كتاب : المنثور في القواعد
المؤلف : بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي
الثَّالِثَةُ : إذَا أَحْرَمَ الْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ خَلْفَ مَنْ لَا يَدْرِي أَهُوَ مُسَافِرٌ أَمْ مُقِيمٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَرَدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ تَرَكَ يَقِينٍ بِشَكٍّ ، بَلْ لِأَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُهُ .
الرَّابِعَةُ : بَالَ حَيَوَانٌ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ " وَوُجِدَ " مُتَغَيِّرًا وَلَمْ نَدْرِ أَتَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ أَمْ بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ عَلَى النَّصِّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ " تَغَيُّرِهِ " بِالْبَوْلِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ إحَالَةَ التَّغَيُّرِ عَلَى الْبَوْلِ الْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى مِنْ إحَالَتِهِ عَلَى طُولِ الْمُكْثِ فَإِنَّهُ مَظْنُونٌ فَيُقَدَّمُ الظَّاهِرُ عَلَى الْأَصْلِ .
الْخَامِسَةُ : الْمُتَحَيِّرَةُ يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ تَشُكُّ انْقِطَاعَ الدَّمِ قَبْلَهَا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ انْقِطَاعِهِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ " الصَّلَاةَ فِي الذِّمَّةِ " ، فَإِذَا شَكَّتْ فِي الِانْقِطَاعِ وَجَبَ الْغُسْلُ ، وَالْأَرْجَحُ مَعَ ابْنِ الْقَاصِّ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ صُورَةِ الشَّكِّ فِي الْحَدَثِ ، لَكِنَّ " الْأَمْرَ " بِالِاحْتِيَاطِ هُنَاكَ اقْتَضَى ذَلِكَ .
السَّادِسَةُ : مَنْ شَكَّ فِي مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْ الثَّوْبِ يَغْسِلُهُ كُلَّهُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الثَّوْبِ الطَّهَارَةُ ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الطَّهَارَةُ ، إلَّا بِغَسْلِ الْجَمِيعِ .
السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ : شَكَّ مُسَافِرٌ أَوَصَلَ بَلَدَهُ أَمْ لَا " أَوْ نَوَى " الْإِقَامَةَ أَمْ لَا لَمْ يَتَرَخَّصْ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ السَّفَرِ وَعَدَمُ وُصُولِهِ ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِتْمَامُ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ فَلَا يَعْدِلُ إلَى الرُّخْصَةِ ، إلَّا بِيَقِينٍ وَحَكَى الْقَفَّالُ فِي السَّابِعَةِ وَجْهًا بِالْجَوَازِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الثَّامِنَةِ ، وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ نَقْلًا عَنْ حِكَايَةِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ .
التَّاسِعَةُ : مَنْ بِهِ حَادِثٌ دَائِمٌ إذَا تَوَضَّأَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ انْقَطَعَ حَدَثُهُ أَمْ لَا فَصَلَّى بِطَهَارَتِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الِاسْتِمْرَارُ ، وَرُدَّ بِأَنَّ طَهَارَتَهُ ضَرُورَةٌ فَإِذَا شَكَّ فِي الِانْقِطَاعِ فَقَدْ شَكَّ فِي السَّبَبِ الْمُجَوِّزِ فَيَرْجِعُ إلَى الْأَصْلِ وَالْأَرْجَحُ مَعَ ابْنِ الْقَاصِّ .
الْعَاشِرَةُ : الْمُتَيَمِّمُ إذَا تَوَهَّمَ الْمَاءَ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَإِنْ بَانَ أَنْ لَا مَاءَ وَرُدَّ بِأَنَّ تَوَهُّمَ الْمَاءِ يُوجِبُ الطَّلَبَ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلتَّيَمُّمِ وَالْأَرْجَحُ مَعَ ابْنِ الْقَاصِّ فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْوَهْمِ قَدْ " أَعْمَلْنَاهُ " فِي إبْطَالِ الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَسَبَبُ رُجْحَانِ كَلَامِ ابْنِ الْقَاصِّ فِيمَا سَبَقَ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْمَوْجُودَ أَسْقَطْنَاهُ بِالشَّكِّ " .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ " : رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ ثُمَّ غَابَ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا وَشَكَّ هَلْ أَصَابَهُ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ رَمْيَةٍ أَوْ حَجَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ ، وَكَذَا فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ فِيهَا قَوْلَيْنِ فَإِنْ أَجَزْنَا أَكْلَهُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ وَإِنْ مَنَعْنَاهُ فَالْأَصْلُ التَّحْرِيمُ ، وَقَدْ شَكَكْنَا فِي الْحِلِّ .
وَهَذَا رَدٌّ جَيِّدٌ وَقَدْ رَجَّحَ جَمَاعَةٌ الْحِلَّ وَهُوَ الْأَرْجَحُ فِي الدَّلِيلِ وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ صَحَّحُوا التَّحْرِيمَ " وَمَحَلُّ " ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْجُرْحُ لَا يَنْتَهِي إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ فَإِنْ انْتَهَى حَلَّ قَطْعًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ وَالْغَزَالِيَّ ذَكَرَا أَرْبَعَ مَسَائِلَ مُسْتَثْنَيَاتٍ وَنَسَبَاهَا لِصَاحِبِ التَّلْخِيصِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَنَّهُ حَذِقٌ وَأَنَّ هَذِهِ مِمَّا تُسْتَفَادُ وَقَدْ ذَكَرَا الْأُولَى وَالسَّابِعَةَ وَالثَّامِنَةَ وَنَقَلَا وَاحِدَةً عَنْ ابْنِ الْقَاصِّ صَدَّرَا بِهَا لَمْ أَرَهَا فِي كَلَامِهِ وَهِيَ أَنَّ النَّاسَ لَوْ شَكُّوا فِي " انْقِضَاءِ وَقْتِ " الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ الْوَقْتِ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الْمُسْتَثْنَى " اثْنَتَيْ عَشْرَةَ " مَسْأَلَةً .
قَالَ الْإِمَامُ إنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْمَسْحِ وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي صُورَتَيْ الْمُسَافِرِ ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ انْقِضَاءَ وَقْتِ الْمَسْحِ لَيْسَ " مِمَّا " يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ ، وَإِذَا " شَكَّ فِيهِ تَعَيَّنَ الرَّدُّ " لِلْأَصْلِ بِخِلَافِ الِانْتِهَاءِ لِدَارِ الْإِقَامَةِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالشَّاكِّ فَجَاءَ وَجْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْهُ طَرَحَهُ .
وَاسْتَثْنَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الشَّكَّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالشَّكِّ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٌ " فِيهِمَا " عَلَى الْأَصَحِّ .
وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَضَتْ كَامِلَةً عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ بِهِ فَلَا أَثَرَ لِمَا يَحْدُثُ
مِنْ الشَّكِّ .
وَبَقِيَتْ مَسَائِلُ أُخَرُ تُضَافُ " لِمَا " ذُكِرَ .
مِنْهَا : الْمَقْبَرَةُ إذَا شُكَّ نَبْشُهَا فَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ " الصَّلَاةُ " فِيهَا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّبْشِ .
وَمِنْهَا : إذَا جُومِعَتْ الْمَرْأَةُ وَقَضَتْ شَهْوَتَهَا ثُمَّ اغْتَسَلَتْ وَخَرَجَ مِنْهَا مَنِيُّ الرَّجُلِ أَعَادَتْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اخْتِلَاطُ مَنِيِّهَا مَعَهُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : لَوْ رَأَى مَنِيًّا فِي ثَوْبِهِ أَوْ فَرْشِهِ " الَّذِي لَا يَنَامُ " فِيهِ غَيْرُهُ وَلَمْ يَذْكُرْ احْتِلَامًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ عَلَى الْأَصَحِّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ " الْحَدَثِ " .
فَإِنْ قُلْت " إنَّمَا " وَجَبَ الْغُسْلُ إحَالَةً عَلَى مَا ظَهَرَ الْمَنِيُّ .
قُلْت : وَفِي بَوْلِ الْحَيَوَانِ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى .
وَمِنْهَا : إذَا نَامَ غَيْرَ مُمَكِّنِ الْمَقْعَدَةِ مِنْ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ خُرُوجِ الرِّيحِ .
وَمِنْهَا : الْهِرَّةُ إذَا تَنَجَّسَ فَمُهَا ثُمَّ غَابَتْ وَاحْتُمِلَ زَوَالُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ مَا لَاقَاهُ مِنْ مَاءٍ وَمَائِعٍ ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ نَجَاسَةٍ فَمِهَا وَقَدْ " رَفَعْنَاهُ " بِالشَّكِّ .
لَا يُقَالُ لَا يُسْتَثْنَى ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ فِيمَا بَلَغَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، لِأَنَّا نَقُولُ الْغَرَضُ طَرْحُ يَقِينِ النَّجَاسَةِ فَالشَّكُّ اعْتَضَدَ بِأَصْلٍ آخَرَ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ .
وَمِنْهَا : لَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ وَشَكَّ هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ أَمْ لَا فَقَدْ جَزَمَ جَمَاعَةٌ بِنَجَاسَتِهِ إعْمَالًا لِلشَّكِّ وَطَرَحَ أَصْلَ الطَّهَارَةِ .
لَا يُقَالُ أَنَّ الْقُلَّةَ هِيَ الْأَصْلُ ، لِأَنَّا نَقُولُ الْمَاءُ الْمُشَخَّصُ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ بِقُلَّةٍ فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّ الْأَصْلَ الْقِلَّةُ ، لَا جَرَمَ رَجَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ طَهُورٌ " فَلَا اسْتِثْنَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ جَزَمَ " .
وَمِنْهَا : لَوْ شَكَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ فِي الْكَفَّارَةِ ، هَلْ نَوَى فِيهِ أَمْ لَا لَمْ يُؤَثِّرْ عَلَى الصَّحِيحِ ، كَمَا نَقَلَهُ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ وَقَضِيَّتُهُ طَرْدُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، لَكِنْ الْبَغَوِيّ صَرَّحَ فِيهَا بِالتَّأْثِيرِ .
وَمِنْهَا : اقْتَدَى بِإِمَامٍ فَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَ نَوَى الِاقْتِدَاءَ أَمْ لَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النِّيَّةِ .
وَمِنْهَا : مَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ " فَشَكَّ " فِي قَضَائِهَا ، فَإِنَّهُ لَا " يَلْزَمُهُ " قَضَاؤُهَا ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا .
وَمِنْهَا : إذَا أَكَلَ مِنْ مَالِ صَدِيقِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جَازَ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ .
وَمِنْهَا : الْمَفْقُودُ إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ ( فَوْقَهَا ) يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ " فِي الْحُكْمِ " بِمَوْتِهِ وَيُعْطِي مَالَهُ " لِوَرَثَتِهِ " مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الْحَيَاةُ .
وَمِنْهَا : قُدَّ مَلْفُوفًا فِي ثَوْبٍ نِصْفَيْنِ ، وَشَكَّ فِي حَيَاتِهِ " وَمَوْتِهِ " ، وَادَّعَى الضَّارِبُ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا وَلَمْ يَعْلَمْ لَهُ حَيَاةً قَبْلَ ذَلِكَ ، فَمُقْتَضَى إطْلَاقِ مَنْ صَحَّحَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ لِلْعَمَلِ بِالشَّكِّ وَطَرْحُ الْأَصْلِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَهُوَ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْفِقْهِ .
وَمِنْهَا : الْجُرْحُ الَّذِي احْتَمَلَ الزَّهُوقَ " لِغَيْرِهِ " فَإِنَّهُ يَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ إحَالَةً عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ فِي صُورَةِ بَوْلِ الْحَيَوَانِ .
وَمِنْهَا : جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحَلِفِ أَنَّ " لِمُوَرِّثِهِ " عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَذَا وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ، بَلْ " بِغَلَبَةِ " الظَّنِّ " مِمَّا " يَجِدُهُ " مِنْ خَطِّ مُوَرِّثِهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ " يَشُكُّ " ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ أُجِيزَ لَهُ الْعَمَلُ بِالشَّكِّ الْمُؤَيَّدِ بِمَا " ذَكَرَهُ " مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ الْمُتَيَقَّنِ .
وَمِنْهَا : الشَّكُّ فِي عَدَدِ غَسَلَاتِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ ، لِئَلَّا يَرْتَكِبَ الزَّائِدَ وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُ .
وَمِنْهَا : اقْتِصَاصُ الْوَكِيلِ فِي الْغَيْبَةِ يَمْنَعُ مِنْهُ عَلَى رَأْيٍ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوَكَالَةِ ، لَكِنْ " لِخَطَرِهِ " عُمِلَ بِالشَّكِّ عَلَى رَأْيٍ .
الشَّلَلُ هَلْ هُوَ مَوْتٌ أَوْ تَيَبُّسٌ ؟ قَوْلَانِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْعُضْوَ الْأَشَلَّ تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِي صُوَرٍ : ( إحْدَاهَا ) إذَا كَانَ فِي الشَّاةِ الْمُذَكَّاةِ عُضْوٌ أَشَلُّ هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ إنْ قُلْنَا مَوْتٌ لَمْ يُؤْكَلْ ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَيِّتِ ، " وَإِلَّا " أُكِلَتْ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
( الثَّانِيَةُ ) لَوْ مَسَّ بِيَدٍ شَلَّاءَ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ إنْ قُلْنَا الْحَيَاةُ تَحِلُّهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَإِلَّا فَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا ، كَالْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ ، وَكَذَا لَوْ " لَمَسَ " ذَكَرًا أَشَلَّ يُنْقَضُ فِي الْأَصَحِّ " ، كَمَا لَوْ " مَسَّهُ " مَقْطُوعًا .
( الثَّالِثَةُ ) لَا يُقْطَعُ الْعُضْوُ الصَّحِيحُ بِالْأَشَلِّ فِي الْأَصَحِّ " ، وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي .
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالشَّلَلُ بُطْلَانُ الْعَمَلِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَهَابُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّلَلُ ذَهَابُ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ .
حَرْفُ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الصَّبِيُّ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ : بِالنِّسْبَةِ " لِأَقْوَالِهِ " وَهِيَ مُلْغَاةٌ فَلَا تَصِحُّ عُقُودُهُ ، وَفِي وَصِيَّتِهِ وَتَدْبِيرِهِ قَوْلٌ ، وَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ مُطْلَقًا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ فِي مَوْضِعٍ يُقْبَلُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْمُشَاهَدَةُ دُونَ الْإِخْبَارِ ، كَرُؤْيَةِ النَّجَاسَةِ ، وَدَلَالَةِ الْأَعْمَى عَلَى الْقِبْلَةِ ، وَخُلُوِّ الْمَوْضِعِ عَنْ الْمَاءِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ " وَالشَّمْسِ " وَغُرُوبِهَا ، بِخِلَافِ مَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ ، كَالْإِفْتَاءِ وَالْإِخْبَارِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالطِّبِّ وَرِوَايَةِ الْأَحَادِيثِ وَالتَّنْجِيسِ عَنْ غَيْرِهِ .
وَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ : إحْدَاهَا : إذْنُهُ فِي دُخُولِ الدَّارِ " وَإِيصَالُ الْهَدِيَّةِ " .
الثَّانِيَةُ : إخْبَارُهُ بِطَلَبِ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ ، فَإِنَّ الْمَدْعُوَّ تَلْزَمُهُ الْإِجَابَةُ ، كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَشَرَطَا أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُ الصَّبِيِّ .
الثَّالِثَةُ : فِي اخْتِيَارِهِ أَحَدَ أَبَوَيْهِ " فِي " الْحَضَانَةِ إذَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ .
وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى " يُخْتَبَرُ " فِي سِنِّ التَّمَيُّزِ بِمَيْلِهِ إلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ يَعْتَمِدُ عَلَى وَجْهٍ وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ ، لِأَنَّ " اخْتِيَارَ " الْخُنْثَى لَازِمٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَالْوَلَدِ يَتَدَاعَاهُ اثْنَانِ لَا يَصِحُّ انْتِسَابُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَالِاخْتِيَارُ فِي الْحَضَانَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ .
الرَّابِعَةُ : دَعْوَاهُ اسْتِعْجَالَ الْإِنْبَاتِ بِالدَّوَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ ، زَادَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ بِيَمِينِهِ لِأَجْلِ حَقْنِ دَمِهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ صَبِيٌّ " فَلَا " يَحْلِفُ الْخَامِسَةُ : فِي إرْسَالِهِ لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ الْمُحَقَّرَاتِ وَقَدْ نَقَلَ عَنْ الْجُورِيِّ " حِكَايَةَ " الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ وَعَلَى صِحَّةِ شِرَائِهِ " لَهَا " ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ ، بِلَا نَكِيرٍ .
السَّادِسَةُ " إخْبَارُهُ " بِبَيْعِ الشَّرِيكِ حِصَّتَهُ مِنْ الْعَقَارِ
إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الشَّرِيكِ صِدْقَهُ ، حَتَّى إذَا أَخَّرَ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَا يَحِلُّ " لَهُ " أَخْذُهَا فِي الْبَاطِنِ قَالَهُ " فِي " الْحَاوِي ، قَالَ وَكَذَا خَبَرُ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ فَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ " إلَى الظَّاهِرِ " فَلَهُ الْأَخْذُ .
السَّابِعَةُ : عَمْدُهُ فِي الْعِبَادَاتِ ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ أَوْ سَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ .
الثَّانِي " : أَفْعَالُهُ وَهُوَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا الْعِبَادَاتُ وَهُوَ فِيهَا كَالْبَالِغِ عَلَى الْمَذْهَبِ .
وَمِنْ ثَمَّ يَحْكُمُ عَلَى مَائِهِ بِالِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَصَحِّ وَطَهَارَتُهُ كَامِلَةٌ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ بَلَغَ وَصَلَّى صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَكَذَا لَوْ وَطِئَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا فَاغْتَسَلَتْ ثُمَّ بَلَغَتْ فَغُسْلُهَا صَحِيحٌ وَلَا تُعِيدُ .
وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّ طَهَارَةَ الصَّبِيِّ نَاقِصَةٌ فَإِذَا بَلَغَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ حَكَاهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ .
وَهَذَا فِي غَيْرِ طَهَارَةِ الْحَاجَةِ ، أَمَّا لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ بَلَغَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا فِي الْأَصَحِّ فِي التَّحْقِيقِ وَهُوَ قِيَاسُ الْمُسْتَحَاضَةِ إذَا شُفِيَتْ ، لِأَنَّ طَهَارَتَهَا لِلْحَاجَةِ ، وَقَدْ زَالَتْ الْحَاجَةُ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَكْتُوبَتَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عَلَى الْمَذْهَبِ قَالَ الرَّافِعِيُّ ، لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِهِ لَكِنَّ مَا يُؤَدِّيهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْفَرْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْوِي " بِصَلَاتِهِ " " الْفَرْضِيَّةَ " قُلْت هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ ، وَقَدْ حَكَى عَنْ الْبَيَانِ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا يُقْصَرُ ، لِأَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْفَرَائِضِ ، قَالَ ابْنُ الْأُسْتَاذِ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الظَّاهِرُ هُنَا الْجَوَازُ ، لِأَنَّهُمَا نَفْلَانِ .
قُلْت سَيَأْتِي عَنْ الْعَبَّادِيِّ مَا يَقْتَضِي تَجْوِيزَ الْجَمْعِ لَهُ .
وَلَوْ صَلَّى ثُمَّ بَلَغَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَكَذَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ قَالَهُ الْعَبَّادِيُّ ، وَفِي وُجُوبِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَيْهِ خِلَافٌ " تَرْجِيحٌ " بَيْنَ " الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ ، أَنَّهَا لَا تَجِبُ مَعَ " " مُوَافَقَتِهِ " الرَّافِعِيُّ " عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نِيَّةُ التَّبْيِيتِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ .
وَلَوْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا ، ذَكَرَهُ فِي الْكِفَايَةِ عِنْدَ كَفَّارَةِ الْمُجَامِعِ ، وَهُوَ " يُؤَيِّدُ "
مَا سَبَقَ أَنَّ لِصَلَاتِهِ حُكْمَ الْفَرْضِ ، وَحَكَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَجْهَيْنِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ صَلَاةُ الْفَرْضِ قَاعِدًا وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْبَالِغِ بِهِ نَعَمْ الْبَالِغُ فِيهِ أَوْلَى مِنْهُ وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ أَقْرَأَ " أَوْ أَفْقَهَ " ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ، بَلْ نَصَّ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ " رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " فِي الْبُوَيْطِيِّ عَلَى كَرَاهَةِ إمَامَةِ الصَّبِيِّ ، نَعَمْ " لَوْ " أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَكَانَ الْإِمَامُ صَبِيًّا " نَصَّ " الرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ، إلَّا لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ .
وَلَوْ اسْتَنَابَ الْوَلِيُّ فِي حَجِّ الْفَرْضِ عَنْ الْمَيِّتِ صَبِيًّا لَمْ يَصِحَّ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ ، وَقِيَاسُهُ كَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ عَنْهُ .
وَمِنْهَا الْجِنَايَاتُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَمْدَهُ عَمْدٌ فَتَغْلُظُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَ عَمْدًا وَيَحْرُمُ إرْثُ مَنْ " قَتَلَهُ " إذَا قُلْنَا قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ دُونَ الْعَامِدِ .
وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَجَامَعَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْأَصَحِّ .
وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً وَقُلْنَا عَمْدُهُ عَمْدٌ فَهُوَ زِنًى ، إلَّا أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ ، وَإِلَّا فَكَالْوَطْءِ فِي الشُّبْهَةِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلْنَاهُ زِنًى .
وَلَوْ حَجَّ وَبَاشَرَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ عَمْدًا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ فِي مَالِهِ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ " أَنَّ " عَمْدَهُ عَمْدٌ .
" وَلَوْ " حَلَقَ أَوْ قَلَّمَ أَوْ قَتَلَ صَيْدًا عَمْدًا وَقُلْنَا عَمْدُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَسَهْوُهَا " سَوَاءٌ " وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْقِسْمِ جِمَاعُهُ فِي " نَهَارِ " رَمَضَانَ عَمْدًا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ عَلَى الْأَصَحّ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ نَاقِصَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ جِمَاعِ الْمُحْرِمِ وَنَحْوِهِ أَنَّهُ اخْتَلَفَ فِي هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ هَلْ تَجِبُ فِي مَالِهِ أَوْ مَالِ الْوَلِيِّ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا فِي مَالِ الْوَلِيِّ ، فَيَكُونُ فِعْلُ الصَّبِيِّ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ " نَصَبَ " سَبَبًا لِلْإِيجَابِ مِنْ مَالِ الْوَلِيِّ .
وَمِنْهَا الِاكْتِسَابُ وَهُوَ كَالْبَالِغِ .
وَلِهَذَا " يَتَمَلَّكُ " الْمَوَاتَ " بِالْإِحْيَاءِ وَالِاصْطِيَادِ " ، قَالَهُ فِي الْحَاوِي وَيَصِحُّ الْتِقَاطُهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَيَجُوزُ السَّبْيُ وَيَمْلِكُهُ وَيَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ ، كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ " رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ .
وَقَالَ فِي الْوَلِيمَةِ : لَوْ أَخَذَ الصَّبِيُّ " النِّثَارَ " مَلَكَهُ .
وَلَوْ رُدَّ الْآبِقُ بَعْدَ " سَمَاعِهِ " النِّدَاءَ " فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ " الْجُعْلَ وَجْهَانِ مِنْ اخْتِلَافِ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ .
وَمِنْهَا وَطْؤُهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا ، كَالْبَالِغِ فِي التَّحْلِيلِ عَلَى الْمَشْهُورِ ، إذَا كَانَ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجِمَاعُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا ، خِلَافًا لِلْقَفَّالِ .
وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا صَغِيرَةً ، فَوَطِئَهَا زَوْجٌ حَلَّتْ قَطْعًا ، وَنُقِلَ فِي الَّتِي لَا تُشْتَهَى وَجْهَانِ كَتَحْلِيلِ الصَّبِيِّ .
وَمِنْهَا قَبْضُهُ فَلَا يَصِحُّ ، كَمَا لَا يَصِحُّ الْقَبْضُ مِنْهُ ، إلَّا فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ : " إحْدَاهَا " إذَا خَالَعَ زَوْجَتَهُ عَلَى طَعَامٍ وَأَذِنَ لَهَا فِي صَرْفِهِ إلَى الْوَلَدِ فَصَرَفَتْهُ إلَيْهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ " إلَيْهِ " " أَنَّهَا " تَبْرَأُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَأَبْدَى لِنَفْسِهِ احْتِمَالًا بِالْمَنْعِ .
الثَّانِيَةُ : لَوْ قَالَ مَنْ لَهُ الْوَدِيعَةُ لِلْمُودِعِ سَلِّمْهَا لِلصَّبِيِّ فَفَعَلَ بَرِئَ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَلْقِهَا فِي النَّارِ فَفَعَلَ ، حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَئِمَّةِ ، قَالَ فِي الْمَطْلَبِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ وَإِنْ حَصَلَتْ فَالتَّسْلِيمُ حَرَامٌ كَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ ، وَحِينَئِذٍ لَوْ امْتَنَعَ الْمُودَعُ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الصَّبِيِّ فَتَلِفَتْ لَا يَضْمَنُهَا ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ شَرْعًا ، وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ الْوَدِيعَةَ بِكَوْنِهَا مُعَيَّنَةً وَالْمِلْكُ فِيهَا مُسْتَقَرٌّ وَلَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ .
وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ وَالْغَاصِبَ إذَا سَلَّمَا الْعَيْنَ إلَى الصَّبِيِّ بِالْإِذْنِ " أَنَّهُ " يَكُونُ فِي الْبَرَاءَةِ تَرَدُّدٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ مُسْتَقَرٌّ ، لَكِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، وَلِذَلِكَ أَبْدَى فِيهِ احْتِمَالَيْنِ وَقَالَ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ يَبْرَأُ .
الثَّالِثَةُ : لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى صَبِيٍّ لِيَدْفَعَهَا إلَى الْمُسْتَحَقِّ وَعَيَّنَ " الْمَدْفُوعَ لَهُ " جَازَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ ، قَالَهُ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ .
وَقِيَاسُهُ فِي الْحُقُوقِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْوَصَايَا كَذَلِكَ ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّ " الْبَائِعَ " ، لَوْ دَفَعَ الْمَبِيعَ إلَى الصَّبِيِّ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي لَا تَخْرُجُ الْعَيْنُ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ، لِأَنَّ وَكَالَةَ الصَّبِيِّ بِالْقَبْضِ فَاسِدَةٌ ، نَعَمْ إنْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي وَقَعَ الْمَوْقِعَ .
وَهَذَا كُلُّهُ " فِي الْمُمَيَّزِ ، أَمَّا
غَيْرُ الْمُمَيَّزِ فَهُوَ مَسْلُوبُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ " ، إلَّا فِي طَوَافِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْوُقُوفِ وَالسَّعْيِ إذَا سَبَقَ إحْرَامَ الْوَلِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ .
قَاعِدَةٌ " الْخِلَافُ فِي أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ ، وَالْأَصَحُّ " أَنَّهُ عَمْدٌ " هُوَ فِي الْمُمَيَّزِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَمْدُهُ خَطَأٌ قَطْعًا " وَهَذَا فِي جِنَايَتِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ وَأَمَّا عَمْدُ الْمُمَيَّزِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِفْسَادِ الْعِبَادَاتِ فَعَمْدٌ قَطْعًا " ، كَالْبَالِغِ حَتَّى لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَكَلَ فِي الصَّوْمِ عَامِدًا " فَسَدَا " قَطْعًا .
وَيُرَدُّ عَلَى الْإِمَامِ صُوَرٌ : مِنْهَا : مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا جَامَعَ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِحَالٍ وَهَلْ يَبْطُلُ صَوْمُهُ ؟ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ عَمْدَهُ عَمْدٌ أَوْ خَطَأٌ ، وَلَك أَنْ تَسْأَلَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ أَكْلِهِ حَيْثُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ قَطْعًا ، وَفِي جِمَاعِهِ " الْوَجْهَانِ " ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ شَهْوَةَ الصَّبِيِّ الْأَكْلُ " كَشَهْوَةِ " الْبَالِغِ ، بَلْ آكَدُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْجِمَاعُ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَفْطَرَ الْبَالِغُ ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْإِنْزَالِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْجِمَاعِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ بِمَثَابَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْإِنْزَالُ ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ مَسْلَكَ الْجِمَاعِ فِي " الْأَحْكَامِ مِنْ " الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ .
وَمِنْهَا جِمَاعُهُ عَمْدًا فِي الْحَجِّ هَلْ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا " ذَكَرْنَا " ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ " يُفْسِدُهُ " ، وَإِنَّمَا جَرَى فِيهِ الْخِلَافُ ، لِأَنَّ الْوَطْءَ مُلْحَقٌ بِالْجِنَايَاتِ ، وَالْخِلَافُ فِيهَا ثَابِتٌ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْوَافِي الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ حَيْثُ إنَّ عَمْدَهُ فِي الصَّلَاةِ قَطْعًا وَفِي الْحَجِّ قَوْلَانِ مُشْكِلٌ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ الْقَوْلَانِ فِي الْأَفْعَالِ .
أَمَّا أَقْوَالُهُ فَعَمْدُهُ فِيهَا عَمْدٌ فِي الْعِبَادَاتِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَهُوَ بَعِيدٌ ، " قَالَ " وَقَدْ فَرَّقَ " صَاحِبُ التَّعْلِيقَةِ " فِيمَا إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ عَلَى الْمُصَلِّي تَبْطُلُ " صَلَاتُهُ " وَعَلَى الْحَاجِّ لَا يُبْطِلُهُ "
فَإِنَّ " الصَّلَاةَ شَرْطُهَا الطَّهَارَةُ وَيَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وُضُوءُهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُعْقَدُ عَلَى الصَّبِيِّ صِيَامٌ وَيُعْقَدُ عَلَيْهِ إحْرَامُ الْحَجِّ .
قَالَ ، وَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَرَّقْنَا بِهِ هَا هُنَا فَنَقُولُ أَمْرُ الصَّلَاةِ أَقْوَى اعْتِبَارًا فِي بُطْلَانِهِ وَفَسَادِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهَا شَرْطُ الطَّهَارَةِ ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِحَدَثِهِ ، فَكَذَلِكَ بِأَقْوَالِهِ الْعَامِدَةِ فِيهَا " وَأَفْعَالِهِ " .
فَرْعٌ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِبَالِغٍ فَبَانَ أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَجْهَانِ فِي الْبَحْرِ .
الصِّحَّةُ وَالْجَوَازُ وَالِانْعِقَادُ " فِي بَابِ الْعُقُودِ " بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، فَكُلُّ صَحِيحٍ مُنْعَقِدٍ وَكُلُّ مُنْعَقِدٍ صَحِيحٌ .
وَهُوَ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ أَوْ " مَا " أَفَادَ حُكْمُهُ ، وَقِيلَ الْمُنْعَقِدُ عِبَارَةٌ عَنْ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يُصَحَّحَ وَأَنْ لَا يُصَحَّحَ ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ " فَيُعْقَدُ " عِنْدَ قَوْمٍ " لَهُ " بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِجَازَةُ مِنْ الْمَالِكِ يَصِحُّ كَالْإِيجَابِ قَبْلَ الْقَبُولِ ، وَإِلَّا فَلَا ، " وَإِنَّمَا " الصِّحَّةُ اعْتِبَارُ " التَّصَرُّفِ " جَزْمًا ، وَأَمَّا الْمَعْقُودُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ انْعِقَادٍ يُؤَثِّرُ فِي الْمَحَلِّ " مُثْبِتًا لِحُكْمِهِ " .
فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَالُوا انْعَقَدَ فَاسِدًا ، وَغَيْرَ صَحِيحٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مُنْعَقِدٍ صَحِيحٌ .
قُلْت هُوَ مَجَازٌ ، وَأَمَّا عِنْدَ إطْلَاقِ الِانْعِقَادِ فَيُصْرَفُ إلَى الصَّحِيحِ وَعِنْدَ إرَادَةِ الْمَجَازِ " فَيُقَيَّدُ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَبِشَرِّهِمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، وَيُطْلَقُ الْجَائِزُ فِي مُقَابَلَةِ اللَّازِمِ فَاللَّازِمُ مَا " لَا " يَقْبَلُ الْفَسْخَ أَوْ مَا " لَا " يُمْكِنُ الْغَيْرُ إبْطَالَهُ ، وَالْجَائِزُ عَكْسُهُ ، وَالْفَسْخُ حَلُّ ارْتِبَاطِ الْمَعْقُودِ .
وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَنَقَلَ " الْإِمَامُ " فِي الْمَحْصُولِ عَنْ " الْفُقَهَاءِ " أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الصِّحَّةَ بِمَسْقَطِ الْقَضَاءِ وَهُوَ يُنْتَقَضُ بِصَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ فِي الْحَضَرِ ، لِعَدَمِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَوَضْعُ الْجَبَائِرِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ مَعَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ، وَأَيْضًا فَالْجُمُعَةُ تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ وَلَا يَدْخُلُهَا قَضَاءٌ .
" وَأَمَّا الصِّحَّةُ فِي الْعُقُودِ " " فَقِيلَ " اسْتِتْبَاعُ الْغَايَةِ وَقِيلَ تَرَتُّبُ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهَا مَا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ " يَعْنِي " الصِّحَّةَ وَعَدَمَهَا ، وَأَمَّا مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا فَلَا كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ، " وَقَدْ
يُؤْمَرُ بِمَا لَا يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ تَشَبُّهًا " ، كَالْمُمْسِكِ فِي رَمَضَانَ وَصَلَاةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الرَّجْعَةُ فِيمَا إذَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بِلَادِ الْهُدْنَةِ مُسْلِمَةً ، وَقُلْنَا يَغْرَمُ " لِزَوْجِهَا " الْكَافِرِ الْمَهْرَ عَلَى الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ طَلَّقَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَمْ يَغْرَمْ لَهُ الْمَهْرَ حَتَّى يُرَاجِعَ لِتَظْهَرَ رَغْبَتُهُ .
وَهَذِهِ صُورَةُ رَجْعَةٍ لَا لِحَقِيقَتِهَا ، بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ ظُهُورُ " رَغْبَتِهِ " لِيَغْرَمَ لَهُ الْمَهْرَ وَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُرَاجِعَ الْمُسْلِمَةَ ، وَحَكَى الْإِمَامُ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ خَرَّجُوا قَوْلًا أَنَّهُ لَا " تُعْتَبَرُ " رَجْعَةً ، لِأَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهَا .
وَأَمَّا الرِّدَّةُ " فَإِنَّ " الْقِيَاسَ " أَنَّهُ " لَا تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمَعَاصِي ، " لَكِنَّهَا " لَمَّا حَلَّتْ الْعَقْدَ الْعَظِيمَ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وُصِفَتْ بِذَلِكَ فَيُقَالُ تَصِحُّ الرِّدَّةُ مِنْ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْحُكْمَ بِهَا عَقْلِيَّانِ أَوْ شَرْعِيَّانِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي أَنَّ الْعُقُودَ إذَا أُطْلِقَتْ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ " أَوْ الْفَاسِدِ " ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي " كَلَامِهِ عَلَى " الْمَسْأَلَةِ السُّرَيْجِيَّةِ ، وَالْأَصَحُّ اخْتِصَاصُهَا بِالصَّحِيحِ .
وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ لَا يَحْنَثُ بِالْفَاسِدِ .
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ سَيَأْتِي خِلَافٌ فِي أَنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ أَوَّلًا ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ ، وَقَدْ اُسْتُنْكِرَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي اخْتِصَاصِهَا بِالصَّحِيحِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْعُقُودِ .
قُلْت وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ صَحِيحٌ وَمِمَّنْ حَكَاهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَغَيْرُهُ ، وَقَدْ أَوْضَحْته فِي خَادِمِ الرَّافِعِيِّ .
الصَّرِيحُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ : فِي حَقِيقَتِهِ : اعْلَمْ أَنَّ أَلْفَاظَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا تَنْقَسِمُ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ .
وَالضَّابِطُ ، كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ إنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ إمَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ أَوْ لَا ، فَإِنْ تَكَرَّرَ حَتَّى اُشْتُهِرَ كَالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَهُوَ صَرِيحٌ ، وَإِنْ لَمْ يَشِعْ فِي الْعَادَةِ ، فَإِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ " هُوَ " الْمُتَّبَعُ ، وَعَلَيْهِ " بَيَّنَّا " .
حَمْلَ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَقَارِيرِ عَلَى النَّقْرَةِ الْخَالِصَةِ قَطْعًا ، وَإِنْ غَلَبَ الْعُرْفُ " بِخِلَافِهَا " ، وَعَلَيْهِ أَلْحَقْنَا الْفِرَاقَ وَالسَّرَاحَ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ لِتَكَرُّرِهَا شَرْعًا ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ ، بَلْ " ذُكِرَ " فِي الشَّرْعِ مَرَّةً وَلَمْ يَشِعْ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ كَالْمُفَادَاةِ فِي الْخُلْعِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ، وَالْفَكُّ فِي الْعَتَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَكُّ رَقَبَةٍ } ، وَالْإِمْسَاكُ فِي الرَّجْعَةِ قَوْله تَعَالَى { فَأَمْسَكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } " ، فَوَجْهَانِ " أَيْ وَالْأَصَحُّ الْتِحَاقُهُ بِالصَّرِيحِ فِي الْكُلِّ .
" وَأَمَّا " مَا لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَكِنْ شَاعَ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ شَرْعًا فِي الطَّلَاقِ " وَشَاعَ الْعُرْفُ " فِي إرَادَتِهِ فَوَجْهَانِ " أَيْ وَالْأَصَحُّ " الْتِحَاقُهُ بِالْكِنَايَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَطَعْتُمْ بِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ صَرِيحٌ عَلَى قَوْلِ الْفَسْخِ فَهُوَ يَخْرِمُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي " الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ " .
قِيلَ : الْخُلْعُ جَرَى " عَلَى " لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ " مَجْبُولُونَ " عَلَى " التَّلَفُّظِ " بِهِ ، وَإِذَا نَطَقُوا رَأَوْهُ الْأَصْلَ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ " الْبَعِيدُ " كَالنِّكَاحِ فَاعْتَمَدَ فِيهِ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ " هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ
لَفْظَ الْخُلْعِ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ " وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَفِي قَضِيَّةِ حَبِيبَةَ جَرَيَانُ الْخُلْعِ " وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ } وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ " .
ثُمَّ إنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ نَاقِصٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ وَمَا لَمْ يَرِدْ عَلَى " لِسَانِ " الشَّارِعِ ، وَلَكِنْ شَاعَ عَلَى " أَلْسِنَةِ " حَمَلَتِهِ ، وَكَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعَقْدِ فَفِي كَوْنِهِ صَرِيحًا وَجْهَانِ وَالْأَصَحُّ صَرَاحَتُهُ .
وَهَذَا كَلَفْظِ التَّمْلِيكِ فِي الْبَيْعِ وَالْفَسْخِ فِي الْخُلْعِ ، لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ فِيهِمَا فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ كَانَ صَرِيحًا فِيهِ لَكِنْ يُقَدَّمُ فِي هَذَا " لَفْظُ " التَّحْرِيمِ " وَالْإِبَانَةِ " فَإِنَّهُمَا مَقْصُودَا الطَّلَاقِ مَعَ أَنَّهُمَا كِنَايَةٌ فِيهِ .
