحداً } أَيْ : ملجأ .
{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } مفسَّر في سورة الأنعام إلى قوله : { ولا تعدُ عيناك عنهم } أَيْ : لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والرُّتبة { تريد زينة الحياة الدنيا } تريد مجالسة الأشراف { ولا تطع } في تنحية الفقراء عنك { من إغفلنا قلبه عن ذكرنا } جعلناه غافلاً . { وكان أمره فرطاً } أَيْ : ضَياعاً هلاكاً؛ لأنَّه ترك الإِيمان والاستدلال بآيات الله تعالى واتَّبع هواه .
{ وقل } يا محمَّد لمن جاءك من النَّاس : { الحق من ربكم } يعني : ما آتيتكم به من الإِسلام والقرآن { فمن شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر } تخييرٌ معناه التَّهديد . { إنا أعتدنا } هيَّأنا { للظالمين } الذين عبدوا غير الله تعالى { ناراً أحاط بهم سرادقها } وهو دخان يحيط بالكفَّار يوم القيامة . { وإن يستغيثوا } ممَّا هم فيه من العذاب والعطش { يُغاثوا بماءٍ كالمهل } كمذاب الحديد والرَّصاص في الحرارة { يشوي الوجوه } حتى يسقط لحمها ، ثمَّ ذمَّه فقال : { بئس الشراب } هو { وساءت } النَّار { مرتفقاً } منزلاً ، ثمَّ ذكر ما وعد المؤمنين فقال :
{ إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر مَنْ أحسن عملاً . . . } وقوله :
{ يحلون فيها من أساور من ذهب } يُحلَّى كلُّ مؤمنٍ واحدٍ بسوارين من ذهبٍ ، وكانت الأساورة من زينة الملوك في الدُّنيا ، وقوله : { ويلبسون ثياباً خضراً من سندسٍ وإستبرق } وهما نوعان من الحرير ، والسُّندس : ما رقَّ ، والاستبرق : ما غلظ { متكئين فيها على الأرائك } وهي السُّرر في الحجال { نعم الثواب } طاب ثوابهم { وحسنت } الأرائك { مرتفقاً } موضع ارتفاق ، أَيْ : اتِّكاءً على المرفق فيه .
{ واضرب لهم مثلاً رجلين } يعني : ابني ملكٍ كان في بني إسرائيل تُوفِّي وتركهما ، فاتخذ أحدهما القصور والأجنَّة ، والآخر كان زاهداً في الدُّنيا ، راغباً في الآخرة ، فكان إذا عمل أخوه شيئاً من زينة الدُّنيا ، أخذ الزَّاهد مثل ذلك ، فقدَّمه لآخرته ، واتَّخذ به عند الله الأجنة والقصور حتى نفد ماله ، فضربهما الله مثلاً للمؤمن والكافر الذي أبطرته النِّعمة ، وهو قوله : { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل } وجعلنا النَّخل مُطبقاً بهما { وجعلنا بينهما } بين الجنتين { زرعاً }
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{ كلتا الجنتين آتت أكلها } أدَّت ريعها تامَّاً { ولم تظلم منه شيئاً } لم تنقص . { وفجرنا خلالهما } أخرجنا وسط الجنتين { نهراً } .
{ وكان له ثمر } وكان للأخ الكافر أموال كثيرة { فقال لصاحبه } لأخيه { وهو يحاوره } يراجعه في الكلام ويُجاذبه ، وذلك أنَّه سأله عن ماله فيما أنفقه؟ فقال : قدَّمته بين يدي لأقدم عليه ، فقال : { أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً } رهطاً وعشيرةً .
{ ودخل جنته } وذلك أنَّه أخذ بيد أخيه المسلم فأدخله جنَّته يطوف به فيها ، وقوله : { وهم ظالم لنفسه } أَيْ : بالكفر بالله تعالى { قال : ما أظنُّ أن تبيد } تهلك { هذه أبداً } أنكر أنَّ الله سبحانه يفني الدُّنيا ، وأنَّ القيامة تقوم فقال : { وما أظن الساعة قائمة ، ولئن رددت إلى ربي } يريد : إن كان البعث حقَّاً { لأجدنَّ خيراً منها منقلباً } كما أعطاني هذا في الدُّنيا سيعطيني في الآخرة أفضل منه ، فقال له أخوه المسلم :
{ أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة } في رحم أُمِّك { ثم سوَّاك رجلاً } جعلك معتدل الخلق والقامة .
{ لكنا } لكن أنا { هو الله ربي . . . } الآية .
{ ولولا } وهلاَّ { إذْ دخلت جنتك قلت ما شاء الله } أي : الأمر ما شاء الله ، أَيْ : بمشيئة الله تعالى : { لا قوة إلاَّ بالله } لا يقوى أحدٌ على ما في يديه من ملكٍ ونعمةٍ إلاَّ بالله ، هذا توبيخٌ من المسلم للكافر على مقالته ، وتعليمٌ له ما يجب أن يقول ، ثم رجع إلى نفسه فقال :
{ إن ترن أنا أقلَّ منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين } في الآخرة ، أو في الدُّنيا { خيراً من جنتك أو يرسل عليها } على جنَّتك { حسباناً من السماء } عذاباً يرميها به من بَرَدٍ أو صاعقةٍ { فتصبح صعيداً زلقاً } أرضاً لا نبات فيها .
{ أو يصبح ماؤها } يعني : النَّهر خلالها { غوراً } غائراً ذاهباً في الأرض { فلن تستطيع } لا تقوى { له طلباً } لا يبقى له أثرٌ تطلبه .
{ وأحيط بثمره } وأُهلكت أشجار المثمرة { فأصبح يقلب كفيه } يضرب يديه واحدةً على الأخرى ندامةً { على ما أنفق فيها وهي خاوية } ساقطةٌ { على عروشها } سقوفها وما عرش للكروم { ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً } تمنَّى أنَّه كان مُوحِّداً غير مشركٍ حين لم ينفعه التَّمني .
{ ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله } لم ينصره النَّفر الذين افتخر بهم حين قال : { وأعزُّ نفراً } . { وما كان منتصراً } بأن يستردَّ بدل ما ذهب منه ، ثمَّ عاد الكلام إلى ما قبل القصة فقال :
{ هنالك } عند ذلك ، يعني : يوم القيامة { الولاية لله الحق } يتولَّون الله ويؤمنون به ، ويتبرَّؤون ممَّا كانوا يعبدون { هو خير ثواباً } أفضل ثواباً ممَّن يُرجى ثوابه { وخير عقباً } أَيْ : عاقبةُ طاعته خيرٌ من عاقبة طاعة غيره .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{ واضرب لهم } لقومك { مثل الحياة الدنيا كماء } أَيْ : هو كماءٍ { أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } أَيْ : شرب منه فبدا فيه الرِّيّ { فأصبح } أي : النَّبات { هشيماً } كسيراً مُتفتِّتاً { تذروه الرياح } تحمله وتفرِّقه ، وهذه الآية مختصرةٌ من قوله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا . . . . } الآية . { وكان الله على كلِّ شيء } من الإنشاء والإِفناء { مقتدراً } قادراً ، أنشأ النَّبات ولم يكن ، ثمَّ أفناه .
{ المال والبنون زينة الحياة الدنيا } هذا ردٌّ على الرُّؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والأبناء ، أخبر الله سبحانه أنَّ ذلك ممَّا يُتزيَّن به في الحياة الدُّنيا ، ولا ينفع في الآخرة { والباقيات الصالحات } ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الصَّلوات والأذكار والأعمال الصَّالحة { خير عند ربك ثواباً } أفضل ثواباً ، وأفضل أملاً من المال والبنين .
{ ويوم } واذكر يوم { نسيّر الجبال } عن وجه الأرض كما نُسيِّر السَّحاب { وترى الأرض بارزة } ظاهرةً ليس عليها شيءٌ { وحشرناهم } المؤمنين والكافرين { فلم نغادر } نترك { منهم أحداً } .
{ وعرضوا على ربك } يعني : المحشورين { صفاً } مصفوفين ، كلُّ زمرةٍ وأمَّةٍ صفٌّ ، ويقال لهم : { لقد جئتمونا كما خلقناكم أوَّل مرة } حُفاةً عُراةً فرادى { بل زعمتم } خطابٌ لمنكري البعث { أن لن نجعل لكم موعداً } للبعث والجزاء .
