كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية
الْقَلِيلِ , الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ , فَإِنَّ عَامَّةَ أَهْلِ الْبَلَدِ مُشْرِكُونَ , وَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا , إلَّا مِنْ طَعَامِهِمْ وَخُبْزِهِمْ , وَفِي أَوَانِيهِمْ لِقِلَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ . ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ , فَمَنْ ادَّعَاهُ احْتَاجَ إلَى دَلِيلٍ . الدَّلِيلُ السَّابِعُ : وَهُوَ الْعَاشِرُ : مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ وَقَالَ : { إنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } " . وَفِي لَفْظٍ : قَالَ : " { فَسَأَلُونِي الطَّعَامَ لَهُمْ وَلِدَوَابِّهِمْ , فَقُلْت : لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ , أَوْفَرُ مَا يَكُونُ لَحْمًا , وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ , قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ , الَّذِي هُوَ زَادُ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ , وَعَلَفُ دَوَابِّهِمْ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا نُنَجِّسَهُ عَلَيْهِمْ , وَلِهَذَا اسْتَنْبَطَ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِزَادِ الْإِنْسِ . ثُمَّ إنَّهُ قَدْ اسْتَفَاضَ النَّهْيُ فِي ذَلِكَ وَالتَّغْلِيظَ حَتَّى قَالَ : { مَنْ تَقَلَّدَ وَتَرًا , أَوْ اسْتَنْجَى بِعَظْمٍ أَوْ رَجِيعٍ , فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْهُ بَرِيءٌ } " , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَعْرُ فِي نَفْسِهِ نَجِسًا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُنَجِّسُهُ , وَلَمْ
يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ الْبَعْرِ الْمُسْتَنْجَى بِهِ , وَالْبَعْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْجَى بِهِ , وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَتْ السُّنَّةُ بَيْنَهُ . ثُمَّ إنَّ الْبَعْرَ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ عَلَفًا لِقَوْمٍ مُؤْمِنِينَ , فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِذَلِكَ جَلَّالَةً , وَلَوْ جَازَ أَنْ تَصِيرَ جَلَّالَةً لَجَازَ أَنْ تُعْلَفَ رَجِيعَ الْإِنْسِ , وَرَجِيعَ الدَّوَابِّ , فَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ ; وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الزَّائِدَ لَهُمْ مَا فَضَلَ عَنْ الْإِنْسِ , وَلِدَوَابِّهِمْ مَا فَضَلَ عَنْ دَوَابِّ الْإِنْسِ مِنْ الْبَعْرِ , شَرَطَ فِي طَعَامِهِمْ كُلَّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُشْرَطَ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِمْ نَحْوُ ذَلِكَ , وَهُوَ الطَّهَارَةُ . وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ , لَمَّا أَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ , فَقَالَ : " { إنَّهَا رِكْسٌ } " . إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهَا رَوْثَةَ آدَمِيٍّ وَنَحْوِهِ , عَلَى أَنَّهَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ , فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَوْثَةَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ , وَرَوْثَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ , فَلَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ , وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ . مَعَ أَنَّ لَفْظَ : " الرِّكْسِ " لَا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ ; لِأَنَّ الرِّكْسَ : هُوَ الْمَرْكُوسُ أَيْ الْمَرْدُودُ , وَهُوَ مَعْنَى الرَّجِيعِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالرَّجِيعِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ : إمَّا لِنَجَاسَتِهِ , وَإِمَّا لِكَوْنِهِ عَلَفَ دَوَابِّ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : وَهُوَ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَتْ نَجِسَةً , وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ تَكْثُرُ مُلَابَسَةُ النَّاسِ لَهَا , وَمُبَاشَرَتُهُمْ لِكَثِيرٍ مِنْهَا , خُصُوصًا الْأُمَّةَ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ , وَلَا يَزَالُونَ يُبَاشِرُونَهَا , وَيُبَاشِرُونَ أَمَاكِنَهَا فِي مُقَامِهِمْ وَسَفَرِهِمْ , مَعَ كَثْرَةِ الِاحْتِفَاءِ فِيهِمْ , حَتَّى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ : تَمَعْدَدُوا وَاخْشَوْشِنُوا وَامْشُوا حُفَاةً وَانْتَعِلُوا , وَمَحَالِبُ الْأَلْبَانِ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ أَبْوَالِهَا , وَلَيْسَ ابْتِلَاؤُهُمْ بِهَا بِأَقَلَّ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي أَوَانِيهِمْ , فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً يَجِبُ غَسْلُ الثِّيَابِ , وَالْأَبْدَانِ , وَالْأَوَانِي مِنْهَا , وَعَدَمُ مُخَالَطَتِهِ , وَيُمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ ذَلِكَ , وَيَجِبُ تَطْهِيرُ الْأَرْضِ مِمَّا فِيهِ ذَلِكَ إذَا صَلَّى فِيهَا , وَالصَّلَاةُ فِيهَا تَكْثُرُ فِي أَسْفَارِهِمْ , وَفِي مَرَاحِ أَغْنَامِهِمْ , وَيَحْرُمُ شُرْبُ اللَّبَنِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ بَعْرُهَا , وَتُغْسَلُ الْيَدُ إذَا أَصَابَهَا الْبَوْلُ , أَوْ رُطُوبَةُ الْبَعْرِ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ , لَوَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَيَانًا تَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ , وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنُقِلَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ , فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ وَعَادَةَ الْقَوْمِ تُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ , فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ نَجَاسَتَهَا دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهَا مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ
لَهُمْ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا , وَعَدَمِ النَّهْيِ عَنْهُ , وَالتَّقْرِيرُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ . وَمِنْ وَجْهٍ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجِبُ بَيَانُهُ بِالْخِطَابِ , وَلَا تُحَالُ الْأُمَّةُ فِيهِ عَلَى الرَّأْيِ ; لِأَنَّهُ مِنْ الْأُصُولِ لَا مِنْ الْفُرُوعِ , وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ , فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ , لَا سِيَّمَا إذَا وَصَلَ بِهَذَا الْوَجْهِ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ : وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ , وَالتَّابِعِينَ , وَعَامَّةَ السَّلَفِ قَدْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ فِي أَزْمَانِهِمْ بِأَضْعَافِ مَا اُبْتُلُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي كَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , ثُمَّ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ : إمَّا الْقَوْلُ بِالطَّهَارَةِ , أَوْ عَدَمُ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ , مِثْلُ : مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي مُوسَى , وَأَنَسٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ : أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي وَعَلَى رِجْلَيْهِ أَثَرُ السِّرْقِينِ , وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْعِرَاقِ , وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : إنَّ لِي غَنَمًا تَبْعَرُ فِي مَسْجِدِي . وَهَذَا قَدْ عَايَنَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ بِالْحِجَازِ . وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : فِيمَنْ يُصَلِّي وَقَدْ أَصَابَهُ السِّرْقِينُ , قَالَ : لَا بَأْسَ , وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ , وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ : أَصَابَتْ عِمَامَتَهُ بَوْلُ بَعِيرٍ فَقَالَا جَمِيعًا : لَا بَأْسَ , وَسَأَلَهُمَا جَعْفَرٌ الصَّادِقُ , وَهُوَ أَشْبَهَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَسْلِ إمَّا ضَعِيفٌ أَوْ عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِحْبَابِ وَالتَّنْظِيفِ , فَإِنَّ نَافِعًا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ طَرِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَكَادُ يُخَالِفُهُ وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ , وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ إنْ ثَبَتَتْ فَلَيْسَتْ صَرِيحَةً بِنَجَاسَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ , مِثْلُ مَا رَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ أَنَّهُ قَالَ : الْبَوْلُ كُلُّهُ يُغْسَلُ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِأَبْوَالِ الْغَنَمِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بَوْلَ الْإِنْسَانِ , الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى , وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ . وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ : الْأَبْوَالُ كُلُّهَا أَنْجَاسٌ . فَلَعَلَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ إنْ ثَبَتَ عَنْهُ , وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْقَوْلُ بِنَجَاسَتِهَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ : أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ عَلَى عَدَمِ النَّجَاسَةِ , بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ التَّنْجِيسَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُحْدَثَةِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إبْطَالِ الْحَوَادِثِ , لَا سِيَّمَا مَقَالَةٌ مُحْدَثَةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ , إذَا أَمْسَكُوا عَنْ تَحْرِيمِهَا وَتَنْجِيسِهَا , مَعَ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ كَانَ تَحْرِيمُهَا وَتَنْجِيسُهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُمْسِكُوا عَنْ بَيَانِ أَفْعَالٍ يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وُجُوبِهَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا , فَيَجِيءُ مَنْ بَعْدَهُمْ فَيُوجِبُهَا , وَمَتَى قَامَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ أَوْ الْوُجُوبِ , وَلَمْ يَذْكُرُوا
وُجُوبًا وَلَا تَحْرِيمًا , كَانَ إجْمَاعًا عَنْهُمْ عَلَى عَدَمِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ , وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ مُعْتَمَدَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ , وَهِيَ أَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي لِلْفَقِيهِ أَنْ يَتَأَمَّلَهَا , وَلَا يَغْفُلُ عَنْ غَوْرِهَا , لَكِنْ لَا يُسَلَّمُ إلَّا بِعَدَمِ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ , فَإِنْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ بَطَلَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ . وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ . الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْحَقِيقَةِ : أَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْحُبُوبَ مِنْ الشَّعِيرِ , وَالْبَيْضَاءِ , وَالذُّرَةِ , وَنَحْوِهَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي مَزَارِعِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ , وَيُعْلَمُ أَنَّ الدَّوَابَّ إذَا دَاسَتْ فَلَا بُدَّ أَنْ تَرُوثَ وَتَبُولَ , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الْحُبُوبَ لَحُرِّمَتْ مُطْلَقًا , أَوْ لَوَجَبَ تَنْجِيسُهَا . وَقَدْ أَسْلَمَتْ الْحِجَازُ , وَالْيَمَنُ وَنَجْدٌ , وَسَائِرُ جَزَائِرِ الْعَرَبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعَثَ إلَيْهِمْ سُعَاتَهُ وَعُمَّالَهُ يَأْخُذُونَ عُشُورَ حُبُوبِهِمْ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا , وَكَانَتْ سَمْرَاءُ الشَّامِ تُجْلَبُ إلَى الْمَدِينَةِ , فَيَأْكُلُ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى عَهْدِهِ . وَعَامَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ وَزَرْعٍ , وَكَانَ يُعْطِي الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقَ شَعِيرٍ مِنْ غَلَّةِ خَيْبَرَ , وَكُلُّ هَذِهِ تُدَاسُ بِالدَّوَابِّ
الَّتِي تَرُوثُ وَتَبُولُ عَلَيْهَا , فَلَوْ كَانَتْ تُنَجَّسُ بِذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ تَطْهِيرَ الْحَبِّ وَغَسْلَهُ , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ , وَلَا فُعِلَ عَلَى عَهْدِهِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَتِهَا . وَلَا يُقَالُ : هُوَ لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْحَبَّ الَّذِي أَكَلَهُ مِمَّا أَصَابَهُ الْبَوْلُ , وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ , لِأَنَّا نَقُولُ فَصَاحِبُ الْحَبِّ قَدْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ بَعْضِ حَبِّهِ , وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ بِالنَّجِسِ , فَلَا يَحِلُّ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ , بَلْ الْوَاجِبُ تَطْهِيرُ الْجَمِيعِ , كَمَا إذَا عَلِمَ نَجَاسَةَ بَعْضِ الْبَدَنِ , أَوْ الثَّوْبِ , أَوْ الْأَرْضِ , وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُ النَّجَاسَةِ غَسَلَ مَا يَتَيَقَّنُ بِهِ غَسْلَهَا . وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ . ثُمَّ اشْتِبَاهُ الطَّاهِرِ بِالنَّجَسِ نَوْعٌ مِنْ اشْتِبَاهِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ , فَكَيْفَ يُبَاحُ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ , ؟ فَإِنَّ الْقَائِلَ إمَّا أَنْ يَقُولَ : يَحْرُمُ الْجَمِيعُ , وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ بِالتَّحَرِّي . فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِلَا تَحَرٍّ فَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا جَوَّزَهُ , وَإِنَّمَا يَسْتَمْسِكُ بِالْأَصْلِ مَعَ تَيَقُّنِ النَّجَاسَةِ . وَلَا مَحِيصَ عَنْ هَذَا الدَّلِيلِ إلَّا إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ , إمَّا أَنْ يُقَالَ بِطَهَارَةِ هَذِهِ الْأَبْوَالِ وَالْأَرْوَاثِ , أَوْ أَنْ يُقَالَ : عُفِيَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْحَاجَةِ , كَمَا يُعْفَى عَنْ رِيقِ الْكَلْبِ فِي بَدَنِ الصَّيْدِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ , وَكَمَا يَطْهُرُ مَحَلُّ
الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاضِعِ الْحَاجَاتِ . فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِيمَا اسْتَحَلَّ جَرَيَانُهُ عَلَى وِفَاقِ الْأَصْلِ , فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ اسْتِحْلَالَ هَذَا مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَقَدْ ادَّعَى مَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ , فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ قَوِيَّةٍ , وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ , وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحَظْرَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُسْتَثْنَى هَذَا الْمَوْضِعُ . فَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْعُمُومِ الضَّعِيفِ , وَالْقِيَاسِ الضَّعِيفِ , فَدَلَالَةُ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ تِلْكَ عَلَى النَّجَاسَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ عِنْدَ التَّأَمُّلِ . عَلَى أَنَّ ثُبُوتَ طَهَارَتِهَا وَالْعَفْوَ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَحَدُ مَوَارِدِ الْخِلَافِ , فَيَبْقَى إلْحَاقُ الْبَاقِي بِهِ بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ , وَمِنْ جِنْسِ هَذَا : الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : وَهُوَ الرَّابِعَ عَشَرَ هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ , عَلَى دِيَاسِ الْحُبُوبِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا بِالْبَقَرِ وَنَحْوِهَا , مَعَ الْقَطْعِ بِبَوْلِهَا وَرَوْثِهَا عَلَى الْحِنْطَةِ , وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ , وَلَمْ يَغْسِلْ الْحِنْطَةَ لِأَجْلِ هَذَا أَحَدٌ , وَلَا اُحْتُرِزَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا فِي الْبَيَادِرِ لِوُصُولِ الْبَوْلِ إلَيْهِ , وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ عِلْمٌ اضْطِرَارِيٌّ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهِ سُؤَالًا , وَلَا أَعْلَمُ لِمَنْ يُخَالِفُ هَذَا شُبْهَةً . وَهَذَا الْعَمَلُ إلَى
زَمَانِنَا مُتَّصِلٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ , لَكِنْ لَمْ نَحْتَجَّ بِإِجْمَاعِ الْأَعْصَارِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا هَذَا الْخِلَافُ , لِئَلَّا يَقُولَ الْمُخَالِفُ : أَنَا أُخَالِفُ فِي هَذَا , وَإِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَ ظُهُورِ الْخِلَافِ . وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِنْ جِنْسٍ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَسْكُنُونَ الْبِنَاءَ , فَإِنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُزْرَعُ , وَنَتَيَقَّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ ذَلِكَ الْحَبَّ وَيُقَرُّونَ عَلَى أَكْلِهِ , وَنَتَيَقَّنُ أَنَّ الْحُبَّ لَا يُدَاسُ إلَّا بِالدَّوَابِّ , وَنَتَيَقَّنُ أَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَبُولَ عَلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي يَبْقَى أَيَّامًا , وَيَطُولُ دِيَاسُهَا لَهُ , وَهَذِهِ كُلُّهَا مُقَدِّمَاتٌ يَقِينِيَّةٌ . الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } . فَأَمَرَ بِتَطْهِيرِ بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ , وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَمَرَ بِتَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ , وَقَالَ : جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } " وَقَالَ : " { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ } " . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْحَمَامَ لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ , لِأَمْنِهِ وَعِبَادَةِ بَيْتِ اللَّهِ , وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ ذَرْقُهُ يَنْزِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْمَطَافِ وَالْمُصَلَّى , فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَتَنَجَّسَ الْمَسْجِدُ بِذَلِكَ . وَلَوَجَبَ تَطْهِيرُ الْمَسْجِدِ مِنْهُ , إمَّا بِإِبْعَادِ الْحَمَامِ , أَوْ بِتَطْهِيرِ
الْمَسْجِدِ , أَوْ بِتَسْقِيفِ الْمَسْجِدِ , وَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ وَأُمِّهَا وَسَيِّدِهَا لِنَجَاسَةِ أَرْضِهِ , وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ يَقِينًا . وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْنِ : إمَّا طَهَارَتُهُ مُطْلَقًا , أَوْ الْعَفْوُ عَنْهُ , كَمَا فِي الدَّلِيلِ قَبْلَهُ , وَقَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ الْقَوْلِ بِالطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ . الدَّلِيلُ الثَّالِثَ عَشَرَ : وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ السَّادِسَ عَشَرَ : مَسْلَكُ التَّشْبِيهِ وَالتَّوْجِيهِ , فَنَقُولُ وَاَللَّهُ الْهَادِي : اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ , وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ , إنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِ حَقِيقَتِهِمَا , وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ هَذَا طَيِّبًا , وَهَذَا خَبِيثًا . وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ : إمَّا لِقُوَّةِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي نَفْسِ الْبَهِيمَةِ , فَأَكْلُهَا يُورِثُ نَبَاتَ أَبْدَانِنَا مِنْهَا , فَتَصِيرُ أَخْلَاقُ النَّاسِ أَخْلَاقَ السِّبَاعِ , أَوْ لِمَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ , وَإِمَّا خُبْثُ مَطْعَمِهَا كَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ مِنْ الطَّيْرِ ; أَوْ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا مُسْتَخْبَثَةٌ كَالْحَشَرَاتِ فَقَدْ رَأَيْنَا طِيبَ الْمَطْعَمِ يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ , وَخُبْثَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْحُرْمَةِ , كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي لُحُومِ الْجَلَّالَةِ , وَلَبَنِهَا , وَبَيْضِهَا , فَإِنَّهُ حُرِّمَ الطِّيبُ لِاغْتِذَائِهِ بِالْخَبِيثِ , وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ الْمُسْقَى بِالْمَاءِ النَّجِسِ , وَالْمُسَمَّدُ بِالسِّرْقِينِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ , وَقَدْ رَأَيْنَا عَدَمَ الطَّعَامِ يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ , أَوْ خِفَّةِ نَجَاسَتِهِ , مِثْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ
الطَّعَامَ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَشْيَاءَ : مِنْهَا أَنَّ الْأَبْوَالَ قَدْ يُخَفَّفُ شَأْنُهَا بِحَسَبِ الْمُطْعَمِ كَالصَّبِيِّ , وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تَكُونُ مَطَاعِمُهَا إلَّا طَيِّبَةً , فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ أَبْوَالُهَا طَاهِرَةً لِذَلِكَ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُطْعَمَ إذَا خَبُثَ وَفَسَدَ حُرِّمَ مَا نَبَتَ مِنْهُ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ , وَبَيْضٍ : كَالْجَلَّالَةِ وَالزَّرْعِ الْمُسَمَّدِ , وَكَالطَّيْرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ . فَإِذَا كَانَ فَسَادُهُ يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ مَا تُوجِبُهُ الطَّهَارَةُ وَالْحِلُّ , فَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ طِيبُهُ وَحِلُّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِ مَا يَكُونُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ نَجِسًا مُحَرَّمًا , فَإِنَّ الْأَرْوَاثَ , وَالْأَبْوَالَ مُسْتَحِيلَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي بَاطِنِ الْبَهِيمَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ . يُبَيِّنُ هَذَا مَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْأَرْوَاثِ مِنْ مُخَالَفَتِهَا غَيْرَهَا مِنْ الْأَرْوَاثِ فِي الْخَلْقِ , وَالرِّيحِ وَاللَّوْنِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ فَرْقُ مَا بَيْنَهُ فَرْقَ مَا بَيْنِ اللَّبَنَيْنِ , وَالْمَنْبَتَيْنِ , وَبِهَذَا يَظْهَرُ خِلَافُهَا لِلْإِنْسَانِ . يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ : مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ , وَإِلَى الْيَوْمِ , فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ , مَا زَالُوا يَدُوسُونَ الزُّرُوعَ الْمَأْكُولَةَ بِالْبَقَرِ , وَيُصِيبُ الْحَبَّ مِنْ أَرْوَاثِ الْبَقَرِ وَأَبْوَالِهَا , وَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَسَلَ حَبًّا , وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَجَّسًا أَوْ مُسْتَقْذَرًا لَأَوْشَكَ أَنْ يُنْهُوا عَنْهَا , وَأَنْ تَنْفِرَ عَنْهُ نُفُوسُهُمْ نُفُورَهَا عَنْ
بَوْلِ الْإِنْسَانِ , وَلَوْ قِيلَ : هَذَا إجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ لَكَانَ حَقًّا , وَكَذَلِكَ مَا زَالَ يَسْقُطُ فِي الْمَحَالِبِ مِنْ أَبْعَارِ الْأَنْعَامِ , وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ , وَلِذَلِكَ عَفَا عَنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِالتَّنْجِيسِ , عَلَى أَنَّ ضَبْطَ قَانُونٍ كُلِّيٍّ فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ , لَمْ يَتَيَسَّرْ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِنَا بِالْأَنْوَاعِ الطَّاهِرَةِ , وَالْأَنْوَاعِ النَّجِسَةِ . فَهَذِهِ إشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إلَى مَسَالِكِ الرَّأْيِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَتَمَامُهُ مَا حَضَرَنِي كِتَابَةً فِي هَذَا الْمَجْلِسِ , وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ , وَاَللَّهُ يَهْدِي السَّبِيلَ .
