كتاب : إقامة الدليل على إبطال التحليل
تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية
أَثْبَتَهُ مِنْ الْمَعَانِي , وَهُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ , فَإِنَّ الَّذِي نَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ فِي الْحُرُوفِ نَعْلَمُ نَظِيرَهُ بِالضَّرُورَةِ فِي الْمَعَانِي , فَالْمُتَكَلِّمُ مِنَّا إذَا تَكَلَّمَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ يَنْطِقُ بِالِاسْمِ الْأَوَّلِ لَفْظًا وَمَعْنًى قَبْلَ الثَّانِي , فَيُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي نَظِيرَ مَا قَالَهُ فِي الْحُرُوفِ . فَيُقَالُ مَنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ مَعْنَى اسْمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَعْدَ مَعْنَى بِسْمِ اللَّهِ , وَادَّعَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا أَوَّلَ لَهُ , فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الْمَعْقُولِ إلَى جَحْدِ الضَّرُورَةِ , وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّبَّ تَكَلَّمَ بِمَعَانِي الْحُرُوفِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ تَعَاقُبٍ وَلَا تَرْتِيبٍ , قِيلَ لَهُ مَعَانِي الْحُرُوفِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ , لَا شَكَّ فِي اخْتِلَافِهَا , فَإِنَّ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَفْهُومَ مِنْ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } , لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ الْمَفْهُومَ مِنْ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } , وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَعْنَى فِي صِيَغِ الْأَمْرِ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى فِي صِيَغِ الْإِخْبَارِ , فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ هَذَا أَوْ يَمْنَعَ فَإِنْ سَلَّمَ كَمَا سَلَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ خَمْسُ حَقَائِقَ تُكُلِّمَ مَعَهُ حِينَئِذٍ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ قِيلَ لَهُ الْعِلْمُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْمَعَانِي ضَرُورِيٌّ بَدِيهِيٌّ لَيْسَ هُوَ بِدُونِ الْعِلْمِ بِتَعَاقُبِ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي , وَلَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِاخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ بَلْ أَصْوَاتُ الْمُصَوِّتِ الْوَاحِدِ أَقْرَبُ تَشَابُهًا مِنْ الْمَعَانِي
الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا الْأَمْرُ مَحْسُوسٌ , وَمَنْ أَنْكَرَهُ سَقَطَتْ مُكَالَمَتُهُ أَبْلَغُ مِمَّا تَسْقُطُ مُكَالَمَةُ ذَاكَ , وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ لَهُ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ مُتَضَادَّةٌ فِي حَقِّنَا فَإِنَّا نَجِدُ مِنْ نُفُوسِنَا أَنَّهَا عِنْدَ تَصَوُّرِ مَعَانِي كَلَامٍ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُتَصَوَّرَ مَعَانِي كُلِّ كَلَامٍ , كَمَا نَجِدُ مِنْ نُفُوسِنَا أَنَّا عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِصَوْتٍ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِصَوْتٍ آخَرَ , فَإِنْ كَانَ هَذَا الِامْتِنَاعُ لِذَاتِ الْمَعْنَيَيْنِ وَالصُّورَتَيْنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقُومَ ذَلِكَ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ لِعَجْزِنَا عَنْ ذَلِكَ كَمَا نَعْجِزُ عَنْ اسْتِحْضَارِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُون ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا مُمْتَنِعًا أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَانِيَ كَثِيرَةً مُخْتَلِفَةً وَأَصْوَاتًا كَثِيرَةً مُخْتَلِفَةً . قَوْلُهُ وَكُلُّ صَوْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ الْأَصْوَاتِ مُتَضَادَّانِ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ وَقْتًا وَاحِدًا , فَيُقَالُ لَهُ أَمَّا الَّذِي نَجِدُهُ فَإِنَّا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ صُورَتَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ وَقْتًا وَاحِدًا سَوَاءٌ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مُتَمَاثِلَيْنِ , فَلَيْسَ الِامْتِنَاعُ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْأَصْوَاتِ , وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ فِي قُلُوبِنَا الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً وَإِنْ قَدَرْنَا أَنْ نَجْمَعَ مِنْ الْمَعَانِي فِي قُلُوبِنَا مَا لَا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نَجْمَعَ لَفْظَهُ مِنْ
الْأَصْوَاتِ . فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَلْبَ أَوْسَعُ مِنْ الْجَسَدِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ كُلُّ أَحَدٍ نَفْسَهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا مَعَانٍ كَثِيرَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ , كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صُورَتَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ وَقِيَاسُ الْأَصْوَاتِ بِالْمَعَانِي وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لَهَا وَقَوَالِبُ لَهَا أَجْوَدُ مِنْ قِيَاسِهَا بِالْأَلْوَانِ وَمَا أَلْزَمُوهُ فِي الْمَعَانِي مِنْ أَنَّهَا مَعْنًى وَاحِدُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ لَيْسَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِبَدِيهَةِ الْعُقُولِ بِدُونِ أَنْ يُقَالَ يَكُونُ حَرْفٌ وَاحِدٌ هُوَ الْبَاءُ وَالسِّينُ وَإِذَا لَمْ يَقُلْ هَذَا وَهُوَ نَظِيرُهُ فَلَا رَيْبَ أَنْ أَقُولَ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ هُوَ النَّهْيُ وَهُمَا الْخَبَرُ فَالْقَوْلُ بِاجْتِمَاعِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ أَقْرَبُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى . وَمَنْ قَالَ الْكَلَامُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ , وَأَنَّهَا كُلَّهَا مُجْتَمَعَةٌ قَائِمَةٌ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ بِاجْتِمَاعِ حُرُوفِهَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ ; وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ فَحْلُ الطَّائِفَةِ أَنَّ النَّسْخَ رَفَعَ الْحُكْمَ بِعَيْنِهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ فَيَكُونُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ بِشَيْءٍ وَنَهَى عَنْ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ , وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ مُضَادٌّ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فِي فِطَرِ الْعُقُولِ أَعْظَمُ مِنْ مُضَادَّةِ السَّوَادِ
لِلْبَيَاضِ فَإِذَا كَانُوا يَلْتَزِمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلُونَ الضِّدَّيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا كَيْفَ يَمْنَعُونَ اجْتِمَاعَ حَرْفَيْنِ أَوْ صَوْتَيْنِ وَذَلِكَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ , وَهَذَا الْكَلَامُ لَازِمٌ لِجَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ , هَلْ هِيَ ; مُتَعَاقِبَةٌ أَوْ يَتَكَلَّمُ بِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً قَوْلَيْنِ . كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ الْأَصْوَاتِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ : إنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْبِتِينَ لِلْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ قَالُوا مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ فَقَالُوا التَّرْتِيبُ وَالتَّعَاقُبُ نَوْعَانِ تَرْتِيبٌ وُجُودِيٌّ زَمَانِيٌّ كَتَرْتِيبِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ وَالْيَوْمِ عَلَى الْأَمْسِ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَمْتَنِعُ فِي الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ , وَالثَّانِي : تَرْتِيبٌ ذَاتِيٌّ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ بِزَمَانِيٍّ كَتَرْتِيبِ الصِّفَاتِ عَلَى الذَّاتِ , وَالْعِلْمِ عَلَى الْحَيَاةِ وَالْمَعْلُولِ عَلَى عِلَّتِهِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ إذَا قُدِّرَ ذَلِكَ فَإِنَّا نَعْقِلُ هُنَا تَرْتِيبَاتٍ وَتَقَدُّمًا وَتَأَخُّرًا بِالذَّاتِ دُونَ الْوُجُودِ وَالزَّمَانِ . وَهَذَا كَمَا لَوْ فُرِضَ مُصْحَفٌ كُتِبَ آخِرُهُ قَبْلَ أَوَّلِهِ , فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى آخِرِهَا بِالذَّاتِ , وَإِنْ كَانَ قَدْ كُتِبَ بَعْدَهُ قَالُوا وَالْكَلَامُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ مُتَرَتِّبٌ فِي حَقِّ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا بِالتَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ , كَمَا يُوجَدُ فِي قِرَاءَةِ الْقَارِئِينَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ جَمِيعًا فِي الزَّمَانِ , وَهَذَا التَّرْتِيبُ لَا يُنَافِي قِدَمَهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا فِي هَذَا مِنْ إثْبَاتِ تَعَدُّدِ الْمَعَانِي لِتَعَدُّدِ الْحُرُوفِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا بِحُكْمٍ وَاحِدٍ وَإِثْبَاتُ الْقِدَمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ جَعْلِ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْنًى وَاحِدًا ثُمَّ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالْحُرُوفِ بِالتَّحْكِيمِ , فَإِنَّ هَذَا فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ
بِجَعْلِهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِيمَا اشْتَرَكَا فِيهِ . الْوَجْهُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ : أَنْ نَقُولَ قَوْلُكُمْ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ الصَّوْتَيْنِ فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ وَأَثْبَتُّمْ ذَلِكَ شَاهِدًا وَغَائِبًا , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وَحْدَةَ الْبَارِي عِنْدَكُمْ لَا تُنَاسِبُ وَحْدَةَ غَيْرِهِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ كَوَحْدَةِ الْأَجْسَامِ , وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ وَاحِدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَقَوْلُكُمْ بَعْدَ هَذَا يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ الصَّوْتَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَحِلِّ الْوَاحِدِ وَقْتًا وَاحِدًا كَمَا يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُ اللَّوْنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا وَاحِدَ يُفْرَضُ ذَلِكَ فِيهِ شَاهِدًا إلَّا الْجِسْمَ , وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِ الْجِسْمِ وَاحِدًا فَيُقَالُ هَبْ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَقْبَلُ اجْتِمَاعَ صَوْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ , كَمَا لَا يَقْبَلُ مَعْنًى وَاحِدًا يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا , فَهَلَّا قُلْتُمْ إنَّ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَصْوَاتٍ فِيهِ كَمَا قُلْتُمْ إنَّهُ يَقُومُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ , فَلَمَّا قِيلَ لَكُمْ كَيْفَ يُعْقَلُ هَذَا قُلْتُمْ يُعْقَلُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْوَاجِبِ لِقِدَمِهِ الْمَانِعِ مِنْ كَوْنِهِ مُتَغَايِرًا مُخْتَلِفًا كَمَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى قِدَمِ الْكَلَامِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَعَانِي وَالْحُرُوفِ وَإِنَّمَا فَرَّقْتُمْ لِمُعَارِضٍ , أَخْرَجَ الْحُرُوفَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ
مَا اعْتَقَدْتُمُوهُ مِنْ وُجُوبِ حُدُوثِهَا كَمَا ذَكَرْتُمْ هُنَا , وَهَذَا الدَّلِيلُ يَلْزَمُ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْمَعَانِي , فَلَوْ قُلْتُمْ نَعْقِلُ حُرُوفًا مُجْتَمِعَةً أَوْ أَصْوَاتٍ مُجْتَمِعَةً فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ إذْ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ لَيْسَ بِذِي أَبْعَاضٍ حَتَّى يَكُونَ الْقَائِمُ بِهَذَا الْبَعْضِ مُغَايِرًا لِلْقَائِمِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ , وَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْمُغَايَرَةُ فِيمَا قَامَ بِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَقُومَ بِهِ الصَّوْتُ الَّذِي هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ أَصْوَاتٌ إذْ الِاخْتِلَافُ فَرْعٌ لِلتَّغَايُرِ , فَمَا لَا تَغَايُرَ فِيهِ يَمْتَنِعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ , فَإِذَا كَانَ مَا يَقُومُ بِهِ لَا يُغَايِرُ فَأَنْ لَا يَخْتَلِفَ أَوْلَى وَأَحْرَى فَفُرِضَ قِيَامُ صَوْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِهِ وَالْحَالُ هَذِهِ يَمْتَنِعُ عَلَى مَا أَصَّلْتُمُوهُ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : إنَّ اجْتِمَاعَ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالرُّؤْيَةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّنَا , وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِهِ وَسَمْعُهُ , وَمَعَ هَذَا فَقَدْ أَثْبَتُّمْ الْبَارِيَ يَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ وَيَرَاهَا , وَالْعِلْمُ وَالرُّؤْيَةُ قَائِمَانِ بِمَحِلٍّ وَاحِدٍ عِنْدَكُمْ , وَأَيْضًا فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي وَسَائِرِ أَئِمَّتِهِمْ أَوْ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالصِّفَاتُ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَنْقَسِمُ كَقِيَامِ الْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِيَامَ الْقُدْرَةِ وَالْيَدَيْنِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ مُمْتَنِعٌ عِنْدَنَا . بَلْ عِنْدَنَا أَنَّ الْيَدَيْنِ مَحِلُّ الْقُدْرَةِ , فَإِذَا أَثْبَتُّمْ يَدًا وَوَجْهًا وَصَفْتُمُوهُمَا بِذَلِكَ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ ثُبُوتِ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ وَيُمْكِنُكُمْ أَنْ تَقُولُوا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ فَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِحُكْمِهَا . الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ : إنَّ قَوْلَهُ الرَّبُّ وَاحِدٌ وَمُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ مُتَقَدِّسٌ عَنْ التَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ يَسْتَحِيلُ قِيَامُ أَصْوَاتٍ مُتَضَادَّةٍ بِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ بِحَقِيقَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ , يُقَالُ لَهُ هَذَا يَلْزَمُك فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الذَّاتَ الَّتِي لَا يَتَمَيَّزُ فِي الْعِلْمِ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِهَا صِفَاتٌ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ , إذْ ذَلِكَ يُوجِبُ مِنْ التَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّجَزُّؤِ
وَالتَّبْعِيضِ نَطِيرَ مَا نَفَاهُ وَهُوَ مِنْ حُجَّةِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ عَلَيْهِ . وَلَمَّا قَالَ لَهُ مُخَالَفَةُ لَا نَعْقِلُ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ يَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ , وَلَا يَعْقِلُ الْيَدَ وَالْوَجْهَ إلَّا بَعْضًا مِنْ جِسْمٍ قَالَ لَا يَجِبُ . هَذَا كَمَا لَا يَجِبُ إذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ كَذَلِكَ فَأَلْزَمَ مُخَالَفَةَ إثْبَاتِهِ لِحَيٍّ عَالِمٍ قَادِرٍ فِي مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ الَّتِي وَافَقَ خَصْمُهُ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ سِوَاهُ فَكَوْنُهُ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إذْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمَعَانٍ يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بَلْ يَأْبَى ثُبُوتُ مَوْجُودٍ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا إذْ لَا بُدَّ لِلْمَوْجُودِ مِنْ أُمُورٍ مُتَمَيِّزَةٍ فِيهِ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِثُبُوتِ مَا نَفَاهُ , فَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ هُوَ التَّعْطِيلُ الْمَحْضُ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْبَارِي بِالْمَعْدُومَاتِ .
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي إرْشَادِهِ الْقَوْلُ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْبَارِي . فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ الْوَاحِدِ قَالَ أَصْحَابُنَا الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ أَوْ لَا يَصِحُّ انْقِسَامُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَلَوْ قُلْت الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ كَانَ كَافِيًا هُوَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَرْكِيبٌ وَفِي قَوْلِ الْقَائِلِ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ نَوْعُ تَرْكِيبٍ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي يُقَالُ لِلْقَاضِي التَّرْكِيبُ الْمَحْدُودُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ إلْحَادٌ بِوَصْفٍ زَائِدٍ يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْ الشَّيْءِ الْمُطْلَقِ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْمُقَيَّدِ فَلَيْسَ يُفْهَمُ مِنْ الشَّيْءِ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ فَإِنَّ الْوَحْدَةَ تُشْعِرُ بِانْتِفَاءِ الْقِسْمَةِ عَنْ الشَّيْءِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّحْدِيدِ الْإِيضَاحُ أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنْ قَالَ كَلَامُنَا فِي الْحَقَائِقِ وَالشَّيْءِ الْمُطْلَقِ هُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ . يُقَالُ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَحْدَةَ تُشْعِرُ بِانْتِفَاءِ الْقِسْمَةِ عَنْ الشَّيْءِ فَهُمَا أَمْرَانِ مُتَلَازِمَانِ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْرِيضِ لَهُمَا كَمَا قُلْنَا فِي الْغِيَرَيْنِ كُلُّ مَوْجُودَيْنِ يَجُوزُ مُفَارَقَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ بِوَجْهٍ ثُمَّ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا سُئِلْنَا عَنْ الْوَاحِدِ فَنَقُولُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ مَعَانٍ فَقَدْ يُرَادُ بِهَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ وُجُودُهُ الْقِسْمَةَ وَقَدْ يُطْلَقُ وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْإِشْكَالِ وَالنَّظَائِرِ عَنْهُ وَقَدْ يُطْلَقُ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَلَاذَ سِوَاهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مُتَحَقِّقَةٌ فِي وَصْفِ الْقَدِيمِ
سُبْحَانَهُ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ شَارِحُ الْإِرْشَادِ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ شَيْخُ الشِّهْرِسْتَانِيّ وَحَكَى عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ الْوَاحِدُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الرَّفْعَ وَالْوَضْعَ يَعْنِي الْفَصْلَ وَالْوَصْلَ أَشَارَ إلَى وَحْدَةِ الْإِلَهِ فَإِنَّ الْجَوْهَرَ وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَكِنْ يَقْبَلُ النِّهَايَةَ , الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا يَقْبَلُ فَصْلًا وَلَا وَصْلًا وَنَحْنُ قَدْ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ فِي مَسْأَلَةِ نَفْيِ التَّجْسِيمِ عَلَى نَفْيِ الْأَقْسَامِ وَأَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى نَفْيِ الْمِثْلِ وَبَقِيَ عَلَيْنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ قُلْت أَمَّا نَفْيُ الْمِثْلِ عَنْ اللَّهِ وَنَفْيُ الشَّرِيكِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ لَكِنْ قَدْ يُدْخِلُ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةِ بَلْ يَنْفِيَانِهِ وَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ بِنَفْيِ الِانْقِسَامِ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ قَطُّ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ يُقَالُ إنَّهُ وَاحِدٌ إلَّا الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْجَوْهَرِ الْفَرْدِ مَعَ أَنَّ أَبَا الْمَعَالِي هُوَ مِنْ الشَّاكِّينَ فِي ثُبُوتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ فَإِذًا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ إنَّهُ وَاحِدٌ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَإِجْمَاعِ أَهْلِ
اللُّغَةِ وَالْعَقْلِ وَإِذْ قِيلَ الْوَاحِدُ هُوَ الشَّيْءُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَلَا يَكُونُ قَدْ خَلَقَ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ وَاحِدًا عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي فَسَّرُوهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يُسَمِّيَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ شَيْئًا ثُمَّ إنَّهُمْ يُسَمُّونَ ; أَهْلَ الْكَلَامِ الْمُوَحِّدِينَ وَيُسَمُّونَ مَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُ الْكَلَامَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ حَتَّى قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي أَوَّلِ إرْشَادِهِ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِاسْتِكْمَالٍ مِنْ الْبُلُوغِ أَوْ الْحُلُمِ شَرْعًا الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ الْمُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ . قَالَ وَالنَّظَرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُوَحِّدِينَ هُوَ الْفِكْرُ الَّذِي يَطْلُبُ مَنْ قَامَ بِهِ عِلْمًا أَوْ غَلَبَةَ ظَنٍّ وَأَيْضًا فَإِنَّ اسْمَ الْوَاحِدِ أَوْ الْأَحَدِ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكًا آخَرَ لِمَوْجُودَاتٍ وَهُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَجَعَلَتْ الْمُتَفَلْسِفَة لَهُ فِي ذَلِكَ شُرَكَاءَ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ كَالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عُمْدَةَ أَصْحَابِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُون مَحِلًّا لِلْحَوَادِثِ هُوَ مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ مَنْ يَعْرِفُ أُصُولَ الْكَلَامِ وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَفْضَلَ مُتَأَخِّرِيهِمْ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي إرْشَادِهِ الَّذِي الْتَزَمَ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ قَوَاطِعَ الْأَدِلَّةِ . فَإِنَّهُ قَالَ فَصْلٌ الْبَارِي تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ وَاعِدٌ مُتَوَعِّدٌ وَقَدْ
قَدَّمْنَا فِي خُلَلِ إثْبَاتِ أَحْكَامِ الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الرَّبِّ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا عِنْدَ أُسْتَاذِنَا نَفَى النَّقَائِصَ إلَى السَّمْعِ وَتَوْجِيهِنَا عَلَى أَنْفُسِنَا السُّؤَالَ عَمَّا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ قَالَ فَإِذَا صَحَّ كَوْنُ الْبَارِي مُتَكَلِّمًا فَقَدْ آنَ أَنْ نَتَكَلَّمَ فِي صِفَةِ كَلَامِهِ فَاعْلَمُوا أُوقِيتُمْ الْبِدَعَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ أَزَلِيٍّ لَا مُفْتَتَحَ لِوُجُودِهِ وَأَطْبَقَ الْمُنْتَمُونَ إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى إثْبَاتِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَصِرْ مِنْهُمْ صَائِرٌ إلَى نَفْيِهِ وَلَمْ يَنْتَحِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا نِحْلَةَ نُفَاةِ الصِّفَاتِ فِي كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا حَيًّا ثُمَّ ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالزَّيْدِيَّةُ وَالْإِمَامِيَّةِ وَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَى أَنَّ كَلَامَ الْبَارِي تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الزَّائِغِينَ حَادِثٌ مُسْتَفْتِحُ الْوُجُودِ وَصَارَ صَائِرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَخْلُوقًا مَعَ الْقَطْعِ بِحُدُوثِهِ لِمَا فِي لَفْظِ الْمَخْلُوقِ مِنْ إيهَامِ الْخَلْقِ إذْ الْكَلَامُ الْمُخْتَلَقُ هُوَ الَّذِي يُبْدِيهِ الْمُتَكَلِّمُ تَخَرُّصًا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَأَطْلَقَ مُعْظَمُ الْمُعْتَزِلَةِ لَفْظَ الْمَخْلُوقِ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ وَذَهَبَتْ الْكَرَّامِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ قَدِيمٌ وَالْقَوْلَ حَادِثٌ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَالْقُرْآنَ قَوْلُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةُ عَلَى التَّكَلُّمِ وَقَوْلُهُ حَادِثٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى عَلَى قَوْلِ الْمُبْطِلِينَ
وَهُوَ غَيْرُ قَائِلٍ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَامَ بِهِ بَلْ هُوَ قَائِلٌ بِالْقَابِلِيَّةِ وَكُلُّ مُفْتَتِحِ وُجُودِهِ قَائِمٌ بِالرَّبِّ فَهُوَ حَادِثٌ بِالْقُدْرَةِ غَيْرُ مُحْدَثٍ وَكُلُّ مُحْدَثٍ مُبَايِنٌ لِلذَّاتِ فَهُوَ مُحْدَثٌ بِقَوْلِهِ كُنْ لَا بِالْقُدْرَةِ فِي هَذَيَانٍ طَوِيلٍ لَا يَسَعُ هَذَا الْمُعْتَقَدَ اسْتِقْصَاؤُهُ وَغَرَضُنَا مِنْ إيضَاحِ الْحَقِّ وَالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِيهِ لَا يَتَبَيَّنُ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ فُصُولٍ فِي مَاهِيَّةِ الْكَلَامِ وَحَقِيقَتِهِ شَاهِدًا حَتَّى إذَا وَضَحَتْ الْأَغْرَاضُ مِنْهَا انْعَطَفْنَا بَعْدَهَا إلَى مَقْصِدِنَا وَقَدْ الْتَزَمْنَا التَّمَسُّكَ بِالْقَوَاطِعِ فِي هَذَا الْمُعْتَقَدِ عَلَى صِغَرِ حَجْمِهِ وَآثَرْنَا إجْرَاءَهُ عَلَى خِلَافِ مَا صَادَفْنَا مِنْ مُعْتَقَدَاتِ الْأَئِمَّةِ وَهَذَا الشَّرْطُ يُلْزِمُنَا ظِرَافًا مِنْ الْبَسْطِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَهَا نَحْنُ خَائِضُونَ فِيهِ ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي حَدِّ الْكَلَامِ ثُمَّ تَكَلَّمَ فِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ لَا مَنْ فَعَلَهُ ثُمَّ بَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَائِمًا بِهِ ثُمَّ قَالَ وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ اسْتِحَالَةُ كَوْنِهِ حَادًّا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِهِ لِلْحَوَادِثِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إلَّا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ فِي وَصْفِ الْبَارِي تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ : قَوْلُك لِأَنَّهُ مُقَدَّسٌ عَنْ التَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَالتَّعَدُّدِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ . يُقَالُ هَذِهِ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ فَإِنْ أَرَدْت الْمَعْنَى الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِثْلَ أَنْ تُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ وَلَا يَتَجَزَّأُ فَيُفَارِقُ جُزْءٌ مِنْهُ جُزْءًا كَمَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ التَّجَزُّؤِ وَلَا يَتَعَدَّدُ فَيَكُونُ إلَهَيْنِ أَوْ رَبَّيْنِ أَوْ خَالِقَيْنِ وَلَمْ يُرَكَّبْ فَيُؤَلَّفُ فَيَجْمَعُ بَيْنَ أَبْعَاضِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك } أَوْ مَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْأُمُورَ , فَهَذَا كُلُّهُ يُنَافِي صَمَدَانِيَّتَهُ وَلَكِنْ لَا يُنَافِي قِيَامَ مَا يُثْبِتُهُ مِنْ الْأَصْوَاتِ كَمَا لَا يُنَافِي قِيَامَ سَائِرِ الصِّفَاتِ وَإِنْ أَرَدْت بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ شَيْءٍ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ وَبَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ نَفَاهُ لُزُومًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا بَسْطًا مُسْتَوْفِيًا فِي كِتَابِ بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدْعَتِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ تَعَسَّفَ مِنْ الْمُقَلَّدِينَ مُتَعَسِّفٌ وَأَثْبَتَ الرَّبَّ تَعَالَى جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنْ أَبْعَاضٍ مُتَآلِفًا مِنْ جَوَارِحَ نَقَلْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ إلَى إبْطَالِ الْجِسْمِ وَإِيضَاحِ تَقَدُّسِ الرَّبِّ عَنْ التَّبْعِيضِ وَالتَّأْلِيفِ وَالتَّرْكِيبِ فَيُقَالُ لَهُ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ اللَّهِ بِالْجِسْمِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا بِدْعَةً لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِجِسْمٍ كَمَا لَمْ يَقُولُوا أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ بَلْ مَنْ أَطْلَقَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ اسْتَفْصَلَ عَمَّا أَرَادَ بِذَلِكَ فَإِنَّ فِي لَفْظِ الْجِسْمِ بَيْنَ النَّاطِقِينَ بِهِ نِزَاعًا كَثِيرًا فَإِنْ أَرَادَ تَنْزِيهَهُ عَنْ مَعْنًى يَجِبُ تَنْزِيهُ عَنْهُ مِثْلَ أَنْ يُنَزِّهَهُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا حَقٌّ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ الرَّبَّ جِسْمًا مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُبْتَدَعَةِ ضَلَالًا دَعْ مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَحْمٌ وَدَمٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الضَّلَالَاتِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُمْ وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ مَا ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ وَحَقِيقَةُ الْعَقْلِ أَيْضًا مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ وَلَهُ فَهَذَا حَقٌّ وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَجْسِيمًا أَوْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَكُونُ إلَّا لِجِسْمٍ فَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ هُوَ حَقٌّ وَإِذَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلَفْظِ الْجِسْمِ فَلَازِمِ الْحَقِّ حَقٌّ كَيْفَ وَالْمُثْبِتَةُ تَقُولُ إنَّ ثُبُوتَ هَذَا مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَنَظَرِهِ وَهَكَذَا مُثْبِتُ لَفْظِ الْجِسْمِ إنْ أَرَادَ بِإِثْبَاتِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ صَوَّبْنَا مَعْنَاهُ وَمَنَعْنَاهُ عَنْ الْأَلْفَاظِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُجْمَلَةِ وَإِنْ أَرَادَ بِلَفْظِ الْجِسْمِ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهُ مِنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ رَدَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا ضَلَالَهُ وَإِفْكَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ نَقْلنَا الْكَلَامَ مَعَهُ إلَى إبْطَالِ التَّجْسِيمِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَدِلَّةَ النَّافِينَ وَالْمُثْبَتِينَ مُسْتَوْفَاةً فِي
بَيَانُ تَلْبِيسِ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ وَتَبَيَّنَ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٌ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَدِلَّةِ النَّفْيِ كُلِّهَا حُجَجٌ دَاحِضَةٌ وَأَنَّ جَانِبَ الْمُثْبِتَةِ أَقْوَى وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِي أَقُولُ إنَّهُ إذَا نُظِرَ إلَى إسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَجَمِيعِ الْوُفُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَعْرِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّينَ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الرِّسَالَةِ لَا مِنْ قَبْلِ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ وَلَا مِنْ بَابِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَلَا مِنْ بَابِ كَانَ وَيَكُونُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا وَفِي الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ لَازِمًا مَا أَضَاعُوهُ وَلَوْ أَضَاعُوا الْوَاجِبَ لَمَا نَطَقَ الْقُرْآنُ بِتَزْكِيَتِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ وَلَا أَطْنَبَ فِي مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِلْمِهِمْ مَشْهُورًا وَمِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَعْرُوفًا لَاسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَشَهَرُوا بِهِ كَمَا شَهَرُوا بِالْقُرْآنِ وَالرِّوَايَاتِ . الْوَجْهُ السِّتُّونَ : إنَّ قَوْلَهُ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ وَمُتَّصِفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَمُتَقَدِّسٌ عَنْ التَّجَزُّؤِ وَالتَّبْعِيضِ وَقَوْلُ ابْنِ فُورَكٍ لِأَنَّ الرَّبَّ مُتَكَلِّمٌ وَاحِدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَصِفُونَ فِيهَا الرَّبَّ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَيُشْعِرُونَ
النَّاسَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُوَحِّدُونَ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ الَّتِي أَفْسَدُوا بِهَا التَّوْحِيدَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَصْلُ الْمُحْدَثُ قَدْ زَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُحْسِنُونَ حَتَّى سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ بِذَلِكَ مُوَحِّدِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ أَحَقُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ مِنْهُمْ وَحَتَّى كَفَرُوا وَعَادَوْا الْمُسْلِمِينَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ حَقًّا وَكَانُوا عَلَى الْأُمَّةِ أَضَرَّ مِنْ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِي يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ وَهَؤُلَاءِ الْكِلَابِيَّةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ إنَّمَا أَخَذُوهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَلَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَيْهِ كُلِّهِ بَلْ وَافَقُوهُمْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ جَهْمٍ الَّذِي أَسَّسَ عَلَيْهِ ضَلَالَاتِهِ وَهَؤُلَاءِ يُفَسِّرُونَ التَّوْحِيدَ وَاسْمَ اللَّهِ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ بِثَلَاثَةِ مَعَانٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّوْحِيدُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْقِيقِ تِلْكَ الْمَعَانِي اخْتِلَافًا عَظِيمًا فَيَقُولُونَ فِي اسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ لَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ إحْدَاهَا : الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَرَكَّبُ وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا تَفْسِيرُ اسْمِ الْأَحَدِ وَهَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا هُنَا .