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ ووضع الكتاب } وُضع كتاب كلِّ امرىءٍ في يمينه أو شماله { فترى المجرمين } المشركين { مشفقين ممَّا فيه } خائفين ممَّا فيه من الأعمال السيئة { ويقولون } لوقوعهم في الهلكة : { يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر } لا يترك { صغيرة } من أعمالنا { ولا كبيرة إلاَّ أحصاها } أثبتها وكتبها { ووجدوا ما عملوا حاضراً } في الكتاب مكتوباً { ولا يظلم ربك أحداً } لا يعاقب أحداً بغير جرمٍ ، ثمَّ أمر نبيَّه عليه السَّلام أن يذكر لهؤلاء المُتكبِّرين عن مجالسة الفقراء قصَّة إبليس ، وما أورثه الكبر ، فقال :
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس كان من الجن } أَيْ : من قبيلٍ من الملائكة يُقال لهم : الجنُّ { ففسق } خرج { عن أمر ربه } إلى معصيته في ترك السُّجود { أفتتخذونه وذريته } أولاده ، وهم الشَّياطين { أولياء من دوني } تطيعونهم في معصيتي { وهم لكم عدوٌّ } كما كان لأبيكم عدواً { بئس للظالمين بدلاً } بئس ما استبدلوا بعبادة الرَّحمن طاعة الشَّيطان .
{ ما أشهدتهم } ما أحضرتهم ، يعني : إبليس وذريَّته { خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم } أخبر عن كمال قدرته ، واستغنائه عن الأنصار والأعوان فيما خلق { وما كنت متخذ المضلين عضداً } أنصاراً وأعواناً لاستغنائي بقدرتي عن الأنصار .
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{ ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم . . . } الآية . يقول الله تعالى يوم القيامة : ادعوا الذين أشركتم بي ليمنعوكم من عذابي { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم } بين المشركين وأهل لا إله إلاَّ الله { موبقاً } حاجزاً .
{ ورأى المجرمون } المشركون { النار فظنوا } أيقنوا { أنهم مواقعوها } واردوها وداخلوها { ولم يجدوا عنها مصرفاً } مهرباً لإحاطتها بهم من كلِّ جانبٍ . وقوله :
{ وكان الإِنسان } الكافر { أكثر شيء جدلاً } قيل : هو أُبيُّ بن خلف ، وقيل : النَّضر بن الحارث .
{ وما منع الناس } أهل مكَّة { أن يؤمنوا } الإِيمان { إذ جاءهم الهدى } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن { إلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين } العذاب . يعني : إنَّ الله تعالى قدَّر عليهم العذاب ، فذلك الذي منعهم من الإِيمان { أو يأتيهم العذاب قبلاً } عياناً . يعني : القتل يوم بدرٍ ، وقوله :
{ ويجادل الذين كفروا بالباطل } يريد المُستهزئين والمقتسمين جادلوا في القرآن { ليدحضوا } ليبطلوا { به } بجدالهم { الحق } القرآن { واتخذوا آياتي } القرآن { وما أنذروا } به من النَّار { هزواً } .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{ ومن أظلم ممن ذكّر } وُعظ { بآيات ربه فأعرض عنها } فتهاون بها { ونسي ما قدَّمت يداه } ما سلف من ذنوبه ، وباقي الآية سبق تفسيره . وقوله :
{ بل لهم موعد } يعني : البعث والحساب { لن يجدوا من دونه مَوْئِلاً } ملجأ .
{ وتلك القرى } يريد : القرى التي أهلكها بالعذاب { أهلكناهم } أهلكنا أهلها { لما ظلموا } أشركوا وكذَّبوا الرُّسل { وجعلنا لمهلكهم } لإِهلاكهم { موعداً } .
{ وإذ قال موسى } واذكر إذ قال موسى ، لما في قصَّته من العبرة { لفتاه } يوشع بن نون : { لا أبرح } لا أزال أسير { حتى أبلغ مجمع البحرين } حيث يلتقي بحر الروم وبحر فارس { أو أمضي } إلى أن أمضي { حقباً } دهراً طويلاَ ، وذلك أنَّ رجلاً أتى إلى موسى عليه السَّلام ، فقال : هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال : لا ، فأوحى الله تعالى إليه : بلى عبدنا خضر ، فسأل موسى عليه السَّلام السبيل إلى لُقيِّه ، فجعل الله تعالى له الحوت آيةً ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع فإنَّك ستلقاه ، فانطلق هو وفتاه حتى أتيا الصَّخرة التي عند مجمع البحرين ، فقال لفتاه : امكث حتى آتيك ، وانطلق موسى لحاجته ، فجرى الحوت حتى وقع في البحر ، فقال فتاه : إذا جاء نبيُّ الله حدَّثته ، فأنساه الشَّيطان .
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{ فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حُوْتَهُما } أراد : نسي أحدهما ، وهو يوشع ابن نون { فاتخذ سبيله } اتَّخذ الحوت سبيله { في البحر سرباً } ذهاباً ، والمعنى : سرب سرباً ، والآية على التّقديم والتَّأخير؛ لأنَّ ذهاب الحوت كان قد تقدَّم على النِّسيان .
{ فلما جاوزا } ذلك المكان الذي ذهب الحوت عنه { قال لفتاه ءاتنا غداءنا } ما نأكله بالغداة { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } عناءً وتعباً ، ولم يجد النَّصب في جميع سفره حتى جاوز الموضع الذي يريده ، فقال الفتى :
{ أرأيت إذْ أوينا إلى الصخرة } يعني : حيث نزلا { فإني نسيت الحوت } نسيت قصَّة الحوت أن أُحدِّثكها ، ثمَّ اعتذر بإنساء الشَّيطان إيَّاه؛ لأنَّه لو ذكر ذلك لموسى عليه السَّلام ما جاوز ذلك الموضع ، وما ناله النَّصب ، ثمَّ ذكر قصَّته فقال : { واتخذ سبيله في البحر عجباً } أَي : أعجب عجباً ، أخبر عن تعجُّبه من ذلك ، فقال موسى عليه السَّلام :
{ ذلك ما كنا نبغي } نطلب ونريد من العلامة { فارتدا على آثارهما } رجعا من حيث جاءا { قصصاً } يقصَّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصَّخرة التي فعل الحوت عندها ما فعل .
{ فوجدا عبداً من عبادنا } يعني : الخضر عليه السَّلام { آتيناه رحمة من عندنا } نبوَّة { وعلمناه من لدنا علماً } أعطيناه علماً من علم الغيب . وقوله :
{ رشداً } أَيْ : علماً ذا رشدٍ ، والتَّقدير : على أن تعلِّمني علماً ذا رشدٍ ممَّا عُلِّمته .
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{ قال إنك لن تستطيع معي صبراً } لن تصبر على صنيعي؛ لأنِّي عُلِّمت غيب ربِّي ، ثمَّ أعلمه العلَّة في ترك الصَّبر ، فقال :
{ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } أَيْ : على ما لم تعلمه من أمرٍ ظاهره منكرٌ .
{ قال } له موسى : { ستجدني إن شاء الله صابراً } لا أسألك عن شيءٍ حتى تكون أنت تحدِّثني به { ولا أعصي لك أمراً } ولا أخالفك في شيء .
{ قال } له الخضر عليه السَّلام : { فإن اتبعتني } صحبتني { فلا تسألني عن شيء } ممَّا أفعله { حتى أحدث لك منه ذكراً } حتى أكون أنا الذي أُفسِّره لك .
{ فانطلقا } ذهبا يمشيان { حتى إذا ركبا } البحر { في السفينة خرقها } شقَّها الخضر وقلع لوحين ممَّا يلي الماء ، ف { قال } موسى منكراً عليه : { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً } أَيْ : عظيماً منكراً ،
ف { قال } الخضر : { ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً } ! فقال موسى :
{ لا تؤاخذني بما نسيت } أَيْ : تركت من وصيتك { ولا ترهقني من أمري عسراً } لا تضيِّيق عليَّ الأمر في صحبتي إيَّاك .
[ { فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله } أَيْ : ضربه فقضى عليه ، ] وقوله : { نفساً زاكية } أَيْ : طاهرةً لم تبلغ حدَّ التَّكليف { بغير نفس } بغير قودٍ .
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{ إن سألتك } سؤال توبيخٍ وإنكارٍ { عن شيء بعدها } بعد النَّفس المقتولة { فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً } أعذرت فيما بيني وبينك حيث أخبرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً .
{ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } وهي أنطاكية { استطعما أهلها } سألاهم الطَّعام { فأبوا أن يضيفوهما } فلم يطعموهما { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقص } قَرُبَ أَن يسقط لميلانه { قأقامه } فسوَّاه ، فقال موسى : { لو شئت لاتخذت } على إقامته { أجراً } جُعلاً حيث أبوا أن يطعمونا .
