كتاب : الجوهرة النيرة
المؤلف : أبو بكر بن علي بن محمد الحدادي العبادي اليمني
مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّحْوِيلِ وَالْحَقُّ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ تَبْقَى ذِمَّةُ الْأَوَّلِ فَارِغَةً ؛ لِأَنَّك إذَا حَوَّلْت الشَّيْءَ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بَقِيَ مَكَانُ الْأَوَّلِ فَارِغًا وَالْكَفَالَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكَفِيلِ وَهُوَ الضَّمُّ وَضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ لَا يُوجِبُ فَرَاغَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ ( وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَرْجِعُ ، وَإِنْ تَوَى قَوْلُهُ ( وَالْتَوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا ) أَيْ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ .
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحِيلِ وَلَا لِلْمُحَالِ لَهُ وَقَوْلُهُ أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا أَيْ لَمْ يَتْرُكْ عَيْنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا كَفِيلًا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحَالِ لَهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا ، وَقَالَ الْمُحِيلُ خِلَافَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ وَفِي غَيْرِ الْمَبْسُوطِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ) هَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِفْلَاسُ بِحُكْمِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ رِزْقَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَالِ الْحَوَالَةِ ، فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَلَا تَكُونُ الْحَوَالَةُ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِهِ .
قَوْلُهُ ( ، وَإِنْ طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ ، وَقَالَ إنَّمَا أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مَعَ يَمِينِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلَفْظَةُ الْحَوَالَةِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْأَلْفَ الْمَقْبُوضَةَ وَلَا يُصَدَّقُ الْمُحْتَالُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الدَّيْنِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحِيلُهُ لِيَسْتَوْفِيَ لَهُ الْمَالَ .
قَوْلُهُ ( وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ وَهُوَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ أَمْنَ خَطَرِ الطَّرِيقِ ) مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحَوَالَةِ أَنَّ الْحَوَالَةَ هِيَ النَّقْلُ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَقَلَ حَالَةَ التَّوَى مِنْ مَالِهِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْرِضْ لَكَانَ التَّوَى فِي مَالِهِ فَبِالْقَرْضِ يُحِيلُ التَّوَى إلَى مَالِ الْمُسْتَقْرِضِ كَذَا فِي الْمُشْكِلِ وَالسَّفَاتِجُ جَمْعُ سَفْتَجَةٍ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَهُوَ الْوَرَقَةُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ التَّاجِرُ أَقْرَضْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِشَرْطِ أَنْ تَكْتُبَ لِي كِتَابًا إلَى وَكِيلِك بِبَلَدِ كَذَا فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا إذَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَسَأَلَهُ ذَلِكَ فَفَعَلَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَ أَمْنُ خَطَرِ الطَّرِيقِ مَشْرُوطًا ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ نَفْعٍ اُسْتُفِيدَ بِالْقَرْضِ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الصُّلْحِ ) هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُصَالَحَةِ وَهِيَ الْمُسَالَمَةُ بَعْدَ الْمُخَالَفَةِ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ وُضِعَ بَيْنَ الْمُتَصَالِحِينَ لِدَفْعِ الْمُنَازَعَةِ بِالتَّرَاضِي يُحْمَلُ عَلَى عُقُودِ التَّصَرُّفَاتِ وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْمَوْضُوعَانِ لِلصُّلْحِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مَالًا أَوْ حَقًّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَالْقِصَاصِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ حَقًّا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدِّدُوا الْخُصُومَ لِكَيْ يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ الضَّغَائِنَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا } هُوَ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ وَقَوْلُهُ { أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } وَهُوَ الصُّلْحُ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَسْتَخْدِمَهُ .
وَفِي الْهِدَايَةِ الْحَرَامُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْحَرَامُ لِعَيْنِهِ كَالْخَمْرِ وَالْحَلَالُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْحَلَالُ لِعَيْنِهِ كَالصُّلْحِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الضَّرَّةَ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( الصُّلْحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ صُلْحٌ مَعَ إقْرَارٍ وَصُلْحٌ مَعَ سُكُوتٍ وَهُوَ أَنْ لَا يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُ وَصُلْحٌ مَعَ إنْكَارٍ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ ) أَمَّا مَعَ الْإِقْرَارِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } .
وَأَمَّا مَعَ السُّكُوتِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ السَّاكِتَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا فَإِذَا صَالَحَ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ .
وَأَمَّا مَعَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِقَطْعِ الدَّعْوَى وَالْمُخَاصَمَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ قَوْلُهُ ( فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ إنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِتَرَاضِيهِمَا فَتَجْرِي فِيهِ الشُّفْعَةُ إذَا كَانَ عَقَارًا وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطُ وَيُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ وَيُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الصُّلْحُ عَلَى عَيْنِ مَا يَدَّعِيهِ قَبْضٌ وَاسْتِيفَاءٌ وَعَلَى غَيْرِ مَا يَدَّعِيهِ بَيْعٌ وَشِرَاءٌ وَعَلَى أَقَلَّ مِمَّا يَدَّعِيهِ حَطٌّ وَإِبْرَاءٌ وَعَلَى أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِيهِ فَضْلٌ وَرِبَا ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى شَيْءٍ مَجْهُولٍ عَنْ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ لَا يَصِحُّ وَعَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ عَنْ مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ يَصِحُّ وَقَوْلُهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبِيَاعَاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَبَدَلُ الصُّلْحِ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَيُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنَافِعَ اُعْتُبِرَ بِالْإِجَارَاتِ ) لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فَيُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ فِيهَا وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةٌ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الِانْتِفَاعِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ رَجَعَ
الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ انْتَفَعَ بِنِصْفِ الْمُدَّةِ أَوْ ثُلُثِهَا بَطَلَ مِنْ دَعْوَاهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَرَجَعَ عَلَى دَعْوَاهُ فِيمَا بَقِيَ ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ جَعَلَهُ كَالْإِجَارَةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الصُّلْحُ مُخَالِفٌ لِلْإِجَارَةِ فَإِذَا مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَوْفِيَ الذِّمَّةَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمُدَّعِي لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ أَيْضًا فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَزِرَاعَةِ الْأَرْضِ وَيَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَيَبْطُلُ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَلَا يَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ قَالَ صَاحِبُ الْمَنْظُومَةِ فِي مَقَالَاتِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَقَالَ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ هَلَاكُ رَبِّ الْعَيْنِ غَيْرُ قَاطِعٍ كَذَاك مَوْتُ الْمُدَّعِي فِي الدَّارِ وَالْعَبْدِ لَا فِي الثَّوْبِ وَالْحِمَارِ ، وَإِنْ هَلَكَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَنْفَعَتِهِ أَوْ اُسْتُحِقَّ بَطَلَ الصُّلْحُ بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ ( وَالصُّلْحُ عَنْ السُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُدَّعَى عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ الْمَدْفُوعُ عِوَضًا عَنْهُ ، وَقَدْ لَزِمَتْهُ الْخُصُومَةُ فَجَازَ لَهُ الِافْتِدَاءُ مِنْهَا .
وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الَّذِي ادَّعَاهُ حَقٌّ وَأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ عِوَضُ حَقِّهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا صَالَحَ عَنْ دَارٍ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الشُّفْعَةُ ) يَعْنِي إذَا كَانَ عَنْ إنْكَارٍ أَوْ سُكُوتٍ وَصُورَتُهُ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا أَوْ عَقَارًا فَأَنْكَرَ أَوْ سَكَتَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ لَمْ تَجِبْ فِيهَا شُفْعَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَزَلْ عَلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا بِالصُّلْحِ ، وَإِنَّمَا دَفَعَ الْعِوَضَ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ وَلَهُ ذَلِكَ وَزَعْمُ الْمُدَّعِي لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ بِالدَّارِ عَيْبٌ لَا يَرْجِعُ بِأَرْشِهِ وَلَا يَرُدُّهَا ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا مِنْ جِهَتِهِ قَوْلُهُ ( وَإِذَا صَالَحَ عَلَى دَارٍ وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي يَأْخُذُهَا عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ وَمَنْ مَلَكَ دَارًا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ وَجَبَتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْحَقِّ الْمُدَّعَى ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ أَخَذَهَا عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ الْحَقِّ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الْأُخْرَى .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ فَاسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ رَجَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْعِوَضِ ) ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ إذَا كَانَ عَنْ إقْرَارٍ كَانَ مُعَاوَضَةً كَالْبَيْعِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَقَعَ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إنْكَارٍ فَاسْتُحِقَّ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ رَجَعَ الْمُدَّعِي بِالْخُصُومَةِ ) أَيْ مَعَ الْمُسْتَحَقِّ ( وَرَدَّ الْعِوَضَ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا بَدَّلَ الْعِوَضَ إلَّا لِدَفْعِ خُصُومَتِهِ عَنْهُ فَإِذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا خُصُومَةَ لَهُ فَقَدْ أَخَذَ عِوَضًا عَنْ غَيْرِ شَيْءٍ قَوْلُهُ ( وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ ذَلِكَ رَدَّ حِصَّتَهُ وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ لَمْ يُبَيِّنْهُ فَصُولِحَ عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الدَّارِ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا مِنْ الْعِوَضِ ) ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا بَقِيَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرَى الْعِوَضُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ فَيَرْجِعُ بِكُلِّهِ وَقَوْلُهُ حَقًّا فِي دَارٍ يَعْنِي حَقًّا فِي عَيْنِ الدَّارِ لَا حَقًّا لَهُ بِسَبَبِ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الشُّفْعَةِ لَا يَجُوزُ وَقَوْلُهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ أَيْ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ وَلَا إلَى جَانِبٍ مَعْلُومٍ كَالشَّرْقِيِّ أَوْ الْغَرْبِيِّ أَوْ الْقِبْلِيِّ فَإِنْ نَسَبَهُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الدَّارِ نُظِرَ إنْ بَقِيَ مِنْ الدَّارِ مِقْدَارُ الْمُشَاعِ أَوْ أَكْثَرُ فَلَا رُجُوعَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعِوَضِ ، وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْهُ قُسِّمَ الْعِوَضُ عَلَى جَمِيعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَمَا أَصَابَ الْمُسْتَحَقَّ رَدَّهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ وَقَوْلُهُ لَمْ يُبَيِّنْهُ فِيهِ إشَارَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمَجْهُولِ عَلَى مَعْلُومٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
قَوْلُهُ ( وَالصُّلْحُ جَائِزٌ فِي دَعْوَى الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ ) صُورَةُ دَعْوَى الْمَنَافِعِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى الْوَرَثَةِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ هَذَا الْعَبْدِ وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَحْفُوظَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى اسْتِئْجَارَ عَيْنٍ وَالْمَالِكُ يُنْكِرُ ثُمَّ تَصَالَحَا لَمْ يَجُزْ كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى قَوْلُهُ ( وَجِنَايَةُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ) إلَّا أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ حَيْثُ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى أَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ بِهَا إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ كَيْ لَا يَكُونَ افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِأَحَدِ مَقَادِيرِ الدِّيَةِ فَصَالَحَ عَلَى جِنْسٍ آخَرَ مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْحَقُّ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ مُبَادَلَةً بِخِلَافِ الصُّلْحِ ابْتِدَاءً قَالَ فِي الْكَرْخِيِّ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ مِائَةَ بَعِيرٍ فَصَالَحَ الْقَاتِلُ الْوَلِيَّ عَنْ الْمِائَةِ الْبَعِيرِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وَهِيَ عِنْدَهُ وَدَفَعَ ذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي عَيَّنَ الْوُجُوبَ فِي الْإِبِلِ فَإِذَا صَالَحَ عَلَى الْبَقَرِ فَالْبَقَرُ الْآنَ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ وَبَيْعُ الْإِبِلِ بِالْبَقَرِ جَائِزٌ ، وَإِنْ صَالَحَ عَنْ الْإِبِلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا صَالَحَ عَنْهَا بِكَيْلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مُؤَجَّلٍ فَقَدْ عَاوَضَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَلَا يَجُوزُ ، وَإِنْ صَالَحَ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى مِثْلِ قِيمَةِ الْإِبِلِ أَوْ أَكْثَرَ بِمَا يُتَغَابَنُ فِيهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ
غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُتَغَابَنُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَجُوزُ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ فِي دَعْوَى حَدٍّ ) ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ لَا حَقُّهُ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ نَسَبَ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْوَلَدِ لَا حَقُّهَا وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ فِي سَرِقَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ زِنًا أَمَّا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ فَلِأَنَّ الْحَدَّ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا خِلَافٍ .
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ أَيْضًا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ إلَى الْقَاضِي لَا يَجِبُ بَدَلُ الصُّلْحِ وَيَسْقُطُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ الدَّعْوَى ، وَإِنْ صَالَحَ فِيهِ بَعْدَ التَّرَافُعِ لَا يَجِبُ الْبَدَلُ وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ كَذَا فِي الْمُشْكِلِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ تَجْحَدُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ لَهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ وَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ ) ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهَا ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَوْلُهُ جَازَ يَعْنِي فِي الْقَضَاءِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا كَانَ كَاذِبًا .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ نِكَاحًا عَلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهَا لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهَا الْمَالَ لِتَرْكِ الدَّعْوَى فَإِنْ جُعِلَ تَرْكُ الدَّعْوَى مِنْهَا فُرْقَةً فَالزَّوْجُ لَا يُعْطَى الْعِوَضَ فِي الْفُرْقَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ فُرْقَةً فَلَا شَيْءَ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ الَّذِي بَذَلَهُ لَهَا فَلَا يَصِحُّ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَجُوزُ وَيُجْعَلُ الْمَالُ الَّذِي بَذَلَهُ لَهَا زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ أَعْطَاهُ إيَّاهُ جَازَ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَجْهُولَ النَّسَبِ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ قَوْلُهُ ( وَكَانَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فِي مَعْنَى الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ ) ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ الرِّقِّ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَفِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ الْخُصُومَةَ وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ وَلِهَذَا يَصِحُّ عَلَى حَيَوَانٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِإِنْكَارِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَيُقْبَلُ وَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ .
قَوْلُهُ ( وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ عَقْدُ الصُّلْحِ وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ إلَخْ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا ( وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَأَسْقَطَ بَاقِيَهُ ) ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ أَوْ ادَّعَى عَيْنًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ جَازَ وَيُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَقَوْلُهُ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ يَعْنِي أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الصُّلْحَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُدَايَنَةُ الْبَيْعُ بِالدَّيْنِ ، وَإِنَّمَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُدَايَنَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْغَصْبِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ قَوْلُهُ ( كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ حَقِّهِ ) وَقَبْضُ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ حَطَطْت عَنْك خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي خَمْسَمِائَةٍ فَالْحَطُّ جَائِزٌ ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ مِنْ جِهَةِ الْقَدْرِ وَلَكِنَّهُ أَزْيَدُ مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفٌ نَبَهْرَجَةٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ جَيِّدَةٍ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُعَاوَضَةَ الْجَوْدَةِ بِمَا حَطَّ فَيَكُونُ اصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ اصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ جَازَ الصُّلْحُ قَوْلُهُ ( وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ جَازَ وَكَأَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ ، وَقَدْ أَخَذَ مِثْلَ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَنْ أَجَّلَ دِينَهُ الْحَالَّ
وَلِذَا حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ أَجَّلَ نَفْسَ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةً ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِمِثْلِهَا نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ قَوْلُهُ ( وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى التَّأْخِيرِ وَلَا وَجْهَ لَهُ سِوَى الْمُعَاوَضَةِ وَبَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً لَا يَجُوزُ فَكَذَا لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ .
قَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ مُؤَجَّلَةٌ جِيَادٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤَجَّلِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَيَكُونُ بِإِزَاءِ مَا حَطَّ عَنْهُ وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ حَرَامٌ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفٌ ، فَقَالَ مَتَى أَدَّيْتَ إلَى خَمْسِمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْبَاقِي فَأَدَّى خَمْسَمِائَةٍ فَأَبَى الطَّالِبُ أَنْ يَفِيَ لَهُ بِذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَبْرَأُ مِمَّا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بَرَاءَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطٍ وَبَرَاءَةُ صَاحِبِ الْأَصْلِ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ كَذَا فِي الْكَرْخِيِّ ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِزَوْجِهَا فِي مَهْرِهَا وَالرَّجُلُ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِمُكَاتَبِهِ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ مُكَاتَبَتِك ثُمَّ أَبَى أَنْ يَفِيَ بَعْدَمَا أَدَّى فَذَلِكَ لَهُ وَلَا تَجُوزُ الْبَرَاءَةُ .
وَفِي الْهِدَايَةِ مَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفٌ ، فَقَالَ لَهُ أَدِّ إلَيَّ غَدًا مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّك بَرِيءٌ مِنْ الْفَضْلِ فَهُوَ بَرِيءٌ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا عَادَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مُطْلَقٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ أَدَاءَ الْخَمْسِمِائَةِ عِوَضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ عَلَى وَهِيَ لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْأَدَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَجَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ فَبَقِيَ الْإِبْرَاءُ مُطْلَقًا فَلَا يَعُودُ كَمَا لَوْ بَدَأَ بِالْإِبْرَاءِ وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ فَيَفُوتُ بِفَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِأَدَاءِ الْخَمْسِمِائَةِ فِي الْغَدِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لَهُ حَذَارِ إفْلَاسِهِ أَوْ تَوَسُّلًا إلَى تِجَارَةٍ أَرْبَحَ مِنْهُ وَكَلِمَةُ عَلَى وَإِنْ كَانَتْ
لِلْمُعَاوَضَةِ فَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلشَّرْطِ .
وَأَمَّا إذَا بَدَأَ بِالْبَرَاءَةِ ، فَقَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْخَمْسَمِائَةِ غَدًا فَالْإِبْرَاءُ فِيهِ وَاقِعٌ أَعْطَى الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعْطِ ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ أَوَّلًا وَأَدَاءُ الْخَمْسِمِائَةِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا مُطْلَقًا وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَقْيِيدِهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِهِ قَوْلُهُ ( وَلَوْ كَانَ لَهُ أَلْفٌ سُودٌ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّ الْبِيضَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ وَهِيَ زَائِدَةٌ وَصْفًا فَتَكُونُ مُعَاوَضَةُ الْأَلْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ سُودٍ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ وَهُوَ رِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى الْأَلْفِ الْبِيضِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ سُودٍ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ كُلِّهِ قَدْرًا وَوَصْفًا وَبِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ أَجْوَدُ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالصِّفَةِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ نَبَهْرَجَةٌ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ جَازَ وَيَكُونُ الْقَبْضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ فَيَكُونُ صَرْفًا .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا لِيُصَالِحَ عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ وَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ ) يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا عَنْ الْمُوَكِّلِ أَوْ مُعَبِّرًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ أَمَّا إذَا وَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ بِأَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَيْهِ عُرُوضًا أَوْ عَقَارًا أَوْ نَحْوَهُمَا فَوَكَّلَهُ بِالصُّلْحِ عَنْهُ عَلَى مَالٍ فَإِنَّ الْمَالَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ هُنَا عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ وَيَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الْوَكِيلُ بِالصُّلْحِ إذَا ضَمِنَ الْمَالَ رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَجُعِلَ الْأَمْرُ بِالصُّلْحِ أَمْرًا بِالضَّمَانِ ، وَكَذَا إذَا أَمَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِأَنْ يُخَالِعَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَفَعَلَ يَعُودُ عَلَيْهَا وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالْخُلْعِ أَمْرًا بِالضَّمَانِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ إذَا ضَمِنَ الْمَهْرَ لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُلْعَ يَجُوزُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ فُضُولِيًّا لَوْ قَالَ لِلزَّوْجِ اخْلَعْ امْرَأَتَك عَلَى مِائَةٍ مِنْ مَالِي فَخَلَعَهَا جَازَ فَلَمَّا كَانَ يَجُوزُ فَفَائِدَةُ أَمْرِهَا الرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِالضَّمَانِ ، وَكَذَا الْأَمْرُ بِالصُّلْحِ أَمْرٌ بِالضَّمَانِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالنِّكَاحُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرَّجُلِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَفَائِدَةُ أَمْرِهِ جَوَازُ النِّكَاحِ لَا ثُبُوتُ الرُّجُوعِ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُؤَاخَذٌ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا بِعَقْدِ الصَّرْفِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ صَالَحَ عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إنْ صَالَحَ بِمَالٍ وَضَمِنَهُ تَمَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَهُ الْمَالُ ) يُرِيدُ بِهِ أَنْ يَقُولَ صَالِحْنِي مِنْ دَعْوَاك مَعَ فُلَانٍ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ بِهَا أَوْ قَالَ بِأَلْفٍ مِنْ مَالِي أَوْ بِأَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَلْفِي هَذِهِ فَإِذَا فَعَلَ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمُدَّعِي ، وَإِنَّمَا لَهُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ قَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفِي هَذِهِ أَوْ عَلَى عَبْدِي هَذَا تَمَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ ، وَهَذَا وَجْهٌ ثَانٍ قَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفٍ وَسَلَّمَهَا ) ، وَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْعِوَضِ لَهُ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ قَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفٍ وَسَكَتَ فَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَازَ وَلَزِمَهُ أَلْفٌ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ ) ، وَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ ، وَإِنَّمَا وَقَفَ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ تَبَرَّعَ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَطْلُوبُ لَزِمَهُ الْمَالُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ وَذَكَرَ الْخُجَنْدِيُّ وَجْهًا خَامِسًا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَالِحْنِي مِنْ دَعْوَاك عَلَى فُلَانٍ بِإِضَافَةِ الصُّلْحِ إلَى نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَضَافَهُ إلَى الْمَالِ فَيَجُوزُ وَبَدَلُ الصُّلْحِ عَلَى الْمُصَالِحِ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَبِيلٌ وَيَرْجِعُ الْمُصَالِحُ بِمَا ضَمِنَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِالضَّمَانِ أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ صَالَحْتُك عَلَى هَذَا
الْأَلْفِ أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهُ لِلتَّسْلِيمِ صَارَ شَارِطًا سَلَامَتَهُ فَيَتِمُّ بِقَبُولِهِ فَلَوْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُصَالِحِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِيفَاءَ مِنْ مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا سِوَاهُ فَإِنْ سَلِمَ الْمَحَلُّ تَمَّ الصُّلْحُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا عَنْ نَصِيبِهِ عَلَى ثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَبِعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِنِصْفِهِ ) الْأَصْلُ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا كَانَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَمَتَى قَبَضَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْهُ فَإِنَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَلَكِنَّهُ قَبْلَ الْمُشَارَكَةِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْقَابِضِ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ وَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ حِصَّتَهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ أَحَدِهِمَا قَسَّمْنَا الدَّيْنَ حَالَ كَوْنِهِ فِي الذِّمَّةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُمَيِّزُ الْحُقُوقَ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِيمَا فِي الذِّمَّةِ وَإِذَا لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ صَارَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الْحَقَّيْنِ وَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبٍ مُتَّحِدٍ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَثَمَنِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَالْمَوْرُوثِ بَيْنَهُمَا وَقِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُشْتَرَكِ فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا نَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ قَبَضَ نَصِيبَهُ لَكِنْ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْقَابِضِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ الثَّوْبِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ فِيهِ قَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَرِيكُهُ رُبُعَ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ نِصْفَ الثَّوْبِ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَى غَرِيمِهِ فَتَوَى الْمَالُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرَكًا فَإِنْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ كَذَا فِي شَرْحِهِ .
