كتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
المؤلف : أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي
"و" كذا "لا يجوز بيع التمر" بالمثناة "بالرطب" بضم الراء وفتح الطاء؛ لأن الشك في التماثل كتحقق التفاضل "ولا" يجوز أيضا بيع "الزبيب بالعنب" لا نقدا ولا مؤجلا "لا متفاضلا ولا متماثلا ولا رطب ولا يابس" كائن "من جنسه من سائر" أي من جميع أنواع "الثمار والفواكه" والحبوب فلا يباع الفول الحار باليابس ولا القمح بالبليلة لعدم تحقق المماثلة مع عدم انتقال أحدهما، ولذا يجوز بيع المدمس باليابس والقمح بالهريسة يدا بيد لانتقال المدمس والمطبوخ عن أصله، كما يجوز اليابس بالرطب من غير الجنس؛ لأن المماثلة إنما تعتبر في الجنس الواحد الربوي. ثم بين علة المنع في التمر بالرطب، وما بعده بقوله: "وهو" أي بيع التمر بالرطب، وما بعده "مما نهي عنه من" أي لأجل "المزابنة" أو الذي هو المزابنة فتكون بيانية كهي في آية: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] أي الذي هو الأوثان، والمزابنة مأخوذ من الزبن، وهو الدفع؛ لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه ويغالبه، وفسرها أهل المذهب بأنها بيع معلوم بمجهول، أو بيع مجهول بمجهول من جنسه، وأشار المصنف إلى هذين التفسيرين بقوله: "ولا يباع جزاف" ، وهو الذي لم يعلم قدره بمعياره الشرعي "بمكيل من جنسه" ؛ لأنه بيع مجهول بمعلوم، وهذا أحد التفسيرين، وأشار إلى الثاني بقوله: "ولا" يباع "جزاف بجزاف من جنسه" ، وهذا هو بيع المجهول بمجهول من جنسه. ومثال الأول: كصبرة قمح لا يعلم كيلها بوسق أو وسقين من القمح. ومثال
الثاني: كصبرة قمح غير مكيلة بأخرى غير مكيلةقال خليل عاطفا على ما يجوز: وكمزابنة مجهول بمعلوم أو مجهول من جنسه، واحترز بقوله من جنسه عن بيع شيء بشيء آخر من غير جنسه فلا شك في جوازه بشرط المناجزة؛ لأنه لا مزابنة بين الجنسين لقوله - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم -: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد" 1، ومثل الجنسين في الجواز الجنس الواحد إذا دخلت الصنعة القوية فيه. فإنه يجوز بيع المصنوع بغيره مما لم تدخله صنعة، أو تدخل فيه صنعة سهلة كقطعة نحاس جعلت صحنا أو إبريقا فإنه يجوز بيعها بما تدخله صنعة قوية ولو جهل قدرهقال خليل: وجاز بيع نحاس بتور ولا بفلوس؛ لهينة صنعتها. واعلم أن المزابنة لا تختص
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، حديث "1587"، واللفظ له، وتقدم برقم "51".
بالربوي لعموم النهي عن الغرر، إلا أن الربوي يتميز عن غيره من جهة اشتراط المماثلة وعدمها، فإن الذي يدخله ربا الفضل لا يجوز بيع الجنس منه بجنسه إلا عند تحقيقها، وأما غيره فإنما تدخل فيه المزابنة عند عدم تحقق المفاضلة، وإليه أشار بقوله: "إلا أن يتبين الفضل بينهما" أي المجهولين فيجوز بيع أحدهما بالآخر "إن كان" ما وقعت فيه المفاضلة البينة "مما يجوز التفاضل في الجنس الواحد منه" بأن لا يكون مما يقتات ويدخر ولا من أحد النقدين، بل كان مما يدخله ربا النساء فقط، أو لا يدخله ربا أصلا كالنحاس والحديدقال خليل: وجاز إن كثر أحدهما في غير ربوي؛ لأن المراد في غير ربوي أي ربا فضل، وأما ما يدخله ربا الفضل فلا يباع بعضه ببعض إلا عند تحقيق المماثلة والمناجزة كما قدمناهولما كان العلم بالمعقود عليه غير محصور في مشاهدته مع شرطية العلم في بيع اللزوم قال: "ولا بأس ببيع الشيء الغائب على الصفة" ولو على اللزوم، وأما على خياره بالرؤية فيجوز ولو من غير ذكر لجنسهقال خليل: وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية أو على يوم أو وصفه غير بائعه أي ولو كان بوصف بائعه. واعلم أن بيع الغائب على ثلاثة أقسام: أحدهما أن يباع بالصفة على اللزوم وجوازه مشروط بغيبته ويكفي غيبته، ولو عن مجلس العقد، ولا يشترط أن يكون في رؤيته مشقة ولا غيبته عن البلد على المأخوذ من المدونة ورجحه ابن عبد السلام وابن عرفة، خلافا لما يفهم من كلام خليل نبه على ذلك الأجهوري، نعم يشترط أن لا يبعد مكانه جدا كخراسان من الأندلس، كما يشترط ذلك في كل مبيع على اللزوم، ومثل غيبته عن مجلس العقد حضوره به حيث كان في رؤيته مشقة أو فسادوأما الحاضر بمجلس العقد ولا مشقة ولا فساد في رؤيته فلا بد في صحة العقد عليه من رؤيته حيث كان البيع على اللزوم، وأن يكون بوصف غير البائع إن اشترط نقد الثمن فيه، وإلا جاز ولو بوصفه على المعتمد، وأن يكون المشتري يعرف ما يوصف له معرفة تامة، وأن لا يكون مكانه بعيدا جدا كخراسان من إفريقية. "و" من شروط المبيع بالصفة على اللزوم أيضا أن "لا ينقد فيه" الثمن "بشرط إلا أن يقرب مكانه" أي المبيع على الصفة بأن يكون على مسافة كيومين ذهابا حيث لا يؤمن تغيره بأن كان حيوانا "أو يكون مما يؤمن تغيره" ، وهو العقار "من دار أو أرض أو شجر فيجوز" اشتراط "النقد فيه" أي فيما ذكر مما يقرب مكانه أو يؤمن تغيره. وقال خليل: وجاز النقد فيه أي الغائب على الصفة باللزوم عقارا أو غيره تطوعا، ومع الشرط في العقار المعقود عليه بغير وصف البائع وفي غيره إن قرب
كاليومين. والحاصل أن الغائب المبيع بالصفة على اللزوم يجوز النقد فيه تطوعا مطلقا، وأما بشرط فيجوز في العقار مطلقا وفي غيره إن قرب مكانه، وأما ما بيع على الخيار عند رؤيته فلا يجوز النقد فيه ولو تطوعاقال خليل: ومنع وإن بلا شرط في مواضعة وغائب وكراء ضمن وسلم بخيار القسم الثاني من أقسام بيع الغائب ما يباع على الخيار بالرؤية، وهذا جائز، ولو كان قريبا بحيث لا مشقة في رؤيته أو كان بعيدا جداقال خليل: وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية، ولا يقال: شرط البيع علم المعقود عليه زمن العقد لأنا نقول: هذا شرط في البيع على اللزوم كما نبهنا عليه فيما سبق القسم
الثالث: أن يباع على رؤية سابقة، وهو جائز ولو على اللزوم، ولو كان حاضرا بين يدي المتعاقدين خلف جدار أو في صندوق مثلا"تتمتان". الأولى: لم يذكر ضمان الغائب، ومحصله: إن كان عقارا وأدركته الصفة سالما يكون من المشتري بمجرد العقد بيع بشرط النقد أم لا، قرب مكانه أو بعد حيث بيع جزافا، هكذا قاله بعض شراح خليل، ولي وقفة في صحة بيعه جزافا مع غيبته إلا أن يقال: بناء على الاكتفاء بالوصف في بيع الجزاف وغير العقار ضمانه من البائع، وكذا العقار إذا لم تتحقق سلامته عند العقد، وهذا التفصيل حيث لم يشترط خلافه، وإلا عمل بالشرط راجع شراح خليل. الثانية: لم يتكلم المصنف أيضا على تحصيل الغائب، وإحضاره للمشتري، ونص عليه خليل بقوله: وقبضه على المشتري لا على البائعقال ابن عرفة: الإتيان بالغائب على مبتاعه وشرطه إياه على بائعه مع ضمانه يفسد بيعه، وإن كان ضمانه في إتيانه مبتاعه فجائز، وهو بيع، وإجارةثم شرع يتكلم عن العهدة، وهي في اللغة مأخوذة من العهد الذي هو الالتزام قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40] أي بما التزمتم لي من طاعتي أوف لكم بما التزمت لكم من ثوابي. وأما شرعا واصطلاحا: فهي تعلق ضمان المبيع من بائعه مما يطرأ عليه. وهي على قسمين: عامة وخاصة، فالعامة هي عهدة الإسلام، وهي درك المبيع من العيب والاستحقاق فإنه غير مختصة بالرقيق، ولا يعمل بشرط إسقاطها بالنسبة للاستحقاق، وكذا العيب في غير الرقيق، وكذا في الرقيق بالنسبة للعيب الذي يعلم به البائع، بخلاف عيب الرقيق الذي لم يعلم به إن
طالت إقامته عنده، وخاصة وهي المتعلقة بالرقيق فقط، وأشار لها بقوله: "والعهدة"، وهي تعلق ضمان المبيع من كل حادث أو من حادث مخصوص في زمن محدود "جائزة" معمول بها "في الرقيق" فقط؛ لأن له قدرة على التحيل بكتم بعض عيوبه دون غيره. "إن اشترطت" بأن اشترطها المشتري على البائع، وإن لم تجر بها العادة. "أو كانت جارية" أي معتادة "في البلد" الذي وقع فيه البيع، وكذا إن حمل السلطان الناس عليها، ويقضى بها على هذا الوجه، فإن لم يكن شرط ولا عادة ولا حمل السلطان الناس عليها فلا تلزم ولا يقضى بهاوتلك العهدة على قسمين: عهدة ثلاث وعهدة سنة. "فعهدة الثلاث" قليلة الزمان كثيرة الضمان؛ لأن "الضمان فيها من البائع في كل شيء" يحدث في الرقيق في ثلاثة أيام كوامل لإلغاء الكسر وتعتبر بلياليها بعد العقد اللازم ابتداء أو بانقضاء أيام الخيارقال خليل: ورد في عهدة الثلاث بكل حادث حتى الموت ما عدا ذهاب المال، فمن اشترى عبدا واشترط ماله ثم ذهب في زمن العهدة فلا يرد به؛ لأنه لا حظ له في ماله، وأما لو اشترطه السيد لنفسه لكان له رده بذهاب ماله، وإذا كان ضمان الحادث بعد لزوم العقد من البائع ويرده المشتري به، فمن باب أولى له الرد بظهور عيب قديم، والنفقة والأرش والموهوب الجميع على البائع وله إلا المستثنى ماله فما يوهب للعبد تابع لماله، وما قدمناه من أن المبيع بعهدة الثلاث يرد بكل حادث وبالقديم بالأولى محله ما لم يبع بالبراءة من العيوب التي لا يعلمها البائع به مع طول إقامته عنده، وإلا لم يرد بالقديم عملا بالبراءة، وإنما يرد بالحادث عملا بالعهدة المشترطة أو التي حمل السلطان الناس عليها، كما قرره علامة الزمان الأجهوري"تنبيه". ابتداء مدة العهدة بعد انقضاء أيام الخيار وتدخل من أيام المواضعةقال خليل: ودخلت في الاستبراء بمعنى أن الزمان يحسب لهما، فإذا انقضت أيام العهدة قبل رؤية الدم انتظرته، والمراد به المواضعة؛ لأنها في ضمان البائع، وإذا اشترى على العهدتين قدمت عهدة الثلاث وتبتدأ عهدة السنة بعدها وبعد المواضعة"وعهدة السنة" عكس عهدة الثلاث؛ لأن هذه كثيرة الزمان قليلة الضمان؛ لأن الضمان فيها "من الجنون" إذا كان بطبع أو مس جن، لا إن كان بكضربة أو طربة. "والجذام والبرص" المحققين وفي مشكوكهما خلافقال خليل: وفي عهدة السنة بجذام وبرص وجنون لا بكضربة بشرط استمرار الحاصل من
تلك الأدواء إلى تمام السنة لا إن حصل واحد منها داخل السنة وزال قبل انقضائها فلا رد به إلا أن تقول أهل المعرفة بعوده، ويسقط كل من العهدتين بالعتق1 والتدبير2 والاستيلادقال خليل: وسقطتا بكعتق فيهما، والدليل على مشروعية العهدتين عمل أهل المدينة. وفي الموطإ: أن أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل كانا يذكران في خطبتهما عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة حين يشترى العبد أو الوليدة وعهدة السنة، ونقل ابن عبد البر أن عمر بن عبد العزيز قضى بها، وبها قال الفقهاء السبعة وابن شهاب والقضاة ممن أدركنا يقضون بها، وغير ذلك من الأحاديث"تنبيهات" الأول: الكلام السابق واضح فيما إذا تحقق حصول العيب زمن العهدة، وأما لو انقضت أيامها واطلع على عيب وشك في حصوله في زمن العهدة أو بعدها فلم يعلم من كلام المصنف حكمه ونص عليه خليل بقوله: والمحتمل بعدهما منه أي من البائعالثاني: ظاهر كلام المصنف العمل بالعهدة لجريان العادة بها في كل رقيق انتقل ملكه لغير مالكه وليس كذلك، فقد استثنى المتيطي إحدى وعشرين مسألة وأشار إليها خليل بقوله: لا في منكح به أو مخالع أو مصالح به في دم عمد أو مسلم فيه أو به أو مقرض أو غائب اشتري على الصفة أو مقاطع به مكاتب والذي يبيعه السلطان على نحو مفلس، وغير ذلك من بقية المستثنيات المذكورة في المطولات فلا عهدة فيها بمقتضى العادة. وأما لو اشترطت بالفعل لعمل بها ما ارتضاه شيخ مشايخنا الأجهوري، وللمشتري إسقاطهما قبل العقد وبعده؛ لأن الحق له بخلاف البائع إنما له إسقاطهما قبل العقد فقطالثالث: عهدة الرقيق غير عهدة الإسلام؛ لأن عهدة الإسلام في كل معقود عليه ويقضى بها ولو دخل المتعاقدان على إسقاطها، ولم يبين المصنف الذي تكون عليه، وبينه غيره من شراح خليل بقوله: وهي على متولي البيع إلا الوكيل فلا عهدة عليه في صورتين، وإنما هي على
ـــــــ
1 العتق لغة: خلاف الرق -وهو الحرية، وعتق العبد يعتق عتقاً وعتقاً، واعتقه فهو عتيق، ولا يقال: عتق السيد عبده، بل أعتق. ومن معانيه: الخلوص. وسمي البيت الحرام - البيت العتيق، لخلوصه من أيدي الجبابرة فلم يملكه جبارواصطلاحا: هو تحرير الرقبة وتخليصها من الرق. الموسوعة "29/265"2 التدبير لغة: النظر في عاقبة الأمور لتقع على الوجه الأكمل، وأن يعتق الرجل عبده عن دبره، فيقول: أنت حر بعد موتي- لأن الموت دبر الحياةواصطلاحا -تعليق مكلف رشيد عتق عبده بموته. والتدبير عتق بعد موت السيد. الموسوعة "29/ 265".
الموكل، وهما أن يصرح بالوكالة أو يعلم العاقد أنه وكيل، وهذا في غير المفوض، وأما هو فالعهدة عليه؛ لأنه أحل نفسه محل البائع، وكذا المقارض والشريك المفوض في الشركة، وأما القاضي والوصي ففي المدونة لا عهدة عليهما فيما وليبايعه والعهدة في مال اليتامى، فإن هلك مال الأيتام ثم استحقت السلعة فلا شيء على الأيتامثم شرع في الكلام على البيع خاصة، وهو السلم ويقال له السلف؛ لأن كلا منهما فيه إثبات مالي في الذمة مبذول في الحال وعوضه مؤجل يقبض في المآل، ولذا قال القرافي سمي سلما لتسليم الثمن دون العوض، والسلف في اللغة التقديم قال تعالى: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] أي قدمتم، ومعناه شرعا كما قال ابن عرفة: عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة غير متماثل العوضين، فقوله بغير عين أخرج بيعة الأجل، وقوله ولا منفعة أخرج به الكراء المضمون، وقوله غير متماثل العوضين أخرج به السلف، وبدأ بحكمه فقال: "ولا بأس بالسلم" أي يجوز السلم "في العروض" ، وهي ما عدا الحيوانات والأطعمة بقرينة قوله: "و" في "الرقيق و" في "الحيوان" البهيمي "و" في "الطعام" المراد به سائر الحبوب والثمار بقرينة: "والإدام" كالسمن والعسل وكل ما يؤتدم بهوالدليل على الجواز قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، وما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 1والإجماع على الجواز ولا نظر إلى من خالف في بعض البياعات، نعم هو مستثنى من أصل ممنوع، وهو بيع ما ليس عندك، كما استثنيت الحوالة من بيع الدين بالدين، وبيع العرية من المزابنة، وكما استثنيت الإقالة والتولية والشركة من بيع الطعام قبل قبضه، واستثني القراض والمساقاة من الإجارة المجهولةولما كان السلم مستثنى من أصل ممنوع احتاج إلى شروط زائدة على ما يشترط في أصله، وعدتها سبع شروط أشار إليها خليل بقوله: شرط السلم قبض رأس المال كله أو تأخيره ثلاثا ولو بشرط، وكون المسلم فيه دينا في الذمة وتأجيله بأجل معلوم أقله نصف شهر إن كان قبض المسلم فيه بيد العقد أو قريب منه على مسافة يوم ونحوه إلا كفى تأجيله بمسافة ما بين البلدين كما يبينه المصنف فيما يأتي، ووجوده عند حلوله وبيان الصفة التي تختلف بها الأثمان اختلافا قويا وأن يضبط بعادته من كيل أو وزن أو عدد، وأن لا يكونا
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب السلم، باب: السلم في وزن معلوم، حديث "2241"، ومسلم، كتاب المساقاة، باب: السلم، حديث "1604".
طعامين ولا نقدين ولا شيئا في أكثر منه أو أجود كالعكس، بل الشرط اختلاف الجنس ولو تقاربت منفعتها، ومثل اختلاف الجنس اختلاف المنفعة اختلافا قويا، كفاره الحمر في الأعرابية، وكسابق الخيل وقوة الحمل في الإبل، وكثرة لبن البقرة أو قوتها في العمل، أو اختلاف الأفراد بالصغر والكبروأشار المصنف إلى بعض تلك الشروط بقوله: "بصفة معلومة" أي أن شرط صحة عقد السلم بيان صفة المسلم فيهقال خليل: وإن تبين صفاته التي يختلف بها الثمن في السلم اختلافا قويا كالنوع والجودة والرداءة والتوسط بينهما، فيبين في الحبوب كونه قمحا أو غيره، وكونه سمراء أو محمولة، وكونه جديدا أو قديما أو ضامرا أو ممتلئا، وهكذا كل شيء تختلف أفراده بالجودة والرداءة سواء كان حيوانا أو عرضا، ويشترط علم المتعاقدين بالأوصاف وعلم الناس أيضا؛ لأنه لو انفرد العاقدان بمعرفة الصفة لم يصح السلم فيما يختص العاقدان بمعرفته؛ لأدائه إلى النزاع. وأشعر قول المصنف "بصفة معلومة" أن ما لا يمكن وصفه لا يجوز السلم فيه، وهو كذلك، ولذلك قال خليل: لا فيما لا يمكن وصفه كتراب المعادن والصواغين، ولا نحو النيلة المخلوطة بالطين أو الحناء، ولا نحو الدور والأرضين لاختلاف الأغراض فيها المقتضي لتعيينها الموصل إلى السلم في معين، وهو لا يصح؛ لأن شرط السلم كون المسلم فيه في الذمة"تنبيه". ظاهر كلامه أنه لو عقد السلم من غير بيان صفة المسلم فيه يكون العقد باطلا مطلقا وليس كذلك، بل يفصل في مفهوم هذا الشرط بين كون الشارع أو العادة عين شيئا خاصا أو لا. فيصح العقد في الأول ويفسد في الثاني"و" من الشروط أن يعقداه على "أجل معلوم" فلا يصح السلم الحال ولا المؤجل بأجل مجهول، والدليل على اشتراط الأجل المعلوم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 1 والأمر هنا للوجوب، وإنما اشترط الأجل للسلامة من بيع ما ليس عند الإنسان المنهي عنه، واشترط كونه معلوما ليعلم منه وقت القضاء، والأجل له حصة من الثمن، والثمن يشترط علمه"و" من الشروط "تعجيل" جميع "رأس المال" في حضرة العقد "أو" أي ويجوز "أن يؤخره
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب السلم، باب: السلم في وزن معلوم، حديث "2241"، ومسلم، كتاب المساقاة، باب: السلم، حديث "1604"، وتقدم برقم "76".
إلى مثل يوم أو ثلاثة، وإن كان" تأخير تلك المدة "بشرط" ؛ لأن ما قبض داخل الثلاثة أيام في حكم المقبوض بحضرة العقد حيث حصل القبض قبل غروب شمس الثالث، وإنما قلنا جميع؛ لأنه لا يكتفى بقبض البعض ويفسد العقد في الجميع كما قاله ابن القاسمقال خليل: شرط السلم قبض رأس المال كله أو تأخيره ثلاثا ولو بشرط، وفي فساده بالزيادة إن لم تكثر جدا تردد والراجح الفساد، وهذا كله حيث كان أجل السلم خمسة عشر يوما فأكثر، وأما لو كان أجل السلم على أقل بأن كان المسلم فيه يقبض في غير بلد السلم فإنه يجب فيه القبض بالمجلس أو بالقرب بأن لا يؤخر أكثر من كاليوم، وهذا أيضا في رأس المال المعين كما يفهم من كلامه فيما يأتي. وأما لو كان رأس المال حيوانا لجاز تأخيره ولو إلى أجل المسلم فيهقال خليل: وتأخير حيوان بلا شرط أي وأما بالشرط فلا يجوز تأخيره أكثر من ثلاثة أيام كالعين، وأما لو كان طعاما أو عرضا فقيل يكره تأخيرهما فوق ثلاثة أيام ولو مع كيل الطعام، وإحضار العرض، وقيل: يجوز معهما ويكره مع عدمهما، هذا هو المعتمد خلافا لظاهر خليلولما وقع الخلاف بين الشيوخ في أقل أجل السلم بين المصنف مختاره منه بقوله: "و" أقل "أجل السلم أحب إلينا" على جهة الوجوب "أن يكون خمسة عشر يوما" فأكثر، ومعنى كلامه أنه يجب أن يكون أجل السلم خمسة عشر يوما لا أقل منها حيث كان يقبض المسلم فيه في بلد العقد أو ما قرب منه، ولذا قال خليل: وأن يؤجل بمعلوم زائد على نصف شهر، فذكر لفظ زائد تأكيدا للاحتراز عن أقل من الخمسة عشر، فما مشى عليه المصنف هو مختار مالك وابن القاسم ولذا اقتصر عليه خليل، وإنما حد أقل الأجل بتلك المدة؛ لأنها أقل زمن تتغير فيه الأسواق غالبا ويتمكن المسلم إليه فيه من تحصيل المسلم فيه، وأما أكثر الأجل فمنتهاه ما لا يجوز تأجيل ثمن المبيع إليه، وهو ما لا يعيش البائع إليه غالبا، كأن يبيع سلعة ويشترط عليه المشتري أن لا يدفع الثمن إلا بعد مائتي سنة أو ستين إن كان ابن أربعين أو ثلاثين؛ لأنه بمنزلة التأجيل بالموت. "أو" يكون الأجل "على أن يقبض" المسلم فيه "ببلد آخر" غير بلد العقد فإنه يكفي في الأجل "وإن كانت مسافته يومين أو ثلاثة" لما قدمناه من أهل التأجيل بالخمسة عشر إذا كان المسلم فيه يقبض ببلد العقد أو ما قرب منهقال العلامة خليل مستثنيا من التحديد بنصف الشهر: إلا أن يقبض ببلد كيومين فلا يشترط
نصف الشهر بل يكفي أن يكون الأجل مسافة ما بين البلدين لكن بشروط: أن يدخلا على قبضه بمجرد الوصول إلى البلد. وأن يكون على مسافة يومين فأكثر. وأن يشترط في العقد الخروج فورا ويخرج المسلم بالفعل. وأن يكون السفر في البر أو في البحر بغير ربح كالمنحدرين. فإن انخرم شرط من هذه فلا يصح التأجيل إلا بنصف الشهر فأكثر، ولما كان التأجيل لما يقبض في بلد العقد أو ما قرب منه أقله نصف الشهر على الراجح من أقوال خمسة ذكر بعضها منها بقوله: "ومن أسلم" غيره على شيء مؤجل "إلى ثلاثة أيام" ودخلا على أن المسلم "يقبضه" أي المسلم فيه المفهوم من أسلم "ببلد أسلم فيه فقد أجازه غير واحد" أي أكثر من واحد "من العلماء وكرهه آخرون" ، واختلفوا في الكراهة فقيل على التحريم، وقيل على التنزيه، والراجح ما قدمه من التحديد بنصف الشهر إن كان يقبض في بلد العقد أو ما قرب منها؛ لأنه كلام مالك وابن القاسم، وإن كان يقبض ببلد على مسافة كيومين فأكثر فيكفي ما بين البلدين بالشروط المتقدمة، وما عدا ذلك من الأقوال ضعيف، كما يؤخذ من كلام خليل وشراحه، ولعل المصنف إنما ذكر هذا القول تنبيها على الخلاف، وإلا فقد صدر بالراجح"تنبيهات" الأول: علم مما قررنا أنه لو نقص الأجل عن الخمسة عشر عند اشتراطها يفسد عقد السلم ولو كان المنقوص يوما خلافا لما في بعض شراح خليلالثاني: إذا سكت عن ذكر الأجل فسد السلم إلا أن يكون لقبض المسلم فيه أجل معلوم بحسب العادة، ومثل ذلك لو سكت عن بيان صفة المسلم فيه كما يفيده كلام البرزلي وغيره وأشرنا لذلك فيما سبقالثالث: كما يجوز التأجيل بالزمان يجوز بغيره كقدوم الحاج أو الحصاد أو الدراس، ويعتبر ميقات معظم ما ذكر لكن بشرط أن يكون بين ذكر العقد، وما ذكر خمسة عشر يوما فأكثرولما كان من جملة الشروط أن لا يسلم الشيء في أكثر منه أو أجود كالعكس إلا أن تختلف المنفعة اختلافا قويا قال: "ولا يجوز أن يكون رأس المال من جنس ما سلم فيه" كأن يدفع عرضا في عرض من جنسه، أو حديدا في حديد، أو حيوانا في حيوان مثله؛ لأن الشيء في مثله قرض لا سلم، فيشترط وجود شروط القرض التي من جملتها تمحض النفع للمقترض، ولا ينظر للصيغة بلا قرض، ولو وقع على لفظ السلمقال خليل: وأن لا يكونا طعامين ولا ندين ولا شيء في أكثر منه أو أجود كالعكس إلا أن تختلف المنفعة. فيجوز سلم الشيء في جنسه؛ لأن اختلاف المنفعة اختلافا قويا يصير الشيء
كالجنس الآخر. والحاصل أن دفع الشيء في أكثر منه أو أجود كعكسه ممتنع ولو في غير الطعامين والنقدين، والعلة إما سلف جر منفعة إذا كان رأس المال أقل أو أدنى، أو تهمة ضمان يجعل إذا كان المدفوع أكثر أو أجود، وأما عند التساوي في القدر والصفة فيجوز في غير الطعامين والنقدين، وأما فيهما فيمتنع إذا وقع العقد بلفظ السلم أو البيع أو الإطلاق، وأما إن وقع بلفظ القرض فيجوز حيث تمحض النفع للمقترض، وسيأتي الإشارة لبعض هذا في كلام المصنف"ولا" يجوز أن "يسلم شيء في جنسه أو فيما يقرب منه" أي من جنسه فلا يسلم رقيق ثياب القطن في رقيق ثياب الكتان على هذا؛ لأن المقاربة تصير الجنسين بمنزلة الجنس الواحد، وما ذكره المصنف من قوله: ولا يسلم شيء في جنسه محض تكرار مع ما قبله، ولعله كرره ليرتب عليه قوله: أو ما يقرب منه ولكنه ضعيف، والمعتمد كما في خليل أن الجنسين يجوز سلم أحدهما في الآخر ولو تقاربت المنفعة فإنه قال مشبها في الجواز: وكالجنسين، ولو تقاربت المنفعة كرقيق ثياب القطن في رقيق ثياب الكتان، ومن باب أولى في غليظه، فما مشى عليه المصنف كلام أشهب، ومذهب المدونة هو المشهور ولذا جرى عليه خليل"تنبيهان" الأول: ظاهر قول المصنف: ولا يجوز أن يسلم شيء في جنسه أن يمتنع، ولو حصل الاختلاف بالمنفعة أو الصغر والكبر. وليس كذلك، بل محل المنع حيث لم يحصل الاختلاف، وإلا جاز كما قدمناه عن خليل فإنه قال: إلا أن تختلف المنفعة اختلافا قويا، وهو في الحمير بالفراهة وهي سرعة المشي، فيجوز سلم الحمار الفاره في اثنين أو أكثر لا فراهة فيها، والبغال من جنس الحمير على مذهب المدونة، والاختلاف القوي في الخيل بالسبق لا بالهملجة التي هي حسن السير، إلا أن ينضم لها البرزنة بأن يصير جافي الأعضاء فيجوز سلم الهملاج الغليظ الأعضاء في متعدد ليس كذلك، وفي الجمال بكثرة الحمل، وفي البقر بالقوة على العمل، وذكر اللخمي وينبغي التعويل على كلامه أن البقر والجواميس تختلف بكثرة اللبن في الأمصار كما تختلف به المعز والضأن، وصحح بعض الشيوخ اختلاف الضأن بكثرة الصوف، وأما الرقيق فيختلف ببلوغ الغاية في الغزل أو الطبخ أو الحساب أو الكتابة، والطير بالتعليم لمنفعة شرعية لا بالبيض ولا بالذكورة والأنوثةالثاني: علم مما قررنا، ومن كلام خليل أنه عند اختلاف المنفعة يجوز سلم الشيء في جنسه، لكن بشرط أن يحصل التعدد من أحد الجانبين، أو يكون الاختلاف بالصغر والكبر؛
لأن الاختلاف بالصغر والكبر بمنزلة التعدد، ولما قدم أنه لا يجوز سلم الشيء في جنسه وكان ظاهره يوهم عموم المنع، ولو عند تساوي الغرضين وليس كذلك قال: "إلا أن يقرضه قرضا" وفي نسخة شيئا بدل قرضا "في مثله صفة، ومقدارا" أي في الصفة والقدر. "و" الحال أن "النفع للمتسلف" فقط فيجوزقال خليل: والشيء في مثله قرض ولو وقع بلفظ البيع أو غيره في غير الطعامين والنقدين، وأما فيهما فلا يجوز إلا إذا وقع بلفظ القرض وقد قدمنا ما فيه الكافيةثم شرع في مسألة مشاركة لما قبلها في عدم الجواز وهي الكالئ بالكالئ المشار إليها في حديث ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكالئ"1 بالهمزقال اللغويون: وهو النسيئة أي الدين بالدين، وهو عند الفقهاء عبارة عن ثلاثة أشياء: بيع الدين بالدين، وابتداء الدين بالدين، وفسخ الدين في الدين، وأشار إليها المصنف بقوله: "ولا يجوز دين بدين" أي نسيئة بنسيئة. فأول الثلاثة، وهو بيع الدين بالدين لا يتصور في أقل من ثلاثة، وصورته أن يكون لك على شخص مائة شقة مثلا إلى أجل فتبيعها من شخص آخر بمائة إلى أجل ويصور في أربعة. ومثاله أن يكون لشخص على آخر دين ولثالث على رابع دين فباع كل من صاحبي الدينين ما يملكه من الدين بالدين الذي هو للآخر، فالحاصل أن بيع الدين بالدين لا بد فيه من تقدم عمارة ذمة أو ذمتين على البيع، وعلة المنع كونه يوصل إلى المنازعة والمخاصمة التي يبغضها الشارع، وقيل محض تعبدوثانيها: ابتداء الدين بالدين وهو تأخير رأس مال السلم العين أكثر من ثلاثة أيام، وإليه أشار بقوله: "وتأخير رأس المال" مبتدأ ورأس المال مضاف إليه "بشرط إلى محل السلم" أي إلى حلوله "أو" تأخيره إلى "ما بعد" بضم العين؛ لأنه فعل ماض "من العقدة" بأن تأخر عنها أكثر من ثلاثة أيام كائن "من ذلك" أي الدين بالدين، فالجار والمجرور خبر تأخير الواقع مبتدأ، ومعنى كلام المصنف أنه يحرم تأخير رأس مال السلم العين أكثر من ثلاثة أيام، ولو كان التأخير بلا شرط لقول خليل: شرط السلم قبض رأس المال كله أو تأخيره ثلاثا ولو بشرط، فيفسد بالتأخير عن الثلاث ولو قليلا على المعتمد"تنبيه". في كلام المصنف أمور: منها أنه أطلق في رأس المال، والإطلاق غير صحيح؛
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه الدارقطني في سننه "3/71"، حديث "269"، وضعفه الألباني "ضعيف الجامع 6061".
لأنه إن حمل على العين أشكل باعتبار مفهومه الموهم للجواز عند عدم الشرط، وإن حمل على غير العين أشكل منطوقه مع الشرط، فإن المذهب حرمة تأخير رأس المال فوق الثلاثة أيام بالشرط ولو حيوانا، وأما بغير شرط فيجوز تأخير الحيوان، ولو إلى حلول أجل السلم، وأما العرض والطعام فقيل كذلك حيث كيل الطعام وأحضر العرض، وإلا كره، وقيل يكره مطلقا كما ذكرنا سابقا. ومنها: أن قوله بشرط يوهم جواز التأخير عند عدمه مطلقا وقد علمت ما فيه من التفصيل. ومنها: أن قوله أو ما بعد من العقدة يوهم أن القريب جائز مطلقا وليس كذلك إلا أن يفسر القريب بما لم يزد عن الثلاثة أيام، ولعل المصنف أطلق ذلك اتكالا على الموقف، ولأن إطلاقه صحيح باعتبار منطوقه؛ لأن التأخير بشرط فوق الثلاثة أيام لا يجوز في رأس المال العين، ولا غيرها، والمفهوم على الموقف بيانهوأشار إلى ثالث الأقسام، وهو أشدها حرمة بقوله: "ولا يجوز فسخ دين في دين" وصور ذلك بقوله: "مثل أن يكون لك شيء" من المال "في ذمته" أي المدين المفهوم من لفظ دين "فتفسخه في شيء" مخالف لما في ذمته ولو في عدده أو صفته "لا تتعجله" الآن وقدرنا لفظ مخالف لفهمه من كلام المصنف؛ لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تكون غيرا غالبا، وأيضا لفظ فسخ يقتضي الانتقال عن الدين الأول، وفي بعض النسخ زيادة أخرى، وهي صريحة في ذلك، فيشمل كلام المصنف ما إذا كان الدين عينا ففسخه في عرض أو حيوان إلى أجل فإنه حرام، ولو كانت قيمة العرض أقل من الدين، ويشمل ما إذا كان دينه عرضا وفسخه في عين فيحرم أيضا مطلقا، وتشمل ما إذا كان دينه عينا وفسخها في عين أجود وأولى وأكثر. وأما إذا فسخ العين في عين مثلها قدرا وعدا أو أقل فإن ذلك جائز؛ لأن إطلاق الفسخ على هذا فيه تجوز؛ لأنه محض تأخير بالحق أو مع حطيطة لبعضه ففيه ثواب. وأشار خليل إلى هذه الأقسام الثلاثة بقوله، وككالئ بمثله فسخ ما في الذمة في مؤخر ولو معينا يتأخر قبضه كغائب أو مواضعة أو منافع عين وبيعه بدين وتأخير رأس مال سلم، ولا يقال: يلزم على جعل تلك الحقائق الثلاث أقسام للكالئ بالكالئ المفسر ببيع الدين بالدين تقسم الشيء إلى نفسه وإلى غيره، وهو لا يصح؛ لأنا نقول: المقسم الدين بالدين بالمعنى اللغوي الذي هو مطلق النسيئة بالنسيئة كما قدمنا، وهو غير كل واحد من هذه الثلاثة بخصوصه، وقد تقرر أن المغايرة تحصل ولو بالخصوص والعموم"تنبيهان" الأول: وبما يدخل في كلام المصنف مسألة كثيرة الوقوع ممن ولع بأكل الربا،
وهي ما إذا أخذ صاحب الدين ممن عليه الدين سلعة في دينه ثم يردها له بشيء مؤخر من جنس الدين، وهو أكثر أو من جنسه ولو كانت قيمته أقل فإنه حرام؛ لأن ما خرج من اليد وعاد إليها يعد لغوا، وكأنه فسخ دينه ابتداء من شيء لا يتعجله، وهو حقيقة فسخ الدين في الدين، وهو حرام، سواء كان الدين المفسوخ في مؤخر قد تم أجله أو كان بقي منه شيء وأخره أزيد منهالثاني: إنما لم يعطف المصنف فسخ الدين على سابقه بل استأنف بإعادة العامل لينبه على ما قدمناه من أن فسخ الدين أشد الثلاثة في الحرمة، ويليه بيع الدين بالدين، وأخفها ابتداء الدين بالدين؛ لأنه يجوز في رأس المال التأخير ثلاثة أيام، وإنما كان فسخ الدين أشد في الحرمة؛ لأنه من ربا الجاهلية، والربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع. وأما الآخران فتحريمهما بالسنةولما قدم أن السلم يجب فيه أن يكون المسلم فيه مؤجلا شرع هنا في مفهومه بقوله: "ولا يجوز" أي يحرم عليك "بيع ما ليس عندك على" شرط "أن يكون عليك" يا بائع الشيء الذي بعته والحال أنه ليس عندك "حالا" أي معجلا، فإن وقع فسخ؛ لأن الأصل فيما لا يجوز الفساد، وترد السلعة إن كانت قائمة، وسواء قال له: بع لي السلعة الفلانية من غير تعيين مالكها، أو قال له: بعني سلعة فلان، ومثل بعني أسلمك على السلعة الفلانية على أن تكون حالة عليك؛ لأن السلم الحال باطل، والدليل على حرمة بيع ما ليس عندك ما رواه أصحاب السنن الأربع أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندي، فقال حكيم: يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني بيع ما ليس عندي فأبتاع له من السوق، قال: "لا تبع ما ليس عندك" 1 قال المتيوي وأشهب في تعليل ذلك النهي: لأنه إذا اشترى ما ليس عنده فكأنه أي المشتري لتلك السلعة ممن يبتاعها من الغير قال: خذ هذه الدراهم واشتر منها كذا وكذا على أن يكون لك ما فضل وعليك ما نقص، وفي هذا غرر، ولا سيما إذا عين له سلعة شخص وقال له اشترها مني؛ لأنه تارة يبيعها له وتارة لا يبيعها، وعلى فرض بيعها له قد يكون بثمن مثل الأول أو أقل أو أكثر، فإن أخذها من صاحبها بأكثر مما باعها به للأجنبي فيضيع عليه الزائد، وهو سفه، وإن باعها بكثير وقد كان اشتراها من صاحبها بقليل فيأكل الزائد بالباطلـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده، حديث "3503"، والترمذي، حديث "1232"، حديث "4613"، وابن ماجه، حديث "2187"، وصححه الألباني "ابن ماجه "2187".