71 - 71 - 55 مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : هَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ , أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبِ كَالْخُفِّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ الْخَرْقُ الَّذِي فِيهِ الَّذِي بَيْنَ الطَّعْنِ مَانِعًا مِنْ الْمَسْحِ فَقَدْ يَصِفُ بَشَرَةَ شَيْءٍ مِنْ مَحِلِّ الْفَرْضِ وَإِذَا كَانَ فِي الْخُفِّ خَرْقٌ بِقَدْرِ النِّصْفِ أَوْ أَكْثَرَ هَلْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى عُنُقِهِ فِي الْوُضُوءِ , بَلْ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ , بَلْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي فِيهَا صِفَةُ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ [ فِيهَا أَنَّهُ كَانَ ] يَمْسَحُ عُنُقَهُ . وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ , وَمَنْ اسْتَحَبَّهُ فَاعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى أَثَرٍ يُرْوَى , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ حَدِيثٍ يَضْعُفُ نَقْلُهُ : { أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ } وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ عُمْدَةً وَلَا يُعَارِضُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ . وَمَنْ تَرَكَ مَسْحَ الْعُنُقِ فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا مَسْحُ الْجَوْرَبِ : نَعَمْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إذَا كَانَ يَمْشِي فِيهِمَا , سَوَاءٌ كَانَتْ مُجَلَّدَةً , أَوْ لَمْ تَكُنْ , فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . فَفِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْهِ وَنَعْلَيْهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي ذَلِكَ , فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوفٍ وَهَذَا مِنْ جُلُودٍ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفَرْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جُلُودًا أَوْ قُطْنًا , أَوْ كَتَّانًا , أَوْ صُوفًا كَمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ سَوَادِ اللِّبَاسِ فِي الْإِحْرَامِ وَبَيَاضِهِ , وَمَحْظُورِهِ وَمُبَاحِهِ , وَغَايَتُهُ أَنَّ الْجِلْدَ أَبْقَى مِنْ الصُّوفِ فَهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ , كَمَا لَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِ الْجِلْدِ قَوِيًّا , يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا , كَالْحَاجَةِ إلَى الْمَسْحِ عَلَى هَذَا سَوَاءٌ , وَمَعَ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ وَالْحَاجَةِ , يَكُونُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ , وَهَذَا خِلَافُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِبَارِ الصَّحِيحِ , الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ كُتُبَهُ , وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ , وَمَنْ فَرَّقَ يَكُونُ هَذَا يَنْفُذُ الْمَاءُ مِنْهُ , وَهَذَا لَا يَنْفُذُ مِنْهُ , فَقَدْ ذَكَرَ فَرْقًا طَرْدِيًّا عَدِيمَ التَّأْثِيرِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : يَصِلُ الْمَاءُ إلَى الصُّوفِ أَكْثَرَ مِنْ الْجِلْدِ , فَيَكُونُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ أَوْلَى لِلصُّوفِ الطَّهُورِ بِهِ أَكْثَرَ كَانَ هَذَا الْوَصْفُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ , وَأَقْرَبَ إلَى الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ , وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ , وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ .
وَخُرُوقُ الطَّعْنِ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْمَسْحِ , وَلَوْ لَمْ تُسْتَرْ الْجَوَارِبُ إلَّا بِالشَّدِّ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا عَلَى الصَّحِيحِ , وَكَذَلِكَ الزُّرْبُولُ الطَّوِيلُ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ , وَلَا يُسْتَرُ إلَّا بِالشَّدِّ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
76 - 76 - 61 مَسْأَلَةٌ : فِي نَاسٍ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ قَلِيلٌ , فَوَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , يَجُوزُ لَهُمْ حَبْسُهُ لِأَجْلِ الشُّرْبِ إذَا عَطِشُوا , وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً طَيِّبًا , فَإِنَّ الْخَبَائِثَ جَمِيعَهَا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ , فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْمَيْتَةَ , وَالدَّمَ , وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ , وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَا يَرْوِيهِ , كَالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ , وَالْمَائِعَاتِ الَّتِي تَرْوِيهِ , وَإِنَّمَا مَنَعَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ شُرْبَ الْخَمْرِ , قَالُوا : لِأَنَّهَا تَزِيدُهُ عَطَشًا . وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ بِمَاءِ الْوُلُوغِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ , بَلْ يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى التَّيَمُّمِ , وَيَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ , وَيَشْرَبَ مَا يُقِيمُ بِهِ بِنْيَتَهُ , فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْمَيْتَةِ أَوْ الْمَاءِ النَّجِسِ , فَلَمْ يَأْكُلْ , وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ . وَلَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ مُضْطَرًّا إلَى مَا مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ الطَّيِّبِ وَالنَّجِسِ أَوْ حَدَثٍ صَغِيرٍ . وَمَنْ اغْتَسَلَ وَتَوَضَّأَ , وَهُنَاكَ مُضْطَرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ أَوْ الذِّمَّةِ , وَدَوَابِّهِمْ الْمَعْصُومَةِ , فَلَمْ يَسْقِهِ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
75 - 75 - 59 أَجْوِبَةٌ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ . وَكَذَلِكَ فِي الْمَائِعَاتِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ , وَالْخَبِيثُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الطَّيِّبِ بِصِفَاتِهِ , فَإِذَا كَانَ صِفَاتُ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ صِفَاتِ الطَّيِّبِ دُونَ الْخَبِيثِ , وَجَبَ دُخُولُهُ فِي الْحَلَالِ دُونَ الْحَرَامِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ , وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحَيْضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ ؟ فَقَالَ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } " . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } " . وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ , وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّجَاسَاتِ وَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ ; لِأَنَّ جُرْمَ النَّجَاسَةِ بَاقٍ , فَفِي اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَالٌ لَهَا , بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَالَتْ , فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ , وَلَيْسَ هُنَاكَ نَجَاسَةٌ قَائِمَةٌ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ خَمْرٌ فِي مَاءٍ , وَاسْتَحَالَتْ , ثُمَّ شَرِبَهَا شَارِبٌ , لَمْ يَكُنْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ , وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدُّ الْخَمْرِ , إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ طَعْمِهَا , وَلَوْنِهَا , وَرِيحِهَا . وَلَوْ صَبَّ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي مَاءِ , وَاسْتَحَالَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ , وَشَرِبَ طِفْلٌ ذَلِكَ الْمَاءَ , لَمْ يَصِرْ ابْنَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا بَاقٍ عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ , فَيَدْخُلُ فِي عُمُومُ قَوْلِهِ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ لَا طَعْمِهِ , وَلَا رِيحِهِ , وَلَا لَوْنِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ , وَعَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ . قِيلَ : نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْجَسُ بِمُجَرَّدِ الْبَوْلِ , إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , بَلْ قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ ; لِأَنَّ الْبَوْلَ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ , فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ , فَكَانَ نَهْيًا مُبْتَدَأً سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَأَيْضًا فَيُقَالُ نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَنْجِيسِهِ , فَإِنَّهُ إذَا بَالَ هَذَا تَغَيَّرَ بِالْبَوْلِ , فَكَانَ نَهْيًا مُبْتَدَأً سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . أَيْضًا فَيُقَالُ : نَهْيُهُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ , فَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُلَّتَيْنِ : أَتُجَوِّزُ بَوْلَهُ فِيمَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ , إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ النَّصِّ , وَإِنْ حَرَّمْته فَقَدْ نَقَضْتَ دَلِيلَكَ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ , وَمَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ : أَتُسَوِّغُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبُولُوا فِي الْمَصَانِعِ الَّتِي بِطَرِيقِ مَكَّةَ , إنْ جَوَّزْته فَقَدْ خَالَفْت ظَاهِرَ النَّصِّ , وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك . وَيُقَالُ لِلْمُقَدَّرِ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ , إذَا كَانَ لِلْقَرْيَةِ غَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ رَقِيقٍ : أَتُسَوِّغُ لِأَهْلِ
الْقَرْيَةِ الْبَوْلَ فِيهِ , إنْ سَوَّغْته فَقَدْ خَالَفَتْ ظَاهِرَ النَّصِّ , وَإِلَّا نَقَضْت قَوْلَك . وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْبَوْلِ , وَبَيْنَ صَبِّ الْبَوْلِ , فَقَوْلُهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ , فَإِنَّ صَبَّ الْبَوْلِ أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مِنْ مُجَرَّدِ الْبَوْلِ , إذْ الْإِنْسَانُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ , وَأَمَّا صَبُّ الْأَبْوَالِ فِي الْمِيَاهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَفِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ : إنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ , وَمَا يَنْوِيهِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ , فَقَالَ : " { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } " وَفِي لَفْظٍ : " { لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } " وَأَمَّا مَفْهُومُهُ إذَا قُلْنَا بِدَلَالَةِ مَفْهُومِ الْعَدَدِ , فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ فِي الْمَنْطُوقِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِيَظْهَرَ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْمِقْدَارِ , وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَسْكُوتِ مُنَاقَضَةً لِلْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْمَنْطُوقِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : الْمَفْهُومُ لَا عُمُومَ لَهُ , فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجَسُ . بَلْ إذَا قِيلَ بِالْمُخَالَفَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا التَّقْدِيرَ ابْتِدَاءً , وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ مِيَاهِ الْفَلَاةِ الَّتِي تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالدَّوَابُّ , وَالتَّخَصُّصُ إذَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ غَيْرُ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ لَمْ يَبْقَ
حُجَّةٌ بِاتِّفَاقٍ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } . فَإِنَّهُ خَصَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِالنَّهْيِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاقِعَةُ لَا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَخْتَصُّ بِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } . فَذِكْرُ الزَّمَنَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِلْحَاجَةِ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ } , فَهَذَا رَهْنٌ فِي الْحَضَرِ , فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ } " فِي جَوَابِ سَائِلٍ مُعَيِّنٍ بَيَانٌ لِمَا احْتَاجَ السَّائِلُ إلَى بَيَانِهِ , فَلَمَّا كَانَ حَالُ الْمَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ كَثِيرًا قَدْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ , وَمِنْ شَأْنِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ , فَلَا يَبْقَى الْخَبَثُ فِيهِ مَحْمُولًا , بَلْ يَسْتَحِيلُ الْخَبَثُ فِيهِ لِكَثْرَتِهِ , بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ لَا خَبَثَ فِيهِ , فَلَا يَنْجَسُ , وَدَلَّ كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , عَلَى أَنَّ مَنَاطَ التَّنْجِيسِ هُوَ كَوْنُ الْخَبَثِ مَحْمُولًا , فَحَيْثُ كَانَ الْخَبَثُ مَحْمُولًا مَوْجُودًا فِي الْمَاءِ كَانَ نَجِسًا , وَحَيْثُ كَانَ الْخَبَثُ مُسْتَهْلَكًا غَيْرَ مَحْمُولٍ فِي الْمَاءِ كَانَ بَاقِيًا عَلَى طَهَارَتِهِ , فَصَارَ حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } " . وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ لِبَيَانِ صُورَةِ السُّؤَالِ , لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ الْخَبَثَ , فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ , إذْ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ قَدْ
لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَلَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ , كَقَوْلِهِ : " { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } " وَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ , وَأَمَّا إذَا كَانَ قَلِيلًا فَقَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ لِضَعْفِهِ , وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَمْرُهُ بِتَطْهِيرِ الْإِنَاءِ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ , وَبِإِرَاقَتِهِ , فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ , وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ } " كَقَوْلِهِ : " { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ , فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا , فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } " . فَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ غَمْسِ الْيَدِ فِي الْإِنَاءِ هُوَ الْإِنَاءُ الْمُعْتَادُ لِلْغَمْسِ , وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْ آنِيَةِ الْمِيَاهِ , فَكَذَلِكَ تِلْكَ الْآنِيَةُ الْمُعْتَادَةُ لِلْوُلُوغِ , وَهِيَ آنِيَةُ الْمَاءِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلْبَ يَلَغُ بِلِسَانِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى فِي الْمَاءِ مِنْ رِيقِهِ وَلُعَابِهِ مَا يَبْقَى وَهُوَ لَزِجٌ , فَلَا يُحِيلُهُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ , بَلْ يَبْقَى , فَيَكُونُ ذَلِكَ الْخَبَثُ مَحْمُولًا , وَالْمَاءُ يَسِيرًا , فَيُرَاقُ ذَلِكَ الْمَاءُ لِأَجْلِ كَوْنِ الْخَبَثِ مَحْمُولًا فِيهِ , وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ الَّذِي لَاقَاهُ ذَلِكَ الْخَبَثُ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَبَثِ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُسْتَحِيلِ : كَاسْتِحَالَةِ الْخَمْرِ , فَإِنَّ الْخَمْرَ إذَا انْقَلَبَتْ فِي الدَّنِّ بِإِذْنِ اللَّهِ كَانَتْ طَاهِرَةً بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , وَكَذَلِكَ جَوَانِبُ الدَّنِّ فَهُنَاكَ
يُغْسَلُ الْإِنَاءُ , وَهُنَا لَا يُغْسَلُ ; لِأَنَّ الِاسْتِحَالَةَ حَصَلَتْ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ الْآخَرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَاءَيْنِ , وَاَلَّذِي يَنْجَسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ وَمَا لَا يَنْجَسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ , لَقَالَ : إذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ نُجِّسَ , وَمَا بَلَغَهُمَا لَمْ يَنْجَسْ , إلَّا بِالتَّغَيُّرِ انْجَرَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . فَأَمَّا مُجَرَّدُ قَوْلِهِ : " { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ } " مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ يَنْجَسُ بِالِاتِّفَاقِ , فَلَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَقْصُودِ , بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْعَادَةِ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ فَلَا يُنَجِّسُهُ , فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ انْتِفَاءِ سَبَبِ التَّنَجُّسِ , وَبَيَانٌ لِكَوْنِ التَّنَجُّسِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ حَمْلُ الْخَبَثِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا , فَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَنَجُّسَ الْمَاءِ بِالِاتِّفَاقِ , بَلْ قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ أَثَرًا , أَوْ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّأْثِيرِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّنَجُّسِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ , فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ } " . فَأَمَرَ
بِالْغَسْلِ مُعَلِّلًا بِمَبِيتِ الشَّيْطَانِ عَلَى خَيْشُومِهِ , فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْغَسْلِ غَيْرَ النَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ الْمَعْرُوفِ . وَقَوْلُهُ : " { فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } " يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ , فَتَكُونُ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ الَّتِي شَهِدَ لَهَا النَّصُّ بِالِاعْتِبَارِ . وَأَمَّا نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ , فَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَنَهْيِهِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمُسْتَحَمِّ , ثُمَّ إذَا اغْتَسَلَ حَصَلَ لَهُ وَسْوَاسٌ , وَرُبَّمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ , فَعَادَ عَلَيْهِ رَشَاشُهَا , وَكَذَلِكَ إذَا بَالَ فِي مَاءٍ , ثُمَّ اغْتَسَلَ فِيهِ , فَقَدْ يَغْتَسِلُ قَبْلَ الِاسْتِحَالَةِ مَعَ بَقَاءِ أَجْزَاءِ الْبَوْلِ , فَنُهِيَ عَنْهُ لِذَلِكَ . وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ إنْ صَحَّ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ , وَهَذَا قَدْ يَكُونُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ الْمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ , لَا لِأَجْلِ نَجَاسَتِهِ وَلَا لِمَصِيرِهِ مُسْتَعْمَلًا , فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ } " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
78 - 78 - 63 - مَسْأَلَةٌ : فِي لَمْسِ النِّسَاءِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ , أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ; أَمَّا نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ النِّسَاءِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ , طَرَفَانِ وَوَسَطٌ : أَضْعَفُهَا : أَنَّهُ يُنْقَضُ بِاللَّمْسِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ إذَا كَانَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةً لِلشَّهْوَةِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى { أَوْ لَامَسْتُمْ } . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّمْسَ لَا يَنْقُضُ بِحَالٍ , وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ , وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ , لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ , وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةِ : أَنَّ اللَّمْسَ إنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ نَقَضَ , وَإِلَّا فَلَا , وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ الَّذِي قَبْلَهُ . فَأَمَّا تَعْلِيقُ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ اللَّمْسِ , فَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ , وَخِلَافُ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ , وَخِلَافُ الْآثَارِ , وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ , فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } إذَا أُرِيدَ بِهِ اللَّمْسُ بِالْيَدِ , وَالْقُبْلَةُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ , فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيْثُ . ذُكِرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ لِشَهْوَةٍ , مِثْلُ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الِاعْتِكَافِ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . وَمُبَاشَرَةُ الْمُعْتَكِفِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ ,
بِخِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ لِشَهْوَةٍ , وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ , لَوْ بَاشَرَ الْمَرْأَةَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بِهِ دَمٌ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } . وَقَوْلُهُ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } . فَإِنَّهُ لَوْ مَسَّهَا مَسِيسًا خَالِيًا مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَجِبْ بِهِ عِدَّةٌ , وَلَا يَسْتَقِرُّ بِهِ مَهْرٌ , وَلَا تَنْتَشِرُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ , بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , بِخِلَافِ مَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةٍ , وَلَمْ يَخْلُ بِهَا , وَلَمْ يَطَأْهَا , فَفِي اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } يَتَنَاوَلُ اللَّمْسَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِشَهْوَةٍ , فَقَدْ خَرَجَ عَنْ اللُّغَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ , بَلْ وَعَنْ لُغَةِ النَّاسِ فِي عُرْفِهِمْ , فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمَسَّ الَّذِي يُقْرَنُ فِيهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مَسُّ الشَّهْوَةِ , كَمَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْوَطْءُ الْمَقْرُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةِ , عُلِمَ أَنَّهُ الْوَطْءُ بِالْفَرْجِ لَا بِالْقَدَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ إنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِلَمْسِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا , بَلْ بِصِنْفٍ مِنْ النِّسَاءِ , وَهُوَ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ , فَأَمَّا مَسُّ مَنْ لَا يَكُونُ مَظِنَّةً , كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , وَالصَّغِيرَةِ فَلَا يُنْقَضُ بِهَا , فَقَدْ تَرَكَ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الظَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ شَرْطًا لَا أَصْلَ لَهُ بِنَصٍّ
وَلَا قِيَاسٍ , فَإِنَّ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ اللَّمْسِ لِشَهْوَةٍ , وَاللَّمْسِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ , لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ , أَوْ لَا يَكُونُ . وَهَذَا هُوَ الْمَسُّ الْمُؤَثِّرُ فِي الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا , كَالْإِحْرَامِ , وَالِاعْتِكَافِ , وَالصِّيَامِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ , وَلَا الْقِيَاسُ , لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ . وَأَمَّا مَنْ عَلَّقَ النَّقْضَ بِالشَّهْوَةِ فَالظَّاهِرُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلٌ لَهُ , وَقِيَاسُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّمْسَ نَاقِضًا بِحَالٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ اللَّمْسَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ , كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } . لَكِنْ تُكُلِّمَ فِيهِ . وَأَيْضًا فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسَّ النَّاسِ نِسَاءَهُمْ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى , وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَمَسُّ امْرَأَتَهُ , فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُ لِأُمَّتِهِ , وَلَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ , وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ يَدِهِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا , وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
81 - 81 - 66 مَسْأَلَةٌ : وَسُئِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَنْ رَجُلٍ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ فِي عَافِيَةٍ , فَهَلْ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ بِالطُّهْرِ إلَى أَنْ يَتَضَحَّى النَّهَارُ , أَمْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّ . أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ أَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ , بَلْ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاغْتِسَال بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ حَارٍّ , أَنْ يَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ , وَإِلَّا تَيَمَّمَ , فَإِنَّ التَّيَمُّمَ بِخَشْيَةِ الْبَرْدِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , وَإِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ , لَكِنْ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاغْتِسَالِ اغْتَسَلَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
77 - 77 - 62 مَسْأَلَةٌ : فِي أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَةِ بِالْفِضَّةِ كَالطَّاسَاتِ وَغَيْرِهَا , هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنْ الْآنِيَةِ , وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْآلَاتِ , سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ إنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ , وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ كَالْمَبَاخِرِ , وَالْمَجَامِرِ , وَالطُّشُوتِ , وَالشَّمْعُدَانَات , وَأَمْثَالِ ذَلِكَ , فَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةٍ مِثْلُ : تَشْعِيبِ الْقَدَحِ , وَشَعِيرَةِ السِّكِّينِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ , فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هُنَا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ , كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ , وَالشَّعِيرَةِ , سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ , أَوْ نُحَاسٍ , أَوْ حَدِيدٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ , بَلْ هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَرُورَةً , وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتَبَعًا , حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى شَدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ , أَوْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ , كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ , مَعَ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَمَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ , وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْرَبُهُ إلَّا فِي إنَاءِ ذَهَبٍ , أَوْ فِضَّةٍ , جَازَ لَهُ شُرْبُهُ , وَلَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَقِيهِ الْبَرْدَ , أَوْ يَقِيهِ السِّلَاحَ , أَوْ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ , إلَّا ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ , جَازَ لَهُ لُبْسُهُ , فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ
أَكْلَ الْمَيْتَةِ , وَالدَّمِ , وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَّةِ , وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ . مَعَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ ; لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ , أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ , وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا , وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السَّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمُضِرَّاتِ , مَا لَيْسَ بِنَجِسٍ , وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا . ثُمَّ مَا حَرُمَ لِخَبَثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ , وَالْفَخْرِ , وَالْخُيَلَاءِ , فَإِنَّ هَذَا يَحْرُمُ الْقَدْرُ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ , وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ , كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ , وَحَرُمَ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ , وَأُبِيحَ لِلرِّجَالِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرِ , كَالْعَلَمِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , جَوَازَ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ , كَمَا رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ , وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا . وَنَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ , وَقَالَ : " { إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ } " . وَنَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ . وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي بِهَا , وَقَالَ : " { إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } " . وَقَالَ : " { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } " .
وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِإِذْنِهِ لِلْعُرَنِيِّينَ فِي التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ النَّجِسَةِ , لِنَهْيِهِ عَنْ التَّدَاوِي بِمِثْلِ ذَلِكَ , وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ , وَالثِّيَابَ , وَالْآنِيَةَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ شُرْبِهَا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ , وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ , فَذَاكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَذَارَةِ الْمُلْحَقِ لَهَا بِالْمُخَاطِ , وَالْبُصَاقِ , وَالْمَعْنَى , وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ , الَّتِي يُشْرَعُ النَّظَافَةُ مِنْهَا , كَمَا يُشْرَعُ نَتْفُ الْإِبْطِ , وَحَلْقُ الْعَانَةِ , وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ , وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ . وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مُحَرَّمًا فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ , فَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ , بِخِلَافِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ , وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ , وَبَابُ الْخَبَائِثِ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ , فِيمَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُبَاحُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ , كَمَا يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ , وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ , وَإِلْبَاسِ الدَّابَّةِ لِلثَّوْبِ النَّجِسِ , وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي
مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ , وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ , بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ , فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ , وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ رَخَّصَ مِنْ الْفُقَهَاءِ , مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ , فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ , قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ , فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ , أَوْ مَنْ يُبِيحُ تَحْلِيَةَ دَابَّتِهِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , قِيَاسًا عَلَى مَنْ يُبِيحُ إلْبَاسَهَا الثَّوْبَ النَّجِسَ , فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَحْرِيمُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ , كَمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ لِبَاسِهِ , وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ افْتِرَاشَهُ عَلَى النِّسَاءِ , كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَرَاوِزَةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَهُ لِلرِّجَالِ , كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ , وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ كَاللِّبَاسِ , يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ لِلِّبَاسِ , كَمَا قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ . إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّزَيُّنِ عَلَى الْبَدَنِ إبَاحَةُ الْمُنْفَصِلِ , كَمَا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَاجَةً وَمَا يُسَمُّونَهُ ضَرُورَةً فَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعِ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ
لِلْحَاجَةِ , كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ : { أَنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْكَسَرَ شُعِّبَ بِالْفِضَّةِ } , سَوَاءٌ كَانَ الشَّاعِبُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ هُوَ أَنَسًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ , فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَغَيْرِهِ : التَّحْرِيمُ , وَالْإِبَاحَةُ , وَالْكَرَاهَةُ . قِيلَ : وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ , وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ , فَيُنْهَى عَنْ الْعِنَبَةِ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِ . وَلِهَذَا كُرِهَ حَلْقَةُ الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مَا اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا مِنْ شُرْبٍ فِي إنَاءٍ ذَهَبٍ , أَوْ فِضَّةٍ , أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ , فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنْ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ , فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ , قِيلَ : يُكْرَهُ , وَقِيلَ : يَحْرُمُ , وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَدُ الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ , أَوْ التَّحْرِيمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ , وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ , فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ , كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ , وَالْمَيْتَةِ , وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ
مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ , لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَوْضِعِ إصْبَعَيْنِ , أَوْ ثَلَاثٍ , أَوْ أَرْبَعٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ , بَيْنَ بَابِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ , وَبَابِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ , فَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْ بَعْضِهِ , وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِهِ . وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ حَيْثُ أَمَرَ بِهِ كَانَ أَمْرًا بِمَجْمُوعِهِ , وَالْعَقْدُ وَالْوَطْءُ , وَكَذَلِكَ إذَا أُبِيحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } . { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } . { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } . " { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ } " . وَحَيْثُ حُرِّمَ النِّكَاحُ كَانَ تَحْرِيمًا لِأَبْعَاضِهِ , حَتَّى يُحَرَّمَ الْعَقْدُ مُفْرَدًا وَالْوَطْءُ مُفْرَدًا , كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } . وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا . وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : " { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ } " . وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِكٌ , وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ , بَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ , أَنَّهُ لَا يَبَرُّ , وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ . وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ ,
وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ , وَآنِيَةِ الذَّهَبِ , وَالْفِضَّةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ , يَقْتَضِي شُمُولَ التَّحْرِيمِ لِأَبْعَاضِ ذَلِكَ , بَقِيَ اتِّخَاذُ الْيَسِيرِ لِحَاجَةٍ أَوْ مُطْلَقًا , فَالِاتِّخَاذُ الْيَسِيرُ . وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا , فَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ , وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا تَحْرِيمُهُ , إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ , حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ التَّابِعَةُ كَثِيرَةً فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ , وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ , وَالتَّرْخِيصِ فِي لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ , أَوْ تَحْلِيَةِ السِّلَاحِ مِنْ الْفِضَّةِ , وَهَذَا فِيهِ إبَاحَةُ يَسِيرِ الْفِضَّةِ مُفْرَدًا , لَكِنْ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي , وَذَلِكَ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي بَابِ الْآنِيَةِ , كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ , وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , حَيْثُ حَكَى قَوْلًا بِإِبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَأَبُو بَكْرٍ , إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي كَعَلَمِ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ . وَفِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي بَابِ اللِّبَاسِ عَنْ أَحْمَدَ أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا , لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ : " { نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا } " وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ . وَالثَّانِي : الرُّخْصَةُ فِي السِّلَاحِ فَقَطْ .
وَالثَّالِثُ : فِي السَّيْفِ خَاصَّةً , وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا , لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ : " { لَا يُبَاحُ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا خَرِيصَةٌ } " . وَالْخَرِيصَةُ عَيْنُ الْجَرَادَةِ , لَكِنْ هَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّابِعِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ } , وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ , وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ , فَنَهَى عَنْهُ , وَبَيْنَ يَسِيرِهِ تَبَعًا كَالْعَلَمِ , إذْ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ . فَكَمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ , فَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمُفْرَدِ , وَيُحْمَلُ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ " إلَّا مُقَطَّعًا " عَلَى التَّابِعِ لِغَيْرِهِ , وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ قَدْ رُخِّصَ مِنْهَا فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي فِي الْيَسِيرِ , وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا , فَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الْيَسِيرِ , أَوْ الْكَثِيرِ التَّابِعِ فِي الْآنِيَةِ أَلْحَقُوهَا بِالْحَرِيرِ , الَّذِي أُبِيحَ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِلرِّجَالِ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَ يَسِيرُهَا مُفْرَدًا أَوْ لَا , وَلِهَذَا أُبِيحَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , حِلْيَةُ الْمُتَطَفَّةِ مِنْ الْفِضَّةِ , وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْحَرْبِ : كَالْخُوذَةِ وَالْجَوْشَنِ , وَالرَّانِّ , وَحَمَائِلِ السَّيْفِ , وَأَمَّا تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ , فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا
الْخِلَافُ . وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا قَالُوا : الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ فِي بَابِ اللِّبَاسِ دُونَ بَابِ الْآنِيَةِ , وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ كَمَا تَقَدَّمَ , وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا أَقْوَى , إذْ لَا أَثَرَ . هَذِهِ الرُّخْصَةُ وَالْقِيَاسُ كَمَا تَرَى , وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ , فَهَذَا دَخَلَ فِي النَّهْيِ , سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا , وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْفِضَّةِ مُنْتَفٍ هَهُنَا , لَكِنْ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي الْآنِيَةِ وَجْهٌ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ . وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ , لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ , بَلْ أَشْهَرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ , وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ , وَالْمَغْصُوبِ , وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ , وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسِّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ , وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ . فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَيُبِيحُ الذَّبْحَ , فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَأَمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الصِّحَّةُ , كَمَا هُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِ . وَالثَّانِي : الْبُطْلَانُ , كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ طَرْدًا لِقِيَاسِ الْبَابِ . وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الْخِرَقِيِّ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعِبَادَةِ , فَإِنَّ الْإِنَاءَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَطَهِّرِ , بِخِلَافِ لَابِسِ
الْمُحَرَّمِ , وَآكِلِهِ , وَالْجَالِسِ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُ . قَالُوا : فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَهَبَ إلَى الْجُمُعَةِ بِدَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ , وَضَعَّفَ آخَرُونَ هَذَا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ , وَبَيْنَ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْهُ , وَبِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّارِبَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ , إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ } , وَهُوَ حِينَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فِي بَطْنِهِ يَكُونُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْإِنَاءِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي : وَهُوَ أَفْقَهُ , قَالُوا : التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا , كَمَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَوْ الْبُقْعَةِ , وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ , وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا , فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
79 - 79 - 64 مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَهُ , وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ : عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ سِتُّونَ قِنْطَارَ زَيْتٍ بِالدِّمَشْقِيِّ , وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ وَاحِدَةٍ , فَهَلْ يَنْجَسُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ , أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , لَا يَنْجَسُ بِذَلِكَ , بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ , وَحُكْمُ الْمَائِعَاتِ عِنْدَهُ حُكْمُ الْمَاءِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ , فَلَا يَنْجَسُ إذَا بَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ , لَكِنْ تُلْقَى النَّجَاسَةُ وَمَا حَوْلَهَا , وَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ حُكْمُ الْمَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَالزُّهْرِيِّ , وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ . وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ , وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ , وَفِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْإِزَالَةِ , لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَأَى مُجَرَّدَ الْوُصُولِ مُنَجِّسًا , وَجُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ , فَلَمْ يَرَوْا الْوُصُولَ مُنَجِّسًا مَعَ الْكَثْرَةِ , وَتَنَازَعُوا فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَأَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ الْخَبِيثَ إذَا وَقَعَ فِي الطَّيِّبِ أَفْسَدَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّمَا يُفْسِدُهُ إذَا كَانَ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ , فَأَمَّا إذَا اُسْتُهْلِكَ فِيهِ وَاسْتَحَالَ , فَلَا وَجْهَ لِإِفْسَادِهِ , كَمَا لَوْ انْقَلَبَتْ الْخَمْرَةُ
خَلًّا بِغَيْرِ قَصْدِ آدَمِيٍّ , فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ , لَكِنَّ مَذْهَبَهُ فِي الْمَاءِ مَعْرُوفٌ , وَعَلَى هَذَا أَدِلَّةٌ قَدْ بَسَطْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , وَلَا دَلِيلَ عَلَى نَجَاسَتِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ . وَعُمْدَةُ الَّذِينَ نَجَّسُوهُ احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ , فَقَالَ : { إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا , وَكُلُوا سَمْنَكُمْ , وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ } " . وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا يَدُلُّ لَوْ دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ السَّمْنِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْفَأْرَةُ , فَكَيْفَ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ , بَلْ بَاطِلٌ غَلِطَ فِيهِ مَعْمَرٌ عَلَى الزُّهْرِيِّ غَلَطًا مَعْرُوفًا عِنْدَ النُّقَّادِ الْجَهَابِذَةِ , كَمَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ . وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَلَمْ يَعْلَمْ لِلْعِلَّةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ , الَّتِي تُوجِبُ الْعِلْمَ بِبُطْلَانِهِ , فَإِنَّ عِلْمَ الْعِلَلِ مِنْ خَوَاصِّ عِلْمِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ , وَلِهَذَا بَيَّنَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مَا يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ , وَأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ هُوَ عَلَى طَهَارَتِهِ أَدَلُّ مِنْهُ عَلَى النَّجَاسَةِ فَقَالَ : ( بَابٌ : إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوْ الذَّائِبِ ) فَقَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - عَنْ يُونُسَ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الدَّابَّةِ الَّتِي تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ , أَوْ
السَّمْنِ وَهُوَ جَامِدٌ , أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ , الْفَأْرَةُ أَوْ غَيْرُهَا قَالَ : بَلَغَنَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ ثُمَّ أُكِلَ } . وَفِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا , وَكُلُوهُ } . فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ الْأُمَّةِ بِالسُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ , أَنَّهُ أَفْتَى فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ الْجَامِدِ , وَغَيْرِ الْجَامِدِ , إذَا مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ أَنَّهَا تُطْرَحُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا , وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : " { أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا , وَكُلُوهُ } " . وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ , بَلْ هَذَا بَاطِلٌ , فَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا لِيُبَيِّنَّ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ رَوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ هَذَا التَّفْصِيلَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ , فَإِنَّهُ أَجَابَ الْعُمُومَ فِي الْجَامِدِ وَالذَّائِبِ مُسْتَدِلًّا بِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ , لَا سِيَّمَا وَالسَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ ذَائِبًا أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ جَامِدًا . بَلْ قِيلَ أَنْ لَا يَكُونَ بِالْحِجَازِ جَامِدًا بِحَالٍ , فَإِطْلَاقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ يُوجِبُ الْعُمُومَ , إذْ السُّؤَالُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ , فَكَأَنَّهُ قَالَ : إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا , وَكُلُوا سَمْنَكُمْ , وَتَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ , هَذَا إذَا كَانَ السَّمْنُ بِالْحِجَازِ يَكُونُ جَامِدًا , وَيَكُونُ ذَائِبًا فَأَمَّا إنْ كَانَ وُجُودُ الْجَافِّ نَادِرًا , أَوْ مَعْدُومًا كَانَ الْحَدِيثُ نَصًّا فِي أَنَّ السَّمْنَ الذَّائِبَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ فَإِنَّهَا تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلُ . وَبِذَلِكَ أَجَابَ الزُّهْرِيُّ , فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ , إلَّا بِالتَّغَيُّرِ , وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَائِلِ الصَّحِيحِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ , وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَدَلَائِلِهَا , وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , كَيْفَ وَفِي تَنْجِيسِ مِثْلِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ فَسَادِ الْأَطْعِمَةِ الْعَظِيمَةِ , وَإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ الْقَدْرِ مَا لَا تَأْتِي بِمِثْلِهِ الشَّرِيعَةُ الْجَامِعَةُ لِلْمَحَاسِنِ كُلِّهَا , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ تَنْزِيهًا لَنَا عَنْ الْمَضَارِّ , وَأَبَاحَ لَنَا الطَّيِّبَاتِ كُلَّهَا , لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ الطَّيِّبَاتِ , كَمَا حَرَّمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِظُلْمِهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ . وَمَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ فِي مَوَارِدِهَا , وَمَصَادِرِهَا , وَاشْتِمَالِهَا عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي
الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَهْدِيهِ اللَّهُ إلَيْهِ , وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
82 - 82 - 67 مَسْأَلَةٌ : فِي جُلُودِ الْحُمُرِ , وَجِلْدِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْمَيْتَةِ , هَلْ تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , أَمَّا طَهَارَةُ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ , فِي الْجُمْلَةِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ , وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . الثَّانِي : لَا تَطْهُرُ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ , وَلِهَذَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَدْبُوغِ فِي الْمَاءِ دُونَ الْمَائِعَاتِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِذَلِكَ , وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا , اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ . لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى هِيَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , كَمَا نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ , عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ : أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ , ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِآخِرَةٍ . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَالُوا : هِيَ مِنْ الْمَيْتَةِ , وَلَمْ يَصِحَّ فِي الدِّبَاغِ شَيْءٌ , وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ الْبُخَارِيُّ ذِكْرَ الدِّبَاغِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَنَ هَؤُلَاءِ
فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ إذْ كَانُوا أَئِمَّةً لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ اجْتِهَادٌ , وَقَالُوا : رَوَى عُيَيْنَةُ الدِّبَاغَ عَنْ الزُّهْرِيِّ , وَالزُّهْرِيُّ كَانَ يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِلَا دِبَاغٍ , وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ ذِكْرُ الدِّبَاغِ , وَتَكَلَّمُوا فِي ابْنِ وَعْلَةَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ قَالُوا : أَحَادِيثُ الدِّبَاغِ مَنْسُوخَةٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عُكَيْمٍ , وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ : { كُنْت رَخَّصْت فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ , فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } . فَكِلَا هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ مَأْثُورَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَفْسِهِ فِي جَوَابِهِ وَمُنَاظَرَتِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمَشْهُورَةِ . وَقَدْ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالدِّبَاغِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ : هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّهَا مَيْتَةٌ . قَالَ : إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " { أَلَا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ } . وَعَنْ { سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ , فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا , فَمَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ } . قُلْت : وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ : { إنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ , وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ , وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ , وَيَأْتُونَا بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ , فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : دِبَاغُهُ طَهُورُهُ } . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ } , رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ , وَالنَّسَائِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ . فَقَالَ : دِبَاغُهَا طَهُورُهَا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَالنَّسَائِيُّ . وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَرَّ بِبَيْتٍ بِفِنَائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فَاسْتَقَى , فَقِيلَ إنَّهَا مَيْتَةٌ , فَقَالَ : ذَكَاةُ الْأَدِيمِ دِبَاغُهُ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ فَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ بِكَوْنِ حَامِلِهِ مَجْهُولًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ رَدُّ الْحَدِيثِ بِهِ , قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ : { أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَقَالَ : مَا أَصْلَحَ إسْنَادَهُ , وَأَبُو دَاوُد , وَابْنُ
مَاجَهْ , وَالنَّسَائِيُّ , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِهَابَ اسْمٌ لِلْجِلْدِ قَبْلَ الدِّبَاغِ , كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ النَّضْرُ ابْنُ شُمَيْلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ , وَأَمَّا بَعْدَ الدَّبْغِ فَإِنَّمَا هُوَ أَدِيمٌ , فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ . فَقَالَ الْمَانِعُونَ : هَذَا ضَعِيفٌ , فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي أَرْضِ جُهَيْنَةَ . { إنِّي كُنْت رَخَّصْت لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ , فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا , فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ , وَلَا عَصَبٍ } , رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ " مِنْ رِوَايَةِ فَضَالَةَ بْنِ مُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ الْمِصْرِيِّ , وَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ , لَكِنْ هُوَ شَدِيدٌ فِي التَّزْكِيَةِ , وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ بَعْدَ الرُّخْصَةِ فَالرُّخْصَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمَدْبُوغِ . وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ : أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَدْبُوغِ . وَأَمَّا الرُّخْصَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا كَانَتْ لِلْمَدْبُوغِ وَغَيْرِهِ , وَلِهَذَا ذَهَبَ طَائِفَةٌ , مِنْهُمْ : الزُّهْرِيُّ , وَغَيْرُهُ إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ , تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ الْمُطْلَقِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ , قَوْلُهُ : { إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا } . فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ ثُمَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ . وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ " عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : {
مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَسَلَّمَ , مَاتَتْ فُلَانَةُ - تَعْنِي الشَّاةَ - فَقَالَ : فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا فَقَالَتْ : آخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا قَالَ { لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } وَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ , إنْ تَدْبُغُوهُ تَنْتَفِعُوا بِهِ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ , فَاِتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا } . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِلْدَ , وَإِنَّمَا ذُكِرَ الدِّبَاغُ لِإِبْقَاءِ الْجِلْدِ وَحِفْظِهِ , لَا لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْحِلِّ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ لِجُهَيْنَةَ فِي هَذَا . وَالنَّسْخُ عَنْ هَذَا , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِي سُورَتَيْنِ مَكِّيَّتَيْنِ : الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ , ثُمَّ فِي سُورَتَيْنِ مَدَنِيَّتَيْنِ : الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ , وَالْمَائِدَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا كَمَا رُوِيَ { الْمَائِدَةُ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا , فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا } وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا مِنْ التَّحْرِيمِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي غَيْرِهَا , وَحَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْيَاءَ مِثْلَ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ , وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ . وَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي اسْتَنَدَتْ
