كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية
مُحَلِّلًا , وَإِنْ نِكَاحَ رَغْبَةٍ فَيَدْخُلُ فِي اللَّعْنَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا , فَعُلِمَ أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَجَعَلَهَا حَلَالًا وَلَيْسَتْ بِحَلَالٍ ; لِأَنَّهُ حَلَّلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِتَدْلِيسِهِ وَتَلْبِيسِهِ وَقَصَدَ أَنْ يُحِلَّهَا , فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَاصِدًا لِلتَّحْلِيلِ , وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَرِّمَ هُوَ مَنْ جَعَلَ الشَّيْءَ حَلَالًا وَحَرَامًا , إمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي الِاعْتِقَادِ , ثُمَّ إنَّهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ أَحَلَّ الشَّيْءَ إذَا أَطْلَقَهُ لِمَنْ يُطِيعُهُ . وَحَرَّمَهُ إذَا مَنَعَ مَنْ يُطِيعُهُ مِنْهُ , كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُزَكِّي فُلَانًا وَيُعَدِّلُهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُكَذِّبُهُ إذَا كَانَ يَجْعَلُهُ كَذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِ , سَوَاءٌ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
الْمَسْلَكُ الثَّانِي : مَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ثِنَا ابْنُ مَرْيَمَ , أَنْبَأَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنُ أَبِي حَبِيبَةَ , عَنْ دَاوُد بْنِ حُصَيْنٍ , عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَلِّلِ , فَقَالَ : لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ لَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ يَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ } وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينِ فِي غَرَائِبِ السُّنَنِ , وَالدُّلْسَةُ مِنْ التَّدْلِيسِ , وَهُوَ الْكِتْمَانُ وَالتَّغْطِيَةُ لِلْعُيُوبِ , وَالْمُدَالَسَةُ الْمُخَادَعَةُ , يُقَالُ فُلَانٌ لَا يُدَالِسُكَ , أَيْ لَا يُخَادِعُك , وَلَا يُخْفِي عَلَيْك الشَّيْءَ فَكَأَنَّهُ يَأْتِيَك فِي الظَّلَامِ , وَالدَّلَسُ بِالتَّحْرِيكِ الظُّلْمَةُ , وَذَلِكَ لَا مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ فَقَدْ دَلَّسَ مَقْصُودَهُ الَّذِي يُبْطِلُ الْعَقْدَ , وَكَتَمُ النِّيَّةَ الرَّدِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَادِعِ الْمُدَالِسِ الَّذِي يَكْتُمُ الشَّرَّ وَيُظْهِرُ الْخَيْرَ . وَإِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ جَيِّدٌ إلَّا إبْرَاهِيمَ بْنَ إسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ هُوَ صَالِحٌ , وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ هُوَ ثِقَةٌ , مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ مُصَلِّيًا عَابِدًا صَامَ سِتِّينَ سَنَةً , وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ فِي رِوَايَةِ الدَّوْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ , وَقَالَ النَّسَائِيّ ضَعِيفٌ , وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ هُوَ صَالِحٌ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ , وَنَكْتُبُ حَدِيثَهُ عَلَى ضَعْفِهِ , وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَدْلٌ مِنْ الْقَوْلِ فَإِنَّ فِي الرَّجُلِ ضَعْفًا لَا مَحَالَةَ , وَضَعْفُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْحِفْظِ وَعَدَمِ الْإِتْقَانِ لَا مِنْ جِهَةِ التُّهْمَةِ , وَلَهُ عِدَّةُ أَحَادِيثَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ , رَوَى مِنْهَا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ , فَمِثْلُ هَذَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ , وَقَدْ جَاءَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ يُوَافِقُ هَذَا . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ : ثِنَا حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ; فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ , وَلَا عِلْمِهَا فَأَخْرَجَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَتَزَوَّجَهَا لِيُحَلِّلَهَا لَهُ . فَقَالَ : لَا , ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ , فَقَالَ : { لَا حَتَّى يَنْكِحَهَا مُرْتَغِبًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا مُرْتَغِبًا لِنَفْسِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ } . وَهَذَا الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ ; لِأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ احْتَجَّ بِهِ , وَلَوْلَا ثُبُوتُهُ عِنْدَهُ لَمَا جَازَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدَهُ . وَإِذَا كَانَ التَّابِعِيُّ قَدْ قَالَ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَبَتَ عِنْدِي كَفَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ , عَنْ صَحَابِيٍّ أَوْ عَنْ تَابِعِيٍّ آخَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ , وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ يَسْهُلُ الْعِلْمُ بِثِقَةِ الرَّاوِي . وَمُوسَى بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ , هَذَا ثِقَةٌ ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ , وَرَوَى عَنْ
يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ هُوَ ثِقَةٌ . وَذَكَرَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ قَالَ هُوَ ثِقَةٌ . وَنَاهِيَك بِمَنْ يُوَثِّقُهُ هَذَانِ مَعَ صُعُوبَةِ تَزْكِيَتِهِمَا , وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَخْرَجَهُ وَأَمَّا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ وَيُعْرَفُ بِالرَّاوِي مِنْ مَشَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فَهَذَا الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ جَيِّدَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ . ثُمَّ الْحَدِيثَانِ إذَا كَانَ فِيهِمَا ضَعْفٌ قَلِيلٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ ضَعْفُهُمَا إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ سُوءِ الْحِفْظِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , إذَا كَانَا مِنْ طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَضَّدَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ , فَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا مَحْفُوظًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يُؤَيِّدُ ذَلِكَ هُنَا : أَنَّ عُمَرَ أَكْثَرُ عِلْمِهِ مِنْ جِهَةِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَذَلِكَ الْمُسْنَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَأَنْ يَكُونَ ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ حَفِظَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ كَمَا رَوَاهُ عُمَرُ مُرْسَلًا , لَا سِيَّمَا وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفُتْيَاهُ تُوَافِقُ هَذَا , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ امْرَأَةٌ تَزَوَّجْتهَا أُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا لَمْ يَأْمُرْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ . قَالَ : لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ إنْ أَعْجَبَتْكَ أَمْسَكْتَهَا وَإِنْ كَرِهْتَهَا فَارَقْتَهَا , قَالَ وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ سِفَاحًا , لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , ذَكَرَهُ أَبُو
إِسْحَاقَ التَّغْلِبِيُّ وَالْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَاللَّفْظُ فِيهِ اخْتِلَافٌ , وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى إسْنَادِهِ ثُمَّ وَقَفْت عَلَى إسْنَادِهِ , رَوَاهُ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ أَبِي غَسَّانَ الْمَدَنِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا هَذَا السَّائِلُ عَنْ غَيْرِهِ مُؤَامَرَةً مِنْهُ أَتَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا , قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ كُنَّا نَعُدُّهُ سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهَذَا الْإِسْنَادُ جَيِّدٌ , رِجَالُهُ مَشَاهِيرُ ثِقَاتٌ وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَكْتُومَ كَانُوا يَعُدُّونَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِفَاحًا .
وَيُقَالُ لِمَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلٌ فَصَارَ الْمُحَلِّلُ يُقَالُ لِأَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : لِمَنْ أَثْبَتَ الْحِلَّ الشَّرْعِيَّ حَقِيقَةً أَوْ إظْهَارًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } , وَالثَّانِي : لِمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُحَلِّلُ الْمُتْعَةَ وَيُحَلِّلُ نِكَاحَ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ . وَالثَّالِثُ : لِمَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَكَمَا يُقَالُ السُّلْطَانُ قَدْ حَرَّمَ الْفُلُوسَ وَأَحَلَّهَا . وَالرَّابِعُ : لِمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَكُلُّ مِنْ أَثْبَتَ الْمَصْدَرَ الثُّلَاثِيَّ فِي الْوُجُودِيِّ الْعَيْنِيِّ أَوْ الْعِلْمِيِّ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ جَازَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصِدْ الْأَوَّلَ وَلَا الثَّانِيَ , فَثَبَتَ أَنَّهُ قَصَدَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ , وَهُوَ الْمَقْصُودُ نَعَمْ تَسْمِيَةُ الْفَرَسِ مَعَ الْفَرَسَيْنِ مُحَلِّلًا هُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ . فَإِنْ قِيلَ : نَحْمِلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى شَرْطِ التَّحْلِيلِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ , وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَخْصِيصٌ , فَالْمُوجِبُ لَهُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْعَقْدِ مَا قَارَنَتْهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَتْهُ كَمَا فِي الشُّرُوطِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْبَيْعِ , أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ دُونَ مَنْ نَوَاهُ ; لِأَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ظَاهِرُهَا دُونَ بَاطِنِهَا , وَإِلَّا لَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْعَاقِدِ الْآخَرِ , فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى نِيَّةِ الْآخَرِ ; وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَفْتَقِرُ
إلَى الشَّهَادَةِ فَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ لَمْ تَنْفَعْ الشَّهَادَةُ , إذَا كَانَ قَصْدُ الرَّغْبَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِنِيَّةِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَلَا يَهَبَهُ صَحَّ ذَلِكَ , وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِيهِ كَانَ فَاسِدًا , فَعُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ كَالشَّرْطِ , هَذَا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ التَّحْلِيلِ يَعُمُّ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ وَغَيْرَهُ , وَإِلَّا فَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمُحَلِّلَ إنَّمَا هُوَ مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ , فَأَمَّا مَنْ نَوَاهُ فَلَيْسَ هُوَ مُحَلِّلًا أَصْلًا فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ , وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَخْصِيصًا وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْعَقْدِ اسْمًا وَحُكْمًا مَا قَارَنَهُ وَهُوَ الَّذِي يَخْتَلِفُ الْإِسْلَامُ بِاخْتِلَافِهِ , فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْبَاطِنِ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ الِاسْمِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقَاصِدَ لِلتَّحْلِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مُحَلِّلٌ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ دُخُولِهِ , قُلْنَا الْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اسْمَ الْمُحَلِّلِ يَعُمُّ الْقَاصِدَ وَالشَّارِطَ فِي الْعَقْدِ , وَقَبْلَهُ بِمَعْنَى أَنَّ لَفْظَ الْمُحَلِّلِ يَقَعُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ , وَأَنَّ عُمُومَهُ مُرَادٌ . أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدِهَا : أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقَاصِدَ لِلتَّحْلِيلِ مُحَلِّلًا , وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ , وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
الْمُحَلِّلُ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلًا وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ , وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُحَلِّلُ عَامًّا لِكُلِّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ , وَإِلَّا كَانَ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِ الشَّارِطِ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ الْمَجَازِ , وَهَذَا لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا لِمُوجِبٍ وَلَا مُوجِبَ مِثْلَ مَا سَيَأْتِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ قَالَ : لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ , وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً , إذَا عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمَا أَرَادَا أَنْ يُحَلِّلَاهَا , وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ عَمَّنْ يَقْصِدُ التَّحْلِيلَ , وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ , فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ سُمِّيَ مُحَلِّلًا , وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ : إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمَا مُحَلَّلَانِ لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ , فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَاصِدِ اسْمَ الْمُحَلِّلِ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا فَقَالَ : " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ هُمَا زَانِيَانِ " فَسُئِلَ عَمَّنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ فَأَجَابَ بِلَعْنَةِ الْمُحَلِّلِ وَالْمُحَلَّلِ لَهُ , فَعُلِمَ دُخُولُ الْقَاصِدِ فِي الْمُحَلِّلِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَابَ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَلْفَاظِ السَّلَفِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ , وَكَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ مَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقَاصِدَ لِلتَّحَلُّلِ مُحَلِّلًا , وَيَدْخُلُ عِنْدَهُمْ فِي الِاسْمِ
إذْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ مُحَلِّلًا لِعَدَمِ الشَّارِطِ فِي الْعَقْدِ عِنْدَهُمْ أَوْ لِقِلَّتِهِ . الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْهُمْ الْجَوْهَرِيُّ الْمُحَلِّلُ فِي النِّكَاحِ الَّذِي يَتَزَوَّجُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَتَّى تَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ , فَجَعَلُوا كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَهَا لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ مُحَلِّلًا فِي اللُّغَةِ . الثَّالِثِ : اسْتِعْمَالُ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إلَى الْيَوْمِ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيُحِلَّهَا مُحَلِّلًا وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ . وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا , وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ اسْمَ الْمُحَلِّلِ كَانَ مَقْصُورًا فِي لُغَةِ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . عَلَى الشَّارِطِ فِي الْعَقْدِ وَإِلَّا لَمْ يَحْكُمْ بِأَنَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ أَوْ الْمُغَيَّرَةِ , فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ مُحَلِّلًا , وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ , وَكَذَلِكَ نَقَلَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلٌ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلٌ إذَا شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ صَحِيحٌ , وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَلِّلَ يَنْقَسِمُ إلَى قَاصِدٍ وَإِلَى شَارِطٍ , وَلَيْسَ تَصْحِيحُ بَعْضِهِمْ لِنِكَاحِ الْقَاصِدِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهُ مُحَلِّلًا كَمَا أَنَّ مَنْ صَحَّحَ نِكَاحَ الشَّارِطِ فَإِنَّهُ يُسَمِّيهِ أَيْضًا مُحَلِّلًا إذْ
الْفُقَهَاءُ إنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ النِّكَاحِ . لَا فِي اسْمِهِ فَثَبَتَ بِالنَّقْلِ وَاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى مُحَلِّلًا . الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ لِمَنْ حَلَّلَ الشَّيْءَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ لِمَنْ أَحَلَّ الْمَرْأَةَ وَحَلَّلَهَا , إذَا جَعَلَهَا حَلَالًا , وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا فَإِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِهِ مَنْ جَعَلَهَا حَلَالًا فِي حُكْمِ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ . وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَأَرَادَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى بِالْمُرِيدِ أَخَصُّ مِنْهُ بِالشَّارِطِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَنْ جَعَلَهَا حَلَالًا عِنْدَ النَّاسِ وَلَيْسَتْ حَلَالًا عِنْدَ اللَّهِ , فَهَذَا أَيْضًا فِي الْقَاصِدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الشَّارِطِ إذْ الشَّارِطُ قَدْ أَظْهَرَ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْدِ فَلَا يَحْصُلُ الْحِلُّ لَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ الْكَاتِمِ لِلْقَصْدِ فَعُلِمَ أَنَّ إظْهَارَ التَّحْلِيلِ أَوْ اشْتِرَاطَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمُحَلِّلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا كَانَ قَدْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَأَرَادَهُ . الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ يُسَمَّى مُحَلِّلًا , إذَا بَاشَرَ سَبَبَهُ , كَمَا يُسَمَّى مَنْ حَرَّمَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مُحَرِّمًا لِقَصْدِ التَّحْرِيمِ وَمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ , وَمَنْ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ يُسَمَّى مُحَلِّلًا لِاشْتِرَاطِهِ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ قِيَاسُ التَّصْرِيفِ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ , تُوجِبُ تَسْمِيَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُحَلِّلًا , لَمْ يَجُزْ سَلْبُ أَحَدِهِمَا اسْمَ
التَّحْلِيلِ , بَلْ يَكُونُ اللَّفْظُ شَامِلًا لَهُمَا , وَاعْلَمْ أَنَّا سَنُبَيِّنُ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّ الْحَدِيثَ قُصِدَ بِهِ وَعَنَى بِهِ مَنْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهُ , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرَادٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ أَيْضًا يَشْمَلُهُ , فَإِنَّا كَمَا نَسْتَدِلُّ بِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهُ عَلَى إرَادَتِهِ نَسْتَدِلُّ أَيْضًا بِإِرَادَتِهِ عَلَى شُمُولِ اللَّفْظِ لَهُ . وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّانِي فَنَقُولُ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عَنَى بِهِ كُلَّ مُحَلِّلٍ أَظْهَرَ التَّحْلِيلَ أَوْ أَضْمَرَهُ , وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ وَحْدَهُ وُجُوهٌ عَشَرَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَدِيثَ أَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَشْمَلَ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ وَالْمَقْصُودَ فَإِنَّ لَفْظَ التَّحْلِيلِ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَعْلُ الْمَرْأَةِ حَلَالًا , أَيْ قَصْدُ أَنْ تَكُونَ حَلَالًا , وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَصَدَ وَلَمْ يَشْرِطْ وَلَا مُوجِبَ لِتَخْصِيصِهِ , وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مُخَصِّصًا , بَلْ الْأَدِلَّةُ عَلَى عُمُومِ الْحُكْمِ تُعَضِّدُ هَذَا الْعُمُومَ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا تَنَاوَلَ صُوَرًا كَثِيرَةً مَوْجُودَةً وَأَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْصِبَ دَلِيلًا يُبَيِّنُ خُرُوجَ مَا لَمْ يُرِدْهُ , فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ الَّذِي يُظْهِرُ التَّحْلِيلَ , أَوْ الَّذِي يَشْتَرِطُ التَّحْلِيلَ أَوْ الَّذِي يَكْتُمُ التَّحْلِيلَ , وَلَمْ يَجِئْ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ مَا يُخَالِفُ هَذَا الْقَوْلَ
كَانَ الْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيِّنًا , وَعُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ مَفْهُومَهُ وَمَعْنَاهُ . الثَّانِي : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَصَدَ التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ خَاصَّةً أَوْ التَّحْلِيلَ الَّذِي تَوَاطَئُوا عَلَيْهِ دُونَ الْمَقْصُودِ . لَلَعَنَ الزَّوْجَةَ وَالْوَلِيَّ كَمَا لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ , وَلَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا , بَلْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَحَقُّ بِاللَّعْنِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ; لِأَنَّهَا شَارَكَتْ كُلًّا مِنْهُمَا فِيمَا يَفْعَلُهُ , فَصَارَ إثْمُهَا بِمَنْزِلَةِ إثْمِهِمَا جَمِيعًا , وَإِذَا كَانَ يَلْعَنُ الشَّاهِدَ وَالْكَاتِبَ فَالْوَلِيُّ وَالْعَاقِدُ أَوْلَى , فَلَمَّا خَصَّ بِاللَّعْنَةِ الزَّوْجَيْنِ عُلِمَ أَنَّهُ عَنَى التَّحْلِيلَ الْمَقْصُودَ الْمَكْتُومَ عَنْ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا , وَهُوَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الصَّدِيقُ مَعَ صَدِيقِهِ عِنْدَ الطَّلَاقِ مِنْ تَزَوُّجِهِ بِالْمُطَلَّقَةِ لِيُحِلَّهَا لَهُ وَهُمَا قَدْ عَلِمَا ذَلِكَ , وَالْمَرْأَةُ وَأَهْلُهَا لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَعَنَ شَاهِدَيْ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ لَعَنَ شَاهِدَيْ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَوْكَدُ , فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ ظَاهِرًا لَلَعَنَ الشَّاهِدَيْنِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ تَحْلِيلٌ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ , وَأَنَّ الْمُحَلِّلَ لَمْ يَكُنْ يُظْهِرُ تَحْلِيلَهُ لِأَحَدٍ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ
التَّحْلِيلَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ , فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ فَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَيَحُولُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ هَذَا النِّكَاحِ , كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ يَقُولُ هِيَ أُخْتُهُ أَوْ بِنْتُهُ أَوْ رَبِيبَتُهُ فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَنْ يَنْكِحَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَأَظْهَرَ فَسَادَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ , فَلَمَّا لَعَنَ الْمُحَلِّلَ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَخْفَى عَلَى الْعَامَّةِ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ نَكَحَ نِكَاحًا مُحَرَّمًا إلَّا الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , مَعَ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِثْلَ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوَهُنَّ مِثْلُ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَأَغْلَظُ , وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ بِإِظْهَارِ اللَّعْنِ بَيَانُ الْعُقُوبَةِ لِتَنْزَجِرَ النُّفُوسُ بِذَلِكَ , وَسَائِرُ الْأَنْكِحَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مُرِيدُهَا مِنْ فِعْلِهَا ; لِأَنَّ شَاهِدَيْ الْعَقْدِ وَالْوَلِيَّ وَغَيْرَهُمْ يَطَّلِعُونَ عَلَى السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ , فَلَا يُمَكِّنُونَهُ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرَّمَ فِي حَقِّهِ بَاطِنٌ , ثُمَّ تِلْكَ الْمَنَاكِحُ قَدْ ظَهَرَ تَحْرِيمُهَا فَلَا يُشْتَبَهُ حَالُهَا , بِخِلَافِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهُ قَدْ يُشْتَبَهُ حَالُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ; لِأَنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ
النِّكَاحِ الصَّحِيحِ , وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِاللَّعْنَةِ مَنْ أَسَرَّ التَّحْلِيلَ , ثُمَّ يَكُونُ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ أَظْهَرَهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَلَعَنَ بَائِعَ الْخَمْرِ وَمُبْتَاعَهَا . قِيلَ : الْبَيْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إشْهَادٍ وَإِعْلَانٍ فَتَقَعُ هَذِهِ الْعُقُودُ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا تَقَعُ الْفَاحِشَةُ وَالسَّرِقَةُ . وَلِهَذَا لَعَنَ الشَّاهِدَيْنِ إذَا عَلِمَا أَنَّهُ رِبًا , فَإِنَّهُمَا قَدْ يُسْتَشْهَدَانِ عَلَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَلَا يَشْعُرَانِ أَنَّهُ رِبًا , وَلَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْمُرْبِي غَالِبًا إلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ , وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ الشَّاهِدَيْنِ ; لِأَنَّ بَيْعَهَا لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَى أَجَلٍ . يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَلْعَنْ مَنْ عَقَدَ بَيْعًا مُحَرَّمًا إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالرِّبَا ; لِأَنَّ شَاهِدَيْ النَّوْعَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ فِيهِمَا الِاحْتِيَالُ وَالتَّأْوِيلُ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَصِيرَهُ لِمَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا , مُتَأَوِّلًا أَنَّى لَمْ أَبِعْ الْخَمْرَ , وَبِأَنْ يُرْبِيَ بِصُورَةِ الْبَيْعِ مُتَأَوِّلًا أَنَّى بَائِعٌ لَا مُرْبٍ , وَهُمَا اللَّذَانِ يَقَعُ الشَّرُّ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا , فَظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا لَعَنَ الْعُقُودَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ , صِنْفَ التَّحْلِيلِ وَصِنْفَ الرِّبَا وَصِنْفَ الْخَمْرِ , وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تَقَدَّمَ الْبَيَانُ بِأَنْ سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَحِلُّهَا , بِالتَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ , وَتَسْمِيَتِهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا فَخَصَّهَا
بِاللَّعْنَةِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَهَا غَيْرُ عَارِفِينَ بِأَنَّهَا مَعَاصٍ ; وَلِأَنَّ مَعْصِيَتَهُمْ تَبْطُلُ غَالِبًا , فَلَا تَتَمَكَّنُ الْأُمَّةُ مِنْ تَغْيِيرِهَا ; وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَاصِيَ يَجْتَمِعُ فِيهَا الدَّاعِي الطَّبِيعِيُّ إلَى الْمَالِ وَالْوَطْءِ وَالشُّرْبِ , مَعَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ , فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَتِهَا , وَلِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَنْ يَفْعَلُهَا فَتَقَدَّمَ بِلَعْنَتِهِ زَجْرًا عَنْ ذَلِكَ , بِخِلَافِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَنِكَاحِ الْأُمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ , وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَأَمَّلَهُ اللَّبِيبُ عَلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ لَعْنَةَ مَنْ أَبْطَنَ التَّحْلِيلَ , وَإِنْ كَانَ مَنْ أَظْهَرَهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَبِطَرِيقِ الْعُمُومِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ التَّحْلِيلَ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِرَغْبَةٍ مِنْ الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يُسِرَّ ذَلِكَ إلَى الْمُحَلِّلِ أَوْ يَشْرِطَهُ عَلَيْهِ , ثُمَّ يَعْقِدَ النِّكَاحَ مُطْلَقًا , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمَرْأَةِ , فَالِاشْتِرَاطُ فِي الْعَقْدِ نَادِرٌ جِدًّا , لَا سِيَّمَا اللَّفْظُ الَّذِي يَعْتَبِرُهُ هَذَا السَّائِلُ , وَهُوَ أَنْ يَقُولَ زَوَّجْتُك إلَى أَنْ تُحِلَّهَا أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا , أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا طَلَّقْتهَا , فَإِنَّ الْعَقْدَ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا نَادِرٌ أَوْ مَعْدُومٌ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ , وَاللَّفْظُ الْعَامُّ الشَّامِلُ لِصُوَرٍ كَثِيرَةٍ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى الصُّوَرِ الْقَلِيلَةِ دُونَ
الْكَثِيرَةِ , فَإِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْعَيِّ وَاللَّبْسِ وَكَلَامُ الشَّارِعِ مُنَزَّهٌ عَنْهُ , وَكَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ } فَإِنَّ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ مُمْتَنِعٌ بِلَا رَيْبٍ عِنْدَ كُلِّ ذِي لُبٍّ , وَمَنْ عَرَفَ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ , كَيْفَ كَانَتْ إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ الْمَذْكُورَةَ لِلتَّحْلِيلِ مِثْلُ قَوْلِهِ زَوَّجْتُك عَلَى أَنَّك تُطَلِّقُهَا إذَا أَحْلَلْتهَا , أَوْ عَلَى أَنَّك إذَا وَطِئْتهَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا , لَمْ تَكُنْ تُعْقَدُ بِهَا الْعُقُودُ , عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ الْمَلْعُونَ فَاعِلَهُ هُوَ مَا كَانَ وَاقِعًا مِنْ قَصْدِ التَّحْلِيلِ وَإِرَادَتِهِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ الْمُحَلِّلَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّحْلِيلِ , وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَثْبَتَ الْحِلَّ حَقِيقَةً , فَإِنَّ هَذَا لَا يُعْلَنُ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِلَّا لَلَعَنَ كُلَّ مَنْ تَزَوَّجَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا , ثُمَّ طَلَّقَهَا فَعَلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى بِهِ أَنَّهُ أَرَادَ التَّحْلِيلَ وَسَعَى فِيهِ , وَالْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنَى كَانَ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ عِلَّةً فَيَكُونُ الْمُوجِبُ لِلَّعْنَةِ أَنَّهُ قَصَدَ الْحِلَّ لِلْأَوَّلِ , وَسَعَى فِيهِ , فَتَكُونُ اللَّعْنَةُ عَامَّةً لِذَلِكَ عُمُومًا مَعْنَوِيًّا , وَمِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَّا لِوُجُودِ مَانِعٍ وَلَا مَانِعَ مِنْ عُمُومِهِ , فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَالٍ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّا لَوْ قَصَرْنَاهُ عَلَى التَّحْلِيلِ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ هِيَ التَّحْلِيلَ وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ
التَّحْلِيلِ , بَلْ الْعِلَّةُ تَوْقِيتُ النِّكَاحِ أَوْ شَرْطُ الْفُرْقَةِ فِيهِ بِالْعَقْدِ , وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ قَصْدِ التَّحْلِيلِ فَكَيْفَ تُعَلِّقُ الْحُكْمَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مُنَاسِبٍ ثُمَّ لَا تَجْعَلُ الْعِلَّةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَقَّ مِنْهُ , وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِهِ , بَلْ شَيْئًا قَدْ يُوجِبُ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ , لَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَعَنَ اللَّهُ مَنْ شَرَطَ التَّحْلِيلَ فِي الْعَقْدِ , وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ هُوَ الْمَشْرُوطَ فِي الْعَقْدِ فَقَطْ , لَكَانَ إنَّمَا لُعِنَ ; لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نِكَاحٌ مُؤَقَّتٌ أَوْ مَشْرُوطٌ فِيهِ زَوَالَهُ , أَوْ الْفُرْقَةَ , وَحِينَئِذٍ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَاحَ لَمَّا كَانَتْ الْمُتْعَةُ مُبَاحَةً , وَأَنْ يَكُونَ فِي التَّحْرِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتْعَةِ , وَلَمَّا { لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } , وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ لَعْنُ الْمُسْتَمْتِعِ , وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أُبِيحَ التَّحْلِيلُ فِي الْإِسْلَامِ قَطُّ , بَلْ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَرَى إبَاحَةَ الْمُتْعَةِ وَيُفْتِي بِهَا , وَيَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , وَيَلْعَنُ هُوَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ , وَيُفْتِي بِتَحْرِيمِهِ وَيَقُولُ إنَّ التَّحْلِيلَ الْمَكْتُومَ مُخَادَعَةٌ لِلَّهِ , وَأَنَّهُ مَنْ يُخَادِعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ , عُلِمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ حُرِّمَ لِقَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُتْعَةِ , وَمَا
ذَاكَ إلَّا ; لِأَنَّ الْمُسْتَمْتِعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ , وَقَصَدَ إنْ كَانَتْ إلَى أَجَلٍ , وَالْمُحَلِّلَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا , وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ , فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَاشِيَةِ يَسْتَعِيرُ التَّيْسَ لَا لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالْقِنْيَةِ , وَلَكِنْ لِيُنْزِيَهُ عَلَى غَنَمِهِ , فَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ لَا رَغْبَةَ لِلْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا فِي مُصَاهَرَتِهِ وَمُنَاكَحَتِهِ وَاِتِّخَاذِهِ خَتَنًا , وَإِنَّمَا يَسْتَعِيرُونَهُ لِيُنْزُونَهُ عَلَى فَتَاتِهِمْ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ سَوَاءٌ شُرِطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّهُ قَرَنَهُ بِالْوَاشِمَةِ وَالْمُسْتَوْشِمَةِ وَالْوَاصِلَةِ وَالْمَوْصُولَةِ , فَلَا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ هُوَ التَّدْلِيسُ وَالتَّلْبِيسُ , فَإِنَّ هَذِهِ تُظْهِرُ مِنْ الْخِلْقَةِ مَا لَيْسَ لَهَا , وَكَذَلِكَ الْمُحَلِّلُ يُظْهِرُ مِنْ الرَّغْبَةِ مَا لَيْسَ لَهُ , وَكَذَلِكَ قَرَنَهُ بِآكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ كِلَاهُمَا يَسْتَحِلُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْمُخَادَعَةِ . وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا اسْتِحْلَالٌ لِلرِّبَا , وَهَذَا لِلزِّنَا وَالزِّنَا وَالرِّبَا فَسَادُ الْأَنْسَابِ وَالْأَمْوَالِ , وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثَ { مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ الْعِقَابَ } , وَإِذَا كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا التَّدْلِيسَ وَالْمُخَادَعَةَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي التَّحْلِيلِ الْمَكْتُومِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي التَّحْلِيلِ
الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّا سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ النَّصِّ فِي التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ , وَأَنَّ أَصْحَابَهُ بَيَّنُوا أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ مَا قُصِدَ بِالْعَقْدِ سَوَاءٌ شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ , وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَقْصُودِهِ وَأَعْرَفُ بِمُرَادِهِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ اللُّغَوِيِّ , وَبِأَسْبَابِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَبِدَلَالَاتِ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ رَوَى حَدِيثَ التَّحْلِيلِ , مِثْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ , وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا رَوَى الْحَدِيثَ وَفَسَّرَهُ بِمَا يُوَافِقُ الظَّاهِرَ وَلَا يُخَالِفُهُ , كَانَ الرُّجُوعُ إلَى تَفْسِيرِهِ وَاجِبًا مَانِعًا مِنْ التَّأْوِيلِ , وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ الْحَدِيثَ مُسْنَدًا فَقَدْ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا , وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ مِنْ إطْلَاقِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مَا قَصَدَ بِهِ التَّحْلِيلَ , وَإِنَّمَا نَهَى هَؤُلَاءِ عَنْهُ اسْتِدْلَالًا بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ , فَعُلِمَ أَنَّهُمْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْهُ . الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يَنْقَسِمُ إلَى حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَصَحِيحٍ وَفَاسِدٍ , مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ , وَكَذَلِكَ
أَصْحَابُهُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ وَأَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ , مِنْهَا مَا هُوَ نَصٌّ فِي التَّحْلِيلِ الْمَقْصُودِ وَمِنْهَا مَا هُوَ كَالنَّصِّ , فَلَوْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ التَّحْلِيلِ بَلْ أَكْثَرُهُ مُبَاحًا كَمَا يَقُولُهُ الْمُنَازِعُ , لَكَانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ فَضْلًا عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ وَلَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ , فَلَمَّا لَمْ يَفْصِلُوا وَلَمْ يُبَيِّنُوا كَانَ هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْقَطْعَ , أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلِيَّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ , وَأَنَّ جِنْسَ التَّحْلِيلِ حَرَامٌ فِيمَا عَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَا فَهِمُوهُ , وَهَذَا يُوجِبُ الْيَقِينَ التَّامَّ بَعْدَ اسْتِقْرَاءِ الْآثَارِ وَتَأَمُّلِهَا . فَإِنْ قِيلَ : تَسْمِيَتُهُ تَيْسًا مُسْتَعَارًا دَلِيلٌ عَلَى مُشَارَطَتِهِ عَلَى التَّحْلِيلِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ إنَّمَا يَكُونُ اسْتِعَارَةً إذَا اتَّفَقْنَا جَمِيعًا عَلَى التَّحْلِيلِ , وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ . قُلْنَا : الْمُسْتَعِيرُ لَهُ هُوَ الْمُطَلِّقُ , فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ كَانَ يَجِيءُ إلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُحَلِّلَ لَهُ الْمَرْأَةَ , فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّيْسِ الَّذِي اُسْتُعِيرَ لِيَنْزُوَ عَلَى الشَّاةِ ; لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي لَهُ غَرَضٌ فِي مُرَاجَعَةِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشَّاةِ الَّذِي لَهُ غَرَضٌ فِي إنْزَاءِ التَّيْسِ عَلَى شَاتِهِ , فَيَنْبَغِي مِنْهُ الْوَطْءُ كَمَا يَنْبَغِي مِنْ التَّيْسِ النُّزُوُّ , فَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَهُ إنَّمَا هُوَ الْمُطَلِّقُ لَمْ
يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَدْ شَارَطَتْهُ , فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مُشَبَّهَةٌ بِالشَّاةِ وَالشَّاةُ لَا تَسْتَعِيرُ , وَإِنَّمَا يُسْتَعَارُ لَهَا , وَلِهَذَا لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ , وَهُمَا الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَعَارُ , فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ إنَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ : أَنَّ التَّحْلِيلَ لَوْ كَانَ جَائِزًا لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا , فَإِنَّهُ كَانَ أَرْحَمَ النَّاسِ بِأُمَّتِهِ وَأَحَبَّهُمْ لِمَيَاسِيرِ الْأُمُورِ , وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا , وَقَدْ جَاءَتْهُ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ , كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ , وَهُوَ يُرْوَى مِنْ حِرْصِهَا عَلَى الْعَوْدِ إلَى زَوْجِهَا مَا يَرِقُّ الْقَلْبُ لِحَالِهَا وَيُوجِبُ إعَانَتَهَا عَلَى مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً , وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحْلِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا فَلَا يُحْصَى مَنْ يَتَزَوَّجُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً ثُمَّ يُفَارِقُهَا , وَلَوْ أَنَّهُ مَنْ قَدْ كَانَ يَسْتَمْتِعُ , وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ حَلِّلْ هَذِهِ لِزَوْجِهَا , فَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ , وَأَنَّ مَنْ أَمَرَ بِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَلَمْ تُسَمِّهِ
السُّنَّةُ حَتَّى تَعُدَّهَا إلَى بِدْعَةٍ زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لِمَنْ أَطَاعَهُ , وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ , وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَسْلَكَ وَعَلِمَ كَثْرَةَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ , وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْذَنُوا لِأَحَدٍ فِي تَحْلِيلٍ , عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ . فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْفِعْلِ إذَا كَانَ قَدِيمًا قَوِيًّا وَجَبَ وُجُودُهُ , إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ , فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ التَّحْلِيلُ مَعَ قُوَّةِ مُقْتَضِيهِ عُلِمَ أَنَّ فِي الدِّينِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ .
الْمَسْلَكُ السَّابِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } قَالَ هَذَا بَعْدَ أَنْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِدْيَتِهَا إنْ خِيفَ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَهُ حُدُودٌ وَهُوَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . فَإِذَا خِيفَ أَنْ يَكُونَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ , كَانَ افْتِدَاؤُهَا مِنْهُ جَائِزًا . ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا إذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ . إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ . فَإِنَّمَا أَبَاحَ مُعَاوَدَتَهَا لَهُ إذَا ظَنَّا إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ . كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ افْتِدَاءَهَا مِنْهُ إذَا خَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ , لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُنَا الْفِدَاءُ . وَيَكْفِي فِي إبَاحَةِ الْفُرْقَةِ خَوْفُ الذَّنْبِ فِي الْمُقَامِ وَالْمَشْرُوطُ هُنَا النِّكَاحُ . وَلَا بُدَّ فِي الْمُجَامَعَةِ مِنْ ظَنِّ الطَّاعَةِ . وَإِنَّمَا شَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ . فَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْحَالِ . هَلْ
تَبَدَّلَتْ أَوْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِخِلَافِ الزَّوْجِ الْمُبْتَدَإِ . فَإِنَّ ظَنَّ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَالٌ تُخَالِفُ هَذَا , وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ غَالِبًا إنَّمَا يَكُونُ عَنْ شَرٍّ فَإِذَا ارْتَجَعَا مُرِيدًا لِلشَّرِّ بِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ , بَلْ يَكُونُ تَسْرِيحُهَا هُوَ الْوَاجِبُ . لَكِنْ قَالَ هُنَاكَ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فَجَعَلَ الرَّدَّ إلَى الزَّوْجِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الرَّجْعِيَّةِ . وَقَالَ هُنَا أَنْ يَتَرَاجَعَا فَجَعَلَ التَّرَاجُعَ إلَى الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وَهِيَ لَا تَحِلُّ بَعْدَ الزَّوْجِ الثَّانِي إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ مَوْقُوفٍ عَلَى رِضَاهَا وَكَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ اجْتَمَعَ فِيهَا طَلْقَتَانِ وَفِدْيَةٌ وَطَلْقَةٌ ثَالِثَةٌ , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ , فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ , إنَّمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ الَّذِي قَدْ يُخَافُ فِيهِ مِنْ ضَرَرٍ لِمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ عُلِمَ أَنَّ النِّكَاحَ الْمُبَاحَ هُوَ النِّكَاحُ الَّذِي يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ فِي الْمُعَاشَرَةِ , وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَيْسَ هُوَ مِنْ هَذَا , فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ وَطْئِهَا فَلَيْسَ هُنَاكَ عِشْرَةٌ يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ , فَلَا يَكُونُ هَذَا الظَّنُّ شَرْطًا فِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ . وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِمَا لَوْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ أَنْ
يُحِلَّهَا لِلْمُطَلِّقِ الثَّانِي , فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ , وَنِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ أَنْ يَظُنَّ ذَلِكَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ بَلْ اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ , قِيلَ لَهُ إذَا قَالَ لَك الْمُحَلِّلُ أَنَا مِنْ نِيَّتِي أَنْ أَطَأَهَا السَّاعَةَ وَأُطَلِّقَهَا عَقِيبَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ هِيَ مِنْ نِيَّتِهَا ذَلِكَ فَهَلْ يُبَاحُ لَنَا ذَلِكَ , مَعَ إنْ أَقَمْنَا لَمْ نَظُنَّ أَنَّا نُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ , فَإِنْ قَالَ نَعَمْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ , وَإِنْ قَالَ لَا بَطَلَ مَذْهَبُهُ وَتَرَكَ أَصْلَهُ , يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ غَالِبَ الْمُحَلِّلِينَ أَعْنِي الرَّجُلَ الْمُحَلِّلَ وَالْمَرْأَةَ لَا يَظُنَّانِ أَنَّهُمَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي صَاحِبِهِ , وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهُ لِيُفَارِقَهُ وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ نِيَّتُهُ كَيْفَ يَظُنُّ أَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ , لَا سِيَّمَا إذَا تَشَارَطَا عَلَى ذَلِكَ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُعْتَبَرُ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ أَنْ يَظُنَّ إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ فِي السَّاعَةِ الَّتِي يُعَاشِرُهَا فِيهَا فَقَطْ ; لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حُسْنَ الْعِشْرَةِ سَاعَةً وَيَوْمًا لَا يَعْدَمُهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ , فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوطُ فَهَذَا حَاصِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِهِ , وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ { إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } قَالَ إنْ عَلِمَا أَنَّ نِكَاحَهُمَا عَلَى غَيْرِ
دُلْسَةٍ وَأَرَادَ بِالدُّلْسَةِ التَّحْلِيلَ , وَمَعْنَى كَلَامِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنْ عَلِمَ الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ وَالزَّوْجَةُ أَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ كَانَ عَلَى غَيْرِ دُلْسَةٍ , فَحِينَئِذٍ إذَا تَزَوَّجَهَا يَكُونُ بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مِنْ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَالنِّكَاحِ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ أَيْضًا , أَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا نِكَاحَ دُلْسَةٍ وَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَرَاجَعَا لَمْ يَكُونَا قَدْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ تَحْرِيمُهَا أَوَّلًا ثُمَّ حِلُّهَا لِلثَّانِي ثُمَّ حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ , فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي ظَنِّ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَظَنِّ حُسْنِ الْعِشْرَةِ , وَأَحَدُ الظَّنَّيْنِ لِأَجْلِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ , وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ , وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يَجْعَلْ الظَّنَّ عِلْمًا هُنَا , فَلَمْ يَرْفَعْ الْفِعْلَ حَتَّى تَكُونَ أَنَّ الْخَفِيفَةَ مِنْ الثَّقِيلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ يَقِينٌ , بَلْ نُصِبَ بِأَنَّ الْخَفِيفَةِ لِنَعْلَمَ أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ , وَلِأَنَّ كَوْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مُحَلِّلًا قَدْ لَا يُتَيَقَّنُ . وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِغَالِبِ الظَّنِّ , وَعَلَى هَذَا فَفِي الْآيَةِ حُجَّةٌ ثَابِتَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
الْمَسْلَكُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } , وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك } وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ مَاجَهْ { خَلَعْتُك رَاجَعْتُك } وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا عَنْ أَبِي بُرْدَةَ , فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهَا بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ , ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ جِمَاعٍ أَوْ بَعْدَهُ , وَيُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا , فَتَصِيرَ الْعِدَّةُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَهَكَذَا , فَسَّرَهُ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَوْ وَقَعَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ بِأَنْ يَرْتَجِعَهَا رَاغِبًا فِيهِ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَرْتَجِعُهَا رَاغِبًا ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيُطَلِّقُهَا لَمْ يُحَرَّمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ , لَكِنْ لَمَّا فَعَلَهُ لَا لِلرَّغْبَةِ لَكِنْ لِمَقْصُودٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيُطِيلَ
الْعِدَّةَ عَلَيْهَا حُرِّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ هُنَا لَمْ يُحَرَّمْ ; لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ ضَرَرٌ , فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحُرِّمَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الضَّرَرَ كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ بَعْدَ الْوَطْءِ قَبْلَ اسْتِبَانَةِ الْحَمْلِ , وَإِنَّمَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ قَصَدَ الضَّرَرَ , فَالضَّرَرُ هُنَا إنَّمَا حَصَلَ بِأَنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ فُرْقَةً تُوجِبُ ضَرَرًا لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ حَرَامًا , كَمَا أَنَّ الْمُحَلِّلَ قَصَدَ بِالْعَقْدِ فُرْقَةً تُوجِبُ تَحْلِيلًا لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ حَرَامًا , فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ لِغَيْرِ مَقْصُودِ الْعَقْدِ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ أَوْ لَا يَكُونَ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ وَالْفِعْلُ الْمَقْصُودُ هُنَا وَهُوَ الطَّلَاقُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ لَيْسَ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ , فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ , وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ , وَإِنْ كَانَ مُحَرِّمًا لِلْعَقْدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بَاطِلًا , وَذَلِكَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُنْضَمَّ إلَى النِّكَاحِ الْمُتَقَدِّمِ يُوجِبُ الْعِدَّةَ الْمُحَرِّمَةَ لِنِكَاحِهَا , وَيُوجِبُ حِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ , فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ النِّكَاحُ وُجُودَ تَحْرِيمٍ شُرِعَ ضِمْنًا , أَوْ وُجُودَ تَحْلِيلٍ شُرِعَ ضِمْنًا . فَإِنَّهُ مَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ التَّحْرِيمِ أَوْ التَّحْلِيلِ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا , وَمَتَى أَرَادَهُ الْإِنْسَانُ أَصْلًا وَقَصْدًا فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْعِدَّةِ , وَإِذَا وَقَعَ
كَانَتْ الْعِدَّةُ عِبَادَةً لِلَّهِ تُثَابُ الْمَرْأَةُ عَلَيْهَا إذَا قَصَدَتْ ذَلِكَ , كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ سَبَبٌ يُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ , وَالرَّجْعَةُ مَقْصُودُهَا الْمُقَامُ مَعَ الزَّوْجَةِ لَا فِرَاقُهَا . كَمَا أَنَّ النِّكَاحَ مَقْصُودُهُ ذَلِكَ , وَلَكِنْ فِي الْعِدَّةِ ضَرَرٌ بِالْمَرْأَةِ يُحْتَمَلُ مِنْ الشَّارِعِ إيجَابُ مَا يَتَضَمَّنُهُ , وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْ الْعَبْدِ قَصْدُ حُصُولِهِ , وَكَذَلِكَ مِنْ طَلَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي حِلٌّ لِمُحْرِمٍ , وَزَوَالُ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ يَتَضَمَّنُ زَوَالَ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمِ , فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْمُطَلِّقِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ , وَزَوَالُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ يُحْتَمَلُ مِنْ الشَّارِعِ إثْبَاتُ مَا يَتَضَمَّنُهُ , وَلَا يُحْتَمَلُ مِنْ الْعَبْدِ قَصْدُ حُصُولِهِ , وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ قَصْدِ تَحْلِيلِ مَا لَمْ يُشْرَعْ تَحْلِيلُهُ مَقْصُودًا . وَبَيْنَ قَصْدِ تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُشْرَعْ تَحْرِيمُهُ مَقْصُودًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَهَذَا الْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي قَاعِدَةِ الْحِيَلِ , وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا لِخُصُوصِهِ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ .
الْمَسْلَكُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } وَمِنْ آيَاتِ اللَّهِ شَرَائِعُ دِينِهِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ ; لِأَنَّهَا الطَّرِيقُ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْحَرَامُ مِنْ الْفُرُوجِ أَوْ يَحْرُمُ بِهَا الْحَلَالُ , وَهِيَ مِنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ , وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ , وَالْعُقُودُ دَلَائِلٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الْحَاصِلَةِ بِهَا , وَذِكْرُهُ هَذِهِ الْآيَةَ بَعْدَ أَنْ أَبَاحَ أَشْيَاءَ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْآيَاتِ , وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهَا عَقِيبَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا , وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِآيَاتِهِ طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ بَطَّةَ وَفِي لَفْظٍ لَهُ : { خَلَعْتُك رَاجَعْتُك طَلَّقْتُك رَاجَعْتُك } . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مِنْ آيَاتِهِ , وَإِذَا كَانَتْ مِنْ آيَاتِهِ فَاِتِّخَاذُهَا هُزُوًا فِعْلُهَا مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ حَقَائِقِهَا الَّتِي شُرِعَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ لَهَا , كَمَا أَنَّ اسْتِهْزَاءَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ { إذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا , وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } , فَيَأْتُونَ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ غَيْرَ مُعْتَقِدِينَ حَقِيقَتَهَا بَلْ مُظْهِرِينَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ , فَكُلُّ مَنْ أَتَى بِالرَّجْعَةِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهَا مَقْصُودَ النِّكَاحِ بَلْ الضِّرَارَ أَوْ نَحْوَهُ , أَوْ أَتَى
بِالنِّكَاحِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ مَقْصُودَ النِّكَاحِ بَلْ التَّحْلِيلَ وَنَحْوَهُ , فَقَدْ اتَّخَذَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا , حَيْثُ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي تُوجِبُهَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ مَقْصُودِ النِّكَاحِ , كَالْمُنَافِقِ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ سَوَاءً فَذَاكَ نِفَاقٌ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَهَذَا نِفَاقٌ فِي شَرَائِعِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ آمَنَّا كَقَوْلِهِ تَزَوَّجْت هُوَ إخْبَارٌ عَمَّا فِي بَاطِنِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّصْدِيقِ وَالْإِرَادَةِ مِنْ وَجْهٍ , وَهُوَ إنْشَاءُ الْعَقْدِ لِلْإِيمَانِ , وَعَقْدُ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَبْتَدِئُ الدُّخُولَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي بَاطِنِهِ مِنْ الِاعْتِقَادِ , إذْ لَا تَصْدِيقَ مَعَهُ وَلَا إرَادَةَ لَهُ وَلَا هُوَ دَاخِلٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالنِّكَاحِ , بَلْ إنَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ ذَلِكَ لِحُصُولِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ , فَلَيْسَ هُوَ صَادِقًا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إنْشَاءٌ وَلَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إخْبَارٌ . وَذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إمْسَاكَهُنَّ ضِرَارًا مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا , وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ الْمُمْسِكَ تَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ بَلْ إنَّمَا نَكَحَ لِيُطَلِّقَ , وَالطَّلَاقُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ وَلَا مِنْ الْمَقْصُودِ بِهِ , وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّحْلِيلَ مِنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ثَبَتَ أَنَّهُ
حَرَامٌ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِهِ فَسَادُهُ بِإِبْطَالِ مَقْصُودِ الْمُحَلِّلِ مِنْ ثُبُوتِ نِكَاحِهِ ثُمَّ نِكَاحِ الْمُطَلِّقِ , وَهَذَا الْوَجْهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ , فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِآيَاتِ الِاسْتِهْزَاءِ , فِي تَقْرِيرِ أَنَّ الْمَقَاصِدَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ , وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ دَلَّا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِهْزَاءِ فِي النِّكَاحِ بِخُصُوصِهِ , فَلِذَلِكَ ذُكِرَ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ , ثُمَّ لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إبْطَالِ الِاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللَّهِ , وَكَانَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْهَازِلِ وَالْمُحَلِّلِ بَطَلَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مَقْصُودُهُ , وَمَقْصُودُ الْهَازِلِ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ , فَصَحَّحَ عَقْدَهُ , وَمَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ هُوَ التَّحْلِيلُ فَلَا يَحْصُلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْلَكُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ مَا شُرِعَ لَهُ الْعَقْدُ , فَيَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الْعُقُودَ أَسْبَابًا إلَى حُصُولِ أَحْكَامٍ مَقْصُودَةٍ , فَشَرَعَ الْبَيْعَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْأَمْوَالِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ , وَالْهِبَةَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمَالِ تَبَرُّعًا , وَالنِّكَاحَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْبُضْعِ , وَالْخُلْعَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ , فَحَقِيقَةُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَمَقْصُودُهُمَا الْمُقَوِّمُ لَهُمَا الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُمَا بِدُونِهِ انْتِقَالُ الْمِلْكِ مِنْ مَالِكٍ إلَى مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ , وَمِلْكُ الْمَالِ هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ , وَحَقِيقَةُ النِّكَاحِ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِمَنْفَعَةِ الْمُتْعَةِ وَتَوَابِعِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَحَقِيقَةُ الْخُلْعِ وَمَقْصُودُهُ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَنْ تَمْلِكَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا , فَإِذَا تَكَلَّمَ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي هِيَ صُورَةُ هَذِهِ الْعُقُودِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لِمَقَاصِدِهَا وَحَقَائِقِهَا بِحَيْثُ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ حَقِيقَةُ الْعَقْدِ لَمْ يَرْضَ لِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اعْتَبَرَ الرِّضَا فِي الْبَيْعِ , فَهُوَ فِي النِّكَاحِ أَعْظَمُ اعْتِبَارًا , وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ إرَادَةٌ لَهُ وَرَغْبَةٌ فِيهِ , فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا وَلَا رَاغِبًا فِي مَقْصُودِ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ , فَلَا عَقْدَ لَهُ . الثَّانِي : أَنَّ عَقْدَ الْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ مَعَ أَنَّهُ قَدْ
تَكَلَّمَ بِالْعَقْدِ , وَمَا ذَاكَ إلَّا ; لِأَنَّهُ قَصَدَ بِلَفْظِ الْعَقْدِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ , لَا مُوجَبَ ذَلِكَ اللَّفْظِ , كَمَا قَصَدَ النَّاطِقُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا دَفْعَ الْعَذَابِ عَنْ نَفْسِهِ لَا حَقِيقَةَ الْكُفْرِ , وَكَذَلِكَ الْمُخَادِعُ مِثْلُ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ قَصَدَ بِلَفْظِ الْعَقْدِ رَفْعَ التَّحْرِيمِ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا , لَا مُوجَبَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُوَ كَنُطْقِ الْمُنَافِقِ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ , كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ كَنُطْقِ الْمُكْرَهِ بِهَا فَكِلَاهُمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ غَيْرَ مُوجَبِهِ , بَلْ إمَّا بَعْضَ تَوَابِعِ مُوجَبِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ , لَكِنَّ الْمُكْرَهَ مَعْذُورٌ ; لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ خَارِجٍ , وَالْمُخَادِعَ غَيْرُ مَعْذُورٍ إذْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مِنْ نَفْسِهِ . وَنُكْتَةُ هَذَا : أَنَّ مَقْصُودَ النِّيَّاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْعُقُودِ , كَاعْتِبَارِهَا فِي الْعِبَادَاتِ , فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ , فَكُلُّ مَنْ قَصَدَ بِالْعَقْدِ غَيْرَ الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ بَلْ قَصَدَ بِهِ سَبَبًا آخَرَ أَرَادَ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِالْعَقْدِ إلَيْهِ , فَهُوَ مُخَادِعٌ , بِمَنْزِلَةِ الْمُرَائِي الَّذِي يَقْصِدُ بِالْعِبَادَاتِ عِصْمَةَ دَمِهِ وَمَالِهِ لَا حَقِيقَةَ الْعِبَادَةِ , وَإِنْ كَانَ هَذَا مَقْصُودًا تَابِعًا لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ لَكِنَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ لَا يَمَسُّ بِخُصُوصِهِ مَسْأَلَةَ التَّحْلِيلِ لَمْ نَذْكُرْهُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهَا خُصُوصًا
كَمَا دَلَّ عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ عُمُومًا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ تَلَقِّيَ الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ بِعَيْنِهِ أَقْوَى مِنْ تَلَقِّيه مِنْ دَلِيلٍ عَامٍّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَظْهَرَ الْمُحَلِّلُ فِيمَا بَعْدَ الْعَقْدِ بِنِيَّتِهِ فِي الْعَقْدِ فَمَا الْحُكْمُ ؟ . قُلْنَا : إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا ثَبَتَ هَذَا الْمُحْكَمُ فِي حَقِّ مَنْ صَدَّقَهُ فَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا مُرَاجَعَتُهَا , ثُمَّ إنْ كَانَ هَذَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا صَدَاقَ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ مُصَدِّقَةً , وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ الْوَاجِبُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ , وَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ وَالْمُطَلِّقُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ التَّحْلِيلِ فِي حَقِّهَا , لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ , وَوَجَبَ نِصْفُ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعُهُ بَعْدَهُ , وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ , لِاعْتِرَافِهَا بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ , هَذَا إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَهَا إقْرَارٌ , وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا وَحْدَهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي سُقُوطِ حَقِّ الْمَرْأَةِ , وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ , وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ , وَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الزَّوْجِ الْمُحَلِّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ نِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى ذَلِكَ , لَكِنْ فِي الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ , وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ
الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا رَجُلٌ ثُمَّ يَعْتَرِفَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ , فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ التَّحْلِيلِ ; لِأَنَّهُ فَسَادٌ انْفَرَدَ بِعَمَلِهِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ فِي غَرَائِبِ السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ , عَنْ مُوسَى بْنِ مُطَيْنٍ , عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَلَا نَرَاهُ إلَّا يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَشْهَدَ عَلَى النِّكَاحِ . قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : وَمَهَرَ . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : وَدَخَلَ . يَعْنِي الْجِمَاعَ . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : ذَهَبَ الْخِدَاعُ . } فَوَجْهُ الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الرَّجُلِ وَلَمْ يَقُلْ إنْ نَوَيْت كَذَا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ , مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَا نَرَاهُ يُرِيدُ إلَّا ذَلِكَ , وَالْبَحْثُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبٌ احْتِيَاطًا لِلْبُضْعِ , وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ , وَإِذَا لَمْ يَبْحَثْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ وَأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ , قَالَ بَعْضُ الْمُنَازِعِينَ وَهَذَا مَقْطُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ . قُلْت : هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوسَى بْنِ مُطَيْنٍ مَتْرُوكٌ سَاقِطٌ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنْ الْمَشَاهِيرِ لَا يَحِلُّ الِاسْتِدْلَال بِشَيْءٍ مِنْ رِوَايَتِهِ , قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ كَذَّابٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ مَتْرُوكُ
الْحَدِيثِ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ تَرَكَ النَّاسُ حَدِيثَهُ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْمُجَازِفِينَ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ مِنْ مُصَنِّفِي الْمُجَادِلِينَ . قَالَ مُوسَى هَذَا مِنْ الثِّقَاتِ الْعُدُولِ لِمَا قِيلَ إنَّهُ يَرْوِي الْمَنَاكِيرَ عَنْ الْمَشَاهِيرِ . فَأَرَادَ الدَّفْعَ بِمَا اتَّفَقَ مِنْ غَيْرِ مُرَاقَبَةٍ مِنْهُ فِيمَا يَقُولُ . ثُمَّ إنَّ أَصْحَابَنَا تَكَلَّمُوا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ضَرْبًا عَنْ التَّكَلُّفِ . فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ يَظْهَرُ عَلَيْهَا مِنْ التَّنَاقُضِ مَا لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ذَهَبَ الْخِدَاعُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِدَاعَ فِي الْعُقُودِ حَرَامٌ وَأَنَّ الْعَقْدَ إذَا كَانَ خِدَاعًا لَمْ يَحِلَّ . وَإِلَّا لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ ذَهَابِهِ وَثُبُوتِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ الَّذِي يُعْقَدُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَلَا إعْلَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَرْدُودٌ . فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْمُحَلِّلِ وَلَا غَيْرُهُ حَتَّى يَحْصُلَ بِهِ الْخِدَاعُ , وَإِنَّمَا يُخَادِعُ الْمُخَادِعُ بِأَنْ يُظْهِرَ مَا يَنْفُقُ فِي الظَّاهِرِ , فَإِذَا كَانَ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ فِي الظَّاهِرِ لَا خِدَاعَ وَمَعَ صِحَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ لَا خِدَاعَ , فَلَمْ يَبْقَ لِلْخِدَاعِ مَوْضِعٌ ; لِأَنَّهُ إمَّا صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ أَوْ فَاسِدٌ , فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْعَقْدِ حَلَالٌ حَرَامٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ , وَإِنَّمَا أَحْسِبُ الَّذِي
وَضَعَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَدْ بَلَغَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ , أَنَّ التَّحْلِيلَ خِدَاعٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَضَعَ حَدِيثًا يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا رُوعِيَتْ شُرُوطُهُ الظَّاهِرَةُ فَقَطْ ذَهَبَ خِدَاعُهُ فَيَكُونُ خِدَاعُهُ إذَا لَمْ يُرَاعِ وَذَلِكَ أَيْضًا لَا خِدَاعَ فِيهِ , إنَّمَا الْخِدَاعُ فِيمَا خَالَفَ ظَاهِرُهُ , فَلِجَهْلِهِ بِمَعْنَى الْخِدَاعِ رَكَّبَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَكَانَ حُجَّةً ; لِأَنَّ التَّحْلِيلَ مُحَرَّمٌ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ ; لِأَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَلَا نَرَاهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا , فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ إرَادَةَ التَّحْلِيلِ مِمَّا يُنْكَرُ عَلَى الرَّجُلِ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجْزِمُوا بِأَنَّهُ أَرَادَ التَّحْلِيلَ بَلْ ظَنُّوهُ ظَنًّا , وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ , ثُمَّ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ مُؤَثِّرَةً فِي الْعَقْدِ لَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا أَرَادَ تَحْلِيلَهَا أَيْ إنْكَارَ فِي هَذَا كَمَا قَالُوا تَزَوَّجَهَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا , أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا أَعْجَبَتْهُ إنْ أَمْسَكَهَا وَإِنْ كَرِهَهَا فَارَقَهَا , أَوْ نَكَحَهَا يُرِيدُ أَنْ تُرَبِّيَ أَوْلَادَهُ كَمَا قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الَّتِي لَا تُحَبُّ فَإِنَّ جَوَابَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ وَإِذَا فَعَلَ هَذَا فَأَيُّ مُنْكَرٍ فِي هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ عُلِمَ أَنَّ ذَاكَ مُؤَثِّرٌ , لَكِنْ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ
قَوْلَهُمْ وَلَا نَرَاهُ إلَّا يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا قَالَ الْأَصْلُ فِي أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْمَالِهِمْ الصِّحَّةُ , فَلَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ إلَّا لِإِمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ , وَلَمْ يَذْكُرُوا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , ثُمَّ لَوْ ظَنَنَّا ذَلِكَ فَإِنَّا لَمْ نُؤَمَّرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ , كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُسْتَأْذَنُ فِي قَتْلِ بَعْضِ مَنْ يُظَنُّ بِهِ النِّفَاقُ , يَقُولُ أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ أَلَيْسَ يُصَلِّي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ , كَذَلِكَ إذَا رَأَيْنَا عَقْدًا مَعْقُودًا بِشَرَائِطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ , لَمْ يَكُنْ لَنَا أَنَّ نَقُولَ هَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ أَرَادَ كَذَا وَكَذَا . لَكِنْ يُقَالُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ أَرَادَ التَّحْلِيلَ فَهُوَ مَلْعُونٌ وَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ , فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ رَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَهُ فِي الظَّاهِرِ , وَأَمَّا قَوْلُ الْمُنَازِعِ أَنَّهُ لَمْ يَبْحَثْ عَنْ نِيَّةِ الرَّجُلِ فَنَقُولُ , قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَالنَّهْيَ عَنْ الْخِدَاعِ , وَفَهِمُوا مَقْصُودَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقُولَ لِكُلِّ مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ , إنْ كُنْت نَوَيْت كَمَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كُلَّمَا أَسْلَمَ رَجُلٌ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ , وَصَاحِبُ الْعَقْدِ لَمْ يُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّهُ
أَرَادَ الْإِحْلَالَ وَإِنَّمَا ظَنُّوهُ ظَنًّا , بَلْ لَمَّا فَهِمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُرِيدَ الْإِحْلَالِ مُخَادِعٌ . وَظَنُّوا بِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنَّهُ أَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ , هَذَا إنْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْلٌ , ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخِدَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ وَمَا مَعَهُ وَلِأَنَّ الْمُحَلِّلَ يَأْخُذُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُعْطِي , وَإِلَّا فَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ , حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَدَمُ الْخِدَاعِ عَلَيْهَا , فَلَمَّا ذُكِرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى انْتِفَاءِ الْخِدَاعِ فَصَارَ سُوءُ الظَّنِّ مَمْنُوعًا مِنْهُ , وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهُوَ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا ; لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ , وَهُمَا ثَابِتَانِ , وَأَهْلِيَّةُ الْمُتَصَرِّفِ وَمَحَلِّيَّةُ الزَّوْجَيْنِ ثَابِتَةٌ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ , وَذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إبْطَالِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ إنَّمَا نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالشَّرْعِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْمُشْتَرِي إخْرَاجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ مُقْتَضٍ لِتَأْبِيدِ الْمِلْكِ وَالنِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجَبَاتِ
السَّبَبِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ النِّيَّةَ تُوجِبُ تَوْقِيتَ الْعَقْدِ , وَلَيْسَ هِيَ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَلَوْ نَوَى هُوَ بِالْمَبِيعِ إتْلَافَهُ أَوْ إحْرَاقَهُ أَوْ إغْرَاقَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ , فَنِيَّةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى , وَبِهَذَا اعْتَرَضُوا عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ قَصَدَ إزَالَةَ الْمِلْكِ .
إذَا قَالَ : بِعْت أَوْ اشْتَرَيْت وَقَصْدُهُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَوْ تَوَاطَآ عَلَى التَّقَابُلِ وَعَقَدَا فَهَلْ هُنَاكَ تَبَايُعٌ حَقِيقِيٌّ , وَنَظِيرُ التَّحْلِيلِ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ , ثُمَّ يَبِيعُهُ مِنْ رَجُلٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي مُدَّةِ أَحَدِ الْخِيَارَاتِ , فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ أَنَّ هَذَا بَاعَ عَبْدَهُ قَطُّ , وَإِنَّمَا هَذَا تَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَهَبَنَّ مَالَهُ وَوَهَبَهُ لِابْنِهِ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْتَجِعَهُ , وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } , وَ { أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } لَوْ أَعْطَى ابْنَهُ مُظْهِرًا أَنَّهُ مُقْرِضٌ مُنْفِقٌ وَمِنْ نِيَّتِهِ الِارْتِجَاعُ , فَهَلْ يَسْتَحْسِنُ مُؤْمِنٌ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ هَذَا فِي اسْمِ الْمُقْرِضِ الْمُنْفِقِ , وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَ { وَآتُوا الزَّكَاةَ } فَلَوْ آتَاهَا الْفَقِيرَ قَدْ وَاطَأَهُ عَلَى أَنْ يُعِيدَهَا إلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ هَذَا مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ , وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ عَقْدٍ أَمْكَنَهُ رَفْعٌ مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَظْهَرَ عَقْدَهُ وَمَقْصُودُهُ رَفْعُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ , وَلَيْسَ غَرَضُهُ الْعَقْدَ وَلَا شَيْئًا
مِنْ أَحْكَامِهِ , وَإِنَّمَا غَرَضُهُ رَفْعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَهَذَا يُشْبِهُ التَّحْلِيلَ , وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ الْفَسْخُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَتَوَاطُؤُهُمَا عَلَى التَّفَاسُخِ قَبْلَ التَّعَاقُدِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ وَالْمُوَاطَأَةَ تَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مُقْتَضَاهُ وَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ نَقِيضَ مُقْتَضَاهُ , وَإِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ إنْشَاءً أَوْ إخْبَارًا أَوْ أَمْرًا بِالْكَلَامِ نَقِيضَ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ , كَانَ الْكَلَامُ نَافِيًا لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَذَلِكَ الْقَصْدِ وَمُضَادًّا لَهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا : أَنَّ الطَّلَاقَ وَفَسْخَ الْعُقُودِ هُوَ تَصَرُّفُ نَفْسِ الْمِلْكِ , وَمُوجَبُ الْعَقْدِ بِرَفْعِهِ وَإِزَالَتِهِ لَيْسَ هُوَ تَصَرُّفًا فِي الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ بِإِتْلَافِهِ وَإِهْلَاكِهِ , بِخِلَافِ أَكْلِ الطَّعَامِ وَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى وَإِحْرَاقِهِ وَإِغْرَاقِهِ فَإِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الشَّيْءِ الْمَمْلُوكِ لَا بِإِتْلَافٍ , وَفَرْقٌ بَيْنَ إزَالَةِ الْمِلْكِ مَعَ بَقَاءِ مَحَلِّ الْمِلْكِ وَمَوْرِدِهِ الَّذِي كَانَ مَمْلُوكًا , وَبَيْنَ إتْلَافِ نَفْسِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ وَمَوْرِدِهِ , الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمِلْكِ , وَإِنْ كَانَ الْمَمْلُوكُ قَدْ يُسَمَّى مِلْكًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ , فَأَيْنَ إتْلَافُ نَفْسِ التَّصَرُّفِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ إلَى إتْلَافِ مَحَلِّ التَّصَرُّفِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ , فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ النِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجَبَ السَّبَبِ , وَكَيْفَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمُوجَبِ
السَّبَبِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ الْمُؤَيِّدِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَمُقْتَضَاهَا رَفْعُ هَذَا الْمُقْتَضَى لِيَتَبَيَّنَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّبَبِ وَالنِّيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَحِلِّ السَّبَبِ , وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِالْبَيْعِ إتْلَافَ الْمَبِيعِ , فَإِنَّ هَذَا نِيَّةٌ لِإِتْلَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا نِيَّةٌ لِرَفْعِ الْعَقْدِ . وَمِثْلُ هَذِهِ النِّيَّةِ لَا تَتَأَتَّى فِي النِّكَاحِ , فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا يُمْكِنُهُ إتْلَافُ الْبُضْعِ وَلَا الْمُعَارَضَةُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُهُ فِي الْجُمْلَةِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إلَّا بِنَفْسِهِ , فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ وَلَا إجَارَةٍ وَلَا إعَارَةٍ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا إتْلَافٍ , وَإِذَا أَرَادَ إخْرَاجَهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ بِإِبْطَالِ النِّكَاحِ , وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلِإِخْرَاجِ الْمَبِيعِ عَنْ نَفْسِهِ طُرُقٌ , فَإِذَا قَصَدَ أَنْ يُزِيلَ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ بِإِعْتَاقٍ أَوْ إحْرَاقٍ أَوْ إغْرَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَكَانَ مُبَاحًا مِثْلَ إيقَادِ الشَّمْعِ وَإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ لِيُخَفِّفَ السَّفِينَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَإِنَّ هَذَا قَصَدَ بِالْعَقْدِ الِانْتِفَاعَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَالِ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَالْأَعْيَانُ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِذَوَاتِهَا إذَا أُتْلِفَتْ , وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَبْذُلَ الْمَالَ لَيَحْصُلَ لَهُ الْمِلْكُ لِيُتْلِفَهُ هَذَا الْإِتْلَافَ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ الصَّدَاقَ لِيَعْقِدَ الْبَيْعَ لِيَفْسَخَ , فَإِنَّ هَذَا يَبْذُلُ الْعِوَضَ لِبَقَاءِ
الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ , وَهَذَا حَاصِلٌ بِدُونِ الْعِوَضِ وَلَمْ يَبْذُلْهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَقَاصِدِ الْمِلْكِ وَفَوَائِدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَالْعَقْدُ إنَّمَا يُقْصَدُ لِأَجْلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَرَضٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ غَرَضٌ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ عَقْدًا . وَإِنَّمَا هُوَ صُورَةُ عَقْدٍ لَا حَقِيقَةٌ . وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ نِيَّةَ الطَّلَاقِ هُوَ قَصْدُ رَدِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَى مَالِكِهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُسُوخِ . وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي يُنَافِي قَصْدَ الْعَقْدِ , أَمَّا قَصْدَ إخْرَاجِهِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي النِّكَاحِ وَهُوَ فِي الْبَيْعِ لَا يُنَافِي الْعَقْدَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثَّانِي فَنَقُولُ : قَوْلُهُ الْقَصْدُ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ حُكْمُهُ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ , فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ سَبَبٌ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَقْدَحُ فِيهِ , وَإِنَّمَا السَّبَبُ لَفْظٌ قَصَدَهُ الْمُتَكَلِّمُ ابْتِدَاءً وَلَمْ يَقْصِدُ بِهِ مَا يُنَافِي حُكْمَهُ , أَوْ لَفْظٌ قَصَدَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا , وَقَدْ قَدَّمْت فِي الْوَجْهِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ إبْطَالِ الْحِيَلِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ , وَبَيَّنَّا أَنَّ قَصْدَ مَا يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فِي الشَّرْعِ يَمْنَعُ حِلَّهُ وَصِحَّتَهُ , فَإِنَّ عَدَمَ قَصْدِ الْعَقْدِ إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ عُذِرَ الْإِنْسَانُ فِيهِ , فَلَمْ يَصِحَّ , وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْهَزْلِ وَاللَّعِبِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْهَزْلُ وَاللَّعِبُ لَمْ يَلْتَفِتْ الشَّرْعُ
إلَى هَزْلِهِ وَلَعِبِهِ , وَأَفْسَدَ هَذَا الْوَصْفَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَأَلْزَمَهُ الْحُكْمَ عُقُوبَةً لَهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُنَافِي الْعَقْدَ وَإِنَّمَا تَرَكَ قَصْدَ الْعَقْدِ فِي كَلَامٍ لَا يَصْلُحُ تَجْرِيدُهُ عَنْ حُكْمِهِ , وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُحْتَالِ مِثْلَ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ , وَبَيْنَ الْهَازِلِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ , وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا لَوْ لَفَظَ بِمَا نَوَاهُ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ , وَهَذَا لَوْ لَفَظَ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ , وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَارِيًّا عَنْ نِيَّةٍ لِمُوجَبِهِ أَوْ بِخِلَافِ مُوجَبِهِمَا , وَهَذَا قَيَّدَ اللَّفْظَ بِنِيَّةٍ تُخَالِفُ مُوجَبَهُ , وَلِهَذَا سُمِّيَ الْأَوَّلُ لَاعِبًا وَهَازِلًا لِكَوْنِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُطْلَقَ وَيَعْرَى عَنْ قَصْدِ مَعْنًى , حَتَّى يَصِيرَ كَالرَّجُلِ الْهَزِيلِ , بَلْ يُوعِي مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ حَقًّا وَجِدًّا , وَسُمِّيَ الثَّانِي مُخَادِعًا مُدَالِسًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَوْعَى اللَّفْظَ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَاهُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقِيقَتَهُ وَمَعْنَاهُ , وَذَكَرْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا أَطْلَقَ اللَّفْظَ وَهُوَ لَفْظٌ لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَعْرَاهُ عَنْ مَعْنًى جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ الْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ . وَالثَّانِي : لَمَّا أَثْبَتَ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيَّ لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ , فَبَطَلَ حُكْمُهُ وَذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ نِكَاحِ الْهَازِلِ حُجَّةٌ فِي إبْطَالِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزْوًا , وَعَنْ التَّلَاعُبِ بِحُدُودِهِ , فَإِذَا فَعَلَ