"تنبيهان" الأول: موضوع كلام المصنف أن البيع وقع على السلعة قبل أن يملكها بائعها ولذلك منع لما عرفت من أن هذا مفهوم السلم الجائز، وهو ما أجل فيه المسلم فيه، وهذا حال والسلم الحال ممنوع، وأما لو طلب شخص من آخر سلعة؛ ليشتريها فلم يجدها عنده فنص خليل عليها بقوله: جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها من الغير ويبيعها بعد اشترائها لطالبها ولو بثمن مؤجل كله أو بعضه على ظاهر الكتاب والأمهات، فلا تتوهم أن مسألة المصنف عين كلام خليل لما علمت من المخالفة بينهما موضوعا وحكماالثاني: قيد بعض الشيوخ قول المصنف: ولا يجوز بيع ما ليس عندك بما إذا لم يكن يغلب وجوده عند البائع، وأما لو كان يغلب وجوده عنده فإنه يجوز أن يشتريه منه على الحلول إجراء له مجرى القبض وليس سلما، وإليه الإشارة بقول خليل: وجاز الشراء من دائم العمل كالخباز واللحام بشرط وجوده عنده، وحصول الشروع في الأخذ حقيقة أو حكما بأن يشرع قبل مجاوزة خمسة عشر يوما من يوم العقد، ويجوز الدخول على تعجيل الشيء المشترى، ولا يشترط نقد الثمن؛ لما علمت من أن هذا بيع لا سلمولما فرغ من البياعات المنهي عنها لظهور علة حرمتها، شرع في بياعات نهي عنها سدا للذريعة، وهي بيوع الآجال وحقيقتها بالمعنى الإضافي كما قال ابن عرفة: ما أجل ثمنه العين، وما أجل ثمنه غيرها سلم، وحقيقتها بالمعنى اللقب ما تكرر فيه بيع عاقدي الأول ولو بغير عين قبل انقضائه؛ لأن البيع الأول وقع لأجل واللقب أحد أنواع العلم، فكان ابن عرفة قال: وهو علم لما تكرر فيه إلخ. وإنما نهي عنها؛ لأنها يتوصل بها إلى دفع قليل في كثير، وإن لم يصرح المتعاقدان بذلك؛ لأن الناس كثيرا ما يقصدون ذلك، فمنعها مالك؛ لأنه بنى مذهبه على سد الذرائع فقال: "وإذا بعت" من شخص "سلعة" على وجه صحيح "بثمن مؤجل" معلوم كشهر مثلا "فلا" يحل لك أن "تشتريها" ممن اشتراها منك "بأقل منه نقدا أو إلى أجل دون الأجل الأول" ؛ لأن السلعة التي خرجت من اليد وعادت إليها تعد لغوا، وكأن البائع الأول، وهو المشتري ثانيا دفع قليلا ليأخذ بدله أكثر منه. "ولا" يحل لك أيضا أن تشتريها منه "بأكثر منه" أي من الثمن الأول "إلى" أجل "أبعد من أجله" الذي اشتري إليه للعلة المتقدمة، وذلك لأن المشتري الأول يدفع عند الأجل الأول قليلا يأخذ عنه بعد الأجل البعيد أكثر منه، وهذا سلف يجر منفعة، ولذلك لو اشتراه بأقل لأبعد لجاز، وبمثل الثمن أولى بالجواز. ثم صرح بمفهوم النقد ولدون الأجل أو أبعد بأكثر بقوله: "وأما" لو اشتريت ما بعته من مشتريه "إلى الأجل نفسه
فذلك" الشراء "كله جائز" سواء كان بمثل الثمن الأول أو أقل منه أو أكثر، ثم ذكر ما هو كالعلة للجواز بقوله: "وتكون" أي توجد "مقاصة" أي إنما جازت الصور كلها عند اتفاق الأجل؛ لوجود المقاصة حينئذ ولو لم يشترطاها؛ لأنه إذا انقضى الأجل فإما أن يتساقط الثمنان وذلك عند اتفاق الثمنين. وأما عند اختلافهما فعند تمامه تقع المقاصة في قدر القليل، ويدفع الزائد لا في مقابلة شيء، فانتفى ابتداء الدين بالدين الموجب للمنع، ولذلك لو شرطا المقاصة فيما أصله ممنوع لجاز، كشرائها بأكثر لأبعد، أو بأقل نقدا ولدون الأجل؛ لأن ضابط هذا الباب الجائز ابتداء لا يمنعه إلا شرط نفي المقاصة، والممنوع ابتداء لا يصيره جائزا إلا شرط المقاصة، ومفهوم قول المصنف: وإذا بعت سلعة فلا تشتريها إلخ أنه لا يحرم عليك شراء غيرها من غير نوعها، وهو كذلك، فإذا باعه فرسا إلى أجل فيجوز له أن يشتري منه رقيقا ولو بأقل من ثمن ما باعها به نقدا أو لدون الأجل أو بأكثر لأبعد، ومثل شراء غيرها شراء عين ما باع بعد تغيره كثيرا في جواز جميع الصور، وأما لو اشترى مثلها من نوعها فإن كانت سلعته مثلية فكأنه اشترى عين ما باعقال خليل: والمثلي صفة وقدرا كمثله والأولى كغيره فيمتنع ما تعجل فيه الأقل ويجوز في غيره، فالسلعة المثلية شراؤها أو مثلها في الحكم سواء في امتناع ثلاث صور، قبل غيبة المشتري الأول عليه، وهي بأقل نقدا أو لدون الأجل أو بأكثر لأبعد ويجوز ما عداها، وأما لو كان الشراء الثاني بعد غيبة المشتري الأول زيد عن الثلاث الممنوعة صورتان، وهما: كون الشراء الثاني بأقل للأجل أو لأبعد. وأما لو اشترى مثل سلعته من المقومات كما لو كانت سلعته فرسا واشترى منه فرسا لكان بمنزلة شراء سلعة من غير الجنسقال خليل: وإن باع مقوما فمثله كغيره كتغيرها كثيرا فتجوز الصور كلها، كما تجوز عند اتفاق الأجل أو عند اتفاق الثمن؛ لأن قاعدة هذا الباب إذا اتفق الثمنان فالجواز ولا ينظر لاختلاف الأجل، وكذا إذا اتفق الأجلان فالجواز ولا ينظر إلى اختلاف الثمنين. والكلام إنما هو إذا اختلف الأجلان والثمنان فإنه ينظر إلى اليد السابقة بالعطاء، فإن دفعت قليلا وعاد إليها كثير فالمنع، وإلا فالجواز، وإلى هذه المسألة الإشارة بقول خليل: فمن باع بأجل ثم اشتراه بجنس ثمنه من عين وطعام وعرض، فإما نقدا أو للأجل أو لأقل أو أكثر، بمثل الثمن أو أقل أو أكثر يمنع منها ثلاث، وهي ما عجل فيه الأقل وصوره اثنتا عشرة صورة خارجة من ضرب أربع، وهي صور النقد، ولدون الأجل وللأجل، ولأبعد في ثلاث صور مثل الثمن أو أقل أو
أكثر، الجائز تسع والممتنع ثلاث، وهي ما تعجل فيه الأقل كشراء ما باعه بعشرة إلى شهر بثمانية نقدا، أو لدون الأجل أو باثني عشر لأبعد"تنبيه". علم مما تقدم أن شرط كون المسألة من بيوع الآجال أن تكون البيعة الأولى إلى أجل، وكون المشتري ثانيا هو البائع أولا أو من تنزل منزلته، أو البائع الثاني هو المشتري الأول أو من تنزل منزلته، وكون السلعة المشتراة ثانيا هي المباعة أولا على ما بينا، والمنزل منزلة كل واحد من المتعاقدين وكيله أو عبده المأذون أو المأذون حيث كان يتجر للسيد، وسواء علم الوكيل أو الموكل ببيع الآخر أم لا، وسواء باع السيد ثم اشترى العبد أو عكسه، وأما لو اشترى ما باعه لأجل لغير نفسه بأن اشتراه لأجنبي أو لابنه الصغير لكره فقط، ومثل شرائه لابنه المحجور شراء غيره من الأولياء لمن في حجره. وأما عكس هذا، وهو شراء الأجنبي للبائع الأول أو شراء محجوره له فلا يجوز؛ لأن كلا إنما يشتري بطريق الوكالة فهو كشراء البائع لنفسه"فرعان عزيزان مناسبان للباب" الأول: من طلب منه شخص دراهم قرضا فامتنع ودفع له دراهم يشتري بها سلعة، وبعد اشترائها لصاحب الدراهم باعها لطالب القرض بدراهم أكثر من ثمنها، فالظاهر أو المجزوم به حرمة هذا الفعل، وأحرى في المنع ما يفعله أهل مصر تجار البن من بيعهم البن لشخص إلى أجل معلوم، ثم يبيعه المشتري إلى البائع بثمن قليل يعجله إلى المشتري بل هذا داخل في كلام المصنفالثاني: من له دين على شخص قد حل أجله فطالبه به فوجده معسرا بجميعه، ووجد عنده سلعة لا تفي به فأخذها منه في جميع الدين، ثم باعها له بأكثر من الدين، فهذا لا يجوز أيضا؛ لأن السلعة التي خرجت من اليد وعادت إليها تعد لغوا، وكأنه فسخ ما في ذمة المدين في أكثر منه ابتداء فهو ربا الجاهلية"خاتمة". لم يذكر المصنف حكم ما لو وقع ما لا يجوز من بيوع الآجال، بأن اشترى ما باع بأقل نقدا أو لدون الأجل أو بأكثر لأبعد، ومحصله: أن البيعة الثانية تفسخ؛ لأنها الممنوعة، والأولى صحيحة هذا إذا كانت السلعة قائمة، فإن فاتت فالمشهور أنهما يفسخانقال خليل: وصح أول من بيوع الآجال فقل إلا أن يفوت الثاني فيفسخان، وهل مطلقا أو إن كانت القيمة أقل؟ خلاف محله في فسخ الأول حيث فاتت بيد المشتري الثاني، وهو بائعها الأول وكانت قيمته أقل من الثمن الأول، وأما فسخ الثاني فمتفق عليه راجع شراح خليل، وإنما
أطلنا في ذلك روما للفائدة؛ لأن المصنف بالغ في اختصار المسألةولما كان بيع الجزاف مستثنى من بيع الغرر نص عليه المصنف بقوله: "لا بأس بشراء الجزاف" وحقيقته كما قال ابن عرفة بيع ما يمكن علم قدره دونه أي دون أن يعلم بالفعل والأصل معه، ولكن خفف فيما شق علمه أو قل جهله، ولجوازه شروط: أحدها أن يصادف كونه جزافا، فلا يصح الجزاف المدخول عليه كأن يقول للجزار أو العطار أو بياع الفول: اصنع لي كوما مثلا وأنا أشتريه منك، أو يقول لصاحب صبرة: املأ لي هذه الغرارة بكذا، أو يقول للجزار: اعطني وزن هذا الحجر المجهول، أو للعطار: املأ هذه الورقة فلفلا مثلا، فهذا كله من الجزاف المدخول عليه، ومنه ما يقع عندنا بمصر من شراء الفول الحار أو الملح أو اللبن بأن يدفع البائع للمشتري مقدارا في ظرفه من غير كيل فهذا غير جائز. وأما لو وجده مجزفا عند الجزار أو العطار فإنه يجوز بشرطين: أحدهما أن يراه المشتري قبل شرائه إن كان في ظرف بأن يفتح ورقة الفلفل أو البن، والثاني أن لا يشترط عليه زيادة، وإلا امتنع؛ لأنه يصير من المدخول عليه. الثاني من الشروط: أن يكون المعقود عليه حاضرا مرئيا، ولذلك يجب أن يكون كل من البائع والمشتري بصيرا، فلا يجوز بيع الأعمى جزافا ولا شراؤه لاشتراط رؤية المعقود عليه، وتكفي الرؤية ولو قبل العقد، ويكفي رؤية بعضه المتصل بباقيه كالصبرة يرى ظاهرها والغرارة والحاصل الكبير وكرؤية بعض مغيب الأصل، وإنما اشترط حضور جميع المعقود عليه مع الإكفاء برؤية بعضه للتمكن من حرزه، وهذا الشرط في غير قلال الخل المطينة ويعلم أنه يفسدها الفتح لكن بشرط كونها مملوءة، أو يعلم المشتري نقصها، ولو بإخبار البائع وصفة ما فيها، وفي غير الثمار الغائبة عن بلد العقد على مسيرة خمسة أيام، ويكتفى في حل بيعها بذكر الصفة لكن من غير شرط نقد الثمن، وإلا امتنع بيعها، كما إذا بعدت جدا إلا أن يكون ثمرها يابساالثالث: أن لا يكثر المعقود عليه جدا بحيث لا يمكن حرزه، وإلا امتنع بيعه جزافا ولا معدودا، وأما ما قل بحيث لا مشقة في ضبطه بمعياره الشرعي فيجوز في المكيل والموزون ولا يجوز في المعدودالرابع: أن يكون مجهولا للمتبايعين فلو علماه معا لجاز العقد؛ لأنه حينئذ ليس من بيع الجزاف، وأما لو علمه أحدهما فلا يجوز بيعه جزافا، وإن أعلم العالم الجاهل قبل العقد فسد، وإن لم يعلمه لم يفسد ولكن يثبت الخيار للجاهل، كظهور عيب في السلعة دلس به البائع على
المشتريالخامس: أن يكون المتعاقدان من أهل الحزر أو يوكلا من هو كذلك، ويحرز المعقود عليه بالفعلالسادس: أن تستوي أرضه بأن لا تكون مرتفعة ولا منخفضة ويظهر كذلك فإن لم يظهر استواؤها ثبت الخيار لمن عليه الضرر. السابع: وهو خاص بالمعدود أن يكون في عده مشقة، وإلا لم يصح بيعه جزافا، وأما الموزون والمكيل فيجوز بيعهما جزافا بغير هذا الشرط؛ لأن شأنهما المشقة لتوقفهما عن معيار شرعي أو معتاد، والعد يتيسر غالبا لكل أحد. الثامن: أن لا تتفاوت أفراد المعقود عليه تفاوتا بينا بكثرة ثمن بعض الأفراد وقلة البعض كالرقيق والثياب، وأما تفاوت الثمن بالشيء اليسير فلا يمنع كأثمان البطيخ والرمان. التاسع: أن لا يشتري الجزاف مع الكيل مع اتحاد الجنس في عقدة واحدة أو اختلاف الجنس مع خروج كل عن أصله، بخلاف لو وقع كل على الأصل فيجوز، كما يجوز شراء الجزافين والمكيلين في عقدة واحدة ولو مع الخروج عن الأصل، والأصل في الحبوب الكيل والأرض الجزافقال خليل عاطفا على الجائز: وجزاف إن رأى ولم يكثر جدا وجهلا وحزرا واستوت أرضه ولم يعد بلا مشقة ولم تقصد أفراده إلا أن يقل ثمنهقال شراحه: وكل الشروط للصحة سوى استواء الأرض فإنه شرط في الجواز بدليل ثبوت الخيار لمن عليه الضرر عند تبين عدم الاستواء، وإذا وجدت تلك الشروط جاز مع الجزاف "فيما يوزن" كالسمن والعسل والبن "أو يكال" كالحنطة والفول، أو يعد كالبطيخ والسمك وغيرهما من كل ما لا تتفاوت أثمان أفراده أو تتفاوت تفاوتا يسيرا، وإنما أسقط المصنف المعدود؛ لأن الكلام في المثلي والمعدود منه بدليل ما يأتي في قوله: ولا يجوز شراء الرقيق والثياب جزافا، ففي كلامه اكتفاء على حد: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ لأن التقدير والبرد، والتقدير هنا فيما يوزن أو يكال أو يعدولما كان المقدر في قوة الملفوظ به استثنى منه المعدود المسكوك بقوله: "سوى الدنانير والدراهم" وغيرها من كل "ما كان مسكوكا" فلا يجوز بيع شيء منها جزافا؛ لأن شأن المسكوك جزافا إذا كان التعامل به عددا أو عددا ووزنا لقصد أفراده حينئذ المؤدي للمخاطرة والمقامرة، فإن انفرد التعامل بالوزن جاز.
قال خليل بالعطف على ما لا يجوز: ونقدان سك والتعامل بالعدد وإلا جاز"تنبيه". فهم مما قررنا أن إطلاق المصنف في المسكوك غير مسلم إلا أن يقال: أطلق اتكالا على الغالب من أن المسكوك إنما يتعامل به عددا، ومفهوم المسكوك أشار إليه بقوله: "وأما نقار" بكسر النون أي فجرات "الذهب والفضة فذلك" المذكور من الشراء جزافا "فيهما جائز" ؛ لعدم قصد الأفراد حينئذ، والحاصل أن التبر والحلي المكسر وكذا المسكوك المتعامل به وزنا فقط يجوز بيعه جزافا، والفلوس الجدد كالنقد"تنبيه". لم يبين ما تباع به النقار المذكورة إذا تعومل بها وزنا، ومحصله أنها تباع بالعروض، وكذا بالعين من غير جنسها بشرط المناجزة، وكذا بجنسها بشرط المماثلة في الوزن والمناجزة"و" كذا "لا يجوز شراء الرقيق والثياب" والحيوانات وغيرها من أنواع المقومات التي تختلف أفرادها حال كون شرائها "جزافا" ؛ لأن اختلاف الأفراد اختلافا قويا يؤدي إلى المخاطرة والمقامرة وهي حرام، وأما نحو البطيخ والأترج وغيرهما مما لا تختلف أفراده اختلافا كثيرا فلا يمنع شراؤها جزافا، ولما كان من شرط جواز بيع الجزاف وجود المشقة في عد ما يعد ذكر مفهوم ذلك بقوله: "ولا يجوز شراء" ما يمكن عده بلا مشقة "جزافا" لسهولة العد حينئذ، بخلاف المكيل والموزون فيجوز بيعهما جزافا؛ لأن شأن الكيل والوزن المشقة لتوقفهما على معيار شرعي أو معتاد، ومما لا يجوز شراؤه جزافا ما لا يمكن حزره كحمام حي في برجه، ولا ما كان مدخولا عليه كاملأ لي هذه الغرارة من ذلك الحب بدينار مع وجود المكيال الشرعي أو المعتاد إلا في نحو التين والعنب؛ لأن قفصهما كالمكيال الشرعي لهماثم شرع المصنف يتكلم على باب التداخل وهو الزيادة في المعقود عليه؛ لأن العقد قد يتضمن زيادة على المعقود عليه، كأن يهب المالك أو يبيع أرضا أو شجرا أو يسكتا عن قطع الشجر أو دخول الأرض، فإن العقد على البناء يتناول ما تحته من الأرض، وكذلك العقد على الشجرقال خليل: تناول البناء والشجر الأرض وتناولتهما والبذر لا الزرع فلا تتناوله؛ لأنه في قوة المنفصل عن الأرض، بخلاف الشجر فإنها تتناوله؛ لأنه كجزء منها، ومثل الزرع المدفون فلا تتناوله، وهو للبائع إن ادعاه وأشبه، وإلا كان لقطة، وقولنا ويسكتا للاحتراز عما لو شرطا هدم
البناء أو قطع الشجر فلا يتناولانها. والعادة كالشرط، وقد يقتضي العقد النقص في المعقود عليه ظاهرا، وأشار إليه المصنف بقوله: "ومن باع نخلا" مثمرا فإن كانت "قد أبرت" كلها أو أكثرها "فثمرتها" باقية "للبائع إلا أن يشترطها المبتاع" فتكون "له" عملا بالشرط لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المشتري" ، ومفهوم كلامه أنها لو كانت غير مأبورة أو أبر منها دون النصف فإنها تكون للمشتري بمجرد العقد على الأصل، وأما لو أبر نصفها لكان لكل حكمه، فالمؤبر للبائع إلا أن يشترطه المشتري، وغيره للمشتري كالحمل في البطن واللبن في الضرع. واختلف في جواز اشتراط البائع لغير المؤبر، فصحح في الشامل الجواز بناء على أنه مبقىقال اللخمي: وهو الصحيح، وشهر بعض المنع كمنع استثناء الجنين بناء على أنه مشترى"تنبيهات" الأول: ظاهر قول المصنف: إلا أن يشترطها المبتاع أنه لا يجوز اشتراط بعضها، وهو كذلك؛ لأنه إنما جاز بيعها قبل بدو صلاحها في تلك الحالة بطريق التبعية لأصلها، واشتراط بعضها يقتضي قصد بيعها لذاتها وعدم التبعيةالثاني: تكلم المصنف على حكم من ابتاع نخلا مثمرا ولم يتكلم على حكم من ابتاع أرضا وفيها نخل مثمر، وقد قدمنا أن العقد على الأرض يتناول ما فيها من شجر أو بناء، وأما الثمر الذي يكون مؤبرا عليها فلم يتكلم خليل كالمصنف عليه. واختلف العلماء فيمن يكون له، فأفتى ابن عتاب بأنه للمشتري قائلا بأن تناول الأرض لأصله يقتضي تناولها لفرع الأصل بالأولى، ورد بعض شيوخ شيوخنا عليه بحديث: "من ابتاع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع" 1 وأقول: لا يحسن الرد عليه بالحديث لاختلاف الموضوع؛ لأن الحديث العقد على ذات النخل، وفتوى ابن عتاب المعقود عليه الأرض لا ذات النخل والأرض تتناوله فكيف لا تتناول تمره وحرر المسألة. ولم يتكلم المصنف أيضا على من عليه سقي النخل الذي ثمره للبائع عند الاحتياج إلى السقي. وفي خليل: أن السقي على البائع عند المشاحة، وعند عدمها لكل السقي ما لم يضر بالآخرالثالث: فهم من كون الثمر المؤبر للبائع إلا أن يشترطه المشتري أنهم لو تنازعا في الاشتراط
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري بنحوه، كتاب المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط، حديث "2379"، ومسلم، كتاب البيوع، باب: من باع نخلا عليهما ثمر، حديث "1543"، والترمذي، حديث "1244"، والنسائي، حديث "4636".
وعدمه لكان القول للبائع؛ لأن الثمر له في الأصل حتى يثبت المشتري اشتراطهالرابع: إنما أنث المصنف الضمير العائد على نخلا في قوله: قد أبرت؛ لأن النخل والنخيل بمعنى واحد، فيجوز في الضمير العائد عليه التذكير والتأنيث، ومنه: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] ولما كان غير النخل كالنخل في كل ما تقدم قال: "وكذلك غيرها من الثمار" كالخوخ والتين والعنب، فالثمر المؤبر كله أو جله للبائع إلا أن يشترطه المشتري، وغيره للمشتري إلا أن يشترطه البائع. ثم بين صفة التأبير بقوله: "والإبار" مختلف ففي النخل "التذكير" ، وهو تعليق طلع الذكر على الأنثى لئلا تسقط ثمرتها ويقال له اللقاح، وقيل شق الطلع عن الثمرة، وفي غير النخل كالخوخ والتين أن تبرز الثمرة عن موضعها وتتميز بحيث تظهر للناظر. "وإبار الزرع" والمراد به غير ذي الثمر كالبرسيم والقرظ "خروجه من أرضه" فمن ابتاع أرضا ذات زرع ظاهر للناظر يكون زرعها لبائعها إلا أن يشترطه المشتري، كمن اشترى نخلا مؤبرا كله أو جله، ومن اشترى أرضا مبذورة لم يبرز زرعها فإنها تتناول بذرها كما قدمنا. "و" مثل من باع نخلا مؤبرا "من باع عبدا" يملك جميعه "وله مال" سوى ثياب مهنته "فماله" جميعه باق "للبائع إلا أن يشترطه" كله "المبتاع" فيكون له لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المشتري" 1، وإذا كان ماله لا يتبعه فأحرى ولده. وقولنا: يملك جميعه احتراز عن المشترك والمبعض، فإن مال المشترك يكون لمشتريه بمقتضى العقد، ولو كان المشتري أحد الشركاء؛ لأنه لا يجوز لأحد من الشركاء انتزاعه إلا بموافقة شريكه، وهذا ما لم يشترطه البائع، وإلا كان له، وأما المبعض فإن ماله يبقى بيده ليأكل منه في يوم نفسه، وإذا مات ورثة المتمسك بالرقوقولنا: سوى ثياب مهنته بفتح الميم أي خدمته فإن العقد على ذات العبد يتناولها، واختلف لو شرطها البائع هل يوفى له بشرطه أو لا خلاف، وقولنا: كله احتراز على اشتراط بعضه فإنه لا يجوز خلافا لأشهب، كما لا يجوز اشتراط بعض الصبرة أو بعض الزرع أو حلية السيف أو أحد عبدين يبيعهما ويستثني مال أحدهما"تنبيهان" الأول: في قول المصنف: إلا أن يشترطه المبتاع إجمال؛ لأنه لم يبين هل المراد
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه ابو داود، كتاب البيوع، باب: في العبد يباع وله مال، حديث "3433" وبنحوه الترمذي، حديث "1244"، والنسائي، حديث "4636"، وأحمد "2/150"، حديث "6380"، وصححه الألباني "ابن ماجه 2211".
يشترطه لنفسه أو للعبد؟والحكم الجواز فيهما والبيع صحيح في الصورتين، لكن في اشتراطه للعبد البيع صحيح مطلقا، وأما في اشتراطه لنفس المشتري فلا بد أن يكون ثمن العبد مما يباع به ماله، وأن يشترطه جميعه، وأن يكون معلوما، فهذه ثلاثة شروط، وهذا على اختيار اللخمي، وأما على اختيار ابن ناجي حيث قال: مال العبد بالنسبة لبيعه كالعدم على المعروف، فيجوز شراؤه بالعين، وإن كان ماله عينا، وسواء كان حاضرا أو غائبا معلوما أو مجهولا، ولا يراعى فيه ربا ولا صرف مستأخر ولا تفاضل ولا غير ذلك؛ لأن ماله تبع له، وظاهر كلام ابن ناجي سواء قال المشتري: أشتريه بماله، أو قال: أشتري هذا العبد وماله؛ لأن معنى وماله مع ماله، وصل الأقفهسي بين قوله بماله فيجوز شراؤه بكل شيء، وبين قوله أشتريه وماله فيراعى فيه الربا، فإن كان ماله عينا لا يجوز بعين من جنسه، وقال الأجهوري: وقول ابن ناجي على المعروف يقتضي أن كلامه هو المعتمد، وأما لو اشترطه المشتري ولم يبين المشترط فإن العقد يفسخ هكذا قال بعض الشيوخالثاني: قول المصنف: باع لا مفهوم له بل مثله كل عقد معاوضة، فإن دفعه صداقا أو خالعت به الزوجة فماله للزوج في الأولى وللزوجة في الثانية، إلا أن تشترطه الزوجة في الأولى أو الزوج في الثانية، وأما لو خرج من يد المالك بغير عوض، فإن كان بعتق أو كتابة فإن ماله يتبعه ولو كثر إلا أن يستثنيه سيده قبل عتقه إن كان ممن ينزع ماله كما يشير له المصنف فيما يأتي بقوله: ومال العبد له إلا أن ينزعه السيد، فإن أعتقه أو كاتبه ولم يستثن ماله فليس له أن ينزعه، وأما لو خرج من ملك السيد بهبة أو صدقة فقيل ماله يتبعه فيكون للمعطى له، وقيل يبقى للمعطي بالكسرالثالث: إسناد المال للعبد يقتضي أنه يملك، وهو كذلك، إلا أن ملكه غير تام بدليل عدم وجوب الزكاة عليه وجواز انتزاع السيد لما لهالرابع: مثل الثمار المؤبرة، ومال العبد في كونهما للبائع إلا أن يشترطهما المشتري خلفة القصيل كالقرظ والبرسيم وغيرهما مما يجد ويخلف كالملوخية، فإن خلفته لبائعه حتى يشترطها المشتري؛ لأنه يجوز له اشتراطها حيث كانت في أرض مأمونة كأرض السقي، ويشترط جميعها، وأن يكون اشتراطها بعديد وصلاح أصلهاالخامس: لم يبين المصنف حكم جواز شراء المشتري لما ذكر من البائع حيث لم يشترطه
وقت العقد وفيه خلاف والأصح الجواز، لكن يشترط في الخلفة أن تكون مأمونة، وأن يكون شراؤها قبل جذاذ أصلها؛ لأن الغرر حينئذ تابعولما كان يتوهم من اشتراط الغيبة في المبيع على الصفة باللزوم منع بيع ما في البرنامج قبل رؤيته نص عليه بقوله: "ولا بأس بشراء" وبيع "ما في العدل" بكسر العين من الثياب معتمدين "على البرنامج بصفة معلومة" مكتوبة فيه؛ لأن المراد به الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل فلا بأس المراد بها الجوازقال خليل عاطفا على الجائز وعلى البرنامجقال شراحه: أو جاز البيع والشراء على البرنامج وكان الأصل منعه حتى ينظر بالعين لكنه أجيز لما في حل العدل من الحرج والمشقة على البائع من تلويث ما فيه، ومؤنة شده إلى أن يرضه المشتري فأقيمت الصفة مقام الرؤية، فإن وجد على الصفة لزم المشتري، وإلا خير المشتري، والمراد بالصفة المعلومة بيان عدة الثياب وأصنافها وذرعها وصفتها"تنبيهات" الأول: لو تنازع البائع والمشتري بعد قبض المتاع والغيبة عليه، فادعى البائع أن الثياب التي في العدل موافقة لما في الدفتر الذي هو البرنامج، والحال أن الدفتر قد ضاع أو حرق أو كان موجودا معه، وادعى البائع على المشتري أن ما أتى به غير ما وجده في العدل، فإن القول قول البائع بيمينهقال خليل: وحلف مدع لبيع برنامج أن موافقته للمكتوب المراد في بيع برنامج، فاللام بمعنى في، وصفة يمينه أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن ما في العدل موافق لما في البرنامج، وحملنا الكلام على أن البرنامج ضاع أو حرق؛ لأنه لو كان موجودا لوجب الرجوع إليهالثاني: لو وجد المشتري الثياب أقل أو أكثر مما في البرنامج، كما لو اشترى خمسين ثوبا مثلا فوجد زيادة ثوب، فقال مالك: يكون البائع شريكا للمشتري بجزء من اثنين وخمسين جزءاوفي رواية: بجزء من أحد وخمسين جزءا، وقول مالك: بجزء من اثنين وخمسين جزءا رواية ابن القاسم، والحق والصواب رواية بجزء من أحد وخمسين جزءا، واعتذر ابن اللباد عن مالك بأنه أدخل اللفافة في العدد، وإن ناقش فيه عياض قائلا: اللفافة ملغية؛ لأنها ليست من
جنس الثياب فهي كحبل الشد، وإن وجد فيه أقل بأن وجد فيه تسعة وأربعين ثوبا وضع عنه من الثمن جزء من خمسين جزءا، فإن كثر النقص رد المبيع ولا يلزمه أخذه، ومحل الشركة عند الزيادة، والوضع عند ظهور النقص إذا كان ما في العدل متحد النوع والصفة، وأما لو كان مختلفا كما لو كان فيه عشرة من الشاش وعشرة من البفت ثم وجدت الزيادة في أحد النوعين أو النقص لكان الاشتراك أو الوضع في ذلك النوع فقطالثالث: البرنامج بفتح الباء وكسر الميم لفظة فارسية استعملتها العرب، والمراد أنها الدفتر المكتوب فيه صفة ما في العدل الذي هو الغرارقال شيخ شيوخنا الأجهوري رحمه الله: والظاهر أن الكتابة ليست بقيد، بل لو حفظ البائع عدد العدل وصفته وباعه على عدده ووصفه لكان ذلك كافيا، وذكر بعض أن برنامجا مصروف؛ لأنه، وإن كان أعجميا فهو اسم جنس، والأعجمي إنما يمنع صرفه إذا استعمل علما في اللغة الأعجميةالرابع: مثل بائع ما في البرنامج في قبول قوله الصيرفي، والمقرض يدعي القابض منهما أنه وجد ما قبضه رديئا أو ناقصا فإنه يحلف ما دفعت إلا جيداقال خليل عاطفا على بيع البرنامج: وعدم دفع رديء أو ناقص، وصفة يمينه أن يحلف ما يعلمها من دراهمه، وما دفعت إلا جيادا في علمي، إلا أن يتحقق أنها ليست من دراهمه فيحلف على البتولما كانت علة جواز البيع على البرنامج كثرة المشقة بحل الثياب وطيها ونشرها لكثرتها ذكر محترز ذلك بقوله: "ولا يجوز شراء ثوب" مطوي يشترط بائعه على مشتريه أنه "لا ينشر" له "ولا يوصف" له وقت العقد، ولا سبق له رؤية بل يبيعه على اللزوم بمجرد لمسه بيده ولا يقلبه ولا يعرف ما فيهقال خليل مشبها في عدم الجواز: وكملامسة الثوب أو منابذته فيلزم، وأما لو باعه على الخيار بالرؤية لجاز ولو لم يذكر نوعه ولا جنسه. وقولهم يشترط في صحة البيع العلم بالمبيع محمول على بيع البت، ومفهوم قول المصنف: لا ينشر ولا يوصف أنه لو نشر لجاز الشراء، ولو على اللزوم، وأما لو وصف فلا يجوز على أحد قولين لمالك في الشيرج المدرج في جرابه، ومحل القولين ما لم يكن في رؤيته فساد، وإلا اتفق على الجواز، كما أجازوا بيع قلال
الخل المطينة إذا كان الفتح يفسدها لكن بشرط أن تكون مملوءة أو يعلم ما نقص منها من ثلث ونحوه، ويكفي علم المشتري ولو من البائع، ولا بد من بيان صفة ما فيها من الخل؛ لأنه إذا جاز بيع ما في البرنامج على الوصف لدفع المشقة، فأولى لدفع الفساد المؤدي إلى تلف المال، راجع الأجهوري في شرح خليل مع زيادة إيضاح"أو" أي وكذا لا يجوز شراء ثوب "في ليل مظلم" والحال أن البائع والمشتري "لا يتأملانه ولا يعرفان ما فيه" تفسير لما قبله، فإن وقع البيع على هذا الوجه على اللزوم كان باطلا؛ لأن شرط صحة البيع على اللزوم علم المتعاقدين بالمعقود عليهقال خليل: وعدم جهل بمثمون أو ثمن ولو تفصيلا، وأما على الخيار بالرؤية فيجوز، ولو لم يذكر جنس المعقود عليه ولا نوعه"تنبيهات" الأول: قول المصنف: في ليل مظلم يوهم أن المقمر يجوز فيه البيع على هذا الوجه على اللزوم وليس كذلك، بل المقمر كالمظلم، وكان الأولى إسقاط لفظ مظلم أو ذكر مقمر مع حذف مظلم ليكون ناصا على المتوهم، وما أحسن قول المدونة: ولا يجوز شراء بليل ولم يقيده، بل لو وقع البيع نهارا على هذا الوجه على البت كان باطلا؛ لأن المدار على عدم معرفة المعقود عليه، وأما على الخيار فلا بطلانقال خليل بالعطف على الجائز وغائب: ولو بلا وصف على خياره بالرؤيةالثاني: قوله: لا يتأملانه ولا يعرفان ما فيه جعله بعض الشراح كالتعليل لسابقه لعدم صحة البيع في الليل وكأنه قال: ولا يجوز الشراء في الليل لعدم الوصول إلى معرفة المعقود عليه، وهذا يوهم أنه لا يصح البيع ليلا ولو تأملاه، وهو كذلك على ظاهر الأمهات، بناء على أن حقيقة المبيع لا تدرك ليلا. وفي مختصر البرزلي: إذا كان العاقد يمكنه الوصول إلى معرفة المعقود عليه ظاهرا وباطنا بالقمر مثل النهار جازقال بعض شيوخ شيوخنا الأجهوري: وهذا الخلاف في شهادةالثالث: إنما ثنى الضمير في يتأملانه ويعرفان؛ لأنه يطلب العلم من كل واحد من المتعاقدين، والبائع قد لا يعلم حقيقة ما عنده فسقط ما قيل: إنما يشترط علم المشتري لعلم البائع بشيئه، وثبوت النون في يتأملانه ويعرفان على اللغة الفصيحة؛ لأن لا نافية، وأما على نسخة إسقاطها فهو على إجراء لا النافية مجرى الناهية، أو على لغة قليلة تحذف نون الأفعال
الخمسة لمجرد التخفيف، وجاء عليها قول الشاعر: أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الزكي وقوله صلى الله عليه وسلم: "كما تكونوا يولى عليكم" 1 ولما كان يتوهم أن الدابة كالثوب قال: "وكذلك" لا يجوز شراء "الدابة" سواء كانت مأكولة اللحم أم لا. "في ليل" مقمر وأولى "مظلم" على ما عليه ابن القاسم، وأما أشهب ففصل بين ما يؤكل لحمه فيجوز شراؤه بالليل حيث كان المقصود لحمه؛ لأنه يمكن اختباره بالليل فلا يجوز شراؤه بالليل، والظاهر أن شراء الحوت ونحوه من الطيور كبهيمة الأنعام التي يراد منها اللحم، وملخص ما فهم من كلام أهل المذهب في الثياب وغيرها أنه إن علم المعقود عليه باطنا وظاهرا بحيث لا يتميز إدراكه للمتعاقدين في النهار عن إدراكه لهما في الليل جاز بيعه، وإلا فلا، والأصل في ذلك كله ما في الصحيحين: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبستين وعن بيعتين، ونهى عن الملامسة والمنابذة في البيع"2 فالملامسة هي لزوم المبيع بلمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك، والمنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه لآخر ولا يلمسه ولا ينشره بل يلزمه الشراء بمجرد طرحه له من غير إحاطة بحاله، واللبستان إحداهما اشتمال الصماء، وهو أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب، واللبسة الثانية اختباؤه بثوب ليس على فرجه منه شيء، وأما لو وقع البيع في ذلك الخيار لجازثم ذكر المصنف أمرا مشاركا لما قبله في النهي بقوله: "ولا يسوم أحد على سوم أخيه" أي لا يجوز أن يزيد على الثمن الذي سماه غيره؛ لأنه يورث العداوة بين صاحب العطاء الأول والثاني، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا" 3 وما ذكره المصنف بعض حديث ولفظه: "لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يسم على سومه" 4ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه الديلمي في الفردوس عن أبي بكرة، والبيهقي عن أبي إسحاق وابن جميع في معجمه "ص 149"، والقضاعي في مسنده "4/17"، وأورده العجلوني في كشف الخفاء "2161". قال في الأصل رواه الحاكم ومن طريقه الديلمي عن أبي بكرة مرفوعاً وأخرجه البيهقي بلفظ: "يؤمر عليكم بدون شك وبحذف أبي بكرة فهو منقطع، وفي شعب الإيمان للبيهقي كما تكونون - انتهى"، وانظر "كنز العمال طرف حديث 14972"، والسلسة الضعيفة "1/490"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب: اشتمال الصماء، حديث "5820"، ومسلم، كتاب البيوع، باب: إبطال بيع الملامسة والمنابذة، حديث "1512"3 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر، حديث "6065" نبحوه، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: تحريم التحاسد والتباغض والتدابر، حديث "2559"4 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: النهي للبائع أن لا يحفل الإبل والبقر، حديث "2150"، ومسلم، كتاب البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه، حديث "1412"، ولم يذكر السوم، وإنما جاء بلفظ السوم عند مسلم بلفظ: "لا يسم المسلم على سوم أخيه " النكاح 1413".