الرُّخْصَةَ الْمُطْلَقَةَ , فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِالْعَصَبِ وَالْإِهَابِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الْمُتَأَخِّرَةِ , وَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغِ فَلَمْ يُحَرَّمْ ذَلِكَ قَطُّ , بَلْ بَيَّنَ أَنَّ دِبَاغَهُ طَهُورُهُ وَذَكَاتُهُ , وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِدُونِ الدِّبَاغِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلِلنَّاسِ فِيمَا يُطَهِّرُهُ الدِّبَاغُ أَقْوَالٌ : قِيلَ : إنَّهُ يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَمِيرَ , كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ , وَدَاوُد . وَقِيلَ : يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى الْحَمِيرِ , كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْكَلْبَ , وَالْحَمِيرَ , كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى الْقَوْلِ بِتَطْهِيرِ الدِّبَاغِ , وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِهِ , وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ , إنَّهُ إنَّمَا يُطَهِّرُ مَا يُبَاحُ بِالذَّكَاةِ , فَلَا يُطَهِّرُ جُلُودَ السِّبَاعِ . وَمَأْخَذُ التَّرَدُّدِ أَنَّ الدِّبَاغَ : هَلْ هُوَ كَالْحَيَاةِ فَيُطَهِّرُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ , أَوْ هُوَ كَالذَّكَاةِ , فَيُطَهِّرُ مَا طَهُرَ بِالذَّكَاةِ , وَالثَّانِي أَرْجَحُ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ , كَمَا رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الدِّهْلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ } , وَرَوَاهُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ . زَادَ التِّرْمِذِيُّ : " أَنْ تُفْرَشَ " . وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ : { وَفَدَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ فَقَالَ : أُنْشِدُكَ بِاَللَّهِ , هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ , وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ , وَهَذَا لَفْظُهُ . وَعَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ } . رَوَاهُ أَحْمَدُ , وَأَبُو دَاوُد , وَابْنُ مَاجَهْ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةَ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي هَذَا الْقَوْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
83 - 83 - 68 مَسْأَلَةٌ : سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : عَنْ رَجُلٍ تُدْرِكُهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي مَدْرَسَةٍ , فَيَجِدُ فِي الْمَدَارِسِ بِرَكًا فِيهَا مَاءٌ لَهُ مُدَّةٌ كَثِيرَةٌ وَمِثْلُ مَاءِ الْحَمَّامِ الَّذِي فِي الْحَوْضِ , فَهَلْ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالطَّهَارَةُ أَمْ لَا ؟ . وَعَنْ رَجُلٍ مُرَابٍ خَلَّفَ مَالًا وَوَلَدًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ , فَهَلْ يَكُونُ الْمَالُ حَلَالًا لِلْوَلَدِ بِالْمِيرَاثِ , أَمْ لَا ؟ وَعَنْ رَجُلٍ غُصِبَ لَهُ مَالٌ , أَوْ مُطِلَ فِي دَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ فَهَلْ تَكُونُ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لِلْوَرَثَةِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . أَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : كَحَدِيثِ عَائِشَةَ , وَأُمِّ سَلَمَةَ , وَمَيْمُونَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ , حَتَّى يَقُولَ لَهَا : أَبْقِي لِي وَتَقُولَ هِيَ : أَبْقِ لِي } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَغْتَسِلُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ . وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءٌ جَارٍ وَلَا حَمَّامٌ } . فَإِذَا كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ جَمِيعًا , وَيَغْتَسِلُونَ جَمِيعًا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ بِقَدْرِ الْفَرْقِ , وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالْمِصْرِيِّ أَوْ أَقَلُّ , وَلَيْسَ لَهُمْ يَنْبُوعٌ , وَلَا أُنْبُوبٌ , فَتَوَضُّؤُهُمْ وَاغْتِسَالُهُمْ جَمِيعًا مِنْ حَوْضِ
الْحَمَّامِ أَوْلَى وَأَحْرَى , فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ نَاقِصًا وَالْأُنْبُوبُ مُسَدَّدًا , فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأُنْبُوبُ مَفْتُوحًا وَسَوَاءٌ فَاضَ أَوْ لَمْ يَفِضْ . وَكَذَلِكَ بِرَكُ الْمَدَارِسِ , وَمَنْ مَنَعَ غَيْرَهُ حَتَّى يَنْفَرِدَ وَحْدَهُ بِالِاغْتِسَالِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ , مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ . وَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَعْلَمُ الْوَلَدُ أَنَّهُ رِبًا : يُخْرِجُهُ , إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَى أَصْحَابِهِ إنْ أَمْكَنَ , وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ , وَالْبَاقِي لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ , لَكِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَبَهَ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَرْكُهُ إذَا لَمْ يَجِبْ صَرْفُهُ فِي قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالٍ . وَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَبَضَهُ بِالْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يُرَخِّصُ فِيهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَازَ لِلْوَارِثِ الِانْتِفَاعُ بِهِ . وَإِنْ اخْتَلَطَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ , وَجُهِلَ قَدْرُ كُلٍّ مِنْهُمَا : جُعِلَ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ . وَأَمَّا مَنْ غُصِبَ لَهُ مَالٌ أَوْ مُطِلَ بِهِ فَالْمُطَالَبَةُ فِي الْآخِرَةِ لَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لِأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي دَمٍ , أَوْ مَالٍ , أَوْ عِرْضٍ فَلْيَسْتَحْلِلْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا دِينَارَ فِيهِ وَلَا دِرْهَمَ , فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتُهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ , فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ } . فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الظُّلَامَةَ إذَا كَانَتْ فِي الْمَالِ طَالَبَ الْمَظْلُومُ بِهَا ظَالِمَهُ , وَلَمْ يَجْعَلْ الْمُطَالَبَةَ لِوَرَثَتِهِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْوَرَثَةَ
يَخْلُفُونَهُ فِي الدُّنْيَا , فَمَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ , وَمَا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا فَالطَّلَبُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ لِلْمَظْلُومِ نَفْسِهِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
86 - 86 - 2 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ يَفْسُقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيُصَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ , وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَنْهَ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهَا مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } . أَجَابَ : هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , لَكِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ , وَبِكُلِّ حَالٍ فَالصَّلَاةُ لَا تَزِيدُ صَاحِبَهَا بُعْدًا . بَلْ الَّذِي يُصَلِّي خَيْرٌ مِنْ الَّذِي لَا يُصَلِّي , وَأَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْهُ , وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا . لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ . وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا , إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا , حَتَّى قَالَ : إلَّا عُشْرُهَا } . فَإِنَّ الصَّلَاةَ إذَا أَتَى بِهَا كَمَا أُمِرَ نَهَتْهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ , وَإِذَا لَمْ تَنْهَهُ دَلَّ عَلَى تَضْيِيعِهِ لِحُقُوقِهَا , وَإِنْ كَانَ مُطِيعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } الْآيَةَ . وَإِضَاعَتُهَا التَّفْرِيطُ فِي وَاجِبَاتِهَا , وَإِنْ كَانَ يُصَلِّيهَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ قَالَ : إنَّ الصِّبْيَانَ مَأْمُورُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ , وَقَالَ آخَرُ : لَا نُسَلِّمُ , فَقَالَ لَهُ : وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ , وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ } فَقَالَ : هَذَا مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ , وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ تَنْقِيصٌ , فَهَلْ يَجِبُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ الْجَوَابُ : إنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ , بِمَعْنَى أَنَّهُ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ فَالصَّوَابُ مَعَ الثَّانِي . وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ : أَيْ أَنَّ الرِّجَالَ يَأْمُرُونَهُمْ بِهَا لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُمْ بِالْأَمْرِ , أَوْ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ , فَالصَّوَابُ مَعَ الْمُتَكَلِّمِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَا هُوَ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ , إذَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِلصِّبْيَانِ , بَلْ هُوَ أَمْرٌ لِمَنْ يَأْمُرُ الصِّبْيَانِ , فَقَدْ أَصَابَ , وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا مِنْ اللَّهِ لِأَحَدٍ . فَهَذَا خَطَأٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ , وَيَسْتَغْفِرَ اللَّهَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَرْدُ شَدِيدًا , وَيَضُرُّهُ الْمَاءُ الْبَارِدُ , وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَى الْحَمَّامِ , أَوْ تَسْخِينُ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ , فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ . وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ , فَإِذَا كَانَا جُنُبَيْنِ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الِاغْتِسَالُ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ , فَإِنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ .
وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الْوَقْتِ , وَلَمْ يُمْكِنْهَا الِاغْتِسَالُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ فِي الْوَقْتِ .
كِتَابُ الصَّلَاةِ : 85 - 1 مَسْأَلَةٌ : هَلْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ مِثْلَ مَا هِيَ عَلَيْنَا مِنْ الْوُجُوبِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ . أَمْ لَا ؟ أَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ . لَكِنْ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِصَلَاتِنَا فِي الْأَوْقَاتِ وَالْهَيْئَاتِ , وَغَيْرِهِمَا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِنْ مُصَنَّفَاتِهِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ : فَصْلٌ : 80 - 65 مَسْأَلَةٌ : فِي طَوَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } " . وَقَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " { اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ } " . { وَلَمَّا قِيلَ لَهُ عَنْ صَفِيَّةَ إنَّهَا حَاضَتْ , فَقَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ ؟ قَالَ : فَلَا إذًا } . وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ عَامَ تِسْعٍ , لَمَّا أَمَّرَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ يُنَادِي : أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ } . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الطَّائِفِينَ بِالْوُضُوءِ وَلَا بِاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ , كَمَا أَمَرَ الْمُصَلِّينَ بِالْوُضُوءِ , فَنَهْيُهُ الْحَائِضَ عَنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ , لِكَوْنِهَا مَنْهِيَّةً عَنْ اللَّبْثِ فِيهِ , وَفِي الطَّوَافِ لَبْثٌ , أَوْ عَنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ مُطْلَقًا لِمُرُورٍ أَوْ لَبْثٍ ; وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِ الطَّوَافِ نَفْسِهِ يَحْرُمُ مَعَ الْحَيْضِ , كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ الصَّلَاةُ , وَالصِّيَامُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ , وَمَسِّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ , وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا عَلَيْهَا الْقِرَاءَةَ كَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ , وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ تَنَازَعُوا فِي إبَاحَةِ قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ لَهَا وَلِلنُّفَسَاءِ , قَبْلَ الْغُسْلِ وَبَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : إبَاحَتُهَا لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى , وَقَالَ : هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ . وَالثَّانِي : مَنْعُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ . وَالثَّالِثُ : إبَاحَتُهَا لِلنُّفَسَاءِ دُونَ الْحَائِضِ , اخْتَارَهُ الْخَلَّالُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَجْمُوعِهِمَا , بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَحْرُمْ , فَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ لِلْأَوَّلِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ , فَإِنَّ لَبْثَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِضَرُورَةِ الْمَسْجِدِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ , { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقُلْت : إنِّي حَائِضٌ , قَالَ : إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك } " . وَعَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ , قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ إحْدَانَا , يَتْلُو الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ , وَتَقُومُ إحْدَانَا لِخُمْرَتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَتَبْسُطُهَا وَهِيَ حَائِضٌ } , رَوَاهُ النَّسَائِيّ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد : مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ } " . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ , وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَلِهَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ , وَغَيْرِهِمَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُرُورِ وَاللَّبْثِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ , وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهَا مِنْ اللَّبْثِ وَالْمُرُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ الْمَسْجِدَ عَلَيْهَا , وَقَدْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } . وَأَبَاحَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ اللَّبْثَ لِمَنْ يَتَوَضَّأُ , لِمَا رَوَاهُ هُوَ , وَغَيْرُهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : رَأَيْت رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ , إذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلَاةِ . وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ , كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُنُبَ أَنْ يَنَامَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ . وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : " إذَا أَصَابَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ , فَلَا يَنَامُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ , فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ نَفْسَهُ تُصَابُ فِي نَوْمِهِ " . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : " فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ جِنَازَتَهُ " . وَقَدْ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْأَكْلِ , وَالشُّرْبِ , وَالْمُعَاوَدَةِ , وَهَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ ذَهَبَتْ الْجَنَابَةُ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ , فَلَا تَبْقَى جَنَابَتُهُ
تَامَّةً , وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدَثِ , كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ عَلَيْهِ حَدَثٌ دُونَ الْجَنَابَةِ , وَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فَوْقَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَهُوَ دُونَ الْجُنُبِ , فَلَا يَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ عَنْ شُهُودِهِ , فَلِهَذَا يَنَامُ وَيَلْبَثُ فِي الْمَسْجِدِ . وَأَمَّا الْحَائِضُ فَحَدَثُهَا دَائِمٌ , لَا يُمْكِنُهَا طَهَارَةٌ تَمْنَعُهَا عَنْ الدَّوَامِ , فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي مُكْثِهَا , وَنَوْمِهَا , وَأَكْلِهَا , وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَلَا تُمْنَعُ مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْجُنُبُ مَعَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ . إذَا احْتَاجَتْ إلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ , وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ , فَإِنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا , وَلَا يُمْكِنُهَا الطَّهَارَةُ , كَمَا يُمْكِنُ الْجُنُبَ , وَإِنْ كَانَ حَدَثُهَا أَغْلَظَ مِنْ حَدَثِ الْجُنُبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَا تَصُومُ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ الدَّمُ , وَالْجُنُبُ يَصُومُ , وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الصَّلَاةِ طَهُرَتْ أَوْ لَمْ تَطْهُرْ , وَيُمْنَعُ الرَّجُلُ مِنْ وَطْئِهَا أَيْضًا , فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحَظْرِ فِي حَقِّهَا أَقْوَى , لَكِنْ إذَا احْتَاجَتْ إلَى الْفِعْلِ اسْتَبَاحَتْ الْمَحْظُورَ مَعَ قِيَامِ سَبَبِ الْحَظْرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ , كَمَا يُبَاحُ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الضَّرُورَةِ مِنْ الدَّمِ , وَالْمَيْتَةِ , وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ , وَإِنْ كَانَ مَا هُوَ دُونَهَا فِي التَّحْرِيمِ لَا يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ , كَلُبْسِ الْحَرِيرِ , وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ , مَعَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ , وَمَعَ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ , وَالثَّوْبِ , هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهَا وَتُبَاحُ , بَلْ تَجِبُ مَعَ الْحَاجَةِ , وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ دُونَهَا فِي التَّحْرِيمِ : كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَعَ الْحَاجَةِ لَا يُبَاحُ . وَإِذَا قَدَرَ جُنُبٌ اسْتَمَرَّتْ بِهِ الْجَنَابَةُ , وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى غُسْلٍ , أَوْ تَيَمُّمٍ فَهَذَا كَالْحَائِضِ فِي الرُّخْصَةِ , وَإِنْ كَانَ هَذَا نَادِرًا , وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُيَّضَ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدِ , وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ , وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ , وَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِ النَّاسِ , وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ , أَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ , وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ , وَشُهُودِهِمَا عَرَفَةَ مَعَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ , وَرَمْيِ الْجِمَارِ , مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَلَا يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا , وَالْجُنُبُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِلَ ; لِأَنَّهُ نَادِرٌ عَلَى الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ . فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَوْعِهَا , لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى غِلَظِ الْمَفْسَدَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحَظْرِ , أَوْ لَا يُنْظَرُ مَعَ ذَلِكَ إلَى الْحَاجَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِذْنِ , بَلْ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْبَابِ أَوْ الْإِيجَابِ . وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ مَعَهُ الصَّلَاةُ يَجِبُ مَعَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ الصَّلَاةُ إلَّا كَذَلِكَ , فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ تِلْكَ الْأُمُورِ أَخَفُّ مِنْ
تَرْكِ الصَّلَاةِ , فَلَوْ صَلَّى بِتَيَمُّمٍ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ , لَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةً , وَمَعَ عَجْزِهِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَانَتْ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ وَاجِبَةً بِالْوَقْتِ , وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عُرْيَانًا , وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ , وَمَعَ حُصُولِ النَّجَاسَةِ وَبِدُونِ الْقِرَاءَةِ , وَصَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا أَوْ بِدُونِ إكْمَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَيَجِبُ مَعَ الْعَجْزِ , وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ , وَالدَّمِ , وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ يَحْرُمُ أَكْلُهَا عِنْدَ الْغِنَى عَنْهَا , وَيَجِبُ أَكْلُهَا بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . قَالَ مَسْرُوقٌ : مَنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى نَفْسِهِ بِتَرْكِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَكْلِ الْمُبَاحِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ , فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ , بِخِلَافِ الْمُجَاهِدِ بِالنَّفْسِ , وَمَنْ تَكَلَّمَ بِحَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ , فَإِنَّ ذَلِكَ قُتِلَ مُجَاهِدًا فَفِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى . وَتَعْلِيلُ مَنْعِ طَوَافِ الْحَائِضِ بِأَنَّهُ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ , رَأَيْته يُعَلِّلُ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ , فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ لَهُ , لَا فَرْضٌ فِيهِ , وَلَا شَرْطٌ لَهُ , وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُنَاسِبُ الْقَوْلَ بِأَنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ , وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ , وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ , رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُمَا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
فِي مَنَاسِكِهِ : حَدَّثَنِي أَبِي , حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ , أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ , عَنْ حَمَّادٍ , وَمَنْصُورٍ قَالَ : سَأَلْتهمَا عَنْ الرَّاجِلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ ؟ فَلَمْ يَرَيَا بِهِ بَأْسًا . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : سَأَلْت أَبِي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ ; لِأَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ , وَأَحْمَدُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي الطَّوَافِ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ كَلَامُهُ فِيهَا يَقْتَضِي رِوَايَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي الطَّوَافِ , بَلْ سُنَّةٌ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ فِي تَرْكِهَا دَمًا , فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُحْدِثَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ , بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ , فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَعْلِيلُ الْمَنْعِ بِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ , لَا بِخُصُوصِ الطَّوَافِ ; لِأَنَّ الطَّوَافَ يُبَاحُ فِيهِ الْكَلَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ , فَلَا يَكُونُ كَالصَّلَاةِ ; وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ مِفْتَاحُهَا الطُّهُورُ , وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ , وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ , وَالطَّوَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ . وَيَقُولُ : إنَّمَا مُنِعَ الْعُرَاةُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ , وَلِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا , وَمَنْ قَالَ هَذَا , قَالَ الْمَطَافُ أَشْرَفُ الْمَسَاجِدِ , لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ طَائِفٍ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } . فَأَمَرَ بِأَخْذِهَا عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ , وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ , فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَتِرَ لِنَفْسِ الصَّلَاةِ ,
وَالصَّلَاةُ تُفْعَلُ فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ , فَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ السَّتْرِ لِلصَّلَاةِ , بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ , وَالِاعْتِكَافُ يُشْتَرَطُ فِيهِ جِنْسُ الْمَسَاجِدِ , وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ طَوَافُ الْجُنُبِ , وَالْحَائِضِ , إذَا اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ . كَمَا لَا يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ الطَّوَافُ عَلَى الْمُحْدِثِ بِحَالٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ , وَهُمَا إذَا كَانَا مُضْطَرَّيْنِ إلَى ذَلِكَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُحْدِثِ , الَّذِي يُجَوِّزُونَ لَهُ الطَّوَافَ مَعَ الْحَدَثِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ , إلَّا أَنَّ الْمُحْدِثَ مُنِعَ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ , مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ , وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْجُنُبِ مَعَ التَّيَمُّمِ , وَإِذَا عَجَزَ عَنْ التَّيَمُّمِ صَلَّى بِلَا غُسْلٍ وَلَا تَيَمُّمٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , كَمَا نُقِلَ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا مَعَ الْجَنَابَةِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ التَّيَمُّمِ , وَالْحَائِضُ نُهِيَتْ عَنْ الصَّوْمِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إلَى الصَّوْمِ فِي الْحَيْضِ , فَإِنَّهُ يُمْكِنُهَا أَنْ تَصُومَ شَهْرًا آخَرَ غَيْرَ رَمَضَانَ . فَإِذَا كَانَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرِيضُ مَعَ إمْكَانِ صَوْمِهِمَا جَعَلَ لَهُمَا أَنْ يَصُومَا شَهْرًا آخَرَ , فَالْحَائِضُ الْمَمْنُوعَةُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى أَنْ تَصُومَ شَهْرًا آخَرَ , وَإِذَا أُمِرَتْ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ , فَلَمْ تُؤْمَرْ إلَّا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ , فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا إلَّا مَا يَجِبُ عَلَى
غَيْرِهَا , وَلِهَذَا لَوْ اسْتَحَاضَتْ فَإِنَّهَا تَصُومُ مَعَ الِاسْتِحَاضَةِ , فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ , إذْ قَدْ تَسْتَحِيضُ وَقْتَ الْقَضَاءِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا تَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ , وَالْحَيْضُ مِمَّا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فَلَوْ قِيلَ إنَّهَا تُصَلِّي مَعَ الْحَيْضِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ , لَمْ يَكُنْ الْحَيْضُ مَانِعًا مِنْ الصَّلَاةِ بِحَالٍ , وَكَأَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الصَّلَاةِ , وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ , بَلْ كَانَ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تُصَلِّي وَقْتَ الْحَيْضِ , إذَا كَانَ لَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْقَاتَ الطُّهْرِ غُنْيَةً عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ الْحَيْضِ , وَإِذَا كَانَتْ إنَّمَا مُنِعَتْ مِنْ الطَّوَافِ لِأَجْلِ الْمَسْجِدِ . فَمَعْلُومٌ أَنَّ إبَاحَةَ ذَلِكَ لِلْعُذْرِ أَوْلَى مِنْ إبَاحَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْعُذْرِ , وَلَوْ كَانَ لَهَا مُصْحَفٌ , وَلَمْ يُمْكِنْهَا حِفْظُهُ إلَّا بِمَسِّهِ , مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَأْخُذَهُ لِصٌّ , أَوْ كَافِرٌ , أَوْ يَنْهَبَهُ أَحَدٌ , أَوْ يَنْهَبَهُ مِنْهَا , وَلَمْ يُمْكِنْهَا مَنْعُهُ إلَّا بِمَسِّهِ , لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهَا , مَعَ أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ , وَيَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ فِي الْمَسْجِدِ , فَعُلِمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ , وَإِذَا أُبِيحَ لَهَا مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْحَاجَةِ , فَالْمَسْجِدُ الَّذِي حُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ الْمُصْحَفِ أَوْلَى بِالْإِبَاحَةِ .