وَفِي الْهِدَايَةِ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا
بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا يَصِيرُ مُؤَجَّلًا وَنَصِيبَ الْآخَرِ مُعَجَّلًا فَيَتَمَيَّزُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَقِسْمَةُ الدَّيْنِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي تَأْخِيرِ أَحَدِهِمَا لِنَصِيبِهِ إسْقَاطُ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ فَصَارَ كَالْبَرَاءَةِ وَالْهِبَةِ قَوْلُهُ ( وَلَوْ اسْتَوْفَى نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيمَا قَبَضَ ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْغَرِيمِ بِالْبَاقِي ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ صَارَ مُشْتَرَكًا فَهُوَ مِنْ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا قَوْلُهُ ( وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ سِلْعَةً كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبُعَ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا حَقَّهُ بِالْمُقَاصَّةِ كَمُلًا ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْبَيْعِ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالْحَطِيطَةِ فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ دَفْعَ رُبُعِ الدَّيْنِ فِي الصُّلْحِ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتَخَيَّرُ الْقَابِضُ فِي الصُّلْحِ وَقَوْلُهُ ( كَانَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ رُبُعَ الدَّيْنِ ) هَذَا إذَا كَانَ ثَمَنُ السِّلْعَةِ مِثْلَ نِصْفِ الدَّيْنِ وَلَا سَبِيلَ لِلشَّرِيكِ عَلَى الثَّوْبِ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدِهِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِالْمُقَاصَّةِ بَيْنَ ثَمَنِهِ وَبَيْنَ الدَّيْنِ وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَتَّبِعَ الْغَرِيمَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّتِهِ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ حَقِيقَةً لَكِنْ لَهُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ وَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا ) ( كَانَ السَّلَمُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ) أَيْ الْمُسْلَمُ فِيهِ ( فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ) ( لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ الصُّلْحُ ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ وَبِمَا إذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَلَهُمَا أَنَّهُ لَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً يَكُونُ قَسْمُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِمَا لَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ عَلَى شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي نُسْخَةٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَفِي نُسْخَةٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ وَرَثَةٍ فَأَخْرَجُوا أَحَدَهُمْ عَنْهَا بِمَالٍ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا جَازَ قَلِيلًا كَانَ مَا أَعْطَوْهُ أَوْ كَثِيرًا ) ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا وَفِيهِ أَثَرُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ صَالَحَ تُمَاضِرَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ رُبُعِ ثُمُنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ قَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ فِضَّةً فَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا أَوْ ذَهَبًا فَأَعْطَوْهُ فِضَّةً فَهُوَ جَائِزٌ ) وَيُعْتَبَرُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالصَّرْفِ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ ذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ فَصَالَحُوهُ عَلَى فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْمِيرَاثِ ) احْتِرَازًا عَنْ الرِّبَا وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِيمَا يُقَابِلُ نَصِيبَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَدَلُ الصَّرْفِ عَرْضًا جَازَ مُطْلَقًا لِعَدَمِ الرِّبَا وَقَوْلُهُ ( فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ ) إنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى مِثْلِ نَصِيبِهِ أَوْ أَقَلَّ حَالَ التَّصَادُقِ أَمَّا إذَا كَانُوا جَاحِدِينَ أَنَّهَا امْرَأَةُ الْمَيِّتِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْطَى إنَّمَا هُوَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ لَا لِلْمُعَاوَضَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَهَبًا فَصَالَحُوا عَنْهُ بِذَهَبٍ أَقَلَّ مِنْهُ جَازَ قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ فَأَدْخَلُوهُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا الْمُصَالِحَ عَنْهُ وَيَكُونَ الدَّيْنُ لَهُمْ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ) الْمُصَالِحُ بِكَسْرِ اللَّامِ ، وَالضَّمِيرُ فِي عَنْهُ رَاجِعٌ إلَى الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَهُوَ حِصَّةُ الْمُصَالِحِ وَقَوْلُهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ أَيْ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ شَرَطُوا
أَنْ يَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ مِنْهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِنَصِيبِ الْمُصَالِحِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ أَوْ هُوَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَهَذِهِ حِيلَةُ الْجَوَازِ وَحِيلَةٌ أُخْرَى أَنْ يُعَجِّلُوا قَضَاءَ نَصِيبِهِ مُتَبَرِّعِينَ وَفِي الْوَجْهَيْنِ ضَرَرٌ بِهِمْ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقْرِضُوا الْمُصَالِحَ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ وَيُصَالِحُوهُ عَمَّا وَرَاءَ الدَّيْنِ وَيُحِيلُهُمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ .
( كِتَابُ الْهِبَةِ ) الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ هِيَ التَّبَرُّعُ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } أَيْ هَنِيئًا لَا إثْمَ فِيهِ مَرِيئًا لَا مَلَامَةَ فِيهِ وَقِيلَ الْهَنِيءُ الطَّيِّبُ الْمَسَاغِ الَّذِي لَا يُنَغِّصُهُ شَيْءٌ وَالْمَرِيءُ الْمَحْمُودُ الْعَاقِبَةِ الَّذِي لَا يَضُرُّ وَلَا يُؤْذِي وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْهِبَةُ تَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ) إنَّمَا قَالَ تَصِحُّ وَفِي الْبَيْعِ يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمَوْهُوبُ لَهُ حَنِثَ أَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ لَا يَحْنَثُ فَلِهَذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ يَنْعَقِدُ فِي الْبَيْعِ قَوْلُهُ ( وَتَتِمُّ بِالْقَبْضِ ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ قَالَ فِي الْيَنَابِيعِ الْقَبْضُ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُولِ حَتَّى إنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ وَهَبْت لَك عَبْدِي هَذَا وَالْعَبْدُ حَاضِرٌ فَقَبَضَهُ جَازَ إنْ لَمْ يَقُلْ قَبِلْت ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ غَائِبًا ، فَقَالَ وَهَبْته مِنْك فَاذْهَبْ فَاقْبِضْهُ وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْت فَذَهَبَ وَقَبَضَهُ جَازَ ، وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ الْغَرِيمِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ .
وَقَالَ زُفَرُ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ فَإِنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ دَيْنًا عَلَى آخَرَ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ مِنْهُ فَقَبَضَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَفِي شَرْحِهِ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَوَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ
مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ إسْقَاطٌ لَهُ وَبَرَاءَةٌ مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ عَيْنٌ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا ، وَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُجِيبًا لَهُ لَا أَقْبَلُهَا فَالدَّيْنُ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ لِلْهِبَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَائِبًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِالْهِبَةِ حَتَّى مَاتَ جَازَتْ الْهِبَةُ وَبَرِئَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَنْفَرِدُ بِالْوَاحِدِ فَتَتِمُّ بِالْإِيجَابِ ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِالرَّدِّ ، وَقَدْ فَاتَ الرَّدُّ فَبَقِيَتْ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ قَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَاهِبِ جَازَ ) ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ كَمَا أَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمُوجِبِ بَعْدَ الْإِيجَابِ فَكَذَا الْهِبَةُ قَوْلُهُ ( وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ ) أَمَّا إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فَلِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ لَا بَعْدَهُ فَإِذَا قَبَضَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ قَبِلَ بَعْدَ الْمَجْلِسِ .
وَأَمَّا إذَا أَذِنَ لَهُ فَالْإِذْنُ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيطُ يَبْقَى بَعْدَ الْمَجْلِسِ كَالتَّوْكِيلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مَوْجُودًا فِي الْمَجْلِسِ ، فَقَالَ لَهُ قَدْ خَلَّيْت بَيْنَك وَبَيْنَهُ فَاقْبِضْ وَانْصَرَفَ الْوَاهِبُ وَقَبَضَهُ بَعْدَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ لَا يَبْطُلُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى عَزَلَهُ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَمَّا إذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَلِأَنَّ بِمَوْتِهِ زَالَ مِلْكُهُ وَفَاتَ تَسْلِيطُهُ كَالْمُوَكِّلِ .
وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْرُوثًا عَنْهُ وَلِهَذَا قَالُوا إنَّ الْهِبَةَ مَا لَمْ تُقْبَضْ فَهِيَ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ رَجَعَ فِيهَا قَبْلَ قَبْضِهَا صَحَّ رُجُوعُهُ ، وَلَوْ وَهَبَ لِلْعَبْدِ هِبَةً فَالْقَبُولُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمَوْلَى لَهُ وَلَا قَبْضُهُ لَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يَكُونُ هَذَا كَالْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْعَبْدِ لَا يَسْتَقِرُّ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ ، وَلَوْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْهِبَةَ وَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْلَى صَحَّتْ ، وَلَوْ رَدَّهَا الْعَبْدُ وَقَبِلَهَا الْمَوْلَى لَمْ تَصِحَّ وَلَا يَجُوزُ
قَبْضُ الْمَوْلَى وَلَا قَبُولُهُ لِمَا وُهِبَ لِلْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
قَوْلُهُ ( وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْتُك وَنَحَلْتُك وَأَعْطَيْتُك وَأَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلَتْ هَذَا الشَّيْءَ لَك ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْإِطْعَامُ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَإِنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ قَوْلُهُ ( وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا نَوَى بِالْحُمْلَانِ الْهِبَةَ ) ، وَإِنْ نَوَى الْعَارِيَّةَ كَانَتْ عَارِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُهُمَا ، وَإِنْ قَالَ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ كَانَ هِبَةً ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } ، وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً قَالَ فِي الْكَرْخِيِّ إذَا مَنَحَهُ بَعِيرًا أَوْ شَاةً أَوْ ثَوْبًا أَوْ دَارًا فَهِيَ عَارِيَّةٌ ، وَإِنْ مَنَحَهُ طَعَامًا أَوْ لَبَنًا أَوْ دَرَاهِمَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا هِبَةٌ وَالْأُخْرَى قَرْضٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِلسُّكْنَى أَوْ لِلُّبْسِ أَوْ لِلرُّكُوبِ فَهُوَ عَارِيَّةٌ وَكُلُّ مَا لَا يُنْتَفَعُ إلَّا بِأَكْلِهِ أَوْ اسْتِهْلَاكِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
قَوْلُهُ ( وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقْسَمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً ) ، وَكَذَا الصَّدَقَةُ وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ يَعْنِي إذَا وُهِبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَا يَجُوزُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا تَجُوزُ أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا وَقَعَتْ جَائِزَةً لَكِنْ غَيْرَ مُثْبِتَةٍ لِلْمِلْكِ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا مَحُوزَةً فَإِنَّهُ لَوْ قَسَّمَهَا وَسَلَّمَهَا مَقْسُومَةً صَحَّتْ قَوْلُهُ ( وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِي مَا لَا يُقْسَمُ جَائِزَةٌ ) كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِشَاعَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْهِبَةِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ لَوْ رَهَنَ مُشَاعًا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ وُهِبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّهُ يُحْتَاجُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى أُصُولٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَبَيْنَ مَا لَا يَحْتَمِلُهَا وَالثَّانِي الشُّيُوعُ الْمُفْسِدُ هَلْ هُوَ الْمُقَارِنُ أَوْ الطَّارِئُ وَالثَّالِثُ بَيَانُ الْعِبْرَةِ فِي الشُّيُوعِ هَلْ هُوَ لِوَقْتِ الْقَبْضِ أَوْ لِوَقْتِ الْهِبَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ إذَا وُهِبَ لَهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ صَحِيحٍ أَوْ نِصْفَ مِثْقَالٍ صَحِيحٍ يَجُوزُ هُوَ الصَّحِيحُ وَجُعِلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ تَبْعِيضَهُ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُفْسِدُ هُوَ الشُّيُوعُ الْمُقَارِنُ دُونَ الطَّارِئِ حَتَّى إنَّ مَنْ وَهَبَ هِبَةً ثُمَّ رَجَعَ فِي بَعْضِهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا كَذَا فِي شَاهَانْ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ إذَا وَهَبَ لَهُ دَارًا فَقَبَضَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا بَطَلَتْ الْهِبَةُ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الشُّيُوعِ لِوَقْتِ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ لَهُ نِصْفَ دَارٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى وَهَبَ لَهُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ جَازَ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقْسَمُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } فَيُشْتَرَطُ كَمَالُ الْقَبْضِ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْهُوبٍ وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ الْقِسْمَةُ .
وَقَوْلُهُ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ أَيْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فَلَوْ أَنَّهُ وَهَبَ مُشَاعًا فِيمَا يُقْسَمُ وَسَلَّمَهُ عَلَى الْفَسَادِ هَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَيَقَعُ مَضْمُونًا كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَمْ لَا ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَيَجِبُ الضَّمَانُ قَوْلُهُ ( فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ ، وَلَوْ وَهَبَ شَيْئًا مُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ
الْفَصْلُ وَالتَّمْيِيزُ ، وَالْقَبْضُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ حِينَئِذٍ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا مِثْلُ أَنْ يَهَبَ ثَمَرًا عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ فَإِنْ مَيَّزَهُ وَفَصَلَهُ وَأَقْبَضَهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ فَإِنْ فَصَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ كَانَ الْفَصْلُ وَالْقَبْضُ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ الْأَشْجَارَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ ، وَلَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعٌ لِلْوَاهِبِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهِ أَوْ سَلَّمَهَا مَعَ الْمَتَاعِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَشْغُولَةٌ بِالْمَتَاعِ وَالْفَرَاغُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّسْلِيمِ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُودِعَ الْمَتَاعَ أَوَّلًا عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ثُمَّ يُسَلِّمَ الدَّارَ إلَيْهِ فَيَصِحَّ ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَتَاعٍ هُوَ فِي يَدِهِ وَبِعَكْسِهِ لَوْ وَهَبَ الْمَتَاعَ دُونَ الدَّارِ وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْمَتَاعَ لَا يَكُونُ مَشْغُولًا ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ الدَّارَ وَالْمَتَاعَ جَمِيعًا وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا صَحَّ فِيهِمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَسَلَّمَ ثُمَّ وَهَبَ الْآخَرَ وَسَلَّمَ إنْ قَدَّمَ هِبَةَ الدَّارِ فَالْهِبَةُ فِيهَا لَا تَصِحُّ وَفِي الْمَتَاعِ تَصِحُّ ، وَإِنْ قَدَّمَ هِبَةَ الْمَتَاعِ صَحَّ فِيهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ وَقْتَ تَسْلِيمِهَا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا يَمْنَعُ الْقَبْضَ .
قَوْلُهُ ( وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ فَإِنْ طَحَنَ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلًا فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ بِخِلَافِ الْمُشَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشَاعِ وَبَيْعُ الدَّقِيقِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَذَا هِبَتُهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَهِبَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فِي الْأَرْضِ وَالثَّمَرِ فِي النَّخْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ كَالشَّائِعِ فَإِنْ أَذِنَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْقَطْعِ وَالْقَبْضِ جَازَ وَجَعَلَ فِي الْكَرْخِيِّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ قَالَ فِيهِ ، وَلَوْ وَهَبَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهِ أَوْ مَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ أَوْ عِنْدَ اسْتِخْرَاجِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَلَا تَجُوزُ هِبَتُهُ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَالَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هِبَةُ الْمُشَاعِ إذَا قُسِّمَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ .
قَوْلُهُ ( ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا ) ؛ لِأَنَّهَا فِي قَبْضِهِ وَالْقَبْضُ هُوَ الشَّرْطُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَجَانَسَ الْقَبْضَانِ نَابَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَإِذَا اخْتَلَفَا نَابَ الْمَضْمُونُ عَنْ غَيْرِ الْمَضْمُونِ وَلَا يَنُوبُ غَيْرُ الْمَضْمُونِ عَنْ الْمَضْمُونِ بَيَانُهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ مَغْصُوبًا فِي يَدِهِ أَوْ مَقْبُوضًا بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ بَيْعًا صَحِيحًا جَازَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ لِاتِّفَاقِ الْقَبْضَيْنِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً فَوَهَبَهُ لَهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ لِاتِّفَاقِهِمَا ؛ لِأَنَّ كِلَاهُمَا أَمَانَةٌ ، وَلَوْ كَانَ مَغْصُوبًا فِي يَدِهِ أَوْ مَقْبُوضًا بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَوَهَبَهُ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً فَبَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ الْمَضْمُونِ وَقَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا يَعْنِي إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً أَوْ مَغْصُوبَةً أَوْ مَقْبُوضَةً بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَمَّا إذَا كَانَتْ رَهْنًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ ) ؛ لِأَنَّهَا فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ مُودَعِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ وَيَنْبَغِي لِلْأَبِ أَنْ يُعْلِمَ أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ أَوْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَجْحَدَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ زَوَالُ مِلْكِهِ إلَّا بِذَلِكَ قَوْلُهُ ( فَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا فَقَبَضَهُ لَهُ أَجْنَبِيٌّ إنْ كَانَ يَعُولُهُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْقَابِضُ لَهُ أَخًا أَوْ عَمًّا أَوْ خَالًا فَالْقَبْضُ لِمَنْ يَعُولُهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَإِنْ دَفَعَهَا الْوَاهِبُ إلَى الصَّبِيِّ إنْ كَانَ يَعْقِلُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ وَهَبَ لِلصَّغِيرَةِ هِبَةً وَلَهَا زَوْجٌ إنْ كَانَتْ قَدْ زُفَّتْ إلَيْهِ جَازَ قَبْضُهُ لَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُزَفَّ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا نَقَلَهَا مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَقَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا وَحِفْظِ مَالِهَا وَقَبْضُ الْهِبَةِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ وَلَكِنْ بِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ وِلَايَةُ الْأَبِ حَتَّى إذَا قَبَضَ لَهَا الْأَبُ صَحَّ .
وَإِنْ قَبَضَتْ هِيَ لِنَفْسِهَا صَحَّ إذَا كَانَتْ تَعْقِلُ وَيَمْلِكُ الزَّوْجُ الْقَبْضَ لَهَا مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ وَمَعَ حُضُورِ الْأَبِ لَا ضَرُورَةَ ، وَإِنْ أَدْرَكَتْ لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الْأَبِ وَلَا الزَّوْجِ عَلَيْهَا إلَّا بِإِذْنِهَا ؛
لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا قَوْلُهُ ( وَإِذَا وُهِبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةٌ فَقَبَضَهَا لَهُ وَلِيّه جَازَ ) وَهُوَ وَصِيُّ أَبِيهِ أَوْ جَدُّهُ أَوْ وَصِيُّ جَدِّهِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي قَالَ فِي النِّهَايَةِ لَا يَجُوزُ قَبْضُ الْهِبَةِ لِلصَّغِيرِ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ وَهُمْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ أَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَقَارِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ يَعُولُهُ كَالْأَجْنَبِيِّ قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ فِيمَا تَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً قَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِهِ ، وَهَذَا مَعَ عَدَمِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَجْنَبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَأَعْلَمَهَا وَأَبَانَهَا جَازَ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ لِنَفْسِهِ جَازَ ) يَعْنِي إذَا كَانَ يَعْقِلُ ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ فِي حَقِّهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَهَبَ اثْنَانِ لِوَاحِدٍ دَارًا جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً وَهُوَ قَبَضَهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَلَا شُيُوعَ قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَهَبَهَا وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَصِحُّ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ مِنْهُمَا إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقْسَمُ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ وَهُوَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ ثُمَّ إذَا كَانَتْ لَا تَجُوزُ لَوْ قَسَّمَ وَسَلَّمَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ جَازَ .
وَقَالَ زُفَرُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الِابْتِدَاءِ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا إلَّا بِالِاسْتِئْنَافِ ، وَإِنْ قَالَ وَهَبْتهَا لَكُمَا لِأَحَدِكُمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ ، وَإِنْ قَالَ وَهَبْتهَا مِنْكُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِيَةُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَأَمَّا إذَا وَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ شَيْئًا لَا يَنْقَسِمُ كَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجْمَاعًا هَذَا كُلُّهُ حُكْمُ الْهِبَةِ .
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرَيْنِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا جَازَ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَنِيَّيْنِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا لَمْ يَجُزْ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِلْغَنِيَّيْنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ كِلَاهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ
فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ ، فَقَالَ الصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْهِبَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ وَهُمَا اثْنَانِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ وَالْهِبَةُ لِلْفَقِيرِ صَدَقَةٌ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ إذَا وَهَبَ مِنْ اثْنَيْنِ إنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ كَالصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ تَقَعُ لِوَاحِدٍ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ .
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيَّيْنِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ } ، وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ قَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا ) فَإِذَا عَوَّضَهُ سَقَطَ الرُّجُوعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ عَنْهَا } أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ عَنْهَا وَلِأَنَّهُ إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ بَدَلَهَا فَلَا يَرْجِعُ كَالْبَيْعِ وَيُعْتَبَرُ فِي الْعِوَضِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْهِبَةِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَعَدَمِ الْإِشَاعَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الْهِبَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا وَسَوَاءٌ دَفَعَ الْعِوَضَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَصُورَتُهُ أَنْ يَذْكُرَ لَفْظًا يَعْلَمُ الْوَاهِبُ أَنَّهُ عِوَضُ هِبَتِهِ بِأَنْ يَقُولَ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ مُكَافَأَةً عَنْهَا أَوْ بَدَلَهَا أَوْ فِي مُقَابَلَتِهَا أَوْ مُجَازَاةً عَلَيْهَا أَوْ ثَوَابَهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عِوَضٌ فِي هَذَا كُلِّهِ إذَا سَلَّمَهُ وَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ أَمَّا لَوْ وَهَبَ لَهُ هِبَةً وَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ هِبَتِهِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إذَا لَمْ يَحْدُثْ فِي الْمَوْهُوبِ مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَلَيْسَ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ سُقُوطُ الرُّجُوعِ ، وَإِنْ عَوَّضَهُ عَنْ نِصْفِ الْهِبَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ وَلَا يَرْجِعُ فِي الَّذِي عَوَّضَهُ عَنْهُ ، وَإِنْ عَوَّضَهُ بَعْضَ مَا وَهَبَ لَهُ عَنْ بَاقِيهَا لَمْ يَكُنْ عِوَضًا كَمَا إذَا وَهَبَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَوَّضَهُ دِرْهَمًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عِوَضًا وَكَانَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي الْمِائَةِ .
وَكَذَا إذَا وَهَبَهُ دَارًا وَعَوَّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا ، وَقَالَ زُفَرُ يَكُونُ عِوَضًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَدْ تَمَّ فِي الْهِبَةِ وَالْتَحَقَ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ
وَسَائِرُ أَمْوَالِهِ تَصِحُّ عِوَضًا فَكَذَا هَذَا إلَّا أَنَّا نَقُولُ مَقْصُودُ الْوَاهِبِ بِهَذَا لَمْ يَحْصُلْ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَهَبْ مِائَةً فِي تَحْصِيلِ دِرْهَمٍ مِنْهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا كَانَتْ كُلُّهَا فِي يَدِهِ قَالَ فِي شَرْحِهِ إذَا وَهَبَ لَهُ جَارِيَتَيْنِ فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَوَّضَهُ الْوَلَدَ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ مَا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ فَصَارَ ذَلِكَ عِوَضًا فَمُنِعَ الرُّجُوعُ قَوْلُهُ ( أَوْ يَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ) بِأَنْ كَانَتْ جَارِيَةً هَزِيلَةً فَسَمِنَتْ أَوْ دَارًا فَبَنَى فِيهَا أَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ أَوْ قَطَّعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا فَإِنَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَا رُجُوعَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَى الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَا مَعَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعَقْدِ ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَبْلَ انْفِصَالِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِزِيَادَةٍ لَمْ تَكُنْ مَوْهُوبَةً ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً حَامِلًا أَوْ بَهِيمَةً حَامِلًا فَرَجَعَ فِيهَا قَبْلَ الْوَضْعِ إنْ كَانَ رُجُوعُهُ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُعْلَمُ فِيهَا زِيَادَةُ الْحَمْلِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا .
وَإِنْ وَهَبَ لَهُ بَيْضًا فَصَارَ فَرُّوخًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَا لَمْ تَحْبَلْ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا رُجُوعَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِوَطْئِهِ حُكْمٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاهِبَ لَوْ كَانَ أَبًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ وَقَيَّدَ بِالزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا انْتَقَصَتْ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَرْشُ النُّقْصَانِ وَقَيَّدَ بِالْمُتَّصِلَةِ ؛ لِأَنَّ فِي
الْمُنْفَصِلَةِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَمَا إذَا وَهَبَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْأُمِّ لَا يَسْتَتْبِعُ الْوَلَدَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يُلْحَقُ بِالْعَقْدِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا دُونَ الْوَلَدِ وَلِأَنَّهُ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَكَذَا فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالثِّمَارِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الْأُمِّ إذَا اسْتَغْنَى الْوَلَدُ عَنْهَا .
وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدًا فَاكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْكَسْبِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فَقُطِعَتْ يَدُهَا وَأَخَذَ أَرْشَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ عَقْدُ الْهِبَةِ ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً عَجَمِيَّةً فَعَلَّمَهَا الْكَلَامَ وَالْكِتَابَةَ وَالْقُرْآنَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي قَاضِي خَانْ لَا يَرْجِعُ لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ فِي الْعَيْنِ ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا كَافِرًا فَأَسْلَمَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زِيَادَةٌ فِيهِ ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ وَصِيفًا فَشَبَّ وَكَبِرَ ثُمَّ صَارَ شَيْخًا فَلَا رُجُوعَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ زَادَ سَقَطَ الرُّجُوعُ فَلَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ زَادَ الْمَوْهُوبُ زِيَادَةً فِي نَفْسِهِ تُورِثُ نُقْصَانًا فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَمَا إذَا طَالَ طُولًا فَاحِشًا يُنْقِصُهُ فِي ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَوْ وَهَبَ لَهُ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِالْمَاءِ فَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ كَمَا إذَا وَهَبَ لَهُ حِنْطَةً فَبَلَّهَا بِالْمَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لَهُ تُرَابًا فَبَلَّهُ بِالْمَاءِ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ التُّرَابِ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبَلِّ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى طِينًا بِخِلَافِ السَّوِيقِ وَالْحِنْطَةِ
كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي سِعْرٍ لَمْ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَأَنْبَتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا أَوْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ ، وَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ رَجَعَ فِي الْبَاقِي ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْهَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِهَا ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّهَا فَكَذَا فِي نِصْفِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
قَوْلُهُ ( أَوْ يَمُوتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا انْتَقَلَ فِي حَيَاتِهِ ، وَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ قَوْلُهُ ( أَوْ تُخْرَجَ الْهِبَةُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِهِ وَسَوَاءٌ أُخْرِجَتْ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضَهَا عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا بَقِيَ دُونَ الزَّائِلِ ، وَلَوْ وَهَبَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لِآخَرَ ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا ) هَذَا إذَا كَانَ قَدْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَهُ الرُّجُوعُ ، وَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ حُرًّا أَمَّا إذَا وَهَبَ لِأَخِيهِ وَهُوَ عَبْدٌ فَقَبَضَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمْ تَحْصُلْ صِلَةً لِلرَّحِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا ، وَإِنْ وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ وَقَبَضَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ وَعِنْدَهُمَا لَا رُجُوعَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ فَصَارَ بِالرُّجُوعِ يَفْسَخُ مِلْكَ أَخِيهِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْهِبَةَ حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا بِالْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهَا مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّيْءَ
يَنْتَقِلُ إلَى الْعَبْدِ أَوَّلًا ثُمَّ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ جِهَتِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ قَبِلَهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا الْمَوْلَى صَحَّتْ ، وَلَوْ رَدَّهَا الْعَبْدُ وَقَبِلَهَا الْمَوْلَى لَمْ تَصِحَّ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ بِيعَتْ فِي دَيْنِهِ .
