كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية
فِيهِ رَغْبَةٌ فِي النِّكَاحِ إلَى وَقْتٍ , وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ قَدْ كَانُوا يَسْتَحِلُّونَهُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ , حَتَّى أَظْهَرَ عُمَرُ السُّنَّةَ بِتَحْرِيمِهِ , وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ , ثُمَّ النِّكَاحُ الْمَشْرُوطُ فِيهِ الطَّلَاقُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَصِحُّ فِيهِ مِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ , إنَّمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ حَقٌّ لَهَا كَالصَّدَاقِ مَثَلًا , وَلِهَذَا لَمَّا طُلِبَ مِنْ الرَّجُلِ الطَّلَاقَ رَدَّ الْأَمْرَ إلَيْهَا فَلَمْ تَطْلُبْهُ , وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تَطْلُبْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ , بِخِلَافِ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ فَإِنَّهُ يَنْقَضِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ , وَقَوْلُهَا لَهُ فَإِنَّ عُمَرَ لَا يُجْبِرُك عَلَى طَلَاقِي لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَقٌّ لَهَا وَعُمَرُ لَا يُجْبِرُ عَلَى تَوْفِيَةِ حَقٍّ لَمْ يَطْلُبْهُ صَاحِبُهُ , بَلْ عَفَا عَنْهُ , ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ بَعْدَ هَذَا تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ وَحِكَايَةُ حَالٍ , وَالْحَاكِي لَهَا يَشْهَدُهَا لِيَسْتَوْفِيَ صِفَتَهَا , فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ لَمَّا رَغِبَتْ فِي الرَّجُلِ وَهُوَ قَدْ رَغِبَ فِيهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ ثَيِّبٌ هِيَ أَوْلَى بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ خَاطِبٍ , قَدْ رَغِبَتْ الْمَرْأَةُ فِيهِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ بِإِمْسَاكِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ , وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ لَهُ لَا تُطَلِّقْهَا , فَإِنَّ الْفُرْقَةَ النِّكَاحُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا يُسَمَّى طَلَاقًا , وَإِنْ كَانَتْ فَسْخًا . حَتَّى
قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ طَلَاقٌ وَاقِعٌ , وَهَذَا كَمَا رُوِيَ { عَنْ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَسْلَمْت وَعِنْدِي أُخْتَانِ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُطَلِّقَ إحْدَاهُمَا } , وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ . وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ كَانَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ لَا بِذَلِكَ النِّكَاحِ . أَشْيَاءُ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ كَيْفُ مَوْضِعُك مِنْ قَوْمِك . قَالَ لَيْسَ بِمَوْضِعِي بَأْسٌ . قَالَتْ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَك أَتُطَلِّقُ امْرَأَتَك فَقُلْ لَا وَاَللَّهِ لَا أُطَلِّقُهَا . فَاعْتَبَرَتْ الْمَرْأَةُ كَفَاءَتَهُ بِعِلْمِهَا . بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ بِهَا تَعَلُّقٌ . فَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا لَازِمًا . لَمْ يَكُنْ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا يَكُونُ اعْتِرَاضٌ لَهُمْ إذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ , وَوَقَعَ النِّكَاحُ بِلَا رِضَاهُمْ . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ قَدْ انْعَقَدَ لَازِمًا إلَّا أَنْ يُقَالَ كَانَ مَقْصُودُهُمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ يُبْطِلُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّكَاحَ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ لَأَمْنَعَنَّ خُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ . وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَيُقَالُ لَمْ يَكُنْ الْأَوْلِيَاءُ يُمْكِنُهُمْ الطَّعْنُ فِي كَفَاءَتِهِ ; لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ
تَزْوِيجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ . إنْ كَانَ يَرَى ذَلِكَ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفَعُهُمْ ذِكْرُهُ ; لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ فَاسِدًا فَلَا يَحْصُلُ التَّحْلِيلُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَلَا يَنْفَعُهُمْ ذِكْرُهُ . فَعَلَى التَّقْرِيرَيْنِ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِذِكْرِهِ إلَّا إذَا كَانَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ غَيْرَ لَازِمٍ . وَثَانِيهَا : أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَوْ طَلَّقْتهَا لَأَوْجَعْت رَأْسَك بِالسَّوْطِ , وَلَوْ كَانَ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحًا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ لَمْ يَنْهَهُ عُمَرُ عَنْ طَلَاقِهَا إذَا أَرْضَوْهُ , وَهُوَ يَرَى شَغَفَ الْأَوَّلِ بِهَا , وَصَفْوَ الْأَوْلِيَاءِ إلَيْهِ فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ مُفَارَقَتِهَا كَانَ كَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ إذَا فَارَقَهَا , وَهُمْ يُرِيدُونَ الِاسْتِحْلَالَ , وَإِنَّمَا دَرَأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ مَعَ أَنَّهُ قَالَ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ إلَّا رَجَمْته . ; لِأَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ جَدِيرٌ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ . وَثَالِثُهَا : أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ طَلِّقْهَا قَالَ الْأَمْرُ إلَيْهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَقَامَهُ مَشْرُوطٌ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ لُزُومِ النِّكَاحِ وَصِحَّتِهِ . وَرَابِعُهَا : أَنَّهُ قَدْ رَوَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ الْمَرْأَةَ لِوَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا الَّتِي تُسَمَّى الدَّلَّالَةَ , وَنَكَّلَ بِهَا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا فَعَلَتْ مَا لَا يَحِلُّ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ هَذَا الْأَثَرَ لَيْسَ فِيهِ عَوْدُهَا إلَى الْمُطَلِّقِ بَلْ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ , وَلَيْسَ فِيهِ دَوَامُ
نِيَّةِ التَّحْلِيلِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ صَارَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَحْلِيلًا فَإِنْ كَانَ بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ فَلَا كَلَامَ , وَإِنْ كَانَ بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فَهَذَا مِمَّا قَدْ يَسُوغُ فِيهِ الْخِلَافُ , كَمَا فِي النِّكَاحِ بِدُونِ إذْنِ الْمَرْأَةِ أَوْ نِكَاحِ الْعَبْدِ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَشِرَائِهِ , فَإِنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مَرْدُودٌ أَوْ مَوْقُوفٌ , وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ : إنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ إذَا حُذِفَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ , فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُخَرَّجًا عَلَى هَذَا , فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ , وَنِيَّةُ التَّحْلِيلِ كَاشْتِرَاطِهِ , فَيَكُونُ هَذَا الشَّرْطُ الْفَاسِدُ إنْ حُذِفَ صَحَّ الْعَقْدُ وَإِلَّا فَسَدَ , وَإِذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا فَهُوَ مَحَلُّ اخْتِلَافٍ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَلِّلِ , وَلِهَذَا لَمَّا أَفْتَى أَحْمَدُ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ بِأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ حَدَثَ لَهُ رَغْبَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ , كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَكَمَا فَعَلَ عُثْمَانُ وَقَالَهُ ابْنُ عُمَرَ , اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ عُمَرَ هَذَا , فَأَجَابَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْنَدٍ فَلَا يُعَارِضُ الْآثَارَ الْمُسْنَدَةَ , وَإِنَّمَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْآثَارِ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ , هَلْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا بِهِ , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا اخْتَلَفَتْ فِي صِحَّةِ أَصْلِ النِّكَاحِ وَلَا فِي جَوَازِ عَوْدِهَا إلَى الْأَوَّلِ بِالتَّحْلِيلِ , وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ الْإِسْنَادِ وَالِاحْتِمَالِ لَمْ تُعَارِضْ مَا عُرِفَ مِنْ كَلَامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُهُ , وَمَنْ سَمِعَهُ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الْمَدِينَةِ , وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ فِيهِ الْتِبَاسٌ , مَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ثِنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ قُلْت لِإِبْرَاهِيمَ هَلْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَلَّلَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ , فَقَالَ لَا إنَّمَا كَانَتْ لِرَجُلٍ امْرَأَةٌ ذَاتُ حَسَبٍ وَمَالٍ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ فَبَانَتْ مِنْهُ , ثُمَّ إنَّ عُمَرَ تَزَوَّجَهَا فَهَنِيَ بِهَا وَقَالُوا لَوْلَا أَنَّهَا امْرَأَةٌ لَيْسَ بِهَا وَلَدٌ فَقَالَ عُمَرُ وَمَا بَرَكَتُهُنَّ إلَّا أَوْلَادُهُنَّ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَتَزَوَّجَهَا زَوْجُهَا الْأَوَّلُ . قَالَ مُغِيرَةُ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ كَانَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ , فَهَذَا مُغِيرَةُ قَدْ بَلَغَهُ إمَّا عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ حَلَّلَ امْرَأَةً حَتَّى أَخْبَرَهُ إبْرَاهِيمُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ , لَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا لِلتَّحَلُّلِ لَكِنْ ; لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا عَقِبَ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ عَقِبَ الْعَقْدِ , تَوَهَّمَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّهُ كَانَ تَحْلِيلًا , فَكَذَلِكَ ذُو الرُّقْعَتَيْنِ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَ , وَبَذَلُوا لَهُ الْمَالَ عَلَى ذَلِكَ فَامْتَنَعَ ظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُحَلِّلًا , فَإِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ أَشَدُّ إيهَامًا لِلتَّحْلِيلِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ فَإِنْ كَانَ تَوَهُّمُهُ مَعَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَاطِلًا كَانَ
تَوَهُّمُهُ مَعَ مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ أَوْلَى بِذَلِكَ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَحَّحَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ التَّغْلِيظُ فِي التَّحْلِيلِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ , وَأَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتهمَا , وَكَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُهُ أَنَّ التَّحْلِيلَ سِفَاحٌ , وَأَنَّ عُمَرَ لَوْ رَأَى أَصْحَابَهُ لَنَكَّلَهُمْ , وَبَيَّنَ أَنَّ التَّحْلِيلَ يَكُونُ بِاعْتِقَادِ التَّحْلِيلِ وَقَصْدِهِ , كَمَا يَكُونُ بِشَرْطِهِ , وَقَدْ كَانُوا فِي صَدْرِ خِلَافَتِهِ يَسْتَحِلُّونَ الْمُتْعَةَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا مِنْ الرُّخْصَةِ , يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَبْلُغُهُ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ ذَلِكَ , فَلَعَلَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَقْصِدُ مَنْ يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ , ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بَلَغَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّهْيُ عَنْ التَّحْلِيلِ , فَخَطَبَ بِهِ وَأَعْلَنَ حُكْمَهُ كَمَا خَطَبَ عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَعْلَنَ حُكْمَهَا , وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَخَّصَ فِي التَّحْلِيلِ بَعْدَ النَّهْيِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ عِلْمٍ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ تَرْكِ الْإِنْكَارِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَنْ الِاسْتِصْحَابِ , وَمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَنَ فَاعِلَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ , فَثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ - لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَجْوِيزَ التَّحْلِيلِ قَدْ أَفْضَى إلَى مَا هُوَ غَالِبٌ فِي التَّحْلِيلِ الْمُظْهَرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَوْ لَازِمٌ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ , وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا , إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ , دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } , وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعَدُوهُنَّ سِرًّا } . وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَيَجُوزُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُمْكِنُ عَوْدُهَا إلَى زَوْجِهَا . مِثْلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ . فَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُخْطَبَ تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا , بَلْ ذَلِكَ تَخْبِيبٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا , وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الْمَعَاصِي , وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَحْرَمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ مِنْ الْمُزَوَّجَةِ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا وَلَا يُعَرِّضَ لَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَ الْعِدَّةِ , ثُمَّ إذَا تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَرِّحَ بِخِطْبَتِهَا , أَوْ لَا يُعَرِّضُ حَتَّى يُطَلِّقَهَا ثُمَّ إذَا طَلَّقَهَا لَمْ يَجُزْ التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا حَتَّى تَقْضِيَ الْعِدَّةَ , وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا عِنْدَ
الْجُمْهُورِ , فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ , وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَجُزْ وِفَاقًا , وَقَدْ أَفْضَى تَجْوِيزُ التَّحْلِيلِ إلَى أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ ثَلَاثًا فَيُوَاعَدَهَا فِي عِدَّتِهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ , وَيَسْعَى هُوَ فِي هَذَا التَّحْلِيلِ , وَرُبَّمَا أَعْطَاهَا مَا تُعْطِيهِ الْمُحَلِّلُ , وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مُدَّةَ الْعِدَّتَيْنِ إنْفَاقَهُ عَلَى زَوْجَتِهِ , فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ مُوَاعَدَتُهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ , وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ مُوَاعَدَتِهَا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ بِدَرَجَتَيْنِ , وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى اللَّبِيبِ أَنَّ هَذَا رُكُوبٌ لِلْمُحَرَّمِ مُكَرَّرًا مُغَلَّظًا , وَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مَظِنَّةً لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَسَمَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ مَادَّتَهُ بِتَحْرِيمِهِ جَمِيعِهِ , أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الِانْتِبَاذِ فِي وِعَاءٍ صَغِيرٍ قَالَ لَوْ رَخَّصْت لَكُمْ فِي هَذِهِ لَجَعَلْتُمُوهَا مِثْلَ هَذِهِ , ثُمَّ يَشْرَبُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَضْرِبَ ابْنَ عَمِّهِ بِالسَّيْفِ } أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ قَدْ أَصَابَهُ ذَلِكَ . قَالَ فَسَدَلْتُ رَحْلِي حَيَاءً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . فَحَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَلِيلَ الْخَمْرِ وَكَثِيرَهَا , وَحَكَمَ بِنَجَاسَتِهَا وَنَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ , وَعَنْ شُرْبِ النَّبِيذِ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَعَنْ
الْأَوْعِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ . كُلُّ ذَلِكَ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ , وَإِنْ كَانَ الْعِنَادُ التَّامُّ هُوَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ ; لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَثِيرَ طَبْعًا . فَكَذَلِكَ أَصْلُ التَّحْلِيلِ لَمَّا كَانَ مُفْضِيًا إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا , كَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ تَحْرِيمَهُ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَسْلَكِ الذَّرَائِعِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ , وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُتْعَةِ شَرٌّ إلَّا وَفِي التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ بِكَثِيرٍ , فَإِنَّ الْمُسْتَمْتِعَ رَاغِبٌ إلَى وَقْتٍ فَيُعْطِي الرَّغْبَةَ حَقَّهَا , بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ تَيْسٌ مُسْتَعَارٌ , فَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُشَنَّعَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِنِكَاحِ الْمُتْعَةِ , وَلَهُمْ فِي اسْتِحْلَالِهِ سَلَفٌ , وَمَعَهُمْ فِيهِ أَثَرٌ وَحَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ , وَإِنْ كَانَ مَدْفُوعًا بِمَا قَدْ نَسَخَهُ , ثُمَّ يُرَخِّصُ فِي التَّحْلِيلِ الَّذِي لَعَنَ الشَّارِعُ فَاعِلَهُ وَلَمْ يُبِحْهُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ , وَاتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ عَلَى لَعْنِ فَاعِلِهِ , وَلَيْسَ فِيهِ حَظٌّ مِنْ قِيَاسٍ , بَلْ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ , وَيَعْتَصِمُ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِمُقَارَنَةِ الشَّرْطِ الْعَقْدَ وَتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ , أَوْ يَكُونُ هَذَا شَرْطًا وَذَاكَ تَوْقِيتًا , وَهُوَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ , وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ , وَلَا يُعْرَفُ مَأْثُورًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ , بَلْ الْأُصُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرُوطَ مُعْتَبَرَةٌ إمَّا صِحَّةً
وَوَفَاءً وَإِمَّا فَسَادًا أَوْ إلْغَاءً سَوَاءٌ قَارَنَتْ الْعَقْدَ أَوْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ , وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَوْضِعَ اسْتِقْصَاءِ ذَلِكَ لَبَسَطَنَا الْقَوْلَ فِيهِ . فَإِنَّمَا قَدْ قَرَّرَنَا أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ تَحْلِيلٌ , وَالشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , وَلَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ أَدِلَّةِ ذَلِكَ لِكَيْ يَدْخُلَ فِيهِ إذَا تَوَاطَآ عَلَى التَّحْلِيلِ , ثُمَّ تَزَوَّجَهَا غَيْرَ نَاوٍ لِلتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ ذَلِكَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } . وَقَالَ : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } . وَقَالَ : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } . وَلَمْ يُفَرِّقْ سُبْحَانَهُ بَيْنَ عَقْدٍ وَعَقْدٍ وَعَهْدٍ وَعَهْدٍ , وَمَنْ شَارَطَ غَيْرَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ عَلَى صِفَاتٍ اتَّفَقَا عَلَيْهَا ثُمَّ تَعَاقَدَا بِنَاءً عَلَيْهَا فَهِيَ مِنْ عُقُودِهِمْ وَعُهُودِهِمْ , لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ إلَّا ذَلِكَ , وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ , وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } وَقَالَ : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يَعْنِي الْعُهُودَ وَمَنْ نَكَثَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ فَهُوَ نَاكِثٌ , كَمَنْ نَكَثَ الْمُقَارِنَ لَا تُفَرِّقُ الْعَرَبُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . وَالْمُسْلِمُونَ يَفْهَمُونَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ
الْعَقْدَ شَرْطٌ كَمَا قَارَنَهُ , حَتَّى أَنَّهُ وَقْتَ الْخِصَامِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ بَيْنَنَا كَذَلِكَ , أَلَمْ نُشَارِطُكَ عَلَى كَذَا , وَالْأَصْلُ عَدَمُ نَقْلِ اللُّغَةِ وَتَعْيِيرِهَا , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ . فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ } . وَمَنْ شَارَطَ غَيْرَهُ عَلَى شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَيْهِ وَتَعَاقَدَا ثُمَّ لَمْ يَفِ لَهُ بِشَرْطِهِ فَقَدْ غَدَرَ بِهِ , هَذَا هُوَ الَّذِي يَعْقِلُهُ النَّاسُ وَيَفْهَمُونَهُ وَلَا يُعْرَفُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي مَعَانِي الْكَلَامِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ , وَلَا فِي الْحُكْمِ عَمَّنْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ تَلْزَمُهُ , وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا خَطَبَ فِي شَأْنِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ , لَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا , قَالَ فَذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ أَبِي الْعَاصِ قَالَ حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي وَوَعَدَنِي فَوَفَّى لِي } , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا مَدْحًا لِمَنْ فَعَلَهُ وَذَمًّا لِمَنْ تَرَكَهُ , وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمَّا قَرَنَهُ بِهِ , وَالْوَعْدُ فِي الْعُقُودِ إنَّمَا يَتَقَدَّمُهَا لَا يُقَارِنُهَا , فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ وَفَّى بِهِ كَانَ مَمْدُوحًا وَمَنْ لَمْ يَفِ بِهِ كَانَ مَذْمُومًا مَعِيبًا , وَهَذَا شَأْنُ الْوَاجِبِ . وَفِي حَدِيثِ السِّيرَةِ الْمَشْهُورِ { أَنَّ الْأَنْصَارَ لَمَّا بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِك وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِك , فَقَالَ أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَزْرَكُمْ وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي أَنْ تُوَاسُوهُمْ . فَقَالُوا إذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ الْجَنَّةُ قَالُوا مُدَّ يَدَك فَوَاَللَّهِ لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك . فَبَايَعُوهُ } . أَفَلَا تَرَى كَيْفَ تَقَدَّمَ الشَّرْطُ الْعَقْدَ وَلَمْ يَحْتَجْ حِينَ الْمُبَايَعَةِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَوْ كَانُوا قَدْ تَكَلَّمُوا بِهَا فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا مَا قَبْلَ الْعَقْدِ اشْتِرَاطًا , فَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الشَّرْطِ الَّذِي دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ , وَهَذَا الْمُحَلِّلُ يُقَالُ لَهُ شَرَطْنَا عَلَيْك أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَطَلِّقْهَا , وَيَعْقِدُ الْعَقْدَ بَعْدَ ذَلِكَ , وَأَيْضًا لَوْ وَصَفَ الْمَبِيعَ أَوْ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ بِصِفَاتٍ عِنْدَ التَّسَاوُمِ , ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ تَعَاقُدًا كَانَ الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمَا مِنْ الصِّفَةِ , حَتَّى إذَا ظَهَرَ الْمَبِيعُ نَاقِصًا عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ , وَلَوْ لَا أَنَّ الصِّفَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارِنَةِ لَمَا وَجَبَ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ ثُمَّ تَعَاقَدَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَنٍ لَا يَفْتُرُ فِي مِثْلِهِ غَالِبًا , وَلَوْلَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارِنَةِ لَمَا لَزِمَ الْبَيْعُ , وَبَعْضُ النَّاسِ يُخَالِفُ فِي الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ , وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا مُخَالِفًا , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ , بَلْ الْوَاصِفُ إلَى الْفُرْقَةِ أَقْرَبُ , وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ مَعَ رَجُلٍ فِي عَقْدٍ عَلَى صِفَاتٍ تَشَارَطُوا عَلَيْهَا وَعَقَدُوا الْعَقْدَ ثُمَّ نَكَثَ بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ خَدَعَهُ وَمَكَرَ بِهِ , فَإِنَّ الْخَدْعَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُ شَيْئًا وَيُبْطِنَ خِلَافَهُ , وَالْمَكْرُ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ , وَهَذَا مِمَّا تُسَمِّيهِ النَّاسُ خَدِيعَةً وَمَكْرًا . وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا لَا زَوَالُهَا وَتَغْيِيرُهَا , وَالْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ حَرَامٌ فِي النَّارِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ , وَإِنَّمَا كَلَامُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُمَا كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَلَمَّا كَانَتْ الْبُيُوعُ تَقَعُ غَالِبًا قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِكْشَافِ , شُرِعَ فِيهَا الْخِيَارُ إلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ لِيَتِمَّ الرِّضَا بِذَلِكَ , وَاكْتَفَى فِي النِّكَاحِ بِمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ تَقَدُّمِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْعَقْدِ , لِاسْتِعْلَامِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ , وَإِذَا تَشَارَطَا عَلَى أَمْرٍ يَتَعَاقَدَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ تَعَاقَدَا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنَّمَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الشَّرْطُ الَّذِي تَشَارَطَا عَلَيْهِ أَوَّلًا . وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ أَحَدَهُمَا رَضِيَ بِعَقْدٍ مُطْلَقٍ خَالٍ عَنْ شَرْطٍ كَانَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ , وَإِذَا كَانَا إنَّمَا رَضِيَا بِالْعَقْدِ الَّذِي تَشَارَطَا
عَلَيْهِ قَبْلَ عَقْدِهِ وَمَلَاكُ الْعُقُودِ هُوَ الرِّضَا , وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مَا رَضِيَا بِهِ لَا سِيَّمَا فِي النِّكَاحِ الَّذِي سَبَقَ شَرْطُهُ عَقْدَهُ , وَلَيْسَ بَعْدَ عَقْدِهِ خِيَارٌ يُسْتَدْرَكُ فِيهِ الْفَائِتُ , وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَهَذَا بَيِّنٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعُقُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ بِالْقُلُوبِ , وَإِنَّمَا الْعِبَارَاتُ مُبَيِّنَاتٌ لِمَا فِي الْقُلُوبِ , لَا سِيَّمَا إنْ قِيلَ هِيَ إخْبَارَاتٌ , وَبَيَانُهَا لِمَا فِي الْقَلْبِ لَا يَخْتَلِفُ بِجَمْعِ الْكَلَامِ فِي وَقْتٍ أَوْ يُفَرِّقُهُ فِي وَقْتَيْنِ , لَا سِيَّمَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ الَّذِي قَدْ يَتَعَذَّرُ ذِكْرُهُ فِي التَّعَاقُدِ , وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي خِطَابِ جَمِيعِ الْخَلْقِ بَلْ فِي أَفْصَحِ الْخِطَابِ وَأَبْلَغِهِ , فَإِنَّ مَنْ مَهَّدَ قَاعِدَةً بَيَّنَ بِهَا مُرَادَهُ , فَإِنَّهُ يُطْلِقُ الْكَلَامَ وَيُرْسِلُهُ , وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ ذَلِكَ الْمُقَيَّدَ الَّذِي تَقَدَّمَ , وَالْمُسْتَمِعُ يَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَحْمِلُ كَلَامَهُ عَلَيْهِ , كَالْعَالِمِ يَقُولُ مَثَلًا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ , فَلَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ الْمَجْنُونُ وَنَحْوُهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ قَدْ قَرَّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الشَّرْعِ , فَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُولُ مَثَلًا وَأَنْكَحْت , فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا تَشَارَطَا عَلَيْهِ قَبْلُ , وَمَعْنَى كَلَامِهِ بِعْتُك الْبَيْعَ الَّذِي