{ قال } الخضر : { هذا } وقت { فراق بيني وبينك } إنِّي لا أصحبك بعد هذا ، وأخبرك بتفسير ما لم تصبر عليه وأنكرته عليَّ .
{ أمَّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها } أجعلها ذات عيب { وكان وراءهم } أمامهم { ملك يأخذ كلَّ سفينة } صالحةٍ { غصباً } .
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
{ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا } فكرهنا { أن يرهقهما } يُكلِّفهما { طغياناً وكفراً } ويحملهما حبُّه على أن يتَّبعاه ، ويدينا بدينه ، وكان الغلام كافراً .
{ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة } صلاحاً { وأقرب رحماً } وأبرَّ بوالديه وأوصل للرَّحم .
{ وإمَّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } يعني : في تلك القرية { وكان تحته كنز لهما } من ذهبٍ وفضَّةٍ ، ولو سقط الجدار أُخذ الكنز { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } أراد الله سبحانه أن يبقى ذلك الكنز إلى بلوغ الغلامين حتى يستخرجاه . { وما فعلته عن أمري } أي : انكشف لي من الله سبحانه علمٌ فعملت به ، ولم أعمل من عند نفسي .
{ ويسألونك } يعني : اليهود ، وذلك أنَّهم سألوه عن رجلٍ طوَّافٍ بلغ شرق الأرض وغربها .
{ إنا مكنا له في الأرض } سهَّلنا عليه السَّير فيها ، وذلَّلنا له طرقها { وآتيناه من كلِّ شيء } يحتاج إليه { سبباً } علماً يتسبَّب به إلى ما يريد .
{ فأتبع سبباً } طريقاً يوصله إلى مغيب الشَّمس .
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } ذات حمأةٍ ، وهو الطِّين الأسود { ووجد عندها } عند العين { قوماً قلنا : يا ذا القرنين إما أن تعذب } إمَّا أن تقتلهم إن أبوا ما تدعوهم إليه { وإمَّا أن تتخذ فيهم حسناً } تأسرهم فتعلِّمهم الهدى ، خيَّره الله تعالى بين القتل والأسر ، فقال :
{ أما من ظلم } أشرك { فسوف نعذبه } نقتله إذا لم يرجع عن الشِّرك { ثم يرد إلى ربه } بعد القتل { فيعذبه عذاباً نكراً } يعني : في النَّار .
{ وإمَّا مَنْ آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى } الجنَّة { وسنقول له من أمرنا يسراً } نقول له قولاً جميلاً .
{ ثم أتبع سبباً } سلك طريقاً آخر يوصله إلى المشرق .
{ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم } عُراةٍ { لم نجعل لهم من } دون الشمس { ستراً } سقفاً ولا لباساً .
{ كذلك } القبيل الذين كانوا عند مغرب الشَّمس في الكفر { وقد أحطنا بما لديه } من الجنود والعدَّة { خبراً } علماً؛ لأنَّا أعطيناه ذلك .
{ ثم أتبع سبباً } ثالثاً يُبلِّغه قطراً من أقطار الأرض .
{ حتى إذا بلغ بين السدين } وهما جبلان سدَّ بينهما ذو القرنين { وجد من دونهما } عندهما { قوماً لا يكادون يفقهون قولاً } لا يفهمون كلاماً ، فاشتكوا إليه فساد يأجوج ومأجوج ، وأذاهم إيَّاهم .
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{ إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } بالنَّهب والبغي { فهل نجعل لك خرجاً } جعلاً { على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً } .
{ قال : ما مكني فيه ربي خيرٌ } أَي : الذي أعطاني وملكني أفضل من عطيتكم { فأعينوني بقوة } بعملٍ تعملون معي { أجعل بينكم وبينهم ردماً } سدَّاً حاجزاً .
{ آتوني } أعطوني { زبر } قطع { الحديد } فأتوه بها فبناه { حتى إذا ساوى بين الصدفين } جانبي الجبلين { قال انفخوا } على زُبر الحديد ، قطع الحديد بالكير والنَّار { حتى إذا جعله ناراً } جعل الحديد ناراً ، أَيْ : كنارٍ { قال آتوني } قطراً : وهو النُّحاس الذَّائب { أفرغ عليه } أصبُّ عليه ، فأفرغ النُّحاس المذاب على الحديد المحمى حتى التصق بعضه ببعض .
{ فما اسطاعوا أن يظهروه } ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وملاسته { وما استطاعوا } أن ينقبوه من أسلفه لصلابته .
{ قال } ذو القرنين لمَّا فرغ منه : { هذا رحمة من ربي } يعني : التَّمكين من ذلك البناء ، والتَّقوية عليه { فإذا جاء وعد ربي } أجل ربي بخروج يأجوج ومأجوج { جعله دكاً } كِسَراً { وكان وعد ربي } بخروجهم { حقاً } كائناً .
{ وتركنا بعضهم } يعني : الخلق من الإِنس والجنِّ { يومئذ } يوم القيامة { يموج في بعض } يدخل ويختلط . { ونفخ في الصور } وهو القرن الذي يُنفخ فيه للبعث { فجمعناهم } في صعيدٍ واحدٍ .
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{ وعرضنا } أظهرنا { جهنم يومئذ للكافرين عرضاً } .
{ الذين كانت أعينهم في غطاء } في غشاوةٍ { عن ذكري } أَيْ : كانوا لا يعتبرون بآياتي فيذكرونني بالتَّوحيد { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } لعداوتهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقدرون أن يسمعوا ما يتلوا عليهم .
{ أفحسب } أفظنّ { الذين كفروا أن يتخذوا عبادي } الشَّياطين { من دوني أولياء } نفعهم ذلك ودفعوا عنهم ، كلا { إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلاً } منزلاً .
{ قل هل ننبئكم } نخبركم { بالأخسرين أعمالاً } بالذين هم أشدُّ الخلق وأعظمهم خسراناً فيما عملوا .
{ الذين ضل سعيهم } حبط عملهم { في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } يظنُّون أنَّهم بعملهم مُطيعون ، ثمَّ بيَّن مَنْ هم ، فقال :
{ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم } بدلائل توحيده من القرآن وغيره { ولقائه } يعني : البعث { فحبطت أعمالهم } بطل اجتهادهم { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } أَيْ : نهينهم بعذاب النَّار ، ولا نعبأ بهم شيئاً .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ جنات الفردوس } وهو وسط الجنَّة وأعلاها درجةً . وقوله :
{ لا يبغون عنها حولاً } لا يريدون أن يتحوَّلوا عنها .
{ قل لو كان البحر مداداً } وهو ما يكتب به { لكلمات ربي } أَيْ : لكتابتها ، وهي حِكَمُه وعجائبه ، والكلمات : هي العبارات عنها { لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله } بمثل البحر { مدداً } زيادة على البحر .
{ قل إنما أنا بشر مثلكم } آدميٌّ مثلكم { يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحدٌ فمن كان يرجو لقاء ربه } ثواب ربه { فليعمل عملاً صالحاً } خالصاً { ولا يشرك } ولا يراءِ { بعبادة ربه أحداً } نزلت هذه الآية في النَّهي عن الرِّياء بالأعمال .
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{ كهيعص } معناه : الله كافٍ لخلقه ، هادٍ لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالمٌ ببريَّته ، صادقٌ في وعده .
{ ذكر } هذا ذكر { رحمة ربك عبده زكريا } أَيْ : هذا القول الذي أنزلت عليك ذكر رحمة الله سبحانه عبده بإجابة دعائه لمَّا دعاه ، وهو قوله :
{ إذ نادى ربه } دعا ربَّه { نداءاً خفياً } سرَّاً لم يطَّلعْ عليه غير الله .
{ قال رب إني وهن } ضعف { العظم مني } أَيْ : عظمي { واشتعل الرأس شيباً } وكثر شيب رأسي جداً { ولم أكن بدعائك } بدعائي إيَّاك { ربي شقياً } أَيْ : كنت مستجاب الدَّعوة قد عوَّدتني الإِجابة .
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{ وإني خفت الموالي } الأقارب وبني العمِّ والعصبة { من ورائي } من بعدي ألاَّ يحسنوا الخلافة لي في دينك { وكانت امرأتي } فيما مضى من الزَّمان { عاقراً } لم تلد { فهب لي من لدنك ولياً } ابناً صالحاً .
{ يرثني ويرث من آل يعقوب } العلم والنُّبوَّة { واجعله ربِّ رَضِيّاً } مرضياً ، فاستجاب الله تعالى دعاءه ، وقال :
{ يا زكريا إنا نبشرك بغلام } ولدٍ ذكرٍ { اسمه يحيى } لأنَّه يحيا بالعلم والطَّاعة { لم نجعل له من قبل سمياً } لم يُسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم ، فأحبَّ زكريا أن يعلم من أيِّ جهةٍ يكون له الولد ، ومثلُ امرأته لا تلد ، ومثله لا يولد له فقال : { رب أَنّى يكون لي غلام } ولدٌ .
{ وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكبر عتياً } أَيْ : يُبوساً وانتهاءً في السِّنِّ .
{ قال } جبريل عليه السَّلام : { كذلك } أَيْ : الأمر كما قيل لك . { قال ربك هو عليَّ هيَّنٌ } أردُّ عليك قوَّتك حتى تقوى على الجماع ، وأفتق رحم امرأتك بالولد { وقد خلقتك من قبل } يعني : من قبل يحيى { ولم تك شيئاً } .
{ قال رب اجعل لي آية } على حمل امرأتي { قال آيَتُكَ أن لا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً } أَيْ : تمنع الكلام وأنت سويٌّ صحيحٌ سليمٌ ، فتعلم بذلك أنَّ الله قد وهب لك الولد .
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{ فخرج على قومه } وذلك أنَّهم كانوا ينتظرونه ، فخرج عليهم ولم يقدر أن يتكلَّم { فأوحى إليهم } أشار إليهم { أن سبحوا } صلُّوا لله تعالى { بكرة وعشياً } فوهبنا له يحيى ، وقلنا :
{ يا يحيى خذ الكتاب } التَّوراة { بقوة } أعطيتكها وقوَّيتك على حفظها والعمل بما فيها { وآتيناه الحكم صبياً } النُّبوَّة في صباه .
{ وحناناً } وآتيناه حناناً : رحمةً { من لدنا وزكاةً } تطهيراً . وقوله :
{ جباراً } أيْ قتَّالاً مُتكبِّراً { عصياً } عاصياً لربِّه .
{ وسلامٌ عليه } سلامةٌ له منَّا في الأحوال التي ذكرها ، يريد أنَّ الله سبحانه سلَّمه في هذه الأحوال .
{ واذكر } يا محمَّد { في الكتاب مريم إِذِ انتبذت } تنحَّت من أهلها { مكاناً شرقياً } من جانب الشَّرق ، وذلك أنَّها أرادت الغسل من الحيض فاعتزلت في ناحيةٍ شرقيةٍ من الدَّار .
{ فاتخذت من دونهم حجاباً } تتستَّر به عنهم { فأرسلنا إليهم روحنا } جبريل عليه السَّلام { فتمثَّل } فتصوَّر { لها بشراً } آدمياً { سويَّاً } تامَّ الخلق .
{ قالت إني أعوذ بالرحمن منك } أيُّها البشر { إن كنت تقيّاً } مُؤمناً مُطيعاً فستنتهي عني بتعوُّذي بالله سبحانه منك .
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{ قال } جبريل عليه السَّلام : { إنَّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكياً } ولداً صالحاً نبيَّاً .
{ قالت أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر } ليس لي زوجٌ { ولم أك بغياً } ولست بزانيةٍ .
{ قال كذلك } أَيْ : الأمر كما وصفت لك . { قال ربك هو عليَّ هيِّن } أن أهب لكِ غلاماً من غير أبٍ { ولنجعله آية } علامةً للنَّاس على قدرة الله تعالى { ورحمةً منا } لمّنْ تبعه على دينه { وكان } ذلك { أمراً مقضيّاً } قضيت به في سابق علمي ، فرفع جبريل عليه السَّلام جانب درعها ، فنفخ في جيبها ، فحملت بعيسى عليه السَّلام ، وذلك قوله سبحانه :
{ فحملته فانتبذت به } تباعدت بالحمل { مكاناً قصياً } بعيداً من أهلها في أقصى وادي بيت لحم ، وذلك أنَّها لمَّا أحسَّت بالحمل ، هربت من قومها مخافة اللائمة .
{ فَأَجاءَها المخاض } وجع الولادة { إلى جذع النخلة } وذلك أنَّها حين أخذها الطَّلق صعدت أكمة ، فإذا عليها جذع نخلةٍ ، وهو ساقها ولم يكن لها سعفٌ ، فسارت إليها وقالت جزعاً ممَّا أصابها : { يا ليتني مت قبل هذا } اليوم وهذا الأمر { وكنت نسياً منسياً } شيئاً متروكاً لا يُعرف ولا يُذكر ، فلمَّأ رأى جبريل عليه السَّلام وسمع جزعها ناداها من تحت الأكمة .
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
{ فناداها من تحتها ألاَّ تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً } نهر ماءٍ جارٍ ، وكان تحت الأكمة نهرٌ قد انقطع الماء منه ، فأرسل الله سبحانه الماء فيه لمريم .
{ وهزي } وحرِّكي { إليك } إلى نفسك { بجذع النخلة تُسَاقط } النَّخلة { عليك رطباً جنياً } غضَّاً ساعةَ جُني ، وذلك أنَّ الله تعالى أحيا لها تلك النَّخلة بعد يبسها ، فأورقت وأثمرت وأرطبت .
{ فكلي } من الرُّطب { واشربي } من الماء السَّري { وقري عيناً } بولدك { فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً } فسألك عن ولدك ، ولامَك عليه { فقولي : إني نذرت للرحمن صوماً } صمتاً ، أَيْ : قولي له : إني أوجبت على نفسي لله سبحانه أن لا أتكلَّم ، وذلك أنَّ الله تعالى أراد أن يظهر براءتها من جهة عيسى عليه السَّلام يتكلَّم ببراءة أمِّه وهو في المهد ، فذلك قوله : { فلن أكلم اليوم إنسياً } .
{ فأتت به } بعيسى بعد ما طهرت من نفاسها { قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً } عظيماً منكراً ، ولداً من غير أبٍ!
{ يا أخت هارون } كان لها أخٌ صالحٌ من جهة أبيها يسمَّى هارون . وقيل : هارون رجلٌ صالحٌ كان من أمثل بني إسرائيل ، فقيل لمريم : يا شبيهته في العفاف { ما كان أبوك } عمران { امْرَأَ سوء } زانٍ { وما كانت أمك } حنَّة { بغياً } زانيةً ، فمن أين لك هذا الولد من غير زوجٍ؟
{ فأشارت } إلى عيسى بأن يجعلوا الكلام معه ، فتعجَّبوا من ذلك وقالوا : { كيف نكلم من كان في المهد صبياً } يعني : رضيعاً في الحِجْر .
{ قال } عيسى عند ذلك : { إني عبد الله } أقرَّ على نفسه بالعبوديَّة لله سبحانه { آتاني الكتاب } علَّمني التَّوراة . وقيل : الخطَّ .
{ وجعلني نبياً وجعلني مباركاً } معلِّماً للخير أدعو إلى الله تعالى { أينما كنت وأوصاني بالصلاة } أمرني بالصلاة { والزَّكاة } الطَّهارة { ما دمت حيَّاً } .
{ وبرَّاً } لطيفاً { بوالدتي } .
{ والسلام عليَّ يوم ولدت . . . } الآية . أَيْ : السَّلامة عليَّ من الله تعالى في هذه الأحوال .
{ ذلك عيسى ابنُ مريم } أَيْ : الذي قال : { إني عبد الله آتاني الكتاب . . . } الآية ، هو عيسى ابن مريم لا ما يقول النَّصارى مِنْ أنَّه إله ، وإنَّه ابن الله ، { قول الحق } أيْ : هذا الكلام قول الحقِّ ، والحقُّ : هو الله سبحانه . وقيل : معنى قول الحقِّ : أنَّه كلمةُ الله { الذي فيه يمترون } يشكُّون . يعني : اليهود ، يقولون : إنَّه لِزَنيةٍ ، وإنَّه كذَّاب ساحر ، ويقول النَّصارى : إنَّه ابن الله .
{ ما كان لله } ما ينبغي له سبحانه { أن يتخذ من ولد } أَيْ : ولداً { سبحانه } تنزيهاً له عن ذلك { إذا قضى أمراً } أراد كونه { فإنَّما يقول له كن فيكون } كما قال لعيسى : كن فكان من غير أبٍ .
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
{ وإنَّ الله ربي وربكم } هذا راجعٌ إلى قوله تعالى : { وأوصاني بالصَّلاة } وأوصاني بأنَّ الله ربِّي وربُّكم { فاعبدوه } { هذا } الذي ذكرت { صراط مستقيم } .
{ فاختلف الأحزاب } يعني : فرق النَّصارى { من بينهم } فيما بينهم ، وهم النّسطورية واليعقوبيَّة والملكانية { فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } يريد : مشهدهم يوم القيامة .
