كتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني
المؤلف : أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي
جميع ذلك بالواجب منها، وما تنطق به الألسنة فيه السنة1 والفضيلة، فالمتصل بالواجب منه
ـــــــ
1 السنة في اللغة: الطريقة والعادة والسيرة حميدة كانت أم ذميمة والجمع سنن وفي الحديث "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" ثم استعملت في الطريقة المحمودة المستقيمة فسنة الله أحكامه وأمره ونهيه وسن الله سنة أي: بين طريقا قويما ويقال: فلان من أهل السنة معناه: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة وفي الحديث: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي"والسنة عند الفقهاء لها معان منها: أنها اسم للطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب وتطلق أيضا عند بعض الفقهاء: على الفعل إذا واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدل دليل على وجوبه وعرفها بعضهم: بأنها ما طلب فعله طلبا مؤكدا غير جازم فالسنة بهذا المعنى حكم تكليفي ويقابلها الواجب والفرض والحرام والمكروه والمباح وعرفها بعض الفقهاء بأنها ما يستحق الثواب بفعله ولا يعاقب بتركهوتطلق السنة أيضا على دليل من أدلة الشرع وعرفها الأصوليون بهذا المعنى: بأنها ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقريرالأحكام المتعلقة بالسنة: السنة بالاصطلاح الفقهي: تطلق السنة عند الشافعية والحنابلة: على المندوب والمستحب والتطوع فهي ألفاظ مترادفة فكل منها عبارة عن الفعل المطلوب طلبا غير جازم قال البناني ومثلها الحسن أو النفل والمرغب فيه ونفى القاضي حسين وغيره ترادفها حيث قالوا: إن واظب النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل فهو السنة وإن لم يواظب عليه كأن فعله مرة أو مرتين فهو المستحب أو لم يفعله وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد فهو التطوع ولم يتعرض القاضي حسين ومن معه للمندوب لعمومه للأقسام الثلاثةويقسم الشافعية والحنابلة السنن إلى سنن مؤكدة وغير مؤكدة إلا أن الحنابلة يقولون: إن ترك السنن المؤكدة مكروهأما ترك غير المؤكدة فليس بمكروه وقال ابن عابدين: إن المشروعات أربعة أقسام: فرض وواجب وستة ونفل فما كان فعله أولى من تركه مع منع الترك إن ثبت بدليل قطعي ففرض أو بظني فواجب وبلا منع الترك إن كان مما واظب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنة وإلا فمندوب ونفل وهذا مطابق لقواعد الحنفية من الفرق بين الفرض والواجب خلافا للشافعية ومن معهم من قولهم بالترادف بينهما إلا في مواضع تذكر في موضعهافالسنة عند الحنفية بالمعنى الفقهي نوعان:
أ – سنة الهدي: وهي ما تكون إقامتها تكميلا للدين وتتعلق بتركها كراهة أو إساءة كصلاة الجماعة والأذان والإقامة ونحوها وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليها على سبيل العبادة وتسمى أيضا السنة المؤكدةب- سنن الزوائد: وهي التي لا يتعلق بتركها كراهة ولا إساءة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها على سبيل العبادة فإقامتها حسنة كسير النبي صلى الله عليه وسلم في لباسه وقيامه وقعوده وأكله ونحو ذلكوعند المالكية: السنة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه وأظهره في جماعة ولم يدل دليل على وجوبه. والرغيبة: ما رغب الشارع فيه وحده ولم يظهره في جماعة. والنفل: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يداوم عليه أي تركه في بعض الأوقاتالسنة في اصطلاح الأصوليين: أدلة الشرع المتفق عليها والتي تستنبط منها الأحكام الفقهية أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
فيه السنة والفضيلة فقط، وما تعتقده الأفئدة ليس فيه إلا الواجب والفضيلة، والمتصل بالواجب فيه الفضيلة فقط، كاعتقاد فضل الأنبياء على الملائكة ونحو ذلك من كل ما ينفع علمه ولا يضر جهله، هذا ملخص كلام الأجهوري، ومعنى الاتصال بالواجب فعله عقب فعله، ويحتمل انخفاض رتبته عن رتبة الواجب وإن فعل قبله ولعل هذا هو الأحسن، لأن كثيرا من السنن والفضائل لا يفعل بعد فرض كالكسوف والاستسقاء والعيدين، وعليه فيكون المراد يتصل بالواجب أي يليه في رتبته. ثم بين ما يتصل بالواجب بقوله: "من السنن " جمع سنة والمراد بها في كلامه ما قابل الفرد بقرينة الإبدال منها بقوله: "من مؤكدها ونوافلها ورغائبها " وأما معنى السنة في غير كلام المصنف فيختلف بحسب من تضاف إليه، ففي اللغة الطريقةوفي اصطلاح الأصوليين أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وهمه، ويزاد في اصطلاح المحدثين وصفتهوفي اصطلاح علمائنا ما فعله صلى الله عليه وسلم وداوم عليه أو فهم من المداومة عليه كصلاة الخسوف واقترن به ما يدل على أنه ليس بفرض، وقيل: ما فعله صلى الله عليه وسلم وأظهره في جماعة وداوم عليه، فعلى الأول دون الثاني تدخل ركعتا الفجر لأنه فعلهما وداوم عليهما ولم يظهرهما في جماعة، وإطلاق السنة على ما قابل الفرض اصطلاح البغداديين لأن كل ما طلب شرعا من العبادات فعله صلى الله عليه وسلم، والتفصيل بين ما داوم عليه وغيره، وإطلاق السنة على الأول دون الثاني اصطلاح غير البغداديين من الفقهاء، والمراد بالمؤكد منها ما كثر ثوابه وهو السنة المصطلح عليها عند أكثر الفقهاء التي هي قسم الرغيبة والمندوب المعبر عنه بالنافلة كالعيدين والوتر والكسوف
ـــــــ
والسنة: هي ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير فالسنة بهذا المعنى ترادف الحديث. وقيل: إن الحديث ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال فهو بهذا المعنى أخص من السنة ويطلق على الحديث الخبر أيضا وقيل: الخبر أعم ليشمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غيره فكل حديث خبر من غير عكس والسنة بهذا المعنى ثلاثة أقسام: السنة القولية وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والسنة الفعلية وهي أفعاله والسنة التقريرية وهي كفه وسكوته عن إنكار ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم أمامه أو ما أخبر بهوتنقسم السنة باعتبار السند: إلى المتواتر والمشهور وخبر الواحدوالسنة بالمعنى الأصولي: هي دليل من أدلة الشرع توجب علم اليقين إذا كانت متواترة وخبر الواحد يوجب العمل ولا يوجب العلم يقينا وهذا مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء كما حرره الأصوليونوأما المشهور: فيلحقه بعضهم بالمتواتر في إيجابه علم اليقين وبعضهم بالآحاد فيوجب العمل دون العلم اليقين. ولبيان معنى التواتر والشهرة وشروطهما وآراء الأصوليين وأدلتهم وما يوجبه خبر الآحاد وغيرها من المسائل ينظر الملحق الأصولي. أنظر الموسوعة الفقهية 25/263- 266, وتقريب الأصول إلى علم الأصول ص 275- 281, والحدود للباجي ص 56, والموافقات 4/4, والعدة لأبي يعلى 1/65, وتيسير التحرير 3/21.
والنوافل جمع نافلة وهي لغة الزيادة على الفرض واصطلاحا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ورغب فيه ولم يحده سوى الذي لم يداوم عليه أو داوم عليه كأربع ركعات قبل الظهر وبعده وقبل العصر وبعد المغرب والعشاء والضحى وقيام الليل، والرغائب جمع رغيبة وهي كل ما حض على فعله صلى الله عليه وسلم وحده ولم يفعله في جماعة خرجت السنة وتمحض التعريف للرغيبةتنبيهان الأول: اعلم أن تعريف السنة بما فعله صلى الله عليه وسلم وداوم عليه وأظهره في جماعة متعين على طريق من يفرق بين السنة والرغيبة؛ لأنه لا يرد عليه شيء، لأن الرغيبة والنافلة خرجتا منه بقيد الإظهار في جماعة، ومن لم يفرق بين السنة والرغيبة، وبعد الفجر سنة لا يعتبر في حد السنة قيد وأظهره في جماعة، فالحاصل أن من يجعل الفجر رغيبة يعتبر في حد السنة قيد الفعل في جماعة، ومن لم يجعلها رغيبة يسقطه، والفرق بين النافلة والرغيبة أن الرغيبة داوم عليها وحدها بخلاف النافلة فإنها ما فعله صلى الله عليه وسلم ولم يداوم عليه أو داوم عليه ولم يحده أو حده ولم يظهره في جماعة، ومعنى الإظهار في جماعة فعله في جماعة، ومعنى الحد التعيين في عدد مخصوص بحيث تكون الزيادة عليه والنقص عنه مفوتا للثوابفإن قيل: قد ثبتت مداومته على أربع قبل الظهر وأربع بعدها وأربع قبل العصر وهذا يتضمن التحديد فبأي شيء تتميز هذه عن الرغيبة؟ قلت: هذا مفهوم عدد لا يفيد قصر فعله على أربع في هذه الأوقات، لأن من يواظب على مائة ركعة قبل الظهر يصدق عليه المواظبة على أربع ركعات، وعلى تسليم أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يزيد عليها يفرق بينهما بأن الرغيبة فعلها وحض عليها أكثر من مطلق النافلة فتأمله، هذا ملخص ما قاله الأجهوري قائلا لم أسمعه من الثانيإذا عرفت أن المراد بالسنن في كلامه ما قابل الفرض ظهر لك عدم المنافاة بينه وبين قوله: بعد: "ونوافلها ورغائبها"، ولا شك أن التأكيد مختلف. قال خليل: والوتر سنة آكد ثم عيد ثم كسوف ثم استسقاء، لأن كل ما أشتد طلبه يكون ثوابه أكثر من غيره"وشيء من الآداب"جمع أدب، واختلف في المراد به فقيل ما يذكره في آخر الكتاب من آداب الأكل والشرب، ويحتمل أن المراد به ما تحسن به حالة الإنسان فيما بينه وبين الله وملائكته وكتبه ورسله وسائر الناس، فإنه تعرض للجميع في آخر هذا الكتاب، فالذي تحسن حالته فيما بينه وبين ربه تجنبه عن كل ما يؤثم وهو التقوى، والذي تحسن به حالته فيما بينه وبين كتب الله احترامها وتعظيمها بحيث لا يمسها إلا على طهارة، ولا يقرؤها في مواضع الأقذار، ومع الرسل والناس التأدب مع الجميع على الوجه المطلوب شرعا وما أحسن قول
بعضهم: الأدب أن يؤدب ظاهره باتباع السنة قولا وفعلا، وباطنه بالحقيقة بأن يرضى بما يرد عليه من الله ويتلقاه بالقبول ويعده نعمة إما عاجلة وإما آجلة، فالعاجلة بلوغ النفس في الحال محبوبها وما تحتاج إليه، والآجلة كأنواع المضار فإنه يثاب عليها آجلا أو يحط عنها بها خطيئة فهي نعمة بهذا الاعتبار، ولما كان يتوهم أن الآداب من غير ما ذكر من الواجب والسنة والنافلةقال: "منها" أي إن ذلك الشيء الذي أذكره من الآداب من تلك المذكورات التي هي الواجب والسنة والنافلة فعود الضمير في منها للواجب، والسنة والنافلة المذكورة في قوله من واجب أمور الديانة أحسن، لأن بعض ما ذكر في باب جامع من الآداب بعضه واجب وبعضه سنة وبعضه نفل، وأما عود ضمير منها للجملة فبعيد إذ هو بصدد بيان ما تكون منه الجملة"تتمة " الأدب على أربعة أقسام: طبيعي: وذلك كالكرم والشجاعة وتعظيم من يطلب تعظيمه ونحو ذلك من صفات الإنسان الجبلية الحسية وكسبي: وهو معرفة النحو واللغة والشعر وغير ذلك من العلوم العقلية ومن ذلك معرفة الكتاب والسنة. وصوفي: وهو ضبط الحواس ومراعاة الأنفاس والاشتغال بالتفكر في مصنوعات الله. وشرعي: وهو ما يذكره المصنف في آخر الكتاب مما يجب على المكلف فعله أو تركه مما يتعلق بالخالق والمخلوق"وجمل من أصول الفقه وفنونه"والأصول جمع أصل وهو ما بني عليه غيره كأصل الجدار وهو أساسه، والفنون جمع فن وهو الفرع المبني على غيره1، وهذا بيان لمعناهما لغة، واختلف في المراد بهما في كلام المصنف فقيل: المراد بالأصول أمهات المسائل كمسألة بيوع الآجال ونحوها من المسائل التي يتشعب منها مسائل كمسألة الأمة المشتركة وبالفنون ما يتفرع عليها، وقيل: المراد بالأصول الأدلة وبالفنون ما يستفاد منها، والذي قاله الطيالسي نقلا عن المصنف خلاف هذا، وأن المراد بالأصول الأحاديث الملخصة الأسانيد أي المحذوفة الأسانيد، وبالفنون الآراء المنسوبة إلى العلماءـــــــ
1 الفرع لغة هو: من كل شيء أعلاه وهو ما يتفرع من أصله والجمع فروع ومنه يقال: فرعت من هذا الأصل مسائل فتفرعت أي استخرجت فخرجت ويأتي الفرع أيضا بمعنى الشعر التام والأفرع ضد الأصلع وتفرعت أغصان الشجرة كثرتواصطلاحا: استعمل الفقهاء اللفظ في ثلاثة مغان: أ- الفرع بمعنى الولد ويقابله الأصل بمعنى الوالد ب- الفرع بمعنى المقيس: وهو من أركان القياس في مقابلة الأصل وهو المقيس عليه. ج- الفرع بمعنى المسألة الفقهية المتفرعة عن أصل جامع أنظر الموسوعة الفقهية 32/98, والتعريفات ص 166.
قال أبو عمران: وهذا شاهد على خطأ من فسر أصول الفقه في كلامه بأمهات المسائل والفنون بما يتفرع عليها، وعلى تفسير المصنف يكون عطف جمل على واجب أمور الديانات من عطف المغاير، ويصح نصب جمل عطف على جملة إن ثبت نصبها في المصنف، لكن يلزم عليه خروجها من الجملة مع أنها بعضها، ويجاب بأنه من عطف الخاص على العام بخلاف الجر فإنه من عطف المغاير، والفقه لغة الفهم والعلم، يقال: فقه بكسر القاف إذا فهم، وبفتحها إذا سبق غيره للفهم، وبضمها إذا صار الفقه له سجيةوفي الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية واحترز بمعرفة الأحكام عن معرفة الذوات والأجسام والصفات والأعراض فلا تسمى فقها، وبالشرعية عن العقلية كأحكام الحساب والهندسة فلا تسمى معرفتها فقها، وبالمكتسب من الأدلة عن جزم المقلد وعن شعائر الإسلام كوجوب الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما هو معلوم للإنسان بالضرورة من غير استدلال، وكذلك علم الله تعالى وعلم الرسول وعلم الملك فإنه بالوحي، فلا يسمى شيء من ذلك فقها لعدم اكتسابه من الدليل وخرج بالتفصيلية علم المقلد فإنه مكتسب من دليل إجمالي، لأن كل ما أفتى به المفتي فهو في حقه حكم الله بدليل إجمالي لا تفصيلي لأنه الذي يختص بكل مسألةوموضوعه أفعال المكلفين من حيث عروض الأحكام لها. واستمداده من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وسائر الأدلة المعروفة قال الشيخ أبو الحسن شارح المدونة نقلا عن أبي محمد صالح: الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه ستة عشر: نص الكتاب، وظاهر الكتاب وهو العموم1، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة2، ومفهوم الكتاب وهو المفهوم بالأولى
ـــــــ
1 العموم: مصدر من عم يعم عموما فهو عام ومن معانيه في اللغة: الشمول والتناول يقال: عم المطر البلاد: شملها ومنه قول العرب: عمهم بالعطية أي شملهم ويقال: خصب عام إذا شمل البلدان والأعيان وفي الاصطلاح عرفه بعض الأصوليين بأنه: إحاطة الأفراد دفعة وقال المازري: العموم عند أئمة الأصول هو القول المشتمل على شيئين فصاعدا انظر الموسوعة الفقهية 31/5, ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 2/546, 547 ومن مصادره: الأشباه والنظائر ص 83, وإحكام الفصول ص 482 مفهوم المخالفة هو دليل الخطاب: وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. وهو حجة عند مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة. والمفاهيم المخالفة بأقسامها حجة عند الجمهور إلا مفهوم القلب. قال الجلال المحلي وابن عبد الشكور: احتج بمفهوم القلب الدقاق والصيرفي من الشافعية وابن
وتنبيه الكتاب وهو التنبيه على العلة1 مثل قوله تعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أوفسقا، ومن السنة أيضا مثل هذه الخمسة. والحادي عشر: الإجماع والثاني عشر: القياس والثالث عشر: عمل أهل المدينة. والرابع عشر: قول الصحابي. والخامس عشر: الاستحسان والسادس عشر: الحكم بالذرائع أي بسد الذرائع، واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف فمرة راعاه ومرة لم يراعهقال الشيخ أبو الحسن: ومما بنى عليه مذهبه الاستصحاب ا هـ من الأجهوري في شرح خليلوفائدته: امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه المحصلان للفوائد الدنيوية والأخروية حال كون تلك الجملة مشتملة. "على" بيان "مذهب" الإمام "مالك بن أنس رحمه الله تعالى " وأنس هو ابن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح بفتح الهمزة وفتح الباء وهي بطن من حمير، وإنما قيل ذو أصبح ولم يقل الأصبحي لأن العادات عند العرب إذا كان الشخص من بيوت الملوك يقولون ذو كذا، والإمام من بيوت الملوك، وغيمان بغين معجمة مفتوحة فمثناة تحتية، وخثيل بخاء معجمة مضمومة فثاء مثلثة فمثناة ساكنة، وأبو عامر جد أبي مالك الإمام صحابي شهد المغازي كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بدرا، وولده مالك جد مالك كنيته أبو أنس من كبار التابعين، يروي عن عمر وطلحة وعائشة وأبي هريرة وحسان بن ثابت وهو أحد الأربعة الذين حملوا عثمان ليلا إلى قبره وغسلوه ودفنوهوأما الإمام مالك فهو تابع تابعي، والحاصل أن أبا عامر جد أبي مالك صحابي، وأنسا
ـــــــ
خويز منداد من المالكية وبعض الحنابلة علما كان أو اسم جنس نحو على زيد حج أي: لا على عمرو وفي النعم زكاة أي: لا في غيرهاوأما جمههور الحنفية فإنهم كما ذكر ابن عابدين نقلا عن التحرير ينفون مفهوم المخالفة بأقسامه في كلام الشارع فقط قال ابن عابدين: أفاد أن مفهوم المخالفة في الروايات ونحوها معتبر بأقسامه حتى مفهوم اللقب وفي أنواع مفهوم المخالفة وشروط العمل به أنظر الموسوعة الفقهية 38/232, إحكام الفصول 446, المستصفى 2/191, شرح الكوكب 3/4891 العلة لغة: تطلق على المرض وتطلق على السبب. أما في اصطلاح الأصوليين: فقد عرفها الغزالي بقوله: هي ما أضاف الشارع الحكيم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] جعلت السرقة فيه مناطا لقطع اليد وقوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث" جعل فيه قتل المورث مناطا للحكم وهو حرمان القاتل إرث المقتول أنظر الموسوعة الفقهية 30/286, ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 2/536, 537, ومن مصادره: شرح الكوكب المنير ص 488, والموجز في اصول الفقه ص 213.
ومالكا أباه تابعيان، وأما الإمام رضي الله تعالى عنه فهو تابع تابعي، وإنما سأل محرز أن تكون تلك الجملة على مذهب الإمام مالك لأنه إمام دار الهجرة الذي هرعت إليه الناس من سائر الأقطار، فهو إمام الأئمة في التحقيق، وناصر السنة بالدقيق، لا ينصرف نجم السنن إلا إليه، ولا يعول في الكتاب والسنة عند الاختلاف إلا عليه، وللأثر المشهور الصحيح المروي عن الثقات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك الناس أن تضرب أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم وأفقه من عالم المدينة" 1 وورد أيضا: "لا تنقطع الدنيا حتى يكون عالم بالمدينة تضرب إليه أكباد الإبل ليس على ظهر الدنيا أعلم منه" 2 قال سفيان بن عيينة: نرى أن المراد بالعالم في هذه الأحاديث مالك بن أنسفإن قيل: كيف ترد فيه الأحاديث قبل وجوده لأنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك قبل وجود مالك؟ فالجواب أنه عليه الصلاة والسلام يخبر ببعض مغيبات قبل وجودها، والعلماء رضي الله تعالى عنهم بحثوا فما وجدوا صدق الحديث إلا على مالك الإمام لأنه الذي هرعت إليه الناس من غالب الأقطار، ومما يدل على عظمة الإمام مالك ومزيد فضله أن ابن هرمز من شيوخه وقال فيه: مالك أعلم الناس، وقال فيه ابن عيينة: مالك سيد المسلمين، وكان الأوزاعي يقول فيه: مالك عالم العلماء أو عالم أهل المدينة ومفتي الحرمين، وقال الشافعي: مالك أستاذي وعنه أخذت العلم، ومالك معلمي وما أحد آمن علي من مالك وجعلته حجة فيما بيني وبين الله، ويكفيك شهادة هؤلاء الآئمة في بيان فضله رضي الله تعالى عنهوفي سؤاله محرزا كتابتها على مذهب مالك وإن كان ميتا إشارة إلى جواز تقليد الميت، ولما نص عليه ابن أبي طلحة من امتناع تقليد العالم مع وجود الأعلم وإن كان الأعلم ميتا للأمن بموته عن رجوعه عن قوله، ومات رضي الله تعالى عنه بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة وتلميذه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي نزيل مصر مات رضي الله تعالى عنه بها لأربع سنين ومائتين، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت نزيل بغداد مات بها لخمسين ومائة، وفي تلمذته لمالك نزاع كما في تابعيته، وأبو عبد الله أحمد بن حنبل نزيل بغداد مات بها لإحدى وأربعين ومائتين وهو تلميذ الشافعي اتفاقا، وبالجملة يجب اعتقاد أن جميع المجتهدين على هدي حتى
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في كتاب العلم باب: ما جاء في عالم المدينة حديث 2680 وقال هذا حديث حسن. أنظر: ضعيف الجامع 64482 لم أقف عليه.
من هجر مذهبه، وامتناع تقليد غير الأربعة إنما هو لعدم حفظ مذاهبهم فلا ينافي أن جميعهم على خير من الله وهدى وليسوا على ضلال ولا بدعة"و" على "طريقته" الضمير لمالك، واختلف في المراد بطريقته فقيل: المراد بها مذهبه فيكون من عطف الشيء على مرادفه، وقيل: المراد بطريقته أقوال أصحابه إذ طريق أصحابه طريقه لأنهم أخذوا أقوالهم من قواعده، ومراده بمذهب مالك قوله: قال ابن ناجي هذا هو الصواب إذ كثيرا ما يذكر المؤلف وغيره قول بعض الأصحاب ويترك قول الإمام لرجحان الأول على قول الإمام، وحينئذ يكون من عطف المغاير فكأنه قال: اكتب لي جملة لا تخرج عن قوله ولا قول أصحابه، وقيل: مراده بمذهب مالك ما يفتى به وطريقته ما يؤخذ به في خاصة نفسه لأنه يلتزم بعض أشياء في حق نفسه ويفتي الغير بخلافها، وعلى هذين القولين تكون الواو في وطريقته بمعنى أوتنبيهات الأول: المذهب في الأصل مصدر ميمي يطلق على الزمان والمكان والحدث، وأما في الاصطلاح المراد في كلام المصنف فهو ما ذهب إليه الإمام من الأحكام معتمدة كانت أو لا، فيكون مذهب في كلامه بمعنى المذهوب إليه؛ لأن الأحكام مذهوب إليها لا فيها، وقد يطلق لفظ المذهب على ما بالفتوى فيكون من إطلاق الشيء على جزئه الأعظم على حد: الحج عرفةالثاني: قال القرافي في الأحكام ما معناه:
فإن قيل: ما معنى مذهب مالك الذي يقلد فيه ويتبع فيه ومذهب غيره من العلماء؟ فإن قلتم: مذهبه ما يقوله من الحق أشكل عليه الواحد نصف الاثنين وسائر الحسابيات والعقليات مما لا تقليد فيه، وإن قلتم ما يقوله من الحق في خصوص الشرعيات بطل ذلك بأصول الدين وأصول الفقه فإنها أمور طلبها صاحب الشرع، ولا يجوز التقليد فيها لمالك ولا لغيره، إن قلتم مذهبه ومذهب غيره هو الفروع الشرعية يقال عليه: إن أردتم جميع الفروع المعلومة من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وتحريم نحو الخمر والسرقة مما يستحيل فيه التقليد لاستواء العوام والخواص فيه، فإن أردتم بعض ذلك فما ضابطه؟ وإن بينتم ضابطه لا يتم لكون الحد لا يكون جامعا، فإنه يخرج عنه الأسباب الموضوعة لتلك الأحكام والشروط التي نقلدهم فيها لأنها غير الأحكام، وإنما نقلدهم في الأحكام وهي غير الشروط والأسباب. ولذلك قال العلماء: الأحكام من خطاب التكليف والأسباب والشروط من خطاب الوضع
فيهما بابان متباينان، ولأجل هذه الأسئلة لا يكاد فقيه يسأل عن حقيقة إمامه الذي يقلده فيه يحسن جوابهفجوابه أن يقال المذاهب التي تقلد فيها الأئمة خمسة أشياء: الأحكام الشرعية الفرعية والاجتهادية وأسبابها وشروطها وموانعها والحجج المثبتة للأسباب والشروط والموانع، فخرجت العقلية كالحسابيات، وخرجت الأصولية بالفرعية، وخرجت الضرورية بالاجتهادية، والمراد بالحجج المثبتة الأسباب والشروط إلخ ما تعتمده الحكام من البينات والأقارير، وينبغي أن يزاد على الخمسة قيد آخر أن لا يكون مجمعا عليه، فيقال مذهب مالك مثلا ما اختص به من الأحكام الشرعية الفرعية الاجتهادية، وما اختص به من أسباب تلك الأحكام وشروطها وموانعهاالثاني: لو قلد شخص مذهبا معينا ملتزما له وأراد أن ينتقل لمذهب آخر هل يجوز له ذلك أم لا؟ فيه خلاف للعلماء على ثلاثة أقوال: الجواز مطلقا، عدم الجواز مطلقا، عدم الجواز إن عمل، والجواز إن لم يعملوالذي اقتصر عليه الزناتي الجواز فإنه قال: يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط: الأول: أن لا يجمع بين المذهبين على صفة تخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحدالثاني: من شروط التقليد أن يعتقد فيمن يقلده الفضل ولو بوصول خبر إليه ولا يقلده زمنا في عمائهالثالث: من شروط التقليد أن لا يتبع رخص المذاهب هذا ملخص ما نقله الشهاب القرافي عن الزناتي، ونقل عن غيره جواز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه قضاء القاضي وهو كل ما خالف قاطعا أو جلي قياس قال القرافي رحمه الله: إن أراد الزناتي بالرخص هذه فهو حسن، وإن أراد بها كل ما فيه سهولة على المكلف كيف لزمه أن يكون من قلد مالكا في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفا لتقوى الله وليس كذلكالرابع: قد قدمنا أنه يجوز تقديم تقليد الأفضل ولو ميتا وهذا مما لا نزاع فيه، وأما تقليد المفضول ففيه ثلاثة أقوال: المختار يجوز تقليده إن اعتقده أفضل أو مساويا لا إن اعتقده مفضولا، لأنه يجب على أهل كل مذهب اعتقاد أفضلية إمامهم.
الخامس: حكم التقليد لواحد من أصحاب المذاهب الأربعة الوجوب حيث لم يكن في هذا المقلد أهلية الاجتهاد، وقيدنا بالمذاهب الأربعة لأن غيرهم لم يضبط مذهبه وإلا لجاز تقليده لأن الجميع على هدى؛ وإنما أطلت في ذلك لشدة الحاجة إلى معرفة ما ذكر "مع " بفتح العين على الفصيح أي سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة مصاحبة لكتابة "ما " أي الذي "سهل " أي يسر "سبيل " أي طريق "ما أشكل " أي صعب وعسر فهمه "من ذلك " المذكور في الجملة المختصرة أو من مذهب مالك وطريقتهثم بين المسهل بكسر الهاء بقوله: "من تفسير الراسخين" أي الثابتين في العلم من الصحابة كعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن سلام وعبد الله بن الزبير المشهورين بالعدالة وكبعض أتباع الإمام مالك رضي الله تعالى عن الجميع فإنهم وضحوا ما خفي معناه من القرآن والحديث"و" من "بيان المتفقهين " المراد الفقهاء من أصحاب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه، كابن القاسم وأشهب وغيرهما فإنهم قيدوا ما أطلق وخصصوا ما عمم من الآثار، فإنهم بينوا خبر: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" بأنه ليس على إطلاقه بل محل النهي إذا ركبنا بأن تقاربا وتوافقا، وخبر من ابتاع طعاما لا يبيعه قبل أن يستوفيه، بينوا أنه ليس على إطلاقه بل محل النهي إن كان الشراء على الكيل لا إن كان اشترى على وجه الجزاف وقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" 1 مقيد بما إذا كان هناك خلطة أو ظنة في غير المسائل المستثناة، وأضاف التفسير للراسخين والبيان للمتفقهين؛ لأن التفسير أشرف من البيان من حيث صعوبته لأنه الكشف عن المراد من اللفظ، والبيان هو التعبير عن إظهار ذلك المعنى المراد بعبارة جلية، والفضل والمزية لكاشف المراد، وإنما قلت المراد الفقهاء لأن المتفقهين في الأصل المتوسطون في الفقه وهذا المعنى لا يصح هناتنبيهان: الأول: إذا أريد بالراسخين خصوص الصحابة كابن عباس ومن تقدم معه لم يصح جعل الإشارة في قوله من ذلك لمذهب مالك وطريقته أي قوله وقول أصحابه، لأن الصحابة
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي كتاب الأحكام باب: ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه حديث 1341, بلفظ: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" أما لفظ واليمين على من أنكر أخرجه البيهقي في الكبرى 10/252, حديث 20990, ولفظ الترمذي صحيح صحيح الجامع 2897, ولفظ البيهقي ضعيف ضعيف الجامع 2384.
ليس لهم تسهيل في طريق ما أشكل من قول مالك وقول أصحابه، وإن أريد بالراسخين مطلق الثابتين في العلم حتى غير الصحابة من أتباع مالك، ولعل هذا أولى صح جعل الإشارة في ذلك لمذهب مالك وطريقته وللجملة، وأما قوله وبيان المتفقهين فيصلح على كل تفسير قيل في الراسخينالثاني: ما يقع من الصوفية في بيان بعض آيات مما هو مخالف لما يفيده ظاهرها، ليس تفسيرا لها وإنما هو بيان لما تشير له الآية ويفهمونه منها، لأن الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: لا يحل تفسير المتشابه إلا بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خبر عن أحد من أصحابه أو إجماع العلماء عليهولما انتهى الكلام على بيان ما احتوت عليه الجملة، شرع في بيان سبب سؤال محرز في تأليف هذا الكتاب وكونه مختصرا بذكر صلة سألتني وعلته فقال: "لما " أي لأجل الذي "رغبت " بفتح التاء لأن الخطاب لمحرز "فيه " الضمير راجع إلى ما المبينة بقوله: "من تعليم ذلك " الذي سألت فيه وهي الجملة المختصرة "الولدان " الصغار من أولاد المسلمين الذكور والإناث، ويلتحق بهم جهلة المؤمنين تعليما مشتملا على تدريب وترتيب شيئا فشيئا "كما تعلمهم حروف القرآن " لأن الولدان أول ما يعلمون الحروف ليتوصلوا للقرآن، فالتشبيه في كيفية التعليم وليس في حكمه: لئلا يشكل باقتضائه وجوب تعليم الحروف كوجوب تعليم العقائد وبعض القرآن كالفاتحة، والواقع ليس كذلك لقيام الإجماع على وجوب تعليم العقائد والشرائع المحتاج إليها المكلف، لأنه لا يجوز له أن يقدم على حكم حتى يعلم حكم الله فيه، بخلاف تعليم مجرد الحروف فإنه لا يجب، وإنما يجب على المكلف حفظ أم القرآن ويسن كآية، وما زاد على ذلك فتعلمه مستحب، وتعلم الفاتحة لا يتوقف على معرفة الحروف، وإضافة الحروف للقرآن من إضافة الدال للمدلول إن أريد بالقرآن المعنى القائم بذاته تعالى، وإن أريد به اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الإضافة بيانية، وتقييد الأولاد بالمسلمين لحرمة تعليم أولاد الكفار القرآن زمن علمهم لم تقبل له شهادة ولم تصح له إمامة على مذهب خليل، ونص في مختصر البرزلي على أنه لا يجوز تعليم أولاد الظلمة ولا أولاد كتبة المكوس الخط لأنهم يتوصلون بتعليم ذلك إلى كتابة المعصية، والموصل إلى المعصية معصية وإنما خص الأولاد"ليسبق إلى قلوبهم " أي لأجل أن يسرع إلى الدخول في قلوبهم "من فهم دين الله" بيان
قدم على المبين وهو ما ترجى لهم بركته الآتي الواقع فاعلا، والفهم ارتسام صورة ما في الخارج في الذهن، والمراد معرفة الأحكام، والجاهل الغافل يشارك الصبي في ذلك، والمراد بدين الله دين الإسلام، ويحتمل أن يريد به معرفة أصول الديانات بأن يعرف الله تعالى بصفاته، لأن من وصفه بغير ما وصف به نفسه إن كان عن قصد فكفر، وإن كان عن تأويل فابتداع، وإن كان عن جهل فلا يعذر به، وإنما قال من فهم ولم يقل من علم لأن العلم يستدعي معرفة حقيقة المعلوم، وذلك لا يتصور إلا بعد الاتصاف بكمال العقل، والصغير ليس كذلك وإنما حظه من الإدراك الفهم وهو انتفاء الوهم المستولي على العقل الذي لا يفارقه جهل الصبي إلا بنور العلم، ولأجل أن يسبق إلى قلوبهم من فهم"وشرائعه"جمع شريعة وهي الطريقة، والشارع مبين الأحكام، والشارع لغة البيان واصطلاحا تجويز الشيء أو تحريمه أي جعله جائزا أو حراما، وهذا قريب من قول بعضهم: الشرع وضع إلهي، كما تعرف العباد منه أحكام عقائدهم وأفعالهم وأقوالهم يترتب عليه صلاحهم في دار المعاش والمعاد، ومعنى وضع موضوع وضعه الإله، والمشروع ما أظهره الشرع، فالمراد بالشرائع فروع الشريعة من الصلاة والصوم وغير ذلك، فيطلب من الولي تعليم الصغار، ومن الزوج تعليم زوجته، ومن السيد تعليم رقيقهقال العوفي وغيره: لأن العلم بأمور الدين فرض عين على المكلف في العينيات وكفاية في غيرها، لا يسع المكلف جهله، وعليه الإثم في كل زمان يمر عليه يمكنه فيه تحصيله فيضيعه بترك التعلم لما قدمنا من أنه لا يجوز لمكلف الإقدام على حكم قبل معرفة حكم الله فيه ولم تحك الأئمة في ذلك خلافا، والحكم عام في العبادات والمعاملات التي لا بد له من التلبس بها، ويؤخذ من تقديم المصنف دين الله على شرائعه وجوب تعلم ما يتعلق بذات الباري وصفاته من واجب وجائز ومستحيل ابتداء، لأن فهم دين الله شرط في صحة كل عبادة1ـــــــ
1 الشرط بسكون الراء لغة: إلزام الشيء والتزامه ويجمع على شروط وبمعنى الشرط الشريطة وجمعها الشرائط والشرط بفتح الراء معناه العلامة ويجمع على اشراط ومنه أشراط الساعة أي علاماتهاوهو في الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.وعرفه البيضاوي في المنهاج بأنه: ما يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجوده ومثل له بالإحصان فإن تأثير الزنا في الرجم متوقف عليه كما ذكر الأسنوي وأما نفس الزنا فلا لأن البكر قد تزنيوالفرق بينه وبين الشرط: هو أن الشرط يكون خارجا عن الماهية والركن يكون داخلا فيهما فهما متباينان أنظر الموسوعة الفقهية 5/26.