84 - 84 - 69 مَسْأَلَةٌ : فِي الْجُبْنِ الْإِفْرِنْجِيِّ , وَالْجُوخِ , هَلْ هُمَا مَكْرُوهَانِ , أَوْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ إنَّهُمَا نَجَسَانِ , وَأَنَّ الْجُبْنَ يُدْهَنُ بِدُهْنِ الْخِنْزِيرِ , وَكَذَلِكَ الْجُوخُ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الْجُبْنُ الْمَجْلُوبُ مِنْ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ , فَاَلَّذِينَ كَرِهُوهُ ذَكَرُوا لِذَلِكَ سَبَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُوضَعُ بَيْنَهُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ إذَا حُمِلَ فِي السُّفُنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُذَكُّونَ مَا نُصْنَعُ مِنْهُ الْإِنْفَحَةَ , بَلْ يَضْرِبُونَ رَأْسَ الْبَقَرِ وَلَا يُذَكُّونَهُ . فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَغَايَتُهُ أَنْ يَنْجَسَ ظَاهِرُ الْجُبْنِ , فَمَتَى كُشِطَ الْجُبْنُ أَوْ غُسِلَ طَهُرَ , فَإِنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } . فَإِذَا كَانَ مُلَاقَاةُ الْفَأْرَةِ لِلسَّمْنِ لَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ جَمِيعِهِ , فَكَيْفَ تَكُونُ مَلَّاقَاتُ الشَّحْمِ النَّجَسِ لِلْجُبْنِ تُوجِبُ نَجَاسَةَ بَاطِنِهِ , وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَاهِرِهِ إذَا تُيُقِّنَ إصَابَةُ النَّجَاسَةِ لَهُ , وَأَمَّا مَعَ الشَّكِّ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي : فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَعْقِرُونَهُ مِنْ الْأَنْعَامِ يَتْرُكُونَ ذَكَاتَهُ , بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُونَ هَذَا بِالْبَقَرِ , وَقِيلَ : إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَسْقُطَ , ثُمَّ يُذَكُّونَهُ , وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ , بَلْ إذَا اخْتَلَطَ
الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ فِي عَدَدٍ لَا يَنْحَصِرُ , كَاخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَهْلِ بَلَدٍ , وَاخْتِلَاطِ الْمَيْتَةِ وَالْمَغْصُوبِ بِأَهْلِ بَلْدَةٍ , لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمَ مَا فِي الْبَلَدِ , كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ الْأُخْتُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ , فَهَذَا الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ ذَبَائِحِهِمْ الْمَجْهُولَةِ الْحَالِ . وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجُبْنُ مَصْنُوعًا مِنْ إنْفَحَةِ مَيْتَةٍ , فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ طَاهِرٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَرَامٌ نَجِسٌ كَقَوْلِ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ فِي لَبَنِ الْمَيْتَةِ وَإِنْفَحَتِهَا . هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ وَالْمُطَهِّرُونَ احْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَكَلُوا جُبْنَ الْمَجُوسِ مَعَ كَوْنِ ذَبَائِحِهِمْ مَيْتَةً , وَمَنْ خَالَفَهُمْ نَازَعَهُمْ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَأَمَّا الْجُوخُ فَقَدْ حَكَى بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَدْهُنُونَهُ بِشَحْمِ الْخِنْزِيرِ , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ لَيْسَ يُفْعَلُ هَذَا بِهِ كُلِّهِ , فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي عُمُومِ نَجَاسَةِ الْجُوخِ لَمْ يُحْكَمْ بِنَجَاسَةٍ لِعَيْنِهِ , لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ لَمْ تُصِبْهَا , إذْ الْعَيْنُ طَاهِرَةٌ , وَمَتَى شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا فَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ , وَلَوْ تَيَقَّنَّا نَجَاسَةَ بَعْضِ أَشْخَاصِ نَوْعٍ دُونَ بَعْضٍ لَمْ نَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ جَمِيعِ أَشْخَاصِهِ , وَلَا بِنَجَاسَةِ مَا شَكَكْنَا فِي تَنَجُّسِهِ , وَلَكِنْ
إذَا تَيَقَّنَ النَّجَاسَةَ أَوْ قَصَدَ قَاصِدٌ إزَالَةَ الشَّكِّ , فَغَسْلُ الْجُوخَةِ يُطَهِّرُهَا , فَإِنَّ ذَلِكَ صُوفٌ أَصَابَهُ دُهْنٌ نَجِسٌ , وَإِصَابَةُ الْبَوْلِ وَالدَّمِ لِثَوْبِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ أَشَدُّ , وَهُوَ بِهِ أَلْصَقُ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أَصَابَ دَمُ الْحَيْضِ ثَوْبَهَا : { حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ , ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { وَلَا يَضُرُّك أَثَرُهُ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْمَاءِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ ضَالٌّ جَاهِلٌ . وَإِذَا اسْتَيْقَظَ آخِرَ وَقْتِ الْفَجْرِ فَإِذَا اغْتَسَلَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ , فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُنَا يَقُولُونَ : يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : بَلْ يَتَيَمَّمُ أَيْضًا هُنَا وَيُصَلِّي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ , لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَهُ بِالْغُسْلِ . وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } . فَالْوَقْتُ فِي حَقِّ النَّائِمِ هُوَ مِنْ حِينِ يَسْتَيْقِظُ , وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا فِي حَقِّهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ وَالصَّلَاةُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِهَا فَقَدْ صَلَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُفَوِّتْهَا ; بِخِلَافِ مَنْ اسْتَيْقَظَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَوِّتَ الصَّلَاةَ . وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً وَذَكَرَهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ , وَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ , فَإِذَا لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ,
كَمَا اسْتَيْقَظَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَامُوا عَنْ الصَّلَاةِ عَامَ خَيْبَرَ , فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ , وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى حِينِ الزَّوَالِ , فَإِذَا قَدَّرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ وَيَغْتَسِلُ وَإِنْ أَخَّرَهَا إلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ , وَلَا يُصَلِّي هُنَا بِالتَّيَمُّمِ , وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامَ فِيهِ , كَمَا انْتَقَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الْمَكَانِ الَّذِي نَامُوا فِيهِ , وَقَالَ : { هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ } . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ . وَإِنْ صَلَّى فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُسَمَّى قَضَاءً أَوْ أَدَاءً ؟ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ هُوَ فَرْقٌ اصْطِلَاحِيٌّ ; لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا قَضَاءً , كَمَا قَالَ فِي الْجُمُعَةِ : { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ يُفْعَلَانِ فِي الْوَقْتِ . " وَالْقَضَاءُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ : هُوَ إكْمَالُ الشَّيْءِ وَإِتْمَامُهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } أَيْ : أَكْمَلَهُنَّ وَأَتَمَّهُنَّ . فَمَنْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ كَامِلَةً فَقَدْ قَضَاهَا , وَإِنْ فَعَلَهَا فِي وَقْتِهَا . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَنَوَاهَا أَدَاءً . ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ
خُرُوجِ الْوَقْتِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ , وَلَوْ اعْتَقَدَ خُرُوجَهُ فَنَوَاهَا قَضَاءً ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ .
94 - 94 - 10 - مَسْأَلَةٌ : فِي أَقْوَامٍ يُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ الْفَجْرِ إلَى بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَتَكُونُ لَهُمْ أَشْغَالٌ كَالزَّرْعِ وَالْحَرْثِ وَالْجَنَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ وَقْتِهَا ثُمَّ يَقْضُوهَا ؟ الْجَوَابُ : لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ وَلَا يُؤَخِّرَ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ , لِشُغْلٍ مِنْ الْأَشْغَالِ لَا لِحَصْدٍ وَلَا لِحَرْثٍ وَلَا لِصِنَاعَةٍ وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ , وَلَا لِجَنَابَةٍ وَلَا نَجَاسَةٍ , بَلْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي النَّهَارِ , وَيُصَلِّيَ الْفَجْرَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ , وَلَا يَتْرُكُ ذَلِكَ لِصِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ , وَمَنْ أَخَّرَهَا لِصِنَاعَةٍ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ وَجَبَتْ عُقُوبَتُهُ , بَلْ يَجِبُ قَتْلُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ , فَإِنْ تَابَ وَالْتَزَمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْوَقْتِ أُلْزِمَ بِذَلِكَ , وَإِنْ قَالَ : لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ } وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ وَحَقًّا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ " , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِاشْتِغَالِهِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ , وَصَلَّاهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ } , فَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ ذَلِكَ التَّأْخِيرَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ , فَلَا يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقِتَالِ , بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ حَالَ الْقِتَالِ , وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ حَالَ الْقِتَالِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَشْتَغِلُ بِالْقِتَالِ وَيُصَلِّي بَعْدَ الْوَقْتِ .
وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِغَيْرِ الْجِهَادِ كَصِنَاعَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يُجَوِّزُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : هُمْ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ الَّذِي لَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ صَلَّاهَا فِي الْوَقْتِ . فَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ , وَتَأْخِيرُ صَلَاةِ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ , بِمَنْزِلَةِ تَأْخِيرِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى شَوَّالٍ , فَمَنْ قَالَ : أُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِاللَّيْلِ , فَهُوَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : أُفْطِرُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَصُومُ شَوَّالًا , وَإِنَّمَا يُعْذَرُ بِالتَّأْخِيرِ النَّائِمُ وَالنَّاسِي , كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا , لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } .
وَلَكِنْ يَجُوزُ لِلْعُذْرِ الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْ النَّهَارِ , وَبَيْنَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ , وَلَا يَجُوزُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ بِخِلَافِ الْقَصْرِ , فَإِنَّ صَلَاتَهُ رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَرْبَعٍ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . فَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ أَرْبَعًا فَهَلْ تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ , { وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ , وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ } وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ . وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ , وَكَانَ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ , كَمَا جَمَعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَكَانَ يَجْمَعُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَحْيَانًا . كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ , ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ , وَأَمَّا إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ , وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَنْزِلُ إلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ , كَمَا كَانَ بِعَرَفَةَ لَا يُفِيضُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ يَنْزِلُ وَقْتَ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا فَلَيْسَ الْقَصْرُ كَالْجَمْعِ , بَلْ
الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ . وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ .
158 - 158 - 74 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَا عِنْدَهُ أَحَدٌ يَسْأَلُهُ عَنْ اللَّحْنِ إلَخْ ؟ وَإِذَا وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ يَطَّلِعُ فِي الْمُصْحَفِ هَلْ يَلْحَقُهُ إثْمٌ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : إنْ احْتَاجَ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَرَأَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ , وَرَجَعَ إلَى الْمُصْحَفِ فِيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ , وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا , وَلَا يَتْرُكُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْتَهِي بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ , لِأَجْلِ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْغَلَطِ أَحْيَانًا , إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ إذَا اسْتَحَالَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَصَارَتْ خَلًّا طَهُرَتْ . وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَسَائِرُ الْأَعْيَانِ إذَا انْقَلَبَتْ يَقِيسُونَهَا عَلَى الْخَمْرِ الْمُنْقَلِبَةِ . وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا يَعْتَذِرُ بِأَنَّ الْخَمْرَ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ ; لِأَنَّ الْعَصِيرَ كَانَ طَاهِرًا فَلَمَّا اسْتَحَالَ خَمْرًا نَجُسَ , فَإِذَا اسْتَحَالَ خَلًّا طَهُرَ . وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ; فَإِنَّ جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ إنَّمَا نَجُسَتْ أَيْضًا بِالِاسْتِحَالَةِ ; فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يَتَنَاوَلُهُ الْحَيَوَانُ طَاهِرًا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يَمُوتُ فَيَنْجُسُ , وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ وَالْكَلْبُ وَالسِّبَاعُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِنَجَاسَتِهَا إنَّمَا خُلِقَتْ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ الطَّاهِرَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْخَلَّ وَالْمِلْحَ وَنَحْوَهُمَا أَعْيَانٌ طَيِّبَةٌ طَاهِرَةٌ , دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } فَلِلْمُحَرَّمِ الْمُنَجِّسِ لَهَا أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ حَرَّمَهَا لِكَوْنِهَا دَاخِلَةً فِي الْمَنْصُوصِ , أَوْ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الدَّاخِلَةِ فِيهِ , فَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ ; فَإِنَّ النَّصَّ لَا يَتَنَاوَلُهَا , وَمَعْنَى النَّصِّ الَّذِي هُوَ الْخُبْثُ مُنْتَفٍ فِيهَا , وَلَكِنْ كَانَ أَصْلُهَا نَجَسًا , وَهَذَا لَا يَضُرُّ , فَإِنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الطَّيِّبَ مِنْ الْخَبِيثِ , وَيُخْرِجُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى فِي الْحُجَّةِ نَصًّا وَقِيَاسًا . وَعَلَى مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَنْبَنِي طَهَارَةُ الْمَقَابِرِ . فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِنَجَاسَةِ الْمَقْبَرَةِ الْعَتِيقَةِ . يَقُولُونَ : إنَّهُ خَالَطَ التُّرَابَ صَدِيدُ الْمَوْتَى وَنَحْوُهُ , وَاسْتَحَالَ عَنْ ذَلِكَ , فَيُنَجِّسُونَهُ . وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الِاسْتِحَالَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَلَا يَكُونُ التُّرَابُ نَجَسًا , وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ { مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَائِطًا لِبَنِي النَّجَّارِ , وَكَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ , وَخَرِبٌ , وَنَخْلٌ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ , وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ , وَبِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ , وَجُعِلَ قِبْلَةً لِلْمَسْجِدِ } فَهَذَا كَانَ مَقْبَرَةً لِلْمُشْرِكِينَ . ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِنَبْشِهِمْ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقْلِ التُّرَابِ , الَّذِي لَاقَاهُمْ , وَغَيْرِهِ مِنْ تُرَابِ الْمَقْبَرَةِ , وَلَا أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنْ الْعَذِرَةِ ; وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , لَكِنْ الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْوَسْوَاسِ مِنْ تَوَقِّي الْأَرْضِ وَتَنْجِيسِهَا بَاطِلٌ بِالنَّصِّ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فِيهِ نِزَاعٌ , وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ , أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ السَّجَّادَةَ عَلَى مُصَلَّيَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحُصْرِ وَالْبُسُطِ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , مِمَّا يُفْرَشُ فِي الْمَسَاجِدِ , فَيَزْدَادُونَ بِدْعَةً عَلَى بِدْعَتِهِمْ . وَهَذَا الْأَمْرُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ
مِنْ السَّلَفِ , وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكُونُ شُبْهَةً لَهُمْ , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ; بَلْ يُعَلِّلُونَ أَنَّ هَذِهِ الْحُصْرَ يَطَؤُهَا عَامَّةُ النَّاسِ , وَلَعَلَّ أَحَدُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى أَوْ سَمِعَ أَنَّهُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بَالَ صَبِيٌّ , أَوْ غَيْرُهُ عَلَى بَعْضِ حُصْرِ الْمَسْجِدِ , أَوْ رَأَى عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَرْقِ الْحَمَامِ , أَوْ غَيْرِهِ , فَيَصِيرُ ذَلِكَ حُجَّةً فِي الْوَسْوَاسِ . وَقَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَا زَالَ يَطَأُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ , وَهُنَاكَ مِنْ الْحَمَامِ مَا لَيْسَ بِغَيْرِهِ , وَيَمُرُّ بِالْمَطَافِ مِنْ الْخَلْقِ مَا لَا يَمُرُّ بِمَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ , فَتَكُونُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا أَقْوَى . ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ يُصَلِّي هُنَاكَ عَلَى حَائِلٍ , وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ , فَلَوْ كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا كَمَا زَعَمَهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْكِ الْمُسْتَحَبِّ , الْأَفْضَلِ . وَيَكُونُ هَؤُلَاءِ أَطْوَعَ لِلَّهِ وَأَحْسَنَ عَمَلًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ , فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَأَيْضًا فَقَدْ كَانُوا يَطَئُونَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِعَالِهِمْ وَخِفَافِهِمْ , وَيُصَلُّونَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ هَذَا
الِاحْتِمَالِ , وَلَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُمْ هَذَا الِاحْتِرَازُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ , فَعُلِمَ خَطَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولُوا : الْأَرْضُ تَطْهُرُ بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالِاسْتِحَالَةِ . دُونَ الْحَصِيرِ . فَيُقَالُ : هَذَا إذَا كَانَ حَقًّا فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ . وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِالْوَجْهِ الثَّالِثِ , وَهُوَ : أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُسْتَحَبُّ الْبَحْثُ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا , وَلَا الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ , لِاحْتِمَالِ وُجُودِهِ , فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِاحْتِرَازُ عَنْ الشُّكُوكِ فِيهِ مُطْلَقًا , فَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ بِمَكَانٍ , فَسَقَطَ عَلَى صَاحِبِهِ مَاءٌ مِنْ مِيزَابٍ , فَنَادَى صَاحِبَهُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ , أَمَاؤُك طَاهِرٌ أَمْ نَجَسٌ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ , لَا تُخْبِرْهُ , فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَيْهِ " فَنَهَى عُمَرُ عَنْ إخْبَارِهِ ; لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ مِنْ السُّؤَالِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَهَذَا قَدْ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ , وَهُوَ : أَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا مَعَ الْعِلْمِ , فَلَوْ صَلَّى وَبِبَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ , وَأَحْمَدَ فِي أَقْوَى الرِّوَايَتَيْنِ , وَسَوَاءٌ كَانَ عَلِمَهَا ثُمَّ نَسِيَهَا ; أَوْ جَهِلَهَا ابْتِدَاءً ,
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ , لَمَّا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ أَنَّ بِهِمَا أَذًى , وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ , وَلَمْ يَسْتَأْنِفْهَا , مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ , لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ , فَتَكَلُّفُهُ لِلْخَلْعِ فِي أَثْنَائِهَا , مَعَ أَنَّهُ لَوْلَا الْحَاجَةُ لَكَانَ عَبَثًا أَوْ مَكْرُوهًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ ; وَمَظِنَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهَا فِي حَالِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ { أُمِّ جَحْدَرٍ الْعَامِرِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ , فَقَالَتْ : كُنْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْنَا شِعَارُنَا ; وَقَدْ أَلْقَيْنَا فَوْقَهُ كِسَاءً , فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَ الْكِسَاءَ فَلَبِسَهُ , ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْغَدَاةَ ثُمَّ جَلَسَ , فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , هَذِهِ لُمْعَةٌ مِنْ دَمٍ , فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلِيهَا , فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ مَصْرُورَةً فِي يَدِ غُلَامٍ , فَقَالَ : اغْسِلِي هَذَا , وَأَجِفِّيهَا , وَأَرْسِلِي بِهَا إلَيَّ , فَدَعَوْت بِقَصْعَتِي فَغَسَلْتهَا , ثُمَّ أَجَفَفْتهَا فَأَعَدْتهَا إلَيْهِ , فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِصْفَ النَّهَارِ وَهِيَ عَلَيْهِ } . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَأْمُرْ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ , وَلَا ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ يُعِيدُ , وَأَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ , وَلَا ذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ ,
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ . وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ مِنْ بَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ , وَبَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعْفُوٌّ فِيهِ عَنْ الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي , كَمَا قَالَ فِي دُعَاءِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ . وَلِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِ , وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ , وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي التَّشَهُّدِ لَمَّا كَانُوا يَقُولُونَ أَوَّلًا : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ , فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ , وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ , وَأَمَرَهُمْ بِالتَّشَهُّدِ الْمَشْهُورِ , وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ , وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْحَمْ مُحَمَّدًا , وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا يُعْفَى فِيهَا عَنْ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ , وَنَحْوِهِمَا , مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّجَاسَةِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا , فَلَا حَاجَةَ بِهِ حِينَئِذٍ عَنْ السُّؤَالِ عَنْ
أَشْيَاءَ إنْ أُبْدِيَتْ سَاءَتْهُ , قَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا , وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَبْلُغُ الْحَالُ بِأَحَدِهِمْ إلَى أَنْ يَكْرَهَ الصَّلَاةَ إلَّا عَلَى سَجَّادَةٍ ; بَلْ قَدْ جَعَلَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهَا مُحَرَّمًا , فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ امْتِنَاعَهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ . وَهَذَا فِيهِ مُشَابَهَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي مَسَاجِدِهِمْ ; فَإِنَّ الَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا عَلَى مَا يُصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْمَفَارِشِ شَبِيهٌ بِاَلَّذِي لَا يُصَلِّي إلَّا فِيمَا يُصْنَعُ لِلصَّلَاةِ مِنْ الْأَمَاكِنِ . وَأَيْضًا فَقَدْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الدِّينِ , فَيُعِدُّونَ تَرْكَ ذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ الدِّينِ , وَمِنْ قِلَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ , فَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي مَا أَنْزَلَ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ . وَرُبَّمَا تَظَاهَرَ أَحَدُهُمْ بِوَضْعِ السَّجَّادَةِ عَلَى مَنْكِبِهِ , وَإِظْهَارِ الْمَسَابِحِ فِي يَدِهِ , وَجَعَلَهُ مِنْ شِعَارِ الدِّينِ وَالصَّلَاةِ . وَقَدْ عُلِمَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا شِعَارَهُمْ , وَكَانُوا يُسَبِّحُونَ وَيَعْقِدُونَ عَلَى أَصَابِعِهِمْ , كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { اعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ , مُسْتَنْطَقَاتٌ } وَرُبَّمَا عَقَدَ أَحَدُهُمْ التَّسْبِيحَ بِحَصًى أَوْ نَوًى . وَالتَّسْبِيحُ بِالْمَسَابِحِ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ , وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ , لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّ التَّسْبِيحَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابِعِ
, وَغَيْرِهَا , وَإِذَا كَانَ هَذَا مُسْتَحَبًّا يَظْهَرُ فَقَصْدُ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالتَّمَيُّزُ بِهِ عَلَى النَّاسِ مَذْمُومٌ , فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ رِيَاءً فَهُوَ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الرِّيَاءِ , إذْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَصْنَعُ هَذَا يَظْهَرُ مِنْهُ الرِّيَاءُ وَلَوْ كَانَ رِيَاءً بِأَمْرٍ مَشْرُوعٍ لَكَانَتْ إحْدَى الْمُصِيبَتَيْنِ ; لَكِنَّهُ رِيَاءٌ لَيْسَ مَشْرُوعًا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } . قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ . قَالُوا : يَا أَبَا عَلِيٍّ , مَا أَخْلَصُهُ ؟ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ , وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ , حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا , وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ . وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفُضَيْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا مَأْمُورًا بِهِ , وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ . وَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا , وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا , وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا " . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى
: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاِتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَإِنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ , وَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : { وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ , وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ , فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا ؟ فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ , فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا , فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي , تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ . وَإِيَّاكُمْ وَمُحَدِّثَاتِ الْأُمُورِ . فَإِنْ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي لَفْظٍ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : إنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ , وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ , وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا , وَكُلَّ
بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } .
سُئِلَ : عَنْ رَجُلٍ قَالَ : إذَا دَعَا الْعَبْدُ لَا يَقُولُ : يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ ؟ فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَعَا رَبَّهُ يَقُولُ : يَا اللَّهُ , يَا رَحْمَنُ , وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ اُدْعُوا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ فِي دُعَائِهِ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : مُحَمَّدٌ يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إلَهَيْنِ , وَهُوَ يَدْعُو إلَهَيْنِ , فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ اُدْعُوا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } } . أَيْ الْمَدْعُوُّ إلَهٌ وَاحِدٌ , وَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } . وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ : يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ , فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ , فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
176 - 176 - 92 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ : إذَا سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ , أَسْأَلُك الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ . وَعَنْ شِمَالِهِ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ , أَسْأَلُك النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ , فَهَلْ هَذَا مَكْرُوهٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا , فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , نَعَمْ , يُكْرَهُ هَذَا ; لِأَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ , فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَاثُ دُعَاءٍ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ , يَفْصِلُ بِأَحَدِهِمَا بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ , وَيَصِلُ التَّسْلِيمَةَ بِالْآخَرِ , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فَصْلُ الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ بِمِثْلِ هَذَا , كَمَا لَوْ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَسْأَلُك الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ , رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ أَسْأَلُك النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ , وَأَمْثَالَ ذَلِكَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
180 - 180 - 96 مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ يَقُولُ : أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِنْ الْأَذْكَارِ غَيْرَ مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ وَأَخْطَأَ , إذْ لَوْ ارْتَضَى أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ نَبِيَّهُ وَإِمَامَهُ وَدَلِيلَهُ لَاكْتَفَى بِمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ الْأَذْكَارِ , فَعُدُولُهُ إلَى رَأْيِهِ وَاخْتِرَاعِهِ جَهْلٌ , وَتَزْيِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ , وَخِلَافٌ لِلسُّنَّةِ إذْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا إلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ وَشَرَعَهُ لَنَا , وَلَمْ يَدَّخِرْ اللَّهُ عَنْهُ خَيْرًا ; بِدَلِيلِ إعْطَائِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; إذْ هُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ فَهَلْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالدَّعَوَاتِ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ , وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ , وَالِاتِّبَاعِ , لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ , فَالْأَدْعِيَةُ وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُتَحَرِّي مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ , وَسَالِكُهَا عَلَى سَبِيلِ أَمَانٍ وَسَلَامَةٍ , وَالْفَوَائِدُ وَالنَّتَائِجُ الَّتِي تَحْصُلُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانٌ , وَلَا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ , وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَذْكَارِ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا , وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا , وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ , وَهِيَ جُمْلَةٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا . وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسُنَّ لِلنَّاسِ نَوْعًا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ غَيْرَ الْمَسْنُونِ وَيَجْعَلَهَا عِبَادَةً رَاتِبَةً يُوَاظِبُ النَّاسُ
عَلَيْهَا كَمَا يُوَاظِبُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ; بَلْ هَذَا ابْتِدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ ; بِخِلَافِ مَا يَدْعُو بِهِ الْمَرْءُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلنَّاسِ سُنَّةً , فَهَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى مُحَرَّمًا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِهِ ; لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ , وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَدْعُو بِأَدْعِيَةٍ تُفْتَحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَقْتِ , فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قَرِيبٌ . وَأَمَّا اتِّخَاذُ وِرْدٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ , وَاسْتِنَانُ ذِكْرٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ : فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ , وَمَعَ هَذَا فَفِي الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ الصَّحِيحَةِ , وَنِهَايَةُ الْمَقَاصِدِ الْعَلِيَّةِ , وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُفَرِّطٌ أَوْ مُتَعَدٍّ .
181 - 181 - 97 مَسْأَلَةٌ : فِي الدُّعَاءِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَى إمَامٍ لَمْ يَدْعُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَقِيبَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ ; وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ , وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ , وَلَفْظُهُ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِ يُنَافِي ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ . وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا اسْتَحَبُّوا الدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ . قَالُوا : لِأَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا صَلَاةَ بَعْدَهُمَا , فَتُعَوَّضُ بِالدُّعَاءِ عَنْ الصَّلَاةِ . وَاسْتَحَبَّ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الدُّعَاءَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ , وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ , لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ , فِي هَذَا الْمَوْطِنِ , وَالْمُنْكِرُ عَلَى التَّارِكِ أَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ مِنْهُ ; بَلْ الْفَاعِلُ أَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ , فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْسَ مَشْرُوعًا ; بَلْ
مَكْرُوهٌ , كَمَا لَوْ دَاوَمَ عَلَى الدُّعَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَوَاتِ , أَوْ دَاوَمَ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى , أَوْ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ , أَوْ دَاوَمَ عَلَى الْجَهْرِ بِالِاسْتِفْتَاحِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ , وَإِنْ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا , وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَحْيَانًا , وَجَهَرَ رَجُلٌ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ , فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ , فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْرَعُ فِعْلُهُ أَحْيَانًا تُشْرَعُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ . وَلَوْ دَعَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ أَحْيَانًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ لِأَمْرٍ عَارِضٍ لَمْ يُعَدَّ هَذَا مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ , كَاَلَّذِي يُدَاوِمُ عَلَى ذَلِكَ , وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو دُبُرَ الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ , وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ . كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ , وَذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ , وَمَا يُظَنُّ أَنَّ فِيهِ حُجَّةً لِلْمُنَازِعِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ , فَإِذَا سَلَّمَ انْصَرَفَ عَنْ مُنَاجَاتِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ لِرَبِّهِ حَالَ مُنَاجَاتِهِ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ , دُونَ سُؤَالِهِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ , كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ يُخَاطِبُ مَلِكًا أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّ سُؤَالَهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى مُخَاطَبَتِهِ , أَوْلَى مِنْ سُؤَالِهِ لَهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ .
179 - 179 - 95 مَسْأَلَةٌ : فِي قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي جَمَاعَةٍ , هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَا كَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَقَوْلُهُ : " دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ " ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ , قَدْ رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ حَدِيثٌ , لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ , وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا , فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ , وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ يَجْهَرُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ , وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ , فَجَهْرُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِذَلِكَ , وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِلَا رَيْبٍ , فَإِنَّ ذَلِكَ إحْدَاثُ شِعَارٍ , بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْدُثَ آخِرَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ دَائِمًا , أَوْ خَوَاتِيمِ الْبَقَرَةِ , أَوْ أَوَّلِ الْحَدِيدِ , أَوْ آخِرِ الْحَشْرِ , أَوْ بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ دَائِمًا عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ الْفَرِيضَةِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ . وَأَمَّا إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي نَفْسِهِ , أَوْ قَرَأَهَا أَحَدُ الْمَأْمُومِينَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذْ قِرَاءَتُهَا عَمَلٌ صَالِحٌ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ . كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا الَّذِي ثَبَتَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ , فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ , وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ , وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ , وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ , وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ , لَهُ النِّعْمَةُ , وَلَهُ الْفَضْلُ , وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ , وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ , وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ , وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ , وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } . وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ يَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ , وَيَزِيدُ فِيهَا التَّهْلِيلَ , وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ عَشْرٌ , وَيُرْوَى أَحَدَ عَشَرَ مَرَّةً , وَرُوِيَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ , كَانَ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْت أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ , وَفِي لَفْظٍ : مَا كُنْت أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ } . فَهَذِهِ هِيَ الْأَذْكَارُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ .
186 - 186 - 102 مَسْأَلَةٌ : فِيمَا إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ ؟ الْجَوَابُ : إذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ , مَكْتُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ .
187 - 187 - 103 مَسْأَلَةٌ : فِي رَجُلٍ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ . فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : أَمَّا التَّبَسُّمُ فَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ , وَأَمَّا إذَا قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ , وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ; لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ , لِكَوْنِهِ أَذْنَبَ ذَنْبًا , وَلِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ , فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
182 - 182 - 98 مَسْأَلَةٌ : فِي هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الدُّعَاءِ : هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ ؟ وَهَلْ وَرَدَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فِعْلُ ذَلِكَ ؟ وَيَتْرُكُونَ أَيْضًا الذِّكْرَ الَّذِي صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُ , وَيَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ ؟ فَهَلْ [ الْأَفْضَلُ ] الِاشْتِغَالُ بِالذِّكْرِ الْوَارِدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هَذَا الدُّعَاءِ ؟ وَهَلْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَمْسَحُ وَجْهَهُ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ الْمَعْرُوفُ . كَالْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ , وَكُتُبِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ , وَغَيْرِهَا , مِثْلَ مَا فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا , ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ , وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ , اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت , وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت , وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يُهَلِّلُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فِي دُبُرِ الْمَكْتُوبَةِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ , وَلَهُ الْحَمْدُ ,
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ , لَهُ النِّعْمَةُ , وَلَهُ الْفَضْلُ , وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ , وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ } , وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ , وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ , وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , لَهُ الْمُلْكُ , وَلَهُ الْحَمْدُ , وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ : غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ يَقُولُ : { سُبْحَانَ اللَّهِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ , وَاَللَّهُ أَكْبَرُ , ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ } . وَفِي السُّنَن أَنْوَاعٌ أُخَرُ . وَالْمَأْثُورُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الْكَلِمَاتُ عَشْرًا عَشْرًا : فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثُونَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : كُلُّ وَاحِدَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ , فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ . وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ : كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ , فَالْمَجْمُوعُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ . وَالرَّابِعُ : أَنْ يَخْتِمَ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ التَّامِّ , فَالْمَجْمُوعُ مِائَةٌ . وَالسَّادِسُ : أَنْ يَقُولَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ , فَالْمَجْمُوعُ مِائَةٌ . وَأَمَّا قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَقَدْ رُوِيَتْ بِإِسْنَادٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ سُنَّةٌ . وَأَمَّا دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْهُ { أَنَّهُ أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَفْظُ دُبُرَ الصَّلَاةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ . كَمَا يُرَادُ بِدُبُرِ الشَّيْءِ مُؤَخِّرُهُ , وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا , كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ , وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ يُفَسِّرُ بَعْضًا لِمَنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ وَتَدَبَّرَهُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : دُعَاءُ الْمُصَلِّي الْمُنْفَرِدِ , كَدُعَاءِ الْمُصَلِّي صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ , وَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ , وَدُعَاءُ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ , إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا . وَالثَّانِي : دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا , فَهَذَا الثَّانِي لَا رَيْبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي أَعْقَابِ الْمَكْتُوبَاتِ , كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْهُ , إذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنَقَلَهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ , ثُمَّ التَّابِعُونَ , ثُمَّ الْعُلَمَاءُ , كَمَا نَقَلُوا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ ; وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ عَقِيبَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ , كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ , وَغَيْرِهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا , وَإِنَّمَا احْتَجُّوا بِكَوْنِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا صَلَاةَ بَعْدَهُمَا . وَمِنْهُمْ : مَنْ اسْتَحَبَّهُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا , وَقَالَ : لَا يُجْهَرُ بِهِ , إلَّا إذَا قُصِدَ التَّعْلِيمُ . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَغَيْرُهُمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ , إلَّا مُجَرَّدَ كَوْنِ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا , وَهُوَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ , وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ قَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ , فَالدُّعَاءُ فِي آخِرِهَا قَبْلَ الْخُرُوجِ مَشْرُوعٌ مَسْنُونٌ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ , وَبِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , بَلْ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي آخِرِهَا وَاجِبٌ , وَأَوْجَبُوا الدُّعَاءَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ : { إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ : مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ , وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ , وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ , وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَغَيْرُهُ , وَكَانَ طَاوُسٌ يَأْمُرُ مَنْ لَمْ يَدْعُ بِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ , وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : { ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ } وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي هَذَا
الْمَوْطِنِ , وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَالْمُنَاسَبَةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ , فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ , فَمَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَنْصَرِفْ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ , فَالدُّعَاءُ حِينَئِذٍ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ , أَمَّا إذَا انْصَرَفَ إلَى النَّاسِ مِنْ مُنَاجَاةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَوْطِنَ مُنَاجَاةٍ لَهُ , وَدُعَاءٍ . وَإِنَّمَا هُوَ مَوْطِنُ ذِكْرٍ لَهُ , وَثَنَاءٍ عَلَيْهِ , فَالْمُنَاجَاةُ وَالدُّعَاءُ حِينَ الْإِقْبَالِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ . أَمَّا حَالَ الِانْصِرَافِ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّنَاءُ وَالذِّكْرُ أَوْلَى . وَكَمَا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اسْتَحَبَّ عَقِبَ الصَّلَاةِ مِنْ الدُّعَاءِ مَا لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ : فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تُقَابِلُ هَذِهِ لَا يَسْتَحِبُّونَ الْقُعُودَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ الصَّلَاةِ , وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ الذِّكْرَ الْمَأْثُورَ , بَلْ قَدْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ , وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ , فَهَؤُلَاءِ مُفَرِّطُونَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَشْرُوعِ , وَأُولَئِكَ مُجَاوِزُونَ الْأَمْرَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ , وَالدِّينُ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَشْرُوعِ دُونَ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ . وَأَمَّا رَفْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ : فَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ , وَأَمَّا مَسْحُهُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ فَلَيْسَ عَنْهُ فِيهِ إلَّا حَدِيثٌ , أَوْ حَدِيثَانِ , لَا يَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
189 - 189 - 105 مَسْأَلَةٌ : فِيمَا إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ , وَيَعُدُّ فِي الصَّلَاةِ بِسَبْحَةٍ , هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ . الْجَوَابُ : إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا السُّؤَالِ أَنْ يَعُدَّ الْآيَاتِ , أَوْ يَعُدَّ تَكْرَارَ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ , مِثْلَ قَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } بِالسَّبْحَةِ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ , وَإِنْ أُرِيدَ بِالسُّؤَالِ شَيْءٌ آخَرُ , فَلْيُبَيِّنْهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
188 - 188 - 104 - مَسْأَلَةٌ : فِي النَّحْنَحَةِ , وَالسُّعَالِ , وَالنَّفْخِ , وَالْأَنِينِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ : فَهَلْ تَبْطُلُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ الَّذِي تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهِ مِنْ هَذَا أَوْ غَيْرِهِ ؟ وَفِي أَيِّ مَذْهَبٍ ؟ وَأَيْشٍ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ , وَمِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ : فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ , وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ . وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ : عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ إصْلَاحَ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ , وَالْعَامِدُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ , وَأَنَّ الْكَلَامَ مُحَرَّمٌ . قُلْتُ : وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّاسِي وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالْمُتَكَلِّمِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ , وَفِي ذَلِكَ كُلُّهُ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ . إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَاللَّفْظُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ . أَحَدُهَا : أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ إمَّا بِنَفْسِهِ , وَإِمَّا مَعَ لَفْظٍ غَيْرِهِ , كَفِي , وَعَنْ , فَهَذَا الْكَلَامُ مِثْلُ : يَدٍ , وَدَمٍ , وَفَمٍ , وَخُذْ . الثَّانِي : أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالطَّبْعِ كَالتَّأَوُّهِ , وَالْأَنِينِ , وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى لَا بِالطَّبْعِ وَلَا بِالْوَضْعِ , كَالنَّحْنَحَةِ فَهَذَا الْقِسْمُ كَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُهُ فِي صَلَاتِهِ , وَذَكَرَ أَصْحَابُهُ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِالنَّحْنَحَةِ . فَإِنْ قُلْنَا : تَبْطُلُ , فَفَعَلَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ فَوَجْهَانِ . فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ فِيهَا ثَلَاثَةً : أَحَدُهَا : أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِحَالٍ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ , وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ; بَلْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ . وَالثَّانِي : تَبْطُلُ بِكُلِّ حَالٍ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ . وَالثَّالِثُ : إنْ فَعَلَهُ لِعُذْرٍ لَمْ تَبْطُلْ وَإِلَّا بَطَلَتْ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ , وَغَيْرِهِمَا , وَقَالُوا : إنْ فَعَلَهُ لِتَحْسِينِ الصَّوْتِ وَإِصْلَاحِهِ , لَمْ تَبْطُلْ , قَالُوا : لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ كَثِيرًا , فَرُخِّصَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ . وَمَنْ أَبْطَلَهَا قَالَ : إنَّهُ يَتَضَمَّنُ حَرْفَيْنِ , وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ , فَأَشْبَهَ الْقَهْقَهَةَ , وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ . وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا حَرَّمَ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلَاةِ , وَقَالَ : { إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ , الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْكَلَامَ . وَالنَّحْنَحَةِ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ أَصْلًا , فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ بِنَفْسِهَا , وَلَا مَعَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعْنًى , وَلَا يُسَمَّى فَاعِلُهَا مُتَكَلِّمًا وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مُرَادُهُ بِقَرِينَةٍ , فَصَارَتْ كَالْإِشَارَةِ
. وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ وَنَحْوُهَا فَفِيهَا جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى بِالطَّبْعِ . وَالثَّانِي : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ أَبْطَلَتْ لِأَجْلِ كَوْنِهَا كَلَامًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَهْقَهَةَ تُبْطِلُ بِالْإِجْمَاعِ , ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ . وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ فِيهَا نِزَاعٌ , بَلْ قَدْ يُقَالُ : إنَّ الْقَهْقَهَةَ فِيهَا أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ تُنَافِي حَالَ الصَّلَاةِ , وَتُنَافِي الْخُشُوعَ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ , فَهِيَ كَالصَّوْتِ الْعَالِي الْمُمْتَدِّ , الَّذِي لَا حَرْفَ مَعَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّلَاعُبِ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَقْصُودَهَا , فَأُبْطِلَتْ لِذَلِكَ لَا لِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا . وَبُطْلَانُهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى كَوْنِهِ كَلَامًا , وَلَيْسَ مُجَرَّدُ الصَّوْتِ كَلَامًا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْخَلَانِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَكُنْت إذَا دَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ , وَابْنُ مَاجَهْ , وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى طَبْعًا لَا وَضْعًا فَمِنْهُ النَّفْخُ وَفِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَتَانِ أَيْضًا : إحْدَاهُمَا : لَا تَبْطُلُ , وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَابْنِ سِيرِينَ , وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّلَفِ , وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَإِسْحَاقَ . وَالثَّانِيَةُ : إنَّهَا تَبْطُلُ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمُحَمَّدٍ , وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ , وَعَلَى هَذَا فَالْمُبْطِلُ فِيهِ
مَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ . وَقَدْ قِيلَ عَنْ أَحْمَدَ : إنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْكَلَامِ , وَإِنْ لَمْ يَبْنِ حَرْفَيْنِ . وَاحْتَجُّوا لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ } " رَوَاهُ الْخَلَّالُ ; لَكِنْ مِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا , فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ , لَكِنْ حَكَى أَحْمَدُ هَذَا اللَّفْظَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ : النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَلَامٌ , رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ تَضَمَّنَ حَرْفَيْنِ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جِنْسِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ , فَأَشْبَهَ الْقَهْقَهَةَ , وَالْحُجَّةُ مَعَ الْقَوْلِ , كَمَا فِي النَّحْنَحَةِ , وَالنِّزَاعُ كَالنِّزَاعِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ , وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ لَمْ يَحْنَثْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ , وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَكَلَّمَنَّ لَمْ يَبْرَأْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ , وَالْكَلَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ دَالٍّ عَلَى الْمَعْنَى , دَلَالَةً وَضْعِيَّةً , تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ , فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْأَصْوَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَحْوَالِ الْمُصَوِّتِينَ , فَهُوَ دَلَالَةٌ طَبْعِيَّةٌ حِسِّيَّةٌ , فَهُوَ وَإِنْ شَارَكَ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ فِي الدَّلَالَةِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا دَلَّ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ , كَالْإِشَارَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ وَتَقُومُ مَقَامَ الْعِبَارَةِ , بَلْ تَدُلُّ بِقَصْدِ الْمُشِيرِ , وَهِيَ تُسَمَّى كَلَامًا , وَمَعَ هَذَا لَا
تَبْطُلُ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِشَارَةِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ كُلِّ مَا يُدِلُّ وَيُفْهِمُ , وَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ التَّنْبِيهَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحَ جَازَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ , فَإِذَا كَانَ قَدْ قَصَدَ إفْهَامَ الْمُسْتَمِعِ وَمَعَ هَذَا لَمْ تَبْطُلْ , فَكَيْفَ بِمَا دَلَّ بِالطَّبْعِ , وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إفْهَامَ أَحَدٍ , وَلَكِنَّ الْمُسْتَمِعَ يَعْلَمُ مِنْهُ , كَمَا يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ حَرَكَتِهِ , وَمِنْ سُكُوتِهِ , فَإِذَا رَآهُ يَرْتَعِشُ أَوْ يَضْطَرِبُ أَوْ يَدْمَعُ أَوْ يَبْتَسِمُ عَلِمَ , وَإِنَّمَا امْتَازَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الصَّوْتِ , وَهَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ , فَكَيْفَ , وَفِي الْمُسْنَدِ , عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ , فَجَعَلَ يَنْفُخُ , فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : إنَّ النَّارَ أُدْنِيَتْ مِنِّي حَتَّى نَفَخْت حَرَّهَا عَنْ وَجْهِي } . وَفِي الْمُسْنَدِ , وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ نَفَخَ فِي آخِرِ سُجُودِهِ , فَقَالَ : أُفٍّ أُفٍّ أُفٍّ , رَبِّ , أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ } ؟ , وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ , أَوْ فَعَلَهُ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ , أَوْ مِنْ النَّارِ . قَالُوا : فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ عِنْدَنَا , نَصَّ