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَيْضًا قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ قَوْلَهُ لَا أُجَامِعُك كِنَايَةٌ فِي الْإِيلَاءِ مَعَ شُيُوعِهِ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ وَلَفْظُ " الْمَسِّ " مُتَكَرِّرٌ فِي الْقُرْآنِ ، " وَعَلَى " لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ ؛ لِإِرَادَةِ الْجِمَاعِ وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِيهِ ، وَفِي لَفْظِ الْإِمْسَاكِ فِي الرَّجْعَةِ وَجْهَانِ " وَهُوَ " مِمَّا " تَكَرَّرَ " فِي الْقُرْآنِ .
الثَّانِي : أَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعَبُّدِ وَلِهَذَا تَكَلَّمُوا فِي حَصْرِهِ فِي مَوَاضِعَ كَالطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عَمّ فِي نَاحِيَةٍ اسْتِعْمَالُ الطَّلَاقِ فِي إرَادَةِ التَّخَلُّصِ عَنْ الْوَثَاقِ وَنَحْوِهِ فَخَاطَبَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ ، وَقَالَ : أَرَدْت بِهِ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ كَمَا سَبَقَ عَنْ الْإِمَامِ فِي أَنَّ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ لَا يَرْفَعُ الْعَامَّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَصِيرُ كِنَايَةً بِالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ ، فَإِذَا قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ أَوْ فَارَقْتُك بِالْجِسْمِ أَوْ سَرَّحْتُك مِنْ الْيَدِ أَوْ إلَى السُّوقِ لَمْ " تَطْلُقْ " فَإِنَّ أَوَّلَ اللَّفْظِ " مُرْتَبِطٌ " بِآخِرِهِ ، " قَالَ " الْإِمَامُ : وَهَذَا يُضَاهِي الِاسْتِثْنَاءَ .
قُلْت وَهَذَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي صُورَةِ سُؤَالٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ صَرِيحَ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ طَلَّقْتُك ، فَقَدْ " يَتَعَقَّبُهُ " نَدَمٌ فَيَصِلُهُ بِقَوْلِهِ مِنْ وَثَاقٍ ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّوَهُّمِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَّصِلَ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهِ لَا بِبَعْضِهِ " كَقَوْلِهِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَلَا يُقَالُ فِيهَا أَنَّهُ نَفَى الْإِلَهَ أَوَّلًا فَخَافَ فَاسْتَدْرَكَ بِالْإِثْبَاتِ ثَانِيًا .
وَانْبَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَرْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إذَا نَوَى بِهَا الطَّلَاقَ وَقَعَ ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهَا كِنَايَةً وَلَا شَكَّ " أَنَّ فِي " النِّكَاحِ نَوْعُ وَثَاقٍ ، وَنَوْعُ يَدٍ وَنَوْعُ اخْتِلَاطٍ .
الثَّانِي : اعْتِبَارُ النِّيَّةِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْمُتَوَلِّي فَقَالَ " أَمَّا " ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْأَقْوَالِ " اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي التَّصْدِيقِ ، فَقَدْ تَنْضَمُّ إلَيْهِ قَرَائِنُ تَصْرِفُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ إلَى الِاسْتِهْزَاءِ كَتَحْرِيكِ الرَّأْسِ عَلَى شِدَّةِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ ، قَالَ وَيُشْبِهُ حَمْلَ قَوْلِ الْأَصْحَابِ فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ صَدَقْت أَوْ نَحْوَهُ عَلَى انْتِفَاءِ الْقَرِينَةِ فَإِنْ احْتَفَّتْ بِاللَّفْظِ الْقَرَائِنُ الْمَذْكُورَةُ فَلَا تُجْعَلُ إقْرَارًا " وَيَأْتِي " فِيهِ " خِلَافُ " تَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ .
وَمِمَّا يُعَارِضْ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَلْحَقُ الْكِنَايَةَ بِالصَّرِيحِ ، إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ ، وَهِيَ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ : طَلِّقْنِي فَقَالَ : طَلَّقْت فَاطِمَةَ ، ثُمَّ قَالَ نَوَيْت فَاطِمَةً أُخْرَى طَلَقَتْ وَلَا يُقْبَلُ ؛ لِدَلَالَةِ الْحَالِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ
قَالَ ابْتِدَاءً : طَلَّقْت فَاطِمَةَ ، ثُمَّ قَالَ : نَوَيْت أُخْرَى حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ " فِي الشَّرْحِ " عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ .
الرَّابِعُ : الصَّرِيحُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ ، وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ هَذَا بِقَوْلِهِمْ يُشْتَرَطُ قَصْدُ حُرُوفِ الطَّلَاقِ لِمَعْنَى الطَّلَاقِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي وَجْهِ الْجَمْعِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ : أَنَّ مَعْنَى " قَوْلِهِمْ الصَّرِيحُ " لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ أَيْ : نِيَّةِ الْإِيقَاعِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ فَاسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ .
أَمَّا قَصْدُ اللَّفْظِ " فَيُشْتَرَطُ " لِتَخْرُجَ مَسْأَلَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ ، وَمِنْ هَا هُنَا يَفْتَرِقُ الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ ، فَالصَّرِيحُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَصْدُ اللَّفْظِ ، وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَمْرَانِ قَصْدُ اللَّفْظِ ، وَنِيَّةُ الْإِيقَاعِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : أَنْ يَقْصِدَ حُرُوفَ الطَّلَاقِ لِلْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ لِيَخْرُجَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ .
الْخَامِسُ : الصَّرَائِحُ تَعْمَلُ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ بِلَا خِلَافٍ إلَّا فِيمَا إذَا قِيلَ : لِلْكَافِرِ قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَهَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ قَالَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَصَحُّهُمَا : يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ احْتِمَالُ قَصْدِ الْحِكَايَةِ .
السَّادِسُ : كُلُّ تَرْجَمَةٍ " نُصِبَتْ عَلَى " بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ فَالْمُشْتَقُّ مِنْهَا صَرِيحٌ بِلَا خِلَافٍ ، إلَّا فِي أَبْوَابٍ فَفِي بَعْضِهَا لَا تَكْفِي عَلَى الْأَصَحِّ ، وَفِي بَعْضِهَا تَكْفِي عَلَى وَجْهٍ .
الْأُولَى : " الشَّرِكَةُ " لَا يَكْفِي " مُجَرَّدُ " اشْتَرَكْنَا .
الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ : " الْمُتَيَمِّمُ " ، لَوْ قَالَ : نَوَيْت التَّيَمُّمَ لَا يَكْفِي ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَرْضِ مَعَهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَكَذَا الْوُضُوءُ عَلَى وَجْهٍ " صَحَّحَهُ الشَّاشِيُّ " ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ فِيهِ الصِّحَّةُ .
الرَّابِعَةُ : الْكِتَابَةُ فَبِمُجَرَّدِ كَاتَبْتُك لَا تَصِحُّ حَتَّى يَقُولَ ، وَأَنْتَ حُرٌّ إذَا أَدَّيْت .
الْخَامِسَةُ : التَّدْبِيرُ عَلَى قَوْلٍ .
السَّادِسَةُ : الْخُلْعُ .
" السَّابِعُ " : الصَّرِيحُ فِي " بَابِهِ " إذَا وَجَدَ نَفَاذًا فِي " مَوْضِعِهِ " لَا يَكُونُ كِنَايَةً فِي " غَيْرِهِ وَمَعْنَى " وَجَدَ نَفَاذًا أَيْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ ، " كَمَا عَبَّرَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي الطَّلَاقِ ، وَالْمُرَادُ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ " صَرِيحًا .
وَهَذَا كَالطَّلَاقِ لَا يَكُونُ ظِهَارًا " وَفَسْخًا " بِالنِّيَّةِ ، وَبِالْعَكْسِ فَلَوْ قَالَ : وَهَبْت مِنْك وَنَوَى الْوَصِيَّةَ لَا تَكُونُ وَصِيَّةً فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ فِي مَوْضُوعِهِ الصَّرِيحِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ النَّاجِزُ .
وَلَوْ قَالَ فِي الْإِجَارَةٍ بِعْتُك مَنْفَعَتَهَا لَمْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الْأَعْيَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنَافِعِ ، كَمَا لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ .
وَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ : إحْدَاهَا : إذَا جَعَلْنَا الْخُلْعَ صَرِيحًا فِي الْفَسْخِ هَلْ يَكُونُ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ حَتَّى إذَا نَوَيَا بِهِ الطَّلَاقَ يَكُونُ طَلَاقًا يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا مِنْ حَيْثُ " النَّقْلُ يَكُونُ " طَلَاقًا .
الثَّانِيَةُ : لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " وَعَنَى بِهِ " الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقَعُ مَعَ أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ صَرِيحٌ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ ، فَقَدْ يُعَدُّ كِنَايَةً مَعَ كَوْنِهِ وَجَدَ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ " ، وَقَدْ يُجَابُ " عَنْ هَذَا بِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِهِ لَا يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ ، بَلْ يَجْرِي فِي مِلْكِ الْيَمِينِ إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَبْعُدْ صَرْفُهُ إلَى حُكْمٍ آخَرَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ .
الثَّالِثَةُ : لَوْ قَالَ : بِعْتُك نَفْسَكِ بِكَذَا " وَقَالَتْ : " اشْتَرَيْت فَكِنَايَةُ خُلْعٍ .
الرَّابِعَةُ : قَالَ السَّفِيهُ لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ نَفْسَك فَنَصَّ " الْإِمَامُ " الشَّافِعِيُّ " رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " فِي بَابِ الْكِتَابَةِ مِنْ الْأُمِّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ إنْ نَوَى عِتْقَهُ وَقَعَ مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي التَّفْوِيضِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ كِنَايَةً فِي التَّنْجِيزِ .
الْخَامِسَةُ : لَوْ قَالَ : مَالِي طَالِقٌ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الصَّدَقَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ نَوَى صَدَقَةَ مَالِهِ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْصِدَ قُرْبَةً .
قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَعَلَى هَذَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ أَوْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَجْهَانِ .
السَّادِسَةُ : صَرَائِحُ الطَّلَاقِ كِنَايَةٌ فِي الْعِتْقِ فَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى الْعِتْقَ عَتَقَتْ وَعَكْسُهُ ، قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ : وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِأَمَتِهِ فَوَكَّلَ سَيِّدَهَا فِي طَلَاقِهَا فَقَالَ قَدْ أَعْتَقْتُك ، وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ .
السَّابِعَةُ : أَحَالَهُ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ ثُمَّ قَالَ أَرَدْت بِذَلِكَ التَّوْكِيلَ ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : لَا يُقْبَلُ عَلَى الْقَاعِدَةِ ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِنِيَّتِهِ .
الثَّامِنَةُ : لَوْ رَاجَعَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ " أَوْ التَّزْوِيجِ " ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ " تَنْفُذُ " بِالنِّيَّةِ ؛ لِإِشْعَارِهِ بِالْمَعْنَى .
التَّاسِعَةُ : قَالَ لِعَبْدِهِ وَهَبْتُك نَفْسَك ، وَأَطْلَقَ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِتْقَ عَتَقَ فِي الْحَالِ .
الْعَاشِرَةُ : إذَا ثَبَتَ لِلزَّوْجِ فَسْخُ النِّكَاحِ بِعَيْبٍ أَوْ بِإِسْلَامِهِ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَقَالَ : فَسَخْت نِكَاحَك ، وَأَطْلَقَ أَوْ نَوَاهُ حَصَلَ الْفَسْخُ ، وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ طَلَقَتْ فِي الْأَصَحِّ .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ " : أَعَرْتُك " حِمَارِي " لِتُعِيرَ لِي " فَرَسَك فَإِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ .
وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْإِعَارَةَ كِنَايَةٌ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَالْفَسَادُ جَاءَ مِنْ اشْتِرَاطِ " الْعَارِيَّةِ " فِي الْعَقْدِ .
الصِّفَةُ فِي الْمَعْرِفَةِ لِلتَّوْضِيحِ نَحْوُ زَيْدٌ الْعَالِمُ وَمِنْهُ { وَالصَّلَاةُ الْوُسْطَى } " وَيُسَمِّيهِ الْبَيَانِيُّونَ " الصِّفَةَ الْفَارِقَةَ .
وَفِي النَّكِرَةِ لِلتَّخْصِيصِ نَحْوُ مَرَرْت بِرَجُلٍ فَاضِلٍ .
وَمِنْهُ { آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } وَيُعَبَّرُ عَنْهَا أَيْضًا بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِهِ " فِيهِ " .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ : إنْ ظَاهَرْتُ مِنْ فُلَانَةَ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَخَاطَبَهَا بِالظِّهَارِ لَمْ يَصِرْ مُظَاهِرًا مِنْ الزَّوْجَةِ ، وَإِنْ نَكَحَهَا وَظَاهَرَ مِنْهَا صَارَ ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ " الْأَجْنَبِيَّةِ " عَلَى التَّعْرِيفِ لَا الشَّرْطِ ، " وَقِيلَ : " لَا يَصِيرُ مُظَاهِرًا ، وَإِنْ نَكَحَهَا حَمْلًا لَهُ عَلَى الشَّرْطِ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا إذَا قَالَ لِحَوَامِلَ : مَتَى وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ " فَصَوَاحِبُهَا " طَوَالِقُ أَنَّهُ يُرَاجَعُ الزَّوْجُ فَإِنْ أَرَادَ " بِصَوَاحِبِهَا " الشَّرْطَ تَعَيَّنَ الثَّانِي " أَوْ التَّعْرِيفَ " فَالْأَوَّلُ قَطْعًا " ، وَإِنْ أَطْلَقَ أَوْ مَاتَ " وَلَمْ تُعْرَفُ إرَادَتُهُ حُمِلَ عَلَى التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ عُقُودٌ ، لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي صُورَةِ الظِّهَارِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ : اسْتَوْفِ دَيْنِي الَّذِي " لِي " عَلَى فُلَانٍ فَمَاتَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنْ وَارِثِهِ ؟ وَجْهَانِ إنْ جَعَلْنَا " الصِّفَةَ " وَهِيَ قَوْلُهُ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ لِلتَّعْرِيفِ كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَارِثِ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهَا لِلشَّرْطِ فَلَا .
تَنْبِيهٌ : " مَا ذَكَرْنَاهُ " ، فِي الصِّفَةِ الْفَارِقَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ ، " وَقَالَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ " فِي الْبُرْهَانِ : إذَا دَخَلَتْ الصِّفَةُ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ كَانَتْ لِلتَّخْصِيصِ لَا لِلتَّوْضِيحِ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ لَوْ أُرِيدَتْ بِاسْمِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هِيَ " هِيَ " كَانَ الْوَصْفُ " بِهَا نَسْخًا " فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا
بِهَا الْخَاصُّ ثُمَّ الصِّفَةُ تَأْتِي مُبَيِّنَةً لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا ، لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ فَشَرِبَ الْحَارَّ لَمْ يَحْنَثْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : لَا كَلَّمْت زَيْدًا الرَّاكِبَ فَكَلَّمَهُ وَهُوَ مَاشٍ " يَحْنَثُ " إذْ لَمْ تُفِدْ الصِّفَةُ فِيهِ تَقْيِيدًا .
صِفَاتُ الْحُقُوقِ لَا تُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَسْقَطَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ الْأَجَلَ هَلْ يَسْقُطُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ مُطَالَبَتِهِ فِي الْحَالِ ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الْأَجَلَ صِفَةٌ تَابِعَةٌ ، وَالصِّفَةُ لَا " تُفْرَدُ " " بِالْإِسْقَاطِ " .
وَلَوْ أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْحِنْطَةِ الْجَيِّدَةِ وَالدَّنَانِيرِ الصِّحَاحِ أَسْقَطَ صِفَةَ الْجُودَةِ أَوْ الصِّحَّةِ لَمْ تَسْقُطْ " بِالْإِسْقَاطِ " ، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْمَنَاهِي .
نَعَمْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إذَا بَاعَ شَيْئًا بِشَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ كَالْأَجَلِ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ .
وَيَقْرُبُ مِنْهُ إسْقَاطُ الْبَائِعِ حَقَّ الْعِتْقِ إذَا جَعَلْنَا الْحَقَّ لَهُ ، وَجَزَمَ الرَّافِعِيُّ بِالسُّقُوطِ ، وَهَذِهِ " الصُّوَرُ " لَا تَرِدُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْوَصْفُ مِمَّا يُفْرَدُ بِالْعَقْدِ كَالرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ ، وَالْعِتْقُ بِخِلَافِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ وَصْفٌ لَازِمٌ لَا يُمْكِنُ إنْشَاؤُهُ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلٍّ .
وَقَضِيَّةُ هَذَا " أَنَّهُ " ، لَوْ اشْتَرَى شَاةً بِشَرْطِ أَنَّهَا لَبُونٌ وَصَحَّحْنَاهُ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ خِيَارَهُ إذَا خَرَجَتْ غَيْرَ لَبُونٍ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ .
الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَمِنْ ثَمَّ أُبِيحَتْ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ ، وَإِسَاغَةُ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غَصَّ ، وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا ، وَأُبِيحَتْ كَلِمَةُ الْكُفْرِ لِلْمُكْرَهِ ، وَكَذَلِكَ إتْلَافُ الْمَالِ ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ مَالِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَلَوْ كَانَ بِكَسْرِ بَابِهِ .
وَلَوْ صَالَ الصَّيْدُ عَلَى مُحْرِمٍ فَقَتَلَهُ دَفْعًا لَا ضَمَانَ ؛ لِأَنَّهُ بِالصِّيَالِ الْتَحَقَ بِالْمُؤْذِيَاتِ ، وَإِذَا عَمّ الْحَرَامُ قُطْرًا بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِ حَلَالٌ إلَّا نَادِرًا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى الضَّرُورَةِ ، قَالَ الْإِمَامُ : ( وَلَا يَتَبَسَّطُ فِيهِ كَمَا يَتَبَسَّطُ ) فِي الْحَلَالِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ دُونَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ كَالتَّتِمَّاتِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَتَوَقَّعَ مَعْرِفَةَ الشَّخْصِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، أَمَّا عِنْدَ الْإِيَاسِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمَسْأَلَةُ ( كَأَنَّهُ ) حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَالُ لِلْمَصَالِحِ ، ( لِأَنَّ مِنْ ) جُمْلَةِ ( أَمْوَالِ ) بَيْتِ الْمَالِ مَا جُهِلَ مَالِكُهُ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ مِنْ شَرْحِ التَّلْخِيصِ وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ غَيْرِهِ وَتَرَكَ الْأَكْلَ هَلْ يَعْصِي ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : نَعَمْ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ ، وَالثَّانِي لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْهَلَاكِ ، كَمَا لَوْ قَصَدَ مُسْلِمٌ لِقَتْلِهِ قَالَ : وَهَكَذَا الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ احْتَاجَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ لِلْعَطَشِ ، وَيَجُوزُ إتْلَافُ شَجَرِ الْكُفَّارِ وَبِنَائِهِمْ لِحَاجَةِ الْقِتَالِ ، وَكَذَا إتْلَافُ الْحَيَوَانِ ( الَّذِينَ ) يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ ؛ لِدَفْعِهِمْ أَوْ ( ظَفْرٍ بِهِمْ ) ، وَيَجُوزُ نَبْشُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِلضَّرُورَةِ بِأَنْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ ، أَوْ فِي أَرْضٍ أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ لَا لِلتَّكْفِينِ فِي الْأَصَحِّ ؛ وَلَا لِيُدْفَنَ عَلَيْهِ آخَرُ .
وَيَجُوزُ غَصْبُ الْخَيْطِ
لِخِيَاطَةِ جُرْحِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ إذَا لَمْ يَجِدْ خَيْطًا حَلَالًا .
هَذَا إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَإِنْ كَانَ فَوَجْهَانِ .
وَالنَّجَاسَاتُ إذَا عَمَّتْ الْبَلْوَى بِهَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهَا .
وَمِنْهُ الْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ فَمِ النَّائِمِ إذَا حَكَمْنَا بِنَجَاسَتِهِ وَعَمَّتْ ( بَلْوَى ) شَخْصٍ بِهِ ، فَالظَّاهِرُ الْعَفْوُ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
قَالَ : وَلَوْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِذَرْقِ ( الطَّيْرِ ) ، وَتَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ عُفِيَ عَنْهُ كَطِينِ الشَّارِعِ ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهُ .
وَفِي النُّكَتِ لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ يُعْفَى عَنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ فِي الْمَسَاجِدِ .
وَحَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ذَرْقُ الْعُصْفُورِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَهَذَا ( تَصَرُّفٌ ) بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَإِنَّ الشَّيْخَ عَمَّ الطُّيُورَ وَخَصَّ الْمَسَاجِدَ ، وَالرَّافِعِيُّ عَكَسَ النَّقْلَ عَنْهُ ( فَخَصَّ ) الْعُصْفُورَ وَعَمَّ ( الْعَفْوَ ) ( وَكَالْعَفْوِ ) عَنْ أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ .
وَلَوْ وَلِيَ الْإِمَامَ غَيْرُ أَهْلٍ نَفَذَ قَضَاؤُهُ ؛ لِلضَّرُورَةِ ، وَأَلْحَقَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِقَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَنَازَعَ فِيهِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْكَتَّانِيُّ ( فَإِنَّ ) الْمَنْقُولَ فِي قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِ ، قَالَ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى حَتَّى ( يَنْفُذَ ) ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْمُعَاطَاةِ قَدْ غَلَبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَلَوْ رُفِعَ إلَى حَاكِمٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَصْحِيحُهُ ؛ لِأَنَّ مَا خَالَفَ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ لَا أَثَرَ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ .
فَائِدَةٌ : جَعَلَ بَعْضُهُمْ الْمَرَاتِبَ خَمْسَةً ضَرُورَةٌ ، وَحَاجَةٌ ، وَمَنْفَعَةٌ ، وَزِينَةٌ ، وَفُضُولٌ .
فَالضَّرُورَةُ : بُلُوغُهُ حَدًّا إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ كَالْمُضْطَرِّ لِلْأَكْلِ وَاللُّبْسِ بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ جَائِعًا أَوْ عُرْيَانًا لَمَاتَ أَوْ تَلِفَ مِنْهُ عُضْوٌ .
وَهَذَا يُبِيحُ تَنَاوُلَ الْمُحَرَّمِ .
وَالْحَاجَةُ : كَالْجَائِعِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا
يَأْكُلُ لَمْ يَهْلِكْ غَيْرَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ ، وَهَذَا لَا يُبِيحُ الْمُحَرَّمَ .
، وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ : فَكَاَلَّذِي يَشْتَهِي خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَلَحْمَ الْغَنَمِ ، ( وَالطَّعَامَ ) الدَّسِمَ .
وَأَمَّا الزِّينَةُ : فَكَالْمُشْتَهِي ( الْحُلْوَ ) الْمُتَّخَذَ مِنْ ( اللَّوْزِ وَالسُّكَّرِ ) وَالثَّوْبَ الْمَنْسُوجَ مِنْ حَرِيرٍ وَكَتَّانٍ .
وَأَمَّا الْفُضُولُ : ( فَهُوَ ) التَّوَسُّعُ بِأَكْلِ الْحَرَامِ أَوْ الشُّبْهَةِ ، كَمَنْ يُرِيدُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِي الذَّهَبِ أَوْ شُرْبَ الْخَمْرِ إذَا عَلِمْت هَذَا فَلِلْقَنُوعِ مَرْتَبَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) يَقْنَعُ بِدَفْعِ الْحَاجَةِ فَلَا يَأْكُلُ إلَّا عِنْدَ الْجُوعِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ دَافِعٍ وَدَافِعٍ .
وَدُونَهَا مَرْتَبَةُ مَنْ يَقْنَعُ ( بِاسْتِيفَاءِ ) الْمَنْفَعَةِ فَيَأْكُلُ الطَّيِّبَ ، وَلَكِنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ صِنْفٍ وَصِنْفٍ ( فَإِذَا ) اشْتَهَى ( الْحُلْوَ ) اسْتَوَى عِنْدَهُ الدِّبْسُ وَالسُّكَّرُ ، وَإِذَا أَرَادَ اللُّبْسَ اسْتَوَى عِنْدَهُ الْقُطْنُ وَالصُّوفُ .
وَأَمَّا مَنْ دُونَهُ وَهُوَ الْقَنُوعُ بِسَدِّ الرَّمَقِ الصَّابِرُ عَلَى مَضَضِ الْجُوعِ ، وَكَانَ الْقَانِعُ يَسْتُرُ وَجْهَ الْحَاجَةِ بِسَتْرٍ خَفِيفٍ ، كَمَا أَنَّ ( الْمِقْنَعَةَ ) تَسْتُرُ وَجْهَ لَابِسِهَا بَعْضَ السِّتْرِ ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ جَلَسَ خَلْفَ حَائِطٍ مِنْ الشَّمْسِ أَنَّهُ تَقَنَّعَ بِالْحَائِطِ .
قَاعِدَةٌ : مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَمِنْ ثَمَّ لَا يَأْكُلُ مِنْ الْمَيْتَةِ إلَّا قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ ، فَإِذَا اُسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ ذَكَرَ مَسَاوِئَهُ ، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ فَإِنْ اكْتَفَى بِالتَّعْرِيضِ كَقَوْلِهِ لَا يَصْلُحُ لَك لَمْ يَعْدِلْ إلَى التَّصْرِيحِ ، وَيَجُوزُ أَخْذُ نَبَاتِ الْحَرَمِ ؛ لِعَلَفِ الْبَهَائِمِ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ ؛ لِبَيْعِهِ لِمَنْ يَعْلِفُ .
وَمِثْلُهُ الطَّعَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ عَلَى ( حَسَبِ ) الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ ، وَيُعْفَى عَنْ مَحَلِّ اسْتِجْمَارِهِ ، وَلَوْ حَمَلَ ( مُسْتَجْمَرًا فِي الصَّلَاةِ ) ( بَطَلَتْ ) فِي الْأَظْهَرِ ، وَيُعْفَى عَنْ الطُّحْلُبِ فِي الْمَاءِ ، فَلَوْ أُخِذَ وَدُقَّ وَطُرِحَ فِيهِ وَغَيَّرَهُ ضَرَّ .
وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : لَوْ كَانَ عِنْدَهُ ثَوْبٌ فِيهِ دَمُ بَرَاغِيثَ ( مُسْتَغْنِيًا ) عَنْ لُبْسِهِ فَلَبِسَهُ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ ، وَالْمَاءُ الَّذِي غَسَلَ بِهِ ( النَّجَاسَةَ الْمَعْفُوَّ ) عَنْهَا مُسْتَعْمَلٌ قَطْعًا ؛ لِزَوَالِ النَّجَاسَةِ .
قَالَ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ وَالْمَرْأَةُ إذَا فَصَدَهَا أَجْنَبِيٌّ عِنْدَ فَقْدِ ( امْرَأَةٍ ) أَوْ مَحْرَمٍ لَمْ يَجُزْ ( لَهَا ) كَشْفُ جَمِيعِ سَاعِدِهَا ، بَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَلُفَّ عَلَى يَدِهَا ثَوْبًا وَلَا تَكْشِفَ إلَّا الْقَدْرَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ كَشْفِهِ لِلْفَصْدِ ، وَلَوْ زَادَتْ عَلَيْهِ عَصَتْ اللَّهَ تَعَالَى .
الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ كَذَا ( أَطْلَقُوهُ ) وَاسْتَدْرَكَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْكَتَّانِيُّ فَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ لِأَخَفِّهِمَا ، وَأَغْلَظِهِمَا انْتَهَى .
وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى شَخْصٍ دَيْنٌ ، وَمَعَهُ قَدْرُهُ فَقَطْ فَإِنَّهُ ( يُؤْخَذُ ، وَإِنْ ) تَضَرَّرَ الْمَدْيُونُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عُشْرُ دَارٍ ( لَا ) يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى وَالْبَاقِي لِآخَرَ ، وَطَلَبَ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ الْقِسْمَةَ أُجِيبَ فِي الْأَصَحِّ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرُ شَرِيكِهِ ، وَمِنْ هَذَا ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ فِي الشِّقْصِ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي مَوْقُوفًا عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ .
وَلَوْ بَاعَهُ شَيْئًا وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَرَهَنَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِالْمُرْتَهِنِ وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ ، وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا ( فَغَرَسَ ) فِيهَا أَوْ بَنَى ، ثُمَّ أَفْلَسَ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهَا ، وَيَبْقَى الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُفْلِسِ فِي الْأَظْهَرِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ قِيمَتَهَا ، وَيَضُرُّ بِالْمُفْلِسِ وَالْغُرَمَاءِ ( ، وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ ) ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ ضَيِّقَةَ الْمَحَلِّ ، وَالرَّجُلُ كَبِيرَ الْآلَةِ لَا يُمْكِنُهُ وَطْؤُهَا إلَّا بِإِفْضَائِهَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الْوَطْءِ .
أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ .
: عَقْدٌ ، وَيَدٌ وَإِتْلَافٌ ، وَحَيْلُولَةٌ .
الْأَوَّلُ : الْعَقْدُ كَالْبَيْعِ وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا .
الثَّانِي : ( الْيَدُ ) وَهِيَ ضَرْبَانِ : يَدٌ غَيْرُ مُؤْتَمَنَةٍ كَيَدِ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَامِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُشْتَرِي فَاسِدًا ، ( وَكَذَلِكَ ) الْأَجِيرُ عَلَى قَوْلٍ .
وَيَدُ أَمَانَةٍ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ وَنَحْوِهَا إذَا وَقَعَ مِنْهَا التَّعَدِّي صَارَتْ الْيَدُ يَدَ ضَمَانٍ فَيَضْمَنُ إذَا تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمَنًا .
قَالَ الْجُرْجَانِيُّ ؛ فِي التَّحْرِيرِ الْمُوجِبُ لِضَمَانِ الْمَالِ خَمْسَةٌ : أَحَدُهَا : الْقَبْضُ لِلسَّوْمِ .
الثَّانِي : الْقَبْضُ عَنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ .
الثَّالِثُ : الْعَارِيَّةُ .
الرَّابِعُ : ( الْإِتْلَافَاتُ ) بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ ( سَبَبٍ ) .
الْخَامِسُ : التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ أَوْ ( بِالتَّصَرُّفِ ) فِي الْأَمَانَةِ أَوْ ( بِالتَّفْرِيطِ ) فِي رَدِّهَا انْتَهَى .
وَأَمَّا الْأَمَانَاتُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالتَّفْوِيتِ وَهَلْ تُضْمَنُ بِالْفَوَاتِ فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ ، كَمَا إذَا خَلَّصَ الْمُحْرِمُ ( الصَّيْدَ ) مِنْ جَارِحِهِ ؛ لِيُدَاوِيَهُ فَتَلِفَ ( عِنْدَهُ أَوْ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ مِنْ صَبِيٍّ صِيَانَةً لَهَا ؛ لِيَرُدَّهَا لِوَلِيِّهِ فَتَلِفَتْ ) فِي يَدِهِ أَوْ الْتَقَطَ مَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ؛ لِلْحِفْظِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْآحَادِ ذَلِكَ وَهُوَ ( الصَّحِيحُ ) الْمَنْصُوصُ .
وَمِثْلُهُ لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا إلَى دَارِهٍ فَأَخَذَهُ ؛ لِيَرُدَّهُ لِمَالِكِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَيُسْتَثْنَى مَا لَوْ ظَفِرَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ ، وَقُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَوْفِي ذَلِكَ مِنْهُ ، فَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ ضَمِنَ ، وَلَوْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ هُنَا ، وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا ؛ لِتَقْصِيرِهِ بِالتَّأْخِيرِ ، وَلَا يُسْتَثْنَى مَا لَوْ انْتَزَعَ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْغَاصِبِ ؛ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ فَتَلِفَ عِنْدَهُ يَضْمَنُهُ فِي الْأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْآحَادِ ( الِانْتِزَاعُ ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبُ ( الْغَائِبِينَ ) وَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْتَمَنٍ شَرْعًا .
الثَّالِثُ : الْإِتْلَافُ فِي النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ ، وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى ( جَبْرِ الْفَائِتِ ) ، وَضَمَانُ ( النَّفْسِ ) مَبْنِيٌّ عَلَى شِفَاءِ الْغَلِيلِ انْتَهَى .
وَيَفْتَرِقُ ضَمَانُ الْإِتْلَافِ وَالْيَدُ فِي أَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ فِيهِ ( بِالْمُبَاشَرَةِ ) دُونَ السَّبَبِ فِي الْأَظْهَرِ وَضَمَانُ الْيَدِ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا ؛ لِوُجُودِهِ فِي كُلِّ مِنْهُمَا ، ( ثُمَّ عِنْدَنَا ) أَنَّ ضَمَانَ الْيَدِ فِي مُقَابَلَةِ فَوَاتِ يَدِ الْمَالِكِ ، وَالْمِلْكُ بَاقٍ لِحَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُرَّ نَاقِلٌ عَنْ مِلْكِهِ ( وَالْفَائِتُ ) عَلَيْهِ هُوَ الْيَدُ ( وَالتَّصَرُّفُ ) فَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مُقَابَلَةِ مَا فَاتَ .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الضَّمَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي وَجَبَ رَدُّهَا ، فَالضَّمَانُ بَدَلٌ عَنْهَا وَبَنَوْا ( عَلَيْهِ ) فُرُوعًا : مِنْهَا : إذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ ثَوْبًا فَخَاطَهُ أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ بِذَلِكَ ، وَعِنْدَهُمْ ( يَمْلِكُ ) الْعَيْنَ ، وَيَنْتَقِلُ حَقُّ الْمَالِكِ إلَى الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ .
وَمِنْهَا : إذَا ضَمِنَ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ الْمَالِكُ كَانَ لَهُ وَيَرُدُّ إلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُمْ يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَرِيبَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا : أَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِقِيمَةٍ الْعَبْدِ كَقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ لَا تَقْتَضِي مِلْكَ الْجَانِي لِلْعَبْدِ وَعِنْدَهُمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ .
الرَّابِعُ : الْحَيْلُولَةُ كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ أَوْ ثَوْبًا فَضَاعَ أَوْ نَقَلَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَيَغْرَمُ الْغَاصِبُ ( الْقِيمَةُ ؛ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَمِلْكِهِ ، كَمَا يَغْرَمُ لَوْ ظَفِرَ بِهِ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْغَصْبِ ) مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ ، وَكَمَا لَوْ شَهِدُوا بِمَالٍ فَرَجَعُوا ( فَإِنَّهُمْ ) يَغْرَمُونَ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي الْأَظْهَرِ ؛ لِحُصُولِ الْحَيْلُولَةِ بِشَهَادَتِهِمْ وَالثَّانِي لَا لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْيَدِ أَوْ ( بِالْإِتْلَافِ ) ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَإِنْ أَتَوْا بِمَا يَقْتَضِي الْفَوَاتَ ، كَمَنْ حَبَسَ الْمَالِكَ عَنْ مَاشِيَتِهِ حَتَّى ضَاعَتْ وَمَسَائِلُ الْحَيْلُولَةِ سَبَقَتْ فِي حَرْفِ الْحَاءِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ : الْمَضْمُونَاتُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : بِالتَّعَدِّي وَمِنْهُ الْجِنَايَاتُ وَالْإِتْلَافَاتُ ، وَالثَّانِي : بِالْمُرَاضَاةِ كَالْبُيُوعِ وَالضَّمَانِ .
وَالْأَوَّلُ يَسْتَوِي فِي إيجَابِ الضَّمَانِ فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ إنَّمَا يَسْقُطُ عَنْ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ فَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ نِسْيَانُهُ وَخَطَؤُهُ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَتَدَاعَى النَّاسُ ( النِّسْيَانَ ) وَتَسَاقَطَتْ الْحُقُوقُ إلَّا أَنَّ الْعَامِدَ يَغْرَمُ الْبَدَلَ ، وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ وَالْمُخْطِئُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَكَانَتْ حُرْمَةُ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْأَمْوَالِ فَوَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ خَطَأً الْكَفَّارَةُ ، وَمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ مِنْ الدِّيَةِ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْمُكَافِئِ ( عَمْدًا ) الْقِصَاصُ ؛ لِيَكُفَّ عَنْ الْقَتْلِ وَيَقَعَ التَّحَفُّظُ ( بِهِ ) .
قَالَ ( وَأَمَّا ) الْقُرُوضُ وَالْعَوَارِيّ فَإِنَّمَا صَارَتْ مَضْمُونَةً ، وَإِنْ سَمَحَ ( بِهَا ) صَاحِبُهَا ، وَأَذِنَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَالشَّيْءُ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ هُوَ الْمَنْفَعَةُ فَلَمْ يَرْتَفِعْ ضَمَانُ الْعَيْنِ مِنْ أَجْلِ إبَاحَةِ الْمَنْفَعَةِ ، قَالَ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ : أَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَدُهُ يَدُ الْمُودِعِ فَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْيَدِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الْوَكِيلِ الَّذِي يَأْخُذُ الْجُعْلَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَمْرِ الْوَكِيلِ ، وَمَتَى كَانَتْ الْيَدُ تَخْلُفُ يَدَ الْمَالِكِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى وَفَارَقَ الْمُسْتَأْجِرَ فِي ضَمَانِ الْعَيْنِ ؛ لِأَخْذِهِ الْعِوَضَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الِانْتِفَاعِ ، إلَّا بِأَنْ يَخْلُفَ الْمَالِكَ فِي الْيَدِ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا بِالتَّعَدِّي وَفَارَقَ صَاحِبَ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَثِيقَةَ فِي الْعَقْدِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَقَّ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَالْمَنَافِعُ لِلْمَالِكِ فَلَا ضَمَانَ .
قَالَ ثُمَّ (
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى أَرْبَابِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا بِاللَّيْلِ ) ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أُرْسِلَتْ بِاللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ ( مَانِعًا ) لَهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ( تَعَالَى ) { جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا } لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَلَوْ مَنَعَهُمْ مِنْ إرْسَالِهَا بِالنَّهَارِ لَسَقَطَتْ مَنَافِعُهُمْ فِي ( الرَّعْيِ ) وَالْكَلَأِ ، فَإِذَا أَرْسَلُوا بِاللَّيْلِ ضَمِنُوا ، وَإِذَا أَرْسَلُوا بِالنَّهَارِ لَمْ يَضْمَنُوا ، وَكَانَ التَّحَفُّظُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ .
وَمِنْ هَذَا مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَدَخَلَ إلَيْهِ دَاخِلٌ فَسَقَطَ فِي الْبِئْرِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَمَنْ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ضَمِنَ ، وَلَوْ حَفَرَ فِي الصَّحْرَاءِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ إذَا " انْقَلَبَتْ وَلَا " ضَمَانَ ، وَمَتَى كَانَ عَلَيْهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ فَعَلَيْهِ حِفْظُهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
قَالَ : وَالضَّابِطُ أَنَّ ( التَّعَدِّيَ ) مَضْمُونٌ أَبَدًا ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ ، وَفِعْلُ الْمُبَاحِ سَاقِطٌ أَبَدًا ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ ( التَّعَدِّي ) فِي حُكْمِ ( التَّعَدِّي ) كَالْجِرَاحَةِ إذَا سَرَتْ إلَى النَّفْسِ .
قَالَ ، وَأَمَّا رَدُّ الْمَضْمُونِ فَأَقْسَامٌ : الْأَوَّلُ : مَا عَيْنُهُ مَوْجُودَةٌ فَيُكَلَّفُ رَدَّهُ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ خِلَافَهُ .
الثَّانِي : أَنْ تَنْقُصَ الْعَيْنُ فَيَرُدُّهَا وَقِيمَةَ نَقْصِهَا ، إنْ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُ النَّقْصِ كَحِنْطَةٍ نَقَصَ مِنْهَا جُزْءٌ .
الثَّالِثُ : أَنْ تَفُوتَ الْعَيْنُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهَا كَالْحِنْطَةِ ( وَالزَّيْتِ ) ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ مَوْجُودٌ فِي نَفْسِهِ ، وَيَسْقُطُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِيمَةِ ، وَمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ لَا يُمْكِنُ فِعْلُ الْمِثْلِ كَشَقِّ ثَوْبِ رَجُلٍ فَلَا يَشُقُّ ثَوْبَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَسَادٌ عَلَيْهِمَا فِي الْأَمْوَالِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ يَتَفَاضَلُ وَلَا يَتَحَصَّلُ ( فَالرُّجُوعُ ) إلَى الْقِيمَةِ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَالرَّمْيِ بِالشَّيْءِ فِي الْبَحْرِ .
قَالَ : وَأَمَّا الْجِنَايَاتُ فِي النُّفُوسِ فَإِنَّ الْمِثْلَ فِيهَا مَعْدُومٌ فَيَعْدِلُ إلَى الْقِيمَةِ ، وَمِنْهُ الدِّيَةُ فِي الْأَحْرَارِ ، وَالْقِيمَةُ فِي الْعَبِيدِ .
قَالَ : وَالْمَضْمُونُ فِي الْجِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ ( يَتَوَقَّفُ ) ( لَا يَتَجَاوَزُهُ ) كَالْخَمْسِ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْمُوضِحَةِ وَنَحْوِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ كَصَاعِ الْمُصَرَّاةِ .
وَضَرْبٌ يُرَدُّ إلَى الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْوِيمِ فَيُرَدُّ إلَى أَهْلِ ( صِنَاعَتِهِ ) ، وَأَهْلِ الْخِبْرَةِ ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ مَعْرِفَتُهُ ، فَإِذَا وَجَبَ أَرْشُ جُرْحٍ ( مِنْ ) حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ نُظِرَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْأَخْيَلِ وَالتَّمْثِيلِ فَأُجْرِيَ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ ( بِالتَّبْخِيتِ ) ( فِيهِ ) بَاطِلٌ انْتَهَى .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي حَرْفِ الْمِيمِ قَوَاعِدُ ( مُهِمَّةٌ ) ( تَتَعَلَّقُ بِالْمَضْمُونَاتِ ) وَهَا هُنَا أَيْضًا قَوَاعِدُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَضْمُونَاتِ .
: الْأُولَى : هَلْ تَثْبُتُ يَدُ الضَّمَانِ مَعَ ثُبُوتِ يَدِ الْمَالِكِ ؟ ( قَالَ ) الْأَصْحَابُ فِي بَابِ الْغَصْبِ : لَوْ أَتْلَفَ مَالًا فِي يَدِ مَالِكِهِ ضَمِنَهُ إلَّا الْعَبْدَ الْمُرْتَدَّ وَالْحَيَوَانَ الصَّائِلَ وَالْمُقَاتِلَ حِرَابَةً ، وَمَا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُنْكِرُ مِنْ إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ ، إلَّا بِكَسْرِ آنِيَةٍ ، وَمَا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ ( مِنْ ) دَفْعِ الصَّائِلِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ، إلَّا بِعَقْرِ جَوَادِهِ وَكَسْرِ سِلَاحِهِ ، وَمَا يُتْلِفُهُ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي حَالَةَ الْحَرْبِ وَعَكْسُهُ وَمَا ( يُتْلِفُهُ ) الْحَرْبِيُّونَ عَلَيْنَا ، وَالْعَبْدُ فِي يَدِ سَيِّدِهِ عَلَى سَيِّدِهِ .
أَمَّا لَوْ ( تَلِفَ ) فَقَدْ ذَكَرُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ لَوْ سَخَّرَ دَابَّةً وَمَعَهَا مَالِكُهَا فَتَلِفَتْ لَا ( يَضْمَنُهَا ) ، وَقَالُوا : لَوْ اسْتَوْلَى عَلَى حُرٍّ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ لَا يَضْمَنُهُ نَعَمْ إنْ كَانَ سَبَبُ التَّلَفِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ضَمِنَ ، كَمَا لَوْ أَكْرَى دَابَّةً ؛ لِحَمْلِ مِائَةٍ فَحَمَلَ مِائَةً وَعَشَرَةً ، وَتَلِفَتْ بِذَلِكَ وَصَاحِبُهَا مَعَهَا ضَمِنَ قِسْطَ الزِّيَادَةِ عَلَى الصَّحِيحِ وَفِي قَوْلٍ قِيمَتَهَا ، وَمِنْهَا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ إذَا أَتْلَفَ الْمَالَ بِحُضُورِ الْمَالِكِ لَا ( يَضْمَنُ ) فِي الصَّحِيحِ .
الثَّانِيَةُ : الْمَضْمُونُ قِسْمَانِ : مَا يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ وَالْإِتْلَافِ ، وَمَا لَا يُضْمَنُ بِالتَّلَفِ ، وَيُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ، فَمِنْ الْأَوَّلِ : الزَّكَاةُ إذَا تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ دَفْعِهَا ضَمِنَهُ ، وَكَذَا الصَّيْدُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ وَمِنْ الثَّانِي : الْعَبْدُ الْجَانِي إذَا أَتْلَفَهُ السَّيِّدُ أَوْ أَعْتَقَهُ ضَمِنَهُ ، وَلَوْ تَلِفَ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُ غَيْرِهِ ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ ، وَكَذَا الْأَمَانَاتُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى مَا سَبَقَ .
الثَّالِثَةُ : إذَا وَجَبَتْ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ اُعْتُبِرَ بِمَحَلِّ الْإِتْلَافِ ، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُتْلَفَاتِ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّلَفُ وَالْإِتْلَافُ ، إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إبِلُ الدِّيَةِ ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ إبِلُ بَلَدِ إقَامَةِ الْجَانِي لَا مَحَلُّ جِنَايَتِهِ .
وَلِهَذَا اعْتَبَرُوا بَلَدَ الْعَاقِلَةِ وَالْعَاقِلَةُ لَا جِنَايَةَ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَحَلِّ إقَامَتِهِمْ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَطْلَبِ : إنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ قِيَاسِ الْقَاعِدَةِ .
الرَّابِعَةُ : قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُبَاحًا وَهُوَ مَضْمُونٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ ، وَذَلِكَ فِي التَّعْزِيرِ مِنْ الْمُتَيَقَّنِ .
وَمِنْهَا : أَكْلُ الْمُضْطَرِّ طَعَامَ الْغَيْرِ يُبَاحُ لَهُ وَيَضْمَنُ بَدَلَهُ ، وَلِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ الصَّيْدِ لِلِاضْطِرَارِ وَيَضْمَنُهُ ، وَلَوْ نَصَبَ مِيزَابًا فَتَقَصَّفَ مِنْ الْخَارِجِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَأَتْلَفَ إنْسَانًا تَجِبُ الدِّيَةُ مَعَ إنَّهُ يُبَاحُ لَهُ نَصْبُهُ .
وَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا عَلَى حَرْبِيٍّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ دِيَةُ الْمُسْلِمِ ، وَلَوْ سَقَطَتْ عَلَيْهِ جَرَّةٌ مِنْ سَطْحٍ فَكَسَرَهَا ضَمِنَهَا مَعَ أَنَّ لَهُ دَفْعَهَا .
وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ حَرَامًا وَلَا ضَمَانَ ، كَقَوْلِهِ : اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ فَلَا قِصَاصَ ( وَلَا دِيَةَ ) ، وَلَوْ غَصَبَ شَيْئًا مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ كَجِلْدِ مَيْتَةٍ أَوْ سِرْقِينٍ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ مَعَ أَنَّ فِعْلَهُ حَرَامٌ .
وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ ، كَمَا إذَا فَتَحَ زِقًّا فِيهِ مَائِعٌ فَانْصَبَّ مَا فِيهِ بِالرِّيحِ أَوْ ( فَتَحَ ) قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَوَقَفَ ثُمَّ طَارَ فَإِنَّ الْفِعْلَ حَرَامٌ ، وَلَا ضَمَانَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَ صَبِيًّا فِي مَسْبَعَةٍ فَأَكَلَهُ سَبُعٌ فَلَا ضَمَانَ .
الْخَامِسَةُ : مَا وَجَبَ ضَمَانُهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا هُوَ ضَمَانُ عَقْدٍ ( قَطْعًا ) وَهُوَ ضَمَانُ الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ ، ( كَالْمَبِيعِ ) وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ السَّلَمُ فِي رَأْسِ الْمَالِ الْمُعَيَّنِ ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْإِجَارَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَجُعْلُ الْجَعَالَةِ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ كَالْأُجْرَةِ لَكِنْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ ( الْعِلْجِ ) قَوْلَيْنِ فِي أَنَّ جُعْلَ الْجَعَالَةِ الْمُعَيَّنِ مَضْمُونٌ ضَمَانَ عَقْدٍ أَوْ ضَمَانَ يَدٍ كَالصَّدَاقِ .
الثَّانِي : ضَمَانُ يَدٍ قَطْعًا ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَامِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَلَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا فِي صُورَةٍ : ( وَهِيَ ) مَا لَوْ أَصْدَقَهَا قِصَاصًا وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا ، فَالْأَصَحُّ يَضْمَنُ ( بِنِصْفِ ) الْأَرْشِ عَلَى الْقَاعِدَةِ ، وَقِيلَ : بِنِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ .
الثَّالِثُ : مَا فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ كَالصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الدَّمِ وَالْعِتْقِ عَلَى الْمَنَافِعِ ، وَمِنْهُ جُعْلُ الْجَعَالَةِ عَلَى طَرِيقِهِ .
الرَّابِعُ : مَا فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ ضَمَانُ يَدٍ ، كَمَسْأَلَةِ الْعِلْجِ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةٍ فَلَهُ ( مِنْهَا ) جَارِيَةٌ ( فَإِذَا ) مَاتَتْ فَهَلْ يُعْطِي قِيمَتَهَا أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ قَوْلَانِ ، ( الصَّحِيحُ ) أَنَّهُ يُعْطِي الْقِيمَةَ ، وَهَذَا تَرْجِيحٌ لِضَمَانِ الْيَدِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَضَمَانِ الْيَدِ أَنَّ ضَمَانَ الْعَقْدِ هُوَ الْمَضْمُونُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعِوَضِ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ ( إذْ ) جُعِلَ مُقَابِلُهُ شَرْعًا ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ لَوْ تَلِفَ لَا بِالْبَدَلِ مِنْ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَوْ فَسَخَ أَوْ انْفَسَخَ رَجَعَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ لَا إلَى قِيمَةِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ .
وَأَمَّا ضَمَانُ الْيَدِ فَهُوَ مَا يُضْمَنُ عِنْدَ
التَّلَفِ بِالْبَدَلِ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ فِي ضِمْنِ تَعْلِيلِ ( الْقَدِيمِ ) فِي ضَمَانِ الصَّدَاقِ أَنَّ مَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ فِي يَدِ الْعَاقِدِ يَكُونُ مَضْمُونًا ضَمَانَ يَدٍ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ الْيَدِ ، وَكَذَا النِّكَاحُ لَا يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الصَّدَاقِ ، فَلْيَكُنْ مَضْمُونًا ضَمَانَ يَدٍ .
السَّادِسَةُ : الْمَضْمُونُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يُضْمَنَ بِالْبَدَلَيْنِ الْمِثْلِ وَالْقِيمَةَ جَمِيعًا ، وَذَلِكَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ بِالْقِيمَةِ لِلْمَالِكِ بِالْمِثْلِ الصُّورِيِّ لَحِقَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَصُورَتُهُ فِي الْمُحْرِمِ إذَا اسْتَعَارَ صَيْدًا مَمْلُوكًا مِنْ حَلَالٍ ، وَتَلِفَ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ مَغْصُوبًا ، وَتَلِفَ عِنْدَهُ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَزِمَهُ مَعَ ذَلِكَ الْأُجْرَةُ فَيَزْدَادُ ( وَجْهُ ) الضَّمَانِ .
الثَّانِي : مَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَتَيْنِ وَذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ : أَحَدَاهُمَا : إذَا أَتْلَفَ الْمُحْرِمُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ الْمَمْلُوكَةِ فَتَجِبُ لِلَّهِ ( تَعَالَى ) ، وَقِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَغْصِبَ عَبْدًا ثُمَّ يَجْنِي جِنَايَةً عَلَى غَيْرِهِ ، وَتَكُونُ الْجِنَايَةُ مُسَاوِيَةً لِقِيمَةٍ الْعَبْدِ ثُمَّ يَتْلَفُ الْعَبْدُ عِنْدَهُ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِمَالِكِهِ ، وَيَغْرَمُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَاوِي الصَّغِيرِ ، وَضَمِنَ ثَانِيًا إنْ أَخَذَ ( مَا أَخَذَ ) لِلْجِنَايَةِ ، وَلَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ يَغْرَمُ فِيهِ بَدَلَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُتْلَفٍ وَاحِدٍ ، إلَّا فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ : هَاتَانِ ، وَالثَّالِثَةُ : إذَا وَطِئَ ( زَوْجَةَ ) أَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ بِشُبْهَةٍ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ مَهْرَيْنِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَمَهْرًا وَنِصْفًا إنْ كَانَ قَبْلَهُ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ إيجَابُ بَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي ( مُتْلَفٍ ) وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ إنْ كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ اخْتِلَافِ جِهَةِ ضَمَانِهِمَا ، كَالْقَتْلِ يُضْمَنُ بِبَدَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ .
قُلْت وَكَذَا قَتْلُ الْعَبْدِ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَإِذَا وَطِئَ امْرَأَةً مُكْرَهَةً ، وَأَفْضَاهَا لَزِمَهُ الدِّيَةُ وَالْمَهْرُ ، وَلَوْ جَرَحَ صَيْدًا فَأَزَالَ امْتِنَاعَهُ وَانْدَمَلَ الْجُرْحُ لَزِمَهُ جَزَاءٌ ( كَامِلٌ ) فِي الْأَصَحِّ فَلَوْ جَاءَ مُحْرِمٌ آخَرُ وَقَتَلَهُ لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ زَمَنًا وَبَقِيَ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَالِهِ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُ الْأَوَّلَ قَدْرُ النُّقْصَانِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ إيجَابُ جَزَاءَيْنِ لِمُتْلَفٍ وَاحِدٍ .
الثَّالِثُ : مَا لَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ وَلَا بِالْقِيمَةِ وَهُوَ لَبَنُ الْمُصَرَّاةِ إذَا تَلِفَ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ إذَا تَلِفَ ( لَا ) بِمِثْلِهِ وَلَا بِقِيمَتِهِ ، بَلْ بِالثَّمَنِ ؛ وَلَا مَا لَا يُضْمَنُ أَصْلًا كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ وَزَبِيبَةٍ وَتَمْرَةٍ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الضَّابِطِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَلَا مُتَقَوِّمٍ .
الرَّابِعُ : مَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ وَهُوَ الْمُتَقَوِّمُ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ وَالسِّلَعِ وَالْمَنَافِعِ ، إلَّا فِي صُوَرٍ : ( إحْدَاهَا ) جَزَاءُ الصَّيْدِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا اقْتَرَضَ مُتَقَوِّمًا فَإِنَّهُ يَرُدُّ ( مِثْلَهُ ) صُورَةً فِي الْأَصَحِّ ؛ ( لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَرَضَ بَكْرًا وَرَدَّ بَازِلًا ) ، وَقِيلَ : الْقِيمَةَ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ .
الثَّالِثَةُ : إذَا هَدَمَ جِدَارَ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ ، كَمَا أَجَابَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَنَقَلَ عَنْ النَّصِّ لِقِصَّةِ جُرَيْجٍ ، وَقِيلَ : إنَّهُ مَذْهَبُ ( الْإِمَامِ ) الشَّافِعِيِّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ وَبِهِ الْفَتْوَى ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَلْزَمُهُ أَرْشُ نَقْصِهِ لَا بِنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلِيًّا ، الرَّابِعَةُ : طَمُّ الْأَرْضِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ .
الْخَامِسَةُ : إذَا ضَمِنَ عَنْ غَيْرِهِ ( حَيَوَانًا فِي الذِّمَّةِ ) ، وَأَعْطَاهُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْمِثْلِ الصُّورِيِّ دُونَ الْقِيمَةِ .
السَّادِسَةُ : إذَا أَتْلَفَ رَبُّ الْمَالِ الْمَاشِيَةَ كُلَّهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ، وَقَبْلَ الْإِخْرَاجِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الشَّاةَ بِشَاةٍ أُخْرَى لَا بِقِيمَتِهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ تَعَلُّقَ الشَّرِكَةِ ) ، وَإِنَّ الْفُقَرَاءَ شُرَكَاءُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الصَّحِيحِ قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي زَكَاةِ الْمُعَشَّرَاتِ ، وَتَابَعَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ إخْرَاجَهُ جَائِزٌ مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ ( فَتَعَيَّنَ ) عِنْدَ عَدَمِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ .
( الْخَامِسُ ) مَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ دُونَ الْقِيمَةِ وَهُوَ الْمِثْلِيُّ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى ( مِثْلِيٍّ ) صُورِيٍّ وَتَقْدِيرِيٍّ ، وَالصُّورِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى حِسِّيٍّ ( وَمَعْنَوِيٍّ ) ، وَالتَّقْدِيرِيُّ مَا حَصَرَهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ وَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ .
وَقَدْ يُضْمَنُ هَذَا النَّوْعُ بِالْقِيمَةِ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ : ( إحْدَاهَا ) : عِنْدَ ( تَعَذُّرِ ) الْمِثْلِ وَالْوَاجِبُ قِيمَةُ الْمِثْلِ ، كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ فِي التَّنْبِيهِ وَقِيلَ : قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ .
فَإِنْ قِيلَ : قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ هِيَ قِيمَةُ مِثْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ ( قِيمَةُ الْمِثْلِ ) وَنَعْنِي بِهِ قِيمَةَ الشَّيْءِ قُلْنَا لَا ( وَصَوَابُ الْعِبَارَةِ ) أَنَّا إذَا قَوَّمْنَا ( شَيْئًا أَنْ نَقُولَ ) قِيمَتُهُ لَا قِيمَةَ مِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْغَصْبِ .
الثَّانِيَةُ : ( أَنْ ) لَا يُوجَدَ الْمِثْلُ ، إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَحْصِيلُهُ ، وَيَصِيرُ كَالْعَدَمِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ .
الثَّالِثَةُ : إذَا ظَفِرَ بِهِ الْمَالِكُ فِي غَيْرِ بَلَدِ التَّلَفِ ( وَكَانَ الْمَغْصُوبُ مِمَّا يَزْدَادُ بِالِانْتِقَالِ فَطَالَبَهُ فِي مَوَاضِعِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَغْرَمُ الْمِثْلَ ، وَلَهُ تَغْرِيمُهُ قِيمَةَ بَلَدِ التَّلَفِ ) .
الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَ لِلْأَصْلِ قِيمَةٌ حِينَ الْأَخْذِ ، وَالْمِثْلُ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الرَّدِّ وَيَدْخُلُ فِيهِ صُوَرٌ : مِنْهَا : إذَا غَصَبَ مَاءً ( لِوُضُوئِهِ ) فِي الْمَفَازَةِ ، وَظَفِرَ بِهِ عَلَى الشَّطِّ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ هُنَا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْمَفَازَةِ لَا بِالْمِثْلِ ؛ لِحَقَارَتِهِ حِينَئِذٍ ، فَلَوْ أَخَذَ الْقِيمَةَ ثُمَّ اجْتَمَعَا بَعْدُ فِي مَوْضِعٍ لَهُ قِيمَةٌ كَالْمَفَازَةِ فَهَلْ يَجِبُ ( رَدُّ ) الْقِيمَةِ وَاسْتِرْدَادُ الْمِثْلِ وَجْهَانِ ؟ فِي التَّتِمَّةِ إنْ قُلْنَا نَعَمْ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فَإِنَّ الْقِيمَةَ حِينَئِذٍ لِلْحَيْلُولَةِ .
وَمِنْهَا : لَوْ أَطْعَمَ الْمُضْطَرُّ مِثْلِيًّا فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ فِي الْمَخْمَصَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَمِنْهَا :
الْمَاءُ الْمَبْذُولُ ( لِطَالِبِهِ ) فِي الْمَفَازَةِ ( يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ ) هُنَاكَ .
وَمِنْهَا : الْجَمْدُ فِي الصَّيْفِ كَالْمَاءِ فِي الْمَفَازَةِ فَإِذَا غَصَبَ جَمْدًا فِي الصَّيْفِ وَتَلِفَ وَظَفِرَ بِهِ فِي الشِّتَاءِ فَإِنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ مُعْتَبَرًا فِي الصَّيْفِ ، وَمِنْهَا : إذَا غَصَبَ وَرَقَ التُّوتِ فِي أَوَانِهِ وَتَلِفَ ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ فَإِذَا انْقَضَى أَوَانُهُ ( ضَمِنَهُ ) بِقِيمَتِهِ أَيْ لِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ حِينَئِذٍ قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ ، وَفِي الْمُسْكِتِ لِلزُّبَيْرِيِّ .
لَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ بَارِدٌ فِي الصَّيْفِ فَوَضَعَ إنْسَانٌ فِيهِ حِجَارَةٌ مُحْمَاةٌ حَتَّى سَخَّنَتْهُ أَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ سُخْنًا فِي الشِّتَاءِ فَبَرَّدَهُ عَلَيْهِ بِصَبِّ مَاءٍ وَنَحْوِهِ ، ( وَحَكَى ) فِيهَا اخْتِلَافَ أَجْوِبَةٍ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ( أَرْشُ النَّقْصِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ تَسْخِينُ الْمَاءِ بِحَطَبٍ وَغَيْرِهِ أَوْ حَمَى الْوَطِيسَ فَبَرَّدَهُ عَلَيْهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَهُوَ ) أُجْرَةُ مَا يَخْبِزُ وَيَشْوِي فِيهِ مِنْ اللَّحْمِ دُونَ قِيمَةِ الْحَطَبِ .
وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ لَوْ حَمَى الْوَطِيسُ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَخَبَزَ فِيهِ خُبْزًا ( لَزِمَهُ ) أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا إذَا ( أَفْسَدَتْ ) الْمَرْأَةُ طَهَارَةَ الرَّجُلِ أَوْ بِالْعَكْسِ ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي النَّفَقَاتِ يَجِبُ مَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى الزَّوْجِ ( ، وَإِنْ ) كَانَ هُوَ اللَّامِسَ .
( وَكَذَلِكَ ) ثَمَنُ مَاءِ الْغُسْلِ مِنْ الْوَطْءِ وَالْوِلَادَةِ وَالنِّفَاسِ ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ فَإِنْ نَفَاهُ بِاللِّعَانِ لَمْ يَجِبْ ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمَسَتْ ( الْمَرْأَةُ ) أَجْنَبِيًّا أَوْ بِالْعَكْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَاءِ الْوُضُوءِ .
الْخَامِسَةُ : لَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ إذَا أَتْلَفَهُ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ ، كَمَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَنَّهُ مِثْلِيٌّ .
السَّادِسَةُ : الْحُلِيُّ أَوْ آنِيَةِ النَّقْدِ إذَا أَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ مَعَ صَنْعَتِهِ بِنَقْدِ
الْبَلَدِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ ( وَلَا رِبًا لِاخْتِصَاصِهِ ) بِالْعُقُودِ .
السَّابِعَةُ : الْمُسْتَعَارُ إذَا كَانَ مِثْلِيًّا ، وَقُلْنَا : يُضْمَنُ ( بِقِيمَتِهِ ) يَوْمَ التَّلَفِ ، كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، ( كَمَا ) صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرُهُمَا ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمِثْلِيَّ رُبَّمَا يَنْقُصُ بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَوْ ضَمَّنَّا الْمِثْلَ لَكُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا الْأَجْزَاءَ الْمُسْتَحَقَّةَ ، لَكِنْ جَزَمَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ فِي الْمُرْشِدِ بِوُجُوبِ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ ، وَقَالَ فِي ( الِانْتِصَارِ ) أَنَّهُ أَصَحُّ الطَّرِيقَيْنِ ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا قِيمَةَ يَوْمِ التَّلَفِ ضَمِنَ ( الْمِثْلَ ) بِالْقِيمَةِ ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ مِنْ النَّقْصِ إلَى التَّلَفِ ضَمِنَهُ بِالْمِثْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا صُورَةُ الْمُسْتَعَارِ الْمِثْلِيِّ ؟ ( قُلْت ) فِيمَا إذَا أَعَارَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَجَوَّزْنَاهُ .
الثَّامِنَةُ : الْمُسْتَامُ .
التَّاسِعَةُ : الْمَبِيعُ الْمَفْسُوخِ لَا يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ ، بَلْ بِالْقِيمَةِ بِلَا خِلَافٍ قَالَهُ فِي الْبَحْرِ .
الْعَاشِرَةُ : الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا عَلَى ( مَا أَطْلَقَهُ ) الرَّافِعِيُّ وُجُوبُ الْقِيمَةِ وَلَمْ يُفَصِّلْ بَيْنَ مِثْلِيٍّ وَمُتَقَوَّمٍ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَقْتَ النَّقْصِ بِالْمِثْلِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَهُ بِالْعِوَضِ ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ وَطَرْدُ ذَلِكَ فِي الْمَقْبُوضِ بِالسَّوْمِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَكُلِّ عَقْدٍ مَفْسُوخٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ضَعِيفٌ نَقْلًا وَتَوْجِيهًا : أَمَّا التَّوْجِيهُ ؛ فَلِأَنَّ ضَمَانَهُ بِالْعِوَضِ زَالَ بِالْفَسْخِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ ( لَمْ ) يَرِدْ عَلَيْهِ ( عَقْدٌ فَاسِدٌ ) وَأَمَّا النَّقْلُ ( فَإِنَّ ) ( الْإِمَامَ ) الشَّافِعِيَّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) نَصَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْأُمِّ عَلَى وُجُوبِ الْمِثْلِ .
وَمِنْهَا : قَوْلُهُ لَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا بِشَرْطِ
التَّبْقِيَةِ ، وَقَطَعَ مِنْهَا غُصْنًا إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ رَدَّ مِثْلَهُ ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ مِثْلًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيمَتُهُ .
الْحَادِيَةَ عَشْرَ : إذَا جَوَّزْنَا الْمُعَامَلَةَ بِالْمَغْشُوشَةِ فَهِيَ مِثْلِيَّةٌ ، وَإِذَا تَلِفَتْ لَا يُضْمَنُ ( مِثْلُهَا ) ، بَلْ تُضْمَنُ قِيمَةُ الدَّرَاهِمِ ( ذَهَبًا ) وَقِيمَةُ الْمَغْشُوشَةِ كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ ، وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ فِي الدَّعْوَى بِهَا بِذِكْرِ قِيمَتِهَا مِنْ النَّقْدِ الْآخَرِ .
السَّابِعَةُ : قَدْ يُضْمَنُ ( الْمِثْلُ ) الصُّورِيُّ بِوَاسِطَةٍ ، وَهُوَ مَا إذَا أَتْلَفَ الشَّاةَ الْمَنْذُورَةَ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِقِيمَتِهَا مِثْلَهَا ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الصُّوَرِ .
وَقَدْ يُضْمَنُ الْمُتَقَوِّمُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا اسْتَعَارَ عَيْنًا لِلرَّهْنِ وَبَاعَهَا فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِمَا بَاعَهَا بِهِ فِي الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ .
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وُجُوبَ الْقِيمَةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَلَوْ أَكَلَ جَمِيعَ لَحْمِ ( الْأُضْحِيَّةِ ) الْمُتَطَوَّعِ بِهَا ، وَقُلْنَا : يَجِبُ التَّصَدُّقُ ( مِنْهَا ) وَهُوَ الْأَصَحُّ فَفِيمَا يَضْمَنُهَا أَوْجُهٌ : أَصَحُّهَا : يَضْمَنُ الْقَدْرَ الَّذِي لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً أَجْزَأَهُ ، وَالثَّانِي يَضْمَنُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَبَّ وَهُوَ الثُّلُثُ ( وَالرُّبُعُ ) وَعَلَى هَذَا يُقَالُ يُضْمَنُ الْمِثْلُ ( بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ أَوْ بِإِضْعَافِهِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِحَيَوَانٍ آخَرِ يَذْبَحُهُ ، وَعَلَى هَذَا فَيُضْمَنُ الْمِثْلُ ) التَّقْدِيرِيُّ بِالْمِثْلِ الصُّورِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ كَجٍّ وَالْمَاوَرْدِيِّ ، وَقَدْ يُضْمَنُ الْبَعْضُ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُضْمَنُ الْكُلُّ ، وَذَلِكَ فِي إتْلَافِ الْعَبْدِ قِيمَتَهُ ، وَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَجَبَتْ قِيمَتَانِ ، وَيَزِيدُ الْغُرْمُ بِزِيَادَةِ قَطْعِ الْأَعْضَاءِ .
وَكَذَلِكَ الْحُرُّ فِيهِ الدِّيَةُ وَفِي أَبْعَاضِهِ دِيَاتٌ .
وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمَضْمُونُ بِاخْتِلَافِ الضَّامِنِ ، كَمَا إذَا افْتَضَّ بِكْرًا بِشُبْهَةٍ أَوْ ( بِنِكَاحٍ ) فَاسِدٍ ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ نِسَائِهِمْ مُسَامَحَةُ الْعَشِيرَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مِنْهُمْ سُومِحَ ، وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ الرُّويَانِيُّ : وَلَيْسَ لَنَا مَضْمُونٌ مُخْتَلِفٌ إلَّا هَذَا .
قُلْت يَرِدُ عَلَيْهِ صُوَرٌ : إحْدَاهَا : مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فِي أَرْبَعِينَ فَأَتْلَفَهَا لَزِمَهُ شَاةٌ وَلَوْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ لَزِمَتْ الْقِيمَةُ لِلْفُقَرَاءِ .
الثَّانِيَةُ : لَوْ أَتْلَفَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ أَوْ الْقِيمَةِ ( وَلَوْ أَتْلَفَهُ غَيْرُهُ ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ ) فَقَطْ .
الثَّالِثَةُ : إذَا أَتْلَفَ الْمَالِكُ الثِّمَارَ قَبْلَ الْخَرْصِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ عَيْنِ الرُّطَبِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ لَزِمَهُ عُشْرُ قِيمَةِ مَا أَتْلَفَهُ لِلْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُجَفِّفَ ذَلِكَ الرُّطَبَ وَالْمَالِكُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فَأَلْزَمْنَاهُ ( مِثْلَ ) مَا كَانَ يَفْعَلُهُ .
الرَّابِعَةُ : قَاتِلُ رَحِمِهِ خَطَأً تَغْلُظُ فِيهِ الدِّيَةُ وَفِي الْأَجْنَبِيِّ تُخَفَّفُ .
الْخَامِسَةُ : الْبَائِعُ إذَا أَتْلَفَ السِّلْعَةَ قَبْلَ قَبْضَ الْمُشْتَرِي يُخَالِفُ حُكْمُهُ إتْلَافَ الْأَجْنَبِيِّ .
السَّادِسَةُ : الْغَاصِبُ إذَا قَطَعَ يَدَ الْمَغْصُوبِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ( أَوْ مَا ) نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَإِذَا قَطَعَهَا غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ .
السَّابِعَةُ : قَدْ يَضْمَنُ الْإِنْسَانُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، إمَّا لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ ( تَعَالَى ) بِهِ أَوْ حَقِّ الْآدَمِيِّ .
فَمِنْ الْأَوَّلِ : الْمُحْرِمُ إذَا قَتَلَ صَيْدَ نَفْسِهِ أَوْ قَطَعَ شَعْرَ نَفْسِهِ أَوْ حَلَقَهُ وَالسَّيِّدُ إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ .
وَمِنْ الثَّانِي : الرَّاهِنُ إذَا أَتْلَفَ الْمَرْهُونَ يَضْمَنُهُ بِالْبَدَلِ ، وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَسَيِّدُ الْعَبْدِ الْجَانِي إذَا قَتَلَهُ عَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ
أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، وَسَيِّدُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ ، إذَا قَتَلَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ غَرِمَ مَهْرَ مِثْلِهَا لِزَوْجِهَا عَلَى قَوْلٍ .
وَقَدْ يَضْمَنُ غَيْرُهُ مَا بَاشَرَ هُوَ إتْلَافُهُ مِنْ مِلْكِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ أَوْ أَمَرَهُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ عَلَى مَالٍ أَوْ ( أَمَرَهُ ) بِقَطْعِ ( ثَوْبٍ ) ، فَإِذَا هُوَ لِلْقَاطِعِ أَوْ ذَبْحِ ( حَيَوَانٍ ) فَإِذَا هُوَ لِلذَّابِحِ ( عَلَى الْمَذْهَبِ ) بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَ لِلْغَاصِبِ ، ( وَذَلِكَ ) ( انْتَفَعَ ) بِأَكْلِهِ .
وَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ عَلَى مَالِكِهِ فَقَتَلَهُ الْمَالِكُ لِلدَّفْعِ لَمْ يَبْرَأْ الْغَاصِبُ سَوَاءٌ عِلْم أَنَّهُ عَبْدُهُ أَمْ لَا عَلَى الْأَصَحِّ " ( ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ ) بِهَذِهِ الْجِهَةِ كَإِتْلَافِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ .
الثَّامِنَةُ : سَائِرُ الْمُتْلَفَاتِ تُعْتَبَرُ فِيهَا قِيمَةٌ الْمُتْلَفِ إلَّا ( فِي ) الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ فَإِنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ مِثْلِهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْغَصْبِ وَفِي الدِّيَةِ .
التَّاسِعَةُ : مَا ضُمِنَ كُلُّهُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ التَّلَفِ ضُمِنَ بَعْضُهُ بِبَعْضِهَا ، كَالْغَاصِبِ ، وَكَمَا إذَا تَحَالَفَ الْبَيِّعَانِ وَالْمَبِيعُ تَالِفٌ فَيَغْرَمُهُ فَلَوْ ( وُجِدَ ) ، لَكِنَّهُ نَاقِصٌ غَرِمَ الْأَرْشَ فِي الْأَصَحِّ .
وَلَوْ ظَهَرَ مَالِكُ اللُّقَطَةِ وَهِيَ تَالِفَةٌ غَرِمَهَا الْمُلْتَقِطُ أَوْ نَاقِصَةٌ ضَمِنَ الْأَرْشَ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْقَاعِدَةِ صُوَرٌ : إحْدَاهَا : الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ ( عَنْ ) الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ ، وَخَرَجَ الْمَالِكُ عَنْ كَوْنِهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِأَنْ تَلِفَ مَالُهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْفَقِيرِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ ، وَإِنْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِهِ فَفِي الْأَرْشِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا لَا .
الثَّانِيَةُ : لَوْ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالصَّدَاقُ تَالِفٌ فَلَهُ بَدَلُهُ فَلَوْ كَانَ مَعِيبًا فَلَا أَرْشَ لَهُ إنْ
رَجَعَ فِي نِصْفِهِ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إلَى قِيمَةِ نِصْفِهِ .
الثَّالِثَةُ : رَدَّ ( الْبَائِعِ ) الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ ، وَقَدْ نَقَصَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ ( فِيهِ ) نَاقِصًا بِلَا أَرْشٍ فِي وَجْهٍ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إلَى بَدَلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيهِ نَاقِصًا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ ، وَلَا خِيَارَ قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالْبَيْعِ .
الرَّابِعَةُ : رَجَعَ الْبَائِعُ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ إفْلَاسِ الْمُشْتَرِي ، وَوَجَدَهُ نَاقِصًا بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهِ فَلَا أَرْشَ لَهُ فِي الْأُولَى قَطْعًا ، وَلَا فِي الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِي الرَّوْضَةِ .
الْخَامِسَةُ : الْقَرْضُ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْمُقْتَرَضِ ثُمَّ رَجَعَ ( الْمُقْرِضُ ) فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ رَجَعَ فِيهِ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِمِثْلِهِ ( إنْ ) كَانَ مِثْلِيًّا ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَحَكَى فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاجِبُ رَدَّ الْقِيمَةِ خِلَافَ ذَلِكَ .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ نَصُّ ( الشَّافِعِيِّ ) ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِيمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ الْعَيْنُ الْمَبِيعَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ وَغَرِمَ أَرْشَهَا لِمَالِكِهَا أَنَّهُ يَرْجِعُ ( بِهِ ) عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ وَغَرِمَ قِيمَتَهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهَا .
وَزَعَمَ الْإِمَامُ انْعِكَاسَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ إذَا أُتْلِفَ لَا يُضْمَنُ ( الْجُزْءُ ) إذَا أُتْلِفَ كَالْبَائِعِ يَتَعَيَّبُ الْمَبِيعُ بِيَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
قُلْت : وَالْمُكَاتَبُ فَإِنَّ سَيِّدَهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ضَمِنَهَا وَلَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى بَعْضِهِ كَقَطْعِ يَدِهِ ، وَأَيْضًا لَوْ غَرَّمَ الْمَالِكُ لِلْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ مُشْتَرِيَهَا مِنْ الْغَاصِبِ قِيمَتَهَا ( لِلتَّلَفِ ) لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَإِنْ ( تَعَيَّبَتْ ) فِي يَدِهِ فَأَخَذَهَا الْمَالِكُ مَعَ الْأَرْشِ رَجَعَ بِالْأَرْشِ عَلَى الْبَائِعِ قَالَهُ فِي الْوَسِيطِ ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَهَذَا
الْأَصْلُ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسَائِلُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ بِقَوْلِهِ ( مَنْ لَمْ يَضْمَنْ ) الشَّيْءَ بِقِيمَتِهِ لَا يَضْمَنُ أَرْشَ نَقْصِهِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مِنْ يَدِهِ كَالْبَائِعِ لَمَّا ضَمِنَ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي بِثَمَنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ مَا حَدَثَ مِنْ نَقْصِهِ فِي يَدِهِ ، وَكَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ حَتَّى حُجِرَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْفَلَسِ فَوَجَدَهُ نَاقِصًا بِآفَةٍ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَذَاكَ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ نَقْصِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُهُ بِثَمَنِهِ ، وَأَمَّا مَنْ ضَمِنَ الشَّيْءَ بِقِيمَتِهِ فَيَضْمَنُ أَرْشَ مَا حَدَثَ مِنْ النُّقْصَانِ فِي يَدِهِ كَالْغَاصِبِ .
الْعَاشِرَةُ : إنَّمَا يُضْمَنُ الْمُتَمَوَّلُ أَمَّا مَا لَيْسَ بِمُتَمَوَّلٍ فِي الْحَالِ ، لَكِنَّهُ يَئُولُ إلَى الْمَالِ فَلَا .
وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ ( رَجُلٌ ) الْأَسِيرَ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الرِّقَّ لَمْ يَضْمَنْهُ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ فَوَّتَ الْإِرْقَاقَ فَهَلَّا كَانَ بِمَثَابَةِ تَفْوِيتِ الرِّقِّ بِالْغُرُورِ وَالْمَغْرُورُ ( يَلْتَزِمُ الْقِيمَةَ كَقَطْعِ الرِّقِّ مِنْ الْحُرِّ إنْ قُلْنَا ذَاكَ الرِّقُّ كَانَ يَجْرِي لَا مَحَالَةَ لَوْلَا الْغُرُورُ فَالْمَغْرُورُ ) دَفَعَ الرِّقَّ الَّذِي لَا حَاجَةَ لِتَحْصِيلِهِ وَالرِّقُّ لَا يَجْرِي عَلَى الْأَسِيرِ مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ ، كَذَا قَالَهُ الْإِمَامُ قَالَ ، وَأَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِمَا نَحْنُ فِيهِ إتْلَافُ الْجِلْدِ الْقَابِلِ لِلدِّبَاغِ قَبْلَ الدِّبَاغِ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ مَعَ تَهَيُّئِهِ لِلدِّبَاغِ ابْتِدَاءً فَإِنْشَاءُ الدِّبَاغِ كَإِنْشَاءِ الْإِرْقَاقِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَمْرَةِ الْمُحْتَرَمَةِ فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تُرِكَتْ فَإِلَى التَّخْلِيلِ مَصِيرُهَا .
الطَّارِئُ هَلْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمُقَارِنِ هُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ قَطْعًا كَمَا لَوْ طَرَأَ مُؤَيِّدُ تَحْرِيمٍ عَلَى نِكَاحٍ قَطَعَهُ فَلَوْ نَكَحَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ بِشُبْهَةٍ أَوْ وَطِئَ هُوَ أُمَّهَا ( أَوْ بِنْتَهَا ) انْفَسَخَ النِّكَاحُ .
وَلَوْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ أَوْ بَعْضَهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهُ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَوَانِعُ ( النِّكَاحِ ) تَمْنَعُ فِي الِابْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ ؛ لِتَأَبُّدِهَا وَاعْتِضَادِهَا بِكَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْأَبْضَاعِ هُوَ الْحُرْمَةَ ، وَكَذَلِكَ عَيْبُ النِّكَاحِ إذَا كَانَ بِالزَّوْجِ وَقَارَنَهُ تَخَيَّرَتْ الزَّوْجَةُ ، وَكَذَلِكَ إذَا حَدَثَ فِي دَوَامِ النِّكَاحِ .
وَمِنْهُ الْحَدَثُ يَمْنَعُ صِحَّةَ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ ، فَإِذَا طَرَأَ عَمْدُهُ ( عَلَيْهِمَا قَطَعَهُمَا ) .
وَمِنْهُ بُلُوغُ الْمَاءِ قُلَّتَيْنِ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَمْ يُؤَثِّرْ .
وَلَوْ تَنَجَّسَ الْقَلِيلُ ثُمَّ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ انْدَفَعَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ بِالْكَثْرَةِ فِي ثَانِي الْحَالِ كَالِابْتِدَاءِ وَمِنْهُ قَصْدُ الِاسْتِعْمَالِ ( الْمُبَاحِ فِي الْحُلِيِّ ) ، إذَا قَارَنَ ابْتِدَاءَ ( الصِّيَاغَةِ ) أَسْقَطَ الزَّكَاةَ .
وَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَ هَذَا الْقَصْدُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لِمُحَرِّمٍ فَإِنَّهُ يُسْقِطُهَا أَيْضًا .
الثَّانِي : مَا لَا يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ قَطْعًا ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ الْمُتَزَوِّجُ لَمْ يَمْنَعْ اسْتِمْرَارَ النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ قَارَنَ ابْتِدَاءَهُ مَنَعَ ، وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ فَإِذَا طَرَأَتْ عَلَّقَ الشُّبْهَةَ عَلَى مَنْكُوحَةٍ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا ، وَكَذَا خَوْفُ الْعَنَتِ يُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ نِكَاحِ الْأَمَةِ ، وَإِذَا زَالَ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَقْطَعْهُ ، وَإِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلْقُنْيَةِ ، ثُمَّ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَارِنْ الشِّرَاءَ ، وَكَذَلِكَ طَرَيَانُ الْإِسْلَامِ لَا يَمْنَعُ دَوَامَ الشَّيْءِ قَطْعًا ، وَإِنْ ( مَنَعَ ) ابْتِدَاءَهُ .
وَتَوْقِيتُ النِّكَاحِ يَمْنَعُ صِحَّةَ ابْتِدَاءَهُ ، وَإِذَا طَرَأَ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَمْنَعْهُ بِأَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ ، وَرُؤْيَةُ الْمَاءِ ( مَانِعَةٌ ) مِنْ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَإِذَا رَآهُ فِي أَثْنَائِهَا لَمْ يُبْطِلْهَا ، إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ مِمَّا يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِالتَّيَمُّمِ وَوِجْدَانُ الرَّقَبَةِ يَمْنَعُ إجْزَاءَ التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ ، وَإِذَا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ؛ لِعَدَمِهَا ثُمَّ وَجَدَهَا لَمْ تَمْنَعْ مِنْ ( دَوَامِهِ ، وَإِجْزَائِهِ ) .
وَالْإِبَاقُ يَمْنَعُ صِحَّةَ عَقْدِ الرَّهْنِ إذَا قَارَنَهُ ( فَلَوْ ) رَهَنَ عَبْدًا فَأَبَقَ لَمْ يَبْطُلُ رَهْنُهُ ، وَاَلَّذِي لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ رَهْنًا ابْتِدَاءً ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فِي ثَانِي الْحَالِ ، كَمَا إذَا أَتْلَفَ الْمَرْهُونَ أَجْنَبِيٌّ ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ فِي ذِمَّتِهِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ رَهْنًا مَكَانَهُ .
وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ النَّظَرَ لِلْأَفْضَلِ مِنْ أَوْلَادِهِ فَتَصَرَّفَ أَفْضَلُهُمْ ثُمَّ حَدَثَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ ( مِنْهُ ) لَمْ يَكُنْ لَهُ النَّظَرُ قَطَعَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ .
الثَّالِثُ : مَا فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ تَنْزِيلُهُ مَنْزِلَتَهُ ، كَالِاسْتِعْمَالِ فِي الْمَاءِ تَدْفَعُهُ الْكَثْرَةُ ابْتِدَاءً ، وَهَلْ تَدْفَعُهُ فِي الدَّوَامِ إذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ ؟ وَجْهَانِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَعُودُ طَهُورًا ، وَكَمَا لَوْ أَحْرَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ( وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ) فَالْأَصَحُّ بُطْلَانُ نُسُكِهِ ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مُرْتَدًّا ، وَلَوْ أَنْشَأَ السَّفَرَ مُبَاحًا ثُمَّ ( صَرَفَهُ ) إلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَتَرَخَّصْ ( فِي الْأَصَحِّ ) فَجَعَلُوا طَارِئَ الْمَعْصِيَةِ كَالْمُقَارِنِ فِي الْأَصَحِّ وَمِثْلُهُ لَوْ أَنْشَأَ السَّفَرَ بِمَعْصِيَةٍ ثُمَّ تَابَ وَغَيَّرَ قَصْدَهُ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : ( يَكُونُ ) ( ابْتِدَاءُ سَفَرِهِ ) مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِنْ كَانَ مِنْهُ إلَى مَقْصِدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ تَرَخَّصَ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَالصَّيْدُ لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُحْرِمِ ابْتِدَاءُ تَمَلُّكُهُ ، وَإِذَا أَحْرَمَ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ زَالَ ( مِلْكُهُ عَنْهُ ) وَلَزِمَهُ إرْسَالُهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِالْمَرْأَةِ أَحَدَ الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ تَخَيَّرَ ، وَلَوْ حَدَثَ بِهَا فِي الدَّوَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ ( كَالِابْتِدَاءِ ) .
وَلَوْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ وَكَانَ حَالًّا يَرْجِعُ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَحَلَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ فَكَذَا فِي الْأَصَحِّ وَالْعَدَدُ فِي الْجُمُعَةِ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ قَطْعًا وَكَذَلِكَ فِي الدَّوَامِ فِي الْأَصَحِّ ، حَتَّى لَوْ انْفَضُّوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ أَتَمَّهَا ظُهْرًا .
الرَّابِعُ : مَا فِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ ( أَنَّهُ لَا ) يَنْزِلُ مَنْزِلَتَهُ .
فَمِنْهُ : وُجُودُ الْحُرَّةِ مَانِعٌ مِنْ ابْتِدَاءِ نِكَاحِ الْأَمَةِ ، فَلَوْ نَكَحَ أَمَةً ؛ لِعَدَمِ الْحُرَّةِ ثُمَّ أَيْسَرَ أَوْ نَكَحَ عَلَيْهَا حُرَّةً لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّةِ الدَّوَامِ ، وَكَذَا لَوْ نَكَحَ الْأَبُ جَارِيَةَ أَجْنَبِيٍّ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ثُمَّ مَلَكَهَا ابْنُهُ وَالْأَبُ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِ الْأَمَةِ لَمْ يَنْفَسِخْ النِّكَاحُ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِقُوَّةِ الدَّوَامِ .
وَمِنْهُ : لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرُّويَانِيِّ يَبْطُلُ كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ تَيَمُّمَهُ ؛ إلْحَاقًا لِلطَّارِئِ بِالْمُقَارِنِ ؛ وَقِيَاسًا عَلَى ( الرِّدَّةِ ؛ لِخُرُوجِهِ ) عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مَعْصِيَةٌ بِخِلَافِ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ ، وَقَدْ عَدَّ الْأَصْحَابُ مُبْطِلَاتِ التَّيَمُّمِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا ( فِيهَا هَذَا ) .
وَلَوْ ثَبَتَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ ثُمَّ تَمَلَّكَهُ ( فَهَلْ ) يَسْقُطُ الدَّيْنُ ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نَعَمْ ، كَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ ابْتِدَاءً ، ، وَأَصَحُّهُمَا : يَبْقَى كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ ( لِلدَّوَامِ ) مِنْ الثَّمَرَةِ مَا لَيْسَ لِلِابْتِدَاءِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي فَصْلِ نِكَاحِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، لَكِنْ ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ فِي بَابِ الرَّهْنِ أَنَّهُ لَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ عَلَى طَرَفِ مَنْ يَرِثُهُ السَّيِّدُ ( كَابْنِهِ ) ثَبَتَ الْمَالُ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ، وَوَرِثَهُ السَّيِّدُ فَوَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : أَنَّهُ يَسْقُطُ كَمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ اسْتِدَامَةُ الدَّيْنِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ .
وَلَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ ثُمَّ مَاتَ وَلِيَ " دَمَ " الْمَقْتُولِ (
وَوَرِثَهُ ) ذِمِّيٌّ فَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِهَذَا الْوَارِثِ ، وَإِنْ كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ بَعْدَ إسْلَامِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الدَّوَامِ ( بِالْإِرْثِ ) .
الطَّهَارَةُ تَثْبُتُ بِالتَّبَعِيَّةِ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ : إحْدَاهَا : إذَا غَلَتْ الْخَمْرَةُ فِي الدَّنِّ ثُمَّ سَكَنَتْ وَانْقَلَبَتْ خَلًّا ، فَالْمَكَانُ الَّذِي ( ارْتَفَعَ ) إلَيْهِ الْخَمْرُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ تَبَعًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ صَبَّ الْخَلَّ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الدَّنِّ لَا يَضُرُّ مُرُورُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ارْتَفَعَ إلَيْهِ الْخَمْرُ .
الثَّانِيَةُ : بَاطِنُ الدَّنِّ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ تَبَعًا لِلْخَلِّ .
الثَّالِثَةُ : الْقَلِيلُ مِنْ الشَّعْرِ إذَا بَقِيَ عَلَى جِلْدِ الْمَيْتَةِ ( بَعْدَ ) الدِّبَاغِ .
ظُهُورُ ( أَمَارَاتِ ) الشَّيْءِ هَلْ تَنْزِلُ مَنْزِلَ تَحَقُّقِهِ ( لَوْ ) ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْإِفْلَاسِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسُوبًا ، وَهُوَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ أَوْ لَمْ يَفِ كَسْبُهُ بِنَفَقَتِهِ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ حَاصِلٌ وَهُمْ ( يَتَمَكَّنُونَ ) مِنْ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ ، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ مُقَابِلَهُ .
وَمِنْهَا : لَوْ ظَهَرَ عَلَى السَّفِيهِ أَمَارَاتُ ( التَّبْذِيرِ ) حُجِرَ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي التَّجْرِيدِ ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ .
وَمِنْهَا : لَوْ عَلِمَ الْمُسَلِّمُ قَبْلَ الْمَحِلِّ بِانْقِطَاعِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ عِنْدَ الْحُلُولِ فَهَلْ يَثْبُتُ الْفَسْخُ ؟ وَجْهَانِ ( : أَصَحُّهُمَا : الْمَنْعُ ) .
وَمِنْهَا : لَوْ تَوَسَّمَ ( الْوَالِدُ ) الْمَعْضُوبُ مِنْ ( ابْنِهِ ) الطَّاعَةَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : نَعَمْ لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ .
وَمِنْهَا : لَوْ ( وَلِيَ ) شَخْصٌ لِلْقَضَاءِ فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ ، كَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا يُبْدِي ( فِيهَا ) تَرَدُّدًا عَمَّنْ لَقِيَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَخْفَى ( مَأْخَذُهُ مِمَّا ) ذَكَرْنَا ، وَمِنْهَا ( ظَهَرَتْ ) أَمَارَاتُ نُشُوزِ ( الْمَرْأَةِ ) لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ( حُكْمُهُ ) حَتَّى يَتَحَقَّقَ .
وَمِنْهَا لَوْ ( بَدَتْ ) تَبَاشِيرُ الْهِدَايَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَابْتَدَرَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَقْبَلَ ، وَأَسْلَمَ فِي الْحَالِ ، وَقُلْنَا : لَا يَصِحُّ غُسْلُهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ صَحَّ هُنَا عَلَى أَحَدِ احْتِمَالَيْ الْإِمَامِ .
الظَّنُّ إذَا كَانَ كَاذِبًا فَلَا أَثَرَ لَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ ، وَلِهَذَا لَوْ ظَنَّ ( الْمُكَلَّفُ ) فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى آخِرِهِ ( تَضَيَّقَ ) عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ثُمَّ عَاشَ وَفَعَلَهُ فَأَدَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَلَوْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَدَثُ أَوْ ظَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ ( فَصَلَّى ثُمَّ ) تَبَيَّنَ أَنَّهُ ( صَلَّى ) قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ طَهَارَةَ الْمَاءِ فَتَوَضَّأَ ( بِهِ ) ثُمَّ تَبَيَّنَ نَجَاسَتُهُ ، أَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ ( أَوْ دَفَعَ ) الزَّكَاةَ مِنْ مَالٍ يَظُنُّهُ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ أَوْ ظَنَّ بَقَاءَ اللَّيْلِ فِي الصَّوْمِ فَتَسَحَّرَ أَوْ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَأَفْطَرَ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلَافُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ ( أَيْ الظَّنُّ ) .
وَمِنْهُ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الْبَائِنِ ( الْحَائِلِ ) ظَانًّا حَمْلَهَا ( ثُمَّ تَبَيَّنَ ) خِلَافُهُ فَإِنَّهُ ( يَسْتَرِدُّهُ ) ، وَشَبَّهَهُ الرَّافِعِيُّ بِمَا إذَا ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا فَأَدَّاهُ ( ثُمَّ بَانَ ) خِلَافُهُ وَمَا إذَا أَنْفَقَ عَلَى ظَنِّ ( إعْسَارِهِ لِمُدَّةٍ ) ثُمَّ بَانَ يَسَارُهُ .
وَلَوْ سَرَقَ دَنَانِيرَ ظَنَّهَا فُلُوسًا قُطِعَ ، ( وَهَذَا ) بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ مَالًا يَظُنُّهُ مِلْكَهُ أَوْ مِلْكَ ( أَبِيهِ ) فَلَا قَطْعَ ( كَمَا ) لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مُشْكِلٌ فَإِنَّهُمْ اُعْتُبِرُوا فِي الْأُولَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا مَا فِي ظَنِّهِ ، وَعَكَسُوا فِي الْأُخْرَى .
وَيُسْتَثْنَى صُوَرٌ : مِنْهَا : لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا فَبَانَ حَدَثُهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ، وَلَوْ رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمُسَافِرُ رَكْبًا فَظَنَّ أَنَّ مَعَهُمْ مَاءً فَإِنَّ تَيَمُّمَهُ يَبْطُلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مَاءٌ لِتَوَجُّهِ الطَّلَبِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ خَاطَبَ ( امْرَأَتَهُ ) بِالطَّلَاقِ يَظُنُّ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةُ فَكَانَتْ زَوْجَتَهُ نَفَذَ الطَّلَاقُ ، وَلَا أَثَرَ لِظَنِّهِ الْخَطَأِ ، وَكَذَا لَوْ ( أَعْتَقَ ) عَبْدًا
يَظُنُّهُ لِغَيْرِهِ فَكَانَ لَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْيَقِينِ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالظَّنِّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مِمَّا ( يَعْتَدُّ ) فِيهِ بِالْقَطْعِ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا كَالْمُجْتَهِدِ الْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ لَا يَجْتَهِدُ ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ .
وَلَوْ اسْتَقْبَلَ الْمُصَلِّي ( حِجْرَ ) الْكَعْبَةِ وَحْدَهُ دُونَ الْبَيْتِ وَصَلَّى لَمْ تَصِحَّ ( صَلَاتُهُ ) ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْبَيْتِ ظَنِّيٌّ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَبَّدْ فِيهِ بِهِ جَازَ ، كَالِاجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجَسِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى طَاهِرٍ بِيَقِينٍ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَوْ اجْتَهَدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ عِلْمِهِ فِي الْأَصَحِّ .
( الْعَادَةُ ) فِيهَا مَبَاحِثُ ( الْأَوَّلُ ) : أَنَّهَا تَحْكُمُ فِيمَا لَا ضَبْطَ لَهُ شَرْعًا ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي أَقَلِّ ( سِنِّ ) الْحَيْضِ وَالْبُلُوغِ ، وَفِي قَدْرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ وَغَالِبٍ ، وَكَذَلِكَ فِي إحْرَازِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ ، وَفِي ضَابِطِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الضَّبَّةِ مِنْ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ، وَفِي قِصَرِ الزَّمَانِ وَطُولِهِ عِنْدَ مُوَالَاةِ الْوُضُوءِ ، وَفِي الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَفِي الِاسْتِئْنَافِ ( وَكَثْرَةِ ) الْأَفْعَالِ ( الْمُنَافِيَةِ ) لِلصَّلَاةِ ، وَفِي التَّأْخِيرِ الْمَانِعِ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَفِي الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ مِنْ الْجَدَاوِلِ ، وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ الْمَجْرَى إذَا كَانَ لَا يُضِيرُ مَالِكُهَا ، إقَامَةً ( لِلْعُرْفِ ) مَقَامَ الْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ ، وَكَذَا الثِّمَارُ السَّاقِطَةُ مِنْ الْأَشْجَارِ الْمَمْلُوكَةِ ، وَفِي عَدَمِ رَدِّ ظَرْفِ الْهَدِيَّةِ إذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ ، وَمَا جُهِلَ حَالُهُ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ فِيهِ إلَى عَادَةِ بَلَدِ الْبَيْعِ فِي الْأَصَحِّ .
نَعَمْ لَمْ يَعْتَبِرْهَا ( الْإِمَامُ ) الشَّافِعِيُّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : اسْتِصْنَاعُ الصُّنَّاعِ ( الَّذِينَ ) جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا ( بِالْأُجْرَةِ ) ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ ) : إذَا لَمْ ( يَجْرِ ) مِنْ الْمُسْتَصْنِعِ اسْتِئْجَارٌ لَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا .
الثَّانِيَةُ : عَدَمُ صِحَّةِ الْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ عَلَى الْمَنْصُوصِ ، وَإِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِعَدِّهِ ( بَيْعًا ) ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْتَارُ خِلَافَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ .
تَنْبِيهٌ : قَالَ الْإِمَامُ فِي بَابِ الْمُسَابَقَةِ : نَقَلَ الْأَئِمَّةُ ( تَرَدُّدًا ) ( لِلشَّافِعِيِّ ) ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) فِي أَنَّ الْمُتَّبَعَ الْقِيَاسُ أَوْ الْعَادَةُ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ الرُّمَاةِ ، وَهُوَ مُشْكِلٌ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ( فِي الشَّرْعِ فَإِنْ كَانَتْ الْعَادَةُ مُوَافِقَةً
) لِمُوجَبِ ( الشَّرْعِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّرَدُّدِ ، وَالْمُتَّبَعُ الشَّرْعُ وَقِيَاسُهُ .
وَإِنْ كَانَ لِلرُّمَاةِ عَادَةٌ يُنَاقِضُهَا ) الْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ فَلَا مَعْنَى لِاتِّبَاعِ عَادَتِهِمْ فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِالتَّعَلُّقِ بِالْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ : أَرَادَ الشَّافِعِيُّ عَادَةَ الْفُقَهَاءِ .
الثَّانِي : بِمَاذَا تَسْتَقِرُّ الْعَادَةُ ؟ اعْلَمْ أَنَّ مَادَّةَ الْعَادَةِ تَقْتَضِي تَكَرُّرَ الشَّيْءِ وَعَوْدَهُ ( تَكَرُّرًا ) كَثِيرًا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَقَعَ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْقَاضِي ( أَبُو بَكْرٍ الْأُصُولِيُّ ) وَغَيْرُهُ وَقَالُوا : الْإِنْسَانُ إذَا تَعَسَّرَ فَأَخَذَ السَّقَمُونْيَا ( فَأَسْهَلَتْهُ ) ثُمَّ أَخَذَهُ مَرَّةً أُخْرَى ، وَهَكَذَا وَقَعَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ مَتَى شَرِبَهَا ( أَسْهَلَتْهُ ) ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ تُفِيدُ الْعِلْمَ ( الضَّرُورِيَّ ) ، وَلِهَذَا كَانَ خَرْقُ الْعَوَائِدِ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ إلَّا مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ أَوْ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ .
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَيَخْتَلِفُ الْأَمْرُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، فَمِنْهَا الْعَادَةُ فِي وُجُودِ أَقَلِّ الطُّهْرِ إذَا خَالَفَتْ الْعَادَةُ الْمُعْتَادَةَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِثَلَاثٍ مُتَوَالِيَةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ إذْ قَالَ : لَوْ عَلِمْنَا أَنَّ ( طُهْرَ الْمَرْأَةِ ) أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ( يَوْمًا ) قَبِلْنَا قَوْلَهَا فِي ذَلِكَ ، وَذَلِكَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : ( إمَّا ) أَنْ يَتَكَرَّرَ طُهْرُ الْمَرْأَةِ مِرَارًا مُتَوَالِيَةً أَقَلُّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ ، ( فَإِنْ تَفَرَّقَ ) وَلَمْ يَتَوَالَ لَمْ ( يَصِرْ ) عَادَةً ، أَوْ يُوجَدُ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ ( جَمَاعَةِ ) نِسَاءٍ أَقَلُّهُنَّ ( ثَلَاثٌ ) .
وَحَكَى الرُّويَانِيُّ فِي بَابِ الْعِدَدِ وَجْهًا أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ ( وَقَالَ ) وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ ، وَمِنْهَا الِاسْتِحَاضَةُ ، وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا يَثْبُتُ بِالْمَرَّةِ قَطْعًا وَهِيَ أَصْلُ الِاسْتِحَاضَةِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ إذَا فَاتَحَهَا الدَّمُ الْأَسْوَدُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ ( مَثَلًا ثُمَّ تَغَيَّرَ ) إلَى الضَّعِيفِ فَلَا تَغْتَسِلُ وَلَا تُصَلِّي بَلْ تَتَرَبَّصُ فَلَعَلَّ الضَّعِيفَ يَنْقَطِعُ دُونَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ الْكُلُّ حَيْضًا ، فَإِنْ ( جَاوَزَ ) الْخَمْسَةَ عَشَرَ تَدَارَكَتْ مَا فَاتَ ( فَإِنْ ) كَانَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ، فَكَمَا
انْقَلَبَ الدَّمُ إلَى الضَّعِيفِ تَغْتَسِلُ ( إذْ ) بَانَ اسْتِحَاضَتُهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ ، وَالِاسْتِحَاضَةُ عِلَّةٌ مُزْمِنَةٌ فَالظَّاهِرُ ( أَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ دَامَتْ ) .
ثَانِيهَا : مَا ( تَثْبُتُ ) بِمَرَّةٍ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَهُوَ الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ فِي الْمُعْتَادَةِ الَّتِي سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ فَتَرُدُّ إلَيْهِمَا قَدْرًا وَوَقْتًا وَتَثْبُتُ الْعَادَةُ بِمَرَّةٍ فِي الْأَصَحِّ .
وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ مَرَّتَيْنِ ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَإِنَّمَا جَرَى الْخِلَافُ هُنَا ، لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْحَيْضِ بِمَرَّةٍ ( لَا يُوثَقُ بِهِ فَقِيلَ : لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّكْرَارِ ) .
ثَالِثُهَا : ( مَا لَا يَثْبُتُ بِالْمَرَّةِ ) وَلَا بِالْمَرَّاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ قَطْعًا ، وَهِيَ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فَرَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً ، وَاسْتَمَرَّتْ بِهَا الْأَدْوَارُ هَكَذَا ، وَقُلْنَا بِقَوْلِ اللَّقَطِ فَأَطْبَقَ الدَّمُ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ فَإِنَّا لَا نَلْتَقِطُ لَهَا ( نَظِيرَ ) أَيَّامِ الدَّمِ قَطْعًا ، وَإِنَّمَا ( نُحَيِّضُهَا ) مِنْ أَوَّلِ الدَّمِ عَلَى الْوَلَاءِ مَا كُنَّا ( نَجْعَلُهُ ) حَيْضًا بِالتَّلْفِيقِ حَتَّى لَوْ كُنَّا نَلْتَقِطُ ( لَهَا ) خَمْسَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ أَطْبَقَ الدَّمُ ( فَنُحَيِّضُهَا ) خَمْسَةً وَلَاءً مِنْ أَوَّلِ الدَّمِ الْمُطْبَقِ .
قَالَ الْإِمَامُ وَلِلِاحْتِمَالِ فِيهِ مَجَالٌ ، وَكَذَا لَوْ وَلَدَتْ مِرَارًا ، وَلَمْ تَرَ نِفَاسًا ثُمَّ وَلَدَتْ ، وَأَطْبَقَ الدَّمُ وَجَاوَزَ سِتِّينَ يَوْمًا فَإِنَّ عَدَمَ النِّفَاسِ لَا ( يَصِيرُ ) عَادَةً لَهَا بِلَا خِلَافٍ ، بَلْ ( هَذِهِ ) مُبْتَدَأَةٌ فِي النِّفَاسِ .
رَابِعُهَا : مَا لَا تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ وَلَا مَرَّاتٍ عَلَى الْأَصَحِّ وَهُوَ التَّوَقُّفُ بِسَبَبِ تَقَطُّعِ الدَّمِ ، إذَا كَانَتْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً فَإِنَّ الِانْقِطَاعَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَمَا بَعْدَهُ إلَى آخَرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ ، لَا يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْعَادَةِ بِالْمَرَّةِ وَهِيَ ( الِانْقِطَاعُ ) الْأَوَّلُ بَلْ تُؤْمَرُ بِمَا تُؤْمَرُ بِهِ ( الطَّاهِرَاتُ
بِمُجَرَّدِ ) الِانْقِطَاعِ ، بِخِلَافِ الشَّهْرِ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ ، لِأَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ قَدْ ( أُثْبِتَ ) عَادَةً فِي الِانْقِطَاعِ .
وَمِنْهَا اخْتِبَارُ الصَّبِيِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالْمُمَاكَسَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَكُونُ بِمَرَّتَيْنِ فَصَاعِدًا حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ رُشْدُهُ .
وَمِنْهَا اخْتِبَارُ الْجَارِحَةِ فِي الصَّيْدِ لَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ ( التَّعَلُّمِ ) ، وَقِيلَ : يُشْتَرَطُ ثَلَاثٌ ، وَقِيلَ : ( يُكْتَفَى ) بِمَرَّتَيْنِ .
وَمِنْهَا الْقَائِفُ هَلْ يُشْتَرَطُ بِثَلَاثٍ أَوْ يُكْتَفَى بِمَرَّتَيْنِ ( رَجَّحَ ) الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ الْأُوَلَ ، وَقَالَ الْإِمَامُ : لَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ عَارِفٌ .
الثَّالِثُ : الْعَادَةُ إذَا اطَّرَدَتْ يَنْزِلُ اللَّفْظُ فِي الْعُقُودِ عَلَيْهَا ، وَإِذَا اضْطَرَبَتْ لَمْ تُعْتَبَرْ وَوَجَبَ الْبَيَانُ ، ( وَإِذَا ) تَعَارَضَتْ الظُّنُونُ فِي اعْتِبَارِهَا فَخِلَافٌ .
وَهَذَا الْأَصْلُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي بَابِ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ ، فَقَالَ كُلُّ مَا يَتَّضِحُ فِيهِ اضْطِرَادُ الْعَادَةِ فَهُوَ ( الْمُحْكَمُ ) وَمُضْمَرُهُ ( كَالْمَذْكُورِ ) صَرِيحًا ، وَكُلُّ مَا يُعَارِضُ الظُّنُونَ بَعْضَ التَّعَارُضِ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ فِيهِ فَهُوَ مَثَارُ الْخِلَافِ انْتَهَى .
فَإِذَا بَاعَ بِدَرَاهِمَ ، وَأَطْلَقَ ( يَنْزِلُ ) عَلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ ، وَلَوْ اضْطَرَبَتْ الْعَادَةُ فِي الْبَلَدِ فَإِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ فَاسِدٌ ، بَلْ لَوْ غَلَبَتْ الْمُعَامَلَةُ بِجِنْسٍ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ بِنَوْعٍ مِنْهُ ( انْصَرَفَ ) الثَّمَنُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي الْأَصَحِّ " ، كَالنَّقْدِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِلْخِيَاطَةِ أَوْ النَّسْخِ أَوْ الْكُحْلِ ، فَفِي وُجُوبِ الْخَيْطِ ( وَالْحِبْرِ ) وَالْكُحْلِ عَلَى مَنْ خِلَافٌ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَصَحَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي ( الشَّرْحِ الصَّغِيرِ ) الرُّجُوعَ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ فَإِنْ اضْطَرَبَتْ وَجَبَ الْبَيَانُ ، وَإِلَّا فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ .
وَمِنْ هَذَا الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ يَتَقَيَّدُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَالْإِذْنُ فِي النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَفِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ الَّتِي بَدَا صَلَاحُهَا ( يَجِبُ ) ( إبْقَاؤُهَا ) إلَى أَوَانِ الْقِطَافِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ السَّقْيِ بِمَائِهَا عَمَلًا بِالْعُرْفِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ بِاللَّفْظِ ، وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِي أَلْفَاظِ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ الَّتِي تَخْتَلِفُ ( عَادَةُ ) النَّاسِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّءُوسِ وَنَحْوِهِ .
وَمَنْ أَتْلَفَ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مُتَقَوِّمًا لَزِمَهُ قِيمَتُهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ، وَمَنْ مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ لَزِمَهُ شَاةٌ مِنْ غَالِبِ شِيَاهِ الْبَلَدِ ، وَالْفِدْيَةُ فِي الْحَجِّ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ ، وَالْكَفَّارَةُ
كَذَلِكَ ، وَإِبِلُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْجَانِي ، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ تَجِبُ مِنْ غَالِبِ الْبَلَدِ أَوْ مِنْ أَغْلَبِهَا كَذَلِكَ .
وَلَوْ أَذِنَ الْإِمَامُ لِلْحَرْبِيِّ فِي الدُّخُولِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ بِلَا شَرْطٍ فَهَلْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمَعْهُودِ أَمْ لَا ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : فِي الْوَجِيزِ الثَّانِي .
الرَّابِعُ : الْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ فِي نَاحِيَةٍ نَزَّلَهَا الْقَفَّالُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ فَقَالَ إذَا عَمَّ النَّاسَ اعْتِيَادُ إبَاحَةِ مَنَافِعِ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ فَاطِّرَادُ الْعَادَةِ فِيهِ ( بِمَثَابَةِ شَرْطِ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ حَتَّى يَفْسُدَ الرَّهْنُ ، وَجَعَلَ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ ) بِمَثَابَةِ الْعَادَةِ الْعَامَّةِ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ الْجُمْهُورُ فِيهِمَا .
وَلَوْ جَرَتْ عَادَةٌ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَرُدُّ أَزْيَدَ مِمَّا اقْتَرَضَ ، فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ إقْرَاضُهُ وَيَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ ، وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَصَدَ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فَفِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ ، وَكَذَا لَوْ جَرَتْ عَادَةُ قَوْمٍ بِقَطْعِ الْحِصْرِمِ قَبْلَ النُّضْجِ فَهَلْ تَنْزِلُ عَادَتُهُمْ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ حَتَّى يَصِحَّ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : لَا ، وَقَالَ الْقَفَّالُ نَعَمْ ، وَكَذَا بَيْعُ الْعِينَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مُؤَجَّلًا بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ نَقْدًا إذَا صَارَ ذَلِكَ عَادَةً ، ( وَقَالَ ) الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الْعَقْدَانِ جَمِيعًا وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ ، لَكِنْ يُكْرَهُ .
قَالَ الْإِمَامُ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا فُرِضَ نُدُورُهُ فِي قُطْرٍ ثُمَّ تُصُوِّرَ اطِّرَادُهُ ، وَالْحُكْمُ بِالْعَادَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ ( ، وَمِنْهُ ) ( مَنْشَأُ ) اخْتِلَافِهِمْ فِي ( كَثْرَةِ ) دَمِ الْبَرَاغِيثِ فِي بَعْضِ ( الصِّقَاعِ ) فِي حُكْمِ الْعَفْوِ عَنْ النَّجَاسَةِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرٌ : مِنْهَا مَا لَوْ بَارَزَ كَافِرٌ مُسْلِمًا ، وَشَرَطَ الْأَمَانَ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ إعَانَةُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ اطَّرَدَتْ عَادَةُ الْمُبَارَزَةِ بِالْأَمَانِ ، فَفِي كَوْنِهِ كَالْمَشْرُوطِ ( وَجْهَانِ وَاَلَّذِي أَوْرَدَهُ الرُّويَانِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّهُ كَالْمَشْرُوطِ ) قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي السِّيَرِ ، وَقَالَ فِي الْمَطْلَبِ : عَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ ،
وَحَكَوْهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) .
وَمِنْهَا أَمْرُ السُّلْطَانِ ذِي السَّطْوَةِ ، وَعَادَتُهُ أَنْ يَسْطُوَ بِمَنْ يُخَالِفُهُ يَقُومُ ( مَقَامَ ) التَّوَعُّدِ ( نُطْقًا ) وَنَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْإِكْرَاهِ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ حَتَّى يَأْتِيَ فِي ( وُجُوبِ ) الْقِصَاصِ عَلَى مَأْمُورِهِ ( إذَا عَلِمَ أَنَّهُ ) مُبْطِلٌ الْقَوْلَانِ فِي الْمُكْرَهِ .
وَفِي أَمْرِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ يَخَافُ مِنْهُ ذَلِكَ طَرِيقَانِ : أَحَدَاهُمَا : عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَالثَّانِيَةُ : عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ ( بِإِكْرَاهٍ ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ جَزْمًا حَكَاهُمَا فِي الْمَطْلَبِ .
الْخَامِسُ : الْعَادَةُ إنَّمَا ( تُقَيِّدُ ) اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ إذَا تَعَلَّقَ بِإِنْشَاءِ أَمْرٍ فِي الْحَالِ دُونَ مَا يَقَعُ ( إخْبَارًا ) عَنْ مُتَقَدِّمٍ فَلَا ( يُقَيِّدُهُ ) الْعُرْفُ الْمُتَأَخِّرُ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْخُلْعِ فَقَالَ : الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا ؛ وَرَغْبَةِ النَّاسِ فِيمَا يَرُوجُ فِي ( الْبُقْعَةِ ) غَالِبًا ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّعْلِيقِ وَالْإِقْرَارِ بَلْ يَبْقَى اللَّفْظُ عَلَى عُمُومِهِ فِيهَا .
أَمَّا فِي التَّعْلِيقِ فَلِقِلَّةِ وُقُوعِهِ ، وَأَمَّا فِي الْإِقْرَارِ فَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ ( وُجُوبٍ ) سَابِقٍ وَرُبَّمَا يُقَدَّمُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعُرْفِ الْغَالِبِ أَوْ ( رَغَبٍ ) فِي بُقْعَةٍ أُخْرَى ، وَفِي الْإِقْرَارِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِغَيْرِ سِكَّةِ الْبَلَدِ لَا يُقْبَلُ .
وَلَوْ قَالَ طَلَّقْتُك عَلَى أَلْفٍ فَلَيْسَ هَذَا ( بِتَعَلُّقٍ ) ( فَنَزَلَ عَلَى الْغَالِبِ ) عَلَى قَاعِدَةِ الْمُعَامَلَاتِ ، قُلْت : وَمِثْلُ الْإِقْرَارِ فِي ذَلِكَ الدَّعْوَى قَالَ الْإِمَامُ فِي الْأَقْضِيَةِ : الدَّعْوَى بِالدَّرَاهِمِ لَا تَنْزِلُ عَلَى الْعَادَةِ ، كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا لَا يَنْزِلُ عَلَى الْعَادَةِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْوَصْفِ ، وَكَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ .
وَفَرَّقُوا بِمَا سَبَقَ أَنَّ الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَمَّا تَقَدَّمَ ، فَلَا ( يُقَيِّدُهُ ) الْعُرْفُ ( الْمُتَأَخِّرُ ) ، بِخِلَافِ ( الْعَقْدِ ) فَإِنَّهُ ( أَمْرٌ ) بَاشَرَهُ ( فِي الْحَالِ فَقَيَّدَهُ الْعُرْفُ ، لَكِنْ حَكَاهُ صَاحِبُ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ وَجْهًا ، وَصَدَّرَ كَلَامَهُ بِجَوَازِ الْإِطْلَاقِ ، وَيُحْمَلُ عَلَى نَقْدِ الْبَلَدِ ) ، قَالَ : وَاخْتَارَهُ الْإِصْطَخْرِيُّ .
وَلَوْ أَقَرَّ فِي بَلَدٍ ( دَرَاهِمُهُ ) نَاقِصَةٌ بِأَلْفٍ ( مُطْلَقَةٍ ) لَزِمَهُ النَّاقِصَةُ فِي الْأَصَحِّ ؛ لِعُرْفِ الْبَلَدِ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ الْوَازِنَةُ ؛ لِعُرْفِ الشَّرْعِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ ، لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي بَلَدٍ
دَرَاهِمُهُ نَاقِصَةٌ ( أَنَّهُ ) تَلْزَمُهُ النَّاقِصَةُ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ مُعَامَلَةٌ وَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ تَقَعُ بِمَا يَرُوجُ فِيهَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ .
قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : وَيُمْكِنُ بِنَاءُ الْخِلَافِ عَلَى أَنَّ الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ هَلْ يَرْفَعُ الِاصْطِلَاحَ الْعَامَّ أَمْ لَا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ تَوَافُقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى تَسْمِيَةِ أَلْفٍ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِأَلْفَيْنِ ، لَكِنَّ قَضِيَّةَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ لُزُومَ ( أَلْفٍ ) وَازِنَةٍ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ ( وُجُوبُ ) أَلْفَيْنِ .
( السَّادِسُ ) : إذَا اخْتَلَفَتْ الْعَادَةُ فَهَلْ الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِنَفْسِهِ أَمْ بِغَيْرِهِ فِيهِ خِلَافٌ فِي صُوَرٍ : ( مِنْهَا ) : لَوْ انْتَشَرَ الْخَارِجُ فَوْقَ الْعَادَةِ وَجَاوَزَ الصَّفْحَةَ لَمْ ( يُجْزِهِ ) الْحَجْرُ ، وَهَلْ الِاعْتِبَارُ بِعَادَةِ النَّاسِ أَمْ بِعَادَةِ نَفْسِهِ فِيهِ ؟ وَجْهَانِ ( حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ ) .
( وَمِنْهَا ) : لَوْ تَعَذَّرَ الْمَشْيُ فِي الْخُفِّ ؛ لِسَعَتِهِ الْمُفْرِطَةِ أَوْ لِضِيقِهِ فَفِي الْمَسْحِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ صَالِحٌ لِلْمَشْيِ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَبِسَهُ غَيْرُهُ لَارْتَفَقَ بِهِ ، وَأَصَحُّهُمَا : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي إدَامَةِ مِثْلِ هَذَا الْخُفِّ فِي الرِّجْلِ .
( وَلِهَذَا شَبَهٌ ) بِالْكَفَّارَةِ يُدْفَعُ ( لِلْكَبِيرِ مَا لَا يَصْلُحُ ) إلَّا لِلُّبْسِ الصَّغِيرِ .
الْعِبَادَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ : فِي حَقِيقَتِهَا ، قَالَ الْإِمَامُ فِي الْأَسَالِيبِ هِيَ التَّذَلُّلُ وَالْخُضُوعُ ، وَبِالتَّقَرُّبِ إلَى الْمَعْبُودِ بِفِعْلِ ( أَوَامِرِهِ ) .
وَقَالَ الْمُتَوَلِّي : فِعْلٌ يُكَلِّفُهُ اللَّهُ عِبَادَهُ ( مُخَالِفًا ) لِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ الطَّبْعُ عَلَى سَبِيلِ ( الِابْتِلَاءِ ) .
وَقَالَ ( الْمَرْوَزِيُّ : ) مَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ : الْعِبَادَةُ وَالتَّعَبُّدُ ، وَالنُّسُكُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ الْخُضُوعُ .
وَالْعِبَادَةُ مَا ( تَعَبَّدْنَا بِهِ ) عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ ، وَقِيلَ : الْعِبَادَةُ مَا كَانَ الْعَابِدُ لِأَجْلِهَا عَابِدًا ، وَقِيلَ : مَا اُشْتُقَّ اسْمُ الْعَابِدِ مِنْهَا ، وَقِيلَ : مَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ ( عَزَّ وَجَلَّ ) ، وَقِيلَ : مَا كَانَ قُرْبَةً إلَيْهِ .
قَالَ وَهَذَانِ لَيْسَا بِصَحِيحَيْنِ ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ طَاعَةً وَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَلَا ( قُرْبَةٍ ) وَهُوَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُؤَدَّيَانِ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ انْتَهَى .
وَقَالَ ( الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ ) هِيَ الطَّاعَةُ بِالْتِزَامِ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالتَّعَبُّدُ اسْتِدْعَاءُ ذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ ، قَالَ وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ الطَّاعَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ } .
الثَّانِي : الْفَضِيلَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ ( تُقَدَّمُ ) عَلَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَكَانِهَا وَسَتَأْتِي فِي حَرْفِ الْفَاءِ .
الثَّالِثُ : إنْ تَعَلَّقَتْ ( بِوَقْتٍ ) فَتَعْجِيلُهَا أَفْضَلُ مُبَادَرَةً لِلِامْتِثَالِ ، وَلِهَذَا جَاءَ { الصَّلَاةُ أَوَّلَ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ } ، وَقَدْ يَتَرَجَّحُ التَّأْخِيرُ ؛ لِعَوَارِضَ : مِنْهَا حِيَازَةُ فَضِيلَةٍ أُخْرَى كَتَيَقُّنِ وُجُودِ الْمَاءِ آخَرَ الْوَقْتِ ، وَالْإِبْرَادِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ ، وَتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ ؛ لِانْتِظَارِ قَرِيبٍ أَوْ جَارٍ مَعَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ وَاسْتِحْبَابُ ( تَأْخِيرِ ) زَكَاةِ الْفِطْرِ لِيَوْمِ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا تَجِبُ بِالْغُرُوبِ وَاسْتَحَبَّ ( الْإِمَامُ ) الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِعْلَ ( ابْنُ عُمَرَ ) مِنْ إخْرَاجِهَا قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ .
وَدَمُ ( التَّمَتُّعِ ) يَجِبُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى يَوْمِ النَّحْرِ ، وَكَذَلِكَ دَمُ الْقِرَانِ .
وَمِنْهَا أَفْعَالُ يَوْمِ النَّحْرِ كَالْحَلْقِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِنِصْفِ اللَّيْلِ ، وَيُسْتَحَبُّ ( تَأْخِيرُهَا ) لِيَوْمِ النَّحْرِ .
تَنْبِيهٌ : مَنْ أَمَرْنَاهُ بِالتَّأْخِيرِ فَمَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَعْصِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّأْخِيرِ ، وَقَدْ أَحْسَنَ ( بِالِامْتِثَالِ ) فَكَيْفَ يَعْصِي ؟ وَكَذَا مَنْ جُوِّزَ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَا يَعْصِي فِي الْأَصَحِّ ، بِخِلَافِ مَا وَقْتُهُ الْعُمُرُ كَالْحَجِّ وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي حَرْفِ الْمِيمِ .
فَائِدَةٌ : قَالَ الصَّيْمَرِيُّ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ لَيْسَ لَنَا أَحَدٌ يُقْتَلُ بِتَرْكِ عِبَادَةٍ إذَا صَحَّ مُعْتَقَدُهُ إلَّا الصَّلَاةَ فَقَطْ ؛ لِشَبَهِهَا بِالْإِيمَانِ ، وَلَمَّا كَانَ تَارِكُ الْإِيمَانِ مَقْتُولًا فَكَذَلِكَ وَتَارِكُ الصَّلَاةِ .
ضَابِطٌ : لَيْسَ لَنَا عِبَادَةٌ يَجِبُ الْعَزْمُ عَلَيْهَا ، وَلَا يَجِبُ فِعْلُهَا سِوَى الْفَارِّ مِنْ ( الزَّحْفِ ) بِقَصْدِ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ يَجُوزُ ، وَإِذَا تَحَيَّزَ إلَيْهَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ مَعَهَا فِي الْأَصَحِّ .
الْعِبْرَةُ بِعَقِيدَةِ الْإِمَامِ أَوْ الْمَأْمُومِ ( وَجْهَانِ ) الْأَصَحُّ الثَّانِي .
وَلِهَذَا لَوْ ( اقْتَدَى ) شَافِعِيٌّ بِحَنَفِيٍّ مَسَّ فَرْجَهُ أَوْ افْتَصَدَ فَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ فِي الْفَصْدِ دُونَ الْمَسِّ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الْمُقْتَدِي ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتِقَادَ الْإِمَامِ ؛ لِأَجْلِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي شَارِبِ النَّبِيذِ أُحِدُّهُ ، وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَلَا يَتَمَسَّكُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ فِيهَا ( تَرَافُعٌ ) إلَى الْحَاكِمِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا عَقِيدَةُ الْمَرْفُوعِ إلَيْهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِخِلَافِ عَقِيدَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ رَأَى الْجَلَّادُ أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ ( بِالْعَبْدِ ) وَالْإِمَامُ يَرَاهُ فَأَمَرَهُ بِهِ وَلَمْ يُكْرِهْهُ فَوَجْهَانِ ، وَفِي الْحُدُودِ مِنْ تَعْلِيقِ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ الْمَنْعُ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَالَ فِي الْقَسَامَةِ : الْقَوَدُ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الْمَأْمُورِ التَّعْزِيرُ ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ ، لَكِنْ فِي الشَّامِلِ وَتَعْلِيقِ أَبِي الطَّيِّبِ ( الْوُجُوبُ ) .
وَلَوْ انْعَكَسَ الْأَمْرُ فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ فَجَهِلَ فَعَنْ الْعِرَاقِيِّينَ إنْ ( بَقِيَ وَجَبَ ) ، هُنَا وَإِلَّا فَلَا وَضَعَّفَهُ الْإِمَامُ وَاَلَّذِي فِي الْحَاوِي الْمَنْعُ .
وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ فِي كُلِّ مَا يَعْتَقِدُ الْآمِرُ حِلَّهُ ، وَالْمَأْمُورُ تَحْرِيمَهُ فَهَلْ لَهُ فِعْلُهُ نَظَرًا إلَى رَأْيِ الْآمِرِ أَوْ ( يَمْتَنِعُ ) نَظَرًا إلَى رَأْي الْمَأْمُورِ ، وَخَصَّ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ الْخِلَافَ بِمَا لَا ( يَنْتَقِضُ ) حُكْمُ ( الْآمِرِ ) بِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَضُ ( حُكْمُهُ ) بِهِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ ، قَالَ : وَكَذَلِكَ لَا طَاعَةَ لِجَهَلَةِ الْمُلُوكِ ( وَالْأُمَرَاءِ ) إلَّا فِيمَا يَعْلَمُ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الشَّرْعِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْأَصْلِ صُوَرٌ : مِنْهَا : مَا لَوْ كَانَ الْحَنَفِيُّ وَالشَّافِعِيُّ مُسَافِرَيْنِ ، وَنَوَى الْحَنَفِيُّ إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَقْتَدِيَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَنَفِيِّ الْقَاصِرِ مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُقِيمَ إذَا نَوَى الْقَصْرَ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ، وَهُوَ مُقِيمٌ .
وَمِنْهَا : لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُكَبِّرُ ( لِلْعِيدِ ) ثَلَاثًا أَوْ سِتًّا فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ عَقِبَ الصَّلَاةِ ، إذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ ( فِي ) يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَالْمَأْمُومُ لَا يَرَى التَّكْبِيرَ فِيهَا ، وَعَكْسُهُ فَهَلْ يُوَافِقُهُ فِي التَّكْبِيرِ ( وَتَرْكِهِ ) ( أَمْ ) يَتْبَعُ اعْتِقَادَ نَفْسِهِ ؟ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : ( يَتْبَعُ ) اعْتِقَادَ نَفْسِهِ .
الْعِبْرَةُ بِصِيَغِ الْعُقُودِ أَوْ بِمَعَانِيهَا أَيْ : هَلْ النَّظَرُ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوْ إلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ( بِطَرِيقِ ) التَّضَمُّنِ ؟ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَرْجِعُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : ( الْأَوَّلُ ) : مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ قَطْعًا .
كَالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ ( بُنِيَ ) عَلَى التَّعَبُّدِ ( بِصِيغَتَيْ ) الْإِنْكَاحِ ( وَالتَّزْوِيجِ ) دُونَ مَا يُؤَدِّي ( لِمَعْنَاهُمَا ) .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ فَقَالَ : قَبِلْت وَلَمْ يَذْكُرَا ثَمَنًا فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ قَطْعًا ، وَلَمْ يَنْظُرُوا لِلْمَعْنَى حَتَّى يَصِحَّ هِبَةً عَلَى وَجْهٍ .
( الثَّانِي ) : مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اللَّفْظُ فِي الْأَصَحِّ .
فَمِنْهَا : لَوْ قَالَ أَسْلَمْت إلَيْك هَذَا الثَّوْبَ فِي ( هَذَا ) الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِسَلَمٍ قَطْعًا ؛ لِانْتِفَاءِ الدَّيْنِيَّةِ ، وَلَا بَيْعًا فِي الْأَظْهَرِ ؛ ( لِإِخْلَالِ ) اللَّفْظِ ، فَإِنَّ السَّلَمَ يَقْتَضِي الدَّيْنِيَّةِ ، وَالدَّيْنِيَّةُ مَعَ التَّعْيِينِ يَتَنَاقَضَانِ ، وَقِيلَ : بَيْعٌ ( لِلْمَعْنَى ) .
وَمِنْهَا : لَوْ قَالَ : اشْتَرَيْت مِنْك ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ، فَقَالَ : بِعْتُك فَصَحَّحَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ بَيْعٌ ؛ نَظَرًا ( لِلَّفْظِ ) ، وَقِيلَ : سَلَمٌ نَظَرًا ( لِلْمَعْنَى ) وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ .
وَمِنْهَا قَالَ : بِعْتُك بِلَا ثَمَنٍ فَلَيْسَ بَيْعًا ، وَفِي انْعِقَادِهِ هِبَةً قَوْلَا تَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فِي الَّتِي قَبْلَهَا ، وَمِنْهَا تَعَاقَدَا فِي الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ فَقَالَ : سَاقَيْتُك عَلَى هَذِهِ النَّخِيلِ ( مُدَّةَ ) كَذَا بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ ، فَقِيلَ : تَصِحُّ إجَارَةً ؛ نَظَرًا لِلْمَعْنَى ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا ( فَاسِدَةٌ ) ؛ نَظَرًا لِلَّفْظِ ( وَعَدَمِ وُجُودِ ) شَرْطِ الْمُسَاقَاةِ ؛ إذْ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ لَا تَكُونَ بِدَرَاهِمَ .
( الثَّالِثُ ) : مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَعْنَى ( قَطْعًا ) .
( الرَّابِعُ ) : مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَعْنَى فِي الْأَصَحِّ .
فَمِنْهَا إذَا ( وَهَبَ ) بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَهَلْ
تَبْطُلُ لِمُنَاقَضَتِهِ أَوْ يَصِحُّ وَيَكُونُ هِبَةً اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ أَوْ بَيْعًا بِالثَّمَنِ ؟ ( الْأَصَحُّ ) الثَّالِثُ .
وَمِنْهَا يُشْتَرَطُ فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ فِي الْمَجْلِسِ إنْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الْأَصَحِّ ؛ ( نَظَرًا لِلْمَعْنَى ) .
وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إنْ تَهَافَتَ اللَّفْظُ حُكِمَ ( بِالْفَسَادِ ) عَلَى الْمَشْهُورِ كَبِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ ، وَإِنْ لَمْ يَتَهَافَتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ فِي مَدْلُولِهَا أَوْ الْمَعْنَى ، فَإِنْ كَانَتْ الصِّيغَةُ أَشْهَرَ كَأَسْلَمْت إلَيْك هَذَا الثَّوْبَ فِي هَذَا الْعَبْدِ ، فَالْأَرْجَحُ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ ؛ لِاشْتِهَارِ السَّلَمِ فِي بُيُوعِ الذِّمَمِ ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ التَّنْبِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ ، بَلْ كَانَ الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودَ كَوَهَبْتُكَ بِكَذَا فَالْأَصَحُّ انْعِقَادُهُ بَيْعًا ، وَإِنْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَوَجْهَانِ ، وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْمَعْنَى تَابِعٌ لَهَا فَإِذَا ( أَوْقَعَ ) فِي إجَارَةِ الذِّمَّةِ لَفْظَ السَّلَمِ اُعْتُبِرَ قَبْضُ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ قَطْعًا ، وَإِنْ ( أَوْقَعَ ) لَفْظَ الْإِجَارَةِ فَوَجْهَانِ : ، وَالْأَصَحُّ : اعْتِبَارُ الْمَعْنَى ( كَمَا فِي ) الْهِبَةِ ، وَإِنْ قَالَ : اشْتَرَيْت مِنْك ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ انْعَقَدَ ( بَيْعًا فِي الْأَصَحِّ ) ؛ لِتَعَادُلِ الْمَعْنَى وَالصِّيغَةِ ، وَالْأَصَحُّ اعْتِبَارُ الصِّيغَةِ فَيَنْعَقِدُ بَيْعًا .
الْعَدَالَةُ هَلْ ( تُتَحَرَّى ) فِيهِ خِلَافُ فَائِدَتِهِ إذَا زُكِّيَ ، وَقَدْ شَهِدَ بِقَلِيلٍ ثُمَّ شَهِدَ بِكَثِيرٍ هَلْ تَكْفِي التَّزْكِيَةُ فِي الْقَلِيلِ ؟ وَجْهَانِ ، وَنَظِيرُهُ الْخِلَافُ الْأُصُولِيُّ فِي تَحَرِّي الِاجْتِهَادِ .
الْعَدَالَةُ : شَرْطٌ فِي نَظَرِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ ؛ لِيَدْفَعَ عَنْ الْوُقُوعِ فِي غَيْرِ الصِّحَّةِ وَلَيْسَتْ ( بِشَرْطٍ ) فِي ( نَظَرِهِ ) لِمَصَالِحِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ طَبْعَهُ يَحُثُّهُ عَلَى ( جَلْبِهِ ) مَصَالِحَ نَفْسِهِ فَاكْتَفَى بِذَلِكَ ( وَازِعًا ) .
نَعَمْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ الرُّشْدُ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْأَوَّلِ صُورَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ فِي دَوَامِهَا فَلَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ فِي الْأَصَحِّ ، وَيَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ مَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ ، ( وَيُرَدُّ ) مِنْ تَصَرُّفِهِمْ مَا يُرَدُّ ( مِنْهُ ) ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ ؛ ( دَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ ) عَنْ الرَّعَايَا ؛ وَجَلْبًا لِمَصَالِحِهِمْ .
الثَّانِيَةُ : مَا يَكُونُ الطَّبْعُ قَائِمًا مَقَامَ الْعَدَالَةِ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ كَعَدَالَةِ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ وَالْحَضَانَةِ ، إذَا قُلْنَا : الْفَاسِقُ يَلِي ؛ لِأَنَّ طَبْعَ الْوَلِيِّ ( وَالْحَاضِنِ ) يَحُثَّانِ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ .
الْعُذْرُ الْعَامُّ كَفَقْدِ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ ، وَكَذَا النَّادِرُ الدَّائِمُ غَالِبًا ، كَالْحَدَثِ الدَّائِمِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالسَّلَسِ وَنَحْوِهِ .
وَالنَّادِرُ الَّذِي لَا يَدُومُ ، وَلَا بَدَلَ مَعَهُ يُوجِبُ الْقَضَاءَ كَفَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَنَحْوِهِ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ الْأَوَّلِ الْمَجْرُوحُ إذَا وَضَعَ اللُّصُوقَ عَلَى جُرْحِهِ عَلَى الْحَدَثِ ، وَتَعَذَّرَ نَزْعُهُ ، وَصَلَّى فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي الْأَظْهَرِ ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْوَضْعِ عَلَى الطَّهَارَةِ ، وَلَا بَدَلَ لَهُ مَعَ أَنَّ الْعُذْرَ ( مِمَّا ) يَدُومُ .
وَمِنْ الثَّانِي : الصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَكَذَا لَوْ تَنَجَّسَ السِّلَاحُ وَعَجَزَ عَنْ إلْقَائِهِ فَصَلَّى ، وَهُوَ حَامِلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي فِي الْأَظْهَرِ .
وَمِنْهُ : الْخَائِفُ مِنْ ( سَبُعٍ ) إذَا صَلَّى مُومِئًا لَا يَقْضِ مَعَ أَنَّ الْعُذْرَ نَادِرٌ لَا يَدُومُ ، لَكِنْ قَالَ ( الشَّافِعِيُّ ) : إنَّهُ خَائِفٌ ، وَجِنْسُ الْخَوْفِ عَامٌّ .
وَمِنْهُ : لَوْ مُنِعَ الْوُضُوءَ إلَّا مُنَكَّسًا فَهَلْ يَعْدِلُ إلَى التَّيَمُّمِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الْوَجْهِ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ قَالَ الرُّويَانِيُّ عَنْ وَالِدِهِ : وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إذَا امْتَثَلَ الْمَأْمُورُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ .
وَلَوْ تَنَاثَرَ الْوَرَقُ بِرِيَاحِ الرَّبِيعِ عَلَى الْمَاءِ فَغَيَّرَهُ فَلَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَ الْمُجَاوَرَةَ وَالْمُخَالَطَةَ ، وَمَنْ اعْتَبَرَ الصَّوْنَ ، وَتَيَسُّرَهُ اخْتَلَفُوا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا عَمَّ وُقُوعُهُ مِنْ الْأَعْذَارِ مُؤَثِّرٌ ( وَمَا ) يَنْدُرُ وُقُوعُهُ إذَا وَقَعَ فَفِي إلْحَاقِهِ بِالْعُذْرِ الْعَامِّ وَجْهَانِ قَالَهُ الْإِمَامُ .
فَائِدَتَانِ : الْأُولَى : أَنَّ الْعُذْرَ الْعَامَّ أَدْخَلُ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ مِنْ الْخَاصِّ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْكَافَّةِ .
وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فَوَقَفُوا الْعَاشِرَ أَجْزَأَهُمْ ، وَلَا قَضَاءَ ، وَلَوْ أَخْطَأَ وَاحِدٌ وَجَبَ ، وَالْإِحْصَارُ الْعَامُّ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ
وَالْإِحْصَارُ الْخَاصُّ يُوجِبُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ خِلَافُهُ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْعُذْرَ كَمَا يُسْقِطُ الْإِثْمَ يَحْصُلُ الثَّوَابُ إذَا كَانَتْ النِّيَّةُ الْفِعْلَ عَلَى الدَّوَامِ .
وَلِهَذَا الْمَعْذُورُ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ [ اللَّهُ ] لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا } .
نَعَمْ الْحَائِضُ لَا يُكْتَبُ لَهَا ( ثَوَابُ الصَّلَاةِ ) زَمَنَ الْحَيْضِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أَنَّ نِيَّتَهُمَا الْفِعْلُ عَلَى الدَّوَامِ مَعَ أَهْلِيَّتِهِمَا لَهُ ، وَالْحَائِضُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّ نِيَّتَهَا تَرْكُ الصَّلَاةِ زَمَنَ الْحَيْضِ ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا ( فَنَظِيرُهَا ) مُسَافِرٌ أَوْ مَرِيضٌ كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ فِي وَقْتٍ ، وَيَتْرُكُهَا فِي آخَرَ غَيْرُ نَاوٍ لِلدَّوَامِ عَلَيْهَا فَهَذَا لَا يُكْتَبُ لَهُ فِي مَرَضِهِ وَسَفَرِهِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَنْتَفِلُ فِيهِ .
الْعُرْفُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ : الْحَقَائِقُ ثَلَاثَةٌ : لُغَوِيٌّ وَشَرْعِيٌّ وَعُرْفِيٌّ وَاللَّا عُرْفِيُّ تَارَةً يَكُونُ عَامًا وَتَارَةً يَكُونُ خَاصًّا ، ثُمَّ تَارَةً تَتَّفِقُ هَذِهِ الْحَقَائِقُ ، وَتَارَةً تَخْتَلِفُ فَإِنْ اتَّفَقَتْ ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءَ الْبَحْرِ أَوْ النَّهْرِ ( فَإِنَّ ) اسْمَهُ بِذَلِكَ ( مِمَّا ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ الثَّلَاثُ .
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ ، وَتَعَارَضَتْ فَلَهَا أَحْوَالٌ الْأُولَى : ( أَنْ ) يَتَعَارَضَ الْعُرْفُ مَعَ الشَّرْعِ وَهُوَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ حُكْمٌ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا قَرَّرَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَلَا يَحْنَثُ ( بِأَكْلِ لَحْمِ السَّمَكِ ) ، وَإِنْ ( سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ) لَحْمًا ، أَوْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ بِالْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَإِنْ ( سَمَّاهَا ) اللَّهُ ( تَعَالَى ) بِسَاطًا .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي سِرَاجٍ لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ فِي الشَّمْسِ ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ سِرَاجًا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ تَحْتَ سَقْفٍ فَقَعَدَ تَحْتَ السَّمَاءِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ ( تَعَالَى ) سَقْفًا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضَعُ رَأْسَهُ عَلَى وَتَدٍ فَوَضَعَهَا عَلَى ( جَبَلٍ ) ( لَمْ يَحْنَثْ ) ، وَإِنْ سَمَّى اللَّهُ الْجِبَالَ أَوْتَادًا .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مَيْتَةً فَأَكَلَ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا مَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ ( سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْتَةً ) أَوْ لَا يَأْكُلُ دَمًا فَأَكَلَ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ لَمْ يَحْنَثْ قَطْعًا .
وَوَجْهُهُ فِي الْكُلِّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يُسَمُّونَهَا ( بِذَلِكَ ) فَقُدِّمَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ عَلَى عُرْفِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ تَسْمِيَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا تَكْلِيفٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِمَا نَوَاهُ وَفَعَلَهُ قَالَ ( اللَّهُ ) تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ
الْأَيْمَانَ } أَيْ : قَصَدْتُمْ ، وَعَقْدُ الْقَلْبِ : قَصْدُهُ وَتَصْمِيمُهُ .
نَعَمْ لَوْ تَقَاطَرَ مِنْ الْكَبِدِ ( أَوْ الطِّحَالِ ) دَمٌ فَأَكَلَهُ حَنِثَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ دَمًا .
وَلَيْسَ لَنَا عَيْنٌ تُؤْكَلُ مُتَّصِلَةً ، وَلَا تُؤْكَلُ مُنْفَصِلَةً إلَّا هَذِهِ وَدُودُ الْفَاكِهَةِ وَالرَّوْثُ فِي جَوْفِ السَّمَكِ الصِّغَارِ ، وَفِي ( الْجَرَادِ ) ، وَقِشْرُ الْبَيْضِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مُنْفَصِلًا ، وَيَحِلُّ ابْتِلَاعُ الْبَيْضَةِ بِقِشْرِهَا .
وَلَيْسَ لَنَا عَيْنٌ طَاهِرَةٌ مِنْ الْجَمَادِ إذَا انْفَصَلَ مِنْهَا جُزْءٌ يَصِيرُ نَجَسًا إلَّا دَمَ الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ ، فَإِذَا انْفَصَلَ صَارَ نَجِسًا فِي الْأَصَحِّ ؛ لِكَوْنِهِ صَارَ دَمًا .
النَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يَتَعَلَّقَ بِعُرْفِ الشَّرْعِ حُكْمٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُصَلِّي لَمْ يَحْنَثْ إلَّا بِذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ التَّسْبِيحِ .
وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا ( بِالْإِمْسَاكِ ) بِالنِّيَّةِ فِي زَمَنٍ قَابِلٍ لِلصَّوْمِ وَلَا يَحْنَثُ بِمُطْلَقِ الْإِمْسَاكِ ، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا لُغَةً ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ فَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ فِي الْأَصَحِّ وَفِي الْعُرْفِ لَا يَعْنِي بِهِ غَيْرَ الْوَطْءِ .
وَلَوْ قَالَ : ( إنْ ) رَأَيْتِ الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَآهُ غَيْرُهَا وَعَلِمَتْ بِهِ طَلُقَتْ حَمْلًا ( لَهُ ) عَلَى الشَّرْعِ ، فَإِنَّهَا فِيهِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ .
وَمِنْ ذَلِكَ : لَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى أَوْ نَكَحَ أَوْ رَاجَعَ أَوْ طَلَّقَ هَازِلًا نَفَذَتْ وَصَحَّتْ ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعُرْفِ لَا يَعُدُّونَهَا بَيْعًا وَشِرَاءً وَنِكَاحًا وَطَلَاقًا ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ عَلَيْهَا بِالصِّحَّةِ فَفِي الْحَدِيثِ { ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ } ، وَنَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّلَاثِ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا ، وَأَوْلَى مِنْهَا ( كَمَا ) قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } { لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ } فَمَنْ تَكَلَّمَ
بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ هَازِلًا ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْكُفْرَ كَفَرَ ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ ( مَازِحًا ) وَلَمْ يَقْصِدْ السَّرِقَةَ حَرُمَ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ جَادًّا وَلَا هَازِلًا } .
وَهُنَا تَنْبِيهٌ : وَهُوَ أَنَّهُ حَيْثُ قُدِّمَ الشَّرْعِيُّ عَلَى الْعُرْفِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ فَإِنَّمَا يَنْزِلُ عَلَى أَدْنَى الْمَرَاتِبِ ( تَقْلِيلًا لِلنَّسْخِ ) وَعَدَمِ ( النَّقْلِ ) ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ سِرًّا فَنِكَاحُ السِّرُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ : الْوَطْءُ سِرًّا دُونَ الْعَقْدِ ، وَفِي الشَّرْعِ أَدْنَى مَرَاتِبِ ( نِكَاحِ ) السِّرِّ أَنْ يَكُونَ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ عَقَدَ بِوَلِيٍّ وَثَلَاثَةِ شُهُودٍ خَرَجَ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ ، وَلَمْ يَحْنَثْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الدَّارِمِيِّ وَهُوَ حَسَنٌ ( مُخَالِفٌ لِلسِّرِّ ) فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّ السِّرَّ لُغَةً مَا اطَّلَعْت عَلَيْهِ شَخْصًا وَاحِدًا .
وَيَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ قَاعِدَةٌ أُخْرَى : وَهِيَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ تَقْتَضِي الْعُمُومَ ، وَالشَّرْعُ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهَا أَمْ يَتَعَيَّنُ تَخْصِيصُ الشَّرْعِ ؟ يُخَرَّجُ مِنْ كَلَامِهِمْ ( فِيهَا وَجْهَانِ ) ، وَالْأَصَحُّ : اعْتِبَارُ خُصُوصِ الشَّرْعِ .
وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ لَمْ يَحْنَثْ بِالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ، وَمَا وَقَعَ فِي ( زَوَائِدِ ) الرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ الْإِيلَاءِ مِنْ دَعْوَى الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحِنْثِ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الرَّاجِحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلَى مُقْتَضَى مَا رَجَّحَهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ .
وَمِنْهَا : لَوْ أَوْصَى لِأَقَارِبِهِ ، فَهَذَا عَامٌّ وَلَكِنْ فِي الشَّرْعِ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَدْخُلُونَ عَمَلًا بِتَخْصِيصِ الشَّرْعِ وَلِلرَّافِعِيِّ بَحْثٌ فِيهِ .
وَمِنْهَا : ( لَوْ ) حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً فَشَرِبَ الْمُتَغَيِّرَ بِمَا يُخَالِطُ الْمَاءَ مِمَّا يُسْتَغْنَى عَنْهُ كَزَعْفَرَانٍ لَا يَحْنَثُ .
وَلَوْ وَكَّلَ مَنْ يَشْتَرِي الْمَاءَ ، فَاشْتَرَى لَهُ الْوَكِيلُ هَذَا لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْمَاءِ ، حَكَاهُ فِي الْبَيَانِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ ، وَقَضِيَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ ، فَإِنْ قِيلَ : هُوَ فِي الْعُرْفِ يُسَمَّى مَاءً ، قُلْنَا : الْعُرْفُ الشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ ، أَمَّا إذَا قُلْنَا : إنَّهُ مُطْلَقٌ مُنِعَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فَيَجِيءُ الْوَجْهَانِ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا هَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً فَشَرِبَ مَاءً قَدْ تَنَجَّسَ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ ؛ لِقِلَّتِهِ فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَلَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ قُلْنَا : مُطَلَّقٌ مُنِعَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ لُغَةً اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ فَيَجِيءُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ .
وَمِنْهَا : لَوْ قَالَ : إنْ رَأَيْتِ الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ حُمِلَتْ عَلَى الْعِلْمِ ، فَإِنَّهَا الشَّرْعِيَّةُ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ { إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا } دُونَ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ .
وَمِنْهَا : لَوْ قَالَ إنْ رَأَيْت ( الدَّمَ ) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ تَعَارُضُ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ الْعَامِّ .
فَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْكَافِي رِوَايَةَ ( وَجْهَيْنِ ) فَقَالَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ : إذَا اجْتَمَعَ فِي الْيَمِينِ الْحَقِيقَةُ اللَّفْظِيَّةُ ، وَالدَّلَالَةُ الْعُرْفِيَّةُ فَأَيُّهُمَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ الْحَقِيقَةُ اللَّفْظِيَّةُ أَوْلَى ، وَاللَّفْظُ مَتَى كَانَ مُطْلَقًا وَجَبَ الْعَمَلُ بِإِطْلَاقِهِ عَمَلًا بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ .
الثَّانِي : وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحْيِي السُّنَّةِ الدَّلَالَةُ الْعُرْفِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ ( مُحْكَمٌ ) فِي التَّصَرُّفَاتِ سِيَّمَا فِي الْأَيْمَانِ .
قَالَ فَلَوْ ( دَخَلَ ) دَارَ صَدِيقِهِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ طَعَامًا فَامْتَنَعَ فَقَالَ : إنْ لَمْ تَأْكُلْ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَخَرَجَ ، وَلَمْ يَأْكُلْ ثُمَّ قَدِمَ الْيَوْمَ الثَّانِيَ فَقَدَّمَ إلَيْهِ ذَلِكَ الطَّعَامَ فَأَكَلَ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ وَعَلَى الثَّانِي يَحْنَثُ ( انْتَهَى ) .
وَأَقُولُ اللُّغَةُ تَارَةً يَعُمُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، وَتَارَةً يَخُصُّ اسْتِعْمَالُهَا ، وَتَارَةً يُقَيَّدُ فِي إطْلَاقِهِمْ فَإِنْ عَمَّتْ اللُّغَةُ قُدِّمَتْ عَلَى الْعُرْفِ هَذَا مَذْهَبُ ( الْإِمَامِ ) الشَّافِعِيِّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) ، كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّوسَ ، ( وَقَالَ ) فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ : إنْ تَطَابَقَ الْعُرْفُ وَالْوَضْعُ فَذَاكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَمِيلُ إلَى الْوَضْعِ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ يَرَيَانِ ( اعْتِبَارَ ) الْعُرْفِ .
( وَيَنْبَنِي ) عَلَى هَذَا قَاعِدَةٌ : ( وَهِيَ ) إذَا عَارَضَ اللُّغَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ عُرْفٌ خَاصٌّ وَيُعَبِّرُ عَنْهَا بِأَنَّهُ : يُرَاعِي عُرْفَ وَاضِعِ اللِّسَانِ أَوْ عُرْفَ الْحَالِفِ ، وَإِنْ شِئْت فَقُلْ : هَلْ يُعْتَبَرُ عُرْفُ اللَّفْظِ أَوْ عُرْفُ اللَّافِظِ ؟ ( أَوْ : أَنَّ ) الِاصْطِلَاحَ الْخَاصَّ هَلْ يَرْفَعُ الْعَامَّ ؟ وَقَدْ سَبَقَتْ بِفُرُوعِهَا فِي حَرْفِ الْهَمْزَةِ .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ
أَوْ مَاءً حَنِثَ بِالْعَذْبِ وَالْمِلْحِ ، وَإِنَّمَا حَنِثَ بِالْمِلْحِ ( ، وَإِنْ لَمْ ) يَعْتَدْ شُرْبَهُ ( اعْتِبَارًا ) بِالْإِطْلَاقِ وَالِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ .
وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْخَاصُّ لَيْسَ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَجْهٌ ( أَلْبَتَّةَ ) ( فَالْمُعْتَبَرُ ) اللُّغَةُ ، كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَنَظَائِرِهَا .
وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ اسْتِعْمَالٌ فَفِيهِ خِلَافٌ فِي صُوَرٍ : مِنْهَا : لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا ( أَوْ لَا ) يَسْكُنُهُ فَاسْمُ الْبَيْتِ يَقَعُ عَلَى الْمَبْنِيِّ بِالطِّينِ وَالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ ( سُمِّيَ ) بَيْتًا ؛ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ ، كَمَا قَالَهُ ( الزَّجَّاجُ ) فِي تَفْسِيرِهِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْحَالِفُ بَدْوِيًّا حَنِثَ بِكُلٍّ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَظَاهَرَ فِيهِ الْعُرْفُ وَاللُّغَةُ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يُسَمُّونَهُ بَيْتًا ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَوَجْهَانِ بِنَاءً ( عَلَى الْأَصْلِ ) الْمَذْكُورِ ( ، وَإِنْ ) اعْتَبَرْنَا الْعُرْفَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ اسْمِ الْبَيْتِ هُوَ الْمَبْنِيُّ ، ، وَأَصَحُّهُمَا : أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ ( يُسَمُّونَهُ ) بَيْتًا ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْعُرْفُ عِنْدَهُمْ ثَبَتَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ فَرَدُّهُ عَلَى التَّعْمِيمِ ؛ عَمَلًا بِاللُّغَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ .
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ اللُّغَةُ وَالشَّرْعُ ، قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَام بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } وَفِي الْحَدِيثِ { لَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إلَّا دَخَلَهُ الْإِسْلَامُ } وَمِنْهَا : حَلَفَ ( أَنْ ) لَا يَأْكُلَ الْخُبْزَ حَنِثَ بِمَا يُتَّخَذُ مِنْ الْأُرْزِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ قَوْمٍ لَا يَتَعَارَفُونَ أَكَلَ ( خُبْزِ ) الْأُرْزِ ، كَمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ طَبَرِسْتَانَ ؛ لِأَنَّ خُبْزَ الْأُرْزِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ لُغَةً فِي سَائِرِ الْبِلَادِ ثُمَّ ( إنَّ ) أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْخُبْزِ عَلَى مَا ( يَجِدُونَهُ )
عِنْدَهُمْ ، وَذِكْرُ ( بَعْضِ ) أَفْرَادِ الْعَامِّ لَا يَخُصُّ ( إذْ ) الْخُبْزُ ( لُغَةً ) اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُخْبَزُ ( أَوْ يَنْضَجُ ) بِالنَّارِ .
وَمِنْهَا : لَوْ قَالَ : أَعْطُوهُ بَعِيرًا لَمْ يُعْطَ نَاقَةً عَلَى الْمَنْصُوصِ ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : نَعَمْ ؛ لِانْدِرَاجِهِ فِيهَا لُغَةً ، وَلَوْ قَالَ أَعْطُوهُ دَابَّةً أُعْطِيَ ( فَرَسًا أَوْ بَغْلًا أَوْ حِمَارًا ) عَلَى الْمَنْصُوصِ ، لَا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ عُرْفًا ، وَإِنْ كَانَ ( ذَلِكَ يُطْلَقُ ) عَلَيْهَا لُغَةً ، وَقِيلَ : إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِصْرً لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ إلَّا الْفَرَسَ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَالَ : ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ مِصْرَ فَإِنَّهُمْ يُطْلِقُونَ الدَّابَّةَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصِي بِغَيْرِ مِصْرَ لَمْ يُعْطَ إلَّا الْفَرَسَ ، وَإِنْ تَخَصَّصَتْ اللُّغَةُ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ ، وَهُجِرَ اسْتِعْمَالُ بَعْضِهَا ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا نَادِرًا أَوْ صَارَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا ، فَالْمُقَدَّمُ الْعُرْفُ ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْبَيْضَ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا يُزَايِلُ بَائِضَهُ أَيْ : يُفَارِقُهُ فِي الْحَيَاةِ كَبَيْضِ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَالْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ ، وَلَا يَحْنَثُ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ .
وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ يَحْنَثُ بِمَا يُبَاعُ ( مُفْرَدًا ) كَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ دُونَ رَأْسِ الْعَصَافِيرِ ( وَالْحِيتَانِ ) ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الرُّءُوسِ الَّتِي تُؤْكَلُ عَادَةً وَهِيَ مَشْوِيَّةٌ أَوْ الْمَصْلُوقَةُ عَلَيْهَا فَلَمْ يَتَعَارَضْ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ وَاللُّغَةُ ، بَلْ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِ التَّسْمِيَةِ .
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ لَوْ قَالَ : زَوْجَتِي طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقُ سَائِرُ زَوْجَاتِهِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ ، وَإِنْ كَانَ ( وَضْعُ ) اللُّغَةِ يَقْتَضِي الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ إذَا أُضِيفَ عَمَّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ الْأَلِفُ
وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ .
وَلَوْ أَوْصَى ( لِلْقُرَّاءِ ) فَهَلْ يَدْخُلُ مَنْ لَا يَحْفَظُ وَيَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ فِيهِ وَجْهَانِ يُنْظَرُ فِي أَحَدِهِمَا إلَى الْوَضْعِ ، وَفِي الثَّانِي إلَى الْعُرْفِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، وَهَذَا لَفْظُ الرَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَافِي أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى ( لِلْفُقَهَاءِ ) فَهَلْ يَدْخُلُ الْخِلَافِيُّونَ الْمُنَاظِرُونَ ، قَالَ : ( وَيَحْتَمِلُ ) وَجْهَيْنِ ؛ لِتَعَارُضِ الْعُرْفِ وَالْحَقِيقَةِ .
تَنْبِيهٌ : مَوْضِعُ الْكَلَامِ فِي اعْتِبَارِ عُرْفِ اللَّفْظِ أَوْ اللَّافِظِ ( هُوَ فِي اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ فَيُعْتَبَرُ وَضْعُهُ عِنْدَ أَهْلِهِ ، فَأَمَّا الْأَعْجَمِيُّ فَيُعْتَبَرُ عُرْفُ اللَّافِظِ ) إذْ لَا وَضْعَ هُنَاكَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ .
وَلِهَذَا قَالَ الْقَفَّالُ فِيمَا إذَا حَلَفَ عَلَى الْبَيْتِ بِالْفَارِسِيَّةِ : لَا يَحْنَثُ بِبَيْتِ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ ( إذْ ) لَمْ يَثْبُتْ شُمُولُ اللَّفْظِ لَهُ فِي عُرْفِ الْفَارِسِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ رَأَيْت الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَآهُ غَيْرَهَا طَلُقَتْ إنْ عَلَّقَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَوْ عَلَّقَ بِالْعَجَمِيَّةِ نَصَّ الْقَفَّالِ أَيْضًا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُعَايَنَةِ سَوَاءٌ فِيهِ الْبَصِيرُ ، وَالْأَعْمَى ، وَادَّعَى أَنَّ الْعُرْفَ الشَّرْعِيَّ فِي حَمْلِ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ .
وَمَنَعَ الْإِمَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَ ( مَا يَسْكُنُهُ ) بِإِجَارَةٍ لَمْ يَحْنَثْ ، وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : إنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِالْفَارِسِيَّةِ حُمِلَ عَلَى ( الْمَسْكَنِ ) ، قَالَ الرَّافِعِيُّ ، وَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ، بَلْ مَادَّةُ الْفَرْقِ ( تُعْلَمُ مِمَّا ) ذَكَرْنَا .
الْحَالَةُ ( الثَّالِثَةُ ) تَعَارُضُ الْعُرْفِ الْعَامِّ ( وَالْخَاصِّ ) ، فَإِنْ كَانَ ( الْخُصُوصُ ) مَحْصُورًا لَمْ يُؤَثِّرْ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَادَةُ امْرَأَةٍ فِي الْحَيْضِ أَقَلَّ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ ( عَادَةِ ) النِّسَاءِ رَدَّتْ إلَى الْغَالِبِ فِي الْأَصَحِّ ، وَقِيلَ : تَعْتَبِرُ عَادَتَهَا .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْصُورٍ اُعْتُبِرَ ، كَمَا لَوْ جَرَتْ عَادَةُ قَوْمٍ بِحِفْظِ ( زُرُوعِهِمْ ) لَيْلًا وَمَوَاشِيهِمْ نَهَارًا فَهَلْ يَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْعُرْفِ الْعَامِّ ؟ فِي الْعَكْسِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا نَعَمْ .
الْبَحْثُ الثَّانِي : إذَا اطَّرَدَ الْعُرْفُ فِي نَاحِيَةٍ هَلْ يَطَّرِدُ فِي سَائِرُ النَّوَاحِي كَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتَ الشَّعْرِ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ قَرَوِيًّا ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي عُرْفِ الْبَادِيَةِ ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ فَأَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ بِغَيْرِ طَبَرِسْتَانَ حَنِثَ ، وَقِيلَ إنَّمَا يَحْنَثُ بِهِ بِطَبَرِسْتَانَ ؛ لِاعْتِيَادِهِمْ أَكْلَهُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ ، وَعَادَةُ بَلَدٍ بَيْعُ رُءُوسِ الْحِيتَانِ وَالصَّيُودِ مُنْفَرِدَةً حَنِثَ بِأَكْلِهَا هُنَاكَ ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا : الْحِنْثُ ، وَلَوْ جَرَتْ عَادَةُ ( قَوْمٍ ) .
وَيَجُوزُ إخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الْأَصَحِّ ، وَهَلْ ( يَخُصُّ ) أَهْلَ الْبَادِيَةِ أَمْ يَعُمُّ الْبَادِيَ وَالْحَاضِرَ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ كَجٍّ ، وَخَرَجَ عَنْ هَذَا صُوَرٌ : إحْدَاهَا : إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً ( لَمْ ) يَحْنَثْ بِالْحِمَارِ ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ مُطَّرِدًا بِتَسْمِيَتِهِ دَابَّةً .
الثَّانِيَةُ : لَوْ اشْتَهَرَ فِي بِلَادٍ اسْتِعْمَالُ الْحَرَامِ فِي الطَّلَاقِ ، فَفِي كَوْنِهِ كِنَايَةً أَوْ صَرِيحًا وَجْهَانِ ، أَمَّا فِي غَيْرِهَا فَهُوَ كِنَايَةٌ بِلَا خِلَافٍ ، قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ ، قِيلَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَرِيبَ إذَا تَلَفَّظَ ( بِهِ ) أُجْرِيَ عَلَيْهِ عُرْفُ بَلَدِهِ لَا عُرْفُ مَوْضِعِ الْحَلِفِ .
الثَّالِثُ : إذَا عَمّ الْعُرْفُ فِي نَاحِيَةٍ بِشَيْءٍ فَهَلْ يُجْعَلُ عُمُومُ الْعُرْفِ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ سَبَقَ فِي بَحْثِ ( الْعَادَةِ ) .
الرَّابِعُ : إذَا وَجَدْنَا اسْمًا مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَةِ وَاشْتَهَرَ الْعُرْفُ بِأَحَدِ مَدْلُولِيهِ ، فَهَلْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ أَمْ اللُّغَةُ ؟ ( يَتَخَرَّجُ ) فِيهِ خِلَافٌ ( مِمَّا ) لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدُمُ زَيْدٌ ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ لَفْظِ الْيَوْمِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ ( الْفَجْرِ ) إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَيُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْقِطْعَةِ مِنْ الزَّمَانِ .
( وَالضَّابِطُ ) فِي هَذَا أَنَّهُ ( إنْ ) كَانَ أَحَدُ الْمَدْلُولَيْنِ أَشْهَرَ فِي اللُّغَةِ وَوَافَقَهُ الْعُرْفُ قُدِّمَ ، وَإِنْ خَالَفَ الْعُرْفَ قُدِّمَ ؛ لِتَرْجِيحِهِ بِالْمَدْلُولِ الْآخَرِ .
( الْخَامِسُ ) قَالَ الْفُقَهَاءُ : كُلُّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا ، وَلَا ضَابِطَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا فِي اللُّغَةِ يَحْكُمُ فِيهِ الْعُرْفُ وَمَثَّلُوهُ ( بِالْحِرْزِ ) فِي السَّرِقَةِ ، وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ ، وَوَقْتِ الْحَيْضِ وَقَدْرِهِ ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ ، وَيَخْتَلِفُ الْحِرْزُ بِاخْتِلَافِ عَدْلِ السُّلْطَانِ وَجَوْرِهِ ، الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ .
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ ( نَاحِيَتِهِ ) فَمَا عَدُّوهُ حِرْزًا فَالْمَالُ مُحَرَّزٌ وَمَا لَا فَلَا ، وَمِنْهُ الِاكْتِفَاءُ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ بِالْمُقَارِنَةِ لِلتَّكْبِيرَةِ الْعُرْفِيَّةِ بِحَيْثُ يُعَدُّ مُسْتَحْضِرًا لِلصَّلَاةِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالُوا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ : إنَّهَا تُبْنَى أَوَّلًا عَلَى اللُّغَةِ ثُمَّ عَلَى الْعُرْفِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ ( الْعُرْفُ ) الشَّرْعِيُّ ثُمَّ الْعُرْفِيُّ ثُمَّ اللُّغَوِيُّ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَقَائِقِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي ( تُسْتَنْبَطُ ) مِنْهَا الْأَحْكَامُ فَيُقَدَّمُ ( فِيهَا ) الشَّرْعِيُّ عَلَى الْعُرْفِيِّ ، كَبَيْعِ الْهَازِلِ وَطَلَاقِهِ فَإِنَّهُ نَافِذٌ ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعُرْفِ لَا يُنَفِّذُونَهُ ، وَيُقَدَّمُ الْعُرْفِيُّ فِيهِمَا عَلَى اللُّغَوِيِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ طَارِئٌ عَلَى اللُّغَةِ فَهُوَ كَالنَّاسِخِ .
وَهُنَا تَنْبِيهَانِ " : الْأَوَّلُ : إنَّهُمْ لَمْ يَجُرُّوا هَذَا الْأَصْلَ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ ، وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى الْعُرْفِ فِيمَا لَا ضَابِطَ لَهُ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا ( فِي ) اللُّغَةِ ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْبَيْعِ لَا تَصِحُّ ، وَلَوْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهَا فِيمَا يَعُدُّونَهُ بَيْعًا ، وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ اسْتِصْنَاعِ الصُّنَّاعِ الْجَارِيَةِ عَادَتُهُمْ بِالْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا ( إذَا ) لَمْ يَشْرِطُوهُ ،
وَالْمَسْأَلَتَانِ مِنْ مَنَاصِيصِ ( الْإِمَامِ ) الشَّافِعِيِّ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) ، ( وَكَذَلِكَ ) إذَا أَوْجَبْنَا الْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ فَلَا يَرْجِعُ فِي ضَبْطِهَا لِلْعُرْفِ فِي الْأَصَحِّ وَضَبَطُوهُ بِأَنْ تَمْضِيَ مُدَّةٌ يَجِفُّ فِيهَا الْعُضْوُ الَّذِي قَبْلَهُ ، ( وَكَذَلِكَ ) إذَا أَوْجَبْنَا إيصَالَ الْمَاءِ إلَى ( بَاطِنِ ) الشَّعْرِ الْخَفِيفِ لَا يُرْجَعُ فِي ضَبْطِ الْخِفَّةِ لِلْعُرْفِ فِي الْأَصَحِّ وَضَبَطُوهُ بِمَا تُرَى مِنْهُ الْبَشَرَةُ فِي مَجْلِسِ التَّخَاطُبِ .
وَمِنْهَا الْمَرْأَةُ الْمُخَدَّرَةُ ( تُعْفَى ) عَنْ الْإِحْضَارِ لِلدَّعْوَى عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَرْجِعُوا فِي ( ضَبْطِ ) التَّخْدِيرِ لِلْعُرْفِ ، وَاخْتَلَفُوا ( هُمْ فِيهِ ) : فَقِيلَ : مَنْ لَا يَكْثُرُ خُرُوجُهَا لِلْحَاجَاتِ ، وَقِيلَ : مَنْ لَا تَحْضُرُ الْأَعْرَاسَ ، ( وَقِيلَ : ) غَيْرُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : سَكَتُوا عَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَابِطٌ فِي الْعُرْفِ أَيْضًا ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ عَلَى الْإِجْمَالِ ، وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ مَالٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِ تَحْدِيدٌ مُقَدَّرٌ فِي الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ ، فَيَبْقَى عَلَى إجْمَالِهِ وَيَرْجِعُ إلَى ( الْمُقِرِّ ) فِي بَيَانِهِ .
وَأَمَّا مَالِكٌ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَقَالَ أَقَلُّ ( مَالٍ ) يُطْلَقُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ نِصَابُ الزَّكَاةِ ( فَأَلْزَمَهُ ) بِهِ ، وَعُورِضَ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ ، وَلِهَذَا رَدَّهُ غَيْرُهُ إلَيْهِ .
( السَّادِسُ ) الْعُرْفُ تَارَةً يَكُونُ قَوْلِيًّا وَتَارَةً ( يَكُونُ ) فِعْلِيًّا ( وَفَرْقٌ ) بَيْنَ قَوْلِنَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمُسَمَّى ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا جَرَتْ بِفِعْلِ هَذَا الْمُسَمَّى ، وَالْأَوَّلُ الْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ ، وَالثَّانِي الْفِعْلِيُّ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَخْصِيصِ الْأَلْفَاظِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عُرْفًا لَهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَيْهَا ، بَلْ سُلْطَانُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ ، وَالْعُرْفُ الْقَوْلِيُّ سُلْطَانُهُ عَلَى الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ عُرْفٌ لَهَا ( فَيُخَصِّصُهَا ) وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عُرْفًا لَهَا .
وَيُبْنَى عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ السُّلْطَانَ مَثَلًا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبِسُ ثَوْبًا أَوْ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَأَكَلَ خُبْزَ الشَّعِيرِ أَوْ لَبِسَ الْكِرْبَاسَ يَحْنَثُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ تَنَاوُلِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ رُءُوسًا فَأَكَلَ رُءُوسَ السَّمَكِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ خَصَّصَ الرُّءُوسَ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ ( التَّخْصِيصَيْنِ ) مَا ذَكَرْنَا .
( السَّابِعُ ) أَنَّ الْعُرْفَ الَّذِي تُحْمَلُ الْأَلْفَاظُ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْمُقَارِنُ ( أَوْ ) السَّابِقُ ، وَأَغْرَبُ مَنْ حَكَى فِي جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ قَوْلَيْنِ .
وَبَنَى بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَطَالَةِ فِي الْمَدَارِسِ فَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ تَرْكُ الدُّرُوسِ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ ، ( فَكُلُّ ) مَدْرَسَةٍ وُقِفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ ( وَاقِفُهَا ) لِذَلِكَ يَنْزِلُ لَفْظُهُ عَلَى الْعَادَةِ ، وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ قَبْلَ هَذِهِ الْعَادَةِ أَوْ مَا شَكَّ فِيهِ هَلْ هُوَ قَبْلَهَا فَلَا يَنْزِلُ عَلَى الْعُرْفِ الطَّارِئِ ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ : مَا وَقَعَ مِنْهَا فِي رَمَضَانَ وَنِصْفِ شَعْبَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ حَيْثُ لَا ( نَصَّ ) مِنْ الْوَاقِفِ عَلَى اشْتِرَاطِهِ ( الِاشْتِغَالَ ) فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَمَا يَقَعُ مِنْهَا قَبْلَهُمَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا عُرْفٌ مُسْتَمِرٌّ وَلَا وُجُودَ لَهَا فِي أَكْثَرِ الْمَدَارِسِ وَالْأَمَاكِنِ فَإِنْ ( اتَّفَقَ ) ( بِهَا ) عُرْفٌ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ ، ( وَاشْتُهِرَ ) غَيْرُ مُطَّرِدٍ فَيَجْرِي فِيهَا فِي ذَلِكَ ( الْبَلَدِ ) الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْعُرْفَ الْخَاصَّ هَلْ يَنْزِلُ فِي التَّأْثِيرِ مَنْزِلَةَ الْعَامِّ ، وَالظَّاهِرُ تَنْزِيلُهُ فِي أَهْلِهِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ انْتَهَى .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْبَطَالَةَ مِنْ نِصْفِ شَعْبَانَ إلَى آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ الْعُرْفُ بِهَا مُسْتَمِرٌّ ( شَائِعٌ ) وَالْمُضْطَرِبُ مَا قَبْلَ ذَلِكَ .
الثَّانِيَةُ : كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ ، قَالَ ابْنُ عَبْدَانِ مُنِعَ مِنْ بَيْعِهَا ( ، وَأَوْجَبَ ) رَدُّ مَنْ حَمَلَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : هِيَ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَنَّ الْعَادَةَ اسْتَمَرَّتْ قَدِيمًا ، بِأَنَّهَا تُبَدَّلُ كُلَّ سَنَةٍ ، وَيَأْخُذُ بَنُو شَيْبَةَ تِلْكَ الْعَتِيقَةَ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا ( بِالْبَيْعِ ) وَغَيْرِهِ ، وَيُقِرُّهُمْ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ ، فَلَا تَرَدُّدَ فِي جَوَازِهِ .
( وَأَمَّا بَعْدَ
مَا اتَّفَقَ ) فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ وَقْفِ الْإِمَامِ ضَيْعَةً مُعَيَّنَةً عَلَى أَنْ يُصْرَفَ رِيعُهَا فِي كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَلَا تَرَدُّدَ فِي الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ هَذِهِ ( الْعَادَةِ ) وَالْعِلْمِ بِهَا فَيَنْزِلُ لَفْظُ الْوَاقِفِ عَلَيْهَا ، قُلْت : وَالْأَشْبَهُ صَرْفُهَا فِي مَصَالِحِ الْكَعْبَةِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا سَدَنَتُهَا ، إلَّا بِالتَّصْرِيحِ .
قُلْت : وَثَالِثَةٌ : وَهِيَ الْأَوْقَافُ الْقَدِيمَةُ الْمَشْرُوطُ نَظَرُهَا لِلْحَاكِمِ ، وَكَانَ الْحَاكِمُ إذْ ذَاكَ شَافِعِيًّا ، وَيَسْتَنِيبُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ ثُمَّ إنَّ ( الْمَلِكَ الظَّاهِرَ ) أَحْدَثَ الْقُضَاةُ ( الثَّلَاثَةُ ) سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ ، فَمَا كَانَ مَوْقُوفًا قَبْلَ حُدُوثِ هَذَا الْعُرْفِ اخْتَصَّ نَظَرُهُ بِالشَّافِعِيِّ ، وَلَا يُشَارِكُهُ ( فِيهِ ) غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ عُرْفٌ حَادِثٌ ، وَمَا أُطْلِقَ مِنْ النَّظَرِ بَعْدَ هَذَا الْعُرْفِ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ ؛ لِتَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْعُرْفِ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ غَالِبًا لَا يَفْهَمُونَ عِنْدَ إطْلَاقِ الْحَاكِمِ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ لَا سِيَّمَا مَعَ قَرِينَةِ أَنَّ نَظَرَ الْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ إلَيْهِ .
الثَّامِنُ : ذَكَرَ الْإِمَامُ فِيمَا لَوْ شَدَّ الْمُحْرِمُ عَلَى رَأْسِهِ خَيْطًا لَا فِدْيَةَ ، وَلَوْ شَدَّ عِصَابَةً عَرِيضَةً افْتَدَى ، قَالَ : وَلَيْسَ مَعَنَا تَوْقِيفٌ نَتْبَعُهُ ، وَالْقَصْدُ ( مَا ) يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سَاتِرًا لِلرَّأْسِ أَوْ لِبَعْضِهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيمَا وَرَدَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ أَنْ يُتَلَقَّى مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ ، ( وَلِذَلِكَ ) يَقَعُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إحَالَةً عَلَى ( مَا يَبْتَدِرُهُ ) إفْهَامُ الْفَاهِمِينَ فِي عَادَاتِ التَّخَاطُبِ ، قَالَ : وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ الْعِنَايَةُ إلَى مِثْلِهِ ، وَلَا ( يَحِلُّ ) لِلْمُرَاجَعِ أَنْ يُحِيلَ الْجَوَابَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَفْتَى وَيَرُدَّهُ إلَى ( حُكْمِ ) الْعَادَةِ .
الْعَزْمُ عَلَى الْإِبْطَالِ مُبْطِلٌ وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْحَالِ أَمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ فَإِنْ ) نَوَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَطَلَتْ فِي الْحَالِ ؛ لِمُنَافَاةِ مُوجِبِهَا ، وَهُوَ الدَّوَامُ ، وَقِيلَ : لَا تَبْطُلُ فِي الْحَالِ وَلَهُ رَفْضُهُ .
وَمِثْلُهُ لَوْ خَطَا فِي الصَّلَاةِ خُطْوَةً ، وَعَزَمَ عَلَى أَنَّهُ يَخْطُو ثَلَاثًا بَطَلَتْ فِي الْحَالِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ ، أَمَّا لَوْ نَوَى أَنْ ( يَفْعَلَ ) فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُبْطِلًا ، كَالْكَلَامِ فَلَا تَبْطُلُ قَطْعًا ؛ ( لِأَنَّهُ جَازِمٌ ، وَالْجَزْمُ فِعْلُ الْمُنَافِي ) وَلَمْ يُوجَدْ ، كَذَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ .
وَإِذَا نَوَى قَطْعَ الصَّوْمِ ( أَوْ الِاعْتِكَافِ ) ( فَالْأَصَحُّ ) لَا يَضُرُّ كَالْحَجِّ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَبْطُلُ فَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْحَالِ أَوْ يَمْضِي قَدْرَ فِطْرِهِ ؟ وَجْهَانِ .
الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ عَقَدْتُ الْحَبْلَ إذَا جَمَعْتُ أَجْزَاءَهُ ( جَمْعًا ) خَاصًّا ، ( ثُمَّ نُقِلَ إلَى الشَّيْءِ الْمَعْقُودِ مَجَازًا ) ، وَهُوَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الْمَجْمُوعَةِ مِنْ تَسْمِيَةِ ( الْمَفْعُولِ ) بِاسْمِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِمْ دِرْهَمٌ ضَرْبِ الْأَمِيرِ ثُمَّ نُقِلَ شَرْعًا إلَى ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ الِالْتِزَامِيِّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا .
وَلِلْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ اعْتِبَارَاتٌ الْأَوَّلُ : بِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ ، وَعَدَمِهِ إلَى ضَرْبَيْنِ : عَقْدٌ يَنْفَرِدُ بِهِ الْعَاقِدُ ، وَعَقْدٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُتَعَاقِدَيْنِ .
فَالْأَوَّلُ عَقْدُ التَّدْبِيرِ ( وَالنُّذُورِ ) وَالْيَمِينِ وَالْوُقُوفِ ، إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْقَبُولُ فِيهِ وَالصَّلَاةُ إلَّا الْجُمُعَةَ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ ، وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْهُ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ إذَا كَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَإِنَّمَا هُمَا رَفْعٌ لِلْعَقْدِ .
وَالثَّانِي : يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْجَوَازِ وَاللُّزُومِ إلَى أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالصُّلْحِ وَالْحَوَالَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْهِبَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْخُلْعِ .
الثَّانِي : لَازِمٌ فِيهِمَا فِي الْأَصَحِّ وَهِيَ الْمُسَابَقَةُ .
الثَّالِثُ : جَازَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ قَطْعًا كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ ، وَالْقَرْضِ وَالْجَعَالَةِ قَبْلَ فَرَاغِ الْعَمَلِ .
الرَّابِعُ لَازِمٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ جَائِزٌ مِنْ الْآخَرِ قَطْعًا كَالْكِتَابَةِ لَازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ جَائِزَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ ، وَكَذَا الرَّهْنُ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ بَعْدَ الْقَبْضِ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْمُرْتَهِنِ ، وَالضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَانِ مِنْ جِهَةِ الْمَضْمُونِ لَهُ دُونَ الضَّامِنِ ، ( وَكَعَقْدِ الْأَمَانِ ) جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَمَّنِ لَهُ نَبْذُهُ مَتَى شَاءَ ، وَيَصِيرُ حَرْبِيًّا لَمَّا يَبْلُغَ الْمَأْمَنَ ، وَلَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَمِّنِ لَا يَجُوزُ لَهُ نَبْذُهُ ، إلَّا بِأَنْ يَظْهَرَ ( لَهُ خِيَانَتُهُ ) فَيَنْبِذُهُ حِينَئِذٍ قَالَهُ الْقَاضِي ( الْحُسَيْنُ ) وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ .
ثُمَّ هَذَا قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوجِبِ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْقَابِلِ كَمَا ( ذَكَرْنَا ) ، وَعَكْسُهُ وَيُتَصَوَّرُ فِي الْهِبَةِ لِلْأَوْلَادِ .
الْخَامِسُ لَازِمٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَفِي الْآخَرِ خِلَافٌ ، كَالنِّكَاحِ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ وَفِي الزَّوْجِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : جَائِزٌ ؛ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الطَّلَاقِ ، ، وَأَصَحُّهُمَا لَازِمٌ كَالْبَيْعِ ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى الطَّلَاقِ لَيْسَتْ ( تَجَوُّزًا إنَّمَا ) هُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَوَازُ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ : إنَّهُ الصَّحِيحُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَسَّمَهَا كَمَا قَالَ الرُّويَانِيُّ
إلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : - مَا لَا يَلْزَمُ وَلَا يُفْضِي إلَى اللُّزُومِ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ : الْوَكَالَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقِرَاضُ وَالْعَارِيَّةُ الْوَدِيعَةُ ، وَالْخِيَارُ فِيهَا مُؤَبَّدٌ .
وَلَوْ شَرَطَا إسْقَاطَهُ بَطَلَتْ .
- وَمَا لَا يَلْزَمُ فِي الْحَالِ وَيُفْضِي إلَى اللُّزُومِ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ : الْجَعَالَةُ ، وَالْعِتْقُ بِعِوَضٍ ، وَاسْتِهْلَاكُ الْمَالِ ( بِالضَّمَانِ ) ، كَقَوْلِهِ أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ ، وَالْقَرْضُ ، وَالْهِبَةُ .
فَيَكُونُ الْخِيَارُ لَهُمَا قَبْلَ اللُّزُومِ دُونَ مَا بَعْدَهُ لَوْ شَرَطَا إسْقَاطَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ ( بَطَلَتْ ) ، - وَمَا يَلْزَمُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ : الرَّهْنُ وَالضَّمَانُ وَالْكِتَابَةُ ، وَإِنْ شَرَطَا الْخِيَارَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي لَا خِيَارَ فِيهَا أَوْ إسْقَاطَهُ فِي جِهَةِ الِاخْتِيَارِ بَطَلَتْ .
- وَمَا يَلْزَمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَهُنَا ( تَنْبِيهَاتٌ ) : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْحَقِيقَةِ ثُلَاثِيَّةٌ : لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، جَائِزٌ مِنْهُمَا ، لَازِمٌ مِنْ أَحَدِهِمَا جَائِزٌ مِنْ الْآخَرِ ، وَأَمَّا الرَّابِعُ ، وَهُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقِسْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَهُوَ مَا لَيْسَ لَازِمًا وَلَا جَائِزًا ، فَعَقِيمٌ لَا يُتَصَوَّرُ إذْ الْعَاقِدُ إمَّا أَنْ يَمْلِكَ فَسْخَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا ( أَوْ لَا ) فَالْأَوَّلُ الْجَائِزُ وَالثَّانِي اللَّازِمُ .
وَلِهَذَا شُرِعَ فِيهِ الْخِيَارُ وَالْإِقَالَةُ دُونَ الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ عَزَلَ الْقَاضِي نَفْسَهُ لَا يَنْعَزِلُ ، إلَّا بِعِلْمِ مَنْ قَلَّدَهُ ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ ، وَاَلَّذِي فِي الْحَاوِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ إعْلَامِ الْإِمَامِ ، وَإِعْفَائِهِ .
الثَّالِثُ : مِنْ حُكْمِ اللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ وَالْجَائِزُ قَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَكَالْجَعَالَةِ تُعْقَدُ عَلَى رَدِّ الْآبِقِ .
وَاللَّازِمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ
خِيَارٌ مُؤَبَّدٌ ، وَلَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِمَا أَوْ ( بِمَوْتِ ) أَحَدِهِمَا أَوْ بِجُنُونِهِ أَوْ إغْمَائِهِ ، وَالْجَائِزُ بِخِلَافِهِ .
نَعَمْ إنْ كَانَ الْجَائِزُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ انْفَسَخَ كَالْبَيْعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ يَنْتَقِلُ لِلْوَارِثِ .
وَأَمَّا الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ فَتَبْطُلُ بِجُنُونِ السَّيِّدِ ، وَإِغْمَائِهِ دُونَ الْعَبْدِ فِي الْأَصَحِّ مَعَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ جِهَتِهِ ، وَمَصِيرُهَا إلَى اللُّزُومِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَتْ عَنْ الْقَاعِدَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا يُعْجِزُ نَفْسَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْفَسْخَ لَمْ يُؤَثِّرْ جُنُونُهُ .
الرَّابِعُ : مَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ آيِلٌ إلَى اللُّزُومِ ؟ لِأَنَّ كُلَّ جَائِزٍ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ إذَا لَمْ يَتَفَاسَخَا .
( وَالْجَوَابُ ) أَنَّ الْمُرَادَ آيِلٌ بِنَفْسِهِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ لَا بِفِعْلِ فَاعِلٍ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ ابْتِدَاءً إلَى أَنْ يُرِيدَ دَفْعَهَا .
( الْخَامِسُ ) : الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ إذَا اقْتَضَى فَسْخُهَا ضَرَرًا عَلَى الْآخَرِ امْتَنَعَ ، وَصَارَتْ لَازِمَةً ، وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ : لِلْوَصِيِّ عَزْلُ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ تَلَفُ الْمَالِ بِاسْتِيلَاءِ ظَالِمٍ مِنْ قَاضٍ ( وَغَيْرِهِ ) .
قُلْت وَيَجْرِي مِثْلُهُ فِي الشَّرِيكِ وَالْمُقَارَضِ ، وَقَدْ قَالُوا فِي ( الْعَامِلِ ) إذَا فُسِخَ الْقِرَاضُ : عَلَيْهِ التَّقَاضِي وَالِاسْتِيفَاءُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مِلْكٌ نَاقِصٌ ، وَقَدْ أُخِذَ مِنْهُ كَامِلًا فَلْيُرَدَّ ، كَمَا أُخِذَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَنِضَّ الْمَالُ وَيَعْلَمَ بِهِ الْمَالِكُ ، وَجَوَّزُوا لَهُ الْبَيْعَ بِعِوَضٍ وَيَشْتَرِي بِهِ ( الصِّحَاحَ ) ، وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْهُ .
الِاعْتِبَارُ الثَّانِي الْعَقْدُ إمَّا مَالِيٌّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَقِيقَةً كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ أَوْ حُكْمًا كَالْإِجَارَةٍ ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ .
وَمِثْلُهُ الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ أَوْ غَيْرُ مَالِيٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، كَمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ إذْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الطَّرَفَيْنِ كَفَّ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ ( الْإِغْرَاءِ ) بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَكَعَقْدِ الْقَضَاءِ .
أَوْ مَالِيٌّ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَالنِّكَاحِ ، وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الدَّمِ وَالْجِزْيَةِ .
وَغَيْرُ ( الْمَالِيِّ ) مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَشَدُّ لُزُومًا مِنْ الْمَالِيِّ فِيهِمَا إذْ يَجُوزُ فِي الْمَالِيِّ فَسْخُهُ ( بِعَيْبٍ ) فِي الْعِوَضِ ، كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ ، كَمَا فِي خِيَارِ الْعَيْبِ ، وَغَيْرِ الْمَالِيِّ ) لَا يُفْسَخُ أَصْلًا ، إلَّا ( لِحُدُوثِ ) مَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ .
وَيَنْقَسِمُ الْمَالِيُّ إلَى مَحْضٍ وَغَيْرِهِ ، فَيَقُولُونَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ وَغَيْرُ مَحْضَةٍ ، فَالْمَحْضَةُ ( الَّتِي ) يَكُونُ الْمَالُ فِيهَا مَقْصُودًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَالْمُعَاوَضَةُ غَيْرُ الْمَحْضَةِ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ إلَّا فِي الْخُلْعِ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ ( نَحْوَ إنْ طَلَّقْتنِي فَلَكَ أَلْفٌ ) .
الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ حَيْثُ اُعْتُبِرَ الْعِوَضُ فِي عَقْدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَعِوَضِ الْأُجْرَةِ إلَّا فِي الصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تُبْطِلُهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ ( مَرَدًّا ) مَعْلُومًا وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَجْهُولِ كَالْعِوَضِ فِي الْمُضَارَبَةِ ( وَالْمُسَاقَاةِ ) .
وَهُنَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : هَلْ يُكْتَفَى بِالْعِلْمِ الطَّارِئِ فِي حَرِيمِ الْعَقْدِ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( أَحَدُهَا ) مَا لَا يُكْتَفَى بِهِ قَطْعًا وَهُوَ الْقِرَاضُ وَالْقَرْضُ .
( وَالثَّانِي ) مَا لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْأَصَحِّ ، كَالْبَيْعِ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ يُعْلَمُ ( مِمَّا ) بَعْدُ كَالْبَيْعِ بِمَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ فَرَسَهُ وَنَحْوَهُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَبْطُلُ وَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِمَعْرِفَتِهِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَقِيلَ : يَصِحُّ إذَا حَصَلَتْ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ ، وَلَمْ يَحْكُوا مِثْلَهُ فِي الْقِرَاضِ ، لِأَنَّهُ لَا حَرِيمَ لَهُ .
( الثَّالِثُ ) مَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْأَصَحِّ كَالشَّرِكَةِ ( لَا ) يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِقَدْرِ النِّسْبَتَيْنِ فِي الْمَالِ ( الْمُخْتَلَطِ ) مِنْ كَوْنِهِ مُنَاصَفَةً أَوْ مُثَالَثَةً فِي الْأَصَحِّ ، إذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ مِنْ بُعْدٍ .
ثَانِيهِمَا : هَلْ يَكْفِي مُعَايَنَةُ الْحَاضِرِ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ ؟ هُوَ عَلَى ( ثَلَاثَةِ ) أَقْسَامٍ أَحَدُهَا : مَا يَكْفِي قَطْعًا كَالْبَيْعِ وَالصَّدَاقِ وَالْخُلْعِ .
الثَّانِي : مَا يَكْفِي عَلَى الْأَصَحِّ كَالسَّلَمِ وَفِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا نَعَمْ ، وَإِنَّمَا جَرَى الْخِلَافُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ يَطْرُقُهُ غَالِبًا ، وَحَيْثُ اتَّفَقَا وَتَنَازَعَا فِي قَدْرِهِ صُدِّقَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ .
الثَّالِثُ : مَا لَا يَكْفِي قَطْعًا ، وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ دَفْعًا لِجَهَالَةِ الرِّبْحِ ، وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ لَا يَصِحُّ جُزَافًا لِئَلَّا يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ الرَّدُّ ،
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَاضِرَ الْمَجْهُولَ الْقَدْرِ يُكْتَفَى بِهِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ قَطْعًا ، وَلَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْقِرَاضِ ، وَلَا الْقَرْضُ قَطْعًا ، وَفِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَرَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ قَوْلَانِ ، وَفِي الْأُجْرَةِ طَرِيقَانِ إنْ أَلْحَقْنَاهَا بِالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يُشْتَرَطْ مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ قَطْعًا ، وَإِنْ أَلْحَقْنَاهَا بِالسَّلَمِ جَرَى الْقَوْلَانِ .
وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ( الْمُعَاوَضَاتِ ) الَّتِي لَا يَطْرُقُهَا الْفَسْخُ غَالِبًا لَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْحَاضِرِ ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا اُعْتُبِرَ مَعْرِفَةُ الْحَاضِرِ ، وَمَا كَانَ يَطْرُقُهُ الْفَسْخُ ( وَيَحْتَاجُ ) إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ( وَلَمْ ) يُعْقَدْ لِيُفْسَخَ فَفِيهِ الْخِلَافُ .
الِاعْتِبَارُ الرَّابِعُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ( لَفْظًا ) مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، إلَّا إذَا ( اكْتَفَيْنَا ) بِالْمُعَاطَاةِ ، وَإِلَى مَا يُشْتَرَطُ ( فِيهِ ) الْإِيجَابُ وَيَكْفِي الْقَبُولُ بِالْفِعْلِ تَصَرُّفًا كَالْوَكَالَةِ فِي الْأَصَحِّ ، وَكَذَلِكَ الْوَدِيعَةُ وَالْجَعَالَةُ ، وَإِلَى مَا يَكْفِي فِيهِ لَفْظُ أَحَدِهِمَا مَعَ فِعْلِ الْآخَرِ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ الْعَارِيَّةُ فَيَقُولُ : أَعَرْتُك فَيَتَنَاوَلُهُ أَوْ يَقُولُ : أَعِرْنِي فَيُنَاوِلُهُ ، وَمِثْلُهُ الْوَدِيعَةُ ، وَكُلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ فَعَلَى الْفَوْرِ ، إلَّا الْوَصِيَّةَ فِي الْأَصَحِّ .
الِاعْتِبَارُ الْخَامِسُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى مَا يَرِدُ عَلَى ( الْعَيْنِ قَطْعًا ) كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ ، وَإِلَى مَا يَرِدُ عَلَى الْمَنَافِعِ ( فِي ) الْأَصَحِّ كَالْإِجَارَةِ .
وَلِهَذَا قَالُوا : هِيَ : تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ ، ( وَقَالَ ) أَبُو إِسْحَاقَ : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ ؛ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهَا الْمَنْفَعَةَ ، وَزَعَمَ الرَّافِعِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ إجَارَةِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ وَغَيْرِهِ .
( وَمِنْ ) ذَلِكَ النِّكَاحُ وَفِيهِ خِلَافٌ غَرِيبٌ حَكَاهُ ( صَاحِبُ الْمُحِيطِ ) أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْبُضْعِ ؛ لِأَنَّهَا الْمُسْتَوْفَاةُ أَوْ عَيْنُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ شَرْطٌ ( فِي ) صِحَّتِهِ وَجْهَانِ ، ( وَالْحَقُّ ) أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ لَا نَفْسَ الْمَنْفَعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْمَهْرُ لَهَا لَا لَهُ .
الِاعْتِبَارُ السَّادِسُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى مَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي لُزُومِهِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالضَّابِطُ أَنَّ ( مَا ) كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُوجِبِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصَّدَاقِ وَالْخُلْعِ .
وَمِثْلُهُ الْوَقْفُ ( عَلَى الْمَذْهَبِ وَأَغْرَبَ الْمَرْعَشِيُّ وَالْجَوْرِيُّ فَحَكَيَا قَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ ) عَلَى مُعَيَّنٍ ، وَمَا كَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، كَالرَّهْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنِ إلَّا بِإِقْبَاضِهِ ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَتَكُونُ الزَّوَائِدُ قَبْلَهُ لِلْوَاهِبِ ، وَكَذَا الْقَرْضُ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ فِي الْأَصَحِّ ، وَالثَّانِي بِالتَّصَرُّفِ ، وَأَمَّا الْعَارِيَّةُ فَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا هِبَةٌ لِلْمَنَافِعِ فَلَا تُمْلَكُ بِدُونِ الْقَبْضِ ، وَإِنْ قُلْنَا : إبَاحَةٌ فَلَا تُمْلَكُ كَطَعَامِ الضَّيْفِ ثُمَّ مَا اُشْتُرِطَ فِيهِ الْقَبْضُ فَإِنَّهُ يَضِيقُ فِيهِ ؛ لِبِنَائِهِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَيَكُونُ مِنْ ( الْجَانِبَيْنِ كَالرِّبَوِيَّاتِ ) وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا كَالسَّلَمِ فَإِذَا تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بَطَلَ .
وَأَيْضًا فَمِنْهُ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ الْحَقِيقِيُّ وَلَا يَكْفِي الْحُكْمِيُّ وَهُوَ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ ، وَلِهَذَا لَا تَكْفِي الْحَوَالَةُ وَلَا الْإِبْرَاءُ .
وَمِنْهُ مَا يَكْفِي فِيهِ الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ ، كَمَا إذَا أُثْبِتَ صَيْدٌ ، وَوَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ [ لَهُ ] بَيْعُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ ، وَصَرَّحَ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْقَفَّالِ بِأَنَّهُ إذَا أَفْلَتَهُ كَانَ فِي قَبْضِهِ حُكْمًا .
وَمِنْهُ الْأَرْزَاقُ الَّتِي يُخْرِجُهَا السُّلْطَانُ لِلنَّاسِ يَمْلِكُونَهَا قَبْلَ الْأَخْذِ ، إذَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ جَوَازَ بَيْعِهَا قَبْلَ قَبْضِهَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ .
وَلِهَذَا قَالُوا فِي كِتَابِ السِّيَرِ إنَّ أَفْرَازَ الْإِمَامِ لَا يُمْلَكُونَ ( بِهِ ) قَبْلَ اخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقَالُوا فِي كِتَابِ ( السَّلَمِ ) : يَجُوزُ جَعْلُ رَأْسِ الْمَالِ مَنْفَعَةَ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً ، وَيَتَعَيَّنُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ الْحَقِيقِيُّ اكْتَفَيْنَا بِهَذَا الْمُمْكِنِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ أَنَّ ( السَّلَمَ ) لَا يَكْفِي فِيهِ الْقَبْضُ الْحُكْمِيُّ .
وَلَوْ رَجَعَ الْأَبُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ مَلَكَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ ، وَلِهَذَا كَانَ ( لَهُ بَيْعُهُ ) قَبْلَ اسْتِرْدَادِهِ .
( تَنْبِيهٌ ) : مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ مَا يَكُونُ الْقَبْضُ فِيهِ مُعْتَبَرًا ؛ لِلُزُومِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ لَا لِانْعِقَادِهِ وَهُوَ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ ( خِيَارِ ) الْمَجْلِسِ فِيهِ قَبْلَ التَّقَابُضِ .
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الْقَبْضُ فِيهِ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ كَالْهِبَةِ فَإِنَّ الْعَقْدَ فِيهَا ( لَا يُوصَفُ قَبْلَ ) الْقَبْضِ بِهِبَةِ وَلَا عَدَمِهَا ، كَمَا قَبْلَ الْقَبُولِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آثَارَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ وُجِدَتْ هُنَاكَ مِنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَحُرْمَةِ التَّفَرُّقِ قَبْلَ ( التَّقَابُضِ ) ، وَالْمِلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ ( وَعَدَمُهُ ) بِخِلَافِ عَقْدِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ تَعَرَّضَ فِي الْمَطْلَبِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ لِفَرْقٍ ضَعِيفٍ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ فَلَا عَقْدَ ، وَمَنْ تَجَوَّزَ وَقَالَ : بَطَلَ الْعَقْدُ ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ إذَا لَمْ يَقْبَلْ الْمُخَاطَبُ بَطَلَ الْإِيجَابُ فَهَذَا بُطْلَانُ مَا لَمْ يَتِمَّ لَا بُطْلَانُ مَا تَمَّ .
الِاعْتِبَارُ السَّابِعُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى ( مَا يُوجَدُ ) فِيهِ مَقْصُودٌ وَاحِدٌ وَإِلَى مَا يَجْمَعُ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَصَاعِدًا كَبَيْعِ حُقُوقِ الْأَمْلَاكِ ( وَكَبَيْعِ ) رَأْسِ الْجِدَارِ أَوْ سَطْحِهِ لِلْبَقَاءِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِيهِ ( شَوْبَ ) بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ ، أَمَّا الْبَيْعُ فَلِلتَّأْبِيدِ ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَإِنَّ ( الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مَنْفَعَةٌ ) ( فَقَطْ ) وَمِنْهُ الْقِرَاضُ قَالَ الْمُتَوَلِّي ابْتِدَاؤُهُ يُشْبِهُ الْوَكَالَةَ بِالْجُعْلِ وَانْتِهَاؤُهُ يُشْبِهُ الشَّرِكَةَ عَلَى قَوْلِنَا يَمْلِكُ حِصَّتَهُ بِالظُّهُورِ ، وَيُشْبِهُ الْجَعَالَةَ إنْ قُلْنَا : يَمْلِكُ ( بِالْقِسْمَةِ ) وَلَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي عَشَرَةَ أَمْدَادٍ مِنْ مَالِك قَالَ الصَّيْمَرِيُّ : فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : قَرْضٌ فِيهِ وَكَالَةٌ ، وَالثَّانِي : وَكَالَةٌ فِيهَا قَرْضٌ .
( وَقَالَ ) غَيْرُهُ ( : الشِّرَاءُ ) فَاسِدٌ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا ، وَقَالَ : أَقْرَضْتُك ( وَمَهْمَا ) فَتَحَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ فَائِدَةٍ كَانَ بَيْنَنَا فَعَلَى وَجْهٍ قَرْضٌ فَاسِدٌ ( وَعَلَى وَجْهٍ قِرَاضٌ فَاسِدٌ ) ذَكَرَهُ الشَّاشِيُّ .
الِاعْتِبَارُ الثَّامِنُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَإِلَى مَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ ( وَهُوَ الْفَاسِدُ ) وَسَيَأْتِي فِي حَرْفِ الْفَاءِ ، إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُقُودِ مَا حَكَمُوا بِصِحَّتِهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُرَتِّبُوا عَلَيْهَا الْمَقْصُودَ ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا إجَارَةً عَيْنِيَّةً فَإِنَّهُمْ صَحَّحُوا الْعَقْدَ فِي الْأَصَحِّ وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا : يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَنَافِعِ فِي الْحَالِ .
وَمِثْلُهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ حَرَامٍ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ، وَلَزِمَهُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : الْجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَفَاسِدُهَا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْإِذْنِ ، لَكِنَّ خَصَائِصَهَا تَزُولُ بِفَسَادِهَا فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ الْعُقُودِ إلَّا مُقَيَّدَةً ( بِالْفَاسِدِ ) .
وَالثَّانِي : اللَّازِمَةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا ( لَا ) يَتَمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ كَالْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ فِي لُزُومِ الْإِتْمَامِ ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَالْخُلْعُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ ، وَإِلَى مَا يَتَمَكَّنُ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا قُلْتُمْ إنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْإِذْنِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ إذَا ( فَسَدَتْ ) قِيلَ : لَا يَصِحُّ ، لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ( الْبَيْعَ ) وُضِعَ لِنَقْلِ الْمِلْكِ بِالْإِذْنِ ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ الْمِلْكِ لَا مِنْ الْإِذْنِ بِخِلَافِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْإِذْنِ .
( وَثَانِيهِمَا ) : أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْبَيْعِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ عِوَضِهِ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ الْعِوَضُ انْتَفَى الْإِذْنُ ، وَالْوَكَالَةُ إذْنٌ مُطْلَقٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ .
الِاعْتِبَارُ التَّاسِعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى الْعَيْنِ عَقْدَانِ لَازِمَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَيَجُوزُ بِاعْتِبَارَيْنِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إيرَادَ الْعَقْدِ عَلَى الْعَقْدِ ضَرْبَانِ : ( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَكُونَ قَبْلَ لُزُومِ الْأَوَّلِ وَإِتْمَامِهِ ، فَهُوَ إبْطَالٌ لِلْأَوَّلِ إنْ صَدَرَ مِنْ الْبَائِعِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ ( فِي ) زَمَنِ الْخِيَارِ ، أَوْ آجَرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَهُوَ فَسْخٌ ، وَإِمْضَاءٌ لِلْأَوَّلِ إنْ صَدَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي هَذَا ( إذَا قَبَضَهُ ) فَلَا يَصِحُّ ( بَيْعُ ) الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَلَوْ مِنْ الْبَائِعِ فِي الْأَصَحِّ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بَعْدَ لُزُومِهِ وَتَمَامِهِ ، وَهُوَ ضَرْبَانِ .
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ مَعَ غَيْرِ الْعَاقِدِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ( إبْطَالٌ ) لِحَقِّ الْأَوَّلِ ( لَغَا ) ، كَمَا ( إذَا ) رَهَنَ دَارِهِ ، ثُمَّ بَاعَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، وَكَذَا لَوْ آجَرَهَا مُدَّةً ( يَحِلُّ ) الدَّيْنُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ( إبْطَالٌ ) لِلْأَوَّلِ صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ ، كَمَا لَوْ آجَرَ دَارِهِ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ ( آخَرَ ) يَصِحُّ ، فَإِنَّ مَوْرِدَ الْبَيْعِ الْعَيْنُ وَالْإِجَارَةُ الْمَنْفَعَةُ ، وَبِهَذَا يَضْعُفُ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ : إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ الْعَيْنُ ، وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ قَطْعًا ، كَمَا لَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِبَيْعِ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ فَتَبْقَى فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ وَيَتَخَيَّرَ الْمُشْتَرِي إنْ جَهِلَ وَلَا أُجْرَةَ ( لَهُ ) الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعَ الْعَاقِدِ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا كَانَ ( مَوْرِدُهُمَا ) مُخْتَلِفًا صَحَّ قَطْعًا ، كَمَا لَوْ آجَرَ دَارِهِ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ صَحَّ ، وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ ( فِي ) الْأَصَحِّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَ بِأَمَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا يَصِحُّ ، وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ ، قَالُوا : لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ النِّكَاحِ فَسَقَطَ الْأَضْعَفُ بِالْأَقْوَى ، وَاسْتَشْكَلَهُ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي
الْإِجَارَةِ ، وَكَمَا ( لَوْ ) رَهَنَهُ دَارًا ( ثُمَّ آجَرَهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ، وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الرَّهْنُ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ ، قَالَ : وَهَكَذَا لَوْ كَانَ ) ( مُكْرًى ) مِنْهُ ثُمَّ رَهْنَهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَرَدَ عَلَى مَحَلٍّ غَيْرِ الْآخَرِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَالرَّهْنَ عَلَى الرَّقَبَةِ .
وَإِنْ كَانَ مَوْرِدُهُمَا وَاحِدًا ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ زَوْجَتَهُ ؛ لِإِرْضَاعِ وَلَدِهِ ، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا عَقْدًا آخَرَ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ ، وَالْأَصَحُّ كَمَا ( قَالَهُ ) الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ : إنَّهُ يَجُوزُ ، وَيَكُونُ الِاسْتِئْجَارُ مِنْ حِينِ يَتْرُكُ الِاسْتِمْتَاعَ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِلْخِدْمَةِ شَهْرًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ تِلْكَ الْمُدَّةُ ؛ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ عَمَلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي النَّفَقَاتِ ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ .
وَمِنْهُ يُؤْخَذُ امْتِنَاعُ اسْتِئْجَارِ الْعَكَّامِينَ ( عَلَى ) الْحَجِّ .
وَهَذَا مِنْ قَاعِدَةِ شَغْلِ الْمَشْغُولِ وَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ ( شَغْلِ ) الْفَارِغِ .
الِاعْتِبَارُ الْعَاشِرُ : لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ إلَّا ( شَيْئَيْنِ ) النِّكَاحُ وَالسَّلَمُ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ : اشْتَرَيْت مِنْك ثَوْبًا صِفَتُهُ ( كَذَا ) بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ انْعَقَدَ بَيْعًا عَلَى الْأَصَحِّ .
الِاعْتِبَارُ الْحَادِيَ عَشَرَ : الْعُقُودُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ ظَاهِرًا إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ وَلِهَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ صُدِّقَ مُدَّعِي الصِّحَّةَ ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ فِي وَاقِعَةٍ ، وَثَبَتَ ( عِنْدَهُ ذَلِكَ ) وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْأَوْضَاعَ الشَّرْعِيَّةَ فِي حُكْمِهِ ( أَنَّهُ يُعْمَلُ ) بِحُكْمِهِ إذَا كَانَ حَاكِمًا شَرْعِيًّا ، وَلَا يَتَوَقَّفُ إلَى حَيْثُ ( يَثْبُتُ ) أَنَّ حُكْمَهُ وَفْقَ الشَّرَائِطِ ، قَالَ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَبْعَدُ دَرَجَةً مِنْ ( الَّتِي ) قَبْلَهَا ( إلَّا أَنَّ ) الَّتِي قَبْلَهَا ( تَشْتَرِكُ ) مَعَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا فِي كَوْنِهَا ( عَقْدًا ) .
الْعَمَلُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ : كُلَّمَا كَثُرَ وَشَقَّ كَانَ أَفْضَلُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) { أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِهَذَا كَانَ فَصْلُ الْوِتْرِ أَفْضَلَ مِنْ وَصْلِهِ .
وَمِنْ ثَمَّ احْتَجَّ الْمُزَنِيّ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَفْرَادِ ( بِأَنَّ ) مَا كَثُرَ عَمَلُهُ كَانَ أَفْضَلَ ثَوَابًا ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْضُلُهُ إذَا حَجَّ فِي سَنَةٍ وَاعْتَمَرَ فِي أُخْرَى .
وَقَدْ يَفْضُلُ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ فِي صُوَرٍ : أَحَدُهَا الْقَصْرُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِتْمَامِ ( عَلَى الْمَشْهُورِ ) إذَا بَلَغَ ثَلَاثَ مَرَاحِلَ ، وَقَدْ يَفْضُلُ الْإِتْمَامُ عَلَى الْقَصْرِ فِي صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ .
الثَّانِيَةُ : إذَا قَدِمَ مِنْ السَّفَرِ الطَّوِيلِ ، وَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ دُونَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ كَذَا قَالَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
{ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمْ يَزَلْ يَقْصُرُ حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ } الثَّانِيَةُ : الضُّحَى إذَا قُلْنَا : أَكْثَرُهَا ثَنَتَا عَشْرَةَ فَإِنْ فِعْلَهَا ثَمَانِيًا أَفْضَلُ ؛ لِأَجْلِ التَّأَسِّي بِفِعْلِ النَّبِيِّ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّالِثَةُ : الْوِتْرُ بِثَلَاثٍ أَفْضَلُ مِنْهُ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْبَسِيطِ ، وَفَرْضُ الْخِلَافِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْوَاحِدَةِ ( وَبَيْنَ الثَّلَاثِ ) ، وَالْإِحْدَى عَشْرَةَ ، ( وَقَالَ : لَمْ ) يَصِرْ أَحَدٌ إلَى تَفْضِيلٍ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ ، بَلْ حَمَلُوا الْأَحَادِيثَ فِيهِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ .
الرَّابِعَةُ : الصَّلَاةُ مَرَّةً فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً .
الْخَامِسَةُ : رَكْعَةُ الْوِتْرِ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ( عَلَى ) الْجَدِيدِ ، بَلْ مِنْ ( التَّهَجُّدِ ) فِي اللَّيْلِ ، وَإِنْ
كَثُرَتْ رَكَعَاتُهُ ذَكَرَهُ فِي الْمَطْلَبِ قَالَ : وَلَعَلَّ سَبَبَ الْفَضْلِ انْسِحَابُ ، حُكْمِهَا عَلَى مَا تَقَدُّمِهَا .
السَّادِسَةُ : تَخْفِيفُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِهِمَا .
السَّابِعَةُ : صَلَاةُ الْعِيدِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ مَعَ أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ أَشَقُّ وَأَكْثَرُ عَمَلًا ، ( إلَّا أَنَّ ) وَقْتَ ( صَلَاةِ ) الْعِيدِ ( فِيهِ ) شَرَفٌ فَكَانَ تَعْظِيمُهُ أَرْجَحَ مِنْ مَشَقَّةِ كَثْرَةِ الْعَمَلِ فِي الْكُسُوفِ ؛ وَلِأَنَّ الْعِيدَ مُؤَقَّتٌ فَأَشْبَهَ الْفَرَائِضَ بِخِلَافِ الْكُسُوفِ ، فَإِنَّهُ لَا وَقْتَ لَهُ ، وَإِنَّمَا شُرِعَ لِسَبَبٍ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ .
الثَّامِنَةُ : التَّصَدُّقُ بِالْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ أَكْلِ لُقَمٍ يَتَبَرَّكُ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِهَا .
التَّاسِعَةُ : الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ ( بِثَلَاثِ غُرَفٍ ) أَفْضَلُ مِنْ الْفَصْلِ ( بَيْنَهُمَا ) بِسِتِّ غَرَفَاتٍ .
الْعَاشِرَةُ : قِرَاءَةُ سُورَةٍ ( قَصِيرَةٍ فِي الصَّلَاةِ ) أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ بَعْضِ سُورَةٍ ، وَإِنْ طَالَتْ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَاقْتَضَاهُ إطْلَاقُ الرَّافِعِيِّ ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ تُخَالِفُهُ ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ الْمَعْهُودُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبًا وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ الْبَعْضُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ ، قِرَاءَةُ الْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِبِ ، وَقِرَاءَةُ الْآيَتَيْنِ مِنْ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ } فَإِنَّا نَقُولُ : فِي التَّأَسِّي بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَرْبُو عَلَى هَذِهِ الْحَسَنَاتِ ، وَلِهَذَا نَقُولُ : ( قِرَاءَةُ الْبَعْضِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَتَيْنِ كَامِلَتَيْنِ مَا عَدَا سُورَتَيْ ) الْإِخْلَاصُ ( وَالْكَافِرُونَ ) .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : تَفْضُلُ صَلَاةُ الصُّبْحِ مَعَ قَصَرِ رَكَعَاتِهَا عَلَى سَائِرُ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا الْوُسْطَى ، وَكَذَلِكَ ( الْعَصْرُ
عِنْدَ مَنْ جَعَلَهَا الْوُسْطَى مَعَ أَنَّهَا أَقْصَرُ مِنْ الظُّهْرِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَكَذَلِكَ فَضْلُ ) رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ عَلَى مِثْلِهَا مِنْ الرَّوَاتِبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ ( أَنْكَرَ إطْلَاقَ ) كَوْنِ الشَّاقِّ أَفْضَلُ ، وَقَالَ إنْ تَسَاوَى الْعَمَلَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ الثَّوَابُ عَلَى أَكْثَرِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } .
وَضَابِطُ الْفِعْلِ الشَّاقِّ الْمُؤْجَرِ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : إذَا اتَّحَدَ الْعَمَلَانِ فِي الشَّرَفِ ، وَالشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ( أَجْرَيْهِمَا ) ؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ ( وَانْفِرَادُ ) أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ ؛ لِأَجْلِ اللَّهِ ( تَعَالَى ) فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى غَيْرِ الشَّاقِّ ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ سَوَاءٌ فِي الْأَفْعَالِ وَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالُ فِي الشِّتَاءِ بِتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ ، فَلَيْسَ التَّفَاوُتُ فِي نَفْسِ الْعَمَلَيْنِ ، بَلْ فِيمَا لَزِمَ عَنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي قَاصِدِ الْمَسَاجِدِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ ، وَآخَرُ مِنْ بَعِيدَةٍ فَإِنَّ ثَوَابَهُمَا ( يَتَفَاوَتُ ) بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ ، وَيَتَسَاوَيَانِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِأَصْلِ الْعِبَادَةِ ، قَالَ : وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك أَوْ قَالَ عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِك } ، فَإِنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالنَّفَقَةِ فَوَاضِحٌ فَإِنَّ مَا ( يُنْفَقُ ) فِي طَاعَةِ اللَّهِ ( تَعَالَى ) يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَإِنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ عَلَى قَدْرِ ( تَحَمُّلِ ) نَصَبِك ، وَقَدْ قِيلَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ ( تَعَالَى ) : بِعَيْنِي مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَسَاوَ الْعَمَلَانِ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ أَشَقِّهِمَا بِدَلِيلِ الْإِيمَانُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَعَ
سُهُولَتِهِ وَخِفَّتِهِ عَلَى اللِّسَانِ ، وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ ، وَكَذَلِكَ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ مَعَ طِيبِ نَفْسٍ أَفْضَلُ مِنْ ( إعْطَائِهَا ) ( مَعَ ) الْبُخْلِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ ، ( وَكَذَلِكَ ) جَعَلَ ( النَّبِيُّ ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الْمَاهِرَ ) بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفْرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَجَعَلَ ( لِلَّذِي ) يَقْرَأَهُ ، وَيُتَعْتِعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ ( أَجْرَيْنِ ) قُلْت ( وَلِذَلِكَ ) أَجَابَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا لَمَّا سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُشْرَعُ لَهُ وَجْهُ بِرٍّ فَيَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَآخَرُ يُشْرَعُ لَهُ فَيُسَرُّ بِذَلِكَ فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ قَالَ : أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَهُوَ كَبِيرٌ فَشَقَّ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ } .
وَ ( هَذَا ) ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ الْمُكْرِهِ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ ( عَمَلَيْنِ ) ( جِهَادًا وَطَاعَةً ) أُخْرَى ، وَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ ، وَخَالَفَهُمْ ( الْجُنَيْدُ ) فِي جَمَاعَةٍ فَقَالُوا : الْبَاذِلُ لِذَلِكَ طَوْعًا أَفْضَلُ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ فِي طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ .
الثَّانِي : إذَا تَعَارَضَ الْعَمَلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ فِي نَفْسِهِ وَالْآخَرُ أَكْبَرَ عَدَدًا فَلَا تُطْلَقُ أَفْضَلِيَّةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ ( الْإِمَامُ ) الشَّافِعِيُّ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) : التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ سَمِينَةٍ ( أَفْضَلُ مِنْ التَّضْحِيَةُ بِشَاتَيْنِ ) هَزِيلَتَيْنِ ، وَالِاسْتِكْثَارُ فِي الْقِيمَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ ( اسْتِكْثَارِ الْعَدَدِ ) ، وَفِي الْعِتْقِ بِعَكْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا ( اللَّحْمُ ) ( وَالسِّمَنُ ) أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْعِتْقِ ( التَّخَلُّصُ ) مِنْ الرِّقِّ ، وَتَخْلِيصُ عَدَدٍ أَوْلَى مِنْ وَاحِدٍ .
وَمِثْلُ الْأُضْحِيَّةُ الْهَدْيُ وَالْعَقِيقَةُ ، وَفِي ( سُنَنِ أَبِي دَاوُد حَدِيثٌ فِي تَفْضِيلِ الْبَدَنَةِ السَّمِينَةِ ) نَعَمْ لَوْ لَمْ يَجِدْ فِي الْعَقِيقَةِ لِلذِّكْرِ إلَّا ثَمَنَ شَاةٍ سَمِينَةٍ ( قِيمَةُ ) مَهْزُولَتَيْنِ ، فَهَا هُنَا شِرَاءُ الْمَهْزُولَتَيْنِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ مَقْصُودٌ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ ( يُشْكِلُ ) فِي الْعِتْقِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : خَيْرُ الرِّقَابِ أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا } .
وَمِنْهَا إذَا تَعَارَضَ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ ، وَصَلَاةُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثٌ رِوَايَاتٍ ثَالِثُهَا التَّسْوِيَةُ ، وَمِثْلُهُ قِرَاءَةُ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِتَدَبُّرٍ ( وَالْآخَرُ ) يَقْرَأُ سُوَرًا عَدِيدَةً فِي ذَلِكَ ( الزَّمَنِ ) وَالْأَقْرَبُ تَرْجِيحُ ( الْمُتَفَكِّرِ ) عَلَى الْمُسْرِعِ .
وَمِنْهَا صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ مِنْ قِيَامٍ أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ قُعُودٍ .
الثَّالِثُ الْعَمَلُ الْمُتَعَدِّي أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ .
وَلِهَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَبُوهُ وَغَيْرُهُمْ بِتَفْضِيلِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى فَرْضِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ الْأُمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مُنَازَعَةٌ لِمَا سَبَقَ فِي حَرْفِ التَّاءِ فِي تَعَارُضِ الْفَرْضَيْنِ .
وَاسْتَنْبَطَ ( ابْنُ حِبَّانَ ) فِي صَحِيحِهِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ } أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَكُونُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى بِأَذَانِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ أَنْكَرَ هَذَا الْإِطْلَاقَ أَيْضًا وَقَالَ : قَدْ يَكُونُ الْقَاصِرُ أَفْضَلَ كَالْإِيمَانِ ، وَقَدْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّسْبِيحَ عَقِبَ الصَّلَاةِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَقَالَ : { خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } .
{ وَسُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ ، قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ } وَهَذِهِ كُلُّهَا قَاصِرَةٌ .
قُلْت : إلَّا الْجِهَادَ ثُمَّ اخْتَارَ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ ( فَضْلَ ) الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِحِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا فَتَصَدُّقُ الْبَخِيلِ بِدِرْهَمٍ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ ، وَصِيَامِ أَيَّامٍ .
الرَّابِعُ الْعَمَلُ يَنْقَسِمُ إلَى قَلْبِيٍّ وَبَدَنِيٍّ وَالْقَلْبِيُّ أَفْضَلُ ، وَمِنْ شَرَفِهِ أَنَّهُ لَا ( يَدْخُلُهُ ) الرِّيَاءُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ ، وَالرِّيَاءُ آفَةُ كُلِّ عِبَادَةٍ .
قَالَ الْحَلِيمِيُّ : ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ( تَعَالَى ) ( إذَا لَمْ يُعْمَلْ لِمُجَرَّدِ ) التَّقَرُّبِ بِهِ إلَيْهِ ( وَابْتِغَاءِ ) رِضَاهُ حَبَطَ وَلَمْ يَسْتَوْجِبْ ثَوَابًا إلَّا ( أَنَّ ) فِيهِ تَفْصِيلًا ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ ( إذَا ) كَانَ فَرْضًا فَمَنْ أَدَّاهُ ، وَأَرَادَ بِهِ الْفَرْضَ غَيْرَ أَنَّهُ أَدَّاهُ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ ؛ لِيَقُولَ ( النَّاسُ ) : إنَّهُ فَعَلَ كَذَا لَا طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ ، وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَمْ يُعَاقَبْ بِمَا يُعَاقَبُ بِهِ تَارِكُهُ أَلْبَتَّةَ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ ثَوَابًا ، وَإِنَّمَا ثَوَابُهُ ثَنَاءُ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَفَعَلَهُ يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ النَّاسِ ، فَإِنَّ أَجْرَهُ يَحْبَطُ وَلَا يَحْصُلُ مِنْ عَمَلِهِ عَلَى شَيْءٍ يَكُونُ لَهُ ، كَمَا حَصَّلَ الْأَوَّلُ سُقُوطَ الْفَرْضِ ثُمَّ الْعِقَابَ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ ( تَعَالَى ) .
الْخَامِسُ الْوَاجِبُ يَفْضُلُ الْمَنْدُوبَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةً كَمَا رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ ، ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّبْعِينَ لَيْسَتْ لِلْحَصْرِ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ } .
وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْقَرَافِيُّ أَنَّ الْمَنْدُوبَ قَدْ يَفْضُلُ الْوَاجِبَ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَأَخْرَجَهَا ، وَتَطَوَّعَ بِشَاتَيْنِ فَإِنَّ الشَّاتَيْنِ أَفْضَلُ ، وَكَذَلِكَ إبْرَاءُ الْمُعْسِرِ مِنْ الدَّيْنِ أَفْضَلُ مِنْ إنْظَارِهِ وَإِنْظَارُهُ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْفُقَرَاءِ " بِالشَّاتَيْنِ " أَوْسَعُ ، وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ وَالصَّوَابُ طَرْدُ الْقَاعِدَةِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ ، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ { سَبَقَ دِرْهَمٍ مِائَةَ أَلْفٍ } مَعَ أَنَّ التَّوْسِعَةَ بِالْأَلْفِ أَعْظَمُ مِنْهَا بِالْوَاحِدِ .
عِلَّةُ الْحُكْمُ إذَا زَالَتْ وَخَلَفَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى " اسْتَنَدَ " " الْحُكْمُ إلَى الثَّانِيَةِ وَلَغَتْ " الْأُولَى " .
وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَا بِطَلَاقٍ رَجْعِيٍّ فَفَرَّقَ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ثُمَّ قَامَتْ " بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ " بِرَضَاعٍ فَلَا رُجُوعَ وَمِنْهَا لَوْ قَذَفَهُ فَزَنَى سَقَطَ الْحَدُّ ، نَعَمْ لَوْ جَرَحَهُ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ ، وَمَاتَ لَمْ يَسْقُطْ أَرْشُ الْجِرَاحَةِ .
الْعَوْلُ زِيَادَةُ السِّهَامِ وَالرَّدُّ : نَقِيضُهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ : الْفَلَسُ وَالْفَرَائِضُ وَالْوَصَايَا إذَا أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ لِزَيْدٍ " وَبِنِصْفِ " مَالِهِ لِعَمْرٍو وَبِنِصْفِ مَالِهِ لِبَكْرٍ قُسِّمَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا .
وَيَجِيءُ فِي رَابِعٍ وَهُوَ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِيمَا لَوْ قَالَ وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو ، " لِزَيْدٍ " نِصْفُهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَاهَا فَيَأْتِي فِيهِ الْعَوْلُ ، وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَهَا فَيَأْتِي فِيهِ الرَّدُّ وَهُوَ غَرِيبٌ .
وَيَجِيءُ الْعَوْلُ فِي خَامِسٍ وَهُوَ الطَّلَاقُ لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَةً أَنْصَافِ طَلْقَةٍ فَإِنَّ الْأَجْزَاءَ مُضَافَةً إلَى الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثَةُ أَجْزَاءِ طَلْقَةٍ فَتَقَعُ طَلْقَةً .
وَلَوْ خَلَّفَ أَلْفًا فَادَّعَى وَاحِدٌ عَلَى الْوَارِثِ أَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ ، وَآخَرُ الْأَلْفَ دَيْنًا " فَصَدَّقَهُمَا " ، فَإِنْ صَدَّقَ مُدَّعِي الدَّيْنَ أَوَّلًا فَذَاكَ ، أَوْ مُدَّعِي الْوَصِيَّةَ " فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : يُقَدَّمُ ؛ لِتَقَدُّمِهَا .
وَالثَّانِي الدَّيْنُ كَمَا هُوَ وَضْعُ الشَّرْعِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا مَعًا فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا وَعُزِيَ لِلْأَكْثَرَيْنِ أَنَّهُ يُقَسِّمُ الْأَلْفَ أَرْبَاعًا إذْ يَحْتَاجُهَا لِلدَّيْنِ وَثُلُثُهَا لِلْوَصِيَّةِ " فَتَزَاحَمَا " عَلَى الْأَلْفِ .
فَيَخُصُّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثٍ عَائِلٍ وَهُوَ الرَّابِعُ ، وَالثَّانِي ، وَبِهِ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ : يُقَدَّمُ الدَّيْنُ كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ : وَهُوَ الْحَقُّ ، وَفِي هَذَا " الْفَرْعِ " لُغْزٌ ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ ، وَلَوْ عُدِمَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ وَمَنَعْنَا النَّقْلَ رُدَّ عَلَى الْبَاقِينَ وَقِيلَ يُنْقَلُ .
الْعُيُوبُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ الْأَوَّلُ - عَيْبُ " الْمَبِيعِ " وَهُوَ مَا " نَقَصَ " الْمَالِيَّةَ ، وَمِثْلُهُ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ .
الثَّانِي - عَيْبُ الْإِجَارَةِ " وَمَا " يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ تَأْثِيرًا يَظْهَرُ تَفَاوُتُ الْأُجْرَةِ بِهِ .
الثَّالِثُ - عَيْبُ الْغُرَّةِ كَالْبَيْعِ .
الرَّابِعُ - عَيْبُ الْكَفَّارَةِ مَا أَضَرَّ بِالْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ إضْرَارًا بَيِّنًا .
الْخَامِسُ - عَيْبُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ وَالْعَقِيقَةِ مَا يَنْقُصُ اللَّحْمَ .
السَّادِسُ - عَيْبُ النِّكَاحِ مَا يُنَفِّرُ عَنْ الْوَطْءِ " يَكْسِرُ شَهْوَةَ التَّوَّاقِ " .
السَّابِعُ - عَيْبُ الصَّدَاقِ إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَقَدْ تَعَيَّبَ بِمَا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ .
الثَّامِنُ - عَيْبُ الزَّكَاةِ قِيلَ كَالْأُضْحِيَّةِ .
الْعَيْبُ الْحَادِثُ فِي الْمَبِيعِ يَمْنَعُ الرَّدَّ إلَّا إذَا كَانَ بِطَرِيقِ اسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ ، وَمِنْهُ " التَّصْرِيَةُ فَإِنَّهَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ إذْ لَا " يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ إلَّا " بِالْجَلْبِ .
" " الْعَيْبُ الْمُوجِبُ لِفَسْخِ النِّكَاحِ إذَا عَلِمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ النِّكَاحِ فَلَا خِيَارَ لَهَا إلَّا الْعُنَّةَ فِي الْأَصَحِّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْبَرَصُ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُمْكِنُ زَوَالُهُ .
الْغَايَةُ الْأُولَى وَالْأَخِيرَةِ قَدْ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْبَيْعِ ، إذَا قَالَ : بِعْتُك مِنْ هَذَا الْجِدَارِ إلَى هَذَا الْجِدَارِ لَا تَدْخُلُ الْجُدْرَانُ فِي الْبَيْعِ ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْبَيْعِ " .
وَيَدْخُلَانِ فِي الطَّلَاقِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى " ثِنْتَيْنِ " يَقَعُ " الطَّلَاقُ " عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ .
وَمِثْلُهُ الضَّمَانُ فِي ضَمِنْتُ مِنْ وَاحِدٍ إلَى عَشَرَةٍ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ فِي الْمُحَرَّرِ وَصَحَّحَ فِي الْمِنْهَاجِ " تِسْعَةً " وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ الْمُحَرَّرُ فِي نَظِيرِ الْمَسْأَلَةِ " مِنْ " الْإِقْرَارِ .
وَلَوْ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ أَعْطُوهُ مِنْ وَاحِدٍ إلَى عَشَرَةٍ فَعَلَى أَوْجُهِ الْإِقْرَارِ ، وَحَكَى " الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ " أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْحِسَابَ فَلِلْمُوصَى لَهُ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ ؛ لِأَنَّهُ الْحَاصِلُ مِنْ " جَمْعِ " وَاحِدٍ إلَى عَشَرَةِ عَلَى " تَوَالِي " الْعَدَدِ .
وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الْحِسَابَ أُعْطِيَ الْمُتَيَقَّنُ ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَيَنْبَغِي طَرْدُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَبْوَابِ الْمُمْكِنِ فِيهَا .
غَالِبُ الْبَلَدِ يُعْتَبَرُ فِي مَسَائِلَ : مِنْهَا الشَّاةُ الْمُخْرَجَةُ عَنْ " الْإِبِلِ فِي الزَّكَاةِ " ، الْفِدْيَةُ فِي الْحَجِّ ، الْكَفَّارَاتُ الْمَرْتَبَةُ وَالْمُخَيَّرَةُ ، زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ ، نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ ، إبِلُ الدِّيَةِ " عَلَى " الْجَانِي وَالْعَاقِلَةِ ، تَقْوِيمُ " الْمُتْلَفِ " إنَّمَا يَكُونُ بِغَالِبِ الْبَلَدِ كَمَا " قَالَهُ " الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْطِ الْخَامِسِ مِنْ كِتَابِ الْبَيْعِ .
غَرِيمُ الْغَرِيمِ جَعَلُوهُ كَالْغَرِيمِ فِيمَا لَوْ ظَفِرَ بِمَالِ غَرِيمِ غَرِيمِهِ لَهُ أَخْذُهُ .
وَلَمْ يَجْعَلُوهُ كَهُوَ فِيمَا لَوْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُفْلِسُ لَا يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ فِي الْأَصَحِّ .
الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَضَابِطُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا قَالَهُ الْحَلِيمِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَالْقَاضِي الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ مَا شُرِعَ " لِسَبَبٍ " مَاضٍ كَانَ وَاجِبًا كَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْمَوْتِ .
وَمَا شُرِعَ لِمَعْنًى فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ مُسْتَحَبًّا كَأَغْسَالِ الْحَجِّ وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَنَحْوَهُ .
وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنْ الْأَوَّلِ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ .
قُلْت وَكَذَا الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ وَالْإِسْلَامُ .
غُسْلُ الْعِيدَيْنِ كَالْجُمُعَةِ إلَّا فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ غُسْلَ " الْعِيدِ " مُسْتَحَبٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ يَوْم غُسْلُ الْعِيدَيْنِ كَالْجُمُعَةِ إلَّا فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ غُسْلَ " الْعِيدِ " مُسْتَحَبٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ سُرُورٍ ، وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يُرِيدُ حُضُورَهَا فِي الْأَصَحِّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ الْغُسْلُ لِلْعِيدِ قَبْلَ الْفَجْرِ فِي الْأَصَحِّ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْجُمُعَةِ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ .
الْفَاسِدُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ الْأَوَّلُ : الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ عِنْدَنَا وَاسْتَثْنَى النَّوَوِيُّ الْحَجَّ وَالْخُلْعَ وَالْكِتَابَةَ وَالْعَارِيَّةَ ، وَصُورَةُ الْحَجِّ مَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا عَلَى الْمَذْهَبِ وَيَجِيءُ عَلَى وَجْهٍ فِيمَا إذَا أَحْرَمَ وَهُوَ مُجَامِعٌ .
وَحُكْمُ الْفَاسِدِ أَنَّهُ يَجِبُ الْمُضِيُّ " فِيهِ " ، بِخِلَافِ الْبَاطِلِ كَالرِّدَّةِ .
وَصُورَةُ الْخُلْعِ الْفَاسِدِ " أَنَّهُ يُوجِبُ " الْبَيْنُونَةَ وَيُفْسِدُ الْمُسَمَّى ، وَالْبَاطِلُ مَا أَسْقَطَ " الطَّلَاقَ " بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ أَسْقَطَ بَيْنُونَةً مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُلْغًى .
وَصُورَةُ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ مَا أَوْقَعَتْ الْعِتْقَ وَأَوْجَبَتْ عِوَضًا فِي الْجُمْلَةِ ، وَالْبَاطِلَةُ مَا لَا تُوجِبُ عِتْقًا أَصْلًا أَوْ أَوْجَبَتْهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ تَعْلِيقًا لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْعِوَضِ ، فَالْبَاطِلَةُ لَاغِيَةٌ وَالْفَاسِدَةُ تُشَارِكُ الصَّحِيحَةَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهَا .
وَصُورَةُ الْعَارِيَّةِ فِي إعَارَةِ النَّقْدِ " لِلتَّزْيِينِ " هَلْ تَصِحُّ ؟ وَجْهَانِ ، فَإِنْ صَحَّتْ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ وَإِنْ فَسَدَتْ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَاسِدِ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ وَالثَّانِي لَا تُضْمَنُ ؛ لِأَنَّهَا عَارِيَّةٌ بَاطِلَةٌ .
وَبَلَغَنِي عَنْ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ الْكَتَّانِيُّ " أَنَّهُ اسْتَدْرَكَ أَرْبَعَةً أُخَرَ ، وَهِيَ الْوَكَالَةُ وَالْإِجَارَةُ وَعَقْدُ الْجِزْيَةِ وَالْعِتْقُ ، وَنَحْتَاجُ لِتَصْوِيرِهَا ، فَالْوَكَالَةُ تَفْسُدُ بِالتَّعْلِيقِ وَيَسْتَفِيدُ بِهَا جَوَازَ التَّصَرُّفِ ، وَالْبَاطِلَةُ " لِاخْتِلَالِ " الْعَاقِدِ لَاغِيَةٌ ، كَتَوْكِيلِ الصَّبِيِّ وَكَذَا الْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ ، وَصُورَةُ الْعِتْقِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّهُ كَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ سَوَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ افْتِدَاءٌ .
وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ : " إنَّهُ " لَوْ قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَغْصُوبٍ فَفَعَلَ نَفَذَ الْعِتْقُ "
عَنْ " الْمُشْتَرِي ، وَلَزِمَهُ قِيمَةُ الْعَبْدِ كَمَا فِي الْخُلْعِ وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ الدَّمِ ، وَصُورَةُ الْجِزْيَةِ أَنْ تُعْقَدَ " بِإِخْلَالِ " شَرْطٍ وَحُكْمُهَا أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ بَعْضُهُمْ عَلَى حُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ عِنْدَنَا سَنَةً " أَوْ أَكْثَرَ " وَجَبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ سَنَةٍ دِينَارٌ وَلَا يَجِبُ الْمُسَمَّى ، وَأَمَّا الْبَاطِلَةُ فَبِأَنْ يَعْقِدَهَا بَعْضُ الْآحَادِ مَعَ الذِّمِّيِّ ، فَإِذَا أَقَامَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ سَنَةٍ دِينَارٌ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نَعَمْ ، كَمَا لَوْ فَسَدَ عَقْدُ الْإِمَامِ ، وَأَصَحُّهُمَا لَا ؛ لِأَنَّهُ لَغْوٌ ، وَصُورَةُ " الْإِجَارَةِ " .
الثَّانِي : فَاسِدُ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ ، وَمَعْنَى " ذَلِكَ " أَنَّ مَا اقْتَضَى صَحِيحُهُ الضَّمَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْعَمَلِ فِي الْقِرَاضِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ فَيَقْتَضِي فَاسِدُهُ " أَيْضًا الضَّمَانَ " ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِذَلِكَ ، وَمَا لَا يَقْتَضِي صَحِيحُهُ الضَّمَانَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ كَالرَّهْنِ وَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَالْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ ، وَالتَّبَرُّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لَا يَقْتَضِيهِ فَاسِدُهُ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لَهُ هُوَ الْعَقْدُ ، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ وَلَا الْيَدُ ؛ لِأَنَّهَا " إنَّمَا " جُعِلَتْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ كُلَّ حَالٍ ضُمِنَ " فِيهَا الْعَقْدُ " الصَّحِيحُ ضُمِنَ " فِي مِثْلِهَا الْفَاسِدُ " فَإِنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ لَا يَجِبُ فِيهِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا يُضْمَنُ الْعَيْنُ بِالثَّمَنِ وَالْمَقْبُوضُ " بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَجِبُ " فِيهِ " ضَمَانُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي " كَانَ فِي يَدِهِ " سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ أَمْ " تَلِفَتْ " تَحْتَ يَدِهِ ، وَالْمَهْرُ " فِي " النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَيَسْتَقِرُّ بِالْوَطْءِ ، وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْوَطْءِ ، " وَفِي الْإِجَارَةِ " الصَّحِيحَةِ تَجِبُ الْأُجْرَةُ " بِعَرْضِ الْعَيْنِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ " وَتَمْكِينُهُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ " يَقْبِضْهُ " ، وَفِي الْفَاسِدَةِ لَا تَجِبُ بِالْعَرْضِ ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ ، وَكَذَا يَفْتَرِقَانِ عَلَى وَجْهٍ فِي الْقَبْضِ إذَا لَمْ يَنْتَفِعْ فَفِي الصَّحِيحَةِ يَضْمَنُ الْأُجْرَةَ وَفِي الْفَاسِدَةِ لَا ، وَالْمَذْهَبُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِيهِ .
وَقَدْ اسْتَثْنَوْا مِنْ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ صُوَرًا .
أَمَّا الطَّرْدُ " فَالْأُولَى " : إذَا قَالَ : قَارَضْتُك عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِي ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قِرَاضٌ فَاسِدٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ أُجْرَةً فِي الْأَصَحِّ .
الثَّانِيَةُ : إذَا سَاقَاهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ "
جَمِيعَهَا لِرَبِّ الْمَالِ فَكَالْقِرَاضِ " الثَّالِثَةُ : إذَا سَاقَاهُ عَلَى وَدِيٍّ لِيَغْرِسَهُ وَيَكُونُ الشَّجَرُ بَيْنَهُمَا أَوْ لِيَغْرِسَهُ وَيَتَعَهَّدَهُ مُدَّةً وَالثَّمَرَةُ بَيْنَهُمَا ، فَالصَّحِيحُ فَسَادُهَا ثُمَّ إنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ " لَا تُتَوَقَّعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ الْوَجْهَانِ فِي اشْتِرَاطِ الثَّمَرَةِ " كُلِّهَا لِلْمَالِكِ ، كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ ، قَالَ " وَهَكَذَا " إذَا سَاقَاهُ عَلَى وَدِيٍّ مَغْرُوسٍ وَقَدْرِ مُدَّةٍ لَا يُثْمِرُ " فِيهَا فِي الْعَادَةِ .
" الرَّابِعَةُ " : إذَا اسْتَأْجَرَ أَبُ الطِّفْلِ أُمَّهُ لِإِرْضَاعِهِ وَقُلْنَا : لَا يَجُوزُ لَمْ تَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي الْأَصَحِّ .
الْخَامِسَةُ : إذَا اُسْتُؤْجِرَ الْمُسْلِمُ لِلْجِهَادِ وَقَاتَلَ وَقُلْنَا بِفَسَادِ " الْإِجَارَةِ " فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَهَلْ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ " الْغَنِيمَةِ " وَجْهَانِ " أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْهُ بِالْإِجَارَةِ " وَلَمْ يَحْضُرْ مُجَاهِدًا ، وَالْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ صَرَفَهُ بِالنِّيَّةِ إلَى نَفْسِهِ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ ؟ السَّادِسَةُ : إذَا قَالَ الْإِمَامُ لِمُسْلِمٍ : إنْ " دَلَلْتنِي " عَلَى قَلْعَةِ كَذَا فَلَكَ مِنْهَا جَارِيَةٌ وَلَمْ يُعَيِّنْهَا فَالصَّحِيحُ الصِّحَّةُ ، كَمَا لَوْ جَرَى مَعَ كَافِرٍ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْجَعَالَةُ فَدَلَّ لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً .
السَّابِعَةُ : إذَا صَدَرَ عَقْدُ الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ لَا يَصِحُّ فِي الْأَصَحِّ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى الذِّمِّيِّ فِيهِ فِي الْأَصَحِّ ، وَوَجَّهَهُ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْقَبُولَ مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الْإِيجَابَ لَغْوٌ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ شَيْئًا ، " وَقِيلَ " : لِكُلِّ سَنَةٍ دِينَارٌ ، كَمَا لَوْ " فَسَدَ " عَقْدُ الْإِمَامِ .
قُلْت : وَهَذَا مِنْ صُوَرِ الْبَاطِلَةِ لَا الْفَاسِدَةِ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ عَقْدٌ حَتَّى يُقَالَ : فَاسِدٌ ، " وَهَذَا " الْبَحْثُ يَطْرُقُ غَالِبَ " هَذِهِ " الصُّوَرِ ، وَيَظْهَرُ عَدَمُ اسْتِثْنَائِهَا .
وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي
الْحُسَيْنُ الْمُسَابَقَةَ وَالْمُنَاضَلَةَ ، فَإِنَّ صَحِيحَهُمَا مَضْمُونٌ بِالْمُسَمَّى ، وَفَاسِدَهُمَا لَا ضَمَانَ فِيهِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ فِيهِمَا وُجُوبُ الْأُجْرَةِ .
وَأَمَّا الْعَكْسُ فَصُوَرٌ .
مِنْهَا : الشَّرِكَةُ فَإِنَّ صَحِيحَهَا لَا يُوجِبُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا وَفَاسِدَهَا يُوجِبُهُ .
وَالْهِبَةُ الصَّحِيحَةُ لَا ضَمَانَ فِيهَا وَالْفَاسِدَةُ تُضْمَنُ عَلَى وَجْهٍ نُقِلَ " تَرْجِيحُهُ " عَنْ الشَّرْحِ الصَّغِيرِ .
وَلَوْ غَصَبَ عَيْنًا وَوَهَبَهَا أَوْ آجَرَهَا فَتَلِفَتْ فِي يَدِ " الْآخَرِ " كَانَ لِلْمَالِكِ مُطَالَبَتُهُ فِي الْأَصَحِّ ، وَإِنْ كَانَ " الْقَرَارُ " عَلَى الْغَاصِبِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْفَاسِدِ مَا يَشْمَلُ الْبَاطِلَ فَيَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ إعَارَةِ النَّقْدِ وَإِجَارَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُضْمَنُ إذَا قُلْنَا : يَبْطُلُ ، وَكَذَا الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ كَالصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِيمَا إذَا عَجَّلَ زَكَاتَهُ ثُمَّ ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ فَوَجَدَهُ تَالِفًا أَنَّ الْقَابِضَ يَضْمَنُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ فِيمَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ الرُّجُوعُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْقَبْضِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا ، لَكِنَّهُ " مُرَاعًى " ، نَعَمْ إذَا ظَهَرَ قَابِضُ الزَّكَاةِ " مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا " فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا لِكَوْنِ الْقَابِضِ " لَا " يَمْلِكُ بِهِ فَهَذَا مِنْ الْقَبْضِ الْبَاطِلِ لَا الْفَاسِدِ .
الثَّالِثُ : حُكْمُ فَاسِدِ الْعُقُودِ حُكْمُ صَحِيحِهَا " فِي " التَّغَابُنِ فِيمَا يُحَطُّ وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الرَّهْنِ أَنَّهُ إذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَقُلْنَا : لَا يَصِحُّ فَتَلِفَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي " مَاذَا " يَغْرَمُ ؟ " عَلَى " قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا ثَمَنُهُ ، وَالثَّانِي يُحَطُّ النَّقْصُ الْمُحْتَمَلُ فِي الِابْتِدَاءِ ، كَمَا إذَا " كَانَ " ثَمَنُهُ عَشْرَةً " وَيَتَغَابَنُ " فِيهِ بِدِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِثَمَانِيَةٍ يَغْرَمُ تِسْعَةً وَيَأْخُذُ الدِّرْهَمَ " الْبَاقِيَ " مِنْ الْمُشْتَرِي .
الرَّابِعُ : قَالَ الْعَبَّادِيُّ وَالْهَرَوِيُّ وَشُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ " فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ : كُلُّ عَقْدٍ " بِمُسَمًّى " فَاسِدٍ يُسْقِطُ الْمُسَمَّى إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَا إذَا عَقَدَ الْإِمَامُ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ " السُّكْنَى " بِالْحِجَازِ عَلَى مَالٍ " فَهَذِهِ " إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ ، فَلَوْ " سَكَنُوا " " سَنَةً " وَمَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْمُسَمَّى لِتَعَذُّرِ إيجَابِ عِوَضِ الْمِثْلِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ دَارِ الْإِسْلَامِ " سَنَةً " لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَابَلَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا فَيَتَعَيَّنُ إيجَابُ الْمُسَمَّى .
قُلْت : وَعَلَى قِيَاسِهِ لَوْ " سَكَنُوا " بَعْضَ الْمُدَّةِ وَجَبَتْ الْحِصَّةُ مِنْ الْمُسَمَّى وَبِهِ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ .
وَيَلْتَحِقُ بِهَا صُوَرٌ : مِنْهَا : لَوْ قَالَ : أَحْرِقْ ثَوْبِي أَوْ أَهْدِمْ دَارِي أَوْ أَتْلِفْ هَذَا الطَّعَامَ بِشَرْطِ أَنْ تَضْمَنَ ذَلِكَ " لِي " بِعَبْدٍ صِفَتُهُ ، كَذَا بِصِفَةِ السَّلَمِ فَإِنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ إذَا أَقْدَمَ عَلَى الْإِتْلَافِ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى دُونَ الْقِيمَةِ فِي الْمُتَقَوِّمِ دُونَ " الْمِثْلِ " فِيمَا لَهُ مِثْلٌ ، نَقَلَ هَذِهِ الصُّورَةَ صَاحِبُ كِتَابِ جَوَاهِرِ التَّنْبِيهِ " .
وَمِنْهَا : لَوْ عَقَدَ الْإِمَامُ الذِّمَّةَ لِجَمَاعَةٍ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَهَذَا عَقْدٌ فَاسِدٌ ، ثُمَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ إذَا مَضَتْ السَّنَةُ ، إلَّا الْقَدْرَ الْمُسَمَّى دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ قَالَ : لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْبِذَ الْعَهْدَ إلَيْهِمْ حَتَّى يُجَدِّدُوا عَقْدًا صَحِيحًا .
وَمِنْهَا : لَوْ اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ الْعَامِلَ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ " قِيلَ " : يَجِبُ الْمُسَمَّى وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ مَالِهِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِفَسَادِ الْإِجَارَةِ .
وَمِنْهَا : لَوْ بَذَلَ " الْمَالِكُ " طَعَامَهُ لِلْمُضْطَرِّ " " بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فَالْأَقْيَسُ لُزُومُهُ ، وَقِيلَ : ثَمَنُ الْمِثْلِ وَقِيلَ : إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْمُضْطَرِّ " لِيَسَارِهِ لَزِمَتْهُ وَإِلَّا فَلَا
وَهَذَا الْخِلَافُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْأَخْذِ قَهْرًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ فَهُوَ مُحْتَارٌ فِي الِالْتِزَامِ فَيَلْزَمُهُ قَطْعًا .
الْخَامِسُ : الْفَاسِدُ لَا يُمْلَكُ فِيهِ شَيْءٌ " وَيَلْزَمُهُ " الرَّدُّ وَمُؤْنَتُهُ وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ لِقَبْضِ الْبَدَلِ وَلَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ إنْ عَلِمَ الْفَسَادَ وَكَذَا إنْ جَهِلَ فِي الْأَصَحِّ .
وَيُسْتَثْنَى صُورَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ فِيهَا أَكْسَابَهُ .
الثَّانِيَةُ : إذَا صَالَحَنَا كَافِرًا بِمَالٍ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ فَدَخَلَ وَأَقَامَ ، فَإِنَّا نَمْلِكُ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْفِرِنْجِ عَلَى " زِيَارَتِهِمْ " بَيْتَ لَحْمٍ " وَكَنِيسَةَ قُمَامَةَ " " فَإِنَّهُ " يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ ، كَمَا يَمْلِكُونَهُ بِالْمُصَالَحَةِ " عَلَى " دُخُولِ الْحَرَمِ .
السَّادِسُ : الْفَاسِدُ مِنْ الْعُقُودِ لَا يُوجِبُ الْمَالَ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ : الصَّدَاقُ وَالْخُلْعُ وَكُلُّ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ إذَا عُلِّقَ فَسَدَ بِالتَّعْلِيقِ إلَّا فِي الْخُلْعِ وَالْعِتْقِ بِأَنْ يَقُولَ : أَنْتَ حُرٌّ غَدًا عَلَى أَلْفٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ ، وَكَذَا الْبَيْعُ الضِّمْنِيُّ " فِيمَا " لَوْ قَالَ : الْمَالِكُ لِغَيْرِهِ : عَبْدِي عَنْك حُرٌّ بِأَلْفٍ إذَا جَاءَ الْغَدُ ؛ فَقَالَ الْمُخَاطَبُ : قَبِلْت ؛ عَتَقَ وَهَلْ تَجِبُ قِيمَتُهُ أَوْ الْمُسَمَّى ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي كَتَعْلِيقِ الْخُلْعِ .
السَّابِعُ : لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ إلَّا فِي صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِحُرَّةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَتُهُ صَدَاقَهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ ، قَالَ الرَّافِعِيُّ : فِيهِ احْتِمَالٌ لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَيْ وَهُوَ صَاحِبُ الشَّامِلِ .
الثَّانِيَةُ : نِكَاحُ الشِّغَارِ وَهُوَ إذَا قَالَ : زَوَّجْتُك بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَك ، وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الْأُخْرَى فَزَوَّجَهُ فَالنِّكَاحَانِ بَاطِلَانِ .
الثَّامِنُ : الْفَاسِدُ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ كَالصُّوَرِ السَّابِقَةِ فِي الْحَجِّ وَالْكِتَابَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْخُلْعِ " وَمَا أُلْحِقَ بِهَا وَالْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ يَحْصُلُ الْعِتْقُ فِيهَا " بِالْأَدَاءِ " ، وَكَذَا الْوَكَالَةُ الْفَاسِدَةُ " يَنْفُذُ " التَّصَرُّفُ مِنْ الْوَكِيلِ فِيهَا ، وَكَذَا التَّسْمِيَةُ الْفَاسِدَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ تُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ كَالْخُلْعِ .
التَّاسِعُ : الْفَاسِدُ مِنْ الْعُقُودِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِذْنِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ الْمَأْذُونِ صَحَّتْ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ إذَا أَفْسَدْنَاهَا فَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ صَحَّ لِوُجُودِ الْإِذْنِ ، وَطَرَدَهُ الْإِمَامُ فِي سَائِرِ صُوَرِ الْفَسَادِ ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ : لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ أَوْ صَدَرَتْ الْإِجَارَةُ بِشَرْطٍ فَقَطَعَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّهُ إذَا صَحَّ انْصَرَفَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ حَسَنٌ صَحِيحٌ لِصِحَّةِ الْإِذْنِ ، وَهُوَ " بِمَثَابَةِ " الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ عِوَضٍ " لِلْوَكِيلِ " فَاسِدٍ ، " فَالْإِذْنُ " صَحِيحٌ وَالْعِوَضُ فَاسِدٌ ، " قَالَ " : وَهَذَا يَظْهَرُ جَرَيَانُهُ فِيمَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِذْنِ الْمُجَرَّدِ وَالْحَجُّ كَذَلِكَ .
قُلْت : " وَقَضِيَّةُ " جَرَيَانِهِ فِيمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَوْلَى بِتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهَا فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فَلَوْ زَوَّجَ صَحَّ نَظَرًا لِبَقَاءِ الْإِذْنِ ، لَكِنَّ كَلَامَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ يُخَالِفُهُ .
الْعَاشِرُ : الْفَاسِدُ مِنْ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا إذَا اطَّلَعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَجَبَ " عَلَيْهِ فَسْخُهُ " إذَا رُفِعَ إلَيْهِ ، وَهَلْ يَفْسَخُهُ قَبْلَ التَّرَافُعِ خِلَافٌ حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ فِي الِاسْتِذْكَارِ وَمَحَلُّهُ فِيمَا لَمْ يُعْطَ فِيهِ الْفَاسِدُ بَعْضَ حُكْمِ الصَّحِيحِ فَإِنْ أُعْطِيَ كَالْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ الْإِبْطَالُ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ السَّيِّدِ صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَيَلْتَحِقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : الْعَقْدُ الْفَاسِدُ تَعَاطِيهِ حَرَامٌ وَقَدْ سَبَقَ أَحْكَامُهُ " فِي حَرْفِ التَّاءِ " .
الثَّانِيَ عَشَرَ : لَا يَدْخُلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا فِي صُوَرٍ : مِنْهَا : الْحَجُّ " يَحْنَثُ بِفَاسِدِهِ " كَصَحِيحِهِ .
وَمِنْهَا : إذْنُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَمِنْهَا : لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ ضَمِنْت لِي " خَمْرًا " فَأَنْتَ حُرٌّ فَضَمِنَهَا عَتَقَ قَالَهُ الْأَصْحَابُ عِنْدَ عِتْقِ أَمَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا وَاسْتَشْكَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ " بِمَنْ حَلَفَ " لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ .
وَمِنْهَا : حَلَفَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ وَهُوَ جُنُبٌ حَنِثَ قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ .
وَمِثْلُهُ : حَلَفَ لَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ فَوَطِئَ فِي الدُّبُرِ حَنِثَ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَهُوَ مُنَازَعٌ فِيهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ حَنِثَ بِالْمِيتَةِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى وَجْهٍ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْقَبْضُ الْفَاسِدُ لَا أَثَرَ لَهُ إلَّا " فِيمَا " إذَا وَقَعَ فِي ضِمْنِ إذْنٍ " فَيَبْرَأُ " إلْغَاءً لِلْفَاسِدِ وَإِعْمَالًا لِلصَّحِيحِ ، وَلِذَلِكَ صُوَرٌ : إحْدَاهُمَا : لَوْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ مُقَدَّرٌ عَلَى زَيْدٍ وَلِعَمْرٍو عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَقَالَ : اقْبِضْ مِنْ زَيْدٍ مَا لِي عَلَيْهِ لِنَفْسِك فَفَعَلَ فَالْقَبْضُ فَاسِدٌ وَتَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ الدَّافِعِ عَنْ دَيْنِ الْآخَرِ فِي الْأَصَحِّ ، قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، فِيمَا إذَا بَاعَ نُجُومَ الْكِتَابَةِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي هَلْ يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ ؟ قُلْت : لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ هُنَاكَ أَنَّهُ " لَا " يُعْتَقُ ، وَيَحْتَاجُ " لِلْفَرْقِ " .
الثَّانِيَةُ " : فِي قِسْمِ الصَّدَقَاتِ الْأَحْوَطُ الصَّرْفُ إلَى السَّيِّدِ بِإِذْنِ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ ، وَلَكِنْ يَسْقُطُ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِقَدْرِ الْمَصْرُوفِ مِنْ النُّجُومِ .
الثَّالِثَةُ : إذَا فَسَدَتْ وِلَايَةُ الْعَامِلِ وَقَبَضَ الْمَالَ مَعَ فَسَادِهَا بَرِئَ الدَّافِعُ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يَبْقَى وَإِنْ فَسَدَتْ الْوِلَايَةُ نَعَمْ لَوْ نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ بَعْدَ فَسَادِهَا لَمْ يَبْرَأْ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَوَجْهَانِ كَالْوَكِيلِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ قِسْمِ الْفَيْءِ " وَالْغَنِيمَةِ " عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَفَسَادِهَا ؟ قُلْنَا : قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : يَظْهَرُ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الدَّفْعِ مَعَ صِحَّةِ الْوِلَايَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِجْبَارُ مَعَ فَسَادِهَا .
الرَّابِعَةُ : إذَا تَبَايَعَ الْكُفَّارُ بُيُوعًا فَاسِدَةً وَتَقَابَضُوا ثُمَّ تَرَافَعُوا إلَيْنَا لَمْ يُنْقَضْ مَا فَعَلُوا لِانْتِهَاءِ الْأَمْرِ وَنِجَازِهِ فِي الشِّرْكِ مَعَ كَوْنِهِمْ " يُقِرُّونَ " .
نَعَمْ ، لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْذُ أَثْمَانِ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ فِي الْأَصَحِّ ، وَقَدْ خَالَفُوا هَذَا فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا تَقَابَضَا بَعْضَ الْعِوَضِ الْفَاسِدِ فِي حَالِ
الشِّرْكِ ثُمَّ تَرَافَعُوا إلَيْنَا فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُبْطِلُ هَذِهِ الْكِتَابَةَ وَمَا " يُسَلِّمُهُ " لَا يَقَعُ مَوْقِعَهُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تَنْبَرِمُ بِقَبْضِ بَعْضِ عِوَضِهَا قَالَ فِي الشَّامِلِ : وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكِتَابَةِ إنَّمَا يَقَعُ " بِتَسْلِيمِ الْكُلِّ ، وَلِهَذَا إذَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الصَّحِيحَةِ أَوْ الْفَاسِدَةِ وَعَجَّزَ نَفْسَهُ سَقَطَ مَا دَفَعَهُ وَعَادَ كُلُّهُ رَقِيقًا وَهَذَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْعُقُولِ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : فَاسِدُ الْعِبَادَاتِ لَا يَلْحَقُ بِصَحِيحِهِ إلَّا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ " فَإِنَّهَا " بِالْفَسَادِ يَنْقَطِعُ حُكْمُهَا وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ " عَهْدِهَا .
وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَجَبَ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ .
وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ " رَحِمَهُ اللَّهُ " فِي الْأُمِّ : وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمْضِي فِي فَاسِدِهِ إلَّا الْحَجَّ فَمَنْ أَفْسَدَ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ طَوَافًا وَمَضَى فِيهِ لَمْ يَجْزِهِ ، وَكَانَ عَاصِيًا .
" هَذَا " لَفْظُهُ .
وَفَرَّقَ الْأَصْحَابُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْقَوْلِ " فَلَمْ " يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفِعْلِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَجَّ لَمَّا جَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ مَعَ مَا يُضَادُّهُ وَهُوَ مَا إذَا أَحْرَمَ مُجَامِعًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ فَاسِدًا فَلِهَذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بِالْفَسَادِ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ " فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ " مَعَ مَضَائِهِ ، فَلِهَذَا خَرَجَ " مِنْهُ " بِالْفَسَادِ .
وَقَدْ يُورَدُ " عَلَى الْحَصْرِ فِي الْحَجِّ " أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : الصَّوْمُ فَإِنَّهُ إذَا أَفْسَدَهُ " لَزِمَهُ " الْإِمْسَاكُ ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْ الْمُفْطِرَاتِ وَهُوَ مِثْلُ الْحَجِّ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَعَلَى هَذَا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ جِمَاعٍ آخَرَ " لِاشْتِرَاكِ " الْعِبَادَتَيْنِ فِي أَنَّهُ ارْتَكَبَ " مَحْظُورًا " مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بَعْدَ إفْسَادِهَا ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ إفْسَادُ الصَّوْمِ وَهُوَ فَاسِدٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ .
الثَّانِي : لَوْ " اُضْطُرَّ " فِي صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ " إلَى " الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ عُذِرَ فِي الْأَصَحِّ وَنَقَلَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ نَصِّ " الْإِمَامِ " أَنَّهَا تَبْطُلُ وَيَمْضِي " فِي صَلَاتِهِ " وَيُعِيدُ وَقَدْ يُؤَوَّلُ قَوْلُهُ : " تَبْطُلُ " أَنَّهَا لَا
تُغْنِي عَنْ الْقَضَاءِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَمْضِي فِيهَا مَعَ الْحُكْمِ بِالْبُطْلَانِ ، وَسَبَقَ فِي نَصِّ الْأُمِّ التَّصْرِيحُ بِاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِذَلِكَ وَقَالُوا : الْفَاسِدُ لَا انْعِقَادَ لَهُ إلَّا فِي الْحَجِّ إذَا أَحْرَمَ مُجَامِعًا عَلَى وَجْهٍ أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ انْعَقَدَ عَلَى الْمَذْهَبِ .
وَقَدْ يُورَدُ عَلَى الْحَصْرِ التَّحَرُّمُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهُ فَاسِدٌ وَيَنْعَقِدُ نَفْلًا .
الْخَامِسَ عَشَرَ : مَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ " تَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ " ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَفْسَدَهَا مَعَ الْإِمْكَانِ ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ الْمُسَافِرُ وَنَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ مُطْلَقًا ثُمَّ أَفْسَدَهَا " وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا " " تَامَّةً " ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ بِالدُّخُولِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا تَامَّةً .
وَمِنْهَا : لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَفْسَدَ نُسُكَهُ بِالْجِمَاعِ وَجَبَ أَنْ يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ " وَإِنْ " جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ دَمٌ كَالْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ " ذَكَرَ " هَذِهِ الْقَاعِدَةَ صَاحِبُ الشَّامِلِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً .
وَهِيَ مَنْ أَدْرَكَ الْجُمُعَةَ " مَعَ الْإِمَامِ " ثُمَّ أَفْسَدَهَا يُعِيدُهَا ظُهْرًا ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ جُمُعَةً ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَأَفْسَدَهُ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ قَابِلٍ ، لِأَنَّ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ لَزِمَهُ بِالشُّرُوعِ ، وَقَدْ أَفْسَدَهُ " فَلَزِمَهُ " قَضَاؤُهُ عَلَى صِفَةِ مَا أَفْسَدَهُ .
السَّادِسَ عَشَرَ : فِي مَعْنَى إفْسَادِ الْعِبَادَةِ " مُنِعَ " انْعِقَادُهَا كَالْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَاسْتَدَامَ حَتَّى طَلَعَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ جَامَعَ بِالنَّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْجِمَاعِ " مَنَعَ " انْعِقَادَ الصَّوْمِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَفْسَدَهُ بَعْدَ الِانْعِقَادِ .
وَنَظِيرُهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ " أَبِيهِ " يَظُنُّ حُرِّيَّتَهَا وَهُوَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الْأَمَةُ لَمْ يُعْتَقْ الْوَلَدُ عَلَى الْجَدِّ " وَوَجَبَ " عَلَى الِابْنِ قِيمَةُ الْوَلَدِ " لِأَبِيهِ " وَإِنَّمَا غَرِمَهَا ؛ لِأَنَّهُ بِظَنِّهِ الْحُرِّيَّةَ مَنَعَ انْعِقَادَ الْوَلَدِ رَقِيقًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ .
الْفِدْيَةُ تُفَارِقُ الْكَفَّارَةَ " فِي " أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ تَقَدَّمَ ، بِخِلَافِهِ الْفِدْيَةُ ، كَذَا قَالَ الْحَلِيمِيُّ .
وَالْفِدْيَةُ تَدْخُلُ فِي الصَّوْمِ لِلْعَاجِزِ عَنْهُ بِالْهَرَمِ وَالْمَرَضِ وَالْمَوْتِ ، وَكَذَا الْإِفْطَارُ لِلْمُرْضِعِ خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ .
" قَالَ " : وَفِدْيَةُ الْحَجِّ عِشْرُونَ " دَمًا " : دَمُ التَّمَتُّعِ ، وَالْقِرَانِ ، وَالْفَوَاتِ ، وَالْإِحْصَارِ ، وَالتَّأْخِيرِ إلَى الْمَوْتِ ، وَالْإِفْسَادِ ، وَالِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْإِفْسَادِ ، وَالْمَبِيتِ " بِالْمُزْدَلِفَةِ " ، وَمِنًى - لَيَالِيَهَا - ، وَالْمِيقَاتِ ، وَالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَالرَّمْيِ ، وَالْحَلْقِ ، وَاللُّبْسِ ، وَالطَّيِّبِ ، وَقَصِّ الْأَظْفَارِ ، وَالصَّيْدِ ، وَنَبَاتِ الْحَرَمِ ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ ، وَتَرْكِ مَشْيِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى الْحَرَامِ إذَا نَذَرَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِدْيَةَ حَيْثُ وَجَبَتْ فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْمُدِّ ، إلَّا فِي فِدْيَةِ " الْأَدَاءِ " فَإِنَّهَا بِمُدَّيْنِ وَحَيْثُ وَجَبَتْ فَهِيَ عَلَى التَّرَاخِي كَأَكْلِ الْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ " الْهَرِمِ " إلَّا إذَا كَانَ بِسَبَبٍ " تَعَدَّى فِيهِ " ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ فَأَفْطَرَ يَوْمًا " تَعَدِّيًا " وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ لِآخَرِ " الصَّوْمِ " .
الْفَرْعُ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ يَسْقُطُ إذَا سَقَطَ الْأَصْلُ .
" وَلِهَذَا إذَا أَبْرَأَ الْمَضْمُونَ عَنْ الدَّيْنِ بَرِئَ الضَّامِنُ ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ فَرْعُهُ فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ " فَكَذَا الْفَرْعُ بِخِلَافِ عَكْسِهِ .
وَقَدْ يَثْبُتُ الْفَرْعُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ فِي صُوَرٍ : مِنْهَا : لَوْ قَالَ شَخْصٌ : لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو أَلْفٌ وَأَنَا ضَامِنٌ بِهِ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ فَفِي مُطَالَبَةِ " الضَّامِنِ بِالضَّمَانِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا نَعَمْ .
وَمِنْهَا : " إذَا " ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ مَعَ الْمَرْأَةِ وَأَنْكَرَتْ " ثَبَتَتْ " الْبَيْنُونَةُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ .
وَهَذَا مَجْزُومٌ بِهِ ، كَمَا جَزَمُوا فِيمَنْ قَالَ : بِعْت عَبْدِي مِنْ زَيْدٍ وَأَعْتَقَهُ زَيْدٌ " وَأَنْكَرَ " زَيْدٌ " أَوْ قَالَ " : بِعْته مِنْ نَفْسِهِ فَأَنْكَرَ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ " فِيهِمَا " وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْعِوَضُ .
وَمِنْهَا : لَوْ قَالَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ : فُلَانَةُ بِنْتُ أَبِينَا ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ ، فَفِي حِلِّهَا لِلْمُقِرِّ " بِهِ " وَجْهَانِ ، وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : إنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ النَّسَبِ " حَرُمَتْ وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ " ، فَوَجْهَانِ وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ فِي اللَّقِيطِ تَحْرِيمُهَا وَهُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ فَقَدْ ثَبَتَ الْفَرْعُ دُونَ الْأَصْلِ .
وَمِنْهَا : لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ أُخْتِي مِنْ النَّسَبِ وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ ، وَلَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ النَّسَبِ وَكَذَّبَتْهُ انْفَسَخَ " نِكَاحُهَا " عَلَى الْأَصَحِّ .
وَمِنْهَا : لَوْ ادَّعَتْ زَوْجِيَّةَ رَجُلٍ وَأَنْكَرَ فَفِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ .
وَمِنْهَا : ادَّعَتْ الْإِصَابَةَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَفِي " وُجُوبِ " الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ .
وَمِنْهَا : لَوْ كَانَ الْمُقِرُّ بِنَسَبِهِ عَبْدًا فِي التَّرِكَةِ فَفِي عِتْقِ نَصِيبِ الْمُقِرِّ وَجْهَانِ .
وَالضَّابِطُ : أَنَّا نَنْظُرُ فِي الْفَرْعِ فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِلُّ بِإِنْشَائِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ
" ثَبَتَ " قَطْعًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ وَإِنْ " اسْتَقَلَّ " لَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، بَلْ بِالْفَرْعِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِ كَالضَّامِنِ أَوْ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِإِنْشَائِهِ كَالْبَيْعِ فِي صُورَةِ الشُّفْعَةِ وَدَعْوَى الزَّوْجِيَّةِ جَاءَ الْخِلَافُ وَالْأَصَحُّ الثُّبُوتُ .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا دَعْوَى الْخُلْعِ مَعَهَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الرَّجْعَةُ قَطْعًا وَقِيَاسُهُ مَجِيءُ الْوَجْهَيْنِ .
فِرَقُ النِّكَاحِ كَثِيرَةٌ وَأَجْنَاسُهَا ثَلَاثَةٌ مَوْتٌ وَطَلَاقٌ وَفَسْخٌ أَمَّا فُرْقَةُ الْمَوْتِ فَيَنْتَهِي النِّكَاحُ بِنِهَايَتِهِ ، وَيُقَالُ : انْتَهَى النِّكَاحُ ، لَا بَطَلَ .
وَلَوْ اطَّلَعَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى عَيْبِ الْآخَرِ فَهَلْ يُفْسَخُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجْهَانِ ، أَصَحُّهُمَا لَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ مُدَّةُ الْعُمْرِ وَقَدْ فَرَغَ .
وَأَمَّا فُرْقَةُ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَلَيْسَ رَافِعًا لِلْعَقْدِ ، بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ مِنْ " مُقْتَضَيَاتِ " عَقْدِ النِّكَاحِ كَالْعِتْقِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمِلْكِ .
وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْحَاوِي وَالْمُهَذَّبِ فِي تَوْجِيهِ فَسْخِ الْبَيْعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ أَنَّهُ رَفْعُ عَقْدٍ جُعِلَ إلَى اخْتِيَارِهِ كَالطَّلَاقِ قَالَ صَاحِبُ الْوَافِي " وَفِي جَعْلِهِمَا " الطَّلَاقَ رَفْعَ عَقْدٍ فِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي إلَّا أَنْ " يُرِيدَا " " رَفْعَ حُكْمِ " الْعَقْدِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ رَفْعَ الْعَقْدِ بِالْخِيَارِ لَيْسَ بِرَفْعِ نَفْسِ الْعَقْدِ بَلْ حُكْمِهِ ، لَكِنَّ مَوْضُوعَ الْخِيَارِ لِرَفْعِ الْعَقْدِ وَمَوْضُوعَ الطَّلَاقِ " لِقَطْعِ " النِّكَاحِ لَا رَفْعِهِ .
وَمِثْلُهُ : الْخُلْعُ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ " بِلَفْظِهِ " طَلَاقٌ ، وَكَذَلِكَ فُرْقَةُ الْإِيلَاءِ وَفُرْقَةُ الْحَكَمَيْنِ .
وَأَمَّا الْفَسْخُ فَيَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْعُيُوبُ الْخَمْسَةُ وَالْغَرُورُ وَعَدَمُ الْكَفَاءَةِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا - لِيَدْخُلَ الْفَسْخُ بِالْخَلَفِ وَالْعِتْقِ تَحْتَ عَبْدٍ - وَالْعَجْزُ عَنْ الْعِوَضِ ؛ لِيَدْخُلَ الْفَسْخُ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَبِالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
الثَّانِي : قَهْرِيٌّ يَنْفَسِخُ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ " أَقْسَامٌ " : أَحَدُهُمَا : اخْتِلَافُ دِينِ الزَّوْجَيْنِ " بِالرِّدَّةِ " .
الثَّانِي : إسْلَامُ الْمُشْرِكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ يَنْفَسِخُ فِي الزَّائِدِ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : مَنْ انْدَفَعَ نِكَاحُهَا " فَهُوَ " بِطَرِيقِ الْبَيْنُونَةِ بِلَا شَكٍّ .
الثَّالِثُ : فُرْقَةُ وَطْءِ الشُّبْهَةِ حَيْثُ تَحْرُمُ الزَّوْجَةُ