قَوْلُهُ ( وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْقَرَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا الْإِرْثُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى هَذَا وَقْتَ الْهِبَةِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ لَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ لَهُ الرُّجُوعَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ فَكَذَا بَعْدَهُ ، وَإِنْ أَبَانَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ لَهَا وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ فِي يَدِهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلرُّجُوعِ ، وَإِنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ أَوْ مُحَرَّمٍ غَيْرِ رَحِمٍ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ لَهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ بَدَلًا مِنْهَا أَوْ فِي مُقَابَلَتِهَا فَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ سَقَطَ الرُّجُوعُ ) وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِوَضِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَاهِبُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُتَبَرِّعًا فَقَبَضَ الْعِوَضَ سَقَطَ الرُّجُوعُ ) ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَلَيْسَ لِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيمَا تَبَرَّعَ بِهِ مِنْ الْعِوَضِ إذَا قَبَضَهُ الْوَاهِبُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ إسْقَاطُ حَقِّ الْوَاهِبِ مِنْ الرُّجُوعِ فَصَارَ كَالْهِبَةِ بِعِوَضٍ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ مُتَبَرِّعًا وَالْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ يُبْطِلُ الرُّجُوعَ بِأَنْ أَمَرَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالتَّعْوِيضِ فَعَوَّضَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَضْمَنَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قُلْنَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ لَمَّا بَطَلَ بِتَعْوِيضِ الْمُتَبَرِّعِ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِتَعْوِيضِ غَيْرِ الْمُتَبَرِّعِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُنَا مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَهِيَ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إذَا عَوَّضَ الْوَاهِبَ عَنْ هِبَتِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ مَا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ صَرِيحًا بِأَنْ يَقُولَ عَوِّضْهُ عَنِّي عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ بِخِلَافِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ فَقَضَاهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ ضَمَانِ الْآمِرِ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَا التَّعْوِيضَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ الرُّجُوعَ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ .
وَأَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ ) ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَ الْعِوَضِ ، وَهَذَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ .
وَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُهَا إذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْهِبَةِ بَطَلَ فِي الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِالْعِوَضِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ لَمْ يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ ثُمَّ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ ) إلَّا أَنْ يَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، وَقَالَ زُفَرُ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ اعْتِبَارًا بِالْعِوَضِ الْآخَرِ وَلَنَا أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِلْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ كُلَّ الْعِوَضِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ دَارًا فَعَوَّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا رَجَعَ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُعَوَّضْ عَنْهُ ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الْمَوَانِعَ فِي قَوْلِهِ وَمَانِعٌ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ يَا صَاحِبِي حُرُوفُ دَمْعٍ خَزَقَهُ فَالدَّالُ الزِّيَادَةُ وَالْمِيمُ مَوْتُهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَالْعَيْنُ الْعِوَضُ وَالْخَاءُ الْخُرُوجُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالزَّايُ الزَّوْجِيَّةُ وَالْقَافُ الْقَرَابَةُ وَالْهَاءُ هَلَاكُ الْمَوْهُوبِ .
( مَسْأَلَةٌ ) رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ تَمْرًا بِبَغْدَادَ فَحَمَلَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَى بَلْخِي فَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ ، وَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا وَهَبَ لِرَجُلٍ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ تُرَدُّ الْهِبَةُ وَيَجِبُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ الْعَقْرُ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ ذَكَرَهُ فِي الْوَاقِعَاتِ أَيْضًا .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ قَبْضِ الرَّاجِعِ فِي الْهِبَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ ، وَلَوْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ مَا طَلَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى وَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الْوَاهِبُ الْهِبَةَ بَعْدَ الْفَسْخِ حَتَّى هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ هَلَكَتْ أَمَانَةً ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لِلْهِبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ فَإِذَا انْفَسَخَ عَقْدُهَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ وَلَا تُضْمَنُ إلَّا بِمَا يُضْمَنُ بِهِ الْأَمَانَاتُ مِنْ التَّعَدِّي ، وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَوْهُوبَ نَقَصَ أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَأَخَذَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَرْشَهُ فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ وَلَا أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا مِنْ النُّقْصَانِ ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَبْدِ خَاصَّةً نَاقِصًا ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ زِيَادَةٌ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا الْفَسْخُ وَقَوْلُهُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا حَتَّى لَوْ وَهَبَ لَهُ ثَوْبًا فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ اخْتَلَسَهُ مِنْهُ الْوَاهِبُ وَاسْتَهْلَكَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ .
وَأَلْفَاظُ الرُّجُوعِ رَجَعْت فِي هِبَتِي أَوْ رَدَدْتهَا إلَى مِلْكِي أَوْ أَبْطَلْتهَا أَوْ نَقَضْتهَا فَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ بَاعَهَا أَوْ رَهَنَهَا أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَوْهُوبَ أَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُجُوعًا ، وَكَذَا لَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ أَوْ خَلَطَ الطَّعَامَ بِطَعَامِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا ، وَلَوْ قَالَ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ ارْتَجَعْتهَا لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ
الْفُسُوخَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ إذَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الرُّجُوعِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْهِبَةِ لِلْأَرْحَامِ وَشَبَهِهِ جَازَ ثُمَّ إذَا انْفَسَخَتْ الْهِبَةُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ بِالتَّرَاضِي عَادَتْ إلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ وَالْقَبْضُ لَا يُعْتَبَرُ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ أَوْ اسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ فَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يُوجِبْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ سَلَامَةَ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ وَلِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِلْكُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ كَمَا لَوْ وَرِثَهَا فَاسْتُحِقَّتْ لَمْ يَرْجِعْ فِي مَالِ الْوَارِثِ بِقِيمَتِهَا كَذَا هَذَا ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُعِيرِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ السَّلَامَةُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ اُعْتُبِرَ التَّقَابُضُ فِي الْعِوَضَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَمَا لَمْ يَتَقَابَضَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ وَيَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ وَلَا تَصِحُّ مِنْ الْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ يَعْنِي إذَا وَهَبَ لِلصَّغِيرِ هِبَةً فَعَوَّضَ الْأَبُ عَنْهَا مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ لَمْ يَجُزْ تَعْوِيضُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُتَبَرِّعًا وَدَفْعُ مَالِ الصَّغِيرِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ لَا يَجُوزُ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ بَيْعٌ فِي الِانْتِهَاءِ فَاللَّفْظُ لَفْظُ الْهِبَةِ وَالْمَعْنَى مَعْنَى الْبَيْعِ فَقَوْلُهُ هِبَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ يَعْنِي إذَا كَانَ مُشَاعًا لَا يَجُوزُ وَلَا يَقَعُ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَقَوْلُهُ بَيْعٌ فِي الِانْتِهَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا تَقَابَضَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ .
وَقَالَ زُفَرُ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَالْبَيْعِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً قَوْلُهُ ( فَإِذَا تَقَابَضَا صَحَّ الْعَقْدُ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَتَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ ) ، وَكَذَا يَرْجِعُ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً .
وَقَالَ زُفَرُ هُوَ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا ذَكَرَ التَّعْوِيضَ فِيهِ بِكَلِمَةِ عَلَى أَمَّا بِحَرْفِ الْبَاءِ بِأَنْ قَالَ وَهَبْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِثَوْبِك هَذَا أَوْ بِأَلْفٍ وَقَبِلَ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً إجْمَاعًا .
قَوْلُهُ ( وَالْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعَمَّرِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لَهُ عُمُرَهُ وَإِذَا مَاتَ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ فَيَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ صُورَةُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ جَعَلْت دَارِي
هَذِهِ لَك عُمُرِي أَوْ جَعَلْتهَا لَك عُمُرَك أَوْ هِيَ لَك حَيَاتَك فَإِذَا مِتّ فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا هِبَةٌ وَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً اُعْتُبِرَ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْهِبَةِ وَيُبْطِلُهَا مَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ قَوْلُهُ ( وَالرُّقْبَى بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) وَصُورَتُهَا أَرْقَبْتُك هَذِهِ الدَّارَ وَهِيَ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ وَهِيَ الِانْتِظَارُ وَمَعْنَاهَا إنْ مِتّ قَبْلَك فَهِيَ لَك ، وَإِنْ مِتّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ فَإِذَا سَلَّمَهَا إلَيْهِ عَلَى هَذَا تَكُونُ عَارِيَّةً عِنْدَهُمَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا مَتَى شَاءَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ ، وَلَوْ قَالَ دَارِي رُقْبَى لَك أَوْ حَبِيسٌ لَك كَانَتْ عَارِيَّةً إجْمَاعًا وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً وَشَرَطَ فِيهَا شَرْطًا فَاسِدًا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ كَمَنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ جَارِيَةً وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهَا أَوْ أَنْ يَتَّخِذهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرٍ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهَا الْعَقْدُ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ مِنْ شَرْطِهِ الْقَبْضُ فَإِنَّ الشَّرْطَ لَا يُفْسِدُهُ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ .
وَفِي الْهِدَايَةِ الرَّهْنُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَاَلَّذِي يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّجْعَةُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَأْذُونِ وَعَزْلٌ لِوَكِيلِ فِي رِوَايَةِ الْخُجَنْدِيِّ وَاَلَّذِي لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْخُلْعُ وَالرَّهْنُ وَفِي رِوَايَةٍ وَالْهِبَةُ وَالْوِصَايَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْإِقَالَةُ وَإِذْنُ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ) أَيْ صَحَّتْ فِي الْجَارِيَةِ وَالْوَلَدِ ، وَإِنْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ ، وَلَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ تَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِيهَا لِمَكَانِ التَّدْبِيرِ فَيَقَعُ هِبَةُ الْمُشَاعِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ مَشْغُولٍ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ .
وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ إذَا عَقَدَ فِيهِ عَلَى الْأُمِّ دُونَ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَالِاسْتِثْنَاءُ جَمِيعًا وَصُورَتُهُ فِي الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْأُمَّ إلَّا وَلَدهَا لَمْ تَصِحَّ وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ لَك أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهَا وَإِذَا أَدَّيْت إلَيَّ النِّصْفَ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا قَوْلُهُ ( وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ) ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ قَوْلُهُ ( وَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ) ؛ لِأَنَّهَا كَالْهِبَةِ وَصُورَتُهُ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيَّيْنِ بِشَيْءٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَمْ يَجُزْ أَمَّا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرَيْنِ بِذَلِكَ جَازَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَمُلَ فِيهَا الثَّوَابُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ لِلْفَقِيرِ ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ قَدْ حَصَلَ .
وَأَمَّا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَالْقِيَاسُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْعِوَضُ كَالْهِبَةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا ، فَقَالُوا لَا رُجُوعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِالصَّدَقَةِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْهِبَةَ لَعَبَّرَ بِلَفْظِهَا وَلِأَنَّ الثَّوَابَ قَدْ يُطْلَبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ نِصَابٌ وَلَهُ عِيَالٌ لَا يَكْفِيهِ ذَلِكَ فَفِي الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ ثَوَابٌ فَلِهَذَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَمَوَّلُ كَمَا أَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَمَلَّكُ ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ فَكَذَا هَذَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّذُورَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أُصُولِهَا فِي الْفُرُوضِ وَالْمَالُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ فَرْضُ الصَّدَقَةِ هُوَ بَعْضُ مَا يَمْلِكُهُ بِدَلَالَةِ الزَّكَاةِ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مِقْدَارِ النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَأَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا الْجِنْسَ دُونَ الْقَدْرِ وَلِهَذَا قَالُوا إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ فَإِنْ قَضَى بِهِ دَيْنَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ جِنْسُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالْأَثَاثِ وَالْعَوَامِلِ وَالْعُرُوضِ الَّتِي لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ نَوَى بِهَذَا النَّذْرِ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فِي نَذْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ ثَمَرَةً عُشْرِيَّةً أَوْ غَلَّةً عُشْرِيَّةً تَصَدَّقَ بِهَا إجْمَاعًا .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُتَمَلَّكُ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ وَيُرْوَى أَنَّهُ وَالْأَوَّلَ سَوَاءٌ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَمَنْ قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَهُوَ عَلَى مَا فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَإِنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْقِيَاسُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِعُمُومِ اسْمِ الْمَالِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ فَيَنْصَرِفُ إيجَابُهُ إلَى مَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ فِيهِ الصَّدَقَةَ مِنْ الْمَالِ أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَهِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَلَا تَخْتَصُّ بِمَالٍ دُونَ مَالٍ ، وَلَوْ قَالَ مَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَقَدْ قِيلَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَالِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ قَوْلُهُ ( وَيُقَالُ لَهُ أَمْسِكْ مِنْهُ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِك وَعِيَالِك إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ مَالًا فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا قِيلَ لَهُ تَصَدَّقْ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكْت ) ؛ لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ فِي الْحَالِ أَضْرَرْنَا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى إيفَاءِ الْحَقَّيْنِ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَدِّرْ لِلَّذِي يُمْسِكُهُ قَدْرًا مَعْلُومًا لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ .
وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إذَا كَانَ ذَا حِرْفَةٍ أَمْسَكَ قُوتَ يَوْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَا غَلَّةٍ أَمْسَكَ قُوتَ شَهْرٍ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيْعَةٍ أَمْسَكَ قُوتَ سَنَةٍ ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا أَمْسَكَ إلَى حِينِ يَرْجِعُ إلَيْهِ مَالُهُ .
( مَسْأَلَةٌ ) رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ عَلَى وَجْهِ الْمِزَاحِ هَبْ لِي هَذَا الشَّيْءَ ، فَقَالَ وَهَبْته لَك ، فَقَالَ قَبِلْت وَسَلَّمَ الْهِبَةَ جَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ يَضْرِبُونَ فِي طُنْبُورٍ ، فَقَالَ لَهُمْ هَبُوا لِي هَذَا حَتَّى تَرَوْا كَيْفَ أَضْرِبُ فَدَفَعُوهُ إلَيْهِ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ فَكَسَرَهُ ، وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ كَيْفَ ضَرَبْت قَالُوا خَدَعْتنَا أَيُّهَا الشَّيْخُ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ .
( مَسَائِلُ ) مِنْ الْوَاقِعَاتِ وَغَيْرِهَا رَجُلٌ بَعَثَ إلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ فِي إنَاءٍ أَوْ فِي ظَرْفٍ هَلْ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهَا فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ ؟ إنْ كَانَ ثَرِيدًا أَوْ نَحْوَهُ يُبَاحُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَوَّلَهُ إلَى إنَاءٍ آخَرَ ذَهَبَتْ لَذَّتُهُ ، وَإِنْ كَانَ فَاكِهَةً أَوْ نَحْوَهَا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا انْبِسَاطٌ يُبَاحُ لَهُ أَيْضًا وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ إذَا بَعَثَ بِهَا فِي ظَرْفٍ أَوْ إنَاءٍ مِنْ الْعَادَةِ رَدُّهُمَا لَمْ يَمْلِكْهُمَا كَالْقِصَاعِ وَالْجِرَابِ وَشَبَهِ ذَلِكَ فَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْكُلَهَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَادَةِ أَنْ لَا يُرَدَّ الظَّرْفُ كَقَوَاصِرِ التَّمْرِ مَلَكَ الظَّرْفَ وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ .
رَجُلٌ كَتَبَ إلَى آخَرَ كِتَابًا وَذَكَرَ فِيهِ اُكْتُبْ الْجَوَابَ عَلَى ظَهْرِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَإِلَّا مَلَكَهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ عُرْفًا رَجُلٌ دَعَا قَوْمًا عَلَى طَعَامٍ وَفَرَّقَهُمْ عَلَى أَخْوِنَةٍ لَيْسَ لِأَهْلِ خِوَانٍ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ خِوَانٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُمْ خِوَانَهُمْ دُونَ غَيْرِهِ ، وَكَذَا لَيْسَ لِأَهْلِ خِوَانٍ أَنْ يُنَاوِلُوا أَهْلُ خِوَانٍ آخَرَ مِنْ طَعَامِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُمْ خَاصَّةً فَإِنْ نَاوَلُوهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ رَجُلٌ كَانَ ضَيْفًا عِنْدَ إنْسَانٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ سَائِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الْخَدَمِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَائِدَةِ وَلَا هِرَّةً لِغَيْرِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَإِنْ كَانَتْ هِرَّةَ صَاحِبِ الْبَيْتِ جَازَ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ كَلْبٌ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ فِيهِ عَادَةً فَإِنْ نَاوَلَهُ الْخُبْزَ الْمُحْتَرِقَ وَسِعَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْإِذْنَ عَادَةً .
رَجُلٌ مَاتَ فَبَعَثَ رَجُلٌ إلَى ابْنِهِ بِثَوْبٍ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ هَلْ يَمْلِكُهُ الِابْنُ حَتَّى يَكُون لَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي غَيْرِهِ وَيُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يُتَبَرَّكُ بِتَكْفِينِهِ لِفِقْهٍ أَوْ وَرَعٍ فَإِنَّ الِابْنَ لَا يَمْلِكُهُ وَإِنْ كَفَّنَهُ فِي غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَازَ لِلِابْنِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى حَيْثُ أَحَبَّ الْمُبْرِئُ مِنْ الدَّيْنِ إذَا سَكَتَ جَازَ ، وَإِنْ قَالَ لَا أَقْبَلُ بَطَلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْوَقْفِ ) الْوَقْفُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَبْسُ يُقَالُ وَقَفْت الدَّابَّةَ وَأَوْقَفْتهَا أَيْ حَبَسْتهَا وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَصِلُ الْمَنْفَعَةُ إلَى الْعِبَادِ فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُرْهَنُ وَلَا يُورَثُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ ) يَعْنِي الْمَوْلَى أَمَّا الْمُحَكَّمُ فَفِيهِ خِلَافُ الْمَشَايِخِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَطَرِيقُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَاقِفُ مَا وَقَفَهُ إلَى الْمُتَوَلِّي ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مُحْتَجًّا بِعَدَمِ اللُّزُومِ فَيَتَخَاصَمَانِ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِيَ بِلُزُومِهِ ، وَكَذَا إذَا أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ فَإِذَا رَضُوا بِزَوَالِ مِلْكِهِمْ جَازَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ قَوْلُهُ ( أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقُولُ إذَا مِتّ فَقَدْ وَقَفْت دَارٍ عَلَى كَذَا ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَلَّقَهُ بِمَوْتِهِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَّقَهُ بِمَوْتِهِ فَكَانَ مِنْ الثُّلُثِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ فِي الْمَرَضِ قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
قَوْلُهُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ وَلِيًّا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْوَقْفِ عِنْدَهُ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَالْهِبَةِ وَإِذَا اُعْتُبِرَ فِيهِ الْقَبْضُ أَقَامَ إنْسَانًا يَتَوَلَّى ذَلِكَ لِيَصِحَّ ثُمَّ إذَا جَعَلَ لَهُ وَلِيًّا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ هَلْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ
إنْ كَانَ شَرَطَ فِي الْوَقْفِ عَزْلَ الْقُوَّامِ وَالِاسْتِبْدَالَ بِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ لَا يَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا عَزَلَهُ فِي حَيَاتِهِ يَصِحُّ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْوَاقِفُ بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْقَوَّامِ ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إلَّا إذَا جَعَلَهُ قَيِّمًا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ وَصِيًّا كَذَا فِي الْفَتَاوَى ثُمَّ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ عِنْدَهُمَا وَكَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِنْ وَقَفَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ كَانَ مِنْ الثُّلُثِ كَالْهِبَةِ قَوْلُهُ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ ) حَتَّى لَوْ كَانُوا عَبِيدًا فَأَعْتَقَهُمْ لَا يَعْتِقُونَ قَوْلُهُ ( وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ فِيهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ أَيْ ثَبَتَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْحُكْمِ أَوْ بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَوْتِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا بِالْوَقْفِ وَالتَّسْلِيمِ .
( مَسْأَلَةٌ ) رَجُلٌ بَاعَ أَرْضًا وَادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْقَفَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ وَبَطَلَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لِلتَّنَاقُضِ ثُمَّ إذَا عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَأَرَادَ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّحْلِيفَ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى لَمْ تَصِحَّ لِلتَّنَاقُضِ ، وَإِنْ ادَّعَى مُشْتَرِي الْأَرْضِ أَنَّهَا وَقْفٌ ، فَقَالَ لِلْبَائِعِ إنَّكَ بِعْتنِي هَذِهِ الْأَرْضَ وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةُ إلَى الْبَائِعِ ، وَإِنَّمَا هِيَ إلَى الْمُتَوَلِّي لِلْوَقْفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَلٍّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُنَصِّبُ مُتَوَلِّيًا فَيُخَاصِمَهُ فَإِنْ أَثْبَتَ الْوَقْفَ بِالْبَيِّنَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ .
قَوْلُهُ ( وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) يَعْنِي فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ ) أَمَّا فِيمَا لَمْ يَحْتَمِلْهَا فَيَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ أَيْضًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ بِأَنْ يُقْبَرَ فِيهَا الْمَوْتَى سَنَةً وَتُزْرَعَ سَنَةً وَيُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذُ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ بِخِلَافِ مَا عَدَا الْمَقْبَرَةِ وَالْمَسْجِدِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْلَالِ وَقِسْمَةِ الْغَلَّةِ وَقَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ يَعْنِي فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَصِحُّ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْهِبَةِ ، وَلَوْ وَقَفَ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ بَطَلَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مُقَارِنٌ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ مُمَيَّزٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ ، وَلَوْ وَقَفَ أَرْضًا وَفِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَدْخُلْ الزَّرْعُ فِي الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ إلَّا بِالشَّرْطِ كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يُجْعَلَ آخِرُهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ كَالْعِتْقِ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ جَعَلْت أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ مَا تَنَاسَلُوا فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْمَسَاكِينِ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا وَإِذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ كَالْعَبْدِ وَالْحَمْلِ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى ذِمِّيٍّ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لِلْقُرْبَةِ وَلِهَذَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ } وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَلَا عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ وَيَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَعْدُومٍ كَالْوَقْفِ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا وَلَدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ وَقَفَ وَقْفًا مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ وَأَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ وَقَفْت وَحَبَسْت وَسَبَّلْت وَتَصَدَّقْت وَأَبَّدْت وَحَرَّمْت فَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى صَرِيحٌ فِيهِ وَبَاقِيهِ كِنَايَةٌ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ .
قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ ) وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ جَعَلْتهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَبَدًا عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفُقَرَاءَ وَلَا الْمَسَاكِينَ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَهَا لِلَّهِ فَقَدْ أَبَّدَهَا ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ لِلَّهِ فَهُوَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَسَاكِينِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ذَكَرَهُمْ وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ يُنْبِئُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ
كَالْعِتْقِ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ الْغَلَّةِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا ، وَقَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ قَالَ فِي شَرْحِهِ إذَا قَالَ جَعَلْت أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَبَدًا عَلَى وَلَدِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَهِيَ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّ غَلَّتَهَا تَكُونُ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَالْخُنْثَى قَالَ فِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْأَوْلَادِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَ الْوَقْفِ وَلِكُلِّ وَلَدٍ يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ حُدُوثِ الْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِمَنْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْأَوْلَادِ يَوْمَ تَأْتِي الْغَلَّةُ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ دَخَلُوا فِي الْوَقْفِ فَإِنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الْغَلَّةِ إنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ وُلِدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ طَلَعَتْ الْغَلَّةُ دَخَلَ فِي الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مُحِيطٌ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ قَبْلَهَا فَلِهَذَا دَخَلَ مَعَهُمْ .
فَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ الْغَلَّةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِيهَا وَمَنْ مَاتَ بَعْدَ مَجِيئِهَا فَحِصَّتُهُ لَهُ تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ وَمَا بَقِيَ لِوَرَثَتِهِ وَإِذَا قَالَ وَقَفْت هَذِهِ الْأَرْضَ عَلَى أَوْلَادِي لَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ الْوَلَدِ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى نَسْلِهِ أَوْ عَقِبِهِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ قَرُبُوا أَوْ بَعُدُوا ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ نَسْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ } فَجَعَلَهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى
الْبُعْدِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ يُنْسَبُ إلَيْهِ بِالْأُمِّ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُنْسَبُونَ إلَيْهِ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْبَنِينَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْخُنْثَى ، وَكَذَا إذَا وَقَفَ عَلَى الْبَنَاتِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْخُنْثَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مَا هُوَ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ دَخَلَ الْخُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ابْنًا أَوْ بِنْتًا وَقِيلَ لَا يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَنِينَ وَلَا مِنْ الْبَنَاتِ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَنِي زَيْدٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ بَنَاتُهُ .
( مَسْأَلَةٌ ) قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ قَالَ إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَقَدْ وَقَفْت أَرْضِي لَا يَصِحُّ بَرِئَ أَوْ مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ وَتَعْلِيقُ الْوَقْفِ بِالشَّرْطِ لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ قَالَ إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَاجْعَلُوا أَرْضِي وَقَفَا جَازَ وَالْفَرْقُ أَنَّ هَذَا تَعْلِيقُ التَّوْكِيلِ بِالشَّرْطِ وَذَلِكَ يَجُوزُ .