والشرط مقدم على المشروط وهذا مما لا نزاع فيه وتعلم أحكام الشرائع من صحة وبطلان وتحليل وتحريم بعد ذلكتنبيهات الأول: إضافة دين إلى الله في كلام المصنف للتخصيص، لأن لفظ الدين يطلق على دين الله وعلى غيره بالاشتراك اللفظي1، وأما إطلاقه على الأديان الحقة فهو بالاشتراك المعنوي ويكون من قبيل المشكل لا المتواطئ لاختلاف الأديانالثاني: الدين لغة الطاعة والعادة والجزاء وكل ما ورد به الشرع من العبادات، وأما اصطلاحا فهو وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود فيما هو خير لهم بالذات، أي موضوع وأحكام وضعها الله تعالى للعباد، فرعية كالأعمال أو أصلية كالاعتقاديات نحو العلم بأن الله قادر، فخرج بالوضع الإلهي الأوضاع البشرية ظاهرا نحو الرسوم السياسية والتدبيرات المعاشية والصناعية، وخرج بقوله "سائق" الأوضاع الإلهية غير السائقة كإنبات الأرض وإمطار السماء، وخرج بقوله لذوي العقول ما يسوق غيرهم من الحيوانات كالأوضاع الطبيعية التي تهتدي بها الحيوانات لمنافعها ومضارها، وخرج بالاختيار الأوضاع الإلهية الاتفاقية والقسرية السائقة لا في الاختيار كالوجدانيات، وخرج بالمحمود الكفر فإنه وضع إلهي عند من يقول بخلق أفعال العباد وسائق لذوي العقول باختيارهم لكن باختيار مذموم وبالذات متعلق بسائق، يعني أن الوضع الإلهي بذاته سائق لأنه ما وضع إلا لذلك، ومعنى كونه خيرا بالذات أنه خير بالنظر إلى كل شيء، فتخرج صناعة الطب والفلاحة فإنهما وإن تعلقتا بالوضع الإلهي أعني تأثير الأجرام العلوية في السفلية وكانتا سائقتين لذوي الألباب باختيارهم المحمود إلى صنف من الخيرات، فليستا تؤديانهم إلى الخير الذاتي الذي هو السعادة الأبدية والقرب إلى خالق البرية والخير النفع
ـــــــ
1 يطلق الاشتراك في اللغة على: الالتباس يقال: اشترك الأمر التبس ويأتي الاشتراك بمعنى: التشارك ورجل مشترك: إذا كان يحدث نفسه كالمهموم أي أن رأيه مشترك ليس بواحد ولفظ مشترك له أكثر من معنىويطلق الاشتراك في عرف العلماء كأهل العربية والأصول والميزان المنطق على معنيين:
أحدهما: الاشتراك المعنوي وهو كون اللفظ المفرد موضوعا لمفهوم عام مشترك بين الأفراد وذلك اللفظ يسمى مشتركا معنوياثانيهما: الاشتراك اللفظي وهو كون اللفظ المفرد موضوعا لمعنيين معا على سبيل البدل من غير ترجيح وذلك اللفظ يسمى مشتركا لفظياأما الاشتراك عند الفقهاء: فلا يخرج عن معناه في اللغة بمعنى التشارك أنظر الموسوعة الفقهية 4/309, 310.
الذي لا ضرر معه وهو حصول الشيء لما من شأنه أن يكون حاصلا له ومناسبا له، فالفرق بينه وبين الكمال اعتباري، لأن الحاصل المناسب من حيث إنه خارج من القوة إلى الفعل كمال، ومن حيث إنه مؤثر خيرالثالث: أمور الدين أربعة: الصحة بالعقد، والصدق بالقصد، والوفاء بالعهد، واجتناب الحد. أما الصحة بالعقد فالاعتقاد الصحيح السالم من التشبيه والتعطيل والتجسيم في صفات الله، وأما الصدق بالقصد فالعبادات بالنية والعمل بالإخلاص، وأما الوفاء بالعهد فأداء الفرائض في أوقاتها، وأما اجتناب الحد فاجتناب محارم الله تعالى، ويجمع هذه كلها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]وفاعل يسبق "ما ترجى لهم بركته " لأنه اسم موصول بمعنى الذي، وجملة ترجى لهم بركته صلة، والرجاء تعلق القلب بمطموع يحصل في المستقبل مع الأخذ في أسباب الحصول، فإن تجرد عن الأخذ في السبب فهو طمع وهو قبيح والرجاء حسن، والضمير في " لهم " للأولاد وفي " بركته " لما، والبركة كثرة الخير وزيادته"و " الذي "تحمد " أي تمدح "لهم عاقبته " أي آخرته لأن عاقبة كل شيء آخرته، والظاهر أن ذلك بالنظر للدنيا والآخرة، لأنه إذا تمكن دين الإسلام وأحكام الشرائع في قلوب الصبيان ثبت بعد بلوغهم، لأن جميع ما يطرق القلوب زمن خلوها من شواغل الدنيا وهمومها يثبت فيها، لأن الأصل استمرار ما ثبت، ولا سيما يصير بعد البلوغ سهلا خفيفا، فيحمدون عليها في الدنيا لاتصافهم بها وفي الآخرة أيضا لما قاله عبد الحق وغيره: من أن الغالب أن من كان على حالة حسنة لا يبدل به عند الموت وإنما يبدل بمن كان على حالة سيئة، وأيضا الصبي يكتب له الحسنات وثوابها له على المعتمد كما في خبر: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"ولما انقضى السؤال وسببه ذكر الجواب فقال: "فأجبتك" الفاء رابطة للجواب بالسؤال والخطاب لمحرز السائل، ومعنى أجبتك أي أسعفتك ووصلتك "إلى ذلك " الذي قصدته بسؤالك وهو الشروع في كتب الجملة المختصرة، فالإشارة عائدة على السؤال بمعنى المقصود منه، ثم ذكر علة امتثاله للإتيان بالجواب بقوله: "لما رجوت لنفسي و" رجوته "لك" يا محرز "فيه" أي في الجواب، ثم بين ما ترجاه بقوله: "من ثواب من علم" أي فهم "دين الله" أي دين الإسلام "أو دعا إليه" أي إلى تعليم الدين الإسلامي، والثواب مقدار من الجزاء يعلمه الله تعالى ويعطيه لعباده في نظير أعمالهم الحسنة المقبولة، والمعنى: إنما أجبتك لابتغاء حصول الثواب
لي ولك المترتب على التعليم وعلى الدعاء إليه لا لذاتك ولا لثناء الناس علي ولا لقصد دنيا، ولا يقال: المصنف لم يعلم، لأنا نقول: التأليف تعليم بحسب المعنى باعتبار أن كلا من التأليف والتعليم فعل يترتب عليه العلم، وأوفى كلام المصنف تنويعه على ما ذكرنا وهو الظاهر من كلام المصنف، فالمعلم المصنف والداعي محرز، ويحتمل أن تكون بمعنى الواو لأن كلا من المصنف ومحرز معلم وداع، فالتأليف تعليم إذ هو فعل يترتب عليه العلم فهو داع ومعلم ومحرز كذلكقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت: 23] وقال صلى الله عليه وسلم: "لأن - بفتح اللام - يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها ومن تعلم بابا من العلم أعطي ثواب سبعين نبيا"1 وروى صديقا وقال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة للمجاهد والعابد: ادخلا الجنة، فتقول العلماء: يا ربنا بفضل علمنا جاهدوا وعبدوا فما لنا عندك؟ فيقول لهم: أنتم عندي كبعض ملائكتي اشفعوا لعبادي كما كنتم تحسنون أدبهم وتعلمونهم ما لا يعلمون"2وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من داع إلى هدى إلا كان له أجر من تبعه من غير أن ينقص من ثوابهم شيء" 3. وقال ابن القاسم: كنا إذا ودعنا مالكا يقول لنا: اتقوا الله وافشوا العلم بينكم ولا تكتموه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى المسجد ليتعلم علما أو يعلمه رجع غانما كالمجاهد في سبيل الله، ومن جاءه الموت وهو يطلب العلم لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة واحدة"وحديث " سبعة يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علم علما" 4 إلخ. رواه البزار وأبو نعيم والبيهقي. وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم" 5. وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" 6ـــــــ
1 لم أقف عليه2 لم أقف عليه3 أخرجه مالك في الموطأ 1/218 حديث 509 بلفظه4 حسن: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 3/248, وحسنه الألباني صحيح الجامع 36025 ضعيف: أخرجه ابن ماجه كتاب المقدمة باب: ثواب معلم الناس الخير حديث 243. وانظر ضعيف الجامع 10166 صحيح: أخرجه البخاري كتاب العلم باب: الاغتباط في العلم والحكمة حديث 73, ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه حديث 816.
وقال صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، وإن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" 1 رواه الترمذي وقال: حسن صحيح فهذه الأحاديث دالة على ثواب من علم ودعا، وأطلنا بها ترغيبا في الاشتغال بالعلم لأنه به تنال السعادة في الدارينتنبيهات الأول: إجابة المصنف للسائل على جهة الاستحباب، كما أن إجابة السؤال عن المسألة على جهة الاستحباب حيث كان هناك من هو أهل للإجابة، وأما إن لم يكن غير المسئول فتكون الإجابة واجبة على المسئول، لكن إن كان مجتهدا أجاب باجتهاده، وإن كان مقلدا أجاب بما كان يعلمه راجحا من مذهب إمامه بشروط: أحدها: أن يسأل السائل عما يجب عليه من أمر دينه أو دنياهثانيها: أن يخاف فوات النازلة بترك الجوابوثالثها: أن يكون المسئول بالغا وإلا لم تجب عليه الإجابة وإن انفرد بالمعرفة، وأما السائل فلا يشترط بلوغه حيث كان سؤاله عن أمر دنيوي وخيف فوات النازلة، ومن المعلوم أنه لا يجوز الإجابة فضلا عن الوجوب إلا لمن له علم بالمسئول عنه فلا وجه لعد العلم شرطاالثاني: إذا كانت الإجابة واجبة امتنع أخذ الأجر عليها وإلا جاز له الأخذ عليها بالرفق، إلا أن يكون له في بيت المال ما يكفيه وإلا حرم عليه أخذهاالثالث: استشكل قول المصنف لما رجوت، مع أن ثواب العمل مع خلوص النية محقق، والجواب من وجهين: أحدهما: أن الإخلاص غير مقطوع بوجوده، وعلى فرض وجوده القبول للعمل غير مقطوع به والإثابة مترتبة على القبول. وثانيهما: احتمال أن المصنف قال ذلك على وجه التواضع لما تقدم أنه ما ينبغي للمكلف أن ينسب التقصير إلى نفسه في طاعته وجميع تقلباته، وإنه لم يأت بذلك على الحقيقة ويخاف عدم القبولثم شرع في الترغيب والحث على تعليم تلك الجملة لمن ينتفع بها وهو من كان قلبه خاليا من المعاصي والشواغل ليعظم الثواب المترتب على تعليمها إن شاء الله تعالى بقوله: "واعلم " أيها الناظر في تلك الجملة "أن خير " أي أحسن "القلوب " "أوعاها " أي أحفظها "للخير " ضد
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي كتاب العلم باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث 2685 وقال الترمذي: حسن غريب صحيح.
الشر فليس كخير السابق لأنه أفعل تفضيل، والمعنى: أن قلوب المؤمنين قد اشتركت في حفظ الخير وأحسنها وأفضلها أشدها حفظا وضبطا لهفإن قيل: أوعى أفعل تفضيل لا يبنى إلا من الذي يبنى منه فعل التعجب قال في الخلاصة:
صغ من مصوغ منه للتعجب ... أفعل للتفضيل وأب اللذ أبي
وأوعى زائد على ثلاثة، فالجواب أن يقال أوعى من وعى المجرد لا من أوعى"و" اعلم أيضا أن "أرجى القلوب " أي أقربها "للخير " أي لحفظه وقبوله "ما " أي قلب "لم يسبق " أي يسرع "الشر إليه " لأن القلب الذي لم يسبق الشر إليه الذي هو المعصية يقبل كل ما يرد عليه من الخير لعدم المانع، وإذا سبق الشر إليه عظمت الحيلة في إزالته فيندر قبوله للخير، ولذلك مثل بعضهم القلب بآنية الفخار الجديدة يجعل فيها القطران فلا تزول رائحته منها إلا بتعب ومشقة، وما أحسن قول الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتحكما وقال بعض الفضلاء: الشر أكثر والركون إليه أسرع ولا سيما في حال الصبا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصبا شعبة من الجنون"1 والقابلية في مدة الصبا للشر أعظم وأوفر من قابلية الخير لإعانة الجهل والنفس والشيطان على ذلك وعدم العقل الوافرولذلك يجب على الولي أن يجنب الصبي القرناء السوء فإنهم أشد ضررا على الشباب، والطباع تسرق ولا سيما من المصاحبين ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، والصاحب كالرقعة في الثوب فلينظر بماذا يرقع ثوبه" 2تنبيه: قد علمت أن المصنف إنما ذكر هاتين الجملتين حثا للشيخ محرز وغيره على تعليمها لمن يقبل فهم معناها بسرعة، وهو من لم يخالط قلبه ما يمنعه من قبول الخير، لأن تعليم من قلبه مشغول بما يمنع لا فائدة فيه، ويدل لما ذكرنا ما هو كالتعليل له وهو قوله: "وأولى" مبتدأ وهو بمعنى أحق وأكثر ثوابا"ما عني" بصيغة المبني للمفعول أي اهتم واشتغل "به الناصحون " فاعل بمعنى لأنه بمعنى
ـــــــ
1 ضعيف: أخرجه القضاعي في مسند الشهاب 1/66 حديث 54. أنظر الضعيفة 5/4832 حسن: دون الصاحب كالرقعة أخرجه أبو داود كتاب الأدب باب: من يؤمر أن يجالس حديث 4833, وأحمد 2/334 بلفظ: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" وانظر صحيح الجامع 3545, أما بقية الرواية "والصاحب كالرقعة في الثوب" فلم أقف عليها.
المبني للفاعل وإن كان بصيغة المفعول كحم وزكم، وبناؤه للفاعل لغية، والناصحون الخالصون المرشدون للخير المحذرون من الشر"ورغب" معطوف على عني أي طمع "في " تحصيل "أجره " أي ثوابه. "الراغبون " الطالبون وخبر أولى الواقع مبتدأ "إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين " وإرشادهم إلى فهم قواعد الدين وأحكام الشريعة، وإنما خص الأولاد بالذكر وإن شاركهم غيرهم من جهلة المؤمنين لأجل قوله: "ليرسخ " أي يثبت "فيها " أي القلوب وتنقاد إليه طبائعهم وينطاعون إلى العمل بذلك لخلو قلوبهم من شواغل الدنيا"وتنبيههم" بالرفع لعطفه على " إيصال " أي إيقاظهم من سنة الغفلة وإيقافهم "على معالم الديانة " والمعالم جمع معلم وهو في اللغة الأثر الذي يستدل به على الطريق، والمراد بها هنا قواعد الإسلام الخمس بدليل إضافتها إلى الديانة"و " تنبيههم على "حدود الشريعة " ومعنى تنبيههم على حدود الشريعة إيقافهم عليها ليتجنبوها، كالزنا والشرك والشرب وأكل أموال المسلمين بالباطل، ثم بين علة الأولوية بقوله: "ليراضوا عليها " أي إنما كان أولى ما عني به الناصحون ما ذكر لأجل أن يتمرنوا على تلك المذكورات ويستأنسوا بها وتصير لهم كالأمور الطبيعية الثابتة في قلوبهم تنقاد إليها طبائعهم، كالبهيمة التي تراض للتعليم ليحصل منها المراد وإن لم تتعلم كانت جموحا لا تنقاد لا خير فيها، فينبغي للولي تدريب الصبي في جميع أحواله على ما يحتاج إليه من أمر دينه ودنياه ويجنبه ما تخشى عاقبته، لأن الطباع تسرق، فمخالط العلماء يكتسب منهم ومخالط السفهاء كذلك"و " تنبيههم على معرفة "ما " أي الذي يجب "عليهم " بعد بلوغهم "أن تعتقده من الدين قلوبهم " وهو عقائد الإيمان المتعلقة بذات الباري وصفاته وما يتعلق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبقولنا بعد بلوغهم اندفع الإشكال بأن الصبيان لا يجب عليهم اعتقاد ولا عمل"و" تنبيههم على ما "تعمل" أي تشتغل "به جوارحهم " أي أعضاؤهم، ويقال لها الكواسب لأن بها يكتسب الخير والشر، ولذلك تسمى الكلاب المعلمة جوارح. قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] لأن صاحبها يكتسب بها، فما موصولة كما بينا معطوفة على معالم وليست استفهامية ولا نافية، والمعنى: وأولى ما عني به الناصحون إلخ إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين وتنبيههم على معالم الديانة وحدود الشريعة، وعلى اعتقاد الذي يجب عليهم اعتقاده بعد البلوغ وتعمل به جوارحهم من الصلاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكرتنبيه: قد ادعى بعد تكرار قوله: وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم مع معالم الديانة وتكرار ما تعمل به جوارحهم مع حدود الشريعة، وقد مر ما يندفع به التكرار من حمل معالم الديانة على قواعد الإسلام، وحمل ما يعتقده من الدين قلوبهم على عقائد الإيمان، وحمل حدود الشريعة على المنهيات من نحو الزنا والقتل وما يترتب عليهما، وما تعمل به الجوارح على الصلاة والحج والصوم وما شابه ذلكفإن قيل: كيف يقول المصنف: وأولى ما عني به الناصحون إيصال. إلخ مع أن أداء الفرائض أولى من إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين؟ فالجواب: أن المراد بعد أداء الفرائضفإن قيل: يشكل على هذا الجواب قوله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ "الصلاة في أول وقتها" 1 وقوله في حديث آخر: "بر الوالدين" 2 وقال في آخر: "الجهاد" 3 فظاهر هذه الأحاديث التعارض، وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم كان كالطبيبفأجاب: من علم منه عدم بر والديه بأن الأفضل برهما وأجاب: من علم منه عدم المحافظة على الصلاة في
أول وقتها بقوله: "أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها" وأجاب: من علم منه عدم محبته الجهاد بأن أفضل الأعمال الجهادأو أن من مقدرة في كلامه أي ومن أولى ما عني به الناصحون إلخ، ويبقى النظر في الأولى على الإطلاق بالاشتغال من غيره من أفعال الخير الغير الواجبة لم أعلم من بينه، ويظهر لي أن الأولى على الإطلاق ما اشتد طلبه وكثر ثوابه منهاثم استدل على ما قاله من أن أولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلخ بثلاثة أحاديث قال: "فإنه " أي الحال والشأن لأنه لم يتقدم له مرجع، وما كان كذلك يسمى ضمير شأن وتكون جملة ما بعده مفسرة له، لأن الحال والشأن وهي جملة الأحاديث
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب: في المحافظة على وقت الصلوات حديث 426. وانظر صحيح الجامع 10932 الأحاديث الواردة جمعت هذه الأمور كلها ومنها ما أخرجه البخاري 7534 أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها وبر الوالدين ثم الجهاد في سبيل الله"3 أنظر السابق.
الآتية، والفاء هنا لربط الجملة التي بعدها بما قبلها ربط الجواب بالسؤال لا كربط العلة بالمعلول، لأنه لا يطرد في الأحاديث والشروط بالمشروط، كأنه قيل له:لم قلت كذا؟ قاله في الجواب فإنه "روي" قيل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل عن علي من كلامه رضي الله عنه، ولكن لا يدرك بالعقل فهو مرفوع معنى"أن تعليم الصغار لكتاب الله" أي القرآن لأنه المفهوم عند الإطلاق وهو أشرف الكتب السماوية حتى جاء في بعض الأحاديث: "من حفظ القرآن أعطي ثلث النبوة"1 أي علم ثلث النبوة. "ويطفئ" أي يخمد ويسكن "غضب الله" وتفسيرنا الإطفاء بالإخماد تفسير له بالمعنى اللغوي، والمراد هنا رد العذاب الواقع بالغضب، ورده إما عن آبائهم أو عمن تسبب في تعليمهم أو عنهم في المستقبل أو عن المجموع أو يرد العذاب عموما، والغضب في الأصل هيجان الدم وغليانه طلبا للتشفي، ولا شك أنه بهذا المعنى مستحيل في حقه تعالى، فيجب صرفه في حقه تعالى إلى لازمه. فإذا قيل: غضب الله على هذا فمعناه أنه أراد الانتقام منه أو ذمه وهما راجعان إلى صفة الذات، أو بمعنى أوقع به الانتقام فيرجع إلى صفة الفعل فيكون الغضب في كلامه من باب المجاز الذي علاقته اللازمية والملزومية، والمراد الصغار من أولاد المؤمنين لقول مالك: لا تعلم أولاد الكفار القرآنوروي أيضا: "الصغار في المكاتب شفعاء الكبار ذوي المعائب"وروي أيضا: "إذا استوجب الناس العقاب نظر الله للصغار في المكاتب فيدفعه عنهم" وروي أيضا: "إذا تتابع الناس بالمعاصي وأظلمت الأرض بأهل الفسق وعبدت الصلبان وسجدت للنيران واستحقوا العقاب نظر الله إلى أصوات الأولاد في المكاتب والمؤذنين في المنائر فيحلم عليهم ويرد ما يستحقون من العذاب""و" الحديث الثاني ما روي "أن تعليم الشيء في" حال "الصغر" يثبت "كالنقش في الحجر" زاد في النوادر على هذا: والتعليم في الكبر كالنقش على الماء، وما زاده في النوادر مصرح به في الرواية الآتية، وهذا الحديث رواه الطبراني في الكبير مرفوعا عن أبي الدرداء بسند ضعيف بغير هذا اللفظ بل بلفظ: "مثل الذي يتعلم في صغره كالنقش في الحجر، ومثل الذي يتعلم في كبره كالذي يكتب على الماء"2 والحديثان دالان على فضل تعلم الولدان، وتعليم كتاب
ـــــــ
1 لم أقف عليه2 موضوع: أخرجه الطبراني في الأوسط 1/394. وقال الألباني موضوع الضعيفة 2/85.
الله المراد منه تعليم الحروف والمعاني حتى تحصل معرفة الاعتقاد والشرائع، وحينئذ صح الاستدلال بالحديث وسقط الاعتراض على المصنف بأن هذا الدليل أخص من المدلول، لأن تعليم كتاب الله بعض الخير لأنه إنما يتعلم حروفه دون معانيهومن شرط الدليل كونه أعم من المدلول أو مساويا له، والحديث بهذا المعنى ليس كذلك إذ لا يعلم منه معرفة اعتقاد ولا شرائع، بخلاف ما إذا أريد بتعليم كتاب الله تعليم الحروف والمعاني صار الدليل مساويا للمدلول بل أعم، لأن معاني القرآن أعم من ذلك المدلول، وإنما رغب الشارع في ذلك لأن قلب الصغير فارغ من وسواس هموم الدنيا، وإن كان عقل الكبير أرجح لكن الوسواس والخواطر تزيله قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لو كلفت بصلة ما حفظت حديثاتنبيهان الأول: ينبغي لمن له ولاية على صغير الرفق به فلا يكلفه من العمل ما لا يطيقه قاله في سماع أشهب من كتاب الجامع قال: وسمعته يسأل عن صبي ابن سبع سنين جمع القرآن، قال: ما أرى هذا ينبغيقال ابن رشد: إنما قال هذا لا ينبغي من أجل أن ذلك لا يكون إلا مع التشديد عليه في التأديب والتعليم وهو صغير جدا وترك الرفق به في ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق ويجب الرفق من الأمر كله" 1الثاني: أول من جمع الأولاد في المكتب عمر بن الخطاب وأمر عامر بن عبد الله الخزاعي أن يلازمهم للتعليم وجعل رزقه من بيت المال وكان منهم البليد والفهيم فأمره أن يكتب للبليد في اللوح ويلقن الفهيم من غير كتب، وكان عمر رضي الله عنه يشهدهم على الأمور التي يخاف عليها الانقطاع بطول الزمان كالنسب والجنس والولاءفسألته الأولاد أن يشرع لهم التخفيف فأمر المعلم بالجلوس بعد صلاة الصبح إلى الضحى العالي، ومن صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ويستريحون بقية النهار، إلى أن خرج إلى الشام عام فتحها فمكث شهرا، ثم إنه رجع إلى المدينة وقد استوحش الناس منه فخرجوا للقائه فتلقاه الصغار على مسيرة يوم وكان ذلك يوم الخميس فباتوا معه ورجع بهم يوم الجمعة فتعبوا في
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب: إذا عرض الذمي وغيره بسبب النبي صلى الله عليه وسلم حديث 4807, وابن ماجه حديث 3689.
خروجهم ورجوعهم فشرع لهم الاستراحة في اليومين المذكورين، فصار ذلك سنة إلى يوم القيامة، ودعا بالخير لمن أحيا هذه السنة ودعا بضيق الرزق لمن أماتها"وقد مثلت" أي بينت "لك" يا محرز أي جعلت لك المسائل واضحة كالمثال الموضح للقواعد، والمصنف ذكر المسائل التي اشتملت عليها الجملة كالشيء المدرك بالحس بحيث يفهمه البليد لأنه وضح جميع ما يذكره ببيان صفته، كبيان صفة الوضوء والغسل والصلاة والحج وغيرها من صفة الزكاة، ومن اعتنى بكلامه وجده كما ذكرنا، والمراد تمثيلها في المستقبل لأن هذا إخبار عما يحصل في المستقبل، فقوله: مثلت من التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل لعلة رجائه في إقدار الله له على إتمام ما قصد، ففي الحديث: "أنا عند ظن عبدي" 1 إلخ. "من ذلك " المذكور في السؤال وهو الجملة المختصرة، ومفعول مثلت "ما ينتفعون " أي الولدان "إن شاء الله " النفع "بحفظه " وأتى بإن شاء الله امتثالا لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23, 24]"ويشرفون " بضم الراء "بعلمه " أي ينالون الرفعة في الدنيا والآخرة بمعرفته إن شاء الله تعالى، وماضيه شرف بضم الراء شرفا بفتحه إذا نال العلو، ويقال: شرف بفتح الراء شروفا بضم الشين إذا كبر وأسن، ويقال: أشرف الشيء إذا ارتفع، وأشرف المريض إذا انتهى إلى الموت، وأشرفت على الشيء إذا علوت عليه، وشرف العلم وعلو مرتبته ومنزلة صاحبه العامل به لا ينازع فيه عاقل، إذ لا شيء أعظم مرتبة من العلم، حتى قيل: إنه أفضل من العقل على الراجح لأنه تعالى يتصف به ولا يتصف بالعقل. "ويسعدون " أيضا إن شاء الله تعالى"باعتقاده" أي بالجزم به كاعتقاد وجود الباري جل وعلا واتصافه بسائر أوصاف الكمال وتنزهه عن أوصاف النقصان وصدق الرسل في كل ما أخبروا به "والعمل به" بسائر الجوارح التي يتوقف عليها العمل والمراد العمل على وجه الإخلاص لأنه الذي تحصل به السعادة، والسعادة هي الموت على الإيمان، فهي المنفعة اللاحقة في العقبى، وهو دخول الجنة، وهي
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب التوحيد باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]حديث 7405, ومسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب: الحث على ذكر الله تعالى حديث 2675, والترمذي حديث 2388 وابن ماجه حديث 3822, وأحمد 2/251, حديث 7416.
غير معلوم للإنسان، فينبغي له المبالغة في الخوف وعد نفسه عدما لأنه لا يدري ما الخاتمة، والشقاوة الموت على الكفر والعياذ بالله فهي المضرة اللاحقة في العقبى وهي دخول النار ولو انقضى عمر الإنسان في عبادة، وحذف إن شاء الله من الجملتين الأخيرتين لدلالة الأولى فهي مقدرة فيهما، وقيد النفع بالحفظ، والشرف بالعلم، والسعادة بالاعتقاد والعمل، لأن الانتفاع بالشيء إنما يكون بحفظه، والشرف إنما يكون بالعمل الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي إذ به يحصل شرف الدنيا والآخرة بالجنة، وأما العلم بلا عمل فلا فائدة فيه لأنه كنخلة بلا ثمروالحاصل أن العلم بكتاب الرسالة المعبر عنها بالجملة المختصرة، والعمل بما فيها يحصل للعامل غاية الشرف والسيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة، لأن العلم أفضل ما يتزين به الإنسان لأن الملائكة والرسل والملوك تخضع للعالم، وقال بعض الفضلاء: من حفظ الرسالة أجزأته عن غيرها وإن أراد غيرها كانت له مفتاحا، وهذا كله إذا قصد بعلمه وبالعمل به وجه الله تعالى، فإن قصد بطلبه العلم الدنيا وزينتها فليس أشد عذابا منه، ولذلك قال سحنون: لأن آكل الدنيا بالدف والمزمار خير لي من أن آكلها بالدين، واعلم أن حرف المضارعة من الأفعال الثلاثة مفتوح، وأجاز بعضهم ضمه من يسعدون لكن لم تقع به رواية"و" الحديث الثالث ما يدل على قوله: وأولى ما عني به الناصحون ما "قد جاء " عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن يؤمروا" أي الأولاد على جهة الندب "بالصلاة " المفروضة على البالغين "لسبع سنين " أي لإتمام السبع على قول بعض شراح خليل، وقال الحطاب: المفهوم من النصوص يؤمرون بالدخول في السبع، وهذا هو الظاهر من كلام المصنف لا بعد إكمالها والذي يأمرهم الولي لأن الخطاب له، وأمر الشارع للولي أمر ندب على المشهور، وليس الخطاب للصبي لأنه غير مكلف، والخطاب من الشارع إنما يكون للمكلفين، وعلى ما قلنا: إنه المشهور لو ترك الولي أمر الصبي لا إثم عليه لأنه إنما ترك مندوبا، والتارك له لا إثم عليه، ومقابل المشهور قول ابن بطال: أمر الشارع للولي أمر إيجاب على الولي، وعليه إن لم يأمر الولي الأولاد يأثم بترك الواجب عليه ويكون أمرهم بالكلام ابتداء ثم بالتهديد والتخوف بالضرب لا بالشتم"و" إذا لم يحصل منهم امتثال بالكلام ولا بالإيعاد بالضرب يجوز أن "يضربوا عليها" بالفعل ضربا غير مبرح وذلك عند البلوغ "لعشر " أي عند الدخول فيها كما قاله ابن القاسم"و" يندب أيضا عند دخولهم في العشر على رواية ابن وهب المقدمة هنا على قول ابن
القاسم: يطلبها عند بلوغ السبع أن "يفرق بينهم في المضاجع"1 قال ابن رشد: الصواب أن لا يفرق بينهم في المضاجع إلا عند العشر وهو قول ابن وهب كما قدمنا وهو ظاهر الحديث، وتحصل التفرقة بنوم كل واحد في ثوبه وإن نام الجميع تحت لحاف واحد لأن المنهي عنه المتلاصق، كما يأتي في قوله: ولا يتلاصق رجلان ولا امرأتان في لحاف واحد، فإن مفهومه الجواز وإذا كان على كل واحد ثوبه، وإذا كان يجوز للبالغين التلاصق تحت اللحاف مع ستر كل بثوبه فيجوز لغير البالغين بالأولى، كما تندب التفرقة بين الأولاد وبعضهم يندب بينهم وبين آبائهم، وحكمه ندبها مخافة تمرينهم على الالتذاذ ببعضهم فيرتكبونها بعد البلوغ لسابق الألفة، والمضاجع جمع مضجع وهو محل النوم، والحديث الذي جاء خبر أبي داود: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"وهو صريح في أن الخطاب من الشرع للولي لا للصبي خلافا لمن قال بخطاب الصبي من الشارع، ولعله مبني على أن الأمر بالشيء أمر بذلك الشيءتنبيهات الأول: الحديث قاصر على الصلاة، وأما الطهارة والصوم وغيرهما من المأمورات فلم يأت بالأمر بها خبر، والحكم فيها أن الأمر بالطهارة للصلاة يستلزم الأمر بها لأنها شرط لصحتها ووجوبها أيضا، وأما الصوم فلا يندب بل لا يجوز على ما يظهر أمرهم به لمشقته، والولي لا يجوز له إلزام الصبي ما عليه في فعله مشقة ولذا لم يأمر الشارع الولي به، وإذا صام الصبي لا ثواب له لأن الثواب في فعل المطلوب لا في فعل المباح ولا المنهي عنه، وإنما أمر بالصلاة لكونها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ولا مشقة عليها في فعلها فأمر بها ليعتادها، لأنه لو لم يألفها قبل بلوغه لربما كرهتها نفسه بعد بلوغه لكثرة شروطها وتكررها في اليوم والليلة، وأما الحج فلا يجوز للولي أمر الولد بالسفر لأجله، ولكن إن وقع ونزل واستصحبه إلى محل الإحرام طلب منه أمره بالإحرام إن كان مميزا أو نوى إدخاله فيه إن كان غير مميز لحرمة الحرم، هذا ما يؤخذ من كلام أهل المذهب، وأما الزكاة فهي متعلقة بالمال فيجب على وليه إخراجها كما يجب عليه إخراج صدقة فطره، وكما يسن في حقه التضحية عنه إن كان له مال لم يحتج له في عامه، أما بقية المأمورات سوى ما ذكر فسينص عليه بقوله: فكذلك ينبغي أن يعلموا إلخـــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة حديث 495, وانظر الإرواء 1/266.
الثاني: اختلف في أجر صلاة الصبي وسائر ما فعله مما يترتب عليه ثواب، فقيل للأب وقيل للأم وقيل بينهما وقال العلامة محمد الحطاب ففي حاشيته على خليل: الصحيح أن أجر أعمال الصبي له ولا تكتب عليه السيئات، ونحوه لبعض العلماء، وقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاث" 1 نص في أن المرفوع عنه إنما هو ما يكون عليه لا ما يكون له، وأجر عمله له لا لغيره، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام لما قيل له: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر ولحامله على الطاعة أجر حمله" 2وقول من قال: الأجر كله لأبويه إما على المناصفة أو الثلثان للأم غلط سببه الجهل بالسنة قال أبو عمران: وقد ثبت أن الصغار يتفاوتون في منازل الجنة بقدر تفاوتهم في الأعمال الصالحة في الدنيا، كما أن الكفار في جهنم كذلك بقدر كفرهمالثالث: قد قدمنا أنهم يضربون بعد الدخول في العشر ضربا غير مبرح، لكن اختلف هل يحد بحد أم لا؟ قال ابن عرفة: قلت الصواب اعتبار حال الصبيان فقد شاهدت غير واحد من
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه النسائي كتاب الطلاق باب: من لايقع طلاقه من الأزواج حديث 3432 وانظر صحيح الجامع 3513رفع القلم: قال السيوطي نقلا عن السبكي وقوله رفع القلم هل هو حقيقة أو مجاز فيه احتمالان: الأول وهو المنقول المشهور: أنه مجاز لم يرد فيه حقيقة القلم ولا الرفع وإنما هو كناية عن عدم التكليف ووجه الكناية فيه أن التكليف يلزم منه الكتابة كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وغير ذلك ويلزم من الكتابة القلم لأنه آلة الكتابة فالقلم لازم للتكليف وانتفاء اللازم يدل على النتفاء ملزومه فلذلك كني بنفي القلم عن نفي الكتابة وهي من أحسن الكنايات وأتى بلفظ الرفع إشعارا بأن التكليف لازم لبني آدم إلا هؤلاء الثلاثة وأن صفة الوضع ثابت للقلم لا ينفك عنه عن غير الثلاثة موضوعا عليهوالاحتمال الثاني أن يراد حقيقة القلم الذي ورد فيه الحديث: "أول ما خلق الله القلم فقال: له اكتب فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة" فأفعال العباد كلها حسنها وسيئها يجري به ذلك ذلك القلم ويكتبه حقيقة وثواب الطاعات وعقاب السيئات يكتبه حقيقة وقد خلق الله ذلك وأمر بكتبه وصار موضوعا على اللوح المحفوظ ليكتب ذلك فيه جاريا إلى يوم القيامة وقد كتب ذلك وفرغ منه وحفظ. وفعل الصبي والمجنون والنائم لا إثم فيه فلا يكتب القلم إثمه ولا التكليف به فحكم الله بأن القلم لا يكتب ذلك من بين سائر الأشياء رفع للقلم الموضوع للكتابة والرفع فعل الله تعالى فالرفع نفسه حقيقة والمجاز في شيء واحد وهو أن القلم لم يكن موضوعا على هؤلاء الثلاثة إلا بالقوة والنهي لأن يكتب ما صدر منهم فسمي منعه من ذلك رفعا فمن هذا الوجه يشارك هذا الاحتمال الأول وفيما قبله يفارقه. أنظر عون المعبود 12/472 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الحج باب: صحة حج الصبي وأجر من حج به حديث 1336, والترمذي حديث 924, والنسائي حديث 2645, وابن ماجة حديث 2910, وأحمد 1/343, حديث 3195, بلفظ "ألهذا حج قال: "نعم ولك أجر" أما باقي الرواية فلم أقف عليها.