واختلف الناس في فهم الحديث، فمنهم من فهم أن السوم والبيع شيء واحد، وهو الزيادة في الثمن على عطاء الغير، ومنهم من فهم أنهما شيئان فالسوم الزيادة في الثمن، والبيع متعلق بالثمن الذي هو السلعةومثاله أن يحضر شخص لصاحب سلعة ويريد شراءها منه فيأتي شخص آخر بسلعة ويقول لمن يريد الشراء المذكور: سلعتي هذه خير لك من سلعة فلان التي أردت شراءها، وأنا أرضى منك بما أعطيت في سلعة فلان. ولا شك في حرمة هذا؛ لأنه يؤدي إلى التباغضولما كانت حرمة السوم مشروطة بما إذا كان البائع ركن إلى المشتري أشار إليه بقوله: "وذلك" أي ومحل حرمة السوم على سوم الغير "إذا ركنا" أي المتعاقدان أي بعضها إلى بعض، وفسر التراكن بقوله: "وتقاربا" بأن مال البائع إلى البيع والمشتري إلى الشراء بحيث لم يبق بينهما إلا الإيجاب والقبول باللفظ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يزيد على عطاء ذلك المشتري أو يعرض له سلعة أخرى يرغبه فيها حتى يعرض عن الأولى، وهذا التقييد من تفسير الراسخين، وبيان المتفقهين، فقد قال مالك في الموطإ: وتفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ترى والله أعلم: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" 1 أنه إنما نهى عن أن يسوم الرجل على سوم أخيه إذا ركن البائع إلى السائم وجعل يشترط وزن الدراهم ويتبرأ من العيوب، وما أشبه ذلك ما يعرف به أن البائع ركن إلى المشتري، فهذا الذي نهي عنه والله أعلموبين مفهوم إذا ركنا بقوله: "لا من أول التساوم" فلا ينهى عن ذلك فقد قال مالك رضي الله عنه: أما قبل التراكن والتقارب فجائز؛ لأنه لو ترك ذلك لدخل الضرر على الباعة في سلعهم؛ لأنه يؤدي إلى بخسها وبيعها بالنقص، وإنما صرح المصنف بذلك، وإن فهم من التقييد ردا على من كره التزايد في السلعة مطلقا مخافة الوقوع في النهي المذكور، وإنما يجوز السوم على سوم الغير قبل التراكن أو أراد السائم أن يشتريها، وأما لو قصد بسومها والزيادة في ثمنها غرور الغير فإنه يحرم لأنه يكون ناجشا، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "ولا تناجشوا" "تنبيهات" الأول: تكلم المصنف عن النهي المذكور وسكت عما لو طلب مريد الشراء من
ـــــــ
1 أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر، حديث "2150"، ومسلم، كتاب البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه، حديث "1412".
الغير الكف عن العطايا في السلعة ليأخذها برخص وحكمه الجوازقال خليل: وجاز سؤال البعض ليكف عن الزيادة لا الجمع، ولا البعض الذي هو كالجمع في كونه مقتدى به، فإن خالف الجائز وسأل من لا يجوز سؤاله وثبت ذلك ببينة أو إقرار خير البائع في قيام السلعة ردها وعدمه، فإن أمضى بيعها فالجميع فيها شركاء لتواطئهم على ترك الزيادة زادت أو نقصت أو تلفت، وللمبتاع أن يلزمهم الشركة إن نقصت أو تلفت، ولهم الدخول معه قهرا عليه إن زادت، ولا فرق في ذلك بين كونها في سوقها أم لا، كانت للتجارة أم لا، وإن فاتت فله الأكثر من الثمن والقيمة على المبتاع من غير اشتراكالثاني: استثنى بعض الشيوخ من النهي عن السوم المذكور سوم ما يبيعه الحاكم بالخيار ثلاثا من سلع المفلس أو من التركة التي يبيعها للأيتام، وكذا ما بيع في المغانم، وغير ذلك مما يبيعه الحاكم فإنه يجوز التزايد فيه ولو كان لغير أعطى فيه وحصل التراكن؛ لأن للحاكم قبول الزيادة، ويجوز لفاعلها الإقدام عليها ولا يدخل هذا تحت النهيالثالث: لم يذكر المصنف حكم ما لو وقع النهي عنه بأن سام وزاد على غيره بعد التراكن ووقع الإيجاب والقبول، وجرى فيه خلاف بين العلماء في الفسخ وعدمه، فذهب الشافعي وجماعة إلى إمضائه حملا للنهي على عدم الوجوب، ولمالك قولان في النهي: هل على الكراهة أو الحرمة؟ والفسخ على الثاني دون الأول؟ والمعتمد الحرمة، وتقدم في النكاح أنه إذا خطب على خطبة غيره بعد التراكن أنه يفسخ إن لم يدخلقال خليل: وفسخ إن لم يبين، وإنما فسخ؛ لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه حتى يوجد دليل على الصحة بعد الوقوعقال العلامة خليل: وفسد منهي عنه إلا لدليل. قال شراحه: سواء كان المنهي عنه عقد معاملة أو عبادة، وقوله: إلا لدليل أي يدل على الصحة بعد الوقوعالرابع: في قوله "لا يسوم أحد على سوم أخيه" أمران: أحدهما متعلق باللفظ وذلك؛ لأن لا ناهية وكان الواجب حذف الواو من يسوم لالتقاء الساكنين كما وقع في لفظ الصحيحين من قوله: "لا يسم الرجل" بحذف الواو، وثانيهما التقييد بأخيه فإنه صريح في المسلم كما وقع التصريح به في بعض الروايات، وهو ليس بقيد بل الذمي كذلك للإجماع على حرمة أذى الجميع. والجواب عن الأول أنه أجرى النهي مجرى الخبر، وعن الثاني بأن التقييد بالأخ
وصف طردي أو غير معتبر المفهوم ولما فرغ من ذكر ما أراده من البياعات المنهي عنها شرع في بيان ما كان الأولى تقديمه قبل ذلك وهو ما ينعقد به البيع فقال: "والبيع" وقد تقدم معناه لغة وشرعا "ينعقد" أي يتحقق وجود حقيقته "بالكلام" وكذا بغيره من كل ما يدل على الرضا، ولو الإشارة منهما أو من أحدهما، ولو مع القدرة على النطق، إلا الأخرس الأعمى الأصم فلا تجوز معاملته، ولا مناكحتهقال خليل: ينعقد البيع بما يدل الرضا، وإن بمعاطاة وببعني فيقول: بعت وبايعت أو بعتك ويرضى الآخر فيهما، ويلزم من لفظ بالمضارع ابتداء من بائع أو مشتر ويرضى الآخر، فإن قال البادئ بعد رضا الآخر: لم أرض فإنه يلزمه يمينقال خليل: وحلف، وإلا لزم إن قال: أبيعكها بكذا أو أنا أشتريها به أو أتسوق بها، فقال: بكم؟ فقال: بمائة، فقال: أخذتهاوالحاصل أنه ينعقد بلفظ الماضي أو الأمر أو المضارع، ولا يشترط عندنا تقدم الإيجاب من البائع على القبول من المشتري، وإنما فسرنا ينعقد في كلام المصنف بما ذكرنا لدفع إشكال في كلامه؛ لأن البيع عقد، فكيف يقول البيع ينعقد؛ لأنه يصير المعنى ينعقد العقد بالكلام، وهو غير صحيح. وقدمنا أن شرط صحة العقد تمييز العاقد، وشرط لزومه تكليفه، فعقد المحجور عليه صحيح غير لازم كعقد المكره إكراها حراما، ثم إن وقع على خيار التروي ولو بالعادة كان منحلا ولا يلزم إلا بما يدل على الرضا من قول أو فعل أو بمضي مدته، وما اتصل به من الغد والغداءينقال خليل: ويلزم بانقضائه ورد في كالغدو إن وقع بتا كان لازما بمجرده حيث صدر من مكلفين رشيدين. "وإن لم يفترق المتبايعان" تثنية متبايع بالتاء لا بالهمزة خلافا لمن قال: لا ينعقد إلا بعد الافتراق من المجلس كالإمام الشافعي، ومن وافقه من أصحابنا، وسبب الاختلاف "خبر المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار" ، فمالك، ومن وافقه ترك العمل بظاهره وحمل التفرق على التفرق بالأقوال، وأنهما إذا عقدا البيع، ولم يذكرا خيارا ولا كانت العادة جارية به يقع البيع لازما ولم يكن لأحدهما خيار، ومن هؤلاء من قال هو على ظاهره، وتقدم أن الحامل لمالك رضي الله عنه على عدم العمل بخيار المجلس عمل أهل المدينة، وقد ذكرنا في صدر الباب ما فيه الكفايةولما فرغ من الكلام على بيع الذوات شرع في الكلام على بيع المنافع فقال: "والإجارة
جائزة" قال خليل: صحة الإجارة بعاقد وأجر كالبيع، وهي مأخوذة من الأجر بمعنى الثواب، يقال: استأجر الرجل على عمل بأجر أي بثواب يعطيه له على عمله، وعرفها ابن عرفة بقوله: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها، فخرج بيع منفعة الدور والأرضين والدواب فلا يسمى إجارة، وإنما يسمى كراء، كما خرجت المساقاة والقراض، والضمير في بعضه للعوض وفي تبعيضها للمنفعة، وإنما زاد لفظة بعضه؛ ليدخل في التعريف: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] الآية. للإجماع على أن هذه إجارة وعوضها البضع وهو لا يتبعض، فلو حذفها لصار التعريف غير جامع، وجوازها ثابت بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقوله تعالى حكاية عن نبيه شعيب مع موسى عليهما الصلاة والسلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، فذكر تأجيل الإجارة وسمى عوضها. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره"1 وقوله أيضا عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" 2 رواه البخاريوفيه أيضا في حديث الرقية بالفاتحة: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" وأما الإجماع فحكاه غير واحد. واعلم أن أركانها خمسة: المؤجر والمستأجر والصيغة والأجرة والمنفعة. أما المؤجر والمستأجر فشرط صحة عقدهما التمييز، وشرط لزومه التكليف والرشد، فعقد الصبي والعبد على سلعهما أو على أنفسهما صحيح غير لازم فلوليها فسخه وإمضاؤه، وإن لم يطلع على ذلك إلا بعد الاستيفاء لزم المستأجر الأكثر من المسمى وأجرة المثل، وكذا إن عقد السفيه أو المكره إكراها حراما يكون لولي السفيه وللمكره بعد زوال الإكراه الإجازة أو الفسخ، إلا أن يكون عقد السفيه على نفسه فلا كلام لوليه؛ لأنه لا حجر عليه في نفسه إلا أن يكون في إجارته نفسه محاباةوأما صيغة الإجارة فهي كل ما يدل على الرضا، وأما الأجرة فهي كل ما يصح أن يكون ثمنا
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه البيهقي في الكبرى "6/120"، حديث "11431"، وابن أبي شيبة في مصنفه "4/366"، حديث "21109"، وضعفه الألباني "الإرواء 5/311"2 أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: إثم من باع حراً، حديث "2227".
في الجملةقال خليل: صحة الإجارة بعاقد وأجر كالبيع، وإنما قلنا في الجملة لئلا ننتقض الكلية بالطعام، ومما تنبته الأرض لصحة كونهما ثمنا، وعدم صحة كونهما أجرة الأرض الزراعية، ويجب تعجيلها إن كانت معينة بالشرط أو العادةقال خليل: وعجل إن عين أو بشرط أو عادة أو في مضمونة لم يشرع فيها إلا كرى حج فاليسير وأما المنفعة فهي كما قال ابن عرفة: فهي ما لا تمكن الإشارة إليه حسا دون إضافة يمكن استيفاؤه غير جزء مما أضيف إليه. وقال خليل بمنفعة تتقوم قدر على تسليمها بلا استيفاء عين قصدا، فلا تستأجر التفاحة لشمها؛ لأن تأثرها ليس من الاستيفاء، وإنما هو من مرور الزمان، ولا الأعمى للخط، ولا الأخرس للكلام، ولا الأرض التي غمرها الماء ولا يمكن انكشافها، ولا الفقيه لإخراج الجان أو لحل المربوط؛ لعدم تحقق المنفعة، ولا الأشجار لثمارها، ولا الشاة للبنها لأدائه إلى بيع الشيء قبل وجوده، وهو لا يجوز، ولا الحائض لكنس المسجد بنفسها، ولا على فعل ما يطلب من الإنسان بنفسه كصلاة الوتر أو الصوم؛ لعدم حصول المنفعة للمستأجروأشار المصنف إلى شروطها بقوله: "إذا ضربا لذلك أجلا وسميا الثمن" والمعنى: أن الإجارة لا تصح إلا بشروط ثلاثة، أحدهما: أن يكون أجلها معلوما بشهر أو سنة، أو تكون محدودة بعمل كخياطة ثوب أو كتابة كراس. وثانيها: أن يكون الأجر معلوما للمتعاقدين ولو بالعرف، كأجرة الخياطة أو صبغ الثوب أو غيرهما مما تختلف أجرته عرفا. وثالثها: أن يكون العمل المستأجر عليه معلوما للمتعاقدين، كما يشترط تعيين الذات المعقود عليها لتعليمها أو لركوبهاقال خليل: وعين متعلم ورضيع ودار وحانوت وبناء على جدران، ومحمل إن لم توصف ودابة لركوب، وإن ضمنت فجنس ونوع وذكورة"تنبيهان" الأول: إنما يشترط التصريح بالأجل فيما لا تعرف غايته إلا بانتهاء الأجل كالاستئجار على الرعاية أو الحرث، وأما ما غايته الفراغ منه كالخياطة والحياكة والصبغ فيكفي تعيين العمل، وجرى خلاف في فساد العقد عند الجمع بين العمل والزمانقال خليل: وهل تفسد إن جمعهما وتساويا أو مطلقا خلاف.
الثاني: ما قدم من أن الإجارة جائزة بيان لحكمها الأصلي وقد تكون مكروهة، مثل أن يؤجر نفسه للإمامة أو للحج أو غيرهما من أنواع الطاعات أو لذمي لا يناله من ذلك مذلة، وقد تكون محرمة مثل أن يؤجر نفسه لذمي يناله بذلك مذلة أو يؤجر نفسه لمعروف بالغصب، وكذا كل إجارة يترتب عليها فعل محرمولما كان الجعل مشاركا للإجارة في العقد على المنفعة؛ لأن حقيقته كما قال ابن عرفة: عقد على عمل آدمي بعوض غير ناشئ عن محله به لا يجب إلا بتمامه، فخرج العقد على كراء السفن والرواحل والأرضين كما خرجت المساقاة والقراض وشركة الحرث، وزاد لفظه به ليدخل: إن أتيتني بعبدي الآبق فلك عمله شهرا مثلا، فإنه جعل، وإن كان فاسدا للجهل بالعوض، ولو سقط لفظة به لخرجت لمشاركتها للقراض فيما خرج به؛ لأن عوضها نشأ عن محل العمل، والضمير في محله عائد على عمل الآدمي وبه كذلكوالمعنى: أن العوض شرطه أن يكون غير مأخوذ عن محل العمل بسبب عمل عامله فدخلت تلك الصورة؛ لأن عوضها غير ناشئ عن عمل عاملها بل أخذ من عمل محلها لا بسبب عمل عاملها، بخلاف نحو القراض، وإنما احتيج إلى إخراجها مع كونها فاسدة؛ لأن التعاريف لمطلق الماهية الشاملة للفاسدة دل على جوازه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فجعل لمن جاء بصواع الملك الذي فقدوه حمل بعير من الطعام ولم يقدر له مدة، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" 1 وقصة الرهط مع الجماعة الذين لدغ سيدهم التي رواها أبو سعيد الخدري فإنه قال: انطلق نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء فلم ينفعه شيء فقال بعضهم لبعض: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا عندنا لعل أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم فقالوا لهم: إن سيدنا لدغ وقد سعينا له بكل شيء فلم ينفعه فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي ولكن قد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق حتى تجعلوا لي جعلا فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله أي الفاتحة فكأنما
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب ومن قتل فله سلبه، حديث "3142"، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، حديث "1751"، وأبو داود، حديث "2717"، والترمذي، حديث "1562".
نشط من عقال يمشي، وما به قلبة أي علة فأوفوهم جعلهم. فقوله في الحديث: "حتى تجعلوا لي جعلا" يرد على من نظر في الاستدلال بقضية الرهط؛ لجواز أن يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك لاستحقاقهم إياه بالضيافة، كما يرده قوله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أنها رقية" 1 مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" 2 فإن هذا يقتضي أن ما أخذوه في نظير الرقية لا الضيافة، وقد مضى عمل المسلمين على ذلك في سائر الأقطار على توالي الأعصاروالمصنف لم يذكر أركانه، وهي أربع: العاقدان والعمل والعوض، وأشار لها خليل بقوله: صحة الجعل بالتزام أهل الإجارة جعلا على ما يستحقه السامع بالتمام، فشرط العاقد التأهل لعقد الإجارة صحة ولزوما، وشرط الجعل بمعنى العوض أن يكون مما يصح كونه أجرة، وأما العمل المجاعل عليه فبعضه تصح فيه الإجارة وذلك كحفر بئر في أرض موات؛ لأنه إن عين فيها مقدار مخصوص من الأذرع كان إجارة، وإن عاقده على إخراج الماء كان جعلا، وبعضه مما لا تصح فيه الإجارة وذلك كالمعاقدة على إحضار عبد آبق أو بعير شارد ونحوهما من كل ما يجهل فيه العمل، وبعضه لا تصح فيه الجعالة وتتعين الإجارة، وذلك كالمعاقدة على عمل في أرض مملوكة للجاعل كحفر بئر في أرض مملوكة له؛ لأنه على تقدير عدم تمام العمل يذهب عمله باطلا مع انتفاع الجاعل بعمله، فبين الإجارة والجعل العموم والخصوص الوجهي على التحقيق، خلافا لظاهر خليل في قوله: في كل ما تجوز فيه الإجارةولما كان شرط الجعل عدم تقدير زمن للعمل قال: "ولا يضرب في الجعل أجل" أي يحرم أن يقدر زمن معين "في رد" رقيق "آبق أو بعير شارد أو حفر بئر" في أرض موات جاعله على إخراج مائها"أو" في "بيع ثوب ونحوه" ، وإنما لم يجز ذلك لما فيه من زيادة الغرر، إذ ربما ينقضي الأجل قبل تمام العمل فيذهب عمله باطلا، أو يتم العمل قبل انقضائه فيأخذ ما لا يستحقه؛ لأنه يأخذ الجعل كاملا؛ لتمام العمل ويسقط عنه العمل في بقية الأجل، إلا أن يكون العامل شرط على الجاعل الترك متى شاء فإنه يجوز ضرب الأجل حينئذقال خليل: بلا تقدير زمن إلا بشرط تركه متى شاء، ولا يقال: شأن الجعل أن للعامل فيه
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الإجادة، باب: ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة، حديث "2276"، ومسلم، كتاب السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن الكريم والأذكار، حديث "2201"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب: الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، حديث "5737".
الترك متى شاء فلم امتنع مع تقدير الزمن من غير اشتراط تخيير في الترك وجاز مع الاشتراط؟. لأنا نقول: المجعول له عند عدم الشرط دخل على التمام فغرره قوي، وإن كان له الترك متى شاء وعند الشرط يخف غرره لدخوله ابتداء على التخيير"تنبيهات" الأول: كما لا يجوز ضرب الأجل في عقد الجعل لا يجوز شرط نقد العوض، وإذا وقع ضرب الأجل في عقده أو شرط نقد العوض فسد ولو لم يحصل نقد، ويجب فيه إن تم العمل جعل المثل، وإلا فلا شيء له إلا أن يقع العقد على أن له الجعل، وإن لم يتم العمل فيكون فيه أجرة المثلقال خليل: وفي الفاسد جعل مثله إلا بجعل مطلقا فأجرتهالثاني: قد ذكرنا أن الجعالة كالإجارة في العاقد والعوض، إلا أنه لا يشترط إيقاع العقد فيه من الجانبين، بل يستحق العامل الجعل، وإن لم يعاقده رب الشيءقال خليل: ولمن لم يسمع جعل مثله إن اعتاده، والضابط أنه متى أحضر العبد الآبق من اعتاد ذلك وجب له الجعل، سواء وقع من ربه الالتزام أو لم يقع، وأما لو أتى به من لا عادة له بطلب الإباق فإنما له ما أنفقه على الآبق من أكل وشرب ولباس لا نفقته على نفسه فإنها على نفسه لا على رب الآبقالثالث: يشترط في صحة الجعل إذا كان المجاعل عليه عبدا آبقا أو بعيرا شاردا جهل مكانه، فإن علما أو أحدهما مكانه فسخ العقد، فإن تم العمل فإن كان العالم الجاهل والجاهل العامل فله الأكثر من الجعل وأجرة مثله، وإن انفرد المجعول له بالعلم فلا شيء، وقال ابن القاسم في العتبية له بقدر تعبه، والقول لمن ادعى عدم العلم منهماالرابع: لو أعطى شخص غيره ثوبا ليبيعه وقال له: لا تبعه حتى تشاورني لم يجز إن ضربا للبيع أجلا؛ لأن الجعل يفسد بضرب الأجل كما تقدم، والواجب فيه تسمية الثمن والتفويض إلى البائع في بيعه متى شاءالجزء الثاني ولما كان يتوهم من كون عاقد الجعل كعاقد الإجارة تبعيض العوض كالأجرة قاله: "ولا شيء له" أي للعامل "إلا بتمام العمل" لورود النص بذلك قال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] فإن مفهومه أنه إن لم يأت به لا شيء له، وأما إن تم العمل فيستحق الجعل المسمى له وجعل مثلها إن لم يكن تسمية حيث كانت عادته الإتيان بالآبق كما
تقدم، ولو استحق الشيء المجاعل عليه، ولو قبل قبض ربه، ولو كان الاستحقاق بحرية، ولا يرجع الجاعل بالجعل على المستحق على المشهور؛ لأن الجاعل هو الذي ورط العامل في العمل مثل الاستحقاق، ولو أعتق السيد العبد بعد شروع العامل في تحصيله بخلاف موته قبل قبض ربه له فإنه لا يستحق، ومثل الموت في تفصيله لو هرب العبد أو أسر أو غصب، والفرق بين هذه المذكورات والاستحقاق أن الاستحقاق يغلب كونه ناشئا عن عداء الجاعل، ثم إن محل كون العامل لا شيء له قبل تمام العمل ما لم ينتفع رب الشيء بعمله، وإلا استحق بنسبة عمل الثانيقال خليل: إلا أن يستأجر ربه على التمام، فبنسبة عمل الثاني سواء عمل عمل الثاني قدر الأول أو أقل أو أكثر، فإن كان جعل للأول عشرة دراهم على حمل خشبة إلى موضع كذا فبلغها نصف الطريق مثلا وتركها ثم جعل لآخر عشرة على تبليغها فإنه يستحق الأول عشرة، وهكذا ولا مفهوم للاستئجار، بل لو بلغها ربها أو شخص آخر مجانا فإنه يستحق الأول بنسبة عمل من يتمه أن لو استأجر عليه؛ لأن المدار على الانتفاع بعمله، راجع شرح خليل للعلامة الأجهوري"تنبيهان" الأول: عقد الجعل قبل الشروع في العمل منحل من جهة العامل والجاعل، وأما بعد الشروع في العمل فلازم من جهة الجاعل، ومنحل من جهة العامل، والمراد بالجاعل ملتزم عقد الجعل، ولو عقده وكيلهالثاني: إنما يصح عقد الجعل فيما لا يجب على العامل، فأما ما يجب عليه من قول أو فعل فلا يصح مجاعلته عليهقال في البيان: قال ابن القاسم قال مالك: من قال دلني على من يشتري مني جاريتي ولك كذا أو من أؤجره نفسي فدل عليه فذلك لازم له؛ لأنه لا يجب عليه الإدلال عليه، بخلاف ما لو قال: دلني على امرأة تصلح لي أتزوجها ولك كذا فدله فلا شيء له، والفرق بين الدلالة على من يشتري أو يستأجر، وبين الدلالة على من تصلح للنكاح في لزوم العوض في الأول دون الثاني وقوع العوض في مقابلة ما لا يلزم العامل، وهو التفتيش على من يشتري أو يستأجر، بخلاف الثاني فإنه في مقابلة ما يجب على العامل، وهو النصيحة؛ لأنه لما استنصحه صارت النصيحة واجبة عليه، ولا يجوز لأحد أخذ عوض في واجب عليهولما كان الجعل لا يستحقه العامل إلا بالتمام، والإجارة تخالفه قال: "والأجير على البيع"
أي على السمسرة على أثواب أو دواب أو عبيد معلومة في أجل معلوم بأجر معلوم "إذا تم" أي انقضى "الأجل ولم يبع" شيئا مما استؤجر على بيعه "وجب له جميع الأجر" المشترط أو المعروف له بحسب العادة، وإنما وجب له جميع الأجر؛ لأن المستأجر قد استوفى ما استأجره عليه، وهو النداء على السلع في تلك المدة. "و" أما "إن باع" المستأجر على بيعه "في نصف الأجل فله نصف الإجارة" أو في ربع الأجل فله ربع الأجر؛ لأن كل جزء من الأجرة في مقابلة ما يعادله ويقابله من أجزاء المنفعة، ولذلك قال ابن عرفة في التعريف: يتبعض بتبعيضها، والمراد بالإجارة في كلامه الأجر الذي هو العوض، وحملنا كلامه على السمسرة للاحتراز عما لو كان الاستئجار على نفس البيع فإن الأجير لا يستحق فيه شيئا إلا بالبيع، وقيدنا المعقود عليه بالأشياء المعينة للاحتراز عما لو استأجر شخصا على بيع سلع غير معينة شهرا مثلا، وأحضر له شيئا فباعه قبل انقضاء الشهر فليأته بمتاع آخر يبيعه حتى ينقضي الشهر أو يدفع له جميع الأجر؛ لأنه استأجره على عمله شهراوقال التتائي:
"فرع" لو أعطاه ثوبا وقال له: لا تبع حتى تساورني لم يجز، قاله عبد الحق انتهى. وأقول: لعل وجه عدم الجواز شدة الغرر؛ لأنه إذا شاوره يحتمل أن يجيز فيأخذ الأجرة وتارة لا يجيز فيذهب عمله باطلا"تنبيه". ظهر لك من هذا البيان أن كلام المصنف في الإجارة لا في الجعل بدليل قوله: إذا تم الأجل، وظهر أيضا أن الإجارة تخالف الجعل في ثلاثة أوجه، الأول: انتقال الإجارة إلى الأجل دون الجعلالثاني: الجعل لا يستحق العامل فيه شيئا إلا بتمام العمل، بخلاف الإجارة تتبعض الأجرة غالبا بتبعيض المنفعةالثالث: لزوم الإجارة بمجرد عقد المكلف الرشيد، وإن لم يحصل شروع في العمل، بخلاف الجعل فإنه منحل من جهتهما قبل الشروع، وبعده لازم من جهة الجاعل دون العاملولما قدم أن الإجارة جائزة ولازمة وكانت تستعمل في الغالب في بيع منفعة العاقل، شرع في الكلام على العقد على منافع الدواب ويقال له كراء مضمنا له بيان شرط العوض مطلقا بقوله: "والكراء" بالمد، وهو بيع منفعة ما أمكن نقله من حيوان لا يعقل كما قاله ابن عرفة،
بخلاف بيع منفعة العاقل فإنه يسمى إجارة، وهذه تفرقة للفقهاء، وهي غير ملتزمة الاستعمال؛ لأنهم كثيرا ما يطلقون كلا على الآخر كما في كلام المصنف؛ لأن المراد هنا العقد على المنافع كانت من عاقل أو غيره "كالبيع فيما يحل" من الأجل المعلوم والعوض المستوفي للشروط المطلوبة في المعقود عليه من كونه طاهرا منتفعا به مقدورا عليه للمتعاقدين. "و" فيما "يحرم" من كونه منهيا عنه أو مجهولا أو غير طاهر، وحاصل المعنى: أن الكراء بمعنى بيع المنافع كالبيع في الشروط المطلوبة في العاقد والمعقود عليهقال خليل: صحة الإجارة بعاقد وأجر كالبيع. ثم قال: وكراء الدابة كذلك"تنبيهان" الأول: أورد على المصنف أنه يجوز بيع الأرض بطعام وبما تنبته، وإن غير خشب، ولا يجوز كراؤها بشيء من ذلك سوى الخشب والحلفاء والحشيش، فالكلية غير مسلمة لصحة وقوع هذه المذكورات أثمانا، ولا يصح دفعها كراء لأرض الزراعة، ويمكن الجواب على المصنف بأن وجود الشرط لا يلزم منه ترتب الحكم، فكم من مسألة يكون الثمن فيها مستوفيا للشروط ويكون العقد ممتنعا كالبيع عند نداء الجمعة، فقوله كالبيع أي في الجملة فلا يرد ما ذكرالثاني: إطلاق المصنف في الكراء يوهم مساواته للبيع في كل الوجوه وليس كذلك، فإن الكراء في نحو الدابة على وجهينأحدهما: أن تكون مضمونة أي غير معينة، فإن وقع عقد الكراء في زمن إبان الكراء فلا بد من تعجيل الكراء داخل الثلاثة أيام أو الشروع في المنفعةوأما لو وقع قبل الإبان كوقوع العقد قبل أشهر الحج بالنسبة له لا به الحج فيكفي تعجيل نحو الدينار أو الدينارين، ولا يجب تعجيل الجميع لئلا تهرب أصحاب الإبل، فهذه الصور تخالف البيع؛ لأن البيع يجب فيه تعجيل كل المثمن أو كل الثمن كما في السلم هروبا من ابتداء الدين بالدينثانيهما: أن تكون الدابة معينة فيجوز كراؤها نقدا أو إلى أجل إن حصل الشروع في الركوب ولو حكما بأن تأخر يسيرا كعشرة أيام، وأما إن تأخر الشروع فوق العشرة أيام فإن كان بالنقد لم يجز؛ لتردد المنقود بين الثمنية والسلفية، وإن لم يحصل نقد فيجوز عند ابن القاسم؛ لأن ضمانها إذا هلكت من ربها، وهذه أيضا يخالف فيها عقد الكراء المبيع؛ لأن المبيع المعين لا
يجوز تأخير قبضه فوق ثلاثة أيام، وقد أجاز ابن القاسم هنا في الكراء تأخير قبض الدابة المعينة أكثر من عشرة أيام حيث لم يحصل نقد لكرائها، وهذا كله إذا كانت الدابة حاضرة، وأما لو كانت غائبة فلا يجوز النقد فيها، كما لا يجوز النقد في الذات المشتراة في غيبتها ولو بغير شرطثم شرع في بيان ما يفسخ الكراء بتلفه فقال: "ومن اكترى دابة بعينها" بأن تكون حاضرة، وأشار إليها "إلى بلد" أي محل معين "فماتت" أو تعذر سيرها قبل تمام المسافة بأرض نزو بها أو غصبت أو استحقت ونحو ذلك مما لا يمكن سيرها معه "انفسخ الكراء فيما بقي" ويرجعان للمحاسبة، فعلى المكتري بحساب ما سار من الطريق ويعرف ذلك بالقيمة بأن تقوم المسافة كلها فيقال: بكم تكرى في هذه المسافة؟ فيقال: عشرة دنانير، ثم يقال: ما قيمة هذا الذي ساره منها؟ فإذا قيل: خمسة دنانير فتنسبها للعشرة فتجدها نصفها فيرجع صاحبها على المكتري بنصف الكراء، وظاهر قول المصنف انفسخ أنه لا يجوز التراضي على أخذ غير المعينة مطلقا وليس كذلكفقد قال خليل: وجاز الرضا بغير المعينة الهالكة إن لم ينقد أو نقد أو اضطر فيجوز، كما إذا كان في مفازة أو في محل غير مستعتب بأن لا يجد فيه ما يكتريه، فإن نقد ولم يحصل اضطرار فلا يجوز الرضى ببدل المعينة لما فيه من فسخ دين في دين؛ لأنه يفسخ ما وجب له من الأجرة في منافع يتأخر قبضها، وهي منافع المأخوذ بدلا، ولا يقال: العلة موجودة عند أخذ البدل مع الاضطرار؛ لأنا نقول: كثيرا ما يباح ما كان محرما للضرورة كأكل الميتة للمضطر، وسيأتي مفهوم قول المصنف بعينها أن المضمونة وهي التي لم تعين بالمعنى السابق بأن قال: أكتري منك دابة أو دابتك ولو كانت حاضرة، ومشاهدة ولكن لم يشر إليها، أو قال له: دابتك الفلانية والحال أنه لم يعلم له سواها لا تنفسخ الإجارة بموتها، ويلزم المكري أن يأتي للمكتري ببدلها كما يأتي. "وكذلك" أي مثل الدابة المعينة "الأجير" المستأجرة عينه لخدمة بيت أو رعاية غنم ونحو ذلك مدة معلومة. "يموت" أو يحصل له ما يمنع الاستيفاء منه في أثناء المدة، فإن الإجارة تنفسخ في المدة وله بحساب ما عمل، وقيدنا بقولنا المستأجرة عينه للاحتراز عما لو كانت الإجارة مضمونة في ذمته فلا تنفسخ بموته، ويجب على المتولي أمر التركة أن يستأجر منها من يتم العمل. "و" كذلك "الدار" المعينة تكترى مدة معلومة "تنهدم" كلها أو جلها أو يتعذر الانتفاع بها بسبب غصب ونحوه "قبل تمام مدة الكراء" فإن عقد الكراء يفسخ ويرجعان
للمحاسبة، والضابط في ذلك أن كل عين تستوفى منها المنفعة تنفسخ الإجارة بتعذر الانتفاع بها، بخلاف الذات التي تستوفى بها المنفعة، كالراكب للدابة أو الساكن في الدار لا تنفسخ الإجارة بموتهقال خليل: وفسخت بتلف ما يستوفى منه لا به إلا صبي تعلم ورضع وفرس نزو وروض. وألحق بهذه الأربع بعض مسائل تنفسخ الإجارة بتلفها، وهي مما تستوفى به، منها المستأجر على حصد زرع ليس للمستأجر سواه فاحترق، أو على بناء حائط أو على خياطة ثوب أو نسجه فغرقت الدار ذات الحائط وحرق الثوب ولا شيء للمستأجر سوى ما ذكر، فإن الإجارة تنفسخ في هذه الملحقات، وقيدنا انهدام الدار بكلها أو جلها للاحتراز عما لو كان المنهدم منها شيئا خفيفا بحيث لا يضر بالساكن كهدم شرافة فإنه كالعدم، وأما لو انهدم منها ما يحصل بهدمه الضرر على الساكن فإنه يخير بين فسخ الكراء عن نفسه ويدفع من الكراء بحسب ما سكن، وبين أن يستمر ساكنا ويدفع جميع الكراء، ولا رجوع له بقيمة العيب على المشهور، وأما النقص من قيمة الكراء ولا يضر بالساكن فلا يثبت به خيار للمكتري ويلزمه السكنى ويحط عنه من الكراء بحسب النقص، فالحاصل أن الحادث في الدار على ثلاثة أقسام وقد بينا أحكامها"تنبيه". لم يعلم من كلام المصنف حكم ما لو طلب المكتري من صاحب الدار أن يصلحها له بعد حصول انهدامها، والحكم عدم الجبرقال خليل: ولم يجبر مؤجر على إصلاح مطلقا، ولو كان الانهدام يضر بالساكن وخيرته تنفي ضرره، فإن أصلحها المكتري من عنده بغير إذن صاحبها فإنه يحمل على التبرع وله قيمة بنائه منقوضا أو يأمره بأخذ أنقاضه، إلا أن يكون المحل وقفا فيلزم المكري الإصلاح لحق الوقف، وإن أصلحها المكتري من ماله كان له الرجوع بقيمة بنائه قائما، ولو أصلح غير مستند لإذن من الناظر حيث أصلح ما يحتاج للإصلاح؛ لأنه قام عنه بواجب، وينبغي أخذ النفقة من فائض الوقف، وإلا فمن غلته المستقبلةولما وقع الخلاف بين الأئمة في جواز الاستئجار على تعليم القرآن بين المصنف مختار إمامه بقوله: "ولا بأس بتعليم المعلم القرآن" بأجرة "على الحذاق" أي على الحفظ للقرآن أو شيء منه، والمعنى: أنه يجوز الإجارة على حفظ القرآن كله أو بعضه وهو المراد بالحذاق، ولا فرق بين الحفظ غيبا أو معرفة قراءته بالحاضر، كما يقع للأعاجم الذين يقرءون في المصحفقال خليل: على تعليم قرآن مشاهرة أو على الحذاق، والدليل على جواز ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" 1، وإجماع أهل المدينة على ذلك، ولذلك قال مالك رضي الله عنه: لم يبلغني أن أحدا كره تعليم القرآن والكتابة بأجرة، واحترز بالقرآن عن الفقه وغيره من العلوم كالنحو والأصول والفرائض فإن الإجارة على تعليم ما ذكر مكروهة. وفرق أهل المذهب بين جوازها على القرآن وكراهتها على تعليم غيره، بأن القرآن كله حق لا شك فيه، بخلاف ما عداه مما هو ثابت بالاجتهاد فإن فيه الحق والباطل، وأيضا تعليم الفقه بأجرة ليس عليه العمل بخلاف القرآن، وأيضا أخذ الأجرة على تعليمه يؤدي إلى تقليل طالبه"تنبيهات" الأول: كما يستحق المعلم الأجرة المسماة له يستحق الحذاقة، وهي المعروفة بالإصرافة إن اشترطت أو جرت بها العادة، ويقضى للمعلم بها على الأب إلا أن يكون اشترط عدمهاقال خليل: وأخذها، وإن لم تشترط، كما قال شراحه: الضمير راجع للحذاقة المعروفة بالإصرافة ولا حد فيها على المذهب، والرجوع فيها إلى حال الأب من يسر وعسر، وينظر فيها أيضا إلى حال الصبي، فإن كان حافظا كثرت بخلاف غيره، ومحلها من السور ما تقرر به العرف نحو: "والضحى" و "سبح" و "عم" و "تبارك" فإن أخرج الأب ولده من عند المعلم قبل وصولها، فإن كان الباقي إليها يسيرا لزمت الأب، وإلا لم تلزم إلا بشرط فيلزم منها بحسب ما مضى، ولا يقضى بها في مثل الأعياد، وإنما تستحب، وإذا مات الأب أو الولد قبل القضاء بها سقطت، كما تسقط إذا مات المعلم ولا طلب لورثته بشيءالثاني: علم مما قررنا أن لا بأس في كلام المصنف المراد به الجواز بمعنى إلا إذا، فلا ينافي وجوب الإجارة على التعليم المذكور، إما لنفسه فيما يجب عليه حفظه، أو لتعليم الصبي الذي في كنفه من ولده أو خادمه، ومثلهما لزوجه، لما تقرر من أنه يجب على الولي أن يعلم نحو الصبي ما يعتقده في الله وفي الرسول، وكذا سائر ما جاءت به الرسل، وكذا معرفة ما يتعلق بصلاته وصيامه وطهارته، ويجب عليه أن يعلمه من القرآن ما يصلي به من فاتحة، ويسن تعليمه ما تحصل السنة، وما عدا ذلك فمندوب، والمراد بالولي ما يشمل القاضي، فإنه كالأب عند فقده وفقد الوصي وإن لم يكن فجماعة المسلمينالثالث: كما يقضى للمعلم بالإصرافة زيادة على الأجرة، يطلب منه زيادة على التعليم
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب: الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، حديث "5737"، وتقدم برقم "91".