قَوْلُهُ ( وَيَصِحُّ وَقْفُ الْعَقَارِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَأَبَّدُ وَالْوَقْفُ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ لَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ أَنْ يَقِفَ أَرْضًا فِيهَا أَثْوَارٌ وَعَبِيدٌ لِمَصَالِحِهَا فَيَكُونُونَ وَقْفًا مَعَهَا تَبَعًا أَوْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِوَقْفِهِ كَالْمَرِّ لِحَفْرِ الْقُبُورِ أَوْ الْجِنَازَةِ وَثِيَابِ الْجِنَازَةِ ، وَلَوْ وَقَفَ الْأَشْجَارَ الْقَائِمَةَ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا وَيَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَيُنْتَفَعُ بِثِمَارِهَا دُونَ أَغْصَانِهَا إلَّا فِيمَا يُعْتَادُ قَطْعُهُ لِيُبْنَى بِهِ كَشَجَرِ الْخِلَافِ وَهُوَ الضَّرْحُ قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ إذَا وَقَفَ ثَوْرًا عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ لِلْإِنْزَاءِ عَلَى بَقَرِهِمْ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ وَقْفَ الْمَنْقُولِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا فِيهِ تَعَارُفٌ وَلَا تَعَارُفَ فِي هَذَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ ثُمَّ إذَا جَازَ عِنْدَهُ الْوَقْفُ عَلَى الْإِنْزَاءِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَرْثِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوقِفْهُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ ) ، وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ عِتْقُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا عَنْ مِلْكِهِ فَإِنْ أَعْتَقَهُمْ لَمْ يَعْتِقُوا وَنَفَقَةُ الْعَبِيدِ وَالْبَهَائِمِ مِنْ حَيْثُ شَرْطُ الْوَاقِفِ فَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ شَيْئًا فَفِي أَكْسَابِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ كَاسِبًا أَوْ تَعَطَّلَ كَسْبُهُ لِمَرَضٍ أَوْ لَمْ يَفِ كَسْبُهُ بِنَفَقَتِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا إذَا أَعْتَقَ مَا لَا كَسْبَ لَهُ وَقِيلَ نَفَقَتُهُ عَلَى الْوَاقِفِ مَا دَامَ حَيًّا فَإِنْ مَاتَ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ انْتَقَلَتْ إلَى الْوَرَثَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ الْعَبْدُ إلَيْهِمْ فَلَا يَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فَكَفَنُهُ وَتَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ قَوْلُهُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ) الْكُرَاعُ هُوَ الْخَيْلُ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ عَلَى مَا قَالُوا وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِبِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهَا السِّلَاحَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَيَجُوزُ وَقْفُ مَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ كَالْفَأْسِ وَالْمَرِّ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْقُدُورِ وَالْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٌ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ ) إلَّا أَنْ يَكُون مُشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبُ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَتَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ أَمَّا امْتِنَاعُ الْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ فَلِأَنَّهُ قَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنَّمَا هِيَ تَمْيِيزُ الْحُقُوقِ وَتَعْدِيلُ الْأَنْصِبَاءِ ، وَإِنَّمَا خُصَّ أَبُو يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَاَلَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي أَوْ يَبِيعُ الْبَاقِي مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا وَإِذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ إنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْوَقْفِ ، وَإِنْ أَعْطَى الْوَاقِفُ جَازَ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ شِرَاءً كَذَا فِي الْهِدَايَةِ قَوْلُهُ ( وَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ) ؛ لِأَنَّ عِمَارَتَهُ مِنْ مَصَالِحِهِ وَفِي الْبُدَاءَةِ بِذَلِكَ تَبْقِيَةٌ لَهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ) يَعْنِي الْمُطَالَبَةَ بِالْعِمَارَةِ لَا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى فِعْلِهَا ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ قَوْلُهُ ( فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْحَاكِمُ وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا فَإِذَا عُمِّرَتْ رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ) ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى وَلِأَنَّهُ إذَا آجَرَهَا وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا يَفُوتُ حَقُّ صَاحِبِ السُّكْنَى فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا فَكَانَ الْأَوَّلُ أَوْلَى وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ قَوْلُهُ ( وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفَهُ فِيهَا ) ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إعَادَةُ عَيْنِهِ إلَى مَوْضِعِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إلَى الْإِصْلَاحِ قَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ ) يَعْنِي النَّقْضَ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْوَقْفِ الْقَبْضَ فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ لَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ فَصَارَ كَمَنْ شَرَطَ بُقْعَةً مِنْ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ الْمَوْقُوفَةِ } وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا بِشَرْطٍ ، وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْوَقْفُ بَاطِلٌ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ ، وَلَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ نَظَرًا لِلصِّغَارِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِدَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ) أَمَّا الْإِفْرَادُ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا بِهِ .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَتَسْلِيمُهُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ فَإِذَا صَلَّوْا فِيهِ فَكَأَنَّهُمْ قَبَضُوهُ قَوْلُهُ ( فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ مِلْكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ النَّاسِ مُتَعَذِّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُمْ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يُبْنَى لَهَا فِي الْغَالِبِ قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا ) ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِلْمِلْكِ كَالْإِعْتَاقِ ، وَإِنْ اتَّخَذَ فِي وَسَطِ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَلَمْ يُفْرِدْهُ عَنْ دَارِهِ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُحِيطٌ بِهِ وَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمَسْجِدِ طَرِيقًا عَلَى حِدَةٍ .
وَأَمَّا إذَا أَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ وَأَفْرَدَ لَهُ طَرِيقًا وَمَيَّزَهُ صَارَ مَسْجِدًا خَالِصًا ، وَإِنْ بَنَى عَلَى سَطْحِ مَنْزِلِهِ مَسْجِدًا أَوْ سَكَنَ أَسْفَلَهُ فَهُوَ مِيرَاثٌ عِنْدَهُمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَكُونُ مَسْجِدًا ، وَإِنْ جَعَلَ أَسْفَلَهُ مَسْجِدًا وَفَوْقَهُ مَسْكَنًا وَأَفْرَدَ لَهُ طَرِيقًا جَازَ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلْوِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ فَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ لَمْ يَكُنْ تَعْظِيمًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ دَخَلَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ
الضَّرُورَةَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ قَالَ فِي الْيَنَابِيعِ إذَا غَصَبَ أَرْضًا فَبَنَاهَا مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ وَدُخُولِ الْحَمَّامِ لِلِاغْتِسَالِ ، وَإِنْ غَصَبَ دَارًا فَبَنَاهَا مَسْجِدًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَلَا أَنْ يَدْخُلَهُ ، وَإِنْ جُعِلَ جَامِعًا لَا يُجْمَعُ فِيهِ وَإِنْ جَعَلَهَا طَرِيقًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَمُرَّ بِهَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَحَدٌ يَبْقَى مَسْجِدًا أَبَدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُصَلِّي فِيهِ الْمَارَّةُ وَالْمُسَافِرُونَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَعُودُ مِلْكُ الْبَانِي فِيهِ إلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ ، وَإِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ حُصْرِ الْمَسْجِدِ وَخَشَبِهِ وَحَنَفِيَّتِهِ نُقِلَ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ نَقْضِهِ إلَى عِمَارَةِ بِئْرٍ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَسْجِدِ .
وَكَذَا الْبِئْرُ لَا يُصْرَفُ نَقْضُهَا إلَى مَسْجِدٍ بَلْ يُصْرَفُ إلَى بِئْرٍ أُخْرَى ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى دُهْنِ السِّرَاجِ لِلْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ وَضْعُهُ لِجَمِيعِ اللَّيْلِ بَلْ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُصَلِّينَ وَيَجُوزُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُدْرَسَ الْكِتَابُ عَلَى سِرَاجِ الْمَسْجِدِ يَنْظُرُ إنْ كَانَ وُضِعَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ ( وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الرِّبَاطَ وَالْخَانَ
وَدَفَنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ زَالَ الْمِلْكُ ) لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْعَبْدِ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ وَيَدْفِنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقُّ الِانْتِفَاعِ فَخَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لَازِمٍ فَكَانَ كَالْعِتْقِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَيُكْتَفَى فِيهِ بِالْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ كُلِّهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْبِئْرُ وَلِأَنَّهُمْ إذَا دَفَنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ كَانَ ذَلِكَ قَبْضًا فَصَارَ كَالْمَسْجِدِ إذَا صُلِّيَ فِيهِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُدْفَنْ فِيهَا أَحَدٌ لَمْ يَحْصُلْ فِيهَا قَبْضٌ فَبَقِيَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَيَشْتَرِكُ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ فِي الدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَالشُّرْبِ مِنْ السِّقَايَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إبَاحَةٌ وَمَا كَانَ إبَاحَةً لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ بِخِلَافِ غَلَّةِ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا التَّمْلِيكُ فَلَا يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ ، وَلَوْ تَلِفَتْ الْكِيزَانُ الْمُسَبَّلَةُ عَلَى السِّقَايَةِ لَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِلَا تَعَدٍّ فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ وَصِفَةُ التَّعَدِّي أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِي غَيْرِ مَا وُقِفَتْ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْغَصْبِ ) هُوَ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ عَنْهُ حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَالْحَمْلُ عَلَى الدَّابَّةِ غَصْبًا دُونَ الْجُلُوسِ عَلَى السَّرِيرِ وَالْبِسَاطِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاسْتِخْدَامُ غَصْبًا إذَا اسْتَخْدَمَهُ الْغَاصِبُ لِنَفْسِهِ كَمَا إذَا غَصَبَهُ لِيَرْكَبَ لَهُ نَخْلًا وَيَجْنِيَ لَهُ ثَمَرَتَهُ أَمَّا إذَا قَالَ لِتَأْكُلَ أَنْتَ أَيُّهَا الْعَبْدُ فَفَعَلَ لَا يَضْمَنُ ثُمَّ الْغَصْبُ عِنْدَنَا إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ قَصْدًا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ ضِمْنًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ قَصْدًا وَإِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ ضِمْنًا وَفَائِدَتُهُ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهِيَ نَوْعَانِ مُنْفَصِلَةٌ كَالْوَلَدِ وَمُتَّصِلَةٌ كَالسِّمَنِ وَكِلَاهُمَا عِنْدَنَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَعِنْدَهُ كِلَاهُمَا مَضْمُونٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ عِنْدَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْوَلَدِ وَعِنْدَنَا لَمْ تُوجَدْ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ وَالْغَصْبُ عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ يَظُنُّهُ مَالَهُ فَحُكْمُهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ وَالْغَصْبُ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الْآيَةَ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ وَمَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ ) ،
وَهَذَا فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا وَجَبَ رَدُّ بَدَلِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَإِنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فِي حِينِهِ وَأَوَانِهِ وَانْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَوْمَ الْغَصْبِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ آخِرَ مَا انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ فَلَمَّا انْقَطَعَ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ وَصَارَ كَأَنَّهُ غَصَبَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ أَصْلُهُ إذَا غَصَبَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِثْلَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِهِ حَتَّى وُجِدَ الْمِثْلُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْمِثْلِ إلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ فَوَجَبَ أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فِي الْكَرْخِيِّ إذَا أَحْضَرَ الْغَاصِبُ الْمِثْلَ فِي حَالِ الِانْقِطَاعِ وَتَكَلَّفَ ذَلِكَ أُجْبِرَ الْمَالِكُ عَلَى أَخْذِهِ .
وَأَمَّا إذَا غَصَبَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ إجْمَاعًا قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) يَعْنِي يَوْمَ الْغَصْبِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ وَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَفِي الْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْمِثْلَ أَوْ الْقِيمَةَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّ الْمَغْصُوبِ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ فِي عَيْنِ مَالِهِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ إلَى بَدَلِهِ إلَّا بِرِضَاهُ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ
إزَالَةُ الظُّلَامَةِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِرَدِّ الْعَيْنِ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً فَإِذَا دَفَعَ بَدَلَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَهِيَ ظُلَامَةٌ أُخْرَى ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ إلَّا بِاخْتِيَارِهِ ثُمَّ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْقِيمَةِ فَعَلَيْهِ رَدُّ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى زِيَادَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي السِّعْرِ وَلَا إلَى نُقْصَانِهَا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ .
قَوْلُهُ ( وَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ) يَعْنِي مَا دَامَتْ قَائِمَةً وَهُوَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ عَلَى مَا قَالُوا وَرَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصُ خَلَفًا وَقِيلَ الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ وَفَائِدَتُهُ فِي الْبَرَاءَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ بِالْمَغْصُوبِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعَيْنِ يَعْنِي إذَا أَبْرَأَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ مِنْ ضَمَانِ الْعَيْنِ وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ فَعِنْدَ مَنْ قَالَ الْوَاجِبُ الْقِيمَةُ تَصِحُّ الْبَرَاءَةُ وَيَسْقُطُ ضَمَانُ الْعَيْنِ ، وَكَذَا الرَّهْنُ وَالْكَفَالَةُ يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُوبِ الْقِيمَةِ وَعَلَى اعْتِبَارِ وُجُوبِ رَدِّ الْعَيْنِ لَا يَصِحُّ وَفَائِدَتُهُ أَيْضًا فِيمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفٌ وَلَهُ أَلْفٌ قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي هَذِهِ أَلْفٌ ؛ لِأَنَّهُ مَدْيُونٌ وَالْوَاجِبُ الرَّدُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ لِتَفَاوُتِ الْقِيمَةِ بِتَفَاوُتِ الْأَمَاكِنِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ ادَّعَى هَلَاكَهَا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَأَظْهَرَهَا ثُمَّ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا ) ، وَإِنَّمَا حَبَسَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ فَلَا يُصَدَّقُ فَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى هَلَاكِهَا أَوْ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ بِالْقِيمَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا يَوْمَ غَصَبَهَا فَرَدَّهَا نَاقِصَةً ضَمِنَ النُّقْصَانَ ، وَإِنْ كَانَتْ يَوْمَ غَصَبَهَا زَائِدَةً فِي السِّعْرِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهَا يَوْمَ غَصَبَهَا مِائَتَيْنِ فَرَدَّهَا وَهِيَ تُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَضْمَنْ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي السِّعْرِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي الْعَيْنِ وَالنُّقْصَانُ فِي السِّعْرِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فُتُورٌ يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي أَنْفُسِ
النَّاسِ فَيَزْهَدُونَ فِي شِرَاءِ الْعَيْنِ وَالْعَيْنُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنْ الزِّيَادَةَ فَإِنْ غَصَبَهَا وَهِيَ تُسَاوِي مِائَةً فَزَادَتْ فِي بَدَنِهَا حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَتَيْنِ ثُمَّ نَقَصَتْ فِي الْبَدَنِ حَتَّى صَارَتْ تُسَاوِي مِائَةً لَمْ يَضْمَنْ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الْقَبْضُ فَلَا تَكُونُ مَضْمُونَةً كَزِيَادَةِ السِّعْرِ وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَصَلَتْ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَهَلَكَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا وَالزِّيَادَةُ بَاقِيَةٌ فَامْتَنَعَ مِنْ رَدِّهَا حَتَّى نَقَصَتْ ضَمِنَ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ مِنْ الرَّدِّ صَارَ ضَامِنًا كَالْمُودَعِ إذَا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ .
قَوْلُهُ ( وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَالَ بَيْنَ رَجُلٍ وَبَيْنَ مَتَاعِهِ أَوْ غَصَبَ مَالِكَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ حِفْظِ مَالِهِ حَتَّى تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ ، وَلَوْ حَوَّلَ الْمَتَاعَ وَنَقَلَهُ فَهَلَكَ ضَمِنَهُ وَالنَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ وَاحِدٌ وَقِيلَ التَّحْوِيلُ النَّقْلُ مِنْ مَكَان وَإِثْبَاتُهُ فِي مَكَان آخَرَ وَالنَّقْلُ يُسْتَعْمَلُ بِدُونِ الْإِثْبَاتِ فِي مَكَان آخَرَ قَوْلُهُ ( وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَضْمَنُهُ ) وَهَلَاكُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِانْهِدَامِ الْبِنَاءِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِذَهَابِ تُرَابِهِ أَوْ بِغَلَبَةِ السَّيْلِ عَلَى الْأَرْضِ فَيَذْهَبُ بِأَشْجَارِهِ وَتُرَابِهِ فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَضْمَنُ فَإِنْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِفِعْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُتْلِفِ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُتْلِفَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ رَجَعَ عَلَى الْمُتْلِفِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ مِنْ سُكْنَاهُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ لِتَحَقُّقِ إثْبَاتِ الْيَدِ الْغَاصِبَةِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ لَا فِي الْعَقَارِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَعُدَ الْمَالِكُ عَنْ مَاشِيَتِهِ وَلِأَنَّ الْعَقَارَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَتْ يَدُ صَاحِبِهِ ثَابِتَةً عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنُ وَالْغَصْبُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ قَوْلُهُ ( وَمَا نَقَصَ
بِفِعْلِهِ وَسُكْنَاهُ ضَمِنَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ضَمِنَهُ ) هَذَا إذَا كَانَ مَنْقُولًا فَإِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانًا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ بِرَدِّ الْعَيْنِ قَوْلُهُ ( فَإِنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ) يَعْنِي النُّقْصَانَ مِنْ حَيْثُ فَوَاتُ الْجُزْءِ لَا مِنْ حَيْثُ السِّعْرُ وَمُرَادُهُ غَيْرُ الرِّبَوِيِّ أَمَّا فِي الرِّبَوِيِّ لَا يُمْكِنُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَإِذَا وَجَبَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ قُوِّمَتْ الْعَيْنُ صَحِيحَةً يَوْمَ غَصْبِهَا ثُمَّ تُقَوَّمُ نَاقِصَةً فَيَغْرَمُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ مِنْ يَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَبَقَ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَزَنَتْ فِي يَدِهِ وَلَمْ تَكُنْ زَنَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ سَرَقَتْ فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْإِبَاقِ وَالزِّنَا ، وَإِنْ أَصَابَهَا حُمَّى فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا مَحْمُومَةً فَمَاتَتْ عِنْدَ صَاحِبِهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ مَا نَقَصَتْهَا الْحُمَّى دُونَ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ مِنْ الْحُمَّى الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْحُمَّى الَّتِي حَدَثَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ الْحُمَّى يَحْصُلُ مِنْهَا الْأَلَمُ جُزْءًا فَجُزْءًا ثُمَّ تَتَكَامَلُ بِمَا يَتَجَدَّدُ مِنْ الْحُمَّى مِنْ بَعْدِهِ فَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ غَصَبَهَا مَحْمُومَةً فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا مَحْمُومَةً يَوْمَ غَصَبَهَا فَإِنْ كَانَتْ زَنَتْ فِي يَدِ الْمَوْلَى أَوْ سَرَقَتْ ثُمَّ غَصَبَهَا فَأُخِذَتْ بِحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى ، وَكَذَا لَوْ حَبِلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى أَحْبَلَهَا ثُمَّ غَصَبَهَا
فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ الْحَبَلِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا الْمَوْلَى فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ غَصَبَهَا وَهِيَ حُبْلَى مِنْ غَيْرِ إحْبَالٍ مِنْ الْمَوْلَى وَلَا مِنْ زَوْجٍ كَانَ لَهَا فِي يَدِ الْمَوْلَى فَمَاتَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَ قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِغَيْرِ فِعْلِ الْمَوْلَى وَلَا بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِهِ فَإِنْ زَنَتْ أَوْ سَرَقَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهَا عَلَى الْمَوْلَى فَأُخِذَتْ بِذَلِكَ فِي يَدِهِ فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِهِ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَمَالِكُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا ) ، وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَكَذَا لَوْ سَلَخَهَا وَقَطَّعَ لَحْمَهَا وَلَمْ يَشْوِهِ وَفِي رِوَايَةٍ يُضَمِّنُهُ نُقْصَانَهَا وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ فَقَطَعَ طَرَفَهَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِوُجُودِ الِاسْتِهْلَاكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْمَأْكُولَةِ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا يَسِيرًا ضَمِنَ نُقْصَانَهُ ) وَالثَّوْبُ لِمَالِكِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِنَّمَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَيَضْمَنُ الْعَيْبَ قَوْلُهُ ( وَإِنْ خَرَقَهُ خَرْقًا كَثِيرًا يُبْطِلُ عَامَّةَ مَنَافِعِهِ فَلِمَالِكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ لَهُ وَإِذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمَّا مَلَكَ الْقِيمَةَ مَلَكَ الْغَاصِبُ بَدَلَهَا حَتَّى لَا يَجْتَمِعَ فِي مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْبَدَلَانِ ، وَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ اسْتِهْلَاكًا تَامًّا وَلَا اتَّصَلَ بِزِيَادَةٍ وَالْمُمَاثَلَةُ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ وَيَأْخُذَهُ كَذَا فِي شَرْحِهِ فَقَوْلُهُ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ اسْتِهْلَاكًا تَامًّا يُحْتَرَزُ مِمَّا لَوْ أَحْرَقَهُ وَقَوْلُهُ وَلَا اتَّصَلَ بِزِيَادَةٍ يُحْتَرَزُ مِمَّا لَوْ صَبَغَهُ وَقَوْلُهُ وَالْمُمَاثَلَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ يُحْتَرَزُ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَقَوْلُهُ خَرَقَ هُوَ بِالتَّخْفِيفِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ خَرْقًا وَلَمْ يَقُلْ تَخْرِيقًا وَقَوْلُهُ كَثِيرًا هُوَ بِالتَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ يَسِيرًا ، وَلَوْ كَانَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ لَقَالَ فِي الْأَوَّلِ خَرْقًا صَغِيرًا كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي الْخَرْقِ الْفَاحِشِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ رُبُعِ الْقِيمَةِ وَمَا دُونَهُ يَسِيرٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَقِيلَ مَا لَا يَصْلُحُ الْبَاقِي بَعْدَهُ لِثَوْبٍ .
وَفِي الْهِدَايَةِ إشَارَةُ الْكِتَابِ إلَى أَنَّ الْفَاحِشَ مَا يَبْطُلُ بِهِ عَامَّةُ الْمَنَافِعِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ النُّقْصَانُ .
وَفِي الْمُحِيطِ الْفَاحِشُ مَا يَسْتَنْكِفُ أَوْسَاطُ النَّاسِ مِنْ لُبْسِهِ مَعَ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ اخْرِقْ
ثَوْبِي هَذَا فَفَعَلَ يَأْثَمُ وَلَا يَضْمَنُ وَإِنْ خَرَقَ صَكَّ غَيْرِهِ يَضْمَنُ قِسْمَتَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَلَا يَضْمَنُ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ صَادَفَ الصَّكَّ وَلَمْ يُصَادِفْ الْمَالَ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهَا وَعُظْمَ مَنَافِعِهَا زَالَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ وَضَمِنَهَا إلَى آخِرِهِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْهَا وَقَوْلُهُ وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ قَالَ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ إلَّا عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ أَوْ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ أَوْ بِتَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ عَلَى الضَّمَانِ فَإِذَا وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ الْمِلْكُ وَإِلَّا فَلَا وَبَعْدَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَا يَحِلُّ لِلْغَاصِبِ تَنَاوُلُهُ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ صَاحِبُهُ فِي حِلٍّ قَوْلُهُ ( وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهَا ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالضَّمَانِ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالضَّمَانِ ثُمَّ إذَا أَدَّى الْبَدَلَ يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَالِكِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِالْبَدَلِ فَجُعِلَ مُبَادَلَةً بِالتَّرَاضِي ، وَكَذَا إذَا أَبْرَأَهُ لِسُقُوطِ حَقِّهِ ، وَكَذَا إذَا ضَمَّنَهُ الْحَاكِمُ أَوْ ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي الْحَاكِمُ إلَّا بِطَلَبِهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) فَيَأْخُذَهَا وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَلَا يُعْطِيهِ لِعَمَلِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ وَكَوْنُهُ مَوْزُونًا بَاقٍ أَيْضًا ، وَكَذَا جَرَيَانُ الرِّبَا فِيهِ مَوْجُودٌ قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ وَعَلَيْهِ مِثْلُ الْفِضَّةِ الَّتِي غَصَبَهَا وَمَلَكَهَا الْغَاصِبُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِيهَا صَنْعَةً مُعْتَبَرَةً .
وَأَمَّا إذَا سَبَكَ الْفِضَّةَ أَوْ الذَّهَبَ وَلَمْ يَصُغْهُمَا وَلَمْ يَضْرِبْهُمَا دَرَاهِمَ وَلَا دَنَانِيرَ بَلْ جَعَلَهُمَا صَفَائِحَ مَطْلُوَّةً لَمْ تَنْقَطِعْ يَدُ صَاحِبِهَا عَنْهَا إجْمَاعًا ، وَلَوْ غَصَبَهُ دَرَاهِمَ فَخَلَطَهَا بِدَرَاهِمِهِ حَتَّى صَارَتْ لَا تَتَمَيَّزُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَهَا ، وَإِنْ شَاءَ شَارَكَهُ بِقَدْرِهَا يَعْنِي إذَا صَاغَهَا حُلِيًّا أَوْ آنِيَةً قَالَ فِي الْكَرْخِيِّ إذَا غَصَبَهُ طَعَامًا فَزَرَعَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ، وَهَذَا إذَا ضَمِنَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْحَبِّ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ أَمَّا لَوْ ضَمِنَ قَبْلَ انْعِقَادِ الْحَبِّ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا كُلُّ نَوًى غَرَسَهُ فَنَبَتَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَعْنِي إذَا غَصَبَهُ فَغَرَسَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَبَتَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فَهُوَ كَالْحَبِّ إذَا نَبَتَ ، وَكَذَا إذَا غَصَبَ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أَوْ بَيْضًا فَصَارَ فَرُّوخًا مَلَكَهُ لِزَوَالِ اسْمِهِ أَوْ تُرَابًا فَجَعَلَهُ لَبِنًا أَوْ آنِيَةً أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ أَوْ خَشَبًا فَعَمِلَهُ سَفِينَةً فَفِي هَذَا كُلِّهِ يَزُولُ مِلْكُ مَالِكِهِ عَنْهُ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ غَصَبَ سَاجَةً فَبَنَى عَلَيْهَا زَالَ مِلْكُ مَالِكِهَا عَنْهَا وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا ) ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ يَنْقُضُ الْبِنَاءَ وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ إنَّمَا لَا يَنْقُضُ الْبِنَاءَ عِنْدَنَا إذَا بَنَى حَوَالَيْهَا أَمَّا إذَا بَنَى عَلَى نَفْسِهَا يَنْقُضُ وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَهُوَ الْأَصَحُّ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ سَوَاءٌ بَنَى عَلَيْهَا أَوْ حَوَالَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَفِي قَلْعِ الْبِنَاءِ ضَرَرٌ وَيُمْكِنُنَا تَوْفِيَةُ الْحَقَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِأَنْ يُلْزَمَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا إذْ هِيَ تَقُومُ مَقَامَهَا .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى فِيهَا قِيلَ لَهُ اقْلَعْ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } وَلِأَنَّ مِلْكَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بَاقٍ فَإِنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَصِرْ مُسْتَهْلَكَةً وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا فَيُؤْمَرُ الْغَاصِبُ بِتَفْرِيغِهَا كَمَا إذَا أَشْغَلَ ظَرْفَ غَيْرِهِ بِطَعَامِهِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } أَيْ لَيْسَ لِذِي عِرْقٍ ظَالِمٍ وَهُوَ الَّذِي يَغْرِسُ فِي الْأَرْضِ غَصْبًا وَوُصِفَ الْعِرْقُ بِالظُّلْمِ وَالْمُرَادُ صَاحِبُهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى الْعِرْقِ قَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِقَلْعِ ذَلِكَ فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَقْلُوعًا وَيَكُونُ الْمَقْلُوعُ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لَهُمَا وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمَا وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا ؛ لِأَنَّهَا الْحَالَةُ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا رَدُّهَا فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ بِدُونِ الشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ وَتُقَوَّمُ وَهُمَا بِهَا وَلَكِنْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْمُرَ بِقَلْعِهِ فَيَضْمَنَ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ غَصَبَ فَصِيلًا وَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ فَكَبِرَ حَتَّى صَارَ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِهَدْمِ الْجِدَارِ وَقَلْعِ الْبَابِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْفَصِيلِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الدَّارِ وَجَبَ عَلَيْهِ هَدْمُ الْبِنَاءِ وَرَدُّ الْفَصِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ أَكْثَرَ غَرِمَ قِيمَةَ الْفَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، وَكَذَا إذَا ابْتَلَعَتْ الدَّجَاجَةُ لُؤْلُؤَةً لِغَيْرِ صَاحِبِهَا لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُهَا عَلَى ذَبْحِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلٍ حَصَلَ مِنْهُ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ اللُّؤْلُؤَةِ إنْ شِئْت فَخُذْ الْقِيمَةَ .
وَإِنْ شِئْت فَاصْبِرْ حَتَّى تَزْرِقَهَا الدَّجَاجَةُ أَوْ يَذْبَحَهَا مَالِكُهَا بِاخْتِيَارِهِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَالُ لِصَاحِبِ اللُّؤْلُؤَةِ أَعْطِ صَاحِبَ
الدَّجَاجَةِ قِيمَةَ الدَّجَاجَةِ وَخُذْ الدَّجَاجَةَ وَفِي رِوَايَةٍ يُنْظَرُ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ قِيمَةً فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ كَذَا فِي الْعُيُونِ ، وَلَوْ وَقَعَ دِرْهَمٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ فِي مِحْبَرَةٍ وَكَانَ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِكَسْرِهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِ صَاحِبِ الْمِحْبَرَةِ وَكَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ الْمِحْبَرَةِ كُسِرَتْ وَلَا غُرْمَ عَلَى صَاحِبِ الشَّيْءِ الْوَاقِعِ فِيهَا ، وَإِنْ وَقَعَ بِفِعْلِ صَاحِبِ الشَّيْءِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ كُسِرَتْ أَيْضًا وَعَلَى صَاحِبِ الشَّيْءِ قِيمَةُ الْمِحْبَرَةِ إنْ شَاءَ وَإِلَّا صَبَرَ حَتَّى تَنْكَسِرَ ، وَلَوْ أَدْخَلَتْ بَهِيمَةٌ رَأْسَهَا فِي قِدْرٍ أَوْ بُرْمَةٍ وَلَمْ تَخْرُجْ إلَّا بِكَسْرِهَا فَهُوَ عَلَى مَسْأَلَةِ الْفَصِيلِ ، وَلَوْ غَصَبَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَلَا يُنْزَعُ وَمَنْ رَكِبَ دَارَ غَيْرِهِ لِإِطْفَاءِ حَرِيقٍ وَقَعَ فِي الْبَلَدِ فَانْهَدَمَ جِدَارٌ مِنْ الدَّارِ بِرُكُوبِهِ لَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ الْجِدَارِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْحَرِيقِ عَامٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَمَا إذَا حَمَلَ الْعَدُوُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَدَفَعَ عَنْهُمْ رَجُلٌ ذَلِكَ الْعَدُوَّ بِآلَةِ غَيْرِهِ حَتَّى تَلِفَتْ الْآلَةُ لَمْ يَضْمَنْ مِنْ قِيمَتِهَا شَيْئًا كَذَلِكَ هَذَا .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا وَغَرِمَ مَا زَادَ الصَّبْغُ وَالسَّمْنُ فِيهِمَا ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالْخِيَرَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ لِكَوْنِهِ صَاحِبَ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ مَتْبُوعٌ وَمَالُ الْغَاصِبِ تَبَعٌ .
وَأَمَّا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَصَرَهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْقِصَارَةَ لَيْسَتْ بِزِيَادَةِ عَيْنٍ فِي الثَّوْبِ وَمَا اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ مِنْ الصَّابُونِ وَغَيْرِهِ يَتْلَفُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ عَيْنٌ ، وَكَذَا إذَا غَسَلَهُ بِالصَّابُونِ وَالْمَاءِ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فَصَبَغَهُ إذْ لَوْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي صَبْغِ إنْسَانٍ فَانْصَبَغَ بِهِ فَإِنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ قِيمَةِ الصَّبْغِ ؛ لِأَنَّهُ لَا جِنَايَةَ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ أَوْ يَكُونُ الثَّوْبُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الثَّوْبِ الْقِيمَةَ وَفِي السَّوِيقِ الْمِثْلَ ؛ لِأَنَّ السَّوِيقَ مِثْلِيٌّ ، وَقَالَ فِي الْأَصْلِ يَضْمَنُ قِيمَةَ السَّوِيقِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْقَلْيِ فَلَمْ يَبْقَ مِثْلِيًّا ، وَهَذَا إذَا كَانَ الصَّبْغُ يَزِيدُ فِي الثَّوْبِ فِي الْعَادَةِ كَالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ أَمَّا إذَا كَانَ يُنْقِصُهُ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ وَالصُّفْرَةُ فِي الصَّبْغِ كَالْحُمْرَةِ وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ احْتِرَازٌ عَنْ السَّوَادِ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ نُقْصَانٌ وَعِنْدَهُمَا زِيَادَةٌ كَالْحُمْرَةِ فَإِذَا صَبَغَهُ أَسْوَدَ كَانَ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَتَرَكَهُ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ أَسْوَدَ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِيهِ نَقْصًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ هُوَ كَالْعُصْفُرِ فَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَابَ عَلَى مَا شَاهَدَ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَلْبَسُونَ السَّوَادَ وَكَانَ نُقْصَانًا عِنْدَهُمْ وَهُمَا أَجَابَا عَلَى مَا فِي زَمَانِهِمَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ السَّوَادَ وَكَانَ زِيَادَةً عِنْدَهُمْ فَعَلَى هَذَا هُوَ اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ هُوَ الَّذِي غَصَبَ الْعُصْفُرَ فَصَبَغَ بِهِ ثَوْبَهُ كَانَ الثَّوْبُ لَهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِ الْعُصْفُرِ ، إنْ كَانَ يُكَالُ فَمِثْلُ كَيْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُوزَنُ فَمِثْلُ وَزْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ أَخَذَهُ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ أَنْ يَحْبِسَ الثَّوْبَ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَتْبُوعٌ وَلَيْسَ بِتَابِعٍ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ غَصَبَ عَيْنًا فَغَيَّبَهَا فَضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا مَلَكَهَا الْغَاصِبُ بِالْقِيمَةِ وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي زِيَادَةً وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ قَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى مِنْ الْيَمِينِ قَوْلُهُ ( فَإِنْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ مِمَّا ضَمِنَ ، وَقَدْ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْمَالِكِ أَوْ بَيِّنَةٍ أَقَامَهَا أَوْ بِنُكُولِ الْغَاصِبِ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَالِكِ ) وَهِيَ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِرِضَا الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْمِقْدَارَ قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ ضَمِنَهَا بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ، وَلَوْ ظَهَرَتْ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا مِثْلُ مَا ضَمِنَ أَوْ دُونَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ الْآخَرِ فَكَذَا الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَعْنِي أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ بِرِضَاهُ حَيْثُ لَمْ يُعْطَ مَا يَدَّعِيهِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ .
قَوْلُهُ ( وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ وَنَمَاؤُهَا وَثَمَرَةُ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يَطْلُبَهَا مَالِكُهَا فَيَمْنَعَهُ إيَّاهَا ) ، .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ زَوَائِدُ الْغَصْبِ مَضْمُونَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً وَالْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْغَصْبَ عِنْدَنَا إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ قَصْدًا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ ضِمْنًا وَعِنْدَهُ الْغَصْبُ إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ قَصْدًا وَإِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ ضِمْنًا وَفَائِدَةُ ذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهِيَ نَوْعَانِ مُنْفَصِلَةٌ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَمُتَّصِلَةٌ كَالسِّمَنِ وَكِلَاهُمَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ كِلَاهُمَا مَضْمُونٌ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْوَلَدِ وَعِنْدَنَا لَمْ تُوجَدْ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ وَيَدُ الْمَالِكِ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ ثُمَّ حُدُوثُ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ حَدَثَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْغَصْبِ فَهُوَ أَمَانَةٌ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى فِيهِ أَوْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْصِبَهَا حَامِلًا أَوْ حَائِلًا فِي أَنَّ الْوَلَدَ أَمَانَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَغْصِبَهَا وَالْوَلَدُ مَعَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْوَلَدَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْقَبْضُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ .
قَوْلُهُ ( وَمَا نَقَصَتْ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ فَمِنْ ضَمَانِ الْغَاصِبِ ) وَصُورَتُهُ إذَا حَبِلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوْ زَنَتْ بِعَبْدِ الْغَاصِبِ أَمَّا إذَا كَانَ الْحَبَلُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ الْمَوْلَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِهِ جُبِرَ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ وَسَقَطَ ضَمَانُهُ عَنْ الْغَاصِبِ ) .
وَقَالَ زُفَرُ لَا يَنْجَبِرُ بِالْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُهُ فَلَا يَصِحُّ جَابِرًا لِمِلْكِهِ وَلَنَا أَنَّ الْوِلَادَةَ فَوَّتَتْ جُزْءًا وَأَفَادَتْ
مَالًا فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ الْفَائِتُ بِالْفَائِدَةِ كَمَنْ قَطَعَ يَدَ الْمَغْصُوبَةِ فَأَخَذَ الْغَاصِبُ أَرْشَهَا وَفِيهِ وَفَاءٌ وَكَمَنْ قَلَعَ سِنَّهَا فَنَبَتَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ مَا بِإِزَائِهِ وَيَغْرَمُ الْغَاصِبُ فَضْلَ النُّقْصَانِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ صَارَ كَتَلَفِ الْأَرْشِ فِي يَدِهِ ، وَلَوْ تَلِفَ الْأَرْشُ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِغَيْرِهِ فَكَذَا إذَا تَلِفَ الْوَلَدُ وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً فَزَنَى بِهَا ثُمَّ رَدَّهَا فَحَبِلَتْ وَمَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا يَوْمَ عَلِقَتْ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ وَالْهَلَاكُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْوِلَادَةُ فَلَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ كَمَا إذَا حُمَّتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ أَوْ زَنَتْ فِي يَدِهِ ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ فَهَلَكَتْ مِنْهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَصَبَهَا وَمَا انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ التَّلَفِ وَرَدَّهَا وَفِيهَا ذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ الرَّدُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَهُ فَلَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَنَافِعَ مَا غَصَبَهُ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَهُ فَيَغْرَمَ النُّقْصَانَ ) صُورَتُهُ إذَا غَصَبَ عَبْدًا خَبَّازًا فَأَمْسَكَهُ شَهْرًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى الْمَالِكِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَنَافِعِ الشَّهْرِ عِنْدَنَا وَصُورَةُ إتْلَافِ الْمَنَافِعِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْعَبْدَ أَيَّامًا ثُمَّ يَرُدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَعِنْدَنَا لَا يَضْمَنُ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ وَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي اسْتِخْدَامِهِ عَبْدِ الْغَصْبِ وَلَا فِي سُكْنَى دَارٍ غَصَبَهَا وَفِي الْكَرْخِيِّ إذَا آجَرَ الْغَاصِبُ الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ فَالْأُجْرَةُ لِلْغَاصِبِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا ، وَلَوْ غَصَبَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ الْمَالِكُ وَهُوَ يَعْرِفُهُ أَوْ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ أَطْعَمَهُ إيَّاهُ الْغَاصِبُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ أَوْ كَانَ ثَوْبًا فَأَلْبَسهُ إيَّاهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْهُ الْغَاصِبُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لَهُ بِالْأَكْلِ وَاللُّبْسِ فَلَوْ ضَمِنَ الْغَاصِبُ لَسَلَّمَ لَهُ الْعِوَضَ وَالْمُعَوَّضَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا وَأَطْعَمَهَا الْمَغْصُوبَ مِنْهُ أَنْ لَا يَبْرَأَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالطَّحْنِ فَبَانَ أَنَّهُ أُطْعِمَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ وَفِي الْبَزْدَوِيِّ الْكَبِيرِ مَنْ غَصَبَ طَعَامًا فَأَطْعَمَهُ الْمَالِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلِمَهُ بَرِئَ مِنْهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ عَيْنَ مَالِهِ وَصَلَ إلَيْهِ فَجَهْلُهُ بِهِ لَا يُبْطِلُ قَبْضَهُ لَهُ أَيْ جَهْلُهُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَا يُبْطِلُ حُكْمًا شَرْعِيًّا ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ، فَقَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَعْتِقْ عَبْدِي هَذَا وَأَشَارَ إلَى الْمَبِيعِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَبْدُهُ صَحَّ إعْتَاقُهُ وَيُجْعَلُ قَبْضًا وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَهُ وَجَهْلُهُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا وُجِدَ مِنْهُ كَذَا هَذَا ، .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَبْرَأُ ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَدَاءٍ مَأْمُورٍ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ غُرُورٌ وَالشَّرْعُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْغُرُورِ فَبَطَلَ الْأَدَاءُ نَفْيًا لِلْغُرُورِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا اسْتَهْلَكَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَالشَّاةِ لَنَا وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَتَدَيَّنُونَ وَالسَّيْفُ مَوْضُوعٌ فَتَعَذَّرَ الْإِلْزَامُ إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهِ وَتَمَلُّكِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ فَإِنَّهُ يَجِبُ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ تَمْلِيكِهِ وَتَمَلُّكِهِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُمَا مُسْلِمٌ لِمُسْلِمٍ لَمْ يَضْمَنْ ) ، وَكَذَا إذَا اسْتَهْلَكَهُمَا ذِمِّيٌّ لِمُسْلِمٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ خَمْرَ الْمُسْلِمِ فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَهُ أَوْ خَلَّلَهَا الْغَاصِبُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا فَإِنْ هَلَكَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ بَعْدَمَا صَارَتْ خَلًّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ ضَمِنَ مِثْلَهَا خَلًّا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةُ وَاسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إنَّمَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْجِلْدَ مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ، وَإِنْ هَلَكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ وَالْغَصْبُ الْمُتَقَدِّمُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ لَا قِيمَةَ لَهُ .
وَأَمَّا إذَا دَبَغَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ فَهَلَكَ بَعْدَ الدِّبَاغِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدِّبَاغَ لَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ ضَمِنَ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ صَارَ مَالًا وَهُوَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ فَإِذَا أَتْلَفَهُ الْغَاصِبُ ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ هَذَا كُلُّهُ فِي حَالَةِ هَلَاكِ الْجِلْدِ أَمَّا حَالُ وُجُودِهِ فَنَقُولُ إذَا غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ
بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَالَ مَالًا عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَالَ بِالشَّمْسِ وَالتُّرَابِ وَإِنْ دَبَغَهُ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَغْرَمَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ صَارَ مَالًا بِمَالِ الْغَاصِبِ وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ إلَى قِيمَتِهِ ذَكِيًّا غَيْرَ مَدْبُوغٍ وَإِلَى قِيمَتِهِ مَدْبُوغًا فَيَضْمَنَ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا أَخَذَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ مِنْ مَنْزِلِ صَاحِبِهَا أَمَّا إذَا أَلْقَاهَا الْمَالِكُ فِي الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ فَدَبَغَهُ فَقَدْ قِيلَ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ الْمَيْتَةِ فِي الطَّرِيقِ إبَاحَةٌ لِأَخْذِهَا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرُّجُوعُ وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ .
( مَسَائِلُ شَتَّى ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَمَنْ غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ الرِّبْحِ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَكَذَا الْمُودَعُ عَلَى هَذَا وَمَنْ كَسَرَ لِمُسْلِمٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ دُفًّا فَهُوَ ضَامِنٌ وَبَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أُعِدَّتْ لِلْمَعْصِيَةِ فَبَطَلَ تَقْوِيمُهَا كَالْخَمْرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ ؛ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِمَا يَحِلُّ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ ، وَإِنْ صَلُحَتْ لِمَا لَا يَحِلُّ فَصَارَ كَالْأَمَةِ الْمُغَنِّيَةِ وَتَجِبُ قِيمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلَّهْوِ وَمَنْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرَةِ وَلَمْ يَضْمَنْ قِيمَةَ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْمُدَبَّرَةِ مُتَقَوِّمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْعَى لِلْغُرَمَاءِ وَلِلْوَرَثَةِ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي مَعْنَاهَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ كَالْمُدَبَّرَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مِنْهَا إلَّا الْمَنَافِعَ لَا غَيْرُ بِدَلَالَةِ أَنَّهَا لَا تَسْعَى بَعْدَ مَوْتِهِ بِحَالٍ وَأَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْمَنَافِعُ إذَا تَلِفَتْ لَا قِيمَةَ لَهَا ، وَلَوْ غَصَبَ صَبِيًّا فَمَرِضَ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَمْرَضْ وَلَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ عَقَرَهُ سَبُعٌ فَقَتَلَهُ أَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ رَجُلٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ خَطَأً فَإِنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَتَّبِعُوا أَيَّهُمَا شَاءُوا بِالدِّيَةِ فَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ رَجَعَ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْقَاتِلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْغَاصِبِ وَكُلُّ هَذَا
الضَّمَانِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْقَاتِلَ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ ، وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَتَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ، وَلَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ هُوَ الَّذِي قَتَلَ رَجُلًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ إلَى أَبِيهِ فَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَا يُضْمَنُ جِنَايَتُهُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ أَوْ طَرَحَ نَفْسَهُ مِنْ دَابَّةٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنْ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ ضَمِنَ الْغَاصِبُ ، وَإِنْ فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ مِنْهُ طَائِرٌ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا إذَا نَفَّرَهُ ، وَكَذَا إذَا فَتَحَ بَابَ دَارٍ فَهَرَبَ مِنْهُ الْعَبْدُ أَوْ حَلَّ قَيْدَ الْعَبْدِ فَهَرَبَ لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنُونًا وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي دَابَّةٍ مَرْبُوطَةٍ فِي مَرْبِطٍ فَحَلَّهَا رَجُلٌ أَوْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ فَفَتَحَ الْبَابَ فَذَهَبَتْ الدَّابَّةُ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ فَإِنْ حَلَّ رِبَاطَهَا رَجُلٌ وَفَتَحَ الْبَابَ آخَرُ فَالضَّمَانُ عَلَى فَاتِحِ الْبَابِ .
وَقَالَ فِي الْعَبْدِ إذَا حَلَّ قَيْدَهُ أَوْ فَتَحَ الْبَابَ عَلَيْهِ فَهَرَبَ لَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ طَارَ الطَّائِرُ مِنْ فَوْرِهِ ضَمِنَ ، وَإِنْ طَارَ بَعْدَ مُهْلَةٍ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ حَلَّ رِبَاطَ الزِّقِّ فَإِنْ كَانَ السَّمْنُ الَّذِي فِيهِ ذَائِبًا ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ سَالَ بِفِعْلِ الشَّمْسِ لَا بِفِعْلِهِ قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ إذَا اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا فَجَاءَ إلَيْهِ بِقِيمَتِهِ ، فَقَالَ لَا آخُذُهَا وَلَا أَجْعَلُك فِي حِلٍّ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ حَتَّى
يَجْبُرَهُ عَلَى الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَقَّ الْمُسْتَهْلِكِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إلَى الْحَاكِمِ وَلَكِنْ وَضَعَهُ فِي حِجْرِ صَاحِبِهِ بَرِئَ ، وَإِنْ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَبْرَأُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ إذَا وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهَا ، وَكَذَلِكَ عَيْنُ الْمَغْصُوبِ يَبْرَأُ بِوَضْعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ حَقِيقَةُ الْقَبْضِ لِتَحَقُّقِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ بِالتَّخْلِيَةِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَضَةِ وَطَلَبَةُ الْعِلْمِ إذَا كَانُوا فِي مَجْلِسٍ وَمَعَهُمْ مَحَابِرُ فَكَتَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ دَلَالَةً إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى .
( مَسْأَلَةٌ ) رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ وَدِرْهَمَيْنِ لِآخَرَ اخْتَلَطُوا فَضَاعَ دِرْهَمَانِ وَبَقِيَ دِرْهَمٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيُّهَا هُوَ ، فَقَالَ الدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَلَقِيت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَسَأَلْته عَنْهَا ، فَقَالَ أَسَأَلْت عَنْهَا أَحَدًا ؟ قُلْت نَعَمْ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ ، فَقَالَ إنَّهُ قَالَ لَك الدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا قُلْت نَعَمْ قَالَ أَخْطَأَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ دِرْهَمٌ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ الضَّائِعَيْنِ لِصَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ بِلَا شَكٍّ وَالدِّرْهَمُ الثَّانِي مِنْ الضَّائِعَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الثَّانِي مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ فَالدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَاسْتَحْسَنْت جَوَابَهُ جِدًّا وَعُدْت إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقُلْت لَهُ خُولِفْت فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَ أَلَقِيَك ابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَقَالَ لَك كَذَا ، وَكَذَا وَذَكَرَ جَوَابَهُ بِعَيْنِهِ قُلْت نَعَمْ قَالَ إنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا اخْتَلَطَتْ صَارَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا تَتَمَيَّزُ فَلِصَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ ثُلُثَا كُلِّ دِرْهَمٍ وَلِصَاحِبِ الدِّرْهَمِ ثُلُثُ كُلِّ دِرْهَمٍ فَأَيُّ دِرْهَمٍ ذَهَبَ ذَهَبَ بِحِصَّتِهِ فَالدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْوَدِيعَةِ ) هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ قَالَ الشَّاعِرُ سَلْ أَمِيرِي مَا الَّذِي غَيَّرَهُ عَنْ وِصَالِي الْيَوْمَ حَتَّى وَدَّعَهُ أَيْ تَرَكَهُ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْأَعْيَانِ مَعَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْحِفْظِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَالِكِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْأَمَانَةِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بَائِنٍ أَلْقَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي حِجْرِهِ وَالْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ وَفِي الْأَمَانَةِ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى صَاحِبِهَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ فَإِذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا ) ؛ لِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهَا فَلَوْ كَانَتْ مَضْمُونَةً لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِهَا فَتَتَعَطَّلُ مَصَالِحُهُمْ .