فَصْلٌ مِمَّا يُخَالِفُ الْجَوْهَرُ فِيهِ حُكْمَ الْإِلَهِ قَبُولَ الْأَعْرَاضِ وَصِحَّةَ الِاتِّصَافِ بِالْحَوَادِثِ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ قَبُولِ الْحَوَادِثِ قَالَ وَذَهَبَتْ الْكَرَّامِيَّةُ إلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ تَقُومُ بِذَاتِ الْإِلَهِ تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ ثُمَّ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ قَالَ وَصَارُوا إلَى جَهَالَةٍ لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا فَقَالُوا الْقَوْلُ الْحَادِثُ يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ قَائِلٍ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَائِلٌ بِالْقَابِلِيَّةِ وَحَقِيقَةُ أُصُولِهِمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الرَّبِّ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَجَدَّدَ وَكَذَلِكَ وَصَفُوهُ بِكَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا فِي الْأَزَلِ فَلَمْ يَتَحَاشَوْا مِنْ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَتَنَكَّبُوا إثْبَاتَ وَصْفٍ جَدِيدٍ لَهُ ذِكْرًا وَقَوْلًا قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالُوهُ أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَوَادِثَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْجَوَاهِرِ حَيْثُ قَضَيْنَا بِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّيهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ لَمْ يَسْبِقْهَا وَيَنْسَاقُ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِحُدُوثِ الصَّانِعِ . قَالَ وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ مَصِيرِهِمْ إلَى تَجْوِيزِ خُلُوِّ الْجَوْهَرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ أَشَرْنَا إلَيْهِ وَإِثْبَاتُهُمْ أَحْكَامًا مُتَجَدِّدَةً لِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ الْإِرَادَاتِ الْحَادِثَةِ الْقَائِمَةِ لَا بِمُحَالٍ عَلَى زَعْمِهِمْ وَبِصَدِّهِمْ أَيْضًا عَنْ طَرْدِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ تَجَدُّدُ أَحْكَامِ الذَّاتِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحُدُوثِ لَمْ يَبْعُدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اعْتِوَارِ نَفْسِ الْأَعْرَاضِ عَلَى الذَّاتِ قَالَ وَتَقُولُ الْكَرَّامِيَّةُ مَصِيرُكُمْ إلَى إثْبَاتِ قَوْلٍ حَادِثٍ مَعَ نَفْيِكُمْ اتِّصَاف الرَّبِّ بِهِ تَنَاقُضٌ إذْ لَوْ جَازَ قِيَامُ مَعْنًى بِمَحَلٍّ غَائِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِفَ الْمَحَلُّ بِحُكْمِهِ لَجَازَ شَاهِدًا قِيَامُ أَقْوَالٍ وَعُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ بِمَحَالَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَّصِفَ الْمَحَالُّ بِأَحْكَامٍ مُرَكَّبَةٍ عَلَى الْمَعَانِي وَذَلِكَ يَخْلِطُ الْحَقَائِقَ وَيَجُرُّ إلَى الْجَهَالَاتِ ثُمَّ نَقُولُ لَهُمْ إذَا جَوَّزْتُمْ قِيَامَ ضُرُوبٍ مِنْ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَجْوِيزِ قِيَامِ أَكْوَانٍ حَادِثَةٍ بِذَاتِهِ عَلَى التَّعَاقُبِ وَكَذَلِكَ سَبِيلُ الْإِلْزَامِ فِيمَا يُوَافِقُونَنَا عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِهِ بِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمِمَّا يَلْزَمُهُمْ تَجْوِيزُ قِيَامِ قُدْرَةٍ حَادِثَةٍ وَعِلْمٍ حَادِثٍ بِذَاتِهِ عَلَى حَسَبِ أَصْلِهِمْ فِي الْقَوْلِ وَالْإِرَادَةِ الْحَادِثَتَيْنِ وَلَا يَجِدُونَ بَيْنَ مَا جَوَّزُوهُ وَامْتَنَعُوا مِنْهُ فَصْلًا وَنَقُولُ أَيْضًا إذَا وَصَفْتُمْ الْبَارِيَ تَعَالَى بِكَوْنِهِ مُتَحَيِّزًا وَكُلُّ مُتَحَيِّزٍ وَحَجْمٍ جُرْمٌ فَلَا يَتَقَرَّرُ فِي الْمَعْقُولِ خُلُوُّ الْأَجْرَامِ عَنْ الْأَكْوَانِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَجْوِيزِ قِيَامِ الْأَكْوَانِ بِذَاتِ الرَّبِّ وَلَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَلْزَمُوهُ . قُلْت هَذِهِ جُمْلَةُ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَلْفَاظِهِ وَمَدْلُولِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : إنَّهُ لَوْ قَبِلَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَالثَّانِي :
إنَّهُ لَوْ قَبِلَهَا لَاتَّصَفَ بِهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا قَبِلَ بَعْضَهَا فَيَجِبُ أَنْ يَقْبَلَ غَيْرَهُ . وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَهَاتَانِ الْحُجَّتَانِ الثَّانِيَتَانِ جَدَلِيَّتَانِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مُتَّصِفًا بِالْأَفْعَالِ الَّتِي تَقُومُ بِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَّصِفٍ إلَّا بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَهُ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمُنَازِعِ جَوَّزَ قِيَامَ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَرْقًا بَيْنَ الْمَمْنُوعِ وَالْمُجَوَّزِ أَوْ لَا يُبَيِّنُ فَرْقًا فَإِنْ بَيَّنَ فَرْقًا ثَبَتَ الْفَرْقُ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَرْقًا فَقَدْ يَكُونُ عَجْزًا مِنْهُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ إمَّا جَوَازُ الْجَمِيعِ وَإِمَّا الْمَنْعُ مِنْ الْجَمِيعِ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الِامْتِنَاعُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةً إلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ قَبِلَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَهَذِهِ حُجَّةٌ أَحَالَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَوَادِثَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْجَوَاهِرِ حَيْثُ قَضَيْنَا بِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّيهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ وَهَذَا الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ الطَّرِيقَةَ الْمَشْهُورَةَ الْكَلَامِيَّةَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ قَالَ وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّالِثُ فَهُوَ يُبَيِّنُ , اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجَوَاهِرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ . فَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَنَّ الْجَوْهَرَ لَا
يَخْلُو عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَعَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ إنْ كَانَتْ لَهُ أَضْدَادٌ فَإِنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لَمْ يَخْلُ الْجَوْهَرُ عَنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ فَإِنْ قُدِّرَ عَرَضٌ لَا ضِدَّ لَهُ لَمْ يَخْلُ الْجَوْهَرُ عَنْ قَبُولِ وَاحِدٍ مِنْ جِنْسِهِ قَالَ وَجَوَّزَتْ الْمُلْحِدَةُ خُلُوَّ الْجَوَاهِرِ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ وَالْجَوَاهِرُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ تُسَمَّى الْهَيُولَى وَالْمَادَّةُ وَالْأَعْرَاضُ تُسَمَّى الصُّوَرُ وَجَوَّزَ الصَّالِحِيُّ الْخُلُوَّ عَنْ جُمْلَةِ الْأَعْرَاضِ ابْتِدَاءً وَمَنَعَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْعُرُوَّ عَنْ الْأَكْوَانِ وَجَوَّزُوا الْعُرُوَّ عَمَّا عَدَاهَا وَقَالَ الْكَعْبِيُّ وَمُتُوعُهُ يُجَوِّزُ الْخُلُوَّ عَمَّا سِوَى الْأَكْوَانِ وَيَمْتَنِعُ الْخُلُوُّ عَنْ الْأَكْوَانِ قَالَ وَكُلُّ مُخَالِفٍ لَنَا وَافَقَنَا عَلَى امْتِنَاعِ الْعُرُوِّ عَنْ الْأَعْرَاضِ بَعْدَ قَبُولِ الْجَوَاهِرِ فَيُفْرَضُ الْكَلَامُ مَعَ الْمُلْحِدَةِ فِي الْأَكْوَانِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِيهَا يَسْتَنِدُ إلَى الضَّرُورَةِ فَإِنَّا بِبَدِيهَةِ الْمَعْقُولِ نَعْلَمُ أَنَّ الْجَوَاهِرَ الْقَابِلَةَ لِلِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ لَا تُعْقَلُ غَيْرَ مُمَاسَّةٍ وَلَا مُتَبَايِنَةٍ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ فِيمَا لَا يُزَالُ فَلَا يَتَقَرَّرُ فِي الْعَقْلِ اجْتِمَاعُهَا إلَّا عَنْ افْتِرَاقٍ سَابِقٍ إذَا قُدِّرَ لَهَا الْوُجُودُ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ . وَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَ الِافْتِرَاقُ عَلَيْهَا اضْطَرَرْنَا إلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الِافْتِرَاقَ مَسْبُوقٌ بِاجْتِمَاعٍ وَغَرَضُنَا فِي رَوْمِ إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ يَتَّضِحُ بِالْأَكْوَانِ وَإِنْ حَاوَلْنَا رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا
خَالَفُونَا فِيهِ تَمَسُّكًا بِنُكْتَتَيْنِ إحْدَاهُمَا الِاسْتِشْهَادُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِ الْعُرُوِّ عَنْ الْأَعْرَاضِ بَعْدَ الِاتِّصَافِ بِهَا فَنَقُولُ كُلُّ عَرَضٍ بَاقٍ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي عَنْ مَحَلِّهِ بِطَرَيَانِ ضِدِّهِ وَالضِّدُّ إنَّمَا يَطْرَأُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمُنْتَفِي بِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ فَإِذَا انْتَفَى الْبَيَاضُ فَهَلَّا جَازَ أَنْ لَا يَحْدُثَ بَعْدَ انْتِفَائِهِ لَوْنٌ إنْ كَانَ يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْخُلُوِّ عَنْ الْأَلْوَانِ ابْتِدَاءً وَتَطَّرِدُ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ وَنَقُولُ أَيْضًا الدَّالُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ عَنْهَا وَذَلِكَ يَقْضِي بِحُدُوثِهِ فَإِذَا جَوَّزَ الْخَصْمُ عُرُوَّ الْجَوْهَرِ عَنْ حَوَادِثَ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا صِحَّةً وَجَوَازًا فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْبَارِي تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ . قُلْت فَهَذَا جُمْلَةُ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حُجَّةً أَصْلًا عَلَى الْمَطْلُوبِ بَلْ فِيهِ إحَالَةٌ فَإِنَّهُ ذَكَرَ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : الْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَعَنْ أَضْدَادِهَا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ عَرْضٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ ضِدٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ إنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ كَدَعْوَى الطَّعْمِ وَالرِّيحِ لِلْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي مُقَابَلَةِ هَذَا وَهُوَ جَوَازُ خُلُوِّهِ عَنْ كُلِّ عَرَضٍ . وَالثَّالِثُ
: الْخُلُوُّ عَنْ جَمِيعِهَا فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الدَّوَامِ . وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يَمْتَنِعُ خُلُوُّهُ عَنْ الْأَكْوَانِ وَيَجُوزُ خُلُوُّهُ عَمَّا سِوَاهَا وَهُوَ قَوْلُ بَصْرِيِّ الْمُعْتَزِلَةِ . وَالْخَامِسُ : امْتِنَاعُ خُلُوِّهَا عَنْ الْأَكْوَانِ دُونَ مَا سِوَاهَا وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّ الْكَعْبِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَهُمْ أَغْلَظُ بِدْعَةً مِنْ الْبَصْرِيِّينَ ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُقِمْ دَلِيلًا إلَّا عَلَى الْأَكْوَانِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ لَمْ يُعْقَلْ إلَّا مُجْتَمَعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا وَذَكَرَ أَنَّ مَقْصُودَهُ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ يَتِمُّ بِالْأَكْوَانِ وَهَذَا إنَّمَا هُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يُجَوِّزُ خُلُوَّهَا عَنْ الْأَكْوَانِ وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ فِي ذَلِكَ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِحُجَّتَيْنِ إلْزَامِيَّتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا حُجَّةٌ عِلْمِيَّةٌ إحْدَاهُمَا مَا سَلَّمُوهُ مِنْ امْتِنَاعِ الْخُلُوِّ بَعْدَ قِيَامِ الْعَرَضِ وَسَوَّى بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَقَالَ إذَا جَازَ أَنْ يَخْلُوَ قَبْلَ قِيَامِ الْعَرَضِ عَنْ الضِّدَّيْنِ جَازَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُ إنْ كَانَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ بَاطِلَةً ثَبَتَ الْفَرْقُ وَبَطَلَ قَوْلُك وَإِنْ كَانَتْ التَّسْوِيَةُ صَحِيحَةً لَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا جَوَازُ الْخُلُوِّ قَبْلُ وَبَعْدُ أَوْ امْتِنَاعُ الْخُلُوِّ قَبْلُ وَبَعْدُ لَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ وَمُوَافَقَةُ الْمُنَازِعِ لَك عَلَى امْتِنَاعِ الْخُلُوِّ بَعْدُ لَا يُفِيدُك أَنْتَ عِلْمًا إذَا لَمْ يَكُنْ لَك وَلَا لَهُ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا امْتِنَاعُ الْخُلُوِّ
فِيمَا بَعْدُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ مَا قَبْلُ وَلَيْسَ مَعَك فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَإِ إذْ ذَاكَ إجْمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ . وَطَائِفَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى خَطَأٍ إذَا أَكْثَرُ الْأُمَّةِ يُخَطِّئُهُمْ كُلَّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى عَدَمِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ غَرَضُنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ قَوْلُهُ فِي النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ الدَّالُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ عَنْهَا وَذَلِكَ يَقْضِي بِحُدُوثِهِ فَإِذَا جَوَّزَ الْخَصْمُ عُرُوَّ الْجَوْهَرِ عَنْ الْحَوَادِثِ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا صِحَّةً وَجَوَازًا فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْبَارِي لِلْحَوَادِثِ . فَيُقَالُ لَك : أَنْتَ قَدْ ذَكَرْت أَيْضًا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِهِمْ الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَقُومُ بِذَاتِ الْبَارِي مَعَ تَجْوِيزِهِمْ خُلُوَّ الْجَوَاهِرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَمَعَ قَضَائِهِمْ بِتَجَدُّدِ أَحْكَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمَّا أَنْتَ وَأَصْحَابُك فَلَمْ تَذْكُرُوا حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ خُلُوُّ الْجَوَاهِرِ عَنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَعْرَاضِ وَلَا أَقَمْتُمْ حُجَّةً عَلَى أَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَلَا أَقَمْتُمْ حُجَّةً عَلَى اسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ بَلْ أَنْتَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَوَادِثِ جَعَلْت الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي تَحْتَجُّ بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي
ذَكَرْت أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَابِهِ مِثْلُهُ هُوَ قَوْلُك أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَوَادِثَ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْجَوَاهِرِ حَيْثُ قَضَيْنَا بِاسْتِحَالَةِ تَعَرِّيهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ لَمْ يَسْبِقْهَا وَيَنْسَاقُ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِحُدُوثِ الصَّانِعِ فَيُقَالُ لَهُ قَوْلُك لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ إحَالَةً عَلَى مَا مَضَى وَأَنْتَ لَمْ تُقَرِّرْ فِيمَا مَضَى أَنَّ مَا قَبْلَ الشَّيْءِ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ وَلَا قَرَّرْت أَنَّ كُلَّ جَوْهَرٍ قَبِلَ عَرَضًا يَسْتَحِيلُ خُلُوُّهُ عَنْهُ وَلَا قَرَّرْت أَيْضًا اسْتِحَالَةَ تَعَرِّي الْجَوَاهِرِ عَنْ جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ إذْ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إمْكَانُ قِيَامِ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ بِكُلِّ جَوْهَرٍ , الثَّانِيَةُ أَنَّ الْقَابِلَ لِشَيْءٍ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَأَنْتَ لَمْ تَذْكُرْ حُجَّةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ غَايَةُ مَا ذَكَرْت أَنَّك أَثْبَتّ الْأَكْوَانَ الَّتِي هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ فَقَطْ وَأَنَّك ادَّعَيْت تَنَاقُضَ الْمُعْتَزِلَةَ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا قَبْلَ الِاتِّصَافِ وَبَعْدَهُ وَحَيْثُ إنَّهُمْ إذَا جَوَّزُوا خُلُوَّ الْجَوْهَرِ عَنْ بَعْضِ الْحَوَادِثِ مَعَ قَبُولِهِ بَطَلَ الِاسْتِدْلَال عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ قَبُولِ الْبَارِي لِلْحَوَادِثِ فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ تَنَاقُضِ الْمُعْتَزِلَةَ وَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِالرَّبِّ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ إلَّا هَذِهِ الْحُجَّةَ
وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْجَوْهَرُ الْعَرَضَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ ثُمَّ هَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ تَذْكُرْ أَنْتَ أَيْضًا عَلَيْهَا حُجَّةً أَصْلًا فَقَدْ أَقْرَرْت بِأَنَّ قَوْلَ أَصْحَابِك وَقَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ قَبُولِ الْحَوَادِثِ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا فَأَيْنَ الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي ذَلِكَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا وَهَذَا إذَا تَدَبَّرَهُ الْعَاقِلُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْمَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ . فَإِنْ قُلْت : قَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي الْأَكْوَانِ كَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ فَيُقَالُ هَذَا حَقٌّ , فَإِنَّ مَا كَانَ قَابِلًا أَنْ يَكُونَ مُجْتَمِعًا وَأَنْ يَكُونَ مُفْتَرِقًا لَكِنْ هَذَا لَا عُمُومَ فِيهِ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ وَغَايَتُهُ أَنْ يُثْبِتَ نَظِيرَهُ فِي الرَّبِّ فَيَقُولَ إذَا كَانَتْ ذَاتُهُ قَابِلَةً لِلِاجْتِمَاعِ أَوْ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجْتَمِعًا أَوْ مُفْتَرِقًا فَالْمُنَازِعُ لَك إنْ لَمْ يُسَلِّمْ قَبُولَهُ لِهَذَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ لَا يُسَلِّمَ قَبُولَهُ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ كَمَا تَقُولُهُ أَنْتَ وَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ وَالصَّمَدُ أَصْلُهُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ اجْتِمَاعُهُ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهُوَ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَهُ الَّتِي لَا يَجُوزُ عَدَمُهَا وَلَيْسَ مِنْ الْحَوَادِثِ فَصِفَاتُ الْجَوْهَرِ الْمَخْلُوقَةِ تَقْبَلُ الزَّوَالَ إذْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْبَقَاءُ بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ كَمَا
أَنَّ ذَوَاتِ الْجَوْهَرِ الْمَخْلُوقَةِ تَقْبَلُ الْعَدَمَ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ الْجَوَاهِرِ أَيْضًا كَمَا لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِالرَّبِّ فَإِنَّ دَلِيلَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ ثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ وَثُبُوتِ أَنَّهَا جَمِيعًا حَادِثَةٌ وَأَنَّ الْجَوْهَرَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا وَهُوَ لَمْ يُثْبِتْ مِنْ الْأَعْرَاضِ اللَّازِمَةِ لِلْجَوَاهِرِ إلَّا الْأَكْوَانَ ( الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ ) وَهُوَ لَمْ يُثْبِتْ حُدُوثَهَا إلَّا بِقَبُولِهَا الْعَدَمَ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَدَمُهُ لَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ جَوَازُ تَفَرُّقِ كُلِّ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَنَّ مَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ فِيهَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ الَّتِي جَعَلَتْهَا الْجَهْمِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ أَصْلًا عَظِيمًا فِي تَعْطِيلِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } وَغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدُ إنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَالْقَوْلُ بِأَنَّ فَاعِلًا يَفْعَلُ وَحَالُهُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَبَعْدُ سَوَاءٌ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ فِعْلُ نَفْسِهِ هُوَ فِي الْمَعْقُولِ أَبْعَدُ مِنْ كَوْنِ السَّاكِنِ الَّذِي سُكُونُهُ قَدِيمٌ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَحَرَّكَ لِأَنَّ
السُّكُونَ الْقَدِيمَ يَمْتَنِعُ عَدَمُهُ وَلَوْ عَرَضَ عَلَى الْعَقْلِ الصَّحِيحِ جَوَازُ أَنْ يُبْدِعَ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي نَفْسِهِ فِعْلٌ أَصْلًا وَجَوَازُ أَنْ يَفْعَلَ وَيَكُونَ فِعْلُهُ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ تَارِكًا لَكَانَ الثَّانِي أَقْرَبَ إلَى عَقْلِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هَذَا الثَّانِي مَعْقُولٌ وَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَعْقُولٍ . وَبِهَذَا اسْتَطَالَتْ عَلَيْهِمْ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا حُدُوثَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ وَمَضْمُونُ عُمُومِ كَلَامِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ ادَّعَوْا حُدُوثَ كُلِّ مَوْجُودٍ لَكِنْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ وَالدَّهْرِيَّةُ ادَّعَوْا قِدَمَ السَّمَوَاتِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كُفْرٌ بَاطِلٌ أَيْضًا لَكِنْ صَارَ كُلٌّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ يُعَارِضُ الْآخَرَ بِحُجَجٍ تُبْطِلُ حُجَجَ نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ فَتَكُونُ حُجَّتُهُمْ بَاطِلَةً فَيُمْكِنُ إبْطَالُهَا , وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ أَئِمَّتِهِمْ يَقُولُونَ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِهَا وَيَصِيرُونَ فِيهَا إلَى الْوَقْفِ وَالْحَيْرَةِ , ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْقَوْلِ بِهَذَا الْحُدُوثِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنِفَاقِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ أَحَدُ شُيُوخِ الْأَشْعَرِيِّ وَقَدْ فَرِحَ أَصْحَابُ الْأَشْعَرِيِّ بِمُوَافَقَتِهِ وَمُوَافَقَةِ أَبِي عِيسَى الْوَرَّاقِ
لَهُمْ عَلَى إثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ وَمَعَ هَذَا فَلَهُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ سَمَّاهُ ( كِتَابُ التَّاجِ ) فِي قِدَمِ الْعَالَمِ . وَذَكَرَ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ ( مَفْصُولٌ ) ذَكَرَ عِلَلَ الْمُلْحِدِينَ وَالدَّهْرِيِّينَ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ التَّاجِ وَهُوَ الَّذِي نَصَرَ فِيهِ الْقَوْلَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْأَشْعَرِيَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ أَقَرَّ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِالرَّازِيِّ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ يَذْكُرُ أَدِلَّةَ الطَّائِفَتَيْنِ وَيُصَرِّحُ فِي آخِرِ كُتُبِهِ وَآخِرِ عُمْرِهِ وَهُوَ كِتَابُ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَحَارَاتِ الْعُقُولِ وَلِهَذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَتْبَاعِهِمْ الشَّكَّ وَالِارْتِيَابَ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا حَدَّثَنِي مِمَّنْ حَدَّثَهُ ابْنُ بَادَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْخِسْرُوشَاهِي وَهُوَ أَحَدُ تَلَامِذَةِ ابْنِ الْخَطِيبِ الَّذِي قَدِمَ إلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَأَخَذَهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَاحِبُ الْكَرْكِ إلَى عِنْدِهِ وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ حَصَلَ لَهُ اضْطِرَابٌ فِي الْإِيمَانِ مِنْ جِهَتِهِ وَجِهَةِ أَمْثَالِهِ . قَالَ : دَخَلْت عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ فَقَالَ لِي يَا فُلَانُ مَا تَعْتَقِدُ . قُلْت : أَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ قَالَ وَأَنْتَ جَازِمٌ بِذَلِكَ وَصَدْرُك مُنْشَرِحٌ لَهُ قُلْت نَعَمْ قَالَ فَبَكَى بُكَاءً عَظِيمًا أَظُنُّهُ قَالَ لَكِنَّنِي وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ
لَكِنَّنِي وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ لَكِنَّنِي وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ . وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ عَنْ مُؤَذِّنِ الْكَرْكِ قَالَ صَعِدْت لَيْلَةً بِوَقْتٍ فَسَبَّحْت فِي الْمَنَارَةِ ثُمَّ نَزَلْت وَالْخَسَر وَشَاهِيّ سَاهِرٌ مَعَ السُّلْطَانِ يَتَحَدَّثَانِ فَقَالَ إلَى السَّاعَةِ أَنْتَ تُسَبِّحُ فِي الْمَنَارَةِ فَقُلْت نَعَمْ فَقَالَ بِتّ تُنَاجِي الرَّحْمَنَ وَبِتّ أُنَاجِي الشَّيْطَانَ وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرَهُ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَصُدُّهُمْ عَنْ طَرْدِ الدَّلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ تَجَدُّدُ أَحْكَامٍ لِلذَّاتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْحُدُوثِ لَمْ يَبْعُدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي اعْتِوَارِ الْأَعْرَاضِ عَلَى الذَّاتِ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي تَجَدُّدِ حُكْمِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْمَوْجُودَاتِ كَحَالِهِ قَبْلَ وُجُودِهَا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ حَالُهُ قَبْلُ كَحَالِهِ بَعْدُ أَوْ هُوَ قَبْلُ لَمْ يَكُنْ يَسْمَعُ شَيْئًا وَلَا يَرَاهُ فَكَذَلِكَ بَعْدُ لِاسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ إنَّ بَعْدَ ذَلِكَ خِلَافُ حَالِهِ قَبْلُ فَهَذَا قَوْلٌ بِتَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ وَلَا حِيلَةَ فِي ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ مَا قِيلَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ فَأَمْكَنَ الْمُفَرِّقُ أَنْ يَقُولَ حَالُهُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَعْلُومِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ . وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْإِلْزَامَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ وَالْتَزَمَ قَوْلَ
الْكَرَّامِيَّةِ بَعْدَ أَنْ أَجَابَ بِجَوَابٍ لَيْسَ بِذَاكَ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِأَنَّ الْإِدْرَاكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ وَهُوَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِلْعَالَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ إذْ هُمْ لَا يُثْبِتُونَ أَمْرًا فِي ذَاتِ اللَّهِ بِهِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ بَلْ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ نَفْسُ الْإِدْرَاكِ عِنْدَهُمْ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ وَيَلْزَمُ أَنْ يَتَغَيَّرَ وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ وَقَالَ فِي الْجَوَابِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا بِسَمْعٍ قَدِيمٍ وَبَصَرٍ قَدِيمٍ وَيَكُونُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ يَقْتَضِيَانِ التَّعَلُّقَ بِالْمَرْئِيِّ وَالْمَسْمُوعِ بِشَرْطِ حُضُورِهِمَا وَوُجُودِهِمَا قَالَ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ إنَّهُ صِفَةٌ مُتَهَيِّئَةٌ لِدَرْكِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَجَدُّدُ التَّعَلُّقَاتِ قُلْنَا وَأَيُّ بَأْسٍ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ التَّعَلُّقَاتِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ فِي الْأَعْيَانِ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرُ الْمَذْهَبِ ثُمَّ لَإِنْ سَلَّمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا فِي ذَاتِهِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْكَرَّامِيَّةِ وَقَوْلُهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ قُلْنَا إنْ عَنَيْتُمْ حُدُوثَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً فِيهَا فَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ مُحَالٌ , وَإِنْ عَنَيْتُمْ شَيْئًا آخَرَ
فَبَيِّنُوهُ لِنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ , وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ يَلْزَمُ وُجُودُ التَّغَيُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ . قُلْت : وَقَدْ اعْتَرَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِضَعْفِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ , وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ صِفَةٌ مُتَهَيِّئَةٌ لِدَرْكِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِ وَضِدُّهُ نَفْيُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ هُوَ الْإِدْرَاكُ , فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَبَيْنَ هَذَا الْمُدْرَكِ . ثُمَّ عِنْدَ وُجُودِ هَذَا الدَّرْكِ هَلْ يَكُونُ سَامِعًا مُبْصِرًا لِمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ سَامِعًا لَهُ مُبْصِرًا أَمْ لَا يَكُونُ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ نَفْيُ أَنْ يَسْمَعَ وَيُبْصِرَ , وَإِنْ كَانَ سَمِعَ وَرَأَى مَا لَمْ يَكُنْ سَمِعَهُ وَرَآهُ , فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ قَائِمٌ بِذَاتِ السَّامِعِ الرَّائِي , وَأَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا عَدَمِيًّا وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَوْ كَانَ عَدَمِيًّا لَكَانَ سَلْبُهُ وُجُودِيًّا إذَا قِيلَ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يُبْصِرْ , وَإِنْ كَانَ سَلْبُهُ وُجُودِيًّا لَامْتَنَعَ وَصْفُ الْمَعْدُومِ بِهِ , فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِوُجُودٍ وَمَذَاهِبُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا تُشْكِلُ عَلَى النَّاسِ لِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِ , فَإِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يُطْلَقُ بِمَعْنَى مَا بِهِ يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ , وَلَيْسَ اللَّهُ عِنْدَهُمْ سَمِيعًا بَصِيرًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ , وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ يَقُولُونَ بِذَلِكَ . وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ مُجَرَّدُ الْإِدْرَاكِ فَقَطْ , فَكَيْفَ يُقَالُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْعَدَمِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَوْجُودِ وَأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمَوْجُودِ عَدَمٌ مَحْضٌ هَذِهِ