للقرآن تعليمه الأدب ولو بالضرب على ما يحصل منه من نحو سب وكذب وسرقة وغير ذلك مما يحرم فعله على المكلف، كما يضربه على الهروب من المكتب، ويرجع في الضرب والتأديب إلى اجتهاد المعلم، وهو يختلف باختلاف المتعلمين لاختلاف أحوالهم، ويطلب منه أيضا أن يلي تعليمهم بنفسه، فلا يجوز له أن يفوض تعليم بعضهم إلى بعض؛ لأنه ربما يجر إلى الفساد، ويجب عليه أن يعدل بينهم في محل التعليم وفي التعليم وفي صفة جلوسهم عنده، ولا يجوز له تفضيل بعض على بعض في شيء من ذلك، كما لا يجوز له قبول هديتهم أو يستخدمهم أو يرسلهم إلى نحو جنازة أو مولود ليقولوا شيئا ويأخذ منهم ما يدفع لهم، فإن فعل ذلك كان جرحة في شهادته وإمامته. إلا ما فضل من غذائهم مما تسمح به النفوس غالبا، وإلا ما كان من الخدمة معتادا، وخف بحيث لا يشغل الولد فيجوز، كما يجوز ترك تعليمهم في نحو الجمع والأعياد لئلا تسأم أنفسهم بدوام التعليمولما كانت مشارطة الطبيب على البرء شبيهة بمسألة الإجارة على التعليم للقرآن على الحذاق باعتبار أنه لا شيء للعامل إلا بالتمام ذكرها عقبها بقوله: "ومشارطة الطبيب على البرء جائزة" والمعنى: أنه يجوز معاقدة الطبيب على البرء بأجرة معلومة للمتعاقدين، فإذا برئ المريض أخذها الطبيب، وإلا لم يأخذ شيئا، واتفقا على أن جميع الدواء من عند العليل؛ لأنه يجوز كونه من عند الطبيب، على أنه إن برئ العليل يدفع الأجرة وثمن الدواء، وإن لم يبرأ يدفع له قيمة الدواء فقط، وإنما لم تجز تلك الصورة لأدائها إلى اجتماع جعل وبيع، وهو لا يجوز. والحاصل أن المعاقدة على حفظ القرآن وعلى البرء وعلى استخراج الماء وكراء السفينة والمغارسة وهي إعطاء الرجل أرضه لمن يغرس فيها شيئا من الأشجار، وإذا بلغت حدا معروفا تصير الأرض والأشجار بينهما مشابهة للإجارة والجعالة، وبيان ذلك أنه لما كان العامل لا يستحق شيئا إلا بتمام العمل شابهت الجعالة، ولما كان إذا ترك الأول وكمل غيره العمل يكون للأول بحسابه لا بنسبة الثاني شابهت الإجارة، ولا يجوز اشتراط النقد في تلك الحالة لتردد المنقود بين السلفية والثمنية"تنبيه" علم مما قررنا أن موضوع كلام المصنف فيما إذا تعاقد على شرط حصول البرءوأما الاستئجار على المداواة في زمن المرض فعلى ثلاثة أقسام: قسم يجوز باتفاق، وهو استئجاره على مداواته مدة معلومة بأجرة معلومة، فإن تمت المدة وبرئ أو لم يبرأ فله الأجرة كلها، وإن برئ في نصف الأجل فله نصف الأجرة والدواء من عند العليل، ولا يجوز اشتراط
النقد في تلك الحالة لاحتمال البرء في أثناء المدة فتكون سلفا. وقسمان فيهما خلاف. أحدهما أن يعاقده على أن يداويه مدة معلومة والمسألة بحالها إلا أن الدواء من عند الطبيب فقيل يجوز، وقيل لا يجوز؛ لما فيها من اجتماع الجعل والبيع. وثانيهما: أن يقول له: أعاقدك بكذا على علاج هذا المريض حتى يبرأ، فإن برئ كان له الجعل، وإن لم يبرأ فلا شيء له ويكون الدواء من عند الطبيب، فقيل يجوز، وقيل لا يجوز لما فيه من الغررولما قدم أن الإجارة تنفسخ بتعذر الاستيفاء من الذات المعينة التي تستوفى منها المنفعة دابة أو دارا أو شخصا، شرع يتكلم على ما إذا حصل التعذر من جانب المستوفى به المنفعة من راكب أو ساكن أو غيرهما بقوله: "ولا ينتقض" أي لا ينفسخ عقد "الكراء بموت" أو تعذر "الراكب" لدابة أو سفينة "أو الساكن" المكتري للدار ونحوها، ولو كان الراكب عروسا يزف على المركوب في زمن غير معين، ويلزم وارث الميت الخلف أو يدفع جميع الكراء؛ لأن الراكب، ومن معه مما يستوفى به المنفعة والإجارة لا تنفسخ بتلفه، وأما لو اكترى الدابة ليزف عليها العروس في زمن معين ولم يحصل ذلك ففي المتيطية: إن كان التأخير لمرض أو عذر لم يلزم كراؤها، وإن كان التأخير اختيارا لزم الكراء، وللمكتري أن يكريها في مثله"ولا" ينتقض الكراء أيضا "بموت غنم" أي ماشية "الرعاية وليأت" ربها للراعي "بمثلها" ؛ لأن الغنم مما تستوفى بها المنفعة، وظاهر كلام المصنف وجوب الخلف سواء شرطا ذلك عند العقد أم لا، كانت الغنم معينة أم لا، وهو كذلك حيث وقعت صحيحة، وإلا فلا. واعلم أن العقد على رعاية نحو الغنم فيه تفصيل محصله: إن كانت معينة لا يجوز العقد على رعايتها إلا بشرط أن كل ما مات أو سرق منها يخلفه، فإن لم يشترطا الخلف لم يجز العقد وتفسخ، وإن لم يطلع عليها إلا بعد انقضاء المدة كان له أجر مثلهوأما لو كانت غير معينة فيجوز الاستئجار على رعيها ولم يشترط الخلف، ويلزم ربها الخلف أو دفع جميع الكراء، فتلخص أن الخلف واجب على رب الغنم كانت معينة أم لا حيث كانت الإجارة صحيحة، فإن عقدت على شرط الخلف عند تعينها أو بغير الخلف عند عدم تعينها، فإن امتنع ربها من الخلف لزمه دفع جميع الكراء، وأما الفاسدة فلا يلزم فيها خلف لوجوب فسخها، ويفهم من قوله بمثلها أنه لو أخلف الغنم بغيرها كبقر أو معز لا يلزمه؛ لأنه لو استأجره ابتداء على رعاية غنم، وأتى له بمعز لا يلزمه؛ لما في رعيها من المشقة، كما لا يلزمه رعي أولاد ما استؤجر على رعيه إلا لعرف كما هو الآن، وحيث لا عرف يلزم ربها الإتيان
براع لها، ويجب عليه أن يرعاها مع الأمهات؛ لأن رعي الولد مع الأم يتعب راعي الأم لا لحرمة التفرقة لاختصاصها بالعاقل"تنبيهان" الأول: علم مما ذكرنا أن كلام المصنف في الاستئجار على رعاية عدد من الغنم، وسكت عن حكم الاستئجار على رعاية غنم من غير تعيينها ولا بيان عددها بأن قال: أستأجرك على أن ترعى لي غنما، فإن هذا العقد جائز ويأتي له بما يقدر على رعيه؛ لأنه ملك جميع منافعه، وليس للراعي أن يرعى معها غيرها ولو قدر على ذلك، ولو لم يشترط عليه عدم رعي غيرها، فإن فعل كان الأجر لرب الغنم، وكذا لو استأجره على رعاية عدد معين، واشترط عليه أن لا يرعى معها غيرها فالشرط لازم، فإن خالف ورعى معها غيرها فالأجر لرب الغنم، وأما لو لم يشترط عليه في الفرض المذكور عدم رعي غيرها فيجوز له إن كان يقوى على ذلك ولو بشريك، وإلى هذا الإشارة بقول خليل: وليس لراع رعي أخرى إلا بمشارك أو ثقل، ولم يشترط خلافه، وإلا فأجره لمستأجره كأجير لخدمة آجر نفسهالثاني: لا يجوز للراعي أن يأتي براع بدله حيث كان معينا إلا أن يكون قد شرط ذلك أو جرى به العرف فيجوز كما يجوز لغير المعين"تتمة". لو ماتت الغنم أو سرقت لا ضمان عليه فيما ملك من الغنم ولو شرط عليه الضمان، ومثله كل من تولى العين المؤجرة كمكتري الدابة أو البيت، وهذا حيث لم يحصل منه ما يوجب الضمان ويقبل قوله بيمين، فيما إذا ذبح منها شيئا وادعى خوف موته؛ لأنه إذا لم يذبحها يضمن حيث ظهر منه تفريط، والكلام في الراعي المكلف وأما غيره فلا ضمان عليهقال خليل: وإن أقرض أو أودع صبيا أو باعه فأتلف لم يضمن، وإن بإذن أهله، وقال في محل آخر: وضمن ما أفسد إن لم يؤمن، ولا شك أن الاستئجار على الرعاية مستلزم للتأمينثم شرع في مفهوم المعينة بقوله: "ومن اكترى" دابة أو سفينة "كراء مضمونا" ، وهو ما لم تعين فيه الدابة بالإشارة إليها مع حضورها بأن قال: أكتري منك دابة أو سفينة أو دابتك أو سفينتك، ولو كانت حاضرة بالمجلس حيث لم يشر إليها ولو كان يعرفها قبل ذلك، وعدم اشتراط تعينها بالإشارة إليها لا ينافي وجوب بيان جنسها ونوعها وذكورتها وأنوثتها حتى يصح العقد عليها "فماتت الدابة" المضمونة أو انكسرت السفينة "فليأت" المكري قهرا عليه للمكتري "بغيرها" لعدم فسخ الكراء بموته غير المعينة؛ لأن المنافع متعلقة بذمة المكري لا بعين المضمونة، بخلاف المعينة فإنها كالأجير المعين ينفسخ الكراء بموته، ولا يقال: الدابة تستوفى
منها المنفعة والكراء ينفسخ بموت ما يستوفى منه؛ لأنا نقول: الاستيفاء من نوعها لا من عينها وشخصها، ولا منافاة بين كون منفعة الذات المضمونة في الذمة وكون المكري إذا أتى بدابة للمكتري وركبها لا يجبر على قبول غيرها، ؛ لأنه بركوبه عليها استحق منفعتها، حتى لو فلس المكري بعد قبضها يكون المكتري أحق بها إلى تمام المدة لصيرورتها كالمعينة بركوبه عليهاولما كان الراكب مما تستوفى به المنفعة والإجارة لا تنفسخ بموته قال: "وإن مات الراكب" للدابة أو السفينة "لم ينفسخ الكراء" بموته "وليكتروا" أي ورثة الراكب أو الحاكم إن لم يكن ورثة "مكانه غيره" مما هو مساو للميت أو دونه، ثم إن قوله: وإن مات الراكب إلخ مكرر مع قوله سابقا: ولا ينتقض الكراء بموت الراكب، ولعله إنما ارتكب ذلك ليرتب عليه قوله: وليكتروا مكانه غيره"تنبيه". لم يتكلم المصنف على اشتراط تعيين الراكب، والحكم أنه لا يلزم تعيينه عند عقد الكراء بل يصح عقد الكراء على حمل آدميقال خليل: وعلى حمل آدمي لم يره ولم يلزمه الفادح، وهو العظيم الثقيل، ومثله المريض المعروف بكثرة النوم أو بعقر الدواب، وإن لم يكن ثقيلا، والأنثى ليست من الفادح مطلقا، فإن وقع العقد على حمل آدمي وأتاه بامرأة لزمه حملها حيث لم تكن ثقيلة، بخلاف ما لو وقع العقد على حمل رجل فأتى له بامرأة فله الامتناع من حملها بخلاف عكسه فيما يظهرولما فرغ من الكلام على ما تنفسخ الإجارة بتلفه، وما لا تنفسخ بتلفه، شرع يتكلم على ما يضمنه المستأجر عند تلفه، وما لا يضمنه بقوله: "ومن اكترى ماعونا" كصحفة وقدر "أو غيره" من سائر الأعيان المكتراة فهلك "فلا ضمان عليه في هلاكه بيده، وهو مصدق" فيما ادعاه من التلف أو الضياع؛ لأنه مؤتمن على ما استأجره، وإنما يصدق بيمين إن كان منهما، واحترز بقوله بيده عما لو أكراه المكتري لغيره وادعى تلفه فإنه يضمنه إن أكراه لغير أمينقال خليل: وضمن إن أكرى لغير أمين أو لمن هو أثقل منه أو أضر أو لمن هو دونه في الأمانة، بخلاف لو أكرى لمن هو مثله في الأمانة فلا ضمان على واحد منهما، وحكم الإقدام على إجارة المستأجر لما استأجره من غير إذن المؤجر الجواز إن كان دارا، والمنع إن كان ثوبا، وأما الدابة ففي إجارتها للغير خلاف، وقيد المصنف تصديقه بقوله: "إلا أن يتبين كذبه" في دعواه كأن يقول: هلكت الدابة مثلا في أول الشهر ثم تشهد بينة برؤيتها عنده في آخر الشهر، أو يدعي الهلاك في محل فيسأل أهله فينكرون فإنه لا يصدق ويضمن.
وإذا ادعى المكتري ضياع الشيء المكترى قبل الانتفاع به ليسقط عن نفسه الأجرة لا يصدق ويلزمه الكراء، ولا يسقط عنه إلا ببينة تشهد على ما ادعاه؛ لأن الكراء قد لزم ذمته فلا يبرأ منه إلا ببينة"تنبيهان" الأول: تلخص مما ذكرناه في الكلام على الراعي وعلى المكتري التصديق في الهلاك أو الضياع بعد حلف المتهم دون غيره، ولا فرق بين كون الذات المكتراة مما يغاب عليها كالثوب والوعاء أو لا يغاب عليها كالدابة. وأما لو ذبح واحد منهما الذات التي تحت يده فتقدم أنه يصدق الراعي في ذبحه لخوف موت ما ذبحه، بخلاف المكتري لنحو ثور فإنه لا يصدق أنه ذبحه لخوف موته إلا بلطخ أو بينة، ومثله المستعير والمرتهن والشريك والمودع، وإن كانوا يصدقون في دعوى التلف أو الضياع، ولعل الفرق بين هؤلاء وبين الراعي مع كون الجميع مؤتمنين تعذر الإشهاد من الراعي غالبا، بخلاف هؤلاء فإنهم لا مشقة عليهم في الإشهاد غالبا، وأحرى من هؤلاء في الضمان من مر على دابة شخص فذكاها، وادعى أنه إنما فعل ذلك خوف موتها، أو سلخ دابة غيره وادعى أنه وجدها ميتة فلا يصدق إلا ببينة أو لطخ. وكل من ترك الذبح من هؤلاء حتى ماتت الدابة فلا ضمان عليه إلا إذا كان عنده من يشهد على ذبحها خوف الموت، كما يضمن الراعي بترك ذكاتها وشهادة البينة عليه بتفريطهالثاني: تكلم المصنف على حكم من ذكر التلف أو الضياع، وسكت عن حكم دعواه رد الذات مع تكذيب المالك، والحكم أنه يصدق في دعوى ردها إلا أن يكون قبضها ببينة مقصودة للتوثق فلا يصدق، وهذا إذا كانت الذات يقبل دعواه في تلفها بأن كانت مما لا يغاب عليها كالدابة؛ لأن القاعدة أن كل من قبل قوله في الضياع أو التلف يقبل قوله في الرد إلى من دفع إليه، إلا أن يكون أخذ الذات ببينة مقصودة للتوثق، وأما نحو الثوب والماعون من كل ما يغاب عليه فلا يصدق في دعوى رده، وإن كان قبضه بلا بينة، وهذا التفصيل يجري في المستعير يدعي رد العارية، وفي الصانع يدعي رد المصنوع، بخلاف المودع يدعي رد الوديعة فإنه يقبل قوله، ولو لما يغاب عليه حيث قبضه بلا بينة، ولعل وجه الفرق بين الوديعة وغيرها حيث خفف فيها وشدد في غيرها من تلك المذكورات أن الحيازة في الوديعة لمحض حق غيرها، بخلاف غيرها القابض له حق في المقبوض في الجملة، هكذا ظهر لنا في وجه الفرق، ولم يظهر الفرق بأن الوديعة قبضت على وجه الضمان؛ لأن غيرها، وهو الشيء المكترى قبض على غير وجه الضمان أيضا.
ولما كان الصانع يخالف نحو الراعي والمكتري أشار إليه بقوله: "والصناع" جمع صانع كالخياط والقزاز والكاتب "ضامنون لما غابوا عليه" من مصنوعهم إذا ادعوا ضياعه أو تلفه سواء "عملوه بأجر أو بغير أجر" صنعوه في الحوانيت أو البيوت، سواء تلف بصنعه أو غير صنعهولضمان الصانع شروط منها: أن ينصب نفسه للصنعة لعامة الناس، فلا ضمان على الصانع الخاص بجماعةومنها: أن يغيب على الذات المصنوعة لا إن صنعها ببيت ربها ولو بغير حضرته أو بحضرته، ولو في محل الصانع فلا ضمانومنها: أن يكون المصنوع مما يغاب عليه بأن يكون ثوبا أو حليا، فلا ضمان على معلم الأطفال أو البيطار إذا ادعى الأول هروب الولد والثاني هروب أو تلف الدابةومنها: أن لا يكون في الصنعة تغرير، وإلا فلا ضمان، كنقش الفصوص وثقب اللؤلؤ وتقويم السيوف وحرق الخبز عند الفران وتلف الثوب في قدر الصباغ، وما أشبه ذلك كالبيطار يطرح الدابة لكيها مثلا فتموت، وكالخاتن لصبي يموت عند ختنه، والطبيب للمريض يموت تحت يده، والحاجم يستأجر لقلع الضرس، فلا ضمان على واحد من هؤلاء لا في ماله ولا على عاقلته، حيث لم يحصل تقصير ولا خطأ في الصنعة، فإن كان من أهل المعرفة ولكن أخطأ فخطؤه على العاقلة1 إن بلغت الجناية الثلث2، وإلا كانت في ماله، كما لو لم يكن
ـــــــ
1 العاقلة: جمع عاقل، وهو دافع الدية، وسميت الدية عقلا وتسمية بالمصدر، لأن الحبل كانت تعتقل بفناء ولي المقتول، ثم كثر الإستعمال حتى أطلق العقل على الدية وإن لم تكن من الإبل. وقيل: إنما نسيت عقلا لأنها تعتقل لسان ولي المقتول، أو من العقل وهو المنع: لأن العشيرة كانت تمنع القاتل بالسيف في الجاهلية، قم منعت عنه في الإسلام بالمالواتفق الفقهاء على أن دية الخطأ تجب على العاقلة. والأصل في وجوب الدية على العاقلة: قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بدية المرأة الهذلية ودية جنينها على عصبة القاتلةوعاقلة الإنسان عصبته، وهم الأقرباء من جهة الأب كالأعمام وبينهم، والإخوة وبينهم، وتقسم الدية على الأقرب فالأقرب، فتقسم على الإخوة وبينهم، والأعمام وبينهم، ثم أعمام الأب وبينهم، ثم أعمام الجد وبينهم، وذلك العاقلة هم العصبة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العصبة. انظر الموسوعة الفقهية "29/221 - 223"2 الجناية في اللغة: الذنب والجرم، وهو في الأصل مصدر جنى، ثم أريد به اسم المفعول، قال الجرجاني: الجناية كل فعل محظور يتضمن ضررا على النفس أو غيرها. وقال الحصكفي: الجناية شرعاً: اسم لفعل محرم حل بمال أو نفس؛ إلا أن الفقهاء خصوا لفظ الجناية بما حل بنفس وأطراف، والغصب والسرقة بما حل بمال.=
من أهل المعرفة وغر من نفسه فإن عليه الدية في ماله والعقوبة من الإمام في بدنهومنها: أن لا تقوم بينة على ما ادعاه من تلف أو ضياع فلا ضمان، وتسقط الأجرة عن رب المصنوع حيث لم يحصل منه تفريط في حفظهومنها: أن لا يكون الصانع أحضره لربه مصنوعا على الصفة المطلوبة ويتركه ربه اختيارا فيضيع، وإلا فلا ضمان حيث كان إحضاره بعد دفع الأجرة؛ لأنه صار كالوديعة، بخلاف ما لو أحضره على غير الصفة أو دعاه لأخذه من غير إحضار أو بقاء عنده حتى يقبض الأجرة ثم يدعي ضياعه بعد ذلك فإنه يضمنه، واحترزنا بقولنا من مصنوعهم للاحتراز عن غيره كظرف المصنوع، كقفة الطحين وجفير السيف يدفع مع السيف لإصلاحه ثم يدعي ضياع ما ذكر، فيضمن القمح والسيف دون القفة والجفير ولو كان المصنوع يحتاج إليهما، ولم يبين المصنف ما الذي يضمنه الصانع، وبينه غيره بأنه يضمن قيمته غير مصنوع وتعتبر يوم دفعه له، ولو كان الصانع شرط على ربه عدم ضمانه عند دعوى ضياعه"تنبيه". اعلم أن الأصل عدم ضمان الأجراء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الضمان، وأخرج إمامنا مالك رضي الله عنه منهم الصناع، وقال بضمانهم وعدم ائتمانهم باجتهاد منه رضي الله عنه، وسبقه إلى تضمينهم الخلفاء رضي الله عنهم فقضوا بتضمينهم ولم ينكر عليهم أحد ذلك؛ لما في ذلك من مراعاة المصلحة العامة؛ لأن غالب الناس يضطر إلى الاستصناع، فلو علم الصناع أنهم يصدقون في دعوى الضياع أو التلف أو رد المصنوع إلى ربه لتسارعوا إلى كل ما يدفع لهم ليصنعوه، فحكم هؤلاء العظماء بالضمان لتلك المصلحة، ومن مراعاة المصلحة العامة أيضا ما نقله العلامة خليل عن مالك من جواز قتل الثلث من المسلمين لإصلاح الثلثين، ومحمله عندنا على أن الجميع مفسدون، ولا يحصل انزجارهم لا بحبسهم ولا بضربهم إلا بقتل ثلثهم، هذا
ـــــــ
= وتذكر الجناية عند الفقهاء ويراد بها كل فعل محرم حل بمال، كالغصب، والسرقة، والإتلاف، وتذكر ويراد بها أيضاً ما تحدثه البهائم، وتسمى: جناية البهيمةوالجناية عليها كما أطلقها بعض الفقهاء على كل فعل ثبتت حرمته بسبب الإحرام أو الحرم. يختلف حكم الجناية بحسبها فيكون قصاصاً، أو دية، أو أرشاً، أو حكومة عدل، أو ضماناً على حسب الأحوال، وقد يرتب على أرتكاب بعض أنواع الجناية، الكفار أو الحرمان من الميراثوقسم الفقهاء الجناية إلى أقسام ثلاثة:
1- الجناية على النفس وهي القتل2- الجناية على ما دون النفس، وهي الإصابة التي لا تزهق الروح3- الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه كالجناية على الجنين. الموسوعة "16/59، 60".
محل الجواز إذ لم يقل أحد بجواز قتل أهل الصلاح لإصلاح أحد من أهل الفساد، واتضح أن المراد يجوز قتل ثلث المفسدين؛ لإصلاح ثلثيهم حيث توقف الإصلاح على القتل، وإلا ارتكب الأخف، والله أعلمولما كان الحارس لنحو حمام وكرم مشبها للصانع في داعية الحاجة إليه وكان هذا يوهم ضمانه رفعه بقوله: "ولا ضمان على صاحب الحمام" والمعنى: أن حارس الحمام لا ضمان عليه في الثياب التي تضيع من الحمام ولو أخذ على ذلك أجرة؛ لأنه أجير والأجير أمين. وظاهره أنه يأخذ الأجرة ولو ضاعت الثياب، ومحل عدم الضمان إذا لم يحصل منه تفريط، وإلا ضمن بأن يقول: جاءني إنسان يشبهك فدفعت إليه الثياب، أو قال: أخذ شخص ثوبا فتركته لظني أنه المالك، ومثل حارس الحمام غيره من حراس الكروم والدور وغيرهما من حارس الأندر؛ لأنه لا فرق بين المحروس طعاما أو غيره مما يعاب عليه، وسواء كان الحارس أجنبيا أو كان هو صاحب الحمام، وإنما عبر بصاحب الحمام؛ لأن الغالب كونه الحارس. واعلم أن محل عدم ضمان صاحب الحمام للثياب إن لم يجعلها ربها رهنا تحل الأجرة، وإلا ضمنها ضمان الرهان، ومحل عدم ضمان الحارس أيضا ألا يكون جعل حارسا لاتقاء شره؛ لكونه معروفا بالسرقة والخيانة، وإلا ضمن ما يدعي ضياعه مما هو تحت يده، وأمن عليه كما صرح بذلك أبو الحسن، ومما لا ضمان عليهم الخفراء في الحارات والأسواق ولو كتب عليهم حجة بضمان ما يضيع؛ لأن ذلك من باب التزام ما لا يلزم، وهو لا يلزم، بخلاف التزام أمر مندوب كالتزام التصدق بشيء على الفقراء بصيغة النذر كقوله: لله علي التصدق على زيد بكذا، فإنه يلزمه الوفاء به؛ لقول مالك رضي الله عنه: من التزم معروفا لزمه أي لزمه الوفاء به، وهذا كله حيث لا تفريط، وإلا ضمنوا كسائر الأمناءهذا قول من كلام جد الأجهوري وبعضه بالتصريح، وأما نفس الأجهوري فكان يقرر في المحافل ما نقله العلامة التتائي في شرح خليل من أن المصالح العامة الآن تضمن الخفراء، ولم ينقله في شرحه"تنبيه". حارس الحمام ونحوه في عدم ضمانه حارس الأجير الذي تحت يد الصانع، وكذلك الدلال تعطى له الثياب يطوف بها فتضيع منه أو ثمنها بعد بيعها حيث كان مشهورا بالصلاح. وأما الجالس في الحانوت وتوضع عنده الأمتعة للبيع فهذا كالصانع يضمن، وكذا غيره مما نصب نفسه لأمتعة الناس.
"خاتمة حسنة". كل من قيل بضمانه من صانع مطلقا أو حارس لتفريطه، إذا غرم قيمة ما ضمنه ثم وجد بعد ذلك فإنه يكون له لا لصاحبه، ومثلها المدعى عليه سرقة شيء ويغرم قيمته ثم يوجد فإنه يكون له إلا أن يوجد عنده، ومثل من ذكر المستعير يدعي ضمان ما استعار مما غاب عليه فإنه إذا غرم قيمته ووجده بعد ذلك فإنه يملكه، ووجه ذلك في الجميع أنه يغرم قيمته ويملكه على تقدير وجوده، كالغاصب يغرم قيمة المغصوب فإنه يملكه"ولا" ضمان أيضا "على صاحب السفينة" ولا النوتي الذي يخدم فيها فلا مفهوم لصاحبها، والمراد لا ضمان عليه في جميع ما كان فيها من مال أو نفس إذا غرقت بفعل سائغ فعله فيها من علاج أو موج أو ريح، وأما إن غرقت بفعل غير سائغ فإنه يضمن المال. والدية في ماله على المذهب، وقيل الدية على عاقلته، وهذا كله حيث لم يقصد قتل الأنفس، وإلا قتل بهم، ولما كان كراء السفينة شبيها بالجعل في استحقاق العوض قال: "ولا كراء له" أي لصاحب السفينة مستحق "إلا على البلاغ" فإذا غرقت في أثناء الطريق وغرق جميع ما فيها من طعام وغيره فلا كراء لربها، وهذا قول مالك. ووجهه أن الإجارة في السفن جارية مجرى الجعل، فإذا لم يحصل الغرض المطلوب لم يستحق العوض، وقولنا غرق جميع ما فيها احتراز عن غرق بعضه وسلامة البعض الآخر، واستأجر عليه ربه، فإن للأول كراء ما بقي إلى محل الغرق على حساب الكراء الأول لا بنسبة الثاني وليس له كراء ما ذهب بالغرق. وأما لو غرقت بعد وصولها إلى المحل المخصوص فإن كان الغرق بعد تمكن رب الشيء من إخراج ما فيها فإنه يلزمه جميع الكراء وإلا لم يلزمه بشيء"تنبيهان" الأول: وقع التوقف من بعض مشايخ مشايخنا في أمرين. أحدهما: إذا اكترى شخص سفينة لمحل معين وخرج منها قبل الوصول إليه اختيارا واستظهر أن يلزمه جميع الكراء؛ لأنه عقد لازم، كمن اكترى دابة لمحل وترك ركوبها قبل وصوله فإنه يلزمه جميع الكراء، وأما لو خرج منها قبل الوصول قهرا بأن غرقت وانتقل لسفينة أخرى فإنه يلزمه من الكراء حصة ما ركب، ووقع التوقف أيضا إذا وحلت مثلا وخرج منها ثم تخلصت بعد ذلك فهل يلزمه الرجوع لها كمرض عبد مستأجر أو دابة في مدة الإجارة ثم يصحان قبل انقضائها، فإنه يلزمه الرجوع حيث كان في الحضر، أو لا يلزم كمرضهما وعودهما في زمن السفر، ويظهر أنها كهما في السفر؛ لوجود العلة وهي مشقة الصبر لانتظار صحة العبد والدابة في السفر.
الثاني: لم يذكر المصنف ولا خليل حكم ما لو خيف على المركب الغرق من كثرة ما فيها وتعذر الوصول إلى البر، والحكم كما قال في الشامل: أنه تجب المبادرة إلى رمي ما ثقل وخفت قيمته، وعند تقارب القيمة يرمى الأثقل ويبدأ برمي الأمتعة على رمي النفوس المعصومة، وقد نظم علامة الزمان الأجهوري ما يتعلق بذلك مع زيادة فقال: إذا مركب قد خيف من حملها العطب فطرح ثقيل عوضه قل قد وجب كأثقل محمولين في العوض عنهما مقاربة فافهم وقيت من الريب وإن يتساوى ثقل أحمال حملها بقرعة اطرح ما بقاه به العطب ووزع مطروح على ما بها بقي لتجر فقط لا اللذ لقنية انتسب، وهل ذا على عوض لباق أو أنه على قيمة الباقي خلاف بلا نصب، وهل بمحل الطرح أو بمكان ما بدأت به سيرا أو اللذ له ذهب أو انظر لها لكن بأقرب موضع لموضع طرح فهي خمس لمن حسب، وإن حملها من آدميين فاطرحن بما طرحه تنجو به من أذى العطب وذا باقتراع والرقيق وكافرا وأنثى وضد الكل سو ولا عجب"خاتمة" مشتملة على مسألتين يحتاج لهما الطالب: إحداهما الإجارة على قسمين: وجيبة وغيرها، وهي المسماة بالمشاهرة ككل شهر بكذا، أو المساناة ككل سنة بكذا، وحقيقة الوجيبة المدة المحسودة كأستأجرها السنة الفلانية أو الشهر الفلاني، أو أستأجرها عقدا ولم يأت في عقدها بلفظ كل سنة أو شهر، والوجيبة تلزم بمجرد العقد ولا يتوقف لزومها على نقد الأجرة، وغيرها لا يلزم العقد إلا بنقد الكراء فيلزم بقدر ما نقد. ثانيتهما: عقد الإجارة اللازم لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين ولا بموتهما قبل انقضاء المدة، إلا أن يكون المؤجر مستحقا لوقف وأكراه مدة مستقبلة ويموت قبل انقضائها، فإن لمن استحق الوقف بعده فسخها. ومثال ذلك أن يكون وقف على أولاد شخص طبقة بعد طبقة، أو على زيد وبعده على عمرو، ثم يؤجره أهل الطبقة الأولى أو زيد مدة مستقبلة ثم يموت المؤجر قبل انقضائها، فإن لمن انتقل الحق له فسخ تلك الإجارة، ومن ذلك المقرر في رزقه يؤجرها مدة مستقبلة ويموت قبل انقضائها فإن لمن يقرره نائب السلطان بعده فسخها. وأما إجارة الناظر لوقف مدة مستقبلة ويموت قبل انقضائها فليس لمن توفي ناظرا بعده فسخ تلك الإجارة إلا أن يكون الناظر من جملة المستحقينولما فرغ من الكلام على ما أراده من بيع الذوات والمنافع، شرع في الكلام على شيء من مسائل الشركة، وهي في اللغة الاختلاط والامتزاج. وفي الاصطلاح تنقسم إلى شركة عامة
وخاصة، فالعامة عرفها ابن عرفة بقوله: تقرر متمول بين مالكين فأكثر ملكا فقط، فتدخل شركة الإرث والغنيمة والشركة في بقرة أو غيرها مما هو متخذ للقنية، وتدخل شركة التجر كما يخرج ما تقرر بين شخصين أو أكثر وليس بمتمول كثبوت النسب بين جماعة وخرج بملكا فقط تقرير جماعة في انتفاع بوقف، والخاصة عرفها ابن عرفة أيضا بقوله: بيع مالك كل بعضه ببعض كل الآخر موجب صحة تصرفهما في الجميع، وإنما كانت هذه أخص؛ لأنها تزيد على تقرر المتمول بين الشريكين جواز التصرف، فتخرج شركة الإرث والغنيمة، وشركة في نحو بقرة أو بيت القنية لتوقف التصرف بغير الانتفاع على إذن الشريك، وتدخل شركة الأبدان والحرث باعتبار العمل لجواز التصرف، وموجب بالرفع صفة لبيع وصحة مفعول موجب، وضمير تصرفهما عائد على المالكين، وهي جائزة كتابا وسنة، وإجماعا، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا حيث لا ناسخ، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما"1 وانعقد الإجماع على جوازها، والمصنف إنما تعرض لشركة التجروأركانها ثلاثة: العاقدان، والمعقود عليه، وهو المال في شركة التجر، والعمل في شركة الأبدان والصيغةفشرط العاقد أهلية التوكيل والتوكل؛ لأن كل واحد وكيل، وموكل، فيشترط في كل البلوغ والرشد، فلا تصح شركة عبد غير مأذون، ولا صبي ولا سفيه، كما يؤخذ من كلام خليل وابن الحاجب لعدم صحة توكل المحجور عليه كما قاله اللخمي وغيره، خلافا لابن رشد القائل بالصحة؛ لأنا نشترط وجود شرط صحة التوكيل والتوكل معا في الشركة، ولذلك أوردوا على كلامهما شركة العدو لعدوه، وشركة الذمي لمسلم لصحة شركتهما على المعتمد، مع عدم صحة توكل العدو على عدوه، والكافر على المسلم، لكن جوازها في الأول بلا قيد، وفي الثاني بقيد حضور المسلم لتصرف الكافر، وأما مع غيبته عنه وقت البيع والشراء فلا تجوز ابتداء وتصح بعد الوقوع، وبعد ذلك إن حصل للمسلم شك في عمل الذمي بالربا استحب له التصدق بالربح، وإن شك في عمله بالخمر استحب له التصدق بالجميع، وإن علم السلامة من
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه أبو داود، كتاب البيوع باب: في الشركة، حديث "3383"، وضعفه الألباني "ضعيف الجامع "1748".