تَشَارَطْنَا وَأَنْكَحْتُك النِّكَاحَ الَّذِي تَرَاضَيْنَا بِهِ , فَمَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ مُطْلَقًا بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُ الْمُشَارَطَةُ وَالْمُوَاطَأَةُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ خِطَابِ الْخَلْقِ وَكَلَامِهِمْ فِي جَمِيعِ إيجَابِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ , وَهَذَا وَاضِحٌ لَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ الْمَشْرُوطُ قَبْلَ الْعَقْدِ كَالْمَشْرُوطِ فِيهِ , فَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ , وَلِهَذَا قَالُوا مَنْ دَفَعَ ثِيَابَهُ إلَى غَسَّالٍ يُعْرَفُ مِنْهُ الْغُسْلُ بِالْأُجْرَةِ لَزِمَهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفَ شَرْطٌ , وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ حَمَّامَ حَمَّامِيٍّ أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ رُبَّانٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ , وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهَا , انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ , وَكَانَ هَذَا الْعُرْفُ مُقَيِّدًا لِلَّفْظِ , وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِلْزَامِ مُسَمَّى الدِّرْهَمِ مِنْ أَيِّ نَقْدٍ أَوْ وَزْنٍ كَانَ , وَلَوْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ فِي الْأَيْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ وَنَحْوِهَا انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَى السَّلِيمِ مِنْ الْعُيُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعُرْفُ , وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ , وَالْعُرْفُ الْخَاصُّ فِي ذَلِكَ كَالْعَامِّ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ بَابُ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , فَإِنْ كَانَ بَعْضُ التُّيُوسِ مَعْرُوفًا بِالتَّحْلِيلِ , وَجِيءَ بِالْمَرْأَةِ
إلَيْهِ فَهُوَ اشْتِرَاطٌ مِنْهُمْ لِلتَّحْلِيلِ لَا يَعْقِلُ النَّاسُ إلَّا هَذَا , فَلَوْ لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطُوهُ لَكَانَ عِنْدَهُمْ خَدِيعَةً وَمَكْرًا وَنَكْثًا وَغَدْرًا , وَعَلَى هَذَا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ , وَمِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا , وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ لَفْظًا أَوْ عُرْفًا وَعَقَدَ النِّكَاحَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ; لِأَنَّ مَا شَرَطُوهُ عَلَيْهِ لَمْ يَرْضَ اللَّهُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا , وَمَا نَوَاهُ الزَّوْجُ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِهِ وَلَا وَلِيُّهَا فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِمَا فَمَا رَضُوا بِهِ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ . وَمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لَمْ يَرْتَضُوا بِهِ , فَلَا يَصِحُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا . وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى دَلَالَةِ الْحَدِيثِ , مِنْ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ هِيَ مَا قَارَنَتْ الْعَقْدَ دُونَ مَا تَقَدَّمَتْهُ , فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ , وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا وِفَاقٍ وَلَا عِبْرَةٍ صَحِيحَةٍ , وَالْقَوْلُ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِمَا وَاحِدٌ , وَقَدْ سَلَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِثْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيَّ , وَادَّعَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفَسَادِ هُوَ النِّيَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالْعَقْدِ لَا الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ , وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ لَكَانَ مُؤَثِّرًا كَمَا تَقَدَّمَ , وَسَلَّمَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ إنْ
لَمْ يَمْنَعْ الْقَصْدَ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ وَنَحْوِهِ . لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ , وَإِنْ مُنِعَ الْقَصْدُ بِالْعَقْدِ كَالتَّوَاطُؤِ عَلَى بَيْعِ تَلْجِئَةٍ وَنِكَاحِ تَحْلِيلٍ أَبْطَلَ الْعَقْدَ , وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ كَالْمُقَارَنَةِ مُطْلَقًا , وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصٍ الْعُكْبَرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ , لِئَلَّا يُفْضِيَ الْقَوْلُ بِالْإِفْسَادِ إلَى إضْرَارِ الْمُعَاقِدِ الْآخَرِ , وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَمَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ فَنَقُولُ هَذَا السُّؤَالُ مَنْ قَالَ بِمُوجَبِهِ , فَإِنَّهُ يُبْطِلُ أَكْثَرَ صُوَرِ التَّحْلِيلِ الَّتِي هِيَ مَنْشَأُ الْفَسَادِ , وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ إنْ صَحَّ , وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَتَى لَمْ تَعْلَمْ نِيَّةَ التَّحْلِيلِ لَمْ يَضُرَّهَا ذَلِكَ , فَإِنَّهَا تَعْتَقِدُهُ حَلَالًا فَلَا يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَالْوَطْءُ حَلَالٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا , حَرَامٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ , كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ , وَهِيَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ مَا يُعْطِيهَا إيَّاهُ مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يَحِلُّ لَهَا أَخْذُهُ , كَمَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ , وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا , وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَالنُّكُولِ فَإِنَّ أَحَدَ الْمُصَالِحَيْنِ إذَا عَلِمَ كَذِبَ
نَفْسِهِ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيَكُونُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ أَوْ مَا يَهْضِمُهُ مِنْ حَقِّهِ حَرَامًا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ الرَّجُلُ مِنْ أَبِيهِ رَقِيقًا قَدْ عَلِمَ رَجُلٌ أَنَّ الْأَبَ أَعْتَقَهُمْ , وَالِابْنُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهُمْ مِنْهُ مَنْ يَعْلَمُ بِعِتْقِهِمْ كَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ , فَيَحِلُّ لَهُ الثَّمَنُ وَكَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي بَاطِلًا فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْبَادُهُمْ , وَأَشْبَهُ مِنْهُ بِمَسْأَلَتِنَا لَوْ كَانَ بِيَدِ الرَّجُلِ مَالٌ يَمْلِكُهُ مِثْلُ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ فَبَاعَهُ لِرَجُلٍ , فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ , وَهُوَ حَلَالٌ فِي الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَحِلُّ لَهُ الْمَبِيعُ , وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ , وَأَمَّا الشُّهُودُ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى لَفْظِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ , وَبِهِ يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الظَّاهِرِ , فَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِنِيَّتِهِ لِلتَّحْلِيلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ إثْمٌ , وَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ أَوْ عُرْفِيَّةٍ , كَانَ كَمَا لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الزَّوْجَ مُكْرَهٌ , فَتَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الشَّهَادَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ , كَمَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ الرِّبَا وَالنِّحَلِ الْجَائِرَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ , لَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجَرَّدُ نِيَّةِ الزَّوْجِ فَهُنَاكَ لَا يَظْهَرُ التَّحْلِيلُ أَصْلًا فَلَا يَأْثَمُونَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مَا ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ , وَلِهَذَا لَمْ يُلْعَنُوا فِي الْحَدِيثِ , وَإِنَّمَا صَحَّحْنَا الْعَقْدَ فِي
الظَّاهِرِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْقَصْدِ , كَمَا صَحَّحْنَا إسْلَامَ الرَّجُلِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِمَا فِي قَلْبِهِ , فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ تُعَبِّرُ عَمَّا فِي الْقُلُوبِ , وَالْأَصْلُ فِيهَا الْمُطَابَقَةُ وَالْمُوَافَقَةُ , وَلَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَمَّا فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ , وَلَكِنْ نَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَنَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ , وَلَكِنْ هُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مُؤَاخَذُونَ بِنِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمْ , وَهَذَا بَيِّنٌ , وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إذَا اشْتَرَى بِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَ صَحَّ , وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ , فَعُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ كَالشَّرْطِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ , وَنُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ نِيَّةٍ تُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ , وَنِيَّةٍ لَا تُنَافِيهِ , كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ شَرْطٍ يُنَافِي الْعَقْدَ وَشَرْطٍ لَا يُنَافِيهِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ تُنَافِي الْعَقْدَ شَرْطًا وَقَصْدًا أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ يُنَافِيهِ شَرْطًا وَقَصْدًا . كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ مِثْلَ أَنْ تُبَالِغَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُ , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ لَسْت أَعْنِي أَنَّهَا تَتْرُكُ وَاجِبًا تَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ , أَوْ تَفْعَلُ مُحَرَّمًا تَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ , لَكِنْ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ بِالصَّدَاقِ جَمِيعِهِ , لِيَفْسَخَ أَوْ يَحْبِسَ أَوْ لِتَمْتَنِعَ مِنْهُ , أَوْ تَبْذُلَ لَهُ فِي خُصُومَتِهَا , وَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهَا مِثْلُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ النَّفَقَةِ , أَوْ إفْرَادِهَا بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا وَخَادِمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ , أَوْ تَمْنَعَ مِنْ إعَانَتِهِ فِي الْمَنْزِلِ بِطَبْخٍ أَوْ فَرْشٍ أَوْ لُبْسٍ أَوْ غَسْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , كُلُّ ذَلِكَ لِيُفَارِقَهَا فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْهَا مَا قَدْ يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِهِ , فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ فَتَقْدِيرُهُ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ , وَهُوَ أَمْرٌ يَدْخُلُهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ , وَلَا يَكَادُ يَنْقُلُ غَالِبًا مَنْ عَاشَرَتْ زَوْجَهَا بِمِثْلِ هَذَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ خُلُوِّهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ فَنَقُولُ : إذَا فَعَلْت الْمُبَاحَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ , أَمَّا إذَا قَصَدْت بِهِ ضَرَرًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ , مِثْلُ مَنْ يَقْصِدُ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ بِالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ فِي مَرَضِهِ , فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تُرِيدُ اسْتِيفَاءَ الصَّدَاقِ وَلَا فَرْضَ النَّفَقَةِ وَهِيَ طَيِّبَةُ النَّفْسِ بِالْخِدْمَةِ الْمُعْتَادَةِ , وَإِنَّمَا تَجَشَّمَ ذَلِكَ لِتُضَيِّقَ عَلَى الزَّوْجِ لِيُطَلِّقَهَا , فَإِلْجَاؤُهُ إلَى
الطَّلَاقِ غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّهُ إلْجَاءٌ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ وَهُوَ يَضُرُّهُ , وَهِيَ آثِمَةٌ بِهَذَا الْفِعْلِ إذَا كَانَ مُمْسِكًا لَهَا بِالْمَعْرُوفِ , وَإِنَّمَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْعِ الْمُطَالَبَةُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ , أَمَّا إذَا قَصَدَتْ التَّسْرِيحَ فَقَطْ , وَإِنَّمَا تُطَالِبُهُ بِمُوجَبَاتِ الْعَقْدِ لِتَضْطَرَّهُ بِعُسْرِهَا عَلَيْهِ إلَى التَّسْرِيحِ , فَهَذِهِ لَيْسَتْ طَالِبَةً أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ طَالِبَةٌ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ , وَهِيَ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ شَرْعًا , فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَلْحَقُ بِاَلَّتِي بَعْدَهَا كَمَا قَدَّمْنَا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ , لَكِنَّ هَذَا الْفِعْلَ إنَّمَا حُرِّمَ بِالْقَصْدِ , وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ الَّذِي بَعْدَهُ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِجِنْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِقَصْدٍ يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ , وَلَا يُقَالُ فَقَدْ يُبَاحُ لَهَا الِاخْتِلَاعُ إذَا كَانَتْ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ . فَكَذَلِكَ يُبَاحُ لَهَا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْحُقُوقِ حَتَّى تُفَارِقَ ; لِأَنَّا نَقُولُ الِاخْتِلَاعُ يَتَضَمَّنُ تَعْوِيضَهُ عَنْ الطَّلَاقِ بِرَدِّ الصَّدَاقِ إلَيْهِ , أَوْ رَدِّ مَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ , وَهَذِهِ تَلْجِئَةٌ إلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِعَةِ , وَإِذَا كَانَتْ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ , وَفِي ذَلِكَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَإِذَا قَصَدَتْ إيقَاعَ هَذَا الضَّرَرِ بِهِ بِفِعْلٍ هُوَ مُبَاحٌ , أَوْ
خَلَا عَنْ هَذَا الْقَصْدِ دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِحُقُوقِ النِّكَاحِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَ إضْرَارَ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ . بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَهِيَ لَا تَقْصِدُ إضْرَارَهُ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ نَفْعَ نَفْسِهَا بِالْخَلَاصِ مِنْهُ , فَيُقَالُ الشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِيَدِهَا , وَلَوْ كَانَ انْتِفَاعُهَا بِالْأَخَصِّ حَقًّا لَهَا لَمَلَّكَهَا الشَّارِعُ ذَلِكَ وَحَيْثُ احْتَاجَتْ إلَيْهِ أَمَرَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ مُضَارَّةً سَيِّدِهِ لِيَعْتِقَهُ , إذَا لَمْ يَكُنْ السَّيِّدُ مُتَسَبِّبًا إلَيْهِ , ثُمَّ , إنْ كَانَتْ نَوَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى مَا تُضَارُّهُ بِهِ مَعَ غِنَاهَا عَنْهُ , فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَوَصَّلَ إلَى بَعْضِ أَغْرَاضِهَا الَّتِي لَا تَجِبُ لَهَا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهَا , فَكَيْفَ إذَا قَصَدَتْ أَنْ تَحِلَّ لِنَفْسِهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِأَضْرَارِ الْغَيْرِ , فَهَذَا الضَّرْبُ قَرِيبٌ مِمَّا ذُكِرَ بَعْدَهُ , وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ .
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّهُمْ وَالَوْا الْمُعْتَزِلَةَ وَقَارَبُوهُمْ أَكْثَرَ وَقَدَّمُوهُمْ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ , وَخَالَفُوا أَوَّلِيهِمْ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَقَارَبُ نَفْيُهُ وَإِثْبَاتُهُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَتَنَاقَضُونَ فِيمَا يَجْمَعُونَهُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . وَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ حَصَلَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَالْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا أَحْدَثَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ , وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِالْكَلَامِ أَصْلًا بَلْ حَقِيقَةٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمْ , كَمَا أَفْصَحَ بِهِ رَأْسُهُمْ الْأَوَّلُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ , حَيْثُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا , وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا ; لِأَنَّ الْخِلَّةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمَحَبَّةِ , وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ شَيْئًا فِي الْحَقِيقَةِ , وَلَا يُحِبُّهُ شَيْءٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَتَّخِذُ شَيْئًا خَلِيلًا , وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ نَفَتْ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ , أَوْ إرَادَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ , وَادَّعَوْا مَا بَاهَتُوا بِهِ صَرِيحَ الْعَقْلِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ , أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَكُونُ فِي غَيْرِهِ . وَقَالُوا أَيْضًا : يَكُونُ مُرِيدًا بِإِرَادَةٍ لَيْسَتْ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ , أَوْ الْإِرَادَةُ وَصْفٌ عَدَمِيٌّ , أَوْ لَيْسَتْ غَيْرَ الْمُرَادَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَغَيْرَ الْأَمْرِ
وَهُوَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ فِي غَيْرِهِ , فَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ التَّكْذِيبَ بِحَقِيقَةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَشِيئَتِهِ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُقِرُّونَ بِإِطْلَاقِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي أَطْلَقَتْهَا الرُّسُلُ وَهَذَا حَالُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ , مِنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ , مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ : فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فِي بَابِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ , بَلْ وَفِيمَا أَمَرَتْ بِهِ أَيْضًا , وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِكَثِيرٍ مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ , وَتَعْظِيمِ أَقْدَارِهِمْ , فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ , لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ مَا يُفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّافِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ , مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الرُّوحُ الْمُفَارِقُ لِلْأَجْسَامِ , الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ الْعَاشِرُ كَفَلَكِ الْقَمَرِ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ الَّذِي يُفِيضُ مِنْهُ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَعْرَاضِ . وَيَزْعُمُ مَنْ يَزْعُمُ مِنْ مُنَافِقِيهِمْ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ جِبْرِيلُ , وَيَقُولُونَ : إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي تُفِيضُ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ وَالْحُرُوفُ الَّتِي تَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِهِ , هِيَ كَلَامُ اللَّهِ , كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ , هِيَ مَلَائِكَةُ اللَّهِ , فَلَا وُجُودَ لِكَلَامِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ
خَارِجًا عَنْ نَفْسِ النَّبِيِّ , وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ غَيْرُ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ التِّسْعَةِ , أَكْثَرُهُمْ مُتَنَازِعُونَ فِيهَا , هَلْ هِيَ جَوَاهِرُ أَوْ أَعْرَاضٌ . إنَّمَا الْمَلَائِكَةُ مَا يُوجَدُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْدَانِ مِنْ الْقُوَى الصَّالِحَةِ وَالْمَعَارِفِ وَالْإِرَادَاتِ الصَّالِحَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ إنْشَاءُ الرَّسُولِ وَكَلَامُهُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ فَيْلَسُوفُ قُرَيْشٍ وَطَاغُوتُهَا الْوَحِيدُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ , الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلًّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } وَهَذَا قَوْلٌ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخِّرِي غَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ , الَّذِينَ ضَلُّوا بِكَلَامِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَوَقَعُوا فِيمَا يُنَافِي أَصْلَيْ الْإِسْلَامِ , شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , بِمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْإِشْرَاكِ وَجُحُودِ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ , فَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ غَالِيَةِ الْجَهْمِيَّةِ . وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ , فَقَالُوا : إنَّهُ يَخْلُقُ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ إمَّا فِي الْهَوَاء وَإِمَّا بَيْنَ وَرَقِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ مِنْهَا مُوسَى , وَإِمَّا غَيْرَ ذَلِكَ فَذَلِكَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ , فَإِذَا قَالُوا : إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ
حَقِيقَةً , وَإِنَّ لَهُ كَلَامًا حَقِيقَةً , فَهَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ تَبْدِيلٌ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ , وَاللُّغَةُ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ , وَالْكُتُبُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ , وَلَمَّا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ إلَّا مَنْ اجْتَالَتْ الشَّيَاطِينُ فِطْرَتَهُ , أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ وَيَتَّصِفُ بِهِ , وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ وَالْمُرِيدُ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ , كَمَا أَنَّ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ , وَقَدْ قَالُوا : لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَا يَكُونُ قَائِمًا بِغَيْرِهِ , كَالشَّجَرَةِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْمُتَكَلِّمَةَ بِالْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : مَنْ قَالَ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ . وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ , وَكَذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ , فَقَالَ : كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } , كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ : مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ , وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا , فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ أَنَا
رَبُّكُمْ الْأَعْلَى , وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فَهَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنَ , فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكَفْرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ , وَقَالَ : احْذَرْ ابْنَ الْمَرِيسِيِّ وَأَصْحَابَهُ ; فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ ابْنُ جَدِّ الزَّنْدَقَةِ , وَأَنَا كَلَّمْت أُسْتَاذَهُمْ جَعْدًا فَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّ فِي السَّمَاءِ إلَهًا قَالَ الْبُخَارِيُّ , وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَفَّانَ , سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ فِي السَّنَةِ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا الْمَرِيسِيِّ فَقَامَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ مَجْلِسِهِ مُغْضَبًا فَقَالَ : وَيْحَكُمْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ قَدْ صَحِبْت النَّاسَ وَأَدْرَكْتُهُمْ , هَذَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ , وَهَذَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ , حَتَّى ذَكَرَ مَنْصُورًا أَوْ الْأَعْمَشَ وَمِسْعَرَ بْنَ كِدَامٍ , فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وَالْقَدَرِ , وَأَمَرُونَا بِاجْتِنَابِ الْقَوْمِ , فَمَا نَعْرِفُ الْقُرْآنَ إلَّا كَلَامَ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ مَا أَشْبَهَ هَذَا الْقَوْلُ بِقَوْلِ النَّصَارَى , لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تَسْمَعُوا كَلَامَهُمْ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ , حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , قَالَ أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً , مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ , يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ , وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَالُوا : اللَّهُ تَعَالَى قَدْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } . وَمِنْ ذَلِكَ كَلَامُ الذِّرَاعِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيمُ الْحَجَرِ عَلَيْهِ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ , لَا سِيَّمَا مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ , وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ كَلَامِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ إنْ كَانَ مَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ يَكُونُ كَلَامًا لَهُ , وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ , وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرَ وَالْكَذِبَ . وَقَوْلُ الشَّاةِ : إنِّي مَسْمُومَةٌ فَلَا تَأْكُلْنِي , وَقَوْلُ الْبَقَرَةِ : إنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ وَشَهَادَةُ الْجُلُودِ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَلَامُ اللَّه وَإِلَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ نُطْقِهِ وَبَيْنَ إنْطَاقِهِ لِغَيْرِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ ; فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسُهُ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ , وَلَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ بِأَنْ يَخْلُقَ كَلَامًا فِي شَجَرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ
الْمَخْلُوقَاتِ , لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ هَذِهِ الْوُجُوهِ مَعْنًى ; لِأَنَّ مَا يَقُومَ بِالْمَخْلُوقَاتِ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ , كَمَا يَسْمَعُونَ مَا يُحْدِثُهُ فِي الْجَمَادَاتِ مِنْ الْإِنْطَاقِ , وَكَمَا سَمِعُوا مَا يُحْدِثُهُ فِي الْأَحْيَاءِ مِنْ الْإِنْطَاقِ , وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَحْيِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ , فَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ هُوَ مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ , لَمْ يَحْصُلْ الْفَرْقُ وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ , فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ لَمْ يَسْمَعْ إلَّا مَا خُلِقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ لَكَانَ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا يَخْلُقُهُ فَيَسْمَعُهُ الْبَشَرُ , وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ كِلَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ مُكَلِّمًا لِلْمَلَائِكَةِ قَطُّ إلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . وَقَوْلُهُ : { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُكَلِّمُ مِنْ شَاءَ بِلَا حِجَابٍ , كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ , أَنْكَرَ ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَبَقَايَا التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمْ وَصَارُوا يُظْهِرُونَ أَعْظَمَ الْمَقَالَاتِ شُبْهَةً كَقَوْلِهِمْ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ ; لِأَنَّهُمْ يُشَبِّهُونَ بِهَذَا عَلَى الْعَامَّةِ مَا لَا يُشَبِّهُونَهُ بِغَيْرِهِمْ إذْ يَقُولُ الْقَائِلُ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَلِأَنَّ نَقِيضَ هَذَا اللَّفْظِ لَيْسَ مَشْهُورًا كَشُهْرَةِ أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَرْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَمَعَ هَذَا فَكَانَ إنْكَارُ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَنْكَارِ دَعْ مَا هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا . قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ : وَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَمَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ : فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا وَأَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ الْخَبِيرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ , قَالَ : وَلَوْ اشْتَغَلْتُ بِنَقْلِ قَوْلِ الْمُحْدِثِينَ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً , لَكِنْ اخْتَصَرْتُ فَنَقَلْتُ عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ , لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ , وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ وَأَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ , قَالَ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سِنِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ , فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ , وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمُرَوٍّ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَسَأَذْكُرُ قِصَّتَهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