أَقْوَالٌ مَعْلُومَةُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ , وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بَسْطًا عَظِيمًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ : إنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ لِلَّهِ كَلِمَاتٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } . وَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَقَالَ : { فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } . وَقَالَ : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } . وَكَذَلِكَ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِعَاذَةُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ صَرِيحٌ فِي تَعَدُّدِ كَلِمَاتِهِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا لَا عَدَدَ فِيهِ أَصْلًا , وَهَذَا قَدْ أَوْرَدُوهُ وَذَكَرُوا جَوَابَهُمْ عَنْهُ فَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنُ فُورَكٍ فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ وَسَائِرُ كُتُبِ
اللَّهِ شَيْئًا وَاحِدًا وَالرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ وَقَالَ : { مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك } وَقَالَ : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } . قُلْنَا : إنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ كَذَلِكَ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ وَأَثْبَتَهَا فِي التَّنْزِيلِ فَقَالَ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا } أَفَتَقُولُونَ بِتَعَدُّدِ الْمُسَمَّى لِتَعْدِيدِ الْأَسَامِي , أَوْ تَقُولُونَ الْأَسْمَاءُ تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ بِنُعُوتِ الْجَلَالِ . فَإِنْ قُلْت التَّسْمِيَاتُ تَتَعَدَّدُ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ , فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا هُوَ بِلُغَةٍ مِنْ اللُّغَاتِ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ أَوْ عِبْرَانِيٌّ لَكِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْهُ تَكْثُرُ وَتَخْتَلِفُ , فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُ اللَّهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ سُمِّيَ قُرْآنًا , وَإِذَا قُرِئَ بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ سِمِّي تَوْرَاةً وَإِنْجِيلًا كَذَلِكَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ يُوصَفُ بِالْعَرَبِيَّةِ ( اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَبِالْفَارِسِيَّةِ خداي بزرك وَبِالتُّرْكِيَّةِ سركوي ) وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَاحِدٌ وَالتَّسْمِيَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تَكْثُرُ . وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ مَعْبُودٌ فِي السَّمَاءِ وَمَعْبُودٌ فِي الْأَرْضِ بِعِبَادَاتٍ وَقُصُودٍ مُتَبَايِنَةٍ , وَكَذَلِكَ هُوَ سُبْحَانَهُ مَذْكُورُ الذَّاكِرِينَ بِأَذْكَارٍ مُخْتَلِفَةٍ , وَكَذَلِكَ
الْكَلَامُ يُكْتَبُ وَيُقْرَأُ وَيُفَسَّرُ بِقِرَاءَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَذْكَارٍ مُتَفَاوِتَةٍ وَكِتَابَةٍ مُتَبَايِنَةٍ وَقَوْلُهُ : { مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } قَدْ قِيلَ : إنَّمَا سُمِّيَ كَلَامُهُ كَلِمَاتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَائِدِ الْكَلِمَاتِ وَلِأَنَّهُ يَنُوبُ مَنَابَهَا فَجَازَتْ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا وَفِي قَرِيبٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْحَقِّ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ } لِأَنَّهُ مَنَابُ أُمَّةٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ } وَالْمُرَادُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ وَقِيلَ مَا تَقَدَّمَتْ الْعِبَارَاتُ وَالدَّلَالَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَفْهُومَاتِ مَعَانِي كَلَامِهِ : قُلْت : فَهَذَا مَا ذَكَرُوهُ وَمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَبْطَلْ الْقَوْلِ وَأَفْسَدِ الْقِيَاسِ , فَإِنَّهُمْ أَوْرَدُوا سُؤَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ شَيْئًا وَاحِدًا . وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّبَّ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ كَلِمَاتٍ . ثُمَّ جَعَلَ الْجَوَابَ عَنْ الْأَوَّلِ : إنَّ هَذَا مِثْلُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ بِاللُّغَاتِ , وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ , فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْكُتُبُ مَعَ تَعَدُّدِهَا وَتَنَوُّعِهَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ , وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَفِي الْفَرْعِ , أَمَّا فِي الْأَصْلِ فَلِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى لَيْسَتْ
مُتَرَادِفَةً بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْنَى كُلِّ اسْمٍ هُوَ مَعْنَى الِاسْمِ الْآخَرِ وَلَا هِيَ أَيْضًا مُتَبَايِنَةً التَّبَايُنَ فِي الْمُسَمَّى وَفِي صِفَتِهِ , بَلْ هِيَ مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُسَمَّى كَالْمُتَرَادِفَةِ وَمِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى صِفَاتِهِ كَالْمُتَبَايِنَةِ , وَهَذَا الْقِسْمُ كَثِيرٌ وَمِنْهُ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْمَاءُ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ ذَلِكَ , وَبَعْضُ النَّاسِ يَجْعَلُ هَذَا قِسْمًا مِنْ الْمُتَرَادِفِ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ مِنْ الْمُتَبَايِنِ قِسْمًا ثَالِثًا قَدْ يُسَمِّيهِ الْمُتَكَافِئُ , وَالْمَقْصُودُ فَهْمُ الْمَعْنَى , فَإِذَا قِيلَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَقِيلَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ وَقِيلَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ : فَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَمَّى بِصِفَةِ الرَّحْمَةِ , وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْعِلْمِ , وَالثَّالِثُ بِصِفَةِ الْقُدْرَةِ , وَالرَّابِعُ بِصِفَةِ السَّمْعِ , وَالْخَامِسُ بِصِفَةِ الْبَصَرِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَيْسَ أَحَدُهَا هُوَ الْآخَرَ , وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ هَؤُلَاءِ وَلَا غَيْرُهُمْ فَصِفَاتُ كُلِّ اسْمٍ يَدُلُّ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ مَعَ اتِّفَاقِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّى نَعَمْ وَقَدْ يَدُلُّ الِاسْمُ عَلَى مَعْنَى الْآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَالذَّاتُ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ لَكِنْ دَلَالَةُ اللُّزُومِ لَيْسَتْ هِيَ دَلَالَةَ الِاسْمِ اللُّغَوِيَّةَ وَاللُّزُومُ أَيْضًا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُعَرَّفَ تِلْكَ الصِّفَاتُ مِنْ غَيْرِ الِاسْمِ هُوَ الدَّالُّ عَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعَدُّدُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
لَمْ يَقْتَضِ تَعَدُّدَ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ اقْتَضَى تَعَدُّدَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ , وَهَؤُلَاءِ يُنَازِعُونَ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ وَمُحَقِّقُوهُمْ لَا يَقُولُونَ إنَّهَا مَحْصُورَةٌ بِعَدَدٍ بَلْ يَقُولُونَ هَذَا الَّذِي عَلِمْنَاهُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مَا لَا نَعْلَمُهُ , وَإِذَا كَانَتْ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ مُتَعَدِّدَةً وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ هَذَا نَظِيرًا لِمَا ادَّعَاهُ مِنْ تَكَثُّرِ الْعِبَارَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى الْمُعَبَّرِ عَنْهُ . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَلْسُنِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ تَارَةً تَكُونُ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْعَجَمِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى صِفَاتٍ لَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا الِاسْمُ الْعَرَبِيُّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى بِالْعَرَبِيَّةِ وَتَارَةً يَكُونُ مَعْنَاهَا مَعْنَى الِاسْمِ الْعَرَبِيِّ فَيَكُونُ هَذَا كَالْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ , وَلَوْلَا تَنَوُّعُ مَعَانِي الْأَسْمَاءِ لَمْ يَكُنْ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَزِيَّةً وَلَا كَانَ فِي اخْتِصَاصِ بَعْضِ النَّاسِ بِعِلْمِ بَعْضِهَا فَضِيلَةٌ وَلَا كَانَ الدُّعَاءُ بِبَعْضِهَا أَوْكَدَ مِنْ الدُّعَاءِ بِبَعْضٍ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا غَمٌّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِي حُكْمُك عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك أَسْأَلُك
اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ بَصَرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ , قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ { لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } وَقَوْلُهُ { أَسْأَلُك بِاسْمِك الْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ الْكَبِيرِ الْأَكْبَرِ } وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ { اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ } .
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ : إنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَلَيْسَ دَلَالَةُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ عَلَى كَلَامِهِ كَدَلَالَةِ أَسْمَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ فَإِنَّ الِاسْمَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي الْمُسَمَّى وَيَنْفَرِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالصِّفَةِ الَّتِي اخْتَصَّ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهَا , وَأَمَّا الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ فَكُلٌّ مِنْ الْكَلَامَيْنِ لَهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعْنَاهُ كَمَا يُشَارِكُ الِاسْمُ الِاسْمَ فِي مُسَمَّاهُ , فَإِنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ مَثَلًا وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَنَحْوَهُمَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ الْمُتَعَلِّقِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى , وَسُورَةُ الدَّيْنِ وَسُورَةُ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَغَيْرُهُمَا لَهُمَا مَعَانٍ أُخَرُ فِي ذَمِّ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ وَالْأَمْرِ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ , وَلَيْسَ ذَمُّ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ هُوَ مَدْحَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَلَا مَعْنَى هَذَا هُوَ مَعْنَى هَذَا وَلَا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا كَمَا بَيْنَ الِاسْمَيْنِ إذْ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدٌ مَوْجُودٌ , وَأَمَّا مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَلَيْسَ هُوَ وَاحِدًا أَصْلًا بَلْ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . نَعَمْ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَلَامًا لِلْمُتَكَلِّمِ وَهَذَا كَاشْتِرَاكِ الْحَيَاتَيْنِ فِي أَنَّ هَذِهِ حَيَاةٌ وَهَذِهِ حَيَاةٌ , وَاشْتَرَاك الْمَوْجُودَيْنِ فِي أَنَّ هَذَا وُجُودٌ وَهَذَا وُجُودٌ وَهَذَا الِاشْتِرَاكُ لَا
يَقْتَضِي أَنَّ أَحَدَهُمَا هُوَ الْآخَرَ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا , فَكَذَلِكَ مَعَانِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لَا تَقْتَضِي أَنَّ إحْدَاهَا هِيَ الْأُخْرَى فِي الْخَارِجِ أَصْلًا وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الْبَدِيهِيَّةِ وَفَهْمُهُ سَهْلٌ عَلَى مَنْ تَدَبَّرَهُ وَمَنْ جَحَدَ هَذَا كَانَ مِنْ أَظْهَرِ الْجَاحِدِينَ لِلْمَعَارِفِ الْفِطْرِيَّةِ الضَّرُورِيَّةِ وَإِنْ سَقَطَتْ مُكَالَمَةُ أَحَدٍ لِسَفْسَطَتِهِ فَهَذَا أَحَقُّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِهَذَا وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِاَلَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ :
وَكَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَوَّلًا الْكَلَامُ فِي اسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ لَهُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : إنَّهُ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَرَكَّبُ وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا تَفْسِيرُ الِاسْمِ الْوَاحِدِ , وَهَذِهِ الْوَحْدَانِيَّةُ هِيَ الَّتِي ذَكَرُوهَا هُنَا إذْ لَيْسَ مُرَادُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَبَعَّضُ أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ , وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُ نَحْوًا مِنْهُ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ , فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ حَقٌّ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَذَلِكَ كَانَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ يَنْفُونَ التَّبْعِيضَ عَنْ اللَّهِ بِهَذَا الْمَعْنَى , وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْهَدُ وَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُدْرَكُ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ مِنْهُ إلَى شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ بِحَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُمْ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا يُمْكِنُهُ هُوَ أَنْ يُشِيرَ مِنْهَا إلَى شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ أَوْ يَرَى عِبَادُهُ مِنْهَا شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بِحَيْثُ إذَا تَجَلَّى لِعِبَادِهِ يُرِيهِمْ مِنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ عِنْدَهُمْ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعِبَادُ مَحْجُوبِينَ عَنْهُ بِحِجَابٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُمْ يَمْنَعُ أَبْصَارَهُمْ عَنْ رُؤْيَتِهِ . فَإِنَّ الْحِجَابَ لَا يَحْجُبُ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ مُنْقَسِمٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ
الْحِجَابَ لِيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَلَا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِهِ حِجَابٌ أَصْلًا وَلَا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَلْقَاهُ الْعَبْدُ أَوْ يَصِلُ إلَيْهِ أَوْ يَدْنُو مِنْهُ أَوْ يَقَرُّ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ , فَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَهُمْ بِكَوْنِهِ لَا يَنْقَسِمُ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ نَفْيَ التَّجْسِيمِ إذْ كُلُّ مَا ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ كَانَ جِسْمًا مُنْقَسِمًا مُرَكَّبًا وَالْبَارِي مُنَزَّهٌ عِنْدَهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي . وَالْمَعْنَى الثَّانِي : مِنْ مَعَانِي الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ هُوَ الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ لَكِنْ أَجْمَلُوهَا فَجَعَلُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا دَاخِلًا فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَاضْطَرَبُوا فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ لَا تَنْضَبِطُ . وَالْمُعْتَزِلَةِ تَزْعُمُ أَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَنَفْيَ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ وَالصِّفَاتِيَّةُ تَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ مُضْطَرِبُونَ فِيمَا يَنْفُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ وَافَقُوا أُولَئِكَ عَلَى أَنَّ مَا نَفَوْهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَمَا نَفَوْهُ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّوْهُ تَجْسِيمًا وَهُوَ التَّوْحِيدُ الَّذِي لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ وَهُوَ أَصْلُ الدِّينِ عِنْدَهُمْ وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَيْسَتْ مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَمْ يَكُنْ الرَّسُولُ يُعَلِّمُ أُمَّتَهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَلَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ
الدِّينِ لَمْ يَدْعُ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعُونَ بَلْ يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُخَالِفُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةُ تَوْحِيدًا وَلِهَذَا مَا زَالَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ . كَمَا رَوَى الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ فِي ذَمِّ الْكَلَامِ , قَالَ سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ جَابِرًا السُّلَمِيُّ , قَالَ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ الْأَزْهَرِ الْفَقِيهَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْمُزَنِيّ فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ , فَقَالَ إنِّي أَكْرَهُ هَذَا بَلْ أَنْهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ , وَلَقَدْ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ قَالَ مَالِكٌ مُحَالٌ أَنْ يُظَنَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ عَلَّمَ أُمَّتَهُ الِاسْتِنْجَاءَ وَلَمْ يُعَلِّمْهُمْ التَّوْحِيدَ بِالتَّوْحِيدِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } فَمَا عُصِمَ بِهِ الدَّمُ وَالْمَالُ فَهُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ ذَلِكَ مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ فِي كِتَابِ ذَمِّ الْكَلَامِ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ . وَرَوَى أَيْضًا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْفَقِيهُ بِمَرْوَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ النَّجِيبِيُّ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى , حَدَّثَنَا أَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ إيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ قِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَمَا الْبِدَعُ , قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَسْكُتُونَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَرَوَيَا أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ سَمِعْت شُكْرًا سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ الْبَصْرِيَّ سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ دَخَلْت عَلَى مَالِكٍ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ لَعَلَّك مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ لَعَنَ اللَّهُ عَمْرًا فَإِنَّهُ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدَعَ مِنْ الْكَلَامِ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِلْمًا لَتَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَلَكِنَّهُ بَاطِلٌ يَدُلُّ عَلَى بَاطِلٍ , وَهَذَا صَرِيحٌ فِي رَدِّ الْكَلَامِ وَالتَّوْحِيدِ الَّذِي كَانَ تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِخِلَافِ مَا رُوِيَ مِنْ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ فِي الصِّفَاتِ وَالتَّوْحِيدِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ إنَّمَا أَنْكَرُوا الْكَلَامَ وَالتَّوْحِيدَ الْمُبْتَدَعَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ . وَقَالَ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مِسْتَوَيْهِ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ رُسْتُمَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُطِيعٍ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ عَنْ نُوحٍ الْجَامِعِ قَالَ قُلْت لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا تَقُولُ فِيمَا أُحَدِّثُ النَّاسَ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ , فَقَالَ مَقَالَاتُ الْفَلَاسِفَةِ , عَلَيْك بِالْأَثَرِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ . وَقَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُخَارِيُّ سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْأَحْنَفِ سَمِعْت الْفَتْحَ بْنَ عَلْوَانَ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ الْحَجَّاجِ سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَإِنَّهُ فَتَحَ لِلنَّاسِ الطَّرِيقَ إلَى الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنْ الْكَلَامِ , وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَحُثُّنَا عَلَى الْفِقْهِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْكَلَامِ . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ الحادودي أَنْبَأَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ يَقُولُ سَمِعْت الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيّ يَقُولُ شَهِدْت الشَّافِعِيَّ وَدَخَلَ عَلَيْهِ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ فَقَالَ لِبِشْرٍ أَخْبِرْنِي عَمَّا تَدْعُو إلَيْهِ أَكِتَابٌ نَاطِقٌ وَفَرْضٌ مُفْتَرَضٌ وَسُنَّةٌ قَائِمَةٌ وَوَجَدْت عَنْ السَّلَفِ الْبَحْثَ فِيهِ وَالسُّؤَالَ فَقَالَ بِشْرٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسَعُنَا خِلَافُهُ , فَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَقْرَرْت عَلَى نَفْسِك بِالْخَطَإِ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْفِقْهِ وَالْأَخْبَارِ يُوَالِيك النَّاسُ عَلَيْهِ وَتَتْرُكُ هَذَا لَنَا
نَتَّهِمُهُ فِيهِ فَلَمَّا خَرَجَ بِشْرٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُفْلِحُ . وَرَوَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمُزَنِيّ وَعَنْ الرَّبِيعِ قَالَ الْمُزَنِيّ سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ لِلرَّبِيعِ يَا رَبِيعُ اقْبَلْ مِنِّي ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ : لَا تَخُوضُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ خَصْمَك النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا تَشْتَغِلْ بِالْكَلَامِ فَإِنِّي قَدْ اطَّلَعْت مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ عَنْ التَّعْطِيلِ , زَادَ الْمُزَنِيّ وَلَا تَشْتَغِلْ بِالنُّجُومِ فَإِنَّهُ يَجُرُّ إلَى التَّعْطِيلِ , وَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي يَذْكُرُهُ هَؤُلَاءِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَذَوِيهِ : وَهَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي ذَكَرُوهُ هُوَ التَّعْطِيلُ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إلَّا صِفَةً لِلْمَعْدُومِ , وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَيْضًا رَأَيْت بِخَطِّ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ يَقُولُ سُئِلَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَقَالَ بِدْعَةٌ ابْتَدَعُوهَا , وَلَمْ يَكُنْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْبَابُ الْمَذَاهِبِ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ مِثْلُ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ يَتَكَلَّمُونَ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْخَوْضِ فِيهِ وَيَدُلُّونَ أَصْحَابَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِيَّاكَ وَالْخَوْضَ فِيهِ وَالنَّظَرَ فِي كُتُبِهِمْ بِحَالٍ . قُلْت : وَقَوْلُ ابْنِ خُزَيْمَةَ الْمُلَقَّبِ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ
الْكَلَامُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ نَظِيرُ مَا نَهَى عَنْهُ مَالِكٌ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَهُوَ هَذَا التَّوْحِيدُ الَّذِي ابْتَدَعَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ وَأَتْبَاعُهَا فَإِنَّ ابْنَ خُزَيْمَةَ لَهُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ فِي التَّوْحِيدِ يَذْكُرُ فِيهِ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا كِتَابُهُ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَمِعْت أَبِي يَقُولُ قُلْت لِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ مَا التَّوْحِيدُ قَالَ تَوْحِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُ أَهْلِ الْبَاطِلِ الْخَوْضُ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ , وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَبَيَّنَ أَنَّ الْخَوْضَ فِي الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَنَفْيَ ذَلِكَ وَجَعْلَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَهُ أَصْلَ الدِّينِ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ . أَنْبَأْنَا الْأَشْعَثُ يَقُولُ قَالَ رَجُلٌ لِبِشْرِ بْنِ أَحْمَدَ أَبِي سَهْلٍ الْإسْفَرايِينِيّ إنَّمَا أَتَعَلَّمُ الْكَلَامَ لِأَعْرِفَ بِهِ الدِّينَ فَغَضِب وَسَمِعْته قَالَ أَوَ كَانَ السَّلَفُ مِنْ عُلَمَائِنَا كُفَّارًا وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِي أَقُولُ أَنَّهُ إذَا نُظِرَ إلَى إسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَائِرِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ , وَجَمِيعِ الْوُفُودِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَعْرِفْهُ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ إلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّينَ وَبِأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الرِّسَالَةِ لَا مِنْ قِبَلِ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ وَلَا مِنْ بَابِ الْبَعْضِ وَالْكُلِّ وَلَا مِنْ بَابِ كَانَ وَيَكُونُ وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَيْهِمْ وَاجِبًا فِي الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَفِي التَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ لَازِمًا مَا أَضَاعُوهُ وَمَا أَضَاعُوا الْوَاجِبَ لَمَّا نَطَقَ الْقُرْآنُ بِتَزْكِيَتِهِمْ وَتَقْدِيمِهِمْ وَلَا أَطْنَبَ فِي مَدْحِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِمْ مَشْهُورًا وَمِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَعْرُوفًا لَاسْتَفَاضَ عَنْهُمْ وَاشْتَهَرُوا بِالْقُرْآنِ وَالرِّوَايَاتِ . فَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ أَنَّ مَا يُدْخِلُهُ هَؤُلَاءِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ مِنْ الْجِسْمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّشْبِيهِ وَنَفْيِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ لَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ لَمَا أَضَاعَهُ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمِلَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَا سَمَّاهُ هَؤُلَاءِ تَوْحِيدًا وَجَعَلُوهُ هُوَ نَفْيَ التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ابْتَدَعُوهُ لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَلَا أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ حُذَّاقُهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَوَافَقَهُ فِيهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ مِنْهَاجُ الْقَاصِدِينَ لَمَّا ذَكَرَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عُرِفَ مُسَمَّيَاتُهَا فَذَكَرَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ وَالتَّوْحِيدَ قَالَ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ
بْنِ كِلَابٍ وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ مِمَّنْ أَخَذَ أَصْلَ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَخَالَفُوهُمْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ الْمُبْتَدَعِ الْمُخَالِفِ لِلتَّوْحِيدِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَا يَقَعُ كَانَ النَّاسُ يُنَبِّهُونَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَالَ سَمِعْت عَدْنَانَ بْنَ عَبْدَةَ النُّمَيْرِيَّ يَقُولُ سَمِعْت أَبَا عُمَرَ الْبِسْطَامِيَّ يَقُولُ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَوَّلًا يَنْتَحِلُ الِاعْتِزَالَ ثُمَّ رَجَعَ فَتَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُ التَّعْطِيلُ إلَّا أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ التَّصْرِيحِ إلَى التَّمْوِيهِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَلَقَدْ حَكَى لِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيُّ الْمَغْرِبِيُّ وَكَانَ فَقِيهًا صَالِحًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْقِيِّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيِّينَ بِبَرْقَةَ عَنْ أُسْتَاذِهِ خَلَفٍ الْمُعَلِّمِ وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَقَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً عَلَى الِاعْتِزَال ثُمَّ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَرَجَعَ عَنْ الْفُرُوعِ وَثَبَتَ عَلَى الْأُصُولِ . قَالَ أَبُو نَصْرٍ هَذَا كَلَامُ خَبِيرٍ بِمَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَوْرَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إمَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي وَقْتِهِ فِي الْعِرَاقِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ
قَالَ فَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَكُلُّ مُتَكَلِّمٍ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَشْعَرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ أَشْعَرِيٍّ . وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ : مِنْ مَعَانِي التَّوْحِيدِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْمُلْكِ بَلْ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ وَهُوَ حَقٌّ وَهُوَ أَجْوَدُ مَا اعْتَصَمُوا بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِمْ حَيْثُ اعْتَرَفُوا فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُرَبِّيهِ وَمُدَبِّرُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَغَيْرُهُمْ يُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ يَجْعَلُونَ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحْدِثْهَا لَكِنْ مَعَ هَذَا قَدْ رَدُّوا قَوْلَهُمْ بِبِدَعٍ غَلَوْا فِيهَا وَأَنْكَرُوا مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَأَنْكَرُوا مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ فَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي يَقُولُونَ أَنَّهَا مَعْنَى اسْمِ اللَّهِ الْوَاحِدِ وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَفِيهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي خُولِفَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ . وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا بَيَّنَ
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِلَهَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إلَهٌ غَيْرُهُ فَلَا يُعْبَدُ إلَّا إيَّاهُ كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } وَكَمَا قَالَ : { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } . إلَى قَوْلِهِ : { فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } . وَكَمَا قَالَ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } وَكَمَا قَالَ : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } . وَالشِّرْكُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كَعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْكَوَاكِبِ أَوْ الشَّمْسِ أَوْ الْقَمَرِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ تَمَاثِيلِهِمْ أَوْ قُبُورِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي التَّوْحِيدِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ إشْرَاكًا وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِيَ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }
. وَقَالَ : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ . وَلَقَدْ أُوحِيَ إلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِك لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ . بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا ذَكَرْت رَبَّك فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إنْ هَذَا إلَّا اخْتِلَاقٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ يَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ لَهُ وَلَدٌ وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَكَانَ الْكُفَّارُ يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ نِهَايَةُ مَا يُثْبِتُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ إذَا سَلِمُوا مِنْ الْبِدَعِ فِيهِ وَكَانُوا مَعَ هَذَا مُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ بِهَذَا التَّوْحِيدِ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ بَعَثَ إلَى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا بِهِ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الْآخِرِينَ دِينًا غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ . قُلْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } فَدِينُ اللَّهِ أَنْ يَدِينَهُ الْعِبَادُ وَيَدِينُونَ لَهُ فَيَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ وَيُطِيعُونَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْإِسْلَامُ لَهُ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَ هَذَا دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ
إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } فَذَكَرَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ بَعْدَ إخْبَارِهِ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأُولِي الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . وَالْإِلَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ فَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ أَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ مُشْرِكٌ بِرَبِّهِ مُتَّخِذٌ مِنْ دُونِهِ إلَهًا آخَرَ فَلَيْسَتْ الْإِلَهِيَّةُ هُوَ الْخَلْقَ أَوْ الْقُدْرَةَ عَلَى الْخَلْقِ أَوْ الْقِدَمَ كَمَا يُفَسِّرُهَا هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعُونَ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إذْ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ شَهِدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَشُكُّونَ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ فَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْإِلَهِيَّةَ لَكَانُوا قَائِلِينَ إنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَذَا مَوْضِعٌ عَظِيمٌ جِدًّا يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ لِمَا قَدْ لُبِّسَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ أَصْلُ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارُوا يَدْخُلُونَ فِي أُمُورٍ عَظِيمَةٍ هِيَ شِرْكٌ يُنَافِي الْإِسْلَامَ لَا يَحْسِبُونَهَا شِرْكًا وَأَدْخَلُوا فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ أُمُورًا بَاطِلَةً ظَنُّوهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَهِيَ تُنَافِيهِ وَأَخْرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ أُمُورًا عَظِيمَةً لَمْ يَظُنُّوهَا مِنْ التَّوْحِيدِ وَهِيَ أَصْلُهُ فَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَجْعَلُونَ التَّوْحِيدَ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ وَالرَّأْيِ وَاعْتِقَادِ ذَلِكَ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَالْإِرَادَةِ وَاعْتِقَادِ ذَلِكَ بَلْ التَّوْحِيدُ الَّذِي لَا
بُدَّ مِنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَوْحِيدِ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَنْ يَقْصِدَ اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَيُرِيدَهُ بِذَلِكَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَتَضَمَّنُ أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ سَالِمًا فَلَا يُشْرِكُهُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَهُ وَهَذَا هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ دُونَ مَا سِوَاهُ وَسُورَةُ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تُفَسِّرُ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعَمَلَ وَمَقْصِدَهُ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْقَوْلِيُّ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ عَنْ اللَّهِ فَفِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَفِيهَا اسْمُهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ يَدْخُلُ فِيهَا كَمَالُ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَكَمَالُ الْخَوْفِ مِنْهُ وَحْدَهُ وَالرَّجَاءُ لَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ كَمَا يُبَيِّنُ الْقُرْآنُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَبِذَلِكَ يَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ رُسُلَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ حَيْثُ يَقُولُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ : وَهُوَ قَوْلُهُمْ : كَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ وَاحِدٌ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا هُوَ بِلُغَةٍ مِنْ اللُّغَاتِ وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ أَوْ عِبْرَانِيٌّ لَكِنْ الْعِبَارَاتُ عَنْهُ تَكْثُرُ وَتَخْتَلِفُ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُ اللَّهِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ سُمِّيَ قُرْآنًا وَإِذَا قُرِئَ بِلُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ سُمِّيَ تَوْرَاةً أَوْ إنْجِيلًا فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَفْسَدِ مَا يُعْلَمُ فَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ فَسَادُهُ , وَهُوَ كُفْرٌ إذَا فَهِمَهُ الْإِنْسَانُ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ يُتَرْجَمُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْسُنِ وَمَعَ هَذَا إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هُوَ التَّوْرَاةَ وَلَا مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَلَا مَعَانِيهِ مِثْلُ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ تُقْرَأُ بِالْعِبْرِيَّةِ وَتُتَرْجَمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَتْ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَلَا مَعَانِيهَا مِثْلَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيلُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يُقْرَأُ بِعِدَّةِ أَلْسُنٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعَانِيهِ لَيْسَتْ مَعَانِيَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ , فَهَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ دِينٌ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُطْلَقًا إذَا قُرِئَ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ هُوَ الْقُرْآنَ , أَوْ لَيْسَ يَلْزَمُ صَاحِبَ هَذَا أَنْ تَكُونَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إذَا فُسِّرَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ , بَلْ هَذِهِ
الْأَحَادِيثُ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي يَرْوِيهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى مِثْلُ قَوْلِهِ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ } وَقَوْلِهِ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا دَعَانِي } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا كَلَامٌ عَرَبِيٌّ مَأْثُورٌ عَنْ اللَّهِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ قُرْآنًا وَلَا مِثْلَ الْقُرْآنِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . فَكَيْفَ يُقَالُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إذَا قُرِئَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا , وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ هَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ لَهُ دِينٌ إنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ , وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَ بِالْأَلْسِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْنَاهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَالْكَلَامِ الَّذِي يُتَرْجَمُ بِأَلْسِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ . الْعِلْمُ بِفَسَادِ هَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَقَائِلُ هَذَا لَوْ تَدَبَّرَ مَا قَالَ لَعَلِمَ أَنَّ الْمَجَانِينَ , لَا يَقُولُونَ هَذَا , وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا تُرْجِمَ كَمَا تَرْجَمَتْ الْعَرَبُ كَلَامَ الْأَوَائِلِ مِنْ الْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ الْمَعَانِي وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ تَخْتَلِفْ بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً أَوْ فَارِسِيَّةً أَوْ رُومِيَّةً أَوْ هِنْدِيَّةً . وَكَذَلِكَ لَمَّا تَرْجُمُوا مَا تَرْجَمُوهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَنَا وَأُمَمِهِمْ فَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ هِيَ سَوَاءٌ
كَانَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ , وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَمَّا قَالَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَهُمْ إنَّمَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَقَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ , وَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ هِيَ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهَا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا أَوْ رُشْدًا أَوْ غَيًّا مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ بَلْ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ فِي نَفْسِهَا حَقَائِقُ مُتَنَوِّعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ أَعْظَمُ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ وَاللُّغَاتِ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ , وَأَيْنَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ : اخْتِلَافِ صُوَرِ بَنِي آدَمَ وَأَلْسِنَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى اخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَقُصُودِهِمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اخْتِلَافَ قُلُوبِهِمْ وَعِلْمِهَا وَإِرَادَتِهَا أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ اخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ حَتَّى قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ , أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ رَجُلَيْنِ يَا أَبَا ذَرٍّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلُ هَذَا } . فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ جِنْسِ الْآخَرِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ , فَاخْتِلَافُ الصُّوَرِ لَا يَبْلُغُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ , وَهَكَذَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ , وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقُرْآنُ لَمْ تَكُنْ مُغَايَرَةُ بَعْضِهِ بَعْضًا بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ بِحَيْثُ
إذَا تُرْجِمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِلُغَةِ الْآخَرِ صَارَ مِثْلَهُ أَوْ صَارَ هُوَ إيَّاهُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ , مَعَ التَّرْجَمَةِ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعَانِي لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِيَ الْآخَرِ وَلَا مِثْلَهَا بَلْ التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ مَعَانِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَعْظَمُ مِنْ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ أَلْفَاظِهَا وَاللِّسَانُ الْعِبْرِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَمَعَ هَذَا فَمَعَانِي الْقُرْآنِ فَوْقَ مَعَانِي التَّوْرَاةِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ . ثُمَّ الْمَسِيحُ إنَّمَا كَانَ لِسَانُهُ عِبْرِيًّا وَإِنَّمَا بَعْدَهُ تُرْجِمَ الْإِنْجِيلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَفَنَرَى الْإِنْجِيلَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِبْرِيَّةِ هُوَ التَّوْرَاةَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى , بَلْ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْقُرْآنَ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ الْعَرَبِيِّ اخْتِصَاصٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَصْلًا , أَعْنِي خَاصَّةً فِي اللَّفْظِ وَخَاصَّةً فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى , وَلِهَذَا لَوْ فُسِّرَ الْقُرْآنُ وَلَوْ تُرْجِمَ فَالتَّفْسِيرُ وَالتَّرْجَمَةُ قَدْ يَأْتِي بِأَصْلِ الْمَعْنَى أَوْ يَقْرُبُهُ وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى كَبَيَانِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَصْلًا وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَلَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ , وَلَكِنْ يَجُوزُ تَرْجَمَتُهُ كَمَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ
قِرَاءَتُهُ بِأَلْفَاظِ التَّفْسِيرِ وَهِيَ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّرْجَمَةِ بِلُغَةٍ أُخْرَى . الْأَصْلُ الثَّانِي : إنَّهُ إذَا تُرْجِمَ أَوْ قُرِئَ بِالتَّرْجَمَةِ فَلَهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ كَلَامٌ أَصْلًا وَمَعْنَاهُ أَشَدُّ مُبَايَنَةً لِسَائِرِ مَعَانِي الْكَلَامِ مِنْ مُبَايِنَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ لِسَائِرِ اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ وَالْإِعْجَازُ فِي مَعْنَاهُ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ مِنْ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ . وقَوْله تَعَالَى : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ , فَكَيْفَ يُقَالُ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْمُتَرْجَمِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ مَعَ أَنَّا بِالْبَدِيهَةِ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ لَا فِي لَفْظٍ وَلَا مَعْنًى فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ وَهَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ دِينٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ وَالْكَلَامَ الْمُنَزَّلَ هِيَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهَا كَدَلَالَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ , أَمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودُنَا عُمُومَ النَّفْيِ بَلْ مَقْصُودُنَا نَفْيُ الْعُمُومِ فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ
الْكَلَامَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى , وَقَدْ يُنَزِّلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيٍّ بِلُغَةٍ الْمَعْنَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْآخَرِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَاحِدًا وَاللَّفْظُ مُخْتَلَفًا , وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَإِنَّا نَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ أَنَّ مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ تَتَّفِقُ , لَكِنْ الْمُنْكَرُ أَنْ يُقَالَ جَمِيعُ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْكُتُبِ مُتَّفِقَةٌ وَهِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ هُوَ بِعَيْنِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَأَنَّ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَمَعْنَى سُورَةِ الدَّيْنِ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَأَنَّ مَعْنَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَمَعْنَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَهَذَا لَوْ عُرِضَ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ مِنْ الصِّبْيَانِ لَعَلِمَ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ . فَتَدَبَّرْ كَيْفَ ضَلُّوا فِي زَعْمِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْمُسَمَّى , ثُمَّ ضَلُّوا أَعْظَمَ ضَلَالٍ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ أَنْزَلَهُ مَعْنَاهُ مَعْنًى وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَسْمَاؤُهُ لِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ , وَشَبَّهُوهُ بِالْأَسْمَاءِ فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدًا وَلَهُ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَكَانُوا قَدْ ضَلُّوا مِنْ وَجْهٍ , وَلَكِنْ مَعْنَى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ مِثْلُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ , إذْ الْمَدْلُولُ هُنَا وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ وَلَهُ صِفَاتٌ وَالْمَدْلُولُ هُنَا فِي إحْدَى السُّورَتَيْنِ لَيْسَ هُوَ الْمَدْلُولَ فِي السُّورَةِ
الْأُخْرَى بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . وَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ ذَلِكَ بِكَوْنِ اللَّهِ مَعْبُودًا بِعِبَادَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ فَهُوَ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْفَرْقِ فَلِهَذَا لَمْ نَحْتَجْ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ , إذْ تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْوَى اشْتِبَاهًا وَقَدْ ظَهَرَ مَا فِيهِ , فَكَيْفَ بِتَشْبِيهِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِعِبَادَةِ الْعَابِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ بِالْقُلُوبِ حَقِيقَةً مَقْرُوءٌ بِالْأَلْسِنَةِ حَقِيقَةً مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ حَقِيقَةً كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ حَقِيقَةً , فَهُوَ يَقْصِدُ هَذَا التَّلْبِيسَ مِنْ جَعْلِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَسَائِرِ كَلَامِ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى النَّفْسَانِيِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِهِ , وَقَدْ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ كَثِيرًا مِنْ عِبَادِهِ وَفَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا . وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانُوا أَخْبَثَ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَاتٍ مِثْلِ نَفْيِهِمْ أَنْ يَقُومَ بِاَللَّهِ كَلَامٌ فَهَؤُلَاءِ أَخْبَثُ مِنْهُمْ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ مِثْلِ مَنْعِهِمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَا هُوَ كَلَامُهُ وَجَعْلِهِمْ كَلَامِ اللَّهِ شَيْئًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : إنَّهُ قَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى إمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ وَاحِدًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُلَقَّبُ عِنْدَهُمْ بِالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الرَّازِيّ فَقَالَ : لَمَّا كَانَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْبِرًا بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ الْمُخْبَرَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ . وَلْنَضْرِبْ لِذَلِكَ مِثَالًا لِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ أَنَّ رَجُلًا إذَا قَالَ لِأَحَدِ غِلْمَانِهِ إذَا قُلْت اضْرِبْ فَاضْرِبْ فُلَانًا , وَيَقُولُ لِلثَّانِي إذَا قُلْت اضْرِبْ فَلَا تَتَكَلَّمُ مَعَ فُلَانٍ وَيَقُولُ لِلثَّالِثِ إذَا قُلْت اضْرِبْ فَاسْتَخْبِرْ عَنْ فُلَانٍ , وَيَقُولُ لِلرَّابِعِ إذَا قُلْت اضْرِبْ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ , ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْغِلْمَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثَمَّ يَقُولُ لَهُمْ اضْرِبْ فَهَذَا الْكَلَامُ الْوَاحِدُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمْ أَمْرٌ وَفِي حَقِّ الثَّانِي نَهْيٌ وَفِي حَقِّ الثَّالِثِ خَبَرٌ وَفِي حَقِّ الرَّابِعِ اسْتِخْبَارٌ وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْخَاصٍ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا وَاسْتِخْبَارًا فَأَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ . فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ هَذِهِ الْحُجَّةُ بِعَيْنِهَا الَّتِي اعْتَمَدَهَا إمَامُ أَتْبَاعِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ هُوَ أَيْضًا قَدْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي أَجَلِّ كُتُبِهِ عِنْدَهُ وَبَيَّنَ فَسَادَهَا , فَقَالَ فِي نِهَايَةُ الْعُقُولِ مِنْ
جِهَةِ أَصْحَابِهِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّيْءَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَطَلَبًا وَبَيَانُهُ أَنَّ إنْسَانًا لَوْ قَالَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ مَتَى قُلْت لَك افْعَلْ فَاعْلَمْ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك الْفِعْلَ , وَقَالَ لِلْآخَرِ مَتَى قُلْت لَك هَذِهِ الصِّيغَةَ فَاعْلَمْ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك التَّرْكَ , وَقَالَ لِلْآخَرِ مَتَى قُلْت لَك هَذِهِ الصِّيغَةَ فَاعْلَمْ أَنِّي أُخْبِرُ عَنْ كَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا , فَإِذَا حَضَرُوا بِأَسْرِهِمْ وَخَاطَبَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِهَذِهِ الصِّيغَةِ كَانَتْ تِلْكَ الصِّيغَةُ الْوَاحِدَةُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا مَعًا , فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ فَلْيُعْقَلْ مِثْلُهُ فِي الْغَائِبِ . ثُمَّ قَالَ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ طَلَبًا وَلَا خَبَرًا بَلْ هُوَ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَى الطَّلَبِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ دَلِيلًا عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ , إنَّمَا الِاسْتِحَالَةُ فِي أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِ حَقِيقَةِ الْخَبَرِ وَحَقِيقَةِ الطَّلَبِ . وَاسْتِقْصَاءُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْأَمْرِ مِنْ كِتَابِ الْمَحْصُولُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَهَذَا كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ فَسَادِهَا وَبُطْلَانِهَا وَذَلِكَ كَافٍ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ : أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ أَكْثَرُ مَا فِيهِ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُشْرَكًا بَيْنَ مَعَانِي أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ
الْقَائِلِ وَيْلٌ لَك أَنَّهُ دُعَاءٌ وَخَبَرٌ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ الصِّيغَةَ الْوَاحِدَةَ يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ تَارَةً وَالْخَبَرُ أُخْرَى كَقَوْلِ الْقَائِلِ غَفَرَ اللَّهُ لِفُلَانٍ وَرَحِمَهُ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَأَجَارَهُ مِنْ النَّارِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعَمًا عَظِيمَةً فَإِنَّ هَذَا فِي الْأَصْلِ خَبَرٌ وَهُوَ كَثِيرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ طَلَبٌ وَكَذَلِكَ صِيغَةُ افْعَلْ هِيَ أَمْرٌ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ تُضَمَّنُ مَعْنَى النَّهْيِ وَالتَّهْدِيدِ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ إمَّا الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ أَوْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ , هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرِهِمْ , وَالنِّزَاعُ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا وَالرَّازِيُّ يَخْتَارُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ مُوَافَقَةً لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَانِعَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا يَرْجِعُ إلَى الْقَصْدِ فَإِنَّ قَصْدَ الْمَعْنَيَيْنِ جَائِزٌ وَلَكِنْ الْمَانِعُ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْوَضْعِ وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ إنَّمَا وَضَعُوهُ لِهَذَا وَهَذِهِ وَلِهَذَا وَهَذِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ فِيهَا جَمِيعًا اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُرَجَّحُ قَوْلَ الْمُسَوِّغِينَ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِيهِمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعْمَالًا
لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَذَلِكَ يَسُوغُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ , وَلَا مَانِعَ لِأَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا اللَّفْظَ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ فِيهِ نِزَاعٌ كَالطَّلَاقِ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ , أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ , وَمِنْهُ اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْأَمْرِ فِي النَّدْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ طَوَائِفَ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ بَعْضُ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلَا يَجْعَلُونَ اللَّفْظَ بِذَلِكَ مَجَازًا , وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِمَا , وَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ ضِدُّ اسْتِعْمَالِ الْعَامِّ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِهَذَا مُفْرَدًا وَلِهَذَا مُفْرَدًا فَجَمَعَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقِرُّ مِثْلُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ عَيْنُ مَعْنَاهُ إذْ هُوَ مَعْنَاهُ مُفْرَدًا وَمَعَهُ غَيْرُهُ . وَكَمَا أَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ لَيْسَ بِغَيْرٍ لَهُ عِنْدَهُمْ فَلَا يَصِيرُ الشَّيْءُ غَيْرًا لِنَفْسِهِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَزِيدُ نَظِيرَهُ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا تَكْمِيلَ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ نُبَيِّنُ حَقِيقَةَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَذَا الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبُوهُ مَضْمُونُهُ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَخَبَرٍ وَيُقْصَدُ بِالْخِطَابِ بِهِ إفْهَامُ كُلِّ مَعْنًى لِمُخَاطَبٍ
غَيْرِ الْمُخَاطَبِ الْأَوَّلِ وَهَذَا جَائِزٌ فِي الْمَعْقُولِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِمَّا ادَّعَوْهُ فِي الْكَلَامِ بِشَيْءٍ وَذَلِكَ أَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ هُوَ فِي أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَدُلُّ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ , بَلْ دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ كَثِيرٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا لَكِنْ وَيَدُلُّ عَلَى حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ , وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ هَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ فَالنِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَهِيَ أَمْرُ اللَّهِ بِكَذَا وَأَمْرُهُ بِكَذَا أَوْ نَهْيُهُ عَنْ كَذَا وَنَهْيُهُ عَنْ كَذَا أَوْ خَبَرُهُ بِكَذَا وَخَبَرُهُ بِكَذَا هَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمَعَانِي لَا تَتْبَعُ وَضْعَ وَاضِعٍ , وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ هَؤُلَاءِ إذَا احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ مَعْنًى فِي النَّفْسِ قَالُوا إنَّ مَدْلُولَ الْعِبَارَاتِ وَالْإِشَارَاتِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَلَا بِقَصْدِ الْوَاضِعِينَ الْمُتَكَلِّمِينَ ثُمَّ يَحْتَجُّونَ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ بِجَوَازِ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاضِعُ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ مَوْضُوعًا لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا فَإِنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى يَتْبَعُ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ وَالْإِرَادَةَ , فَإِنَّهُ بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ صَارَ كَذَلِكَ بِذَاتِهِ أَوْ بِطَبْعِهِ لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ
, هَلْ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُنَاسَبَةٌ لِأَجْلِهَا خَصَّصَ الْوَاضِعُونَ هَذَا اللَّفْظَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى قَوْلَيْنِ : أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ وَلَيْسَتْ مُوجِبَةً بِالطَّبْعِ حَتَّى يُقَالَ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ بَلْ هِيَ مُنَاسَبَةٌ دَاعِيَةٌ وَالْمُنَاسَبَةُ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأُمَمِ كَتَنَوُّعِ الْأَفْعَالِ الْإِرَادِيَّةِ . وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ بِالطَّبْعِ فَطِبَاعُ الْأُمَمِ تَخْتَلِفُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ طَبْعُهُمْ الِاخْتِيَارِيُّ , فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَثَلَ الَّذِي ضَرَبُوهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَمَّا قَصَدُوهُ إذْ مَا ذَكَرُوهُ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَعَانٍ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ , وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ فِي نَفْسِهَا لِكُلِّ مَعْنًى حَقِيقَةٌ هَلْ هِيَ فِي نَفْسِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِقَصْدِ وَاضِعٍ وَلَا إرَادَتِهِ وَلَا وَضْعِهِ , وَالْإِمْكَانُ هُنَا لَيْسَ هُوَ إمْكَانُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا هَذَا بَلْ الْمَسْئُولُ عَنْهُ الْإِمْكَانُ الذِّهْنِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ صِيَغِ الْأَمْرِ هُوَ الْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ صِيَغِ الْخَبَرِ . وَأَنْ يَكُونَ نَفْسُ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْأَمْرِ بِهَذَا الْخَبَرِ عَنْهُ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الْأَمْرِ بِغَيْرِهِ وَالْخَبَرِ عَنْهُ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ : أَنْ يُقَالَ هُوَ قَالَ إذَا كَانَ الْبَارِي عَالِمًا بِالْعِلْمِ الْوَاحِدِ بِجُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ , فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْبِرًا بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ الْمُخْبَرَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَاتِ . فَيُقَالُ لَهُ : هَبْ أَنَّ هَذَا ثَبَتَ فِي كَوْنِ الْخَبَرِ وَاحِدًا فَلِمَ قُلْت إنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهُ عَنْ الْمُخْبَرَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْأَمْرُ بِالْمَأْمُورَاتِ وَالتَّكْوِينِ لِلْمُكَوِّنَاتِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ , فَهَبْ أَنَّ الْخَبَرَ يُقَاسُ بِالْعِلْمِ , فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ هُوَ نَفْسَ الْأَمْرِ ؟ . الْوَجْهُ السَّبْعُونَ : إنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يُقَاسُ عَلَيْهِ وَشَبَّهَ بِهِ مَنْ الْإِمْكَانِ , وَهُوَ الْعِلْمُ أَصْلٌ غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ , فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ الْبَارِيَ لَيْسَ لَهُ إلَّا عِلْمٌ وَاحِدٌ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَتَعَدَّدُ , وَهَذَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قَالَهُ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِإِجْمَاعٍ وَلَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحَاطُ بِبَعْضِ عِلْمِهِ لَا بِكُلِّهِ وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : { فَمَنْ حَاجَّك فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَك مِنْ الْعِلْمِ } . وَقَدْ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ بَعْضَ عِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ الَّذِي يَقُولُ إنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ بَعْضٌ وَلَا جُزْءٌ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ عُمْدَةٌ إلَّا مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ إمَامُ الْقَوْمِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ , فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ فِيهَا إجْمَاعًا ادَّعَاهُ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَدَّعِي إجْمَاعَاتٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا كَدَعْوَاهُ إجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِكَوْنِهِمْ لَمْ يَأْمُرُوا الظَّلَمَةَ بِالْإِعَادَةِ , وَلَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ اُسْتُفْتُوا فِي إعَادَةِ الظَّلَمَةِ مَا صَلَّوْهُ فِي مَكَان مَغْصُوبٍ فَأَفْتَوْهُمْ بِإِجْزَاءِ الصَّلَاةِ , لَكِنْ أَهْلُ الْكَلَامِ كَثِيرُو الِاحْتِجَاجِ مِنْ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ بِالْحُجَجِ الدَّاحِضَةِ , وَلِهَذَا كَثُرَ ذَمُّ السَّلَفِ لَهُمْ , قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى وَحْدَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ . فَقَالَ : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي وَحْدَةِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيِّ مِنَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعُلُومٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ إلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ مَرِيدٌ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ . قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ عَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ فَقَالَ الْقَائِلُ قَائِلَانِ , قَائِلٌ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعِلْمِ قَادِرٌ بِالْقُدْرَةِ , وَقَائِلٌ يَقُولُ لَيْسَ اللَّهُ عَالِمًا بِالْعِلْمِ وَلَا قَادِرًا بِالْقُدْرَةِ , وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ إنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ وَاحِدٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَاحِدَةٍ ,
فَلَوْ قُلْنَا إنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِعِلْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا ثَالِثًا خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ . قَالَ وَأَمَّا الصُّعْلُوكِيُّ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِهَذَا الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ , قُلْت هَذَا الْإِجْمَاعُ مُرَكَّبٌ مِنْ جِنْسِ الْإِجْمَاعِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الرَّازِيّ عَلَى قِدَمِ الْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَوْهُ أَنَّهُ هُوَ الْكَلَامُ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ وَقَدْ حَكَى أَبُو حَاتِمٍ التَّوْحِيدِيُّ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يُثْبِتُ عُلُومًا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَالسَّلَفُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ مَا يَقْصِدُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا بَعْضَ لَهُ , بَلْ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُعْلَمُ بَعْضُ عِلْمِ اللَّهِ وَلَا يُعْلَمُ بَعْضُهُ , وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَفْيِ التَّبْعِيضِ الَّذِي اخْتَصُّوا بِنَفْيِهِ كَاَلَّذِينَ خَالَفُوهُمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ إمَامُ الطَّائِفَةِ وَلِسَانُهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ وَحْدَةِ الْعِلْمِ إلَّا بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي ادَّعَاهُ يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ تَعَدُّدَ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ , وَكَذَلِكَ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي وَالرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حُذَّاقِ الْقَوْمِ فَإِنَّ كَلَامَ
ابْنِ فُورَكٍ قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ اتِّحَادَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ . الْوَجْهُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ إمَامَهُمْ الْمُتَأَخِّرَ وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ اعْتَرَفَ فِي أَجَلِّ كُتُبِهِ أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الطَّلَبِ هُوَ الْخَبَرَ هُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْحَالِ , وَنَفْيُ الْحَالِ هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَتَحْقِيقُهُمْ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو الْمَعَالِي فِي آخِرِ عُمْرِهِ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِ الْحَالِ فَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَجْزِمْ بِإِمْكَانِهِ وَلَا امْتِنَاعِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ لَفْظِهِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ مُمْتَنِعُ الْعَقْلِ عِنْدَ مُحَقِّقِيهِمْ وَهُمْ نُفَاةُ الْحَالِ . وَأَمَّا عِنْدَ مُثْبِتِي الْحَالِ عِنْدَهُمْ فَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا نَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فَتَبَيَّنَ أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى إمْكَانِ صِحَّةِ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى وَاحِدٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاقِعَ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا أَمْكَنَ فِي الذِّهْنِ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ فَإِنَّهُ إذَا جَازَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ صِفَةً وَاحِدَةً وَجَازَ أَنْ يَكُونَ صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُبَيِّنُ ثُبُوتَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ , فَكَيْفَ إذَا قَالَ النَّاسُ لَهُمْ إنَّهُ مُمْتَنِعٌ لَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى إمْكَانِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ : إنَّا نُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِ الْحَالِ وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهِ ,
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُهُ فِي ذَلِكَ , وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِثُبُوتِهِ فَإِنَّ الرَّازِيَّ إنَّمَا تَوَقَّفَ لِأَنَّهُ قَالَ , وَأَمَّا إنْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَالِ فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْحَقَائِقِ الْكَثِيرَةِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَتَّصِفَ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا , فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً إلَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ , قَالَ وَأَنَا إلَى الْآنَ لَمْ يَتَّضِحْ لِي فِيهِ دَلِيلٌ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا , فَيُقَالُ لِهَذَا هَذِهِ أُغْلُوطَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ هَبْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي الْخَارِجِ وَهَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا لَهُ مَا شَكَّ فِيهِ وَهُوَ اتِّصَافُ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ فَهَذَا لَا يُثْبِتُ مَحَلَّ النِّزَاعِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ لَهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ فَتَكُونُ الْحَقَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ مَوْصُوفَةً بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْحَالُ الَّتِي هِيَ الْوُجُودُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ شَيْئًا وَاحِدًا , وَأَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ فِي نَفْسِهَا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك ضَعْفُ قَوْلِهِ , فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ اتِّصَافِ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ , فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً وَإِلَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ , وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ اتِّصَافَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ غَيْرُ كَوْنِ الصِّفَةِ
الْوَاحِدَةِ هِيَ فِي نَفْسِهَا حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ , فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا صِفَةً لِحَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ وَبَيْنَ كَوْنِهَا فِي نَفْسِهَا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً أَمْرٌ وَاضِحٌ بَيِّنٌ , وَإِنَّمَا يَصِحُّ لَهُ مَا قَالَ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ تَتَّصِفُ بِوُجُودٍ وَاحِدٍ , وَأَنَّ ذَلِكَ الْوُجُودَ الْوَاحِدَ الثَّابِتَ فِي الْخَارِجِ هُوَ فِي نَفْسِهِ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ , وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ نَفْسَ الطَّلَبِ هُوَ نَفْسُ الْخَبَرِ فَيَجْعَلُونَ الْحَقِيقَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا , وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ . وَإِنْ قِيلَ إنَّ لَهُمَا وُجُودًا وَاحِدًا زَائِدًا عَلَى حَقِيقَتِهِمَا فَإِنَّ فَسَادَ كَوْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ شَيْئًا وَاحِدًا مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ , وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ كَالْأَعْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ , وَإِنْ قِيلَ إنَّ وُجُودَهَا زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا وَاحِدًا فَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا وَاحِدَةٌ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ : أَنْ يُقَالَ مَا شُكَّ فِيهِ يُقْطَعُ فِيهِ بِالِامْتِنَاعِ فَيُقَالُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَتَانِ الْمُخْتَلِفَتَانِ لَهُمَا وُجُودٌ وَاحِدٌ قَائِمٌ بِهِمَا كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عَرَضٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَالَ الَّذِي هُوَ الْوُجُودُ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ قَائِمٌ بِالْحَقَائِقِ وَأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى حَقَائِقِهَا تَابِعٌ لِتِلْكَ الْحَقَائِقِ , فَوُجُودُ كُلِّ حَقِيقَةٍ تَابِعٌ لَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ بِغَيْرِهَا كَمَا لَا يُوجَدُ بِغَيْرِهَا سَائِرُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْأَعْرَاضِ , وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرَضُ الْقَائِمُ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ هُوَ بِعَيْنِهِ الْعَرْضُ الْقَائِمُ بِالْحَقِيقَةِ الْأُخْرَى الْمُخَالِفَةِ لَهَا , فَالْوُجُودُ الَّذِي لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوُجُودَ الْقَائِمَ بِالْحَقِيقَةِ الْأُخْرَى بِعَيْنِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ . الْوَجْهُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : أَنَّ هَذَا الَّذِي شَكَّ فِيهِ لَوْ صَحَّ وَجَزَمَ بِهِ لَكَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُتَعَدِّدًا مُتَّحِدًا فَيَكُونُ حَقِيقَتَيْنِ وَهُوَ وَاحِدٌ , أَمَّا رَفْعُ التَّعَدُّدِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ صِفَةً لِحَقِيقَتَيْنِ وَقِيلَ إنَّ الصِّفَةَ تَكُونُ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ كَوْنَهَا حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً , وَكَوْنَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَهَؤُلَاءِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً , فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ مَعْلُومُ الْفَسَادِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ , هَذَا كُلُّهُ تَنَزُّلٌ
مَعَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْحَالِ وَأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ زَائِدٌ عَلَى حَقَائِقِهَا الْمَوْجُودَةِ وَإِلَّا فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ , وَإِنَّمَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ فِي الْخَارِجِ فَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَاسِدٌ .
قَالَ : وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا عِنْدَ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةَ وَاعْتَقَدَ تَبْدِيعَهُمْ , وَذَلِكَ أَوْفَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ , وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْفَتْوَى وَنُسْخَتَهَا : مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْحِلْيَةِ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَحْسَنَ اللَّهُ تَوْفِيقَهُمْ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى لَعْنِ فِرْقَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَتَكْفِيرِهِمْ , مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ ؟ أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ مُنَعَّمِينَ مُثَابِينَ . الْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى لَعْنِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَارْتَكَبَ مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ , وَعَلَى النَّاظِرِ فِي الْأُمُورِ أَعَزَّ اللَّهُ أَنْصَارَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَتَأْدِيبُهُ بِمَا يَرْتَدِعُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَنْ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ . وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ : وَبَعْدَهُ الْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ أَعْيَانُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنْصَارُ الشَّرِيعَةِ انْتَصَبُوا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ , فَمَنْ طَعَنَ فِيهِمْ فَقَدْ طَعَنَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ , وَإِذَا رُفِعَ أَمْرُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَى النَّاظِرِ فِي أَمْرِ
الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَأْدِيبُهُ بِمَا يَرْتَدِعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ . وَكَتَبَ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَيْرُوزَابَادِيّ بَعْدَهُ : جَوَابِي مِثْلُهُ . وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّاشِيُّ قَالَ : فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِهِمْ عُلَمَاءَ الْأَئِمَّةِ , فَأَمَّا قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنَفِيُّ الدَّامَغَانِيُّ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ فِي عَصْرِهِ أَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِي , وَأَمَّا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَدْ طَبَّقَ ذِكْرُ فَضْلِهِ الْآفَاقَ , وَأَمَّا الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ فَلَا يَخْفَى مَحَلُّهُ عَلَى مُنْتَهٍ فِي الْعِلْمِ وَلَا نَاشِئٍ . قُلْت : هَذِهِ الْفُتْيَا كُتِبَتْ هِيَ وَجَوَابُهَا فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ , فَإِنَّ مَلِكَ بَغْدَادَ مَحْمُودَ بْنَ سبكتكين كَانَ قَدْ أَمَرَ فِي مَمْلَكَتِهِ بِلَعْنِ أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى الْمَنَابِرِ فَلُعِنُوا , وَذُكِرَ فِيهِمْ الْأَشْعَرِيَّةَ , وَكَذَلِكَ جَرَى فِي أَوَّلِ مَمْلَكَةِ السَّلَاجِقَةِ التُّرْكِ , وَكَانَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي إدْخَالِهِمْ فِي اللَّعْنَةِ فِيهِمْ مِنْ سَكَّانِ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ , وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ طَوَائِفُ , وَجَوَابُ الدَّامَغَانِيِّ جَوَابٌ مُطْلَقٌ فِيهِ رِضَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ , فَإِنَّهُ أَجَابَ بِأَنَّهُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى لَعْنَةِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَفَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ , وَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ , إذْ الْمُكَفِّرُ لِشَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ لَا يَقُولُ إنَّهُمْ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَيُكَفِّرُهُمْ , بَلْ يَقُولُ : لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : إنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعَامَّتِهَا أَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ : إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ , وَهُوَ كَمَا اشْتَهَرَ بَيْنَ الْأُمَّةِ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا بِحَالٍ . فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ نِصْفَ مُسَمَّى الْقُرْآنِ وَهُوَ لَفْظُهُ وَنَظْمُهُ وَحُرُوفُهُ , لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا , فَلَا يَكُونُ كَلَامَهُ . وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ إنَّهَا تُسَمَّى كَلَامًا حَقِيقَةً فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إنْ أَقَرُّوا بِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً مَعَ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً فِي غَيْرِهِ بَطَلَ أَصْلُهُمْ الَّذِي أَفْسَدُوا بِهِ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّ الْكَلَامَ إذَا قَامَ بِمَحَلٍّ كَانَ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ , لَا لِمَنْ أَحْدَثَهُ . وَأَمَّا الْمَعَانِي فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ شَيْءٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ , وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ , وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بُعْدُ تَصَوُّرِهِ , وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لَأَنْ تَكُونَ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ أَيْضًا , إذَا كَانَ هَذَا الَّذِي ادَّعَوْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةً , فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ , أَوْ يَكُونَ كَلَامًا , فَتَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ عِنْدَهُمْ بِالْقُرْآنِ لَا بِحُرُوفِهِ وَلَا بِمَعَانِيهِ ; وَهَذَا أَمْرٌ قَاطِعٌ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُمْ عَنْهُ , وَيَنْضَمُّ إلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْقُرْآنَ
الْمُنَزَّلَ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ هُمْ يُصَرِّحُونَ أَيْضًا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ , فَظَهَرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ . وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ الْمَحْضَةُ , كَالْمُعْتَزِلَةِ , فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَأَكْثَرُهُمْ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ , لَكِنْ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ يَعُودُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ , كَمَا يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ حُذَّاقُهُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ , أَوْ يَقُولُونَ : الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً . فَهَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةُ لِتَكَلُّمِ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ , أَعْظَمُ مِنْ أُولَئِكَ , لَكِنْ تَظَاهُرُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ , أَعْظَمُ مِنْ تَظَاهُرِ أُولَئِكَ ; وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ نَفْيَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَوْكَدُ وَأَقْوَى , وَنَفْيُ كَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ هُوَ أَظْهَرُ وَأَبْيَنُ لَك عِنْدَ التَّحْقِيقِ , فَأُولَئِكَ أَيْضًا يَقُولُونَ ذَلِكَ , فَهُمْ أَعْظَمُ إلْحَادًا فِي الْحَقِيقَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَأُولَئِكَ أَسْخَفُ قَوْلًا . الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ : إنَّهُ مَا زَالَ أَئِمَّةُ الطَّوَائِفِ طَوَائِفِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ , وَأَهْلُ الْكَلَامِ يَقُولُونَ : أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ كِلَابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ مِنْ أَنَّهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ , وَأَنَّ الْحُرُوفَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَلَامِ , قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ
سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا , مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ , حَتَّى الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْأَشْعَرِيُّ وَيَمْدَحُونَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الْكِبَارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمَا , وَيَذُبُّونَ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَذُمُّهُ وَيَلْعَنُهُ , وَيُنَاصِحُونَ عَنْهُ مِنْ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ إنَّا نُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ , وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ , إذْ لِكُلِّ عَالِمٍ خَطَأٌ مِنْ قَوْلِهِ يُتْرَكُ , أَوْ يُمْسِكُونَ عَنْ نَصِّ هَذَا الْقَوْلِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ . وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ وَالِدُ أَبِي الْمَعَالِي فِي آخِرِ كِتَابٍ حَقَّقَهُ سَمَّاهُ " عَقِيدَةُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الْمُطَّلِبِيِّ الشَّافِعِيِّ وَكَافَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ , وَقَدْ نَقَلَ هَذَا مِنْهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي مَنَاقِبِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِي , وَجَمَعَ فِيهِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ , وَأَدْخَلَ فِي ذَلِكَ أُمُورًا أُخْرَى يُقَوِّي بِهَا ذَلِكَ . قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ : وَنَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُصِيبَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَاحِدٌ وَيَجِبُ التَّعْيِينُ فِي الْأُصُولِ , فَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ فَرُبَّمَا مَا يَتَأَتَّى التَّعْيِينُ , وَرُبَّمَا لَا يَتَأَتَّى , وَمَذْهَبُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصْوِيبُ الْمُجْتَهِدِينَ , فِي الْفُرُوعِ ,
وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَأَبُو الْحَسَنِ أَحَدُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَإِذَا خَالَفَهُ فِي شَيْءٍ أَعْرَضْنَا عَنْهُ فِيهِ . وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ : لَا صِيغَةَ لِلْأَلْفَاظِ وَيَقِلُّ وَيَعِزُّ مُخَالِفَتُهُ أُصُولَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنُصُوصَهُ , وَرُبَّمَا نَسَبَ الْمُبْتَدِعُونَ إلَيْهِ مَا هُوَ بَرِيءٌ عَنْهُ , كَمَا نَسَبُوا إلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ , وَلَا فِي الْقَبْرِ نَبِيٌّ , وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ , وَنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَزَلِ , وَتَكْفِيرُ الْعَوَامّ , وَإِيجَابُ عِلْمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمْ . قَالَ : وَقَدْ تَصَفَّحْتُ مَا تَصَفَّحْتُ مِنْ كُتُبِهِ فَوَجَدْتُهَا كُلَّهَا خِلَافَ مَا نُسِبَ إلَيْهِ , وَلَا عَجَبَ أَنْ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ وَافْتَرَضُوا فَإِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَاضِحُ الْقَدَرِيَّةِ وَعَامَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ , وَكَاشِفُ عَوْرَاتِهِمْ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُ حَاسِدَهُ . وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الَّذِي شَرَحَ فِيهِ رِسَالَةَ الشَّافِعِيّ وَسَمَّاهُ التَّعْلِيقَ " : مَسْأَلَةٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ لِصِيغَتِهِ أَوْ لِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ هَلْ لَهُ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا , أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ : فَذَهَبَ أَئِمَّةُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ , تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا , إذَا انْفَرَدَتْ عَنْ الْقَرَائِنِ , وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ : " افْعَلْ كَذَا
وَكَذَا " وَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ عَارِيًّا عَنْ الْقَرَائِنِ كَانَ أَمْرًا , وَلَا يَحْتَاجُ فِي كَوْنِهِ أَمْرًا إلَى قَرِينَةٍ , هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ , وَجَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَهُوَ قَوْلُ الْبَلْخِيّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ . وَذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَسْرِهَا , غَيْرَ الْبَلْخِيّ , إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا , وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِقَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ , وَهُوَ الْإِرَادَةُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِنَفْسِ الْآمِرِ لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ وَلَا يُغَايِرُهَا , وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ سَائِرُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ مِنْ النَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَسَوَاءٌ هَذَا فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ الْآدَمِيِّينَ , إلَّا أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِكَوْنِهِ قَدِيمٌ , وَأَمْرُ الْآدَمِيِّ مُحْدَثٌ , وَهَذِهِ الْأَصْوَاتُ وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا , وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْهُ . قَالَ : وَكَانَ ابْنُ كِلَابٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ يَقُولُ : هِيَ حِكَايَةٌ عَنْ الْأَمْرِ , وَخَالَفَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا حِكَايَةٌ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ , وَلَكِنْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَتَقَرَّرَ مَذْهَبُهُمْ عَلَى هَذَا , فَإِذَا كَانَ هَذَا حَقِيقَةَ مَذْهَبِهِمْ فَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي أَنَّ