المعلمين الصلحاء يضرب نحو العشرين وأزيد، وقال بعض الشيوخ: والضرب المأمور به ثلاث ضربات بدرة عليها سوط لين عريض على الظهر فوق الثياب أو على باطن القدمين مجردين، فما زاد على ذلك أو خرج عن الصفة ففيه القصاص من غير الأبوين، وما تولد عن غير المأذون فيه ففيه الدية، وما تولد عن المأذون فيه فلا شيء فيهقال القاضي أبو بكر: ويضرب الرجل يتيمه على نفعه وكذا أولاده وأهله على نفعه ونفعهم، وقال مالك: يضرب الرجل أهله على الصلاةالرابع: قد قدمنا أن حكم التفرقة بين الأولاد وبينهم وبين أبويهم في المضاجع الاستحباب وعدمها مكروه، والكراهة متعلقة بالأولياء لأنهم يأمرون بها الأطفال، وأما التفرقة بين البالغين فسيأتي أنها واجبة عند قوله: ولا يتلاصق رجلان ولا امرأتان، لكن تلاصق البالغين بالعورة من غير حائل حرام مطلقا كبه مع قصد اللذة ووجدانها وإلا كره، وأما تلاصقهما بغير عورتيهما من غير ساتر فمكروه إلا أن يقصدا أو أحدهما اللذة أو يجداها، وأما تلاصق البالغ وغيره فمكروه من حق ولي الصبي، وفي حق البالغ على الأسبق من الحرمة على البالغ حيث لا ساتر مطلقا كبه مع قصد لذة أو وجدانها أو الكراهة من عدمها، والإناث كالذكور في التفصيلولما كان يتوهم من الحديث أن الصبيان لا تؤمر إلا بالصلاة مع أنه يستحب أمرهم وتعليمهم كل ما لا يشق مما يجب عليهم بعد بلوغهم شبه فيما سبق فقال: "فكذلك ينبغي " أي يستحب "أن يعلموا " أي الأولاد "ما فرض الله على العباد " المكلفين "من قول " كلفظ الشهادتين أو ما في معناهما بالنسبة للقادر الذي يريد الدخول في الإسلام، أو الذي يريد أداء الواجب عليه، وقراءة أم القرآن بالنسبة للصلاة"و" من "عمل" ببقية جوارحهم كالوضوء والصلاة. ولفظ العباد شامل للكفار لأن المشهور خطابهم بفروع الشريعة، وزمن استحباب التعليم "قبل بلوغهم" فقبل ظرف ليعلموا منصوب به، وبلوغهم يكون بثمان عشرة سنة أو الحلم أو الحيض أو الحمل، وإنما استحب تعليمهم قبل بلوغهم "ليأتي عليهم البلوغ و " الحال أنه "قد تمكن ذلك" الذي تعلموه مما هو مفروض على المكلفين "في قلوبهم وسكنت" أي مالت "إليه أنفسهم" بحيث لا يملون من فعله بعد بلوغهم، وإنما فسرنا ينبغي بيستحب للإشارة إلى أن أمر الشارع للولي بتعليمهم أمر ندب على المعتمد كما قدمنا، فاسم الإشارة راجع إلى ما في فرض الله والضمير في قلوبهم وأنفسهم إلى الأولاد، ومعنى تمكن في قلوبهم ثبت ورسخ فيها، ومعنى سكنت مالت إليه بحيث صار
مألوفها فلا تمل منه، والنفس يراد بها الروح على الصحيحقال شيخ الإسلام: وحقيقة الروح لم يتكلم عليها الرسول عليه الصلاة والسلام فنمسك عنها ولا نعبر عنها بأكثر من أنها موجودة لقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي مما استأثر به أي اختص بعلمه وهي واحدة، خلافا للعز بن عبد السلام في قوله: إن كل جسد له روحان: أحدهما روح اليقظة التي أجرى الله عادته بأنها إذا كانت في الجسد كان مستيقظا فإذا خرجت منه نام ورأت تلك الروح المنامات، والأخرى روح الحياة التي أجرى الله العادة بأنها ما دامت في الجسد كان حيا وإذا فارقته مات، وهاتان الروحان في باطن الجسد لا يعلم مقرهما إلا الله أو من أطلعه الله على ذلك فهما كجنين في بطن امرأة واحدة، وبعض خاض في حقيقة النفس وذلك البعض الخائض على ثلاث فرق: إحداها تقول: إنها جسم بدليل وصفها بالعروج والخروجوثانيتها تقول: إنها عرض وهي الحياة التي يصير البدن بوجودها حيا. وثالثتها تقول: إنها ليست بجسم ولا عرض وإنما هي جوهر مجرد قائم بنفسه له تعلق بالبدن يدبره ليس داخلا فيه ولا خارجا عنه، ولكن الأفضل ترك الخوض. قال في الجوهرة:
ولا تخض في الروح إذ ما وردا ... نص عن الشارع لكن وجدا
لمالك هي صورة كالجسد ... فحسبك النص بهذا السند
"وأنست " أي استأنست "بما يعملون به من ذلك " المفروض "جوارحهم " بحيث صارت لا تتألم عند الفعل، وجوارحهم فاعل أنست بمعنى عدم تألمها من فعله وإن كان التأنس في الأصل ضد التوحشتنبيهان الأول: قال الفاكهي: العباد أصناف ملائكة وأنبياء وإنس وجن، فالملائكة والأنبياء معصومون، والإنس والجن منهم مطيع
ومنهم عاص، والخلائق الحيوانية على ثلاثة أقسام: قسم له عقل ولا شهوة له وهم الملائكة، وقسم له شهوة ولا عقل له وهم الدواب، وقسم له عقل وشهوة وهم بنو آدم، فمن غلب عقله على شهوته كان مع الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله كان مع الدوابالثاني: العقلاء بالنسبة للتكليف على ثلاثة أقسام: كلف من أول الفطرة قطعا وهم الملائكة وآدم وحواء وقسم لم يكلف من أول الفطرة قطعا وهم أولاد آدم، وقسم فيه نزاع والظاهر أنهم مكلفون من أول الفطرة وهم الجن ذكره ابن جماعة.
"وقد فرض " ويرادفه أوجب وحتم وكتب "الله سبحانه وتعالى على القلوب " على أصحابها أي بعد تكليفهم "عملا من " جنس "الاعتقادات " كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وسائر ما يجب لها"و " فرض أيضا "على الجوارح الظاهرة عملا من" جنس "الطاعات" كالطهارة1 والصلاة وشبه ذلك مما يتوقف صدوره على أعمال الجارحة وإن حصلت مشاركة بينها وبين القلب في بعضها كالنية، هكذا قال بعض الشراح، وأقول: هذا لا يتأتى على الراجح من عدم اشتراط التلفظ بالنية، وأما على الراجح فالنية مما هو فرض على القلب، ويفهم من مقابلة الأعمال ما يشمل الأقوال كما في خبر: إنما الأعمال بالنياتتنبيهات الأول: إنما ذكر المصنف قوله: وقد فرض إلخ بعد ما سبق لأنه في معنى العلة للعلة السابقة، لأنه لما قال: ليأتي عليهم البلوغ وقد تمكن ذلك في قلوبهم قيل له: ولم طلب تمكن تلك المذكورات في قلوبهم بعد بلوغهم؟ قال: لأن الله قد فرض على قلوبهم الاعتقادات وعلى جوارحهم الطاعاتالثاني: كثيرا ما تتشوف النفس إلى معرفة ما يخطر بقلب المكلف هل يؤاخذ به لظاهر قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] أو لا؟ قال العلامة الأجهوري: الذي عليه العمل أن ما خطر بقلب المكلف من المعاصي والآثام إن كان مما يختص بالقلب فهو يحاسب به ولا كلام، لكن مع العزم عليه لا بمجرد خطوره في القلب من غير عزم خلافا لبعضهم، وذلك كالرياء والشرك والحسد والكبر
والعجب وبغض المؤمنين ومحبة الكافرين، وما في معنى ذلك مما يختص بالقلب، وإن كان مما لا يختص بالقلب بل يشاركه فيه بعض الجوارح كالسرقة والغصب وما شابههما فإن خطر وانصرف من غير عزم فلا يؤاخذ به أيضا بل قيل: يكتب له حسنة، وإن خطر بباله وواراه في ضميره وعقدت عزيمته عليه فهذا هو الذي يكتب عليهـــــــ
1 الطهارة في اللغة: النظافة يقال: طهر الشيء بفتح الهاء وضمها يطهر بالضم طهارة فيهما والاسم الطهر بالضم وطهره تطهيرا وتطهر بالماء وهم قوم يتطهرون أي: يتنزهون من الأدناس ورجل طاهر الثياب أي: منزهوفي الشرع: هي عبارة عن غسل أعضاء مخصوصة بصفة مخصوصة وعرفت أيضا بأنها: زوال حدث أو خبث أو رفع الحدث أو إزالة النجس أو مافي معناهما أو على صورتهماوقال المالكية: إنها صفة حكمية توجب للموصوف بها جواز استباحة الصلاة به أو فيه أو لهفالأولان يرجعان للثوب والمكان والأخير للشخص أنظر الموسوعة الفقهية 29/91, 92.
الثالث: كثيرا ما يسأل عن محل سبحان الله أو تبارك وتعالى أو عز وجل أو صلى الله عليه وسلم بعد قال الرسول، ونحن نبين ذلك بأتم بيان إن شاء الله تعالى رأفة بالطالب فنقول: أما سبحان الله فهو من الأسماء الملازمة للنصب بفعل محذوف وجوبا تقديره أسبح أو سبح بتخفيف الباء على الخلاف في سبحان الله هل هو مصدر أو اسم مصدر فيكون جملة معترضة بين فرض وصلته وهي قوله على القلوب، ونكتة الاعتراض الدالة على التنزيه لأن سبحان علم على التسبيح الذي هو التنزيه تقول: سبحت الله بمعنى نزهته تنزيها بليغا من سبح إذا ذهب وبعد لأنك بعدت من سبحته عما نزهته عنه، ومعلوم أن الجملة المعترضة لا محل لها من الإعراب، وكذلك جملة عز وجل أو تبارك وتعالى أو صلى الله عليه وسلم معترضة لإنشاء الثناء أو الدعاء وهي لا تصلح حالا ولا نعتا، فاحرص عليها فقلما تجدها على هذا البيانثم شرع في بيان كيفية ذكره للمسائل هل هي مفصلة في أبواب أو مجملة فقال: "وسأفصل " أي أفرق "لك " يا مخاطب لأنك السائل في كتابتها "ما شرطت " أي التزمت "لك ذكره " بإجابتي لك حين سألتني، لأن الإجابة في معنى التزام الوفاء بمطلوب السائل حالة كونه مفصلا "بابا بابا " فبابا حال من ما المفعول، ويصح جعله حالا من فاعل أفصلوالمعنى: وسأفصل لك الذي التزمته بإجابتي لك حال كونه أو حال كوني مفصلا بابا بعد باب وصح نصبه على الحال مع جموده لتأوله بمفصلا كما ذكرنا قال في الخلاصة: ويكثر الجمود في سعر وفي مبدي تأول بلا تكلف فهو مثل: ادخلوا رجلا رجلاقال المرادي فيه: والمختار أنه وما قبله منصوبان بالعامل الأول لأن مجموعهما هو الحال، ونظيره في الخبر الرمان حلو حامض في أن كلا من حلو وحامض خبر، فيكون كل من باب الأول والثاني منصوبا على الحالية، ولعل وجه المشابهة بين بابا بابا وحلو حامض في أن مجموع الأمرين هو الحال في الأول وخبر في الثاني فلا ينافي أن بابا الثاني غير الأول، وأما حلو حامض فالاثنان في معنى شيء واحد وهو مز لما يشهد به الحس والوجدان، وعدة أبوابها أربعة وأربعون بابا بعضها ملفوظ به وبعضها مقدر، وعدة مسائلها أربعة آلاف مسألة مأخوذة من أربعة آلاف حديث وقيل أربعمائة حديث بدل أربعة آلاف وإنما فصلها أبوابا "ليقرب " أي ما ذكرته أي معناه "من فهم متعلميه " وليسهل عليهم حفظه والرجوع إليه عند الاحتياج إلى الكشف عن شيء من المسائل ولأنه أنشط للطالب "إن شاء الله تعالى" راجع إلى قوله أفصل وما بعدهولما كان الإنسان وإن كان أوفر عقلا لا يهتدي بنفسه إلى ما هو أكثر ثوابا قال: "وإياه " أي
سبحانه وتعالى لا غيره، وعلى ما يدل عليه تقديم المعمول "نستخير " أي نطلب منه أن يقدر لنا ارتكاب ما هو خير في كيفية الإتيان بألفاظ تلك الجملة، وعلى أي وجه نأتي بها هل هي على غاية من المبالغة في الاختصار أو بين بين، وليست الاستخارة في أصل الكتابة وعدمها لأنها خير يقدم فعله على تركه، وأيضا الاستخارة في الشروع تقدمت قبل الشروعوإنما الاستخارة المطلوبة الآن في صفة الإتيان فسقط ما قد يقال: الإنسان إنما يستخير قبل شروعه والمصنف شرع فكيف يستخير الآن؟ وحكم الاستخارة الندب في كل أمر تجهل عاقبته، فإن فيها تسليم الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ليختار له تعالى ما هو خير له، وتكون الاستخارة بالحمد والصلاة على نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور، ثم يمضي لما انشرح له صدرهففي الصحيح عن جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به" 1 ويسمي حاجتهوروى ابن السني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه"2 قال النووي: ويقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون، وفي الثانية بعد الفاتحة: قل هو الله أحد، وإذا تعذرت الاستخارة بالصلاة استخار بالدعاء، والدال في قوله: واقدره لي مضمومة، والهمزة في قوله: ثم أرضني به مقطوعة، وقوله: إن كنت تعلم فيه إشكال لا يخفى وجوابه أن إن بمعنى إذ التعليلية أو المراد تفويض العلم إلى الله تعالى، والأولى في الجواب أن معنى إن كنت تعلم إن كان تعلق علمك في الأزل بأن هذا الأمر خير لي لأن علمه تعالى متعلق بكل شيء تعلقا تنجيزيا قديما قال صاحب المدخل: ولا تستخر في المندوبات هل تفعلها أم لا؟ بل في فعل أحدها إذا
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الجمعة باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى حديث 11662 ضعيف جدا: أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة وانظر كنز العمال 21531, وانظر ضعيف الجامع 735.
ضاق الوقت عن فعل الجميع أو عند إرادة الاقتصار على فعل بعضها، والاستشارة كالاستخارة في أنها إنما تكون في تقديم بعض المندوبات على بعض، لا في فعل وتركه من غير فعل غيره من أنواع الخير، والاستشارة مقدمة على الاستخارة قاله الأجهوري، ويظهر لي أن الذي يراعى عند التعارض ما انشرح له الصدر على ما أشير به لاحتمال خطأ المستشار وحرر المسألة، كما يظهر جواز الاستخارة للغير لأنه إعانة على فعل الخير"وبه" سبحانه وتعالى "نستعين" أي نطلب منه الإعانة على ما أملناه، والإقدار على فعل ما قصدناه، إذ الإعانة التقوي على فعل الخير أو ما يؤدي إلى فعل الخير، وقدم المعمول في الموضعين لإفادة الحصر لأن المعنى: لا نستخير إلا الله ولا نطلب الإعانة إلا من اللهثم تدلى للتبري من حوله وقوته بقوله: "ولا حول" لنا أي لا تحول لنا عن معصية الله إلا بعصمة الله وحفظه تعالى "ولا قوة" لنا وإن كنا على غاية من العظمة والشدة على شيء من أنواع الطاعات"إلا بالله العلي العظيم" الذي يصغر كل شيء عند ذكر صفاته، وحاصل المعنى أنه لا يقدر أحد على محاولة شيء مما يريده إلا بحول الله وقدرته وإرادته. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقولها فقال: "ألا أخبرك بتفسيرها؟ قلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال: "لا تحول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا بإعانته"1 وفي رواية: كذا أخبرني جبريل عن الله2 فيكون تفسيرها عن الله تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنه يدفع تسعة وتسعين داء أدناها اللمم وهو طرف من الجنون"3وروي من طريق أخرى: "أكثروا من ذكر لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنها كنز من كنوز الجنة" 4ـــــــ
1 لم أقف عليه2 لم أقف عليه3 ضعيف: أخرجه الحاكم في المستدرك 1/727 حديث 1990 وصححه لكن بلفظ "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم" وبنحوه الطبراني في الأوسط 5/187 حديث 5028. وانظر ضعيف الجامع 62864 أخرجه الترمذي كتاب الدعوات باب: فضل لا حول ولا قوة إلا بالله حديث 3601, وأحمد 2/333 حديث 8378.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنعم الله عليه بنعمة وأراد بقاءها فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"1وقال عوف بن مالك: لما أسرني العدو أكثرت من قولها فانقطع القيد الذي كانوا يشدوني به وسقط فخرجت من ديارهم وسقت إبلهم إلى أن دخلت بها بلدي. وعن مكحول: من قالها كشف الله عنه سبعين بابا من الضر أدناها الفقر وأجاز النحويون في لفظ لا حول ولا قوة فتحهما بغير تنوين ورفعهما مع التنوين وفتح الأول غير منون ورفع الثاني منونا أو عكسه. قال في الخلاصة مشيرا إليها:
وركب المفرد فاتحا كلا ... حول ولا قوة والثاني اجعلا
مرفوعا أو منصوبا أو مركبا ... وإن رفعت أولا لا تنصبا
"وصلى الله على سيدنا محمد " وفي نسخة زيادة نبيه"و" على "آله وصحبه وسلم" ذكرها بعد ما سبق تبركا بها وقصدا إلى حصول ما قصده، والصلاة اسم مصدر يستعمل مكان مصدر صلى الذي هو التصلية لأنه مهجور في الاستعمال لعدم صحة معناه، وهي في اللغة الدعاء بخير، ولتضمنها معنى العطف عداها بعلى، والعطف بالنسبة إلى الله رحمته، وبالنسبة إلى الملائكة الاستغفار، وبالنسبة إلى الآدميين دعاء بعضهم إلى بعض، والسيد هو الكامل المحتاج إليه، واستعمله في غير الله إشارة إلى الجواز ك "أنا سيد ولد آدم". وقوله في الحسن: "إن ابني هذا سيد"وفي سعد: "قوموا لسيدكم". وحكى ابن النير قولا بمنعه في غير الله واستغراب جوازه في غير الله بالألف واللام، وحكى في منع إطلاقه على الله وكراهته قولين عن مالك، وتقدم في صدر الخطبة ما يغني عن الزيادة، ومحمد علم نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وآله المراد بهم هنا أتقياء أمته لأنه مقام دعاء يطلب فيه التعميم ويكون عطف الأصحاب عليه من عطف الخاص على العام، وقال: وآله إشارة إلى جواز إضافته إلى الضمير، وإشارة إلى جواز الصلاة على غير الأنبياء تبعا، والذي فيه الخلاف بالمنع والكراهية والمعروف الكراهة على وجه الاستقلال، وتقدم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة في العمر مرة كالسلام، وبعد ذلك تستحب
ـــــــ
1 أخرجه الطبراني في الكبير 17/310 حديث 859, والأوسط 1/56 حديث 155 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه عبد الرحمن بن خالد وهو ضعيف.
وتتأكد على قدر الشوق والمحبة، وفي المسائل الملقوطة يكره إفراد الصلاة عن السلام، وقال الشيخ زروق في شرح الوغليسية: كره جمهور المحدثين إفراد الصلاة عن السلام وعكسهقال الأجهوري عقبه: والذي يدل عليه فعل من يقتدى به من أئمتنا أنه لا يكره إفراد السلام، فقد شاع عنهم الإتيان بالسلام فقط من غير ذكر الصلاة ووقع للأجلاء ذلك في خطوطهم ولولا الجواز لما ارتكبوه ولما فرغ من الخطبة ومن بيان سبب التأليف وهو سؤال الشيخ محرز، شرع في المقصود مقدما مبحث ما يجب على القلوب أن تعتقده وهو فن التوحيد؛ لأنه أشرف أنواع العلوم ولذلك يلقب بعلم أصول الدينوأول ما يجب على المكلف فقال:
باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة
"باب" بالرفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا باب وهذا أولى ما يقال فى جميع التراجم من نحو كتاب أو فصل أو تنبيه أو فرع وهو فى اللغة الطريق إلى الشيء وهو حقيقة فى الأجسام كباب الدار مجاز فى المعانى كباب الطهارة ولا يصح إرادة هذا المعنى هنا لأنه فى الاصطلاح اسم لنوع من أنواع مسائل العلم المقصود ويسمون أنواعه فصولا ويسمون ما يشتمل عليه الفصل مسائل جمع مسألة وهي مطلوب خبري يبرهن عليه فى ذلك العلم ولا تكون المسألة إلا كسبية أى مكتسبة من الدليل ولذلك لا تعد ضروريات العلوم من مسائله نحو الصلوات الخمس فرض على المكلفوالحج فرض على المستطيع والصوم فرض على البالغ القادر عليه لأن العلم بهذه ضروري ليس مأخوذا باجتهاد الأئمة ويجوز فى نحو باب الجهاد فريضة التنوين ويكون ما بعده بدلا منه بدل مطابق لما علمت من أن الباب اسم لجميع المسائل المذكورة بعد لفظ باب ويجوز ترك التنوين لإضافته إلى ما بعده من إضافة الدال إلى مدلوله أو الاسم إلى المسمى وأما فى نحو هذا من كل موضع لم يل لفظ باب حملة يتعين فيه الإضافة إلى لفظ ما بعدهوفى الحقيقة إلى محذوف مضاف إلى ما الموصولة والتقدير باب بيان الذى وصلته تنطق أي تصوت لأن النطق والمنطق ما يصوت به من مفرد ومؤلف مفيدا وغيره ويكون للعقلاء وغيرهم قالت العرب نطقت الحمامة وقال تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} فهو أعم من الكلام والضمير فى به راجع إلى ما الموصولة لأنها بمعنى الذى وفاعل تنطق الألسنة جمع لسان يذكر ويؤنث وهو ترجمان القلب لأنه آلة النطق فذكره لبيان الواقع ولا بخفى ما فى كلامه من المجاز لأن الذى ينطق هو صاحب اللسان وكذا يقال فيمابعده فهو من باب المجاز العقلي وهو إسناد الفعل إلى غير ما هو له"و" باب بيان الذى تعتقده المراد تعلمه كما قال بعض الشراح فإنه قال الاعتقاد هو الذكر النفسي الذي لا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر فالمراد بالاعتقاد العلم وهو ظاهر ولا يصح أن يراد به هنا حقيقته وهو حكم الذهن الجازم القابل للتغيير وقال ابن السبكي أيضا وجازمه الذي لا يقبل التغيير علم وقابله اعتقاد صحيح إن طابق الواقع كاعتقاد المقلد سنية الضحى وفاسد إن لم يطابق كاعتقاد الفلسفي قدم العالم وفاعل تعتقده الأفئدة جمع فؤاد وهو مرادف للقلب كما يدل عليه ما تقدم من قوله وتعتقده القلوب وقيل الفؤاد داخل القلب وقيل الفؤاد الغشاء الذى على القلب فالأقوال ثلاثةوقال الغزالي القلب لطيفة ربانية هو المخاطبة وهي التى تثاب وتعاقب ولها تعلق بالقلب الجسماني الصنوبري الشكل تعلق العرض بالجوهر ويسمى روحا ونفسا واعلم أن الذي يذكر في هذا الباب منه ما يجب النطق به مطلقا وهو الشهادتان ومنه ما يجب اعتقاده ولا يجب النطق به إلا إذا سئل عنه فيجب عليه أن ينطق بما يدل على اعتقاده ذلك وذلك سائر عقائد الإيمان فليس المراد أن كل ما ذكر فى هذا الباب يجب النطق به واعتقاده ثم بين عموم ما يقوله من واجب أمور أي أحوال وشؤون الديانات جمع دين وهو واحد عند الله وجمع باعتبار أنواع العبادات أو باعتبار المكلفين وقوله واجب أمور الديانات إن حمل على المعنى الذي يدل عليه ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة فمن لبيان جنس الواجب المشار إليه بما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة وإ حمل على أعم من أن تكون نطقا فقط أو اعتقادا فقط فهي للتبعيض وهذا الباب عقده المصنف لبيان ما يجب على المكلف معرفته من علم التوحيد وقدمه على فن الفقه لنقدمه فى الوجوب وقد اشتمل على أزيد من مائة عقيدة ومرجعها إلى ثلاثة أنواع ما يجب لله وما يستحيل عليه وما يجوز فأشار إلى ما يجب لله بقوله العالم الخبير إلى قوله الباعث الرسل وأشار إلى المستحيل عليه بقوله لا إله غيره إلى قوله العالم الخبير بإخراج الغاية وأشار إلى الجائز بقول الباعث الرسل الخ هكذا قال بقض الشراح والذي يظهر أن أول والواجبات أن الله إله واحد لأن الوجود المفهوم من قوله إله واحد صفة نفسية يجب اعتقادها له تعالى"مقدمة" من الواجب على كل طالب علم أن يتصوره ولو برسمه ليكون على بصيرة في طلبه وأن يعرف موضوعه ليتميز عنده عن غيره وأن يعرف غايته لئلا يكون اشتغاله به عبثا وأن يعرف استمداده ومنفعته وحكمه وواضعه.
فحده كما قال بعض الشيوخ علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير وإلزامها إياه بإيراد الحجج ورد الشبه وقال السعد هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية والمراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام واعتبر فى أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن فى الاعتقاديات بل فى العمليات وخرج عن التعريف العلم بغير الشرعيات وبالشرعيات الفرعية وعلم الله تعالى والملك وعلم الرسول عليه الصلاة والسلام بالاعتقاديات وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما لأن هذه كلها ليست عن أدلة ودخل فى التعريف علم علماء الصحابة بالاعتقاديات فإنها كلام وأصول وعقائد وإ كانوا لا يسمونه بعلم التوحيد فى زمنهموموضوعه المعلوم من حيث ما يتعلق به إثبات العقائد الدينية إذ موضوع كل علم ما يبحث فى ذلك العلم عن عوارضه الذاتية ولا شك أنه يبحث فى هذا العلم عن أحوال الصانع من القدم والوحدة والقدرة والإرادة وغيرها مما هو عقيدة إسلامية ليعتقد ثبوتها له وعن أحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركيب من الأجزاء وقبول الفناء ونحو ذلك مما هو وسيلة إلى عقيدة إسلامية فإن تركيب الجسم وقبوله للفناء دليل على افتقاره إلى الموجد له وكل هذا بحث عن أحوال المعلوم لإثبات العقائد الدينية وهو كالموجود إلا أنه أوثر على الموجود ليصح على رأي من لا يقول بالوجود الذهني ولا يعرف العلم بحصول الصورة فى العقل ويرى مباحث المعدوم والحال من مباحق الكلام والحاصل أن هذا العلم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات فى المبدإ والمعاد على قانون الإسلاموغايته أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متقنا محكما لا تزلزله شبهة المطلين ومنفعته فى الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها فى بقاء النوع الإنساني وعلى وجه لا يؤدي إلى الفساد ومنفعته فى الآخرة النجاة من العذاب المترتب على الكفر وسوء الاعتقاد ومسائله القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية والاحتزاز بالقضايا النظرية من غيرها لأنه لم يقع خلاف في أن البديهي لا يكون من السائل والمطالب العلمية بل لا معنى للمسألة إلا ما يسأل عنه ويطلب بالدليل واستمداده من الوجوب والجواز والامتناع وقال بعض استمداده من التفسير والفقه والحديث والإجماع ونظر العقل ولعل الخلف في التعبير لأن الجواز والوجوب ولامتناع إنما تؤخذ من تلك المذكورات وأما حكمه مما يرجع للدليل الجملي ففرص عين على طريق الجمهور وأما ما يرجع للدليل
التفصيلي فمختلف فيه على قولين فنقل ابن التلمساني أنه فرض كفاية وظاهر أسئلة ابن رشد أنه مندوب إليه وأما حكمه على الإطلاق وهو الوجوب فمجمع عليه في جميع الملل وواضعه أبو الحسن الأشعري وإليه تنسب أهل السنة حتى لقبوا بالأشاعرة"من ذلك" المذكور من واجب أمور الديانات "الإيمان" أي التصديق "بالقلب" المعبر عنه بالفؤاد "والنطق باللسان" ومعمول الإيمان والنطق على طريق التنازع "أن الله إله واحد لا إله غيره تأكيدلما قبلهوفي كلامه حذف تقديره وأن محمدا رسول الله لأن الإيمان لا يوجد إلا إذا حصل التصديق بمجموع الأمرين وإنما حذف تلك الجملة هنا لأنه يشير لها عند قوله فيما يأتي ثم ختم الرسالة الخ وكلام المصنف هنا كالصريح في أن الإيمان مركب من التصديق بالقلب والنطق باللسان ويعين هذا قوله الآتي وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وأما العمل بالجوارح فشرط في كماله كما يأتي في قوله ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل وقدمنا قبل الباب عند قوله فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين وبقلوبهم مخلصين وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين أن هذا مذهب السلف وهو موافق لقول المصنف هنا من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره وسكت عن الأعمال إشارة إلى أنها غير ركن منه وإنما هي شرط كمال كما سيصرح به فيما يأتي بقوله ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل ولا يشكل على هذا قوله آخر الباب وإن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح الموهم أنه مركب من ثلاثة ونسب لجمهور المحدثين والمتكلمين والفقهاء منهم ابن حبيب وللمعتزلة لإمكان حمل الأعمال فيه على وجه الكمال لا انها ركن منه بدليل تصريحه بقوله ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل للقاعدة من رد المحتمل لغيره فيصير كلامه في المواضع الثلاثة على قول واحد وأما المعتزلة ومن وافقهم فيجعلون الأعمال ركنا حقيقيا للإيمان كما نبه على ذلك شيخ شيوخنا اللقاني حيث قال الأعمال عند السلف شرط لكمال الإيمانوعند المعتزلة ركن فيه هذا هو الذي ينبغي فهم كلام المصنف عليه لا ما يوهمه كلام التحقيق من نسبة الآتي للمعتزلة والمحدثين لأن الأماكن المتخالفة إذا أمكن ردها لشيء واحد يصار إليه ولا سيما عند ما يعين ذلك كما هنا فإن قوله ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل شاهد صدق فيما قلنا والذي عليه جمهور الأشاعرة والماتريدية عدم تركبه وإنما هو عبارة عن التصديق القلبي بكل ما علم مجيء الرسول به واشتهر بين أهل الإسلام وصار العلم به يشابه
العلم الحاصل بالضرورة بحيث يعلمه العامة من غير توقف على نظر واستدلال وإن كان أصله نظريا كوحدة الصانع ووجوب الصلاة والمراد من تصديقه عليه السلام قبول ما جاء به مع الرضا بترك التكبر والعناد والامتثال لبناء الأعمال عليه لا مجرد نسبة الصدق إليه من غير إذعان حتى يلزم عليه إيمان كثير من الكفار الذين كانوا يعملون بحقيقة نبوته ولكن لم يذعنوا لذلك كأبي طالب ومن شابهه وأما النطق باللسان فالمشهور فيه عندهم أنه شرط لإجراء أحكام الدنيا في حق القادر عليه ومقابل المشهور يجعله شرطا في صحة الإيمان أو شطرا منهواقتصر صاحب الجوهرة على مذهبهم حيث قال:
وفسر الإيمان بالتصديق ... والنطق فيه الخلف بالتحقيق
فقيل شرط كالعمل وقيل ... بل شطر والإسلام اشرحن بالعمل
وأما أعمال الجوارح فهي شرط لكمال الإيمان كما يدل عليه قول المصنف فيما يأتي ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن مفوت على نفسه الكمال والآتي بها ممتثلا محصل لأكمل الخصال فتلخص أن الإيمان هو التصديق وأما النطق باللسان فهو شرط لإجراء أحكام الدنيا وأما الأعمال الصالحة فهي شرط لكمال الإيمان وعليه فمن صدق بقلبه ولم ينطق بلسانه لا لعذر ولا لإباء فهو مؤمن ناج عند الله غير مؤمن في أحكام الشرع الدنيوية فلا يرث ولا يورث. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه فبالعكس ويقال له منافق وزنديق وأما الآبي من النطق فكافر في الدارين والمعذور مؤمن فيهما فتلخص مما ذكرنا ثلاث مذاهب مذهب السلف وهو ما جرى عليه المصنف ومذهب جمهور الأشاعرة ولما تريدية وهو ما صدر به صاحب الجوهرة ومذهب المحدثين والمعتزلة وقد وضحنا جميعهاتنبيهات: الأول: الظاهر من المصنف أنه لا يشترط النطق بخصوص أشهد بل الإتيان بما يدل على الوحدانية كما أنه لا يشترط خصوص لفظ أشهد في الإقرار بالرسالة واعتمد هذا الأبي ومن تبعه مخالفا لشيخه ابن عرفة في قوله لا بد من لفظ أشهد على القادر بها لأنها كلمة تعبدنا الشارع بها فلا يدخل في الإسلام إلا بها وعلى كلا القولين لو أتى بما يجب النطق به بالعجمية وهو يحسن العربية فالأصح الاكتفاء بذلك لوجود الإقرار في الجملة وأما مع العجز عن العربية فيكتفي منه بما أتى به بلغته اتفاقاالثاني: تعلم المصنف على الإيمان حيث قال من ذلك الإيمان بالقلب الخ وسكت عن
الإسلام فلعله مشى على طريق جمهور الماتريدية وبعض محققين من الأشاعرة باتحاد مفهوميهما بمعنى وحدة ما يراد منهما شرعا وتلازمهما في الخارج وأما طريق جمهور الأشاعرة فالإيمان يغاير الإسلام في الحقيقة وفي الخارج وإن تلازما شرعا فالإيمان حقيقته التصديق القلبي والإسلام حقيقته الانقياد الظاهري بفعل المأمورات ويدل على تغايرهما ذاتا ومفهوما آية: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وحديث جبريل بأنه فسر الإيمان بما يغاير الإسلام واختلافهم في خلق الإيمان وعدم خلقه وإن كان الراجح أنه مخلوق لأنه التصديق وهو مخلوق بخلاف الإسلام فإنه متفق على خلقه لأنه النطق بالشهادتين وإقام الصلاة إلى آخر الحديثالثالث الدليل على أنه تعالى واحد الكتاب والسنة والإجماع والعقل فالكتاب فاعلم أنه لا إله إلا الله والسنة أمرت أن أقاتل الناس الخ والإجماع قول الأمة بلسان واحد لا إله إلا الله الواحد الأحد والعقل المعبر عنه ببرهان التمانع ويقال له برهان التطارد وتقريره لو وجد على جهة المفرض فردان متصفان بصفات الأولوهية لأمكن التمانع بينهما بأن يريد أحدهما صحة زيد والآخر سقمه وحينئذ إما أن يحصل مرادهما وهو محال لاستلزامه اجتماع الضدين أو لا يقع مرادهما وهو محال أيضا لاستلزامه عجزهما مع اتصافهما بصفات الألوهية أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال أيضا لاستلزامه الترجيح بلا مرجح واستلزامه عجز من فرض قادرا ويلزم منه عجز الآخر بانعقاد المماثلة وإلى هذا البرهان الإشارة بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي ولم تفسدا فدل على أنه واحد ومن الأدلة العقلية برهان التوارد أيضا وتقريره أن يقال لو وجد إلهان متصفان بصفات الألوهية فإذا قصدا إيجاد مقدور معين فوقوعه إما بكل منهما فيلزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد وهو محال لأن الجوهر الفرد مخلوق قطعا ولو توارد عليه قدرتان وارادتان صار أثرين فيلزم انقسام ما لا يقبل القسمة إن قدر أن الذي أوجده أحدهما غير الذي أوجده الآخر وهو لا يعقل لأن الغرض أنه شيئ لا يقبل القسمة فليس له إلا وجود واحد لا يمكن انقسامهوأما تحصيل الحاصل إن قدر الذي أوجده كل واحد هو ما أوجده الآخر فهو محال أيضا وأن الإيجاد بأحدهما فيلزم الترجيح بلا مرجح لن المقتضى للقادرية ذات الإله والمقدورية إمكان الممكن فنسبة الممكنات إلى الإلهين المفروضين على السوية من غير رجحان هذا ملخص كلام شيخ مشايخنا اللقاني رحمه الله تعالى.
وأشار إلى صفات السلوب وهي المخالفة للحوادث بقوله: "و" من واجب أمور الديانات على كل مكلف اعتقاد أنه تعالى لا شبيه له ولا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله والنظير بمعنى الشبيه فهما لفظان مترادفان وإنما وجب تنزهه عن الشبيه لأنه تعالى لو أشبهه شيء من المخلوقات لكان مشبها له وجائزا عليه الفناء الجائز على الخلوقات ولزم كونه خلقا ومخلوقا وقديما وحادثا وكل ذلك محال قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فأول هذه الآية تنزيه ففيه رد على المجسمة وآخرها إثبات ففيه رد على المعطلة النافين لزيادة جميع الصفات وقدم فيها النفي على الإثبات وإن كان الأولى العكس في أماكن كثيرة لأنه لو قدم الإثبات فيها لأوهم التشبيه بالمخلوق الذي سمعه بأذن وبصره بحدقة فقدم التنزيه ليعرف السامع ابتداء أنه ليس مشابها لشيء من الحوادث وهذه الآية دليل قاطع على مخالفته تعالى لسائر الحوادث وهي أقمع آية للشيطان عند تعرضه للإنسان في مقام البحث عن ذات الباري وصفاته"و" مما يجب اعتقاد على كل مكلف أيضا أنه تعالى لا ولد له قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92] وقال تعالى أيضا: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] وكذا ولا والد له فالحاصل أنه لم ينفصل عنه أحد ولم ولم ينفصل عن أحد والولد يشمل الذكر والأنثى والوالد المراد به ما يشمل الأم أيضا"و" كذا يجب اعتقاد أنه لا صاحبة أي لا زوجة له ولا صديق ولا ضد ولا وزير له "و" كذا يجب اعتقاد أنه تعالى لا شريك له لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال وسورة الإخلاص نفت جميع ذلك حتى نفت أصول الكفر من العدد والنقص الذي هو الاحتياج والتقليل بالقاف الذي هو البساطة والعلة والمعلول والشبيه والنظير لأن قوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] نفي الكثرة بمعنى التركيب والعدد و {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] نفي النقص الذي هو الاحتياج والتقليل الذي هو البساطة و {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] نفي العلة والمعلول {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] نفي الشبيه والنظير وإنما وجب تنزههه عن هذه الامذكورات لأنها من لوازم المخلوقات وهو تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات وسئل سيدي أحمد بن زكريا إذا رأت الخلائق ربها يوم القيامة وحجبوا عن رؤيته هل يتخيلونه بعد ذلك فأجاب بعدم جواز التخيل لأن ما في الخيال مثل والله تعالى منزه عن أن يكون له مثل أو يدرك بالوهم أو الخيال هذا ما تقتضيه ظواهر النصوص خلافا لبحث بعض الشيوخ.