{ أسمع بهم وأبصر } ما أبصرهم بالهدى يوم القيامة وأطوعهم أنَّ عيسى ليس الله ، ولا ابن الله ، سبحانه ، ولا ثالث ثلاثة ، ولكن لا ينفعهم ذلك مع ضلالتهم في الدُّنيا ، وهو قوله : { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } من أمرعيسى والقول فيه .
{ وأنذرهم } خوِّفهم يا محمَّد { يوم الحسرة } يوم القيامة حين يُذبح الموت بين الفريقين { إذْ قضي الأمر } أُحكم وفرغ منه { وهم في غفلة } في الدُّنيا من ذلك اليوم { وهم لا يؤمنون } لا يُصدِّقون به .
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
{ إنا نحن نرث الأرض } لأنَّا نُميت سُكَّانها ، { و } نرث { مَنْ عليها } لأنَّا نميتهم { وإلينا يرجعون } للثَّواب والعقاب .
{ واذكر } لقومك { في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً } مؤمناً مُؤقناً { نبياً } رسولاً رفيعاً .
{ إذا قال لأبيه : يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع } الدُّعاء { ولا يبصر } العبادة { ولا يغني } ولا يدفع { عنك } من عذاب الله { شيئاً } .
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{ يا أبت لا تعبد الشيطان } لا تُعطه { إنَّ الشيطان كان للرحمن عصياً } عاصياً .
{ يا أبت إني أخاف } إن متَّ على ما أنت عليه أن يصيبك { عذابٌ من الرحمن فتكون للشيطان ولياً } قريناً في النَّار .
{ قال } أبوه مُجيباً له : { أراغب أنت عن آلهتي } أَزاهدٌ فيها وتارك لعبادتها؟! { لئن لم تنته } لئن لم ترجع عن مقالتك في عيبها { لأرجمنك } لأشتمنَّك { واهجرني ملياً } زماناً طويلاً من الدَّهر .
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{ قال } إبراهيم : { سلام عليك } أَيْ : سلمتَ مني لا أصيبك بمكروه ، وهذا جواب الجاهل ، كقوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } { سأستغفر لك ربي } كان هذا قبل أن نُهي عن استغفاره ، وعده ذلك رجاء أن يُجاب فيه { إنه كان بي حفياً } بارَّاً لطيفاً .
{ وأعتزلكم وما تدعون } أُفارقكم وأُفارق ما تعبدون من أصنامكم { وأدعو ربي } أعبده { عسى أن لا أكون بدعاء ربي } بعبادته { شقياً } كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام . يريد : إنَّه يتقبَّل عبادتي ويُثيبني عليها .
{ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } وذهب مهاجراً إلى الشَّام { وهبنا له } بعد الهجرة { إسحق ويعقوب وكلاً } منهما { جعلنا } هُ { نبياً } .
{ ووهبنا لهم من رحمتنا } يعني : النُّبوَّة والكتاب { وجعلنا لهم لسان صدق علياً } ثناءً حسناً رفيعاً في كلِّ أهل الأديان .
{ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً } مُوحِّداً قد أخلص دينه لله .
{ وناديناه من جانب الطور الأيمن } حيث أقبل من مدين يريد مصر ، فنودي من الشَّجرة ، وكانت في جانب الجبل على يمين موسى { وقرَّبناه نجيَّاً } قرَّبة الله تعالى من السَّموات للمناجاة ، حتى سمع صرير القلم يكتب له في الألواح .
{ ووهبنا له من رحمتنا } من نعمتنا عليه { أخاه هارون نبيَّاً } حين سأل ذلك ربَّه فقال : { واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي . . . } الآية .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{ واذكر في الكتاب إسماعيل إنَّه كان صادق الوعد } إذا وعد وفَّى ، وانتظر إنساناً في مكانٍ وعده عنده حتى حال الحول عليه . { وكان رسولاً نبيَّاً } قد بُعث إلى جرهم .
{ وكان يأمر أهله } يعني : قومه { بالصلاة والزكاة } المفروضة عليهم { وكان عند ربِّه مرضياً } لأنَّه قام بطاعته .
{ واذكر في الكتاب } القرآن { إدريس } وقصَّته { إنَّه كان صديقاً نبيَّاً } .
{ ورفعناه مكاناً علياً } رُفع إلى السَّماء الرَّابعة . وقيل : إلى الجنَّة .
{ أولئك الذين } يعني : الذين ذكرهم من الأنبياء كانوا { من ذريَّة آدم وممن حملنا مع نوح } ومن ذريَّة مَنْ حملنا مع نوح في سفينته { ومن ذرية إبراهيم } يعني : إسحاق وإسماعيل ويعقوب { وإسرائيل } يعني : موسى وهارون { وممَّن هدينا } أرشدنا { واجتبينا } اصطفينا { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرُّوا سجداً وبكياً } [ جمع باكٍ ] أخبر الله سبحانه أنَّ هؤلاء الأنبياء كانوا إذا سمعوا بآيات الله سبحانه سجدوا وبكوا من خشية الله تعالى .
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
{ فَخَلفَ من بعدهم } قفا بعد هؤلاء { خلف } قوم سوء ، يعني : اليهود والنَّصارى والمجوس { أضاعوا الصلاة } تركوا الصَّلاة المفروضة { واتبعوا الشهوات } اللَّذات من شرب الخمر والزِّنا { فسوف يلقون غياً } وهو وادٍ في جهنم .
{ إلاَّ من تاب } من الشِّرك { وآمن } وصدَّق النَّبيِّين { وعمل صالحاً } أدَّى الفرائض { فأولئك يدخلون الجنَّة ولا يظلمون شيئاً } لا يُنقصون من ثواب أعمالهم شيئاً .
{ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب } بالمغيب عنهم ولم يروها { إنَّه كان وعده مأتياً } يؤتي ما وعده لا محالة ، تأتيه أنت كما يأتيك هو .
{ لا يسمعون فيها لغواً } قبيحاً من القول { إلاَّ } لكن { سلاماً } قولاً حسناً يسلمون منه ، والسَّلام : اسمٌ جامعٌ للخير { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } على قدر ما يعرفون في الدُّنيا من الغداء والعشاء .
{ تلك الجنة التي نورث } نُعطي ونُنرل { من عبادنا مَنْ كان تقياً } يتَّقي الله بطاعته واجتناب معاصيه .
{ وما نتنزل } كان جبريل عليه السَّلام قد احتبس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أيَّاماً ، فلمَّا نزل قال له : ألاَّ زرتنا ، فأنزل الله سبحانه { وما نتنزل إلاَّ بأمر ربك له ما بين أيدينا } من أمر الآخرة [ { وما خلفنا } ما مضى من أمر الدُّنيا ] { وما بين ذلك } ما يكون من هذا الوقت إلى قيام السَّاعة . وقيل : { له ما بين أيدينا } : يعني : الدُّنيا ، { وما خلفنا } يعني : السَّموات ، { وما بين ذلك } : الهواء : { وما كان ربك نسياً } تاركاً لك منذ أبطأ عنك الوحي . وقوله :
{ هل تعلم له سمياً } هل تعلم أحداً يُسمَّى الله غيره؟
{ ويقول الإِنسان } يعني : أُبيَّ بن خلف { أإذا ما متُّ لسوف أخرج حياً } يقول هذا استهزاءً وتكذيباً بالبعث ، يقول : لسوف أخرج حيَّاً من قبري بعد ما متُّ!؟
{ أَوَلاَ يذكر } يتذكَّر ويتفكَّر هذا { الإنسان أنَّا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً } فيعلم أنَّ مَنْ قدر على الابتداء قدر على الإِعادة ، ثمَّ أقسم بنفسه أنَّه يبعثهم فقال :
{ فوربك لنحشرنَّهم } يعني : منكري البعث { والشياطين } قرناءهم الذين أضلُّوهم { ثمَّ لنحضرنَّهم حول جهنم جثياً } جماعات ، جمع : جُثوة .
{ ثمَّ لننزعنَّ } لنخرجنَّ { من كلِّ شيعة } أُمَّةٍ وفرقةٍ { أيُّهم أشدُّ على الرحمن عتياً } الأعتى فالأعتى منهم ، وذلك أنَّه يبدأ في التعذيب بأشدهم عتيَّا ، ثمَّ الذي يليه .
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{ ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً } أحقُّ بدخول النَّار .
{ وإنْ منكم } وما منكم من أحدٍ { إلاَّ واردُها } إلاَّ وهو يرد النَّار { كان على ربك } كان الورود على ربِّك { حتماً مقضياً } حتم بذلك وقضى .
{ ثمَّ نُنَجِّي } من النَّار { الذين اتقوا } الشِّرك { ونذر الظالمين } المشركين { فيها جثياً } [ أَيْ ] : جميعاً .
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيِّناتٍ } يعني : القرآن وما بيَّن الله فيه { قال الذين كفروا } يعني : مشركي قريش { للذين آمنوا أَيُّ الفريقين } منَّا ومنكم { خيرٌ مقاماً } منزلاً ومسكناً { وأحسن ندياً } مجلساً ، وذلك أنَّهم كانوا أصحاب مالٍ وزينةٍ من الدُّنيا ، وكان المؤمنون أصحاب فقرٍ ورَثَاثة ، فقالوا لهم : نحن أعظم شأناً ، وأعزُّ مجلساً ، وأكرم منزلاً أم أنتم؟ فقال الله تعالى :
{ وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً } متاعاً { ورئياً } منظراً من هؤلاء الكفَّار ، فلم يُغن ذلك عنهم شيئاً .
{ قل مَنْ كان في الضلالة } الشِّرك والجهالة { فليمدد له الرحمن مدَّاً } فإنَّ الله تعالى يمدُّ له فيها ويمهله في كفره ، وهذا لفظ أمرٍ معناه الخبر { حتى إذا رأوا ما يوعدون إمَّا العذاب } في الدُّنيا { وإما الساعة فسيعلمون مَنْ هو شرٌّ مكاناً وأضعف جنداً } أَهم أم المؤمنون؟ وذلك أنَّهم إن قُتلوا ونُصر المؤمنون عليهم علموا أنَّهم أضعف جنداً ، وإن ماتوا فدخلوا النَّار علموا أنَّهم شرٌّ مكاناً .
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً } يزيدهم في يقينهم ورشدهم { والباقيات الصالحات } الأعمال الصَّالحة { خيرٌ عند ربك ثواباً } ممَّا يملك الكفَّار من المال { وخيرٌ مردَّاً } أَيْ : في المرَدِّ ، وهو الآخرة .
{ أفرأيت الذي كفر بآياتنا } يعني : العاص بن وائل { وقال لأوتين مالاً وولداً } وذلك أنَّ خبَّاباً اقتضى ديناً له عليه ، فقال : ألستم تزعمون أنَّ في الجنَّة ذهباً وفضَّةً؟ ولئن كان ما تقولون حقَّاً فإنِّي لأفضلُ نصيباً منك ، فأَخِّرني حتى أقضيك في الجنَّة ، استهزاءً ، فذلك قوله : { لأوتين مالاً وولداً } يعني : في الجنَّة ، فقال الله تعالى :
{ أطلع الغيب } أعلمَ علم الغيب حتى عرف أنَّه في الجنَّة { أم اتخذ عند الرحمن عهداً } أم قال : لا إله إلاَّ الله حتى يستحقَّ دخول الجنَّة؟
{ كلا } ليس الأمر كما يقول : { سنكتب ما يقول } سيحفظ عليه ما يقول من الكفر والاستهزاء لنجازيه به { ونمدُّ له من العذاب مدَّاً } نزيده عذاباً فوق العذاب .
{ ونرثه ما يقول } من أنَّ في الجنَّة ذهباً وفضةً ، فنجعله لغيره من المسلمين { ويأتينا فرداً } خالياً من ماله وولده وخدمه . { واتخذوا من دون الله } يعني : أهل مكَّة { آلهة } وهي الأصنام { ليكونوا لهم عزَّاً } أعواناً يمنعونهم مني .
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
{ كلا } ليس الأمر على ما ظنُّوا { سيكفرون بعبادتهم } لأنَّهم كانوا جماداً لم يعرفوا أنَّهم يُعبدون { ويكونون عليهم ضداً } أعواناً ، وذلك أنَّ الله تعالى يحشر آلهتهم فينطقهم ، ويركِّب فيهم العقول فتقول : يا ربِّ عذّب هؤلاء الذين عبدونا من دونك .
{ الم تر } يا محمَّد { إنَّا أرسلنا الشياطين على الكافرين } سلَّطناهم عليهم بالإِغواء { تؤزهم أزَّاً } تُزعجهم من الطَّاعة إلى المعصية .
{ فلا تعجل عليهم } بالعذاب { إنما نعدُّ لهم } الأيَّام واللَّيالي والأنفاس { عدَّاً } إلى انتهاء أجل العذاب .
{ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } ركباناً مُكرمين .
{ ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً } عطاشاً .
{ لا يملكون الشفاعة إلاَّ من اتَّخذ } لكم { عند الرحمن عهداً } اعتقد التَّوحيد وقال : لا إله إلاَّ الله؛ فإنه يملك الشَّفاعة ، والمعنى : لا يشفع إلاَّ مَنْ شهد أن لا إله إلاَّ الله .
{ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } يعني : اليهود والنَّصارى ، ومَنْ زعم أنَّ الملائكة بنات الله .
{ لقد جئتم شيئاً إدَّاً } عظيماً فظيعاً .
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ تكاد السموات } تقرب من أن { يتفطرن } يتشقَّقْن { منه } من هذا القول { وتخرُّ } وتسقط { الجبال هدَّاً } سقوطاً .
{ أن دعوا } لأنْ دعوا { للرحمن ولداً } .
{ وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً } لأنَّه لا يليق به الولد ، ولا مجانسة بينه وبين أحد .
{ إن كلُّ } ما كلُّ { من في السموات والأض إلاَّ } وهو يأتي الله سبحانه يوم القيامة مُقرَّاً له بالعبوديَّة .
{ لقد أحصاهم وعدَّهم عدَّاً } أَيْ : علمهم كلَّهم ، فلا يخفى عليه أحدٌ ولا يفوته .
{ وكلهم آتيْهِ يوم القيامة فرداً } من ماله وولده ليس معه أحدٌ .
{ إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً } محبَّةً في قلوب المؤمنين ، قيل : نزلت في عليّ بن أبي طالب . وقيل : في عبد الرَّحمن بن عوف .
{ فإنما يسرناه } سهَّلنا القرآن { بلسانك } بلغتك { لتبشر به المتقين } الذين صدَّقوا وتركوا الشِّرك { وننذر به قوماً لداً } شداد الخصومة .
{ وكم أهلكنا من قبلهم } قبل قومك { من قرن } جماعةٍ { هل تحس } تجد { منهم من أحدٍ أو تسمع لهم رِكْزاً } صوتاً .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
{ طه } يا رجل .
{ وما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } لتتعب بكثرة الجهد ، وذلك أنَّه كان يُصلِّي اللَّيل كلَّه بمكَّة حتى تورَّمت قدماه ، وقال له الكفَّار : إنَّك لتشقى بترك ديننا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ إلاَّ تذكرة } أي : ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً ، موعظةً { لمن يخشى } يخاف الله عزَّ وجلَّ .
{ تنزيلاَ ممَّن خلق الأرض والسموات العلى } جمع العليا .
{ الرحمن على العرش } مع أنَّه أعظم المخلوقات { استوى } [ أي : أقبل على خلقه ، كقوله : { ثم استوى إلى السماء } مع أنه أعظم المخلوقات ] ، أي : استولى .
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{ وما تحت الثرى } ما تحت الأرض ، والثَّرى : التُّراب النَّدي .
{ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر } وهو ما أسررت لفي نفسك { وأخفى } وهو ما ستحدِّث به نفسك ممَّا لم يكن بعد ، والمعنى : إنَّه يعلم هذا ، فكيف ما جُهِرَ به؟
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{ وهل أتاك } يا محمَّد . { حديث موسى } خبره وقصَّته .
{ إذ رأى ناراً } في طريقه إلى مصر لمَّا أخذ امرأته الطَّلْقُ { فقال لأهله } لامرأته : { امكثوا } أقيموا مكانكم { إني آنست } أبصرت { ناراً لعلي آتيكم منها بقبس } شعلة نارٍ { أو أجد على النار هدى } مَنْ يهديني ويدلُّني على الطَّريق ، وكان قد ضلَّ عن الطَّريق .
{ فلما أتاها } أي : النَّار .
{ نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك } وكانتا من جلد حمارٍ ميِّتٍ غيرِ مدبوغٍ ، لذلك أُمر بخلعها { إنك بالواد المقدس } المُطهَّر { طوى } اسم ذلك الوادي .
{ وأنا اخترتك } اصطفيتك للنُّبوَّة { فاستمع لما يوحى } إليك مني .
{ وأقم الصلاة لذكري } لتذكرني فيها .
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{ إنَّ الساعة } القيامة { آتية أكاد أخفيها } أسترها للتَّهويل والتَّعظيم ، و " أكادُ " صلةٌ { لتجزى } في ذلك اليوم { كل نفس بما تسعى } تعمل .