قَوْلُهُ ( وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ فِي عِيَالِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحِفْظِ إلَّا بِهِمْ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَةُ بَيْتِهِ وَلَا اسْتِصْحَابُ الْوَدِيعَةِ فِي خُرُوجِهِ وَاَلَّذِي فِي عِيَالِهِ هُوَ الَّذِي يَسْكُنُ مَعَهُ وَيُجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ مِنْ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهِ وَأَجِيرِهِ وَعَبْدِهِ وَفِي الْفَتَاوَى هُوَ مَنْ يُسَاكِنُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفَقَتِهِ أَوْ لَا وَيُشْتَرَطُ فِي الْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا مُشَاهَرَةً وَطَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَأَمَّا إذَا كَانَ أَجِيرًا مُيَاوَمَةً وَيُعْطِيهِ نَفَقَتَهُ دَرَاهِمَ فَلَيْسَ هُوَ فِي عِيَالِهِ فَيَضْمَنُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إذَا هَلَكَتْ عِنْدَهُ ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى شَرِيكِهِ شَرِكَةَ عِنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ أَوْ إلَى عَبْدٍ لَهُ مَأْذُونٍ فَضَاعَتْ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَحْفَظُونَ أَمْوَالَهُ فَيَدُهُمْ كَيَدِهِ قَوْلُهُ ( فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ أَوْ أَوْدَعَهَا ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِيَدِهِ لَا بِيَدِ غَيْرِهِ وَالْأَيْدِي تَخْتَلِفُ فِي الْأَمَانَةِ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ كَالْوَكِيلِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ وَالْوَضْعُ فِي حِرْزِ غَيْرِهِ إيدَاعٌ إلَّا إذَا اسْتَأْجَرَ الْحِرْزَ فَيَكُونُ حَافِظًا بِحِرْزِ نَفْسِهِ وَقَوْلُهُ فَإِنْ حَفِظَهَا بِغَيْرِهِمْ يَعْنِي بِأُجْرَةٍ .
وَقَوْلُهُ أَوْ أَوْدَعَهَا يَعْنِي بِغَيْرِ أُجْرَةٍ فَإِنْ أَوْدَعَهَا فَضَاعَتْ فِي يَدِ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ وَظَهَرَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ لَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ
مُتَعَدِّيًا بِالتَّسْلِيمِ وَالثَّانِي مُتَعَدِّيًا بِالْقَبْضِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَبْضَ الثَّانِي قَبْضُ الْأَوَّلِ وَإِذَا تَعَلَّقَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ بِهَذَا الْقَبْضِ لَمْ يَجِبْ بِهِ ضَمَانٌ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عَلَى اثْنَيْنِ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا الثَّانِي ضَمِنَ إجْمَاعًا وَيَكُونُ صَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ أَوْ الثَّانِيَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ رَجَعَ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ وَأَجْمَعُوا أَنَّ مُودِعَ الْغَاصِبِ يَضْمَنُ إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَبْضَيْنِ مَضْمُونَيْنِ وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُودَعِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُودَعَ وَيَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَكَذَا إذَا غَصَبَ مِنْ الْغَاصِبِ غَاصِبٌ آخَرُ فَهَلَكَتْ عِنْدَ الثَّانِي فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَهُوَ يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الثَّانِيَ وَهُوَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي .
وَكَذَا إذَا وَهَبَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ أَوْ أَعَارَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَبْضَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ وَالْمُسْتَعِيرَ يَقْبِضَانِ لِأَنْفُسِهِمَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَبْضِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ فِي تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَمَنْ أَوْدَعَ صَبِيًّا وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا إنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ضَمِنَهَا إجْمَاعًا ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إنْ قَبَضَهَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ضَمِنَ أَيْضًا إجْمَاعًا ، وَإِنْ قَبَضَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَضْمَنُ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ أَوْدَعَهُ عَبْدًا فَقَتَلَهُ ضَمِنَ إجْمَاعًا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ عَادَتِهِ تَضْيِيعُ الْأَمْوَالِ
فَإِذَا سَلَّمَ إلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهَذِهِ الْعَادَةِ فَكَأَنَّهُ رَضِيَ بِإِتْلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَضْمِينُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الصِّبْيَانِ فَيَضْمَنُهُ وَتَكُونُ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَانَ أَرْشُهُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَإِنْ أَوْدَعَ عِنْدَ عَبْدٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا إنْ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا وَقَبَضَهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ضَمِنَهَا إجْمَاعًا وَتَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ إلَى بَعْدِ الْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا وَقَبَضَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ لَمْ يَضْمَنْهَا فِي الْحَالِ وَيَضْمَنُهَا بَعْدَ الْعِتْقِ إذَا كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَضْمَنُهَا فِي الْحَالِ وَيُبَاعُ فِيهَا قَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ يَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ فَيُسَلِّمَهَا إلَى جَارِهِ أَوْ تَكُونَ فِي سَفِينَةِ فَخَافَ الْغَرَقَ فَيَنْقُلُهَا إلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى لَمْ يَضْمَنْ ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْحِفْظِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَيَرْتَضِيهِ الْمَالِكُ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ضَرُورَةَ مُسْقِطِهِ لِلضَّمَانِ فَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى الْإِذْنَ فِي الْإِيدَاعِ قَالَ الْحَلْوَانِيُّ إذَا وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى بَعْضِ عِيَالِهِ فَدَفَعَهَا إلَى أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ وَشَرَطَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي الْحَرِيقِ الْغَالِبِ أَنْ يُحِيطَ الْوَدِيعَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ضَمِنَ كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ خَلَطَهَا الْمُودَعُ بِمَالِهِ حَتَّى صَارَتْ لَا تَتَمَيَّزُ ضَمِنَهَا ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْمُودَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إذَا خَلَطَهَا بِجِنْسِهَا صَارَتْ شَرِكَةً إنْ شَاءَ ، مِثْلُ أَنْ يَخْلِطَ الدَّرَاهِمَ الْبِيضَ بِالْبِيضِ أَوْ السُّودَ بِالسُّودِ أَوْ الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ لَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى غَيْرِ حَقِّهِ صُورَةً وَأَمْكَنَهُ مَعْنًى بِالْقِسْمَةِ فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَهُ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ حَقِّهِ ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْخَالِطَ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَخْلُوطِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي الدَّيْنِ ، وَقَدْ سَقَطَ وَعِنْدَهُمَا بِالْإِبْرَاءِ سَقَطَ خِيرَةُ الضَّمَانِ فَتَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَخْلُوطِ وَخَلْطُ الْخَلِّ بِالزَّيْتِ وَكُلُّ مَانِعٍ بِغَيْرِ جِنْسِهِ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ إلَى الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا خَلْطُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ حَبَّاتِ الْآخَرِ فَيَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ وَالْقِسْمَةُ ، وَلَوْ خُلِطَ الْمَائِعُ بِجِنْسِهِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ إلَى الضَّمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْأَقَلُّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرِكَةٌ بِكُلِّ حَالٍ ، وَقَدْ قَالُوا لَا يَسَعُ الْخَالِطَ أَكْلُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مِثْلَهُ إلَى صَاحِبِهِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ وَجْهٍ مَحْظُورٍ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَحَبَسَهَا عَنْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا طَلَبَهَا فَقَدْ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ فَإِذَا مَسَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ غَاصِبًا مَانِعًا لَهُ فَيَضْمَنُهَا لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا بِالْمَنْعِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَسْلِيمِهَا بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ نَاءٍ أَيْ بَعِيدٍ لَا يَقْدِرُ فِي الْحَالِ عَلَى رَدِّهَا لَا يَضْمَنُهَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الرَّدِّ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ اخْتَلَطَتْ بِمَالِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ لِصَاحِبِهَا ) كَمَا إذَا انْشَقَّ الْكِيسَانِ فَاخْتَلَطَا لِعَدَمِ الصُّنْعِ مِنْهُ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُودَعُ بَعْضَهَا ثُمَّ رَدَّ مِثْلَهُ فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي ضَمِنَ الْجَمِيعَ ) ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ مُتْلِفًا لَهَا بِإِنْفَاقِ بَعْضِهَا وَخَلْطِ بَاقِيهَا بِمَالِهِ لِأَنَّ الْمِثْلَ الَّذِي دَفَعَهُ هُوَ مَالُهُ وَالْخَلْطُ بِمَعْنَى الِاسْتِهْلَاكِ وَإِنْ أَخَذَ بَعْضَهَا لِنَفَقَتِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَدَّهُ وَوَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ فَضَاعَ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ لَا تُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَقَوْلُهُ فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي إنَّمَا ذُكِرَ الْخَلْطُ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا هَلَكَ الْبَاقِي قَبْلَ الْخَلْطِ فَإِنَّهُ يَهْلَكُ أَمَانَةً أَمَّا إذَا خَلَطَهُ بِالْبَاقِي صَارَ مُتَعَدِّيًا كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا تَعَدَّى الْمُودَعُ فِي الْوَدِيعَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا أَوْ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أَوْ عَبْدًا فَاسْتَخْدَمَهُ أَوْ أَوْدَعَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ وَرَدَّهَا إلَى يَدِهِ زَالَ الضَّمَانُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَدِيعَةِ ارْتَفَعَ حِينَ صَارَ ضَامِنًا فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ وَلَنَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالْحِفْظِ عَامٌ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْرُ لَا يَبْطُلُ بِالتَّعَدِّي بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَشَجَّهُ الْوَكِيلُ شَجَّةً أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً ثُمَّ بَاعَهُ صَحَّ بَيْعُهُ بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الرُّكُوبُ وَالِاسْتِخْدَامُ وَاللُّبْسُ لَمْ يَنْقُصْهَا أَمَّا إذَا نَقَصَهَا ضَمِنَهَا .
وَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ إذَا تَعَدَّى ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ لَا يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَجَحَدَهُ إيَّاهَا ضَمِنَهَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَالَبَهُ بِالرَّدِّ فَقَدْ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ بِالْإِمْسَاكِ غَاصِبٌ مَانِعٌ فَيَضْمَنُ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ جَحَدَهَا بِحَضْرَةِ الْمُودِعِ أَوْ بِحَضْرَةِ وَكِيلِهِ ضَمِنَهَا وَإِنْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِهَا لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ زُفَرُ يَضْمَنُ قَالَ فِي الْيَنَابِيعِ وَبِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُخْفِي وَدِيعَتَهُ فَجُحُودُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ طَمَعٍ لَفَقِيرَيْنِ قَوْلُهُ ( فَإِنْ عَادَ إلَى الِاعْتِرَافِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَهَا حُكِمَ لَهُ فِيهَا بِالْمِلْكِ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَهُ فَإِذَا اعْتَرَفَ بِهِ لِغَيْرِهِ بَعْدَ هَلَاكِهِ لَزِمَهُ ضَمَانٌ ، وَإِنْ طَلَبَ الْوَدِيعَةَ صَاحِبُهَا ، فَقَالَ الْمُودَعُ قُمْت فَنَسِيتهَا فَضَاعَتْ ضَمِنَ ، وَإِنْ قَالَ سَقَطَتْ مِنِّي لَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ قَالَ أَسْقَطْتهَا ضَمِنَ .
قَوْلُهُ ( وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا أَمَّا إذَا كَانَ مَخُوفًا يَضْمَنُ إجْمَاعًا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَنَهَاهُ صَاحِبُهَا عَنْ السَّفَرِ بِهَا فَسَافَرَ بِهَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ فِي الْمِصْرِ أَبْلَغُ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَصَدَ السُّلْطَانُ أَخْذَهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كَانَ لَهَا حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَمْ يُسَافِرْ بِهَا فَإِنْ سَافَرَ بِهَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَالِكَ أُجْرَةُ النَّقْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالْحِفْظِ لِلْفَقِيرَيْنِ مَحَلٌّ لِلْحِفْظِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْوَدِيعَةَ لِيَتْرُكَ أَشْغَالَهُ وَالسَّفَرُ مِنْ أَشْغَالِهِ فَلَا تَمْنَعُهُ الْوَدِيعَةُ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمَنْظُومَةِ لَا يَضْمَنُ الْمُودَعَ بِالْمُسَافَرَهْ عِنْدَ انْعِدَامَ النَّهْيِ وَالْمُخَاطَرَهْ وَيَجْعَلَانِ هَذِهِ مَضْمُونَهْ فِي كُلِّ مَا لِحَمْلِهِ مُؤَنَهْ قَيَّدَ بِانْعِدَامِ النَّهْيِ وَالْمُخَاطَرَةِ لِأَنَّهُ إذَا نَهَاهُ فَخَرَجَ بِهَا يَضْمَنُ إجْمَاعًا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حِمْلٌ وَلَا مُؤْنَةٌ لَا يَضْمَنُ بِالْمُسَافَرَةِ إجْمَاعًا وَاَلَّذِي لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ هُوَ مَا كَانَ يَحْتَاجُ فِي حَمْلِهِ إلَى ظَهْرٍ أَوْ أُجْرَةِ حَمَّالٍ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلَانِ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةً ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْهَا لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا حَتَّى يَحْضُرَ الْآخَرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَدْفَعُ إلَيْهِ نَصِيبَهُ ) وَالْخِلَافُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَهُمَا أَنَّهُ طَالَبَهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ وَلِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ مَا سَلَّمَ إلَيْهِ وَهُوَ النِّصْفُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِدَفْعِ نَصِيبِ الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْمُفْرَزِ وَحَقِّهِ فِي الْمُشَاعِ ، وَالْمُفْرَزُ الْمُعَيَّنُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَلَا يَتَمَيَّزُ حَقُّهُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ حَقِّهِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَلَكِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهِ وَيَحْفَظُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ أَنْ يَحْفَظَهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَحْفَظَ بِإِذْنِ الْآخَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ إلَى الْآخَرِ كَمَا فِي مَا لَا يُقْسَمُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَضِيَ بِحِفْظِهِمَا وَلَمْ يَرْضَ بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا فَوَقَعَ التَّسْلِيمُ إلَى الْآخَرِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ وَلَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمُودَعِ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لَا تُسَلِّمْهَا إلَى زَوْجَتِك فَسَلَّمَهَا إلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّسْلِيمِ فَنَهْيُهُ لَا يُؤَثِّرُ كَمَا إذَا قَالَ لَا تَحْفَظْهَا بِنَفْسِك وَلَا فِي صُنْدُوقِك ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ سِوَى الَّتِي نَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ إلَيْهَا الْوَدِيعَةُ مِمَّا تُحْفَظُ عَلَى أَيْدِي النِّسَاءِ كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ قَالَ لَهُ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ ) ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْبَيْتُ الَّذِي حَفِظَهَا فِيهِ أَنْقَصَ حِرْزًا مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ فِيهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الْبَيْتُ الثَّانِي أَحْرَزَ ضَمِنَ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ حَفِظَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الدَّارَيْنِ مُخْتَلِفٌ فِي الْحِرْزِ وَالْحِفْظِ .
وَأَمَّا إذَا تَسَاوَيَا فِي الْحِرْزِ أَوْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَحْرَزَ لَا يَضْمَنُ .
( مَسَائِلُ ) الْمُودَعُ إذَا وَضَعَ الْوَدِيعَةَ فِي الدَّارِ فَخَرَجَ وَالْبَابُ مَفْتُوحٌ فَجَاءَ سَارِقٌ فَأَخَذَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ أَحَدٌ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَضْيِيعٌ .
الدَّابَّةُ الْوَدِيعَةُ إذَا أَصَابَهَا مَرَضٌ أَوْ جُرْحٌ فَأَمَرَ الْمُودَعُ إنْسَانًا يُعَالِجُهَا فَعَطِبَتْ فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُودَعَ أَوْ الْمُعَالِجَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُودَعَ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُعَالِجَ إنْ عَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ أَوْ ظَنَّهَا لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ .
الْمُودَعُ إذَا خَافَ عَلَى الْوَدِيعَةِ الْفَسَادَ إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ رَفَعَ أَمْرَهَا إلَيْهِ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي بَيْعِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ بَاعَهَا وَضَمِنَهَا وَحَفِظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا وَعَلَى هَذَا اللُّقَطَةُ .
رَجُلٌ غَابَ عَنْ مَنْزِلِهِ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ فِيهِ وَفِيهِ وَدِيعَةٌ فَلَمَّا رَجَعَ لَمْ يَجِدْ الْوَدِيعَةَ إنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ أَمِينَةً لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ أَمِينَةٍ ضَمِنَ .
قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ سُوقِيٌّ قَامَ مِنْ حَانُوتِهِ إلَى الصَّلَاةِ وَفِيهِ وَدَائِعُ لِلنَّاسِ فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَيِّعٌ لِمَا فِي حَانُوتِهِ ؛ لِأَنَّ جِيرَانَهُ يَحْفَظُونَهُ .
رَجُلٌ دَفَعَ إلَى آخَرَ شَيْئًا لِيَنْثُرَهُ فِي عُرْسٍ إنْ كَانَ دَرَاهِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مِنْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَلَا لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَنْثُرَهُ ، وَلَوْ نَثَرَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ سُكَّرًا لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَنْثُرَهُ وَلَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مِنْهُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ .
رَجُلٌ أَوْدَعَ رَجُلًا زِنْبِيلًا فِيهِ آلَاتُ النَّجَّارِينَ ثُمَّ جَاءَ يَسْتَرِدُّهُ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ فِيهِ قَدُومًا فَذَهَبَتْ مِنْهُ ، وَقَالَ الْمُودَعُ قَبَضْت مِنْك الزِّنْبِيلَ وَلَا أَدْرِي مَا فِيهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ قَالُوا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ صُنْعًا ، وَكَذَا إذَا أَوْدَعَ دَرَاهِمَ فِي كِيسٍ وَلَمْ يَزِنْهَا عَلَى الْمُودَعِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْفِعْلَ وَهُوَ التَّضْيِيعُ أَوْ الْخِيَانَةُ .
الْمُودَعُ إذَا قَالَ ذَهَبَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ مَنْزِلِي وَلَمْ يَذْهَبْ مِنْ مَالِي شَيْءٌ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ خِلَافًا لِمَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ .
غَرِيبٌ مَاتَ فِي دَارِ رَجُلٍ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ وَخَلَّفَ شَيْئًا يَسِيرًا يُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَنَحْوَهَا وَصَاحِبُ الدَّارِ فَقِيرٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى اللُّقَطَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْعَارِيَّةِ ) هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ وَقِيلَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارِ ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ وَشَنَارٌ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ الْعَارِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ ؛ لِأَنَّ يَاءَ النَّسَبِ مُشَدَّدَةٌ وَالْعَارَةُ لُغَةٌ فِي الْعَارِيَّةِ قَالَ الْحَرِيرِيُّ حَتَّى إنَّ بِزَّتِي هَذِهِ عَارَةٌ وَبَيْتِي لَا يَطُوفُ بِهِ فَارَةٌ أَيْ لَا يَدُورُ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَسُمِّيَتْ عَارِيَّةً لِتَعَرِّيهَا عَنْ الْعِوَضِ وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَابِلَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ عَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ إلَّا قَرْضًا وَالْعَارِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ حَتَّى إنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ ) أَيْ مُفِيدَةٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ إحْسَانٍ وَفِعْلُ خَيْرٍ قَوْلُهُ ( وَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ هِيَ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَمْلِكُ أَنْ يُعِيرَ ، وَلَوْ كَانَتْ إبَاحَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ طَعَامٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَمْلِيكًا لَجَازَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ لَمَّا كَانَتْ تَمْلِيكًا لِلْمَنَافِعِ جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا قُلْنَا امْتِنَاعُ إجَارِهِ الْعَارِيَّةِ لَيْسَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعِيرَ مَلَّكَهُ الْمَنَافِعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ عَنْهَا مَتَى شَاءَ فَلَوْ جَازَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ لَتَعَلَّقَ بِالْإِجَارَةِ الِاسْتِحْقَاقُ فَقُطِعَ حَقُّ الْمُعِيرِ مِنْهَا فَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهَا .
قَوْلُهُ ( وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ وَدَارِي لَك سُكْنَى وَدَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى ) أَمَّا قَوْلُهُ أَعَرْتُك فَهُوَ صَرِيحُ الْعَارِيَّةِ وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ عَارِيَّةً أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُطْعَمُ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَنْفَعَةَ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ كَانَ إبَاحَةً لِلْعَيْنِ وَقَوْلُهُ مَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَارِيَّةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ ، وَلَوْ كَانَتْ تَقْتَضِي مِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ يَجِبْ رَدُّهَا الْمِنْحَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْعَطِيَّةُ يُقَالُ مَنَحَهُ يَمْنَحُهُ وَيَمْنَحُهُ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا إذَا أَعْطَاهُ شَيْئًا كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَقَوْلُهُ عُمْرَى سُكْنَى بَيَانٌ لِلْمَنْفَعَةِ وَتَوْقِيتُهَا بِعُمُرِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ سُكْنَاهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَقَوْلُهُ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ رَاجِعٌ إلَى مَنَحْتُك وَحَمَلْتُك فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهِمَا إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ ذَلِكُمَا .
قَوْلُهُ وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ صَرِيحٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ .
وَقَوْلُهُ وَدَارِي لَك سُكْنَى أَيْ سُكْنَاهَا لَك .
قَوْلُهُ ( وَلِلْمُعِيرٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ ) ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ تَحْدُثُ حَالًا فَحَالًا فَمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَبْضٌ فَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ .
قَوْلُهُ ( وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ ) قَالَ عَبْدُ السَّلَامِ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ فَإِنْ شَرَطَ فِيهَا الضَّمَانَ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالشَّرْطِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا ، وَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَغَصْبًا تَأْخُذُهَا يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً فَأَخَذَهَا بِشَرْطِ الضَّمَانِ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ لَوْ قَالَ أَعِرْنِي دَابَّتَك أَوْ ثَوْبَك فَإِنْ ضَاعَ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ فَالشَّرْطُ لَغْوٌ وَلَا يَضْمَنُ .
وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْإِجَارَةُ لَا يُضْمَنَانِ أَبَدًا ، وَلَوْ شَرَطَ فِيهِمَا الضَّمَانَ ، وَإِنَّمَا يُضْمَنَانِ بِالتَّعَدِّي كَذَا فِي الْكَرْخِيِّ وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا تَعَدَّى ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ لِلتَّعَدِّي تَأْثِيرًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي الْوَدِيعَةِ ضَمِنَهَا فَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً إلَى مَوْضِعٍ سَمَّاهُ فَجَاوَزَ بِهَا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَصَارَ بِرُكُونِهِ فِيهِ غَاصِبًا فَلِهَذَا ضَمِنَ فَإِنْ رَجَعَ بِهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعَارَهَا إلَيْهِ فَعَطِبَتْ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ .
وَقَالَ زُفَرُ يَبْرَأُ اعْتِبَارًا الْوَدِيعَةِ إذَا تَعَدَّى فِيهَا الْمُودَعُ ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ وَلَنَا أَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِالتَّعَدِّي فَلَا يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا كَالْغَاصِبِ .
قَوْلُهُ ( وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَعَارَهُ ) فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا فَوْقَهُ وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَارِيَّةِ الرُّجُوعُ وَتَعَلُّقُ الْمُسْتَأْجِرِ بِهَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ فَإِنْ آجَرَهَا ضَمِنَ حِينَ سَلَّمَهَا ، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَهُ وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ رَجَعَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَارِيَّةٌ فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغَرُورِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ .
قَوْلُهُ ( وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَإِذَا كَانَتْ تَمْلِيكًا فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا جَازَ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَى حَسَبِ مَا مَلَكَ ، وَإِنَّمَا شَرْطٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِيرَ إذَا صَدَرَتْ مُطْلَقَةً بِأَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ فَلَهُ أَنْ يُعِيرَ حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ رُكُوبُهُ ، وَلَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ الْإِرْكَابُ فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ أَوْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ هُوَ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَتَلِفَ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ هُنَا بِرُكُوبِهِ وَلُبْسِهِ ، وَإِنْ اسْتَعَارَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا هُوَ فَأَعَارَهَا غَيْرَهُ فَسَكَنَهَا لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الدُّورَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ .
قَوْلُهُ ( وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضٌ ) ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا ، وَكَذَا الْمَعْدُودُ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قَرْضًا إذَا أَطْلَقَ الْعَارِيَّةَ أَمَّا إذَا اسْتَعَارَهَا لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يَزِينَ بِهَا دُكَّانًا كَانَتْ عَارِيَّةً لَا قَرْضًا فَإِنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ نَخْلًا جَازَ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تُوجِبُ الِاسْتِرْجَاعَ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغُهَا قَوْلُهُ ( فَإِنْ لَمْ يُوقِفْ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) يَعْنِي فِي نُقْصَانِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ حَيْثُ اغْتَرَّ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْوَعْدِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَارِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ فَلَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا وَالرُّجُوعُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْغُرُورِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّة فَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ ضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَوْقِيتِ الْمُدَّةِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ إذَا وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ وَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ رُجُوعُهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ وَيَضْمَنُ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَيَكُونَانِ لَهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ ، وَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ ؛ لِأَنَّ لِلزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَيُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ ، وَإِنَّمَا يُتْرَكُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ حَتَّى لَا يَتَضَرَّرَ الْمُعِيرُ مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَرْسُ ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ .
قَوْلُهُ ( وَأُجْرَةُ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ) ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَفِي الْوَدِيعَةِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا وَفِي الرَّهْنِ مُؤْنَةُ رَدِّ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَنَفَقَةُ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَعَلَفُ الدَّابَّةِ الْمُسْتَعَارَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْكِسْوَةُ عَلَى الْمُعِيرِ وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ، وَإِنْ أَعَارَهُ مَوْلَاهُ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى فَالِاسْتِعَارَةُ أَنْ يَقُولَ أَعِرْنِي عَبْدَك وَالْإِعَارَةُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى خُذْ عَبْدِي وَاسْتَخْدِمْهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ قَوْلُهُ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ شَامِلَةٌ لِلْمُؤَجَّرِ مَعْنًى .
قَوْلُهُ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِعَادَةُ إلَى يَدِ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ نَقَلَهَا مِنْ مَالِكِهَا غَصْبًا .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ صَاحِبِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ؛ لِأَنَّ إصْطَبْلَه يَدُهُ ، وَلَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَالْمَالِكُ يَرُدُّهَا إلَى الْإِصْطَبْلِ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا وَلَا إلَى وَكِيلِهِ فَكَانَ مُضَيِّعًا لَهَا وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً بِخِلَافِ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ ، وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا رَدَّهَا إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهُ إلَى عَبْدِهِ ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنْ رَدَّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْإِعَارَةِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَرَدَّهَا إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ ضَمِنَ ) وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ يَضْمَنْ وَكَذَا هُوَ فِي شَرْحِهِ لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ فِي آلَاتِ الْمَنْزِلِ .
وَفِي الْهِدَايَةِ إنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا وَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الْمُعِيرِ وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي مَتْنِ الْكِتَابِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ ضَمِنَ ) وَكَذَا الْمَغْصُوبُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ الْوَدِيعَةُ لَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِرَدِّهَا إلَى الدَّارِ وَلَا إلَى يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَى ذَلِكَ لَمَا أَوْدَعَهَا بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ ؛ لِأَنَّ فِيهَا عُرْفًا حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عَقْدَ جَوْهَرٍ لَمْ يَرُدَّهَا إلَّا إلَى الْمُعِيرِ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ وَمَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ الْمُعَارُ إنَّك قَدْ أَطْعَمْتَنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكْتُبُ أَنَّك قَدْ أَعَرْتَنِي ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ أَوْلَى كَمَا فِي إعَارَةِ الدَّارِ وَلَهُ أَنَّ لَفْظَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّهَا تَخُصُّ الزِّرَاعَةَ وَالْإِعَارَةُ تَنْتَظِمُ الزِّرَاعَةَ وَغَيْرَهَا كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ بِهَا أَوْلَى بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا لَا تُعَارُ إلَّا لِلسُّكْنَى .
( مَسَائِلُ ) قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَنَامَ الْمُسْتَعِيرُ فِي الْمَفَازَةِ وَمِقْوَدُهَا فِي يَدِهِ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَقَطَعَ الْمِقْوَدَ وَذَهَبَ بِهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ مَدَّ الْمِقْوَدَ فَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُضَيِّعٍ وَهَا هُنَا مُضَيَّعٌ ، وَهَذَا إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا أَمَّا إذَا نَامَ قَاعِدًا لَا يَضْمَنُ ، وَلَوْ كَانَ الْمِقْوَدُ لَيْسَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَيِّعٍ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إذَا نَامَ قَاعِدًا فَسُرِقَتْ الْوَدِيعَةُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ نَصَّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا السَّرَخْسِيُّ .
رَجُلٌ اسْتَعَارَ كِتَابًا لِيَقْرَأَ فِيهِ فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً إنْ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يَكْرَهُ إصْلَاحَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصْلِحَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ إصْلَاحَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ دَلَالَةً وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ .
رَجُلٌ اسْتَعَارَ ثَوْرًا فَاسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ فِي الْمَرْعَى فَضَاعَ إنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُعِيرَ يَرْضَى بِكَوْنِهِ هُنَاكَ يَرْعَى وَحْدَهُ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ لَا يَضْمَنُ وَإِلَّا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، رَجُلٌ طَلَبَ مِنْ آخَرَ ثَوْرًا عَارِيَّةً ، فَقَالَ لَهُ غَدًا أُعْطِيك فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَخَذَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَمَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ رَدَّهُ فَمَاتَ عِنْدَ صَاحِبِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
امْرَأَةٌ أَعَارَتْ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ إنْ أَعَارَتْ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ مِمَّا يَكُونُ عَلَى أَيْدِي النِّسَاءِ عَادَةً فَضَاعَ لَا يُضْمَنُ .
وَلَوْ زَلَقَ مُسْتَعِيرُ السَّرَاوِيلِ فَتَخَرَّقَ
لَا يَضْمَنُ رَجُلٌ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَاسْتَعْمَلَ آنِيَةَ الْحَمَّامِ فَانْكَسَرَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا أَعْطَاهُ صَاحِبُ الْفُقَّاعِ كُوزَ الْفُقَّاعِ لِيَشْرَبَهُ فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ وَانْكَسَرَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِهِ ، وَلَوْ أَتَى إلَى سُوقِيٍّ يَبِيعُ الْآنِيَةَ وَأَخَذَ إنَاءً بِغَيْرِ إذْنِهِ لِيَنْظُرَ إلَيْهِ فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ فَانْكَسَرَتْ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( كِتَابُ اللَّقِيطِ ) .
اللَّقِيطُ اسْمٌ لِمَنْبُوذٍ مِنْ بَنِي آدَمَ نُبِذَ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ التُّهْمَةِ مُضَيِّعُهُ آثِمٌ وَمُحْرِزُهُ غَانِمٌ وَأَخْذُهُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ وَسُمِّيَ لَقِيطًا بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ لِمَا أَنَّهُ يُلْقَطُ وَالِالْتِقَاطُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِيمَا إذَا كَانَ فِي الْمِصْرَ وَوَاجِبٌ إذَا كَانَ فِي بَرِّيَّةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( اللَّقِيطُ حُرٌّ ) أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ حَتَّى إنَّ قَاذِفَهُ يُحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ وَالدَّارُ دَارُ الْإِسْلَامِ وَهِيَ دَارُ الْإِحْرَازِ ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ عَدْلًا وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالْكِتَابَةُ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ مِثْلَ أَوْلَادِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا الْتَقَطَ لَقِيطًا فَجَاءَ بِهِ إلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، فَقَالَ هُوَ حُرٌّ قَوْلُهُ ( وَنَفَقَتُهُ مِثْلُ بَيْتِ الْمَالِ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا قَرَابَةٌ ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَقْلُهُ عَلَيْهِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَنْبُوذٍ ، فَقَالَ وَجَدْته عَلَى بَابِي ، فَقَالَ عُمَرُ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا نَفَقَتُهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حُرٌّ فَقَوْلُهُ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ اتَّهَمَهُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ وَأَنَّ الْبَأْسَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ وَالْغُوَيْرُ بَلَدٌ وَالْبُؤْسُ الْقَحْطُ وَالْمَنْبُوذُ الطِّفْلُ الْمَرْمِيُّ بِهِ فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُلْتَقِطُ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى اللَّقِيطِ لِعَدَمِ وَلَايَتِهِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي لِيَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْأَمْرِ مِنْ الْقَاضِي فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ
قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ إذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْقَاضِي وَلَكِنْ صَدَّقَهُ اللَّقِيطُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فَإِنْ أَبَى الْمُلْتَقِطُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنْهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْقُلَهُ عَنْهُ إلَى يَدِ عَدْلٍ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَقِيطٌ ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ الْبَيِّنَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَابْنِهِ وَعَبْدِهِ فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي يَطْلُبُ رَدَّهُ إلَى يَدِهِ فَالْقَاضِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهُ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْزِعَهُ إلَّا لِيَدٍ هِيَ أَوْلَى مِنْ يَدِهِ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُلْتَقِطُ نَسَبَهُ أَمَّا إذَا ادَّعَاهُ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ غَيْرُ الْمُلْتَقِطِ أَنَّهُ ابْنُهُ فَهُوَ لِلْمُدَّعِي صَدَّقَهُ الْمُلْتَقِطُ أَوْ كَذَّبَهُ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ لِلصَّبِيِّ بِمَا يَنْفَعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَشْرُفُ بِالنَّسَبِ وَيُعَيَّرُ بِعَدَمِهِ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَلَامَةَ تَدُلُّ عَلَى سَبَقِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ عَلَامَةَ وَلَدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فَهُوَ ابْنُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ ، وَإِنْ سَبَقَتْ دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ ابْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي زَمَانٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ إلَّا إذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى قَالَ الْخُجَنْدِيُّ إذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ ذِمِّيٌّ قُضِيَ بِهِ لِلْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ قُضِيَ بِهِ لِمَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، وَإِنْ أَقَامَاهَا جَمِيعًا قُضِيَ بِهِ لَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَوَّزَهُ إلَى خَمْسَةٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَثْبُتُ مِنْ اثْنَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَلَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ أَوْ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَمْلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْعَلُ ابْنَهُمَا وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تَلِدَ امْرَأَتَانِ وَلَدًا وَاحِدًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ لَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْوِلَادَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ أُخَرُ مِنْ تَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَحَقِّ الْحَضَانَةِ وَوُجُوبِ الْإِرْثِ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَادَّعَى ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ) ؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ نَسَبِهِ نَفْعًا لَهُ ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إلْحَاقُ ضَرَرٍ بِهِ فَمَا يُكْسِبُهُ الضَّرَرَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ النَّفْعُ فَهُوَ جَائِزٌ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وُجِدَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كَانَ ذِمِّيًّا ) الْبِيعَةُ لِلْيَهُودِ وَالْكَنِيسَةُ لِلنَّصَارَى ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِدُ ذِمِّيًّا رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ ذِمِّيًّا فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَةُ فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ اللَّقِيطِ اُعْتُبِرَ الْمَكَانُ وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى اُعْتُبِرَ الْإِسْلَامُ وَفِي رِوَايَةٍ أَيَّهُمَا كَانَ الْوَاجِدُ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِقُوَّةِ الْيَدِ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ حُرٌّ بِالظَّاهِرِ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَصَدَّقَهُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ يُنْظَرُ إنْ جَرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ أَوْ حَدِّ قَاذِفِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَصِيرُ عَبْدًا بِتَصْدِيقِهِ إيَّاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْرَارِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّذِي ادَّعَاهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ حُرًّا ) ؛ لِأَنَّا نُرَاعِي حُصُولَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ وَثُبُوتُ النَّسَبِ أَنْفَعُ لَهُ وَكَوْنُهُ رَقِيقًا ضَرَرٌ عَلَيْهِ فَصَحَّ مَا فِيهِ نَفْعُهُ وَبَطَلَ مَا فِيهِ ضَرَرُهُ وَلِأَنَّ الْمَمْلُوكَ قَدْ تَلِدُ لَهُ الْحُرَّةُ فَلَا تَبْطُلُ الْحُرِّيَّةُ الظَّاهِرَةُ بِالشَّكِّ وَإِنْ ادَّعَاهُ مَمْلُوكَانِ فَهُوَ ابْنُهُمَا وَيَكُونُ عَبْدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُهُمَا وَيَكُونُ حُرًّا ، وَلَوْ قَالَ الْمُسْلِمُ هُوَ عَبْدِي ، وَقَالَ النَّصْرَانِيُّ هُوَ ابْنِي فَهُوَ ابْنُ النَّصْرَانِيِّ وَيَكُونُ حُرًّا .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُ ) اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا بِقُرْبِهِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِهِ وَيَكُونُ لُقَطَةً ، وَإِنْ وُجِدَ اللَّقِيطُ عَلَى دَابَّةٍ فَهِيَ لَهُ وَحُكِيَ أَنَّ لَقِيطَةً وُجِدَتْ بِبَغْدَادَ وَعِنْدَ صَدْرِهَا رَقٌّ مَنْشُورٌ فِيهِ : وَهَذِهِ بِنْتُ شَقِيٍّ وَشَقِيَّةٍ ، بِنْتُ الطَّبَاهِجَةِ وَالْقِلِّيَّة ، وَمَعَهَا أَلْفُ دِينَارٍ جَعْفَرِيَّةٌ ، يُشْتَرَى بِهَا جَارِيَةٌ هِنْدِيَّةٌ ، وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يُزَوِّجْ بِنْتَهُ وَهِيَ كَبِيرَةٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهِيَ صَغِيرَةٌ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمُلْتَقِطِ اللَّقِيطَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمِلْكِ وَالْقَرَابَةِ وَالسَّلْطَنَةِ وَالتَّصَرُّفِ عَلَى الصَّغِيرِ إنَّمَا هُوَ بِالْوَلَايَةِ وَلَا يُزَوِّجُهُ إلَّا الْحَاكِمُ .
قَوْلُهُ ( وَلَا تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ اللَّقِيطِ ) اعْتِبَارًا بِالْأُمِّ قَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ لَهُ الْهِبَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ .
قَوْلُهُ ( وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ ) ؛ لِأَنَّهُ بَابُ تَثْقِيفِهِ وَاسْتِجْلَابُ الْمَنَافِعِ لَهُ قَوْلُهُ ( وَيُؤَجِّرُهُ ) هَذِهِ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَمَّ بِخِلَافِ الْأُمِّ فَإِنَّهَا تَمْلِكُهَا ، وَجِنَايَةُ اللَّقِيطِ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لَا لِلَّذِي الْتَقَطَهُ فَإِذَا قُتِلَ اللَّقِيطُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ إلَّا الْمُسْلِمُونَ وَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَ الْقَاتِلَ وَإِنْ شَاءَ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّ وَلَايَةَ الْإِمَامِ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَهُوَ كَالْوَصِيِّ وَالْوَصِيُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إسْقَاطَ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ اللُّقَطَةِ ) هِيَ بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَتَحْرِيكِهَا وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُلْتَقَطُ مِنْ الْمَالِ وَأَخْذُهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ؛ لِأَنَّ مَا سِوَاهُمَا يُخَافُ عَلَيْهِ الضَّيَاعُ وَالتَّلَفُ فَفِي أَخْذِهِ صِيَانَةٌ لَهُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( اللُّقَطَةُ أَمَانَةٌ إذَا أَشْهَدَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ وَاجِبٌ إذَا خَافَ الضَّيَاعَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا كَالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، وَإِنْ أَخَذَهَا وَلَمْ يُشْهِدْ ، وَقَالَ أَخَذْتهَا لِلْمَالِكِ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَهَا عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَضْمَنُهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ اللُّقَطَةِ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَخْذًا مَضْمُونًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَخْذُ وَادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِمَالِكِهِ فَلَا يَبْرَأُ ، وَلَوْ أَخَذَ لُقَطَةً لِيَأْكُلَهَا أَوْ لِيَمْسِكَهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إلَى يَدِ صَاحِبِهَا .
وَقَالَ زُفَرُ إذَا رَدَّهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ بَرِيءَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ فَأَشْبَهَ مَا إذَا أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ وَقَعَ لِنَفْسِهِ فَصَارَ غَاصِبًا وَالْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ ، وَكَذَا الْغَاصِبُ إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَرُدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا فَتَلِفَتْ فِي ذَلِكَ الرُّكُوبِ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى يَدِ صَاحِبِهَا إلَّا إلَى يَدِ
وَكِيلِهِ فَإِنْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا إنْ كَانَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى رَدَّهَا فِيهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ ذَهَبَ بِهَا عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَرَدَّهَا ضَمِنَ وَيَكْفِي فِي الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يُنْشِدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ سَوَاءٌ كَانَتْ اللُّقَطَةُ وَاحِدَةً أَوْ أَكْثَرَ يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً ثُمَّ إذَا أَشْهَدَ فَجَاءَ صَاحِبُهَا يَطْلُبُهَا ، فَقَالَ قَدْ هَلَكَتْ فَهُوَ مُصَدَّقٌ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ حِينَ أَشْهَدَ وَالْأَمِينُ لَا يَضْمَنُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَقَوْلُهُ إذَا أَشْهَدَ الْإِشْهَادُ حَتْمٌ عِنْدَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَمَّا إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُشْهِدُهُ أَوْ خَافَ إذَا أَشْهَدَ أَنْ يَأْخُذَهُ الظَّلَمَةُ فَتَرَكَ الْإِشْهَادَ لَمْ يَضْمَنْ إجْمَاعًا .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا ، وَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا كَامِلًا ) وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُهُ أَيَّامًا مَعْنَاهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّعْرِيفَ عَلَى قَدْرِ خَطَرِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا ، وَإِنْ كَانَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَشَهْرًا ، وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَفِي الْخُجَنْدِيِّ إذَا كَانَتْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا جُمُعَةً ، وَإِنْ كَانَتْ دِرْهَمًا فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَإِنْ كَانَتْ دَانِقًا فَيَوْمًا يَعْنِي إذَا كَانَ الدَّانِقُ فِضَّةً أَمَّا إذَا كَانَ ذَهَبًا فَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَتْ كِسْرَةً أَوْ تَمْرَةً أَوْ نَحْوَهَا تَصَدَّقَ بِهَا مَكَانَهَا ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا أَكَلَهَا وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ الْمَقَادِيرَ كُلَّهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ ، وَإِنَّمَا يُعَرِّفُهَا مُدَّةً يَقَعُ بِهَا التَّعْرِيفُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ثُمَّ التَّعْرِيفُ إنَّمَا يَكُونُ جَهْرًا فِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ وَفِي الْمَجَامِعِ ، وَإِنْ وَجَدَ اللُّقَطَةَ رَجُلَانِ عَرَّفَاهَا جَمِيعًا وَاشْتَرَكَا فِي حُكْمِهَا ، وَلَوْ ضَاعَتْ اللُّقَطَةُ مِنْ يَدِ مُلْتَقِطِهَا فَوَجَدَهَا فِي يَدِ آخَرَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ارْتَفَعَتْ يَدُهُ ، وَلَوْ كَانَا يَمْشِيَانِ فَرَأَى أَحَدُهُمَا لُقَطَةً ، فَقَالَ صَاحِبُهُ هَاتِهَا فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَهِيَ لِلْآخِذِ دُونَ الْآمِرِ وَإِذَا كَانَتْ اللُّقَطَةُ شَيْئًا يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا كَالنَّوَى الْمُبَدَّدِ فَإِنَّهُ يَكُونُ إبَاحَةً يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَلَكِنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَالِكِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ الْتِقَاطُ السَّنَابِلِ فِي أَيَّامِ الْحَصَادِ إنْ كَانَ قَلِيلًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ
عَلَى صَاحِبِهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ وَإِلَّا فَلَا يَأْخُذُهُ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا ) أَمَّا إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَجِئْ يَتَصَدَّقْ بِهَا لِيَصِلَ خَلْفُهَا إلَيْهِ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى اعْتِبَارِ إجَازَتِهِ التَّصَدُّقَ بِهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا رَجَاءَ الظَّفَرِ بِصَاحِبِهَا .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا ) يَعْنِي بَعْدَ التَّصَدُّقِ بِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابَهَا ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ فَإِنْ ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْمِسْكِينِ ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّضْمِينِ مَلَكَهَا فَظَهَرَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَهُ ثَوَابُهَا ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْمُلْتَقِطِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَإِذَا ضَمَّنَهَا الَّذِي تَبَرَّعَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ .
قَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ الْتِقَاطُ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَالْبَعِيرِ ) هَذَا إذَا خَافَ عَلَيْهِمْ التَّلَفَ وَالضَّيَاعَ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ فِيهَا الْأُسْدُ وَاللُّصُوصُ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مَأْمُونَةَ التَّلَفِ لَا يَأْخُذُهَا أَمَّا الشَّاةُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ } .
وَأَمَّا الْإِبِلُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَا لَك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَأْتِيَهَا صَاحِبُهَا فَيَأْخُذَهَا } .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُلْتَقِطُ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ ) لِقُصُورِ وَلَايَتِهِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ أَنْفَقَ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا ) ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً فِي مَالِ الْغَائِبِ نَظَرًا لَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ قَوْلُهُ ( وَإِذَا رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ نَظَرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ لِلْبَهِيمَةِ مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مِنْ أُجْرَتِهَا ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْقَاءَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ وَخَافَ أَنْ تَسْتَغْرِقَ النَّفَقَةُ قِيمَتَهَا بَاعَهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِ ثَمَنِهَا ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَاظِرٌ مُحْتَاطٌ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَصْلَحَ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَذِنَ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلَ النَّفَقَةَ دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ نَصَّبَ نَاظِرًا وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى رَجَاءَ أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ يَأْمُرُ بِبَيْعِهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصِلَةٌ فَلَا نَظَرَ فِي الْإِنْفَاقِ مُدَّةَ مَدِّ يَدِهِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ شَرْطٌ فِي الْأَصْلِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَصْبًا فِي يَدِهِ فَلَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ فِي الْوَدِيعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ لِكَشْفِ الْحَالِ ، وَإِنْ قَالَ لَا بَيِّنَةَ لِي يَقُولُ لَهُ الْقَاضِي أَنْفِقْ عَلَيْهَا إنْ كُنْت صَادِقًا فِيمَا قُلْت حَتَّى يَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ إنْ كَانَ صَادِقًا وَلَا يَرْجِعُ إنْ كَانَ غَاصِبًا .
قَوْلُهُ ( فَإِذَا حَضَرَ الْمَالِكُ فَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا حَتَّى يَأْخُذَ النَّفَقَةَ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَا مِلْكَهُ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ثُمَّ لَا يَسْقُطُ دَيْنُ النَّفَقَةِ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُلْتَقِطِ قَبْلَ الْحَبْسِ وَيَسْقُطُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْحَبْسِ يُشْبِهُ الرَّهْنَ .
قَوْلُهُ ( وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ ) هَذَا احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ مَا يُلْتَقَطُ فِي الْحَرَمِ يُعَرِّفُهُ أَبَدًا إلَى أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهُ .
قَوْلُهُ ( وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ وَادَّعَى أَنَّ اللُّقَطَةَ لَهُ لَمْ تُدْفَعْ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ فَلَا يُصَدَّقُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ إلَّا أَنَّهُ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ جَازَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَّفَ عِفَاصَهَا } قَوْلُهُ ( فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا حَلَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُجْبَرُ ، وَالْعَلَامَةُ أَنْ يُسَمِّيَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا وَلَوْ صَدَّقَهُ قِيلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَقِيلَ يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هَا هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالْمُودَعُ مَالِكٌ ظَاهِرًا .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ ) ؛ لِأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ لَيْسُوا بِمَحَلٍّ لِلصَّدَقَةِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ) ؛ لِأَنَّهَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ وَالْإِبَاحَةُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلصَّدَقَةِ بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ ذُو حَاجَةٍ ، .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُعَرِّفُ أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ } .
قَوْلُهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا إذَا كَانَ غَنِيًّا عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا إذَا كَانَ فَقِيرًا جَازَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى هَؤُلَاءِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْخُنْثَى ) هُوَ اسْمٌ لِمَوْلُودٍ لَهُ فَرْجٌ وَذَكَرٌ يُورَثُ مِنْ حَيْثُ مَبَالِهِ فَإِذَا اشْتَبَهَ حَالُهُ وَرِثَ بِالْأَحْوَطِ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرْجٌ وَلَا ذَكَرٌ وَيَخْرُجُ الْحَدَثُ مِنْ دُبُرِهِ أَوْ مِنْ سُرَّتِهِ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( إذَا كَانَ لِلْمَوْلُودِ فَرْجٌ وَذَكَرٌ فَهُوَ خُنْثَى فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ الذَّكَرِ فَهُوَ غُلَامٌ ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ الْفَرْجِ فَهُوَ أُنْثَى ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْهُمَا وَالْبَوْلُ يَسْبِقُ مِنْ أَحَدِهِمَا يُنْسَبُ إلَى الْأَسْبَقِ ) ؛ لِأَنَّ السَّبْقَ مِنْ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَأَنَّهُ عَدَلَ إلَى الْمَجْرَى الْآخَرِ لِعِلَّةٍ أَوْ عَارِضٍ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَا فِي السَّبْقِ سَوَاءً فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ؛ لِأَنَّ الْبَوْلَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ لِأَجْلِ ضِيقِ الْمَخْرَجِ وَسَعَتِهِ فَلَا دَلَالَةَ لِقِلَّتِهِ وَلَا لِكَثْرَتِهِ قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُنْسَبُ إلَى أَكْثَرِهِمَا ) بَوْلًا ؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَجْرَى فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَيَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْكَثْرَةِ قَالُوا جَمِيعًا لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ وَهُوَ مُشْكِلٌ يَنْتَظِرُ بِهِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ .
قَوْلُهُ ( فَإِذَا بَلَغَ الْخُنْثَى وَخَرَجَ لَهُ لِحْيَةٌ أَوْ وَصَلَ إلَى النِّسَاءِ فَهُوَ رَجُلٌ ) وَكَذَا إذَا احْتَلَمَ كَمَا يَحْتَلِمُ الرِّجَالُ أَوْ كَانَ لَهُ ثَدْيٌ مُسْتَوِي .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ثَدْيٌ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فِي ثَدْيِهِ أَوْ حَاضَ أَوْ حَبِلَ أَوْ أَمْكَنَ الْوُصُولُ إلَيْهِ مِنْ الْفَرْجِ فَهُوَ امْرَأَةٌ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ النِّسَاءِ .
وَأَمَّا خُرُوجُ الْمَنِيِّ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْمَرْأَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّجُلِ كَذَا فِي شَرْحِهِ وَصُورَةُ الْحَبَلِ بِأَنْ يَتَمَسَّحَ بِخِرْقَةٍ فِيهَا مَنِيٌّ فَإِنْ قِيلَ ظُهُورُ الثَّدْيَيْنِ عَلَامَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ اللَّبَنِ قِيلَ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ قَدْ يَنْزِلُ وَلَا ثَدْيَ أَوْ يَظْهَرُ لَهُ ثَدْيٌ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْ ثَدْيِ الرَّجُلِ فَإِذَا نَزَلَ اللَّبَنُ وَقَعَ التَّمْيِيزُ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ إحْدَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ ) إنَّمَا قَالَ فَهُوَ وَلَمْ يَقُلْ فَهِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنَّثَهُ يَكُونُ تَعْيِينًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَقِيلَ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ هُوَ الْأَصْلُ لَا عَلَى التَّعْيِينِ .