ذلك فلاوشرط المعقود عليه في شركة الأموال التساوي في الصرف والقيمة إن وقعت بذهبين أو ورقينقال خليل: بذهبين أو ورقين اتفق صرفهما وبهما منهما وبعين وبعرض وبعرضين مطلقا وكل بالقيمة يوم أحضر لا فات إن صحت، وأما في شركة الأبدان والعمل فالشرط التساوي أو التقارب في العمل كما يأتي، وأما الصيغة فهي كل ما دل عليها عرفا من قول كاشتركنا، أو فعل كخلط المالين في شركة الأموال وتلزم بالقول على المعتمد، وأما الضمان فيتوقف على خلط المالين ولو حكماونوعها الفقهاء إلى شركة أبدان، ويقال لها شركة العمل، وشركة مفاوضة، وشركة عنان، وشركة جبر، وشركة ذمم، ويقال لها شركة وجوه، وبدأ بشركة الأبدان ولم أقف على حدها لأحد، ويمكن رسمها بالمعنى المصدري بأنها: اتفاق شخصين فأكثر متحدي الصنعة أو متقاربيها على العمل، وما يحصل يكون على حسب العمل فقال: "ولا بأس بالشركة بالأبدان" أي تجوز جوازا مستويا بشروط أشار إلى بعضها بقوله: "إذا عملا في موضع واحد" هكذا ذكر المصنف تبعا للمدونة. وفي خليل جوازها، وإن بمكانين على ما في العتبية، ووفق الأشياخ بين الكتابين بحمل المدونة على ما إذا لم يتحد النفاق في المكانين، والعيبية على الاتحاد، ومن شروطها أيضا أن يعملا: "عملا واحدا" بأن تكون صنعتهما متفقة كحدادين أو نجارين أو خياطين، لا إن اختلف اختلافا بعيدا كحداد وخياط فلا يجوز لاحتمال رواج صنعة أحدهما دون الآخر فيأكل أحدهما استحقاق الآخر. "أو" يكون عملها "متقاربا" كما إذا كان أحدهما يجهز الدقيق والآخر يعجن أو يخبز، أو أحدهما يحول والآخر ينسجولفظ خليل: وجازت بالعمل إذا اتحد أو تلازم وتساويا فيه أو تقاربا وحصل التعاون، وإن بمكانين، ومعنى التساوي في العمل أن يأخذ كل واحد قدر عمله، فلا يجوز أن يعمل أحدهما الثلث والآخر الثلثين ويستويا في الحاصل، وليس المراد به أن يكون عمل كل مساويا لعمل الآخر، وبقي من الشروط أيضا الاشتراك في الآلة إما بملك أو اكتراء من الغير.وأما لو خرج كل آلة أو كانت من عند أحدهما وآجر شريكه نصفها فقيل تجوز، وقيل لا تجوز ابتداء، وتصح بعد الوقوع على المعتمد من الخلاف، ويدخل في العمل الطب والصيد والحفر في المعادن وعمل الآجر، وتدخل فيه أيضا قراءة الأطفال حيث كان كل يحفظ القرآن، ووقع الخلاف في
شركة شخصين يعلم أحدهما من يقرأ في النصف الفوقاني؛ لكونه لا يحفظ إلا هو، والآخر يعلم من يقرأ في النصف الآخر؛ لكونه لا يحفظ سواه، فقال بعض شيوخ ابن ناجي بعدم الجواز واستصوب هو، بخلاف كلام شيخه قائلا: وفيه نظر، والصواب عندي الجوازقال بعض شيوخنا: وهو واضح مع وجود من يقرأ من الأعلى ومن يقرأ من الأسفل لحصول التعاون"تنبيهان" الأول: اختلف في شركة الأبدان هل تقع لازمة بمجرد عقدها أو لا تلزم إلا بالشروع في العمل على قولين، وكما تسمى شركة أبدان تسمى شركة عمل، ووجه تسميتها بذلك عدم توقفها على المال غالبا فلم يبق إلا عمل البدنالثاني: لم يذكر المصنف حكم ما لو انفرد أحدهما بالعمل مدة لمرض صاحبه أو غيبته، وبينه خليل بقوله: وألغي مرض كيومين وغيبتهما لا إن كثر، ففي مرض اليومين أو غيبتهما يقسم الحاصل من عمل أحدهما بينهما، وأما عند طول المرض أو الغيبة فلا إلغاء، وحينئذ يرجع الذي عمل على من مرض أو غاب أكثر من يومين بنصف أجرة مثله فيما عمله، والأجرة المتحصلة تقسم بينهما. "مثال يوضح ذلك" لو عاقد شخصا على خياطة ثوب مثلا بعشرة دراهم، وغاب أحدهما أو مرض زمنا طويلا فخاطه الآخر فإن العشرة تقسم بينهما، ويقال ما أجرة مثله في خياطة هذا الثوب؟ فإذا قيل أربعة دراهم مثلا رجع الذي صنعه على شريكه بدرهمينولما فرغ من الكلام على شركة الأبدان شرع في شركة الأموال بقوله: "وتجوز الشركة بالأموال" بأن يأتي كل واحد بذهبه أو فضته، ونقد أحدهما مساو لنقد الآخر صرفا ووزنا وقيمةقال خليل: بذهبين أو ورقين اتفق صرفهما أي وقت المعاقدة ولا يضر الاختلاف بعد ذلك، فلا يجوز بمختلف الصرف، وإذا وقعت فسخت، ولكل واحد رأس ماله بعينه في سكته، والربح بقدر وزن رأس ماله لا على فضل السكة، وكذا لا تجوز بتبر، ومسكوك ولو تساويا وزنا إن كثر فضل السكة، وأما إن ساوتها جودة التبر فقولان، وكذا تجوز بذهب وورق من أحدهما والآخر كذلكقال خليل: وبهما منهما وبعين وبعرض وبعرضين مطلقا أي سواء كانا من جنس واحد أو
مختلف وكل بالقيمة يوم أحضر لا فات إن صحتوتلزم شركة الأموال بمجرد القول، ولا يكون ضمان التالف منهما إلا إذ خلطا المالين ولو حكما بأن بقيت صرة كل واحد على حدتها ولكن جعل المالين في حوز واحد، وإلا كان ضمان التالف من ربه، ولا تصح بذهب من عند أحدهما وورق من عند الآخر، ولو عجل كل واحد ما أخرجه لاجتماع الشركة والصرف، وهو لا يجوز، وكذا لا تصح إذا أخرج هذا طعاما والآخر كذلك ولو اتفق الطعامان نوعا وصفة وقدرا لأدائه إلى بيع الطعام قبل قبضه؛ لأن كل واحد باع نصف طعامه بنصف طعام صاحبه، ولم يحصل قبض لبقاء يد كل على ما باع، فإذا باعه لأجنبي يكون كل واحد بائعا الطعام قبل قبضه، ولو حصل خلط الطعامينوشرطها أن يدخلا "على أن يكون الربح بينهما بقدر ما أخرج كل واحد منهما" فلا تجوز إن دخلا على التساوي في المال المخرج والتفاوت في الربح. "و" يشترط أيضا أن يدخلا على أن "العمل عليهما بقدر ما شرطا من الربح لكل واحد" ولو لم تكن الشركة على المناصفة، فإذا دخلا على أن أحدهما يأتي بربع المال ويعمل الربع وله ربع الربح، والآخر عليه ثلاثة أرباع المال وثلاثة أرباع العمل وله ثلاثة أرباع الربح جازت الشركة. "و" مفهوم ما سبق من قوله: على أن يكون الربح بينهما بقدر ما أخرج كل واحد أنه "لا يجوز أن يختلف رأس المال ويستويا في الربح" والحاصل أنه يشترط أن يكون الربح والخسر والعمل بقدر المالينوتفسد بشرط التفاوت في العمل، كما تفسد باشتراط التفاوت في الربح، وإذ وقعت فاسدة بدخولهما على التفاوت فلكل أجر عمله للآخر. مثال ذلك لو أخرج أحدهما عشرين مثلا والآخر عشرة وشرطا التساوي في الربح والعمل، ولم يطلع على ذلك حتى عملا فإن الربح يقسم على قدر المالين ويرجع صاحب العشرين على صاحب العشرة بفاضل الربح، وهو السدس، وينزعه منه إن كان قبضه ليكمل له الثلثان، ويرجع صاحب العشرة بفاضل عمله، وهو أجر سدس العملقال خليل: وتفسد بشرط التفاوت ولكل أجر عمله للآخر، ومفهوم الاشتراط أنه لو تبرع أحدهما لشريكه بشيء من العمل أو الربح بعد تمام العقد لجاز، كما يجوز له أن يسلفه أو يهبه شيئا بعد العقد، وأما الهبة والتبرع في العقد فلا يجوز؛ لأن الواقع فيه كالواقع قبله. وأما السلف في العقد فيجوز إلا لكبصيرة المشتري، هذا محصل معنى قول خليل: وله التبرع والسلف والهبة بعد العقد.
"تنبيهات" الأول: أجمل المصنف حيث لم يبين هل يجوز للشريك التصرف بغير إذن شريكه أو يتوقف على إذنه؟ ، ومحصله على ما قاله خليل أنه إن أطلق كل واحد لصاحبه التصرف في العقد أو بعده كانت شركة مفاوضة يجوز لكل واحد التصرف بالمصلحة من غير إذن شريكه، فيبيع ويشتري ويقبل ويولي، ويقبل العيب، وإن أبى شريكه، وإن لم يطلق له بأن سكت كل حين العقد أو حجر على صاحبه باللفظ كانت شركة عنان أي إذن، وهي جائزة أيضا، إلا أنه لا يجوز له التصرف في هذه إلا بإذن صاحبهالثاني: لم يتعرض المصنف لشركة الجبر ولم أر من حدها، ويمكن رسمها بأنها استحقاق شخص الدخول مع مشتر سلعة لنفسه من سوقها المعد لها على وجه مخصوص، والوجه المخصوص كون الشراة للتجارة في البلد لا إن اشتراها للسفر بها ولو للتجارة أو للقنية أو من غير سوقها، وأن يكون مريد الدخول من تجار تلك السلعة، وأن يكون حاضرا لشرائها وساكتا لم يتكلم، وسواء كان من أهل ذلك السوق أم لا، فإذا وجدت تلك الشروط في الحاضر قضي له بالدخول قهرا على المشتري، كما أن المشتري لو طلب المشاركة من الحاضر لخسارة مثلا وأبى الحاضر لقضي عليه بالدخول مع المشتري، ومفهوم بقية القيود مبسوط في المطولات
وترك المصنف أيضا الكلام على شركة الذمم ويقال لها شركة الوجوه، وهي فاسدةقال ابن الحاجب: ولا تصح شركة الوجوه، وفسرها بعضهم ببيع الوجيه مال الخامل بحصة من ربحه، وفسرها بعضهم بالشراء بلا مال حاضر بل في الذمة، ووجه فسادها ما فيها من الإجارة المجهولة والتدليس على الغير؛ لأن غالب الناس لا يحب البيع أو الشراء إلا من الأملياء أو من سلع غير الخاملالثالث: أطلق المصنف كغيره في المتشاركين، فظاهره سواء كانا رجلين، أو امرأتين أو مختلفين بشرط كون المرأة المشاركة للرجل متجالة أو شابة لا تباشر التصرف. وأما مشاركة الشابة لرجل مع مباشرة البيع والشراء فذلك لا يجوز؛ لأن محادثة الشابة للرجال ذريعة للفساد، وسواء كانا مسلمين أو كافرين أو مختلفين حيث كان التصرف بحضورهما أو من المسلم، وأما مع غيبة المسلم فلا يجوز ابتداء كما قدمناهالرابع: لم يبين المصنف أيضا نفقة الشريك هل من المال أو غيره، والحكم أن لكل من شريكي المفاوضة الإنفاق والاكتساء من مال الشركة، وتلغى نفقتهم وكسوتهم بشرطين:
التساوي في المال، وإلا أنفق كل واحد على قدر حصتهوالثاني: أن يتساويا أو يتقاربا في النفقة والكسوة، ولا فرق بين أن يكونا في بلد أو بلدين مختلفي السعر، ولو كان الاختلاف بينا كان وطنا لهما أو لا، كما تلغى نفقة وكسوة عيالهما إن تقاربا نفقة وعيالا، وأما إن لم يحصل تقارب في النفقة أو العيال بأن كان أحدهما يقنع بالجريش من الطعام والغليظ من الثياب والآخر على الضد، أو تخالفا بكثرة العيال حسبا، كما لو انفرد أحدهما بالإنفاق أو العيال، هذا ملخص كلام خليلالخامس: الشريك أمين فيقبل قوله في دعوى التلف أو الخسر أو أخذ شيء يناسبه من مأكل ومشرب، كما يقبل قوله في دعوى المناصفة عند منازعة شريكه"فائدة": الشركة فيها لغات ثلاث: إحداها، وهي الفصحى على وزن سدرة، ويليها على وزن نمرة، والثالثة على وزن نبقة، فتكون بفتح الشين وكسر الراء، وإنما أطلنا في ذلك لداعي الحاجة مع إجحاف المؤلف في الاختصارولما كان القراض مناسبا للشركة في كون العاقد أمينا فيهما وأيضا هما شريكان في الربح ذكره عقبها فقال: "والقراض جائز" بإجماع المسلمين، وهو بكسر القاف مشتق من القرض، وهو القطع، سمي بذلك؛ لأن المالك قطع للعامل قطعة من ماله يتصرف فيها بقطعة من الربح، وهذا اسمه عند أهل الحجاز، وأهل العراق لا يقولون قراضا، وإنما يقولون المضاربة، وكتاب المضاربة بدل كتاب القراض أخذوا ذلك من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101]، ومن قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} [المزمل: 20] وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع إلى الرجل ماله على الخروج به إلى الشام أو غيرها فيبتاع المبتاع على هذا الشرط، ولا خلاف في جواز القراض بين المسلمين كما قدمنا، وكان في الجاهلية فأقره الرسول عليه الصلاة والسلام في الإسلام؛ لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس إلى التصرف في أموالهم، وليس كل أحد يقدر على التنمية بنفسه فاضطر فيه لاستنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل فيه بأجرة فرخص فيه، وعرفه ابن عرفة بقوله: تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه لا بلفظ الإجارة، فيدخل بعض الفاسد كالقراض بالدين وبالوديعة ويخرج عنه قولها قال مالك: من أعطى رجلا مالا يعمل له على أن الربح للعامل ولا ضمان على العامل لا بأس به، وعبر بتمكين دون عقد إشارة إلى أن عقده غير لازم، فلكل حله عن نفسه قبل شغل المال وبعده لازم لكل، وبعد تزود العامل للسفر لازم للعامل دون رب المال.
قال خليل: ولكل فسخه قبل عمله كربه. والحال أن العامل تزود لسفر ولم يظعن، وإلا فلنضوضه، وجواز القراض مستثنى من الإجارة المجهولة المدة والكمية، ومن السلف بمنفعة، ووجه الاستثناء من الحرمة الرفق بالعباد كما مروأركانه العاقدان، وهما كالوكيل والموكل والمال والصيغة والجزء المجعول للعاملوأشار إلى شرط المال بقوله: "بالدنانير والدراهم" ولو كانت مغشوشة حيث تعومل بها، وإن لم ترج كالكاملة ولو مع وجود النقد الخالص، وأما غير المتعامل به فهو كالعرض "وقد أرخص" أي تسوهل "فيه" أي القراض "بنقار الذهب والفضة" والنقار بكسر النون القطع الخالصة من الذهب والفضة، ومثلها التبر والحلي، فإن حكم الجميع واحد في الجواز إن تعومل بها في بلد العمل، ولم يكن فيها مسكوك. وأما إن لم يتعامل بها أو وجد المسكوك فلا يجوز على المعتمد، خلافا لما يوهمه ظاهر المصنف، والمراد لا يجوز ابتداء، وأما بعد الوقوع فإنه يمضي بالعمل عند ابن القاسم، وعند أصبغ مطلقا. وليس المراد بعدم الجواز أنه يفسخ العقد به ولو حصل العمل، والحاصل أن غير المضروب من تبر ونقار وحلي، لا يجوز جعله رأس مال إلا بشرطين: التعامل به في بلد العمل، وعدم وجود المسكوك، وإن وقع شيء من ذلك رأس مال مع فقد الشرطين أو أحدهما مضى بالعمل وقيل بمجرد تمام العقد"تنبيه": فهم من قوله: وقد أرخص فيه بنقار إلخ أنه لا يجوز بالفلوس الجدد؛ لأنها ليست من النقود، وظاهر كلام أهل المذهب ولو تعومل بها حيث تعومل بالمسكوك، وأما لو انفردت بالتعامل بها لجاز جعلها رأس مال قراضثم صرح بمفهوم الدنانير والدراهم، وما معهما بقوله: "ولا يجوز" القراض "بالعروض" والمراد بها ما قابل العين، فتدخل الفلوس الجدد حيث لم تنفرد بالتعامل بها، ويدخل الحديد والرصاص والودع ولو انفردت بالتعامل، كما لا يجوز بسائر المقومات والمثليات؛ لأن الرخصة يقتصر فيها على ما ورد، والوارد بالنقد المضروب، ولا يقال: الشارع لم يجوزه بالتبر ولا بالجدد ولا بنقار الذهب والفضة فلماذا رخص فيها؟. لأنا نقول: المذكورات أعيان وأثمان ورءوس أموال، والجدد عند انفراد التعامل بها قد قيل إنها من النقود، ثم بين الحكم لو وقع بالعرض فقال: "ويكون" أي عامل القراض المفهوم من السياق "إن نزل" العقد بالعروض "أجيرا في بيعها" أي العروض فيستحق أجرة مثله في تولية بيعها حيث لم يطلع عليه إلا بعد بيعها، فقوله أجيرا أي كأجير؛ لأنه لم يستأجر، وأما إن لم يطلع عليه إلا بعد البيع للعرض
والشراء بثمنه أمتعة فأشار إليه بقوله: "وعلى قراض مثله من الثمن" أي إذا اتجر بالثمن، وحاصل المعنى أنه إن وقع عقد القراض بعرض فإنه يكون فاسدا يجب فسخه، فإن لم نطلع عليه حتى باع العامل العرض فإنه يجب فسخه وله أجرة مثله في تولية البيع، وأما لو لم نطلع عليه حتى اتجر بثمن العروض فإنه يستحق في تولية بيع العرض أجرة مثله، وله قراض مثله في الاتجار بالثمن فيجمع بين الأمرين، هذا إذا دخلا على أن رأس المال هو الثمن الذي يباع به العرض، فإن قال له: خذ هذا العرض اجعله رأس مال أو قيمته الآن أو يوم المفاصلة فإنه يكون كأجير في بيعها ويعطى أجرة مثله في الاتجار بالثمن، والفرق بين قراض المثل وأجرة المثل أن قراض المثل في الربح، فإن لم يحصل ربح لا شيء له وأجرة المثل في الذمة فتلزم رب المال ولو لم يحصل ربح، وليس من ذلك ما لو دفع رجل عدل كتان مثلا لآخر وقال له: امض به إلى البلد الفلاني فادفعه لفلان يبيعه ويقبض ثمنه لنفسه، فإذا قبض ثمنه فخذه منه واعمل به قراضا بيني وبينك، فإن هذه جائزة بلا خلافوملخص شروط القراض أن يكون رأس المال نقدا مضروبا، وما ألحق به، وأن يكون مسلما وقت العقد من يده، فلا يصح بدين ولا رهن ولا وديعة، وأن يكون الجزء مجهول الكمية معلوم النسبة كربع أو خمس الربح، وأن يكون من ربح المال لا من غيره، وأن يكون جميع العمل على العامل ولا يتقيد عقده بصيغة مخصوصة كما يفهم من قول ابن عرفة: تمكين مال لمن يتجر به بجزء من ربحه فلا وجه لتنظير بعض الشيوخ في ذلك"و" يجب "للعامل" في حال القراض "كسوته وطعامه" بشروط بينها بقوله: "إذا سافر" للتجارة وتنمية مال القراض مدة سفره وإقامته بالبلد التي يتجر فيه إلى أن يرجع إلى بلده، وليس له قبل السفر إنفاق، ولو شغله التزود للسفر عن الوجوه التي كان يتمعش منها خلافا للخمي، ويشترط في إنفاقه في محل إقامته للتجر عدم البناء بزوجةقال خليل: وأنفق إن سافر ولم يبن بزوجة، فإن بنى بها أو دعي للدخول بها فليس له الإنفاق منه، وقيدنا السفر بكونه للتجر للاحتراز عما لو سافر بمال القراض لقصد حج أو غزو أو لقربة أو لبلد زوجته المبني بها، فإنه لا ينفق من مال القراض لا في ذهابه ولا في إيابه إلا في السفر لبلد الزوجة، فإنما تسقط نفقته في مدة الذهاب والإقامة، لا في مدة رجوعه لبلد ليس له بها أهل فإن له الإنفاق. والفرق أن سفر الحج أو القربة الرجوع فيه لله تعالى كالذهاب فلا ينفق بخلاف رجوعه من بلد الزوجة، وقيد خليل البناء بالزوجة بكونه في بلد التجارة للاحتراز
عما لو سافر للتجارة، ومعه زوجته فإن له الإنفاق على نفسه ذهابا، وإيابا وفي مدة الإقامة للتجارة؛ لأن السفر للتجارة في تلك الحالة. ومن شروط الإنفاق أيضا أن يكون "في" أي من "المال الذي له بال" والمراد به الكثير الذي يحتمل الإنفاق، فلا إنفاق له من المال اليسير، ومن الشروط أن ينفق بالمعروف، فلا يجوز السرف في النفقة أو الكسوة، فإن أسرف كان عليه كالإنفاق الزائد على مال القراض. وكما لو أنفق من مال نفسه على أن يرجع في مال القراض ثم ضاع مال القراض فإنه لا رجوع له على رب المال، ويلحق بالإنفاق الجائز أجرة نحو الحجام والمزين وصاحب الحمام وجميع ما يحتاج إليه التاجر عرفا، لا على وجه المداواة فلا يجوز له دفعه من مال القراض، ويرجع عليه بما دفعه فيه، وأما اتخاذه خادما ففيه تفصيل بين كون العامل أهلا للإخدام فله اتخاذه في السفر بشروط النفقة. والمراد اتخاذ الخادم بالأجرة لا بشراء رقيق، فلا يجوز ولو كثر المال، ولما كان يتوهم كون الكسوة كالنفقة في جواز فعلها من مال القراض في السفر ولو كان قصيرا قال كالمستدرك على ما سبق: "وإنما يكتسى في السفر البعيد" الذي تخلق فيه الثياب، ومن لازم ذلك طول زمانه، فليس له شراء كسوة في السفر القصيرقال خليل: واكتسى إن بعد، ولا بد من مراعاة الشروط السابقة في الإنفاق في السفر وكونه للتجر فقط، لا لأهل ولا لحج أو غزو أو قربة واحتمال المال وكونه بالمعروفولما كان عقد القراض بعد شغل المال بالعمل لازما ولو طلب أحدهما نضوضه لإيجاب لذلك بل الكلام للحاكم قال: "ولا يقتسمان" أي رب المال والعامل "الربح حتى ينض رأس المال" أو يتراضيا على قسمة، فإن طلب أحدهما نضوضه قال خليل: وإن استنضه فالحاكم ينظر في ذلك من تعجيل أو تأخير فما كان صوابا فعله، وتجوز قسمة العروض إذا تراضوا عليها وتكون بيعا، وإنما لم تجز قسمته قبل نضوضه إلا برضاهما؛ لأنه إذا قسم قد تهلك السلع أو تتحول أسواقها فينقص رأس المال فيحصل الضرر لرب المال بعدم جبر رأس المال بالربح"تتمات". الأولى: لم يبين المصنف حكم ما لو نض المال وتم عمل القراض، هل يجوز للعامل بعد ذلك تحريكه بغير إذن رب المال أو يتوقف على إذنه؟. وفيه تفصيل بين أن يكون ببلد رب المال فليس له تحريكه إلا بإذن رب المال، وبين أن يكون في بلد آخر فله تحريكه، ولا يتوقف على إذن رب المالالثانية: لم يبين المصنف أيضا حكم ما لو وقع القراض فاسدا؟. والحكم أنه يفسخ قبل
العمل ولا شيء للعامل، وإذا لم يطلع على فساده إلا بعد العمل فيفوت فسخه حيث كان العامل يستحق قراض مثله من ربحه وذلك فيما إذا كان الفساد لكون رأس المال عرضا أو كان الجزء المجعول للعامل مبهما ولا عادة للعامل بشيء، وأما لو كان الواجب له عند الفساد أجرة المثل في ذمة رب المال، ولو لم يحصل ربح بأن كان رب المال اشترط على العامل أن لا يستقل بالعمل أو اشترط عليه مراجعته فإنه يفسخ ولو بعد العمل. والحاصل أن الفاسد يفسخ عند الاطلاع عليه قبل العمل مطلقا، وأما بعد العمل ففيه تفصيل بين كون الواجب فيه قراض المثل فلا يفسخ ويمضي أو أجرة المثل فيفسخ. والفرق بين أجرة المثل وقراض المثل أن أجرة المثل في ذمة رب المال ولو لم يحصل الربح، بخلاف قراض المثل لا يستحق العامل شيئا إلا إن حصل ربح، وإنما لم يفسخ في الأول بعد العمل لئلا يضع عمله باطلا بخلاف الثانيالثالثة: العامل في القراض أمين، فالقول قوله في تلف المال أو ضياعه أو خسره إلا أن تكذبه التجار، ويقبل قوله أيضا في رده لربه إلا أن يكون قبضه ببينة مقصودة للتوثق فلا يقبل في رده إلا ببينة تشهد على ردهالرابعة: إذا حصل في رأس مال القراض خسر وحصل فيه بعد ذلك ربح فإنه يجب جبر الخسر بالربح، ولو شرط العامل على رب المال خلاف ذلك ما دام المال تحت يد العامل لا إن قبضه ربه بعد الخسر ورده للعامل بعد ذلك فإنه يصير قراضا مستأنفاالخامسة: إذا مات العامل قبل نضوض المال فلوارثه الأمين إتمام العمل، ولو كان أقل أمانة من مورثه ويستحق الجزء، وإن لم يكن أمينا فله الإتيان بأمين كمورثه فيها، وإلا سلم المال لربه هدرا، وظاهر كلام أهل المذهب أنه لا شيء لوارث العامل حينئذ، ولو اتخذ رب المال من يتمم العمل فليس كالجعل في هذه. ولعل الفرق أن الشارع لما مكن الوارث من الإتيان بأمين ولم يأت به عد معرضا عن حقه، بخلاف العامل في الجعل لم يمكنه الشارع من الإتيان بغيره فهو مغلوب فجعل له بنسبة الثاني، واستحسن شيوخنا هذا الفرقولما فرغ من الكلام على مسائل القراض شرع في المساقاة بقوله: "والمساقاة جائزة" ، وهي مستثناة من أصول أربعة ممنوعة. الأول: الإجارة بالمجهول،
الثاني: المخابرة، وهي كراء الأرض بما يخرج منها،
الثالث: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بل قبل وجودها،
الرابع: الغرر؛ لأن العامل لا يدري أتسلم الثمرة أم لا، وهي مشتقة من السقي؛ لأنه معظم عملها ولفظها مفاعلة على حد سافر وعافاه الله، أو باعتبار العقد فيكون من التعبير بالمتعلق بالفتح وهو المساقاة عن المتعلق بالكسر، وهو العقد، وهو لا يكون إلا بين اثنين، وحقيقتها كما قال ابن عرفة: عقد على عمل مؤنة البنات بقدر لا من غير غلته لا بلفظ بيع أو إجارة أو جعل، فيدخل قولها لا بأس بالمساقاة على أن كل ثمرة للعامل، ومساقاة البقل، وقوله لا بلفظ بيع أو إجارة أو جعل يدخل فيه عقدها بلفظ عاملتك مع أنها ليست مساقاة عند ابن القاسم فيكون التعريف غير مانع. والجواب أن يقال: التعريف على طريق سحنون فإنها تنعقد عنده بغير لفظ ساقيت كعاملتك، وارتضى طريقه جمع من الشيوخ قائلا: وهي المذهب، وإنما قال لا من غير غلته ليشمل ما لو كان العقد على كل الثمرة أو بعضها، ويخرج ما لو كان بجزء من غير الثمرة، فلا تصح لخروجها عن المساقاة كوقوعها بدراهم أو عرضوأركانها أربعة: المعقود عليه، وهو الشجر، والجزء المشروط للعامل والعمل والصيغة والعاقد وشرطه كشرط عاقد الإجازة، واستدل مالك رضي الله عنه على جوازها بما في الصحيح: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع"1 ووقع عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم فتح خيبر، ساقاهم في النخل على أن لهم نصف الثمرة بعملهم والنصف يؤدونه له صلى الله عليه وسلم أو لأصحابه، فقال لهم: "أقركم ما أقركم الله على أن الثمرة بيننا وبينكم"2 فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم ثم يقول لهم: "إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم، وكانوا يأخذونه" . فكان ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم مخصصا لما نهى عنه؛ لأن النهي عموم، ومساقاته ليهود خيبر في النخيل خصوص، فدل ذلك على الجواز، وعمل بها أبو بكر في خلافته وصدرا من خلافة عمر، ثم أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. وصلة جائزة "في الأصول" جمع أصل، وهو كل ما تجتنى ثمرته ويبقى أصلهقال خليل: إنما تصح مساقاة شجر، وإن بعلا ذي ثمر لم يخل بيعه ولم يخلف إلا تبعا،
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، حديث "1551"2 أخرجه البيهقي في الكبرى "4/122"، حديث "7228"، والشافعي في مسنده "1/94"، وذكره الهيثمي في المجمع مختصراً "6440"، وقال رواه البزار وفيه صالح بن أبي الأحضر وهو ضعيف وقد وثق.
وأشار إلى أن شرط مساقاة الأشجار بلوغها حد الإثمار، ولو تم الثمر بالفعل، ومن الشروط أن لا يبدو صلاحها، ومن الشروط أن لا يخلف الأصل أو ثمره إلا أن يكون ما لم يبلغ حد الإثمار، أو ما بدا صلاحه، أو ما يخلف تبعا، وإلا جاز، والتبعية أن يكون التابع الثلث فأقلوتصح المساقاة "على" كل "ما تراضيا عليه من الأجزاء" قال خليل: تصح بكل جزء قل أو كثر شاع وعلم، فأشار إلى أن الجزء لا حد له، بل لو جعل للعامل كل الثمرة صحت كما تقدمت الإشارة إليه، ويشترط في الجزء الشيوع، وأن يكون معلوما كربع أو نصف أو جميع الثمرة، فلا تصح بثمر نخلات بعينها ولا بجزء مبهم إلا أن تكون العادة معروفة عند الناس بحد، وإذا كان الحائط مشتملا على أصناف من الثمار فيشترط أن يكون في جميعها متفقا، ويشترط علم الحائط إما بالرؤية أو بالوصف، فتدخل مساقاة الحائط الغائب إن وصف حيث كان يصل إليه قبل كمال طيبه"تنبيه". مقتضى قوله: في الأصول عدم جوازها في غيره وليس كذلك، بل تصح في الزرع كالقصب والبصل والمقاثي لكن بشروط. أحدها: عجز رب الزرع عن القيام به. ثانيها: أن يخاف عليه الموت بترك السعي. ثالثها: ألا يبرز من الأرض. رابعها: أن لا يبدو صلاحه. ووقع الخلاف بين العلماء في نحو القطن والورد مما تجنى ثمرته ويبقى في الأرض أصله، فبعضهم ألحق هذه بالشجر، وبعضهم ألحقها بالزرع، فتجوز مساقاتها بالشروط المطلوبة في الزرع"و" يجب أن يكون "العمل" الذي يحتاج إليه الحائط أو ما ألحق به من سقي وآبار وتنقية مناقع الشجر والحصاد والدراس، وما أشبهه كله "على المساقى" بفتح القاف، وهو العامل كما عليه إقامة الأدوات من الدلاء والمساحي والأجراء وسائر ما يحتاج إليهقال خليل: وعمل العامل جميع ما يفتقر إليه عرفا كآبار وتنقية ودواب وأجراء، لذا لا يلزم تفصيل ذلك وقت العقد، وأما إن لم يكن عرف فلا بد من النص على ما يحتاج إليه. "ولا" يجوز أن "يشترط" رب الحائط "عليه" أي العامل "عملا غير عمل المساقاة" خارجا عن الحائط كاشتراطه عليه حصد زرع له أو بيع سلعة أو بناء حائط في داره، أو نحو ذلك مما ليس له تعلق بالحائط. وظاهر كلام المصنف سواء كان له بال أم لا بدليل استثناء ما لا بال له مما له تعلق بالحائط وإبقاء ما ليس له تعلق بالحائط على عمومه"ولا" يجوز أيضا أن يشترط عليه "عمل شيء ينشئه في الحائط" مما له كحفر بئر أو إنشاء
غرس؛ لأن المساقاة رخصة مستثناة من أصول ممنوعة، ولم يثبت جواز اشتراط شيء من ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم، ومفهوم في الحائط قد سبق قبل هذه القولة. واستثنى أهل المذهب العمل القليل الذي تسمح به النفوس وأشار إليه بقوله: "إلا ما" قل مما "لا بال له" فيجوز اشتراطه على العامل وبينه بقوله: "من" نحو "سد الحظيرة" ، وهي الزرب الموضوع على الحائط لمنع من يتسور على الحائط، ويروى بالسين المهملة وبالشين المعجمة، فالمعنى على الأول سد الفرجة الكائنة في ذات الحظيرة، وعلى الثاني إصلاح الحظيرة بالأحبل ونحوها مما يمسك الحظيرة، وهي بالظاء المشالة من الحظر وهو المنع. "و" من "إصلاح الضفيرة" بالضاد "وهي مجتمع الماء" كالصهريج وأشار بقوله: "من غير أن ينشئ بناءها" إلى اشتراط يساره ما يجوز اشتراطه على العاملقال خليل عاطفا على ما يجوز اشتراطه على العامل: وقسم الزيتون حبا كعصره على أحدهما، وإصلاح جدار، وكنس عين، وسد حظيرة، وإصلاح ضفيرة، أو غير ذلك مما لم تعظم مؤنته. وأما اشتراط إنشاء تلك المذكورات على العامل فلا تجوز؛ لأنها من ذوات البال؛ لأنها تبقى بعد القضاء مدة المساقاة، وما كان كذلك يفسد عقد المساقاة باشتراطه على العامل، وملخص ما ذكر أن العمل على ضربين: متعلق بإصلاح الثمرة وغير متعلق، فغير المتعلق لا يجوز اشتراط شيء منه على العامل، ولو قل، والمتعلق على العاملقال خليل: وعمل العامل جميع ما يفتقر إليه عرفا كآبار وتنقية وإليه أشار المصنف هنا بقوله: "والتذكير على العامل" بمقتضى عقد المساقاة ويقال له التلقيح والتأبير وهو تعليق طلع الذكر على الأنثى، وكذا ما يلحق به أيضا على المذهب. "وإصلاح مسقط الماء" مبتدأ، وما بعده مرفوع لعطفه عليه وخبره جائز الآتي، والمراد به موضع سقوطه. "من الغرب" أي الدلو ونحوه من آلات الماء، ومسقط لم يسمع فيه الكسر كمسجد، وهذا مما شذ؛ لأن قياس اسم المكان مما مضارعه بالضم أو الفتح فتح عينه نحو مدخل ومكتب، ومذهب. "وتنقية مناقع الشجر" معطوف على إصلاح، وكذا ما بعده، والمناقع جمع منقع بفتح القاف موضع يستنقع فيه الماء، والمراد كنس أماكن الماء الكائن في أصول الشجر بأن يحفر حول الشجرة ليجري فيه الماء. "وتنقية" أي كنس "العين" بأن يخرج كل ما سقط في الساقية من ورق وسعف"وشبه ذلك" المذكور من كل ما له تعلق بإصلاح الثمر، كإصلاح الدلو وجذ الثمر ورم نحو قفة وتهيئة قناة الماء "جائز" خبر إصلاح الواقع مبتدأ، وأفرده لتناوله بالمذكور أو باعتبار كل واحد من
المذكورات، و "أن يشترط على العامل" في تأويل مصدر فاعل جائز، ولا يقال: إن في كلام المصنف تناقضا حيث جعل أن هذه المذكورات على العامل بالأصالة، ثم ذكر أنه لا يجوز اشتراطها عليه، وهذا يقتضي أنها غير واجبة عليه وأنها على رب الحائط وتجب على العامل بالأصالة بالشروط؛ لأنا نقول: هي واجبة على العامل بمقتضى عقد المساقاة كما علم من قوله أولا: والعمل كله على المساقى بفتح القاف، ونص هنا على أنه يجوز أن يشترط عليه ما هو واجب عليه بمقتضى عقد المساقاة ولا يفسد عقدها بالاشتراط، فيكون نص على ما قد يتوهم منعه؛ لأن بعض أشياء تكون واجبة بمقتضى العقد، واشتراطها في صلبه يفسده كما في مسائل يصح نقد العوض فيها تطوعا وتفسد، ولذا قال بعض الشراح: في كلام المصنف جواز اشتراط ما يوجبه الحكم؛ لأن هذه الأشياء كلها على العامل بمقتضى العقد، وهذا المسلك وقع في كلام خليل أيضا؛ لأنه قال: وعمل العامل جميع ما يفتقر إليه عرفا، ثم قال بالعطف على ما يجوز اشتراطه: وقسم الزيتون حبا كعصره على أحدهما، وإصلاح جرار وكنس عين وسد حظيرة إلى آخر ما ذكرثم شرع فيما لا يجوز اشتراطه بقوله: "وتجوز المساقاة" المدخول فيها "على إخراج ما" كان "في الحائط من الدواب" والرقيق والأجراء والآلة، فإن وقع اشتراط ذلك في صلب عقدها فسدت، كما يفسد باشتراط زيادة عمل عليه غير عمل الحائطقال خليل بالعطف على ما لا يجوز: ولا نقص من في الحائط ولا تجديد ولا زيادة لأحدهما، فإن حصل شيء من ذلك فسد عقدها، وإن حصل عمل وجب له مساقاة مثله، وأما التبرع بتلك المذكورات فلا بأس به"تنبيه". تقدم أن من شروط المساقاة أن تقع قبل بدو صلاح التمر إلخ وترك التعرض لغايتها، مع أنه يشترط أيضا أن تحدد بأجل معلومقال ابن الحاجب: ويشترط باقيها، وأقله الجذاذ، وإن لم يقيد بوقت معلوم، فالعقد صحيح ويحمل انتهاؤها على الجذاذ، وإن كان يتكرر في العام فيحمل انتهاؤها على الجذاذ الأول إن تميزت البطونقال خليل: وحملت على أول إن لم يشترط ثان. وأما لو وقع عقد المساقاة على ما يطرح بطونا ولا يتميز بعضها عن بعض فلا يجوز مساقاته إلا تبعا لغيره مما ينضبط جذاذه.
ثم شرع في بيان ما يلزم رب المال خلفه بقوله: "وما مات منها" أي من الدواب والعبيد التي وقع العقد، وهي في الحائط "فعلى ربه خلفه" ، ومثل الموت المرض والإباق، فالموت وصف طردي أي غير معتبر المفهوم، ووجوب الخلف على رب الحائط ولو بغير شرط، ففي الموطإ قال مالك: ومن مات من الرقيق أو غاب أو مرض فعلى رب المال أن يخلفه أي، وإن لم يشترط العامل ذلك عليه"تنبيه". كما يجب على رب الحائط خلف ما مات من الدواب والعبيد يجب عليه أيضا أجرة ما كان فيه، وأما ما كان فيه من أحبل ودلاء، ومساحي وصواديد البئر، وهي المسماة بالزرانيق إذا بليت أو سرقت فلا يلزم رب الحائط، وإنما يلزم العامل على أصح القولين؛ لأنه إنما دخل على انتفاعه بها حتى تهلك أعيانها، فلا ينافي أن تجديدها على العامل فليست كالدواب والعبيد، والفرق بين الدواب والعبيد، وبين ما يلزم العامل من الأحبل، وما معها من الدواب والعبيد مدة حياتها مجهولة، فلو لم يتعلق عملها بذمة رب الحائط لفسدت المساقاة للغرر، وأما الأحبل ونحوها فزمن الانتفاع بها معلوم في العادة، فوجب بقاؤها على مقتضى الأصل في التعيين"ونفقة" الرقيق وعلف "الدواب، و" نفقة "الأجراء" وكسوتهم واجبة "على العامل" سواء كانت لرب الحائط بأن كانت موجودة في الحائط أو كانت للعاملقال في المدونة: ويلزمه نفقة نفسه ونفقة دواب الحائط ورقيقه كانوا له أو لرب الحائط، وأما ما ترتب في ذمة رب الحائط قيل عقد المساقاة فإن عليه لا على العامل، وإنما وجب على العامل نفقة ما ذكر، ولو كان ملكا لرب الحائط؛ لأن عليه العمل وجميع المؤن المتعلقة به التي تنقطع بانقطاع الثمن؛ لأن العوض يقع على ذلك، وظاهر كلام المصنف كخليل أن العامل يلزمه نفقة الأجراء، سواء كان الكراء وجيبة أو مشاهرة، وهو كذلك عند ابن الباجي، ولعل المصنف اعتمده خلافا لمن قيد الوجوب بغير الوجيبةثم شرع يتكلم على البياض، وهو ما خلا من الزرع والشجر هل يدخل في عقد المساقاة أم لا بقوله: "و" يجب "عليه" أي العامل "زريعة" بفتح الزاي والراء المكسورة المخففة "البياض اليسير" الذي اشترطا إدخاله في عقد المساقاة بشروط ثلاثة: أن يكون الجزء المجعول للعامل فيه موقفا لجزء الحائط.