{ فلا يصدنك } يمنعنَّك { عنها } عن الإِيمان بالسَّاعة { مَنْ لا يؤمن بها واتبع هواه } مراده { فتردى } فتهلك .
{ وما تلك } وما التي { بيمينك } في يدك اليمنى؟ { قال هي عصاي أتوكأ عليها } أتحامل عليها عند المشي والإِعياء { وأهش } أخبط الورق عن الشَّجر { بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى } حاجاتٌ أخرى سوى التَّوَكُّؤِ والهشِّ .
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
{ سنعيدها سيرتها الأولى } أَيْ : نردُّها عصاً كما كانت .
{ واضمم يدك إلى جناحك } جناح الإِنسان : عضده إلى أصل إبطه ، يريد : أدخلها تحت جناحك { تخرج بيضاء من غير سوء } برصٍ أو داءٍ { آية أخرى } لك سوى العصا .
{ لنريك من آياتنا الكبرى } وكانت يده أكبر آياته .
{ اذهب إلى فرعون إنه طغى } كفر بأنعمي ، وتكبَّر عن عبادتي ، فعند ذلك .
{ قال } موسى : { رب اشرح لي صدري } وسِّعْ ولَيِّنْ لي قلبي بالإِيمان والنُّبوَّة .
{ ويسِّر لي أمري } وسهِّلْ عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرِّسالة .
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
{ واحلل } افتح { عقدة من لساني } وكانت في لسانه رُتَّة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه .
{ يفقهوا قولي } كي يفهموا كلامي .
{ واجعل لي وزيراً } معيناً { من أهلي } وهو ،
{ هارون } .
{ اشدد به أزري } قوِّ به ظهري .
{ وأشركه في أمري } اجعل ما أمرتني به من النُّبوَّة بيني وبينه .
{ كي نسبحك } نصلِّي لك { كثيراً } .
{ ونذكرك كثيراً } باللسان على كلِّ حالٍ .
{ إنك كنت بنا بصيراً } عالماً ، فاستجاب الله له ، وقال تعالى :
{ قد أوتيت سؤلك يا موسى } أُعطيت مرادك ، ثمَّ ذكر منَّته السالفة عليه بقوله تعالى :
{ ولقد مننا عليك مرَّة أخرى } قبل هذه ، وهي : { إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى } أَيْ : ألهمناها ما يلهم الإِنسان من الصَّواب ، وهو إلهام الله تعالى إيَّاها :
{ أن اقذفيه } اجعليه { في التابوت فاقذفيه } فاطرحيه { في اليم } يعني : نهر النِّيل .
{ فليلقه اليمُّ بالساحل } فيردُّه الماء إلى الشَّطِّ { يأخذه عدوٌّ لي وعدوٌّ له } وهو فرعون { وألقيت عليك محبة مني } حتى لم يقتلك عدوُّك الذي أخذك من الماء ، وهو أنَّه حبَّبه إلى الخلق كلِّهم ، فلا يراه مؤمنٌ ولا كافرٌ إلاَّ أحبَّه . { ولتصنع } ولتربى وتغذَّى { على عيني } على محبَّتي ومرادي . يعني : إذ ردَّه إلى أُمِّه حتى غذته ، وهو قوله :
{ إذ تمشي أختك } مُتعرِّفةً خبرك وما يكون من أمرك بعد الطَّرح في الماء { فتقول } لكم : { هل أدلُّكم على مَنْ يكفله } يرضعه ويضمُّه إليه ، وذلك حين أبى موسى عليه السَّلام أن يقبل ثدي امرأةٍ ، فلمَّا قالت لهم ذلك قالوا : نعم ، فجاءت بالأُمِّ ، فَدُفع إليها ، فذلك قوله : { فرجعناك إلى أمك كي تقرَّ عينها } بلقائك وبقائك { ولا تحزن } على فقدك { وقتلت نفساً } يعني : القبطي الذي قتله { فنجيناك من الغم } من غمِّ أن تُقتل به { وفتناك فتوناً } اختبرناك اختباراً بأشياء قبل النَّبوَّة { فلبثت } مكثت { سنين في أهل مدين } عشر سنين في منزل شعيب { ثم جئت على قدر } على رأس أربعين سنة . وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السَّلام .
{ واصطنعتك لنفسي } اخترتك بالرِّسالة لكي تحبَّني وتقوم بأمري .
{ اذهب أنت وأخوك بآياتي } يعني : بما أعطاهما من المعجزة { ولا تنيا } لا تَفتُرا .
{ اذهبا إلى فرعون إنَّه طغى } علا وتكبَّر .
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
{ فقولا له قولاً ليّناً } كنِّياه وعِداه على الإِيمان نعيماً وعمراً طويلاً في صحَّة ، ومصيراً إلى الجنَّة { لعله يتذكر } يتَّعظ { أو يخشى } يخاف الله تعالى ، ومعنى " لعلَّ " ها هنا يعود إلى حال موسى وهارون . أَي : اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ، وقد علم الله تعالى ما يكون منه .
{ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا } [ يعجل علينا ] بالقتل والعقوبة { أو أن يطغى } يتكبَّر ويستعصي .
{ قال لا تخافا إنني معكما } بالعون والنُّصرة { أسمع } ما يقول { وأرى } ما يفعل . وقوله :
{ فأرسل معنا بني إسرائيل } أَيْ : خلِّ عنهم ولا تستسخرهم { ولا تعذبهم } ولا تتعبهم في العمل { قد جئناك بآية من ربك } يعني : اليد البيضاء [ والعصا ] { والسلام على من اتبع الهدى } سَلِمَ مَنْ أسلم .
{ إنا قد أوحي إلينا أنَّ العذاب على مَنْ كذَّب } أنبياء الله { وتولى } أعرض عن الإِيمان .
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{ ربنا الذي أعطى كلَّ شيء خلقه } أَيْ : أتقن كلَّ شيءٍ ممَّا خلق ، وخلقه على الهيئة التي بها يُنتفع ، والتي هي أصلح وأحكم لما يُراد منه { ثم هدى } أي : هداه لمعيشته ، ثمَّ سأله فرعون عن أعمال الأمم الماضية .
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
{ فما بال القرون الأولى } الماضية؟ فأجابه موسى عليه السَّلام بأنَّ أعمالهم محفوظةٌ عند الله يُجازون بها ، وهو قوله :
{ علمها عند ربي في كتاب } وهو اللَّوح المحفوظ { لا يضل ربي } لا يخطىء ، ومعناه : لا يترك مَنْ كفر به حتى ينتقم منه { ولا ينسى } مَنْ وحَّده حتى يجازيه .
{ الذي جعل لكم الأرض مهاداً } فراشاً { وسلك لكم فيها سبلاً } وسهَّل لكم فيها طُرُقاً { وأنزل من السماء ماء } يريد : المطر ، وتمَّ ها هنا جواب موسى ، ثمَّ تلوَّن الخطاب ، وقال الله تعالى : { فأخرجنا به أزواجاً } أصنافاً { من نبات شتى } مختلفة الألوان والطُّعوم .
{ كلوا } منها { وارعوا أنعامكم } فيها ، أَيْ : أسيموها واسرحوها في نبات الأرض { إنَّ في ذلك } الذي ذكرت { لآيات } لعبرة { لأولي النهي } لذوي العقول .
{ منها خلقناكم } يعني : آدم عليه السَّلام { وفيها نعيدكم } عند الموت { ومنها نخرجكم } عند البعث { تارة } مرَّةً { أخرى } .
{ ولقد أريناه } يعني : فرعون { آياتنا كلَّها } الآيات التِّسع { فكذَّب } بها ، وزعم أنَّها سحرٌ { وأبى } أن يُسلم .
{ قال } لموسى : { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا } من أرض مصر .
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{ بسحرك يا موسى فلنأتينَّك بسحر مثله } فلنعارضنَّ سحرك بسحرٍ مثله { فاجعل بيننا وبينك موعداً } لمعارضتنا إيَّاك ، لا نُخلف ذلك الموعد { نحن ولا أنت } وأراد بالموعد ها هنا موضعاً يتواعدون للاجتماع هناك ، وهو قوله : { مكاناً سوى } أَيْ : يكون النَّصف فيما بيننا وبينك .
{ قال موعدكم يوم الزينة } أَيْ : وقتُ موعدكم يوم الزِّينة ، وهو يوم عيدٍ كان لهم { وأن يحشر الناس ضحى } يريد : يجمع أهل مصر في ذلك اليوم نهاراً ، أراد موسى صلوات الله عليه أن يكون أبلغ في الحجَّة ، وأشهر ذكراً في الجمع .
{ فتولى } فأدبر { فرعون فجمع كيده } حِيَله وسحرته { ثم أتى } الميعاد .