قَوْلُهُ ( فَإِذَا وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِلَ يُؤْخَذُ لَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ بِالْأَحْوَطِ فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا يَقِفُ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَإِذَا وَقَفَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَإِذَا وَقَفَ فِي صَفِّ النِّسَاءِ أَفْسَدْنَ عَلَيْهِ فَأُمِرَ بِالْوُقُوفِ بَيْنَ ذَلِكَ لِيَأْمَنَ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ وَقَفَ فِي صَفِّ النِّسَاءِ أَعَادَ صَلَاتَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ وَإِنْ قَامَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَيُعِيدُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ وَاَلَّذِي عَنْ يَسَارِهِ وَاَلَّذِي خَلْفَهُ بِحِذَائِهِ صَلَاتَهُمْ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُصَلِّيَ بِقِنَاعٍ وَيَجْلِسَ فِي صَلَاتِهِ كَمَا تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ قِنَاعٍ أُمِرَ بِالْإِعَادَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَهُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ وَيُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ وَأَنْ يَنْكَشِفَ قُدَّامَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَأَنْ يُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ مِنْ الرِّجَالِ وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ، وَقَدْ رَاهَقَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا عِلْمَ لِي بِلِبَاسِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْمَخِيطِ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَلْبَسُ لِبَاسَ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَهُوَ امْرَأَةٌ أَفْحَشُ مِنْ لُبْسِهِ وَهُوَ رَجُلٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ وَفِي شَرْحِهِ إذَا أَحْرَمَ بَعْدَ مَا بَلَغَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا عِلْمَ لِي بِلِبَاسِهِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَلْبَسُ لِبَاسَ امْرَأَةٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً فَسَتْرُهُ أَوْلَى مِنْ كَشْفِهِ وَيَنْبَغِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ الدَّمُ احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ لَمْ يُغَسِّلْهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ بَلْ يُيَمَّمُ فَإِنْ يَمَّمَهُ أَجْنَبِيٌّ يَمَّمَهُ بِخِرْقَةٍ ، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ يَمَّمَهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَلَا يُقَالُ هَلَّا يُشْتَرَى لَهُ جَارِيَةٌ تُغَسِّلُهُ كَمَا قُلْتُمْ فِي الْخِتَانِ قُلْنَا الْمَيِّتُ لَا يَمْلِكُ فَالْجَارِيَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً ، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ يُجْعَلُ فِي كُوَّارَةٍ وَيُغَسَّلُ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ يُشْتَهَى أَمَّا إذَا كَانَ طِفْلًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَهُ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ وَيُسْجَى قَبْرُهُ وَيُكَفَّنُ كَمَا تُكَفَّنُ الْمَرْأَةِ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ ، قَالَ فِي الْيَنَابِيعِ لَا يُقْتَلُ الْخُنْثَى بِالرِّدَّةِ وَيُحَدُّ فِي الْقَذْفِ فِي السَّرِقَةِ إذَا كَانَ قَدْ بَلَغَ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْبُوبِ وَقَاذِفُ الْمَجْبُوبِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا قِصَاصَ فِي أَطْرَافِهِ وَيَجِبُ فِيهِ دِيَةُ الْأُنْثَى إذَا قُتِلَ خَطَأً .
قَوْلُهُ ( وَتُبْتَاعُ لَهُ أَمَةٌ تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ) ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ رَجُلًا فَأَمَةُ الرَّجُلِ تَنْظُرُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَالْمَرْأَةُ تَنْظُرُ إلَى الْمَرْأَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ يُشْتَهَى أَمَّا إذَا كَانَ لَا يُشْتَهَى جَازَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَنْ يَخْتِنُوهُ قَوْلُهُ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ابْتَاعَ لَهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَمَةً تَخْتِنُهُ فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا الْإِمَامُ وَرَدَّ ثَمَنَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ) ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهَا إنَّمَا هُوَ لِلْحَاجَةِ وَبَعْدَ فَرَاغِهَا زَالَتْ الْحَاجَةُ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ مَاتَ أَبُوهُ وَخَلَّفَ ابْنًا وَخُنْثَى فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ سَهْمَانِ وَلِلْخُنْثَى وَهُوَ ابْنَةُ عِنْدَهُ فِي الْمِيرَاثِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ غَيْرُ ذَلِكَ ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ نَصِيبَ الْأُنْثَى أَكْثَرُ مِنْ نَصِيبِ الذَّكَرِ فَيُعْطَى حِينَئِذٍ نَصِيبَ ذَكَرٍ وَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَوَلَدٍ خُنْثَى فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ إذْ لَوْ كَانَ أُنْثَى لَكَانَ لَهُ سِتَّةٌ وَكَانَتْ تَعُولُ الْمَسْأَلَةُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَمِنْهَا إذَا مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأَخٍ لِأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ وَأُمٍّ مِنْ سِتَّةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ سَهْمٌ وَالْبَاقِي لِلْخُنْثَى وَهُوَ سَهْمَانِ ، وَلَوْ كَانَ أُنْثَى لَهَا ثَلَاثَةٌ وَمِنْهَا إذَا مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ مِنْ اثْنَيْنِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ سَهْمٍ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ سَهْمٍ وَلَا شَيْءَ لِلْخُنْثَى بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى مَتَى وَرِثَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ لَا يَرِثُ بِالشَّكِّ .
قَوْلُهُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لِلْخُنْثَى نِصْفُ مِيرَاثِ رَجُلٍ وَنِصْفُ مِيرَاثِ أُنْثَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ) وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ شَرَحِيلَ .
قَوْلُهُ ( وَاخْتَلَفَا فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ ) يَعْنِي قَوْلَ الشَّعْبِيِّ ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ لِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِابْنَ يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ إذَا انْفَرَدَ وَالْخُنْثَى ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا هَذَا يُضْرَبُ بِثَلَاثَةٍ وَذَاكَ بِأَرْبَعَةٍ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ أَرْبَعَةُ أَرْبَاعٍ وَنَصِيبُ الْخُنْثَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ قَوْلُهُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ ) وَوَجْهُهُ أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ ذَكَرًا لَكَانَ لَهُ
النِّصْفُ ، وَلَوْ كَانَ أُنْثَى كَانَ لَهُ الثُّلُثُ فَيُعْطَى نِصْفَ النِّصْفِ وَنِصْفَ الثُّلُثِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لِنِصْفِهِ نِصْفٌ وَلِثُلُثِهِ نِصْفٌ وَأَقَلُّهُ اثْنَا عَشَرَ فَيُعْطِيهِ نِصْفَ النِّصْفِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ سَهْمَانِ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَطَرِيقٌ أُخْرَى أَنْ تَقُولَ لَوْ كَانَ ذَكَرًا كَانَتْ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ أُنْثَى كَانَتْ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَاضْرِبْ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى يَكُونُ سِتَّةً فَالنِّصْفُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ اقْسِمْ النِّصْفَ الثَّانِيَ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ فَيَنْكَسِرُ فَأَضْعِفْ الْفَرِيضَةَ وَهِيَ سِتَّةٌ تَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اقْسِمْ النِّصْفَ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَيَكُونُ لِلْخُنْثَى سَهْمَانِ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ ثُمَّ اقْسِمْ النِّصْفَ الثَّانِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَحْصُلُ لِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ إلَى هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ يَكُونُ خَمْسَةً ، وَإِنْ شِئْت قُلْت لَوْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا لَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَهُوَ أَثْلَاثٌ فَاحْتَجْت إلَى شَيْءٍ لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَفِي حَالِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ وَلِلِابْنِ ثَلَاثَةٌ وَفِي حَالِ أَثْلَاثٍ لِلْخُنْثَى سَهْمَانِ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ فَسَهْمَانِ لِلْخُنْثَى ثَابِتَانِ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السَّهْمِ الزَّائِدِ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهُ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَانْكَسَرَ فَأَضْعِفْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَثَلَاثَةٌ مِنْ سَبْعَةٍ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ ؛ لِأَنَّك لَوْ زِدْت نِصْفَ السَّبْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْبَاعٍ يَصِيرُ نِصْفَ الْمَالِ وَالْخَمْسَةُ لَا تَصِيرُ نِصْفَ الْمَالِ إلَّا بِزِيَادَةِ سَهْمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ نِصْفُ السُّدُسِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ السَّبْعِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ أَنْفَعُ لِلْخُنْثَى وَالطَّرِيقُ الْوَاضِحُ أَنْ تَضْرِبَ السَّبْعَةَ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ حَيْثُ لَا مُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ ثُمَّ اضْرِبْ
مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ سَبْعَةٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ لِلْخُنْثَى سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَاضْرِبْ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ فِي سَبْعَةٍ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ مَضْرُوبَةٌ فِي سَبْعَةٍ يَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَظَهَرَ أَنَّ التَّفَاوُتَ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ سَبْعٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ الْمَفْقُودِ ) هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ فِي جِهَةٍ فَيُفْقَدُ وَلَا تُعْرَفُ جِهَتُهُ وَلَا مَوْضِعُهُ وَلَا يَسْتَبِينُ أَمْرُهُ وَلَا حَيَاتُهُ وَلَا مَوْتُهُ أَوْ يَأْسِرُهُ الْعَدُوُّ وَلَا يَسْتَبِينُ أَمْرُهُ وَلَا قَتْلُهُ وَلَا حَيَاتُهُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( إذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حُقُوقَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ حِفْظِ مَالِهِ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَقَوْلُهُ وَيَسْتَوْفِي حُقُوقَهُ يَعْنِي الدُّيُونَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ وَيَسْتَوْفِي غَلَّاتِهِ يَتَقَاضَاهَا وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَلَا يُخَاصِمُ فِي الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عَرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْهُ جِهَةَ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ وَمَا كَانَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ مَالِ الْمَفْقُودِ أَمَرَ الْقَاضِي بِبَيْعِهِ كَالثِّمَارِ وَنَحْوِهَا وَمَا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ لَا يُبَاعُ لَا فِي نَفَقَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا وَلَايَةَ عَلَى الْغَالِبِ إلَّا فِي حِفْظِ مَالِهِ وَمَا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ قَالَ الْخُجَنْدِيُّ الْمَفْقُودُ مَيِّتٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَيٌّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ مَيِّتٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ غَيْرِهِ لِجَوَازِ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ مُورِثِهِ فَلَا يَرِثُ بِالشَّكِّ وَحَيٌّ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى إنَّهُ لَا يُورَثُ مِنْهُ وَلَا يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَا الْمَالَ لَهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ ، وَكَذَا لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّا
عَرَفْنَا النِّكَاحَ قَائِمًا بَيْنَهُمَا فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمَفْقُودَ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى عَكْسِ الْأَوَّلِ أَمَّا كَوْنُهُ حَيًّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنَّا لَا نُزِيلُ أَمْلَاكَهُ عَنْهُ لِاسْتِصْحَابِ الْحَيَاةِ فِيهِ وَمَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لَا نُورِثُهُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ حَيَاتَهُ فَلَا نُوَرِّثُهُ بِالشَّكِّ .
قَوْلُهُ ( وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ ) يَعْنِي أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ ، وَكَذَا يُنْفِقُ عَلَى أَبَوَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى جَمِيعِ قَرَابَةِ الْوَلَاءِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ إعَانَةً وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا حَالَ حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ تَجِبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ فَمِنْ الْأَوْلَى الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْكِبَارِ وَالزَّمْنَى مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ وَقَوْلُهُ مِنْ مَالِهِ يَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَالْكِسْوَةَ وَالْمَأْكُولَ فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ وَالْعَبِيدِ فَلَا يُبَاعُ إلَّا الْأَبَ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْمَنْقُولَ فِي النَّفَقَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَبِيعُ غَيْرَ الْمَنْقُولِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبِيعُ شَيْئًا .
قَوْلُهُ ( وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ) وَقَالَ مَالِكٌ إذَا مَضَتْ أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ فِي الْمَدِينَةِ وَكَفَى بِهِ إمَامًا وَقُدْوَةً وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أُخِذَ الْمِقْدَارُ مِنْهُمَا الْأَرْبَعُ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ امْرَأَتُهُ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ خَرَجَ بَيَانًا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْفُوعِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَوْ قَضَى فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ رُجُوعُ عُمَرَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ الْإِمَامُ السَّمَرْقَنْدِيُّ يُفْتِي بِأَنَّهُ يَنْفُذُ كَذَا فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ قَوْلُهُ ( فَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ وَاعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ ) هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ سَنَةً فَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ وَجَبَ عَلَى امْرَأَتِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ .
قَوْلُهُ ( وَقُسِّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ) كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعَايَنَةً .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ مُبْقًى عَلَى الْحَيَاةِ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ مِنْ أَحَدٍ مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَرِثُ فِي كَوْنِهِ مَيِّتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ بَلْ يُوقَفُ نَصِيبُهُ وَلَا يُصْرَفُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ ، وَكَذَا إذَا أُوصِي لَهُ بِوَصِيَّةٍ كَانَتْ مَوْقُوفَةً ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا فَلَا يَصِحُّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا فَيَصِحُّ فَلِهَذَا وُقِفَتْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( كِتَابُ الْإِبَاقِ ) وَالْإِبَاقُ هُوَ التَّمَرُّدُ وَالِانْطِلَاقُ وَهُوَ مِنْ سُوءِ الْأَخْلَاقِ وَرَدَاءَةِ الْأَعْرَاقِ وَرَدُّهُ إلَى مَوْلَاهُ إحْسَانٌ وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ وَأَخْذُ الْآبِقِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ فِي حَقِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهِ قَالَ الثَّعَالِبِيُّ الْآبِقُ الْهَارِبُ مِنْ غَيْرِ ظُلْمِ السَّيِّدِ فَإِنْ هَرَبَ مِنْ الظُّلْمِ لَا يُسَمَّى آبِقًا بَلْ يُسَمَّى هَارِبًا فَعَلَى هَذَا الْإِبَاقُ عَيْبٌ وَالْهَرَبُ لَيْسَ بِعَيْبٍ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( إذَا أَبَقَ الْمَمْلُوكُ فَرَدَّهُ رَجُلٌ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جُعْلٌ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ) هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ .
وَأَمَّا رَدُّ الْعَبْدِ الضَّالِّ أَوْ الشَّاةِ أَوْ الْبَعِيرَ فَلَا شَيْءَ فِيهِمْ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ رَدُّهُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ ) .
وَفِي الْهِدَايَةِ يُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ الثَّلَاثَةِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ يُقْسَمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ ، وَإِنْ جَاءَ بِالْآبِقِ رَجُلٌ إلَى مَوْلَاهُ فَأَنْكَرَ مَوْلَاهُ أَنْ يَكُونَ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بِرَدِّهِ وُجُوبِ حَقٍّ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ آبِقٌ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ أَنَّ مَوْلَاهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَيَجِبُ الْجُعْلُ وَفِي رَدِّ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا كَانَ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَصِلَ بِهِمَا فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا عَتَقَا بِمَوْتِهِ وَيَجِبُ الْجُعْلُ فِي رَدِّ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَإِبَاقُهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَإِنْ أَبَقَ الْمُكَاتَبُ فَرَدَّهُ رَجُلٌ عَلَى مَوْلَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَلَمْ يَسْتَفِدْ الْمَوْلَى بِالرَّدِّ مِلْكًا زَالَ عَنْهُ بِالْإِبَاقِ فَإِنْ كَانَ الرَّادُّ اثْنَيْنِ وَالْعَبْدُ وَاحِدًا فَجُعْلُ الْوَاحِدِ بَيْنَهُمَا
، وَكَذَا إذَا كَانَ السَّيِّدُ اثْنَيْنِ وَالْعَبْدُ وَاحِدًا فَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ اثْنَيْنِ وَالسَّيِّدُ وَاحِدًا فَعَلَيْهِ جُعْلَانِ وَلِمَنْ جَاءَ بِالْآبِقِ أَنْ يَمْسِكَهُ بِالْجُعْلِ فَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يَمْسِكُهُ بِالْجُعْلِ ، وَكَذَا لَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْجُعْلَ سَقَطَ بِالْهَلَاكِ وَإِنْ جَاءَ بِالْآبِقِ فَوَجَدَ السَّيِّدَ قَدْ مَاتَ فَالْجُعْلُ فِي تَرِكَتِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْعَبْدِ حَتَّى يُعْطَى الْجُعْلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ بِيعَ الْعَبْدُ وَبُدِئَ بِالْجُعْلِ ثُمَّ قُسِّمَ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ .
وَإِنْ كَانَ الرَّادُّ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَوْلَى كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَسَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ إنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ ، وَإِنْ وَجَدَ الرَّجُلُ عَبْدَ أَبِيهِ فَرَدَّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ وَإِنْ وَجَدَ الْأَبُ عَبْدَ ابْنِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ وَإِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ إذَا كَانَ الرَّادُّ أَبًا لِلْمَوْلَى أَوْ ابْنِهِ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ رَدَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَبَرَّعُونَ بِالرَّدِّ عَادَةً ، وَإِنْ أَبَقَ عَبْدُ الصَّبِيِّ فَرَدَّهُ إنْسَانٌ فَالْجُعْلُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ .
وَأَمَّا إذَا رَدَّهُ وَصِيُّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ إلَى يَدِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ رَدَّ السُّلْطَانُ آبِقًا عَلَى مَوْلَاهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَالْوَصِيِّ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا قُضِيَ لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا ) هَذَا قَوْلُهُمَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجِبُ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا ؛
لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْأَرْبَعِينَ ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ حِينَ أَوْجَبُوا ذَلِكَ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَثِيرِهَا وَلَهُمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَى مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ دِرْهَمًا لِيَسْلَمَ لِلْمَالِكِ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنْ هَذَا إذَا أَشْهَدَ حِينَ أَخْذِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ وَلِهَذَا إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْآبِقَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْجُعْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ يَحْبِسُ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَلِهَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ لَا شَيْءَ لَهُ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي حَالِ إبَاقِهِ وَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ الْجُعْلِ لِأَنَّ الْمِلْكَ زَالَ بِالْعِتْقِ فَصَارَ كَأَنَّهُ رَدَّ حُرًّا ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ حِينَ رَدَّهُ فَلَهُ الْجُعْلُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ قَابِضٌ لَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ، وَكَذَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ كَانَ لَهُ الْجُعْلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهِ إلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ وَبِقَبْضِهِ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ وَلِأَنَّهُ قَدْ سَلِمَ لَهُ الْبَدَلُ وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ ثُمَّ إنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ حِينَ أَخَذَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْهَدَ صَارَ أَخْذُهُ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا بِالتَّعَدِّي وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ ضَمِنَ عِنْدَهُمَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ ( وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ إذَا أَخَذَهُ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ فَاشْتُرِطَتْ الشَّهَادَةُ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى لَوْ رَدَّهُ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا جُعْلَ لَهُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَإِذَا جَاءَ بِالْآبِقِ إلَى مَوْلَاهُ فَوَهَبَهُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ ، وَإِنْ قَبَضَهُ ثُمَّ وَهَبَهُ فَلَهُ الْجُعْلُ ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ مِصْرَ مَوْلَاهُ فَأَبَقَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ بِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ فَإِنْ جَاءَ بِهِ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلَّذِي جَاءَ بِهِ الْجُعْلُ إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ قَالَ فِي شَرْحِهِ وَيَجُوزُ عِتْقُ الْآبِقِ عَنْ ظِهَارِهِ إذَا كَانَ حَيًّا ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهُ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِهِ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَنْ الْمُرْتَهِنِ ) وَإِبَاقُهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَالْبَاقِي عَلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِالْقَدْرِ الْمَضْمُونِ ثُمَّ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً وَأَدَّى الرَّاهِنُ الْجُعْلَ قَضَاءً مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَوْ كَانَ الْآبِقُ أَمَةً وَمَعَهَا وَلَدٌ رَضِيعٌ فَالْجُعْلُ وَاحِدٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالْوَلَدِ كَذَا فِي الْيَنَابِيعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ) أَرْضُ الْمَوَاتِ هِيَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ مَرَافِقِ الْبَلَدِ وَكَانَتْ خَارِجَ الْبَلَدِ قَرُبَتْ مِنْ الْبَلَدِ أَوْ بَعُدَتْ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ ) بِأَنْ صَارَتْ سَبِخَةً أَوْ نَزِيَّةً ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ قَوْلُهُ ( فَمَا كَانَ مِنْهَا عَادِيًا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ فِي أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَمْ يُسْمَعْ الصَّوْتُ مِنْهُ فَهُوَ مَوَاتٌ ) الْعَادِي هُوَ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ لَا أَنَّهُ مَكَانٌ لِعَادٍ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَوَاتِ لَمْ تَكُنْ لِعَادٍ وَقَوْلُهُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ فِي أَقْصَى الْعَامِرِ يَعْنِي إنْسَانًا جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَا لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ وَلَا هِيَ مِنْ مَرَافِقِ الْبَلَدِ وَكَانَتْ خَارِجَ الْبَلَدِ سَوَاءٌ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ فَهِيَ مَوَاتٌ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَأَبُو يُوسُفَ اشْتَرَطَ الْبُعْدَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً .
قَوْلُهُ ( مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ أَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَمْلِكْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَمْلِكُهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } وَلِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يَمْلِكْهَا
بِالْإِحْيَاءِ وَمَلَّكَهُ إيَّاهَا الْإِمَامُ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ إذَا أَحْيَاهَا وَلَا يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُ ، وَهَذَا إذَا تَرَكَ الِاسْتِئْذَانَ جَهْلًا أَمَّا إذَا تَرَكَهُ تَهَاوُنًا بِالْإِمَامِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا زَجْرًا لَهُ فَإِذَا تَرَكَهَا لَهُ الْإِمَامُ تَرَكَهَا بِعُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ .
وَفِي الْهِدَايَةِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا سَقَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَاءِ .
قَوْلُهُ ( وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذْنُ الْإِمَامِ مِنْ شَرْطِهِ .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ حَجَّرَ أَرْضًا وَلَمْ يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ ) حَجَّرَ بِالتَّشْدِيدِ وَيُرْوَى بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ عِمَارَتَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَقَدْ أَهْمَلَهَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إظْهَارُ عِمَارَةِ أَرَاضِيهَا تَحْصِيلًا لِمَنْفَعَةٍ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ يُمْلَكُ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْإِحْيَاءُ هُوَ الْعِمَارَةُ وَالتَّحْجِيرُ إنَّمَا هُوَ لِلْإِعْلَامِ سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ بِوَضْعِ الْحِجَارَةِ حَوْلَهُ أَوْ يَعْلَمُونَهُ بِحَجَرِ غَيْرِهِمْ عَنْ إحْيَائِهِ ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْأَرَاضِيَ تُزْرَعُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَأَكْثَرَ مَا جُعِلَ لِلِارْتِيَاءِ فِي جِنْسِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرَّغْبَةِ وَالِاخْتِيَارِ الثَّلَاثُ وَهِيَ الثَّلَاثُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ فَإِذَا تَرَكَهَا هَذَا الْقَدْرَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَهَا وَمَوْتَهَا فَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ دِيَانَةً ، أَمَّا إذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا ، وَإِنَّمَا هَذَا كَالِاسْتِيَامِ فَيُكْرَهُ ، وَلَوْ فَعَلَهُ جَازَ الْعَقْدُ .
قَوْلُهُ ( وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ ) وَمُحْتَطَبِهِمْ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا فَلَا تَكُونُ مَوْتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا .
قَوْلُهُ ( وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا ) مَعْنَاهُ إذَا حَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِإِذْنِهِ وَغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ إحْيَاءٌ وَلِأَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ كَفِنَاءِ الدَّارِ وَصَاحِبُ الدَّارِ أَحَقُّ بِفِنَاءِ دَارِهِ ، فَكَذَا حَرِيمُ الْبِئْرِ .
قَوْلُهُ ( فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ) يَعْنِي مِنْ كُلِّ جَانِبٍ أَرْبَعُونَ هُوَ الصَّحِيحُ عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْحَبْلُ الَّذِي يَنْزِعُ بِهِ يُجَاوِزُ الْأَرْبَعِينَ فَلَهُ مُنْتَهَى الْحَبْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ كَذَا فِي شَرْحِهِ قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَسِتُّونَ ذِرَاعًا ) هَذَا عِنْدَهُمَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ كَمَا فِي الْعَطَنِ وَالْكَلَامُ فِي طُولِ الْحَبْلِ كَالْكَلَامِ فِي الْعَطَنِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا سِتُّونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ذَكَرَهُ الْخُجَنْدِيُّ وَالذِّرَاعُ الْمُعْتَبَرُ يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَبْضَةٍ وَالنَّاضِحُ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسْتَقَى عَلَيْهِ الْمَاءُ .
قَوْلُهُ ( وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ ) .
وَفِي الْهِدَايَةِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ حَوْضٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ نَهْرٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَلِهَذَا قُدِّرَ بِالزِّيَادَةِ وَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ قَوْلُهُ ( وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا بِئْرًا مُنِعَ مِنْهُ ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ وَالْإِخْلَالِ بِهِ فَإِنْ حَفَرَ فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَكْبِسَهَا تَبَرُّعًا فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّانِيَ بِكَبْسِهَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَفْرَهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ كَمَا فِي الْكُنَاسَةِ يُلْقِيهَا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِرَفْعِهَا وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ ثُمَّ يَكْبِسُهَا لِنَفْسِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَإِنْ حَفَرَ الثَّانِيَ بِئْرًا وَرَاءَ حَرِيمِ الْأُولَى فَذَهَبَ مَاءُ