عَلَيْهِ أَحْمَدُ . كَالتَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ عِنْدَهُ , وَالْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ : أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَانَتْ فِي آخِرِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ , وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ مِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ , وَمَارِيَةُ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ , بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمُغِيرَةَ , وَذَلِكَ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ رُسُلَهُ إلَى الْمُلُوكِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ حُرِّمَ قَبْلَ هَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَنْكَرَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ ; لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ شَهِدَهَا , فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِمِثْلِ هَذَا فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ , بَلْ قَدْ قِيلَ : الشَّمْسُ كَسَفَتْ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ , قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ . وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الْخَشْيَةِ : فَفِيهِ أَنَّهُ نَفَخَ حَرَّهَا عَنْ وَجْهِهِ , وَهَذَا نَفْخٌ لِدَفْعِ مَا يُؤْذِي مِنْ خَارِجٍ , كَمَا يَنْفُخُ الْإِنْسَانُ فِي الْمِصْبَاحِ لِيُطْفِئَهُ , أَوْ يَنْفُخُ فِي التُّرَابِ . وَنَفْخُ الْخَشْيَةِ مِنْ نَوْعِ الْبُكَاءِ وَالْأَنِينِ , وَلَيْسَ هَذَا ذَاكَ . وَأَمَّا السُّعَالُ وَالْعُطَاسُ وَالتَّثَاؤُبُ وَالْبُكَاءُ الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَالتَّأَوُّهُ وَالْأَنِينُ , فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ كَالنَّفْخِ . فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى طَبْعًا , وَهِيَ أَوْلَى بِأَنْ لَا تُبْطِلَ ; فَإِنَّ النَّفْخَ أَشْبَهُ بِالْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ , إذْ النَّفْخُ يُشْبِهُ التَّأْفِيفَ كَمَا قَالَ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } لَكِنْ
الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي الْخَطَّابِ وَمُتَّبِعِيهِ , ذَكَرُوا أَنَّهَا تُبْطِلُ , إذَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ , وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ نَصَّهُ فِي النَّحْنَحَةِ , وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ فِي النَّفْخِ , فَصَارَ ذَلِكَ مُوهِمًا أَنَّ النِّزَاعَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ , وَلَيْسَ كَذَلِكَ , بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ تُبْطِلُ , وَالنَّفْخُ لَا يُبْطِلُ . وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي التَّأَوُّهِ وَالْأَنِينِ : لَا يُبْطِلُ مُطْلَقًا عَلَى أَصْلِهِ , وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَمَالِكٌ مَعَ الِاخْتِلَافِ عَنْهُ فِي النَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ قَالَ : الْأَنِينُ لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرِيضِ , وَأَكْرَهُهُ لِلصَّحِيحِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَنِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَكْرُوهٌ , وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرَهُ مُبْطِلًا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي وَافَقَهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَهُوَ أَنَّ مَا أَبَانَ حَرْفَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ كَانَ كَلَامًا مُبْطِلًا , وَهُوَ أَشَدُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَأَبْعَدُهَا عَنْ الْحُجَّةِ , فَإِنَّ الْإِبْطَالَ إنْ أَثْبَتُوهُ بِدُخُولِهَا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فِي لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ , فَإِنَّ فِي الْكَلَامِ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ مَعَانِيَ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِلَفْظٍ , وَذَلِكَ يَشْغَلُ الْمُصَلِّي . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا } وَأَمَّا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ فَهِيَ طَبِيعِيَّةٌ كَالتَّنَفُّسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي التَّنَفُّسِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ , وَإِنَّمَا تُفَارِقُ التَّنَفُّسَ بِأَنَّ فِيهَا صَوْتًا , وَإِبْطَالُ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ الصَّوْتِ إثْبَاتُ حُكْمٍ بِلَا أَصْلٍ , وَلَا نَظِيرَ . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالنَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ كَمَا تَقَدَّمَ , وَأَيْضًا فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ بِيَقِينٍ , فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالشَّكِّ , وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ , هُوَ مَا يُدْعَى مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ , بَلْ هَذَا إثْبَاتُ حُكْمٍ بِالشَّكِّ الَّذِي لَا دَلِيلَ مَعَهُ , وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ خَشْيَةِ اللَّهِ , فَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ لِخَشْيَةِ اللَّهِ فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ , وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَبْطُلُ ; لِأَنَّهُ كَلَامٌ , وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ , فَإِنَّ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ , فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَقْتَضِي الرَّهْبَةَ مِنْ اللَّهِ وَالرَّغْبَةَ إلَيْهِ , وَهَذَا خَوْفُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ , وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ أَوَّاهٌ , وَقَدْ فُسِّرَ بِاَلَّذِي يَتَأَوَّهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ . وَلَوْ صَرَّحَ بِمَعْنَى ذَلِكَ بِأَنْ اسْتَجَارَ مِنْ النَّارِ أَوْ سَأَلَ الْجَنَّةَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْأَنِينِ وَالتَّأَوُّهِ فِي الْمَرَضِ وَالْمُصِيبَةِ , فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ كَانَ كَلَامًا مُبْطِلًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ , إذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ , قَالَ : مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ , إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ } وَكَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ نَشِيجَهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ لَمَّا قَرَأَ : { إنَّمَا أَشُكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } . وَالنَّشِيجُ : رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ , كَمَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ . وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ عُمَرَ , ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ , وَغَيْرُهُمَا , وَهَذَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا . فَأَمَّا مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي مِنْ عُطَاسٍ وَبُكَاءٍ وَتَثَاؤُبٍ , فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ , وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : إنَّهُ يُبْطِلُ , وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا : كَالنَّاسِي , وَكَلَامُ النَّاسِي فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْطِلُ . وَالثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ , وَهَذَا أَظْهَرُ , وَهَذَا أَوْلَى مِنْ النَّاسِي , لِأَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ مُعْتَادَةٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا , وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ , فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ } . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ { الَّذِي عَطَسَ فِي الصَّلَاةِ وَشَمَّتَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ , فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاوِيَةَ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ } ; وَلَمْ يَقُلْ لِلْعَاطِسِ شَيْئًا . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعُطَاسَ يُبْطِلُ تَكْلِيفٌ مِنْ الْأَقْوَالِ
الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الْحَلْقِيَّةَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِالْوَضْعِ فِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ , وَأَنَّ الْأَظْهَرَ فِيهَا جَمِيعًا أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَاتِ , وَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ , لَا يُبْطِلُ فَالصَّوْتُ الْيَسِيرُ لَا يُبْطِلُ , بِخِلَافِ صَوْتِ الْقَهْقَهَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ الْيَسِيرِ وَذَلِكَ يُنَافِي الصَّلَاةَ , بَلْ الْقَهْقَهَةُ تُنَافِي مَقْصُودَ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ ; وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِيهَا بِحَالٍ , بِخِلَافِ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ , فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
220 - 220 - 136 - مَسْأَلَةٌ : فِي امْرَأَةٍ لَهَا وِرْدٌ بِاللَّيْلِ تُصَلِّيهِ , فَتَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . فَقِيلَ لَهَا : إنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ , فَهَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؟ . الْجَوَابُ : نَعَمْ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ } . لَكِنْ إذَا كَانَ عَادَتُهُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا , وَإِنَّمَا قَعَدَ لِعَجْزِهِ , فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِيهِ أَجْرَ الْقَائِمِ . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } . فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ كُلِّهَا لِمَرَضٍ كَانَ اللَّهُ يَكْتُبُ لَهُ أَجْرَهَا كُلَّهُ ; لِأَجْلِ نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ , فَكَيْفَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَفْعَالِهَا ؟ ,
219 - 219 - 135 - مَسْأَلَةٌ : فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ , وَقَبْلَ الصَّلَاةِ ؟ الْجَوَابُ : كَانَ { بِلَالٌ كَمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِلُ بَيْنَ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ , حَتَّى يَتَّسِعَ لِرَكْعَتَيْنِ , فَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يُصَلِّي بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ رَكْعَتَيْنِ , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَاهُمْ وَيُقِرُّهُمْ } , وَقَالَ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ , بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ , بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ , ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } . مَخَافَةَ أَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً . فَإِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ مِقْدَارَ ذَلِكَ , فَهَذِهِ صَلَاةٌ حَسَنَةٌ , وَأَمَّا إنْ كَانَ يَصِلُ الْأَذَانَ بِالْإِقَامَةِ , فَالِاشْتِغَالُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ هُوَ السُّنَّةُ , فَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } . وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ إجَابَةَ الْمُؤَذِّنِ , وَيُصَلِّي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ , فَإِنَّ السُّنَّةَ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ : مِثْلَ مَا يَقُولُ , ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ " إلَى آخِرِهِ - يَدْعُو بَعْدَ ذَلِكَ .
237 - 237 - 153 - مَسْأَلَةٌ : فِيمَنْ يَجِدُ الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ فَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ ؟ أَوْ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَيَلْحَقُ الْإِمَامَ وَلَوْ فِي التَّشَهُّدِ ؟ وَهَلْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ لِلصُّبْحِ أَمْ لَا ؟ الْجَوَابُ : قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَلَا صَلَاةَ إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ } فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَلَا بِسُنَّةِ الْفَجْرِ , وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهَا بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ فَلَا يُصَلِّي السُّنَّةَ لَا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ . بَلْ يَقْضِيهَا إنْ شَاءَ بَعْدَ الْفَرْضِ . وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةً , وَالْفَرِيضَةُ رَكْعَتَانِ , وَلَيْسَ بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْفَرِيضَةِ سُنَّةٌ إلَّا رَكْعَتَانِ , وَالْفَرِيضَةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ . وَصَلَاةُ الْغَدَاةِ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُسَمَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ وَسُنَّةَ الصُّبْحِ , وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
230 - 230 - 146 - مَسْأَلَةٌ : فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ هَلْ هِيَ فَرْضُ عَيْنٍ أَمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ , أَمْ سُنَّةٌ فَإِنْ كَانَتْ فَرْضَ عَيْنٍ وَصَلَّى وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ . فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ ؟ وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ؟ . الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَوْكَدِ الْعِبَادَاتِ , وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ , وَأَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , وَعَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ فَضْلِهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { تَفْضُلُ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ , وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ , وَالثَّلَاثَةُ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا : بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ , ذُكِرَ فِيهِ الْفَضْلُ الَّذِي بَيْنَ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَالصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ , وَالْفَضْلُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ . وَحَدِيثُ السَّبْعَةِ وَالْعِشْرِينَ ذُكِرَ فِيهِ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا وَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفَضْلُ بَيْنَهُمَا , فَصَارَ الْمَجْمُوعُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ , وَمَنْ ظَنَّ مِنْ الْمُتَنَسِّكَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ وَحْدَهُ أَفْضَلُ , إمَّا فِي خَلْوَتِهِ , وَإِمَّا فِي غَيْرِ خَلْوَتِهِ , فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ , وَأَضَلُّ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَرَ الْجَمَاعَةَ إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ , فَعَطَّلَ الْمَسَاجِدَ عَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ , وَعَمَّرَ الْمَسَاجِدَ
بِالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا وَرَسُولُهُ , وَصَارَ مُشَابِهًا لِمَنْ نَهَى عَنْ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ , وَأَمَرَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الصَّلَاةَ وَغَيْرَهَا فِي الْمَسَاجِدِ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ , رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } . الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } . وَأَمَّا مَشَاهِدُ الْقُبُورِ وَنَحْوِهَا : فَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُخَصَّ بِصَلَاةٍ أَوْ دُعَاءٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ وَالذِّكْرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسَاجِدِ , فَقَدْ كَفَرَ . بَلْ قَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ فِي
النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِهَا لِذَلِكَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا : قَالَتْ عَائِشَةُ : " وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ , وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ كَنِيسَةٌ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْحُسْنِ وَالتَّصَاوِيرِ , فَقَالَ : { أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا , وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ , أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ : قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ : { أَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ , أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ , فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ , وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَفِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ , وَاشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا , وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ , فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسَاجِدِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ , وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ , وَمِنْ
فَضَّلَ تَرْكَهَا عَلَيْهَا إيثَارًا لِلْخَلْوَةِ وَالِانْفِرَادِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ , أَوْ جَعَلَ الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ , فَقَدْ انْخَلَعَ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ , وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهَا وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ , أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ , أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً , عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ : هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَقَطْ , وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ , وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ . وَقِيلَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ , وَهَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ , وَقَوْلٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَقِيلَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ : وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ , وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ , وَغَيْرِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ , هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِحُّ , وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ , وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى , فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ عَنْهُمْ , وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ عَقِيلٍ , وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ , وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّانِي : تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ , وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَحْمَدَ , وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ . وَاَلَّذِينَ نَفَوْا الْوُجُوبَ احْتَجُّوا بِتَفْضِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ . قَالُوا : وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ , وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَفْضِيلٌ , وَحَمَلُوا مَا جَاءَ مِنْ هَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيقِ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ , أَوْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مَعَ النِّفَاقِ , وَأَنَّ تَحْرِيقَهُمْ كَانَ لِأَجْلِ النِّفَاقِ لَا لِأَجْلِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ . مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ . وَأَمَّا الْمُوجِبُونَ : فَاحْتَجُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ . أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَك } الْآيَةَ . وَفِيهَا دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مَعَهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ , وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْخَوْفِ , وَهُوَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى وُجُوبِهَا حَالَ الْأَمْنِ . الثَّانِي : أَنَّهُ سَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَمَاعَةً , وَسَوَّغَ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ , كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ , وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ , فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِالِاتِّفَاقِ , وَكَذَلِكَ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ قَبْلَ السَّلَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَكَذَلِكَ التَّخَلُّفُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ , كَمَا يَتَأَخَّرُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بَعْدَ رُكُوعِهِ مَعَ الْإِمَامِ إذَا
كَانَ الْعَدُوُّ أَمَامَهُمْ . قَالُوا : هَذِهِ الْأُمُورُ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَوْ فُعِلَتْ بِغَيْرِ عُذْرٍ , فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً بَلْ مُسْتَحَبَّةً لَكَانَ قَدْ الْتَزَمَ فِعْلَ مَحْظُورٍ مُبْطِلٍ لِلصَّلَاةِ , وَتُرِكَتْ الْمُتَابَعَةُ الْوَاجِبَةُ فِي الصَّلَاةِ لِأَجْلِ فِعْلِ مُسْتَحَبٍّ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُصَلُّوا وُحْدَانًا صَلَاةً تَامَّةً فَعُلِمَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُقَارَنَةُ بِالْفِعْلِ , وَهِيَ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً . وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا يُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } فَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي , لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ : صَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ , وَصُومُوا مَعَ الصَّائِمِينَ , { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } , وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَالصَّلَاةُ كُلُّهَا تُفْعَلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ . قِيلَ : خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ تُدْرَكُ بِهِ الصَّلَاةُ , فَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ , فَأُمِرَ بِمَا يُدْرِكُ بِهِ الرَّكْعَةَ , كَمَا قَالَ لِمَرْيَمَ : { اُقْنُتِي لِرَبِّك وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ : اُقْنُتِي مَعَ الْقَانِتِينَ لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الْقِيَامِ , وَلَوْ قِيلَ : اُسْجُدِي لَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ إدْرَاكِ الرُّكُوعِ , بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ , وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
. وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَالْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الْبَابِ : مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ , ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ , ثُمَّ أَنْطَلِقَ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ : فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ } فَهَمَّ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ , وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ , وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا , وَلَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ } الْحَدِيثُ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ : { لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ , لَأَمَرْت أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ } الْحَدِيثُ . فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ هَمَّ بِتَحْرِيقِ الْبُيُوتِ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ , وَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ . فَإِنَّهُمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شُهُودُ الصَّلَاةِ , وَفِي تَحْرِيقِ الْبُيُوتِ قَتْلُ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ , وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْحُبْلَى . وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الْجُمُعَةِ , فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ
ضَعْفَ قَوْلِهِ حَيْثُ ذَكَرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ , ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِهَمِّهِ بِتَحْرِيقِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ الصَّلَاةَ . وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى النِّفَاقِ , لَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ , فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِأَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يُقِيلُ الْمُنَافِقِينَ إلَّا عَلَى الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ , وَإِنَّمَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ , فَلَوْلَا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ وَاجِبٍ لَمَا حَرَّقَهُمْ . الثَّانِي : أَنَّهُ رَتَّبَ الْعُقُوبَةَ عَلَى تَرْكِ شُهُودِ الصَّلَاةِ , فَيَجِبُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ سَيَأْتِي - إنْ شَاءَ اللَّهُ - حَدِيثُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ حَيْثُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ , فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ , وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ , أَثْنَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ , وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَخْلِفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ , وَكَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . الرَّابِعُ : إنَّ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى وُجُوبِهَا أَيْضًا : كَمَا قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلِيُصَلِّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ ; فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّهِ سُنَنَ الْهُدَى , وَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يُنَادَى بِهِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى , وَإِنَّكُمْ لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا صَلَّى هَذَا
الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ , وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ , وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ , وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ . فَقَدْ أَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ , وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ وُجُوبِهَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُسْتَحَبَّةً كَقِيَامِ اللَّيْلِ , وَالتَّطَوُّعَاتِ الَّتِي مَعَ الْفَرَائِضِ , وَصَلَاةِ الضُّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ . كَانَ مِنْهُمْ مِنْ يَفْعَلُهَا , وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَفْعَلُهَا مَعَ إيمَانِهِ , كَمَا قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ , وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ . فَقَالَ : { أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ كَانَ لَا يَخْتَلِفُ عَنْهُ إلَّا مُنَافِقٌ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ , كَخُرُوجِهِمْ إلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ , فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا , لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ , إلَّا مَنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فَأَذِنَ لَهُ لِأَجْلِ عُذْرِهِ , ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ كَشَفَ اللَّهُ أَسْرَارَ الْمُنَافِقِينَ , وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ , وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ . وَاَلَّذِينَ تَخَلَّفُوا لِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ الْإِيمَانِ عُوقِبُوا بِالْهَجْرِ , حَتَّى هِجْرَانِ نِسَائِهِمْ لَهُمْ , حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . فَإِنْ
قِيلَ : فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَحْكُمُونَ بِنِفَاقِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا , وَتُجَوِّزُونَ تَحْرِيقَ الْبُيُوتِ عَلَيْهِ , إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ذُرِّيَّةٌ . قِيلَ لَهُ : مِنْ الْأَفْعَالِ مَا يَكُونُ وَاجِبًا , وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْمُتَأَوِّلِ يُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ , وَقَدْ صَارَ الْيَوْمَ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَرَاهَا وَاجِبَةً عَلَيْهِ , فَيَتْرُكُهَا مُتَأَوِّلًا , وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ تَأْوِيلٌ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَاشَرَهُمْ بِالْإِيجَابِ . وَأَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ : { أَنَّ أَعْمَى اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ , فَأَذِنَ لَهُ , فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ , فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ نَعَمْ , قَالَ : فَأَجِبْ } فَأَمَرَهُ بِالْإِجَابَةِ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ ; وَلِهَذَا أَوْجَبَ أَحْمَدُ الْجَمَاعَةَ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ . وَفِي لَفْظٍ فِي السُّنَنِ { أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَإِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ , وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي , فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : لَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } . وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِيجَابِ لِلْجَمَاعَةِ , مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَفْضِيلِ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ , فَمَنْ صَحَّحَ صَلَاتَهُ قَالَ :
الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ , كَالْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْعَصْرَ إلَى وَقْتِ الِاصْفِرَارِ كَانَ آثِمًا , مَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ صَحِيحَةً , بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا إلَى أَنْ يَبْقَى مِقْدَارُ رَكْعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ } قَالَ : وَالتَّفْضِيلُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْضُولَ جَائِزٌ , فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } فَجَعَلَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ خَيْرًا مِنْ الْبَيْعِ ; وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } . وَمَنْ قَالَ : لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ إلَّا لِعُذْرٍ , احْتَجَّ بِأَدِلَّةِ الْوُجُوبِ قَالَ : وَمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ كَانَ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ , كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ . وَأَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ , فَإِذَا مَاتَ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِيهِ , فَنَظِيرُ ذَلِكَ فَوْتُ الْجُمُعَةِ , وَفَوْتُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا , فَإِذَا فَوَّتَ الْجُمُعَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَ آثِمًا وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ , إذْ لَا يُمْكِنُ سِوَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ مَنْ فَوَّتَ الْجَمَاعَةَ الْوَاجِبَةَ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ شُهُودُهَا , وَلَيْسَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى , فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ هُنَا لِعَدَمِ إمْكَانِ صَلَاتِهِ جَمَاعَةً , كَمَا تَصِحُّ الظُّهْرُ مِمَّنْ تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ . وَلَيْسَ