ذَلِكَ بَطَلَ هَذَا التَّلَاعُبُ , وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْهَازِلِ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ , فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ فَسَادُهُ , وَبُطْلَانُ التَّلَاعُبِ فِي حَقِّ الْمُحَلِّلِ إفْسَادُ الْعَقْدِ , فَإِنَّ مُوجَبَ تَلَاعُبِهِ صِحَّتُهُ , وَذَكَرْنَا أَنَّ الْهَازِلَ نَقَصَ الْعَقْدَ فَكَمَّلَهُ الشَّارِعُ تَحْقِيقًا لِلْعَقْدِ وَتَحْصِيلًا لِفَائِدَتِهِ , فَإِنَّ هَذَا التَّكْمِيلَ مُزِيلٌ لِذَلِكَ الْهَزْلِ وَجَاعِلُهُ جِدًّا , وَأَنَّ الْمُحَلِّلَ زَادَ فِي الْعَقْدِ مَا أَوْجَبَ نَفْيَ أَصْلِهِ وَلَوْ أَبْطَلَ الشَّارِعُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَمْ يَفْدِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ , وَالْقَصْدُ لَمْ يَرْتَفِعْ كَمَا أَمْكَنَ رَفْعُ الْهَزْلِ بِجَعْلِ الْأَمْرِ جِدًّا , وَهَذِهِ فُرُوقٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا هُنَا . وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ كِفَايَةٌ عَنْ هَذَا . وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا مِثْلُ شِرَاءِ الْعَصِيرِ فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ هُنَاكَ قَصَدَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَهَذَا لَا يُنَافِي الْعَقْدَ , وَهُنَا قَصَدَ رَفْعَ الْعَقْدِ وَهَذَا يُنَافِيهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ قَصْدَهُ لِاِتِّخَاذِ الْعَصِيرِ خَمْرًا لَا يُفَارِقُ قَصْدَهُ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلًّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ وَمُوجَبَاتِهِ , وَإِنَّمَا يُفَارِقُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ , وَهَذَا فَرْقٌ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ , وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّ الطَّلَاقَ مُحَرَّمٌ وَأَنَّهُ أَبْطَلَ الْعَقْدَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا , وَإِنَّمَا نَافَاهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَصْدَهُ بِالْعَقْدِ إزَالَتُهُ وَإِعْدَامُهُ يُنَاقِضُ الْعَقْدَ حَتَّى يَصِيرَ صُورَةَ
عَقْدٍ لَا حَقِيقَةَ عَقْدٍ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَمْنُوعٌ , فَإِنَّ اشْتِرَاءَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ حَرَامٌ بَاطِلٌ , ثُمَّ إنْ عَلِمَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا بَاطِلًا فِي حَقِّهِ أَيْضًا , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ , وَذَكَرْنَا { لَعْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِرَ الْخَمْرِ } , وَحَدِيثًا آخَرَ وَرَدَ فِيمَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ , لِيَبِيعَهُ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ , وَهَذَا الْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ , وَذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَعَلُوا بَيْعَ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرُهُ بَيْعًا لِلْخَمْرِ , وَهُوَ نَهْيٌ يَتَعَلَّقُ بِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , فَهُوَ كَنَهْيِ الْمُسْلِمِ عَنْ هِبَةِ الْمُصْحَفِ لِكَافِرٍ , وَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَيَكُونُ بَاطِلًا , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِيَ عَشَرَ , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْبَائِعُ بِقَصْدِ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ حَلَالًا وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي حَرَامًا , لَكِنْ هُنَا فُرُوعٌ يُخَالِفُ حُكْمُهَا حُكْمَ غَيْرِهَا , مِثْلَ أَنْ يَتُوبَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُشْتَرَى بِدُونِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ مَعَ إمْكَانِهِ وَهُوَ نَظِيرُ إسْلَامِ الْكَافِرِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي الْمُصْحَفِ الْمَوْهُوبِ , وَنَظِيرُ إسْلَامِ سَيِّدِ الْعَبْدِ فَإِنَّا إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ ثُبُوتِ يَدِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُصْحَفِ وَالْمُسْلِمِ
لِمُقَارَنَتِهِ اعْتِقَادَ الْكُفْرِ لَهُ , كَمَا أَنَّا مَنَعْنَا مِنْ ثُبُوتِ يَدِ الْمُصِرِّ عَلَى مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِمُقَارَنَةِ اعْتِقَادِ الْمَعْصِيَةِ لَهُ . وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا , وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ مَنْعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَظِيرُهُ مِنْ النِّكَاحِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لِيَطَأَهَا فِي الدُّبُرِ أَوْ لِيُكْرِيَهَا لِزِنًا وَنَحْوِ ذَلِكَ , فَهَذَا مِثْلُ اشْتِرَاءِ الْعَصِيرِ لِيَتَّخِذَهُ خَمْرًا وَبَيْعِ الْأَمَةِ لِيُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ , فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا قَصْدُهُ , وَلَا يَصِحُّ النِّكَاحُ حَتَّى قَدْ نَصَّ أَصْحَابُنَا وَمِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الدُّبُرِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ , فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَهَذَا جَيِّدٌ فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ , فَمَتَى تَوَافَقَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهِ أَوْ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ , وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُ إلَّا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا تَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ هَذَا الْمُنْكَرِ , وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ الْمُصَنِّفِينَ فِي خِلَافِ الْفُقَهَاءِ لِمَا ذُكِرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا . قَالَ : لَا أَظُنَّهُ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَقْوَى وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ مِمَّنْ يَتَلَوَّطُ , وَلَا بَيْعُ الْأَمَةِ وَلَا تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ مِمَّنْ يَطَأهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ , ثُمَّ قَالَ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْشَابِ لِمَنْ يَعْمَلُ آلَاتِ
الْمَلَاهِي , وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْمُجَادِلُ كُلُّهُ جَهْلٌ وَغَلَطٌ وَتَخْلِيطٌ , فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا وَاحِدٌ , وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَمْرَدِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِ , وَلَا بَيْعُ الْمُغَنِّيَةِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا لَا يَحِلُّ , وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآنِيَةِ مِنْ الْأَقْدَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّنْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ فِيهَا الْمُسْكِرَ , وَلَا بَيْعُ الْمَشْمُومَاتِ مِنْ الرَّيَاحِينِ , وَنَحْوِهَا مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَشْرَبُ عَلَيْهَا , وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِي بَيْعِ الْخَشَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهَا آلَاتِ اللَّهْوِ وَسَائِرُ هَذَا الْبَابِ جَارٍ عِنْدَهُ عَلَى الْقِيَاسِ , حَتَّى أَنَّهُ قَدْ نَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ وَالدَّادِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ يَسْتَعِينُ عَلَى النَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ , فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِينَ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَإِنْ كَانَ الْمُعَانُ لَا يَعْتَقِدُهَا مَعْصِيَةً , كَإِعَانَةِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ , وَجَاءَ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . هَذَا إذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا إذَا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا لِيُضَارَّهُ بِمَطْلِ الثَّمَنِ , فَإِنْ عَلِمْت هِيَ بِذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّهَا . وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ لَمْ
يُمْكِنْ إبْطَالُ الْعَقْدِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْعَقْدِ إذَا كَانَ لِإِضْرَارِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْحَرَامِ لَمْ يَقَعْ بَاطِلًا كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ . وَتَلَقٍّ الرُّكْبَانِ وَبَيْعِ الْمَعِيبِ الْمُدَلَّسِ عَيْبُهُ ; لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا إنَّمَا هُوَ أَحَدُهُمَا لَا كِلَاهُمَا , فَلَوْ أَبْطَلْنَا الْعَقْدَ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا لَكَانَ فِيهِ إبْطَالٌ لِعَقْدِ مَنْ لَمْ يَنْهَ , وَلَكَانَ فِيهِ إضْرَارٌ لِمَنْ أَبْطَلَ الْعَقْدَ لِرَفْعِ ضَرَرِهِ , وَهَذَا تَعْلِيقٌ عَلَى الْوَصْفِ ضِدَّ مُقْتَضَاهُ ; لِأَنَّ قَصْدَ رَفْعِ ضَرَرِهِ قَدْ جُعِلَ مُوجِبًا لِضَرَرِهِ , لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَضَارِّ دُونَ الْآخَرِ , كَمَا يُقَالُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِثْلَ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ظَالِمًا , وَشِرَاءُ الْمُعْتَقِ الْمَجْحُودِ عِتْقُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي , وَمِثْلُ دَفْعِ الرِّشْوَةِ إلَى ظَالِمٍ لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ , وَمِثْلُ إعْطَاءِ بَعْضِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ , وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ , فَيَكُونُ نِكَاحُ الزَّوْجِ بَاطِلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِهَا حَرَامٌ , وَبَيْعُ الْمُدَلِّسِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ بَاطِلٌ , بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّمَنُ , فَهَذَا قَدْ يُقَالُ مِثْلُهُ . وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ , وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ أَنَّهَا غَيْرُ وَارِدَةٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا لِيُضَارَّ بِهَا امْرَأَةً أُخْرَى ; أَوْ لِيَتَعَاوَنَا عَلَى سِحْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ , وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمَا النِّكَاحَ ,
وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ , فَمَنْ الَّذِي سَلَّمَ صِحَّةَ هَذَا النِّكَاحِ ؟ . فَإِنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ بَيْعَ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقَ لِلشُّرْبِ وَالزِّنَا بَاطِلٌ , وَبَيْعَ الْأَقْدَاحِ لِمَنْ يَشْرَبُ فِيهَا الْمُسْكِرَ بَاطِلٌ , وَبَيْعَ السِّلَاحِ مِمَّنْ يَقْتُلُ بِهِ مَعْصُومًا بَاطِلٌ , كَيْفَ لَا يَقُولُ إنَّ تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ لِمَنْ يَضُرُّ بِهَا امْرَأَةً مُسْلِمَةً ضَرَرًا مُحَرَّمًا مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهَا بَاطِلٌ , وَإِنْ أَوْرَدَ مَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا وَإِنَّمَا قَصَدَ مُجَرَّدَ إيذَاءِ الزَّوْجَةِ الْأُولَى بِالْغَيْرَةِ فَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا ; لِأَنَّ هَذَا الْأَذَى لَيْسَ بِمُحَرَّمِ الْجِنْسِ فَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ هُوَ لَا يُمْكِنُ إلَّا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ , فَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ بَعْضَ تَوَابِعِهِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا مَعَ وُجُودِهِ , وَهِيَ مِمَّا لَا يَحِلُّ قَصْدُهُ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهُ شَرْعًا بِطَرِيقِ الضِّمْنِ , فَهُنَا الْمُحَرَّمُ مُجَرَّدُ الْقَصْدِ فَلَا يُشْبِهُ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ رَفْعُ النِّكَاحِ وَهُنَا بَقَاؤُهُ , لَكِنْ يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ فِعْلٌ هُوَ مُحَرَّمٌ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِ , وَكَذَلِكَ هُنَا الْمَقْصُودُ غَيْرَةُ الزَّوْجَةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ التَّبَعِ . وَصِحَّةُ هَذَا النِّكَاحِ فِيهَا نَظَرٌ , فَإِنَّ مَا كَانَ التَّحْرِيمُ فِيهِ لِحَقِّ آدَمِيٍّ يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي فَسَادِهِ , كَمَا اخْتَلَفُوا فِي
الذَّبْحِ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ , وَفِي فَسَادِ الْعُقُودِ الَّتِي تَحْرُمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ بِحَقِّ آدَمِيٍّ مِثْلَ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَسَوْمِهِ عَلَى سَوْمِهِ , وَنِكَاحِهِ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَتِهِ , فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا مَعْرُوفًا , وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ اعْتَذَرَ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْعَقْدِ . وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ , وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَا لِحَقِّ آدَمِيٍّ , فَإِنْ سَلَّمَ صِحَّةَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَبَيْنَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهَا وَلَا نَقَضُ دَلِيلِنَا بِهَا . وَإِنْ لَمْ نُسَلِّمْ صِحَّةُ الْفَرْقِ سَوَّيْنَا بَيْنَ جَمِيعِ الصُّوَرِ فِي الْبُطْلَانِ , فَيُمْنَعُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ , وَكَذَلِكَ كُلَّمَا يَرِدُ عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَإِنَّ الْجَوَابَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ , أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقٌ صَحِيح أَوْ لَا يَكُونُ , فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَصِحَّ النَّقْضُ وَلَا الْقِيَاسُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَالْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ سَوَاءٌ , نَعَمْ لَوْ أَوْرَدْت صُوَرٌ قَدْ ثَبَتَتْ الصِّحَّةُ فِيهَا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ , وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ , لَكَانَ ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا وَلَيْسَ إلَى هَذَا سَبِيلٌ , وَلَا تَعْبَأُ بِمَا يُفْرَضُ مِنْ الْمَسَائِلِ وَيَدَّعِي الصِّحَّةَ فِيهَا بِمُجَرَّدِ التَّهْوِيلِ , أَوْ بِدَعْوَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ , وَقَائِلُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهَا بِالصِّحَّةِ فَضْلًا عَنْ نَفْيِ الْخِلَافِ فِيهَا , وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا مِنْ الْجَلِيَّاتِ الَّتِي لَا
يُعْذَرُ الْمُخَالِفُ فِيهَا . وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَالَ الْإِمَام أَحْمَدُ , مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ , فَإِنَّمَا هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ يُرِيدُونَ أَنْ يُبْطِلُوا السُّنَنَ بِذَلِكَ يَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إذَا نَاظَرْتَهُمْ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ قَالُوا هَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ , وَذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَا يَحْفَظُونَهُ إلَّا عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ مَثَلًا , فَيَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى رَدِّ السُّنَنِ بِالْآرَاءِ , حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ تُرَدُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْآثَارِ , فَلَا يَجِدُ مُعْتَصَمًا إلَّا أَنْ يَقُولَ هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ , وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا وَأَصْحَابَهُمَا لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ لَرَأَى مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعَيْهِمْ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا ; وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ . وَإِلَّا فَمَنْ تَتَبَّعَ وَجَدَ فِي مُنَاظَرَاتِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ كَثِيرًا , وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ فُقَهَاءَ الْحَدِيثِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا تَرِدُ بِهِ السُّنَنُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ وَجَدَهَا أُصُولًا قَدْ تُلُقِّيَتْ بِحُسْنِ الظَّنِّ مِنْ
الْمَتْبُوعِينَ , وَبُنِيَتْ عَلَى قَوَاعِدَ مَغْرُوضَةٍ إمَّا مَمْنُوعَةٍ أَوْ مُسَلَّمَةٍ مَعَ نَوْعِ فَرْقٍ , وَلَمْ يَعْتَصِمْ الْمُثْبِتُ لَهَا فِي إثْبَاتِهِ بِكَثِيرِ حُجَّةٍ أَكْثَرَ مِنْ نَوْعِ رَأْيٍ أَوْ أَثَرٍ ضَعِيفٍ . فَيَصِيرُ مُثْبِتًا لِلْفَرْعِ بِالْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ رَدٍّ إلَى أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أَثَرٍ وَهَذَا عَامٌّ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ . وَيَجْعَلُ هَذِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ فِيهَا عَلَى الْمُسْتَمْسِكِ بِهَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إلَّا التَّعَجُّبُ مِمَّنْ يُخَالِفُهَا . وَهُوَ لَا يَعْلَمُ لِمَنْ يَقُولُ بِهَا مِنْ الْحُجَّةِ أَكْثَرَ مِنْ مُرُونَةٍ عَلَيْهَا مَعَ حَظِّ مَنْ رَأَى .
وَمَسْأَلَةُ بَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مِنْ بَابِهِ الَّذِي زَعَمَ هَذَا الْمَجَادِلُ أَنْ لَا خِلَافَ فِي بَعْضِهَا : وَعَامَّةُ السَّلَفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا , وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْعِنَبِ وَالْعَصِيرِ بِالتَّحْرِيمِ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ كَرِهَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الْفِتْنَةِ . وَالْكَرَاهَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي لِسَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ لَا يَكَادُ يُرَادُ بِهَا إلَّا التَّحْرِيمُ . وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خِلَافٌ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ الْعَصِيرَ . وَهَذِهِ حِكَايَةُ حَالٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَلًّا أَوْ رِبًا أَوْ يَشْرَبُهُ عَصِيرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ مَنَعَ بَيْعَ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , وَهُوَ قَوْلُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد الْهَاشِمِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيَّ وَغَيْرِهِمْ . وَمَنَعَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ بَيْعِ الْكُفَّارِ مَا يَتَقَوُّونَ بِهِ مِنْ كُرَاعٍ وَسُرُوجٍ وَحَرْثِي وَغَيْرِهِ , وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , ذَكَرَهُمَا فِي الْحَاوِي , وَجَرَى التَّصْرِيحُ عَنْ السَّلَفِ بِتَحْرِيمِ هَذَا الْبَيْعِ وَبِفَسَادِهِ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحِجَازِ
وَأَهْلِ الشَّامِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ تَبَعًا لِلسَّلَفِ , فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ لِي كُرُومًا فَأَعْصِرُهَا خَمْرًا فَأَعْتِقُ مِنْ ثَمَنِهَا الرِّقَابَ , وَأَحْمِلُ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَأَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ , فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِسْقٌ إنْ أَنْفَقَتْ وَفِسْقٌ إنْ تَرَكَتْ , فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَعَقَرَ كُلَّ شَجَرَةِ عِنَبٍ كَانَ يَمْلِكُهَا وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ بُكَيْر أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ بَيْعِ الْعَصِيرِ فَقَالَ : لَا يَصْلُحُ . فَقَالَ : إنْ عَصَرْته ثُمَّ شَرِبْته مَكَانِي قَالَ : فَلَا بَأْسَ . قَالَ : فَمَا بَالُ بَيْعِهِ حَرَامٌ وَشُرْبُهُ حَلَالٌ ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ . مَا أَدْرِي أَجِئْتَ تَسْتَفْتِينِي أَمْ جِئْتَ تُمَارِينِي . قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : نُهِيَ عَنْ بَيْعِهِ ; لِأَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْخَمْرِ إلَّا أَنْ يَكُون يَسِيرًا . وَبِكَوْنِ مُبْتَاعِهِ مَأْمُونًا يُعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِيَشْرَبَهُ عَصِيرًا كَمَا هُوَ فَلَا بَأْسَ بِهِ . وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْكَرْمِ إذَا خِيفَ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيهِ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِعَصْرِهِ خَمْرًا فَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُشْتَرِيهِ مُسْلِمًا يُخَالِفُ أَنْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ . فَأَمَّا إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا فَلَا يَحِلُّ بَيْعُهُ مِنْهُ عَلَى حَالٍ ; لِأَنَّ شَأْنَهُمْ عَصِيرُ الْخَمْرِ وَبَيْعُهَا , قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَضَرَبَ
الْأَوْزَاعِيُّ , لِذَلِكَ مَثَلًا كَمَنْ بَاعَ سِلَاحًا مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُ بِهِ مُسْلِمًا . قَالَ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الْعَسَلَ أَوْ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ أَوْ الْقَمْحَ مِمَّنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ شَرَابًا مُسْكِرًا وَكَرِهَ طَعَامَ عَاصِرِ الْخَمْرِ وَبَائِعِهَا وَكَرِهَ مُبَايَعَتَهُ وَمُخَالَطَتَهُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ لِبَيْتِهِ أَوْ حَانُوتِهِ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ نَصْرَانِيًّا . قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَقَدْ نَهَى ابْنُ عُمَرَ أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ أَوْ حَانُوتَهُ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ . حَدَّثَنِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ , وَمَنْ فَعَلَ مَا نَهَى عَنْهُ بِأَنْ بَاعَ كَرْمَهُ مِمَّنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا أَوْ أَكْرَى دَارِهِ أَوْ حَانُوتَهُ مِمَّنْ يَبِيعُ فِيهَا الْخَمْرَ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ . وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُبَيِّنُ أَنَّ إمْسَاكَ هَذَا الثَّمَنِ فُسُوقٌ , وَأَنَّ إنْفَاقَهُ فِسْقٌ , وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ مَا يَكُونُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ , فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ الثَّمَنُ حَلَالًا فَإِنَّا لَا نَعْنِي بِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الثَّمَنَ الَّذِي أَخَذَهُ , وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ , كَمَا يَتَصَدَّقُ بِكُلِّ مَالٍ حَرَامٍ لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَعَلَيْهِ دَلَّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ , حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ
حَرَامٌ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافَ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا نَعْرِفُ الرُّخْصَةَ فِي بَيْعِ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُخَمِّرْهُ عَمَّنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ مِثْلَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ وَهَذَا مُطْلَقٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْمُشْتَرِي وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ , فَكَيْفَ يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ الْخِلَافِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؟ . وَلَوْ قِيلَ لِقَائِلِ ذَلِكَ انْقُلْ لَنَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ الرُّخْصَةَ فِي ذَلِكَ لَا بَأْسَ , فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ الْهُدَى وَالسَّدَادَ بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَبَيْنَ هَذَا أَنَّ الرِّضَا مُعْتَبَرٌ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ فَنَقُولُ وَهَلْ الرِّضَا الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الرَّاضِي نَفْسِهِ إلَّا نَوْعٌ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ , أَوْ صِفَةٌ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ , فَإِذَا كَانَ النَّوْعُ أَوْ الْمَلْزُومُ شَرْطًا فَالْجِنْسُ وَاللَّازِمُ شَرْطٌ بِالضَّرُورَةِ , فَإِنَّ وُجُودَ النَّوْعِ بِدُونِ الْجِنْسِ أَوْ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ , فَكَيْفَ يَصِحُّ الْفَرْقُ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْجَمْعِ ؟ نَعَمْ قَدْ يَقُولُ الْمُنَازِعُ إنَّمَا اُشْتُرِطَ هَذَا لِلْقَدْرِ مِنْ الْقَصْدِ فَقَطْ , فَنَقُولُ إنَّمَا اشْتَرَطَهُ لِعَدَمِ قَصْدِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَقْدِ , وَأَنَّهُ إلْزَامُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ ضَرَرًا لَا يَجُوزُ . فَنَقُولُ هَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمُحَلِّلِ
وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحْتَالِينَ , فَإِنَّ تَصْحِيحَ عَقْدٍ لَمْ يَرُدَّهُ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ فَقَطْ لِقَصْدٍ آخَرَ يَسْتَحِلُّ بِهِ مُحَرَّمًا لَا يَجُوزُ . وَقَدْ بَيَّنَّا اعْتِبَارَ الْمَقْصُودِ فِي الْعُقُودِ فِيمَا مَضَى , وَأَمَّا ذِكْرُ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ فِي الْعَقْدِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ , لَكِنْ إنَّمَا تُورَدُ فِيمَا إذَا تَوَافَقَا عَلَى التَّحْلِيلِ قَبْلَ الْعَقْدِ , كَمَا هُوَ وَاقِعٌ كَثِيرًا , فَإِنَّ هَذَا أَقْبَحُ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصْدِ , وَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ , وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُقْتَرِنِ وَالْمُتَقَدِّمِ فِيمَا مَضَى . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فَنَقُولُ النِّيَّةُ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِمَعْنَيَيْنِ صَحِيحَيْنِ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا صَحِيحًا , فَإِنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ , فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ حِكَايَةِ الْمَذْهَبِ , وَحَسْبُهُ مِنْ الْجَوَابِ لَا تُسَلِّمُ فَإِنَّ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةَ يَكْفِيهَا الْمَنْعُ الْمُجَرَّدُ , ثُمَّ نَقُولُ أَتَقُولُ إنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ ظَاهِرًا , أَمْ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا ؟ . الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ , فَإِنَّا لَمْ نَدَّعِ أَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ تُبْطِلُ حُكْمَ اللَّفْظِ ظَاهِرًا . وَإِنَّمَا قُلْنَا الْعَقْدُ فِي الْبَاطِنِ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْمُحَلِّلِ . وَإِنْ كَانَ حَلَالًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالتَّحْلِيلِ فَيَأْثَمُ بِوَطْئِهَا وَبِإِعَادَتِهَا
إلَى الْأَوَّلِ . وَهِيَ لَا تَأْثَمُ بِتَمْكِينِهِ كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ , وَإِنْ قَالَ إنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ بِحَالٍ , فَيَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِصَرَائِحِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا , إذَا صَرَفَهَا بِنِيَّتِهِ إلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ , فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي الْبَاطِنِ , فَكَذَلِكَ لَفْظُ نَكَحْتُ يَحْتَمِلُ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ وَقَدْ نَوَاهُ فَيَنْصَرِفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا أَوْ مُتَوَاطِئًا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ ظَاهِرًا وَالْآخَرُ بَاطِنًا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ , فَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَتُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِيهِ كَمَا فِي الْكِنَايَاتِ , وَكَذَلِكَ الْمُتَوَاطِئُ كَقَوْلِهِ اشْتَرَيْت فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ تُقَيِّدُهُ النِّيَّةُ لَهُ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ , وَأَمَّا النَّصُّ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِي خِلَافِ مَعْنَاهُ , وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي أَنَّ النِّيَّةَ تُؤَثِّرُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ , وَاللَّفْظُ الصَّرِيحُ يَشْتَمِلُ النَّصَّ وَالظَّاهِرَ , فَقَوْلُهُ إنَّ اللَّفْظَ هُنَا صَرِيحٌ فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ فِيهِ مَنْقُوضٌ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصُّوَرِ , بَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ لَفْظَ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ظَاهِرٌ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ الشَّرْعِيِّ , وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ مِثْلَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الشِّغَارِ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , فَإِذَا قَالَ
نَكَحْت وَنَوَى نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ فَقَدْ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يَحْتَمِلُهُ . ثُمَّ مَنْ نَوَى مَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ إنْ كَانَ الْمَنْوِيُّ لَهُ دِينَ فِي الْبَاطِنِ إذَا أَمْكَنَ وَفِي قَبُولِهِ فِي الْحُكْمِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ . إذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ قَرِيبًا مِنْ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي نَوَاهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قُمْت , ثُمَّ قَالَ سَبَقَ لِسَانِي بِالشَّرْطِ وَلَمْ أُرِدْهُ . أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنْكِحُ فُلَانَةَ وَنَكَحَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا . وَقَالَ نَوَيْت الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ . فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ نَوَى التَّحْلِيلَ عُلِمَتْ نِيَّتُهُ فِي الْبَاطِنِ فِي جَانِبِهِ خَاصَّةً . فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ قُبِلَ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ إفْسَادِ النِّكَاحِ فِي حَقِّهِ ثُمَّ هَذَا قِيَاسٌ بِجَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمُقْتَرِنَةِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْوَقْفِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ . فَكَيْفَ يُقَالُ بَعْدَ هَذَا إنَّ النِّيَّةَ الْبَاطِنَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ , وَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُك بِنْتِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ , لَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ صَرِيحًا فِي نَقْدِ الْبَلَدِ الْغَالِبِ , فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ نَوَيْت النَّقْدَ الْفُلَانِيَّ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ أَوْ دُونَهُ قُبِلَ مِنْهُ إنْ صَدَّقَ الْآخَرُ عَلَيْهِ , وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا السُّؤَالُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ نَوَى بِاللَّفْظِ مَعْنًى مُحْتَمَلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا نَوَاهُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ , كَمَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ بِسَائِرِ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ , أَوْ يَقُولُ كَمَا لَوْ نَوَى ذَلِكَ بِأَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ , وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ طَلَاقِ الْهَازِلِ وَالطَّلَاقِ الَّذِي نَوَى بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ , فَإِنَّهُ إذَا هَزَلَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ وَنَحْوِهِمَا وَقَعَ , وَلَوْ نَوَى بِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَرَدُّدٍ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ بِلَا تَرَدُّدٍ أَيْضًا , فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا هَزَلَ بِهِ وَقَعَ , وَإِذَا نَوَى بِالْعَقْدِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَرَدُّدٍ وَقُبِلَ فِي الْحُكْمِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ بِلَا تَرَدُّدٍ أَيْضًا , فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ إذَا هَزَلَ بِهِ وَقَعَ , وَإِذَا نَوَى بِالْعَقْدِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَمِلَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا نَوَى وَقُبِلَ مَا نَوَاهُ فِي الْحُكْمِ فِي جِهَتِهِ ; لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِفَسَادِ النِّكَاحِ مَقْبُولٌ مِنْهُ فِيمَا يَخُصُّهُ , وَمِنْ النُّقُوضِ الْمُوَجَّهَةِ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ , وَهِيَ قَوْلُهُ النِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ , أَنَّ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مُقْتَضَاهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , ثُمَّ إذَا نَوَى مَا يُخَالِفُهَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مُقْتَضَاهَا , فِي الْبَاطِنِ وَمِنْ ذَلِكَ عُقُودُ الْهَازِلِ , فَإِنَّ أَكْثَرَهَا أَوْ عَامَّتَهَا عِنْدَ الْمُخَالِفِ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ قَصْدِهَا , فَقَدْ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ
فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ . وَلَنَا أَنْ نَنْقُضَ عَلَيْهِ بِصُوَرٍ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْتَقِدُهَا فَإِنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّك إذَا لَمْ تَعْتَقِدْ صِحَّةَ دَلِيلِك فَكَيْفَ تُلْزِمُهُ غَيْرَك إذَا كَانَ هُوَ أَيْضًا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ , وَلِهَذَا قَالُوا لَيْسَ لِلْمُنَاظِرِ أَنْ يُلْزِمَ صَاحِبَهُ مَا لَا يَعْتَقِدُهُ هُوَ إلَّا النَّقْضَ ; لِأَنَّ مَا سِوَى النَّقْضِ اسْتِدْلَالٌ , وَلَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ , وَالنَّقْضُ لَيْسَ اسْتِدْلَالًا , لَكِنْ إذَا انْقَضَتْ الْعِلَّةُ عَلَى أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى فَسَادِهَا , أَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَبِصُورَةِ النَّقْضِ وَأَمَّا الْآخَرُ فَمَحَلُّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ , فَالْمُسْتَدِلُّ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ , وَالْآخَرُ يَقُولُ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا فِي الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ مَحْمَلُ النِّزَاعِ , وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَخَلِّفًا عَنْهَا وِفَاقًا كَانَتْ مُنْتَقِضَةً وِفَاقًا . وَتَخْلِيصُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ إلَّا بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَهُ , فَإِذَا اسْتَدَلَّ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ مُنَاظِرِهِ دُونَهُ كَانَ حَاصِلُهُ إظْهَارَ مُنَاقَضَةِ الْمُنَاظِرِ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ , وَهَذَا لَيْسَ اسْتِدْلَالًا وَإِنَّمَا هُوَ اعْتِرَاضٌ فِي الْمَعْنَى , فَأَمَّا الْمُعْتَرِضُ فَاعْتِرَاضُهُ إنْ كَانَ مَنْعًا فَلَيْسَ هُوَ إلْزَامًا , وَإِنْ كَانَ مُعَارَضَةً فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ وَلَيْسَ دَلِيلًا عِنْدَهُ إذَا كَانَ هُوَ لَا يَعْتَقِدُ
صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّقْضِ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ هُوَ أَيْضًا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ , وَقَدْ عَارَضَهُ بِمَا هُوَ دَلِيلٌ عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ دُونَهُ فَحَاصِلُهُ يَرْفَعُ إلَى مُنَاقَضَةِ الْمُسْتَدِلِّ , وَفِي الْحَقِيقَةِ فَكِلَاهُمَا مَخْصُومٌ , أَمَّا الْمُسْتَدِلُّ فَاسْتَدَلَّ بِدَلِيلٍ مُعْتَرَضٍ عَنْ مُرَجَّحٌ , وَأَمَّا الْمُعْتَرَضُ فَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارَضِ الْمُقَاوَمِ . وَمِنْ ذَلِكَ صُوَرُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَيْت مُقْتَضَاهُ الِاشْتِرَاءُ لَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ إلَى نِيَّةٍ , ثُمَّ إذَا نَوَى الشِّرَاءَ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ لِشَرِيكِهِ صَحَّ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ . وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَاهُ لِغَيْرِ مُوَكِّلِهِ عَلَى خِلَافٍ مَشْهُورٍ , وَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ إنَّ قَوْلَهُ اشْتَرَيْت مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الِاشْتِرَاءِ لَهُ وَلِمُوَكِّلِهِ غَلَطٌ , بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي الشِّرَاءِ لَهُ مُحْتَمِلٌ لِلشِّرَاءِ لِمُوَكِّلِهِ , وَرُبَّمَا قَدْ يُنَازِعُنَا فِيمَا إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لِظُهُورِ الشِّرَاءِ لِلْمُوَكِّلِ , فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ , فَنَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى شِرَاءِ الْوَلِيِّ مِثْلَ وَصِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَشِرَاءِ الِابْنِ , فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مُطْلَقَ هَذَا الْعَقْدِ يَقْتَضِي الشِّرَاءَ لِنَفْسِ الْمُشْتَرِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , وَالنِّيَّةُ الْبَاطِنَةُ تَعْمَلُ فِي مُقْتَضَى هَذَا السَّبَبِ الظَّاهِرِ , وَلَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّ اللَّفْظَ هُنَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَلِّيهِ , بَلْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ هُنَا الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ , كَمَا
أَنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ النِّكَاحِ هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الشَّرْعِيُّ , ثُمَّ هُنَا إذَا نَوَى الشِّرَى لِمُوَلِّيهِ أَثَّرَتْ النِّيَّةُ فِي مُقْتَضَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ , فَكَذَلِكَ هُنَاكَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْمَنْوِيَّ هُنَاكَ جَائِزٌ وَهُنَا غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّهُ هُنَاكَ نَوَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ وَهُنَا نَوَى أَنْ يَكُونَ مُحَلِّلًا وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ النِّيَّةِ تُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ , بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مُؤْثَرَةٌ بِحَسَبِهَا إنْ خَيْرًا فَخَيْرًا وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا , وَهَذَا الْفَرْقُ لَمْ يَجُزْ إلَّا مِنْ خُصُوصِ الْمَنْوِيِّ , وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِنَّ النِّيَّاتِ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي كَوْنِهَا نِيَّةً فَلَا بُدَّ أَنْ تَفْتَرِقَ فِي مُتَعَلَّقَاتِهَا . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا : فَقَوْلُهُ النِّيَّةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ إنْ عَنَى بِهِ الِاحْتِمَالَ الْمُسَاوِيَ لِصَاحِبِهِ , فَلَيْسَ احْتِمَالُ لَفْظِ الْعَقْدِ لِلْمُوَلِّي وَالْمُوَكِّلِ مُسَاوِيًا , فَلَا يَصِحُّ كَلَامُهُ , وَإِنْ عَنَى بِهِ مُطْلَقَ الِاحْتِمَالِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ , فَهَذَا لَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الظَّاهِرَةِ . وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ ; لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِي كُلِّ لَفْظٍ مُحْتَمَلٍ . وَنَفْيُ عَمَلِهَا فِي الظَّوَاهِرِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ وَهُوَ كَلَامٌ مُتَهَافِتٌ . وَإِنْ عَنَى بِالصَّرِيحِ النَّصَّ فَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ . فَإِنَّ صَرَائِحَ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ظَوَاهِرُ فِيهِ تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَيْسَتْ نُصُوصًا ثُمَّ
مَعَ هَذَا لَا يَنْفَعُهُ هَذَا الْكَلَامُ . فَإِنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ , وَلِهَذَا يُقَالُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ . وَيُقَالُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ . وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ مَجَازٌ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إلَى أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا وَهُوَ مَدْخَلٌ لِلَّفْظِ النِّكَاحِ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْرِيرِهِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ دَاخِلًا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَعْنِي الصَّرِيحَ بَلْ فِي الْأَوَّلِ ; صَارَ الْكَلَامُ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ . وَكَذَلِكَ هُوَ فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ رَدَّ بِهَا كَلَامَ مَنْ احْتَجَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْعُقُودِ كَعَقْدِ التَّوْكِيلِ وَنَحْوِهِ . فَزَعَمَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْمُحْتَمَلِ دُونَ الصَّرِيحِ . وَأَنَّ الْوَكَالَةَ مِنْ الْمُحْتَمَلِ وَالنِّكَاحَ مِنْ الصَّرِيحِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . فَأَيُّ تَفْسِيرٍ فَسَّرَ الْمُحْتَمَلَ وَالصَّرِيحَ دَخَلَ فِيهِ الْقِسْمَانِ جَمِيعًا . وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعِ فَجَوَابُهُ : أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا . وَقَوْلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ , بَلْ النِّيَّةُ فِي الْجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ فِي الْعَقْدِ إلَى غَيْرِ مُؤَثِّرٍ . كَمَا أَنَّ الشُّرُوطَ تَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ وَغَيْرِ مُؤَثِّرٍ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الصَّدَاقِ كَانَ
بَاطِلًا . وَإِذَا لَمْ يُنَافِهِ كَاشْتِرَاطِ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ أَوْ الْعَاقِدِ لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا , وَكَذَلِكَ النِّيَّةُ إذَا كَانَتْ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ أَوْ لِمُقْتَضَى الشَّرْعِ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً , وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُنَافِيَةً لَمْ تُؤَثِّرْ فَمَنْ نَوَى بِالشِّرَى الْقُنْيَةَ أَوْ التِّجَارَةَ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ عَنْ مُقْتَضَى الْبَيْعِ . بِخِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ عَلَى الْمُشْتَرِي ; أَمَّا مَنْ قَصَدَ أَنْ يَعْقِدَ لِيَفْسَخَ لَا لِغَرَضٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ قَصَدَ مَنْفَعَةً مُحَرَّمَةً بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهَذَا قَصَدَ مَا يُنَافِي الْعَقْدَ وَالشَّرْعَ . فَكَذَلِكَ أَثَّرَ فِي الْعَقْدِ وَقَدْ تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ الشَّرْطُ , فَإِنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّدْلِيسَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ الْمُسْتَنْكِحِ أَوْ الْمَنْكُوحَةِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا مُثْبِتًا لِخِيَارِ الْفَسْخِ أَوْ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ . وَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا لَازِمًا . فَظَهَرَ أَنَّ الْقَصْدَ يُؤَثِّرُ حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ الشَّرْطُ . كَمَا أَنَّ الشَّرْطَ يُؤَثِّرُ حَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ الْقَصْدُ . وَقَدْ يُؤَثِّرَانِ جَمِيعًا إذَا كُلٌّ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِلْآخَرِ فِي وَحْدِهِ وَحَقِيقَتِهِ . وَإِنَّمَا غَلِطَ هُنَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الشَّرْطُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ , وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْوَجْهُ الْخَامِسُ : فَقَدْ اعْتَرَفَ الْمُعْتَرِضُ بِفَسَادِهِ وَقَالَ نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ فَنَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ , فَلَا نَحْكُمُ
فِي عَقْدٍ أَنَّهُ عَقْدُ تَحْلِيلٍ , حَتَّى يَثْبُتَ ذَلِكَ إمَّا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ , أَوْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى تَوَاطُئِهَا قَبْلَ الْعَقْدِ , أَوْ تَشْهَدُ بِعُرْفٍ جَارٍ بِصُورَةِ التَّحْلِيلِ , فَإِنَّ الْعُرْفَ الْمُطَّرِدَ عَلَى حَالٍ جَارٍ مَجْرَى الشَّرْطِ بِالْمَقَالِ , لَكِنَّا وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ إلَّا بِالظَّاهِرِ فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعَامِلَ اللَّهَ تَعَالَى إلَّا بِالْبَيِّنَاتِ الصَّحِيحَةِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَنْوِيَ بِالشَّيْءِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ , وَعَلَيْنَا أَنْ نَنْهَى النَّاسَ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ , وَإِنْ لَمْ نَعْتَقِدْ أَنَّهَا فِيهِمْ , كَمَا نَنْهَاهُمْ عَنْ سَائِرِ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ , وَأَنْ لَا نَكْتُمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدَ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي تَضَمَّنَ طَاعَةَ الرَّسُولِ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعَ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ , وَعَلَيْنَا أَنْ لَا نُعِينَ أَحَدًا بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعَانَةِ عَلَى عَقِبٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ تَحْلِيلٌ , وَإِنْ لَمْ نَحْكُمْ بِأَنَّهُ تَحْلِيلٌ , كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نُعِينَ أَحَدًا عَلَى عَمَلٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَتْلِ مَعْصُومٍ أَوْ وَطْءِ مُحَرَّمٍ , وَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا يُخَافُ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلًا وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْقَلْبِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَالْغَرَضُ هُنَا بَيَانُ تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ وَفَسَادُ عَقْدِ الْمُحَلِّلِ فِي
الْبَاطِنِ . وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا بَيِّنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَصْلٌ فَأَمَّا إنْ نَوَى التَّحْلِيلَ مَنْ لَا فُرْقَةَ بِيَدِهِ مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْفُرْقَةَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا أَوْ تَنْوِيَهَا الْمَرْأَةُ فَقَطْ أَعَنَى إذَا نَوَتْ أَنَّ الزَّوْجَ يُطَلِّقُهَا , فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ : سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ التَّحْلِيلِ إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بِالتَّحْلِيلِ , فَقَالَ أَحْمَدُ : كَانَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالتَّابِعُونَ يُشَدِّدُونَ فِي ذَلِكَ , وَقَالَ أَحْمَدُ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ } . يَقُولُ أَحْمَدُ إنَّهَا كَانَتْ هَمَّتْ بِالتَّحْلِيلِ وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ . إنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } , وَلَيْسَ نِيَّةُ الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَا تُؤَثِّرُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُهُ , وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا عَلِمَتْ هِيَ أَوَ زَوْجَهَا الْأَوَّلَ أَوْ لَمْ يَعْلَمَا , وَإِنْ اعْتَقَدَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَسَأَلَتْهُ لَمَّا دَخَلَ الطَّلَاقَ أَوْ خَالَعَتْهُ بِمَالٍ جَازَ . قَالَ مَالِكٌ : لَا يَضُرُّ الزَّوْجَ مَا نَوَتْ الزَّوْجَةُ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ دُونَهَا قَالَ أَصْحَابُهُ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ مُخْتَصٌّ بِهِ الزَّوْجُ الثَّانِي , سَوَاءٌ فِيهِ وَاطَأَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ تَفَرَّدَ
بِذَلِكَ وَنَوَى الْإِحْلَالَ وَالطَّلَاقَ أَخَذَ عَلَيْهِ أَجْرًا أَمْ لَمْ يَأْخُذْ , فَإِذَا لَمْ يُوَاطِئْ الزَّوْجُ الثَّانِي وَلَا نَوَى فَهُوَ نِكَاحُ رَغْبَةٍ وَيُحِلُّهَا , وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ أَوْ دَسَّا إلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوْ بَذَلَا لَهُ مَالًا كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ , سَوَاءٌ عَلِمَ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا . وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا : إذَا هَمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ نِكَاحُ مُحَلِّلٍ , وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَلَفْظُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إذَا كَانَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَوْ الزَّوْجِ الثَّانِي أَوْ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ فَنِكَاحُ هَذَا الْأَخِيرِ بَاطِلٌ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ , وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا نَكَحَتْ الرَّجُلَ وَلَيْسَتْ هِيَ رَاغِبَةٌ فِيهِ فَلَيْسَتْ هِيَ نَاكِحَةً كَمَا تَقَدَّمَ , بَلْ هِيَ مُسْتَهْزِئَةٌ بِآيَاتِ اللَّهِ مُتَلَاعِبَةٌ بِحُدُودِ اللَّهِ , وَهِيَ خَادِعَةٌ لِلرَّجُلِ مَاكِرَةٌ بِهِ , وَهِيَ إنْ لَمْ تَمْلِكْ الِانْفِرَادَ بِالْفُرْقَةِ فَإِنَّهَا تَنْوِي التَّسَبُّبَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ بِهِ غَالِبًا بِأَنْ تَنْوِيَ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ وَإِظْهَارَ الزُّهْدِ فِيهِ وَكَرَاهَتَهُ وَبُغْضَهُ , وَذَلِكَ مِمَّا يَبْعَثُهُ عَلَى خُلْعِهَا أَوْ طَلَاقِهَا , وَيَقْتَضِيهِ فِي الْغَالِبِ , ثُمَّ إنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنْ تَنْوِيَ النُّشُوزَ عَنْهُ , وَفِعْلَ مَا يُكْرَهُ لَهَا , وَتَرْكَ مَا يَنْبَغِي لَهَا , فَهَذَا أَمْرٌ مُحَرَّمٌ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ فِي الْعَادَةِ , فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَتْ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ شَرْعًا , وَإِنْ
لَمْ تَنْوِ فِعْلَ مُحَرَّمٍ وَلَا تَرْكَ وَاجِبٍ , فَهِيَ لَيْسَتْ مُرِيدَةً لَهُ , وَمِثْلُ هَذِهِ فِي مَظِنَّةِ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ , وَلَا يَلْتَئِمُ مَقْصُودُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا , فَيُفْضِي إلَى الْفُرْقَةِ غَالِبًا , وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يُوجِبُ الْمَوَدَّةَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالرَّحْمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ , وَمَقْصُودُهُ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ , وَمَتَى كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ تَكْرَهُ الْمُقَامَ مَعَهُ وَتَوَدُّ فُرْقَتَهُ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مَعْقُودًا عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } فَلَمْ يُبِحْ إلَّا نِكَاحًا يُظَنُّ فِيهِ أَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَا تَظُنُّ أَنْ تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ ; لِأَنَّ كَرَاهِيَتَهَا لَهُ تَمْنَعُ هَذَا الظَّنَّ , وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَوْفِي مَنَافِعَ الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ كَمَا يَسْتَوْفِي الرَّجُلُ مَنَافِعَهَا , وَإِذَا كَانَتْ إنَّمَا تَزَوَّجَتْ لِتُفَارِقَهُ وَتَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ لَا لِتُقِيمَ مَعَهُ لَمْ تَكُنْ قَاصِدَةً لِلنِّكَاحِ وَلَا مُرِيدَةً لَهُ , فَلَا يَصْلُحُ هَذَا النِّكَاحُ عَلَى قَاعِدَةِ إبْطَالِ الْحِيَلِ , وَأَمَّا نِيَّةُ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ التَّابِعُونَ إنَّمَا قَالُوا إنَّهُ يَكُونُ النِّكَاحُ بِهَا تَحْلِيلًا , إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يَسْعَى فِي النِّكَاحِ , فَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ تَخْتَلِعَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا , فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ لِمَا أَنَّهُ
خَدَعَ رَجُلًا مُسْلِمًا , وَهُوَ قَدْ سَعَى فِي عَقْدٍ يُرِيدُ إفْسَادَهُ عَلَى صَاحِبِهِ , أَوْ يُشْبِهُ مَا لَوْ كَانَ قَدْ زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ , يُرِيدُ أَنْ يُمَلِّكَهَا إيَّاهُ , وَهِيَ لَمْ تَشْعُرْ بِذَلِكَ , ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ , بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ أَنْ تَعُودَ إلَى الْأَوَّلِ بِمِثْلِ هَذَا النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ قَصَدَ تَعْجِيلَ مَا أَجَّلَهُ اللَّهُ فَيُعَاقَبُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ , وَقَدْ يُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ تَسَبَّبَ رَجُلٌ فِي الْفُرْقَةِ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ لِيُطَلِّقَهَا , إمَّا بِأَنْ يُخَبِّبَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَبْغُضَهُ وَتَخْتَلِعَ مِنْهُ , أَوْ يَشِينَهَا عِنْدَهُ بِبُهْتَانٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا , أَوْ أَنْ يَقْتُلَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَيُقَالُ : إنَّ الْفُرْقَةَ وَاقِعَةٌ وَلَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الْمُفَرِّقِ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ , أَوْ فَعَلَ الْوَارِثُ بِامْرَأَةٍ مَوْرُوثَةٍ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهُ , وَلَيْسَ لَهُ زَوْجَةٌ غَيْرُهَا , فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنْ الْمِيرَاثِ , وَلَا يُبِيحُ لِلْوَرَثَةِ أَخْذَهُ , وَهَذَا كَمَا يَقُولُهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَوْ ابْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَنَّ عَقْدَهُ بَاطِلٌ , فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُبْطِلُ عَقْدَ مَنْ زَاحَمَ غَيْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْقِدَ فَلَأَنْ يَبْطُلَ عَقْدُ مَنْ تَسَبَّبَ فِي فَسْخِ عَقْدِ الْأَوَّلِ أَوْلَى . وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا , مَتَى نَوَى التَّحْلِيلَ , أَوْ سَعَى فِيهِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَرْأَةُ
بِذَلِكَ , وَهَذَا قَالُوا إذَا كَانَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ , فَنِكَاحُ هَذَا الْأَخِيرِ بَاطِلٌ , وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ , وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِيمَنْ لَهُ فِعْلٌ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي , أَمَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُطَلِّقِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ أَصْلًا وَقَدْ تَنَاكَحَ الزَّوْجَانِ نِكَاحَ رَغْبَةٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَالْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يُطَلِّقَهَا هَذَا فَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَهَذَا أَقْصَى مَا يُقَالُ إنَّهُ مُتَمَنٍّ مُحِبٌّ وَلَيْسَ بِنَاوٍ فَإِنَّ نِيَّةَ الْمَرْءِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ . وَمَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَهُوَ أُمْنِيَّةٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ الْأَوَّلَ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ وَالتَّعْرِيضُ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا مِنْهُ . وَذَلِكَ بَعْدَ عِدَّتِهَا مِنْهُ أَشَدُّ وَأَشَدُّ فَيَكُونُونَ قَدْ حَرَّمُوهَا عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ خَطَبَهَا أَوْ تَشَوَّقَ إلَيْهَا فِي وَقْتٍ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ , وَهَذَا يُوجِبُهُ قَوْلُ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجَانِ حَلَّتْ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ , مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } , فَلَوْ كَانَ التَّحْلِيلُ يَحْصُلُ بِنِيَّةِ الزَّوْجِ تَارَةً وَبِنِيَّةِ الزَّوْجَةِ أُخْرَى لَلَعَنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا , وَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ لَعْنَةِ أَكْلِ الرِّبَا , وَمُوَكِّلِهِ , فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهَا فِي اللَّعْنَةِ عُلِمَ أَنَّ
التَّحْلِيلَ الَّذِي يَكُونَ بِالنِّيَّةِ إنَّمَا يُلْعَنُ فِيهِ الزَّوْجُ فَقَطْ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَفْظُ الْمُحَلِّلِ يَعُمُّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ , فَإِنَّهَا حَلَّلَتْ نَفْسَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ ; لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ , وَقَالَ هُوَ الْمُحَلِّلُ } , وَهَذِهِ صِفَةُ الرَّجُلِ خَاصَّةً , ثُمَّ لَوْ عَمَّهُمَا اللَّفْظُ فَإِنَّمَا ذَاكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لِاجْتِمَاعِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَحْلِيلُ الرَّجُلِ مَوْجُودًا حَتَّى تَدْخُلَ مَعَهُ الْمَرْأَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ , أَمَّا إذَا نَوَتْ هِيَ وَهُوَ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَيْسَ هُوَ بِمُحَلِّلٍ أَصْلًا , فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَرْأَةُ وَحْدَهَا فِي لَفْظِ الْمُذَكَّرِ , إلَّا أَنْ يُقَالَ قَدْ اجْتَمَعَا فِي إرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُمَا , وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي عَيْنِ هَذَا النِّكَاحِ , فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُفْتَرِقَيْنِ أَتَى بِلَفْظِ الْمُذَكَّرِ أَيْضًا , فَهَذَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ , وَأَيْضًا فَالْمُحَلِّلُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ حَلَالًا فِي الظَّاهِرِ , وَهِيَ لَيْسَتْ حَلَالًا فِي الْحَقِيقَةِ , وَهَذَا صِفَةُ مَنْ يُمْكِنُهُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ , وَاسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا بِحَدِيثِ تَمِيمَةَ بِنْتِ وَهْبٍ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ , فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ عُرْوَةَ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا , قَالَ { جَاءَتْ امْرَأَةُ
رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي , وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ , وَإِنِّي تَزَوَّجْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ , وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ , وَفِي رِوَايَةٍ وَمَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ أَشَارَتْ لِهُدْبَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك , وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ , فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ } . فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّهَا مَعَ إرَادَتِهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُجَامِعَهَا , فَعُلِمَ أَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ , وَلَوْ كَانَتْ إرَادَتُهَا تَحْلِيلًا مُفْسِدًا لِلنِّكَاحِ أَوْ مُحَرِّمًا لِلْعَوْدِ إلَى الْأَوَّلِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ , سَوَاءٌ جَامَعَهَا أَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا , فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّهَا إنَّمَا أَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ حَلِّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ , وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا مُرْتَغِبًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِتُرَاجِعَ الْأَوَّلَ , كَمَا أَرَادَ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْ يُطَلِّقَ
امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ إنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ , تُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ جِمَاعِهَا فَأَحَبَّتْ طَلَاقَهُ لِذَلِكَ , ثُمَّ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ , ثُمَّ الْأَصْلُ عَدَمُ الْإِرَادَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ قُلْنَا الْجَوَابُ أَوْجُهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَوَّزَ لَهَا مُرَاجَعَةَ الْأَوَّلِ إذَا جَامَعَهَا الثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ رَغْبَتُهَا فِي الْأَوَّلِ , وَلَمْ يَفْعَلْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِرَادَةُ حَدَثَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ , دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحِلَّ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ , فَإِنْ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالَ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ , حَتَّى لَوْ كَانَ احْتِمَالُ تَجَدُّدِ الْإِرَادَةِ هُوَ الرَّاجِحُ لَكَانَ الْإِطْلَاقُ يَعُمُّ الْقِسْمَيْنِ إذَا كَانَ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ ظَاهِرًا , وَالْأَمْرُ هُنَا كَذَلِكَ , فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي أَلِفَتْ زَوْجًا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَدْ يَبْقَى فِي نَفْسِهَا مِنْهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْوَالِ , وَالنِّسَاءُ فِي الْغَالِبِ يَبْغُضْنَ الطَّلَاقَ وَيُحْبِبْنَ الْعَوْدَ إلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْبِبْنَ مُعَاشَرَةَ غَيْرِهِ . الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ كَانَتْ رَاغِبَةً فِي زَوْجِهَا الْأَوَّلِ بِخُصُوصِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا رَغْبَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْوَاجِ , فَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { قَالَتْ : طَلَّقَ رَجُلٌ
امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَطَلَّقَهَا , وَكَانَ مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَلَمْ تَصِلْ مَعَهُ إلَى أَيِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا , فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي وَإِنِّي تَزَوَّجْت زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا مِثْلُ الْهُدْبَةِ , فَلَمْ يَقْرَبْنِي إلَّا هَنَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنْهُ إلَيَّ شَيْءٌ , فَأَحِلُّ لِزَوْجِي الْأَوَّلِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِك الْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ عُسَيْلَتَك وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ } , مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا , فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ } , وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ { أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سِمْوَالَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا , فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَغْشَاهَا فَفَارَقَهَا , فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا وَهُوَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا . فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا . وَقَالَ لَا يَحِلُّ لَك حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ } . وَذَكَرَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ الْحَدِيثَ . وَزَادَ { فَقَعَدَتْ ثُمَّ جَاءَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنْ قَدْ مَسَّهَا فَمَنَعَهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ , وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ إنَّمَا بِهَا أَنْ يَجْعَلَهَا لِرِفَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ لَهَا نِكَاحُهُ مَرَّةً أُخْرَى } , ثُمَّ أَتَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِمَا فَمَنَعَاهَا , فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا رِفَاعَةُ , لَا طَلَبًا لِفُرْقَتِهِ بَلْ طَلَبًا لِمُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ , وَأَخْبَرَتْ بِصِفَةِ إفْضَائِهِ لِيُفْتِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ أَمْ لَا فَلَمَّا أَفْتَاهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بَعْدَ الْوَطْءِ قَعَدَتْ ثُمَّ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ مَسَّهَا فَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ , وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَى الْكَذِبِ أَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْ أَوَّلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَمْ تَحِلَّ , فَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ قَدْ مَسَّهَا فَمَنَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَمْ يُوَاقِعْهَا ثُمَّ أَخْبَرَتْ بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ رُجُوعَهَا عَنْ الْإِقْرَارِ , وَقَالَ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مَا بِهَا إلَّا أَنْ تَجْعَلَهَا لِرِفَاعَةِ فَلَا يَتِمُّ لَهَا نِكَاحُهُ مَرَّةً أُخْرَى دُعَاءً عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى كَذِبِهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا لِئَلَّا يَتَسَرَّعَ النَّاسُ فِي الْكَذِبِ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ بِهِ الْحَرَامَ .
ثُمَّ إنَّهَا أَتَتْ فِي خِلَافَةِ الشَّيْخَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ أَبْيَنُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ رَغْبَتُهَا فِي رِفَاعَةَ لَا فِي غَيْرِهِ , وَإِلَّا فَفِي الْأَزْوَاجِ كَثْرَةٌ فَهَذَا الْإِلْحَاحُ فِي نِكَاحِهِ وَتَأَيُّمُهَا عَلَيْهِ عَسَى أَنْ تُمَكَّنُ مِنْ نِكَاحِهِ وَمُرَاجَعَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَالدُّخُولُ فِي التَّزْوِيرِ مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِهِ مُمْكِنٌ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مَحَبَّتِهِ مِنْهَا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ , وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ وَالرَّغْبَةُ لَمْ تَتَّحِدْ بِإِعْرَاضِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهَا , فَإِنَّ إعْرَاضَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهَا أَكْثَرُ مَا يُوجِبُ إرَادَتَهَا لِلنِّكَاحِ مِمَّنْ كَانَ , أَمَّا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِسَبَبٍ يَخْتَصُّ بِهِ , وَهَذَا لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ النِّكَاحِ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ , فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَحْدُثُ , ثُمَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ مِنْهَا لَهُ إنَّمَا سَبَبُهَا مَعْرِفَتُهَا بِهِ حَالَ النِّكَاحِ , وَإِلَّا فَبَعْدَ الطَّلَاقِ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ , نَعَمْ قَدْ يَهِيجُ الشَّوْقُ عِنْدَ الْمَنْعِ مِنْهُ , لَكِنَّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى مَحَبَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ , وَلَا يُقَالُ تَزَوَّجْت بِغَيْرِهِ لَعَلَّهَا تَسْلُو فَلَمَّا لَمْ يَعُفَّهَا , هَاجَ الْحُبُّ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَآخَرَ لَعَلَّهُ يَعُفُّهَا وَتُسَلَّى بِهِ , فَلَمَّا لَمْ تَتَزَوَّجْ إلَّا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ , عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مُرِيدَةً لَأَنْ يُحْلِلَهَا لِلْأَوَّلِ , عَسَى أَنْ تَرْجِعَ إلَيْهِ , وَلَمْ تَتَزَوَّجْ بِغَيْرِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُمْسِكَهَا
بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ سَبَبٌ تَطْلُبُ بِهِ فِرَاقَهُ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا قَبْلَ الطَّلَاقِ , فَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ , { أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَتَتْ عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ , فَشَكَتْ إلَيْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا , قَالَتْ عَائِشَةُ مَا رَأَيْت مَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا , قَالَ وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ مِنْ غَيْرِهَا , فَقَالَتْ وَاَللَّهِ مَا لِي إلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا أَنَّ مَا بِهِ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا , فَقَالَ : كَذَبَتْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلِّينَ لَهُ , وَلَمْ تَصْلُحِينَ لَهُ , حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك , قَالَ وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ لَهُ , فَقَالَ أَبَنُوك هَؤُلَاءِ , قَالَ نَعَمْ , قَالَ : هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ فَوَاَللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ } , قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ : هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُرْسَلًا عَنْ بِنْدَارٍ , وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَوَهْبٌ عَنْ أَيُّوبَ مُرْسَلًا , وَقَدْ أَسْنَدَهُ سُوَيْد بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ
الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ فَقَالَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ , وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ { قَالَ جَاءَتْ الْغُمَيْصَاءُ أَوْ الرُّمَيْصَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا , وَتَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهَا , فَمَا كَانَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا فَزَعَمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ لَك ذَلِكَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك رَجُلٌ غَيْرَهُ } فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَخِيهِ { أَنَّهَا شَكَتْ زَوْجَهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا , وَزَعَمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا وَطَلَبَتْ فُرْقَتَهُ لِذَلِكَ , فَكَذَّبَهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إنَّمَا بِهَا مُرَاجَعَةُ الْأَوَّلِ وَأَنَّهَا نَاشِزٌ غَيْرُ مُطِيعَةٍ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحِلِّينَ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَك , يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنِّي قَادِرٌ عَلَى وَطْئِهَا وَجِمَاعِهَا وَأَنْ أَنْفُضَهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ لَكِنَّهَا نَاشِزٌ لَا تُمَكِّنُنِي , فَإِنَّهَا تُرِيدُ رِفَاعَةَ , فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحِلِّينَ لَهُ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ , فَطَلَّقَهَا وَلَمْ تَذُقْ الْعُسَيْلَةَ } أَوْ أَنَّهَا لَمَّا ادَّعَتْ عَدَمَ الْوَطْءِ كَانَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ فَلَمْ تُجْعَلْ حَلَالًا بِدَعْوَى
الزَّوْجِ أَنَّهُ وَطِئَهَا إذَا كَانَتْ هِيَ مُعْتَرِفَةً بِمَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ , لَكِنَّ حَدِيثَ مَالِكٍ عَنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُعْرِضًا عَنْهَا . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْتَضِي دَعْوَاهُ إمَّا التَّمْكِينَ مِنْ وَطْئِهَا أَوْ فِعْلَ الْوَطْءِ فَعَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَكُونُ قَدْ جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ جَاءَتْهُ بَعْدَهُ , وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ إمَّا أَنَّهُ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْهَا كَمَا أَخْبَرَتْ أَوْ كَانَتْ نَاشِزًا عَنْهُ كَمَا أَخْبَرَ , وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الرَّغْبَةِ التَّامَّةِ فِي مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا تَكُونُ قَدْ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ , ثُمَّ جَاءَتْ الْخَلِيفَتَيْنِ وَمَنْ يَصْدُرُ عَنْهَا مِثْلُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حِرْصُهَا عَلَى مُرَاجَعَتِهَا حِينَ الْعَقْدِ . فَأَقَلُّ مَا قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَوْ كَانَ مُؤَثِّرًا أَنْ يُقَالَ لَهَا إنْ كُنْت وَقْتَ الْعَقْدِ كُنْت مُرِيدَةً لَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَرْجِعِي إلَيْهِ بِحَالٍ , فَلَمَّا لَمْ يُفَصِّلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ظُهُورِ هَذَا الْقَرَارِ عُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ , وَأَيْضًا فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ مُرَاجَعَةَ الْأَوَّلِ , فَالْمَرْءُ لَا يُلَامُ عَلَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ , وَإِنَّمَا عَلَيْهَا أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي زَوْجِهَا وَتُحْسِنَ مُعَاشَرَتَهُ وَتَبْذُلَ حَقَّهُ غَيْرَ مُتَبَرِّمَةٍ وَلَا كَارِهَةٍ , فَإِذَا نَوَتْ هَذَا وَقْتَ الْعَقْدِ فَقَدْ نَوَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا .
فَإِذَا نَوَتْ فِعْلَ مَا لَا يَحِلُّ مِمَّا لَا يُوجِبُ طَلَاقَهَا فَسَيَأْتِي ذِكْرُ هَذَا , وَأَمَّا اخْتِلَاعُ الْمَرْأَةِ وَانْتِزَاعُهَا مِنْ بَعْلِهَا فَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا نِيَّةُ الْمَرْأَةِ أَوْ الْمُطَلِّقِ لَا تُؤَثِّرُ : فَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ مِنْ إفْسَادِ حَالِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ إلَّا إذَا كَانَتْ تَظُنُّ أَنْ تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَعَهُ . وَتَعْتَقِدُ أَنَّهُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ . وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يُطَلِّقْ أَطَاعَتْهُ وَلَمْ تَنْشُزْ عَنْهُ .
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ أَوْ تُسِيءَ الْعَشَرَةَ بِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ فِي بَذْلِ حُقُوقِهِ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ مُحَرَّمٍ , مِثْلَ طُولِ اللِّسَانِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ النُّشُوزِ وَعَلَى وُجُوبِ حُقُوقِ الرَّجُلِ , فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا ; وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ ; وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِهِ أَنْ تُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِفِعْلٍ هُوَ فِيهِ مُكْرَهٌ إذَا طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ مُفَادِيًا مِنْ شَرِّهَا ; وَالِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي إبْطَالِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَلَمْ يَجِبْ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ ; وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ بِحَالٍ , وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ لَا مُجَرَّدُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ , وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تُظْهِرَ مَعْصِيَةً تُنَفِّرُهُ عَنْهَا لِيُطَلِّقَهَا , مِثْلَ أَنْ تُرِيَهُ أَنَّهَا تَتَبَرَّجُ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ ; وَيَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ ذَوِي مَحَارِمِهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا ; فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ ; إذْ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرِيَ زَوْجَهَا أَنَّهَا فَاجِرَةٌ ; كَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَفْجُرَ ; فَإِنَّ هَذَا أَشَدُّ إيذَاءً لَهُ مِنْ نُشُوزِهَا عَنْهُ ; فَهَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَأَظْهَرُ إبْطَالًا لِلْعَقْدِ
الثَّانِي مِنْ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ . وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُخَبِّبَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّ السَّعْيَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ ; بَلْ هُوَ فِعْلُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَفِعْلُ الشَّيْطَانِ الْمَحْظِيِّ عِنْدَ إبْلِيسَ ; كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ . وَلَا رَيْب أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوَّجَهَا ; ثُمَّ بُطْلَانُ عَقْدِ الثَّانِي هُنَا أَقْوَى مِنْ بُطْلَانِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى , وَأَقْوَى مِنْ بُطْلَانِ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَشِرَائِهِ عَلَى شِرَائِهِ . فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا حَصَلَ بِفِعْلِ مُبَاحٍ فِي الْأَوَّلِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ قَصْدِ مُزَاحِمَةِ الْمُسْلِمِ , وَهُنَا فِيهِ قَصْدُ الْمُزَاحِمَةِ , وَإِنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ , وَإِنَّمَا صَارَ فِي صِحَّةِ مِثْلِ هَذَا خِلَافٌ ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ . وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي , وَالِاعْتِقَادُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَا لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي وَلَكِنْ لِشَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا ; لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَتْ بِنِيَّةِ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأَنْ تَنْوِيَ أَنَّهَا تَخْلَعُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَطْلُقْ وَإِلَّا نَشَزَتْ عَنْهُ , وَأَنْ تَحْتَالَ عَلَيْهِ لِتَطْلُقَ " فَهَذَا الْعَقْدُ الْأَوَّلُ أَيْضًا حَرَامٌ ; وَإِذَا كَانَ مَنْ تَزَوَّجَ بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ زَانِيًا أَوْ مَنْ أَدَّانِ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ سَارِقًا فَمَنْ تَزَوَّجَتْ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ
حُقُوقَ الزَّوْجِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عَاصِيَةً , فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا قَصَدَتْ أَنْ لَا تَفِيَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ قَدْ قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ , فَصَارَتْ قَاصِدَةً لِعَدَمِ هَذَا الْعَقْدِ وَلِوُجُودِ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ , وَتَحْرِيمُ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } وَهَذِهِ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ الَّتِي لَا تَظُنُّ إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ , وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً وَبِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي أَوْ يُؤَجِّرَ دَارًا بِنِيَّةِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ سُكْنَاهَا , بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِمَنْعِ الْحُقُوقِ حَمْلَهُ عَلَى الْفُرْقَةِ , فَتَقْصِدُ مَنْعَ حُقُوقِ الْعَقْدِ , وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ , وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ يُطْلِقُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ صِحَّتَهُ ; لِأَنَّ الْعَاقِدَ الْآخَرَ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا , فَفِي الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ , وَالْإِبْطَالُ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ فَلَا يُزَالُ عَنْهُ ضَرَرٌ قَلِيلٌ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ , وَلَيْسَ الْعَقْدُ حَرَامًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ , وَمَتَى حُكِمَ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حُكِمَ بِحِلِّ مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ ذَلِكَ السُّوءُ فَيُحْكَمُ بِوُجُوبِ عِوَضِهِ عَلَيْهِ , وَإِلَّا كَانَ آكِلًا لَهُ بِالْبَاطِلِ , وَمَتَى قِيلَ بِوُجُوبِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ , فَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْآخَرِ الْخَادِعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَصَدَ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ , فَأَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الْعِوَضَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , وَلَزِمَ مِنْ هَذَا اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ الْمَالِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ . فَصِحَّةُ الْعَقْدِ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَحَدُّ الِانْتِقَاعِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَإِنْ مَنَعَتْ الْمَرْأَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّجْشِ , وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالْمُتَوَجِّهُ أَنْ يُقَالَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِمَا حَصَلَ لَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعَ حِلِّ الِانْتِفَاعِ لِلْآخَرِ , كَمَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَالِهِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَالِكُ الْمَالِ حَلَالًا مَعَ أَنَّ الْحَائِلَ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي حَالَ بَيْنَ مَالِكِهِ وَبَيْنَهُ , فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَاسِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ , وَمَعْنَى التَّصْحِيحِ مَا حَصَلَ الْعِوَضُ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ تَنْوِيعُهُ , وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تَخْدَعَهُ بِأَنْ تَسْتَحْلِفَهُ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ . ثُمَّ تَحُثُّهُ فِيهَا بِأَنْ تَقُولَ أَقَارِبِي يُرِيدُونَ أَنْ أَذْهَبَ إلَيْهِمْ وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ , فَاحْلِفْ عَلَى أَنْ لَا أَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ , فَيَحْلِفُ ثُمَّ تَذْهَبُ إلَيْهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَهَذَا أَيْضًا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنَّ هَذِهِ عَصَتْهُ بِأَنْ فَعَلَتْ مَا نَهَاهَا عَنْهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَنَحْوِهِ , وَخَدَعَتْهُ بِأَنْ احْتَالَتْ عَلَى أَنْ طَلَّقَ , وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِيلَةُ حَرَامٌ
بِالِاتِّفَاقِ وَهَذِهِ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا .
الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ تَفْعَلَ هِيَ مَا يُوجِبُ فُرْقَتَهَا مِثْلَ أَنْ تَرْتَدَّ أَوْ تُرْضِعَ امْرَأَةً صَغِيرَةً حَتَّى تَصِيرَ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ , أَوْ تُبَاشِرَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ , وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُرْتَدَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْفَسِخَ نِكَاحُهَا , فَأَمَّا الْإِرْضَاعُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَيَنْفَسِخُ بِهِمَا النِّكَاحُ فَهَذَا أَيْضًا تَحْرِيمُهُ مَقْطُوعٌ بِهِ , وَهَذَا قَدْ أُزِيلَ نِكَاحُهُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ , كَمَا صُرِفَ الْخَاطِبُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ , ثُمَّ إزَالَةُ النِّكَاحِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَيْسَ مِثْلَ مَنْعِ الْمُنْتَظِرِ , فَإِذَا كَانَتْ قَدْ قَصَدَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْمُحَرَّمَاتُ , وَفَسَادُ الْعَقْدِ الثَّانِي هَذَا أَظْهَرُ مِنْ فَسَادِ عَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي بِكَثِيرٍ , وَفَسَادُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا مُحْتَمَلٌ , فَإِنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَلِّلِ حَيْثُ نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ , كَمَا نَوَى الرَّجُلُ الْفُرْقَةَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نِيَّةِ الْفُرْقَةِ وَنِيَّةِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ , فَإِنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ وَالْمُطَلِّقِ بَيْعُ الزَّوْجِ الْعَبْدَ لَهَا لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ الْفُرْقَةَ , لَكِنْ يُقَالُ إنَّهَا قَدْ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِرْضَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ , كَتَمَكُّنِ الزَّوْجِ مِنْ الطَّلَاقِ , وَتَمَكُّنِ الْمُطَلِّقِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَنْوِيَّ هُنَا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ , فَقَدْ لَا يَفْعَلُهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ
يَجْعَلْ الشَّرْعُ إلَيْهَا هَذَا الْفَسْخَ مُبَاشَرَةً وَلَا سَبَبًا , فَنِيَّتُهَا أَنْ تَفْعَلَهُ مِثْلُ مُخَادَعَةِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلْآخَرِ , وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزَّوْجِ بِخِلَافِ نِيَّةِ الزَّوْجِ لِلْفَسْخِ فَإِنَّ الشَّارِعَ مَلَّكَهُ إيَّاهُ فَإِذَا نَوَاهُ خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا , وَكَذَلِكَ إذَا نَوَاهُ السَّيِّدُ وَالزَّوْجَةُ , فَإِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْفُرْقَةَ شَرْعًا بِنَقْلِ الْمِلْكِ فِي الزَّوْجِ , فَإِذَا قَصَدَ ذَلِكَ خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِمَّنْ يَمْلِكُ رَفْعَهُ شَرْعًا , لَا سِيَّمَا وَالسَّيِّدُ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ فِي النِّكَاحِ , وَالسَّيِّدُ وَالْعَبْدُ فِي النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِ الْحُرِّ , فَهُوَ يَمْلِكُ الْعَقْدَ بِمُوَاطَأَةِ الْمَرْأَةِ , فَنِيَّتُهُ لِلْفَسْخِ كَنِيَّةِ الزَّوْجِ , إذْ النِّكَاحُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ , وَلَمْ يُوجَدْ لِلزَّوْجِ إذْنُ رَغْبَةٍ , وَالْمَرْأَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى رَغْبَتِهَا إذَا رَضِيَتْ بِالْعَقْدِ , كَمَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّهَا إذَا مَلَّكَتْ اسْتَوَى الْحَالُ فِي رَغْبَتِهَا وَعَدَمِ رَغْبَتِهَا . وَبِالْحَمَلَةِ فَهَذِهِ قَصَدَتْ الْفَسْخَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ , فَالْوَاجِبُ أَنْ تَلْحَقَ بِاَلَّتِي قَبْلَهَا , إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ يُوجِبُ الْفَسْخَ مُبَاشَرَةً أَوْ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ الْمُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا , أَوْ السَّبَبِ الْمُغَلَّبِ بِالْمُبَاشَرَةِ .
الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ : أَنْ تَقْصِدَ وَقْتَ الْعَقْدِ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ تَمْلِكُهُ بِغَيْرِ رِضَا الزَّوْجِ , وَمِثْلُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِفَقِيرٍ تَنْوِي طَلَبَ فُرْقَتِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا , فَإِنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ , فَإِنَّهَا إذَا رَضِيَتْ بِمُعْسِرٍ ثُمَّ سَخِطَتْهُ فَفِي ثُبُوتِ الْفَسْخِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ , فَهَذِهِ إلَى الْمُحَلِّلِ أَقْرَبُ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا , إذْ السَّبَبُ هُنَا مَمْلُوكٌ لَهَا شَرْعًا , كَطَلَاقِ الْمُحَلِّلِ وَبَيْعِ الزَّوْجِ الْعَبْدَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ , أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ نَاقِصٌ عَنِّي لَيْسَ بِكُفْءٍ , أَوْ لَمْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِنَّ هَذَا يُثْبِتُ لَهَا الْفَسْخَ . لَكِنْ إذَا نَوَتْ ذَلِكَ فَقَدْ نَوَتْ الْكَذِبَ فَتَصِيرُ مِنْ جِنْسِ الَّتِي قَبْلَهَا إذَا نَوَتْ الْإِرْضَاعَ أَوْ الْمُبَاشَرَةَ , وَهَذَا أَقْوَى مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا الْكَذِبَ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ , وَإِنَّمَا يُفَارِقُ الْمُحَلِّلُ فِي جَوَازِ التَّوْبَةِ . وَمَسْأَلَةُ الْمُعْسِرِ مُحْتَمَلٌ فِيهَا تَجَرُّدُ الْيَسَارِ فَلَيْسَ الْمَنْوِيُّ هُنَا مَقْطُوعًا بِإِمْكَانِهِ كَنِيَّةِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ , وَهَذَا الْقَدْرُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبِيعَهَا الْعَبْدَ أَيْضًا بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ عِتْقٌ أَوْ يَمُوتَ الْمُطَلِّقُ أَوْ يَرْجِعَ السَّيِّدُ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ . وَمَسْأَلَةُ التَّزْوِيجِ بِمُعْسِرٍ وَنَحْوِهِ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَةِ الْعَبْدِ , فَإِنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ نَوَاهَا مَنْ يَمْلِكُهَا , وَمَتَى نَوَاهَا مَنْ يَمْلِكُهَا فَلَا فَرْقَ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّوْجُ أَوْ السَّيِّدُ أَوْ الزَّوْجَةُ وَحْدَهَا أَوْ الزَّوْجَةُ وَأَجْنَبِيٌّ , كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةً فَاتَّفَقَتْ هِيَ وَسَيِّدُهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِعَبْدٍ ثُمَّ يَعْتِقَهَا , فَإِنَّهُمَا قَدْ اتَّفَقَا عَلَى فُرْقَةٍ لَا يَمْلِكُهَا الزَّوْجُ , مِثْلَ مَسْأَلَةِ بَيْعِهَا الزَّوْجَ الْعَبْدَ , وَسَائِرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَصَدَتْ الْفُرْقَةَ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ مِثْلِ دَعْوَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعُسْرَةِ , أَوْ النَّقْصِ أَوْ الْعَيْبِ أَيْضًا قَرِيبَةٌ مِنْ هَذَا , وَمَتَى تَزَوَّجَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَفَارَقَتْ فَهِيَ كَالرَّجُلِ الْمُحَلِّلِ وَأَسْوَأَ , فَلَا يَحِلُّ لَكِنْ لَوْ أَقَامَتْ عِنْدَ الزَّوْجِ فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ كَمَا فِي الرَّجُلِ الْمُحَلِّلِ , وَلَوْ عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ نِيَّتِهَا وَهِيَ مُقِيمَةٌ عَلَيْهِ , فَهَلْ يَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا هَذَا فِيهِ نَظَرٌ , فَإِنَّ الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ مَمْلُوكَةٌ وَالزَّوْجُ هُوَ الْمَالِكُ , وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ عَاقِدًا وَمَعْقُودًا عَلَيْهِ , لَكِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْغَالِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ . وَنِيَّةُ الْإِنْسَانِ قَدْ لَا تُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ مِلْكِ غَيْرِهِ , كَمَا يُؤَثِّرُ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ , وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ , فَالرَّجُلُ إذَا نَوَى التَّحْلِيلَ فَقَدْ قَصَدَ مَا يُنَافِي الْمِلْكَ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ فَانْتَفَتْ سَائِرُ الْأَحْكَامِ تَبَعًا , وَإِذَا نَوَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَأْتِيَ بِالْفُرْقَةِ فَقَدْ نَوَى هُوَ لِلْمِلْكِ وَهِيَ قَدْ مَلَّكَتْهُ نَفْسَهَا فِي
الظَّاهِرِ , وَالْمِلْكُ يَحْصُلُ لَهُ إذَا قَصَدَهُ حَقِيقَةً مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ ظَاهِرًا , لَكِنَّ نِيَّتَهَا تُؤَثِّرُ فِي جَانِبِهَا خَاصَّةً فَلَا يَحْصُلُ لَهَا بِهَذَا النِّكَاحِ حِلُّهَا لِلْأَوَّلِ حَيْثُ لَمْ تَقْصِدْ أَنْ تَنْكِحَ , وَإِنَّمَا قَصَدَتْ أَنْ تُنْكَحَ , وَالْقُرْآنُ قَدْ عَلَّقَ الْحِلُّ بِأَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } , يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نِكَاحٌ حَقِيقَةً مِنْ جِهَتِهَا لِزَوْجٍ هُوَ زَوْجٌ حَقِيقَةً , فَإِذَا كَانَ مُحَلِّلًا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا بَلْ تَيْسًا مُسْتَعَارًا , وَإِذَا كَانَتْ قَدْ نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ لَمْ تَكُنْ نَاكِحَةً حَقِيقَةً , وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْأَحْكَامِ دَقِيقَةُ الْمَسْلَكِ وَتَحْرِيرُهَا يُسْتَمَدُّ مِنْ تَحْقِيقِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ . وَالْفَسَادُ وَإِمْكَانُ فَسَادِ الْعَقْدِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ , وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي هَذَا لَا يَخُصُّ مَسْأَلَةَ التَّحْلِيلِ لَمْ يَحْسُنْ بَسْطُ الْقَوْلِ فِيهِ , وَهَذِهِ الْمَرَاتِبُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نِيَّةِ الْمَرْأَةِ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا . وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَعُمُّ مَا إذَا نَوَتْ أَنْ تُفَارِقَ بِطَرِيقِ تَمَلُّكِهِ , فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْفُرْقَةَ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ , ثُمَّ إنَّهُمْ قَالُوا إنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ , فَأَمَّا إذَا نَوَتْ وَعَمِلَتْ مَا نَوَتْ فَلَمْ يَنْفُوا تَأْثِيرَ الْعَمَلِ مَعَ النِّيَّةِ ,
عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَمْلِكُهُ النَّاوِي , فَعَلِمَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالنِّيَّةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْأَوَّلِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّهَا إذَا نَوَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالْأَوَّلِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ شَيْئًا كَمَا تَقَرَّرَ فَإِنَّ هَذِهِ النِّيَّةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِ الثَّانِي , وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْعُرْفَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ نِيَّةُ مُرَاجَعَةِ الْأَوَّلِ إذَا أَمْكَنَتْ , فَأَمَّا إذَا نَوَتْ فِعْلًا مُحَرَّمًا أَوْ خَدِيعَةً أَوْ مَكْرًا وَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ , وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَظْهَرُ حَقِيقَةُ الْحَالِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَيَظْهَرُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَانِبِ مَنْ اعْتَبَرَ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا , وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا , وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي تَيَسَّرَ الْآنَ , وَهُوَ آخَرُ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ التَّحْلِيلِ , وَهِيَ كَانَتْ الْمَقْصُودَةَ أَوَّلًا بِالْكَلَامِ , ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِيهَا مَبْنِيًّا عَلَى قَاعِدَةِ الْحِيَلِ , وَالْتَمَسَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ مَزِيدَ بَيَانٍ فِيهَا ذَكَرْنَا فِيهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ بِحَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَإِلَّا فَالْحِيَلُ يَحْتَاجُ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ فِيهَا إلَى أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِنَظَرٍ خَاصٍّ , وَيَذْكُرَ حُكْمَ الْحِيلَةِ فِيهَا , وَطُرُقَ إبْطَالِهَا إذَا وَقَعَتْ . وَهَذَا يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَسْفَارٍ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجْعَلُ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ وَمُوَافِقًا لِمَحَبَّتِهِ