فإن قلت له التنزيه عن المثل يقتضي نفي المثل له تعالى وهو معارض لقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] قلت المثل المثبت له تعالى غير المثل المنفي فالمثل المنفي بمعنى المماثل والمقيس عليه والمثبت بمعنى الصفة بدليل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل: 60] أي لهم صفة النقص وهي الحاجة إلى الولد وبدليل: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] أي الوصف وهو الوجوب الذاتي والغني المطلق والجود الفائق والنزاهة عن صفات المخلوقات فتبارك الله رب العالمينقاله السنوسي في شرح الجزائرية ولما قدم بعض الصفات السلبية وهي الوحدانية المدلول عليها بواحد مما تقدم والمخالفة للحوادث المعبر عنها بنفي الشبيه والنظير ذكر هنا صفتين وهما القدم والبقاء معبرا عنهما بقوله ليس لأوليته أي لوجوده ابتداء لأنه قديم بالذات وهو موجود لا ابتداء لوجوده لامتناع أن يسبق وجوده عدم لأن القدم عبارة عن عدم الأولية للوجود لئلا يلزم حدوثه ومن لازم الحدوث الافتقار إلى محدث ويلزم التسلسل وهو محال وحاصل المعنى أنه يجب على المكلف اعتقااد أن الله تعالى قديم لم يسبق بعدم وقيدنا القدم بالذاتي لأنه المختص به تعالى لرجوعه إلى وجوب الوجود فهو صفة نفسية للاحتراز عن القدم الزماني بمعنى مرور الأزمنة على الشيء مع بقائه فهذا محال عليه تعالىومنه: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] والحاصل أن القدم على أربعة أقسام ذاتي كقدم الواجب والوجود وزماني كقدم زمان الهجرة بالنسبة لليوم وإضافي كقدم الأب بالنسبة للابن وسلبي كقدم وجوده تعالى بمعنى سلب سبق العدم لوجوده تعالىولا يجوز أن يكون لآخريته أي بقاءه انقضاء أي فراغ الامتناع لحوق العدم لما ثبت له تعالى من وجوب القدم لأنه تقرر أن كل ما ثبت قدمه استحال عدمه لأنه لو قدر لحوق العدم له تعالى لكانت نسبة الوجود والعدم إلى ذاته تعالى سواء فيلزم افتقار وجوده إلى موجد يخترعه بدلا عن العدم الجائز عليه فيكون حادثا واللازم باطل فكذا الملزوم لما تقرر من وجوب الوجود له تعالى وحاصل المعنى أنه يجب على المكلف اعتقاد أن الله باق لا يلحقه عدم لأن البقاء عدم انتهاء الوجود أو نفي العدم اللاحق للوجود ولعل المصنف كنى عن القدم والبقاء بلفظ الأولية والآخرية إشارة إلى قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد: 3]لكن لما كان لفظ الآية يوهم ابتداء الأولية وانقضاء الآخرية على ما هو معهود في كل أول وفي كل آخر بين المؤلف المراد بقوله ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء وقول صاحب
الأسماء أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء مثل كلام المصنف وتقرير كلام المصنف ليس لسبقه على جميع المخلوقات ابتداء ولا لبقائه بعد فناء الخلق انتهاء وتقرير كلام صاحب الأسماء ليس لكونه اولا ابتداء ولا لكونه آخرا انتهاء والمعنى واحد وهذا بخلاف أولية المخلوقات فإن كل أول منها له آخر إلا الجنة والنار وأهلهما فإن هذه لها أول باعتبار خلق الله إياها وليس لها آخر لأنها لاتفنى وما حملنا عليه كلام المصنف أظهر من قول بعضهم هذا الكلام يفيد أن له أولية لكن لا ابتداء لها وأن له آخرية لكن لا انقضاء لها وأجاب بأنه كنى بنفي ابتداء الأولية وانتهاء الآخرية عن نفي الأولية والآخرية أو يقال إذا انتفت الإبتدائية عن الأولية لم تتحقق الأولية إذ لا تكون أولية من غير ابتداء وإذا انتفت الانتهائية عن الآخرية لم تتحقق الآية إذ كيف تكون آخرية من غير انتهاء وأجاب بعض آخر بأمرين الأول أن النفي منصب على الأولية والآخرية إذ ليس له أولية فيكون لها ابتداء ولا آخرية فيكون لها انقضاء كقوله على لا حب لا يهتدي بمنارهأي ليس له منار فيهتدي به فيكون أطلق نفي الصفة وأراد بها نفي الموصوف فهو من باب الكناية على طريق السكاكي إذ هي عنده الانتقال من الملزوم وإرادة اللازم كما هنا واللاحب الطريق والمنار العلامة والثاني أن المراد بالأولية الأسبقية وبالآخرية البقاء والنفي منصب على ابتداء تلك الأسبقية وعلى انتهاء تلك الآخرية التي بمعنى البقاء أي أنه قديم أي لم يسبق وجوده عدم وباق لم يطرأ عليه عدم إذ القدم سلب العدم السابق على الوجود والبقاء سلب العدم اللاحق للوجود وإنما كان حملنا أظهر لسلامته من الإشكال المحوج إلى الجواب بما تقدم ولسلامته من إيهام التناقص لإثباته الأولية والآخرية ثم نفيهما عنه وهو تناقض ولا كلام لأنه مبني على أن الأولية هي الابتداء والآخرية الانقضاء وقد علمت أن المراد بهما خلاف ذلكوالحاصل أن المصنف أشار بقوله لا إله غيره إلى قوله ولا لأخريته انقضاء إلى صفات للسلوب وأشار إليهما صاحب الجوهرة مع الإشارة للصفة النفسية بقوله:
فواجب له الوجود والقدم ... كذا بقاء لا يشاب بالعدم
وإنه لما ينال العدم مخالف برهان هذا القدم قيامه بالنفس وحدانية منزه أو صافه سنية عن ضد أوشبه شريك مطلقا ووالد كذا الولد والأصدقا فالوجود صفة نفسية وما بعدها خمس سلبية وهي أمهات الصفات السلبية فلا ينافي عدم حصرها.
ومما يجب اعتقاده أنه لا يبلغ أي يدرك كنة أي حقيقة صفته تعالى الواصفون أي العارفون بطريق معرفة الصفات والصفة لا بقيد صفة الله تعالى هي المعنى القائم بالموصوف وتفسير الكنه بالحقيقة هو الظاهر وقيل المراد بالكنة الغاية لأن كنه الشيء غايته وعلى الاحتمال الأول الذي هو الظاهر يكون عدم إدراك حقيقة الذات من باب أولى وأما على الثاني أن الصفة غاية لا تدرك وهذا لا يصح إلا أن يقال هو على حد على لا حب لا يهتدي بمناره واللاحب الطريق والمنار العلامة أي ليس له منار منار حتى يهتدي به ومثله ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا ضب لها حتى ينجحر أي لا يدخل الجحر وبغير عمد ترونها أي لا عماد لها حتى تروها فاالمذكورات من باب نفي اللازم وإرادة نفي الملزوم إذ معناه لا منار له فيهتدي به والمعنى هنا لا غاية لصفته حتى تدرك فيكون كنى بعدم إدراك غاية الصفة عن عدم إدراك الصفة فيرجع إلى المعنى الأول وهو عدم إدراك صفته تعالىفأن قلت تعريفهم لكل صفة من صفاته تعالى كتعريفهم العلم بأنه صفة لها تعلق بالشيء على وجه الإحاطة به يقتضي إدراك كنه الصفات قلت لا يخفي أن التعريف كما يفيد معرفة حقيقة المعرف يفيد تمييزها عما عداها وإن لم يفد معرفة حقيقته كالتعريف ببعض الخواص مما هو رسم وتعريف الصفات تعريف لها بحسب ما وصل إليه علم خلقه واحترز بقوله الواصفون عن الباري تعالى فإنه يعلم ذاته وصفاته لأن علمه محيط بسائر أقسام الحكم العقلي كما يأتيتنبيه ما قدمناه من أن حقيقة ذاته لا تدرك من باب أولى عدم إدراك حقيقة الصفة قال ابن الحاجب فيه هو الأصح فإنه قال ولا تعرف حقيقة ذاته على الأصح خلافا للجمهور وأطلق الجنيد القول في عدم المعرفة ة ولم يقيد بالصفة وقال لا يعرف الله إلا الله ومقابل الأصح قول القاضي أبي بكر ومن تبعه أن الذات يمكن بلوغ حقيقتها وربما يكون المصنف أراد هذا حيث اقتصر على لا لصفة فتلخص أن في بلوغ الذات قولين وأما الصفة فلا يمكن إدراكها باتفاق القولين كما يفهم من قول التتائي أفهم اقتصاره على الصفة أن الذات يمكن بلوغ حقيقتها وهو قول القاضي الخوبعضهم جعل الخلاف في علم حقيقة الذات غير حقيقي بل لفظي لأن من أثبت المعلم بالحقيقة معترف بأنه تعالى لا يحاط به ولا يلحقه وهم ولا يقدره فهم وأن العقول قاصرة عاجزة عن إدراك جلاله ومن نفى العلم بالحقيقة مقر بأنه عرفه العارفون بدلالة الآيات ونزهوه
عن سائر النقائص وأثبتوا له جميع الكمالات فاتفق القولان على عدم إدراك حقيقته إذ يرى من غير كيف ولا انحصار ولذا قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أي لا تحيط به والإدراك أخص من الرؤية ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم الذي هو الرؤيةتنبيه علم مما قررنا من لفظية لخلاف أنه لا يلزم من معرفة الذات إدراك حقيقتها وأن هذا الخلاف في غير الرؤية وأما رؤية الذات العلية فلم تقع في الدنيا يقظة لأحد وإن كانت ممكنة لسؤال موسى إياها سوى نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وأما في الآخرة فلا شك فيها بنص القرآن لكن من غير كيف ولا انحصار بشهادة: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام 103] حيث لم يقل لم تره الأبصار وقد علمت أنه لا يلزم من نفي الأخص وهو الإدراك بل يستحيل في حقه تعالى لاقتضائه الانحصار نفي الأعم التي هي الرؤية"و" مما يجب اعتقاده أنه لا يحيط أي لا يعلم يأمره أي شأنه المتفكرون جمع متفكر هو من قام به الفكر وهو عند أهل الميزان ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول كترتيب الصغرى والكبرى ليتوصل به إلى معرفة النتيجة التي كانت مجهولة وهذا ليس بمراد هنا وإنما المراد بالمتفكرين في كلام المصنف المتأملون لأن الفكر يطلق على التأملوإنمالم يحيطوا بشأنه تعالى لكثرة اختلافه إذ كل يوم أي زمن هو في شأن أي أمر يظهره على وفق ما قدره في الأزل من إحياء وإمانة وإعزاز وإذلال وإغناء وإفقار إلى غير ذلك وليس المراد بالأمر ضد النهي لأن الخلق مكلفون به فلا بد من إحاطتهم وعلمهم به وقال بعض الشراح إن هذه الجملة دليل لما قبلها وكأنه قال لا يبلغ كنه صفته الواصفون لأنه لا يحيط بأمره المتفكرون أي وما لا يحيط بأمره فكيف يتوصل إلى إدراك كنه صفته وإنما اقتصر على المتفكرين لأنهم الذين يتوهم منهم الإحاطةوذكر بعض العلماء أن ابن الجوزي جلس يوما على كرسي وعظه يقرر في تفسير: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فوقف رجل على رأسه وقال له: فما يفعل ربك الآن فسكت وبات مهموما فرأى المصطفى صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له إن السائل هو الخضر وأنه سيعود إليك فقل له شؤون يبديها ولا يبتديها يخفض أقواما أو يرفع آخرين فأتاه فأجابه فقال له صل على من علمك.
وذكر صاحب الكشاف في تفسيره أن عبد الله بن طاهر سأل الحسين بن الفضل وقال له أشكل على قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال الحسين في الجواب إن معنى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] شؤون يبديها أي يظهرها لاشؤون يبتديها أي يقدرها أي لأن التقدير في سابق علمه فقام عبد الله وقبل رأسه"و" لما بين عجز الخلق عن إدراك حقيقة صفته وذاته تعالى ذكر ما يطلب منهم في شأنه تعالى بقوله: "يعتبر المتفكرون بآياته" هذا خبر بمعنى الطلب أي وليتعظ ويستدل المتفكرون بآيات الله ومخلوقاته على أنه تعالى موجود لا مشارك له في حكمه وأنه المقدم المؤخر الضار النافع والعبدلاصنع له في أمر فيجب عليه تفويض أمره إلى خالقه ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه فالآيات جمع آية وهي العالم الذي هو ما سوى الله وصفاته فإن النظر في شيء من مخلوقاته يوصل إلى المطلوبواعلم أن آيات الله عقلية وشرعية فالعقلية أدلة مخلوقاته وعجائب مصنوعاته وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد المنفرد بإيجاد جميع الكائنات والشرعية آيات كتابه وأدلة خطابه وحملة معانيه وأسراره وبهماتستفاد الأحكام الشرعية أصلا أو قياسا وبهما يتذكر ويتعظ الإنسان"ولا يتفكرون" أي ولا يتأملون للاعتبار ولا لغيره في مائية أي حقيقة ذاته لما نقدم من العجز عن الوصول إلى علم حقيقتها وحاصل المعنى أنه لا يجوز لمن يعتبر وينظر في الآيات أن يتجاوز ذلك وينظر في ذاته تعالى فقوله ولا يتفكرون خبر معناه انهي لم اورد تفكروا في مخلوقاته ولا تتفكروا في ذاته وورد: "إن الشيطان يقول لأحدكم: من خلق كذا؟ فيقول: الله فيقول: من خلق الله؟ فدواء ذلك أن يقول: لا إله إلا الله فإنه شفاء هذا الداء"والمائية بياء مشددة بينها وبين الألف همزة وقد تبدل هاء فيقال ماهية ومعناها الحقيقة كما بينا وهي منسوبة إلى لفظة ما التي يسأل بها نحو ما الإنسان والمائية والماهية الحقيقة والطبيعة ألفاظ مترادفة ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق بالنسبة للسؤال عن الإنسان بما هو فالمائية كما هي نسبة إلى ما لأنه يجاب بها عن السؤال بما كذلك الماهية نسبة إلى ما هو وأراد المصنف بالنهي في المعنى عن النظر في ذاته الإشارة إلى أنه يجب على المكلف أن يعتقد أن العقول قاصرة عن إدراك حقيقة ذات الله وصفاته وأنه لا يحاط بجلاله وكنه عظمته.
وإنما كانت حقيقة ذاته غير معلومة لنا لأن العلم إما بالبداهة بأن يكون من غير نظر واستدلال وإما بالنظر وبطلان الأول ظاهر لأن ذاته غير متصورة بالبداهة اتفاقا وأما الثاني فلأن العلم الحصل بالنظر إما بالحد وإما بالرسم وكل منهما باطل أما الأول ملأن التعريف بالحد إنما يكون لما تقبل ذاته التحديد وهو المركب والتركيب مستحيل على ذاته ومنتف عنها إذ لا مثل له تعالى ولما لم يكن سبيل للخلق إلى معرفة حقيقته تعالى وإنما يعرفونه بصفاته أعرض موسى عليه السلام حين سأله فرعون عن الحقيقة حيث قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] الذي قلت أنك رسوله أي أي شيء هو وأجاب بالصفة قائلا: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65] وقصد موسى عليه السلام بالإجابة باللصفة وترك الإجابة عن الحقيقةمع أن فرعون إنما سأل عن بيانها التنبيه على أن ذاته تعالى لا تعلم لأنه لا يعلم ولا يحد إلا ما له جنس وفصل مما هو مركب والتركيب مستحيل عليه تعالى ولما لم يدرك فرعون هذه النكتة اعترض على موسى عليه السلام وقال لأشراف أتباعه ممن حوله ألا تستمعون جواب موسى الذي لم يطابق السؤال سألته عن حقيقته تعالى فأجاب بصفاته فهو غير مطابق للسؤال ولم يبين موسى جهل فرعون وغلطه بل ذكر صفات أبلغ من الأول مشيرا إلى أن السؤال عن الحقيقة ليس من دأب العقلاء فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] فتستدلون بما أقول فتعرفون ربكم وهذا غاية الإرشاد لأنه نبه أولا على الاستدلال1 بالعام وهو خلق السموات والأرضثم بما هو أقرب إليهم وهو أنفسهم وآباؤهم ثم بالمشرق والمغرب لزيادة البيان والتدريج في الاستدلال وليعلم أن في كل شيء دليلا على وحدانيته تعالى وأما الثاني فلأن الرسم لا يفيد الحقيقة كما قاله الغزالي ومن وافقه والحكماء ونازع المتكلمون وجوزوا معرفة الذاتـــــــ
1 الاستدلال لغة: طلب الدليل وهو من دله على الطريق دلالة: إذا أرشده إليه وله في عرف الأصوليين إطلاقات أهمها اثنان:
الأول: أنه إقامة الدليل مطلقا أي سواء أكان الدليل نصا أم إجماعا أم غيرهماوالثاني: أنه الدليل الذي ليس بنص ولا إجماع ولا قياس وفي قول: الدليل الذي ليس بنص ولا إجماع ولا قياس علة. قال الشربيني: الاستفعال يرد لمعان. وعندي أن المراد منها هنا أي في هذا الإطلاق الثاني الاتخاذ. والمعنى أن هذه الأشياء أتخذت أدلة أما الكتاب والسنة والإجماع والقياس فقيامها أدلة لم ينشأ عن صنيع المجتهدين واجتهادهم أما الاستصحاب ونحوه مما اعتبر استدلالا فشيء قاله كل إمام بمقتضى اجتهاده فكأنه اتخذه دليلا أنظر الموسوعة الفقهية 3/277, 278, والاستدلال عند الأصوليين ص 19.
ومنعوا حصرها في طريق البداهة والنظر لجواز معرفتها بالإلهام وتصفية النفس وتزكيتها عن الصفات الذميمة وأقول الظاهر أنه لا خلاف في الحقيقة للاتفاق على امتناع إدراك حقيقة الذات ومن قال بعلمها مراده علمها بالصفة الدالة على جلال عظمته ويدل على ذلك ما قدمناه عن بعضهم في شرح قوله لا يدرك كنه صفته الواصفونتنبيهات الأول: قال ابن رشد ردوا على المؤلف في إطلاق لفظ المائية على ذاته بل كان الواجب نفي المائية عن ذاته لأنه لم يرد السمع بذلك ولأن المائية لا تكون إلا للذي له جنس ونوع ولما له مثال والباري ليس كذلك ففي كلامه إطلاق الموهم على الله مع اتفاق العلماء على منعه وأجيب على ذلك بجوابين أحدهما أن إطلاقها على الذات العلية ضرب من المجاز والاتساع في التلفظ وهذا لعبد الوهاب بل ذاته تعالى موجودة على ما يليق بها بشهادة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]والثاني: أنه على حد على لا حب لا يهتدي بمناره أي ليس للاحب أي الطريق منار فيهتدي بمناره أي علامته ولا مائية له تعالى فيفتكر فيها المتفكرون واستعمل هذا في كل ما أشكل عليك من كلامه فإنه أصل جيد وما يروى عن أبي حنيفة من أنه كان يقول إن الله ماهية لا يعلمها إلا هو فلم يصح عنه وعلى فرض ثبوته عنه فمعناه أن له تعالى اسما لا يعلمه غيره أو المراد بها الذات لا الماهية المركبة من جنس وفصل لما مر من أن الماهية إنما تكون لماله جنس ونوع والباري لا مماثل له في أمر ما قال الأشعري إمام هذا الفن لا يسأل عنه تعالى بكيف لأنه لا مثيل له ولا بما لأنه لا جنس له ولا بمتى لأنه لا زمان له ولا بأين لأنه لا مكان لهالثاني: الذات عند المتكلمين الحقيقة فإضافة مائية إلى ذاته في كلامه بيانية أي مائية هي ذاته وقال ابن الخشاب المعروف لأهل اللغة أنها بمعنى الشئالثالث: اختلف هل التفكر أفضل من نحو الصلاة والصيام النفل أو هما لأفضل فذهب الفقهاء إلى أنهما أفضل وقال بعض الشيوخ إن ذلك يختلف باختلاف الناس فمن كان عقله سالما ثابتا بحيث يأمن صاحبه من التشبيه فالتفكر في حقه أفضل وإلا فالصيام والصلاة أفضل قاله الشاذلي وقال ابن عطاء الله ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة وإنما كان التفكر أعلى الدرجات من فعل العبادات لأن فعل القلب أعلى من فعل النفس وحديث تفكر ساعة خير من عبادة سبع أو سبعين أو سبعمائة سنة قال الحافظ ابن حجر هو من أوله
إلى آخره لا أصل له؟
"و" مما يجب على المكلف اعتقاده أن العباد العارفين بطرق معرفة الصفات المشغولين بالتفكر في المصنوعات "لا يحيطون" بمعنى لا يعلمون إلى العلم "بشئ من علمه" أي معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يعلمهم به فيعلمون به وذلك كإخباره تعالى رسله الكرام فالمجرور بدل من شيء لأن المعنى إلا بالمعلوم الذي أراد إعلامهم به"تنبيه" علم من تفسير العلم بالمعلومات الجواب عن الأشكال المفهوم من لفظ الآية بأن ظاهرها يقتضي أن علمه تعالى يتبعض وأنه يحاط به إذا شاء الله والثاني يخالف قوله فيما سبق لا يبلغ كنه صفته الواصفون والأول مخالف لما تقرر من أن علمه بل وكل صفة من صفاته واحدة لا تقبل التبعيض وإن تعدد متعلقها وكثيرا ما يطلق لفظ المصدر ويراد به المفعول أي أن العباد لا قدرة لهم على الإحاطة بشيء من معلومات الله إلا بإرادة الله أي مشيئته فما في قوله إلا بما شاء يصح أن تكون مصدرية أي لا قدرة لأحد من أهل البصائر المتفكرين في مصنوعات الله على معرفة شيء من معلومات الله إلا بمشيئته تعالىقال ابن ناجي قيل أن المعلومات خمسة أقسام قسم لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى كذاته وصفاته وقسم علمه اللوح والقلم وهو معرفة ما جرى به القلم في اللوح وقسم علمه الملائكة وقسم علمه الأنبياء وقسم علمه الأولياء كالمكاشفات وعلمه تعالى محيط بكل شيء ومما يجب اعتقاده أن الله تعالى لعظمته وجلالة قدره {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ومعنى وسعه لتلك المذكورات أنه لم يضق عنهن إذ فضله على السموات والأرض كفضل الفلاة على الحلقة والكرسي في الأصل واحد الكراسي الذي يجلس عليه وهذا مستحيل في حقه تعالىولذا قال بعض: وهذا تصوير لعظمته وتمثيل حسي لأن النفوس البشرية أبدا تجد من التعظيم والهيبة عند سماع الأشياء المحسوسة الدالة على الكبرياء والعظمة ما لا تجده عند عدم سماع ذلك فالقصد من ذكر الكرسي ومثله العرش الذي هو أعظم منه لإحاطته بجميع الأجسام استشعار النفوس عند سماعها بعظمة الباري سبحانه وتعالى ولا كرسي ولا قعود ولا قاعد نظير قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} من غير قبض وطي ويمين بل هو تخييل لعظمته وقيل كرسي حقيقة وهو جسم عظيم نوراني بين يدي العرش ملتصق به لا قطع لنا بحقيقته والماء كله في جوف الكرسي على متن الريح والكرسي غير العرش على
المعتمد لا قطع لنا بتعيين حقيقته يجب الإيمان به خلقه الله تعالى لحكمة يعلهما لا لاحتياج إليه وقيل معنى وسع أحاط علمه بالسموات والأرض بناء على أن العلم يسمى كرسيا وجمع السموات وأفراد الأرضمع أنها سبع كالسموات على المعتمد لما اشتملت عليه السموات من الأمور الظاهرة من نجوم وأقمار وغيرهما ولم يظهر لنا من الأرض إلا واحدة وسائر السموات والأرضين في جوف الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض وهو بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة"تنبيهان" الأول جرى خلاف في امخلوق أو لأهل الأرض أو السماء كما جرى خلاف في الأفضل ففي كشف الأسرار الأرض أفضل من السماء وأفضل السموات أعلاها وأفضل الأرضين التي نحن عليها وقال ابن المنذر عن ابن عباس قال أفضل السموات السماء التي فيها العرش وأفضل الأرضين التي أنتم عليها وهذا في غير البقعة التي ضمت أعضاء المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنها أفضل حتى من العرش والكعبةالثاني أول ما خلق الله من الأض بقعة الكعبة وهي التي خلق منها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي المجيبة لله تعالى حين قوله لها وللسماء: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ولا يقال حيث خلق المصطفى صلى الله عليه وسلم من بقعة الكعبة فكيف دفن بالمدينة؟ لأنا نقول يمكن أن تكون القطعة التي خلق منها المصطفى صلى الله عليه وسلم نقلها الطوفان إلى المدينة لما سبق في علم الله أنه لا يدفن إلا بهافائدة مشتملة على ما خلقت منه السموات والأرضون وما بين كل واحدة والأخرى فعن الربيع بن أنس أن السماء الأولى موج مكفوف والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراءوعن ابن عمر: لما أراد الله أن يخلق الأشياء إذ كان عرشه على الماء وإذ لا أرض ولا سماء خلق الريح فسلطها على الماء حتى اضطربت أمواجه فأخرج من الماء دخانا وطينا وزبدا فأمر الدخان فعلى وسما فخلق الله منه السموات وخلق من الطين الأرضين وخلق من الزبد الجبال والأرض خلقت قبل السماء وقيل السماء خمسمائة عام وبين كل سماء والتي تليها خمسمائة عام أيضا إلى السابعة والأرض مثل ذلك وبين السماء السابعة والعرش مثل جميع ذلك وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة عام.
وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض ثم إن الله فوق ذلك وقع خلاف في مدة عمارة الدنيا والصواب عندي تفويض ذلك إلى الباري لأنه لم يرد في قدرها قرآن ولا حديث وحكى جماعة أن مدتها سبعة آلاف سنة هذا ملخص ما قاله الشادلي في شرح هذه العقيدة الكبرى"و" مع كون السموات والأرض مشتملة على ما لا يحصى من المخلوقات لا يؤده أي لا يثقله سبحانه وتعالى ولا يشق عليه "حفظهما" أي السموات والأرضين ولا حفظ ما فيهما إذ لو شق عليه حفظ شيء لكان عاجزا والعجز محال عليه تعالى إذ كل ممكن تحت قدرته"و هو" سبحانه وتعالى "العلي" أي المتعالى بالمنزلة عن أن يحيط به وصف واصف أو معرفة عارف العظيم وختمت الآية بقوله وهو العلي العظيم لدلالة هذين الاسمين على تنزيه الحق جل وعلا عن المكان والجهة وعلى إثبات العلو بالمنزلة والعظمة في المقدار وهذا إشارة من المصنف إلى بيان بعض أسماءه سبحانه وتعالى المتضمن لبيان صفاته الذاتية وأسماؤه تعالى كثيرة منها ما تقدم من العلي والعظيمومنها: "العالم" أي إن مما يجب على المكلف اعتقاده أن من أسمائه تعالى العالم وكذا العلام والعليم لورودها لأن أسمائه تعالى وكذا صفاته توقيفية على المختار من الخلاف بخلاف أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فإنها توقيفية اتفاقا لمشاحة الآدمي في حقه ومسامحة خالقه ولأن تنزه الباري عن النقائص قطعي بخلاف النبي فإنه بشر يمكن تطرق الألسنة إليه بما لا يليق قال في الجوهرة:
واختير أن أساه توقيفية ... كذا الصفات فاحفظ السمعية
فلا يجوز أن يسمى سبحانه وتعالى إلا بما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو حسنة أو انعقد عليه إجماع الأمة فلا يجوز بأن يقال فيه عارف أو فطن أو عاقل أو داري وإن ورود إطلاق ما رادفها عليه قعند الورود لا نزاع في جواز الطلاق إلا إذا كان اللفظ موهما ما لا يليق كالزراع والمنشيء ونحو ذلك كالماكر والمستهزئ والمنزل والرامي لأنه لا يكفي في صحة الاجتزاء على الإطلاق مجرد وقوعها في الكتاب والسنة بحسب اقتضاء المقام بل يجب أن لا يخلو عن نوع تعظيم ورعاية أدب كما نص عليه السعد وغيره وعند ورود منع الإطلاق لا نزاع في عدم الجواز اختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان تعالى متصلا بمعناه.