والثاني: أن يكون البذر على العامل "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعهد أنه دفع لأهل خيبر شيئا حين عاملهم على سقي حوائطها"الثالث: أن يكون كراء البياض منفردا ثلث قيمة التمرة فأقل، كما إذا كان مائة وقيمة الثمرة بعد إسقاط ما أنفق عليها مائتان، والعمل كله على العامل، هذا ملخص قول خليل مشبها في الجواز، وكبياض نخل أو زرع إن وافق الجزء وبذره العامل وكان ثلثا بإسقاط كلفة الثمرة، فإن فقد شرط فسد عقد المساقاة، ويرد العامل إن عمل إلى مساقاة مثله في الحائط، وإلى أجرة مثله في البياض، ولما كان يتوهم عدم جواز إلغائه للعامل لما يلزم عليه من أخذه أكثر مما شرط له دفعه بقوله: "ولا بأس أن يلغى" أي يترك "ذلك" البياض اليسير "للعامل" إن سكتا عنه أو اشترطه العامل لنفسه "وهو" أي إلغاؤه "أحله" أي أحل له من اشترط إدخاله في المساقاة لما في إلغائه من السلامة من كراء الأرض بما يخرج منها، "ولأنه عليه الصلاة والسلام إنما ساقى أهل خيبر على النخل خاصة، وترك لهم بياض النخل" فاستحب مالك هذاقال خليل: وألغي للعامل إن سكتا عنه أو اشترطهقال شراحه: هذا كله إذا كان البياض يسيرا، وأما الكثير فأشار إليه بقوله: "وإن كان البياض كثيرا" بحيث يكون كراؤه منفردا فوق ثلث قيمة الثمرة "لم يجز أن يدخل في" عقد "مساقاة النخل إلا أن يكون" أي البياض لا بقيده السابق "قدر الثلث من الجميع فأقل" حتى يصير تابعا فيجوز إدخاله في المساقاة، ويجوز اشتراطه للعامل كما يجوز إلغاؤه، ويحرم على رب الحائط أن يشترطه لنفسه مع سقي العامل. والحاصل أن البياض اليسير يجوز إدخاله في المساقاة بالشروط المتقدمة، ويختص به العامل إن سكتا عنه أو اشترطه، ويفسد عقد المساقاة باشتراط ربه له إن كان يناله سقي العامل، كما يفسد عقد المساقاة بإدخال الكثير أو اشتراطه للعامل أو إلغائه له بل يبقى لربه"تتمات". الأول: لم يبين المصنف حكم ما لو قصر العامل وأشار إليه خليل بقوله: وإن قصر عامل عما شرط حط من الجزء بنسبته. مثاله لو شرط عليه السقي أو الحرث ثلاث مرات فحرث أو سقى مرتين فإنه يحط من الجزء ثلثه. وأما لو لم يقصر بأن نزل المطر بحيث استغنى الحائط عن السقي فلا يحط شيء ويأخذ الجزء جميعه، بخلاف الإجارة بالدراهم والدنانير على سقيات فيحصل الغيث ويستمر على الحائط حتى استغنى فإن الأجرة تسقط؛ لأن الإجارة مبنية على المشاحة.
الثانية: يجوز لعامل المساقاة مساقاة غيره ولو أقل أمانة منه، ويحمل على ضد الأمانة فيضمن الأول موجب فعل الثاني إن حصل منه موجب الضمان، بخلاف ورثة العامل فإنهم محمولون على الأمانة، بخلاف ورثة عامل القراض فإنهم محمولون على عدم الأمانة؛ لأن المال مما يغاب عليه، بخلاف الشجر يمكن عدها وضبطهاالثالثة: إن وقعت المساقاة فاسدة وجب فسخها قبل العمل مطلقا، وإن لم نطلع على فسادها إلا بعد الشروع في العمل فيفسخ أيضا في باقي المدة إن كان الواجب أجرة المثل، وذلك فيما إذا كان الفساد بسبب زيادة عين أو عرض لأحدهما على الآخر، وأما لو كان الواجب فيها مساقاة المثل فتمضي بالشروع في العمل، وذلك فيما إذا كان فسادها لحصول غرر أو نحوه من كل ما يفسد ولا يخرجها عن المساقاة، كمساقاة حائط حل بيعه ما لم يحل بيعه أو حائط بلغ، أو أن الإثمار مع ما لم يبلغه، ولا تبعية في الصورتينولما فرغ من الكلام على ما ذكره من مسائل المساقاة، شرع في الكلام على المزارعة لقربها منها؛ لأن الأصل في كل منهما المنع، وإنما اجتزنا بالشروط رفقا بالأمة، وحقيقة المزارعة كما قال ابن عرفة: عقد على علاج الزرع، وما يحتاج إليه، والمراد بعلاجه عمله وبما يحتاج إليه بالآلة فقال: "والشركة في الزرع جائزة" وفي الزرع ثواب جسيم، فقد خرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يغرس غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة" 1 ولعل الضمير في كانت للأكلة بضم الهمزة المفهومة من الفعل، وصدقة بالنصب خبر كانت، وهي هنا بمعنى صارت؛ لأنه أحد معانيها، وهذا على رواية كانت بالتاء، وأما على رواية كان له صدقة فتكون صدقة مرفوعة على أنها اسم كان وعقدها لا يلزم إلا بالبذرقال خليل: لكل فسخ المزارعة إن لم يبذر، وإنما كان عقدها منحلا كشركة التجر؛ لأنه قد قيل بمنعها مطلقا فإن حصل بذر لزمت، وظاهره ولو في بعض الأرض كما هو ظاهر قول خليل: إن لم يبذر، كما أن ظاهره لزومها بالبذور، ولو لم ينضم للبذر حرث، وأما الحرث بدون البذر فلا يمنع الفسخوشرط عاقدها أن يكون فيه أهلية الاشتراك في التجارة بأن يكون من أهل التوكيل والتوكل،
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع، حديث "1553" بلفظ: "ما من مسلم يغرس أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" .
فلا تصح بين صبيين ولا سفيهين، ولا بين صبي ورشيدوشرط صحتها سلامة الأرض من كرائها بما يمنع كراؤها به، وهو جميع ما تنبته، خلا الخشب والحشيش والصندل والعود وجميع الأطعمة ولو لم تخرج منهاقال خليل: وصحت إن سلما من كراء الأرض بممنوع وقابلها عمل بقر أو وعمل يد لا شيء من البذر كما يفهم من قوله: "إذا كانت الزريعة منها جميعا والزرع بينهما" على المناصفة فيهما سواء "كانت الأرض لأحدهما والعمل" أي عمل البقر، وهو الحرث المقابل للأرض "على الآخر" ، وهذه لا شك في جوازها، وقولنا على المناصفة فيهما للاحتراز عما لو تفاضلا في الزريعة بأن أخرج أحدهما ثلثها والآخر ثلثيها فإنه ينظر، فإن كان صاحب الأرض هو الذي أخرج الثلثين فالمزارعة صحيحة؛ لأن الثلث الذي أخرجه صاحب العمل يقابل ثلثا مما أخرجه صاحب الأرض، والعمل يقابل الأرض والثلث الثانيوإن كان الذي أخرج الثلثين هو صاحب العمل فينظر إن كان الربح بينهما أثلاثا على قدر ما أخرج كل واحد من الزريعة، فالجواز؛ لأنهما تساويا في الزريعة والعمل مقابل للأرض، وإن كان الزرع بينهما على المناصفة فالمنع؛ لأن الثلث يقابل الثلث، والثلث الآخر مع العمل مقابلان للأرض وذلك حرام لوقوع جزء من البذر في مقابلة جزء من الأرض، ولا بد أن يكون المخرج منهما من البذر متفق النوع، فلا يجوز أن يخرج أحدهما قمحا والآخر شعيرا أو فولا؛ لأن المساواة في نوع البذر شرط عند سحنون، فإن اختلف بذرهما لم تكن مزارعة ولكل ما خرج من بذره ويتراجعان في الأكرية. ومذهب ابن القاسم عدم اشتراط التساوي في نوع البذروقوله: والعمل على الآخر أي بشرط مساواته لأجرة الأرض في القيمة أو مقاربته لها، كأن تكون قيمة الأرض تسعة عشر وقيمة العمل عشرون أو عكسه، وأما لو تباعدت فلا جواز إلا أن يأخذ كل واحد من الزرع قدر ما أخرج، فالجواز. مثال ذلك لو كانت أجرة الأرض مائة، والبقر والعمل خمسين ودخلا على أن لرب الأرض الثلثين ولرب البقر وعمل اليد الثلث جاز، وإن دخلا على النصف فسد عقدها لأنه سلفوإن كانت أجرة الأرض خمسين والبقر وعمل اليد ودخلا على التفاوت فسدتقال خليل: وقابلها مساو، قال شراحه: المراد بالتساوي أن يكون الربح مساويا للمخرج، فلا يجوز الدخول على أن يأخذ أحدهما أكثر مما أخرج، وليس المراد بالمساواة المناصفة، وهذه أول الصور الجائزة. والثانية أشار لها بقوله: "أو العمل بينهما" والمسألة بحالها الزريعة
منهما، والزرع بينهما، والعمل بينهما، ولم يأخذ أحدهما أكثر ما أخرج "و" الحال أنهما قد "اكتريا الأرض" من الغير "أو كانت" أي الأرض مشتركة "بينهما" إما بملك أو منفعتها وهذه مسألة ثالثة، وفرض المسألة أن الزريعة منهما والعمل منهما، والحكم في المسائل الثلاث الجوازوأشار إلى الصور الممنوعة بقوله: "أما إن كان البذر من عند أحدهما ومن عند الآخر الأرض، و" جعل "العمل عليه" أي على صاحب الأرض، وسيأتي أن هذه الشركة لا تجوز وهي المعروفة عند فلاحي مصر بالمشاطرة. ووجه عدم جوازها وقوع بعض البذر في مواجهة الأرض، ويصح عود ضمير عليه لمخرج البذر، فيكون أحدهما أخرج البذر والعمل، ومن عند الآخر الأرض فقط، وهي فاسدة أيضا؛ لأن البذر مع العمل مقابلان للأرض، فلم تسلم من كراء الأرض بممنوع، فهي صورة ثانية من الصور الممنوعةوثالثها أشار إليها بقوله: "أو" كان العمل "عليهما" والمسألة بحالها البذر من عند أحدهما، ومن عند الآخر الأرض "و" الحال أن "الربح بينهما" في الصور الثلاث على ما ذكرنا في مرجع الضمير "لم يجز" الاشتراك، وهذا جواب أما لما فيها من معنى الشرط، وعلة عدم الجواز في المسائل الثلاث عدم سلامة الشركة من كراء الأرض بما يخرج منها، والمصنف حذف لم يجز مما تقدم لدلالة المتأخر عليه، وبقي من صور الجواز صورة كان الأولى تقديمها مع صور الجواز المتقدمة لتصير مسائل الجواز مجتمعة وصور المنع مجتمعة، وأشار إليها بقوله: "ولو كانا اكتريا الأرض" من الغير أو كانت مملوكة لهما أو لأحدهما وأكرى شريكه نصفها بدراهم أو غيرها مما يجوز كراؤها. "و" دخلا على أن "البذر من عند واحد وعلى" الشريك "الآخر العمل جاز ذلك" العقد "إذا" تساوت أو "تقاربت قيمة ذلك" المذكور مع بذر وعمل على المشهور، مثال التقارب أن تكون قيمة البذر أو العمل أحد عشر وقيمة الآخر عشرة، ويشترط أيضا أن يكون الربح بينهما على المناصفة. وأما لو دخلا على التفاوت بأن جعل لواحد الثلث وللآخر الثلثان، فإن كان المجعول له الثلثان صاحب العمل جاز ذلك أيضا، وأما إن كان صاحب البذر فقولان بالجواز وعدمه، وليست هذه الصورة مكررة مع الصور الجائزة المتقدمة؛ لأن الزريعة في هذه من أحدهما، بخلاف الصور المتقدمة البذر من عندهما"تنبيهان" الأول: تلخص مما تقدم أن شرط صحة الشركة في الزرع السلامة من كراء الأرض بممنوع وأن يتساويا في الخارج والمخرج، وليس المراد بالتساوي المناصفة، ويجوز أن يتبرع
أحدهما لصاحبه بعد العقد اللازم بشيء من العمل أو غيره، وذكر العلامة خليل شرطا آخر، وهو خلط البذر إن كان من عندهما، ويكفي خلطه، ولو حكما بأن يخرج كل واحد البذر من عنده ولم يخلطاه حتى يصلا إلى الفدان، وبذر كل واحد بذره بحيث لا يتميز عن بذر صاحبه، فإن تميز بأن بذر كل في ناحية فلا تصح ولكل ما نبته حبه، والذي مشى عليه خليل من اشتراط الخلط أحد قولي سحنون، وقوله الآخر موافق لقول مالك وابن القاسم بعدم اشتراط الخلط لا حسا ولا حكما، هكذا يفهم من كلام أبي الحسن في شرح المدونة وعليه ابن عرفة، وتقدم أن من شروط سحنون اتفاق البذرين في النوعية، ومذهب ابن القاسم عدم اعتبار هذا الشرط، ومن الشروط أن يقع عقدها بلفظ الشركة لا إن وقعت بلفظ الإجارة أو الإطلاقالثاني: لم يذكر المصنف حكم ما لو وقعت فاسدة، ومحصله أنها تفسخ قبل الفوات بالعمل، وأما بعد فواتها بالعمل فأشار له خليل بقوله: وإن فسدت وتكافآ عملا فبينهما وترادا غيره أي غير العمل، كما لو كانت الأرض من أحدهما والبذر من الآخر فيرجع صاحب البذر على صاحب الأرض بمثل نصف بذره، ويرجع صاحب الأرض على صاحب البذر بأجرة نصف أرضه، ولا خفاء في فساد هذه الصورة لمقابلة الأرض البذر، والمراد بالتكافؤ في العمل وقوعه من كل منهما وإن لم يتساويا في قدره، وإنما يكون الزرع بينهما إذا انضم لعمل يد كل منهما غيره من أرض أو بذر أو عمل بقر وبعض ذلكوأما لو وقع العمل من أحد الشريكين فقط فالزرع كله له؛ لأنه نشأ عن عمله، وعلى الآخر أجرة الأرض، فشرط اختصاص المنفرد بالعمل بالزرع أن يكون له مع عمله إما بذر أو أرض، أو تكون الأرض والبذر منهما والعمل من واحد، ولا بد أيضا أن ينضم إلى عمل يده آلة من بقر أو محراث، وإلا فليس له إلا أجرة مثله وهي مسألة الخماسثم شرع في الكلام على ما إذا اكترى شخص قطعة أرض قبل ريها بقوله: "ولا" يجوز الدخول على أن "ينقد" الأجر "في كراء أرض غير مأمونة" الري "قبل أن تروى" بالفعل كأرض المطر وأرض العين القليلة الماء؛ لأن المنقود يتردد بين السلفية والثمنية. وأما النقد تطوعا فلا يمتنع على ظاهر المدونة، وهو يدل على جواز العقد من غير نزاع، ومفهوم غير المأمونة أن المأمونة كأرض النيل القريبة من البحر الشديدة الانخفاض، وكأرض المطر في بلاد المشرق يجوز عقد الكراء فيها على النقد ولو مع الشرط، كما يجوز عند كرائها، ولو طالت المدة كالثلاثين سنة. وأما التي رويت بالفعل أو تحقق ريها وتمكن المكتري من زرعها فيجب نقد
الكراء فيهاقال خليل: ويجب في مأمونة النيل إذا رويتقال شراحه: المراد تحقق ريها، وإن لم ترو بالفعل وتمكن من زرعها؛ لأن الكراء إنما يلزم بالتمكن، ومحل وجوب نقد الكراء في الفرض المذكور حيث لم يشترطا تأجيل الكراء، وإلا عمل بالشرط"تنبيه". بقي لنا مسألتان متعلقتان بكراء الأرض، إحداهما: الأرض المغمورة بالماء ويندر انكشافها، وحكم هذه أنه يجوز اكتراؤها على تقدير انكشاف الماء عنها، ولكن لا يجوز النقد فيها ولو تطوعا. وثانيتهما: المغمورة التي لا يمكن انكشاف الماء عنها عادة لا يجوز عقد كرائها حتى تنكشف بالفعلثم شرع في الكلام على الجوائح جمع جائحة، وهي مأخوذة من الجوح، وهو الاستئصال والهلاك، وهي كل ما لا يستطاع دفعه كسماوي وجيش، وعرفها ابن عرفة بما هو قريب من هذا حيث قال: الجائحة ما أتلف من معجوز عن دفعه عادة قدرا من ثمر أو نبات بعد بيعه، فقوله: من معجوز من لبيان الجنس وقدرا مفعول أتلف وأطلق في القدر ليتناول الكثير والقليل؛ لأن كلامه شامل للثمار وغيرها، وإن كان يشترط فيه الثلث في الثمار بخلاف أنواع النبات والبقول فتوضع مطلقا ولوضعها شروط أربعة: أن تكون الثمرة من بيع وإن عريته لا إن كانت من مهر ولا من هبة ولا صدقة، وأن تكون الثمرة قد بقيت على رءوس الشجر؛ لينتهي طيبها فإن تناهت، ومضى ما تقع فيه عادة فلا توضع، وأن تكون الثمرة اشتريت مفردة عن أصلها أو اشتراها قبل أصلها ثم اشترى أصلها قبلها أو اشتراهما معا، وأن يكون الذاهب الثلث فأكثر في الثمار. فقال: "ومن ابتاع ثمرة في رءوس الشجر" سواء كانت ثمرة نخل أو غيره، ووقع الشراء بعد بدو الصلاح وقبل تناهي طيبها، أو بيعت قبل بدو صلاحها على شرط الجذ. "فأجيح" ما ذكر من الثمرة "ببرد" ، وهو الحجر النازل مع المطر، وهو محرك الراء. "أو" أجيح بأكل "جراد" جمع جرادة تقع على الذكر والأنثى كالبقرة، سمي جرادا؛ لأنه يجرد الأرض بأكل ما عليها. "و" أجيح بسبب حلول "جليد" ، وهو الندا الساقط من السماء فيجمد على الأرض. "أو غيره" أي غير ما ذكر من ريح أو دود أو طير أو غرق أو سموم أو غبار أو غير ذلك من كل ما لا يستطاع دفعهقال خليل: وهل هي ما لا يستطاع دفعه كسماوي وجيش أو سارق خلاف محله ما لم يعلم
السارق، وإلا فلا، ويتبعه المشتري ولو معدما، وقال ابن عرفة: والأظهر في عدمه غير مرجو يسره عن قرب أنه جائحة، وهو ظاهر المدونة. وأشار إلى شرط الوضع في الثمرة بقوله: "فإن أجيح قدر الثلث" أي ثلث مكيل الثمرة "فأكثر وضع عن المشتري قدر" ما يخص "ذلك" المجاح "من الثمن" الذي اشتريت به الثمرة ولو كان الثلث ملفقا من كصيحاني وبرني، وقيدنا بتلك المكيلة للإشارة إلى أن المعتبر المكيلة لا القيمة، فإذا كان المجاح أقل من ثلث المكيلة فإنه لا يوضع عن المشتري شيء من الثمن ولو ساوت قيمة ذلك الأقل نصف الثمن أو جميعه. ويلزم المشتري التمسك بالباقي، وإن قل، بخلاف الاستحقاق فإنه قد يخير المشتري معه وقد يحرم عليه التمسك بالباقي. والفرق أن الجوائح لتكررها يعد المشتري كالداخل على ذلك ولندور الاستحقاق لم يدخل عليه. "و" مفهوم قدر الثلث أن "ما نقص عن الثلث فمن المبتاع" أي مصيبته منه ويلزمه جميع الثمن؛ لأنه مجوز لذهاب ما نقص عن الثلث بأكل طير أو سقوط بعض الثمرة بريح أو غيره كما هو معلوم بالعادةقال خليل: وتوضع جائحة الثمار كالموز والمقاثي، وإن بيعت على الجذ، ومن عرية لا مهر إن بلغت ثلث المكيلة، ولو من كصيحاني وبرني وبقيت؛ لينتهي طيبها، وأفردت أو ألحق أصلها لا عكسه أو معه. والدليل على وضع الجوائح ما في الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح"1 وفيه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ثم تأخذ مال أخيك بغير حق" 2 وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا أصيب ثلث الثمرة فقد وجب على البائع الوضعية" 3 فما في هذه الرواية مقيد لإطلاق التي قبلها"تنبيهان" الأول: ما ذكره المصنف من التحديد بالثلث في غير ما ذهب بسبب العطش، وإلا وضعت مطلقاقال خليل: وتوضع بسبب العطش، وإن قلت؛ لأن السقي لما كان على البائع أشبه ما فيه حق توفيةالثاني: مثل ذهاب ثلث المكيلة ذهاب ثلث القيمة فيما إذا تعينت والعين قائمةـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: وضع الجوائح، حديث "1554"2 أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: وضع الجوائح، حديث "1554"3 لم أقف عليه.
قال خليل: وتعيينها كذلك فإن التشبيه في مطلق الذهاب لا بقيد المكيلة، فإن أذهب التعييب ثلث القيمة وضع عن المشتري ثلث الثمنولما كان شرط الوضع كما قدمنا أن تكون الثمرة بقيت لينتهي طيبها قال: "ولا جائحة في الزرع" كالقمح والفول وغيرهما من أنواع الحبوب؛ لأن ما ذكره لا يحل بيعه إلا بعد يبسه واستحصاده، فتأخيره محض تفريط مع المشتري فلا يوضع عنه شيء من الثمن. "ولا فيما اشتري بعد أن يبس من الثمار" وتناهى طيبه وفات أوان قطعه على المعتادقال خليل: وإن تناهت الثمرة فلا جائحة كالقصب الحلو ويابس الحب؛ لأن تأخير ما ذكر بعد زمان قطعه على العادة محض تفريط، فيجب على المشتري جميع الثمن، ولو أذهبت الجائحة جميعه، وأما لو أصابته الجائحة في الزمان الذي تقطع فيه على العادة لحطت عنه؛ لأن تأخيرها على هذا الوجه بمنزلة تأخيرها لتناهي طيبها"تنبيه". في كلام المصنف إشارة إلى جواز بيع الحبوب في الأندر لكن على تفصيل محصله: إن وقع بعد صيرورتها صبرة فلا خلاف عند أهل المذهب في الجواز وقع البيع على الكيل أو الجزاف بشروطه، وأما إن وقع البيع قبل ذلك فإن كان بعد نقشه وقبل درسه ففيه خلاف والمشهور المنع، وأما بعد درسه وقبل تذريته فالمشهور الجوازقال خليل: وجاز بيع حنطة في سنبل وتبن، وإن بكيل وقت جزافا لا منفوشا، وقال العلامة بهرام: ولا خلاف عندنا في جواز بيع الزرع قائما لكن بشروط الجزاف، ويجوز المبتغى منه من حب وغيره كالبرسيم فراجعه إن شئتولما كان شرط التحديد بالثلث مختصا بالثمار قال: "وتوضع" عن المشتري "جائحة البقول، وإن قلت" ونقصت عن الثلث إلا أن يكون المجاح شيئا قليلا جداقال خليل: وتوضع من العطش، وإن قلت كالبقول تشبيه في الوضع، وإن قلت ولو من غير العطش، والمراد بالبقول ما لا تطول مدته في الأرض كالخس والجزر والسلق والكزبرة والهندبا والزعفران والريحان والقرظ وورق التوت والبصل، وإنما كانت توضع منها، وإن نقصت عن الثلث لعسر معرفة ثلثها؛ لأنها تقطع شيئا فشيئا. "وقيل لا يوضع إلا قدر الثلث" قياسا على الثمرة وهذا خلاف المعتمد. والمعتمد ما تقدم من وضعها مطلقا ولذا اقتصر عليه خليل، وقدمه المصنف وحكى هذا بصيغة التمريض.
"تنبيه". في كلام المصنف إشارة إلى جواز بيع مغيب الأصل كالجزر والبصل والفجل؛ لأنها من البقول، وهو كذلك، لكن يشترط في حال بيعها أن يقلع منها شيء ويراه المشتري كما هو ظاهر كلام ابن رشد وغيره؛ لأنه لا يكفي رؤية ظاهرها، ولكن ذكر الناصر اللقاني أنه يكفي في جواز بيع مغيب الأصل رؤية ظاهره، أي؛ لأنه برؤية ورقه يستدل على ما في الأرض من كبر وصغر على ما هو معروف لأرباب الخبرة بذلك. "خاتمة عزيزة الوجود" . مما هو منزل منزلة الجائحة عدم حصول المقصود، من ذلك لو اشترى شخص ورق توت ليطعمه لدود الحرير فيموت الدود، ومن ذلك أيضا لو اكترى حماما أو فندقا في بلد فخلي البلد ولو يوجد من يتحمم أو يسكن، ومن ذلك أيضا من اشترى ثمرة ليبيعها في بلد فخرب البلد، أو اشترى علفا ليبيعه لقافلة تأتي من طريق معروفة فعدلت عنه، ووجه تنزل ما ذكر منزلة الجائحة باعتبار أن المشتري له الفسخ عن نفسه ويسقط عنه الثمن أو الكراءولما فرغ من الكلام على إطعام الجائحة شرع في الكلام على حكم شراء العرايا جمع عرية بتشديد الياء مشتقة من عروته أعروه إذا طلبت معروفه، فعرية فعيلة بمعنى مفعولة وحقيقتها كما قال بعض: هبة ثمرة تيبس لشخص يأكلها هو أو عياله في عام أو أكثر، ولا فرق بين ثمر النخل وغيره فقال: "ومن أعرى" أي وهب "ثمر نخلات" أو غيرها مما تيبس ثمرته بالفعل إذا تركت، ولا يكفي يبس نوعها وذلك كثمر نخل غير مصر وجوز ولوز، كذلك لا ثمر ما ذكر في أرض مصر ولا في موز ولا رمان ولا تفاح؛ لأنها لا تيبس "لرجل" المراد لشخص ولو امرأة "من جنانه" أي المعري. وأما لو أعرى رجلا ثمر نخل آخر لكانت عريته باطلة؛ لأن تبرع الإنسان بملك غيره باطل، وإن أجاز الغير كان ابتداء عطية منه، وهذا بخلاف بيع ملك الغير فإنه يمضي بإجازته؛ لأن البيع في مقابلة عوض، ولا يحترز بقول من جنانه عن عرية جميع ثمر الحائط فإنه يصح، ومن شرطية، وأعرى فعل الشرط وجوابه "فلا بأس أن يشتريها" أي يجوز لمعريها شراؤها "بخرصها" بكسر الخاء أي بكيلها "تمرا" قال خليل: ورخص لمعر وقائم مقامه، وإن باشتراء الثمرة فقط اشتراء ثمرة تيبس كلوز لا كموز، وتلك الرخصة مستثناة من أصول ممنوعة ربا الفضل؛ لأنه يشتريها بنوعها وخرصها من غير كيل، والشك في التماثل كتحقق التفاضل وربا النساء؛ لأنها تباع بخرصها إلى أجل؛ لأن الوفاء عند الجذاذ. والمزابنة، وهي بيع المجهول بالمعلوم من نوعه والرجوع في الهبة، وإن كان المشهور في هذا الأخير الكراهة، ومعنى رخص أبيح؛ لأن الرخصة هنا جائزة، والدليل على جوازها ما في الموطإ والصحيحين
وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا بخرصها من الثمر بما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق"1 شك من الراوي، وحديث سهل: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر"2 إلا أنه أرخص في العرية أن تباع بخرصها تمرا يأكلها أهلها رطبا، وأشار إلى شروط الجواز بقوله: "إذا أزهت" أي بدا صلاحها فلا يجوز شراؤها قبله، وإنما نص على ذلك، وإن لم يختص بالعرية لئلا يتوهم عدم اشتراطه لكون شرائها رخصة حتى قال الباجي بعدم اشتراطه، وفسرنا الزهو ببدو الصلاح للإشارة إلى أن الثمرة غير مختصة بالبلح المختص بالزهو الذي هو الاحمرار أو الاصفرار. ومن الشروط أن يكون الشراء بخرصها أي بكيلها بأن يقول الخارص أي الحازر العارف: إذا جفت تصير خمسة أوسق أو أقل، فيعطى المعرى بالفتح مكيلة ذلك القدر عند الجذاذ، وإذا جذت فوجدت أقل أو أكثر فإن المعري بالكسر يرجع على المعرى بالفتح في الأول، ويرجع المعرى بالفتح على المعري بالكسر في الثاني، وقيل إنه حكم مضى. ومن الشروط أن يكون خرصها من نوعها، فلا يجوز أخذ الصيحاني عن البرني ولا الجيد بالرديء، وأولى في المنع بيعها بعرض أو درهم، ومن الشروط أن يتفقا على أن "يعطيه" أي المعري بالكسر للمعرى بالفتح "ذلك" الخرص "عند الجذاذ" بالذال المعجمة أي قطع الثمرة. ومن الشروط أن يكون المشترى خمسة أوسق فأقل، وإن كانت العرية أكثر، وإلى هذا الإشارة بقوله: "إن كان فيها خمسة أوسق فأقل" ولذلك قال: "ولا يجوز" للمعري بالكسر "شراء أكثر من خمسة أوسق إلا بالعين والعرض" الواو بمعنى أوقال خليل: وخمسة أوسق فأقل، فلو أراد أن يشتري من الأكثر خمسة أوسق بخرصها والزائد يشتريه بعين أو عرض فإنه لا يجوزقال خليل: لا يجوز أخذ زائد عليه معه بعين على الأصح، والضمير في عليه، ومعه للقدر المرخص في شرائه، وأما شراء جميع الثمرة الزائدة على خمسة أوسق بعين أو عرض فيجوز كما قال المصنف، ومفهوم كلام خليل، وهذا كله في العرية الواحدة، وأما لو أعراه عرايا في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: بيع الثمر على رءوس النخل بالذهب أو الفضة، حديث "2190"، ومسلم، كتاب البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، حديث "1541"، ومالك في الموطأ "2/620"، حديث "1285"2 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب: في بيع العرايا، حديث "3363"، واحمد "2/4"، حديث "16136"، وصححه الألباني "النسائي 4542".
حوائط في أوقات متعددة وألفاظ متعددة لجاز له أن يشتري من كل حائط خمسة أوسق لا إن كانت العرايا في عقد واحد، فكعرية واحدة لا يشتري منها إلا خمسة أوسق، ولا فرق في هذا كله بين تعدد المعرى بالفتح واتحاده على ظاهر كلام خليل واقتصر عليه المواق
"تنبيه". اعلم أن المصنف لم يستوف شروط العرية. وإنما استوفاها خليل بقوله: ورخص لمعر وقائم مقامه، وإن باشتراء الثمرة فقط اشتراء ثمرة تيبس إن لفظ بالعرية وبدا صلاحها وكان بخرصها ونوعها، وأن لا يدخلا على شرط تعجيلها بل دخلا على الوفاء عند الجذاذ أو سكتا ولو عجل الخرص بعد ذلك، بخلاف لو شرطا التعجيل فلا يجوز شراؤها، ولو جذها رطبا رد المثل إن وجد، وإلا فالقيمة، وأن يكون المشترى خمسة أوسق فأقل، وأن يكون الاشتراء إما لدفع الضرر بدخول المعرى بالفتح حائط المعري بالكسر، أو للمعروف رفقا بالمعرى بالفتح بكفايته الحراسة والمؤنة. وأما لغير ذلك فلا يرخص في شرائها، كما لا يرخص لغير المعري بالكسر لما علمت من استثنائها من أصول ممنوعة بالشروط المذكورة. ولما فرغ من الكلام على عقود المعاملات، وما يتعلق بها، شرع في الكلام على بعض أنواع القرب فقال.
باب في الكلام على أحكام الوصايا
:جمع وصية وهي لغة: الوصل لأنها مشتقة من صيت الشيء بالشيء إذا وصلته به، كأن الموصي لما أوصى بالشيء وصل ما بعد الموت بما قبله في نفوذ التصرفوأما في الاصطلاح فقال ابن عرفة: هي في عرف الفقهاء لا الفراض عقد يوجب حقا في ثلث عاقده يلزم بموته أو نيابة عنه بعده، فما يوجب حقا في رأس ماله مما عقده في صحته لا يسمى وصية كما خرج ما يلزم بدون الموت كالتزام من لا حجر عليه بشيء من ماله لشخص وزاد قوله: أو نيابة عطفا على حقا ليدخل الإيصاء بالنيابة عن الميت، وأما الوصية عند الفراض فهي عقد يوجب حقا في ثلث عاقده فقط، فالوصية عند الفقهاء أعم من الوصية عند الفراض، لأن الوصية عند الفراض قاصرة على الإيصاء بما فيه حق، وأما عند الفقهاء فتنوع إلى وصية نيابة عن الموصي، كالإيصاء على الأطفال وعلى قبض الديون وتفرقة التركة. والنوع الثاني أن يوصي بثلث ماله للفقراء أو بعتق عبده أو قضاء دينه، وتعريف ابن عرفة مشتمل على النوعين. "و" في الكلام على أحكام "المدبر" وهو المعلق عتقه على الموت ويخرج من الثلث. "و" في الكلام على "المكاتب" وهو المعتق على مال مؤجل يدفعه لسيده"و" في الكلام على "المعتق" لا على وجه التدبير ولا الكتابة، كالمعتق لأجل أو للمثلة أو للسراية أو للملك. "و"
في الكلام على "أم الولد" 1 وهي الحر حملها من وطء مالكها عليه جبرا. "و" في الكلام على "الولاء" بفتح الواو والمد من الولاية بفتح الواو وهو من النسب والعتق وأصله الولي وهو القرب، وأما من الإمارة والتقدم فبالكسر وقيل بالوجهين فيهما، والمولى لغة يقال للمعتق والمعتق وأبنائهما، ولغيرهما كالناصر وابن العم والقريب، والمراد هنا ولاية الإنعام والعتق، وعرفه بعضهم بأنه صفة حكمية توجب لموصوفها حكم العصوبة عند عدمها، فهذه ستة أبواب جمعها في ترجمة روما للاختصار. وشرع في بيان على التفصيل فقال: "ويحق" بضم الياء وفتحها وفتح الحاء وكسرها أي يتأكد ندبها "على من له ما" أي مال "يوصي فيه أن يعد" بضم الياء من أعد أي يحصر ويهيئ "وصيته" ويشهد عليها لأنها بدون الإشهاد لا يجب تنفيذها وتبطل ولو كانت بخط الموصي لاحتمال رجوعه عنها إلا يقول: ما وجدتم بخط يدي فأنفذوه فإنه ينفذ، والدليل على طلب مشروعيتها الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "ما حق امرئ مسلم له شيء ما يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" 2 وحمل الحديث بعض العلماء على الصحيح والمريض لعدم الأمن من الموت فجأةقال ابن رشد: وهو الصحيح، وما ذكرناه من أنها مندوبة هو الذي عليه أكثر الشيوخ، إلا أن يخشى بعدمها ضياع الحق على أربابه إن لم يوص فتجب، ولذا قسمها ابن رشد واللخمي خمسة أقسام: فتجب إذا كان عليه دين، وتندب إذا كانت بقربة غير واجبة، وتحرم بمحرم كالنياحة ونحوها كالإيصاء بالصلاة والصوم، وتكره إذا كانت بمكروه أو في مال فقير، وتباح إذا كانت بمباح من بيع أو شراء، وإنفاذها ينقسم إلى تلك الأقسام هكذا قالا، وبحث فيه الأجهوري قائلا: الصواب أن تنفيذها في جميع الأقسام ما عدا المحرم واجب إلا أن يحمل كلامهما على أن المراد التنفيذ من الموصي نفسه، بمعنى أنه يجب عليه قبل موته إنفاذ ما هو واجب عليه، ويحرم عليه الرجوع عنه، ويندب له إنفاذ المندوبة بمعنى عدم رجوعه، والمباحة
ـــــــ
1 أم الولد: هي الأمة التي يتخذها سيدها للوطء، فإذا ولدت منه سميت "أم الولد". ولها أحكام خاصة، ومنها أنها تعتق بعد موت سيدها. انظر معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية "1/289، 290" ومن مصادره: شرح حدود ابن عرفة المالكي، ص "679"، والستور لأحمد بكري "1/193"2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب: الوصايا، حديث "2738"، ومسلم، كتاب الوصية، حديث "1627"، وأبو داود "2862"، والترمذي، حديث "974"، والنسائي، حديث "3616".