{ قال لهم موسى } للسَّحرة : { لا تفتروا على الله كذباً } لا تشركوا مع الله أحداً { فيسحتكم } فيستأصلكم { بعذاب وقد خاب من افترى } خسر مَن ادَّعى مع الله تعالى إلهاً آخر .
{ فتنازعوا أمرهم بينهم } فتشاوروا بينهم ، يعني : السَّحرة { وأسروا النجوى } تكلَّموا فيما بينهم سرَّاً من فرعون ، فقالوا : إنْ غلَبَنا موسى اتَّبعناه .
{ قالوا إنَّ هذين لساحران } يعنون : موسى وهارون عليهما السَّلام { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم } من مصر ويغلبا عليها { بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } بجماعتكم الأشراف ، أَيْ : يصرفا وجوههم إليهما .
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{ فأجمعوا كيدكم } أي : اعزموا على الكيد من غير اختلافٍ بينكم فيه { ثم ائتوا صفاً } مُجتمعين مصطفِّين؛ ليكون أشدَّ لهيبتكم { وقد أفلح اليوم من استعلى } أَيْ : قد سعد اليوم مَنْ غلب .
{ قالوا يا موسى إمَّا أن تلقي } عصاك من يدك إلى الأرض { وإمَّا أن نكون أوَّل من ألقى } .
{ قال بل ألقوا } أنتم ، فألقوا { فإذا حبالهم وعصيهم } جمع العصا { يخيل إليه } يُشبَّه لموسى { أنها تسعى } وذلك أنَّها تحرَّكت بنوع حيلةٍ وتمويهٍ ، وظن موسى أنَّها تسعى نحوه .
{ فأوجس } فأضمر { في نفسه خيفة } خوفاً ، خاف أن لا يفوز ولا يغلب فلا يُصدَّق ، حتى قال الله تعالى له :
{ لا تخف إنك أنت الأعلى } الغالب .
{ وألق ما في يمينك تلقف } تبتلع { ما صنعوا إنّ ما صنعوا } أي : الذي صنعوه { كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى } ولا يسعد السَّاحر حيث ما كان . فألقى موسى عصاه فتلقَّفت كلَّ الذي صنعوه ، وعند ذلك أُلقي .
{ السحرة سجداً } خرُّوا ساجدين لله تعالى { قالوا آمنا برب هارون وموسى }
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{ قال آمنتم له } صدّقتموه { قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم } معلّمكم { الذي علمكم السحر فلأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف } اليد اليمنى والرِّجل اليسرى { ولأصلبنكم في جذوع النخل } على رؤوس النَّخل { ولتعلمن أينا أشد عذاباً } أنا أو ربُّ موسى { وأبقى } وأدوم .
{ قالوا لن نؤثرك } لن نختار دينك { على ما جاءنا من البينات } اليقين والهدى { والذي فطرنا } ولا نختارك على الذي خلقنا { فاقض ما أنت قاض } فاصنع ما أنت صانعٌ من القطع والصَّلب { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } إنَّما سلطانك وملكك في هذه الحياة الدُّنيا .
{ إنَّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } الشِّرك الذين كنَّا فيه { وما أكرهتنا عليه من السحر } وإكراهك إيانا على تعلُّم السِّحر { والله خير } لنا منك { وأبقى } لأنَّك فانٍ هالكٌ .
{ إنَّه مَنْ يأت ربَّه مجرماً } مات على الشِّرك { فإنَّ له جهنم لا يموت فيها } فيستريح بالموت { ولا يحيا } حياةً تنفعه .
{ ومَنْ يأته مؤمناً } مات على الإيمان { قد عمل الصالحات } قد أدَّى الفرائض { فأولئك لهم الدرجات العلى } في الجنَّة . وقوله :
{ جزاء من تزكى } تطهَّر من الشِّرك بقول : لا إله إلاَّ الله .
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } سِرْ بهم ليلاً من أرض مصر { فاضرب لهم } بعصاك { طريقاً في البحر يبساً } يابساً { لا تخاف دركاً } من فرعون خلفك { ولا تخشى } غرقاً في البحر .
{ فأتبعهم } فلحقهم { فرعون بجنوده فغشيهم من اليم } فعلاهم من البحر { ما غشيهم } ما غرَّقَهم .
{ وأضل فرعون قومه وما هدى } ردَّ عليه حيث قال : { وما أهديكم إلاَّ سبيل الرشاد } ثمَّ ذكر مِننه على بني إسرائيل فقال :
{ قد أنجيناكم من عدوكم } فرعون { وواعدناكم } لإِيتاء الكتاب { جانب الطور الأيمن } وذلك أنَّ الله سبحانه وعد موسى أن يأتي هذا المكان ، فيؤتيه كتاباً فيه الحلال والحرام والأحكام ، ووعدهم موسى أن يأتي هذا المكان عند ذهابه عنهم { ونزلنا عليكم المنَّ والسلوى } يعني : في التِّيه .
{ كلوا } أيْ : وقلنا لهم : كلوا { من طيبات } حلالات { ما رزقناكم ولا تطغوا } ولا تكفروا النِّعمة { فيه فيحلَّ } فيجب { عليكم غضبي ومن يحلل } [ يجب ] { عليه غضبي فقد هوى } هلك وصار إلى الهاوية .
{ وإني لغفار لمن تاب } من الشِّرك { وآمن } وصدَّق بالله { وعمل صالحاً } بطاعة الله { ثمَّ اهتدى } أقام على ذلك حتى مات عليه .
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
{ وما أعجلك عن قومك } يعني : السَّبعين الذين اختارهم ، وذلك أنَّه سبقهم شوقاً إلى ميعاد الله ، وأمرهم أن يتَّبعوه ، فذلك قوله :
{ قال : هم أولاء على أثري } يجيئون بعدي { وعجلت إليك } بسبقي إيَّاهم { لترضى } لتزداد عني رضىً .
{ قال فإنا فد فتنا قومك } أَيْ : ألقيناهم في الفتنة واختبرناهم { من بعدك } من بعد خروجك من بينهم { وأضلهم السامريُّ } بدعائهم إلى عبادة العجل .
{ فرجع موسى إلى قومه غضان أسفاً } شديد الحزن . { قال : يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً } أنَّه يعطيكم التَّوراة [ صدقاً ] لذلك الموعد . { أفطال عليكم العهد } مدَّة مفارقتي إيَّاكم { أم أردتم أن يحل } أن يجب { عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي } باتِّخاذ العجل ولم تنظروا رجوعي إليكم .
{ قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا } [ باختيارنا ] ونحن نملك من أمرنا شيئاً ، ولكنَّ السَّامريَّ استغوانا وهو معنى قوله : { ولكنا حملنا أوزاراً } أثقالاَ { من زينة القوم } من حُلي آل فرعون { فقذفناها } ألقيناها في النَّار بأمر السَّامِرِيَّ ، وذلك أنَّه قال : اجمعوها وألقوها في النَّار ليرجع موسى ، فيرى فيها رأيه { فكذلك ألقى السامري } ما معه من الحُلِّي في النَّار ، وهو قوله : { فكذلك ألقى السامري } ثمَّ صاغ لهم عجلاً .
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{ فأخرج لهم عجلاً جسداً } لحماً ودماً { له خوار } صوت ، فسجدوا له ، وافتتنوا به ، وقالوا : { هذا إلهكم وإله موسى فنسي } فتركه ها هنا وخرج يطلبه . قال الله تعالى احتجاجاً عليهم :
{ أفلا يرون ألا يرجع } أنَّه لا يرجع { إليهم قولاً } لا يُكلِّمهم العجل ولا يجيبهم { ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً } .
{ ولقد قال لهم هارون من قبل } من قبل رجوع موسى : { يا قوم إنما فتنتم به } ابتليتم بالعجل { وإنَّ ربكم الرحمن } لا العجل { فاتبعوني } على ديني { وأطيعوا أمري } .
{ قالوا لن نبرح عليه عاكفين } على عبادته مقيمين { حتى يرجع إلينا موسى } فلمَّا رجع موسى .
{ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } أخطأوا الطَّريق بعبادة العجل { أن لا تتبعني } أن تتبعني وتلحق بي وتخبرني؟ { أفعصيت أمري } حيث أقمتَ فيما بينهم وهم يعبدون غير الله!؟ ثمَّ أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه ، فقال :
{ يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرَّقت بين بني إسرائيل } خشيت إن فارقتهم واتَّبعتك أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً ، فتقول : أوقعتَ الفرقة فيما بينهم { ولم ترقب قولي } لم تحفظ وصيتي في حسن الخلافة عليهم .