ولم يكن من الأسماء الأعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس في جواز إطلاقها عليه محل نزاع لأحد ولم يكن إطلاقها موهما نقصا بل كان مشعرا بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا اسما أو صفة وجوزه المعتزلة مطلقا وفصل الغزالي فجوز إطلاق الصفة وهي ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما يدل على نفسه الذات واحتج الجمهور على ما اختاروه بأنه لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم بما ليس من أسمائه بل لو سمي واحد من أفراد الناس بما لم يسمه به أبواه لما ارتضاه فالبارئ أولى فيجوز إطلاق السمعي سواء أوهم كالصبور والحليم والشكور أو لم يهم كالعالم والقادر أو ورد به إجماع لأنه غير خارج عن السمعيوأما القياس فالظهر منعة لإبهام أحد المترافدين دون الآخر كالخالق وخالق القردة الخنازير والعالم والعارف والجواد والسخي والحليم والعاقل وإن كان الجمع بمعنى واحد كما أنه يمتنع إطلاق ما ورد على وجه امشاكلة أو المجاز ومما لا يجوز أيضا أن يدعي بما يقتضي الاشتراك كلفظ السيد ومن الثابت بالإجماع الصانع الموجود والواجب والقديم بل قيل إن الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان ولا يكفي في صحة الإطلاق مجرد التعبير بالفعل أو المصدر كصفة الله فلا يطلق عليه صانع"تنبيهان" ألأول خذف المصنف صلة العالم إشارة إلى التعميم تقديره العالم بكل شيء كما تأتي الإشارة إلى عموم تعلقه عند قوم وهو في كل مكان يعلمه الخ ما يأني فعلمه صفة قديمة واحدة تتعلق بسائر أقسام الحكم العقلي تعلقا تنجيزيا قديما على المعتمد ولا يصح فيه الصلوحي لأن الصالح للتعلق غير متعلق فيوهم خلو شيء عن علمه وهو باطل إذ علمه متعلق بماكان وبما لم يكن وبما يترتب عليه أن لو كان ولا يوصف بالضروري ولا بالكسبيالثاني: وقع الاضطراب في حد علمه تعالى والأولى كما قال بقض شيوخنا أن يحد بأنه صفة أزلية تتعلق بجميع أقسام الحكم العقلي على وجه الإحاطة بها دون سبق خفاء وتعريف بعضهم له بأنه صفة تنكشف بها الأشياء أو تنجلي بها ففيه مسامحة بذكر قيد الانكشاف أو التجلي لإيهامه سبق الخلفاء ومن آداب من علم أن الله تعالى عالم بخفيات الأمور أن يستحي من إطلاعه عليه قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108]"فالخبير" أي إن مما يجب اعتقاده أن من أسمائه تعالى الخبير المختبر المطلع على جميع الأشياء حتى حقيقة ذاته فالخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها ولعل وجه ذكره بعد
العالم مجرد بيان أنه من أسمائه تعالى فلا ينافي أن ما يدل عليه الخبير يدل عليه العالم لأنه لا يغيب عن علمه تعالى شيء هذا ما ينبغي اعتقاده في حق الله سبحانه وتعالى"المدبر" أي إن مما يجب اعتقاذه أن من أسمائه تعالى المدبر بكسر الموحدة المشددة وهو المبرم للأمور والمنفذ لها عبر عنه بذلك تقريبا للأفهام وتصويرا لأن الله تعالى عالم بعواقب الأمور كلها من غير نظر ولا فكر وأما التدبير في حق البشر فهو النظر فيما تؤول إليه عاقبة الأمر والتدبر التفكر فيه قاله الجوهري ولفظ المدبر من أسمائه لم يرد في الأسماء الحسنى ولا في القرآن وإنما ورد فيه بلفظ العقل يدبر الأمر وقد قدمنا أن الصحيح أنه لا يكفي في صحة الإطلاق ورود الفعل ولا المصدر ويمكن الجواب بأنه ورد في السنة لاسم المدبر كما في الجامع الصغير ووقع الخلاف فيما ورد من الأسماء بخبر الواحد فمنعه الشيخ أبو الفواكه الدواني ج1/ص47
الحسن عملا بظاهر قوله تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] أو خبر الواحد لا يحصل علما وأجازه الجمهور لأنه من باب العمل والعمل يكفي فيه خبر الواحد"القدير" أي أن من أسماء الله تعالى القدير على وزن فعيل مبالغة في القدرة وهي صفة تؤثر في الممكن عند تعلقها به على وفق الإرادة المتعلقة بالممكن حسبما في علمه تعالى وقولنا مبالغة في القدرة المراد بها هنا الكثرة لا المبالغة المعروفة عند النحاة من أنها إثباتك للشيء أكثر مما يستحقه لأن صفات الباري التي على صفة المبالغة كلها مجازات لأنها في بلك الحالة لا مبالغة فيها لأن المبالغة فيما يقبل الزيادة والنقص وصفاته تعالى منزهة عن ذلكفالصيغة مستعملة في غير ما وضعت له وهو حقيقة المجاز ومن عرف أن الله تعالى قادر على تغيير كل ممكن يحصل له الخشية من سطوته ومن أسمائه تعالى التي ورد بها السمع السميع مشتق من السمع وهو صفة أزلية تتعلق بسائر الموجودات أو المسموعات والبصير مشتق من البصر وهو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى زائدة عليها تتعلق بكل موجود وقيل بالمبصراتقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وورد بهما الخبر وانعقد الإجماع عليهم وتعلقهما مغاير لتعلق العلم وهو المراد بزيادتهما على صفة العلم وليس المراد الزيادة في الانكشاف لاستحالة ذلك إذ علمه محيط بكل شيء ولا فرق في الموجود الذي يتعلقان به بين كونه واجبا أو ممكنا معنى أو ذاتا كليا أو جزئيا ولا يحجبهما شيء عن شيء فيسمع تعالى السر والنجوى ونبصر ما تحت الثرى من جليل أو حقير فيسمع في الأزل وفيما لا يزال ذاته
العلية وجميع صفاته الوجودية التي قامت بها وكذا يسمع ذواتنا بعد وجودها ويسمع ما قام بها من الصفات الوجودية من علومنا وألواننا وقدرتنا وكذا يبصر على هذا النحو ولا يلزم من اتحاد المتعلق للسلبية اتحاد الصفة إلا ترى أن العلم والكلام متعلقها واحد وهو سائر أقسام الحكم العقلي وجهة التعلق مختلفة إذ تعلق العلم تعلق إحاطة وتعلق الكلام تعلق دلالة والدليل على تعلق السمع بالموجود غير المسموع أن موسى عليه السلام سمع كلام ربه الأزلي بلا صوت ولا حرف وسمع موسى حادث فكيف بالسميع القديم وأيضا ترى ذاته تعالى بلاكم ولا كيف ولا يتعلقان بمستحيل فمن عرف أن ربه سميع وبصير داوم المراقبة ومطالبة النفس بدقيق المحاسبةومن أسماءه تعالى التي ورد بها السمع العلي على عباده و الكبير قال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] وانعقد عليهما إجماع الأمة ليس علوه بجهة ولا اختصاص ببقعة ولا كبير بعظم جثة بل العلي وصفه بمعنى أن ذاته موصوفة بأوصاف الجلال والعظمة والكبرياء نعته بصفات الجمال ومن حق من عرف لربه العظمة والكبرياء أن يذل ويتواضع بيه خلقه فإن من تذلل لله في نفسه يرفع الله قدره على أبناء جنسه وعلامة التواضع قبول الحق ممن قال التكبر جحد الحق قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} [البقرة: 206]"و" كما يجب الإيمان بأن الله إله واحد يجب اعتقاد "أنه" سبحانه وتعالى "فوق عرشه" وهو جسم نوراني علوي محيط بجميع الأجسام لا قطع لنا بتعيين حقيقته وهو أول المخلوقات على الأصح وفوق السموات والكرسي من تحته بين قوائمة ومعناه لغة كل ما علا والظرف خبر إن "والمجيد" يصح جره نعتا للعرش ورفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو العائد على العرش أو على الله"بذاته" متعلق بالمجيد والباء بمعنى في مثل أقمت بمكة أي فيها والضمير عائد على العرش أي العظيم في ذاته وقيل عائد على الله والمعنى أن هذه الفوقية المعنوية له تعالى مستحقها بالذات لا بالغير من كثرة أموال أو جنود كفوقية المخلوقات ولا يصح تعلق بذاته بفوق لفساد المعنى لن المعنى حينئذ وهو فوق العرش بذاته وهو ممتنع لأن فيه استعمال الموهم والحاصل أنه يجوز إطلاق لفظ الفوقية الغير المقيدة بلفظ الذات على اللهفيجوز قول القائل فوق سمائه أو فوق عرشه وتحمل على فوقية الشرف والجلال والسلطنة القهر لا فوقية حيز ومكان لاستحالة الفوقية الحسية عليه تعالى لاستلزامها الجرمية
والحدوث الموجبيين للافتقار المنزه عنه الخالق جل وعلا وإنما استعملهما المصنف رحمه الله تعالى لما مر عند قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] من أن النفوس بجد عن التعظيم والهيبة عند سماع الأشياء المحسوسة الدالة على الكبرياء ما لم تجده عند عدم ذلك ولقيام الدليل القاطع على نفى مشابهته للحوادث في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلا ينبغى الاعتراض على المصنف بمثل ذلك مع وروده في القرآن قالى تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ولذلك لما بلغ العلامة يوسف بن عمر تعقب بقض الشيوخ لكلام المصنف بأنه أثبت لله مكانا رد هذا التعقب بورود الفوقية في القرآن قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] معناه يخافون عذابه من فوقهم إن عصوه بالقهر والغلبةوقال: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] وهو القاهر فوق عباده وما قيل من أن هذه اللفظة دست على المؤلف رده ابن ناجي قائلا ليس هذا من إطلاق المصنف وإنما هو من إطلاق السلف الصالح والصدر الأول ويمكن رد ابن ناجي بأن الذي أطلقه عليه السلف هو لفظ الفوقية الغير المقيدة بذاته ولإيهام إنما عظم من التقييد بذاتهقال في التحقيق أخذ على المصنف في قوله بذاته وقيل هي دسيسة عليه فإن صح هذا فلا إشكال في سقوط الاعتراض عنه ولا عليه لأنه لم يرد بها سمع وسئل الشيخ عز الدين عن هذا هل يفهم منه القلو بالجهة أم لا وهل يكفر معتقدها أم لا فأجاب بأن ظاهره القول بالجهة والأصح أن معتقدها لا يكفر وما قاله عز الدين من أن ظاهره القول بالجهة يرده قول الإمام أبي عبد الله محمد بن مجاهد في رسالته مما أجمعوا على إطلاقه أنه تعالى فوق سمواته على عرشه دون أرضه إطلاقا شرعيا ولم يرد في الشرع أنه في الأرض فلذلك قال دون أرضه وهذا مع ثبوت علمهم باستحالة الجهة عليه تعالىفليس هذا عندهم مشكلا لعلمهم بفصاحة العرب واتساعهم في الاستعارة ونقل هذا الكلام بعينه المصنف وغير لفظه هنا قصدا للتقريب على المبتدى ء وإذا تقرر هذا فالناس عالة على الصدر الأول فإذا كان إطلاقهم هذا فيتعين علينا تفهمه بالتمثيل والبسط إذ قد غلبت العجمة على القلوب حتى ظنت أن هذا الإطلاق يلزم منه إثبات الجهة في حق المنزه عنها تقدس وتعالى واعلم أ الفوقية عبارة عن كون الشيء أعلا من غيره وتكون حية ومعنوية كزيد فوق الفرس والسلطان فوق الوزير وأن الذي يجوز عليه المكان يجوز أن تكون فوقيته حسية
ومعنوية والذي يستحيل عليه المكان والجسمية لا تكون فوقيته إلا معنوية ففوقية الله على عرشه المراد بها فوقية معنوية لما قدمنا وحمل الفوقية في حقه تعالى على المعنوية مبني على طريقة الخلف وهي المؤولة وعليثا إمام الحرمين وجماعة كتأويل اليد بالقدرة وأما السلف فيقفون عن الخوض في معنى ذلك ويفوضون علم ذلك إلى الباري سبحانه وتعالى وإلى هاتين الطريقتين أشار صاحب الجوهرة بقوله:
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها
والأولى أعلم والثانية أسلم"تنبيهات" الأول علم مما ذكرنا أن الباري سبحانه وتعالى يوصف بالعلو حقيقية وبالفوقية مجازا وإن كان معناهما العظمة ولا ولا يوصف سبحانه بالسفل ولا بالتحتية لا حقيقية ولا مجازاالثاني: من الصفات ما يصح أن يوصف به الخالق والمخلوق على وجه الحقيقة كالعلم بوحدانية الله تعالى فالله نعلم أنه واحد والعبد الموحد أيضا يعلم ذلك بطريق الحقيقة فيهما وكالعلم بحرارة النار وإن كان علم الله قديما وعلم العبد حادثا ومنها ما يوصف به تعالى حقيقة والعبد مجازا كالمعطي والرازق فإن العبد إذا أعطى غيره شيئا يقال له معط مجازا لحصول صورة العطاء منه كما يقال لصورة الفرس فرسومن ثم أجات بعض المفسرين عن خير الرازقين وأحسن الخالقين مع أنه لا رازق ولا خلق إلا هو سبحانه وتعالى بأن الرازق يطلق على الله حقيقة وعلى المخلوق مجازا أو أن المراد خير من تزعمونهم رازقين ويجري نحو هذين الجوابيين في أحسن الخالقين ومنها ما يوصف به الباري بطريق الحقيقة ولا يوصف به المخلوق لا حقيقة ولا مجازا كالأزلي ومنها ما يوصف به العبد حقيقة ويوصف به الباري مجازا كالاستواء والنزول والمعية والفوقيةالثالث: قد قدمنا الكلام على أن أسماءه تعالى وكذا صفاته توقيفية أي تعليمية وأنه لا يكتفي بمجرد الورود في السمع في صحة الإطلاق بل يجب أن لا يخلو عن نوع تعظيم فلا يجوز إطلاق نحو الماكر والحارث والمستهزئ وإن ورد بها السمع ولذلك يمتنع قول العامة الذي يخون الفاتحة يخونه الله إلا أن يشتهر في العرف استعمال هذا اللفظ في معنى يجازيه الله أو يعاقبه فلا إثم على قائل هذا ملخص ما قاله الأجهوريولما كان علمه تعالى صفة ذاتية قديمة عامة التعلق قال وهو أي الباري سبحانه وتعالى
"في كل مكان بعلمه" بمعنى أنه يجب على كل مكلف أن يعتقد أن علم الله تعالى محيط بسائر أقسام الحكم العقلي قال تعالى: {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12] في أمكتنها وأزمنتها وقد قدمنا أن علمه تعالى صفة أزلية قائمة بذاته زائدة عليها محيطة بالواجبات والجائزات والمستحيلات ولا يوصف علمه بالضرورة ولا الاكتساب وهو صفة واحدة وإن تعددت متعلقها وأشار إليه المصنف بقوله وهو في كل مكان بعلمه إلى بيان معنى قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] فإن المراد الإشارة إلى إحاطة علمه بجميع الأمكنة وما احتوت عليهوالمراد بالمعية المصاحبة بالعلم لا المصاحبة في المكان لتنزهه عن الزمان والمكان ومعنى قوله: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} علما وحكما لا نفسا وذاتا وبالحمل المذكور علمت الرد على من قال أخذ على المصنف في إستعمال هذا اللفظ من وجهين إيهامه الجهة وأن علمه يتجزأ مع تنزهه عن الجهة وعن التجرؤ لعلمه الموهم مفارقته لذاته فكأنه قال وعلمه تعالى محيط بكل شيء حتى بحقيقة ذاته وصفاته بشهادة {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الطلاق: 12] و {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] والدليل على إحاطة علمه تعالى بحميع الأمكنة والأزمنة وما فيها مع ما قدمنا من الآيات أنه خلق أي أوجد الإنسان وكذا غيره وإنما اقتصر على الإنسان لأجل قوله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ} أي تحدث {بهِ نَفْسُهُ} أي ما يقوله في نفسه ويخطر ببالهقال الأجهوري وسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من خير أو شر وإن غلب استعمالها في الشر وفسرنا حديث النفس بما يقوله في يفسه ويجريه على قلبه لقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فأطلق على حديث النفس قولا والوسوسة تطلق على الصوت الخفي وعلى كل ما يخطر بالبال ويهجس في ضسير الإنسان فالوسوسة والوسواس حديث النفس وسمي بذلك لخفائه أو لاشتغال المتصف به عن غيره والغالب استعمالها في الشرولذا أضيفت للنفس وعموم الإنسان متناول الأنبياء لأنهم ليسوا معصومين من خواطر النفس ولا من وسوسة الشيطان قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] أي قرأ: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي قراءته مال ليس من القرآن ثم ينسخ الله جميع ما يلقيه الشيطان ويبطله ويثبت آياته قال بعض المفسرين وفي الآية دليل على أن الأنبياء يجوز
عليهم السهو والنسيان والغلط بوسواس الشيطان أو عند شغل القلب حتى يغلط ثم ينبه ويرجع إلى الصحيح وهو معنى قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج" 52] وحينئذ فالعصمة الواجبة للأنبياء من الشيطان عصمتهم من إغوائه وأذيته لا من مجرد وسوسته وتفلته المجردين من الإيذاء"تنبيهان" الأول النفس تطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وهي المرادة في كلام المصنف وتتنوع إلى ثلاثة أنواع إمارة بالسوء للجاهل ولوامة للتائب ومطمئنة للعارف وإسناد الوسوسة إليها مجاز كنسبة الإنسان للشيطان في قوله تعالى حكاية عن موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] والشيطان لا قدرة له على إيجاد شيء ولا إعدامه ووجهه المجاز ما قدمناه من أن المراد بالوسوسة ما يقوله الإنسان ويجريه على قلبه فالموسوس بمعنى المتحدث في قلبه هو الشخصالثاني: قد قدمنا أن النفس مرادفة للروح وأنه لا يعلم حقيقتها إلا الباري سبحانه وتعالى فيكره الخوض في حقيقتها قال في الجوهرة:
ولا تخض في الروح إذ ما وردا ... نص عن الشارع لكن وجدا
لمالك هي صورة كالجسد ... فحسبك النص بهذا السند
وهي واحدة على المعتمد خلافا للعز بن عبد السلام في قوله إن في كل جسد روحين روح اليقظة التي يكون صاحبها غير نائم عند وجودها وينام عند مفارقتها وروح الحياة التي يموت الحيوان بخروجها ويحيا بوجودها وقد قدمنا ذلك"و" كما يعلم سبحانه وتعالى ما توسوس به نفس الإنسان "هو" أي الله "أقرب إليه" أي إلى الإنسان "من حبل الوريد" والقصد التمثيل للتقريب لأن قرب الله معنوي وقرب حبل الوريد حسيوحاصل المعنى: أن الله تعالى أعلم بحال الإنسان ممن يكون في القرب منه كحبل الوريد ويصح عود الضمير المنفصل على المصدر المفهوم من يعلم وهو العلم على حد: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وحبل الوريد المراد به علم صاحب وسوسة النفس بها أي وعلم الله بما توسوس به النفس أقرب من علم صاحبه فالمراد بالقرب هنا قرب علم لا قرب مسافة فهو مثل في فرط القرب لأنه تعالى لما كان مطلعا على معلومات العباد وسرائرهم ولا يخفى عليه شيء فكأن ذاته قريبة منه كما يقال الله تعالى في كل مكان وقد جل الله تعالى عن الأمكنة
والأزمنةوالوريد عرق بباطن العنق وكل إنسان له وريدان مكتنفان بصفحتي العنق من المقدم ومتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه أي إلى الوتين وهو نياط القلب وهو عرق متصل به إذا انقطع مات صاحبه والحبل العرق شبه بالحبل واستعير له لفظ الحبل من حيث اشتداد اللحم بالعرق مثل الجبل وتلك الاستعارة تسمى تصريحية للتصريح باللفظ المستعار وإضافة الحبل إلى الوريد من قبيل إضافة الشيء إلى مرادفه ويقال لها الإضافة البيانية لأن الحبل بمعنى العرق هو الوريد وقيل من إضافة الجنس إلى نوعه كقولهم حي الطير لا يجوز بيعه بلحمه"تنبيه" في إتيانه بضمير الغيبة دون ضمير الحاضر تغيير للفظ القرآن إذ لفظ القرآن: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وهذا التغيير يسمى عند أهل البيان بالاقتباس وحقيقته أن يذكر شيء من القرآن أو الحديث في كلام لا بلفظ قال الله أو رسوله بل على وجه يتوهم معه أنه غير قرآن أو حديث ويغتفر فيه التغيير اليسير لنحو تقفيه أو إبهام ما لا يصح كما هناواختلف في حكمه فعزا بعض الشيوخ لمالك التشديدفي منعه وهو السيوطي حيث قال وأما حكمه في الشرع فمالك مشدد في المنع ونسب لابن عبد البر واقاضي عياض وابن المنير تجويزه فلعل المصنف رأيه موافق لرأي هؤلاء الجماعة القائلين بجواز الاقتباس وليس من نقل القرآن بالمعنى للاتفاق على عدم جوازهوقولنا في حد الاقتباس على وجه يتوهم معه أنه غير القرآن إشارة إلى شرط جوازه عند من يجوزه لأن ما تغير بعض لفظه لا يجوز نقله على وجه أنه قرآن أو حديث مطلقا وإنما شدد مالك في منع الاقتباس وإن خلا من التغيير لإيهام السامع عدم كونه قرآنا أو حديثا وإنما حرم نقل المغير على أنه قرآن لما في ذلك من الكذب لأن المغير ليس كلام الله ولا رسوله والإيهام المقتضي لتغيير لفظ القرآن في كلام المصنف إيهام عود الضمير إلى المصنف لو قال ونحن كما في التلاوة وهو لا يصح بخلاف قوله وهو فإنه ظاهر في رجوعه لله هو فاعل خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وليس كلام المصنف من نقل القرآن بالمعنى للاتفاق على منعه بخلاف نقل الحديث بالمعنى ففيه خلافووجه الفرق أن القرآن كلام الله والحديث كلام رسوله وأما نقل شيء من القرآن في نحو الدعاء أو الثناء على الله أو الخطب من غير تغيير لفظه على وجه لا يتوهم معه عدم القرآنية فلا
شك في جوازه فقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وغيرها فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] الآية وقال اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني ديني وأمني من الفقر1 وغير ذلك من استعمال الصحابة فقول بعض الناس إن ألفاظ القرآن لا تستعمل في غير التلاوة مطلقا غير صريح"و" إذا علمت أيها المكلف أنه تعالى في كل مكان بعلمه فيجب عليك أن تعتقد أنه "ما تسقط" أي تقع "من" زائدة قياسا للدلالة على العموم وفاعل بسقط ورقة فمحلها رفع والمعنى ما تسقط ساقطة في جميع أقطار الأرض لا خصوص الورقة إلا بعلمها سبحانه وتعالى لما تقرر من أن علمه تعالى متعلق بسائر أقسام الحكم العقلي تعلقا تنجيزيا قديما ولا حبة عطف على ففظ ورقة على قراءة الجر أو على محلها على رفع حبة والمراد بالحبة أقل قليل عبر عنه بالحبة تقريبا للأفهام وصلة تسقط "في ظلمات الأرض" لأن معنى تسقط تغيب في ظلمات الأرض أي بطونها {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} المراد به علم الله وقيل المراد به اللوح المحفوظ فأخبر تعالى أن اللوح المحفوظ فيه علم كل شيء حتى سقوط الحبة والورقة والرطب واليابس وهما معروفان وقيل الرطب قلب المؤمن واليابس قلب الكافر والقصد من ذكر الآية والتنصيص على أن اللوح المحفوظ مزبور فيه كل شيء فالاستثناء بدل اشتمال من الاستثناء الأول2ـــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ 1/212 حديث 4952 الاستثناء لغة: مصدر استثنى تقول: استثنيت الشيء من الشيء إذا أخرجته ويقال حلف فلان يمينا ليس فيها ثنيا ولا مثنوية ولا استثناء كله واحد وذكر الشهاب الخفاجي أن الاستثناء في اللغة والاستعمال يطلق على التقييد بالشرط ومنه قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] أي لا يقولون: إن شاء اللهوالاستثناء في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: إما أن يكون لفظيا أو معنويا أو حكميا فالاستثناء اللفظي هو: الإخراج من متعدد بإلا أو إحدى أخواتها ويلحق به في الحكم الإخراج بأستثني وأخرج ونحوهما على اللفظ المضارعوعرفه السبكي بأنه: الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها من متكلم واحد وعرفه صدر الشريعة الحنفي بأنه: المنع من دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بإلا أو إحدى أخواتها فعرفه بالمنع ولم يعرفه بالإخراج لأن الاستثناء عند الحنفية لا إخراج به إذ لم يدخل المستثنى في المستثنى منه أصلا حتى يكون مخرجا فالاستثناء لمنعه من الدخول والفقهاء يستعملون الاستثناء أيضا بمعنى قول: إن شاء الله في كلام إنشائي أو خبري وهذا النوع ليس استثناء حقيقيا بل هو من متعارف الناس فإن كان بإلا ونحوها فهو استثناء حقيقي أو استثناء وضعي كأن يقول لا أفعل كذا إلا أن يشاء الله أو: لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله ومن العرفي قول الناس: إن يسر الله أو إن أعان الله أو ما شاء الله وإنما سمي هذا
والمعنى أن اللوح المحفوظ فيه علم كل شيء ما دق وما جل حتى سقوط الورقة والحبة وهي لا تكليف عليها فما بالك بالأعمال المجازي عليها بالثواب والعقاب نسأل الله العفو والغفران إنه جواد كريم ويحتمل أن الكتاب المبين هو علم الله تعالى وعليه فقوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] كالتأكيد بقوله تعالى: {إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] لأن معناهما واحد ولذا قال أبو حيان وهذا استثناء جار مجرى التوكيد لما بينا من أن قوله ولا حبة وما بعدها معطوفان على ورقة فالاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة إلا أكرمتها ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد فتلخص أن الاستثناء الثاني أعني قوله إلا في كتاب بدل من الإستثناء الأول أعني قوله إلا يعلمها بدل مطابق إن فسر الكتاب بعلمه تعالى واشتمال إن فسر الكتاب باللوح المحفوظ لاشتمال العلم على اللوح كنفعني زيد علمه هكذا قال بعض المفسرين وهذا الإعراب مبني على عطف رطب ويابس على لفظ حبة بناء على جرهما أو على محلهما على رفعهما وأما على رفعهما بالابتداء فيكون قوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] خبرا لا بدلا هذا محصل كلام أبي السعود في تفسيرهولما ذكر المصنف أن علمه تعالى محيط بما كان وبما يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف يكون ذكر ما يدل على أن كل شيء تحت قهره وحكمه فقال على العرش وهو لغة كل ما علا وشرعا جسم عظيم نوراني علوي محيط بجميع الأجسام لا قطع لنا بتعيين حقيقته وهو غير الكرسي على المعتمد يجب الإيمان به استوى أي استولى بالقهر والغلبة استيلاء ملك قاهر وإله قادر ويلزم من استيلائه تعالى على أعظم الأشياء وأعلاها استيلاؤه على ما دونه ولفظ الاستواء من جملة المتشابه كاليد والوجه والعين والأصابع ونحو ذلك مما ظاهره مستحيل على الباري سبحانه ولا يعلم معناه على القطع إلا الله سبحانه وتعالىـــــــ
التعليق- ولو كان بغير إلا – استثناء لشبهه بالاستثناء المتصل في صرفه الكلام السابق له عن ظاهرهو الاستثناء المعنوي هو: الإخراج من الجملة بغير أداة استثناء كقول المقر: له الدار وهذا البيت منها لي وإنما أعطوه حكم الاستثناء لأنه في قوة قوله: له جميع الدار إلا هذا البيتوالاستثناء الحكمي يقصد به أن يرد التصرف مثلا على عين فيها حق للغير كبيع الدار المؤجرة فإن الإجارة لا تنقطع بذلك والبيع صحيح فكأن البيع ورد على العين باستثناء منفعتها مدة الإجارة وهذا الإطلاق قليل في متعارف الفقهاء والأصوليين وقد ورد في الأشباه والنظائر للسيوطي والقواعد لابن رجب إلا أن هذا النوع لا يدخل في مفهوم الاستثناء المصطلح عليه أنظر الموسوعة الفقهية 3/184, والعدة 2/659, والمحصول 1/3/38, وكشف الأسرار 1/121.
وأما العلماء فقد اتفق السلف والخلف على وجوب اعتقاد حقيقة وروده على وجوب تنزيه الباري عن ظاهره المستحيل واختلفوا بعد ذلك على ثلاث طرق طريق أبي الحسن الأشعري إمام هذا الفن أنها أسماء لصفات قائمة بذاته تعالى زائدة على صفات المعاني الثمانية أو السبعة التي هي العلم والقدرة والإدراك على القول به ونحو ذلك من بقيتها والدليل عنده على ثبوتها السمع لورودها إما في القرآن أو السنة لذلك تسمى على مذهبه صفات سمعية وطريق السلف كابن شهاب ومالك الإمام ومن وافقهما من السلف الصالح تمنع تأويلها عن التفصيل والتعيين وقال أهلها انقطع بأن المستحيل غير مراد ونعتقد أن له تعالى استواء ويدا وغير ذلك مما ورد به الشرع لا يعلم معناه على التفصيل إلا الله وكذلك تسمى المعنوية وطريق الخلف تؤول المتشابه على وجه التفصيل قصدا للإيضاح ولذلك تسمى المؤولة فأولوا الاستواء بالاستيلاء واليد بالقدرة والعين بالبصر والأصابع بإرادات القلب وإلى طريق السلف والخلف أشار صاحب الجوهرة بقوله:
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها
فعلم بما ذكرنا أن كلا من أهل الطريقتين تؤول المتشابه يصرفه عن ظاهره لاستحالته وافترقا بعد صرفه عن ظاهره المستحيل في بيان معناه على التعيين والتفصيل فالسلف يفوضون علم ذلك لله تعالى والخلف تؤوله تأويلا تفصيليا بحمل كل لفظ على شيء معين خاص كما قدمناقال العلامة ابن أبي شريف ومذهب السلف أسلم فهو أولى بالاتباع كما قال بعض المحققين ويكفيك في الدلالة على أنه أولى بالاتباع ذهاب الأئمة الأربعة إليه فإن مالكا رضي الله تعالى عنه لما سئل عن الاستواء قال الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولما سئل عنه الشافعي رضي الله تعالى عنه قال استوى بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسك عن الخوض في ذلك كل الإمساك ولما سئل عنه الإمام أحمد بن حنبل قال استوى كما أخبر لا كما يخطر للبشر ولما سئل عنه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه قال من قال لا أعرف الله في السماء أم في الأرض كفر لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانا ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبهومعنى قول مالك الاستواء معلوم أن عقولنا دلتنا على أن الاستواء اللائق بالله هو الاستيلاء دون الاستقرار والجلوس لأنفسهما من صفات الأجسام وقوله والكيف مجهول معناه أن ذات
الله لا توصف بالأحوال المتعلقة والهيئات الحسية من التربع ونحوه والإيمان به واجب لوروده في الكتاب والسؤال عنه بدعة لأنه لم تجر العادة بالسؤال عنه من السلف بل يفوضون الفواكه الدواني ج1/ص52
معرفته على التحقيق إلى الله وأما طريق الخلف فهي أحكم بمعنى أكثر إحكاما بكسر الهمزة أي إثباتا لما فيها من إزالة الشبه عن الإفهام وبعضهم عبر بأعلم بدل أحكم بمعنى أن معها زيادة علم ببيان المعنى التفصيلي ومال إلى ترجيحها العز بن عبد السلام حيث قال هي أقرب الطريقين إلى الحق وإمام الحرمين مال مرة إلى طريق الخلف ومرة إلى طريق السلف وهذا الخلاف حيث لا تدعو ضرورة إلى التأويل وإلا اتفق على وجوب التأويل التفصيلي وذلك بأن تحصل شبهة لا ترتفع إلا بهوالخلاف بين الخلف والسلف مبني على الخلاف في الوقف في الآية هل على قوله والراسخون في العلم أو على قوله إلا الله فمن جعل الوقف على إلا الله فسر المتشابه بأنه الذي استأثر الله بعلمه كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة ومن قدر الوقف على والراسخون في العلم فسر المتشابه وأوله تأويلا تفصيليا وجملة يقولون آمنا به استئناف موضح لحال الراسخين أو حال منهم أو خبر إن جعلته مبتدأ"و" مما يجب اعتقاده أنه سبحانه وتعالى "على الملك" بضم الميم بمعنى المملوك "احتوى" أي أحاطت قدرته بجميع الممكنات وملكه بجميع الكائنات فلا ملك ولا ملك في الحقيقة إلا له سبحانه وتعالى لاستغنائه تعالى عن كل ما عداه وافتقار كل ما عداه إليه لا رب سواه وتفسير الملك بالمملوك تفسير مراد وأما معناه في اللغة فهو الاستغناء مع الحاجة إلى المستغنى ويقرب من هذا التفسير قول بعضهم حقيقة الملك بالضم عبارة عن تصرفه في المخلوقات بالقضاء والتدبير وأما الملك بالكسر فهو كسب عار عن الانتزاع أو تقول هو استحقاق التصرف في الشيء بسبب شرعي لا بنيابة وأما الملكوت فهو عبارة عن باطن الملك والملك هو الظاهر وإنما فسرنا الاحتواء بالإحاطة لأنه لا يصح تفسيره بمعناه اللغوي في حقه تعالى إذ هو الاستدارة بالشيء وهي مستحيلة عليه تعالى"تنبيه" إنما ذكر جملتي على العرش استوى وعلى الملك احتوى مع كونهما من المتشابه لما قدمناه عند قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] من أن النفوس تجد من التعظيم والهيبة عند سماع الأشياء المحسوسة المألوفة لها الدالة على التعظيم ما لا تجده عنه عدم
ذلك وإلا فالله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء فلا ينبغي الاعتراض على المصنف بذكره شيئا من ذلك"و" مما يجب اعتقاده أيضا أن له الأسماء الحسنى والأسماء جمع اسم وهو لغة ما له مسمى والمراد به هنا ما دل على مجرد ذاته تعالى كلفظ الله أو على الذات مع الصفة كالعالم والقادر وكلها توصف وصفا كاشفا بالحسنى تأنيث الأحسن وصح جعله وصفا مع إفراده وجمع الأسماء لأن حسنى جمع في المعنى إذ هو مصدر لحسن حسنا ضد قبح فإذا قصدت المبالغة في الحسن قلت حسنى على وزن فعلى ومذكره حسن على وزن فعل ووصف أسمائه تعالى بالحسنى باعتبار ما تضمنته من صفات الجلال والعظمة إذ لا حسن يوازيها ولا جمال يدانيها"تنبيهان" الأول قد اشتهر الخلاف في كون الاسم عين المسمى أو غيره أو لا ولا الذي حققه شيخ الإسلام أن المراد من اسم الله المدلول ومن مسماه الذات فالاسم هو المسمى والقائل بأنه غيره أراد بالاسم اللفظ وبالمسمى الذات وأنت خبير بأن الخلاف حينئذ لفظي ويقرب من هذا قول العلامة البساطي في تحقيق ذلك الذات هو المسمى والدليل عليها هو الاسم فإذا قلت عالم فهناك أمران ذات وعلم فالذات هو المسمى والعلم هو الاسموإذا علمت ذلك فالأسماء منها ما هو عين المسمى ومنها ما هو غيره ومنها ما لايقال فيه عين ولا غير فالأول كموجود وقديم فإن الموجود والقديم عين الذات والثاني مثل خالق ورازق وكل صفات الأفعال فإن الفعل الذي هو الاسم غير الذات والثالث مثل العالم والقادر والمريد فالعلم مثلا الذي هو الاسم لا يقال فيه إنه عين ولا غير هذا تحقيق ما قاله الأشعريالثاني الذي يظهر إبقاء الأسماء على ظاهرها من غير تأويلها بالمسميات لأن الدعاء إنما يكون بالاسم لا بالمسمى وقد قال تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وسبب نزول قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] يدل على ما قلنا وذلك لأن الكفار لما سمعوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تارة يذكرون الله تعالى وتارة يذكرون الرحمن قالوا يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون إلها واحدا وإذا هم يعبدون آلهة فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعاف: 180] أي اتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق ويسمونه بغير الأسماء الحسنى لأنهم كانوا يسمونه بما لا يجوز عليه كيا أبيض الوجه ويا أبا المكارمولذلك نص علماؤنا على أنه لا يجوز أن يدعى سبحانه إلا بالأسماء التي سمى بها نفسه في
كتابه أو على لسان نبيه أو اجتمعت عليه الأمة لأنها توقيفية ومن الوارد الحنان المنان والمراد بالحنان الذي يقبل على من أعرض عنه والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال وهي غير محصورة في التسعة والتسعين"و" له أيضا سبحانه وتعالى "الصفات" جمع صفة وهي المعنى القائم بالموصوف العلى أي المرتفعة عن كل نقص والفائقة لكل شيء في العظمة والكمال ولفظ العلى مصدر على يعلى فلا إذا شرف وتناهى في المكارم وعلى يعلو علوا إذا ارتفع ولكونه مصدرا صح جعله وصفا للجميع وهو وصف كاشف لا مخصص ولما ذكر أن له تعالى الأسماء الحسنى والصفات العلى شرع في بيان أنها قديمة بقوله لم يزل سبحانه يريد المصنف ولا يزال موجودا قديما باقيا موصوفا بجميع صفاته النفسية والسلبية والمعاني والمعنوية"و" لم يزل ولا يزال أيضا مسمى بجميع "أسمائه" تعالى ومراده بلم يزل القدم وبلا يزال البقاء والمراد بقدم أسمائه تعالى وصفاته باعتبار التسمية والاتصاف بها كما سنوضحه عند ذكرنا لكلام الجوهرة وعلم مما قررنا أن خبر لم يزل متعلق بجميع وقدرناه قديما باقيا لدلالة المقام عليه لأنه مقام رد على المعتزلة كما سيبينه تعالى سبحانه وتنزه عن أن تكون صفاته الذاتية مخلوقة و تعالى أيضا عن أن تكون "أسماؤه محدثة" بمعنى "مخلوقة و" أشار في الجوهرة إلى بيان قدم الأسماء والصفات بقوله وعندنا "أسماؤه العظيمة كذا صفات ذاته قديمة والمعنى أن أسماء الله تعالى وصفاته الذاتية قديمة عندنا وعند أهل الحقوالمراد بأسمائه تعالى ما دل على مجرد ذاته كالله أو باعتبار الصفة كالعالم والقادر وقدمها إما باعتبار قدم ما دلت عليه من المعاني القائمة بذاته تعالى كالقدرة والعلم والإرادة وإما باعتبار التسمية بها وهذا أحسن خصوصا والراجح أن واضع اللغة هو الله فهو الذي سمى نفسه بها أزلا ومعنى سمى نفسه بها أظهر تسميته بها إذ العقل لا يتصوره إلا مسمى ومتصفا بها وقصد المصنف بالتصريح بقوله لم يزل بجميع صفاته الخ وبما قبله الرد على المعتزلة في قولهم إن الله كان في الأزل بلا اسم ولا صفة فلما أوجد الخلق وصفوا له الأسماء والصفات وفيه أيضا رد على النفاة لزيادة الصفات الذين يقولون إنه تعالى عالم بلا علم وقادر بلا قدرة زعما منهم أن صفاته عين ذاته وهناك صفة زائدة على الذات بل ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالما وبالمقدرات قادرا هروبا من تعدد القدماء وهو جهل منهم إذ التعدد الممنوع تعدد الآلهة.
ونحن لا نقول بذلك وإنما نقول المعبود ذات واحدة ولها صفات قديمة بقدمها ولا حظر في لك فالحاصل أن صفات الذات لا تنفك عنها وليست عين الذات حتى يكونا إلهين ولا غيرها حتى تكون محدثة فهي كالواحدة من العشرة وإلى ذلك أشار صاحب الجوهرة بقوله ثم صفات الذات ليست بغير أو بعين الذات وقيدت الصفات بالذاتية للاحتراز عن صفات الأفعال فإنها حادثة عند الأشاعرة قال المحلى أما صفات الأفعال كالخلق والرزق فليست أزلية وإنما هي حادثة متجددة لأنها إضافات تعرض للقدرة وهي تعلقاتها بوجود ذات المقدورات لأوقات وجدانها ولا محظورة في اتصاف الباري بالإضافات ككونه قبل العالم ومعه وبعده وأزلية أسماءه الراجعة إلى صفات الأفعال من حيث رجوعها إلى القدرة لا الفعل فالخالق مثلا من شأنه الخلق وهو المتصف بالصفة التي بها يصح الخلق وهي القدرة والقدرة قديمة وصدور الخلق ليس أزليا فإن قلت كيف يتصف الباري بصفات الأفعال وهي حادثة على طريق الأشعري وقيام الحادث بالقديم محال قلت اتصافه بها لا يقتضي قيامها به لأنها إضافات وهي من الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها وحاصل الجواب أن صفات الأفعال ليست بصفات حقيقية بحيث تكون موجودة بالوجودالخارجي وإنما هي متعلقة بالله تعالى ولا يلزم من تعلق الشيء بالشيء أن يكون صفة له مثل قولنا شريك الباري معدوم فإن العدم متعلق بالشريك وليس صفة له إذ لو كان صفة له لكان موجودا لأن كل من اتصف بصفة وجودية فهو موجود"تتمات" الأولى الصفات عند من يثبت الأحوال أربع نفسية وسلبية ومعان ومعنويةفالنفسية كالوجود وحقيقتها الحال الواجبة للذات ما دامت الذات غير معللة بعلة بخلاف الحال المعنوية ككون الذات عالمة وقادرة ومريدة فإنها معللة بقيام العلم والقدرة بالذات والسلبية وهي الدالة على نفي ما لا يليق به سبحانه وتعالى وهي خمسة القدم والبقاء والمخالفة للحوادث وقيامه بنفسه والوحدانيةوصفات المعاني وهي الدالة على معنى قائم بالذات زائد عليها وهي سبه العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والحياة وزاد بعضهم الإدراك فتكون ثمانية والمعنوية وهي فرع صفات المعاني ككونه قادرا ومريدا وهي قديمة كأصلها وضابطها أنها الحال الواجبة للذات ما دامت الذات معللة بعلة والحق أنها ليست زائدة على صفات المعاني لأن الصحيح أنه لا حال والشيء إما موجود وإما غير موجود خلافا لمن أثبت الحال وهو كون الشيء لا موجودا
ولا معدوما وإنما يذكرها القوم للدلالة على قيام صفة المعنى بالذات لا أنها زائدة عليهاالثانية: الذي يتعلق من الصفات كل ما اقتضى أمرا زائدا على الذات وذلك كالقدرة والإرادة والسمع وبقية صفات المعاني سوى الحياة فالقدرة تتعلق بالممكن توجده أو تعدمه والإرادة تتعلق به على وجه التخصيص والعلم والكلام يتعلقان بسائر أقسام الحكم العقلي تعلقا تنجيزيا قديما لكن تعلق العلم تعلق إحاطة وتعلق الكلام تعلق دلالة والسمع والبصر يتعلقان بكل موجود وقيل السمع بالمسمع والبصير بالمبصر فقط والإدراك بالمشمومات والمذوقات والملموسات والحياة لا تتعلق بشيء لأنها لا تقتضي أمر زائدا على الذات وإنما تصحح للذات الاتصاف بالعلم فهي شرط فيه ومثلها في عدم التعلق صفات السلوبالثالثة: علم ما ذكرنا أن صفات المعاني وفروعها قديمة وصفات الأفعال حادثة على طريق الأشاعرة وأما صفات السلوب فالمفهوم من كلام المصنف قدمها أيضا ولذلك قال السكتاني فإن قلت هل يجب القدم لأوصافه التنزيهية الواجبة له تعالى كالقدم والبقاء وما معهما من صفات السلوب أو لا قلت نعم لأن القدم مثلا أمر يجب له عقلا فلا يصح سلبه عنه بحال لا في الأزل ولا فيما لا يزال وعليه فقس بقية صفات السلوبالرابعة: كثرة السؤال عن الاسم والمسمى والمعنى هل هي متحدة أو متغايرة وهل المعبود الاسم أو المسمى أو المعنى وتحقيق الجواب أن تقول اسم الباري على قسمين قسم دال على مجرد الذات فقط كلفظ الله فإنه كزيد في الدلالة على مجرد الذات وإن استلزمت أوصافا لكن لا بطريق الوضع فهنا الاسم الحروف والمسمى الذات العلية وهي التي تعبد ويعبر عنها بالمعنى لا الاسم لأنه لفظ واللفظ لا يعبد فحينئذ الحد المسمى والمعنى ما صدقا وإن اختلفا بالاعتبار فمن حيث أنه مدلول اللفظ مسمى ومن حيث أنه مقصود باللفظ معنى. وقسم دال على الذات مع الصفة والمقصود ذكر الصفة فإذا قلت عالم قصدك الصفة لا الذات وإن كان لا بد منها لإشعار اللفظ بها وإن لم تكن مقصودة فهنا الاسم عالم أعني حرفه والمسمى الذات والمعنى الصفة لأنها المقصودة فليس المعبود الاسم ولا المعنى وإنما المعبود المسمى هذا على سبيل التحقيقولما كان من جملة صفات المعاني القائمة بذاته تعالى صفة الكلام وكان تصوره منه خفيا بسبب أن المعروف لنا أنه بآله وصوت وهما مستحيلان في حقه نبه المصنف عليها لكثرة
الكلام فيها حتى سمي هذا الفن بها فقيل علم الكلام فقال كلم الله سبحانه وتعالى نبيه ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام بكلامه القديم الذي هو صفة ذاته لا هو خلق من خلقه وإنما هو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى منافية للسكوت والآفة هو بها آمرناه مخبر إلى غير ذلك يدل عليها بالعبارة والكتابة والإشارة والدال يسمى قرآنا وتوراة وزبورا باعتبار النازل عليهوالمعنى أن مما يجب اعتقاده أن موسى كلمه ربه وسمع كلامه من كل جهة بلا واسطة دل على ذلك اتفاق أرباب الملل والمذاهب قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] وإنما اختلفوا في كيفية وصول الكلام النفسي إلى سمع موسى عليه الصلاة والسلام فقال أهل السنة خلق له فهما في قلبه وسمعا في أذنيه سمع به كلاما ليس بحرف ولا صوت كما نرى ذاته تعالى في الآخرة من غير تكييف ولا انحصار ولله تعالى في قدرته ما يفوق خرق العادةفإن قيل: إذا كان كلامه تعالى صفة ذاتية له أيضا لازمة لذاته لا تفارقها فما بال موسى عليه السلام لم يسمعه قبل التكليم ولا بعده فالجواب أن الله تعالى لما أراد إسماعه كلامه أزال الحجاب المانع من الاستماع فسمع ثم لما سمع كلام ربه تعالى وذاق لذته أعاد الحجابفإن قيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سمع كلام ربه تعالى بكلامه له ليلة الإسراء فلماذا خص موسى بالكليم دون نبينا عليهما الصلاة والسلام فالجواب عن ذلك من وجوه أحسنها طريق الأشعري وحجة الإسلام الغزالي أنه سمع كلام الله الأزلي بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة بلا كم ولا كيف وقيل سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة وقيل أنه سمعه من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا بخلاف سماع نبينا بكلام ربه تعالى فإنه كان على وجه مخالف لذلك والأظهر في الجواب أن يقال إن موسى كان حين سماع كلام ربه في الأرض ونبينا كان في السماء وسماع من في الأرض لمن في السماء لم يعهد لأحد سوى موسى بخلاف سماع من في السماء لكلام ربه فإنه معهود أو لسماع موسى من كل جهة بلا واسطةفإن قيل: إذ ا كان كلام الله عبارة عن المعنى النفسي القائم بذاته المنزه عن الأصوات والحروف والتقدم والتأخر فبأي طريق علم موسى أ المسموع كلام الله فالجواب أن يقال علمه موسى إما بوحي أو بخلق علم ضروري له علم به أن ذلك المسموع كلام ربه وسكت المصنف عن بيان الذي كلم الله موسى به ولم أره سوى هامش ولفظه قال الثعلبي إن الله
تعالى كلم موسى في تلك المرة مائة ألف كلمة وأربعة عشر ألف كلمة وفي كل كلمة يقول لموسى قتلت نفسا بغير حق"تنبيهات" الأول: ما تقدم من أن المسموع هو المعنى النفسي القديم الذي هو صفة ذاته هو مذهب الأشعري خلافا لما ادعاه أبو إسحق الإسفرايني واختاره أبو منصور بالماتريدي من أن المسموع هو صوت دال على الكلام لكن لم كان سماعه من غير واسطة خص باسم الكليمالثاني: سماع موسى كلام ربه جل وعلا لم يكن معه رؤيا من موسى لربه لأن رؤيته تعالى في اليقظة لم تقع بالفعل لأحد في دار الدنيا سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراءالثالث: إنما قاله المصنف الذي هو صفة ذاته للرد على المعتزلة في قولهم إن كلامه تعالى ليس بصفة ذاتية له بل كلامه قائم بغيره وإنما قاله المصنف الذي هو صفة ذاته للرد على المعتزلة في قولهم إن كلامه تعالى ليس بصفة ذاتية له بل كلامه قائم بغيره وإنما قال لاخلق من خلقه وإن فهم من قوله صفة ذاته للرد على طائفة سمت أنفسها بالحنابلة في قولها إن كلامه بأصوات وحروف خلقها وهذا واضح البطلان1 لأن الكلام صفة المتكلم والأصوات والحروف حادثة لاتقوم بالقديم وإنما قال بكلامه مع استفادته من كلام موسى إما توطئة لقوله الذي هو صفة ذاته أو لأن الكلام لما كان يطلق على الإشارة وعلى الكتابة وعلى النطق خصه من هذه الإطلاقات بقوله الذي هو صفة ذاته وأكده بالمصدر في الآية الشريفة للإشارة إلى أن التكليم على جهة الحقيقة لأنه لا يؤكد بالمصدر إلا الحقيقة لا المجازالرابع: علم من تقريرنا لكلام المصنف أن قوله لا خلق الخ مرفوع بالعطف على صفة ذاته فهو صفة لكلامه ونحتمل أن يكون معطوفا على الضمير في كلم العائد على الله أي أن الذي كلم موسى هو الله تعالى لا خلق من خلقه والمتبادر من لفظ المصنف أن الذي سمع الكلام هو موسى وحده وقيل بل سمعه السبعون الذين اختارهم موسى ولا ينافي هذا ما تقدم من
ـــــــ
1 البطلان لغة: الضياع والخسران أو سقوط الحكم يقال: بطل الشيء يبطل بطلا وبطلانا بمعنى: ذهب ضياعا وخسرانا أو سقط حكمه ومن معانيه: الحبوط وهو في الاصطلاح يختلف تبعا للعبادات والمعاملات ففي العبادات: البطلان: عدم اعتبار العبادة حتى كأنها لم تكن كما لو صلى بغير و ضوء والبطلان في المعاملات يختلف فيها تعريف الحنفية عن غيرهم فهو عند الحنفية: أن تقع على وجه غير مشروع بأصله ولا بوصفه وينشأ عن البطلان تخلف الأحكام كلها عن التصرفات وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة لتلك الأحكام التي تترتب عليها فبطلان المعاملة لا يوصل إلى المقصود الدنيوي أصلا لأن آثارها لا تترتب عليها وتعريف البطلان عند الحنفية هو تعريف الفساد بعينه وهو: أن تقع المعاملة على وجه غير مشروع بأصله أو بوصفه أو بهما أنظر الموسوعة الفقهية 8/106, ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 1/388 ومن مصادره: التلويح على التوضيح 1/215, ودستور العلماء 1/251.
اختصاص الكليم بموسى في الأرض لأنه لا يلزم من سماعهم كلامه وشهادتهم بذلك أن الله كلمهم لأن الإنسان قد يسمع كلام من لم يكلمهالخامس: إنما ذكر المصنف هذه المسألة مع الاستغناء عنها لقصد تفسير الآية ولبيان أنها مما يجب اعتقاده ووجه الاستغناء عنها أنه إن أراد بذكرها إثبات صفة الكلام فهي داخلة في قوله له الصفات العلى وإن أراد بذكرها التنبيه على أنها من القرآن فالقرآن سيأتي قريبا"و" لما من الله سبحانه وتعالى على موسى بإسماعه كلامه طمع في رؤية ذاته كما هو شأن المحب فسأله رؤية ذاته بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] تجلى سبحانه وتعالى أي أظهر بعض جلاله للجبل فصار دكا أي نازلا في الأرض حتى قيل إلى الآن خشية من جلاله سبحانه وتعالى ولا استبعاد في خوف الجبل وخشيته لجواز خلق الله له علما وحياة وبصرا لتوقف الخوف عليها وقال من جلاله غشارة إلى أن تجليه تعالى للجبل من غير تشبيه ولا تكليف والمراد بالجبل طور سيناء"تنبيه" دعاء موسى عليه الصلاة والسلام ربه وطلبه منه رؤية ذاته إشارة إلى جوزاها في دار الدنيا وإمكانها لأنها لو كانت ممتنعة ما طلبها موسى عليه الصلاة والسلام لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومين من فعل المنهى عنه والدليل على إمكانها تعليقها على استقرار الجبل وهو أمر ممكن ولكن لم تقع في دار الدنيا يقظة إلا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وأما في الآخرة فيراه المؤمنون قال في الجوهرة عطفا على الجائز العقلي الواجب السمعي بقوله ومنه أن ينظر بالأبصار ولكن بلا كيف ولا انحصار للمؤمنين إذ بجائز علقت هذا وللمختار دنيا ثبتتثم شرع في مسألة ترجمها أصحاب الكلام بمسألة خلق القرآن فقال: "وإن القرآن كلام الله" الذي هو المعنى القائم بذاته لا اللفظ المنزل على محمد ليس بمخلوق خبر إن لأن كلام الله بيان أو بدل من القرآن فيبيد بالدال المهملة وبالنصب بإن المضمرة في جواب النفي بمعنى بهلك "ولا صفة" بالنصب لعطفه على مخلوق لأنه منصوب تقديرا لأنه خبر ليس والباء تزاد في خبرها كثير لمخلوق فينفد بالدال المهملة بمعنى يفرغ وهو منصوب أيضا بإن المضمرة في جواب النفيوإنما غاير بين لفظ يبيد وينفد مع اتحاد معناهما وهو الذهاب للمناسبة لأن الأجسام تفنى أصالة فناسبها لفظ "يبيد" والأعراض يخلف بعضها بعضا فناسبها لفظ ينفد والمعنى أن
كلام الله المعبر عنه بالقرآن صفة ذاته القديمة فلا تنفك عنها كسائر صفات الذات وقصد بذلك الرد على المعتزلة القائلين بخلق الكلام مستدلين على ذلك بأمرين أحدهما أنه علم بالضرورة حتى للصبيان والعوام أن القرآن هو اللفظ المنزل على محمد المنتظم من الحروف المسموعة المفتتح بالتحميد المختوم بالاستعاذة وعليه انعقد إجماع السلف والخلف ولا شك في أن هذا حادث ومخلوقوالأمر الثاني أنه قد اشتهر وصفه بخواص كالبلاغة والفصاحة والتقدم والتأخر وهذا أيضا من عوارض الحوادث وأجاب أهل السنة عما تمسكت المعتزلة بأن كل ما دل على الحدوث يجب حمله على اللفظ الدال على المعنى القائم بالنفس المحكوم عليه بأنه قديم ولذلك قال صاحب الجوهرة ونزه القرآن أي كلامه عن الحدوث واحذر انتقامه وكل نص للحدوث دلا احمل على اللفظ الذي قد دلا وإنما فسر المصنف القرآن بكلام الله خوفا من تبادر الذهن إلى اللفظ لشهرة استعمال لفظ القرآن في اللفظ كما اشتهر لفظ الكلام في المعنىوالحاصل أن النزاع بين أهل السنة والمعتزلة في إثبات الكلام النفسي ونفيه فأهل السنة تثبته والمعتزلة تنفيه دليلنا أنه ثبت بالكتاب وبالاجماع وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه تعالى متكلم ولا معنى له سوى أنه متصف بالكلام ويمتنع قيام اللفظ الحادث بذاته تعالى فيتعين النفسي القديم والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلما ذهبوا إلى أن معنى كونه متكلما أنه موجد للحروف والأصوات في غيره وكلامهم باطل لأن المتكلم من قام به صفة الكلام لا من أوجده في غيره كما أن القائم من قام به القيام ووجد منه لا من أحدثه في غيره"تنبيهات" الأول القرآن وزنه فعلان بمعنى مفعول من قرأت الشيء قرآنا جمعته أو من قرأت الكتاب قراءة وقرآنا تلوته لأنه مجموع ومتلو وحقيقته عند الفقهاء والقراء والأصوليين والعامة اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر صورة منه المتعبد بتلاوته المحتج بأبعاضه فخرج بقيد اللفظ المنزل الأحاديث غير القدسية فالحق أن النازل فيها المعنى دون اللفظ وبقيد على محمد التوراة فإنها أنزلت على موسى والإنجيل فإنه أنزل على عيسى والزبور فإنه أنزل على داودويفيد الإعجاز الذي هو صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه الرسالة مجازا عن إظهار عجز المرسل إليهم عن معارضة الأحاديث الربانية ويقال لها القدسية كحديث: "أنا عند ظن عبدي بي" فإنها
أنزلت للعمل والاحتجاج بمعانيها لا للإعجاز والاقتصار على الإعجاز مع أن القرآن أنزل لغيره مع أنه المحتاج إليه في التعجيز ومعنى كون هذا اللفظ كلام الله مع أنه محدث ومخلوق أن الله تعالى تولى تأليفهالثاني: لم يتكلم المصنف على من رتبه وجمعه ومحصله أن ترتيب السور من جبريل كما ورد وترتيب الآيات من النبي صلى الله عليه وسلم فترتيب سوره وآياته توقيفي والذي جمعه هو زيد بن ثابت وذلك لأنه كان مفرقا في صدور الرجال زمان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظه من الصحابة سوى زيد ابن ثابت وأبي بن كعب وابن مسعود وكتبه الناس في صحف وجريد وخرق وأقتاب وغير ذلك لما حصل القتل في أهل اليمامة قتل من حملة القرآن خلق كثير فأمر أبو بكر وعمر زيد بن ثابت أن يتتبع القرآ ويجمعه فقال زيد والله لو كلفاني بنقل جبل لنقلته وكان أهون علي مما أمراني به فجمع القرآن رضي الله عنه والقراء من الصحابة سبعة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وكلهم أخذوا القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرؤهم أبي بن كعبوالمفسرون للقرآن خمسة علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأعلمهم بالتفسير عبد الله بن عباس والجميع أخذوا التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلمالثالث: كلام الله متحد واختلاف المنزل عليه لأنه نزل على بعض الرسل فالنازل على محمد عليه الصلاة والسلام عبر عنه بلغة العرب ويسمى قرآنا وفرقانا وذكرا والنازل على موسى عبر عنه بالعبرانية لغته فيسمى توراة والنازل على عيسى عبر عنه بلغته ويسمى إنجيلا والنازل على داود وعبر عنه بلغته يسمى زبورا فالحاصل أن المسمى واحد واختلاف الإسم باختلاف العبارة والتفاصيل باعتبار المنزل عليه ويوصف بالخير والأمر والنهي وغير ذلك لأنه وإن كان صفة قائمة بذاته إن تعلقت بطلب فعل المكلف تكون من تلك الجهة أمرا وإن تعلقت بترك فعله تكون نهيا وإن تعلقت بالإعلام تكون خبرا وهكذا فكلامه صفة واحدة لها تعلقانالرابع: اختلف في كيفية وصوله إلى جبريل ومنه له صلى الله عليه وسلم في الأرض فقال ابن العربي إن جبريل عليه السلام فهم الكلام من العلو وأداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض وقيل إن جبريل نقل ذلك من اللوح المحفوظ فنزلى به على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل الملائكة المكرمون تلقنته من رب
العالمين في ليلة واحدة ولقنته لجبريل في عشرين ليلة ولقنه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عشري سنة على قدر الحاجة إليه بما سبق في علم الله وهي النجوم التي أقسم الله بها وهذا كله بناء على أنه نزل بلفظه وأما على أنه نزل بالمعنى فقيل إن جبريل عبر عنه للنبي صلى الله عليه وسلم باللفظ الخاص وقيل ألقى جبريل جبريل المعنى على قلب النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم عبر عنه فتلخص أن النازل فيه خلاف على قولين قيل اللفظ وقيل المعنى وعلى الثاني اختلف في المعبر هل جبريل أو النبي عليهما الصلاة والسلام؟الخامس: قال في شرح المفاصد يمتنع أن يقال القرآن مخلوق مرادا به اللفظ المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام باتفاق السلف وقيده بعضهم بغير مقام البيان والتعليم وهذا بخلاف قولي أو نطقي بالقرآن مخلوق فمذهب البخاري والمتأخرين جوازه وهو الراجحالسادس: هل يقع التفاضل بين سور القرآن أو لا ذهب الأشعري والباقلاني إلى عدم التقاضل بين سور القرآن وبين اياته والأحاديث المصرحة بالتفضيل إن صحت تحمل على زيادة الأجر وكثرة النفعالسابع: قال العلامة القرافي اعلم أن اكثر الناس من علماء الأصول في زماننا يعتقدون أن ألفاظ القرآن محدثة ومدلولها قديم مطلقا وليس كذلك بل الحق أن في ذلك تفصيلا وهو أن مدلول ألفاظ القرآن قسمان مفرد وهو قسمان مفرد وهو قسمان أيضا ما يرجع إلى ذات الباري سبحانه وصفاته كمدلول الله والسميع البصير وهذا قديم وما لم يرجع إلى ذات الباري وصفاته وهو محدث كمدلول فرعون وهامان والسموات والأرض والجبالوإسنادات وهي قسمان أيضا حكايات وإنشاءات فالإسنادات التي هي الإنشاءات كلها قديمة سواء كانت مدلولة للفظ الخبر أو للفظ الأمر أو النهي إذ هي قائمة بذاته وهي نفسها صفة واحدة ترجع إلى الكلام وتعددها إنما هو بحسب تعلقاتها والمدلولات التي هي حكايات قسمان حكاية عن الله وحكاية عن غيره قالأول نحو: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] فالحكاية والمحكى في هذا قديمان أي الإسناد الواقع فيهما قديم والثاني نحو قوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ} الآية والحكاية في هذا قديمة أي الإسناد الواقع فيها قديم لأنها خبر الله عن المحكى وأما المحكى فهو المحدث أي الإسناد الواقع فيه محدث فإنه إسناد محدث وإسناد المحدث محدث بخلاف الإسناد ولأول فإنه وقع من الله تعالى فهو قديم فقد ظهر أن ألفاظ القرآن محدثة ومدلولاتها فيها التفضيل وإنما أطلنا في ذلك لداعي الحاجة إلى ما ذكرنا و مما يجب اعتقاده عليك أيها المكلف "الإيمان" أي التصديق "بالقدر" بتحريك الدال.
وحكى تسكينها وهو مصدر قدرت الشيء بفتح الدال مخففة إذا أحطت بمقداره وأل عوض عن المضاف إليه أي بتقدير الله الأمور وإحاطته بها ووجوب الإيمان به يستدعي الرضا به والقدر عند الماتريدية تحديده تعالى أزلا كل مخلوق بحده الذي يوجد به من حسن وقبح ونفع وضر وما يحويه من زمان ومكان وما يترتب عليه من طاعة وعصيان وثواب وعقاب وغفران وعند الأشاعرة إيجاد الله الأشياء على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها طبق ما سبق به العلم القديم والمآل واحد ولذا قال بعضهم المراد من القدر أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من الدين بقواطع البراهينن وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين قبل حدوث القدرية المخالفين أو بدل من القدر"خيره" وهو ما كان من أنواع الطاعات "وشره" وهو ما كان من أنواع المعاصي "حلوه" وهو لذة الطاعة وثوابها "ومره" وهو مشقة المعصية وعقوبتها"تنبيه" علم مما ذكرنا أن الضمائر عائدة على القدر لتأوله بالمقدور من الخير والشر وكذا ما كان من غير أنواع الخير والشر كالمباحات فإن الجميع بتقدير الله تعالى ولعله إنما اقتصر على الخير والشر لفهم غيرهمات من النص عليهما لأن القصد من تلك العبارة التعميم كما تقول لغيرك أعلم ما أنت عليه من خير او شر وقصدك جميع ما هو عليه والله أعلم"و" يجب عليك أيها المكلف أن تعتقد أن كل ذلك الذي مر من الخير والشر وما يستتبعهما قد قدره أي حده وخصه بزمان ومكان الله ربنا إذ لا موجد ولا معدم لشيء من الكائنات سواه سبحانه وتعالى خلافا للمعتزلة في قولهم إن العبد خالق لأفعال نفسه والقدرية في قولهم إنه خالق للقبيح ودليلنا معاشر أهل السنة لو كان العبد خالقا لأفعاله لكان يعلم تفاصيلها ضرورة إذ إيجاد الشيء بالقدرة والاختيار لا يكون إلا كذلك والازم باطل فإن المشي من موضع إلى موضع قد يشتمل على سكنات متخللة وعلى حركات بعضها أسرع من بعض وبعضها أبطأ ولا شعور للماشي بذلك وليس هذا ذهولا عن العلم بل لو سئل لم نعلم وهذا في أظهر أفعاله فما بالك بغير الظاهر"و" بالجملة فيجب عليك اعتقاد أن "مقادير" جمع مقدار بمعنى مقدورات "الأمور بيده" تعالى أي قدرته "ومصدرها" أي صدورها وإخراجها من العدم إلى الوجود وكونا على الشكل الذي وجدت عليه وفي هذا الزمان والمكان كائن.
"عن قضائه" أي إرادته لأن القضاء والإرادة بمعنى واحد وقال التفتازاني القضاء عبارة عن الفعل مع زيادة إحكام بكسر الهمزة أي إتقان هذا حقيقته عند الماتريدية وقال بعض الأشاعرة القضاء إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيم لا يزال وقصد المصنف رحمه الله بذكر الإيمان بالقدر والذي بعده بيان وجوب اعتقاد عموم إرادة الله وقدرته لسائر الممكنات وإحاطة علمه تعالى بسائر أقسام الحكم العقلي والرد على المعتزلة المعروفين بالقدرية وهم فرقتان أولى وهي تنكر سبق علمه بالأشياء قبل وجودها وتزعم أنه لم يقدر الأمور ولم يتقدم علمه بها أزلا وإنما يعلمها حال وقوعها وهذه الفرقة قرضها اللهوالثانية يعترفون بعلم الله وإنما خالفوا السلف في اعتقادهم أن العمل بقدرة العبد بواسطة إقدار الله له وتمكينه ولا شك في كفر الفرقة الأولى بخلاف الثانية وإن كان اعتقادها باطلا وأشار صاحب الجوهرة لهذه المسألة بقوله وواجب إيماننا بالقدر وبالقضا كما أتى في الخبر لا يقال لو كان الرضا بالقضاء واجبا لوجب الرضا بالكفر واللازم باطل لأن الرضا بالكفر كفر لأنا نقول الكفر مقضى لاقضاء والرضا إنما بجب بالقضاء دون المضي فمن قضى الله عليه بالزنا أو الكفر والعياذ بالله فالواجب عليه أن يلاحظ جهة المعصية فيكرهها وأماقدر الله المتعلق بهما فاللازم له الرضا به فإن سخط أي لم يرض كان ذلك معصية وأشار بقوله كما أتى في الخبر إلى أن دليل ذلك سمعي من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس"قال في شرح مسلم قال القاضي رويناه برفع العجز والكيس عطفا على كل ويجرهما عطفا على شيء قال ويحتمل أن العجز هذا على ظاهره وهو عدم القدرة وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وتأخيره عن وقته قال ويحتمل العجز عن الطاعات ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق في الأمور ومعناه أن العاجز قدر عجزه والكيس قدر كيسهوفي حاشية شيخ الإسلام على ابن الناظم والكيس ضد الحمق وفسره البخاري بالولد وطلب النسل قاله الشنواني في حاشيته على نظم ابن هشام. "تنبيهات" الأول يجب الإيمان بالقدر ولا يحتج به فمن وقع في جريمة عمدا قضى عليه بموجبها شرعا من حد أو تعزير ولا يكون قوله قدر الله على حجة وعذرا له يدفع عنه المؤاخذة بمقتصاها بل هو نازل منزلة الإخبار بما لا يفيد.
الثاني: إن قيل إذا ثبت بالكتاب والسنة عدم جواز الاحتجاج بالقدر فكيف يفعل فيما وقع من محاجة آدم مع موسر عليهما السلام فقد احتج آدم بالقدر ولامه موسى عليهما السلام وقد أشار العارف بالله تعالى الشعراني في القواعد الكشفية لذلك وجوابه بقوله فإن قال قائل قال صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: "حاج آدم بالرفع موسى حين اجتماعهما في السماء فقال موسى: يا آدم أنت أبو البشر الذي خلقك الله بيده وأسجد ملائكته لك كيف أكلت من الشجرة التي نهاك الله عنها وأخرجتنا من الجنة فقال آدم وأنت يا موسى الذي اصطفاك الله لكلامه وكتب لك التوراة بيده أتلومني على أمر قد قدره علي قبل ان يخلقني بأربعين سنة وساغ لآدم أن يعبر بقدر الله القديم بأربعين سنة" فالجواب أن مراد آدم عليه الصلاة والسلام أربعون فأكثر أو أن مراده بالأربعين سنة المدة التي ظهر فيها التقدير في اللوح المحفوظ لا في أم الكتاب الذي هو مكنون علم الله وما وقع منه في جواب موسى لم يكن في دار التكليف لأن من المعلوم أن المحاجة إنما كانت بعد مول آدم وموسى لما تقدم من أن محل اجتماعهما كان بالسماء فلا يجوز ارتكاب مثله في دار التكليفالثالث: الرضا والمحبة لفظان مترادفان وحقيقتهما إرادة الشيء من غير اعتراض على فاعله وهما من الله غير المشيئة والإرادة المترادفين أيضا بدليل أن الله تعالى يريد سائر أنواع المعاصي من كفر وغيره ولا يرضى بها مع توعد فاعلها بالعقوبة هذا هو مذهب أهل السنة ولا يصح غيرهالرابع: الظاهر أن ذكر المصنف لقوله وكل ذلك قد قدره الله ربنا الخ بعد قوله والإيمان بالقدر الخ زيادة إيضاح لفهمه مما قبلهولما كان علمه تعالى متعلقا بسائر أقسام الحكم العقلي تعلقا تنجيزيا قديما قال علم تعالى بمعنى تعلق علمه تعلقا تنجيزيا قديما كل شيء قبل كونه أي وجوده فجرى أي وقع وحصل ذلك المقدور على قدره بفتح الدال أي على حسب ما قدره في سابق علمه وقد تقرر أن تعلق القدرة التنجيزي تابع لتعلق الإرادة التنجيزي وتعلق الإرادة على وفق علمه فلا يقع مقدور غلا على وفق علمه فلذلك أتى بفاء السببية والدليل على عموم علمه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] فمن أنكر علمه تعالى بتفاصيل الأشياء الكليات والجزئيات المركبات والبسائط فهو كافر فالواجب على المكلف اعتقاد أنه لا يكون أي لا يوجد من عباده قول ولا عمل وقع عمدا أو سهوا إلا والحال أنه قد قضاه أي قدره الله تعالى وأراده.
وسبق علمه تعالى به أي بالمذكور من قول أو عمل لما تقدم من أن علمه تعالى محيط بالأشياء قبل وجودها وإنما أتى بهذه الجملة مع علم معناها من قوله قبلها علم كل شيء الخ زيادة في الرد على من ينكر علمه تعالى بتفاصيل الأشياء تعالى الله عن أن يخفى عليه شيء في الأرض أو في السماءوفي قوله: سبق علمه به الرد على القدرية الأولى الذين ينكرون علم البارى ء بأعمال العباد قبل وقوعها منهم وإنما يعلمها بعد وجودها منهم قال القرطبي وهؤلاء قد انقرضوا والفرقة الأخرى الموجودة اليوم مطبقة على أن الله يعلم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في قولهم إن أفعال العباد مخلوقة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مذهب باطل أيضا إلا أنه اخف من الأول لكفر أصحاب الأول"تنبيهات" الأول قد علم مما ذكرنا أن الرضا بالقضاء واجب مطلقا وأما المقضي فالرضا به بحسب حكمه فالرضا بالواجب كالإيمان واجب والرضا بالمندوب مندوب وبالحرام حرام وبالمباح مباح والحاصل أن الرضا بالكفر إنما يكون كفرا إذا رضي به من حيث ذاته لا من حيث أن الله قضاه قاله الغزالي ووضحه السيد بقوله إن للكفر نسبة إلى الله باعتبار إيجاده له ونسبه إلى المخلوق باعتبار تحليته به وإنكاره إنما يجب باعتبار النسبة الثانية دون الأولى والرضا به إنما يجب باعتبار النسبة الأولى دون الثانية فإذا ابتلى الله الإنسان بالمرض فتألم منه بمقتضى طبعه مع كونه لم ينسب للبارى ء جورا فهذا عدم رضا بالمقضي لا بالقضاء وإن قال لم أفعل شيئا حتى أستوجب هذا فهذا عدم رضا بالقضاء فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء ولا نتعرض لجهة ربنا إلا بالإجلال والتعظيم ولا نتعرض لما هو من سلطنته وقهره لآنه خالقنا ومالكنا ففعله المخالف لطبائعنا ومشتهانا لا يعد ظلما لأن الظلم تصرف الفاعل في غير مملوكهوأما خطابنا وأمرنا بأن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوداث فلم ترد الشريعة بذلك إذ الوارد تكليف الإنسان بما في وسعه من الطاعات فلا يجب على نحو الأرمد والمجزم أن يستطيب مرضه بل ذم الله قوما لا يتألمون بذلك بل المطلوب التألم ليطلب من الله رفع ذلك ويلجأ إليه نقدم ذم الله من لم يبال بالشدائد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فمن لم يستكن ويظهر الجزع ويسأل ربه الإقالة من الشدة فهو جبار عنيد هذا محصل كلام السيد ولا يضر في هذا ما وقع من بعض الأكابر في حال اشتداد
مرضه من طلب الزيادة حيث قال اللهم يا رب إن كان في هذا رضاك فزدنا منه لإمكان حمله على نحو الأنبياء والله أعلمالثاني: المقضى أثر القضاء والمقدور أثر القدرة وإنما أطلنا في ذلك لداعي الحاجة إلى بيانه ثم استدل على عموم تعلق علمه بسائر الكائنات بقوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] معنى هذا التركيب أن الله تعالى يعلم سائر المخلوقات وما يصدر منها من قول أو فعل لأن الصانع لشيء يعلم ما أوقع صنعته عليه لأن ألا هذه مركبة من همزة الاستفهام الإنكاري ولا النافية ومعناها تحقيق ما بعدها لأن الاستفهام إذل دخل على نفي أبطله وأفاد الإثبات والتقدير هو المقصود ويستحيل أن يكون الاستفهام على بابه لاستحالته على اللهومن في محل رفع على الفاعلية ليعلم والمفعول محذوف والتقدير: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] أي الذي خلق مخلوقه فيكون المفعول محذوفا للعموم المتناول للعاقل وغيره فيشمل أعمال العباد هذا قول أهل السنة وقالت المعتزلة من في محل نصب على المفعولية ليعلم وفاعله ضمير مستتر فيه عائد على اللهوالتقدير: ألا يعلم الله من خلق ومن للعاقل فالله يعلم عبادة دون أفعالهم وهذا مذهب باطل بشهادة قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] وغير ذلك من الآيات الدالة على إحاطة علمه بجميع الأشياء حتى حقيقة ذاته وصفاتهولا يعارض هذا الإتيان بمن لأنه ليس المراد من كونها لمن يعقل أنها لا تستعمل في غيره مطلقا لئلا يخالف ما نصوا عليه من استعمالها في غيره إما للتغليب نحو {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أو لاقترانه بغير العاقل في عموم فصل بمن نحو: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] أو لأجل التشبيه نحو اسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير وغير ذلك مما هو مبسوط في كتب علم العربيةوحاصل مذهب أهل السنة أن الله تعالى عالم بجميع المخلوقات وبأفعالها بعد خلقها وقبل خلقها خلافا للقدرية الأولى من المعتزلة في قولهم: أن الله لم يسبق علمه بالأشياء قبل وجودها ويزعمون أن الله لم يقدر الأمور أزلا ولم يتقدم علمه بها وإنما يأتنفها حال وقوعها ولا شك في كفر هؤلاء ولذلك قرضهم الله تعالى ولم يبق الآن منهم أحد.
"وهو" أي الله تعالى مع كونه خالقا لسائر العباد وعلما بما أكنته صدورهم من خير أو شر اللطيف بهم في سائر تقلباتهم فلطيف بمعنى ملطف أي محسن وموصل لعباده النعم برفق ومن لطفه أن أعطاهم فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة وقيل بمعنى الباطن وهو الذي لا يتصور في الأوهام ولا يتخيل في الضمائر فهو اسم تنزيه وقيل معنى اللطيف العالم بخفيات الأمور وغوامضها والمراد الخفاء بالنسبة إلينا وأما الله تعالى فنسبة جميع الكائنات إليه سواء وهو أيضا الخبير أي العليم بهم والمطلع على أفعالهم المشاهد لها ثم استدل على من سبق من قوله: لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا قد قضاه الخ بقوله: "يُضِل" سبحانه وتعالى "من يشاء" إضلاله "فيخذله" أي يصيره مخذولا ضالا"بعدله ويهدي من يشاء" هدايته "فيوفقه" أي يصيره موفقا مهديا بفضله لما تقدم من أن الضلال والخذلان بمعنى واحد وهو خلق قدرة المعصية في العبد والهداية والتوفيق بمعنى أيضا وهو خلق القدرة على الطاعة والمراد بالقدرة العرض المقارن للفعل لا مجرد سلامة الآلات فلا يرد الكافر وإنما لم يقل فيضله في الأول ويهديه في الثاني لمجرد التفنن ولركاكة تكرار اللفظ والعدل تصرف المالك في ملكه من غير حجر عليه والفضل إعطاء الشيء من غير انتظار عوض عليه في الحال ولا في المآل ويخذل على وزن ينصر فهو بضم الذالقال تعالى: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] ثم فرع على قوله يضل الخ قوله فكل ميسر بالتنوين مبتدأ وخبر والتنوين عوض عن المضاف إليه لأن التقدير فكل شيء من الهداية والإضلال والتوفيق والخذلان مهون ومسهل بتيسيره وتسهيله سبحانه وتعالى ويصح إضافة كل المبتدأ إلى ميسر والخبر بتيسيره "إلى" نيل "ما سبق من علمه" أي في علمه وإرادته ثم بين عموم ما يقوله "من" شقاوة "شقي أو" سعادة "سعيد" وحقيقة الشقاوة المضرة اللاحقة في العقبى فمن أراد له في الأزل الشقاوة سهل عليه عمل أهلها وحقيقة السعادة المنفعة اللاحقة في العقبى فمن أراد له تعالى في سابق علمه السعادة تسهل عليه عمل أهلها وكل ما سبق في علمه وتعلقت به إرادته لا محالة في وقوعه إذ لا تغيير ولا تبديل فيما تعلق علمه بوقوعه بخلاف ما في اللوح المحفوظ فإنه قد يتغير قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وهو أصله الذي لا تغيير فيه ولا تبديل والسعيد شرعا عند الأشاعرة من يموت على الإيمان وإن كان كافرا والشقي من يموت على الكفر ولو كان مؤمنا فهما أزليتان أي مقدرتان في الأزل.
قال صاحب الجوهرة: فوز السعيد عنده في الأزل كذا الشقي ثم لم ينتقل فالسعادة الموت على الإيمان والشقاوة الموت على الكفر ويترتب على السعادة الخلود في الجنة وتوابعه وعلى الشقاوة الخلود في النار وتوابعه ولهذا يصح أن يقول الشخص أنا مؤمن إن شاء الله نظرا إلى المآل خلافا للماتريدية في عدم الجواز نظرا إلى الحال ولذلك يقولون السعيد المؤمن والشقي الكافر ومن تأمل وجد الخلاف بين الفريقين لفظيا"تنبيه" إنما أتى المصنف بهذا التفريع إشارة إلى حديث البخاري ولفظه: "ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار" قالوا" أفلا نتكل؟ قال: "لا اعملوا فكل ميسر" {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5- 7] وفرغ بالبناء للمفعول أي حكم عليه بأنه من أهل الجنة أو النار وقضى عليه بذلك في الأزل أفلا نتكل عليه أي نعتمد عليه ونهمل العلم إذ المقدر كائن سواء علمنا أو لا فقال لا بل عليكم بالأعمال فإن الذي قدر عليه بأنه من أهل الجنة يسهل الله عليه عمل الصالحين ومن قدر عليه بأنه من أهل النار يسر عليه عمل الضالينثم استدل على الكلية السابقة المفهوم منها أن جميع الكائنات بتيسير الله وإراداته سواء كانت خيرا او شرا بقوله تعالى أي تنزه وتقدس سبحانه عن أن يكون أي يوجد في ملكه ما لا يريد إيجاده من خير أو شر أو أي وتعالى أيضا عن أن يكون لأحد من الخلق ولو أفضلهم عنه غنى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] وعدم استغناء غيرهم غير متوهم"فائدة" وقع الكلام بين العلماء في الأفضل من الغنى والفقر والكفاف والذي قاله ابن رشد لا خلاف أن الغنى افضل من الفقر لمن يصلحه الغنى وأن الفقر أفضل لمن يصلحه الفقر وقد وقد الخلاف فيمن يصلح حاله مع كل منهما والأصح قول من فضل الغنى قاله ابن رشد في فتاويه وذكر ابن رشد أيضا في البيان أن الفقر افضل من الكفاف ووجه ذلك بأن من عنده الكفاف إنما يؤجر من وجه وهو شكر نعمة الله على ما أعطاه من المال والفقير من وجهين الصبر على الفقر مع الرضا به والشكر وقال بعض الشيوخ يفضل الغنى الشاكر على الفقير الصابر أخذا من حديث ذهب أهل الدثور بالأجور وبعض قال بالعكس والذي عليه الحافظ ابن حجر الأول والمراد بالغني الشاكر الذي يكتسب المال من الحلال ويصرفه في مصالحه ولا يحبس منه إلا ما احتاج إليه لنفسه أو لمن يحتاج له لا من يجمع المال ويمسكه.