يباح له الرجوع عنها، وأما متولي أمر التركة بعد موت الموصي فيجب عليه تنفيذ حتى المباحة والمكروهة، كالإيصاء بالقراءة على قبره، وكالإيصاء ببناء قبة عليه لغير المباهاة، وكالإيصاء بالحج عنه، أو الإيصاء بعمل مولد بعد موته له أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من صلحاء المسلمين"تنبيهات" الأول: تعبير المصنف بمن له مال يشمل الصغير المميز والكبير والسفيه المسلم أو الكافر، فيوافق قول خليل: صح إيصاء حر مميز مالك وإن سفيها وصغيرا وكافرا إلا بكخمر لمسلم، فدل ذلك على أن شرط صحته الحرية والتمييز والملك لما أوصى به، ولا يشترط بلوغ ولا رشد، وإنما يشترط فيه إن كان صبيا بلوغه عشر سنين فما قاربها، وأن يكون ضابطا بحيث لا يخلط في وصيته، وقيل معنى الضبط أن يوصي بما فيه قربة وإن صحت وصية الصبي المذكور والسفيه مع تبذيره لأن الحجر عليهما لحق أنفسهما، فلو حجر عليهما في الوصية لكان الحجر لحق الغيرالثاني: لم يبين المصنف الموصى له وهو من يصح تملكه للموصى به شرعا حالا أو مالا ولو حكما، فيدخل الإيصاء للحمل ويستحق إن استهل وإلا بطلت، وغلة الموصى به قبل استهلاله لورثة الموصي بالكسر، وتصح للميت حيث علم الموصي بموته، وتصرف في دينه إن كان عليه دين أو تدفع لورثته، وأما إن لم يعلم بموته فتكون باطلة، ويدخل بقولي ولو حكما الإيصاء لنحو المسجد أو القنطرة، ويخرج بقولي شرعا إيصاء الكافر بالخمر أو الخنزير لمسلم فلا تصح وإن صحت منه بذلك لكافرالثالث: لم يبين المصنف صيغتها وهي كل ما يفهم منه الوصية من لفظ أو إشارة ولو من قادر على الكلام أو خط، ولكن لا يجب تنفيذها إلا بإشهاد الموصي عليها لأن له الرجوع عنها ما دام حيا كما يأتي في كلامه؟ قال خليل: وإن ثبت أن عقدها خطه أو قرأها ولم يشهد أو لم يقل أنفذوها لم تنفذ ولهم الشهادة حيث أشهدهم، ولو لم يقرأ عليهم الكتاب ولا فتحه لهم، ولا يضر بقاء الوصية عنده حتى مات حيث أشهدهم على ما فيها أو قال لهم: أنفذوا وصيتيثم شرع في بيان من لا تصح له بقوله: "ولا وصية" صحيحة "لوارث" الموصي حين موته لا حين الإيصاءقال خليل: والوارث يصير غير وارث وعكسه المعتبر ماله فتصح لابن الوارث لأنه محجوب بالوارث، كما تصح لأخيه إذا طرأ له من يحجبه حجب حرمان وقدرنا متعلق المجرور صحيحه لأن المعتمد أن الوصية للوارث باطلة ولو بأقل من الثلث، وإن أجازها
الوارث كانت ابتداء عطية منه، ومثل الوصية للوارث الوصية لبعض عبيد الورثة حيث كانت بشيء له بال، بخلافها لعبد الوارث المتحد فتصح حيث كان يجوز جمع المال أو وقعت بتافه أو قصد به العبدقال خليل: وتصح لعبد وارثه إن اتحدا وبتافه أريد به العبد، والدليل على ما قاله المصنف قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" 1"تنبيه" كما تبطل الوصية للوارث تبطل أيضا بارتداد الموصي أو الموصى له ولو رجع المرتد للإسلامقال خليل بالعطف على ما تسقطه الردة: وإحصانا ووصية إلا أن يكون بكتاب فتصح على قول أصبغ، وكذا تبطل إذا وقعت بمعصية كالإيصاء بشيء لمن يشرب به خمرا، أو بشيء لمن يصلي أو يصوم به عن الميت ويرجع ميراثا، بخلاف الإيصاء بالمكروه كالإيصاء بضرب قبة لا بقصد المباهاة أو بفعل ضحية أو نحو ذلك مما هو مكروه فإنها لا تبطل ويجب تنفيذهاثم بين مخرج الوصية بقوله: "والوصايا" الصحيحة الواجبة التنفيذ "خارجة" أي مصروفة للموصى له "من الثلث" فلا يجوز الإيصاء بأكثر من الثلث، فإن وقع وأوصى بأكثر لم تصح. "ويرد" بمعنى يبطل "ما زاد عليه" أي الثلث ولو كان الزائد شيئا يسيرا. "إلا أن تجيزه الورثة" البالغون الرشداء فتكون الإجازة ابتداء عطية منهم لأن الحق انتقل لهم، وإن أجاز البعض دون البعض مضت حصة المجيز وردت حصة الممتنع له"تنبيهات" الأول: قول المصنف: والوصايا خارجة من الثلث ظاهره من ثلث جميع مال الموصي المعلوم له حين الوصية والمجهول له وليس كذلك، بل لا تخرج إلا من ثلث ما علم به قبل موته ولو حصل له العلم به بعد الوصية، وأما الذي لم يعلم به فلا تدخل فيه، وسواء وقعت في الصحة أو في المرض، بخلاف المدبر ففيه تفصيل بين كون تدبيره في المرض فيكون كالوصية، وفي الصحة فيكون في الثلث المعلوم والمجهول كصداق الزوجة المنكوحة في المرضقال خليل: وهي ومدبر إن كان فمرض فيما علم، والفرق بين مدبر الصحة والوصية أن عقد
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داو، كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث، حديث "2870"، والترمذي، حديث "2120"، والنسائي، حديث "3641"، وابن ماجه، حديث "2713"، وأحمد "5/267"، حديث "22348"، وصححه الألباني "صحيح الجامع 1720".
التدبير لازم، بخلاف الوصية عقدها منحل له الرجوع فيها ما دام حيا، ولو شرط عدم الرجوع على ما قال بعض:
الثاني: أشعر قول المصنف: برد ما زاد بعدم رد الثلث كما يشعر بأن الورثة ليس لها رد الجميع، بخلاف الزوج تتبرع زوجته بأكثر فله رد الجميع على المشهور، وفرق بين تبرعها وزائد الوصية بأن الزوجة قد تقصد بتبرعها بالزائد ضرر زوجها بخلاف الموصي، وبأن الزوجة لو رد زوجها جميع تبرعها يمكنها التبرع بثلثها، بخلاف المريض قد يدركه الموت سريعا بعد الوصية فلا يمكنه الإيصاء بعد رد الجميع فيفوت القصد من الوصيةالثالث: لم يعلم من كلام المصنف هل المعتبر ثلث الموصى حين الإيصاء أو حين الموت؟ وبينه غيره بأن المعتبر ثلثه يوم الموت، لأن الوصي له لا يملك الموصى له إلا بعد موت الموصي لكن لا بد من مراعاة يوم التنفيذ، فإذا كان المال كثيرا يوم الموت بحيث يحمل ثلثه المال الموصى به وطرأ عليه بعد الموت وقبل التنفيذ نحو جائحة حتى قل فلا يلزم إلا ثلث الباقي، ولا فرق في ذلك بين وصية المرض والصحة"خاتمة" الوصية بالثلث من خصائص هذه الأمة وحكمة مشروعيتها التزود للدار الآخرةثم شرع يتكلم على ما يبدأ على غيره عند ضيق الثلث عن حمل جميع ما يخرج من الثلث بقوله: "والعتق" الموصى به لعبد "بعينه" وهو يشمل ما كان عنده وأوصى بعتقه كأعتقوا عبدي مرزوقا، ويشمل ما أوصى بشرائه كاشتروا عبد فلان المعين واعتقوه، ويشمل ما أوصى بعتقه ناجزا أو إلى شهر بعد موته، ويشمل ما أوصى بعتقه مجانا أو على مال وعجله أو بكتابته وعجلها. "مبدأ عليها" أي على الوصية بالمال أو بكتابة عبد أو عتقه على مال ومات الموصي قبل دفع الكتابة والمال ولم يحمل الثلث الجميع، وليس المراد أن عتق العبد المعين مبدأ على جميع الوصايا. "والمدبر في الصحة مبدأ" عند الضيق "على ما" أوصى به. "في" حال "المرض من عتق وغيره" لأن تدبير الصحة لازم بخلافه في المرض فإنه منحل "و" كذا يقدم المدبر في الصحة أيضا "على ما فرط فيه من الزكاة" حتى مات "فأوصى به" أي بإخراجه "فإن ذلك" المفرط فيه يكون "في ثلثه مبدأ على الوصايا" فإن لم يوص به لم يخرج من الثلث، وقوله: "ومدبر الصحة مبدأ عليه" أي على ما فرط فيه من زكاة العين وأوصى بإخراجه محض تكرار مع ما قبله ارتكبه لزيادة الإيضاح، وهذا ما لم يعترف بحلول ما فرط فيه وبقائه في ذمته ويوصي بإخراجه وإلا أخرج من رأس المال، ومثل ذلك لو أشهد في حال صحته بحلولها وبقائها في
ذمته، ومفهوم فأوصى به أنه لو اعترف بالتفريط ولم يوص بالإخراج لم يخرج من ثلث ولا رأس مال، ومفهوم فرط أن زكاة عامه الذي مات فيه ليس حكمها كذلك، وحكمها أنه اعترف بحلولها وعرفه غيره من الناس ولو واحدا أو أوصى بها فإنها تخرج من رأس المال، وإن لم يوص بها لم تخرج لا من ثلث ولا رأس مال وتؤمر الورثة بإخراجها من غير قضاء، وأما إن لم يعرف حلولها إلا منه فإن أوصى بها أخرجت من الثلث وإلا لم يخرج ولا من الثلث لاحتمال أن يكون أخرجها، والصور أربع في زكاة العين، وأما زكاة الحرث والماشية فمتى اعترف بحلولها أخرجت من رأس المال أوصى بها أم لا، شاركه غيره في معرفة حلولها أم لا، والفرق بين زكاة العين وغيرها أن زكاة العين قد يخرجها ولا يطلع أحد على ذلك فلذلك لا يجب إخراجها إلا إذا أوصى به، بخلاف الحرث والماشية"تنبيه" قد قدمنا أن العتق لعبد معين إنما يبدأ على بعض الوصايا لا على جميعها خلافا لظاهر كلام المصنف، وبين العلامة خليل الذي يقدم منها على الإطلاق مع بيان ترتيبها بقوله: وقدم لضيق الثلث فك الأسير الذي أوصى بفدائه، ثم مدبر الصحة، ثم صداق المريض، ثم زكاة أوصى بها إلا أن يعترف بحلولها ويوصي فمن رأس المال كالحرث والماشية وإن لم يوص، ثم زكاة الفطر، ثم عتق ظهار وقتل وأقرع بينهما إن لم يسعهما، ثم كفارة يمين، ثم كفارة فطر رمضان، ثم كفارة التفريط في قضائه، ثم النذر ثم العتق المبتل في المرض والمدبر فيه، ثم الموصى بعتقه معينا عنده أو يشتري أو لكشهر أو بما فعجله، ثم الموصى بكتابته والمعتق بمال والمعتق لأجل بعد، ثم العتق لسنة ثم المعتق لأكثر منها ثم عتق لم يعين، ثم حج إلا لضرورة فيتحاصان، ثم عتق لم يعين ومعين غيره وجزئه، وإنما ترك المصنف ذلك روما للاختصارثم شرع في بيان أحكام الوصايا المتحدة الرتبة ويضيق الثلث عن حملها بقوله: "وإذا ضاق الثلث" أي لم يسع جميع ما أوصى به "تحاص أهل الوصايا التي لا تبدئة فيها" كما تتحاص غرماء المفلس في المال الذي يتحصل من أثمان ما يبع عليه، فإنه يقسم بينهم بنسبة ديونهم بعضها لبعض، والوصايا التي لا تبدئة فيها هي التي لم يرتبها الموصي ولا الشارع، كأن يوصي لشخص بنصف ماله مثلا ولآخر بثلثه، وإن أجازت الورثة الوصيتين فلا إشكال في أخذ أحدهما نصفه والآخر ثلثه، لأن مقام النصف من اثنين والثلث من ثلاثة وهم متباينان، فيضرب أحدهما في الآخر بستة، هذا حاصل مخرج الوصيتين لصاحب النصف ثلاثة والثلث اثنان
والباقي واحد للورثة، وإن لم تجز الورثة الزائد اقتسما الثلث على النصف والثلث وهما متباينان ومقامهما من ستة لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان وذلك خمسة وهي المحاصة فاجعلها ثلث المال يكون المال خمسة عشر، خمسة للموصى لهم للموصى له بالنصف ثلاثة والموصى له بالثلث اثنان وتبقى عشرة لأهل الفريضة، وكأن يوصي لرجل بنصف ماله ولآخر بربعه فإنك تأخذ مقام النصف ومقام الربع وتنظر بينهما فتجدهما متداخلين فتكتفي بالأربعة فتأخذ نصفها وربعها يكون المجموع ثلاثة، تقسم بينهما على ثلاثة أسهم لصاحب الربع سهم وللآخر سهمان، وإن أوصى لشخص بثلث ماله ولآخر بربعه فالثلث بينهما على سبعة أسهم، لصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة على هذا القياس، ومما يقع فيه التحاصص النذر ومبتل المريض إذا ضاق الثلث عن حملها، بخلاف ما إذا ضاق الثلث عن كفارة الظهار والقتل فإنهما لا ترتيب بينهما ولكن لا يتحاصان وإنما يقرع بينهما بخلاف غيرهما من متحدي الرتبة، لأن تقديم أحدهما على غيره ترجيح بلا مرجح وعدم التحاصص لأن الكفارة لا تتبعض بخلاف ما سبقولما كانت العطية تلزم بمجرد القول والوصية لا تلزم نبه على ذلك بقوله: "وللرجل" المراد الموصي مطلقا "الرجوع عن وصيته من عتق وغيره" مما ليس بواجب عليه، ولا فرق بين الحاصلة في الصحة أو المرض في انحلال عقدها فهي بمنزلة الوعد، والوعد لا يلزم الوفاء به وإنما يستحب فقط، وصفة الرجوع أن يقول: رجعت عن وصيتي أو نسختهاقال خليل عاطفا على ما تبطل به وبرجوع فيها وإن يمرض بقول أو بيع أو عتق أو كتابة وبإيلاد وحصد زرع ونسج غزل وصوغ فضة وحشو قطن وذبح شاة وتفصيل شقة، وظاهر كلام المصنف كخليل أن للموصي الرجوع عن وصيته ولو شرط لنفسه عدم الرجوع فيها وبه العمل، وصحح بعض العلماء بالشرط، وليس من الوصية ما تبله المريض في مرضه من صدقة أو هبة أو حبس فإنه لازم لا رجوع له فيه، وقولنا: مما ليس بواجب عليه للاحتراز عن الإيصاء بإخراج ما عليه من الزكوات والديون التي لا شاهد عليها، وإنما علمت باعترافه وإيصائه بإخراجها، فلا يجوز له الرجوع فيها لاعترافه بوجوبها عليه"تتمة" تكلم المصنف على نوع من الوصية وهو ما أوجب حقا في ثلث العاقد، وسكت عن النوع الثاني وهو ما أوجب النيابة عن الموصي بعد موته كإيصائه على أولاده وصيغتها: إن قصرت عمت كاشهدوا على أن فلانا وصي ولم يزد على ذلك، فإنه يكون وصيا عاما في جميع
الأشياء، ويزوج صغار بنيه لمصلحة والبنات إذا بلغن، وأذن بالقول: إلا أن يأمر الموصي بالإجبار أو يعين له الزوج لقول خليل: وجبر وصي أمره أب به أو عين له الزوج وإلا فخلاف، وإذا طال لفظها بأن قال: وصيي على الشيء الفلاني فإنه تختص بذلك الذي سماهقال خليل: ووصي فقط يعم وعلى كذا يخص به، والذي يوصي على المحجور عليه الأب الرشيد أو الحاكم أو وصي الأب أو وصي الوصي، وكذا الأم لها الإيصاء على الصغير بشرط قلة المال وعدم ولي للصغير، وأن يكون المال موروثا من الأم، وشرط الموصى له أن يكون مسلما مكلفا عدلا فيه الكفاية، بمعنى القدرة على القيام بما يتعلق بالمحجور ولو أعمى، أو امرأة أو عبدا ويتصرف بإذن سيده، وليس للموصى له عزل نفسه بعد القبول وموت الموصي وإنما يعزله الفسق والعجز، هذا حكم وصي النظر، وأما الوصي على عتق عبد أو تفرقة ثلثه فإنه لا يشترط فيه العدالة كما نبه عليه خليل في توضيحه وسننبه عليه بعدولما فرغ من الكلام على الوصية شرع في ثاني الأبواب المترجم لها وهو التدبير بقوله: "والتدبير" مأخوذ من إدبار الحياة، ودبر كل شيء ما وراءه فهو بسكون الباء وضمها والجارحة بالضم لا غير، وقال أهل اللغة: التدبير عتق العبد عن دبر صاحبه، ومعناه شرعا قال ابن عرفة: عقد يوجب عقد مملوك من ثلث مالكه بعد موته بعقد لازم، فقوله: بعد موته يخرج به الملتزم العتق في المرض المبتل فيه فإنه لازم له إذا لم يمت، وقوله: بعقد لازم يتعلق بموجب أخرج به الوصية، والمدبر هو المعتق من ثلث السيد، سمي مدبرا لأنه يعتق دبر حياة السيد وكأنه قال: إذا أقبلت على الله وأدبرت عن الدنيا فأنت حر، وحكمه أنه مستحب، دل على مشروعيته الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] ونحوه، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من الثلث"1 وأما الإجماع فقد انعقد على أنه قربة وله أركان ثلاثة: المدبر بالكسر وشرطه البلوغ والعقل والرشدقال خليل: التدبير تعلق مكلف رشيد وإن زوجة في زائد الثلث العتق بموته لا على وجه الوصية، فلا ينفذ تدبير صبي ولا مجنون ولا سفيه ولا مدين، والأقرب لزومه للسكران كعتقه
ـــــــ
1 موضوع: أخرجه البيهقي في الكبرى "10/313"، وابن أبي شيبة في مصنفه "4/390"، حديث "21364"، وعبد الرزاق في مصنفه "9/143"، وقال الألباني في الإرواء "6/177": موضوع أخرجه الدار قطني بإسنادهما عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث" وضعفاه، وصححا وقفه على ابن عمر، وقد تكلمت على الحديث وبينت وضعه في الضعيفة "164".
على المشهور، وإنما لزمت الصبي والسفيه الوصية استحسانا، ولأن للموصي الرجوع ولأن الحجر عليهما لحق أنفسهما، والمكلف يشمل المسلم والكافر فيصح تدبير الكافر لعبده المسلم ويلزمه ويؤجر له ويكون ولاؤه للمسلمين، إلا أن يكون للكافر قريب مسلم فيكون الولاء له، إلا أن يسلم السيد فيرجع له الولاء، بخلاف ما لو كان قريبه كافرا قبل التدبير يستحق ولاءه بل يستمر للمسلمين، وأما تدبير الكافر عبده الكافر فلا يلزمه وله الرجوع عنه. الركن
الثاني: المدبر بفتح الباء وهو كل من فيه شائبة رق من عبد أو امرأة مملوكة للمدبر بكسر الباء، فإن دبر أحد شريكين تقاوياه، فإن صار كله مدبرا وإلا صار كله رقيقا. الركن
الثالث: الصيغة وهي كل ما يفهم منه التدبير وهي على قسمين: صريحة وكفاية، فالصريحة "أن يقول الرجل" المراد مطلق المكلف الرشيد "لعبده" أي رقيقه "أنت مدبر" أو دبرتك "أو" يقول "أنت حر عن دبر مني" أو أنت عتيق عن دبر مني ونحوه من كل ما يفهم منه تعليق العتق على موته لا على وجه الوصية بل على وجه التحتم واللزوم، بخلاف تقييده بوجه مخصوص كقوله: إن مت من مرضي هذا أو سفري هذا فهذا وصية لا تدبير، وبخلاف ما إذا قال بعد الصيغة الصريحة: ما لم أرجع عنه أو ما لم أغير ذلك فإنه ينقلب وصية، والكفاية أن يقول المالك في صحته: أنت حر بعد موتي ولم يقيد بيوم ولا شهر أو يوم أموت، ونحو ذلك من كل ما كان المعلق عليه يحتمل الوقوع وعدمه، فهذا وصية لا تدبير إلا أن يريد به التدبير "ثم" إذا وقع التدبير مستوفيا لشروطه التي ذكرناها فإنه يكون لازما "لا يجوز له" أي للمدبر بكسر الباء "بيعه" ولا هبته لوقوعه عقده لازما وبيعه ذريعة لإرقاقه والشارع متشوف للحرية، والدليل على حرمة بيعه وهبته قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من الثلث"1 وإذا وقع بيعه فإنه يفسخ إلا أن يكون المشتري قد أعتقه فإنه يمضي بيعه وعتقه الواقع بعده ويكون الولاء للمشتري، هذا هو المشهور، ولا يقال بشكل على حرمة البيع جواز المقاواة إذا دبر أحد الشريكين حصته وفيها بيع المدبر، لأن جواز المقاواة مستثنى من حرمة بيع المدبر مع احتمال صيرورته مدبر الجميع أيضاـــــــ
1 موضوع: اخرجه البيهقي في الكبرى "10/313"، وابن أبي شيبة في مصنفه "4/309"، حديث "21364"، عبد الرزاق في مصنفه "9/143" بلفظ: "المدبر لا يباع" قال الألباني في الإرواء "6/177": موضوع أخرجه الدارقطني والبيهقي بإسنادهما عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: "المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث" وضعفاه، وصححا وقفه على ابن عمر وقد تكملت على الحديث وبينت وضعفه في الضعيفة "164".
"تنبيه" محل حرمة بيع المدبر ما لم يتبين دين على السيد تداينه قبل التدبير وليس عنده ما يجعله في الدين، وإلا جاز بيعه ولو في حياة السيد، وأما الدين المتأخر عن التدبير فلا يباع فيه المدبر في حياة السيد ويباع فيه بعد موتهقال الأجهوري: ويبطل التدبير دين سبقا إن سيد حيا وإلا مطلقا وإنما بطل التدبير بالدين المتأخر بعد موت السيد لما تقدم من أن المدبر لا يعتق إلا من الثلث، ولما كان المدبر في حياة سيده على حكم الرقيق في خدمته وشهادته وعدم حد قاذفه وعدم قتل قاتله الحر قال: "وله" أي سيد المدبر "خدمته" فيستخدمه أو يؤجره لأنه على ملكه "إلى أن يموت فيعتق حينئذ" مات سيده مليا من ثلثه "وله" أي سيد المدبر أيضا "انتزاع ماله" أي المدبر "ما لم يمرض" أي السيد مرضا مخوفا وإلا حرم عليه انتزاع ماله لأنه حينئذ ينتزع لغيره، وهذا فيما استعاده من هبة أو صدقة أو وصية أو صداق إن كان المدبر أنثى، وأما ما استفاده المدبر من عمل يده وخراجه أو أرش جنايته عليه فإنه يجوز لسيده انتزاعه ولو مرض لأنه من أمواله"تنبيه" مثل المدبر في عدم جواز انتزاع ماله أم الولد، فلا يجوز لسيدها إذا مرض انتزاع مالها، والمعتق لأجل وقد قرب الأجل، والمكاتب مطلقا، والمعتق بعضه، والمأذون له في التجارة إذا صار مدينا"و" كما يملك السيد خدمة مدبرة في حياته يجوز "له وطؤها" أي النسمة المدبرة "إن كانت أمة" لأن المدبر على ملك سيده إلى الموت والعتق، وإذا حملت المدبرة من وطء سيدها صارت أم ولد تعتق من رأس المال، وإذا لم تحمل تعتق من الثلث"تنبيه" لم يتكلم المصنف على حكم رهن المدبر وكتابته والحكم جواز كتابته، لأن المحرم إنما هو إخراجه لغير حرية كبيعه، وأما رهنه فإن كان على أن يباع للغرماء في حياة السيد في الدين السابق على التدبير لا المتأخر فإنه يجوز، وأما على أن لا يباع إلا بعد موت السيد فإنه يجوز ولو في الدين المتأخر عن التدبيرولما كانت المعتقة لأجل قد أشرفت على الحرية بخلاف المدبرة قال: "ولا" يحل للسيد أن "يطأ" أمته "المعتقة إلى أجل" وهي التي قال لها سيدها: اخدمي وأنت حرة بعد سنة أو سنتين مثلا، وإنما حرم وطؤها لاحتمال انقضاء الأجل قبل موته فتخرج حرة فيشبه وطؤه لها نكاح المتعة، وإن اقتحم السيد النهي ووطئها أدب ولا يحد ويلحق به الولد وتكون به أم ولد،
ويعجل عتقها وقيل لا يعجل لبقاء أرش الجناية عليها له إن جرحت وقيمتها إن قتلت، ولا يجوز له وطؤها سواء عجل عتقها أو بقيت إلى أجلها. "و" كما لا يحل للسيد وطء المعتقة لأجل "لا يبيعها" ولا يتصدق بها لإشرافها على الحرية. "وله" أي سيد المعتقة لأجل "أن يستخدمها" لبقائها على ملكه حتى ينقضي الأجل. "وله" أي السيد "أن ينتزع مالها" الذي استفادته من هبة أو صدقة. "ما لم يقرب الأجل" بالشهر وما قاربه فيحرم عليه انتزاعه، وأما ما كان من خراجها وكسبها وأرش جناية عليها فله انتزاعه وإن قرب الأجل، وإنما أقحم الكلام على أحكام المعتقة لأجل من خلاف أحكام المدبر لما بينهما من المناسبة في بعض الأحكامثم شرع في صفة إخراج المدبر وعتقه من الثلث وصفة عتق المعتق لأجل أيضا بقوله: "وإذا مات" السيد "فالمدبر حر" إذا خرج "من ثلثه" بأن كان مال السيد كثيرا ولا دين يستغرق قيمته وإلا رجع رقيقا، ولو كان الدين متأخرا عن التدبير، وشرط عتق المدبر أن لا يقتل سيده وإلا لم يعتققال خليل: وبطل التدبير وبقتل سيده عمدا وباستغراق الدين له وللتركة وبعضه بمجاوزة الثلث، وصفة خروجه من الثلث أن يقوم مع ماله لأنه صفة من صفاته كطوله، والعبرة بيوم النظر لا بيوم موت السيد، فيقال كم يساوي على أن له من المال كذا فتارة يحمله الثلث فيعتق كله، كما إذا كان ماله مائة وقيمته مائة وترك السيد أربعمائة ويقر ماله بيده، وتارة يحمل الثلث بعضه فإن ذلك البعض يصير حرا ويرق باقيه ويترك ماله بيده ملكا له ليس للسيد ولا لورثته فيه شيء لأنه مال مبعض والمبعض لا ينتزع ماله، مثاله لو كانت قيمته مائة وماله مائة وترك سيده مائة فإنه يعتق نصفه ويترك ماله بيده لأن قيمته بماله مائتان وثلث السيد مائة وهي نصف المائتين اللتين هما قيمته بمالهقال خليل: وقوم بماله فإن لم يحمل الثلث إلا بعضه عتق وأقر ماله بيده"تنبيهان" الأول: أطلق المصنف في الثلث، فظاهره شمول ثلث المال المعلوم للسيد قبل موته والمجهول له وهو كذلك لكن بالنسبة للمدبر في الصحة، وأما المدبر في المرض فإنما يخرج من ثلث الذي علم به قبل موته لا ما كان مجهولا لهالثاني: إنما قيدنا بيوم النظر للاحتراز عما لو ملك بعض ماله بعد الموت وقبل التنفيذ فإنما ينظر للباقي منه، وإذا كان المال الموجود عند السيد لا يحمل المدبر وله دين مؤجل على حاضر موسر فإنه يباع بالنقد، وإن قربت غيبته استوفى بقبضه ولا بيع المدبر إن أراد الوارث
بيعه، فإن حضر الغائب أو أيسر المعدم بعد بيعه عتق منه حيث كان، ولو كان الذي اشتراه قد أعتقه لأنه يرجع من عتق إلى عتق، بخلاف ما لو كان يرجع مدبرا فإنه لا ينقض عتقه"و" إذا انقضى أجل "المعتق إلى أجل" فإنه يخرج حرا "من رأس المال" المملوك للسيد فليس كالمدبر، والفرق أن التدبير جار مجرى الوصية فلا يخرج إلا من الثلث، وأما العتق إلى أجل فهو لازم فلذا أخرج من رأس المالثم شرع في ثالث الأبواب المترجم لها وهو الكتابة وهي مشتقة إما من الأجل المضروب أو من الإلزام لقوله تعالى: {إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] أي أجل مقدر، ولقوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أي إلزامكم كإلزام الذين من قبلكم، وعرفها ابن عرفة بقوله: عتق على مال مؤجل من العبد موقوف على أدائه، فيخرج العتق على مال معجل، ويخرج العتق على مال مؤجل من أجنبي، ويخرج العتق على غير مال وهو العتق المبتل والعتق إلى أجل، وقوله: مؤجل أخرج به القطاعة وهي العتق على مال يدفعه العبد لسيده ليعتقه سريعا، وقوله: موقوف على أدائه لإخراج العتق الناجز على مال يدفعه العبد إلى سيده بعد أجل فإنه ليس من الكتابة بقوله: "والمكاتب" حكمه حكم "عبد ما بقي عليه شيء" من نجوم الكتابة، وبدأ بذلك قبل بيان حكم الكتابة لأنه كالدليل عليها لأنه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابة درهم" 1 وهذا من التشبيه البليغ، إلا أن المكاتب أحرز نفسه وماله فلا يحجز عليه في التصرفات المقتضية لتنمية المال، بخلاف أنواع التبرعات كالهبة والصدقة والعتق ونحوها مما فيه إضاعة للمالوأشار إلى حكمها بقوله: "والكتابة" وهي عتق المكلف الرشيد عبده "جائزة على ما رضيه العبد والسيد من المال" حالة كونه "منجما" أي مؤجلا لأن التنجيم التأجيل بأن يقول السيد لعبده: تدفع إلى كل نجم بعد شهرين أو ثلاثة. "قلت النجوم أو كثرت" وظاهر كلام المصنف كالمدونة اشتراط التنجيم ففيها والكتابة عند الناس منجمة، والمراد بالناس الصحابة والتابعون، ولعل المصنف اعتمد على ظاهرها وعلى قول الجواهر، وشرط العوض أن يكون منجماقال الأستاذ أبو بكر: ظاهر قول مالك أن التنجيم شرط وهو خلاف المشهور كما في المقدمات لابن رشد أنها تجوز عند مالك حالة ومؤجلة فإن وقعت مسكوتا عنها أجلت، وأما
ـــــــ
1 حسن: اخرجه أبو داود، كتاب العتق، باب: في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت، حديث "3926"، ومالك في الموطأ "2/787"، حديث "1486"، وحسنه الألباني "صحيح الجامع "6722".
لو شرط تعجيل المال لم تسم كتابة بل قطاعة لما تقدم في حدها من أنها العتق على معجل من العبد إلخ"تنبيهات" الأول: ظاهر تعبير المصنف بالنجوم اشتراط تعددها وليس كذلك المعتمد كما قاله الأجهوري صحة جعلها نجما واحداالثاني: قول المصنف جائزة هنا مما لا خلاف فيه دل على مشروعيتها الكتاب والسنة وإجماع الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] وأما السنة فالحديث المتقدم، وأما الإجماع فقد نقله العلماء والمراد بالجواز الندبقال خليل: ندب مكاتبة أهل تبرع ومحل الندب حيث كان العبد له قدرة على الكسب، وأما مكاتبة الصغير ومن لا مال له فجائزة من غير ندب بناء على جبر الرقيق على الكتابة،
فإن قيل: قول الله تعالى: فكاتبوهم إلخ يقتضي وجوبها، فالجواب أنه صرف الأمر عن الوجوب إلى الندب الرفق بالسادات، لأنه لو حمل على الوجوب لتسلطت العبيد على السادات فيضربهمالثالث: أركان الكتابة أربعة: السيد المكلف الرشيد، فلا تصح من صبي بناء على أنها عتق ولا من مجنون ولا من محجور، وأما الإسلام فلا يشترط على المشهور لأن مذهب المدونة صحة كتابة الكافر لعبده المسلم، وتباع عليه من مسلم ككتابة من أسلم بعد كتابته وصيغتها كل ما دل عليها: ككاتبتك بكذا، أو أنت مكاتب، أو أنت معتق على كذا، أو بعتك نفسك بكذا، والعوض ويجب تأجيله رفقا بالمكاتب، فإن وقعت من غير شرط التأجيل أجلت إلا أن يشترط تعجيله فتكون قطاعة لا كتابة وهي جائزة، ويجوز فيه الغرر كالآبق والشارد، وعلى عبد فلان غير الآبق كعلى جنين في بطن أمة المكاتب لا بخمر ولا خنزير ولا لؤلؤ لم يوصف، فإن وقعت بشيء من ذلك مضت ويرجع لكتابة المثل والركن الرابع المكاتب بفتح التاء وله شرطان: أحدهما أن يكون له قدرة على الكسب، وأما الصغير الذي لا مال له ولا قدرة له على الأداء ففيه خلاف بين ابن القاسم وأشهب، فعند ابن القاسم لا بأس بكاتبه، وعند أشهب تمنع كتابته وتفسخ إلا أن تفوت بالأداء، والمعتمد الأول كما قدمنا، وثانيهما أن يكاتب جميعه إن كان جميعه له فلا تصح كتابة بعضه، والمشترك لا بد من رضا الشريكين، وأما معتق البعض فيجوز كتابة بعضه، الرابع في قول المصنف: على ما رضيه العبد إشارة إلى أن العبد لا يجبر على الكتابة وهو مشهور المذهب، وصدر به خليل حيث قال: ولم يجبر العبد عليها وروي عن
مالك ما يدل عليه وبنوا عليه كتابة الصغير والضعيف عن الكسب كما قدمنا، ونص ما روي عن مالك مما يدل على الجبر قولها: ومن كاتب عبده على نفسه وعلى عبد له غائب لزم العبد الغائب وإن كره لأن هذا يؤدي عنه، وسبب الخلاف كون الكتابة من باب البيع فلا يجبر عليها العبد أو من باب العتق فيجبرولما كان المكاتب عبدا ما بقي عليه درهم ولا يخرج حرا إلا بأداء جميع النجوم قال: "فإن عجز" المكاتب عن شيء من النجوم وإن قل "رجع رقيقا" إن كان قبل عقد الكتابة رقيقا، وإن كان مدبرا رجع مدبرا، فلذا كان الأحسن أن يقول: رجع لما كان عليه قبل الكتابة، وكذا يرجع رقيقا إذا غاب عند حلول الكتابة بغير إذن السيد، والحال أنه لا مال له ظاهر، وإنما يرجع رقيقا بعد الرفع للحاكم وتلومه لمن يرجو يسره"و" إن كان المكاتب قد دفع لسيده شيئا قبل عجزه "حل ما أخذه منه" لأنه مملوكه إلا أن يكون المال المدفوع من عند أجنبي لم يقصد به الصدقة وإلا لم يحل لسيدهقال خليل: وإن أعانه جماعة فإن لم يقصدوا الصدقة بأن قصدوا فكاك رقبته أو لا قصد لهم رجعوا بالفضلة على المكاتب إن خرج حرا وعلى السيد بما قبضه إن عجز، وأما إن قصدوا بما دفعوه الصدقة على المكاتب فلا يرجعون عليه بالفضلة إن أعتق ولا بما قبضه السيد إن عجز"و" أما لو أراد السيد أن يعجز المكاتب فإنه "لا يعجزه إلا السلطان بعد" تلومه لمن يرجى يسره وانقضاء مدة "التلوم" وهذا كله فيما "إذا امتنع من التعجيز" مع سيده مع عدم ظهور مال له، وأما لو أطاع سيده على التعجيز ولم يظهر له مال فإن ذلك جائز ولا يتوقف على السلطان، وكذا في عكس كلام المصنف وهو ما إذا طلب العبد التعجيز وأبى السيد فإن له أن يعجز نفسه دون السلطان، فالصور ثلاث: صورتان لا يتوقف فيهما التعجيز على رفع للسلطان، وصورة يتوقف على الرفع له، وهذا تفصيل ابن رشد، والذي ارتضاه العلامة خليل في توضيحه وهو ظاهر المدونة لا بد من السلطان فيما إذا لم يتفقا على الفسخ، وقال في مختصره: وله تعجيز نفسه إن اتفقا ولم يظهر له مال فيرق ولو ظهر له، وقيد ذلك الأجهوري بما إذا لم يكن معه في الكتابة غيره كولده، وإلا فلا يجوز له تعجيز نفسه ويجبر على السعي صاغرا"تنبيه" ما قدمناه من اشتراط التلوم في فسخ الحاكم حيث لم يكن مأيوسا من يسره كما يفهم من التقييد برجاء يسره، ولا فسخ كتابته من غير تلوم حيث لم يكن معه أحد، فكلام المصنف ليس على إطلاقه، ولما كان يتوهم أن ولد من فيها شائبة حرية ليس كهي، لأن العتق أو الكتابة
إنما وقع في الأم دون ولدهاقال: "وكل ذات" أي صاحبة "رحم فولدها" من غير سيدها "بمنزلتها" ثم بين ذات الرحم المذكورة بقوله: "من مكاتبة أو مدبرة أو معتقة إلى أجل" أو مبعضة "أو مرهونة" وإنما يكون الولد بمنزلة أمه إذا وقع عقد الكتابة وما معه على الأم وهو في بطنها وأولى الحادث بعد العقد، وأما المنفصل عن أمه قبل عقد كتابتها أو قبل تدبيرها أو عتقها فلا يكون بمنزلتها، وقولنا من غير سيدها بأن كان من زوج أو زنا للاحتراز عن ابنها من سيدها فإنه حر إن كان سيدها حرا من غير خلاف إذ به اكتسبت الحرية، وإن كان سيدها رقيقا فهو رقيق بمنزلتها في جواز بيعه واستخدامه كأمه، واحترز بقوله من مكاتبة وما معها: عن الموصى بعتقها والمخدمة والمؤجرة فإن ولدهن ليس كذلك، لأن ولد المخدمة والمؤجرة لا حق للمخدم بالفتح في خدمة الولد ولا للمؤجر أيضا، أو أما الموصي بعتقها ففي ولدها تفصيل بين ما تلده في حياة السيد لا يدخل معها والذي تلده بعد موته فيعتق معها، وأما الموصي بذاتها لشخص وهي حامل ومثلها الموهوبة والمتصدق بها فإنه يدخل معها إلا أن يستثنيه سيدها فلا يدخل معها لصحة استثنائه في هذه المذكورات، بخلاف لو أعتقها أو باعها وهي حامل فيدخل معها ولا يصح استثناؤه"تنبيه" المأخوذ من بيان تلك الكلية بالمكاتبة وما معها تخصيص ذلك بالآدمية، وأما ذات الرحم غير الآدمية فتارة يكون ولدها بمنزلتها في الحكم الثابت لها كنتاج حمارة أو خنزيرة على صورة بهيمة الأنعام فإنه لا يؤكل إلحاقا له بالأم، وتارة لا يكون بمنزلتها كنتاج ذات رحم من الأنعام من فحل وحشي فإنهم لم يوجبوا فيه زكاة ولم يجتزوا به في الضحية"و" كذلك "ولد أم الولد من غير السيد" يجب أن يكون "بمنزلتها" اتفاقا فيعتق من رأس المال في عدم جواز بيعه لا في الخدمة فإن له فيه كثير الخدمة، بخلاف أمه فإن له فيها فوق ما يلزم الزوجة ودون ما يلزم القنة، وأما ولدها من سيدها الحر فهو حر من غير خلاف، وفهم من قوله: ولد أم الولد أن الكلام في الولد الذي حدث لها بعد ولادتها من سيدها، وأما من ولدته من غير سيدها كزوج أو زان أو سيد رقيق قبل صيرورتها أم ولد فهو رقيق قطعاولما كان العبد يملك عندنا بين غاية ملكه بقوله: "ومال العبد" القن "له إلا أن ينتزعه السيد" فيصير ملكا ويحل له وطؤها إن كانت أمة ويخاطب بزكاته إن كان مما يزكى "فإن أعتقه" أي القن الذي للسيد انتزاع ماله "أو كاتبه، و" الحال أنه "لم يستثن ماله فليس له" حينئذ "أن ينتزعه" لأن مال العبد يتبعه في العتق وإن كثر دون البيع فإنه لا يتبعه إلا بالشرط، والدليل على ما ذكره
المصنف قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق عبدا وله مال تبعه ماله إلا أن يشترطه سيده" 1 وحينئذ فليس للسيد انتزاع مال المكاتبقال ابن الحاجب: ولا يباع مكاتب ولا ينتزع مالهقال خليل في توضيحه: هذا مذهبنا. قال في المدونة: ولو رضي لأن الولاء قد ثبت لعاقد الكتابة، والولاء لا يجوز نقله ويحرم نزع ماله سواء الذي اكتسبه قبل الكتابة أو بعدها، وما قيل من جواز بيعه إذا رضي بالبيع اعتمادا على بيع بريرة فمحمول على حالة العجز، لأن بريرة رضيت ببيعها حتى ساومت نفسه لعدم قدرتها على الوفاء، وإذا وقع بيع المكاتب على الوجه الممنوع فإنه يفسخ إلا أن يفوت بعتق المشتري ففي نقض عتقه خلاف"تنبيه" ما ذكره المصنف من أن ما بيد العبد له مبني على أنه يملك لكن ملكه غير تام وقيل لا يملك، وبنوا على ملكه جواز وطئه لجاريته وعدم وجوب تزكيته لما بيده لعدم كمال الملك، وبنوا على عدم الملك إذا اشترى من يعتق على سيده فإنه يعتق على سيده. "وليس له" أي السيد بمعنى يحرم عليه "وطء مكاتبته" سواء قلنا إن الكتابة بيع أو عتق لأنها أحرزت نفسها ومالها، فإن تعدى ووطئ أدب ولا حد عليه للشبهة، وإنما يؤدب إذا كان عالما بحرمة الوطء لا إن كان جاهلا أو غالطاقال خليل: وأدب إن وطئ بلا مهر وعليه نقص المكرهة وذلك فيما إذا كانت بكرا لا إن كانت ثيبا، وإن حملت خيرت في البقاء وأمومة الولد إلا لضعفاء معها أو أقوياء لم يرضوا وحط حصتها إن اختارت الأمومة، وإن اختارت البقاء على كتابتها فهي مستولدة ومكاتبة ونفقة حملها على سيدها كالمبتوتة، ثم إن أدت النجوم عتقت وإلا عتقت بموت سيدها من رأس المال"و" كل "ما حدث للمكاتب" من أمته "و" أي أو "المكاتبة من ولد" بيان لما "دخل معهما في الكتابة" من غير توقف على شرط "وعتق بعتقهما" عطف على دخل الواقع خبرا عن ما الواقعة مبتدأ، وأشعر قوله حدث أنه لم ينفصل عن ظهر أبيه إلا بعد عقد كتابته، ولم يخرج من بطن المكاتبة إلا بعد عقد الكتابة، لأن وجود الحمل في بطن الأمة بمنزلة ما في ظهر الذكر، وما انفصل من الظهر بمنزلة ما خرج من البطن، وأما الولد الذي انفصل عن ظهر المكاتب قبل عقد الكتابة وولد المكاتبة خرج من بطنها قبل عقد الكتابة فلا يدخل في الكتابة إلا بالشرط، وأما لو
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود، كتاب العتق، باب: فيمن أعتق عبداً وله مال، حديث "3962"، وابن ماجه، حديث "2529"، وصححه الألباني "صحيح الجامع 6054".
تنازع السيد مع المكاتب فقال السيد: انفصل عن ظهر أبيه قبل عقد الكتابة فيكون رقيقا أبيعه، وقال المكاتب: إنما انفصل مني بعد عقد الكتابة، فإنه ينظر إن وضعته أمه لأقل من ستة أشهر من يوم عقد الكتابة فالقول للسيد للقطع بأنه كان انفصل من ظهر أبيه قبل الكتابة، ولستة فأكثر فالقول للمكاتب، وإن أشكل لأمر فالقول للسيد، وهذا كله في ابن المكاتب من أمته، وأما ولده من زوجته فلا يدخل في الكتابة لأنه رقيق لسيد أمه إن كانت أمة، وإن كانت من حرة فهو حر تبعا لأمه، ولا يقال: هذا مكرر مع قوله فيما سبق: وكل ذات رحم فولدها بمنزلتها، لأنا نقول: المتقدم في كتابة الأم وحدها وما هنا في كتابتهما معا"وتجوز كتابة الجماعة" من العبيد فالمصدر مضاف للمفعول والمعنى: أن المالك الواحد يجوز له مكاتبة جماعة مملوكة له من العبيد بمال واحد وعقد واحد، ويجب أن توزع على قدر قوتهم على الأداء يوم الكتابة، فلا توزع على حسب الرءوس ولا على حسب قيم العبيد. "ولا يعتقون إلا بأداء الجميع" لأنهم حملا في القدر المجعول عليهم. ولو من غير شرط، بخلاف حمالة الديون تتوقف على شرط، ووجه الفرق تشوف الشارع للحرية، وأشار خليل إلى هذه المسألة بقوله عاطفا على الجائز: ومكاتبة جماعة لمالك فتوزع على قوتهم على الأداء يوم العقد وهم وإن زمن أحدهم حملا مطلقا فيؤخذ من المليء الجميع، ويرجع الدافع على المدفوع عنه إن لم يكن الدافع زوجا ولم يكن المدفوع عنه ممن يعتق على الدافع، والمراد بالزمن الذي حدثت زمانته بعد العقد، لأن من كان زمنا يوم العقد لا توزع عليه، وظاهره ولو زالت زمانته بحيث صار يقدر على الأداء ولا يسقط عنهم شيء بموت واحد ولا بفقده ولا بأسره، بخلاف لو استحق أحدهم برق أو حرية فإنه يسقط نصيبه لتبين بطلان كتابته"تنبيه" ظاهر قول المصنف: ولا يعتقون إلا بأداء الجميع ولو رضي السيد وليس كذلك، بل يجوز للسيد أن يعتق بعضهم قبل الأداء بشرطين: أحدهما أن يرضى الباقون بذلك، وثانيهما أن يكون لهم قوة على الأداء، فلو لم يكن لهم قدرة لم يجز وإن رضوا، بخلاف عتق الضعيف عن الكسب فإنه يجوز مع قوة الباقين ولو لم يرضواقال خليل: وللسيد عتق قوي منهم إن رضي الجميع وقووا، فإن رد ثم عجزوا صح عتقه، وحيث جاز عتق من له قوة بشرطه فإنه يقسط عنهم قدر حصته"تنبيه آخر" كلام المصنف في المالك الواحد، وأما الجماعة المشتركة في عبيد فأشار إليهم خليل بقوله: ومكاتبة شريكين بمال واحد لا أحدهما أو مالين أو متحد بعقدين فلا يجوز
وتفسخ، وإنما تجوز إذا كاتبوهم على مال واحد متحد في القدر والصفة والأجل ويتفقان على أن الاقتضاء واحد والعقد واحد"تنبيه آخر" لو تعددت السادات ولكل واحد عبد من غير اشتراك وأرادوا أن يكاتبوهم صفقة واحدة على مال واحد فلا تجوز تلك الكتابة إن شرطوا حمالة بعضهم عن بعض لأدائه إلى أكل الشخص مال غيره على تقدير موت واحد أو عجزه، وأما حيث لا شرط فتجوز ويجعل على كل واحد ما ينويه من جملة الكتابة، فتلخص أن جماعة العبيد صورها ثلاثة وقد علمت أحكامهاولما كان يتوهم من قولهم: المكاتب أحرز نفسه وماله أنه لا يحجر عليه في سائر التصرفات ولو غير المالية دفع هذا الإيهام بقوله: "وليس للمكاتب عتق" لرقيقه إلى عجزه إلا بإذن سيده فيصح ويكون الولاء للسيد، إلا أن يؤدي المكاتب ما عليه فيرجع له الولاء، وقال الأجهوري: الولاء له ابتداء لا للسيد، ثم قال: والحاصل أن الرقيق إذا أعتق رقيقه بإذن سيده أو بغير إذنه وأجازه بعد الوقوع فإن الولاء للمعتق إن كان السيد لا ينتزع ماله وإلا فالولاء للسيد، وأما إن أعتق بغير إذنه ولم يعلم سيده بعتقه حتى عتق أو علم وسكت فإن الولاء للمعتق لا للسيد، سواء كان للسيد انتزاع ماله أم لا. "ولا" يجوز له أيضا "إتلاف ماله" وأخذ الأموال بنحو هبة أو صدقة إلا ما خف مما جرت به العادة من نحو درهم أو كسرة لسائل ويستمر المنع "حتى يعتق" فإنه يجوز له حينئذ العتق وغيره. "ولا" يجوز له أيضا أن "يتزوج" إلا بإذن سيده ولو كان زواجه نظرا لأن زواج الرقيق عيب ولسيده رده وفسخه، ولا شيء لزوجته حيث لم يدخل بها، وبعد الدخول يترك لها ربع دينار ويرجع عليها بما زاد ولا تتبعه بالباقي إن عتق، وإنما يجوز للسيد إجازة نكاح المكاتب إذا لم يكن معه أحد، وإلا توقف على رضا من معه حيث كان كبيرا، وأما لو كان صغيرا لفسخ ولا يعتبر رضا الصغير، ومفهوم يتزوج أن التسري لا يمنع منه المكاتب بل يجوز له شراء السرية ولا كلام لسيده لأن السرية تباع بخلاف الزوجة"ولا" أي وكذا لا يجوز للمكاتب أن "يسافر السفر البعيد" الذي يحل فيه نجم قبل قدومه "بغير إذن سيده" راجع للتزوج والسفر كما قررنا، بخلاف القريب فإنه لا يحجر عليه فيه، ومحل منع السيد لمكاتبه من السفر البعيد إذ لم يكن معروفا به وإلا فلا يمنعه لدخوله على ذلك، ومفهوم العتق وما معه أنه لا يمنع من التصرفات المالية ولذا قال العلامة خليل: وللمكاتب بلا إذن بيع واشتراء ومشاركة ومقارضة ومكاتبة، واستخلاف عاقد لأمته وإسلامها أو فداؤها إن جنت بالنظر وسفر لا يحل فيه نجم وإقرار في رقبته فصوابه في ذمته، لأن الإقرار
في الرقبة يشاركه فيه غيره وإسقاط شفعته لا عتق وإن قريبا وهبة وصدقة وتزوج وإقرار بجناية خطأ وسفر بعد إلا بإذن، وإنما نص خليل على تلك الجزئيات جوازا ومنعا رفقا بالمفتي، والضابط في ذلك أن تقول: وللمكاتب التصرف بغير تبرع، ولذا قال ابن الحاجب: وتصرف المكاتب كالحر إلا في التبرع لأنه مظنة لعجزه، ولما تقدم أن المكاتب لا يعتق إلا بأداء جميع نجوم الكتابة، فإن مات قبل الأداء مات رقيقاذكر هنا أن محل هذا حيث لم يكن معه أحد في الكتابة بقوله: "وإذا مات" قبل الوفاء وعنده ما يوفي منه "وله ولد قام مقامه وأدى من ماله" أي الميت "ما بقي عليه" أي على ولده من الكتابة "حالا" من الحلول لأن بموت الشخص يحل ما كان عليه مؤجلا وتفسخ كتابتهقال خليل: وفسخت إن مات وإن عن مال إلا لولد أو غيره دخل معه بشرط أو غيره فتؤدى حالة، وحاصل المعنى: أن المكاتب إذا مات قبل وفاء نجوم الكتابة وقبل الحكم على السيد بقبضها أو قبل الإشهاد عليه بإتيانه بها ولم يقبلها في بلد لا حاكم بها فإنها تفسخ، ولو خلف ما لا يفي بها ويرثه سيده بالرق لموته قبل الحرية، إلا أن يكون معه في الكتابة ولد أو غيره فإن كتابته لا تفسخ، ولكن تحل بموته ومتعجلها للسيد من ماله ويعتق بذلك من معه في عقد الكتابة، فقول خليل: بشرط أو غيره يرجع للولد وللأجنبي معا، أما دخول الولد بالشرط فبأن يكاتب عبده وللعبد أمة حامل وقت الكتابة فإن حملها لا يدخل إلا بالشرط كما في المدونة، وأما دخوله بغير شرط فبأن ينفصل من ظهر أبيه بعد عقد كتابته، وأما دخول غير الولد بالشرط فواضح، وأما بمقتضى العقد فبأن يشتري المكاتب من يعتق عليه زمن كتابته، ففي المدونة: ولا ينبغي للمكاتب أن يشتري أباه أو ولده إلا بإذن سيده، فمن ابتاعه بإذن سيده ممن يعتق على الحر بالملك دخل معه في الكتابة، قال فيها: وصار كمن عقدت الكتابة عليه"تنبيه" علم مما قررنا أن موضوع كلام المصنف أن المكاتب مات عن مال كثير يزيد على الوفاء وأنه لا مفهوم للولد، وقوله: أدى من ماله؛ المراد وجب عليه الأداء لا أنه مخير فيه وإن قيل به. "و" إذا بقي شيء بعد الأداء "ورث من معه" في الكتابة "من ولده" أو من حكمه ومفعول ورث "ما بقي" من المتروكقال العلامة خليل: وورثه من معه فقط ممن يعتق عليه من الأولاد والآباء والإخوة، والحاصل أنه لا يرثه إلا بشرطين: فلا يرثه من ليس معه ولو ممن يعتق عليه ولا من معه ممن لا يعتق عليه كزوجة كوتبت معه أو عم، وإنما لم يرثه من في كتابة أخرى من ورثته لأن شأن
المتوارثين التساوي حال الموت، والتساوي هنا غير محقق لاحتمال أداء أصحاب أهل الكتابتين دون الأخرى، والإرث1 هنا على فرائض الله، ولذا لو كان في الكتابة ابن وأخ فالإرث للابن دون الأخ"و" مفهوم الكلام السابق أنه "إن لم يكن في المال" المتروك عن المكاتب "وفاء" بما عليه "فإن ولده" ومن في حكمه "يسعون" أي يتحرون "فيه ويؤدون" ما بقي من الكتابة "نجوما" أي على التنجيم مثل ما كان على الميت "إن كانوا كبارا" لهم قوة على السعي وأمانة على المال. "و" أما "إن كانوا صغارا" ومن في حكمهم "و" الحال أنه "ليس في المال قدر النجوم" التي تحل "إلى بلوغهم السعي رقوا سريعا" وأما لو كان فيه ما يفي بالنجوم التي تحل إلى بلوغهم القوة على السعي فإنهم لا يرقون"تنبيهات" الأول: المتبادر من قول المصنف: وإن لم يكن في المال وفاء إلخ أن سعي أولاد المكاتب مشروط بوجود متروك وليس كذلك بل الشرط قدرتهم على السعي وإن لم يكن أبوهم ترك شيئا، ويمكن أخذ ذلك من كلام المصنف لأن قوله: وإن لم يكن في المال وفاء يصدق بعدم المال أصلا، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع، وعدم الوفاء يصدق بأن يترك مالا أصلا أو ترك شيئا قليلا لا يفيالثاني: ظاهر كلامه أيضا أنه إذا لم يكن هناك من له قدرة على السعي من أولاده يرقون سريعا ولو كان له أم ولد لها قوة على السعي وليس كذلك، ففي المدونة: وإن ترك شيئا لكنه لا
ـــــــ
1 من معاني الإرث في اللغة: الأصل، والأمر القديم توارثه الآخر عن الأول، والبقية من كل شيء. وهمزته أصلها واو. ويطلق الإرث ويراد منه انتقال الشيء من قوم إلى قوم آخرين. ويطلق ويراد منه الموروث. ويقاربه على هذا الإطلاق في المعنى التركة. وعلم الميراث - ويسمى أيضاً علم الفرائض - هو علم بأصول من فقه وحساب تعرف حق كل في التركةوالإرث اصطلاحا: عرفه الشافعية والقاضي أفضل الدين الخونجي من الحنابلة بأنه: حق قابل للتجزؤ يثبت لمستحقه بعد موت من كان له ذلك لقرابة بينهما أو نحوهماوالفقهاء في المذاهب الإسلامية حين يتكلمون عن الميراث يعنونون لذلك في كتبهم بكتاب الفرائض. وقد أفرده كثير منهم بكتب مستقلة عن كتب الفقه. وابتدأ ذلك من القرن الثاني للهجرة مع ابتداء تدوين الأحكام الفقهية. ومن أول من ألف الكتب الخاصة بأحكام الفرائض في القرن الثاني والثالث ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو ثور. وكانت كتب الفقه المدونة في هذين القرنين خالية من أحكام الفرائض مثل المدونة لسحنون والجامع الكبير والجامع الصغير لمحمد بن الحسن، والأم للإمام الشافعي. وعلى الخلاف من ذلك كانت كتب السنة، فقد شملت أحكام الفرائض مع أحكام الفقه كالموطأ ومصنف ابن أبي شيبة، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. ولم تبدأ كتب الفقه تشمل أحكام الفرائض إلا في القرن الرابع، مثل رسالة ابن أبي زيد من المالكية ومختصر القدوري من الحنفية، واستمر الأمر كذلك. الموسوعة "3/17، 18".
يفي بالكتابة يدفع لولده الذي له أمانة وقوة على السعي، وإن لم يكن له قوة أو لا أمانة له ولم يكن في المال ما يبلغهم السعي، فإن كان مع الولد أم ولد لها قوة وأمانة دفع لها إن رجا لها قوة على سعي بقية الكتابة، وإن لم يكن في أم الولد قوة بيعت وضم ثمنها إلى التركة فتؤدي النجوم إلى بلوغ السعي، وإن لم يكن من ذلك شيء رقوا كلهمالثالث: علم مما قررنا به كلام المؤلف أنه لا مفهوم للولد، بل كل من كان مع الميت في الكتابة وله قدرة وأمانة يدفع له المال ويسعى، وإذا آل الأمر إلى بيع أم الولد هنا فقال مالك في المدونة: للولد بيع من فيه نجاحهم من أمهات الأولاد سواء كانت أمهم أو غيرها، وقال ابن القاسم: أرى أن لا يبيع أمه إذا كان في بيع سواها ما يعينه، ثم شرط في مفهوم قوله: ورثه من معه من ولده بقوله: "وإن لم يكن له" أي المكاتب "وله معه في الكتابة" ولا غيره ممن يرثه وترك مالا ولو كان فيه الوفاء "ورثه سيده" المراد أخذه سيده ملكاقال ابن الحاجب: ولا يرث منه من ليس معه في الكتابة شيئا ولو كان حرا، ولا أولاده المكاتبون في كتابة أخرى، لأن المكاتب عبد والعبد لا يرث ولا يورث، فإطلاق الإرث على أخذ السيد مال عبده مجاز"تتمة" تشتمل على مسألتين: إحداهما: لو أدى المكاتب نجوم الكتابة وخرج حرا ثم عرض للعوض استحقاقا أو رد بعيب فإن العتق يستمر ويرجع السيد بمثل العوض الموصوف ولو مقوما في الاستحقاق، والرد بالعيب وإن كان معينا فيرجع بمثل المثلى ولو لم يكن له فيما دفع شبهة، وإن كان مقوما يرجع بقيمته إن كان له مال أو له فيما دفع شبهة وإلا رجع بحاله قبل العتق. الثانية: القطاعة تخالف الكتابة في الحلول والتأجيل، فالكتابة المال فيها مؤجل، والقطاعة العتق على مال معجل، ولها صورتان: إحداهما أن يعتق عبده ابتداء على مال يعجله العبد له، الثانية: أن يكاتبه ابتداء على مال مؤجل ثم يفسخه في شيء يعجله له وحكمها في توقف العتق على أداء المال كالكتابةولما فرغ من الكلام على الكتابة شرع في الكلام على أم الولد، والأم في اللغة أصل الشيء وتجمع على أمات، وأصل أم أمهة ولذلك تجمع على أمهات، وقيل الأمات للنعم والأمهات للناس، وأم الولد في اللغة كل من لها ولد، وهي في استعمال الفقهاء خاصة بالأمة التي ولدت من سيدها ولذلك قال ابن عرفة: هي الحر حملها من وطء مالكها عليه جبرا، فتخرج الأمة التي أعتق سيدها حملها من غيره، والأمة المملوكة لأبي زوجها فإن حملها إنما جاءت حريته من
عتقه على جده، وهاتان الصورتان خرجتا بقوله: من وطء مالكها، وخرج بقوله عليه جبرا ما إذا أعتق السيد حمل أمة عبده فإن الحد يصدق عليها، لأنها حر حملها من وطء مالكها، لكن ليس العتق يجبر عليه المالك وهذا بناء على ملك العبد، ولي في دخول هذا في الحد بحث لا يكفي، إذ بعد فرض الحرية من وطء المالك لا تدخل هذه الصورة فقال: "ومن أولد" من الأحرار "أمة" مملوكة له "فله أن يستمتع منها في حياته" وحياتها بسائر أنواع الاستمتاع التي تجوز في الزوجة المشار إليها بقول خليل: وحل لهما حتى نظر الفرج إلى أن قال كالملك وتمتع بغير دبر، وإنما جاز له ذلك لبقاء الملك عليها وله أخذ قيمتها ممن قتلها وانتزاع مالها ما لم يمرض. "و" يجب لها أن "تعتق عليه من رأس ماله بعد وفاته" وتقدم على الحقوق المتعلقة بالأعيان ولو كانت وفاة سيدها بقتلها له عمدا عدوانا بخلاف المدبر، ولعل الفرق لإشرافها على الحرية دون المدبر، ألا ترى أن عتقها لا يرده الدين ولو كان سابقا وتعتق من رأس المال لا من الثلث بخلاف المدبر فيهما، ومحل عتقها على سيدها كونه حرا وغير محجور عليه للغرماء حين الوطء الذي منه الولادة، فإن وطئ المفلس أمته الموقوفة للبيع فحملت من ذلك الوطء لم يمنع بيعهافقول خليل: ولا يردها دين سبق فيمن استولدها قبل التفليس، وهذا الذي ذكره المصنف مما لا نزاع فيه عند مالك وجميع الفقهاء ولا يتوقف عتقها على حكم حاكم، والدليل على وجوب عتقها وحرمة بيعها وجواز الاستمتاع بها ما في ابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عباس قال: لما ولدت مارية إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها" وفي الموطإ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها وهو يستمتع بها فإذا مات فهي حرة. "ولا يجوز" لمستولدها "بيعها" ولو كان عليه دين استدانه قبل استيلادها ولا هبتها ولا التصدق بها، فإن وقع شيء من ذلك فسخ ولو أعتقها مشتريها ويرد عتقها وترجع لسيدها، ويرجع المشتري بالثمن على البائع ولو بعد موتها لأن المصيبة منه لأن الملك فيها لم ينتقل، ومحل رد عتق المشتري لها ما لم يكن المشتري اشتراها على أنها حرة بمجرد الشراء أو على شرط العتق وأعتقها، وإلا لم يرد عتق المشتري سواء علم أنها أم ولد أم لا، ويستحق بائعها ثمنها ويكون الولاء له، وأما إن باعها على أن يعتقها المشتري فهذه ترد ما لم تفت بالعتق فيمضي والولاء للبائع، لأن المبتاع لما علم أنها أم ولد لها العتق فكأنه فكاك منه لها بالثمن، وأما إن لم يعلم المشتري بأنها أم ولد لرجع
بالثمن، وإذن فسخ بيعها فيما يفسخ فيه فظاهر المذهب أنه لا رجوع على البائع بشيء مما أنفقه المشتري ولا له شيء من قيمة خدمتها، هكذا قيل ولي فيه وقفة في عدم الرجوع بالنفقة مع بقاء ملك بائعها وعدم انتقال ضمانها بقبضها ورجوع المشتري شراء فاسدا في غير هذه المسألة. "ولا" يجوز له أن يجعل "له عليها خدمة" كثيرة بغير رضاها، وأما ما خف وهو ما نقص عما يلزم الأمة وفوق ما يلزم الحرة فيستحقه عليها ولذلك يلزمه نفقتها. "ولا" يجوز له أن يجعل له عليها "غلة" وظاهره ولو كانت قليلة، والفرق بين الخدمة والغلة أن الخدمة يستعملها بنفسه من الطحن وغيره، والغلة بأن يؤجرها لغيره فإن أجرها بغير رضاها فسخت ولها أجرة مثلها على من استعملها، ولذا قال عياض: لأم الولد حكم الحرائر في ستة أوجه، وحكم العبيد في أربعة أوجه، فأما الستة فلا خلاف عندنا أنهن لا يبعن في دين ولا غيره ولا يرهن ولا يوهبن ولا يؤجرن ولا يسلمن في جناية ولا يستسعين، وأما الأربعة فانتزاع أموالهن ما لم يمرض السيد وإجبارهن على النكاح على قول واستخدامهن لكن في خفيف الخدمة فيما لا يلزم الحرة والاستمتاع بهن وله أرش الجناية عليهن، وزيد على ذلك عدم شهادتهن وحدهن نصف حد الحرة وعدم إرثهن وعدم القسم لهن في المبيتثم شرع فيما يتعلق بأولادها الحاصلين منها بعد استيلائها بقوله: "وله ذلك" المذكور من خدمة وغلة "في ولدها من غيره" الحاصل لها بعد حملها من سيدها. "وهو" أي ولد أم الولد من غير سيدها "بمنزلة أمه في العتق" فيجب أن "يعتق بعتقها" بعد موت سيدها، والحاصل أن ولدها على ثلاثة أحوال: إن كان من سيدها الحر فهو حر بلا خلاف، وإن كان من غير سيدها ولدته قبل الاستيلاد فهو رقيق بلا خلاف، وإن كان من غير سيدها وبعد استيلادها فيعتق بعتقها من رأس المال وهو كلام المصنف، وهذا كله إذا مات سيدها في حياتها، فإن ماتت أمهم قبل موت سيدها لم يعتق أولادها حتى يموت سيدهمثم شرع في بيان ما تكون به أم ولد بقوله: "وكل ما أسقطته" الأمة بعد اعتراف سيدها بوطئها وعدم استبرائها "مما يعلم" بشهادة العارفات من النساء "أنه ولد" كمضغة أو علقة وهي الدم المجتمع الذي لا يذوب بصب الماء الحار عليه "فهي به" أي بما أسقطته "أم ولد" عند ابن القاسم كما تنقضي به العدة وتجب به الغرة، فالثلاثة في الحكم سواء على مشهور المذهب، وقولنا: بعد اعتراف سيدها إلخ إشارة إلى أنها لا تكون أم ولد إلا بشرطين: أحدهما إقرار السيد بوطئها مع الإنزال ولو قال إقراره في حال مرضه، والثاني أن تثبت ولادتها أو سقطها ولو
بشهادة امرأتين حيث كان الولد معدوما، وأما لو أتت به وقالت هذا الولد منك مع اعترافه بوطئها وإنزاله فإنها تكون به أم ولد ولو لم يحصل شهادة على الولادة، والحاصل أن البينة إنما تشترط عند عدم حضور الولد، ومفهوم الشرط الأول أنه لو أنكر السيد الوطء ولم تشهد عليه بينة بالإقرار بوطئها وأتت بولد فإنه لا يلحق به ولا يلزمه يمين أنه لم يطأ، كما لا يلزمه يمين أنه كان استبرأها بحيضة ونفى ما ولدته لستة فأكثر من يوم استبرائها، ولا يلحق به لانتفائه عنه بمجرد نفيه من غير توقف على لعان، وأما لو أتت به لأقل من أقل أمد الحل من يوم الاستبراء فإنها تكون به أم الولد لاعترافه بوطئها قبل الاستبراء، والحامل عندنا تحيض"فرع" من مات من غير اعتراف بالوطء ووجدت أمته حاملا فإنها لا تعتق لعدم ثبوت أمومة الولد لاحتمال كونه من زنا أو شبهة والله أعلم"و" إذا أتت أمة السيد بولد "لا ينفعه" دعوى "العزل" عنها وهو الإنزال خارج الفرج "إذا أنكرها ولدها" وقال ليس مني "و" الحال أنه كان قد "أقر بالوطء" لأن الماء يسبق من غير شعوره بهقال خليل: ولا يدفعه عزل أو وطء بدبر أو فخذين إن اعترف بالإنزال، وينبغي أن يكون مثل الإنزال عند وطئها إنزاله عند غيرها أو من احتلام ولم يبل حتى وطئها ولم ينزل، بخلاف لو قال: كنت أطأ من غير إنزال فإنه لا يلزمه الولد، وهذا حكم من أقر بوطء أمته ولم يدع استبراءها "فإن ادعى استبراء" بحيضة والحال أنه لم يطأ بعده ومضى له ستة أشهر فأكثر "لم يلحق به ما جاء من ولد" على المشهور ولا يمين عليهولما فرغ من الكلام على أحكام أم الولد شرع في العتق الناجز وهو من جملة المترجم له، وحقيقته اللغوية الخلوص والكرم والحرية لخلوص الرقبة من الرق، ولذا سمي البيت بالعتيق لخلوصه من أيدي الجبابرة ومن الغرق والطوفان، وحقيقته الشرعية كما قال ابن عرفة رفع ملك حقيقي لا بسباء محرم على آدمي حي حتى خرج بآدمي حيوان غير آدمي، وبقوله حي رفعه عنه بموته، وأخرج بقوله ملك رفع غيره كرفع الحكم بالنسخ ووصفه بقوله حقيقي ليخرج به استحقاق العبد بحرية، لأن المستحق من يده بحرية لم يكن ملكا حقيقة، وقوله لا بسباء محرم عطف على مقدر أي بغير سباء لا بسباء ليخرج به فداء المسلم من حربي سباء، وقوله عن آدمي متعلق بقوله رفع وحكم العتق من هو مندوب إليه دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] وأما السنة فمنها ما في الصحيحين من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار" 1 وفي رواية: "أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه" 2. وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله والجهاد في سبيل الله" ، قال قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا" وأما الإجماع فقد قال في الذخيرة: وأجمعت الأمة على أنه قربة وهو من أعظم القرب لأن الله جعله كفارة للقتل، وصلة الرحم أفضل منه لما في مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة أعتقت رقبة: "لو كنت أخدمتيها أقاربك لكان أعظم لأجرك" 3 اللخمي، وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أنه إذا أعتق ناقص عضو لا يحجب النار عن العضو الذي يقابله منه وهو ممكن لأن الألم يخلقه الله تعالى في أي عضو شاء كما جاء في الصحيح: "إن الله تعالى حرم النار أن تأكل موضع السجود" 4 وعتق الذكر أفضل ثم أعلى الرقاب ثمنا وأنفسها عند أهلها وإن كان الأعلى ثمنا كافرا فضله مالك وخالفه أصبغ ونسبه ابن بزيزة للجمهورقال في التوضيح: قيل وهو الأقرب وأن الذي يظهر أن السيد لا يعتق من النار إلا بعتق عبدين نصرانيين، فإنه لما كانت ديته مثل دية الحر المسلم كان كالمرأة، أما إن تساويا فالمسلم أفضل بلا خلافقال في الذخيرة: وإذا كانا مسلمين كالدين أفضل وإن كان أقلهما ثمنا. وفي المقدمات: إنما يكون الأعلى ثمنا أفضل عند استوائهما في الكفر والإسلام وله ثلاثة أركان: المعتق وشرطه التكليف والرشد وعدم إحاطة الديون بماله فقال مشيرا إلى هذا الشرط. "ولا يجوز عتق من أحاطت الديون بماله" كما لا تجوز هبته ولا صدقته ولو بعد أجل تلك الديون إلا بإذن الغرماء إلا ما جرت به العادة، كنفقة الآباء والأبناء وكسوتهم، وكالأضحية ونفقة العيدين من
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب: قول الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، وأي الرقاب، حديث "6715"، ومسلم، كتاب العتق، باب: فضل العتق، حديث "1509" واللفظ له2 صحيح: أخرجه البخاري، كتاب العتق، باب: أي الرقاب أفضل، حديث "2518"، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث "84" واللفظ له3 صحيح: أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج، حديث "999"4 لم أقف عليه.
غير سرف، وله أن يحج حجة الفرض لكن على قول مرجوحقال خليل: إنما يصح إعتاق مكلف رشيد بلا حجر وبلا إحاطة دين، ويدخل في المكلف السكران على المشهور فيصح عتقه ويلزم كما يلزم طلاقه، ويدخل فيه الزوجة والمريض في الثلث، فلا يصح عتق صبي ولا مجنون ولا مولى عليه، وأما عتق من أحاطت الديون بماله فللغرماء رده إلا أن يعلم ويسكت بحيث يعد راضيا، أو يطول زمان العتق بحيث يشتهر بالحرية، ويرث الوارثات وتقبل شهادته ولو لم يثبت علمه، أو إلا أن يستفيد ما يوفي منه الدين فينفذ ولا يرد، كما ينفذ عتق الزوجة والمريض من الثلث، وأما عتقهما ما يزيد قيمته على الثلث فلورثة المريض وللزوج الرد والإجازة. والثاني من الأركان: المعتق بفتح التاء وشرطه أو لا يتعلق به حق لازم ولو فيه شائبة حرية، فيدخل فيه المدبر والمعتق إلى أجل، وأم الولد والمبعض والمكاتب يصح تنجيز عتق الجميع، وأما ما تعلق به حق لازم كالمرهون والمستأجر والعبد الجاني فإن عتقهم موقوف على إجازة من له الحق. والثالث من الأركان: الصيغة وهي صريحة وكناية، فالصريح كل ما فيه لفظ العتق أو التحرير أو الفك أو لا ملك أو لا سبيل لي عليك، فإذا قال: أعتقت أو فككت أو حررت رقبتك أو أنت حر فإنه لا ينصرف إلا للعتق ولا ينصرف عنه لغيره ولو نوى صرفه إلا لقرينة كمدح أو خلف أو دفع مكس، ففي المدونة: ومن عجب من عمل عبده أو خالفه عند أمره بشيء فقال ما أنت إلا حر فلا شيء عليه في الفتوى ولا في القضاء ولو قامت عليه بينة بذلك، وفيها أيضا: ولو مر على عشار فقال هو حر عند طلب المكس ولم يرد بذلك الحرية فلا يعتق عليه. وأما الكناية فهي على قسمين ظاهرة وخفية، فالظاهرة ما لا ينصرف عنه إلا بنية صرفه كوهبت لك نفسك وملكتك نفسك، والخفية ما لا ينصرف إليه إلا بالنية كاذهب واغرب واسقني الماء مما لا دلالة له على العتق، وإنما ترك المصنف التعرض لذلك روما للاختصار"تنبيه" ظاهر كلام المصنف لزوم عتق من لم يحط الدين بماله من المكلفين ولو كافرا وهو كذلك، حيث كان العبد مسلما قبل العتق أو أسلم العبد أو سيده بعد العتق ففي الثلاث يلزم العتق ولو لم يبن العبد عن سيده، وأما لو أعتقه في حال كفرهما ولم يحصل إسلام منهما فلا يلزمه عتقه إلا إذا بان عنه العبدولما فرغ من العتق المقصود شرع في العتق بالسراية بقوله: "ومن أعتق بعض عبده استتم عليه" أي بحكم حاكم على المشهور الذي اقتصر عليه العلامة خليل حيث قال: وبالحكم معه
جميعه إن أعتق جزءا والباقي له، والمعنى: أن من أعتق جزءا ولو يدا أو رجلا من عبده الذي يملك جميعه فإن الباقي يعتق عليه بالحكم سواء كان موسرا أو معسرا، وقوله بعض عبده يشمل القن المحض والمدبر والمعتق إلى أجل وأم الولد والمكاتب لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وإنما يلزم ذلك إذا كان المعتق مسلما مكلفا رشيدا لا دين عليه يرد العبد أو بعضه، وأما لو أعتق الكافر عبده الكافر فله الرجوع فيه إلا أن يسلم أحدهما أو يبين العبد عن سيده"تنبيه" فهم مما قررنا أن المراد بالبعض ما يشمل نحو اليد أو الرجل وأنه يتوقف على حكم حاكم، ويشترط في ذلك البعض الاتصال بالعبد، واختلف إذا أعتق نحو الشعر والكلام والرقيق على قولين مبنيين على طلاق الزوجة بذلك وعدمه، هذا حكم عتق بعض عبد يملك جميعهوأما لو أعتق حصته من العبد المشترك بينه وبين غيره فأشار إليه بقوله: "وإن كان" العبد المعتق بعضه "لغيره" أي غير المعتق "معه فيه شركة قوم عليه" أي على الذي أعتق حصته "نصيب شريكه بقيمته" وتعتبر "يوم يقام عليه وعتق" عليه حينئذ جميعه والمعنى بإيضاح: أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك بينه وبين غيره فإنه تقوم عليه حصة شريكه بشروط ستة:
أحدها: أن يدفع القيمة بالفعل لشريكه يوم الحكم بالعتقثانيها: أن يكون المعتق مسلما أو العبد فلو كان العبد والشريكان كفرة فلا تقويم، وكذا لو كان المعتق ذميا والعبد كذلك وغير المعتق مسلماثالثها: أن يعتق الشريك باختياره لا إن ورث جزءا من أبيه فلا تقوم عليه حصة شريكهرابعها: أن يكون المعتق هو الذي ابتدأ العتق لأنه الذي أبد الرقبة، وأما لو كان العبد حر البعض قبل العتق فلا تقوم عليه حصة شريكه كما لو كان العبد مشتركا بين ثلاثة أملياء وأعتق أحدهم نصيبه ابتداء وتبعه الثاني بإعتاق حصته وامتنع الثالث من العتق، فإن حصته تقوم على الأول إلا أن يرضى الثاني بتقويمها عليه، فلو كان المبتدئ للعتق معسرا لم تقوم حصة الثالث على الثاني إلا برضاه، وأما لو أعتقا معا أو مترتبا وجهل الأول قومت حصة الثالث عليهما إن أيسر وإلا فعلى الموسر منهماخامسها: أن يكون المعتق لحصته موسرا بقيمة الشريك، فإن أيسر ببعضها عتق منها بقدر ما هو موسر به، والمعسر به لا تقوم عليه ولو رضي شريكه باتباع ذمته.