وُجُوبُ الْجَمَاعَةِ بِأَعْظَمَ مِنْ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ , وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ , ثُمَّ أُقِيمَتْ الْجَمَاعَةُ , فَهَذَا عِنْدَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ , كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ الْجُمُعَةَ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } فَإِنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ , وَأَبِي هُرَيْرَةَ , وَابْنِ عُمَرَ , وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوَّى ذَلِكَ لِبَعْضِ الْحُفَّاظِ . قَالُوا : وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ شَرْعِيٍّ إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ فِيهِ كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } { وَلَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } . وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ التَّفْضِيلِ . بِأَنْ قَالُوا : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْذُورِ كَالْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ , فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ , وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ } وَأَنَّ تَفْضِيلَهُ صَلَاةَ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ كَتَفْضِيلِهِ صَلَاةَ الْقَائِمِ عَلَى صَلَاةِ الْقَاعِدِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ
الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ , كَمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ . وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ , وَهُوَ : هَلْ الْمُرَادُ بِهِمَا الْمَعْذُورُ , أَوْ غَيْرُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْمُرَادُ بِهِمَا غَيْرُ الْمَعْذُورِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَعْذُورَ أَجْرُهُ تَامٌّ , بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } قَالُوا : فَإِذَا كَانَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ يُكْتَبُ لَهُمَا مَا كَانَا يَعْمَلَانِ فِي الصِّحَّةِ , وَالْإِقَامَةِ . فَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاةُ الْمَعْذُورِ قَاعِدًا أَوْ مُنْفَرِدًا دُونَ صَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ قَاعِدًا ؟ , وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ تَفْضِيلَ صَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ ; لِأَنَّ الْقِيَامَ فِي الْفَرْضِ وَاجِبٌ . وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَزِمَهُ أَنْ يُجَوِّزَ تَطَوُّعَ الصَّحِيحِ مُضْطَجِعًا ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ : { وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ } . وَقَدْ طَرَدَ هَذَا الدَّلِيلَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ , وَجَوَّزُوا أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّجُلُ مُضْطَجِعًا , لِغَيْرِ عُذْرٍ ; لِأَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ , وَلِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرِيضِ , كَمَا تَقَدَّمَ . وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ , وَعَدُّوهُ بِدْعَةً , وَحَدَثًا فِي الْإِسْلَامِ . وَقَالُوا : لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَطُّ صَلَّى فِي
الْإِسْلَامِ , عَلَى جَنْبِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ , وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَهُ , وَلَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ مَرَّةً لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ , فَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ قَاعِدًا , وَيُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ , وَيُوتِرُ عَلَيْهَا , غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ , فَلَوْ كَانَ هَذَا سَائِغًا لَفَعَلَهُ , وَلَوْ مَرَّةً . أَوْ لَفَعَلَهُ أَصْحَابُهُ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذَا مَعَ ظُهُورِ حُجَّتِهِمْ قَدْ تَنَاقَضَ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْجَمَاعَةَ مِنْهُمْ , حَيْثُ حَمَلُوا قَوْلَهُ : { تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ الْمَعْذُورِ , فَيُقَالُ لَهُمْ : لِمَ كَانَ التَّفْضِيلُ هُنَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ , وَالتَّفْضِيلُ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ , وَهَلْ هَذَا إلَّا تَنَاقُضٌ ؟ , . وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْجَمَاعَةَ وَحَمَلَ التَّفْضِيلَ عَلَى الْمَعْذُورِ , فَطَرَدَ دَلِيلَهُ , وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ . وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ مُنَازِعُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَجَوَابُهُمْ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ الثَّوَابِ الَّذِي كَانَ يُكْتَبُ لَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ ; لِأَجْلِ نِيَّتِهِ لَهُ , وَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْعُذْرِ . وَهَذِهِ "
قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ " أَنَّ مَنْ كَانَ عَازِمًا عَلَى الْفِعْلِ عَزْمًا جَازِمًا وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ , فَهَذَا الَّذِي كَانَ لَهُ عَمَلٌ فِي صِحَّتِهِ وَإِقَامَتِهِ عَزْمُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ , وَقَدْ فَعَلَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ مَا أَمْكَنَهُ , فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ . كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ : فِيمَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ يُدْرِكُ الْجَمَاعَةَ فَوَجَدَهَا قَدْ فَاتَتْ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ , وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا , وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ , قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ , قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } الْآيَةُ . فَهَذَا وَمِثْلُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْذُورَ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ الصَّحِيحِ , إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَفْعَلَ , وَقَدْ عَمِلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ , وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُ عَمَلِهِ مِثْلَ عَمَلِ الصَّحِيحِ , فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ نَفْسَهَا فِي الْأَجْرِ مِثْلُ صَلَاةِ الصَّحِيحِ , وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ وَالْمَعْذُورِ فِي نَفْسِهَا مِثْلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ , وَإِنَّمَا فِيهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ , كَمَا يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ إذَا فَاتَتْهُ مَعَ
قَصْدِهِ لَهَا . وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَعْذُورٍ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ عَمَلِ الصَّحِيحِ , وَإِنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ إذَا كَانَ يَقْصِدُ عَمَلَ الصَّحِيحِ , وَلَكِنْ عَجَزَ عَنْهُ . فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ عَادَتُهُ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ وَالصَّلَاةُ قَائِمًا , ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ , فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ . وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ , وَكَذَلِكَ مَنْ تَطَوَّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ , وَقَدْ كَانَ يَتَطَوَّعُ فِي الْحَضَرِ , قَائِمًا يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الْإِقَامَةِ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ , وَلَا الصَّلَاةَ قَائِمًا إذَا مَرِضَ , فَصَلَّى وَحْدَهُ , أَوْ صَلَّى قَاعِدًا , فَهَذَا لَا يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ . وَمَنْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ صَلَاةَ هَذَا قَاعِدًا مِثْلَ صَلَاةِ الْقَائِمِ , وَصَلَاتَهُ مُنْفَرِدًا مِثْلَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ , وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ , وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ . وَأَيْضًا فَيُقَالُ : تَفْضِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ , وَلِصَلَاةِ الْقَائِمِ عَلَى الْقَاعِدِ , وَالْقَاعِدِ عَلَى الْمُضْطَجِعِ , إنَّمَا دَلَّ عَلَى فَضْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ , حَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ صَحِيحَةً . أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَفْضُولَةِ تَصِحُّ حَيْثُ تَصِحُّ تِلْكَ , أَوْ لَا تَصِحُّ فَالْحَدِيثُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ , وَلَا سِيقَ الْحَدِيثُ لِأَجْلِ بَيَانِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَفَاسِدِهَا ;
بَلْ وُجُوبُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ , وَسُقُوطِ ذَلِكَ , وَوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ وَسُقُوطِهَا : يُلْتَقَى مِنْ أَدِلَّةٍ أُخَرَ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَوْنُ هَذَا الْمَعْذُورِ يُكْتَبُ لَهُ تَمَامُ عَمَلِهِ أَوْ لَا يُكْتَبُ لَهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ , بَلْ يُلْتَقَى مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ , وَقَدْ بَيَّنَتْ سَائِرُ النُّصُوصِ أَنَّ تَكْمِيلَ الثَّوَابِ هُوَ لِمَنْ كَانَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الْفَاضِلَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ , لَا لِكُلِّ أَحَدٍ . وَأَثْبَتَتْ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ , كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { صَلِّ قَائِمًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا , فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ } . وَبَيَّنَ جَوَازَ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا لَمَّا رَآهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ قُعُودًا , فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ , وَكَانَ يُصَلِّي قَاعِدًا مَعَ كَوْنِهِ كَانَ يَتَطَوَّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ . كَذَلِكَ تُثْبِتُ نُصُوصٌ أُخَرُ وُجُوبَ الْجَمَاعَةِ فَيُعْطِي كُلَّ حَدِيثٍ حَقَّهُ , فَلَيْسَ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ وَلَا تَنَافٍ , وَإِنَّمَا يُظَنُّ التَّعَارُضُ وَالتَّنَافِي مَنْ حَمَّلَهَا مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ , وَلَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا بِسُوءِ نَظَرِهِ وَتَأْوِيلِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
236 - 236 - 152 - مَسْأَلَةٌ : فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : { شَهِدْت حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخِيفِ , فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا , فَقَالَ : عَلَيَّ بِهِمَا , فَإِذَا بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا , فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّا كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا , قَالَ : فَلَا تَفْعَلَا , إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ , فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } . وَالثَّانِي : عَنْ { سُلَيْمَانَ بْنِ سَالِمٍ قَالَ : رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَالِسًا عَلَى الْبَلَاطِ , وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ , فَقُلْت : يَا عَبْدَ اللَّهِ , مَالَك لَا تُصَلِّي ؟ فَقَالَ : إنِّي قَدْ صَلَّيْتُ , وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا تُعَادُ صَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ } فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا , وَهَذَا ؟ الْجَوَابُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ فِي الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ , وَأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ , إذْ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ , كَانَ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ مَرَّاتٍ , وَالْعَصْرَ مَرَّاتٍ , وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَمِثْلُ هَذَا لَا رَيْبَ فِي كَرَاهَتِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْأَسْوَدِ : فَهُوَ إعَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ
بِسَبَبٍ اقْتَضَى الْإِعَادَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا , ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ , فَصَلِّيَا مَعَهُمْ , فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } فَسَبَبُ الْإِعَادَةِ هُنَا حُضُورُ الْجَمَاعَةِ الرَّاتِبَةِ , وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً رَاتِبَةً أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ . لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْإِعَادَةَ مُطْلَقًا , كَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهَا إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَكْمَلَ , كَمَالِكٍ . فَإِذَا أَعَادَهَا فَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ , عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } " وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا , فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا , ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } وَهَذَا أَيْضًا يَتَضَمَّنُ إعَادَتَهَا لِسَبَبٍ , وَيَتَضَمَّنُ أَنَّ الثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ . وَقِيلَ الْفَرِيضَةُ أَكْمَلُهُمَا . وَقِيلَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ . وَمِمَّا جَاءَ فِي الْإِعَادَةِ لِسَبَبٍ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا يُصَلِّي مَعَهُ } . فَهُنَا هَذَا الْمُتَصَدِّقُ قَدْ أَعَادَ الصَّلَاةَ لِيَحْصُلَ لِذَلِكَ الْمُصَلِّي فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ , ثُمَّ الْإِعَادَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَقْتَ النَّهْيِ , وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُشْرَعُ وَقْتَ النَّهْيِ . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ : فَهَلْ تُعَادُ عَلَى
صِفَتِهَا ؟ أَمْ تُشْفَعُ بِرَكْعَةٍ ؟ أَمْ لَا تُعَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ لِلْفُقَهَاءِ . وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْإِعَادَةُ لِسَبَبٍ مَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ , صَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ سَلَّمَ , ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةٍ أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ سَلَّمَ , وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُنَا إعَادَةٌ أَيْضًا , وَصَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ . وَالْعُلَمَاءُ الْمُتَنَازِعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا : وَهِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مِثْلَ حَالِ الْخَوْفِ , وَالْحَاجَةِ إلَى الِائْتِمَامِ بِالْمُتَطَوِّعِ , وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا كَرِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ عَنْ أَحْمَدَ . وَيُشْبِهُ هَذَا إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا ; فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ , بَلْ لَوْ صَلَّى عَلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً ثُمَّ حَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَهَلْ يُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ : قِيلَ : يُصَلِّي عَلَيْهَا , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَيُصَلِّي عِنْدَهُمَا عَلَى الْقَبْرِ , لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَ مَا صَلَّى
عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ , كَمَا يَنْهَيَانِ عَنْ إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ , قَالُوا : لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالصَّلَاةِ الْأُولَى , فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ نَافِلَةً , وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا . وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ , وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يُجِيبُونَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الثَّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا عَمَّنْ فَعَلَهَا , وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ : أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا أَسْقَطَ بِهَا فَرْضَ نَفْسِهِ , وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ فَعَلَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ , وَبَيْنَ أَنْ يُسْقِطَ الْفَرْضَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ نَافِلَةٌ , وَيَمْنَعُونَ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا , بَلْ قَدْ يُتَطَوَّعُ بِهَا , إذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْجِنَازَةَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ أَوَّلًا : فَهَلْ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ تَبَعًا ؟ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمَكْتُوبَةِ , عَلَى وَجْهَيْنِ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ هُنَا ; لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَا نَفْلٌ بِلَا نِزَاعٍ . وَهِيَ لَا يُنْتَفَلُ بِهَا . وَقِيلَ : بَلْ لَهُ الْإِعَادَةُ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ , صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى أَوَّلًا . وَهَذَا أَقْرَبُ , فَإِنَّ هَذِهِ الْإِعَادَةَ
بِسَبَبٍ اقْتَضَاهُ , لَا إعَادَةً مَقْصُودَةً وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَالْجِنَازَةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَلَمْ نَعْلَمْ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا , وَقِرَاءَتُهُ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مَعَهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ , بَلْ نَقُولُ : لَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالِاسْتِمَاعِ مُسْتَحَبَّةً , لَاسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ , وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ السُّكُوتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ , وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُونَ , وَلَا نَقَلَ هَذَا أَحَدٌ عَنْهُ , بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ سُكُوتُهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِلِاسْتِفْتَاحِ , وَفِي السُّنَنِ : { أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ سَكْتَةٌ . فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ , وَسَكْتَةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ } . وَهِيَ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لِلْفَصْلِ لَا تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ كَانَتْ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّهُ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ سَكَتَاتٍ , وَلَا أَرْبَعُ سَكَتَاتٍ , فَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سَكَتَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا لَمْ
يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَالسَّكْتَةُ الَّتِي عَقِبَ قَوْلِهِ : { وَلَا الضَّالِّينَ } مِنْ جِنْسِ السَّكَتَاتِ الَّتِي عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى سُكُوتًا ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ يَقْرَأُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَصْحَابِنَا يَقْرَأُ عَقِبَ السُّكُوتِ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ . فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سُكُوتِ الْإِمَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ : لَا سُكُوتَ فِي الصَّلَاةِ بِحَالٍ , وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَقِيلَ : فِيهَا سَكْتَةٌ وَاحِدَةٌ لِلِاسْتِفْتَاحِ , كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ فِيهَا : سَكْتَتَانِ , وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ : سَكْتَةٌ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ , وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ السُّورَةِ الثَّانِيَةِ . قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ } فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , فَقَالَ : كَذَبَ سَمُرَةُ فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَدِينَةِ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ , فَقَالَ : صَدَقَ سَمُرَةُ , رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ , وَالتِّرْمِذِيُّ , وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : { سَكْتَةٌ إذَا كَبَّرَ . وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ { غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } } وَأَحْمَدُ رَجَّحَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَاسْتَحَبَّ السَّكْتَةَ الثَّانِيَةَ ; لِأَجْلِ الْفَصْلِ , وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَدُ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ , وَلَكِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ , لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ , فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ . وَالسَّكْتَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ قَدْ نَفَاهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ , وَذَلِكَ أَنَّهَا سَكْتَةٌ يَسِيرَةٌ , قَدْ لَا يَنْضَبِطُ مِثْلُهَا , وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْكُتْ إلَّا سَكْتَتَيْنِ , فَعُلِمَ أَنَّ إحْدَاهُمَا طَوِيلَةٌ وَالْأُخْرَى بِكُلِّ حَالٍ لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً مُتَّسِعَةً لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ خَلْفَهُ إمَّا فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى وَإِمَّا فِي الثَّانِيَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ , فَكَيْفَ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ خَلْفَهُ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ , مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَحَقَّ النَّاسِ بِعِلْمِهِ , وَعَمَلِهِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ . وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ بِالْجَهْرِ اسْتِمَاعُ الْمَأْمُومِينَ , وَلِهَذَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ دُونَ السِّرِّ , فَإِذَا كَانُوا
مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ فَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحَدِّثَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِحَدِيثِهِ , وَيَخْطُبَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِخُطْبَتِهِ , وَهَذَا سَفَهٌ تُنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ . وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } فَهَكَذَا إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ , لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِهَا , لَا بِقِرَاءَةٍ , وَلَا ذِكْرٍ , وَلَا دُعَاءٍ , فَفِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَفْتِحُ , وَلَا يَتَعَوَّذُ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ . وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ , هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَدَ . قِيلَ : إنَّهُ حَالَ الْجَهْرِ يَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ , وَلَا يَقْرَأُ ; لِأَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ ; بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ , فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُمَا . وَقِيلَ : يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ , لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ تَابِعٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ , فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ لَا يَتَعَوَّذُ . وَقِيلَ : لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ حَالَ الْجَهْرِ , وَهَذَا أَصَحُّ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ , وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ , هَلْ يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِفْتَاحِ , أَوْ الِاسْتِعَاذَةِ , أَوْ بِأَحَدِهِمَا أَوْ لَا يَشْتَغِلُ إلَّا بِالْقِرَاءَةِ لِكَوْنِهَا مُخْتَلَفًا فِي وُجُوبِهَا . وَأَمَّا فِي حَالِ الْجَهْرِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ الْإِنْصَاتِ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ هُوَ فِي حَالِ الْجَهْرِ , لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّعْلِيلِ , وَأَمَّا فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ , وَاسْتِفْتَاحُهُ حَالَ سُكُوتِ
الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالِاسْتِمَاعِ , بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا , فَيُقَالُ : وَكَذَلِكَ الِاسْتِفْتَاحُ هَلْ يَجِبُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةُ فِي حَالِ الْجَهْرِ , وَاخْتَارَ ابْنُ بَطَّةَ وُجُوبَ الِاسْتِفْتَاحِ , وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ حَالَ الْمُخَافَتَةِ أَفْضَلُ فِي مَذْهَبِهِ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ , فَقَدْ غَلَطَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَلَكِنْ هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ اسْتَحَبَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ الْجَهْرِ , وَهَذَا مَا عَلِمْتُ أَحَدًا قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ , قَبْلَ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ , وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ أَحْمَدَ وَلَا عَامَّةِ أَصْحَابِهِ , مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْأَحْكَامِ بِالْخِلَافِ عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , فَإِنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يُعَلِّقُ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يَسْلُكُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ , لِطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ . وَعَلَى هَذَا فَفِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ الِاسْتِفْتَاحِ الِاسْتِعَاذَةُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالصَّوَابُ : أَنَّ
الِاسْتِعَاذَةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِمَنْ قَرَأَ , فَإِنْ اتَّسَعَ الزَّمَانُ لِلْقِرَاءَةِ اسْتَعَاذَ وَقَرَأَ , وَإِلَّا أَنْصَتَ . وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي : وَهُوَ الْقِرَاءَةُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ كَحَالِ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ وَسُكُوتِهِ , فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهَا يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ , فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ , وَمَا وَرَدَ مِنْ الْفَضْلِ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ , أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ : الم حَرْفٌ , وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ , وَلَامٌ حَرْفٌ , وَمِيمٌ حَرْفٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ , الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ - ثَلَاثًا أَيْ : غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : إنِّي أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ , فَنِصْفُهَا لِي , وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي , فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ
اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي , فَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي , وَقَالَ مَرَّةً : فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي , وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ , فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي , وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ , فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ : بِ { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } , فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : أَيُّكُمْ قَرَأَ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ - قَالَ رَجُلٌ : أَنَا , قَالَ : قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَهَذَا قَدْ قَرَأَ خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَلَمْ يَنْهَهُ وَلَا غَيْرَهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ , لَكِنْ قَالَ : { قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا } أَيْ نَازَعَنِيهَا . كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } . وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ } فَهَذَا كَرَاهَةٌ مِنْهُ لِمَنْ نَازَعَهُ وَخَالَجَهُ , وَخَلَطَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ , وَهَذَا لَا يَكُونُ مِمَّنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ , وَإِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ أَسْمَعَ غَيْرَهُ , وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ لِغَيْرِهِ , لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ
قَارِئًا خَلْفَ الْإِمَامِ , وَأَمَّا مَعَ مَخَافَتِهِ الْإِمَامَ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ بِالنَّهْيِ عَنْهُ , وَلِهَذَا قَالَ : " أَيُّكُمْ الْقَارِئُ ؟ " . أَيْ الْقَارِئُ الَّذِي نَازَعَنِي , لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْقَارِئَ فِي نَفْسِهِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَازِعُ , وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ خَالَجَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَاهَةُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ إنَّمَا هِيَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ , أَوْ إذَا نَازَعَ غَيْرَهُ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إنْصَاتٌ مَأْمُورٌ بِهِ , وَلَا مُنَازَعَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ . وَالْقَارِئُ هُنَا لَمْ يَعْتَضْ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِاسْتِمَاعٍ , فَيَفُوتُهُ الِاسْتِمَاعُ وَالْقِرَاءَةُ جَمِيعًا , مَعَ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي وَحُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ , فَخِلَافُ وُجُوبِهَا فِي حَالِ الْجَهْرِ , فَإِنَّهُ شَاذٌّ حَتَّى نَقَلَ أَحْمَدُ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ . وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ : { قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ , فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } } أَنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ . وَأَيْضًا فَجَمِيعُ الْأَذْكَارِ الَّتِي يُشْرَعُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ , وَكَالتَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ , فَلِأَيِّ مَعْنًى لَا تُشْرَعُ الْقِرَاءَةُ فِي السِّرِّ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ السِّرِّ , وَلَا يُؤَمِّنُ عَلَى