فَصْلٌ : وَمَعَ هَذَا فَقَدْ حُفِظَ عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْقَوْلُ , وَفِي ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِدُونِ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ . فَرَوَى اللَّالَكَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ , مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُصَفَّى , وَمِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيِّ , كِلَاهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ أَبِي الْمُنْذِرِ , عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : لَمَّا حَكَّمَ عَلِيٌّ الْحَكَمَيْنِ , قَالَتْ لَهُ الْخَوَارِجُ : حَكَّمْت رَجُلَيْنِ ؟ قَالَ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا إنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ . وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ إلَى عَلِيٍّ , وَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَجَّاجٍ الْحَضْرَمِيُّ الْمُضَرِيُّ , حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ , حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ السَّكَنِ الْفَزَارِيّ , حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ يَزِيدَ الْكَلَاعِيُّ , قَالَ : قَالُوا لِعَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ حَكَّمْت كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ؟ قَالَ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا , مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ . وَهَذَا السِّيَاقُ يُبْطِلُ تَأْوِيلَ مَنْ يُفَسِّرُ كَلَامَ السَّلَفِ , بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الْمُفْتَرِي الْمَكْذُوبُ , وَالْقُرْآنَ غَيْرُ مُفْتَرٍ وَلَا مَكْذُوبٍ , فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا : حَكَّمْت مَخْلُوقًا , إنَّمَا أَرَادُوا مَرْبُوبًا مَصْنُوعًا خَلَقَهُ اللَّهُ , لَمْ يُرِيدُوا مَكْذُوبًا . فَقَوْلُهُ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا , نَفْيٌ لِمَا ادَّعَوْهُ , وَقَوْلُهُ : مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ , نَفْيٌ لِهَذَا الْخَلْقِ عَنْهُ . وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ
مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ , فَمِنْ الْمَحْفُوظِ الثَّابِتِ عَنْهُ , الَّذِي رَوَاهُ النَّاسُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ . مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَغَيْرِهِ , عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , عَنْ الْأَعْمَشِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ , عَنْ أَبِي كَنَفٍ . قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ , قَالَ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ , وَمَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ أَجْمَعَ . وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ , حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ , عَنْ أَبِي سِنَانٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ , عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ الْعَنَزِيِّ , قَالَ : أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِي , فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى السَّدِّ إذْ نَظَرَ إلَى السُّوقِ , قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ أَهْلِهَا , وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا . قَالَ : فَمَرَّ بِرَجُلٍ يَحْلِفُ بِسُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَآيَةٍ , قَالَ فَغَمَزَنِي عَبْدُ اللَّهِ بِيَدِي ثُمَّ قَالَ : أَتَرَاهُ مُكَفِّرًا ؟ أَمَا إنَّ كُلَّ آيَةٍ فِيهَا يَمِينٌ . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَجِبُ فِي الْحَلِفِ بِهَا يَمِينٌ , كَالْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا , إلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ الْحَلِفِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِ الْإِيمَانِ بِهِ أَحَدَ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ . وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ . قَدْ اتَّبَعَهُ الْأَئِمَّةُ وَعَمِلُوا بِهِ ;
كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا , لَكِنْ هَلْ تَتَدَاخَلُ الْأَيْمَانُ إذَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَاحِدًا , كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ , ثُمَّ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَا يَفْعَلُ , هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ , هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ , فَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ , حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ صَالِحِ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْمَاطِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ , عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ , فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ , قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ . فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ , فَقَالَ : مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ . زَادَ الصُّهَيْبِيُّ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَرْبُوبٍ , مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . فَلَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ , أَنْكَرَ ذَلِكَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا , ثُمَّ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ بِسَبَبِ مَنْ أَدْخَلُوهُ فِي شِرْكِهِمْ وَفِرْيَتِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ , وَجَرَتْ الْمِحْنَةُ الْمَشْهُورَةُ , وَكَانَ أَئِمَّةُ الْهُدَى عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ , مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ , وَهُوَ مِنْهُ وَقَائِمٌ بِهِ , وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا , إنَّمَا الْمَخْلُوقُ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُحْدَثَةِ وَصِفَاتِهَا . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرُدُّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ
بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ , أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَهُ , وَلَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ , فَإِنَّ الْمُسْتَقِرَّ فِي فِطْرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ , أَنَّ الْمُتَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ , لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ فَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِشَيْءٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ كَمَا لَا يَكُونُ عَالِمًا بِعِلْمٍ قَائِمًا بِغَيْرِهِ , وَلَا حَيًّا بِحَيَاةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَلَا مُرِيدًا بِإِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَلَا مُحِبًّا وَمُبْغِضًا وَلَا رَاضِيًا وَسَاخِطًا بِحُبٍّ وَبُغْضٍ وَرِضًا وَسُخْطٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ , وَلَا مُتَأَلِّمًا وَلَا مُتَنَعِّمًا وَفَرِحًا وَضَاحِكًا بِتَأَلُّمٍ وَتَنَعُّمٍ وَفَرَحٍ وَضَحِكٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ . فَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهَا إلَّا مَنْ أُحِيلَتْ فِطْرَتُهُ . وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ آمِرًا وَنَاهِيًا بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُخْبِرًا وَمُحَدِّثًا وَمُنْبِئًا بِخَبَرٍ وَحَدِيثٍ وَنَبَأٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ , وَلَا يَكُونُ حَامِدًا أَوْ ذَامًّا وَمَادِحًا وَمُثْنِيًا بِحَمْدٍ وَذَمٍّ وَمَدْحٍ وَثَنَاءٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ مُنَاجِيًا وَمُنَادِيًا وَدَاعِيًّا بِنَجَاءٍ وَدُعَاءٍ وَنِدَاءٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ , وَلَا يَكُونُ وَاعِدًا وَمُوعِدًا بِوَعْدٍ وَوَعِيدٍ لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ , وَلَا يَكُونُ مُصَدِّقًا وَمُكَذِّبًا بِتَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ
لَا يَقُومُ بِهِ بَلْ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ , وَلَا يَكُونُ حَالِفًا وَمُقْسِمًا مُولِيًا بِحَلِفٍ وَقَسَمٍ وَيَمِينٍ لَا يَقُومُ بِهِ وَلَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ بَلْ مِنْ أَظْهَرِ الْعُلُومِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي عَلِمَهَا بَنُو آدَمَ , وُجُوبَ قِيَامِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْمَوْصُوفِ بِهَا , وَامْتِنَاعَ أَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ . فَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ , وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ , وَالنَّبَأَ وَالْخَبَرَ , وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ , وَالْحَلِفَ وَالْيَمِينَ , وَالْمُنَادَاةَ وَالْمُنَاجَاةَ , وَسَائِرِ مَا يُسَمَّى وَيُوصَفُ بِهِ أَنْوَاعُ الْكَلَامِ , يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِالْآمِرِ النَّاهِي الْمُنَاجِي الْمُنَادِي الْمُنْبِئِ الْمُخْبِرِ الْوَاعِدِ الْمُتَوَعِّدِ الْحَامِدِ الْمُثْنِي الَّذِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ قَائِمَةً بِغَيْرِهِ , فَقَدْ خَالَفَ الْفِطْرَةَ الضَّرُورِيَّةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ , وَبَدَّلَ لُغَاتِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ , ثُمَّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْمَعْقُولَاتِ وَاللُّغَاتِ فَقَدْ كَذَّبَ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ , وَنَسَبَهُمْ إلَى غَايَةِ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ ; لِأَنَّ الرُّسُلَ أَجْمَعِينَ أَخْبَرُوا أَنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَنَهْيًا , وَقَالَ وَيَقُولُ , وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي أَمَرَ وَنَهَى , وَقَالَ : لَا . إنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَمْ يَقُمْ بِهِ , بَلْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ . ثُمَّ لَوْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ ذَلِكَ , فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفَ مِنْ الْخِطَابِ , وَلَا الْمَفْهُومَ مِنْهُ , لَا عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَلَا
عِنْدَ الْعَامَّةِ : بَلْ الْمَعْرُوفُ الْمَعْلُومُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَائِمًا بِالْمُتَكَلِّمِ . فَلَوْ أَرَادُوا بِكَلَامِهِ وَقَوْلِهِ أَنَّهُ خَلَقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَلَامًا ; لَكَانُوا قَدْ أَضَلُّوا الْخَلْقَ عَلَى زَعْمِ الْجَهْمِيَّةِ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِمْ غَايَةَ التَّلْبِيسِ , وَأَرَادُوا بِاللَّفْظِ مَا لَمْ يَدُلُّوا الْخَلْقَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ . فَمَنْ نَسَبَهُمْ إلَى هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ , الَّذِينَ هُمْ أَصْلُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَصِفُونَ الرُّسُلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ بَلْ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ الْآمِرِ النَّاهِي لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا لِقِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِهِ مَعَ امْتِنَاعِ قِيَامِهِ بِهِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا . وَزَعَمَتْ الْجَهْمِيَّةُ الْمُلْحِدَةُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُحَرَّفَةِ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الْمُبَدِّلَةِ لِدِينِ اللَّهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِي اللُّغَةِ مِنْ فِعْلِ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ , كَالْجِنِّيِّ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ الْمَصْرُوعِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا يُسْمَعُ مِنْ الْمَصْرُوعِ ; لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ لَمْ يَقَعْ إلَّا بِالْإِنْسِيِّ دُونَ الْجِنِّيِّ . وَهَذَا مِنْ التَّمْوِيهِ وَالتَّدْلِيسِ , فَأَمَّا قَوْلُهُمْ الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ فَقَدْ نَازَعَهُمْ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِيَّةِ وَقَالُوا بَلْ الْمُتَكَلِّمُ
مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ كَمَا يَقُولُهُ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَبَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ طَوِيلٌ . وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ النَّاسِ فَلَمْ يُنَازِعُوهُمْ هَذَا النِّزَاعَ , بَلْ قَالُوا : الْكَلَامُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ فِعْلٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِهِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لِمُتَكَلِّمٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْكَلَامُ , وَجَمِيعُ الْمَسْمُوعِ مِنْ اللُّغَاتِ وَالْمَعْلُومِ فِي فِطْرَةِ الْبَرِّيَّاتِ يُوَافِقُ ذَلِكَ , وَأَمَّا تَكَلُّمُ الْجِنِّيِّ , عَلَى لِسَانِ الْإِنْسِيِّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْجِنِّيِّ كَلَامٌ وَلَكِنْ تَحْرِيكُهُ مَعَ ذَلِكَ لِجَوَارِحِ الْإِنْسِيِّ يُشْبِهُ تَحْرِيكَ رُوحِ الْإِنْسِيِّ لِجَوَارِحِهِ بِكَلَامِهِ وَيُشْبِهُ تَحْرِيكَ الْإِنْسَانِ بِكَلَامِهِ وَحَرَكَتِهِ وَتَصْوِيتِهِ كَمَا يُصَوِّتُ بِقَصَبَةٍ وَنَحْوِهَا مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ قَامَ بِهِ مِنْ الْفِعْلِ مَا يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ . وَقَوْلُهُمْ : الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ . كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّ الْفِعْلَ أَيْضًا لَا يَقُومُ بِغَيْرِ الْفَاعِلِ , وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُومُ بِغَيْرِهِ هُوَ الْمَفْعُولُ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْخَلْقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ . فَهُوَ مِنْ بِدَعِ الْجَهْمِيَّةِ , وَعَامَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى خِلَافِ هَذَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَئِمَّةُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ : فَفِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ بِأَوَّلًا يُقَالُ لَهُ :
تَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ الْقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ ؟ فَلَا يَجِدُ , فَيُقَالُ لَهُ فَبِمَ قُلْتَ ؟ فَيَقُولُ . مِنْ قَوْلِ اللَّهِ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } وَزَعَمَ أَنَّ كُلَّ مَجْعُولٍ مَخْلُوقٌ , فَادَّعَى كَلِمَةً مِنْ الْكَلَامِ الْمُتَشَابِهِ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يُلْحِدَ فِي تَنْزِيلِهَا وَيَبْتَغِيَ الْفِتْنَةَ فِي تَأْوِيلِهَا . وَذَلِكَ أَنَّ جَعَلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى وَجْهَيْنِ عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ , وَعَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ . قَوْلُهُ : { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } قَالُوا : هُوَ شِعْرٌ وَأَنْبَاءُ الْأَوَّلِينَ وَأَضْغَاثُ أَحْلَامٍ , فَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّسْمِيَةِ , وَقَالَ : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا } يَعْنِي أَنَّهُمْ سَمُّوهُمْ إنَاثًا ثُمَّ ذَكَرَ جَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى تَسْمِيَةٍ فَقَالَ : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ } فَهَذَا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَقَالَ : { حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَارًا } هَذَا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ , هَذَا جَعْلُ الْمَخْلُوقِينَ . ثُمَّ ذَكَرَ جَعَلَ مِنْ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ , وَجَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ , وَاَلَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ لَا يَكُونُ إلَّا خَلْقًا وَلَا يَقُومُ إلَّا مَقَامَ خَلَقَ لَا يَزُولُ عَنْ الْمَعْنَى فَمَا قَالَ اللَّهُ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } يَعْنِي خَلْقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ . { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ }
يَقُولُ خَلَقْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ : قَالَ { وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يَقُولُ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا خَلَقَ مِنْ آدَمَ حَوَّاءَ . وَقَالَ : { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ فَهَذَا وَمَا كَانَ مِثَالُهُ لَا يَكُونُ مِثَالُهُ إلَّا عَلَى مَعْنَى خَلَقَ وَقَوْلُهُ : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } لَا يَعْنِي مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ . وَقَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ : { إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا } لَا يَعْنِي أَنِّي خَالِقُك لِلنَّاسِ إمَامًا لِأَنَّ خَلْقَ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا قَالَ إبْرَاهِيمُ : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } , وَقَالَ : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ } لَا يَعْنِي , خَلَقَنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ , وَقَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ } لَا يَعْنِي يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ لَا يَخْلُقَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ . وَقَالَ لِأُمِّ مُوسَى { إنَّا رَادُّوهُ إلَيْك وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } لَا يَعْنِي وَخَالِقُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ أُمَّ مُوسَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهَا ثُمَّ يَجْعَلَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مُرْسَلًا , وَقَالَ : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } لَا يَعْنِي فَيَخْلُقَهُ فِي جَهَنَّمَ , وَقَالَ : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ } وَقَالَ : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } لَا يَعْنِي خَلَقَهُ دَكًّا وَمِثْلُهُ
فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَمَا كَانَ عَلَى مِثَالِهِ لَا يَكُونُ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ . فَإِذَا قَالَ تَعَالَى جَعَلَ عَلَى مَعْنَى خَلَقَ وَقَالَ جَعَلَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ فَبِأَيِّ حُجَّةٍ قَالَ الْجَهْمِيُّ جَعَلَ عَلَى مَعْنَى الْخَلْقِ , فَإِنْ رَدَّ الْجَهْمِيُّ الْجَعْلَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي وَصَفَهُ اللَّهُ فِيهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يَقُولُ جَعَلَهُ جَعْلًا عَلَى مَعْنَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى خَلَقَ . وَقَالَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } , وَقَالَ : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَقَالَ : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِك } فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا وَيَسَّرَهُ بِلِسَانِ نَبِيِّهِ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ جَعَلَ بِهِ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا , فَفِي هَذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ , بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ , وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ , بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ . قُلْنَا : لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا : لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَسَمِعَ . فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ . فَقُلْنَا فَهَلْ يَجُوزُ لِمُكَوِّنٍ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ لِمُوسَى { لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وَإِنِّي أَنَا رَبُّك ؟ فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ شَيْئًا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ يَا مُوسَى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } , وَقَالَ : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وَقَالَ : { إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ قَالَ : وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ . فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ } قَالَ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ . أَلَيْسَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ : { ائْتِيَا
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أَتَرَاهُ أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ ؟ وَقَالَ اللَّهُ : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُد الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } أَتَرَاهَا أَنَّهَا سَبَّحَتْ بِفَمٍ وَجَوْفٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ وَالْجَوَارِحُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِ فَقَالُوا : { لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ فَمٌ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ . قَالَ : فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ . فَقُلْنَا وَغَيْرُهُ مَخْلُوقٌ ؟ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشَّنِعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ { لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك قَالَ نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُ بَدَنُك وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِتَّ قَالَ : فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا لَهُ : صِفْ لَنَا كَلَامَ رَبِّك , فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا تُشَبِّهُهُ . قَالَ : أَسْمَعْتُمْ أَصْوَاتَ الصَّوَاعِقِ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ } . قَالَ وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ : مَنْ الْقَائِلُ لِعِيسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ { يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْت قُلْت لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ قَالُوا : يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا يُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَكُونُ فَعَبَّرَ لِمُوسَى فَقُلْنَا : فَمَنْ الْقَائِلُ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ ؟ قَالُوا : هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ قُلْنَا قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حَتَّى زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ; لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَتَحَرَّك وَلَا تَزُولُ عَنْ مَكَان إلَى مَكَان , فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ أَقُولُ إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ . قُلْنَا : وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ , فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ , وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا , فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ , بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ , وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ كَلَامًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ عِلْمًا فَعَلِمَ , وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا , وَلَا نَقُولُ إنَّهُ كَانَ
وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً . فَقَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ لَنَا لَمَّا وَصَفْنَا مِنْ اللَّهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ : إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ وَنُورَهُ وَاَللَّهَ وَقُدْرَتَهُ وَاَللَّهَ وَعَظَمَتَهُ . فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ فَقُلْنَا : لَا نَقُول إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَكِنْ نَقُولُ : لَمْ يَزَلْ بِقُدْرَتِهِ وَنُورِهِ لَا مَتَى قَدَرَ وَلَا كَيْفَ قَدَرَ . فَقَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ فَقُلْنَا : نَحْنُ نَقُولُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ . وَضَرَبْنَا لَهُمْ مَثَلًا فِي ذَلِكَ فَقُلْنَا لَهُمْ : أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جُذُوعٌ وَكُرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ وَسُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَهُ الْمِثْلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ , لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ قُدْرَةً وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ , وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا عِلْمَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَكِنْ نَقُولُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ قَادِرًا عَالِمًا مَالِكًا لَا مَتَى وَلَا كَيْفَ , وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ رَجُلًا كَافِرًا اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ فَقَالَ :
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } أَوَقَدْ كَانَ لِهَذَا الَّذِي سَمَّاهُ وَحِيدًا عَيْنَانِ وَأُذُنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَيَدَانِ وَرِجْلَانِ وَجَوَارِحُ كَثِيرَةٌ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ وَحِيدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ , فَكَذَلِكَ اللَّهُ وَلَهُ الْمِثْلُ الْأَعْلَى هُوَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ
قُلْت وَفِي هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَسَائِرِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَالْعِلْمِ أَوْ الْمُرَادِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَمَا يُقَالُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا , وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ الْمُقْنِعِ , وَذَكَرَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ الْبَيَانِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَأَتْبَاعَهُ يَقُولُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَتَأَوَّلُونَ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمُخَالِفَ لِذَلِكَ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَنَحْوِهِ , وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بِهَا بَيْنَ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ . وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْأَئِمَّةُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَلَا قَوْلَ هَؤُلَاءِ , بَلْ فِيهِ مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَمَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَثْبَتُ مِنْ الْحَقِّ مَا أَثْبَتَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ
يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَإِذَا نَظَرَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّورِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقَاتِ الْبَايِنَةِ عَنْهُ , لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ فَذَكَرَ أَحْمَدُ ثَلَاثَ صِفَاتٍ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا غَفُورًا , فَالتَّكَلُّمُ يُشْبِهُ الْعِلْمَ مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يُشَبَّهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَالطَّائِفَةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ كَالْعِلْمِ مِنْ وَجْهٍ وَالطَّائِفَةُ الَّتِي جَعَلَتْهُ كَالْمَغْفِرَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَصُرَتْ فِي مَعْرِفَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا وَصْفًا لَهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَلَامِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهُ بِوُجُودِ الْكَلَامِ إذَا شَاءَ , وَسَيَجِيءُ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ .
مِنْ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ " وَلَيْسَا مِنْ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا عَالِمًا , فَقَدْ نَفَى عَنْهُمَا الْخَلْقَ فِي ذَاتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَاتِهِ , وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ مِنْهُمَا , وَهُنَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْقُرْآنَ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ , وَفِي كَلَامِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ أَوْ لَا تَحِلُّهُ الْحَوَادِثُ كِلَاهُمَا مُنْكَرٍ عِنْدَهُ , وَهُوَ تَقْتَضِي أُصُولُهُ لِأَنَّ فِي نَفْيِ ذَلِكَ بِدْعَةً وَفِي إثْبَاتِهِ أَيْضًا بِدْعَةً وَلِهَذَا أَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ إذْ كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ مَعْنَى الْخَلْقِ الْمَخْلُوقِ , كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ . مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَالَ إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مُحْدَثَةٌ . فَقَالَ : كَافِرٌ . ثُمَّ قَالَ لِي : اللَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ , فَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُحْدَثَةٌ , فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مَخْلُوقٌ , وَأَعْظَمَ أَمْرَهُمْ عِنْدَهُ وَجَعَلَ يُكَفِّرُهُمْ , وَقَرَأَ عَلَيَّ { اللَّهُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ } وَذَكَرَ آيَةً أُخْرَى . وَقَالَ الْخَلَّالُ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْكِي عَنْ أَبِيهِ كَلَامَهُ فِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ , وَكِتَابَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ فَقَالَ : جَاءَنِي دَاوُد فَقَالَ : تَدْخُلُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَتُعْلِمُهُ قِصَّتِي وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنِّي يَعْنِي مَا حَكَوْا عَنْهُ . قَالَ : فَدَخَلْت عَلَى أَبِي فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ قَالَ : وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْبَابِ - فَقَالَ لِي : كَذَبَ قَدْ
جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى , هَاتِ تِلْكَ الضُّبَارَةَ قَالَ الْخَلَّالُ وَذَكَرَ الْكَلَامَ فَلَمْ أَحْفَظْهُ جَيِّدًا , فَأَخْبَرَنِي أَبُو يَحْيَى عَنْ زَكَرِيَّا أَبُو الْفَرَجِ الرَّازِيّ قَالَ : جِئْت يَوْمًا إلَى أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَإِذَا عِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : أُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَ أَبَا يَحْيَى مَا سَمِعْت مِنْ أَبِيك فِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَمَّا قَدِمَ دَاوُد مِنْ خُرَاسَانَ جَاءَنِي فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ لِي قَدْ عَلِمْت شِدَّةَ مَحَبَّتِي لَكُمْ وَلِلشَّيْخِ . وَقَدْ بَلَغَهُ عَنِّي كَلَامٌ فَأُحِبُّ أَنْ تَعْذُرَنِي عِنْدَهُ وَتَقُولَ لَهُ أَنْ لَيْسَ هَذَا مَقَالَتِي أَوْ لَيْسَ كَمَا قِيلَ لَك . فَقُلْت : لَا تُرِيدُ ؟ فَأَبِي فَدَخَلْت إلَى أَبِي فَأَخْبَرْته أَنَّ دَاوُد جَاءَ فَقَالَ إنَّهُ لَا يَقُولُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَأَنْكَرَ . قَالَ : جِئْنِي بِتِلْكَ الْإِضْبَارَةِ [ الْكُتُبِ ] فَأَخْرَجَ مِنْهَا كِتَابًا فَقَالَ هَذَا كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ وَفِيهِ أَنَّهُ يَعْنِي دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ - أَحَلَّ فِي بَلَدِنَا الْحَالَ وَالْمَحَلَّ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ فَقُلْت لَهُ إنَّهُ يُنْكِرُ ذَلِكَ . فَقَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَصْدَقُ مِنْهُ لَا نَقْبَلُ قَوْلَ عَدُوِّ اللَّهِ . أَوْ نَحْوَ مَا قَالَ أَبُو يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ بِنَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ الْخَلَّالُ , وَأَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي الْخِرَقِيِّ - وَالِدَ أَبِي الْقَاسِمِ صَاحِبَ الْمُخْتَصَرِ , قَالَ : سَأَلْت أَبَا بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ
عَنْ قِصَّةِ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : كَانَ دَاوُد خَرَجَ إلَى خُرَاسَانَ إلَى إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ شَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو نَصْرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ وَشَيْخٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ , شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ . فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَنْ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ لَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ . فَقُلْت : هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي ثَوْرٍ , قَالَ جَاءَنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ قَالَ بِبَلَدِنَا : إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ . ثُمَّ إنَّ دَاوُد قَدِمَ إلَى هَهُنَا فَذَكَرَ نَحْوَ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ الْمَرْوَزِيِّ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهْوَيْهِ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ دَاوُد فِي بَيْتِهِ وَثَبَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ فَضَرَبَهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ . هَذِهِ قِصَّتُهُ . قَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّاشِدِيُّ قَالَ : لَقِيت ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِالْبَصْرَةِ عِنْدَ بِنْدَارٍ , فَسَأَلْته عَنْ دَاوُد فَأَخْبَرَنِي بِمِثْلِ مَا كَتَبَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى إلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَقَالَ : خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا مِنْ خُرَاسَانَ بِأَسْوَإِ حَالٍ وَكَتَبَ لِي بِخَطِّهِ وَقَالَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ بِخُرَاسَانَ عُلَمَاءُ نَيْسَابُورَ . قُلْت : أَمَّا الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ إِسْحَاقَ فَأَظُنُّهُ كَلَامُهُ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ قَالَ : الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الْخَلَّالُ , سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَدَقَةَ , سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ سَمِعْت دَاوُد الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ : الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ وَلَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ . قُلْت فَأَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى دَاوُد قَوْلَهُ إنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَى هَذَا عِنْدَ النَّاسِ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ . وَكَانَتْ الْوَاقِفَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْخَلْقَ مَخْلُوقٌ وَيُظْهِرُونَ الْوَقْفَ , فَلَا يَقُولُونَ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَيَقُولُونَ إنَّهُ مُحْدَثٌ , وَمَقْصُودُهُمْ مَقْصُودُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ فَيُوَافِقُونَهُمْ فِي الْمَعْنَى وَيَسْتَتِرُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْ نَفْيِ الْخَلْقِ عَنْهُ , وَكَانَ إمَامُ الْوَاقِفَةِ فِي زَمَنِ أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَهُوَ تِلْمِيذُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ تُرْسُ الْجَهْمِيَّةِ , وَلِهَذَا حَكَى أَهْلُ الْمَقَالَاتِ عَنْهُ ذَلِكَ . قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ " قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَأَكْثَرُ الزَّيْدِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الرَّافِضَةِ : " إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لِلَّهِ لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ وَلَا أَنَّهُ خَالِقٌ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ وَزَادَ الثَّلْجِيُّ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُقَالُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَيْضًا كَمَا لَا يُقَالُ مَخْلُوقٌ لِأَنَّ الصِّفَاتِ لَا تُوصَفُ . وَحَكَى
زُرْقَانُ عَنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ضَرْبَيْنِ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْمَسْمُوعَ فَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الصَّوْتَ الْمُقَطَّعَ وَهُوَ رَسْمُ الْقُرْآنِ , وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَفِعْلُ اللَّهِ , مِثْلُ الْعِلْمِ وَالْحَرَكَةِ مِنْهُ لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْوَاقِفَةِ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَبِاَللَّهِ كَانَ وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَهُ وَامْتَنَعُوا مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ . أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ زُهَيْرٌ : أَلَا يَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُحْدَثٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُ يُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْمُتَفَقِّهِينَ كَانَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ , وَيَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , قَالَ وَهَذَا قَوْلُ دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ , وَقَالَ أَبُو مُعَاذٍ التُّومُنِيُّ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَدَثَ وَلَيْسَ بِمُحْدَثٍ وَفُعِلَ لَيْسَ بِمَفْعُولٍ وَامْتَنَعَ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ خُلِقَ وَيَقُولُ لَيْسَ يُخْلَقُ وَلَا مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِاَللَّهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ , كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ يَقُولُ فِي إرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَجْمَعَ قَائِمٌ بِاَللَّهِ , وَكَانَ يَقُولُ : إنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَمْرٌ وَهُوَ الْإِرَادَةُ مِنْ اللَّهِ الْإِيمَانَ لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِيمَانَ هُوَ
أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ . وَحَكَى زُرْقَانُ عَنْ مَعْمَرٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَوْهَرَ , وَالْأَعْرَاضَ الَّتِي هِيَ فِيهِ هِيَ فِعْلُ الْجَوْهَرِ إنَّمَا هِيَ فِعْلُ الطَّبِيعَةِ . فَالْقُرْآنُ فِعْلُ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِطَبْعِهِ فَهُوَ لَا خَالِقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ . وَهُوَ مُحْدِثٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي هُوَ حَالٌّ فِيهِ بِطَبْعِهِ وَحُكِيَ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ النُّمَيْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ اللَّهِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُهُ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ ابْتَدَأَهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَ فِعْلَ الطَّبِيعَةِ فَهُوَ لَا خَالِقٌ وَلَا مَخْلُوقٌ , قَالَ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلَابٍ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَائِمَةٌ بِهِ وَإِنَّهُ قَدِيمٌ بِكَلَامِهِ . وَإِنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ . كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ قَائِمٌ بِهِ . وَالْقُدْرَةَ قَائِمَةٌ بِهِ . وَهُوَ قَدِيمٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ , وَلَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَغَايَرُ . وَإِنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى , وَإِنَّ الرَّسْمَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُتَغَايِرَةُ دُونَ قِرَاءَةِ الْقَارِئِ . وَإِنَّهُ خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ هُوَ أَوْ بَعْضُهُ أَوْ غَيْرُهُ , وَإِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَخْتَلِفُ وَتَتَغَايَرُ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَغَايِرٍ كَمَا أَنَّ ذِكْرَنَا اللَّهَ يَخْتَلِفُ وَيَتَغَايَرُ وَالْمَدْلُولُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَايَرُ . وَإِنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُ
اللَّهِ عَرَبِيًّا لِأَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَهُوَ قِرَاءَتُهُ عَرَبِيٌّ فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِعِلَّةٍ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ عِبْرَانِيَّا لِعِلَّةٍ وَهِيَ أَنَّ الرَّسْمَ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ عِبْرَانِيٌّ وَكَذَلِكَ سُمِّيَ أَمْرًا لِعِلَّةٍ وَنَهْيًا وَخَبَرًا لِعِلَّةٍ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا قَبْلَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الَّتِي بِهَا يُسَمَّى كَلَامُهُ أَمْرًا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَسْمِيَةِ كَلَامِهِ نَهْيًا وَخَبَرًا , وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ لَمْ يَزَلْ مُخْبِرًا أَوْ لَمْ يَزَلْ نَاهِيًا وَقَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا إلَّا قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كُنْ مَخْلُوقًا قَالَ : وَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كِلَابٍ أَنَّ مَا يَسْمَعُ النَّاسَ يَتْلُونَهُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّ مُوسَى سَمِعَ اللَّهَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِهِ وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } مَعْنَاهُ حَتَّى يَفْهَمَ كَلَامَ اللَّهِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ حَتَّى يَسْمَعَ التَّالِينَ يَتْلُونَهُ قَالَ : وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَنْكَرَ خَلْقَ الْقُرْآنِ إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُكْتَبُ وَيُسْمَعُ وَإِنَّهُ مُتَغَايِرٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ غَيْرُ الْقُدْرَةِ وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ الْعِلْمِ وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيَّرَ صِفَاتِهِ وَصِفَاتُهُ مُتَغَايِرَةٌ وَهُوَ غَيْرُ مُتَغَايِرٍ قَالَ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهُ قَالَ : بَعْضُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَبَعْضُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَمَا كَانَ مِنْهُ مَخْلُوقًا
فَمِثْلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْأَخْبَارُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ قَالَ وَزَعَمَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ بِهِ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْكَثِيرَةَ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِهَا وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ : أَنَّ نِصْفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَنِصْفُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَحَكَى بَعْضُ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ الْمَقَالَاتِ : أَنَّ قَائِلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَالَ مَا كَانَ عِلْمًا مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ فَلَا نَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ غَيْرُ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا فَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَحَكَى هَذَا الْحَاكِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ وَهُوَ مَعَهُ عِنْدِي قَالَ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ , وَحَكَى زُرْقَانُ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ اللَّهَ هُوَ بَعْضُ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مُسَمًّى فِيهِ فَلَمَّا كَانَ اسْمُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَانَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ هُوَ أَوْلَى قَائِمٌ بِاَللَّهِ لَمْ يَسْبِقْهُ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ وَكُلُّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَنَحْوِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَنَحْوِ زُهَيْرٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَنَحْوِ أَبِي مُعَاذٍ التُّونِيُّ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ قُلْت : مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ وِزْر قَالَ وَنَحْوُهُمَا هُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ
وَنَقْلُهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهِ تَحْرِيفٌ فِي النَّقْلِ . وَقَدْ ذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْمَقَالَاتِ أَنَّهُ وَجَدَ ذَلِكَ فِي نَقْلِ الْمَقَالَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ , فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ الدَّيَّانَاتِ وَالتَّمْيِيزَ بَيْنَهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ وَالْمَقَالَاتِ وَرَأَيْت النَّاسَ فِي حِكَايَةٍ مَا يَحْكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْمَقَالَاتِ وَيُصَنِّفُونَ فِي النِّحَلِ وَالدَّيَّانَاتِ , مِنْ بَيْنِ مُقَصِّرٍ فِيمَا يَحْكِيهِ , وَغَالِطٍ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ قَوْلِ مُخَالِفِيهِ , وَبَيْنَ مُعْتَمَدٍ لِلْكَذِبِ فِي الْحِكَايَةِ إرَادَةَ التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَمِنْ بَيْنِ تَارِكٍ لِلتَّقَضِّي فِي رِوَايَتِهِ لِمَا يَرْوِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ , وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يُضِيفُ إلَى قَوْلِ مُخَالِفِيهِ مَا يَظُنُّ أَنَّ الْحُجَّةَ تَلْزَمُهُمْ بِهِ . قَالَ : وَلَيْسَ هَذَا سَبِيلُ الدَّيَّانِينَ وَلَا سَبِيلُ أَلْفَاظِ الْمُتَمَيِّزِينَ , فَحَدَانِي مَا رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَرْحِ مَا الْتَمَسْت شَرْحُهُ مِنْ أَمْرِ الْمَقَالَاتِ وَاخْتِصَارٍ ذَلِكَ . قُلْت : وَهُوَ نَفْسُهُ وَإِنْ تَحَدَّى فِيمَا يَنْقُلُهُ ضَبْطًا وَصِدْقًا , لَكِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَنْقُلُهُ مِنْ مَذَاهِبِ الَّذِينَ لَمْ يَقِفْ عَلَى كُتُبِهِمْ وَكَلَامِهِمْ هُوَ مِنْ نَقْلِ هَؤُلَاءِ الْمُصَنَّفِينَ فِي الْمَقَالَاتِ , كَزُرْقَانَ وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ وَابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ وَهُوَ شِيعِيٌّ , وَكَتَبَ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَنَحْوُهُمْ فَيَقَعُ فِي النَّقْلِ مَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ هَؤُلَاءِ مِثْلُ هَذَا الْمَوْضِعِ , فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ إنَّ
الْقُرْآنَ هُوَ الْخَالِقُ وَفِرْقَةٌ قَالَتْ هُوَ بَعْضُهُ , وَحِكَايَةُ زُرْقَانَ أَنَّ الْقَائِلَ بِهَذَا هُوَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ , هُوَ مِنْ بَابِ النَّقْلِ بِتَأْوِيلِهِمْ الْفَاسِدِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إنَّ فِرْقَةً قَالَتْ إنَّ اللَّهَ بَعْضُ الْقُرْآنِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مُسَمًّى فِيهِ , فَلَمَّا كَانَ اسْمُ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى كَانَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ , وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ وَكِيعٌ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ إنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ , يَعْنُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ , وَأَنَّ الصِّفَةَ هِيَ مِمَّا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَوْصُوفِ , كَمَا رَوَى الْخَلَّالُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ السَّالِمِيُّ , حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُول : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَرَوَاهُ اللَّالْكَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ , سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَعْمَرِيَّ , سَمِعْت ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ , سَمِعْت خَالِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَجَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ يَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ , فَقَالُوا : كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مِنْهُ لَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَقَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى أَنَّ حَنْبَلًا حَدَّثَهُمْ سَمِعْت أَبَا نُعَيْمٍ الْفَضْلَ بْنَ دُكَيْنٍ يَقُولُ : أَدْرَكْت النَّاسَ مَا يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا وَلَا عَرَفْنَا هَذَا إلَّا بَعْدَ مُنْذُ سِنِينَ , الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا يَئُولُ إلَى
خَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ , هَذَا الَّذِي لَمْ نَزَلْ عَلَيْهِ وَلَا نَعْرِفُ غَيْرَهُ . قَالَ الْخَلَّالُ أَنْبَأْنَا الْمَرْوَزِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَعِيدٍ ابْن أَخِي حَجَّاجٍ الْأْنَمَاطِيِّ , أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّهُ يَقُولُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَهُوَ مِنْهُ . وَرَوَى اللَّالْكَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ الصُّوفِيِّ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ مَرْدُوَيْهِ قَالَ : اجْتَمَعْنَا إلَى إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ كَلَامِهِ . فَكُنْت أَنَا وَعَلِيٌّ فَتَى هُشَيْمٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ خَلَفُ الْجَوْهَرِيُّ وَأَبُو كِنَانَةَ الْأَعْوَرُ وَأَبُو مُحَمَّدٍ سُرُورٌ مَوْلَى الْمُعَلَّى صَاحِبُ هُشَيْمٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ فَتَى هُشَيْمٍ : نُحِبُّ أَنْ نَسْمَعَ مِنْك مَا نُؤَدِّيهِ إلَى النَّاسِ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ فَقَالَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ , وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنِّي فِي الْمَجْلِسِ . وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ أَخْبَرْت عَنْ مُحْرِزِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ : عِلْمُهُ وَكَلَامُهُ مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْبَأْنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْبَهْلُولِ . سَمِعْت ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَمِنْ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ . وَقَالَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ . أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَا تَقُولُ
فِي الْقُرْآنِ عَنْ أَيِّ قَالَةٍ تَسْأَلُ قُلْت كَلَامُ اللَّهِ قَالَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا تَجْزَعْ أَنْ تَقُولَ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ ذَاتِ اللَّهِ وَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ . وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ سَأَلْت أَحْمَدَ فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَقَعَ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ مَا قَدْ وَقَعَ فَإِنْ سُئِلْت عَنْهُ مَاذَا أَقُولُ , فَقَالَ لِي أَلَسْت أَنْتَ مَخْلُوقًا ؟ قُلْت نَعَمْ , فَقَالَ أَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْك مَخْلُوقًا ؟ قُلْت نَعَمْ , قَالَ فَكَلَامُ اللَّهِ أَلَيْسَ هُوَ مِنْهُ ؟ قُلْت نَعَمْ قَالَ فَيَكُونُ شَيْءٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَخْلُوقًا قَالَ الْخَلَّالُ وَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي حَنْبَلٌ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِبْرِيلَ وَسَمِعَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ مِنْ النَّبِيِّ فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا نَشُكُّ , وَلَا نَرْتَابُ فِيهِ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ وَصِفَاتُهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْهُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ , وَقَدْ كُنَّا نَهَابُ الْكَلَامَ فِي هَذَا حَتَّى أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ مَا أَحْدَثُوا وَقَالُوا مَا
قَالُوا وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى مَا دَعَوْهُمْ إلَيْهِ فَبَانَ لَنَا أَمْرُهُمْ وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَزَالُ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا نَعْبُدُ اللَّهَ بِصِفَاتٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ وَلَا مَعْلُومَةٍ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { غَفُورٌ رَحِيمٌ } { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } { عَلَّامُ الْغُيُوبِ } ; فَهَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ لَا تُدْفَعُ وَلَا تُرَدُّ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ بِلَا حَدٍّ كَمَا قَالَ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } كَيْفَ شَاءَ , الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَا يَبْلُغُهُ صِفَةُ الْوَاصِفِينَ وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدَ رَبِّنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } نَتْرُكُ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ فِيهِ لَا نُجَادِلُ وَلَا نُمَارِي وَنُؤْمِنُ بِهِ كُلُّهُ وَنَرُدُّهُ إلَى عَالِمِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ فَقُلْت مُجِيبًا لَهُ : كَانَ اللَّهُ وَلَا عِلْمَ , فَالْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ وَلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ مِنْهُ , وَالْعِلْمُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَمَنْ قَالَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ مَخْلُوقٌ فَهَذَا الْكُفْرُ الْبَيِّنُ الصُّرَاحُ .
وذكر أَنْ مُحَمَّد بْن شُجَاع إمَام الْوَاقِف هُوَ وَأَصْحَابه الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُحْدَثٌ , بِمَعْنَى أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ إلَّا فِي اللَّفْظِ , وَقَدْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ , يَقُولُونَ هُوَ مُحْدَثٌ مَجْعُولٌ وَلَا يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ , وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لَفْظَ الْخَلْقِ يَحْتَمِلُ الْمُفْتَرِيَ , وَهُمْ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقُونَ لِأَصْحَابِ الْمَخْلُوقِ . وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى التَّرَادُفِ طَوَائِفُ الْكِلَابِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ , يَقُولُونَ الْمُحْدَثُ هُوَ الْمَخْلُوقُ فِي غَيْرِهِ لَا يُسَمُّونَ مُحْدَثًا إلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ , فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلْإِنْكَارِ عَلَى دَاوُد الْأَصْبَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ بِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ دَاوُد وَأَبُو مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمَا لَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ أَنَّهُ مُحْدَثٌ أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُرِيدُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ , بَلْ ذَهَبَ دَاوُد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ إنَّهُ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ , وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ , وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مُسْتَنَدُ دَاوُد فِي قَوْلِهِ لِعَبْدِ
اللَّهِ أُحِبُّ أَنْ تَعْذُرَ بِي عِنْدَهُ , وَتَقُولَ لَهُ لَيْسَ هَذَا مَقَالَتِي أَوْ لَيْسَ كَمَا قِيلَ لَك , فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصَدَ بِذَلِكَ أَنِّي لَا أَقُولُ إنَّهُ مُحْدَثٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَهِمُوهُ وَأَفْهَمُوهُ وَهُوَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ , وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبِي , وَلَمْ يَقْبَلْ أَحْمَدُ قَوْلَهُ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكَرٌ , وَلَوْ فَسَّرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ لَمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِأَنَّهُ أَنْكَرَ مُطْلَقًا فَلَمْ يَقْرَبَا لِلَّفْظِ الَّذِي قَالَهُ وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ , وَلِأَنَّهُ أَظْهَرَ مَعَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ بِدْعَةً أُخْرَى وَهِيَ إبَاحَةُ التَّحْلِيلِ وَهُوَ مَذْهَبُهُ .
فَعَارَضَ هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ قَالَتْ إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ أَوْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَقَالُوا إنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ , وَلَمْ يَجْعَلُوا الْمَعَانِيَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ , وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ الْجَهْمِيَّةَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ , لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِهِ , وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِهِ وَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَؤُلَاءِ أَخْرَجُوا الْمَعَانِيَ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَكَلَامُ اللَّهِ كَمَا أَخْرَجَ الْأَوَّلُونَ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ لَا يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَعْنًى بَلْ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ هَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْعُلُومِ وَالْإِرَادَاتِ أَمْ هِيَ حَقِيقَةٌ أُخْرَى لَيْسَتْ هِيَ الْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ فَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَقِيقَةً غَيْرَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ لَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ . وَالنِّزَاعُ الثَّانِي : أَنَّ مُسَمَّى الْكَلَامِ هَلْ هُوَ
الْمَعْنَى أَوْ هُوَ اللَّفْظُ فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَيَقُولُونَ الْكَلَامُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ هُمْ وَإِنْ وَافَقُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ أَوْ أَمْرًا آخَر قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ وَالْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرُهُمْ نَحْوَهُمْ لَا تُثْبِتُ مَعْنَى قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ بَلْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ الْحُرُوفُ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَيْضًا فَمُوَافَقَةُ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَقَلُّ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِينَ بِكَثِيرٍ وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا فَاللَّفْظُ وَالْمَعْنَى دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَالْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا تَقُولُهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى مَجَازٌ فِي اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْأَوَّلِينَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَجْمُوعِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ احْتَاجَ إلَى قَرِينَةٍ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ . وَقَدْ يَحْكِي الْأَوَّلُونَ عَنْ الْآخَرِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّ الْقَدِيمَ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ
الْمَصَاحِفِ فَيَحْكُونَ عَنْهُمْ أَنَّ نَفْسَ صَوْتِ الْعَبْدِ وَنَفْسِ الْمِدَادِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ فَسَادَهُ بِالْحِسِّ وَالِاضْطِرَارِ وَمَا وَجَدْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ يُقِرُّ بِذَلِكَ بَلْ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَعْضِ الْجُهَّالِ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْجِبَالِ وَنَحْوِهِ وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مَأْثُورٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ قَالَ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيم فَأَمَّا الْأَوْعِيَةُ فَمَنْ شَكَّ فِي خَلْقِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكِتَابٌ مَسْطُورٌ , فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ } . وَقَالَ : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } . فَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَحْيَةُ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ الْوَرَقُ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقٌ فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَلَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَكِنَّ مِنْهُمْ طَائِفَةً يَقُولُونَ إنَّ لَفْظَهُمْ بِالْقُرْآنِ أَوْ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ أَنَّهُ يُسْمَعُ مِنْهُمْ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ وَالصَّوْتُ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ لَكِنْ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ أَئِمَّتُهُمْ وَجَمَاهِيرُهُمْ . وَالْآخَرُونَ يَحْكُونَ عَنْ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ الْمُسْلِمُونَ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا هَذَا حِكَايَةٌ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ صَادِقُونَ
فِي هَذَا النَّقْلِ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ الْقَوْلَ بِالْحِكَايَةِ وَالْعِبَارَةِ وَهِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَضَافَهَا الْمُسْلِمُونَ إلَى ابْنِ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ ابْنَ كِلَابٍ قَالَ الْحُرُوفُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ وَاَللَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَقُومَ بِهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ فَوَافَقَ الْجَهْمِيَّةَ وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي هَذَا النَّفْيِ فَجَاءَ الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِابْنِ كِلَابٍ عَلَى عَامَّةِ أُصُولِهِ فَقَالَ الْحِكَايَةُ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ وَلَيْسَ الْحُرُوفُ مِثْلَ الْمَعْنَى بَلْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْنَى وَدَالَّةٌ عَلَيْهِ وَهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ يَقُولُونَ إنَّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ كَلَامًا لِلَّهِ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً وَيُطْلِقُونَ الْقَوْلَ الْحَقِيقِيَّ بِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ اللَّهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ سَوَاءٌ قَالُوا إنَّ الْحُرُوفَ تُسَمَّى كَلَامًا مَجَازًا أَوْ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي لِأَنَّهَا وَإِنْ سُمِّيَتْ كَلَامًا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ فَالْكَلَامُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ الْجَمَاعَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ فَيَصِحُّ عَلَى أَحَدِ قَوْلِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ كَلَامًا لِلْعِبَادِ حَقِيقَةً لِقِيَامِهَا بِهِمْ وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِهِ عِنْدَهُمْ بِحَالٍ فَلَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ تُسَمَّى كَلَامًا لَهُ حَقِيقَةً
أَوْ إنَّ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ أَوْ يُوجَدُ فِي الْمَصَاحِفِ يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً لَلَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُسَمَّى الْكَلَامِ مَا لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بَلْ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى مَا يَقُومُ الْمُتَكَلِّمُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَهُ وَهَذَا مَا وَجَدْته لَهُمْ وَهُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يُقَالَ لَكِنْ مَتَى قَالُوهُ انْتَقَضَ عَلَيْهِمْ عَامَّةُ الْحُجَجِ الَّتِي أَبْطَلُوا بِهَا مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْهِمْ وَصَارَ لِلْمُعْتَزِلَةِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ . وَقَدْ يَحْكِي الْآخَرُونَ عَنْ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ يَسْتَهِينُونَ بِالْمَصَاحِفِ فَيَطَئُونَهَا وَيَنَامُونَ عَلَيْهَا وَيَجْعَلُونَهَا مَعَ نِعَالِهِمْ وَرُبَّمَا كَتَبُوا الْقُرْآنَ بِالْعَذِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ وَهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْغُلُوِّ مِنْهُمْ لِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ أَئِمَّتُهُمْ أَنْ هَذَا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ صَارُوا يُفَرِّعُونَ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا مِنْ عِنْدِهِمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهَا أَئِمَّتُهُمْ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ فِي وُجُوبِ احْتِرَامِ الْمَصَاحِفِ وَإِكْرَامِهَا وَإِجْلَالِهَا وَتَنْزِيهِهَا وَفِي الْعَمَلِ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ } . وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبِدْعَةِ يَتَنَاقَضُونَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ الْبِدْعَةِ لَكِنَّ التَّنَاقُضَ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ وَهُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْتِزَامِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ
وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْبِدْعَةُ هِيَ الْمِرْقَاةَ إلَى هَذَا الْفَسَادِ . وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي جَعَلَتْ الْقُرْآنَ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَإِنَّهُمْ وَافَقُوا الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أُولَئِكَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ وَسَائِرَ الْكَلَامِ هُوَ مُجَرَّدُ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعَانِي لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ كَلَامًا تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ وَقَامَ بِهِ وَلَا جَعَلُوا لِهَذِهِ الْحُرُوفِ مَعَانِيَ تَقُومُ بِاَللَّهِ أَصْلًا إذْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَقُمْ بِاَللَّهِ لَا عِلْمٌ وَلَا إرَادَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ جَعَلُوا الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مَخْلُوقَةً خَلَقَهَا اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ خَلَقَ فِي نَفْسِ الشَّجَرَةِ صَوْتًا سَمِعَهُ مُوسَى حُرُوفُ ذَلِكَ الصَّوْتِ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ إنَّنِي , أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي إذْ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ كَمَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ بِالْحَرَكَةِ وَالْعَالِمَ بِالْعِلْمِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَغَيْرَهَا هُوَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الصِّفَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَقُومُ بِهِ أَصْلًا كَمَا لَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَمُتَحَرِّكًا بِحَرَكَةٍ لَا تَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ وَطَرَدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الصِّفَاتِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ
فَاعِلًا خَالِقًا وَمُكَوِّنًا بِفِعْلٍ وَخَلْقٍ وَتَكْوِينٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ .
وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ يَكُونُوا يَتَنَازَعُونَ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ , وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ , كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْحَاكِمَ , سَمِعْت يَحْيَى بْنَ مَنْصُورٍ الْقَاضِي يَقُولُ سَمِعْت خَالِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْجَارُودِ يَقُولُ : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ يَقُولُ : كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فَقَامَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَتَعَجَّبَ مِنْهُ النَّاسُ ثُمَّ قَالَ لِبَنِيهِ وَأَصْحَابِهِ اذْهَبُوا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَاكْتُبُوا عَنْهُ , وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي لَفْظِ الْمُحْدَثِ هَلْ هُوَ مُرَادِفٌ لِلَّفْظِ الْمَخْلُوقِ أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ , قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ , لَمَّا ذَكَرَ النِّزَاعَ فِي الْخَلْقِ وَالْكَسْبِ وَالْفِعْلِ قَالَ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى مَخْلُوقٍ مَعْنَى مُحْدَثٍ , وَمَعْنَى مُحْدَثٍ مَعْنَى مَخْلُوقٍ , وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدِي وَإِلَيْهِ أَذْهَبُ وَبِهِ أَقُولُ . وَقَالَ زُهَيْرٌ الْأَبَرِيُّ وَأَبُو مُعَاذٍ التُّومُنِيُّ مَعْنَى مَخْلُوقٍ أَنَّهُ وَقَعَ عَنْ إرَادَةٍ مِنْ اللَّهِ , وَقَوْلُهُ لَهُ كُنْ , وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بِذَلِكَ مِنْهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ وَقَدْ
قَالَ قَائِلُونَ مَعْنَى الْمَخْلُوقِ أَنَّ لَهُ خَلْقًا , وَلَمْ يَجْعَلُوا الْخَلْقَ قَوْلًا عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْهُمْ أَبُو مُوسَى وَبِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ , الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْمُحْدَثِ هُوَ اصْطِلَاحُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ , وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَدَثٍ وَمُحْدَثٍ كَمَا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْأَشْعَرِيُّ . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ أَبْوَابِ الْقُرْآنِ , بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلَائِقِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلَامِهِ هُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ وَأَمْرُهُ وَتَخْلِيقُهُ وَتَكْوِينُهُ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ , ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ وَقَالَ : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } . وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ شَيْئًا , حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ , وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ , قَالَ : وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ { يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ } . ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَلَغَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى الصَّفْوَانِ حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا : الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَبْوَابٍ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى , { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } , { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } , وَقَوْلُهُ , { لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } وَإِنَّ حَدَثَهُ لَا يُشْبِهُ حَدَثَ الْمَخْلُوقِينَ , لِقَوْلِهِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } . وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ كُتُبِهِمْ وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاَللَّهِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ . وَرُوِيَ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي , عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ أَحْدَثُ الْأَخْبَارِ بِاَللَّهِ مَحْضًا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ ,
وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكُتُبَ , وَقَالُوا هُوَ مِنْ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا أَوَ لَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ , فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكُمْ . وَاَلَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْلِمُونَ , أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَالْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْكَلَامِ لَهُ حُرُوفٌ وَمَعَانٍ فَلَيْسَ الْكَلَامُ وَلَا الْقُرْآنُ إذَا أُطْلِقَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَلَا أَسْمَاءً لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي , بَلْ الْكَلَامُ اسْمٌ لِلْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي جَمِيعًا فَنَشَأَ بَعْدَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِمَّنْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ طَائِفَتَانِ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْلُهَا قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ وَلَيْسَ هُوَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكُتُبِ فِي الظَّاهِرِ كَانُوا فِي ذَلِكَ مُنَافِقِينَ عَالِمِينَ بِنِفَاقِ أَنْفُسِهِمْ كَمَا عَلَيْهِ طَوَاغِيتُهُمْ الَّذِينَ عَلِمُوا بِمُخَالَفَةِ أَنْفُسِهِمْ لِلرُّسُلِ وَأَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مُنَافِقُونَ زَنَادِقَةٌ . وَأَمَّا الْجُهَّالُ بِنِفَاقِ أَنْفُسِهِمْ صَارُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ الْبَاطِنِ وَتَصْدِيقِهِمْ الظَّاهِرِ جَامِعِينَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُضْطَرِّينَ إلَى السَّفْسَطَةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالْقَرَامِطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ مُفْسِدِينَ لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ وَقَوْلُهُمْ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ مِنْ أُصُولِ نِفَاقِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَكُونُ حَيًّا إلَّا بِحَيَاةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَيًّا بِلَا حَيَاةٍ أَوْ بِحَيَاةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْقَادِرُ لَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ عَالِمًا قَادِرًا بِلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ أَوْ بِعِلْمٍ وَقُدْرَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ الْحَكِيمُ وَالرَّحِيمُ وَالْمُتَكَلِّمُ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ حَكِيمًا وَلَا رَحِيمًا أَوْ مُتَكَلِّمًا أَوْ مُرِيدًا إلَّا بِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ أَوْ كَلَامٍ وَإِرَادَةٍ تَقُومُ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا رَحِيمًا بِلَا رَحْمَةٍ أَوْ بِحِكْمَةٍ وَرَحْمَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ
مُتَكَلِّمًا وَلَا مُرِيدًا بِلَا كَلَامٍ وَلَا إرَادَةٍ أَوْ بِكَلَامٍ وَإِرَادَةٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْكَلَامَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَحِلٍّ إذْ هَذِهِ صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِبِدَايَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ يَكُونُ عَالِمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الْقُدْرَةُ يَكُونُ قَادِرًا وَاَلَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الرَّحْمَةُ يَكُونُ رَحِيمًا وَاَلَّذِي تَقُومُ بِهِ الْإِرَادَةُ يَكُونُ مُرِيدًا فَهَذِهِ الْأُمُورُ مُسْتَقِرَّةٌ فِي فِطْرِ النَّاسِ تَعْلَمُهَا قُلُوبُهُمْ عِلْمًا فِطْرِيًّا ضَرُورِيًّا وَالْأَلْفَاظُ الْمُعَبِّرَةُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ مِنْ اللُّغَاتِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا بَنُو آدَمَ فَلَا يُسَمُّونَ عَالِمًا قَادِرًا إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَمَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ سَمُّوهُ عَالِمًا قَادِرًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قُدِّمَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ دُونَ غَيْرِهِ أَيْ إذَا قَامَ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ بِمَحَلٍّ كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْعَالِمُ الْمُتَكَلِّمُ دُونَ غَيْرِهِ . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ إنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحِلٍّ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهَا اسْمٌ كَمَا يُشْتَقُّ لِمَحَلِّ الْعِلْمِ عَلِيمٌ وَلِمَحِلِّ الْكَلَامِ مُتَكَلِّمٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ أَنَّ صِدْقَ الْمُشْتَقِّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ أَيْ أَنَّ لَفْظَ الْعَلِيمِ وَالْمُتَكَلِّمِ مُشْتَقٌّ مِنْ لَفْظِ الْعِلْمِ
وَالْكَلَامِ فَإِذَا صَدَقَ عَلَى الْمَوْصُوفِ أَنَّهُ عَلِيمٌ لَزِمَ أَنْ يَصْدُقَ حُصُولُ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ لَهُ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ الَّذِينَ عَرَفُوا حَقِيقَةَ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ بَلْ الْكَلَامُ قَامَ بِجِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ غَيْرِهِ وَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا يُوجِبُ بِالْفِطْرَةِ الضَّرُورِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ دُونَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا أَصْلًا وَصَارُوا يَذْكُرُونَ قَوْلَهُمْ بِحَسَبِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنَّمَا خَلَقَ شَيْئًا تَكَلَّمَ عَنْهُ وَهَكَذَا كَانَتْ الْجَهْمِيَّةُ تَقُولُ أَوَّلًا ثُمَّ أَنَّهَا زَعَمَتْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا عَلَى قَوْلَيْنِ فَلَهُمْ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِالْكَلَامِ الْمَخْلُوقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ وَهُمْ فِيهِ أَصْدَقُ لِإِظْهَارِهِمْ كُفْرِهِمْ أَنَّ اللَّهَ لَا تَكَلَّمَ وَلَا يَتَكَلَّمُ . وَالثَّانِي : وَهُمْ فِيهِ مُتَوَسِّطُونَ فِيهِ النِّفَاقُ أَنَّهُ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ . وَالثَّالِثُ : وَهُمْ فِيهِ مُنَافِقُونَ نِفَاقًا مَحْضًا أَنَّهُ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَأَسَاسُ النِّفَاقِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فَلِهَذَا كَانُوا مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ لَيْسَ قَائِمًا بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَخْلُوقٌ فِي غَيْرِهِ كَمَا كَانُوا كَاذِبِينَ
مُفْتَرِينَ فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ عَالِمًا قَادِرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا بِلَا عِلْمٍ يَقُومُ بِهِ وَلَا قُدْرَةٍ وَلَا إرَادَةٍ وَلَا كَلَامٍ فَكَانُوا وَإِنْ نَطَقُوا بِأَسْمَائِهِ فَهُمْ كَاذِبُونَ بِتَسْمِيَتِهِ بِهَا وَهُمْ مُلْحِدُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَإِلْحَادِ الَّذِينَ نَفْوًا عَنْهُ أَنْ يُسَمَّى بِالرَّحْمَنِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمْ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ خَبِرَ مَقَالَاتِهِمْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَنْ تَعْبُدُونَ قَالُوا : نَعْبُدُ مَنْ يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ . قُلْنَا : فَهَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ بِصِفَةٍ قَالُوا نَعَمْ قُلْنَا قَدْ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّكُمْ لَا تُثْبِتُونَ شَيْئًا إنَّمَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الشُّنْعَةَ بِمَا تُظْهِرُونَ وَقُلْنَا , لَهُمْ : هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى , قَالُوا : لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِجَارِحَةٍ وَالْجَوَارِحُ عَنْ اللَّهِ مَنْفِيَّةٌ فَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَقُودُونَ بِقَوْلِهِمْ إلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ . وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانُ مَا أَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قُلْنَا لِمَ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا
يَتَكَلَّمُ إنَّمَا كَوَّنَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْ اللَّهِ وَخَلَقَ صَوْتًا فَسُمِعَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ فَقُلْنَا هَلْ يَجُوزُ لِمُكَوِّنٍ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ : يَا مُوسَى { أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } أَوْ { إنِّي أَنَا رَبُّك } فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمَ بِأَوَّلًا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَ الْأَشْيَاءَ كَأَنْ يَقُولُ ذَلِكَ الْمُكَوَّنُ يَا مُوسَى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَالَ { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وَقَالَ { إنِّي اصْطَفَيْتُك عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } فَهَذَا مَنْصُوصُ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ } . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ جَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ أَلَيْسَ اللَّهُ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أَتَرَاهَا أَنَّهَا قَالَتْ بِجَوْفٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُد الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } أَتَرَاهَا أَنَّهَا
سَبَّحَتْ بِجَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَالْجَوَارِحُ إذَا شَهِدَتْ عَلَى الْكَافِرِ { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أَتَرَاهَا نَطَقَتْ بِجَوْفٍ وَفَمٍ وَشَفَتَيْنِ وَلِسَانٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْطَقَهَا كَمَا شَاءَ فَكَذَلِكَ تَكَلَّمَ اللَّهُ كَيْف شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُولَ جَوْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَفَتَانِ وَلَا لِسَانٌ فَلَمَّا خَنَقَتْهُ الْحُجَجُ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى إلَّا أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُهُ قُلْنَا غَيْرُهُ مَخْلُوقٌ قَالَ نَعَمْ قُلْنَا هَذَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّكُمْ تَدْفَعُونَ الشُّنْعَةَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ بِمَا تُظْهِرُونَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ { لَمَّا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ قَالَ يَا رَبِّ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعْته هُوَ كَلَامُك قَالَ نَعَمْ يَا مُوسَى هُوَ كَلَامِي وَإِنَّمَا كَلَّمْتُك بِقُوَّةِ عَشَرَةِ آلَافِ لِسَانٍ وَلِي قُوَّةُ الْأَلْسُنِ كُلِّهَا وَأَنَا أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَلَّمْتُك عَلَى قَدْرِ مَا تُطِيقُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَلَّمْتُك بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمُتّ قَالَ فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ قَالُوا أَتَصِفُ لَنَا كَلَامَ رَبِّك قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَهُ لَكُمْ قَالُوا فَشَبِّهْهُ لَنَا قَالَ : أُسْمِعْتُمْ الصَّوَاعِقَ الَّتِي تُقْبِلُ فِي أَحْلَى حَلَاوَةٍ سَمِعْتُمُوهَا فَكَأَنَّهُ مِثْلُهُ } . وَقُلْنَا لِلْجَهْمِيَّةِ مَنْ الْقَائِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْت قُلْت لِلنَّاسِ اتَّخَذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلُ قَالُوا يَكُونُ اللَّهُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ
اللَّهِ كَمَا كَوَّنَ فَعَبَّرَ لِمُوسَى قُلْنَا فَمَنْ الْقَائِلُ { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } أَلَيْسَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ قَالُوا هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا فَيُعَبِّرُ عَنْ اللَّهِ قُلْنَا قَدْ أَعْظَمْتُمْ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ فَشَبَّهْتُمُوهُ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَكَلَّمُ وَلَا تَحَرَّكَ وَلَا تَزُولُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان . فَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ قَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ يَتَكَلَّمُ وَلَكِنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْنَا وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَلَامُهُمْ مَخْلُوقٌ فَقَدْ شَبَّهْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَفِي مَذْهَبِكُمْ أَنَّ اللَّهَ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ التَّكَلُّمَ وَكَذَلِكَ بَنُو آدَم كَانُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى خَلَقَ لَهُمْ كَلَامًا فَقَدْ جَمَعْتُمْ بَيْنَ كُفْرٍ وَتَشْبِيهٍ فَتَعَالَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى خَلَقَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا نُورَ لَهُ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ نُورًا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ وَلَا عَظَمَةَ حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ عَظَمَةً فَقَالَتْ
الْجَهْمِيَّةُ لَنَا لَمَّا وَصَفْنَا مِنْ اللَّهِ هَذِهِ الصِّفَاتِ إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ وَنُورَهُ وَاَللَّهَ وَقَدَرَتْهُ وَاَللَّهَ وَعَظَمَتَهُ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ فَقُلْنَا لَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ وَقُدْرَتُهُ وَلَمْ يَزَلْ وَنُورُهُ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ بِنُورِهِ وَبِقُدْرَتِهِ لَا مَتَى قَدَرَ وَلَا كَيْفَ قَدَرَ فَقَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدِينَ أَبَدًا حَتَّى تَقُولُوا كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ فَقُلْنَا نَحْنُ نَقُولُ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ كُلِّهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَصِفُ إلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَضَرَبَنَا لَهُمْ مَثَلًا فِي ذَلِكَ فَقُلْنَا لَهُمْ أَخْبِرُونَا عَنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَلَيْسَ لَهَا جُذُوعٌ وَكَرَبٌ وَلِيفٌ وَسَعَفٌ وَخُوصٌ وَجُمَّارٌ وَاسْمُهَا اسْمٌ وَاحِدٌ سُمِّيَتْ نَخْلَةً بِجَمِيعِ صِفَاتِهَا فَكَذَلِكَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إلَهً وَاحِدً لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا قُدْرَةَ حَتَّى خَلَقَ وَاَلَّذِي لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ هُوَ عَاجِزٌ وَلَا نَقُولُ قَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَعْلَمُ حَتَّى خَلَقَ فَعَلِمَ وَاَلَّذِي لَا يَعْلَمُ فَهُوَ جَاهِلٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ دَلَالَاتِ اللَّفْظِ وَيَعْلَمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ تَارَةً يَكُونُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أَوْ الْعُرْفِيِّ أَوْ الشَّرْعِيِّ إمَّا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَإِمَّا فِي الْمُرَكَّبَةِ , وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ مِنْ التَّرْكِيبِ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَتُهُ فِي نَفْسِهِ , وَتَارَةً بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا مَجَازًا , وَتَارَةً بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكَلَّمِ فِيهِ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ الَّذِي يُعَيِّنُ أَحَدَ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ أَوْ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ مَجَازُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْطِي اللَّفْظَ صِفَةَ الظُّهُورِ وَإِلَّا فَقَدْ يَتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . نَعَمْ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِاللَّفْظِ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْقَرَائِنِ الْمُتَّصِلَةِ تَبَيَّنَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ , بَلْ عُلِمَ مُرَادُهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَفْظِيٍّ مُنْفَصِلٍ , فَهُنَا أُرِيدَ بِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَإِنْ كَانَ الصَّارِفُ عَقْلِيًّا ظَاهِرًا فَفِي تَسْمِيَةِ الْمُرَادِ خِلَافُ الظَّاهِرِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذَا عُرِفَ الْمَقْصُودُ فَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَلَيْسَ هُوَ الظَّاهِرَ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ . فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا هُوَ مُمَاثِلٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَقَدْ حَنِثَ , وَإِنْ كَانَ فِي عُرْفِ خِطَابِهِ أَنَّ ظَاهِرَهَا هُوَ مَا
يَلِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عُرْفَ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبٌ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مُرَادِهِ وَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِنِيَّتِهِ , فَقَدْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ مَعْنًى بَاطِلًا فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ , وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَحْنَثْ فَالْحُكْمُ فِي يَمِينِهِ ظَاهِرٌ . وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الصِّفَةَ وَأَمْثَالَهَا إذَا بَحَثْتَ عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَجَدَّتَهُمْ قَدْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ اسْتِوَاءٍ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا . ثُمَّ حَكَوْا عَنْ مُخَالِفِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَعِبُوا فِي إقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ , ثُمَّ يَقُولُونَ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ إمَّا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ بِالظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي أَوْ بِالْفَضْلِ وَالرُّجْحَانِ الَّذِي هُوَ عُلُوُّ الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ , وَيَبْقَى الْمَعْنَى الثَّالِثُ وَهُوَ اسْتِوَاءٌ يَلِيقُ بِجَلَالِهِ تَكُونُ دَلَالَةُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ عَلَى مَعَانِيهَا قَدْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَيْهِ , بَلْ مَنْ أَكْثَرَ النَّظَرَ فِي آثَارِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُ قَدْ أُلْقِيَ إلَى الْأُمَّةِ , أَنَّ رَبَّكُمْ الَّذِي تَعْبُدُونَهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقَ
السَّمَوَاتِ , وَعَلِمَ أَنَّ عَامَّةَ السَّلَفِ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِثْلَ مَا عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , وَأَنَّهُ لَا يُنْقَلُ عَنْ وَاحِدٍ لَفْظٌ يَدُلُّ لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ إنَّ رَبَّنَا لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ , أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْبَحْرِ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تُرَّهَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَلَا مَثَّلَ اسْتِوَاءَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ , وَلَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً تَسْتَلْزِمُ حُدُوثًا أَوْ نَقْصًا , وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ لَكَ خَطَأَ مَنْ أَطْلَقَ الظَّاهِرَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِالْخَلْقِ , أَنَّ الْأَلْفَاظَ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا مَا مَعْنَاهُ مُفْرَدٌ كَلَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ وَالْبَحْرِ وَالْكَلْبِ فَهَذَا إذَا قِيلَ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ , أَوْ قِيلَ لِلْبَلِيدِ حِمَارٌ أَوْ قِيلَ لِلْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ أَوْ الْجَوَادِ مِنْ الْخَيْلِ بَحْرٌ أَوْ قِيلَ لِلْأَسَدِ كَلْبٌ فَهَذَا مَجَازٌ ثُمَّ إنْ قُرِنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ { كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرَسِ , أَبِي طَلْحَةَ : إنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا } , وَقَوْلِهِ : { إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } . وَقَوْلِهِ لِعُثْمَانَ : { إنَّ اللَّهَ قَمَّصَكَ قَمِيصًا } وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ , فَمَنْ اسْتَلَمَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا بَايَعَ رَبَّهُ . أَوْ كَمَا قَالَ , وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُنَا اللَّفْظُ فِيهِ
تَجَوُّزٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ ظَهَرَ مِنْ اللَّفْظِ مُرَادُ صَاحِبِهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُتَكَلِّمِ لَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْوَضْعِ الْأَوَّلِ , وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ عَلِمَ الْمُرَادَ بِهِ وَسَبَقَ ذَلِكَ إلَى ذِهْنِهِ بَلْ أَحَالَ إرَادَةَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ . وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا لَا مُحْتَمَلًا , وَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فِي شَيْءٍ , وَهَذَا أَحَدُ مَثَارَاتِ غَلَطِ الْغَالِطِينَ فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَأَنَّ اللَّفْظَ يُؤَوَّلُ . النَّوْعُ الثَّانِي : مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِي مَعْنَاهُ إضَافَةٌ إمَّا بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إضَافَةً مَحْضَةً كَالْعُلُوِّ وَالسُّفُولِ وَفَوْقَ وَتَحْتَ وَنَحْوِ ذَلِكَ , أَوْ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى ثُبُوتِيًّا فِيهِ إضَافَةٌ كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ , فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَعْنًى مُفْرَدٌ بِحَسَبِ بَعْضِ مَوَارِدِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مُفْرَدًا قَطُّ . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْمَجَازُ بَلْ يُجْعَلُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ مَوَارِدِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ لَفْظَ اسْتَوَى لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ مَثَلًا عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا كَمَا أَنَّ لَفْظَ
الْعِلْمِ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ جُلُوسِ الْآدَمِيِّ مَثَلًا عَلَى سَرِيرِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَصِيرَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعِلْمِ لَمْ تَسْتَعْمِلْهُ الْعَرَبُ فِي خُصُوصِ الْعَرَضِ الْقَائِمِ بِقَلْبِ الْبَشَرِ الْمُنْقَسِمِ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ حَقِيقَةً وَاسْتَعْمَلَتْهُ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا بَلْ هَذَا الْمَعْنَى تَارَةً يُسْتَعْمَلُ بِلَا تَعْدِيَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وَتَارَةً يُعَدَّى بِحَرْفِ الْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } وَتَارَةً يُعَدَّى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ , ثُمَّ هَذَا تَارَةً يَكُونُ صِفَةً لِلَّهِ وَتَارَةً يَكُونُ صِفَةً لِخَلْقِهِ , فَلَا يَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةً وَفِي الْآخَرِ مَجَازًا , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ اسْتِوَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ , كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَهَا بِأَيْدٍ } وقَوْله تَعَالَى { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } وقَوْله تَعَالَى { صُنْعَ اللَّه الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } . وقَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } . { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ } فَهَلْ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يُثْبِتَ لِرَبِّهِ خَاصِّيَّةَ الْآدَمِيِّ الْبَانِي الصَّانِعِ الْعَامِلِ الْكَاتِبِ , أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حَقِيقَةَ الْعَمَلِ وَالْبِنَاءِ كَمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَيَلِيقُ بِجَلَالِهِ , أَمْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَصْرُوفَةٌ عَنْ ظَاهِرِهَا , أَمْ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَقُولَ عَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ فَكَمَا
أَنَّ ذَاتَه لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ خَلْقِهِ فَعَمَلُهُ وَصُنْعُهُ وَبِنَاؤُهُ لَيْسَ مِثْلَ عَمَلِهِمْ وَصُنْعِهِمْ وَبِنَائِهِمْ , وَنَحْنُ لَمْ نَفْهَمْ مِنْ قَوْلِنَا بَنَى فُلَانٌ وَكَتَبَ فُلَانٌ مَا فِي عَمَلِهِ مِنْ الْمُعَالَجَةِ وَالتَّأْثِيرِ إلَّا مِنْ جِهَةِ عِلْمِنَا بِحَالِ الْبَانِي لَا مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ , فَفَرِّقْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ بَيْنَ مَا دَلَّ مُجَرَّدُ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْفِعْلِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ الْمُعَيَّنِ , وَبِهَذَا يَنْكَشِفُ لَكَ كَثِيرٌ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَتَرَى مَوَاقِعَ اللَّبْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ , وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ , وَيَجْمَعُ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ وَبَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصْلٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ , هُوَ الْمَنْصُوص عَنْ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ , وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَأَمَّا نُصُوصُهُمْ الَّتِي فِيهَا بَيَانٌ أَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ , بَلْ الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ كَلَامِهِمْ فَكَثِيرٌ مِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِثْلُ مَا ذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ الْأَثْرَمِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَبَّادِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَثْرَمِ وَعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ فَابْتَدَأَ عَبَّاسٌ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَوْمٌ قَدْ حَدَثُوا يَقُولُونَ لَا نَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ . هَؤُلَاءِ أَضَرُّ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ عَلَى النَّاسِ , وَيْلَكُمْ فَإِنْ لَمْ تَقُولُوا لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَقُولُوا مَخْلُوقٌ , فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَوْمُ سُوءٍ . فَقَالَ الْعَبَّاسُ : مَا تَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ الَّذِي أَعْتَقِدُهُ وَأَذْهَبُ إلَيْهِ وَلَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَشُكُّ فِي هَذَا , ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُسْتَعْظِمًا لِلشَّكِّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ فِي هَذَا شَكٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ , قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَالْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ فِيهِ أَسْمَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّ شَيْءٍ يَقُولُونَ لَا يَقُولُونَ أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ , وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ
أَسْمَاءَ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ كَفَرَ , لَمْ يَزَلْ اللَّهُ تَعَالَى قَدِيرًا عَلِيمًا عَزِيزًا حَكِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا , لَسْنَا نَشُكُّ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ لَيْسَتْ بِمَخْلُوقَةٍ , وَلَسْنَا نَشُكُّ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ مَخْلُوقٍ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا .
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَإِثْبَاتِ قِدَمِ كَلَامِهِ فَالدَّلِيلُ حُصُولُ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ آمِرُنَا مُخْبِرٌ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ , وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْمَوْضُوعَةَ لِلْأَمْرِ قَدْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَضَعَ اللَّفْظَةَ الَّتِي وَضَعَهَا لِأَنَّ إفَادَةَ مَعْنَى الْأَمْرِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْخَبَرِ وَبِالْعَكْسِ , فَإِذْنُ كَوْنِ اللَّفْظَةِ الْمُعَيَّنَةِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا إنَّمَا كَانَ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَاهِيَّةِ الطَّلَبِ وَالزَّجْرِ وَالْحُكْمِ , وَهَذِهِ الْمَاهِيَّاتُ لَيْسَتْ أُمُورًا وَصْفِيَّةً لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ السَّوَادَ لَا يَنْقَلِبُ بَيَاضًا أَوْ غَيْرَهُ وَبِالْعَكْسِ , وَكَذَلِكَ مَاهِيَّةُ الطَّلَبِ لَا تَنْقَلِبُ مَاهِيَّةُ الزَّجْرِ وَلَا الزَّجْرُ مِنْهَا مَاهِيَّةَ الْحُكْمِ , وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا وَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا إذَا كَانَ اللَّهُ مَوْصُوفًا بِطَلَبٍ وَزَجْرٍ وَحُكْمٍ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ ظَاهِرًا أَنَّهَا لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْبَقَاءِ بَلْ الَّذِي يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِيهِ ,
أَمَّا فِي الطَّلَبِ وَالزَّجْرِ فَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الْعِلْمُ , وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ , فَمُوجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فِي حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا سِوَى الْإِرَادَةِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى بِالْكَلَامِ , وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ فَإِذَنْ الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ فِي الشَّاهِدِ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ , وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ ثَبَتَ فِي الْغَائِبِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ قَالَ فَثَبَتَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ وَخَبَرَهُ صِفَاتٌ حَقِيقِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ مُغَايِرَةٌ لِذَاتِهِ وَعِلْمِهِ , وَأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْوَارِدَةَ فِي الْكُتُبِ الْمُنْزَلَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا , وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ بِقِدَمِهَا لِأَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْهُمْ مَنْ نَفَى كَوْنَ اللَّهِ مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ بِهَذَا الْمَعْنَى . وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَهُ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ قَدِيمَةٌ فَلَوْ أَثْبَتَ كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ثُمَّ حَكَمْنَا بِحُدُوثِ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَاطِلٌ , ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَسْئِلَةً مِنْهَا مِمَّا نَعَاهُ تَارَةً فِي
إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي لِلَّهِ وَتَارَةً فِي قِدَمِهَا وَقَالَ وَمِنْهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعَ بِالْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ إلَى كَوْنِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةٌ بِقَوْلِكُمْ كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ , أَثْبَتَهَا قَدِيمَةً قُلْت الْقَوْلُ فِي إثْبَاتِهَا مَسْأَلَةٌ , وَالْقَوْلُ فِي قِدَمِهَا مَسْأَلَةٌ أُخْرَى . فَلَوْ لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ ثُبُوتُ الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى لَزِمَ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِعِلْمٍ قَدِيمٍ إثْبَاتُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَدِيمٍ , وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فَكَذَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ , ثُمَّ لَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُثْبِتْ قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ , ثُمَّ ذَكَرَ مُعَارَضَاتِ الْمُخَالِفِ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ تِسْعَةً , وَقَالَ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحُكْمُ هُوَ الْعِلْمُ , قُلْنَا هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ : أَمَّا أَوَّلًا : فَلِأَنَّ الْقَائِلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَائِلَانِ , قَائِلٌ يَقُولُ نُثْبِتُ لِلَّهِ تَعَالَى خَبَرًا قَدِيمًا
وَنُثْبِتُ كَوْنَهُ مُغَايِرًا لِلْعِلْمِ , وَقَائِلٌ لَا نُثْبِتُ لَهُ خَبَرًا قَدِيمًا أَصْلًا فَلَوْ قُلْنَا إنَّ اللَّهَ لَهُ خَبَرٌ قَدِيمٌ ثُمَّ قُلْنَا إنَّهُ هُوَ الْعِلْمُ , كَانَ ذَلِكَ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ . وَأَمَّا ثَانِيًا : فَلِأَنَّا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ فِي الشَّاهِدِ لَيْسَتْ هِيَ الظَّنَّ وَالْعِلْمَ وَالِاعْتِقَادَ , وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْغَائِبِ , كَذَلِكَ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ قَوْلُهُ سَلَّمْنَا ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلَّهِ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهَا قَدِيمَةٌ , قُلْنَا لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ لَوْ لَزِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِلَّهِ إثْبَاتُ قِدَمِهَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ بِالثَّانِي لَزِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ إثْبَاتُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ بِالثَّانِي , قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْمَحْصُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ , فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يُسَاعِدُونَنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ إثْبَاتَ قِدَمِ كَلَامِ اللَّه بِهَذِهِ الطَّرِيقِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ , قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ أَنَّ إحْدَاثَ دَلِيلٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ , وَقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْمُعَارَضَةِ , وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَامِسَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ الْوُجُوهِ السَّمْعِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ , وَهُوَ أَنَّا لَا نُنَازِعُ
فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ حُدُوثَ الْقُرْآنِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا نَحْنُ بَعْدَ ذَلِكَ نَدَّعِي صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَدَّعِي قِدَمَهَا . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ يَسْتَحِيلُ وَصْفُهَا بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً وَعَجَمِيَّةً وَمُحْكَمَةً وَمُتَشَابِهَةً , لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ الَّذِي حَاوَلُوا إثْبَاتَ حُدُوثِهِ فَنَحْنُ لَا نُنَازِعُهُمْ فِي حُدُوثِهِ , وَالْكَلَامُ الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ لَا يَجْرِي فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ
وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ : وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَفَلَيْسَ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ , قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : إنَّمَا قَالَ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ أَعْظَمَ مِنْ آيَةِ الْكُرْسِيِّ , فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِهِ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْعَظِيمِ الْمَخْلُوقِ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْحَدِيثُ { مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا كَذَا أَعْظَمَ } فَقُلْت لَهُمْ إنَّ الْخَلْقَ هَاهُنَا وَقَعَ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا عَلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ : مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ , فَلَمْ يَذْكُرْ خَلْقَ الْقُرْآنَ هَاهُنَا , وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ تُسْتَرَ بْنِ شَكْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ أَعْظَمَ مِنْ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } } . قَالَ سُفْيَانُ تَفْسِيرُهُ إنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَكَلَامُهُ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِمَّا يَكُونُ بِهِ الْخَلْقُ , وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ . وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ أَنَّ السَّلَفَ امْتَنَعُوا مِنْ لَفْظِ الْخَلْقِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى
الِافْتِرَاءِ فَأَلْفَاظُ السَّلَفِ مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ نَحْوِ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ السَّلَفِ كُلُّهَا تُصَرِّحُ بِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْخَلْقَ الَّذِي تَعْنِيهِ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ كَوْنِهِ مَصْنُوعًا فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ , كَمَا أَنَّهُمْ سَأَلُوا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ خَالِقٌ أَوْ هُوَ مَخْلُوقٌ , فَقَالَ : لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ . وَمِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ حَكَّمْت مَخْلُوقًا فَقَالَ مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ , وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَهَذَا الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ لَيْسَ مَعْنَاهُ مَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا مَا قَالَتْهُ الْكِلَابِيَّةُ , وَهَذَا الرَّازِيّ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يُنَافِي مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ , فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَا هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا , وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ اعْتِصَامُهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ بِدَعْوَى إجْمَاعٍ وَالْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ عَلَى خِلَافِهِ , فَلَوْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لَمْ تَصِحَّ الْحُجَّةُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمُحَقَّقُ السَّلَفِيُّ عَلَى خِلَافِهِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : إنَّ الرَّجُلَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فِي خَلْقِ الْكَلَامِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ , وَإِنَّمَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ حَيْثُ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّتْ ذَلِكَ
الْمَخْلُوقَ كَلَامَ اللَّهِ وَهُمْ لَمْ يُسَمُّوهُ كَلَامَ اللَّهِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ أَوْ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَقَالُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ , فَلَوْ كَانَ مَا وَصَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا وَإِنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي تَسْمِيَةِ كَلَامِ اللَّه أَوْ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةُ الْعَظِيمَةُ وَالتَّكْفِيرُ الْعَظِيمُ بِمُجَرَّدِ نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ كَمَا قَالَ هُوَ إنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ , فَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِيمَا أَطْلَقَتْهُ لَمْ تُنَازِعْ إلَّا فِي بَحْثٍ لُغَوِيٍّ , لَمْ يَجِبْ تَكْفِيرُهُمْ وَتَضْلِيلُهُمْ وَهِجْرَانُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لَا يُضَلِّلُونَهُمْ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ وَإِنْ نَازَعُوهُمْ فِي لَفْظِهِ وَمُجَرَّدُ النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ لَا يَكُونُ كُفْرًا وَلَا ضَلَالًا فِي الدِّينِ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ اسْتَخَفَّ بِالْبَحْثِ فِي مُسَمَّى الْمُتَكَلِّمِ وَقَالَ إنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْإِطْنَابَ لِأَنَّهُ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ , وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ بِأَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هِيَ سَمْعِيَّةٌ كَمَا قَدْ ذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ ,
الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ , وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ لَهُ الْمُنَازِعُ إثْبَاتَ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَمْرًا نَاهِيًا مُخْبِرًا بِالْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ لِتَنَازُعِهِمْ فِي مَعْنَى الْكَلَامِ ( أَجَابَ ) بِأَنَّا نُثْبِتُهَا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَأَخْبَرَ بِكَذَا وَقَالَ كَذَا وَتَكَلَّمَ بِكَذَا , وَبِأَنَّا نُثْبِتُهَا أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا قَرَّرُوهُ , وَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ آمِرٌ نَاهٍ كَانَ الْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمُتَكَلِّمِ الْآمِرِ النَّاهِي هَلْ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْكَلَامُ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ أَوْ هُوَ مِنْ فِعْلِهِ وَلَوْ فِي غَيْرِهِ هُوَ أَحَدُ مُقَدِّمَتَيْ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِهِ , فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ الْآمِرُ النَّاهِي الْمُخْبِرُ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ وَلَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا خَبَرٌ بَطَلَتْ حُجَّةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْإِطْنَابُ فِي هَذَا الْأَصْلِ هُوَ أَهَمُّ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَصْلٌ أَهَمُّ مِنْ هَذَا وَبِهَذَا الْأَصْلِ كَفَّرَ الْأَئِمَّةُ الْجَهْمِيَّةَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ وَأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَاللُّغَةِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ , وَلَيْسَ هَذَا بَحْثًا لَفْظِيًّا لُغَوِيًّا
كَمَا زَعَمَهُ بَلْ هُوَ بَحْثٌ عَقْلِيٌّ مَعْنَوِيٌّ شَرْعِيٌّ مَعَ كَوْنِهِ أَيْضًا لُغَوِيًّا كَمَا نَذْكُرُهُ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ : وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ أَوْ لَا يَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ . وَكَوْنُ الْحَيِّ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ هُوَ مِثْلُ كَوْنِهِ حَيًّا عَالِمًا وَقَادِرًا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا وَمَرِيدًا بِصِفَاتٍ تَقُومُ بِغَيْرِهِ , وَكَوْنِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ لَا تَقُومُ بِهِ حَيَاةٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ , وَهَذِهِ كُلُّهَا بُحُوثٌ مَعْقُولَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لَا تُخَصُّ بِلُغَةٍ بَلْ تَشْتَرِكُ فِيهَا الْأُمَمُ كُلُّهُمْ , وَهِيَ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ , فَإِنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الصِّفَةِ لِلْمَحِلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الصِّفَةُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ مُقَامٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ مُقَامٌ لَهُ سَمْعِيٌّ , وَلِهَذَا يُبْحَثُ مَعَهُمْ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِأَنَّ الْحَيَّ لَا يَكُونُ عَلِيمًا قَدِيرًا إلَّا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : إنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ هَذَا الْمَقَامِ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُثْبِتَ قِيَامَ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ لِأَنَّهُ قَرَّرَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ اللَّهَ آمِرٌ وَنَاهٍ وَمُخْبِرٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ بَلْ هُوَ مَعْنًى هُوَ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ , وَهَذِهِ الْمَعَانِي سَوَاءٌ كَانَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ يُقَالُ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ
الْمُخْبِرَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ , بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهَا مَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ أَمَّا أَنْ يَقُولُوا يَقُومُ بِغَيْرِ مَحِلٍّ , أَوْ يَقُولُوا كَوْنَهُ آمِرًا وَمُخْبِرًا مِثْلُ كَوْنِهِ عَالِمًا وَذَلِكَ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ . فَإِنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ وَالْمُخْبِرُ لَمْ يَقُمْ بِهِ خَبَرٌ وَلَا أَمْرٌ لَمْ يُمْكِنْهُ ثُبُوتُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ , بَلْ يُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّ لَهَا مَعَانِيَ وَرَاءَ الْأَلْفَاظِ وَوَرَاءَ هَذِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتَ أَنَّ الْآمِرَ النَّاهِيَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ تِلْكَ الْمَعَانِي دُونَ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : إنَّهُ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقَةِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ , وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ هُوَ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ يَقُولُونَ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَادِثًا فِي غَيْرِهِ لَا فِي ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَه لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَبِذَلِكَ أَثْبَتُوا قِدَمَ الْكَلَامِ فَقَالُوا لَوْ كَانَ مُحْدَثًا لَكَانَ إمَّا أَنْ يُحْدِثَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ غَيْرَهُ فَيَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَحَلِّ أَوْ لَا فِي مَحِلٍّ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الصِّفَةِ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ مُحَالٌ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِجَمِيعٍ الطَّوَائِفِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا جَوَّزَ قِيَامَ
الْحَوَادِثِ بِهِ بَطَلَ قَوْلُ أَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَامْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ هُوَ قَدِيمٌ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ أَوْ أَثْبَتَ أَنَّ اللَّهَ آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ بِمَعْنًى يَقُومُ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَيَكُونَ صِفَةً لِلَّهِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ كَمَا يَقُولُهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ بِقِدَمِهِ بِلَا دَلِيلٍ إلَّا كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَيُرِيدُونَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ إذَا شَاءَ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي قَرَّرَهُ يُبْطِلُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ , وَقَوْلَ أَصْحَابِهِ , وَلَا يَنْفَعُ حِينَئِذٍ احْتِجَاجُهُ بِاجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : إنَّهُ لَمَّا عَارَضَ , الْإِجْمَاعُ الَّذِي ادَّعَاهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يُثْبِتْ قِدَمَ كَلَامِ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ أَجَابَ بِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ أَنَّ إحْدَاثَ دَلِيلٍ لَمْ يَذْكُرْهُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ فَيُقَالُ لَهُ هَذَا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُنْضَمًّا إلَى دَلِيلِ أَهْلِ
الْإِجْمَاعِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَخْطِئَةَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا إذَا بَطَلَ مُعْتَمَدُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَدَلِيلُهُمْ وَذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ كَانَ هَذَا تَخْطِئَةً مِنْهُ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِهَا إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ عِنْدَهُمْ وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِخَلْقِهَا قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ وَعِنْدَهُ كِلَا الْحُجَّتَيْنِ بَاطِلَةٌ وَهُوَ احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ حُجَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا بَاطِلَةٌ فَلَزِمَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى بَاطِلٍ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ سِوَى مَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَدْ عَلِمَ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهُ وَذَلِكَ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ قَبْلَهُ بِعَدَمِ عِلْمِ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى ضَلَالَةٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَالثَّانِي عَدَمُ صِحَّةِ احْتِجَاجٍ بِإِجْمَاعِهِمْ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا بِلَا عِلْمٍ وَلَا دَلِيلٍ لَزِمَ هَذَانِ الْمَحْذُورَانِ . الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ مُرَكَّبٌ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ بِقِدَمِ الْعِلْمِ وَتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ صُورِيٌّ وَقَوْلُهُ لِلْمُعْتَزِلَةِ نُسَلِّمُ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَالْمُعْتَزِلَةُ تُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ اعْتَقَدَ
هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ فِي مَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ طَائِفَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ وَبِقَوْلِ طَائِفَةٍ أُخْرَى فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى بِنَاءً عَلَى الْمَنْعِ فِي الْأَوْلَى عَلَى قَوْلَيْنِ وَقِيلَ بِالتَّفْصِيلِ وَهُوَ أَنَّهُ اتَّحَدَ مَأْخَذُهُمَا لَمْ يَجُزْ الْفَرْقُ وَإِلَّا جَازَ وَقِيلَ إنْ صَرَّحَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِالتَّسْوِيَةِ لَمْ يَجُزْ الْفَرْقُ وَإِلَّا جَازَ وَاذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فِي مَسَائِلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِلْأُخْرَى . إحْدَاهُنَّ : إنَّ الْكَلَامَ هَلْ هُوَ قَائِمٌ بِهِ أَمْ لَا . وَالثَّانِيَةُ : الْكَلَامُ هَلْ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ أَوْ الْمَعَانِي أَوْ مَجْمُوعُهُمَا . وَالثَّالِثَةُ : إنَّ الْقَائِمَ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لَهُ قَدِيمًا أَوْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ . وَالرَّابِعَةُ : إنَّ الْمَعَانِي هَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ أَوْ جِنْسٍ آخَرَ . الْخَامِسَةُ : إنَّ الْمَعَانِيَ هَلْ هِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ أَوْ خَمْسُ مَعَانٍ أَوْ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ نِزَاعٌ فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ أَنَّ هَذَا هُوَ اخْتِلَافُ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الطَّلَبُ وَالزَّجْرُ وَالْحُكْمُ ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةٌ لِكَوْنِهِمْ قَالُوا بِهَذَا وَبِهَذَا وَهَذَا بِعَيْنِهِ احْتِجَاجٌ
بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ لُزُومُ مُوَافَقَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ قَدْ قَامَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ لِمُوَافَقَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ وَأُولَئِكَ قَالُوا هُوَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ هُوَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَافِقَ هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوفِ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَعَانِي وَهُوَ فِي بِنَائِهِ خَاصَّةً مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ الرَّافِضَةِ فِي بِنَائِهِمْ لِإِمَامَةِ عَلِيٍّ الَّتِي هِيَ خَاصَّةُ مَذْهَبِهِمْ عَلَى نَظَرِ هَذَا الْأَصْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَاصَّةَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ كِلَابٍ الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا هُوَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إذْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَقَالَاتِ فِي الْأُصُولِ هُمَا مَسْبُوقَانِ إلَيْهِ إمَّا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِمَّا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَمَا أَنَّ خَاصَّةَ مَذْهَبِ الرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ مِنْ الِاثْنَا عَشَرِيَّةَ وَنَحْوِهِمْ هُوَ إثْبَاتُ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَادِّعَاءِ ثُبُوتِ إمَامَةِ عَلِيٍّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ ثُمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ فِي ذَلِكَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا بَيْنَهُمْ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَتَقُولُ إنَّهَا تَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ وَبِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ النَّقْلِ وَبُطْلَانَ كَوْنِهِ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ فَضْلًا عَنْ التَّوَاتُرِ . وَقَدْ عَلِمَ مُتَكَلِّمُو الْإِمَامِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَى أَحَدٍ حُجَّةٌ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ التَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ
غَيْرِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ اتِّبَاعُهُ وَإِجْمَاعُهُمْ الَّذِي يُسَمُّونَهُ إجْمَاعَ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ لَا يَصِحُّ حَتَّى يُثْبِتُ أَنَّهُمْ الطَّائِفَةَ الْمُحِقَّةَ وَذَلِكَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْمَعْصُومِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ أُصُولِ دِينِهِمْ الَّذِي لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ وَيُضَمُّ إلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ مُتَأَخِّرِيهِمْ الْمُوَافِقِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٌ مُبْتَدَعَةٌ وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَافَقَهُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ نَظِيرُ حُجَّةِ الرَّافِضَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَنْصِبَ فِي كُلِّ وَقْتٍ إمَامًا مَعْصُومًا لِأَنَّهُ لُطْفٌ فِي التَّكْلِيفِ وَاللُّطْفُ عَلَى اللَّهِ وَاجِبٌ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْيِسَةٍ يَذْكُرُونَهَا . كَمَا ثَبَتَ هَذَا وَنَحْوُهُ أَنَّ الْكَلَامَ مَعْنًى مُبَايِنٌ لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ بِأَقْيِسَةٍ يَذْكُرُونَهَا فَإِذَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ وَيَقُولُونَ إنَّ الْمَعْصُومَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِالنَّصِّ إذْ لَا طَرِيقَ إلَى الْعِلْمِ بِالْعِصْمَةِ إلَّا النَّصُّ ثُمَّ يَقُولُونَ وَلَا مَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَلِيٌّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ ادَّعَى النَّصَّ لِغَيْرِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَزِمَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْبَاطِلِ إذْ الْقَائِلُ
قَائِلَانِ قَائِلٌ بِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَقَائِلٌ بِأَنَّهُ لَا نَصَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ فِيمَا زَعَمُوا بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ وُجُوبِ النَّصِّ عَقْلًا فَيَتَعَيَّنُ صِحَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْحَقُّ وَلَمْ يَكُنْ الْحَقُّ فِي ثَالِثٍ فَهَذَا نَظِيرُ حُجَّتِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الْحُجَّةِ لَمَّا خَاطَبْتُ الرَّافِضَةَ وَكَتَبْتُ فِي ذَلِكَ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَأَبْطَلْنَا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ مَعْصُومٍ وَبَيَّنْت تَنَاقُضَ هَذَا الْأَصْلِ وَامْتِنَاعَ تَوَقُّفِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَخَاطَبْتُ بِذَلِكَ أَفْضَلَ مَنْ رَأَيْته مِنْهُمْ وَاعْتَرَفَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَبِالْإِنْصَافِ فِي مُخَاطَبَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ وَالِاحْتِجَاجَ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّا قُلْنَا لَهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ لَمْ يَدَّعِ النَّصَّ عَلَى غَيْرِ عَلِيٍّ بَلْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِنَصٍّ جَلِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بِنَصٍّ خَفِيٍّ , وَأَيْضًا فَالرَّوانْدِيَّةُ تَدَّعِي النَّصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ , وَأَيْضًا فَالْمُدَّعُونَ لِلنَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ مُخْتَلِفُونَ فِي أَنْ يُقَالَ النَّصُّ عَنْهُ فِي وَلَدِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ النَّصَّ عَلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ إلَّا مَا