والفقير الصابر القائم بوظيفة الفقر من الرضا بحالته وعدم شكواه ومعنى فضل الغنى كثرة الثواب الحاصلة به هذا ملخص ما ذكره العلامة الأجهوري مع بعض تصرف"أو" أي وتعالى سبحانه عن أن يكون أي يوجد "خالق لشيء إلا هو "بدل من خالق لأن المقصود نفي الخلق عن غير الله بقوله تعالى خالق كل شيء من الحوادث فلا يرد ذاته وصفاته وأسماؤه لعدم تصور سبق العدم لها بل لا يتصورها العقل إلا قديمة لم تسبق بعدم حتى يتوهم دخولها في عموم شيء فهو سبحانه وتعالى "رب العباد ورب أعمالهم" أي الخالق للعباد ولأعمالهمقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] "تنبيهان" الأول استفيد من قوله أولا تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد عموم تعلق إرادته بكل ممكن من خير أو شر خلافا لمن قال إنه لا يريد الشرور وأنها تقع على خلاف مراده وهو اعتقاد باطل لأن كبير القرية لا يرضى أن يقع في قريته ما ليس على مراده فكفر الكفار بإرادته وإن كان يعاقبهم عليه ولا يعد ذلك ظلما منه لأن الظلم التصرف في ملك الغير وهو مالك سائر الموجودات لا يسأل عما يفعل وهم يسألونوإلى هذا قال صاحب الجوهرة وجائز عليه خلق الشر والخير كالإسلام وجهل الكفر والحاصل أن الشر ويعبر عنه بالقبيح وهو كل ما يذم فاعله عاجلا ويترتب عليه العقوبة آجلا مخلوق بإرادته تعالى ولكن لم يأمر به تعالى ولا يرضاه والخير يعبر عنه بالحسن وهو كل ما يمدح فاعله في العاجل ويترتب على فعله الثواب في الآجل مخلوق بإرادته وأمره مع رضاه تعالى به ولا يقال إذا كانت الشرور وجميع المؤذيات مخلوق بإرادته لا يمتنع قول القائل الله خالق للقردة والخنازير وسائر القبائح في غير مقام البيان لأنا نقول إنما امتنع لما فيه من إساءة الأدب ويروى أن رجلا قال لابن عباس أنت الذي تزعم أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يعصى فقال نعم فقال الرجل ما أراد الله أن يعصىفقال ابن عباس: ويحك فما أراد الله فقال أراد أن يطاع ولا نعصى فقال ابن عباس ويحك فمن حال بين الله وبين ما أراد ونظير ذلك ما وقع للأستاذ ابن إسحق الاسفرايني من عظماء الأشاعرة مع عبد الجبار المعتزلي حين قول عبد الجبار سبحانه من تنزه عن الفحشاء وفهم منه الأستاذ أنه إن أراد المعنى تنزه الله عن خلقها فقال الأستاذ سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء فالتفت إليه عبد الجبار وعرف أنه فهم فقال أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال
الأستاذ أفيعصى ربنا قهرا فقال له عبد الجبار أرأيت إن منعنى الهدى وقضى علي بالردى أحسن لي أم أساء؟ فقال الأستاذ: إن منعك ما هو لك فقد أساء وإن منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء فانصرف الحاضرون وهم يقولون والله ليس عن هذا جواب الثاني إنما أتى بقوله أو يكون خالق لشيء إلا هو وإن علم مما قبله للرد صريحا على من يعتقد أن العبد يخلق أفعال نفسه إما بغير واسطة الأقدار وهو مذهب باطل إذ العبد كاسب والخالق هو الله تعالى"و" كما يجب اعتقاد أنه تعالى لا يقع في ملكه خير أو شر إلا بإرادته وأنه لا غنى لأحد عنه لأنه رب العباد ورب أعمالهم يجب اعتقاد أنه تعالى "المقدر" بكسر الدال بمعنى المحدد والمعين "لحركاتهم" وسكناتهم وإنما اقتصر على الحركة لأنها أظهر في الوجود وحقيقة الحركة الانتقال من حيز إلى حيز وقيل الحركة حصول الجوهر في مكانين بخلاف السكون فإنه حصول ذلك في مكان واحد"و" المقدر ل "آجالهم" جمع أجل وهو زمن الحيوان ووقته الذي كتب الله في الأزل موته بانقضائه سواء مات بقتل أو مات على فراشه وكل من مات إنما مات بانقضاء أجله خلافا للمعتزلة في قولهم إن القاتل قطع على المقتول أجله وأنه لو لم يقتل لعاشقال في الجوهرة: وميت بعمره لم يقتل وغير هذا باطل لا يقبل دليلنا قوله تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] وقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]
ومعنى لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون أنهم لا يستطيعون تغييره وتكون جملة ولا يستقدمون معطوفة على جملة لا يستأخرون فمجموع الجملتين هو جواب الشرط على حد الرمان حلو حامض فإن مجموع حلو حامض هو الخبر لأن المراد مز أي أخذ طرفا من الحلاوة وطرفا من الحموضة وكذلك هنا إذا جاء الأجل لا يستطيعون تغييره واحتج المعتزلة على قبول العمر الزيادة والنقصان بما ورد قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة والصلة يعمران الديار ويزيدان في العمر"وبظاهر قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] وبوجوب الدية أو القصاص واستحقاق الفاعل الذم والعقاب في الجناية واجيب عن ذلك بما قاله النووي إن هذه الزيادة محمولة على البركة أو على حقيقتها لكن بالنظر إلى ما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ فإنه قد يكون مكتوبا فيه العمر فلان عشرون سنة ويكون في علم الله ستين
سنة بسبب صلة الرحم أو صدقة وعلى هذا الجواب يتجه جواز الدعاء بطول العمر لأن مراد الداعي طلب أن يكون هذا المدعو له بمن قدر الله له زيادة على عمر أمثاله بسبب صدقة أو صلة رحم وأجيب عن وجوه العقاب أو الدية أو القصاص بأنه بسبب ارتكابه المنهي عنه بكسبه الذي يخلق الله عقبه الموت بطريق العادة وإن كان العبد لا تأثيرله لأن الأفعال تنسب إليه كسبا وإلى الله خلقا وإيجادا والحدود والديات مترتبة على المكلف بحسب ما يصدر منه من الميل وصورة الفعل الواقعة منه التي تسمى كسبا والأحكام مترتبة عليها. وإن كان الخالق لأفعال العباد هو البارئ سبحانه وتعالى وحاصل الجواب أن الأحكام حنوطة بالأفعال وإن لم يكن لأصحابها تأثير فسبحان من لا يسأل عما يفعل وأما حديث "أن المقتول يتعلق بقاتله يوم القيامة فيقول: ربي قتلني فلان وظلمني وقطع أجلي" 1 فرواه الطبراني وتكلم فيه وعلى فرض صحته فيحتمل على مقتول سبق في علم الله أنه لولم يقتل لكان يعطى أجلا زائدا هذا هو الاعتقاد الصحيح المعتمد وحاصل معنى كلام المصنف أنه يجب على المكلف اعتقاد أن الله أوجد سائر الكائنات بقدرته وتخصيص إرادته على حسب ما سبق في علمه ولا خالق سواه فهو الغني المطلق وجميع الموجودات مفتقرة إليهولما فرغ من الكلام على ما يجب اعتقاده في حقه تعالى وما يستحيل عليه شرع فيما يجوز عليه عقلا وإن كان واجبا شرعا وهو إرسال رسل البشر إلى خلقه فقال الباعث الرسل إليهم أي إلى العباد والمعنى أنه يجب على كل مكلف اعتقاد أن الله تفضل بإرسال رسل البشر من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام إلى خلقه ليبلغوهم عنه نهيه وأمره ووعده ووعيده ويبينوا لهم ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا مما جاؤوا به من شرائعهم التي أنزلها الله تعالى في كتبه عليهم وإنما بعث تعالى رسله إليهم "لإقامة الحجة عليهم" أي المكلفين لأنه تعالى لو لم يرسل لهم لقالوا هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وقد تفضل سبحانه وتعالى على عباده أنه لا يؤخذ إلا من بلغته الدعوة حيث قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] والذي تقام عليه الحجة العاقل البالغ الذي بلغته دعوة نبيفالصبي والمجنون ومن لم تبلغه دعوة نبي غير مؤاخذ فلا تقام عليه حجة بحلاف من بلغته دعوة تقام عليه الحجة لأن كلام الرسول محض صدق لتأييده بالمعجزة النازلة منزلة قول الله:
ـــــــ
1 لم أقف عليه.
صدق عبدي في كل ما يبلغ عني وأعظم معجزات نبينا القرآن واختلف في أهل الفترة هل في المشيئة أو في النار أو معذورون أقوال"تنبيهات" الأول: علم من قوله فيما تقدم وأعذر إليه على ألسنة المرسلين ومن قوله هنا الباعث الرسل على ما بينا من أن الإرسال من الجائزات العقلية والواجبات السمعية الرد على من أوجبه كالمعتزلة وعلى من أحاله كالسمنية وعلى من عده عبثا كالبراهمة والذي ذكره المصنف طريق الأشاعرة وفيه رد أيضا على من قصر الرسالة على آدم فقط أو على آدم وإبراهيم وعلى من قصرها على موسى وعيسى كاليهود والنصارى. الثاني: ذكر الرسل بصيغة جمع الكثرة للاتفاق على كثرتهم وإنما اختلف في عدتهم فقيل ثلاثمائة وثلاثة أو أربعة عشر والأولى أن لا يقتصر فيهم كالأنبياء على عدد لآية: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] والحديث المشتمل على بيان عدة الأنبياء متكلم فيه كما أن الأولى عدم الاقتصار على حد في عدد الكتب المنزلةالثالث: كما يجب على المكلف معرفة ما يجب لله وما يجوز وما يستحيل يجب عليه كذلك معرفة الواجب تجب للأنبياء والجائز المستحيل وإن لم يكونوا رسلا فالواجب في حقهم الصدق والأمانة والتبليغ كما أمروا بتبليغه ويستحيل في حقهم أضدادها ويجوز في حقهم كالأكل والنكاح وسائر الأعراض البشرية التي لا تنقص من مراتبهم العليةالرابع: سائر الأنبياء وإن لم يكونوا رسلا معصومون من جميع الذنوب لا يصدر عنهم ذنب ولو صغيرة لا عمدا ولا سهوا لكرامتهم على الله قاله ابن السبكي وتبعه الجلال المحليوجوز الأكثرون وقوع الصغيرة منهم سهوا ولكن ينبهون عليها إلا الدالة على الخسة كتطفيف حبة فلا تصدر عنهم ومن قال بعدم صدور الذنب عنهم مطلقا يحمل ما ورد عنهم مما يقتضي الصدور عنهم على صدوره على جهة التأويل قال بعض وهذه الطريقة يجب اعتقادها وطرح ما عداهوفي شرح الجوهرة للعلامة اللقني يمتنع عليهم النسيان في البلاغيات قبل تبليغها قولية أو فعلية وأما بعد التبليغ فيجوز لأن الغير حفظها وضبطها ويبلغها وأما السهو فيمتنع عليهم عليهم الصلاة والسلام في الأخبار مطلقا بلاغية كانت كالأمر والنهي أولا وفي الأقوال الدينية الإنشائية ويجوز عليهم في الأفعال البلاغية وغيره خلافا لقوم والسهو في السلام وهو قول
بلاغي في فعله وإيقاعه في غير محله لا في لفظه والفرق بين السهو والنسيان أن السهو زوال الصورة من القوة المدركة من القوة الحافظة والنسيان زواله منهما فيكون النسيان أخصوقيل: النسيان يكون فيما تقدم له ذكر والسهو أعم فقد اتضح لك جواز السهو على الأنبياء في الأفعال البلاغية كما وقع القيام من اثنتين وترك الجلوس وقام أيضا لخامسة وسلم من اثنتين بخلاف السهو في الأخبار مطلقاالخامس: كما تجب للأنبياء العصمة تجب للملائكة أيضا فلا يجوز عليهم الذنب في حالة من الحالات لقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] قال في أعراضهم شيئا ولو بالتعريض فقد كفر كالأنبياءووقع الخلاف في هاروت وماروت فقيل ملكان أنزل الله عليهما السحر ابتلاء للناس فمن تعلمه وعمل به فقد كفر ومن تجنبه أو تعلمه ليتوقاه ولا يضر به أحدا فهو مؤمن وهما كانا يعظان الناس ويقولان إنما نحن فتنة وابتلاء فلا تكفر أي لا تعتقد ولا تعمل فإن 1 ذلك كفر وما قيل من أنهما يعذبان ببابل لارتكابهما السحر فهو خلاف الصواب بل الحق حرمة اعتقاد ارتكابهما العمل بالسحر أو اعتقاد تأثيره وتعذيبهما إنما هو على وجه المعاتبة كما تعاتب الأنبياء على السهو والزلة من غير ارتكاب منهما لكبيرة فضلا عن كفر واعتقاد سحر أو عمل بهوقيل: هما رجلان علجان من أهل بابل وقيل رجلان من بني إسرائيل ومحصل قصة هاروت وماروت على ما قاله السيوطي أنهما ملكان من جملة الملائكة ركب الله فيهما الشهوة اختيارا لهما وأمرهما أن يحكما في الأرض فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مرة ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر بابل منكسين وابتليا بالنطق بتعليم السحر فصار يقصدهما من طلب ذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك ولا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وإذا ثبت الخلاف في ملكيتهما فلا يقتل من سبهما ولو مع اعتقاد ملكيتهما كما يدل عليه قول شراح العلامة خليل فيمن يشدد في أدبه من غير قتل أو سب من لم يجمع على نبوته أو من لم يجمع ملكيته فإن ظاهره ولو مع اعتقاد نبوته أو ملكيتهولما أخبر بكثرة الرسل شرع في بيان بعض ما خص به المصطفى دون غيره من الرسل بقوله "ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بنبيه محمد" بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن
كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان هذا هو نسب المصطفى المجمع عليه حتى كان إذا بلغه صلى الله عليه وسلم يمسك ويقول كذب النسابون وتلك المسألة كما قال ابن عمر من مسائل الاعتقاد فيجب على كل مكلف اعتقاد أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء فمن كذب بذلك أو شك فيه فهو كافر والختم الطبع وختام الشيء آخره ومنه قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] أي آخرهقال الجوهري: لأن آخر ما يجدونه رائحة المسك ولما كانت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام مانعة من ابتداء نبوة ورسالة بعده شبهت بالختم المانع من ظهور ما ختم عليه والمراد بالختم هنا التمام أي تمم الرسالة قال صلى الله عليه وسلم: "أنا العاقب لا نبي بعدي"واختلف فيمن لم يكن عنده علم بذلك وهو الجاهل ويظهر عدم كفره وبقولنا من ابتداء نبوة ورسالة اندفع إيراده نبوة ورسالة عيسى عليه الصلاة والسلام لتقدمهما لأن عيسى عليه السلام لم يعزل عنهما لكن لا يتعبد بعد نزوله بشريعته لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة المحمدية أصلا وفرعا فلا يكون إليه وحي ولا نصب أحكام بل ينزل خلفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحاكما من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته كما في بعض الآنار أو ينظر في الكتاب والسنة فإنه لا يقصر عن رتبة الاجتهاد1 المؤدي إلى استنباط الأحكام التي يحتاج إليها أيام مكثه في الأرض فكسره للصليب وعدم قبوله الجزية من شريعتنا لا نسخ لها لن غاية مشروعية جواز أخذ الجزية نزول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام والرسالة فعالة من أرسل وهي اختصاص النبي بخطاب التبليغ والنذارة بكسر النون وبالذال المعجمة التخويف من عقاب الله تعالى والنبوة من النبأ وهو الخبر أو من النبوة وهي الرفعة والعلو. وشرعا إيحاء الله تعالى لإنسان عاقل حر ذكر بحكم شرعي تكليفي سواء أمره بتبليغه أم لا فهي أعم من الرسالة ومن قال إن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد خرج عن طريق
ـــــــ
1 الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع والطاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل على نهايته ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللغوي. أما الأصوليون فمن أدق ماعرفوه به أنه بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني فلا اجتهاد فيما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات وكونها خمسا ومن هذا يعلم أن معرفة الحكم الشرعي من دليله القطعي لا تسمى اجتهادا أنظر الموسوعة الفقهية 1/316, ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 1/64 ومن مصادره: لب الأصول ص 147, والحدود الأنيقة ص 82.
الصواب لأن الملائكة كلمت نحو مريم وأم موسى والأنثى لم تكن نبية على الصحيح وقدم الرسالة على النبوة لما أن الرسالة أفضل من النبوة على الصحيح وزعم ابن عبد السلام عكس ذلك وقدم النذارة على النبوة لأنها من لوازم الرسالة"تنبيهات" الأول: إنما اقتصر على النذارة ولم يقل والبشارة كما جمع الله بينهما في القرآن حيث قال: {شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] قال الحطاب لوجهين أحدهما أن النذارة تستلزم المباشرة لأن من أنذرك بالعقوبة على فعل شيء فقد بشرك بالسلامة من ذلك مع الترك لذلك الشيء ثانيهما أنه مراعاة لقوله صلى الله عليه وسلم "ذهبت النبوة ولم يبق بعدي منها إلا البشارة" وفي رواية: "إلا المبشرات" قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: "الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له"الثاني: لم يقتصر على ختم الرسالة لأنها أخص ولا يلزم من ختم الأخص ختم الأعم بخلاف العكس وما قيل خلاف ذلك ففيه نظرالثالث: قد ذكرنا فيما سبق فضل الرسالة على النبوة لأن الرسالة هداية الأمة فنفعها متعد والنبوة قاصرة على النبي فهما كالعلم والعبادة خلافا لابن عبد السلام هذا عند اتحاد محلهما وأما رسالة رسول مع نبوة آخر فلا خلاف في أفضلية الرسالة على النبوة وحدها ضرورة جمع الرسالة لها مع زيادةالرابع: وقع التردد من العلماء في نبوة النبي مع ولايته فمنهم من فضل نبوته على ولايته ومنهم من عكس بخلاف ولاية ولي ونبوة أخر فلا شك في أفضلية النبوة لما تقرر من فضل الأنبياء على الأولياء قال صاحب الإسعادلا يصل أحد من الأولياء درجة أحد من الأنبياء بل أعلى درجات أعظم الأولياء دون درجات سائر الأنبياء قاله الأجهوري ثم فسر ختم الرسالة بقوله "فجعله" أي صير الله نبيه محمدا "آخر المرسلين" حال كونه "بشيرا" أي مخبرا للطائعين بالخير"و" حال كونه "نذيرا" أي مخوفا للعاصين بالعذاب والبشارة عند الإطلاق تنصرف للخير وإن قيدت جاز استعمالها في الشر قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وهذا الاستعمال على جهة المجاز والعلاقة بين البشارة والنذارة مطلق التغير والتأثر لأن المبشر يحمر وجهه والمنذر يصفر وجهه.
"تنبيهان" الأول: في كلامه هنا حذف دل عليه قوله قب والنبوة تقديره وجعله أيضا آخر النبيين ومثل هذا يسمى من باب الاكتفاء وهو الاستغناء بأحد الأمرين عن الآخر نحو {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} فإن التقدير أو شر ونحو {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي والبردالثاني: جعله صلى الله عليه وسلم آخر النبيين والمرسلين من جملة الكرامات التي خصه ربه تعالى بها ومنها أن أمته عليه الصلاة والسلام أفضل الأمم أي أكثرها ثوابا ومفاخر ومناقب ومنها أن أمته آخر الأمم حتى لا يطول مكثها تحت الأرض ومنها كونه شهيدا على الخلق ومنها تكليمه بغير واسطة ومنها عروجه به حتى سمع صريف الأقلام في اللوح المحفوظ ومنها انزواء الأرض له حتى اطلع على مشارقها ومغاربها ومنها إعطاؤه كنزي الذهب والفضة ومنها نصرته بالرعب مسيرة شهر ومنها جعل الأرض له مسجدا طهورا ومنها إحلال الغنائم له ومنها كونه أول شافع ومنها أنه أول من تنشق عنه الأرض وأول من يدخل الجنة ومنها غير ذلك"و" منها أن جعله دون غيره "داعيا" جميع المكلفين من الثقلين "إلى" فعل ما يقرب إلى "الله" من الإيمان وغيره مما يجب على المكلفين بخلاف غيره من الرسل إنما كان يرسل إلى قومه ولم يرسل أحد منهم إلى الجن فضلا عن الملائكة فإنه أرسل إليهم على الصحيح بل قيل إلى الجمادات فبعثه عامة صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن تبليغه الشرائع للمكلفين ودعوتهم إليها "بإذنه" أي بأمره سبحانه وتعالى قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]"و" من الكرامات أيضا أن جعله عليه الصلاة والسلام "سراجا منيرا" يستضاء به من ظلمه الجهل كالاستضاءة بالسراج من ظلمة الليل ويقتبس من نوره نور البصائر كاقتباس نور البصر من نور السراج وعلى هذا فالسراج هو النبي فيكون من قبيل الاستعارة ة التضريحية ومنيرا قرينتها ويحتمل أن يكون من قبيل التشبيه البليغ أي مثل سراج في وضوح الطريق بكل منهما فإن قيل كيف شبه عليه الصلاة والسلام بالسراج مع أن الشمس والقمر أعظم فالجواب أن نور الشمس والقمر لا يتوصل إلى الأخذ منهما إلا بتكلف بخلاف نور السراج وما قيل من أن المراد بالسراج القرآن والمعنى ذا سراج فخلاف الظاهر كدعوى أن كلام المصنف ليس فيه بشبيه وإن النور والسراج اسمان له عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] قيل هو محمد لأن الكلام في ذكر أوصافه عليه الصلاة والسلام لا
في ذكر أسمائه"خاتمة" قال العلامة ابن ناجي الأمور المنتفع بها في الدنيا على ثلاثة أقسام قسم يزيد عند الانتفاع به ولا ينقص وهو العلم تعليما وعملا وقسم يذهب بالانتفاع به وهو المال وقسم لا يزيد ولا ينقص وهو السراج"و" مما أكرم الله به نبينا عليه السلاة والسلام ويجب اعتقاده أنه تعالى أنزل عليه صلى الله عليه وسلم كتابه الحكيم والمراد القرآن وهو اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته المحتج بأبعاضه هذا معناه عند الفقهاء والصوليين وقد سبق الكلام على محترزات بلك القيود وإنزاله من السماء محدث قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] والذكر المراد به القرآن وصفة إنزاله أن الله تعالى خلق صوتا فأسمعه لجبريل بذلك الصوت والحروف فحفظه جبريل ووعاه ونقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالإنزال إنزال الوحي والرسالة لا إنزال الشخص والصورة فلما تلاه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حفظه ووعاه وتلاه على أصحابه فحفظوه وتلوه على التابعين وتلاه التابعون على من تعدهم وهكذا حتى وصل لنا فالحاصل أن الكتاب بهذا المعنى يوصف بأنه عربي ومرتب وفصيح ومقروء بالألسنة وغير ذلك مما هو من أوصاف الحادثوما يقال من أن كلام الله ليس قائما بلسان ولا حالافي مصحف فالمراد به المعنى القائم بذاته تعالى والحكيم نعت للكتاب معناه المحكم الآيات فلا يقع في آياته نسخ وقيل معنى الحكيم المحكم الجامع لعلوم الأولين والآخرين أو الذي لم يقع فيه اختلاف لقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]"تنبيهان" الأول: قال ابن رشد أنزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم صار ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الوقائع فكان أمد نزوله عشرين سنة بقدر زمن نبوته وصحح وقيل في ثلاث وعشرين سنة مدة الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة وبالمدينة عشر سنينالثاني: ترتيب الآيات توقيفي اتفاقا واما ترتيب السور فقيل توقيفي وقيل باجتهاد الصحابة وبه قال مالك وبه جزم ابن فارس وأما أسماء السور فالذي جزم به السيوطي أنه توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم كما تدل عليه الأحاديث والآثار "وشرح" أي فهم وبين الله سبحانه وتعالى "به" أي بالكتاب أو بالنبي لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وقال في شأن الكتاب تبيانا لكل شيء ومفعول شرح "دينه" أي دين الله والمراد دين الإسلام
قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران: 19] ووصف الدين بقوله القويم أي المستقيم الذي لا اعوجاج فيه وهدى أي أظهر به أي بالكتاب أو بالنبي عليه الصلاة والسلام الصراط المستقيم أي الطريق القيم الموصل إلى الإسلام وسائر أنواع الخير والمستقيم الذي لا اعوجاج فيه"تنبيهان" الأول: قال القاضي أبو بكر بن الطيب الصراط على قسمين حسي ومعنوي فالمعنوي في الدنيا والحسي جسر ممدود على ظهر جهنم يوم القيامة فمن مشى على المعنوي هنا وفق للمشي على الحسي هنالكالثاني: في الصراط ثلاث لغات بالسين والصاد والمضارعة بين الصاد والزاي وغلط من قال بالزاي والسراط يرادفه الطريق والسبيل معناه في الأصل الطريق الواسع مأخوذ من سرطت الشيء بكسر الراء ابتلعته كأنه يبتلع المارة ويجمع على سرط ككتب ويذكر ويؤنث كالطريق والمراد به هنا طريق الخير كما بيناولما قدم أن من واجب أمور الديانة الإيمان بالقلب أن الله إله واحد الخ عطف عليه قوله "وأن الساعة" أي القيامة ويسمى يومها اليوم الآخر وهو كما قال القاضي عياض من وقت الحشر إلى ما لا يتناهى أو إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار سمي بذلك لأنه آخر الأوقات المحدودة وقيل سمي بذلك لأنه لا ليل بعده وقيل لأنه زمن انقراض الدنيا وآخر أيامها ويسمى أيضا بيوم الحسرة ويوم الندامة ويوم الحاقة ويوم المحاسبة ويوم المناقشة هوم الزلزلة ويوم المنافسة ويوم التلاقي ونوم الدمدمة أي إطباق العذاب ويوم الصاعقة ويوم الواقعة ويوم القصاص ويوم القارعة ويوم الرادفة ويوم الراجفة ويوم المآب ويوم الحسابقال القرطبي: القيامة لما عظمت أحوالها وجلت أهوالها سماها الله بأسماء كثيرة مختلفة المعاني بحسب اختلاف أهوالها "آتية" أي جائية قطعا ووصفها بالإتيان على صيغة المجاز لأنه حقيقة في الأجرام فالمراد بإتيانها انقراض الدنيا وهذا أمر لا بد منه ولذلك قال: "لا ريب فيها" أي لا شك ولا تردد في إتيانها وإن عمي علينا وقت إتيانهافإن قيل: الريب وقع في إتيانها فما معنى إخبار الله تعالى بذلك فالجواب من أوجه ثلاثة أحدها أن هذا خبر معناه النهي أي لا تشكوا في إتيانها.
وثانيها: أنه قد نزل ارتياب المرتابين فيها بمنزلة عدمه لأن ما وقع على وجه باطل ينزل عند علماء البيان منزلة عدمه كما ذكره في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]وثالثها: أن الأخبار بالنسبة لما في علم الله فالمراد لا ريب فيها في علم الله وملائكته وكتبه ورسله لقيام الأدلة على إتيانها ومعنى كلام المصنف أن انقراض الدنيا وحصول الفظائع في يوم القيامة التي تذيب الأكباد وتوجب ذهول المراضع عن الأولاد حققال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 1- 2] الآية {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان: 10] أي شديدا {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبا} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34- 37]وفي الحديث: "خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت: يا جبريل ألم يغفر لي ربي ما تقدم من ذنبي وما تأخر فقال لي: يا محمد لتشاهدن من أهوال ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة" أخرجه ابن الجوزيقال السعد: والحق اختلافه باختلاف أحوال الناس فيشدد على الكافرين حتى يجدوا من طوله الغاية ويتوسط على فسقة المؤمنين ويخف على الصالحين حتى يكون كصلاة ركعتين ثم قال السعد: وهل يظهر أثر هذه الهوال في الأنبياء والصالحين فيه تردد والظاهر السلامةقال تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] وقال: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] ونقل القاضي عياض والنووي عن المحاسبي وارتضاه أن خوف الأنبياء خوف إعظام إوجلال وإن كانوا آمنين من العذاب وبه يحصل الجمع بين الآيات والأحاديث المتعارضة الظواهر فعليه شد يدك"تنبيهات" الأول: الساعة اسم لحصة من الزمان أقلها طرفة عين فهي نكرة تقبل التعريف والتنكير إلا هذه فلا يجوز حذف أل منها فإن الألف واللام قد لزمتها على وجه التغليب كالثريا ونحوها والمراد بها هنا يوم القيامةقال الفكهاني: والساعة القيامة وهي آخر ساعات الدنياة وزمن انقراضها سميت بالساعة مع طول زمنها بالنسبة لكمال قدرته كساعة واحدة فلا ينافي أنها طويلة على غير الأخيار وأول يوم القيامة من النفخة الثاينة إلى استقرار الخلق في الدارين الجنة والنار والنفخة الأولى هي نفخة
الصعق أي الموت المشار إليها بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} [الزمر: 68] أي مات {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] من الحور والولدان وغيرهما من المستثنيات وهي المرادة بقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ} [المزمل: 14]وقوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 7] هي النفخة الثانية وتسمى نفخة الإحياء والبعث وقيام الخلق للحساب وهي المرادة بقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] والضمير في إذا هم لجميع الخلائق واختلف في قدر ما بين النفختين والصحيح أنه أربعون سنة وبعد قيامهم ينظرون ما يفعل بهم عند القيام بين يدي خالقهم وعرضهم عليه وحسابهم وقيل النفخات ثلاث الأولى نفخة الفزع أي في الدنيا لا الفزع الأكبر وهي المشار إليها في النمل بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] وفي ص: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] وهو ما بين الحلبتين وترتج الأرض بأهلها كالسفينة وتهرب الشياطين إلى أقطار الأرض فتردهم الملائكة ويولى الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا فهو يوم النتاد وتنصدع الأرض وأجاب الأولون بأن النفختين يرجعان إلى نفخة واحدة لأن معنى آية النمل أنهم يلقي عليهم الفزع إلى أن يصعقوا هذا ملخص الأجهوريالثاني: للساعة أشراط وعلامات يجب الإيمان بها وهي على قسمين كبرى وصغرى فالكبرى عشرة خمس متفق عليها خروج الدحال ونزول عيسى بن مريم من السماء الثانية وخروج الدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها وخمس مختلف فيها خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ودخان باليمن ونار تخرج من قعر عدن تروح مع الناس حيث راحوا وتميل معهم حيث مالوا حتى تسوقهم إلى المحشروالصغرى بعث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "بعثت أنا والساعة كهاتين" 1 وأشار إلى السبابة والوسطى وقبض العلم ورفع القرآن وظهور الجهل وكثرة الفتن وكثرة الزنا ومعاملة الناس بالربا وظهور الدجالين وكثرة ازلازل وظهور المهدي وانشقاق العمر ورجم الشياطين من السماء وتأمين الخائن وخيانة الأمين وكثرة العقوق وإمارة الصبيان والتطاول في البنيان وفساد
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الرقاق باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة كهاتين" حديث 6504, ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: قرب الساعة حديث 2951, والترمذي حديث 2214, والنسائي حديث 1578, وابن ماجه حديث 4040.
البلدان وخراب مكة ونقل حجارتها ألى البحر وإذا حصل شيء من تلك العلامات تتابعت حتى تتصل بالساعة وقد وجد أكثرها لكن وقع اختلاف في السابق منها فقيل فساد معظم البلدان وقيل غيرهالثالث: تقدم أن من أشراطها طلوع الشمس من مغربها على ما في سنن أبي داود وقد اختلف هل ذلك في يوم واحد أو ثلاثة أيام ثم تطلع من المشرق كعادتها إلى يوم القيامة وعند طالوعها من مغربها تغرب من جهة المشرق لأنه إذا أراد الله تعالى أن يطلعها من مغربها يديرها بالقطب فيجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها وعند ذلك يغلق باب التوبة على ما قال الله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الآيةووقع خلاف بين أهل السنة في مدة عدم قبول توبة الكافر بعد طلوعها من مغربها وفي قبول توبة المؤمن العاصي وهل ذلك خاص بالمكلف أو عام؟
فنقل اللقاني في شرح الجوهرة ما نصه والحق أن من يوم الطلوع إلى يوم القيامة لا تقبل توبة أحد كما في حديث ابن عمر: "فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل" أخرجه الطبراني والحاكم أهـوظاهر كلامه عمومه في الكافر وفي حاشية الأجهوري واختلف في عدم قبول التوبة من الذنب والإيمان من الكافر فقيل لا يقبلان مطلقا وقيل عدم قبولهما مختص بمن شاهد هذا الطلوع وهو مميز بعد ذلك فأما من يولد بعده أو قبله ولم يكن مميزا كصبي أو مجنون وميز بعد ذلك فإنه يقبل إيمانه وتوبته وهذا هو الصحيح. وقال بعض الشيوخ: إن من رأى طلوع الشمس من مغربها أو بلغه الخبر وحصل له اليقين بذلك لا تقبل توبته ولا إيمانه ومن لم ير ومن بلغه مع اليقين تقبل توبته وإيمانه وقال في شرح خليل نقلا عن ابن عباس إذا طلعت الشمس من مغربها لا يقبل ممن كان كافراعمل ولا توبة حين يراها إلا من كان صغيراحينئذ فإنه لو أسلم بعد ذلك قبل منه ومن كان مؤمنا مذنبا فتاب من الذنوب قبل منه وورد أن القمر حين طلوعها من مغربها يطلع من المغرب أيضافوائد حسان تتشوف النفس إلى معرفتها فأحببنا ذكرها:
الفائدة الأولى: فيما يتعلق بالدابة من صفة خروجها ومكانها وكلامها وصفاتها قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 82] أي إذا قرب وقوع معناه وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب.
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} [النمل: 82] روي أن طولهاستون ذراعا ولها قوائم وزغب وريش وجناحان لا يفوتها هارب ولا يدركها طالبوروي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن مخرجها فقال: "من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى؟" 1 يعني المسجد الحرام وروي مرفوعا: "تخرج دابة الأرض من أجياد فبلغ صدرها الركن اليماني ولم يخرج ذنبها بعد" وقال علي رضي الله تعالى عنه تمر ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثهاوقال كعب: صورتها صورة حمار قال ابن عمر تخرج الدابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى فتخرج على الناس بذنبها وعجزها فلا يبقى منافق إلا حطمته ولا مؤمن إلا مسحته وتجزع الناس وهو المراد بتكلمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الجرح وقرئ تكلمهم من الكلامواختلف في كلامها فقيل ببطلان الأديان إلا دين الإسلام وقيل تقول يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار وقيل تقول: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] بخروجي وتخرج ومعها عصى موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتخطم وجه الكافر بالخاتم وخروجها على الناس يكون ضحى وعنه عليه الصلاة والسلام: "أن لها ثلاث خرجات خرجة بأقصى اليمن فيفشو ذكرها في البادية ولا يدخل ذكرها مكة ثم تمكث زمانا طويلا وخرجة قريبة من مكة فيفشو ذكرها في البادية وبمكة وخرجة بينما عيسى ابن مريم يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تهتز الأرض تحتهم وينشق الصفا مما يلي المشعر فيخرج رأس الدابة من الصفا تجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها وبعد تكامل خروجها تمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض" 2 فسبحان القادر الحكيمالفائدة الثانية: في صفة الدجال وبيان الموضع الذي يخرج منه وأتباعه من الناس وعلامة خروجه وفي بيان جنته وناره ومسيره في الأرض وخبر دابته الجساسة وأنه لا يدخل مكة والمدينة وبيان قتله وغير ذلك. قال صلى الله عليه وسلم عن الدجال: "هو أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب
ـــــــ
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/530 حديث 8490, والطبراني في الكبير 3/173, حديث 3035, وقال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه طلحة بن عمرو وهو متروك2 اخرجه الحاكم في المستدرك 4/530, حديث 8490, والطبراني في الكبير 3/173 وانظر لسان الميزان لابن حجر 4/177, وميزان الاعتدال للذهبي 5/106.
بين عينيه كافر" 1 رواه مسلموفي رواية له مرفوعا: "الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر" بضم الجيم وتخفيف الفاء أي كثير الشعر "معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار" والمراد أن معه مثل الجنة ومثل النار "ويسيران معه إينما يسير واسم الدجال عند اليهود المسيح بن داود يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار" 2وفي الحديث: "قبل خروجه بثلاث سنين أول سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها والسنة الثانية تمسك ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها والسنة الثالثة تمسك الأرض ما فيها وتمسك السماء ما فيها ويهلك كل ذي ضرس وظلف" 3وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الدجال خارج من خلة بين الشام والعراق" 4 وروى الترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه قوم وجوههم المجان المطرقة" 5 إسناده صحيح والمجان جمع مجي الترسقال في مختصر النهاية والمجان الأتراس التي ألبست العصب شيئا فوق شيء وفي زمن مسلم: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة" وفيه أيضا مرفوعا: "ينفر الناس من الدجال في الجبال وخروج الدجال في سبعة أشهر وعلامة خروجه فتح القسطنطينية ففتحها مقدم على خروجه" 6وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يلبث الدجال في الأرض أربعين يوما بعض الأيام كسنة وبعضها كشهر
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم حديث 1662 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: ذكر الدجال وصفته وما معه حديث 2934, وابن ماجه حديث 4071, وأحمد 5/383, حديث 232983 أخرجه الطبراني في الكبير 24/158, حديث 404, وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 11791: وفيه شهر بن حوشب وفيه ضعف وقد وثق4 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: ذكر الدجال وصفته وما معه حديث 29375 صحيح: أخرجه الترمذي كتاب الفتن باب: ما جاء من أين يخرج الدجال حديث 2237 وقال: حسن غريب وانظر صحيح الجامع 34046 أخرجه الترمذي كتاب المناقب باب: في فضل العرب حديث 3930, بلفظ "لينفرن الناس من الدجال حتى يلحقوا بالجبال" وأخرج الترمذي أيضا في كتاب: الفتن باب: ما جاء في علامات خروج الدجال حديث 2238, الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر.
وبعضها كجمعة وسائر أيامه كأيامكم" قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: "كالغيث استذرته الريح فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها اخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كعياسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه وهو يضحك" 1وفي مسلم أيضا: "فيأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه رجل من خير الناس فيقول أشهد أنك الدجال الذي الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في أمري فيقولون لا فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن قال فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه" 2 وفي رواية أبي داود قلت لأبي سلمة: وما الجساسة؟ قال: امرأة تجر شعرها جلدها وراءها3وفي حديث قاسم بن أصبغ: "إن للدجال حمارا يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا وحماره أعور كما هو أعور فلم يكن في قدرته أن يحسن خلقه ولا خلق مركوبه ثم ينزل عيسى فيقتله بحربته حتى يرى دمه في الحربة" 4فلو كان إلها لم يصبه شيء من ذلك والمنافق يشبه وفي مسلم مرفوعا: "ليس من يلد إلا سيطا الدجال إلا مكة والمدينة" 5 وفي بعض الروايات: "فلا يبقى موضع إلا ويدخله غير مكة والمدينة وبيت المقدس وجبل الطور فإن الملائكة يطردونه عن هذه المواضع" 6ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: ذكر الدجال وصفته وما معه حديث 2937, والترمذي حديث 2240, وابم ماجه حديث 4075, وأحمد 4/181, حديث 176662 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: في صفة الدجال وتحريم المدينة عليه وقتله حديث 29383 ضعيف الإسناد: أخرجه أبو داود كتاب الملاحم باب: في خبر الجساسة حديث 43254 ضعيف: أخرجه أحمد 3/368, حديث 14997, والحاكم في المستدرك 4/575, حديث 8613 وانظر: الضعيفة 4/4385 صحيح: أخرجه مسلم متاب الفتن وأشراط الساعة حديث 2943, بلفظ "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة" 6 لم أقف عليه.