وَمَرْضَاتِهِ آمِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ , وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
كِتَابٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الطَّوَائِفِ الْمُلْحِدَةِ وَالزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا , مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعُمِائَةٍ , جَاءَ أَمِيرَانِ رَسُولَانِ مِنْ عِنْدِ الْمَلَإِ الْمُجْتَمِعِينَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَمَنْ مَعَهُمْ , وَذَكَرَا رِسَالَةً مِنْ عِنْدِ الْأُمَرَاءِ , مَضْمُونُهَا طَلَبُ الْحُضُورِ وَمُخَاطَبَةُ الْقُضَاةِ لِتَخْرُجَ وَتَنْفَصِلَ الْقَضِيَّةُ , وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ خُرُوجُك , وَأَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُخْتَصَرًا وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَقُلْت سَلِّمْ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَقُلْ لَهُمْ لَكُمْ سَنَةٌ وَقَبْلَ السَّنَةِ مُدَّةٌ أُخْرَى تَسْمَعُونَ كَلَامَ الْخُصُومِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَإِلَى السَّاعَةِ لَمْ تَسْمَعُوا مِنِّي كَلِمَةً وَاحِدَةً , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ , فَلَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ
عَدُوًّا آخَرَ لِلْإِسْلَامِ وَلِدَوْلَتِكُمْ لَمَا جَازَ أَنْ تَحْكُمُوا عَلَيْهِ حَتَّى تَسْمَعُوا كَلَامَهُ , وَأَنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ كَلَامَ الْخُصُومِ وَحْدَهُمْ فِي مَجَالِسَ كَثِيرَةٍ , فَاسْمَعُوا كَلَامِي وَحْدِي فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , وَبَعْدَ ذَلِكَ نَجْتَمِعُ وَنَتَخَاطَبُ بِحُضُورِكُمْ , فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَقَلِّ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } . فَطَلَبَ الرَّسُولَانِ أَنْ أَكْتُبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ فَكَتَبْته فَذَهَبَا ثُمَّ عَادَا , وَقَالَا : الْمَطْلُوبُ حُضُورُك لِتُخَاطِبَك الْقُضَاةُ بِكَلِمَتَيْنِ وَتَنْفَصِلَ وَكَانَ فِي أَوَائِلِ النِّصْفِ مِنْ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ جَاءَنَا هَذَانِ الرَّسُولَانِ بِوَرَقَةٍ كَتَبَهَا لَهُمْ الْمُحَكَّمُ مِنْ الْقُضَاةِ , وَهِيَ طَوِيلَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُمْ نُسَخًا فَلَمْ مِنْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ حَقِيقَةً وَلَا تَشْبِيهَ . قُلْتُ : فِي خَطِّي وَخَاطَبَنِي بِخِطَابٍ فِيهِ طُولٌ قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , فَنَدِمُوا عَلَى كِتَابَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ وَكَتَبُوا هَذِهِ , فَقُلْت : أَنَا لَا أَحْضُرُ إلَى مَنْ يَحْكُمُ فِي بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَيَفْعَلُ بِي مَا لَا تَسْتَحِلُّهُ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى , كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ , وَقُلْت لِلرَّسُولِ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحُضُورِكُمْ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَمْكُرُوا بِي كَمَا مَكَرُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي , هَذَا لَا أُجِيبُ إلَيْهِ , وَلَكِنْ مَنْ زَعَمَ
أَنِّي قُلْت قَوْلًا بَاطِلًا فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِمَا أَنْكَرَهُ مِنْ كَلَامِي وَيَذْكُرُ حُجَّتَهُ , وَأَنَا أَكْتُبُ جَوَابِي مَعَ كَلَامِهِ , وَيُعْرَضُ كَلَامِي وَكَلَامُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ , فَقَدْ قُلْت هَذَا بِالشَّامِ وَأَنَا قَائِلُهُ هُنَا , وَهَذِهِ عَقِيدَتِي الَّتِي بَحَثْت بِالشَّامِ بِحَضْرَةِ قُضَاتِهَا وَمَشَايِخِهَا وَعُلَمَائِهَا . وَقَدْ أَرْسَلَ إلَيْكُمْ نَائِبُكُمْ النُّسْخَةَ الَّتِي قُرِئَتْ وَأَخْبَرَكُمْ بِصُورَةِ مَا جَرَى , وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّي , وَالْعُدْوَانِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْخُصُومِ مَا قَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ , فَانْظُرُوا النُّسْخَةَ الَّتِي عِنْدَكُمْ , وَكَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدِي نُسْخَةٌ أُخْرَى بِهَا فَقُلْت : خُذْ هَذِهِ النُّسْخَةَ فَهَذَا اعْتِقَادِي فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَكْتُبْ مَا يُنْكِرُهُ وَحُجَّتَهُ لِأَكْتُبَ جَوَابِي . فَأَخَذَا الْعَقِيدَةَ وَذَهَبَا ثُمَّ عَادَا وَمَعَهُمَا وَرَقَةٌ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِي بَلْ قَدْ أَنْشَئُوا فِيهَا كَلَامًا طَلَبُوهُ وَذَكَرَ الرَّسُولُ أَنَّهُمْ كَتَبُوا وَرَقَةً ثُمَّ قَطَعُوهَا ثُمَّ كَتَبُوا هَذِهِ . وَلَفْظُهَا : " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ وَأَنْ لَا يَقُولَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ , بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ , وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً , وَنَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ , وَلَا يَكْتُبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ , وَلَا فِي الْفَتَاوَى
الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا . فَلَمَّا أَرَانِي الْوَرَقَةَ كَتَبْتُ جَوَابَهَا فِيهَا مُرْتَجِلًا مَعَ اسْتِعْجَالِ الرَّسُولِ . أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي إثْبَاتٌ لِهَذَا اللَّفْظِ ; لِأَنَّ إطْلَاقَ هَذَا اللَّفْظِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِدْعَةٌ , وَأَنَا لَا أَقُولُ إلَّا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأَمَةِ , فَإِنْ أَرَادَ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ , أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ وَلَا فَوْقَ الْعَرْشِ إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْرُجْ بِهِ إلَى رَبِّهِ , وَمَا فَوْقَ الْعَالَمِ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَهَذَا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا تُحِيطُ بِهِ مَخْلُوقَاتُهُ , وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي , فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَجْدِيدِهِ ؟ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " لَا يَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ " فَلَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْته قَطُّ . بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَالصَّوْتَ قَائِمٌ بِهِ , بِدْعَةٌ , وَقَوْلُهُ : إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا , وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ , بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ
بِالْأَصَابِعِ إشَارَةً حِسِّيَّةً " فَلَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ فِي كَلَامِي بَلْ فِي كَلَامِي إنْكَارُ مَا ابْتَدَعَهُ الْمُبْتَدَعُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ النَّافِيَةِ , مِثْلُ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ , فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ أَيْضًا بِدْعَةٌ , فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ أَنَّهُ لَا يُشَارُ إلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ , فَهَذَا حَقٌّ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ لَا يَرْفَعُ إلَيْهِ يَدَيْهِ , فَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ مِنْ رَفْعِ الْأَيْدِي إلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إذَا رَفَعَ إلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَيْهِ صِفْرًا } وَإِذَا سَمَّى الْمُسَمِّي ذَلِكَ إشَارَةً حِسِّيَّةً , وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ , لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ " فَمَا فَاتَحْتُ عَامِّيًّا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ . وَأَمَّا الْجَوَابُ : بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْمُسْتَرْشِدَ الْمُسْتَهْدِيَ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } الْآيَةَ , فَلَا يُؤْمَرُ الْعَالِمُ بِمَا يُوجِبُ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ , فَأَخَذَا الْجَوَابَ وَذَهَبَا فَأَطَالَا الْغَيْبَةَ , ثُمَّ رَجَعَا وَلَمْ يَأْتِيَا بِكَلَامٍ مُحَصَّلٍ إلَّا طَلَبَ الْحُضُورِ , فَأَغْلَظْتُ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ وَقُلْتُ لَهُمْ بِصَوْتٍ رَفِيعٍ : يَا مُبَدِّلِينَ يَا مُرْتَدِّينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ يَا زَنَادِقَةً , وَكَلَامًا آخَرَ كَثِيرًا , ثُمَّ قُمْتُ وَطَلَبْتُ فَتْحَ الْبَابِ وَالْعَوْدَ إلَى مَكَانِي . وَقَدْ كَتَبْت هُنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي طَلَبُوهَا مِنِّي فِي هَذَا الْيَوْمِ , وَبَيَّنْت بَعْضَ مَا فِيهَا مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ , وَإِتْبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ , لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ نَكْتُبُ مِنْهَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى . الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ أَمْرٌ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ اللَّهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا بَلْ هُوَ مِنْ ابْتِدَاعِ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ
الْجَهْمِيَّةِ الَّذِي وَصَفَ رَبَّهُ فِيهِ بِمَا وَصَفَهُ , وَنَهَى فِيهِ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ , وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ , أَنْ يُفْتَى بِهِ أَوْ يُكْتَبَ بِهِ أَوْ يُبَلَّغَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ , وَهَذَا نَهْيٌ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرِيعَةِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْهُدَى وَالرَّشَادِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعَنْ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ . وَأَمْرٌ بِالنِّفَاقِ وَالْحَدِيثِ الْمُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْبِدْعَةِ وَالْمُنْكَرِ وَالضَّلَالِ وَالْغَيِّ وَطَاعَةِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ , وَاتِّبَاعٍ لِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَبْدِيلِ دِينِ الرَّحْمَنِ بِدِينِ الشَّيْطَانِ وَاِتِّخَاذِ أَنْدَادٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } , الْآيَةَ . وَهَذَا الْكَلَامُ نَهْيٌ فِيهِ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْرٌ بِسَبِيلِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } , - إلَى قَوْلِهِ - { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } فَذَمَّ سُبْحَانَهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَقُولُهُ الشَّيَاطِينُ , وَمَنْ أَمَرَ بِهَذَا الْكَلَامِ , فَقَدْ أَمَرَ بِنَبْذِ كِتَابِ
اللَّهِ وَرَاءَ الظَّهْرِ حَيْثُ أَمَرَ بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ , وَذَلِكَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ , فَأَمَرَ بِأَنْ لَا يُفْتَى بِهَا , وَلَا يُكْتَبَ بِهَا , وَلَا تُبَلَّغَ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ , وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا وَالنَّبْذِ لَهَا وَرَاءَ الظَّهْرِ , وَأَمْرٌ - مَعَ ذَلِكَ - بِاعْتِقَادِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ , كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } , { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } الْآيَةَ , فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ عَدُوًّا مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يَعْلَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْقَوْلِ الْمُزَخْرَفِ غُرُورًا , وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تُوحِي إلَى أَوْلِيَائِهَا بِمُجَادَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَالْكَلَامُ الَّذِي يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ , هُوَ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ وَتِلَاوَتِهِمْ , فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِهِ , فَقَدْ نَبَذَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ وَلَا يَكْتُبَ بِهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا , يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ وَدَعَائِمِهِ التَّوْحِيدِ , فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ
الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ , كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ , وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ , كَمَا اسْتَفَاضَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا , كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا , وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهَا فَإِنَّ قَوْلَهُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } . كُلُّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ فَأَنَا أُحِبُّ أَقْرَأُ بِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ } . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا كَانَ صِفَةً لِلَّهِ مِنْ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ , وَاَللَّهُ يُحِبُّ ذَلِكَ , وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ , وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ آيَاتٍ فِي الصِّفَاتِ لِلصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ الَّتِي يَسْمَعُهَا الْعَامِّيُّ وَغَيْرُهُ , بَلْ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ أَوَّلُ سُورَةِ الْحَدِيدِ إلَى قَوْلِهِ : { وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } هِيَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ . وَكَذَلِكَ آخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ الصِّفَاتِ بَلْ جَمِيعُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كَقَوْلِهِ : الْغَفُورُ الرَّحِيمُ , الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ , الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ; الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ , الْعَزِيزُ الْقَوِيُّ , الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ , الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ . وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَبُغْضِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعُلُوِّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ , فَهَلْ يَأْمُر مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يُعْرَضَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ , وَأَنْ لَا يُبَلِّغَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ , وَأَنْ لَا يَكْتُبَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ الَّذِي هُوَ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُهَا إلَى الْبِلَادِ وَلَا يُفْتِي فِي ذَلِكَ وِلَايَةً . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وَأَسْوَأُ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ أَنْ يَكُونُوا أُمِّيِّينَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى أَنْ يُتْلَى عَلَى الْأُمِّيِّينَ آيَاتِ اللَّهِ , أَوْ عَنْ أَنْ يُعَلِّمَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرِّسَالَةِ أَجْهَلَ مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ , فَهَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَمْنُوعًا مِنْ تِلَاوَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ إيَّاهُ , أَوَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ } الْآيَةَ , وَقَالَ : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } أَوَلَيْسَ هَذَا نَوْعًا مِنْ الْأَمْرِ بِهَجْرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَتَرْكِ اسْتِمَاعِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَهَلَّا قَالَ فَاسْتَمِعُوا لَهُ لَا لِأَعْظَمَ مَا فِيهِ وَهُوَ مَا وَصَفْت بِهِ نَفْسِي فَلَا تَسْتَمِعُوهُ أَوْ لَا تُسْمِعُوهُ لِعَامَّتِكُمْ , وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } , وَقَالَ
تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ } الْآيَةَ , وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } الْآيَةَ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } , وَقَالَ تَعَالَى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَحْذَرُهُ الْمُنَازِعُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ مَا يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } , وقَوْله تَعَالَى { وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } . : { مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنْ الْعَالِينَ } , وقَوْله تَعَالَى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وَقَالَ تَعَالَى : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } . { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } الْآيَةَ . فَهَلْ سُمِعَ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ أَنْ يَقْرَأَ هَذِهِ وَتُتْلَى عَلَى الْعَامَّةِ وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَنَعَ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَهَا كُفْرٌ وَتَجْسِيمٌ وَخَبَرٌ يُخَالِفُ رَأْيَهُ كَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } , وَقَوْلُهُ : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } وَقَوْلُهُ : { لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } , وَقَوْلُهُ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } , وقَوْله تَعَالَى : { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } , وَقَوْلُهُ : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } , وَقَوْلُهُ : { مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وَكَذَلِكَ آيَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَحَادِيثُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هَلْ يَتْرُكُ تَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لَهُ , أَوْ الْوَعِيدِيَّةِ أَوْ الْمُرْجِئَةِ , وَآيَاتُ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَوْلِهِ : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . وَقَوْلُهُ : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وَقَوْلُهُ : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ }
إلَى قَوْلِهِ : { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } , وَقَوْلُهُ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } , وَقَوْلُهُ : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } . وَنَحْوُ ذَلِكَ هَلْ يَتْرُكُ تِلَاوَتَهَا وَتَبْلِيغَهَا لِمُخَالَفَتِهَا لِرَأْيِ أَهْلِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ ؟ , . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ كُتُبَ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ هِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ , بَلْ قَدْ بُوِّبَ فِيهَا أَبْوَابٌ مِثْلُ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ " الَّذِي هُوَ آخِرُ كِتَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمِثْلُ كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَكِتَابِ النُّعُوتِ " فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ فَإِنَّ هَذِهِ مُفْرَدَةٌ لِجَمْعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَ " كِتَابُ السُّنَّةِ " مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَا تَضَمَّنَهُ وَكَذَلِكَ تَضَمَّنَ صَحِيحُ مُسْلِمٍ , وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ , وَمُوَطَّأُ مَالِكٍ . وَمُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ , وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَمُسْنَدُ مُوسَى بْنِ قُرَّةَ الزُّبَيْدِيِّ , وَمُسْنَدُ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ , وَمُسْنَدُ ابْنِ وَهْبٍ , وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ . وَمُسْنَدُ مُسَدَّدٍ , وَمُسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ , وَمُسْنَدُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ , وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ , وَمُسْنَدُ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ , وَمُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ . وَمُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ , وَمُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ , وَمُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ , وَمُسْنَدُ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ , وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ , وَمُعْجَمُ الْبَغَوِيّ
, وَالطَّبَرَانِيِّ , وَصَحِيحُ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ , وَصَحِيحُ الْحَاكِمِ , وَصَحِيحُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ , وَالْبَرْقَانِيِّ , وَأَبِي نُعَيْمٍ , وَالْجَوْزَقِيِّ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْأُمَّهَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ : دَعْ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ , وَجَامِعِ الثَّوْرِيِّ , وَجَامِعِ ابْنِ عُيَيْنَةَ , وَمُصَنَّفَاتِ وَكِيعٍ , وَهُشَيْمٍ , وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ , وَمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . فَهَلْ امْتَنَعَ الْأَئِمَّة مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ , أَوْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ . أَمْ مَا زَالَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ يَحْضُرُ قِرَاءَتَهَا أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا , وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَّا حَدَّثَ بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ , هَلْ كَانُوا يُخْفُونَهَا عَنْ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَكَاتَمُونَهَا وَيُوصُونَ بِكِتْمَانِهَا , أَمْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا كَمَا كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِسَائِرِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَهَذَا كَمَا قَدْ كَانَ هَذَا يَمْتَنِعُ عَنْ رِوَايَةِ بَعْضِ أَحَادِيثَ فِي الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ وَبَعْضِ أَحَادِيثِ الْقَدْرِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْبَابِ , وَهَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَيُخَالِفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى أَنَّ
رِوَايَتَهَا تَضُرُّ بَعْضَ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ , وَيَرَى الْآخَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بَلْ يَنْفَعُ , فَكَانَ هَذَا مِمَّا قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِيهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . فَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ تَبْلِيغِ عُمُومِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ , فَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَإِنَّمَا هَذَا وَنَحْوُهُ رَأْيُ الْخَارِجِينَ الْمَارِقِينَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ , كَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يَتَنَازَعُ الْعُلَمَاءُ فِي رِوَايَتِهَا , أَوْ الْعَمَلُ بِهَا لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَنَازِعِينَ أَنْ يُكْرِهَ الْآخَرَ عَلَى قَوْلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } , فَأَمَرَ اللَّهُ الْأُمَّةَ عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَوَصَفَ الْمُعْرِضِينَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ , فَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْك صُدُودًا فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوك يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } إلَى قَوْله : { بَلِيغًا } فَوَصَفَ سُبْحَانَهُ مَنْ دُعِيَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , فَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ بِالنِّفَاقِ , وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّوْفِيقَ بِذَلِكَ بَيْنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , وَأَنَّهُ يُرِيدُ إحْسَانَ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } الْآيَةَ , وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } الْآيَةَ فَمَنْ أَمَرَ بِكَتْمِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ
مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ , وَهَذَا مِمَّا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ , وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الزَّائِغِينَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ , وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } , وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ } . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ مَنْ أَمَرَ بِكِتْمَانِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ , وَوَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ , وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ اللَّهِ بِصِفَاتٍ أَحْدَثَهَا الْمُبْتَدِعُونَ , تَحْتَمِلُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ , أَوْ تَجْمَعُ حَقًّا وَبَاطِلًا , وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ , وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ , وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ , فَهَذَا مُضَاهَاةٌ لِمَا ذَمَّ اللَّهُ بِهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } , وَقَالَ : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { مِمَّا يَكْسِبُونَ } . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَتَبُوا هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا , وَقَالُوا لِلْعَامَّةِ هَذَا أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ , وَهَذَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ , فَإِذَا جَمَعُوا إلَى ذَلِكَ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ
الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ , فَقَدْ ضَاهُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فِي لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِ الْحَقِّ قَالَ تَعَالَى : { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا , فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى وُجُوبِ إتْبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَذَمِّ مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ . مِثْلُ مَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكَائِيُّ فِي أُصُولِ السُّنَّةِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ , قَالَ : اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ , مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ وَلَا وَصْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ , فَمَنْ فَسَّرَ الْيَوْمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ , فَإِنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا وَلَمْ يُفَسِّرُوا , وَلَكِنْ أَفْتُوا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , ثُمَّ سَكَتُوا فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ فَارَقَ
الْجَمَاعَةَ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُ بِصِفَةٍ لَا شَيْءٍ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْإِفْتَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , دُونَ قَوْلِ جَهْمٍ الْمُتَضَمِّنِ لِلنَّفْيِ , فَمَنْ قَالَ لَا يُتَعَرَّضُ لِأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عِنْدَ الْعَوَامّ , وَلَا يُكْتَبُ بِهَا إلَى الْبِلَادِ , وَلَا فِي الْفَتَاوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا , بَلْ يَعْتَقِدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّفْيِ , فَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْإِجْمَاعَ , وَمِنْ أَقَلِّ مَا قِيلَ فِيهِمْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ , وَيُطَافُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ , وَيُقَالُ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْكَلَامِ .
وَذَلِكَ يَتَّضِحُ بِالْوَجْهِ الثَّامِنِ : وَهُوَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَيُعَاقَبُ تَارِكُوهُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِهِ وَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِهِ إذْ أُصُولُ الْإِيمَانِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِقَادُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ وَتَكُونُ فَارِقَةً بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالسُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ , هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ وَتَبْلِيغُهُ , لَيْسَ حُكْمُ هَذِهِ كَحُكْمِ آحَادِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِي زَمَانِهِ حَتَّى شَاعَ الْكَلَامُ فِيهَا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ إذْ الِاعْتِقَادُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لِلْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ أَحْكَامُهَا , مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لَيْسَتْ مِمَّا يَحْدُثُ سَبَبُ الْعِلْمِ بِهِ أَوْ سَبَبُ وُجُوبِهِ . بَلْ الْعِلْمُ بِهَا وَوُجُوبُ ذَلِكَ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ , وَالْأَوَّلُونَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ الْآخَرِينَ لِقُرْبِهِمْ مِنْ يَنْبُوعِ الْهُدَى , وَمِشْكَاةِ النُّورِ الْإِلَهِيِّ . فَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْهُدَى , هُمْ الَّذِينَ بَاشَرَهُمْ الرَّسُولُ بِالْخِطَابِ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَعَامَّتِهِمْ , وَهَذِهِ الْعَقَائِدُ الْأُصُولِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْهُدَى , فَهُمْ بِهَا أَحَقُّ . فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ ذَلِكَ مُنْتَفِيًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ , كَانَ عَدَمُ وُجُوبِهِ مَعْلُومٌ عِلْمًا وَيَقِينِيًّا , وَكَانَتْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقَالُ بِاجْتِهَادِ
الرَّأْيِ . وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ إنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي تُسَمَّى الْعَقْلِيَّاتِ , غَايَتُهَا أَنْ يُجْهِدَ فِيهَا أَصْحَابُهَا عُقُولَهُمْ وَآرَاءَهُمْ , وَالْقَوْلُ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَإِنْ اعْتَقَدَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ عَقْلِيٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ , فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ , وَإِنْ اعْتَقَدَ هُوَ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ , فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ بَيْنَهُمْ مِنْ أَقْوَالٍ يَقُولُ أَصْحَابُهَا إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهَا فِي الْعَقْلِ , وَتَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ , حَتَّى إنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِي الْقَوْلِ إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ , وَيَقُولُ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى إنَّهُ بَاطِلٌ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ فَقَدْ يَكُونُ مَظْنُونًا غَيْرَ مَعْلُومِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ , وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مَعْلُومَ الْفَسَادِ أَوْ مَظْنُونَهُ , وَقَدْ يَكُونُ مَشْكُوكًا فِيهِ , فَعَامَّةُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا الَّتِي يَقُولُ قَائِلُهَا إنَّهَا مَقْطُوعٌ بِهَا تَعْتَوِرُهَا هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ , وَعَدَمُ الْقَطْعِ بِهَا بَلْ ظَنُّهَا وَالشَّكُّ فِيهَا وَظَنُّ نَقِيضِهَا وَالْقَطْعُ بِنَقِيضِهَا . ثُمَّ غَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مَعْلُومًا أَنَّهَا صَوَابٌ عِنْدَ صَاحِبِهَا , فَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ اعْتِقَادُهُ , إذْ طُرُقُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً مُشْتَبِهَةً , فَلَا يَجِبُ التَّكْلِيفُ بِمُوجَبِهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ , وَلَوْ كَانَتْ عَقْلِيَّةً ظَاهِرَةً مَعْلُومَةً بِأَدْنَى نَظَرٍ لَمْ يَجِبْ فِي كُلِّ مَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُهُ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ
الْمُؤْمِنِينَ , مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ مُقَدِّمَاتٍ عَظِيمَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ مَا اعْتَقَدَ قَائِلُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ يَكُونُ كَذَلِكَ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ لَيْسَ مَا عَلِمَ الْوَاحِدُ أَنَّهُ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ عِنْدَهُ , يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَيْسَ مَا كَانَ مَعْلُومًا مَقْطُوعًا بِهِ بِأَدْنَى نَظَرٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَغَايَةُ مَا يُبَيِّنُ مَنْ يُوجِبُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ أَنَّهَا حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلِيٌّ مَعْلُومٌ بِأَدْنَى نَظَرٍ وَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا لَا يَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ حَتَّى يَعْلَمَ وُجُوبَ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْوُجُوبُ . لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ هَذَا الِاعْتِقَادَ , وَيُعَاقِبَ تَارِكِيهِ , حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ , وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ , فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عِنْدَ مَنْ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا قَالُوهُ خَطَأٌ , مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ , وَلِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ , مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَنَظَرُهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ , وَأَنَّ الشَّارِعَ أَخْبَرَ بِنَقِيضِهِ , وَأَوْجَبَ اعْتِقَادَ ضِدِّهِ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِالْإِيمَانٍ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُجْمَلًا , مُقِرًّا بِمَا بَلَّغَهُ مِنْ تَفْصِيلِ
الْجُمْلَةِ , غَيْرَ جَاحِدٍ لِشَيْءٍ مِنْ تَفَاصِيلِهَا , أَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذْ الْإِيمَانُ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ تَفْصِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَمَرَ بِهِ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ , إذْ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ . وَلِهَذَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ فِي مَقَالَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا يُقِرُّ فِيهَا بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ لَا يَنْفِيهَا وَلَا يُثْبِتُهَا , إذَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَنَّ الرَّسُولَ نَفَاهَا أَوْ أَثْبَتَهَا , وَيَسَعُ الْإِنْسَانَ السُّكُوتُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ بِوُجُوبِ قَوْلِ أَحَدِهِمَا . أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ هُوَ الَّذِي قَالَهُ الرَّسُولُ دُونَ الْآخَرِ , فَهُنَا يَكُونُ السُّكُوتُ عَنْ ذَلِكَ وَكِتْمَانُهُ مِنْ بَابِ كِتْمَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ وَمِنْ بَابِ كِتْمَانِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ مِنْ اللَّهِ , وَفِي كِتْمَانِ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ مِنْ الذَّمِّ وَاللَّعْنَةِ لِكَاتِمِهِ مَا يَضِيقُ عَنْهُ هَذَا الْمَوْضِعَ , وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مُتَضَمِّنًا لِنَقِيضِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ لَا يَتَضَمَّنُ مُنَاقَضَةَ الرَّسُولِ , لَمْ يَجُزْ السُّكُوتُ عَنْهُمَا جَمِيعًا بَلْ يَجِبُ نَفْيُ الْقَوْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِمُنَاقَضَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْوَاقِفَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ حِينَ تَنَازَعَ النَّاسُ , فَقَالَ قَوْمٌ بِمُوجَبِ السُّنَّةِ وَقَالَ قَوْمٌ بِخِلَافِ
السُّنَّةِ , وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فَأَنْكَرُوا عَلَى الْوَاقِفَةِ , كَالْوَاقِفَةِ الَّذِينَ قَالُوا لَا نَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , هَذَا مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْوَاقِفَةِ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُضْمِرًا لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِلسُّنَّةِ وَلَكِنْ يُظْهِرُ الْوَقْفَ نِفَاقًا وَمُصَانَعَةً فَمِثْلُ هَذَا مَوْجُودٌ . وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا مَنْصُوصًا وَلَا مُسْتَنْبَطًا , بَلْ يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا يُنَاقِضُهُ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ , فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً أَوْ خَاصَّةً اعْتِقَادُهُ , وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِحْنَةً لَهُمْ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَلَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ , مَا يَدُلُّ نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ , وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ , وَأَنَّهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ رَبٌّ يُعْبَدُ , وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ يُدْعَى وَيُقْصَدُ , وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَسَوَاءٌ سُمِّيَ ثُبُوتُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلًا بِالْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ , أَوْ لَمْ يُسَمَّ , فَتَنَوُّعُ الْعِبَارَاتِ لَا يَضُرُّ إذَا عُرِفَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ . وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ , كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ حَقًّا جَائِزًا , بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ الرَّجُلُ فِيهِ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا لَمْ يُؤْمَرْ بِأَحَدِهِمَا . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يُذْكَرُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا
الْكَلَامُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ تَأْسِيسَ التَّقْدِيسِ , وَكِتَابِهِ نِهَايَةِ الْعُقُولِ فِي دِرَايَةِ الْأُصُولِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ غَايَةَ مَا يَقُولُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ مِنْ حُجَجِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَلَا حَيِّزِ فَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ . الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنَّ قَوْلَهُمْ : " الَّذِي نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ أَنْ يَنْفِيَ الْجِهَةَ عَنْ اللَّهِ وَالتَّحَيُّزَ " . لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ هَذَا نَفْيَ كَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَكَوْنِهِ فَوْقَ الْعَالَمِ , بِحَيْثُ يُقَالُ إنَّهُ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ رَبٌّ وَلَا إلَهٌ , أَوْ مَا هُنَاكَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَمَا هُنَاكَ إلَّا الْعَدَمُ الَّذِي لَيْسَ بِشَيْءٍ , أَوْ لَا يَتَضَمَّنُ هَذَا الْكَلَامُ نَفْيَ ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ ذَلِكَ , كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَأَنَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِي قَطُّ إثْبَاتُ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ لِلَّهِ مُطْلَقًا , حَتَّى يُقَالَ نَطْلُبُ مِنْهُ نَفْيَ مَا قَالَهُ أَوْ أَطْلَقَهُ مِنْ اللَّفْظِ , بَلْ كَلَامِي أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ , وَأَلْفَاظُ سَلَفِ الْأُمَّةِ , وَمَنْ نَقَلَ مَذَاهِبَهُمْ أَوْ التَّعْبِيرَ عَنْ ذَلِكَ , تَارَةً بِالْمَعْنَى الْمُطَابِقِ الَّذِي يَعْلَمُ الْمُسْتَمِعُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُمْ وَمَا يُذْكَرُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ فَإِنِّي أُبَيِّنُهُ وَأُفَصِّلُهُ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ , كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا خَرَّجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ
وَالْجَهْمِيَّةِ فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْ غَيْرَ تَأْوِيلِهِ . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مِنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى , يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى , وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى , فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ , وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ , فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ , وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ , يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ , وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ , وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ , الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ , وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ , يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ , يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ , وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ , فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ , يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ , بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ وَلَا فِي جِهَةٍ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا فَإِنَّ هَذِهِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ , يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِوَجْهِ حَقٍّ وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِوَجْهِ بَاطِلٍ , فَالْمُطْلِقُونَ لَهَا يُوهِمُونَ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ
مَحْصُورًا فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ , وَيَفْتَرُونَ الْكَذِبَ عَلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ , كَقَوْلِ بَعْضِ قُضَاتِهِمْ لِبَعْضِ الْأُمَرَاءِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ , وَقَوْلٌ آخَرُ مِنْ طَوَاغِيتِهِمْ إنَّهُمْ يَقُولُونَ , إنَّ اللَّهَ فِي حَشْوِ السَّمَاوَاتِ , وَلِهَذَا سُمُّوا حَشْوِيَّةً إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ الَّتِي يَفْتَرُونَهَا عَلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ , ثُمَّ يَأْتُونَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ مُتَشَابِهٍ يَصْلُحُ لِنَفْيِ هَذَا الْمَعْنَى الْبَاطِلِ وَلِنَفْيِ مَا هُوَ حَقٌّ فَيُطْلِقُونَهُ فَيَخْدَعُونَ بِذَلِكَ جُهَّالَ النَّاسِ , فَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْصَالُ وَالِاسْتِفْسَارُ , انْكَشَفَتْ الْأَسْرَارُ . وَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ مِنْ النَّهَارِ , وَتَمَيَّزَ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ الْمُدَلِّسِينَ , الَّذِينَ لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ , وَكَتَمُوا الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ إنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَأَنَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ , لَمْ يُنَازَعْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ , لَكِنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى ذَلِكَ , بَلْ هُوَ مُفْهِمٌ أَوْ مُوهِمٌ لِنَفْيِ ذَلِكَ , فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : لَسْت أَقْصِدُ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ نَفْيَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ وَفَوْقَ خَلْقِهِ , وَحِينَئِذٍ فَيُوَافِقُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَعْدَ اسْتِفْصَالِهِ وَتَقْيِيدِ كَلَامِهِ بِمَا يُزِيلُ الِالْتِبَاسَ , وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَلَا فَوْقَ
الْعَالَمِ , فَلْيُصَرِّحْ بِذَلِكَ تَصْرِيحًا بَيِّنًا حَتَّى يَفْهَمَ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلَهُ وَكَلَامَهُ وَيَعْلَمُوا مَقْصُودَهُ وَمَرَامَهُ , فَإِذَا كَشَفَ لِلْمُسْلِمِينَ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ , وَأَنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ , وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ , وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ وَلَا تَصْعَدُ إلَيْهِ , وَلَا تَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ , وَأَنَّ عِيسَى لَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ , وَمُحَمَّدٌ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَيْهِ , وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَى إلَهٍ هُنَاكَ يَدْعُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ , وَلَا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي دُعَائِهِمْ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَنْكَشِفُ لِلنَّاسِ حَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ وَيَظْهَرُ الضَّوْءُ مِنْ الظَّلَامِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يَقُولَهُ فِي مَلَأٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَإِنَّمَا يَقُولُهُ بَيْنَ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ , الَّذِينَ إذَا اجْتَمَعُوا يَتَنَاجَوْنَ , وَإِذَا افْتَرَقُوا يَتَهَاجَوْنَ . وَهُمْ وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ الْمُحَقِّقِينَ , فَقَدْ شَابَهُوا مَنْ سَبَقَ إخْوَانَهُمْ الْمُنَافِقِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } , وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } إلَى قَوْلِهِ : { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } . وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ , بَلْ يَكُونُ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ , لَكِنْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُمْ مِنْ السَّمَّاعِينَ , قَالَ تَعَالَى : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ الْإِفْكِ فِي عَائِشَةَ كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَتَلَطَّخَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْبِدَعِ كَالرَّفْضِ وَالتَّجَهُّمِ مَبْدَؤُهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ , وَتَلَوَّثَ بِبَعْضِهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكِنْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ نَقْضِ الْإِيمَانِ بِقَدْرِ مَا شَارَكُوا فِيهِ أَهْلَ النِّفَاقِ وَالْبُهْتَانِ . الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ إذَا بَيَّنُوا مَقْصُودَهُمْ كَمَا يُصَرِّحْ بِهِ أَئِمَّتُهُمْ وَطَوَاغِيتُهُمْ , مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ رَبٌّ , وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ مَوْجُودٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ , فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ , وَبِالضَّرُورَةِ الْإِيمَانِيَّةِ السَّمْعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ , وَبِالنُّقُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ عَنْ خَيْرِ الْبَرِّيَّةِ , وَبِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ
فِي آيَاتٍ تَبْلُغُ مِئِينَ , وَبِالْأَحَادِيثِ الْمُتَلَقَّاتِ بِالْقَبُولِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْقُرُونِ , وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَهْلُ الْهُدَى مِنْ أَئِمَّتِهَا , وَبِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأُمَمُ بِجِبِلَّتِهَا وَفِطْرَتِهَا , وَمَا يُذْكَرُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ مِنْ الشُّبْهَةِ الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا بَرَاهِينُ عَقْلِيَّةٌ , أَوْ دَلَائِلُ سَمْعِيَّةٌ , فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا بِالِاسْتِقْصَاءِ , حَتَّى تَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ الْقَوْلِ الْهُرَاءِ فَهَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , وَلَوْلَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَجَامِعِ الضَّلَالِ فِيمَا أَوْجَبُوا اعْتِقَادَهُ , لَبَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَا وَبَيَّنَّا سَدَادَهُ , لَكِنْ قَدْ أَحَلْنَا عَلَى مَا هُوَ مَوْجُودٌ مَكْتُوبٌ أَيْضًا فَاكْتَسَبْنَاهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ . الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ لَفْظَ الْجِهَةِ عِنْدَ مَنْ قَالَهُ , إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وُجُودِيًّا أَوْ عَدَمِيًّا , فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ وُجُودِيًّا فَنَفْيُ الْجِهَةِ عَنْ اللَّهِ نَفْيٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ , وَلَيْسَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ سِوَى اللَّهِ إلَّا الْعَالَمَ , فَهَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمَا فِي جَوَابِهِمْ , وَهُوَ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلًا فِي الْمَصْنُوعَاتِ هَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ , وَنَفْيُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِنَا , وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَدَمِيًّا كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ حَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرَهُ ,
وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَوْجُودِ فِي الْعَدَمِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدَمَ يَحْوِيهِ أَوْ يُحِيطُ بِهِ , إذْ الْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا حَتَّى يُوصَفَ بِأَنَّهُ يُحِيطُ أَوْ يُحَاطُ بِهِ , بَلْ الْمَعْنَى بِذَلِكَ , أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ بِحَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُهُ , وَأَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا قَائِمَ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ , فَإِنَّ الْمَوْجُودَ نَوْعَانِ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٌ بِغَيْرِهِ , فَالْقَائِمُ بِغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ يَكُونُ بِحَيْثُ يَكُونُ غَيْرُهُ , فَإِنَّ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضَ تَقُومُ بِالْمَحَلِّ الْوَاحِدِ . وَأَمَّا الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ حَيْثُ يَكُونُ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ , فَيَكُونُ حَيْثُ لَا مَوْجُودَ غَيْرُهُ , أَوْ حَيْثُ لَا قَائِمَ بِنَفْسِهِ غَيْرُهُ , وَهُوَ الْمَعْنَى بِكَوْنِ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَفَوْقَ الْعَالَمِ , وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَعْقُولُ مِنْ الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ فَأَكْثَرُ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ , عَلَى أَنَّ نَفْيَ هَذَا عَنْ الْمَوْجُودِ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ , وَهُوَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُ مَوْجُودٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ حَيْثُ يَكُونُ مَوْجُودًا آخَرَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ , أَوْ أَنْ يَكُونَ إلَّا حَيْثُ لَا يَكُونُ مَوْجُودٌ آخَرُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ , وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِغَيْرِهِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ , فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ
الْعَدَمِيَّةِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحَايِثًا لَهُ دَاخِلًا فِيهِ , فَيَكُونُ فِي الْجِهَةِ الْوُجُودِيَّةِ , وَوُجُودُ مَوْجُودٍ لَا فِي جِهَةٍ وُجُودِيَّةٍ وَلَا جِهَةٍ عَدَمِيَّةٍ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ . ثُمَّ إنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُوَافِقٌ لِمَا عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفِطْرَةِ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ , وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ بِالْهَيِّنِ حَتَّى يَدَّعِيَ دَعْوًى مُجَرَّدَةً بِلَا دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ وَلَا عَقْلِيٍّ ثُمَّ يُوجِبُ اعْتِقَادَ ذَلِكَ وَيُعَاقِبُ تَارِكَهُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَعْنِي بِالْجِهَةِ مَا لَيْسَ مُغَايِرًا لِذِي الْجِهَةِ , فَيَكُونُ كَوْنُهُ فِي جِهَةٍ بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ , وَلَا يَعْنِي الْجِهَةَ مَوْجُودًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ , وَلَا يَعْنِي عَدَمِيًّا وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ الْجِهَةُ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ , فَكَوْنُ الشَّيْءِ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ , وَكُلُّ مَوْجُودٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ , فَإِنَّهُ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ يَقُولُونَ كَوْنُهُ فِي الْجِهَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِذَاتِهِ مُحَقَّقُ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مَوْجُودٌ سِوَاهُ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ فِي الْجِهَةِ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ , وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ لَا تُعْقَلُ الْجِهَةُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَالَمِ , وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ مُسَمَّى الْجِهَةِ نَوْعَانِ إضَافِيٌّ مُنْتَقِلٌ وَثَابِتٌ لَازِمٌ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَهِيَ الْجِهَاتُ
السِّتُّ لِلْحَيَوَانِ , أَمَامَهُ وَهُوَ مَا يَؤُمُّهُ , وَخَلْفَهُ وَهُوَ مَا يَخْلُفُهُ وَيَمِينَهُ , وَيَسَارَهُ وَفَوْقَهُ , وَتَحْتَهُ وَهُوَ مَا يُحَاذِي ذَلِكَ , وَهَذِهِ الْجِهَاتُ لَيْسَتْ جِهَاتٍ لِمَعْنًى يَقُومُ بِهَا , وَلَا ذَلِكَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهَا , بَلْ تَصِيرُ الْيَمِينُ يَسَارًا وَالْيَسَارُ يَمِينًا وَالْعُلُوُّ سُفْلًا وَالسُّفْلُ عُلُوًّا , يَتَحَرَّكُ الْحَيَوَانُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فِي الْجِهَاتِ , وَأَمَّا الثَّانِي , فَهُوَ جِهَتَا الْعَالَمِ وَهِيَ الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ , فَلَيْسَ لِلْعَالَمِ إلَّا جِهَتَانِ , إحْدَاهُمَا الْعُلُوُّ وَهُوَ جِهَةُ السَّمَاوَاتِ وَمَا فَوْقَهَا , وَجِهَةُ السُّفْلِ وَهُوَ جِهَةُ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَهَا وَفِي جَوْفِهَا , وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَكُلُّ مَا كَانَ خَارِجَ الْعَالَمِ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ فَهُوَ فَوْقَهُ وَهُوَ فِي الْجِهَةِ الْعُلْيَا , فَالْبَارِي تَعَالَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ مُنْفَصِلًا عَنْهُ , أَوْ لَا يَكُونُ مُبَايِنًا لَهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ , كَانَ خَارِجًا عَنْهُ عَالِيًا عَلَيْهِ بِالْجِهَةِ الْعُلْيَا , وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ , كَانَ حَالًّا فِي الْعَالَمِ قَائِمًا بِهِ مَحْمُولًا فِيهِ . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ , فَالْبَارِي قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ , وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي ذَاتِهِ , فَيَكُونُ هُوَ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ , وَلَا جَعَلَ ذَاتَه فِيهِ , فَيَكُونُ مُفْتَقِرًا مَحْمُولًا قَائِمًا بِالْمَصْنُوعَاتِ , بَلْ خَلْقُهُ بَائِنًا عَنْهُ فَيَكُونُ فَوْقَهُ وَهُوَ جِهَةُ الْعُلُوِّ ,
وَقَدْ بَسَطْنَا كَلَامَ هَؤُلَاءِ وَخُصُومِهِمْ فِي الْحُكُومَةِ الْعَادِلَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فِي تَأْسِيسِهِ مِنْ الْمُجَادَلَةِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّاعِي لِلنَّاسِ إلَى اعْتِقَادِ نَفْيِ الْجِهَةِ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ وَيَكْشِفَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ , وَإِمَّا أَنْ يُعْرِضَ عَنْ هَذَا وَيَقِفَ عِنْدَ الْجُمَلِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُونَ . فَإِمَّا أَنْ يَدْعُوَ إلَى قَوْلٍ لَا يُبَيِّنُ حَقِيقَتَهُ وَأَقْسَامَهُ , وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّتَهُ الَّتِي تُصَحِّحُ مَرَامَهُ , وَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ مَوْجُودًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ , وَكَلَامِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ , فَهَذَا غَايَةٌ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالظُّلْمِ فِي الْكَلَامِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ قَوْلَهُمْ يَنْفِي التَّحَيُّزَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ , فَإِنَّ التَّحَيُّزَ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ , هُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِحَيْثُ يَحُوزُهُ وَيُحِيطُ بِهِ مَوْجُودٌ غَيْرُهُ , كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ } فَإِنَّ التَّحَيُّزَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَازَهُ يَحُوزُهُ , فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا بِقَوْلِنَا : إنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ وَلَا يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَوْجُودَاتِ , فَهَذَا مَذْكُورٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كَلَامِي , فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي تَحْدِيدِهِ . وَأَمَّا التَّحَيُّزُ الَّذِي يَعْنِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ فَأَعَمُّ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مُتَحَيِّزٌ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٍ , إذْ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْعَالَمِ وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْحَيِّزِ وَالْمَكَانِ , فَيَقُولُونَ الْحَيِّزُ : تَقْدِيرُ الْمَكَانِ , وَكُلُّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ مُبَايِنٌ لِغَيْرِهِ بِالْجِهَةِ فَإِنَّهُ مُتَحَيِّزٌ عِنْدَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٌ . وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ : التَّحَيُّزُ مِنْ لَوَازِمِ الْجِسْمِ , وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْقِيَامِ بِالنَّفْسِ كَالتَّمَيُّزِ وَالْمُبَايِنَةِ , وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْحَيِّزُ إمَّا وُجُودِيٌّ , وَإِمَّا عَدَمِيٌّ , فَإِنْ كَانَ عَدَمِيًّا فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي مَعْنَى الْجِهَةِ الْعَدَمِيَّةِ , وَإِنْ كَانَ وُجُودِيًّا فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا لَيْسَ خَارِجًا
, أَوْ مَا هُوَ خَارِجًا عَنْهُ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ حُدُودِ الْمُتَحَيِّزِ وَجَوَانِبِهِ فَلَا يَكُونُ الْحَيِّزُ شَيْئًا خَارِجًا عَلَى الْمُتَحَيِّزِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ , وَإِمَّا أَنْ يُعْنَى بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَحَيِّزِ خَارِجٌ عَنْهُ , فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ وَلَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ إلَّا الْعَالَمُ , فَمَنْ قَالَ إنَّهُ فِي حَيِّزٍ مَوْجُودٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ , فَقَدْ قَالَ إنَّهُ فِي الْعَالَمِ أَوْ بَعْضِهِ وَهَذَا مِمَّا قَدْ صَرَّحْنَا بِنَفْيِهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْصِيلِ الْمَقَالِ لِيَزُولَ هَذَا الْإِبْهَامُ وَالْإِجْمَالُ . الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : وَلَا يَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ , بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِهِ . فَقَدْ قُلْت فِي الْجَوَابِ الْمُخْتَصَرِ الْبَدِيهِيِّ لَيْسَ فِي كَلَامِي هَذَا أَيْضًا وَلَا قُلْتُهُ قَطُّ , بَلْ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ , وَقَوْلُهُ : إنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِهِ بِدْعَةٌ , لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا , وَأَنَا لَيْسَ فِي كَلَامِي شَيْءٌ مِنْ الْبِدَعِ , بَلْ فِي كَلَامِي مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ , أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَذَلِكَ أَنِّي قَدْ أَجَبْتُ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ , وَمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ وَالِاضْطِرَابِ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الدِّمَشْقِيَّةِ وَفَصَّلْتُ الْقَوْلَ فِيهَا وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ وَبَيَّنْتُهُ . وَكَذَلِكَ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ , قَدْ بَيَّنْتُهُ وَفَصَّلْتُهُ فِي هَذَا وَفِي هَذَا , وَأَزَلْتُ
مَا وَقَعَ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ الَّذِي خَرَجُوا بِهِ عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , إلَى الْبِدْعَةِ وَالِافْتِرَاقِ , وَبَسَطْتُ ذَلِكَ بَسْطًا مُتَوَسِّطًا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْتَاءِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ قَاضِي جَيْلَانَ لِمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْفِتْنَةِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ , وَأَظْهَرُوا مِنْ الْبِدْعَةِ وَالْغُلُوِّ فِي الْإِثْبَاتِ , وَنَفْيِ الْخَلْقِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ . وَقَدْ كَتَبْتُ جُمَلًا مِنْ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ فِي جَوَابِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْفُتْيَا الْحَمَوِيَّةِ , وَفِي فَتَاوَى أُخَرَ وَمَوَاضِعَ أُخَرَ . قَالَ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ وَقَعَ فِيهَا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَالنِّزَاعِ مَا لَمْ يَقَعْ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَالِارْتِفَاعِ , إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ مَنْ يَبُوحُ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَنَفْيِهِ كَمَا كَانَ عَلَى عَهْدِهِمْ مِمَّنْ أَبَاحَ بِإِظْهَارِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ , وَلَا اجْتَرَأَتْ الْجَهْمِيَّةُ إذْ ذَاكَ عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إلَى نَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ , بَلْ وَلَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ كَمَا اجْتَرَءُوا عَلَى دُعَاءِ النَّاسِ إلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ , وَامْتِحَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ , وَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ بِالْحَبْسِ , وَالضَّرْبِ , وَالْقَتْلِ وَقَطْعِ الرِّزْقِ , وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ , وَمَنْعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ , وَتَرْكِ افْتِدَائِهِمْ مِنْ أَسْرِ الْعَدُوِّ , إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي إنَّمَا تَصْلُحُ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ وَبَدَّلُوا بِذَلِكَ الدِّينَ
نَحْوَ تَبْدِيلِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ , فَأَتَى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ , يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ , فَجَاهَدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ , مُتَّبِعِينَ سَبِيلَ الصِّدِّيقِ وَإِخْوَانِهِ الَّذِينَ جَاهَدُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَسَمَ الْمُسْلِمُونَ بِالْإِمَامَةِ وَبِأَنَّهُ الصِّدِّيقَ الثَّانِيَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهَذَا التَّحْقِيقِ عِنْدَ فُتُورِ الْوَانِي فَإِنَّ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّةُ جَعَلُوا الْمُؤْمِنِينَ كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ , وَجَعَلُوا مَا هُوَ مِنْ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ لِلرَّسُولِ إيمَانًا وَعِلْمًا , وَلَبَّسُوا عَلَى الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ , وَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الدِّينِ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ فِتْنَةِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ . فَإِنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ كَفَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ , وَلَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ الْجُحُودَ لِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ فِي حَقِيقَةِ ذَاتِهِ , بَلْ كَانَتْ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ , وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْمَقَالَاتِ قَدْ نَقَلُوا أَنَّ قَوْلَ الْخَوَارِجِ فِي التَّوْحِيدِ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ . فَهَذَا سِرٌّ لِلْجَهْمِيَّةِ لَكِنْ يُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ قَالَهُ مِنْ بَقَايَا الْخَوَارِجِ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ حُدُوثِ مَقَالَةِ جَهْمٍ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ
يَكُنْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ قَوْلُ جَهْمٍ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ , وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ , وَإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَلَا يَصِحُّ إضَافَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ , لَا مِنْ الْخَوَارِجِ , وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ , فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ إذْ ذَاكَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ السُّلُوبِ الْجَهْمِيَّةِ , وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ عَنْ الْخَوَارِجِ الْمَعْرُوفِينَ إذْ ذَاكَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ بِدَعِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ , قُصُورُهُمْ فِي مُنَاظَرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ , فَإِنَّهُمْ يُنَاظِرُونَهُمْ وَيُحَاجُّونَهُمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ , لِيَنْصُرُوا الْإِسْلَامَ زَعَمُوا بِذَلِكَ , فَيَسْقُطُ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَيُحَاجُّونَهُمْ بِمُمَانَعَاتٍ وَمُعَارَضَاتٍ ; فَيَحْتَاجُونَ حِينَئِذٍ إلَى جَحْدِ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ لِإِخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ فَصَارَ قَوْلُهُمْ مُشْتَمِلًا عَلَى إيمَانٍ وَكُفْرٍ وَهُدًى وَضَلَالٍ , وَرُشْدٍ وَغَيٍّ , وَجَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَصَارُوا مُخَالِفِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ كَاَلَّذِي يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ فَرَّطَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ مُلُوكِ النَّوَاحِي وَالْأَطْرَافِ , حَتَّى يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ الْعَدُوَّ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { إنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } . يُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ قِتَالًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ الْغَدْرِ وَالْمُثْلَةِ وَالْغُلُولِ وَالْعُدْوَانِ , حَتَّى احْتَاجُوا فِي مُقَاتَلَةِ ذَلِكَ الْعَدُوِّ إلَى الْعُدْوَانِ عَلَى إخْوَانِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ , وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَبِلَادِهِمْ , وَصَارُوا يُقَاتِلُونَ إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ بِنَوْعٍ مِمَّا كَانُوا يُقَاتِلُونَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَرُبَّمَا رَأَوْا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ آكَدُ وَبِهَذَا وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَوَارِجَ حَيْثُ قَالَ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ } وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سِيرَةِ كَثِيرِ مِنْ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ , وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَهْلِ الْفُجُورِ فَحَالُ أَهْلِ الْأَيْدِي وَالْقِتَالِ , يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْأَلْسِنَةِ وَالْجِدَالِ . وَهَكَذَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَبْدَأَ حَالِ جَهْمٍ , فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيمَا أَخْرَجَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ قَالَ أَحْمَدُ : وَكَذَلِكَ الْجَهْمُ وَشِيعَتُهُ دَعَوْا النَّاسَ إلَى الْمُتَشَابِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ , فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا بِكَلَامِهِمْ بَشَرًا كَثِيرًا فَكَانَ مِمَّا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ الْجَهْمِ عَدُوِّ اللَّهِ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مِنْ أَهْلِ التِّرْمِذِ , وَكَانَ صَاحِبَ خُصُومَاتٍ وَكَلَامٍ وَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَقِيَ نَاسًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُمْ السُّمَنِيَّةُ , فَعَرَفُوا الْجَهْمَ