الْأَمْرَ لَهُ صِيغَةٌ أَمْ لَا , فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ فَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُقَالُ إنَّ لَهُ صِيغَةً , أَوْ لَيْسَتْ لَهُ صِيغَةٌ , وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْكَرْخِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ , عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ , إلْزَامًا لِذَوِي الْبِدَعِ وَالْفُضُولِ " وَذَكَرَ اثْنَا عَشَرَ إمَامًا وَهُمْ : الشَّافِعِيُّ , وَمَالِكٌ , وَالثَّوْرِيُّ , وَأَحْمَدُ , وَالْبُخَارِيُّ , وَابْنُ عُيَيْنَةَ , وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ , وَأَبُو زُرْعَةَ , وَأَبُو حَاتِمٍ , قَالَ فِيهِ : سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ : سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ يَقُولُ : مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ , وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي نَقُولُهُ نَحْنُ بِأَلْسِنَتِنَا , وَفِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ , وَمَا فِي صُدُورِنَا مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَحْفُوظًا وَمَنْقُوشًا , وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ , كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ,
وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ , عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ : وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَصْحَابِ الْكَلَامِ , قَالَ أَبُو الْحَسَنِ : وَلَمْ يَزَلْ الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةُ يَأْنَفُونَ وَيَسْتَنْكِفُونَ أَنْ يَنْسُبُوا إلَى الْأَشْعَرِيِّ , وَيَتَبَرَّءُونَ مِمَّا بَنَى الْأَشْعَرِيُّ مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ , وَيَنْهَوْنَ أَصْحَابَهُمْ وَأَحْبَابَهُمْ عَنْ الْحَوْمِ حَوَالَيْهِ , عَلَى مَا سَمِعْت عِدَّةً مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ , مِنْهُمْ الْحَافِظُ الْمُؤْتَمِنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ السَّاجِيُّ , يَقُولُونَ : سَمِعْنَا جَمَاعَةً مِنْ الْمَشَايِخِ الثِّقَاتِ قَالُوا : كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ طَاهِرٍ الْإسْفَرايِينِيّ إمَامُ الْأَئِمَّةِ الَّذِي طَبَّقَ الْأَرْضَ عِلْمًا وَأَصْحَابًا إذَا سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ قَطِيعَةِ الْكَرْخِ إلَى جَامِعِ الْمَنْصُورِ وَيَدْخُلُ الرِّيَاضَ الْمَعْرُوفَ بِالرَّوْزِي الْمُحَاذِي لِلْجَامِعِ وَيُقْبِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَيَقُولُ : اشْهَدُوا عَلَيَّ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ , كَمَا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ , لَا كَمَا يَقُولُ الْبَاقِلَّانِيُّ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي جَمَاعَاتٍ , فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ : حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي النَّاسِ , وَفِي أَهْلِ الصَّلَاحِ وَيَشِيعَ الْخَبَرُ فِي الْبِلَادِ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ , يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ , وَبَرِيءٌ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ , فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ الْغُرَبَاءِ يَدْخُلُونَ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ خُفْيَةً ,
فَيَقْرَءُونَ عَلَيْهِ فَيُفْتَنُونَ بِمَذْهَبِهِ فَإِذَا رَجَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ أَظْهَرُوا بِدْعَتَهُمْ لَا مَحَالَةَ , فَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهُمْ مِنِّي تَعَلَّمُوهُ , وَأَنَا قُلْته , وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ مَذْهَبِ الْبَاقِلَّانِيِّ , وَعَقِيدَتِهِ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ : وَسَمِعْت شَيْخِي الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ الْفَقِيهَ الْأَصْبَهَانِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت شَيْخَنَا الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ الزَّاذَقَانِيَّ يَقُولُ : كُنْت فِي دَرْسِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْكَلَامِ وَعَنْ الدُّخُولِ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ , فَبَلَغَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ خُفْيَةً لِقِرَاءَةِ الْكَلَامِ , فَظَنَّ أَنِّي مَعَهُمْ وَمِنْهُمْ , وَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ فِي آخِرِهَا : إنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ قَالَ لِي : يَا بُنَيَّ , بَلَغَنِي أَنَّك تَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ يَعْنِي الْبَاقِلَّانِيَّ فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهُ مُبْتَدِعٌ يَدْعُو النَّاسَ إلَى الضَّلَالِ . وَإِلَّا فَلَا تَحْضُرْ مَجْلِسِي , فَقُلْت : أَنَا عَائِذٌ بِاَللَّهِ مِمَّا قِيلَ , وَتَائِبٌ إلَيْهِ , وَاشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي لَا أَدْخُلُ إلَيْهِ . قَالَ : وَسَمِعْت الْفَقِيهَ الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ سَعْدَ بْنَ عَلِيٍّ الْعِجْلِيّ يَقُولُ : سَمِعْت عِدَّةً مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ بِبَغْدَادَ , أَظُنُّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ أَحَدَهُمْ , قَالُوا : كَانَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ يَخْرُجُ إلَى الْحَمَّامِ مُتَبَرْقِعًا خَوْفًا مِنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ . قَالَ : وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ كِتَابَةً مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو مَنْصُورٍ
الْيَعْقُوبِيُّ عَنْ الْإِمَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ هُوَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ : سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنَ الْحُسَيْنِ , وَهُوَ السُّلَمِيُّ , يَقُولُ : وَجَدْت أَبَا حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَبَا الطَّيِّبِ الصُّعْلُوكِيَّ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبَا مَنْصُورٍ الْحَاكِمَ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ . قَالَ : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ أَبِي رَافِعٍ وَخَلْقًا يَذْكُرُونَ شِدَّةَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ عَلَى الْبَاقِلَّانِيِّ , قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ : وَمَعْرُوفٌ شِدَّةُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ , حَتَّى مَيَّزَ أُصُولَ فِقْهِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أُصُولِ الْأَشْعَرِيِّ وَعَلَّقَهُ عَنْهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الزَّاذَقَانِيُّ , وَهُوَ عِنْدِي , وَبِهِ اقْتَدَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي كِتَابَيْهِ اللُّمَعُ " وَالتَّبْصِرَةُ " حَتَّى لَوْ وَافَقَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَجْهًا لِأَصْحَابِنَا مُيِّزَ , وَقَالَ : هُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا , وَبِهِ قَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ , وَلَمْ يَعُدَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ اسْتَنْكَفُوا مِنْهُمْ وَمِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ , فَضْلًا عَنْ أُصُولِ الدِّينِ . قُلْت : أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَشَيْخُهُ أَبُو بَكْرٍ الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيِّ وَشَيْخُهُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيِّ هُمْ أَهْلُ الطَّرِيقَةِ الْمَرْوَزِيَّةِ الْخُرَاسَانِيَّةِ , وَأَئِمَّتُهَا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَأَتْبَاعُهُ كَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَصَاحِبِهِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِمْ
أَئِمَّةُ الطَّرِيقَةِ الْعِرَاقِيَّةِ , مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ , وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَافِرِ الْفَارِسِيُّ فِي تَارِيخِ نَيْسَابُورَ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ فِي مَنَاقِبِهِ , وَقَالَ : سَمِعْت خَالِي الْإِمَامَ أَبَا سَعِيدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْقُشَيْرِيَّ يَقُولُ : كَانَ أَئِمَّتُنَا فِي عَصْرِهِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الْكَمَالَ وَالْفَضْلَ وَالْخِصَالَ الْحَمِيدَةَ , وَأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي عَصْرِهِ لَمَا كَانَ إلَّا هُوَ , مِنْ حُسْنِ طَرِيقَتِهِ , وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَدِيَانَتِهِ , فِي كَمَالِ فَضْلِهِ . وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَافِرِ أَنَّهُ كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ , قَالَ : وَلَهُ فِي الْفِقْهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةُ الْفَوَائِدِ , مِثْلُ : التَّبْصِرَةُ وَالتَّذْكِرَةُ " وَمُخْتَصَرُ الْمُخْتَصَرِ " وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْكَبِيرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ فِي كُلِّ آيَةٍ . وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فَهُوَ الشَّافِعِيُّ الثَّالِثُ , فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ , وَلَا بَعْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ , حَتَّى ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ إنَّهُ أَنْظَرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ , وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَتْ زِيَادَتُهُ لَكِنْ لَوْلَا بَرَاعَةُ أَبِي حَامِدٍ مَا قَالَ فِيهِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ . قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ أَعْرَفَ الْأَصْحَابِ بِمَنَاصِيصِ الشَّافِعِيِّ , وَأَعْظَمَهُمْ بَرَكَةً فِي مَذْهَبِهِ , وَهُوَ أَوَّلُ مِنْ كَثَّرَ شَرْحَ الْمُزَنِيّ وَشَحَنَهُ بِالْمُخْتَلِفِ وَالْمُؤْتَلِفِ , وَنَصَرَ فِيهِ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ , وَجَعَلَهُ مَسَاغًا لِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً لَيْسُوا مِنْهُمْ , بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لَهُمْ , وَذَكَرَ مِنْهُمْ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ , قَالَ : وَكَانَ يَظُنُّ بِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ فِي كِتَابِهِ فِي أَحْوَالِ الْفِقْهِ , وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ : إنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُ , وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ .
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ : ذَهَبَ أَئِمَّتُنَا إلَى أَنَّ الْيَدَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْوَجْهَ صِفَاتٌ ثَابِتَةٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى , وَالسَّبِيلُ إلَى إثْبَاتِهَا السَّمْعُ دُونَ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ . قَالَ : وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدَنَا حَمْلُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ , وَحَمْلُ الْعَيْنَيْنِ عَلَى الْبَصَرِ , وَحَمْلُ الْوَجْهِ عَلَى الْوُجُودِ . قُلْت : فَاتَّضَحَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْكَلَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يَثْبُتُونَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ خَالَفَ أَئِمَّتَهُ وَوَافَقَ الْمُعْتَزِلَةُ . قَالَ شَارِحُ كَلَامِهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْأَنْصَارِيِّ : اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْيَدَيْنِ صِفَتَانِ ثَابِتَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَنَحْوَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ : وَمَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْهِدَايَةِ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ . قُلْت : قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ كَالتَّمْهِيدِ وَالْإِبَانَةِ وَغَيْرِهِمَا . قَالَ : وَفِي كَلَامِ أَبِي إِسْحَاقَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ فِي الْيَدَيْنِ تَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ لَا إلَى الصِّفَةِ , وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ . قَالَ الْأُسْتَاذُ يَعْنِي أَبَا إِسْحَاقَ - : أَمَّا الْعَيْنَانِ فَعِبَارَةٌ عَنْ الْبَصَرِ , وَكَانَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِمَا , وَأَمَّا الْوَجْهُ وَالْيَدُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقِ إلَيْهِمَا , فَقَالَ قَائِلُونَ : قَدْ كَانَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ صِفَتَيْنِ : يَقَعُ بِإِحْدَاهُمَا الِاصْطِفَاءُ بِالْخَلْقِ , وَبِالْأُخْرَى الِاخْتِيَارُ بِالتَّقْرِيبِ فِي التَّكْلِيمِ وَالْإِفْهَامِ , لَكِنْ لَمْ
يَكُنْ فِي الْعَقْلِ دَلِيلٌ عَلَى تَسْمِيَتِهِ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِبَيَانِهَا , فَثَمَّ الصِّفَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الِاصْطِفَاءُ بِالْخَلْقِ يَدًا , وَالصِّفَةُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا التَّقْرِيبُ فِي التَّكَلُّمِ وَجْهًا , وَقَالُوا : لَمَّا صَحَّ فِي الْعَقْلِ التَّفْضِيلُ فِي الْخَلْقِ وَالْفِعْلِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْإِكْرَامُ , وَالتَّقْرِيبُ بِالْإِقْبَالِ وَجَبَ إثْبَاتُ صِفَةٍ لَهُ يَصِحُّ بِهَا مَا قُلْنَاهُ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ وَلَا مُجَافَاةٍ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِتَسْمِيَةِ إحْدَاهُمَا يَدًا وَالْأُخْرَى وَجْهًا . وَمَنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ قَالَ : لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ جَوَازُ وُرُودِ السَّمْعِ , وَأَكْثَرُ مِنْهُ , وَمَا جَهَرَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ فَطَرِيقَةُ الْآحَادِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ وَلَا يَجُوزُ بِمِثْلِهَا إثْبَاتُ صِفَةٍ لِلْقَدِيمِ , وَإِنْ ثَبَتَ مِنْهَا شَيْءٌ بِطَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ كَانَ مُتَأَوِّلًا عَلَى الْفِعْلِ . وَقَالَ آخَرُونَ : طَرِيقُ إثْبَاتِهَا السَّمْعُ الْمَحْضُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْعُقُولِ فِيهِ تَأْثِيرٌ , وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : لَوْ جَازَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ صِفَاتٍ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى صِفَاتٍ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى صِفَاتٍ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَا , وَلَا صَارَتْ مَعْلُومَةً . وَوَجَبَ عَلَى الْقَائِلِ بِذَلِكَ جَوَازُ وُرُودِ السَّمْعِ بِصِفَاتِ الْإِنْسَانِ أَجْمَعَ لِلَّهِ تَعَالَى , إذَا لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا شَبِيهَةً بِصِفَتِهِ ; كَانَ جَوَابُهُمْ أَنْ يَقُولُوا : لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَاتِهِ وَحَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِكَمَالِهِ
عِنْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ , لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةٌ أُخْرَى لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهَا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا مُسْتَحِقَّ الْمَدْحِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِاَللَّهِ , يَعْنِي وَبِصِفَاتِهِ أَجْمَعَ , فَلَمَّا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَا وَرَدَ مِنْ الشَّرْعِ ثَبَتَ أَنْ لَا صِفَةَ أَكْثَرُ مِمَّا بَيَّنَ الطَّرِيقَ إلَيْهِ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . قَالَ الْأُسْتَاذُ : وَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ , فَإِنَّ فِيهِ الْكَشْفَ عَنْ الْمَعْنَى . قُلْت : الْجَوَابَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ اللَّهِ , لَكِنْ هَلْ كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ بِالْعَقْلِ , أَوْ مِنْهَا مَا عُلِمَ بِالسَّمْعِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ؟ وَمُحَقِّقُو الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَقُولُوا : إنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّا عَلِمْنَا اللَّهَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ , أَوْ بِأَنَّهُ لَا صِفَةَ لَهُ وَرَاءَ مَا عَلِمْنَاهُ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : فَمَنْ أَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ السَّمْعِيَّةَ وَصَارَ إلَى أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَالَاتُ الْمَعْقُولِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا مَنَعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ } , قَالُوا : وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْقُدْرَةِ , إذْ جُمْلَةُ الْمُخْتَرَعَاتِ مَخْلُوقَةٌ بِالْقُدْرَةِ فَفِي الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ إبْطَالُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ . قَالَ : وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ , فَإِنَّ الْعُقُولَ قَضَتْ بِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْقُدْرَةِ , أَوْ يَكُونُ الْقَادِرُ قَادِرًا , فَلَا وَجْهَ لِاعْتِقَادِ خَلْقِ آدَمِيٍّ بِغَيْرِ الْقُدْرَةِ . وَقَالَ الْقَاضِي : الْآيَةُ تَدُلُّ
عَلَى إثْبَاتِ يَدَيْنِ صِفَتَيْنِ وَالْقُدْرَةُ وَاحِدَةٌ , فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الْقُدْرَةِ . قَالَ أَبُو الْمَعَالِي : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ : التَّثْنِيَةُ رَاجِعَةٌ إلَى اللَّفْظِ لَا إلَى الْمَعْنَى , وَإِنَّمَا هِيَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْقَلَانِسِيِّ , وَعَنْ الْأُسْتَاذِ , عَلَى أَنَّهُ كَمَا يُعَبَّرُ بِالْيَدِ عَنْ الِاقْتِدَارِ , فَكَذَلِكَ يُعَبَّرُ بِالْيَدَيْنِ عَنْ الِاقْتِدَارِ , فَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ : " مَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ يَدٌ " يَعْنُونَ : مَالِي بِهِ قُدْرَةٌ , قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَالْقَاضِي : الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقُدْرَةُ . قُلْت : هَذَا النَّقْلُ فِيهِ نَظَرٌ , فَكِلَاهُمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ , بَلْ هُوَ نَصٌّ فِي خِلَافِ ذَلِكَ . قَالَ : وَأَجْمَعَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ , بِالْأَيْدِي فِي قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } الْقُدْرَةُ . قَالَ : وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا وَالْقَاضِي لَيْسَ يُوَصِّلُ إلَى الْقَطْعِ بِإِثْبَاتِ صِفَتَيْنِ زَائِدَتَيْنِ , عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ , وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نُنْكِرْ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ صِفَةً سَمْعِيَّةً لَا يَدُلُّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ عَلَيْهَا , وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا سَمْعًا , فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ السَّمْعُ مَقْطُوعًا بِهِ , وَلَيْسَ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَصْحَابُ قَطْعٌ ; وَالظَّوَاهِرُ الْمُحْتَمَلَةُ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ , وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِ تَقْدِيرِ صِفَةٍ مُجْتَهَدٍ فِيهَا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ , لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْقَطْعِ فِيهَا بِعَقْلٍ , وَلَيْسَ فِي الْيَدَيْنِ - عَلَى مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ - نَظَرٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَلَا إجْمَاعٌ عَلَيْهِ , فَيَجِبُ تَنْزِيلُ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ . قَالَ : وَالظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَدَيْنِ حَمْلُهَا عَلَى جَارِحَتَيْنِ فَإِنْ اسْتَحَالَ حَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ , وَمَنَعَهُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْقُدْرَةِ أَوْ النِّعْمَةِ أَوْ الْمُلْكِ , فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمَا مَحْصُولَتَانِ عَلَى صِفَتَيْنِ قَدِيمَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى زَائِدَتَيْنِ عَلَى مَا عَدَاهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ . قُلْت : ثُمَّ ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنْ صِحَّةِ أَئِمَّتِهِ بِمَا لَيْسَ , هَذَا مَوْضِعَهُ , فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَنَفْيِهَا , إذْ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ , وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى تَغْيِيرِ قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ . وَأَبُو الْمَعَالِي اعْتَمَدَ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمْعِ مَا يَقْطَعُ بِثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ , لَا نَصًّ وَلَا إجْمَاعَ وَالثَّانِيَةُ : الْمَنْعُ بِأَنْ يُتَكَلَّمَ فِي الصِّفَاتِ بِغَيْرِ قَطْعٍ عَقْلِيٍّ أَوْ نَقْلِيٍّ , وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ : إذَا لَمْ يَقُمْ الْقَاطِعُ بِالثُّبُوتِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِانْتِفَاءِ وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ مَعْرُوفٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فِي الدُّنْيَا إمَّا بِالْعَقْلِ عَلَى قَوْلِ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِ , وَإِمَّا بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ , وَهَذَا الَّذِي
قَالُوهُ خِلَافُ إجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ , وَخِلَافُ قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعٌ , فَإِنَّ الْقَطْعَ بِالنَّفْيِ بِلَا عِلْمٍ يُوجِبُ النَّفْيَ كَالْقَطْعِ بِالْإِثْبَاتِ بِلَا عِلْمٍ , وَالْوَاجِبُ أَنْ تُعْطَى الْأَدِلَّةُ حَقَّهَا , فَمَا كَانَ قَطْعِيًّا قُطِعَ بِهِ , وَمَا كَانَ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا قِيلَ إنَّهُ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ , وَمَا كَانَ مُجْمَلًا قِيلَ إنَّهُ مُجْمَلٌ , وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا أَنَّ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ فَانْفُوهُ , بَلْ قَالُوا امْسِكُوا عَنْ التَّكَلُّمِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ مَا وَرَدَ , وَفَرْقٌ بَيْنَ السُّكُوتِ عَمَّا لَمْ يَرِدْ وَبَيْنَ النَّفْيِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ النَّفْيُ لِمَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الْوَارِدِ ؟ , وَأَبُو الْمَعَالِي يَتَكَلَّمُ بِمَبْلَغِ عِلْمِهِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ بَارِعًا فِي فَنِّ الْكَلَامِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ أَصْحَابُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ هُمْ الْأَصْلَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مُطَالَعَتِهِ لِكُتُبِ أَبِي هَاشِمٍ الْجُبَّائِيُّ , فَأَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَقَوْلُ أَئِمَّتِهَا فَكَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا جِدًّا , وَكَلَامُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ , وَلِهَذَا تَجِدُهُ فِي عَامَّةِ مُصَنَّفَاتِهِ فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ إذَا اعْتَمَدَ عَلَى قَاطِعٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ قِيَاسٍ عَقْلِيٍّ أَوْ إجْمَاعٍ سَمْعِيٍّ , وَفِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ , فَأَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَهُوَ قَلِيلُ
الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَالْخِبْرَةِ بِهَا , وَاعْتَبِرْهُ بِمَا ذُكِرَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْآجُرِّيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي أَبْوَابِ السُّنَّةِ , وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ , وَقَدْ رَدُّوا عَلَيْهِمْ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ . فَإِنَّهُ قَالَ : اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ نَابَذُوا الْمُعْتَزِلَةَ وَخَالَفُوهُمْ , وَاتَّبَعُوا السَّمْعَ وَالشَّرْعَ وَأَثْبَتُوا الرُّؤْيَةَ وَالنَّظَرَ , وَأَثْبَتُوا الصِّرَاطَ وَالْمِيزَانَ , وَعَذَابَ الْقَبْرِ , وَمَسْأَلَةَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَالْمِعْرَاجَ وَالْحَوْضَ , وَاشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى إنْكَارِ مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَالْمُسْتَفِيضِ مِنْ الْآثَارِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْعَقَائِدِ , وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ وَالْإِيجَابِ , وَالْحَذَرَ لَا يُدْرَكُ عَقْلًا , وَالْمَرْجِعُ فِي جَمِيعِهَا إلَى مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَقَضَايَا السَّمْعِ , وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَتْهُمْ أَخْبَارٌ مُتَشَابِهَةٌ وَأَلْفَاظٌ مُشْكِلَةٌ لَمْ يَسْتَبْعِدُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَخْبَارِ : الْبَيِّنُ , وَالظَّاهِرُ , وَالْمُجْمَلُ , وَالْمُشْكِلُ , فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ , مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ أَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهَا , وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَأَحْبَارَ الْأُمَّةِ بَعْدَ صَحْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ , لَمْ يُودِعْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ كِتَابَهُ الْأَخْبَارَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَمْ يُورِدْ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَوْرَدَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَمْثَالُهُ , وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ , وَلَمْ يُفْتُوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ . وَنَبَغَتْ نَاشِئَةٌ ضَرُّوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ وَتَدْوِينِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَبْوِيبِ أَبْوَابٍ وَرَسْمِ تَرَاجِمَ عَلَى تَرْتِيبِ فِطْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَرَسَمُوا بَابًا فِي ضَحِكِ الْبَارِي , وَبَابًا فِي نُزُولِهِ وَانْتِقَالِهِ وَعُرُوجِهِ وَدُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ , وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَضْرَاسِ , وَبَابًا فِي خَلْقِ اللَّهِ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ , وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْقَدَمِ وَالشَّعْرِ الْقَطَطِ , وَبَابًا فِي إثْبَاتِ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ , تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الزَّائِغِينَ . قَالَ : وَلَيْسَ يَعْتَمِدُ جَمْعَ هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَتَمْهِيدَ هَذِهِ الْأَنْسَابِ إلَّا مُشَبِّهٌ عَلَى التَّحْقِيقِ , أَوْ مُتَلَاعِبٌ زِنْدِيقٌ . قَالَ الْمُعَظَّمُ لِأَبِي الْمَعَالِي النَّاقِلُ لِكَلَامِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ : فِي قَوْلِ أَبِي الْمَعَالِي هَذَا بَعْضُ التَّحَامُلِ . وَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَعْنَى شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَإِنَّهُ ذَكَرَ الصِّفَاتِ فِي آخِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَثَبَتَ نَقْلُهُ وَمَوْرِدُهُ , وَأَضْرَبْنَا عَلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا , فَلْيُوقَفْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْهَا لِنَقْلِ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ لَهَا , وَحَدِيثُ النُّزُولِ ثَابِتٌ فِي الْأُمَّهَاتِ
أَخْرَجَهُ الثِّقَاتُ الْأَثْبَاتُ . قُلْتُ : هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ مَا يَجِبُ رَدُّهُ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ : أَحَدُهَا : مَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ سَمَّاهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ , فَإِنَّهُ دَائِمًا يَقُولُ : قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ , وَإِنَّمَا يَعْنِي أَصْحَابَهُ , وَهَذِهِ دَعْوَى يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ مِثْلَهَا , فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِيهِمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ , فَأَمَّا أَنْ يُفْرِدَ الْإِنْسَانُ طَائِفَةً مُنْتَسِبَةً إلَى مَتْبُوعٍ مِنْ الْأُمَّةِ وَيُسَمِّيَهَا أَهْلَ الْحَقِّ , وَيُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَهَا فِي شَيْءٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ , فَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ كَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَصِفُونَ طَائِفَةً بِأَنَّهَا صَاحِبَةَ الْحَقِّ مُطْلَقًا إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } . وَهَذَا نِهَايَةُ الْحَقِّ , وَالْكَلَامُ الَّذِي لَا رَيْبَ أَنَّهُ حَقٌّ قَوْلُ اللَّهِ وَقَوْلُ رَسُولِهِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ وَآتٍ بِالْحَقِّ , قَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } , وَقَالَ تَعَالَى : { قَوْلُهُ الْحَقُّ } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُكْتُبْ , فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمَا إلَّا حَقًّا } . فَأَهْلُ الْحَقِّ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ , فَلَيْسَ الْحَقُّ لَازِمًا لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ دَائِرًا مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ , لَا يُفَارِقُهُ قَطُّ إلَّا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا مَعْصُومَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ غَيْرُهُ , وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .
وَلَيْسَ الْحَقُّ أَيْضًا لَازِمًا لِطَائِفَةٍ دُونَ غَيْرِهَا إلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّ الْحَقَّ يَلْزَمُهُمْ إذْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ , وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ مَعَ الشَّخْصِ أَوْ الطَّائِفَةِ فِي أَمْرٍ دُونَ الْأَمْرِ , وَقَدْ يَكُونُ الْمُخْتَلِفَانِ كِلَاهُمَا عَلَى بَاطِلٍ , وَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ , فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ طَائِفَةً مَنْسُوبَةً إلَى اتِّبَاعِ شَخْصٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ , إذْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ حَقٌّ , وَكُلُّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ مَتْبُوعُهُمْ كَذَلِكَ , وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ إجْمَاعُ هَؤُلَاءِ حُجَّةً إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْحَقِّ . ثُمَّ هُوَ يَذْكُرُ أَئِمَّتَهُ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ , ثُمَّ هُوَ يُخَالِفُهُمْ كَمَا صَنَعَ فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا , مَعَ أَنَّهُمْ فِيهَا أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْهُ فَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ أَنْ
يُخَالِفُوا مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِبَعْضِ أَئِمَّةِ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْمَعْصُومِ , رَأَيْت لَهُ فَتَاوَى يَدَّعِي فِيهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُحِقَّةَ هُمْ أَتْبَاعُ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ , وَيَحْتَجُّ بِإِجْمَاعِ الطَّائِفَةِ الْمُحِقَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ أَحْمَدُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ بِخَبَرٍ وَلَا وَقَعَ لَهُ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ , حَتَّى أَنَّهُ قَالَ : إذَا تَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ دُونَ الْآخَرِ , فَالْقَوْلُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ هُوَ الْحَقُّ لِأَنَّ فِي أَهْلِهِ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ . ثُمَّ رَأَيْته يُخَالِفُ أَصْحَابَهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ , فَأَيْنَ مُخَالَفَتُهُمْ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي دَعْوَى أَنَّهُمْ الطَّائِفَةُ الْمُحِقَّةُ , الَّذِينَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى بَاطِلٍ ؟ وَكَذَلِكَ دَعَاوَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالضَّلَالِ أَنَّهُمْ الْمُحِقُّونَ , أَوْ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللَّهِ أَوْ أَهْلُ التَّحْقِيقِ أَوْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ حَتَّى تُوقَفَ هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ , وَيَكُونُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ أَقْرَبَ , وَإِلَى الْإِبْطَالِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إلَى التَّحْقِيقِ بِكَثِيرٍ , فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ شَبَهٌ قَوِيٌّ بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَوْلِهِ : { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ
قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وقَوْله تَعَالَى : { وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . الثَّانِي : أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا السَّمْعَ وَالشَّرْعَ , وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ فِي أَحْوَالِهِمْ الَّتِي بِهَا صَارُوا أَهْلَ الْحَقِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ لِلَّهِ صِفَةً بِالسَّمْعِ , بَلْ إنَّمَا تَثْبُتُ صِفَاتُهُ بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ , وَأَنَّ الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ بِالْعَقْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ بِالسَّمْعِ , وَرَدَّ هُوَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ , فَأَيُّ اتِّبَاعٍ لِلسَّمْعِ وَالشَّرْعِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ بِالشَّرْعِ ؟ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَنَفَوْهُ مِنْ الصِّفَاتِ , فَأَئِمَّتُهُمْ كَانُوا يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ , أَوْ بِالسَّمْعِ وَيَجْعَلُونَ الْعَقْلَ مُؤَكِّدًا فِي الْفَهْمِ فِي ذَلِكَ , فَأَيْنَ اتِّبَاعُهُمْ لِلسَّمْعِ
وَالشَّرْعِ وَقَدْ عَزَلُوهُ عَنْ الْحُكْمِ بِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ . وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ : يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى إنْكَارِ مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَالْمُسْتَفِيضِ مِنْ الْآثَارِ , فَيُقَالُ لَهُ : إذَا لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْهَا ثُبُوتُ مَعْنَاهَا فَأَيُّ إنْكَارٍ لَهَا أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ قَدْ ذَكَرْت إعْرَاضَهُمْ عَنْهَا وَقُلْت فِيهَا مِنْ الْفِرْيَةِ مَا سَنَذْكُرُ بَعْضَهُ , فَهَلْ الْإِنْكَارُ لِمَأْثُورِ الْأَخْبَارِ وَمُسْتَفِيضِهَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْكَلَامِ . الرَّابِعُ : مَا ذَكَرَهُ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَذَا يُثْبِتُونَهُ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ إثْبَاتًا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ آحَادُ الْعَوَامّ وَلَا يَعْلَمُونَ مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ مَا يُجَابُ بِهِ أَدْنَى السَّائِلِينَ وَلَيْسَ فِي كُتُبِهِمْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ , وَلِهَذَا تَجِدُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ عِلْمًا بِهَا أَوْ تَجِدُهُمْ مُرْتَابِينَ فِيهَا أَوْ مُكَذِّبِينَ فَأَيُّ تَعْظِيمٍ بِمِثْلِ هَذَا , وَأَيُّ مَزِيَّةٍ بِهَذَا عَلَى أَوْسَاطِ الْعَوَامّ أَوْ أَدْنَاهُمْ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ يُؤْمِنُ بِتَفَاصِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَيَعْلَمُ مِنْهَا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ مَا لَيْسَ مَذْكُورًا فِي أُصُولِ هَؤُلَاءِ , وَإِنَّمَا الْفَضِيلَةُ عَلَى عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ أَوْ الطَّائِفَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يُوجَدُ عِنْدَ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ ذَلِكَ
. الْخَامِسُ : الْحُجَّةُ أَنَّهُمْ نَفَوْا التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ الْعَقْلِيَّ وَجَعَلُوا أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِذَلِكَ تَعْظِيمَهُمْ لِلشَّرْعِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُ . وَأَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ لِيَثْبُتَ بِذَلِكَ تَسَنُّنُهُمْ , وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ , أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ حُسْنُ فِعْلٍ وَلَا قُبْحُهُ , بَلْ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ حَادِثٌ فِي حُدُوثِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ , وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ مِنْهَا فَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَهِيَ مُتَنَازِعَةٌ فِي ذَلِكَ , وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْأُمَّةِ تُخَالِفُ فِي ذَلِكَ , وَقَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَصْلَ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ , وَبَيَّنَّا مَا مَعَ هَؤُلَاءِ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ وَمَا مَعَ هَؤُلَاءِ فِيهَا مِنْ الْحَقِّ , ثُمَّ يُقَالُ : وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ , فَلَيْسَ لَك وَلَا لِأَصْحَابِك فِيهَا حُجَّةٌ نَافِيَةٌ , بَلْ عُمْدَتُك وَعُمْدَةُ الْقَاضِي وَنَحْوِكُمَا عَلَى مُطَالَبَةِ الْخَصْمِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَدْحُ فِيمَا بِيَدَيْهِ , وَالْقَدْحُ فِي دَلِيلِ الْمُنَازِعِ إنْ صَحَّ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِانْتِفَاءِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى النَّفْيِ دَلِيلٌ وَعُمْدَةُ إمَام الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ الْخَطِيبِ الِاسْتِدْلَال عَلَى ذَلِكَ بِالْجَبْرِ وَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْحُجَجِ , فَإِنَّ الْجَبْرَ سَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا كَمَا لَا
يُبْطِلَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا يَنْفِي ثُبُوتَ أَحْكَامٍ مَعْلُومَةٍ بِالْعَقْلِ كَمَا لَا يَنْفِي الْأَحْكَامَ الَّتِي يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ . وَعُمْدَةُ الْآمِدِيِّ بَعْدَهُ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ , وَهَذَا مِنْ الْمَغَالِيطِ الَّتِي لَا يَسْتَدِلُّ بِهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُغَالِطٌ , فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي ذَلِكَ مَا يُقَالُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الْأَعْرَاضِ وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا قَائِمًا بِمَحَلِّ الْعَرْضِ وَنَفْيِ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ مِمَّا عَدَّهُ مِنْ بِدَعِ الْأَشْعَرِيِّ الَّتِي أَحْدَثَهَا فِي الْإِسْلَامِ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ كَأَبِي نَصْرٍ السِّجْزِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ سَعْدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيِّ , دَعْ مَنْ سِوَاهُمْ .
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ : فَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ سَاحِرًا , وَهُمْ يَذْكُرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ , وَيَقُولُونَ هَذَا يَصْلُحُ لِعَمَلِ النَّوَامِيسِ أَيْ الشَّرَائِعِ وَالسُّنَنِ , وَمِنْهَا مَا هُوَ دُعَاةُ الْكَوَاكِبِ وَعِبَادَةٌ لَهَا , وَأَنْوَاعٌ مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَلَا عَلِمَهُ , وَإِضَافَةُ ذَلِكَ إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ كَإِضَافَةِ مَنْ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالطَّيْرَ , فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَنْوَاعٍ مِنْ السِّحْرِ , حَتَّى إنَّ طَوَائِفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَجْعَلُونَهُ نَبِيًّا ; بَلْ حَكِيمًا , فَنَزَّهَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ . وَكَذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَال عَلَى الْحَوَادِثِ بِمَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْعُلْوِيَّةِ , أَوْ الِاخْتِيَارَاتِ لِلْأَعْمَالِ . هَذَا كُلُّهُ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَأْمُرْ قَطُّ بِهَذَا , إذْ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ هُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ بِكَثِيرٍ , وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا قَالَ إمَامُ هَؤُلَاءِ وَمُعَلِّمُهُمْ
الثَّانِي أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ , قَالَ مَا مَضْمُونُهُ : إنَّك لَوْ قَلَبْت أَوْضَاعَ الْمُنَجِّمِينَ فَجَعَلْت مَكَانَ السَّعْدِ نَحْسًا , وَمَكَانَ النَّحْسِ سَعْدًا , أَوْ مَكَانَ الْحَارِّ بَارِدًا , وَمَكَانَ الْبَارِدِ حَارًّا , أَوْ مَكَانَ الْمُذَكَّرِ مُؤَنَّثًا , وَمَكَانَ الْمُؤَنَّثِ مُذَكَّرًا , وَحَكَمْت , لَكَانَ حُكْمُك مِنْ جِنْسِ أَحْكَامِهِمْ , يُصِيبُ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى . وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَهُمْ يُنَزِّهُونَ عَنْهُ , بُقْرَاطَ , وَأَفْلَاطُونَ , وَأَرِسْطُو , وَأَصْحَابَهُ الْفَلَاسِفَةَ الْمَشَّائِينَ الَّذِينَ يُوجَدُ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ أَعْظَمُ مِمَّا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَإِذَا كَانُوا يُنَزِّهُونَ عَنْهُ هَؤُلَاءِ الصَّابِئِينَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَقَلُّ مَرْتَبَةً وَأَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إلَى نَبِيٍّ كَرِيمٍ ؟ وَنَحْنُ نَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ أُمَّتِنَا أَنَّهُ قَدْ أُضِيفَ إلَى جَعْفَرٍ الصَّادِقِ , وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأُمُورِ , مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ بِحَالِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ , فَإِنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ , حَتَّى يُنْسَبَ إلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَرَكَاتِ السُّفْلِيَّةِ , كَاخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ , وَجَوَاذِبِ الْجَوِّ مِنْ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ , وَالْهَالَةِ وَقَوْسِ اللَّهِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ : قَوْسُ قُزَحٍ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ , وَالْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ , وَكَذَلِكَ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْجَدْوَلُ الَّذِي تَبْنِي عَلَيْهِ
الضُّلَّالُ طَائِفَةٌ مِنْ الرَّافِضَةِ , وَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ افْتَعَلَهُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ , أَحَدُ الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ مَعَ رِيَاسَتِهِ وَعَظَمَتِهِ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ , وَكَذَلِكَ أُضِيفَ إلَيْهِ كِتَابُ الْجَفْرِ , وَالْبِطَاقَةِ وَالْهَفْتِ , وَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ , حَتَّى أُضِيفَ إلَيْهِ رَسَائِلُ إخْوَانِ الصَّفَا , وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ , فَإِنَّ هَذِهِ الرَّسَائِلَ إنَّمَا وُضِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ , فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ , وَهَذِهِ الرَّسَائِلُ وُضِعَتْ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهٍ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ فِي أَوَائِلِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ الَّذِينَ بَنَوْا الْقَاهِرَةِ , وَضَعَهَا جَمَاعَةٌ , وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ جَمَعُوا بِهَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ , فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَأَصْحَابُ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ , كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ , وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بَرَاءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَكَاذِيبِ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُهُ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ حَقَائِقِ التَّفْسِيرِ " عَنْ جَعْفَرٍ مِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِي كَذِبِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَحْكِيهَا عَنْهُ الرَّافِضَةُ , وَهِيَ مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ , وَلَيْسَ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَاخْتِلَافًا مِنْ الرَّافِضَةِ مِنْ حِينِ تَبِعُوا إلَى أَوَّلِ مَنْ ابْتَدَعَ
الرَّفْضَ , وَكَانَ مُنَافِقًا زِنْدِيقًا يُقَالُ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأً , فَأَرَادَ بِذَلِكَ فَسَادَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا فَعَلَ بولص صَاحِبُ الرَّسَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى , حَيْثُ ابْتَدَعَ لَهُمْ بِدَعًا أَفْسَدَ بِهَا دِينَهُمْ , وَكَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ النَّصْرَانِيَّةَ نِفَاقًا لِقَصْدِ إفْسَادِهَا , وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا فَفَسَدَ ذَلِكَ وَسَعَى فِي الْفِتْنَةِ , لِقَصْدِ إفْسَادِ الْمِلَّةِ , فَلَمْ يَتَمَكَّنْ , لَكِنْ حَصَلَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ تَحْرِيشٌ وَفِتْنَةٌ قُتِلَ فِيهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , وَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْفِتْنَةِ , وَلَمْ يَجْمَعْ اللَّهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى ضَلَالَةٍ , بَلْ لَا تَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْحَقِّ لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا , وَلَا مَنْ خَذَلَهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ , كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ النُّصُوصُ الْمُسْتَفِيضَةُ فِي الصِّحَاحِ , عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَمَّا أَحْدَثَتْ الْبِدَعَ الشِّيعَةُ فِي خِلَافَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدَّهَا , وَكَانَتْ ثَلَاثَةَ طَوَائِفَ غَالِيَةٌ وَسَبَّابَةٌ وَمُفَضِّلَةٌ , فَأَمَّا الْغَالِيَةُ فَإِنَّهُ حَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ , فَإِنَّهُ خَرَجَ ذَات يَوْمٍ مِنْ بَابِ كِنْدَةَ فَسَجَدَ لَهُ أَقْوَامٌ , فَقَالَ مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : أَنْتَ هُوَ اللَّهُ , فَاسْتَتَابَهُمْ ثَلَاثًا , فَلَمْ يَرْجِعُوا , فَأَمَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِأَخَادِيدَ , فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ , ثُمَّ قَذَفَهُمْ فِيهَا . وَقَالَ : لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا أَجَّجْتُ نَارِي
وَدَعَوْت قَنْبَرًا وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا أَتَى بِزَنَادِقَتِهِمْ فَحَرَّقَهُمْ , فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ , فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْت لَمْ أُحَرِّقْهُمْ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذَّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ } , وَلَضَرَبْت أَعْنَاقَهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَأَمَّا السَّبَّابَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ سَبَأٍ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ , طَلَبَ قَتْلَهُ , فَهَرَبَ إلَى قُرَقْيِسَا وَكُلِّمَ فِيهِ , وَكَانَ عَلِيٌّ يُدَارِي أُمَرَاءَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا , وَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَهُ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ . وَأَمَّا الْمُفَضِّلَةُ , فَقَالَ لَا أُوتَى بِأَحَدٍ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ : " خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ , ثُمَّ عُمَرُ " . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ , أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ : يَا أَبَتِ مَنْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْرِفُ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : أَبُو بَكْرٍ , قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ ثُمَّ عُمَرُ , وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ , أَنَّ عَلِيًّا رَوَى هَذَا التَّفْضِيلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ قَدْ كُذِبَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهَا إلَى أَقَلِّ الْمُؤْمِنِينَ , حَتَّى أَضَافَتْ إلَيْهِ
الْقَرَامِطَةُ , وَالْبَاطِنِيَّةُ , وَالْحَزْمِيَّةُ , وَالْمَزْدَكِيَّةُ , وَالْإِسْمَاعِيلِيَّة , وَالنُّصَيْرِيَّةُ مَذَاهِبَهَا الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْسَدِ مَذَاهِبِ الْعَالَمِينَ , وَادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْهُ . وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أَحْدَثَهُ الْمُنَافِقُونَ الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَصَدُوا إظْهَارَ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ , وَهُمْ يُبْطِنُونَ خِلَافَ ذَلِكَ , وَاسْتَتْبَعُوا الطَّوَائِفَ الْخَارِجَةَ عَنْ الشَّرَائِعِ , فَكَانَتْ لَهُمْ دُوَلٌ , وَجَرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِتَنٌ , حَتَّى قَالَ ابْنُ سِينَا : إنَّمَا اشْتَغَلْت فِي عُلُومِ الْفَلَاسِفَةِ ; لِأَنَّ أَبِي كَانَ مِنْ أَهْلِ دَعْوَةِ الْمِصْرِيِّينَ , يَعْنِي مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ الرَّافِضَةِ الْقَرَامِطَةِ , فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَحِلُونَ هَذِهِ الْعُلُومَ الْفَلْسَفِيَّةَ , وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ مَعْرِفَةِ النُّبُوَّاتِ اتِّصَالًا وَانْضِمَامًا , يَجْمَعُهُمْ فِيهِ الْجَهْلُ الصَّمِيمُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ , صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . فَإِذَا كَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْقَرِيبِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ قَدْ كُذِبَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ , وَأُضِيفَ إلَيْهِمْ مِنْ مَذَاهِبِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ مَا يَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ بَرَاءَتَهُمْ مِنْهُ , وَنَفَقَ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مُنْتَسِبَةٍ إلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ , مَعَ وُجُودِ مَنْ يُبَيِّنُ كَذِبَ هَؤُلَاءِ وَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ , وَيَذُبُّ عَنْ الْمِلَّةِ بِالْقَلْبِ
وَالْبَدَنِ وَاللِّسَانِ , فَكَيْفَ الظَّنُّ بِمَا يُضَافُ إلَى إدْرِيسَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أُمُورِ النُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ , وَتَنَوُّعِ الْحَدَثَانِ , وَاخْتِلَافِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ , وَعَدَمِ مَنْ يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ , وَاشْتِمَالِ ذَلِكَ عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ . وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ نَجْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْعَقْرَبِ وَالْمِرِّيخِ , وَأُمَّتِهِ بِالزُّهَرَةِ , وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الْهَذَيَانِ ; لِمُبَايَنَةِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ لِمَا يَدَّعُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ , فَإِنَّ مِنْ أَوْضَحِ الْكَذِبِ قَوْلَهُمْ : إنَّ نَجْمَ الْمُسْلِمِينَ بِالزُّهَرَةِ , وَنَجْمَ النَّصَارَى بِالْمُشْتَرَيْ , مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالدِّينَ , وَالزُّهَرَةَ تَقْتَضِي اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ ; وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّصَارَى أَعْظَمُ الْمِلَلِ جَهْلًا وَضَلَالَةً , وَأَبْعَدُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ , وَأَكْثَرُ اشْتِغَالًا بِالْمَلَاهِي وَتَعَبُّدًا بِهَا . وَالْفَلَاسِفَةُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ مَا قَرَعَ الْعَالِمُ نَامُوسَ أَعْظَمَ مِنْ النَّامُوسِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ أَكْمَلُ عَقْلًا وَدِينًا وَعِلْمًا بِاتِّفَاقِ الْفَلَاسِفَةِ , حَتَّى فَلَاسِفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , فَإِنَّهُمْ لَا يَرْتَابُونَ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ عَقْلًا وَدِينًا , وَإِنَّمَا يَمْكُثُ أَحَدُهُمْ عَلَى دِينِهِ , إمَّا
اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ وَرِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ دُنْيَاهُ فِي زَعْمِهِ , وَإِمَّا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِأَيِّ مِلَّةٍ كَانَتْ , وَإِنَّ الْمِلَلَ شَبِيهَةٌ بِالْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ , فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ الْمُنَجِّمِينَ وَأَمْثَالِهِمْ يَقُولُونَ بِهَذَا , وَيَجْعَلُونَ الْمِلَلَ بِمَنْزِلَةِ الدُّوَلِ الصَّالِحَةِ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ . وَأَمَّا الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَاطِقَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَى الْحَنِيفِيَّةِ , وَهِيَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ : عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَبِذَلِكَ أَخْبَرَنَا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأُمَمِهِمْ , قَالَ نُوحٌ : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْت أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } . وَقَالَ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ } . وَقَالَ : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } . وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } , وَقَالَتْ بِلْقِيسُ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَقَالَ فِي الْحَوَارِيِّينَ : { أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } , وَقَدْ قَالَ مُطْلَقًا : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . وَقَالَ : { قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } . فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِاتِّفَاقِ كُلِّ ذِي عَقْلٍ أَوْلَى أَهْلِ الْمِلَلِ بِالْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْعَدْلِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا تُنَاسِبُ عِنْدَهُمْ آثَارَ الْمُشْتَرِي , وَالنَّصَارَى أَبْعَدُ عَنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَمَا يُنَاسِبُ عِنْدَهُمْ آثَارَ الزُّهْرَةِ , كَانَ مَا ذَكَرُوهُ ظَاهِرَ الْفَسَادِ . وَلِهَذَا لَا تَزَالُ أَحْكَامُهُمْ كَاذِبَةً مُتَهَافِتَةً , حَتَّى أَنَّ كَبِيرَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ
فَيْلَسُوفَ الْإِسْلَامِ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْكِنْدِيُّ عَمِلَ تَسْيِيرًا لِهَذِهِ الْمِلَّةِ , زَعَمَ أَنَّهَا تَنْقَضِي عَامَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ , وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْ أَخْرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِخْرَاجِ مِنْ حُرُوفِ كَلَامٍ ظَهَرَ فِي الْكَشْفِ لِبَعْضِ مَنْ أَعَادَهُ , وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتَخْرَجَ بَقَاءَ هَذِهِ الْمِلَّةِ مِنْ حِسَابِ الْجُمَلِ الَّذِي لِلْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ , وَهِيَ مَعَ حَذْفِ التَّكْرِيرِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا , وَحِسَابُهَا فِي الْجُمَلِ الْكَبِيرِ سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ . وَمِنْ هَذَا أَيْضًا مَا ذُكِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ : { الم } قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ : بَقَاءُ هَذِهِ الْمِلَّةِ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ , فَلَمَّا أَنْزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ : الر , وَ { الم } , قَالُوا خُلِطَ عَلَيْنَا , فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي تُوجَدُ عَنْ ضَلَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , أَوْ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ , مُشْتَمِلَةٌ مِنْ هَذَا الْبَاطِلِ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَشْبَاهُهَا خَارِجَةٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ , مُحَرَّمَةٌ فِيهِ , يَجِبُ إنْكَارُهَا , وَالنَّهْيُ عَنْهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ , عَلَى كُلِّ قَادِرٍ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَهَؤُلَاءِ وَأَشْبَاهُهُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَسُوسُ الْمِلَلِ , وَلَا يُنْفَقُ الْبَاطِلُ فِي الْوُجُودِ إلَّا بِثَوْبٍ مِنْ الْحَقِّ , كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
لَبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ , فَبِسَبَبِ الْحَقِّ الْيَسِيرِ الَّذِي مَعَهُمْ , يُضِلُّونَ خَلْقًا كَثِيرًا عَنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ , وَيَدْعُونَهُ إلَى الْبَاطِلِ الْكَثِيرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ , وَكَثِيرًا مَا يُعَارِضُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يُحْسِنُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ , وَلَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ الَّتِي تَدْحَضُ بَاطِلَهُمْ , وَلَا يُبَيِّنُ حُجَّةَ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا بِرُسُلِهِ , فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْبَابِ وَنَحْوِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ .
السَّادِسُ : تَسْمِيَتُهُ الْأَخْبَارَ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ أَخْبَارًا مُتَشَابِهَةً كَمَا يُسَمُّونَ آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَشَابِهَةً وَهَذَا كَمَا يُسَمِّي الْمُعْتَزِلَةُ الْأَخْبَارَ الْمُثْبِتَةَ لِلْقَدَرِ مُتَشَابِهَةً . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ مَا وَافَقَ آرَاءَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُحْكَمًا وَمَا خَالَفَ آرَاءَهُمْ مُتَشَابِهًا , وَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . السَّابِعُ : قِيَاسُهُ لَمَّا سَمَّاهُ الْمُتَشَابِهَ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الْمُتَشَابِهِ فِي آيِ الْكِتَابِ لِيُلْحِقَهُ بِهِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِهِ وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ بِهِ , وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ التَّشَاغُلِ بِهِ , أَوْ أَنْ يَكُونَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَعْرَضُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا سِيَّمَا الْآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِذِكْرِ أَسْمَاء اللَّهِ وَصِفَاتِهِ , فَمَا مِنْهَا آيَةٌ إلَّا وَقَدْ
رَوَى الصَّحَابَةُ فِيمَا يُوَافِقُ مَعْنَاهَا وَيُفَسِّرُوهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى مَزِيدٍ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبَضْته يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } . فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ , وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ حَرَّفَ فَقَالَ : قَبَضْته قُدْرَتُهُ , وَبِيَمِينِهِ بِقُوَّتِهِ أَوْ بِقَسَمِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ , فَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي رَوَاهَا خِيَارُ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاؤُهُمْ , وَخِيَارُ التَّابِعِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ بِمَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَيُفَصِّلُ الْمَعْنَى كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ , وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ , وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْخَبَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ , وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . الثَّامِنُ : قَوْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ وَأَخْيَارَ الْأُمَّةِ بَعْدَ صَحْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُودِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ كِتَابَهُ الْأَخْبَارَ الْمُتَشَابِهَاتِ فَلَمْ يُورِدْ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا كَمَا أَوْرَدَهُ الْآجُرِّيُّ وَأَمْثَالُهُ , وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ , وَلَمْ يَعْتَنُوا بِنَقْلِ الْمُشْكِلَاتِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ
مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ , وَمَا نَقَلُوهُ وَصَنَّفُوهُ , وَقَوْلُهُ : رَجْمٌ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ فَإِنَّ نَقْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِمَّا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى نَصِيبٌ مِنْ مَعْرِفَةِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ , وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ أُخِذَتْ , وَهُمْ الَّذِينَ أَدَّوْهَا إلَى الْأُمَّةِ , وَالْكَذِبُ فِي هَذَا الْكَلَامِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ , لَكِنَّ قَائِلَهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ وَلَكِنَّهُ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ هَؤُلَاءِ وَظَنَّ أَنَّ نَقْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْجَاهِلُ الَّذِينَ يُسَمِّيهِمْ الْمُشَبِّهَةَ أَوْ الزَّنَادِقَةَ وَهَؤُلَاءِ بُرَآءُ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ , فَتَرَكَّبَ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْحَقِّ وَمِنْ هَذَا الظَّنِّ النَّاشِئِ عَنْ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي فِيهِ مِنْ الْفِرْيَةِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى الرِّجَالِ . التَّاسِعُ : قَوْلُهُ لَمْ يُورِدْ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا شَيْئًا , وَقَدْ ذَكَرَ أَحَادِيثَ النُّزُولِ وَأَحَادِيثَ الضَّحِكِ فِيمَا أَنْكَرَهُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ حَدِيثَ النُّزُولِ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ فِي مُوَطَّإِ مَالِكٍ رَوَاهُ عَنْ أَجَلِّ شُيُوخِهِ ابْنِ شِهَابٍ عَمَّنْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ شُيُوخِهِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَعَزِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي
فَأَسْتَجِبْ لَهُ , مَنْ يَسْأَلْنِي فَأُعْطِيهِ , مَنْ يَسْتَغْفِرْنِي فَأَغْفِرْ لَهُ } وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ , وَأَحَادِيثُ النُّزُولِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهَا أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَحْضَرِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَالْمُسْتَمِعُ لَهَا مِنْهُمْ يُصَدِّقُ الْمُحَدِّثَ بِهَا وَيُقِرُّهُ , وَلَمْ يُنْكِرْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ , وَرَوَاهُ أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَعَامَّةُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ , رَوَوْا ذَلِكَ وَأَوْدَعُوهُ كُتُبَهُمْ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ . قَالَ شَارِحُ الْمُوَطَّإِ الشَّرْحُ الَّذِي لَمْ يَشْرَحْ أَحَدٌ مِثْلَهُ , الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ , فَمِنْ جِهَةِ النَّقْلِ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ . قَالَ : وَهُوَ حَدِيثٌ مَنْقُولٌ مِنْ طُرُقٍ سِوَى هَذِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْعُدُولِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَان وَلَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ , وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الضَّحِكِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ وَقَدْ رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ , وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْهَا حَدِيثَهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَضْحَكُ اللَّهُ إلَى
رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ , يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ , ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَسْتَشْهِدُ } وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِ مَالِكٍ , وَرَوَاهُ أَيْضًا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْإِمَامُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَحَدَّثَ بِهِ . وَقَدْ رَوَى صَاحِبُ الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا قِطْعَةً مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورَ وَفِيهِ : { فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ } وَرَوَاهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَغَيْرُ سَعِيدٍ أَيْضًا , وَرَوَاهُ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَعَنْهُ أَصْحَابُهُ , وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ : { فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْك , هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا , فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ , فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ , وَفِيهِ أَلْفَاظٌ عَظِيمَةٌ أَبْلَغُ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ : { فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } , وَقَوْلُهُ فِيهِ : { فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ } وَقَوْلُهُ : {
فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ يُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدْ امْتَحَشُوا } . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي } وَقَدْ أَخَرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ وَطَرِيقِ غَيْرِهِ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَرَضِينَ وَتَكُونُ السَّمَوَاتُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ } رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ مَالِكٍ . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ { عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } الْآيَةُ , فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ , ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ
فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ , وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ , وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ إنَّمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ كَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ , وَقَدْ قِيلَ إنَّ إسْنَادَهُ مُنْقَطِعٌ وَإِنَّ رَاوِيَهُ مَجْهُولٌ , وَمَعَ هَذَا فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مَعَ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ : { ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً . . . ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً } . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْآجُرِّيَّ يَرْوِي فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ لَهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَالطَّبِيعِيَّ وَاللَّيْثِ وَغَيْرِهِمْ , فَلَوْ تَأَمَّلَ أَبُو الْمَعَالِي وَذَوِيهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ لَوَجَدُوا فِيهِ مَا يَخْصِمُهُمْ , وَلَكِنْ أَبُو الْمَعَالِي مَعَ فَرْطِ ذَكَائِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ فِي فَنِّهِ كَانَ قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُطَالِعْ عِلَّاتِهَا بِحَالٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهِ , فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِالصَّحِيحَيْنِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ
وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَمْثَال هَذِهِ السُّنَنِ عِلْمٌ أَصْلًا فَكَيْفَ بِالْمُوَطَّإِ وَنَحْوه وَكَانَ مَعَ حِرْصه عَلَى الِاحْتِجَاج فِي مَسَائِل الْخِلَاف فِي الْفِقْهِ إنَّمَا عُمْدَتُهُ سُنَنُ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ مَعَ إتْمَامِ إمَامَتِهِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ إنَّمَا صَنَّفَ هَذِهِ السُّنَنَ كَيْ يَذْكُرَ فِيهَا الْأَحَادِيثَ الْمُسْتَغْرَبَةَ فِي الْفِقْهِ وَيَجْمَعَ طُرُقَهَا , فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى مِثْلِهِ , فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَكَانَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا فِي ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ الِاكْتِفَاءِ بِكِتَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ يُورِثُ جَهْلًا عَظِيمًا بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ , وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَنَّ كِتَابَ أَبِي الْمَعَالِي , الَّذِي هُوَ نُخْبَةُ عُمْرِهِ نِهَايَةُ الْمَطْلَبِ فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ " لَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَعْزُوٌّ إلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي الْبَسْمَلَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ . وَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَعِلْمِ أَمْثَالِهِ بِأُصُولِ الْإِسْلَامِ اتَّفَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ , فَإِذَا لَمْ يُسَوِّغْ أَصْحَابُهُ أَنْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا ؟ وَإِذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ إمَامًا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَكَيْفَ يُتَّخَذُ إمَامًا فِي أُصُولِ الدِّينِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إنَّمَا نِيلَ قَدْرُهُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ بِتَبَحُّرِهِ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ مُؤَسَّسٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَهَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ غَايَتُهُ فِيهِ أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ نَقْلٌ جَمَعَهُ أَوْ بَحْثٌ تَفَطَّنَ لَهُ فَلَا يُجْعَلُ إمَامًا فِيهِ كَالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ وُجُوهٌ , فَكَيْفَ بِالْكَلَامِ الَّذِي نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ ذَنْبٌ أَعْظَمُ مِنْهُ ؟ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا جَعَلَهُ أَصْلَ دِينِهِ فِي الْإِرْشَادِ وَالشَّامِلِ وَغَيْرِهِمَا هُوَ بِعَيْنِهِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي نَصَّتْ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ , وَلِهَذَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ طَاهِرٍ أَنَّهُ قَالَ وَقْتَ الْمَوْتِ : لَقَدْ خُضْتُ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِي الَّذِي نَهَوْنِي عَنْهُ , وَالْآنَ إنْ لَمْ يُدْرِكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الْجُوَيْنِيِّ , وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي أَوْ عَقَائِدِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ . قَالَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرُّسْتُمِيُّ : حَكَى لَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى الْإِمَامِ أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ نَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِنَيْسَابُورَ , فَأُقْعِدَ , فَقَالَ لَنَا : اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي رَجَعْت عَنْ كُلِّ مَقَالَةٍ قُلْتهَا أُخَالِفُ فِيهَا مَا قَالَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ , وَأَنِّي أَمُوتُ عَلَى مَا يَمُوتُ عَلَيْهِ عَجَائِزُ نَيْسَابُورَ . وَعَامَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ سَلَكُوا خَلْفَهُ مِنْ
تَلَامِذَتِهِ وَتَلَامِذَةِ تَلَامِذَتِهِ وَتَلَامِذَةِ تَلَامِذَةِ تَلَامِذَتِهِ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ سَلَفِ الْأُمَّةِ يَظُنُّ أَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ حُكْمُهَا بِالْقِيَاسِ , كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ , وَمَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِالنُّصُوصِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَأَمْثَالِهِ : إنَّ النُّصُوصَ تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ , أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ , وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا قَدْ يُسَمَّى قِيَاسًا جَلِيًّا , وَقَدْ يُجْعَلُ مِنْ دَلَالَةِ مِثْلِ فَحْوَى الْخِطَابِ وَالْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمِثْلِ الْجُمُودِ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ الضَّعِيفِ , وَمِثْلِ الْإِعْرَاضِ عَنْ مُتَابَعَةِ أَئِمَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مَا هُوَ مَعِيبٌ عَلَيْهِمْ , وَكَذَلِكَ الْقَدْحُ فِي أَعْرَاضِ الْأَئِمَّةِ , لَكِنْ الْغَرَضُ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ فِي اسْتِيعَابِ النُّصُوصِ لِلْحَوَادِثِ , وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ دِينَهُمْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُبَيِّنْ لِلنَّاسِ حُكْمَ أَكْثَرِ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ , بَلْ وَكَّلَهُمْ فِيهَا إلَى الظُّنُونِ الْمُتَقَابِلَةِ وَالْآرَاءِ الْمُتَعَارِضَةِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ ضَعْفُ الْعِلْمِ بِالْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ ,
وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِأَبِي الْمَعَالِي وَأَمْثَالِهِ بِذَلِكَ عِلْمٌ رَاسِخٌ , وَكَانُوا قَدْ عَضُّوا عَلَيْهِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ لَكَانُوا مُلْحَقِينَ بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِأَسْبَابِ الِاجْتِهَادِ , وَلَكِنْ اتَّبَعَ أَهْلُ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ وَالرَّأْيِ الضَّعِيفِ لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ , الَّذِي يَنْقُضُ صَاحِبَهُ إلَى حَيْثُ جَعَلَهُ اللَّهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي تِلْكَ الطَّرِيقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ , فَلَيْسَ الْفَضْلُ بِكَثْرَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَكِنْ بِالْهُدَى وَالسَّدَادِ ; كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { مَا ازْدَادَ مُبْتَدِعٌ اجْتِهَادًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا } وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ : يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ , وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ , وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ , يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ , يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ } . وَيُوجَدُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لِكَثِيرٍ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الِاجْتِهَادِ مَا لَا يُوجَدُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ , وَكَذَلِكَ لِكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ , لَكِنْ إنَّمَا يُرَادُ الْحَسَنُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ , فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ فَقَالَ : إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا
وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ , وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا , وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ , وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رَوَى الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِ كِتَابِهِ مِثْلَ حَدِيثِ النُّزُولِ , وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ الَّذِي فِيهِ { قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ , قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ , بَلْ رَوَى فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الَّذِي اخْتَصَرَ مِنْهُ مُسْنَدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ مَا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَرَوَاهُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ فَقَالَ : أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَزْهَرِ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : { أَتَى جِبْرِيلُ بِمِرْآةٍ بَيْضَاءَ فِيهَا نُكْتَةٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَذِهِ ؟ قَالَ : هَذِهِ الْجُمُعَةُ فُضِّلْت بِهَا أَنْتَ وَأُمَّتُك , فَالنَّاسُ لَكُمْ فِيهَا تَبَعٌ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَلَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ وَفِيهَا سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إلَّا اُسْتُجِيبَ لَهُ , وَهُوَ عِنْدَنَا يَوْمُ الْمَزِيدِ , قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا
جِبْرِيلُ وَمَا يَوْمُ الْمَزِيدِ ؟ قَالَ : إنَّ رَبَّك اتَّخَذَ فِي الْفِرْدَوْسِ وَادِيًا أَفْيَحَ فِيهِ كُثُبُ مِسْكٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا شَاءَ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَحَوْلَهُ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ عَلَيْهَا مَقَاعِدُ لِلنَّبِيِّينَ وَحُفَّتْ تِلْكَ الْمَنَابِرُ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ عَلَيْهَا الشُّهَدَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَيَجْلِسُ مِنْ وَرَائِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْكُثُبِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ أَنَا رَبُّكُمْ قَدْ صَدَقْتُكُمْ وَعْدِي فَاسْأَلُونِي أُعْطِكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا نَسْأَلُك رِضْوَانَك , فَيَقُولُ : قَدْ رَضِيت عَنْكُمْ , وَلَكُمْ عَلَيَّ مَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَدَيَّ مَزِيدٌ , فَهُمْ يُحِبُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا يُعْطِيهِمْ فِيهِ رَبُّهُمْ مِنْ خَيْرٍ , وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتَوَى رَبُّكُمْ عَلَى الْعَرْشِ فِيهِ , وَفِيهِ خُلِقَ آدَم , وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ } . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَنَحْوُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَلَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ , بَلْ هَؤُلَاءِ مَدَارُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ جِهَتِهِمْ أُخِذَتْ , وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ الَّذِي قَالَ إنَّ مَالِكًا احْتَذَى مُوَطَّأَهُ عَلَى كِتَابِهِ هُوَ قَدْ جَمَعَ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ لَمَّا أَظْهَرَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنْكَارَهَا حَتَّى إنَّ حَدِيثَ خَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ أَوْ صُورَةِ الرَّحْمَنِ قَدْ رَوَاهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ رَوَاهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ , وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ أَبِي الزِّنَادِ , وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا , وَلَفْظُهُ : { خُلِقَ آدَم عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ } مَعَ أَنَّ الْأَعْمَشَ رَوَاهُ مُسْنَدًا . فَإِذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يَرْوُونَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالَهُ مُرْسَلًا فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُمْ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَنْ رِوَايَتِهَا , وَالْحَدِيثُ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ مَنْ يُحَدِّثُ الْحَدِيثَ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } , وَالْحَدِيثَ { إنَّ اللَّهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } { وَأَنَّهُ يُدْخِلُ فِي النَّارِ يَدَهُ حَتَّى يُخْرِجَ مَنْ أَرَادَ } , فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَنَهَى أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ أَحَدٌ . قُلْت : هَذَانِ الْحَدِيثَانِ كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يُحَدِّثُ بِهِمَا , فَالْأَوَّلُ حَدِيثُ الصُّورَةِ حَدَّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ , وَالثَّانِي هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الطَّوِيلِ , وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ , وَالْأَوَّلُ قَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ , وَابْنُ الْقَاسِمِ إنَّمَا سَأَلَ مَالِكًا لِأَجْلِ تَحْدِيثِ اللَّيْثِ بِذَلِكَ , فَيُقَالُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ مُخَالِفًا لِمَا فَعَلَهُ اللَّيْثُ وَنَحْوُهُ أَوْ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ بَلْ يُكْرَهُ أَنْ
يَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ أَنْ يَفْتِنَهُ ذَلِكَ وَلَا يَحْمِلَهُ عَقْلُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَتْرُكُ رِوَايَةَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ لِكَوْنِهِ لَا يَأْخُذُ بِهَا وَلَمْ يَتْرُكْهَا غَيْرُهُ فَلَهُ فِي ذَلِكَ مَذْهَبٌ , فَغَايَةُ مَا يُعْتَذَرُ لِمَالِكٍ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ كَرِهَ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا فَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ قَالَهُ فَقَدْ حَدَّثَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَنْ هُمْ أَجَلُّ مِنْ مَالِكٍ عِنْدَ نَفْسِهِ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , وَقَدْ حَدَّثَ بِهَا نُظَرَاؤُهُ كَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ , وَالثَّوْرِيُّ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ وَأَحْفَظُهُ لَهُ , وَهُوَ أَقَلُّ غَلَطًا فِيهِ مِنْ مَالِكٍ , وَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يُنَقِّي مَنْ يُحَدِّثُ عَنْهُ , وَأَمَّا اللَّيْثُ فَقَدْ قَالَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ : كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَهُ ضَيَّعُوهُ . فَفِي الْجُمْلَةِ : هَذَا كَلَامٌ فِي حَدِيثٍ مَخْصُوصٍ , أَمَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَئِمَّةَ أَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُطْلَقًا فَهَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ . الْعَاشِرُ : إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَانُوا كُلُّهُمْ مُثْبِتِينَ لِمُوجِبِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ مُطْبِقِينَ عَلَى ذَمِّ الْكَلَامِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ أَبُو الْمَعَالِي أُصُولَ دِينِهِ , وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ
وَهُوَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ بِقِيَامِ الْأَعْرَاضِ بِهَا حَتَّى إنَّ شَيْخَهُ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ ذَكَرَ اتِّفَاقَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ وَسَلَفَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي ذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا أَصْلُ الْإِيمَانِ وَبِهَا وَبِنَحْوِهَا عَارَضَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ , وَقَدْ كَتَبْنَا كَلَامَ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ تَلْبِيسُ الْجَهْمِيَّةِ فِي تَأْسِيسِ بِدَعِهِمْ الْكَلَامِيَّةِ " . لَمَّا اسْتَدَلَّ الرَّازِيّ بِالْحَرَكَةِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ فِي إثْبَاتِ حُجَّتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ التَّحَيُّزِ عِنْدَهُمْ , وَلَكِنْ عِلْمُهُ بِحَالِهِمْ كَعِلْمِهِ بِمَذْهَبِهِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ , حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ إمْرَارُ حُرُوفِهَا مَعَ نَفْيِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ , فَهَذَا الضَّلَالُ فِي مَعْرِفَةِ رَأْيِهِمْ , كَذَلِكَ الضَّلَالُ فِي مَعْرِفَةِ رِوَايَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ فِي شَيْئَيْنِ : فِي الْكَلَامِ الَّذِي كَانَ يَنْتَحِلُهُ , وَفِي النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ عَنْ الرَّسُولِ فَقَدْ حَرَّفُوا مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ كَمَا حَرَّفُوا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . الْحَادِي عَشَرَ : إنَّ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ جَمْعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَتَبْوِيبَهَا مَا أَحْدَثَتْ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ التَّكْذِيبِ بِمُوجِبِهَا وَتَعْطِيلِ صِفَاتِ الرَّبِّ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِتَعْطِيلِ ذَاتِهِ وَتَكْذِيبِ رَسُولِهِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ , وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ , وَمَا صَنَّفُوهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ وَبَوَّبُوهُ أَبْوَابًا
مُبْتَدَعَةً يَرُدُّونَ بِهَا مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَيُخَالِفُونَ بِهَا صَرَائِحَ الْمَعْقُولِ وَصَحَائِحَ الْمَنْقُولِ . وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى تَبْلِيغَ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَمَرَ بِبَيَانِ الْعِلْمِ , وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْمُخَاطَبَةِ تَارَةً وَبِالْمُكَاتَبَةِ أُخْرَى , لِمَاذَا كَانَ الْمُبْتَدِعُونَ قَدْ وَضَعُوا الْإِلْحَادَ فِي كُتُبٍ فَإِنْ لَمْ يُكْتَبْ الْعِلْمُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي كُتُبٍ لَمْ يَظْهَرْ إلْحَادُ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْصُلْ تَمَامُ الْبَيَانِ وَالتَّبْلِيغِ وَلَمْ يَعْلَمْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الْمُخَالِفِ لِأَقْوَالِ الْمُلْحِدِينَ الْمُحَرِّفِينَ وَكَانَ جَمْعُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ أَهَمَّ مِنْ جَمْعِ غَيْرِهِ . الثَّانِيَ عَشَرَ : إنَّ أَبَا الْمَعَالِي وَأَمْثَالَهُ يَضَعُونَ كُتُبَ الْكَلَامِ الَّذِي تَلَقَّوْا أُصُولَهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ وَيُبَوِّبُونَ أَبْوَابًا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُصَنِّفُ وَيُؤَلِّفُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ؟ وَالْأُصُولُ الَّتِي يُقَرِّرُهَا هِيَ أُصُولُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْإِرْجَاءِ , وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي أَتْبَاعِهِ كَالْمُدَّعِي الْمَغْرِبِيِّ فِي مُرْشِدَتِهِ وَغَيْرِهِ , فَإِنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ يَقُولُونَ بِقَوْلِ جَهْمٍ أَيْ يَمِيلُونَ إلَى الْجَبْرِ , وَفِي
الْإِرْجَاءِ بِقَوْلِ جَهْمٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ , وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَهُمْ يُخَالِفُونَ جَهْمًا وَالْمُعْتَزِلَةَ , فَهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ , لَكِنْ جَهْمٌ وَالْمُعْتَزِلَةُ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ نَفْيُ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَقِدُوهُ , وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إثْبَاتُ صِفَاتٍ بِلَا ذَاتٍ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ وَيَقْصِدُوهُ , وَلِهَذَا هُمْ مُتَنَاقِضُونَ لَكِنْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا إذَا حُقِّقَ قَوْلُهُمْ لِأَهْلِ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ فَيَكُونُ اللَّهُ شَبَحًا وَشَبَحُهُ خَيَالُ الْجِسْمِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْ ظِلِّهِ عَلَى الْأَرْضِ , وَذَلِكَ هُوَ عَرَضٌ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ الرَّبَّ بِهَذِهِ الْأُسْلُوبِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ : لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ , وَنَحْوِهِ , فَلَا يَكُونُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا بَلْ يَكُونُ كَالْخَيَالِ الَّذِي يَشْبَحُهُ الذِّهْنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيَالُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُنَزِّهُونَ الرَّبَّ بِنَفْيِ الْجِسْمِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ , ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذَا النَّفْيِ إذَا نَفَوْا الْجِسْمَ وَمَلَازِيمَهُ , وَقَالُوا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ فَيَعْلَمُ أَهْلُ الْعُقُولِ أَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا , بَلْ يُقَالُ هَذَا الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ شَبَحٌ أَيْ خَيَالٌ كَالْخَيَالِ الَّذِي هُوَ ظِلُّ الْأَشْخَاصِ , وَكَالْخِيَالِ الَّذِي فِي الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ . ثُمَّ مِنْ