وفي مسلم أيضا عن النواس بن سمعان: "أن عسى يدرك الدجال بباب لد فيقتله" 1 ولد بضم اللام وشد الدال منصرف قرية قريبة من القدس وفي مسلم: "أن الدجال إذا رأى عيسى عليه السلام ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تلوكه لذاب حتى يهلك" 2 وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يبعث كذابون دجالون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله" 3 رواه الترمذي وقال حسن صحيحالفائدة الثالثة: في نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض وأن نزوله حق ثابت بالكتاب والسنة قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] أي ليؤمنن بعيسى قبل موته وذلك عند نزوله من السماء آخر الزمان والضمير في موته قيل للكتاب المفهوم من أهل الكتاب وقيل لعيسى أنه ينزل قرب الساعة فإنه ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لينزلن عيسى بن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويأمر بترك القلاص فلا يسعى عليها وتترك الشحناء والتحاسد والتباغض ويدعو إلى المال فلا يقبله أحد" 4 رواه مسلموروى مسلم أيضا: "أنه عليه السلام ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه كبر وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كاللؤلؤ" 5 ومعنى كونه بين مهرودتين أنه لابس ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران ومهرودتان بالدال المهملة وبالذال المعجمة والجمان بضم الجيم وتخفيف الميم حبات من الفضة تصنع الى هيئة اللؤلؤ والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفاته وانعقد الإجماع على أن عيسى عليه السلام متبع لهذه الشريعة المحمدية ليس بصاحب شريعة مستقلة عند نزولهوإنما كان يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم لأن جميع الأنبياء كانوا يعلمون في أزمانهم بجميع شرائع
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: ذكر الدجال وصفته وما معه حديث 29372 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: في فتح القسطنطينية وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم حديث 28973 صحيح: أخرجه الترمذي كتا بالفتن باب: ما جاء لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون حديث 2218, وقال: حسن صحيح وانظر صحيح الجامع 74174 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب: نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا حديث 1555 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: ذكر الدجال وصفته وما معه حديث 2937.
من قبلهم ومن بعدهم بالوحي وبالكتب المنزلة عليهم لما ورد في الأحاديث من أن عيسى عليه السلام بشر أمته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم بعده وأخبره بجملة من شريعته يأتي بها تخالف شريعته وأيضا عيسى عليه الصلاة والسلام لا يقصر عن رتبه الاجتهاد المطلق واستنباط بجملة أحكام من القرآن ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلموفي بعض الآثار أنه يتزوج ويولد له ويحج لتحقيق التبعية ثم يموت ويدفن في روضة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما والناس في زمانه في أمن وخصب وروى مسلم: "أنه يقال للأرض: أنبتي ثمرتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها بكسر القاف وهو قشرها الشبيه بقحف الرأس ويبارك في اللبن حتى أن الناقة لتكفي الجماعة الكثيرة من الناس ويقع الأمن في زمنه في الأرض يرعى الأسد مع الإبل والنمر مع البقر والذئب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات ولا يصاب أحد منهم ويتسلم الأمر من المهدي ويكون المهدي مع أصحاب الكهف الذين هم من أتباع المهدي من جملة أتباعه ويصلي عيسى وراء المهدي صلاة الصبح وذلك لا يقدح في قدر نبوته ويسلم المهدي لعيسى الأمر ويقتل الدجال ويموت المهدي ببيت المقدس وينتظم الأمر كله لعيسى عليه السلام ويمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون وقيل يمكث سبع سنين بعد نزوله ليس يبقى بين اثنين عداوة ثم يرسل الله الريح التي تقبض أرواح المؤمنين" 1وسئل الجلال السيوطي رحمه الله تعالى عن حياة عيسى عليه السلام ومقره وطعامه وشرابه فقال في السماء الثانية لا يأكل ولا يشرب بل هو ملازم للتسبيح كالملائكة وسبب رفعه إلى السماء أن اليهود كذبته وآذته وهمت بقبله فرفعه الله تعالى وجتمع بالمصطفى عليهما الصلاة والسلام ليلة الإسراء في السماء الثانية واستمر فيها حتى ينزل آخر الزمان عند المنارة البيضاء شرقي دمشق واضعا يديه على أجنحة ملكين ويكون نزوله عند صلاة الصبح فيقول له أمير الناس وهو المهدي تقدم يا روح الله فصل بنا فيقول إنكم معشر هذه الأمة أمراء بعضكم على بعض تقدم فصل بنا فيصلي بهم المهدي فإذا انصرف يأخذ عيسى حربته ويتبع الدجال فيقتله عند باب لد الشرقي ويحكم بشريعتنا ويقيم سبع سنين وقيل أربعين سنة وجمع بينهما لأن الأربعين وجمع بينهما بأن الأربعين مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنةـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: ذكر الدجال وصفته وما معه حديث 2937.
وسئل شيخ شيوخنا الأجهوري هل ينزل عليه جبريل بعد نزوله من السماء أم لا فأجاب بأنه ينزل عليه كما يأتي في حديث مسلم من قوله فأوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عباد1 الخ فإنه ظاهر في نزول جبريل إليه
وأما حديث الوفاة من قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "هذا آخر وطأتي في الأرض" 2 فضعيف ونقل بعض المحدثين أن عيسى نزل إلى الأرض بعد الرفع في حياة أمه وخالته فسكن ألمهما بإخبارهما بحاله ثم رفع حتى ينزل آخر الزمانوسئلت عن حاله في السماء هل كان مكلفا أم لا فأجبت بعدم تكليفه أخذا من قول السيوطي هو ملازم التسبيح كالملائكة وحرر المسألة والحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه فبين الله كذبهم وقيل لأجل أن يدفن في الأرض لأن ما خلق من الأرض لا يدفن في السماءالفائدة الرابعة: في خروج يأجوج ومأجوج بالهمز ودونه فيهما وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السلام فهما من ذرية آدم عليه السلام من غي خلاف روى مسلم من حديث النواس بن سمعان: "أن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بعد قتله الدجال أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون أي من كل نشر يمشون مسرعين فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ماءها وهي بالشام طولها عشرة أميال ويمر آخر فيقول لقد كان بهذه أثر ماء ويحصرون عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأته زهمتهم فيرغب إلى الله نبي الله وأصحابه فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله تعالى مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك" 3 الحديثوقوله: "لا يدان لأحد" تثنية يده ومعناه لا قدرة ولا طاقة ومعنى حرزهم إلى الطور ضمهم
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: ذكر الدجال وصفتهوما معه2 أخرجه الطبراني في الكبير 3/128, حديث 28903 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة ياب: ذكر الدجال وصفته وما معه حديث 2937.
إليه واجعل لهم حرزا وقوله النغف هو بتحريك الغين المعجمة الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم وقوله فرسي كقتلى وزنا ومعنى وواحده فريسوفي الثعلبي من حديث حذيفة قلت: يا رسول الله ما يأجوج ومأجوج؟ قال: "أمم كل أمة أربعمائة ألف لا يموت الرجل حتى يرى ألف عين تطوف بين يديه من صلبه وهم من ولد آدم فيسيرون إلى خراب الدنيا فيشربون الفرات والدجلة وبحيرة طبرية وبيت المقدس فيقولون قد قتلنا أهل الدنيا فقاتلوا من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم محمرا دما" 1وقد روي: "أن الدجال يقتله عيسى بن مريم فيخرج بعده يأجوج ومأجوج فيقتلون: من اتبع الدجال الذي قتله عيسى ويتحصن عيسى ومن معه في رؤوس الجبال فيسلط الله عليهم داء في أعناقهم فيموتون كموت رجل واحد"الفائدة الخامسة: في الدخان والريح التي تقبض أرواح المؤمنين وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] الآية وقال ابن عباس وغيره هو دخان قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفار والمنافقين ويعتري المؤمنين كهيئة ازكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاصوفي مسلم: "أن الله يبعث ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة" وفيه أيضا: "تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فلا يصل الإناء إلى فيه والرجلان يتبايعان الثوب فلا يتبايعانه حتى تقوم الساعة والرجل يليط حوضه فلا يصدر حتى تقوم الساعة"ولما قدم أن الساعة بمعنى القيامة وانقراض الدنيا وفنائها حق وكان يتوهم أن الذي يموت لا يعود قال: "وأن الله" سبحانه وتعالى لتمام قدرته "يبعث" أي يحي كل "من يموت" ولو حرق وذري في الهواء لأن البعث إعادة ما عدم بعد وجوده مثل ما كان فيجب على كل مكلف
ـــــــ
1 قال في مجمع الزوائد 8/6: رواه الطبراني في الأوسط وفيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف والأصبهاني في العظمة 4/1429, وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن 6/1215, وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/106, هو من رواية يحيى بن سعيد العطار عن محمد بن اسحاق عن الأعمش والعطار ضعيف جدا ومحمد بن اسحاق قال ابن عدي ليس هو صاحب المغازي بل هو العكاش قال: والحديث موضوع قال ابن أبي حاتم: منكر ا هـ قلت: لكن لبعضه شاهد صحيح.
اعتقاد حقيقة إعادة جميع العباد بعد إحيائهم بأجزائهم الأصلية التي من شأنها البقاء من أول العمر إلى آخره كالعظام والأعصاب وسوقهم إلى محشرهم لفضل القضاء بينهم لثبوت ذلك بالكتاب والسنة وإجماع السلف مع كونه من الممكنات التي أخبر بها الشارع أما الإمكان فظاهر وأما السنة فلما تواتر من الأخبار به وأما الكتاب فقد ورد في أخبار كثيرة لا يحتمل التأويل مثل: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78- 79] {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3- 4] {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} [ق: 44] {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]"والحاصل" أن البعث من ضروريات الدين فإنكاره كفر وهو عام في كل من يحاسب وغيره على ما ذهب إليه المحققون وصححه النووي خلافا لمن خصه بمن يجازي والبعث والنشور عبارة عن شيء واحد وهو الإخراج من القبور بعد جمع الأجزاء الأصلية وإعادة الأرواح إليها وأطلق على إحياء الأموات نشورا لانتشارها من قبورها يوم حشرها وبتقيد الأجزاء بالأصلية سقط ما قاله بعضهم من أنه يلزم على ذلك لو أكل إنسان إنسانا وصار جزءا من أجزائه أنه يعود بغير جسده الأول وليس كذلك لما عرفت من أن المعاد الأجزاء الأصلية لا الفضلية فالمعاد في الأكل والمأكول الأجزاء الأصلية هكذا قالواوأقول: لا حاجة إلى هذا كله لاستحالة نقل جزء من جسم إلى غيره وإنما الحاصل للأكل بعد الأكل لأجزاء غيره النماء في جسده بسبب الأكل ولا يلزم من ذلك صيرورة أجزاء المأكول أجزاء الآكلألا ترى أن الشخص يأكل الثمر والخبز ولا يصير واحد منهما جزءا له فتدبره يدفع عنك الإشكال المذكور وعلم من قولنا بعد جمع الأجزاء وإعادة الروح إليها الرد على الفلاسفة في قولهم إنما تعاد الأرواح دون الأجساد والحاصل أن المعاد بمعنى العود الجسماني والروحاني مما أجمع عليه المسلمون فيعدم الله الذوات ثم يعيدها للجزاء ولكن اختلف القائلون بالمعاد الجسماني في معناه الصحيح وعليه الأكثر أن الله يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقيل يفرق الأجزاء الأصلية ثم يركبها مرة أخرى واقتصر على هذين صاحب الجوهرة حيث قال وقل يعاد الجسم بالتحقيق عن عدم وقيل عن تفريق والجسمان بكسر
الجيم وبالسين المهملة نسبة إلى الجسم الذي هو البدن وأنكرهما الملحدة والدهرية وتقدم ما يدل على حقيته مما لا يقبل التأويل وذكر المصنف من أدلته قياس الإعادة على الإبتداء بقوله كما بدأكم تعودون يعني كما أنشأهم من العدم إلى الوجود كذلك ينشئهم بعد موتهم إلى الحشر للجزاء إذ لا فرق بين الإعادة والإبتداء بل الإعادة أهون من الإبتداءقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أي هين والتلاوة: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فكلام المصنف مشابه الآية من غير قصد من المصنف لرواية القرآن بالمعنى للاتقاق على حرمته وشبه الإعادة بالابتداء لأن الابتداء لم يخالف فيه أحد ومن الأدلة أيضا قياس الإعادة على خلق السموات والأرض بطريق الأولى المشار إليه بقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]ومن الأدلة أيضا قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر المشار إليه بقوله تعالى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] ومنها إخراج النار من الشجر الأخضر المشار إليه بقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إلى قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } [يس: 80]"تنبيهات" الأول: تكلم المصنف على إعادة الذوات وسكت عن إعادة أعراضها وأزمانها وفيه خلاف رجح جماعة إعادة أعيان الأعراض التي كانت قائمة بالأجساد في حالة حياتها تعاد بأشخاصها لا فرق فيها بين ما يطول بقاء نوعه كالبياض والسواد وما لا يطول كالأصوات كما لا فرق بين ما كان مقدورا للشخص كالضرب والقيام وغيره كالعلم1
ـــــــ
1 العلم في اللغة: يطلق على المعرفة والشعور والإتقان واليقين يقال: علمت الشيء أعلمه علما عرفته ويقال: ما علمت بخبر قدومه أي: ما شعرت ويقال: علم الأمر وتعلمه: أتقنه واصطلاحا: هو حصول صورة الشيء في العقل واختار العضد الإيجي بأنه صفة توجب لمحلها تمييزا بين المعاني لا يحتمل النقيضوقال صاحب الكليات: والمعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك ولهذا المعنى متعلق وهو المعلوم ولو تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء وهو الملكة فأطلق لفظ العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجازا مشهوراأقسام العلم: ينقسم العلم عند علماء الكلام إلى قديم وحادث فالقديم هو علم الله تعالى والعلم من صفات الله الأزلية وهي صفة أزلية تنكشف المعلومات عند تعلقها بها والعلم الحادث هو علم العباد وهو نوعان: ضروري واكتسابي فالضروري ما يحصل في العالم بإحداث الله ونخليقه من غير فكر وكسب من جهته. وعرفه الجرجاني بأنه: ما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق ويقابله العلم
والجهل1 والطول والقصر ورجحوا أيضا إعادة جميه ازمنتها التي مرت عليها في الدنيا تبعا
ـــــــ
الاكتسابي وهو: العلم المقدور تحصيله أنظر الموسوعة الفقهية 30/290, ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 2/532- 536, ومن مصادره: شرح الكوكب المنير 1/61- 67, والحدود الأنيقة ص 661 الجهل لغة: نقيض العلم يقال جهلت الشيء جهلا وجهالة بخلاف علمته وجهل على غيره سفه أو خطأ وجهل الحق أضاعه فهو جاهل وجهل وجهلته بالتثقيل – نسبته إلى الجهلوفي الاصطلاح: هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليهوهو قسمان: بسيط ومركبأ- الجهل البسيط: هو عدم العلم ممن شأنه أن يكون عالماب- الجهل المركب: عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقعأقسام الجهل: ينقسم الجهل إلى قسمين:
أولا: الجهل الباطل الذي لا يصلح عذرا وهذا القسم لا يصلح أن يكون عذرا في الآخرة وإن كان قد يصلح عذرا في أحكام الدنيا كقبول عقد الذمة من الذمي حتى لا يقتل ولكن لا يكون عذرا في الآخرة حتى أنه يعاقب فيهاثانيا: الجهل الذي يصلح عذرا: الجهل الذي يصلح أن يكون عذرا هو الجهل الذي يكون في موضع الاجتهاد الصحيح بأن لا يكون مخالفا للكتاب أو السنة أو الإجماع وذلك كالمحتجم إذا أفطر على ظن أن الحجامة مفطرة لا تلزمه الكفارة لأن جهله في موضع الاجتهاد الصحيحهذا: ويعقد الأصوليون من الحنفية بابا لعوارض الأهلية ويجعلون الجهل من العوارض المكتسبة وقد قسم صاحب مسلم الثبوت الجهل إلى أنواع هي:
الأول: الجهل الذي يكون من مكابرة العقل وترك البرهان القاطع وهو جهل الكافر لا يكون عذرا بحال بل يؤاخذ به في الدنيا والآخرةالثاني: الجهل الذي يكون عن مكابرة العقل وترك الحجة الجلية أيضا لكن المكابرة فيه أقل حجة منها في الأول لكون هذا الجهل ناشئا عن شبهة منسوبة إلى الكتاب أو السنة وهذا الجهل للفرق الضالة من أهل الأهواء وهذا الجهل لا يكون عذرا ولا نتركهم على جهلهم فإن لنا أن نأخذهم بالحجة لقبولهم التدين بالإسلامالثالث: جهل نشأ عن اجتهاد ودليل شرعي لكن فيما لا يجوز فيه الاجتهاد بأن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع وحكمه: أنه وإن كان عذرا في حق الإثم لكن لا يكون عذرا في الحكم حتى لا ينفذ القضاء بهالرابع: جهل نشأ عن اجتهاد فيه مساغ كالمجتهدات وهو عذر البتة وينفذ القضاء على حسبهالخامس: جهل نشأ عن شبهة وخطأ كمن وطئ أجنبية يظن أنها زوجته وهذا عذر يسقط الحدالسادس: جهل لزمه ضرورة بعذر وهو أيضا عذر يسقط به الحد كجهل المسلم في دار الحرب أحكام الإسلام فلا يحد بالشربالجهل بالتحريم مسقط للإثم والحكم في الظاهر: الجهل بالتحريم مسقط للإثم والحكم في الظاهر لمن يخفى عليه لقرب عهده بالإسلام ونحوه فإن علمه وجهل المرتب عليه لم يعذر ولهذا لو جهل تحريم الكلام في الصلاة عذر ولو علم التحريم وجهل الإبطال بطلت وإن علم ان جنس الكلام يحرم ولم يعلم أن التنحنح والمقدار الذي نطق به محرم فمعذور في الأصح.
للذواتـــــــ
وقد ذكر الزركشي هنا تنبيهين:
أحدهما: أن هذا لا يختص بحقوق الله تعالى بل يجري في حقوق الآدميين ففي تعليق القاضي حسين: لو أن رجلا قتل رجلا وادعى الجهل بتحريم القتل وكان مثله يخفى عليه ذلك يقبل قوله في إسقاط القصاص وعليه الدية مغلظة قال الزركشي: وفيما قاله القاضي نظر قويالثاني: أن إعذار الجاهل من باب التخفيف لا من حيث جهله. ولهذا قال الشافعي: لو عذر الجاهل لأجل جهله لكان الجهل خيرا من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف ويريح قلبه من ضروب التعنيف فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ والتمكين {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] قال القاضي حسين: كل مسألة تدق ويغمض معرفتها هل يعذر فيها العامي وجهان: أصحهما نعمالجهل بمعنى اللفظ مسقط لحكمه: إذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو إيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو نحوه ولا يعرف معناه لا يؤاخذ بشيء منه لأنه لم يلتزم بمقتضاه ولم يقصد إليه وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه العبارة بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ. نعم. لو قال الأعجمي: أردت به ما يراد عند أهله فوجهان: أصحهما كذلك لأنه لم يرده فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون لأنه إذا لم يعرف معنى اللفظ لم يصح قصده ولو نطق العربي بكلمات عربية لكنه لا يعرف معانيها في الشرع مثل قوله لزوجته: أنت طالق للسنة أو للبدعة وهو جاهل بمعنى اللفظ أو نطق بلفظ الخلع أو النكاح ففي القواعد للشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لا يؤاخذ بشيء إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصده باللفظ قال: وكثيرا ما يخالع الجهال من الذين لا يعرفون مدلول لفظ الخلع ويكمون بصحته للجهل بهذه القاعدةمن علم تحريم شيءوجهل ما يترتب عليه؟
كل من علم تحريم شيء وجهل ما يترتب عليه لم يفده ذلك كمن علم تحريم الزنا والخمر وجهل وجوب الحد يحد بالاتفاق لأنه كان حقه الامتناع وكذا لو علم تحريم القتل وجهل وجوب القصاص يجب القصاص أو علم تحريم الكلام في الصلاة وجهل كونه مبطلا يبطل أو علم تحريم الطيب على المحرم وجهل وجوب الفدية تجبالجهل عذر في المنهيات في حقوق الله تعالى:
الجهل عذر في حق الله تعالى في المنهيات دون المأمورات والأصل فيه حديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة ولم يؤمر بالإعادة لجهله بالنهي وحديث يعلى بن أمية حيث أمر صلى الله عليه وسلم أعرابيا بنزع الجبة عنه وهومحرم ولم يأمره بالفدية لجهله واحتج به الشافعي على أن من وطئ في الإحرام جاهلا فلا فدية عليه والفرق بينهما من جهة المعنى أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل إلا بفعلها والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانا للمكلف بالانكفاف عنها وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها ومع الجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي فعذر بالجهل فيهأما في حقوق الآدميين فقد لا يعذر كما لو ضرب مريضا جهل مرضه ضربا يقتل المريض يجب القصاص في الأصح بخلاف مالو حبس من به جوع وعطش ولم يعلم بحاله مدة لا يموت فيها الشيعان عند الحبس فلا قصاص وكأن الفرق أن أمارات المرض لا تخفى بخلاف الجوع أنظر الموسوعة الفقهية 16/197- 202, ومعجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 1/544, 545, ومن مصادره: تهذيب الأسماء واللغات 3/56, 57, وفتح الغفار بشرح المنار 3/102, 103.
فالحاصل أن الله تعالى يعيد الأجسام بأزمنتها وأوقاتها كما تعاد بأكوانها وهيأتها لورود ظاهر القرآن به في قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56] لأن المراد بالغيرية بحسب الزمان وإلا فالجلود هن الأولى بأعيانها إذ هي التي عصت فيعاد تأليفها إذا تفرقت وأعيانها إذا عدمتوفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا برد الشمس بعد الغروب فردت فلولا أن الوقت يعاد لم تكن صلاته بعد رد الشمس أداء ولم يكن للرد فائدة عن علي رضي الله تعالى عنه لحبسه نفسه في حاجته عليه الصلاة والسلام حتى فاتته صلاة العصر فصلاها بعد ردها أداء والقول الثاني يمنع إعادتها لما يلزم عليه من اجتماع المنافيات كالماضي والحال والاستقبال وأجاب صاحب الراجح بأن الإعادة على سبيل التدريج حسبما مرت في الدنيا لا دفعية ونظير هذا الإشكال يأتي في إعادة الأعراض لأن منها الطول والقصر والصغر والكبر والعلم والجهل والصحة والمرض وجواب ما علمت من أن إعادتها تدريجية على حكم ما قامت به في الدنياالثاني: علم من قول المصنف كما بدأهم يعودون أن العبد يبعث ويخسر كما نزل من بطن أمه وجميع ما قطع منه يرجع له في القيامة حتى الختان ولا يقال المماثلة لما ولد يقتضي أن يبعث بلا أسنان ولا لحية لأنا نقول المراد لا ينقص منه شيء مما ولد فلا ينافي الزيادة عما ولد به قال الحليمي وسئل بعض عمن قطعت يده في حال إسلامه وارتد ومات على ردته أتبعث يده أم لا فإن قلتم بالأول فيلزم أن اليد تدخل النار ولم تذنب وإن قلتم بالثاني فيخالف قولكم يبعث كما ولد فالجواب إنا نحتار الأول لأن اليد تابعة للبدن والعبرة في الجزء إنما هو بمجموع الهيكلالثالث: قد قدمنا أن الصحيح عموم البحث حتى من لا عقاب عليه من بني آدم ولو سقطا حيث ألقى بعد نفخ الروح فيه ووقع خلاف في غير الإنسان من الحيوانات والصحيح بعثه قال العلامة القرطبي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] أي الجزاءوفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء" 1 فدل بهذا على أن البهائم تحشر يوم القيامة كما قال به أبو هريرة وأبو ذر والحسم وغيرهم وفي التنزيل: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وفي رواية جعفر
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب: تحريم الظلم حديث 2582.
بن برقان "يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء" وسوى هذا لا يلتفت إليه ولا يعول عليهلا يقال: غير الإنسان من ذوي الروح لا يجري عليه القلم فلا يؤاخذ قلنا: بل يؤاخذ فيما بينه وبين نظيره تحقيا للعدل لا لارتكاب ذنب وجرى القلم إنما هو لإجراء الأحكام فالصحيح القول بحشر كل ذي روح غير الآدمي كما قدمنا وأما الجمادات وسائر ما تحل فيه روح فقال الأجهوري: لا تبعث اتفاقا وقال اللقاني وجاء في الحديث "بعث الليالي والأيام والأشهر والأعوام للشهادة للإنسان وعليه بالطاعة والآثام" 1 فلعل ما نقله الأجهوري من نفي البعث محمول على أنها لا تبعث للجزاء فلا ينافي أنها تبعث للشهادة أو للقصاص فيما بينها لما روي من زيادة بعض الرواه ويقاد للحجر الذي ركبه حجر مثله ومن العود الذي خدش غيرهالرابع: لا يلزم من عموم البعث لسائر الموجودات أو الحيوانات فقط دخول الجنة أو النار لأن دخولهما من خواص من شأنه التكليف بل بعد تمام القصاص على ما مر يصير الحيوان البهيمي ترابا سوى عشر منه فإنها تدخل الجنة براق المصطفى عليه الصلاة والسلام وناقة صالح وكبش إسماعيل وعجل إبراهيم وهدهد بلقيس ونملة سليمان وحمار العزير وكلب الكهف وحوت ابن متى وبقرة من بر أمه في الرخاء والمحلالخامس: لم يبين المصنف صفة البعث وبينها العلماء كما في الحديث "بأنه إذا صار العظم رميما ولم يبق إلا عجب الذنب وهو آخر سلسلة صلبه فيأمر الله تعالى بمطر ينزل من تحت العرش كمني الرجال يحيي الله الخلائق من ذلك كما كانوا أول مرة""ويجمع الله الأرواح في قرن من نور فيه ثقب على عدد الخلائق ثم يأمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور مرة ثانية وتسمى نفخة البعث فتخرج كل روح مزعوجة من قبرها فيحييهم الله" 2وروي عنه عليه الصلاة والسلام من طريق أبي هريرة أنه قال: "ما بين النفختين أربعون عاما الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيي بها الله كل ميت ثم ينزل من السماء ماء وفي بعضها من تحت العرش كمني الرجال فينبتون كما ينبت البقل بعد فنائهم ولم يبق إلا عجب
ـــــــ
1 لم أقف عليه2 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/541, حديث 8519, وصححه وقال على شرط الشيخين وابن أبي شيبة في المصنف 7/511 حديث 37637.
الذنب يركب عليه جميع أجزاء الجسد بقدرة من أحاط بكل شيء علما" 1وذكر القرطبي: أن النفخ في الصور ثانيا إنما يكون بعد أن يرسل الله ماء يقال له الحيوان كمني الرجال حتى يصير فوقهم إثنا عشر ذراعا ثم يأمر الله الأجساد فتنبت كنبات البقل حتى تصير كما كانت يقول الله تعالى لتحي حملة العرش فيحيون ثم يقول ليحي جبريل وميكائيل وإسرافيل فيأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور ثم يدعو الأرواح فيؤتي بها تتوهج أرواح المؤمنين نورا والأخرى ظلمة فيأخذها الله تعالى فيلقيها في الصور ثم يقول لإسرافيل انفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها فتدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد كمشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عن الأجساد وفي رواية من رؤوسهم كما تنشق عن رأس الكمأة فتطرحهم على ظهرها ثم يقومون فيجيبون إجابة رجل واحد قياما لرب العالمين وحين النفخ يكون إسرافيل واقفا على صخرة بيت المقدس فينفخ ويقول يا أيتها النظام النخرة والجلود المتمزقة والأشعار المتمعطة أي الساقطة إن الله يأمرك أن تجتمعي لفصل القضاء وعند انفلاق الأرض عنهم وقيامهم يقول الكافر: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] ويقول المؤمن: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] فيقول الله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]السادس: أول من تنشق عليه الأرض نبينا صلى الله عليه وسلم فهو أول من يبعث وأول وارد المحشر وأول من يدخل الجنة ومراتب الناس في الحشر متفاوتة لتفاوت الأعمال فمنهم الراكب ومنهم الماشي على رجليه ومنهم الماشي على وجهه وصفة كل إنسان في الموقف كصفته التي مات عليها كما أجاب به الحافظ ابن حجر حين سئل عن طولهم في الموقف فأجاب بأنه يحشر كل أحد على ما مات عليه ثم يكونون عند دخولهم الجنة على طول واحد ففي الحديث الصحيح "يبعث كل عبد على ما مات عليه" 2 وفي الحديث الصحيح في صفة أهل الجنة "إنهم على
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن باب: يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا زمرا حديث 4935, ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب: مابين النفختين حديث 2955, بلفظ: "مابين النفختين أربعون" قال: أربعون يوما؟ قال: أبيت قال: أربعون شهرا؟ قال: أبيت قال أربعون سنة؟ قال: أبيت قال: "ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة" وهذا لفظ البخاري2 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت حديث 2878. وأحمد 3/331 حديث 14583.
صورة آدم وطول كل واحد منهم ستون ذراعا1وفي رواية الإمام أحمد وغيره "وفي عرض سبعة أذرع وهم أبناء ثلاث وثلاثين سنة" 2"و" مما يجب الإيمان به وخصت به هذه الأمة دون "غيرها أن الله سبحانه" وتعالى "ضاعف" أي كثر إذا لتضعيف الزياده على أصل الشيء بمثله أو أمثله "لعبادة المؤمنين" من الجن والإنس المكلف بالفعل وغيره لأن الصحيح كتب حسنات الصبي بدليل ألهذا حج يا رسول الله قال: "نعم ولك أجر" ومفهوم المؤمنين أن الكفار لا تضاعف لهم حسنات بل اختلف هل يكتب لهم حسنات أم لا وعلى الأول فقيل يجازون عليها في الدنيا فقط بالمال وصحة البدنوقيل: يجازون عليها في الآخرة بأن يخفف عنهم العقاب الذي استوجبوه بجنايتهم غير الكفر لأن عذاب الكفر لا يخفف عنهم ولا يفتر ولا يغفر وإنما وقع الخلاف في ثواب من أسلم من الكفار على أعمال البر التي عملها قبل إسلامه هل يجازي عليها مضاعفة أم لا؟ والذي اختاره شيخ مشايخنا الجهوري الأول وظاهر قوله المؤمنين شموله للعصاة وهو كذلك لأن المؤمن إنما يقابله الكافر ومفعول ضاعف "الحسنات" جمع حسنة وهي كل ما يحمد فاعله شرعا سميت بذلك لحسن وجه صاحبها عند رؤيتها والسيئة كل ما يذم فاعله شرعاوفي كلام المصنف حذف تقديره جزاء الحسنات لأن الذي يضاعف ومفهوم الحسنات أن السيئات لا تضاعف بل جزاؤها بالمثل قال صاحب الجوهرة فالسيئات عنده بالمثل والحسنات ضوعفت بالفضل كما ورد به القرآن وجاءت به الأخبار الصحيحة فمن القرآن قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام 160]وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] ومن الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعين" 3 وفي رواية إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة4ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الاستئذان باب: بدء السلام حديث 6227, ومسلم كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها باب: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير حديث 28412 أخرجه أحمد 2/295 حديث 79203 لم أقف عليه4 صحيح: أخرجه البخاري كتاب الرقاق باب: من هم بحسنة أو بسيئة حديث 6491, ومسلم كتاب الإيمان باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة حديث 130.
وفي حديث الإسراء "أنه تعالى فرض على العباد خمسين صلاة فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد بين يدي ربه موسى حتى وقف الفرض على خمس فسمع النداء من قبل الله عز وجل: "يا محمد إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ولا يبدل القول هي خمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي بالحسنة عشر أمثلها لكل صلاة عشر صلوات" 1 وأخرج أحمد إن الله يضاعف الحسنة إلى ألف ألف حسنة2 والحاصل أن كثرة المضاعفة وقلتها بحسب مراتب الإخلاص"تنبيهات" الأول: التضعيف إنما هو في الحسنات المفعولة ولو بواسطة فلو هم بحسنة فلم يعملها لمانع كتبت له واحده وجوازي عليها من غير تضعيف كما لا يكون إلا لإجزاء عبادة تمت فلا تضعيف لتسبيح وخشوع وتكبير وقراءة من ركعة من صلاة قطعها المصلي كما حكي عليه بعضهم الإجماع وظاهره ولو لم يتسبب في قطعها وبقولنا المفعولة خرجت المأخوذة في نظير الظلامة فلا تضاعف بل له ثوابها من غير مضاعفة كالحسنات الفرقية لأن المضاعفة الأصلية المقبولة لذا قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام: 160] ولم يقل من عمل للإشارة إلى أن الإثابة مع التضعيف إنما تكون مع القبولالثاني: أقل مراتب المضاعفة عشرة بقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وظاهر الآية أن له إحدى عشر وليس كذلك ولكن حديث الإسراء صريح في أن له بكل حسنة عشرة فقط لأنه جعل الخمس صلوات بخمسين صلاة وقد تكون المضاعفة بخمسين لخبر "من قرأ القرآن بإعرابه"3وفي بعض العبارات "فاعتبر به فله بكل حرف خمسون حسنة" 4 لا أقول لم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف قاله الغزالي والمراد بإعرابه معرفة معاني ألفاظه وليس المراد به المصطلح عليه لأن القراءة مع اللحن لا تعد قراءة ولا ثواب عليها وروي "من قرأه بوضوء فله بكل حرف خمسون حسنة وإن قرأه في الصلاة فله بكل حرف مائة حسنة" ولا
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه البخاري كتاب التوحيد باب: قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] حديث 75172 أخرجه أحمد 2/522 حديث 107703 لم أقف عليه4 أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 2/374 بلفظ "من قرأ حرفا من كتاب الله في صلاة قاعدا كتبت له خمسون حسنة ومحيت عنه خمسون سيئة ورفعت له خمسون درجة...".
مانع من كون القراءة مع الاعتبار كالقراءة على وضوء فلا مخالفة بين الروايتين مما له الثواب من غير نهاية في المضاعفة الصائم احتسابا والصابر على ما أصابه وعلى طاعته وعلى ترك المعصيةالثالث: الحكمة في تضعيف الحسنات لئلا يصير العبد مفلسا إذا اجتمع مع خصمائة يوم القيامة فتدفع له واحدة من حسناته وتبقى له تسعة فمظالم العباد توفي من أصول حسناته ولا توفى من التضعيفات لأنها فضل الله تعالى فلا تتعلق بها العباد بل يدخرها إذا أدخله الجنة أثابه بهاومثله حديث كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به فإن معناه أنه لا يؤخذ في مظالم العباد بخلاف غيره من الأعمال بل إذا لم يبق إلا الصوم يتحمل الله عنه ما بقي من المظالم ويدخله الجنة ومما يبقى لصاحبه كثواب الصوم ما في عدة الحصن الحصين: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان للرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم من قالها مع أستغفر الله العظيم وأتوب إليه كتبت له كما قالها ثم علقت بالعرش لا يمحوها ذنب عمله صاحبها حتى يلقى الله يوم القيامة مختومة كما قالها"الرابع: الثواب المجازي به على الحسنة يجوز أن تضاعف أفراده قال القرطبي في شرح مسلم في حديث: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد كانت له عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحى عنه مائة سيئة وكانت له حرز من الشيطان بقية يومه ثم تضاعف كل حسنة من المائة بعشر" 1 وهو صريح فيم ذكرنا ومن هذا المعنى ما قاله الحطاب أن الصلاة في جماعة بمائتين وخمسين حسنة فإن كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبمائتي ألف وخمسين ألفا والله يضاعف لمن يشاءالخامس: قد قدمنا أن التضعيف من خصوصيات هذه الأمة وليست له غاية وإن كان له أقل"و" مما من الله به ويجب على كل مكلف اعتقاده أنه سبحانه وتعالى "صفح" أي عفا على جهة التفضل والكرم "لهم" أي عنهم أي جمع عباده ولو كفارا خلافا لما يوهمه ظاهر كلامه من قصره على المؤمنين بالتوبة وهي لغة الرجوع من تاب يتوب إذا رجع يستعمل فعلها بالتاء
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء حديث 2691
المثناة فوق وبالمثلثة وبالنون وبالهمز من أوله فيقال تاب وثاب وناب وأناب وآب إذا رجع ويسند إلى الله وإلى العبد قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] ثم تاب عليهم ليتوبوافإذا أسند إلى العبد أريد به رجوعه عن الزلة إلى الندم وإذا أسند إلى الله أريد به رجوع لطفه ونعمته إلى عبده وحقيقتها اصطلاحا وشرعا الندم على المعصية من حيث هو معصية مع عزم أن لا يعود إليها إذا قدر فمن ندم على شرب الخمر لما فيه من الصداع أو لإضاعة المال لم يكن تائبا وقولنا مع عزم أن لا يعود زيادة تقرير لأن النادم على الأمر لا يكون إلا كذلك ولذلك ورد في الحديث "الندم توبة" 1 وقولنا إذا قدر لأن من سلب القدرة على الزنا مثلا وانقطع طمعه من عود القدرة إليه فيكفي في توبته الندم على ما فعل وتصح توبته بإجماع المسلمين كما يفهم من كلام الآمدي وأما الندم لخوف النار أو للطمع في الجنة فهل يكون توبة فيه تردد مبني على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها مع غرض آخروالحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا تكون توبة كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين وجرى الخلاف في قبول التوبة عند المرض والظاهر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قبولها ما لم تظهر علامات الموت وحقيقة الندم تحزن وتوجع على الفعل وتمني كونه لم يقع وقال النووي التوبة ما استجمع ثلاثة شروط أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو رد المظالم إلى أهلها أو تحصيل البراءة منه وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم وإذا لم يرد المظالم مع الإمكان فصحح الإمام توبته مع الجمهوروقيل إنها لا تصح إلا برد المظالم إلى أهلها فإن عجز لفقده أو لغيبة صاحبها أو موته يبرأ بتصدقه به عنه إن أمكنه وإلا فعليه بتكثير حسناته والتضرع إليه أن يرضى عنه خصمه ومن القتل بتمكينه نفسه من القصاص. وفي الغيبة والشتم والتفكير والتبديع بتكذيب نفسه عنده إن لم يخش فتنة وقال مالك لا يشترط وعن الإسنوي في بعض كتبه وكذلك السنوسي في بعض مؤلفاته التوبة من الغصب
ـــــــ
1 صحيح: أخرجه ابن ماجة كتاب الزهد باب: ذكر التوبة حديث 4252, وأحمد 1/376, حديث 3568. وانظر صحيح الجامع 680.