ادَّعَوْهُ فِي الْمُنْتَظَرِ بَلْ إخْوَانُهُمْ الشِّيعَةُ يَدَّعُونَ دَعَاوَى مِثْلَ دَعَاوِيهمْ لِغَيْرِ الْمُنْتَظَرِ فَبَطَلَ الْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ إمَامَةُ الْمَعْصُومِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ طَاعَتُهُ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ هُوَ الْإِمَامَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَةُ مَنْ قَدْ مَاتَ بِعَيْنِهِ إلَّا الرَّسُولَ وَإِنَّمَا الْمُتَعَلِّقُ بِنَا مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِنَا لِهَذَا الْحَيِّ الْمَعْصُومِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ النَّصَّ غَيْرُهُمْ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي تَقْرِيرِ النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَذِبٍ افْتَرَوْهُ وَقِيَاسٍ وَضَعُوهُ لِنِفَاقِ ذَلِكَ الْكَذِبِ فَإِنَّهُمْ افْتَرَوْا النَّصَّ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّ مَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَنْ الْعَبَّاسِ مَعَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ هَذَا الَّذِي افْتَرَوْهُ كَمَا أَنَّ هَؤُلَاءِ ابْتَدَعُوا مَقَالَةً افْتَرَوْهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّ مَا ابْتَدَعُوهُ وَافْتَرَوْهُ عَنْ الْقِيَاسِ مَعَ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ يُحَقِّقُ هَذِهِ الْفِرْيَةَ وَعَامَّةُ أُصُولِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَجِدُهَا مَبْنِيَّةً عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْقِيَاسِ الَّذِي وَضَعُوهُ وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبُوهُ يُعَارِضُونَ بِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَوْعٌ مِنْ الْإِجْمَاعِ الَّذِي يَدَّعُونَهُ فَيُرَكِّبُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَمِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ السَّمْعِيِّ أَصْلَ دِينِهِمْ . وَلِهَذَا تَجِدُ أَبَا الْمَعَالِي وَهُوَ أَحَدُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ
فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقَوَاطِعِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ وَهَكَذَا أَئِمَّةُ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْأَهْوَاءِ كَأَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَشَايِخِهِمْ وَنَحْوِهِمْ لَا يَعْتَمِدُونَ لَا عَلَى كِتَابٍ وَلَا عَلَى سُنَّةٍ وَلَا عَلَى إجْمَاعٍ مَقْبُولٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ بَلْ يُفَارِقُونَ أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ذَاتِ الْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ بِمَا يَدَّعُونَهُ هُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ كَمَا يُخَالِفُونَ صَرَائِحَ الْمَعْقُولِ بِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْمَعْقُولِ وَكَمَا يُخَالِفُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ اللَّذَيْنِ هُمَا أَصْلُ الدِّينِ مَا يَضَعُونَهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ . الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : إنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ نَظِيرُ الْحُجَجِ الْإِلْزَامِيَّةِ وَقَدْ قَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ أَنَّهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لَا لِلنَّظَرِ وَلَا لِلْمُنَاظَرَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَازِعَ لَهُ يَقُولُ لَهُ إنَّمَا قُلْت بِقِدَمِهَا لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ فَأَمَّا أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْأَصْلُ أَوْ لَا يَصِحَّ فَإِنْ صَحَّ كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرْت أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ بَطَلَ مُسْتَنَدُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالْقِدَمِ وَصَحَّ مَنْعُ الْقِدَمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ إذَا جَازَ أَنْ تُحِلَّهُ الْحَوَادِثُ وُجُوبُ قِدَمِ مَا يَقُومُ بِهِ وَهَذَا مَنْعٌ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إقَامَةِ قَوْلِهِ بِحُجَّةٍ إلْزَامِيَّةٍ وَبَيْنَ إبْطَالِ قَوْلِ مُنَازِعِيهِ بِحُجَّةٍ إلْزَامِيَّةٍ . الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَيْسَ هُوَ الْإِرَادَةَ
وَالْكَرَاهَةَ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِرَادَةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ لِكُلِّ مَوْجُودٍ الْمُنْتَفِيَةِ عَنْ كُلِّ مَعْدُومٍ فَإِنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَتِلْكَ الْإِرَادَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةَ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي الْأُولَى : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } . وَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } . وَقَالَ : { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } . وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } . وَقَالَ : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحَلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } وَقَالَ تَعَالَى { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيُهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ
تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : إنَّهُ لَمَّا طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَاهِيَّةِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ ذَكَرَ وَجْهَيْنِ أَحَدَهُمَا أَنَّ الْقَائِلَ قَدْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ إنِّي أُرِيدُ مِنْك الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ وَإِنْ كُنْت لَا آمُرُك بِهِ وَالثَّانِي هَبْ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّصْ لَنَا فِي الشَّاهِدِ الْفَرْقُ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ لَكِنَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ افْعَلْ إذَا وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ تَصَوُّرِ الْحُرُوفِ وَلَا إرَادَةِ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا مُغَايِرًا لَهُمَا فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا نَجِدُ لَهُ فِي الشَّاهِدِ نَظِيرًا وَجَبَ نَفْيُهُ غَالِبًا وَلَا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْإِلَهِ وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ يُقَالُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ وَقَدْ يُقَالُ هُوَ نَوْعٌ خَاصٌّ , مِنْ الْإِرَادَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَاءِ فَإِذَا قِيلَ أُرِيدُ مِنْك فِعْلَ هَذَا وَلَا آمُرُك بِهِ أَيْ لَا أَسْتَعْلِي عَلَيْك فَإِنَّ الْمُرِيدَ قَدْ يَكُونُ سَائِلًا خَاضِعًا كَإِرَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ . وَأَمَّا الثَّانِي فَيُقَالُ لَهُ إذَا أَثْبَتَّ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ فِي الشَّاهِدِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ كَانَتْ هَذِهِ حَقِيقَتَهُ وَالْحَقَائِقُ لَا تَخْتَلِفُ شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الصِّفَةِ هِيَ هَذِهِ أَوْ مُسْتَلْزِمَةً لِهَذِهِ أَوْ غَيْرِهِ إنَّمَا نَعْلَمُهُ بِمَا نَعْلَمُهُ فِي
الشَّاهِدِ . الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : إنَّ النَّهْيَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَرَاهِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَحَبَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَكْرُوهُ لَا يَكُون مُرَادًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْإِرَادَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ الْمَكْرُوهِ الْوَاقِعِ غَيْرَ الْإِرَادَةِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَهَذَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ إرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ إلَّا بِأَنْ قَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ بَلْ هِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ وَيُخَالِفُ مَا قَرَّرَهُ هُوَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا } . الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ : إنَّ طَوَائِفَ يَقُولُونَ لَهُمْ مَعْنَى الْخَبَرِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلْمَ لَا سِيَّمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ إنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْخَبَرِ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْخَبَرِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ يُؤَوَّلُ إلَى الْعِلْمِ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ يُؤَوَّلُ إلَى الْعِلْمِ لَكِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ يُؤَوَّلُ كُلُّهُ إلَى الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ وَطَائِفَةٌ هُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَبُ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَسْتَلْزِمُ عِلْمًا وَخَبَرًا لَكِنْ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ ذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَعْلَمُهَا بِالْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِ وَيَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُخْبِرًا مَحْضًا مَعَ
أَنَّ الْخَبَرَ أَيْضًا قَدْ يَسْتَلْزِمُ طَلَبًا وَإِرَادَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَكِنَّ تَلَازُمَ الْخَبَرِ وَالطَّلَبِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُعْلَمَ أَنْ أَحَدَهُمَا لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ فَالْإِنْسَانُ يُخْبِرُ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ خَبَرًا مَحْضًا وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ غَرَضٌ مِنْ حُبٍّ وَبُغْضٍ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ لَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا وَالْأَرْضُ تَحْتَنَا خَبَرٌ مَحْضٌ وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ خَبَرٌ لَكِنْ يَتْبَعُهُ مَحَبَّةٌ وَتَعْظِيمٌ وَطَاعَةٌ وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ اذْهَبْ وَتَعَالَ وَأَطْعِمْنِي وَاسْقِنِي وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ طَلَبٌ مَحْضٌ وَلَكِنَّهُ مَسْبُوقٌ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ وَالشُّعُورِ بِذَلِكَ كَالْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ كُلِّهَا فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَالْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِمَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ حُبٍّ وَطَلَبٍ وَإِرَادَةٍ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بُغْضٍ وَكَرَاهَةٍ وَالْخَبَرُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ وَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْعَمَلَ أَيْضًا فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ وَلِهَذَا يَخْتَلِطُ بَابُ الْإِنْشَاءِ بِبَابِ الْإِخْبَارِ لِتَلَازُمِ النَّوْعَيْنِ حَيْثُ تَلَازَمَا وَلِهَذَا تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ الْخَبَرِ فِي الطَّلَبِ كَثِيرًا كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ فِي بَابِ غَفَرَ اللَّهُ لِفُلَانٍ وَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ وَفِي الْأَمْرِ وَمِثْلِ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الطَّلَبِ فِي الْخَبَرِ الْمَحْضِ كَمَا قَدْ قِيلَ إنْ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي قَوْله
تَعَالَى { مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } { وَإِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ صِيغَةَ الْخَبَرِ فِي الطَّلَبِ فَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِي لَازِمِهِ وَجَعَلَ اللَّازِمَ لِقُوَّةِ الطَّلَبِ لَهُ وَالْإِرَادَةَ كَأَنَّهُ مَوْجُودٌ مُحَقَّقٌ مُخْبَرٌ عَنْهُ فَكَانَ هَذَا طَلَبًا مُؤَكَّدًا . وَلِهَذَا يَكْثُرُ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ الدَّاعِي وَهَذَا حَسَنٌ فِي الْكَلَامِ أَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَ صِيغَةَ الْخَبَرِ فِي الْأَمْرِ الْمَحْضِ فَالْأَمْرُ فِيهِ الطَّلَبُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعِلْمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ فَإِذَا لَمْ يُفِدْ إلَّا مَعْنَى الْخَبَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَلَبَ مَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ الطَّلَبُ وَنَقَصَ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ الطَّلَبَ وَالْإِرَادَةَ هُوَ تَصَوُّرُ الْمَطْلُوبُ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَ اللَّفْظَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ وُقُوعِ الْمَطْلُوبِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ كَانَ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ وَلَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي الْخَبَرِ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدٌ وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ فِي شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ وَلَا مِنْ مَلْزُومَاتِهِ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْخَبَرَ بَلْ الْآيَةُ عَلَى
ظَاهِرِهَا وَمَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَاَللَّهُ مَسْئُولٌ مَدْعُوٌّ بِأَنْ يَمُدَّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِطَلَبِ نَفْسِهِ وَدُعَاءِ نَفْسِهِ كَمَا فِي الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ وَهُوَ صَلَاتُهُ وَلَعْنَتُهُ كَمَا قَالَ { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } وَقَوْلُهُ { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَتَضَمَّنُ ثَنَاءَهُ وَدُعَاءَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّ طَلَبَ الطَّالِبِ مِنْ نَفْسِهِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ كَأَمْرِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ كَمَا قَالَ { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } وَقَدْ يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ أَوْرَدَهُ الرَّازِيّ سُؤَالًا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ الْكَلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ لَفْظُهُ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَبِ كَحَقِيقَةِ حُكْمِ الذِّهْنِ بِنِسْبَةِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ وَتِلْكَ الْمُغَايِرَةُ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَلِهَذَا يَتَطَرَّقُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَنَحْنُ إنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِتَوْكِيدِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْعِلْمُ وَبِأَنَّهُ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا قَالَهُ طَوَائِفُ بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ
بَلْ عَامَّةُ النَّاسِ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَلَا نَجِدُ النَّاسَ فِي نُفُوسِهِمْ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ يَكُونُ مَعْنَى الْخَبَرِ . وَكَوْنُ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْعِلْمُ أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ أَظْهَرُ مِنْ كَوْنِ الطَّلَبِ هُوَ الْإِرَادَةُ أَوْ نَوْعُهَا مِنْهَا لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَمْكَنَهُمْ دَعْوَى الْفَرْقِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَ بِمَأْمُورَاتٍ وَهُوَ لَمْ يُرِدْ وُجُودهَا كَمَا أَمَرَ بِهِ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْقَدَرِيَّةُ . ثُمَّ كَوْنُ الْأَمْرِ مُسْتَلْزِمًا لِإِرَادَةٍ لَيْسَتْ هِيَ إرَادَةَ الْوُقُوعِ كَلَامٌ آخَرُ وَأَمَّا هُنَا فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا إنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ أَوْ بِمَا يَعْلَمُ ضِدَّهُ بَلْ عِلْمُهُ مِنْ لَوَازِمِ خَبَرِهِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ أَوْ لَازِمًا لِمَعْنَى الْخَبَرِ وَلِهَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا جَاءَهُ جَاءَهُ الْعِلْمُ فَقَالَ { فَمَنْ حَاجَّك فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَك مِنْ الْعِلْمِ } وَقَالَ : { وَلَئِنْ اتَّبَعْت أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَك مِنْ الْعِلْمِ } وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَئِمَّةُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَقَالُوا قَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ اللَّهِ مَخْلُوقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَلَمْ يَعْنِ عِلْمَ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنَى أَنَّهُ مِنْ عِلْمِهِ . وَمَنْ جَعَلَ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَخَبَرِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ أَمْرَهُ
فِيهِ الطَّلَبُ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ غَيْرُ الْإِرَادَةِ أَوْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْإِرَادَةِ أَوْ هُوَ نَوْعٌ مِنْهَا أَوْ هُوَ الْإِرَادَةُ وَهَذَا لَيْسَ الْعِلْمَ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَازَعَ فِي كَوْنِ مَعْنَى خَبَرِ اللَّهِ يُوجَدُ بِدُونِ عِلْمِهِ فَظَهَرَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَا ادَّعَاهُ مِنْ إمْكَانِ وُجُودِ مَعْنَى خَبَرٍ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالظَّنِّ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ فَقَدَّرُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبِرُ بِخَبَرٍ هُوَ فِيهِ كَاذِبٌ وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ عِلْمِهِ بِخِلَافِ الْمُخْبَرِ كَمَا قَدَّرُوا أَنْ يَأْمُرَ آمِرٌ امْتِحَانًا بِمَا لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَهُ حُكْمٌ ذِهْنِيٌّ فِي النَّفْسِ غَيْرُ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَهُ طَلَبٌ نَفْسَانِيٌّ فِي النَّفْسِ غَيْرُ الْإِرَادَةِ . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ قَدْ نُوزِعُوا فِي صِحَّتِهَا نِزَاعًا عَظِيمًا لَيْسَتْ هِيَ مِثْلَ مَا أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ مِنْ وُجُودِ آمِرٍ لَمْ يُرِدْ وُقُوعَ مَأْمُورِهِ . الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ : إنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ قَدْ أَقَرُّوا هُمْ أَيْضًا بِفَسَادِهَا فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ الرَّازِيّ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا شَبِيهُ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , بِالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ بِالْعِلْمِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِمَا ثَبَتَ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ
الْكَائِنَاتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ وَيَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ فِي حَقِّ اللَّهِ شَيْئًا سِوَى الْإِرَادَةِ وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ فِي الشَّاهِدِ قَدْ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ فَإِذَنْ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ فِي الشَّاهِدِ مُغَايِرٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ ثَبَتَ فِي الْغَائِبِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْخَبَرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي مَحْصُولِهِ أَيْضًا حَيْثُ جَعَلَ مَعْنَى الْخَبَرِ هُوَ الْحُكْمُ الذِّهْنِيَّ الَّذِي انْفَرَدُوا بِإِثْبَاتِهِ دُونَ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ وَأَمَّا أَبُو الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ فَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ سِوَى مَا دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَبِ الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْإِرَادَةِ وَذَاكَ إنْ دَلَّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ غَيْرُ الْإِرَادَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ غَيْرُ الْعِلْمِ لَكِنْ اسْتَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ التَّصْدِيقِ النَّفْسَانِيِّ بِأَنَّهُ مَدْلُولُ الْمُعْجِزَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ غَيْرُ الْعِلْمِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَنْتُمْ مُصَرِّحُونَ بِنَقِيضِ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الذِّهْنِيِّ عَلَى خِلَافِ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ إنْ جَازَ وُجُودُهُ فَلَيْسَ هُوَ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِذَا انْقَسَمَ وُجُودُهُ هَذَا الْحُكْمُ الذِّهْنِيُّ الْمُخَالِفُ لِلْعِلْمِ أَوْ كَوْنُهُ كَلَامًا عَلَى التَّحْقِيقِ امْتَنَعَ مِنْكُمْ
حِينَئِذٍ إثْبَاتُ وُجُودِهِ وَدَعْوَى أَنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى وُجُوبِ الصِّدْقِ لِلَّهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ يَمْتَنِعُ فِيهِ الْكَذِبُ لِوُجُوبِ الْعِلْمِ لِلَّهِ وَامْتِنَاعُ الْجَهْلِ وَهَذَا الدَّلِيلُ قَدْ ذَكَرَهُ جَمْعُ أَئِمَّتِهِمْ حَتَّى الرَّازِيّ ذَكَرَهُ لَكِنْ قَالَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ لَا عَلَى صِدْقِ الْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَّصِفَ الْحَيُّ بِحُكْمٍ نَفْسَانِيٍّ لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْتَقِدُهُ وَلَا يَظُنُّهُ بَلْ يُعْلَمُ خِلَافُهُ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ الْحُكْمُ النَّفْسَانِيُّ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ أَوْ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ كَذِبًا . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ تَنَاقُضٌ فِي عَيْنِ الشَّيْءِ لَيْسَ تَنَاقُضًا مِنْ جِهَةِ اللُّزُومِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَثْبَتُوا أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ أَثْبَتُوا حُكْمًا نَفْسَانِيَّا يُنَافِي الْعِلْمَ فَيَكُونُ كَذِبًا وَيَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ وَلَمَّا أَثْبَتُوا الصِّدْقَ قَالُوا إنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ النَّفْسَانِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِدُونِ الْعِلْمِ أَوْ خِلَافِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنْ يُقَالَ لَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ اتِّفَاقُ السَّلَفِ , عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا خَلَقَهُ اللَّهُ كَمَا خَلَقَ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّةُ , حَتَّى قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ لِرَجُلٍ أَتَدْرِي مَا يُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ يُرِيدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ وَمَا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا بِأَكْفَرَ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ لِأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا لِلَّهِ وَلَدٌ شَبَّهُوهُ بِالْأَحْيَاءِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ شَبَّهُوهُ بِالْجَمَادَاتِ وَأَنْتُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ كُلَّمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ , لَا تُنَازِعُونَهُمْ فِي أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ بَلْ تَقُولُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا إنَّهُ مَخْلُوقٌ , فَاَلَّذِي قَالَ هَؤُلَاءِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَهُمْ ضَالِّينَ حَيْثُ حَكَمْتُمْ جَمِيعًا بِخَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا لَمْ يَجُزْ ذَمُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَلَا عَيْبُهُ بِذَلِكَ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ مَخْلُوقًا , وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ فِي الْمَخْلُوقِ وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ الشَّجَرَةَ هِيَ الْقَائِلَةَ إنَّنِي أَنَا اللَّهُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا السَّلَفُ مَذْهَبَ الْجَهْمِيَّةِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ قَالَ إنَّنِي
أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ , وَلَا يَنْبَغِي , لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ : مَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ وَقَوْلُ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } فَقَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ , مِنْ هَذَا وَكَلَامِهِمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ وَوَافَقَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى مِثْلِ هَذَا وَاسْتَحْسَنَهُ وَغَايَةُ مَا يُعَابُ بِهِ عِنْدَكُمْ أَنَّهُ نَفَى عَنْ اللَّهِ مَعْنًى آخَرَ يُثْبِتُونَهُ لَهُ , ذَلِكَ الْمَعْنَى أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُونَهُ لَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْكُمُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُومَ بِالشَّجَرَةِ وَلَا غَيْرِهَا , حَتَّى تَكُونَ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ لَهُ , وَالسَّلَفُ لَمْ يَعِيبُوهُمْ بِهَذَا , وَلَا قَالُوا لَهُمْ مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مَخْلُوقٌ , لَكِنَّ ثَمَّ مَعْنًى آخَرُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ , وَلَا قَالُوا هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ . لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَلَا نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَالُوا هُوَ مَخْلُوقٌ هُوَ مَخْلُوقٌ , كَمَا قَالُوا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ , وَإِنَّمَا كَلَامُ اللَّهِ مَعْنًى آخَرُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ السَّلَفَ مُخْطِئُونَ ضَالُّونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , فَأَحَدُ
الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ إمَّا تَضْلِيلُكُمْ الْمُعْتَزِلَةُ أَوْ تَضْلِيلُ السَّلَفِ , وَالثَّانِي مُمْتَنِعٌ , فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ يُؤَيِّدُ هَذَا . الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ إذَا اُخْتُلِفَ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ الْأُمَّةِ إلَّا قَوْلُ السَّلَفِ وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ أَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ بَاطِلٌ لِلْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ مِنْهَا أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَمَا نُقِلَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوَاتُرِ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوا اللَّهَ بِالْكَلَامِ وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ هُوَ يَتَكَلَّمُ لَا أَنَّ الْكَلَامَ يَكُونُ مَخْلُوقًا لَهُ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا كَمَا يَقُولُونَ كَلَامُ اللَّهِ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَيُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ إضَافَةَ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ إلَى اللَّهِ لَيْسَ كَإِضَافَةِ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَأَنَّ بَابَ قَالَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ بَابِ خَلَقَ , وَبُطْلَانُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا وَإِذَا كَانَ بَاطِلًا , وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا بَاطِلٌ تَعَيَّنَ صِحَّةُ مَذْهَبِ السَّلَفِ يُؤَكِّد هَذَا . الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : وَهُوَ أَنَّ السَّلَفَ وَالْمُعْتَزِلَةَ جَمِيعًا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تُثْبِتُونَهُ أَنْتُمْ بَلْ الَّذِي سَمَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ كَلَامَ اللَّهِ وَقَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَافَقَهُمْ السَّلَفُ عَلَى
أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَكِنْ قَالُوا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ فَكَانَ قَوْلُكُمْ خَرْقًا لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ جَمِيعِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ السَّلَفِ إلَّا هَذَانِ الْقَائِلَانِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ الَّذِي قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ , لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ .
الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ : إنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَحْكُوا عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِخَلْقِ الْقُرْآنِ أَوْ بِخَلْقِ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَحْكِيهِ عَنْهُمْ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَكَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ وَإِنْ حَكَيْتُمْ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَذُمُّوهُمْ بِذَلِكَ كَمَا ذَمُّوهُمْ السَّلَفُ بِهِ بَلْ تَمْدَحُونَهُمْ بِذَلِكَ كَمَا يَمْدَحُونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ فَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَالْمُعْتَزِلَةُ جَمِيعًا أَوْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَمُوَافَقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ أَيْضًا , وَذَلِكَ وَاجِبٌ عِنْدَكُمْ وَمَنْ قَالَ عَنْ ذَلِكَ إنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَهُوَ ضَالٌّ عِنْدَكُمْ أَوْ كَافِرٌ , ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ تُسَمِّيهِ كَلَامَ اللَّهِ وَتَقُولُ كَلَامُ اللَّهُ مَخْلُوقٍ , وَالسَّلَفُ تُسَمِّيهِ كَلَامَ اللَّهِ وَيَقُولُونَ هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَعَ قَوْلِكُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ هَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازٌ وَتُنْفَى الْحَقِيقَةُ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُكُمْ , أَوْ يُقَالُ بَلْ يُسَمَّى كَلَامُ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ , كَمَا قَالَهُ بَعْضُكُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ لَزِمَكُمْ أَنْ لَا تَكُونَ الْمُعْتَزِلَةُ تَعْتَقِدُ فِي الْحَقِيقَةِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ بِحَالٍ , إنْ تَلَفَّظُوا بِذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ إنِّي زَنَيْت بِأُمِّي أَوْ قَتَلَتْ نَبِيًّا وَلَمْ يَكُنْ الْمَزْنِيُّ
بِهَا أُمَّهُ وَلَا الْمَقْتُولُ نَبِيًّا فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الظَّنِّ فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ نَفْسِهِ . لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَظُنُّ الْقَائِلُ أَنَّهُ بِهِ مَذْمُومٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا تَذُمُّ أَنْفُسَهَا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ تَذُمُّهُمْ بِذَلِكَ فَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ بَعْضُ الْكُفَّارِ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَخَذَ كِتَابًا فَمَزَّقَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ الْمُصْحَفُ أَوْ قَتَلَ أَقْوَامًا يَظُنُّهُمْ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ مُتَدَيِّنٌ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهَكَذَا هُمْ الْمُعْتَزِلَةُ عِنْدَكُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي الَّذِي اعْتَقَدُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقُلْتُمْ أَنْتُمْ لَا رَيْبٍ إنَّهُ مَخْلُوقٌ كَمَا لَا رَيْبَ فِي قَتْلِ أُولَئِكَ النَّفَرِ وَتَمْزِيقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ , لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنْ اعْتَقَدْتُمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ الْقَوْلَ بِخَلْقِهِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ كَمَا اعْتَقَدَ أُولَئِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ قَتْلَهُمْ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَأَنَّ هَذَا الْمُصْحَفَ هُوَ الْقُرْآنُ وَتَمْزِيقَهُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَزَّقُوا الْمُصْحَفَ , وَإِنْ كَانُوا قَصَدُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ , فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِكُمْ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالَتْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانُوا هُمْ قَصَدُوا ذَلِكَ وَاعْتَقَدُوهُ فَإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ إنْ كَانَ مَجَازًا فَلَمْ يَحْكُمُوا عَلَى مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ
بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَهُمْ إنَّمَا قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ بِأَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ دُونَ الْآخَرِ , وَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ بِإِرَادَةِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بَلْ هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مُجْمَلٌ , فَلَا يُقَالُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَلَا قَالُوا إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْمُعْتَزِلَةِ , وَلَمْ يَكُنْ قَدِيمًا عِنْدَهُمْ فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا . الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : إنَّ هَذَا النَّقْلَ عَنْهُمْ إذَا قِيلَ إنَّهُ صَحِيحٌ إمَّا بِاعْتِبَارِ وَإِحْدَى الْحَقِيقَتَيْنِ أَوْ بِاعْتِبَارِ قَصْدِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُذَمُّونَ عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ , بَلْ يُحْمَدُونَ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَنْتُمْ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ السَّلَفَ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِمْ فِي الدِّينِ ذَمُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ , فَإِذَا أَنْتُمْ ذَامُّونَ لِلسَّلَفِ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَأَنْتُمْ عِنْدَ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ مَذْمُومُونَ , وَأَنْتُمْ بِذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَقْدَحُ فِي سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهَذَا حَقٌّ , فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مِنْ فُرُوعِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّةِ , وَقَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ فِيهِ مِنْ التَّنَقُّصِ وَالسَّبِّ وَالطَّعْنِ عَلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَعَلَى السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ . فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُعَظِّمُونَ الْقُرْآنَ وَيُوجِبُونَ اتِّبَاعَهُ وَإِنْ لَمْ
يَتَّبِعُوا السُّنَنَ الْمُخَالِفَةَ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَهُمْ يَقْدَحُونَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَمَنْ تَوَلَّاهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ . وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ بَلْ لَا تُجَوِّزُ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ كَمَا يُصَرِّحُونَ بِهِ , كَالرَّازِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَّبِعُوا السُّنَنَ أَوْ إجْمَاعَ السَّلَفِ فَالْجَهْمِيَّةُ أَعْظَمُ قَدْحًا فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَنِ وَفِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ فِي الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَأْخُذُونَ بِبَعْضِ الْجَهْمِ وَأَيْضًا فَفِيهِمْ مَنْ لَا يُكَفِّرُ الْأُمَّةَ بِخِلَافِهِ وَلَا يَسْتَحِلُّ السَّيْفَ , وَفِيهِمْ مَنْ قَدْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ وَجَهِلُوا أَصْلَ الْقَوْلِ وَقَوْلَ الدُّعَاةِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظُهُورَ ذَلِكَ , فَمِنْ هُنَا كَانَ حَالُ فُرُوعِ الْجَهْمِيَّةِ قَدْ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ حَالِ الْخَوَارِجِ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ فِي نَفْسِهِ أَحْنَثُ مِنْ قَوْلِ الْخَوَارِجِ بِكَثِيرٍ , وَإِذَا كَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ قَدْ قَالَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّ فِتْنَتَهُمْ أَضَرُّ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الْأَزَارِقَةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ جَهْمِيَّةٌ ; عُلِمَ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِجِ . قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارَ الْعَبْسِيُّ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ الرَّقَاشِيُّ , سَمِعْت يُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ فِتْنَةُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْأَزَارِقَةِ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَلُّوا وَأَنَّهُمْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ بِمَا أَحْدَثُوا , وَيُكَذِّبُونَ بِالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ , وَيُنْكِرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ , أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ , وَفُرُوعُ الْجَهْمِيَّةِ لَا يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَأْتَمِرُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ , وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ شَرٌّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ هُمْ أَصْلُهُمْ فِي الْجُمْلَةِ وَفِي هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَرَى التَّكْفِيرَ وَالسَّيْفَ كَمَا تَرَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالرَّافِضَةُ وَهُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ . وَلِهَذَا كَثِيرًا مَا يَكُونُ أَهْلُ الْبِدَعِ مَعَ الْقُدْرَةِ يُشْبِهُونَ الْكُفَّارَ فِي اسْتِحْلَالِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ وَالرَّافِضَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَفُرُوعُهُمْ لَكِنَّ فِيهِمْ مَنْ يُقَاتِلُ بِطَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ كَالْخَوَارِجِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى فِي قَتْلِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالِفِيهِ إمَّا بِسُلْطَانِهِ وَإِمَّا بِحِيلَتِهِ وَمَعَ الْعَجْزِ يُشْبِهُونَ الْمُنَافِقِينَ يَسْتَعْمِلُونَ التَّقِيَّةَ وَالنِّفَاقَ كَحَالِ الْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبِدَعَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْكُفْرِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ
هُمْ مَعَ الْقُدْرَةِ يُحَارِبُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَ الْعَجْزِ يُنَافِقُونَهُمْ وَالْمُؤْمِنُ مَشْرُوعٌ لَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ أَنْ يُقِيمَ دِينَ اللَّهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِالْمُحَارَبَةِ وَغَيْرِهَا وَمَعَ الْعَجْزِ يُمْسِكُ عَمَّا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ الِانْتِصَارِ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْبَلَاءِ مِنْ غَيْرِ مُنَافَقَةٍ , بَلْ يُشْرَعُ لَهُ مِنْ الْمُدَارَاةِ وَمِنْ التَّكَلُّمِ بِمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ مَعَ أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِالْعَكْسِ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهِمْ لَا يَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ بِالتَّكْفِيرِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , بَلْ يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمْ الْعَدْلَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ , كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالْحَرُورِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ , وَإِذَا جَاهَدُوهُمْ فَكَمَا جَاهَدَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَرُورِيَّةَ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إقَامَةً لِلْحُجَّةِ وَعَامَّةُ مَا كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعَهُمْ الْهِجْرَانَ وَالْمَنْعَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَظْهَرُ بِسَبَبِهَا بِدْعَتُهُمْ , مِثْلُ تَرْكُ مُخَاطَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ إلَى خُمُودِ بِدْعَتِهِمْ , وَإِذَا عَجَزُوا عَنْهُمْ لَمْ يُنَافِقُوهُمْ بَلْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ كَمَا كَانَ سَلَفُ الْمُؤْمِنِينَ يَفْعَلُونَ وَكَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى الْحَقِّ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لَا يَعْدِلُوا .
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : إنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ الَّذِي زَعَمُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَخَالَفُوا فِي إثْبَاتِهِ جَمِيعَ فِرَقِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُقِرُّونَ هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّ إثْبَاتَهُمْ لِهَذَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ سَائِرُ فِرَقِ الْأُمَّةِ قَدْ قَالَ أَكْثَرُهُمْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ خَمْسَةُ مَعَانٍ : أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ وَنِدَاءٌ , فَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِمَعْنًى هُوَ مَعْنَى كُلِّ أَمْرٍ , أَمَرَ اللَّهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَمْرَ تَكْوِينٍ كَقَوْلِهِ لِلْمَخْلُوقِ كُنْ فَيَكُونُ , أَوْ كَانَ أَمْرَ تَشْرِيعٍ , كَأَمْرِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ , وَهُوَ مَعْنَى كُلِّ نَهْيٍ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَكُلِّ خَبَرٍ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ , وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ الْأَمْرُ الْوَاحِدُ هُوَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ , وَالسَّبْتُ الَّذِي لِلْيَهُودِ هُوَ الْأَمْرُ الْمَنْسُوخُ وَبِالنَّاسِخِ وَبِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَبِالْعَرَبِيَّةِ وَبِالعَبْرَانِيّةِ ة وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي النَّهْيِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْخَبَرِ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ صِفَاتِهِ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُجَرَّدَ تَصَوُّرِ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِفَسَادِهِ كَمَا
اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّ أَظْهَرَ الْمَعَارِفِ لِلْمَخْلُوقِ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ هُوَ الْخَبَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالسَّبْتِ لَيْسَ هُوَ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ وَأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ الْخَبَرَ عَنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ , فَمَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا حَقِيقَةً وَاحِدَةً وَجَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ عَارِضَةٌ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ الْعَيْنِيَّةِ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ أَقْسَامًا لِلْكَلَامِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيًّا , إذْ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ هُوَ أَمْرٌ بِالْحَجِّ وَهُوَ بِعَيْنِهِ خَبَرٌ عَنْ جَهَنَّمَ كَمَا لَيْسَ فِي الْخَارِجِ إنْسَانٌ هُوَ بِعَيْنِهِ فَضِيلٌ وَإِنْ شَمِلَهُمَا اسْمُ الْحَيَوَانِ كَمَا شَمِلَ ذَيْنِك اسْمُ الْكَلَامِ فَمَنْ جَعَلَ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْئًا وَاحِدًا فَهُوَ يُشْبِهُ مَنْ جَعَلَ الْمَكَانَيْنِ مَكَانًا وَاحِدًا حَتَّى جَعَلَ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ , وَيَقُولُ إنَّمَا هُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ أَوْ لَا يَجْعَلُ الْوَاحِدَ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ , أَوْ يَقُولُ الِاثْنَانِ هُمَا وَاحِدٌ , فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ , وَهُوَ رَفْعُ التَّعَدُّدِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَجَعْلُهَا شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ . وَهَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْعِبَادُ وَالْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ زَيْدٌ هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ عَمْرٌو , وَيَقُولُونَ بَلْ هُمَا حَقِيقَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هُنَاكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ
مُتَّحِدٌ بِالْعَيْنِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَبَيْنَهُمَا مِنْ الِاتِّحَادِ الشَّرْعِيِّ وَاتِّبَاعِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ مَا لَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَعِيدَةِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ إلَّا فِي الْجِنْسِ الْعَامِّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ عَامًّا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ , وَمَا هُنَاكَ مِنْ التَّعَدُّدِ فَأَحَدُهُمَا تَابِعٌ لِلْآخَرِ فَهُمَا مُتَّحِدَانِ مِنْ وَجْهٍ مُتَغَايِرَانِ مِنْ وَجْهٍ , وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ اتِّحَادَ الْحَقَائِقِ الْمُتَنَوِّعَةِ , وَهُوَ قَوْلٌ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ كُلُّ عَاقِلٍ وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ أَحَدٌ , وَهُنَاكَ اتَّفَقَ الْخَلَائِقُ عَلَى أَنْ يُشِيرُوا إلَى مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ وَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ , فَهَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعِبَادِ الَّذِي تُطَمْئِنُ إلَيْهِ الْقُلُوبُ وَجَاءَتْ بِإِطْلَاقِهِ النُّصُوصُ أَنْكَرُوهُ , وَذَاكَ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ فَلَمْ يُطْلِقْهُ نَصٌّ وَلَا قَالَهُ إمَامٌ وَلَا تَصَوَّرَهُ أَحَدٌ إلَّا عَلِمَ فَسَادَهُ بِالْبَدِيهَةِ قَالُوهُ وَجَعَلُوهُ هُوَ أَصْلَ الدِّينِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : أَنْ يُقَالَ لَك قِيَاسُك الْوَحْدَةَ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْكَلَامِ عَلَى الْوَحْدَةِ الَّتِي أُثْبِتهَا لِلْمُتَكَلِّمِ قِيَاسٌ لِلشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ لَا عَلَى نَظِيرِهِ وَذَلِكَ أَنَّك جَعَلْت الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدًا وَهَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدُ هُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ لَمْ تَقُلْ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ وَالِاسْتِخْبَارَ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِالْكَلَامِ كَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ وَلَا يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَقُومُ بِالصِّفَةِ بَلْ هُمَا جَمِيعًا يَقُومَانِ بِالْمَوْصُوفِ فَلَوْ قُلْت ذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٍ مُخْتَلِفَةً قَائِمَةً بِاَللَّهِ وَذَلِكَ الَّذِي فَرَرْت مِنْهُ وَلَكِنَّ هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ الْكَلَامُ صِفَاتٌ وَالرَّبُّ الْوَاحِدُ لَمْ تَقُلْ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَيْئَانِ بَلْ قُلْت إنَّهُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ فَكَانَ نَظِيرُ هَذَا أَنْ نَقُولَ الْكَلَامُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَا أَجْزَاءٍ وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً فَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا وَلَا خَبَرًا وَلَا اسْتِخْبَارًا كَمَا تَقُولُ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَوْصُوفُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي لَحَظَهُ ابْنُ كِلَابٍ إذْ كَانَ أَقْدَمَ وَأَحْذَقَ مِنْ الْأَشْعَرِيِّ حَيْثُ لَمْ يَصِفْ الْكَلَامَ فِي الْأَزَلِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ وَاسْتِخْبَارٌ وَجَعَلَ ذَلِكَ أُمُورًا نِسْبِيَّةً تَعْرِضُ لَهُ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَطَرَدَ أُصُولَهُمْ فِي قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
الْمَوْصُوفُ عِنْدَك وَاحِدًا بِمَعْنَى أَنْ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَك حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً بَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ ثُمَّ يَقُولُ الْكَلَامُ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ وَهُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَتَقُولُ هُوَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْمَوْصُوفِ فَهَذَا مِنْ فَسَادِ الْقِيَاسِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى النَّاسِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : إنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَنَّ لَهُ كَلِمَاتٍ مَا لَهُ حَقِيقَةٌ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ إلَّا مَعْنَى وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّعَدُّدُ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ لَهُ كَلِمَاتٍ وَأَنَّ الْبِحَارَ لَوْ كَانَتْ مِدَادَهَا وَالْأَشْجَارُ أَقْلَامُهَا لَمَا نَفِدَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ , وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ لَهَا مِنْ التَّعْدَادِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ إحْصَاءُ الْعِبَادِ , فَكَيْفَ يُقَالُ لَيْسَ لَهُ كَلِمَتَانِ فَصَاعِدًا . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ التَّكْثِيرُ لِلتَّفْخِيمِ كَقَوْلِهِ { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } , فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِأَنَّ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ هُوَ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ وَاحِدٌ فَإِذَا قَالَ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } . { إنَّا فَتَحْنَا } وَقَدْ عَلِمَ الْمُخَاطَبُونَ أَنَّهُ وَاحِدٌ , عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَضِ أَنَّ ثَمَّ آلِهَةً مُتَعَدِّدَةً لَكِنْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فِي مِثْلِ هَذَا دَلَّتْ عَلَى كَثْرَةِ مَعَانِي أَسْمَائِهِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَمْ
يَذْكُرْ اللَّهُ قَطُّ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ابْنِ كُلَّابٍ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَلَا خَطَرَ هَذَا بِقَلْبِ أَحَدٍ , فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْوَاحِدَ وَلِهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ هَذَا فِي صِيغَةِ التَّكَلُّمِ فِي حَقِّ اللَّهِ أَوْ صِيغَةِ الْمُخَاطَبَةِ لَهُ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { رَبِّ ارْجِعُونِ } وَأَمَّا تَمْثِيلُهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } أَيْ مِثْلَ أُمَّةٍ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأُمَّةُ كَمَا فَسَّرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ هُوَ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَهُوَ الْقُدْوَةُ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ أَيْ يُقْتَدَى بِهِ , فَأُمَّةٌ مِنْ الِائْتِمَامِ كَقُدْوَةٍ مِنْ الِاقْتِدَاءِ , وَلَيْسَ هُوَ مُسْتَعَارًا مِنْ الْأُمَّةِ الَّذِينَ هُمْ جِيلٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ } وَإِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْجَمْعُ مُرَادٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا لِتَعَدُّدِ الْآلَاتِ الَّتِي تُوزَنُ بِهَا أَوْ لِتَعَدُّدِ الْأَوْزَانِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَثْرَتِهِ لِكَثْرَةِ الْمَعَانِي الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْعِبَارَاتُ عَنْهُ فَهَذَا حَقٌّ لَكِنْ إذَا كَانَتْ الْعِبَارَاتُ دَلَّتْ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ عُلِمَ أَنَّ مَعَانِيَ الْعِبَارَاتِ لِكَلَامِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هُوَ مَعْنًى وَاحِدًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ : إنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِإِرَادَةِ الْعَدَدِ مِنْ لَفْظِ الْكَلِمَاتِ وَبِإِرَادَةِ الْوَاحِدِ مِنْ لَفْظِ كَلِمَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك } وَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ
الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } فَبَيَّنَ أَنَّهَا إذَا كُتِبَتْ بِمِيَاهِ الْبَحْرِ وَأَقْلَامِ الْأَشْجَارِ لَا تَنْفَدُ وَالنَّفَادُ الْفَرَاغُ فَعُلِمَ أَنَّهُ يُكْتَبُ بَعْضُهَا وَيَبْقَى مِنْهَا مَا لَمْ يُكْتَبْ , وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا مِنْ الْكَثْرَةِ إلَى أَنْ يُكْتَبَ مِنْهَا مَا يُكْتَبُ وَيَبْقَى مَا يَبْقَى فَكَيْفَ يَكُونُ إنَّمَا أَرَادَ بِلَفْظِ الْكَلِمَاتِ كَلِمَةً وَاحِدَةً لَا سِيَّمَا وَلَفْظُ الشَّجَرِ يَعُمُّ كُلَّ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ صُلْبٍ أَوْ غَيْرِ صُلْبٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِي الضَّالَّةِ تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا } . الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ : إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَأَبَانَ الْعَطَّارِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ قُلْ هُوَ اللَّهَ أَحَدٌ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ } . فَهَذِهِ التَّجْزِئَةُ إمَّا أَنْ تَعُودَ إلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ وَإِمَّا أَنْ تَعُودَ إلَى مَعْنَاهُ , وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ حُرُوفَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَيْسَتْ بِقَدْرِ حُرُوفِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بَلْ هِيَ أَقَلُّ مِنْ عُشْرِ عُشْرِ الْعُشْرِ بِكَثِيرٍ , فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ
بِالتَّجْزِئَةِ الْمَعْنَى , وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مَعْنَى حُرُوفِ الْقُرْآنِ مُتَجَزِّئَةٌ وَهُمْ قَدْ قَالُوا إنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَغَايَرُ وَلَا يَخْتَلِفُ , وَلَوْ قِيلَ إنَّ التَّجْزِئَةَ لِلْحُرُوفِ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَمَاثُلُ قَدْرِ الْحُرُوفِ بَلْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى لَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً أَيْضًا , فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّجْزِئَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَ هُوَ مَعَانِي بَقِيَّةِ الْقُرْآنِ . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ امْرَأَةٍ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ , مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } , قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهَا ثُلُثُ الْقُرْآنِ . فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا بِلَفْظٍ آخَرَ أَنَّهُ { قَالَ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالُوا وَكَيْفَ نَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ قَالَ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . فَقَوْلُهُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ يُبَيِّنُ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا لَيْسَتْ ثُلُثَهُ وَلَكِنْ تَعْدِلُ ثُلُثَهُ أَيْ فِي الثَّوَابِ . قُلْنَا : لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَإِنَّهَا ثُلُثُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهِيَ تَعْدِلُ ثُلُثَهُ بِاعْتِبَارِ الْحُرُوفِ أَوْ هِيَ بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا