كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
تعليق ابن تيمية
قلت : ففي هذا الكلام قد جعل العلم ثلاثة أنواع : أحدها : هو الذي يعرف بالعقل والثاني : المعرفة التي لا تحصل إلا بالسمع والثالث : ما لا سبيل إلى معرفته لا بعقل ولا بسمعفالأول : المعرفة المطلقة المجملة بأن هذه المحدثات التي يعجز عنها الخلق لا بد لها من صانع ولكن هذه المعرفة لا تفيد معرفة عينه ولا أسمائه فإن المحدثات إنما تدل على فاعل ما مطلق من حيث الجملة وكذلك سائر ما يذكر من البراهين القياسية فإنما تدل على أمر مطلق كلي إذ كان البرهان المنطقي العقلي لابد فيه من قضية كلية والنتيجة موقوفة على جميع المقدمات فإذا كان المدلول عليه لم تعرف عينه قبل الاستدلال لم يدل هذا الدليل إلى على أمر مطلق كلي
وإيضاح ذلك أنه إذا استدل بحدوث المحدثات على أنه له محدثا وبإمكان الممكنات على أن هناك واجبا فإنه لم يعرف إلا وجود محدث واجب بنفسه وهذا معنى كلي مطلق لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه فلا يكون في ذلك معرفة عينه ولو وصف هذا بصفات مطلقة لم يخرجه ذلك عن أن يكون مطلقا كليا
ثم إنه ضل من ضل من الجهمية نفاة الصفات من المتفلسفة والمعتزلة والمتصوفة حيث أثبتوا وجودا واجبا قديما ثم وصفوه بصفات سلبية توجب امتناع تعينه وأنه لا يكون إلا مطلقا وقد علم أن ما لا يكون مطلقا كليا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان فيكون ما أثبتوه لا وجود له في الخارج
ومن المعلوم الفرق بين كون الدليل لم يدل على عينه وبين نفي تعينه فإن من سلك النظر الصحيح علم أنه موجود معين متميز وإن كان دليله لم يدله على عينه بخلاف من نفى تعينه وجعله مطلقا كليا أو قال ما يستلزم ذلك فإن هذا معطل له في الحقيقة
ومثال هذا من علم بالدليل وجود نبي مرسل أرسله الله إلى خلقه ولم يعلم عينه فهذا قد علمه علما مطلقا وأما من قال : إن هذا النبي إنما يوجد مطلقا لا معينا فهذا قد نفى وجوده في الخارج فإذا تبين أن القياس العقلي البرهاني لا يفيد إلا معرفة مطلقة كلية فمعلوم أن أسماءه لا تعرف إلا بالسمع فبالسمع عرفت أسماء الله وصفاته التي يوصف بها من الكلام
ولولا السمع لما سمي ولا ذكر ولا حمد ولا مدح ولا نعت ولا وصف فإن كان هذا هو الذي أراده بمعرفة عينه ومن هو فلا ريب أنه لا يحصل إلا بالسمع وإن أراد بذلك معرفة أخرى مثل المعرفة بسائر نعوته التي أخبرت بها الرسل فهذا أيضا يعلم بالسمع ومنها ما لا يعلم بمجرد القياس العقلي ومنها ما قد تنازع الناس هل يعلم بالعقل أم لا ؟
وأما معرفة عين المسمى الموصوف الذي علم وجوده فهذا في المخلوقات يعرف بالإحساس ظاهرا أو باطنا : إما بالإحساس بعينه أو بالإحساس بخصائصه فمن علم اسم شخص ونعوته أو اسم أرض وحدودها فإنه يعرف عينها بالرؤية : إما بمخبر يخبره أن هذا المعنى هو الموصوف المسمى وإما بأن يرى اختصاص ذلك المعين بتلك الأسماء والصفات
قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فمن عرف نعوت النبي صلى الله عليه و سلم التي نعت بها في الكتب المتقدمة ثم رآه ورأى خصائصه علم أن هذا هو ذاك لعدم الاشتراك في تلك الصفات
وهذه المعرفة قد تكون بمشاهدة عينه كالذين شاهدوه وقد لا تكون بمشاهدة عينه بل بطرق أخرى يعلم بها أنه هو كما يعلم أن القرآن تلقي عنه وأنه هاجر من مكة إلى المدينة ومات بها وأنه هو المذكور في الأذان وهو الذي يسميه المسلمون محمدا رسول الله وهو صاحب هذه الشريعة التي عليها المسلمون فهذه الأمور تعرف بها عينه من غير مشاهدة
وكذلك قد تعرف عين خلفائه وأصحابه وغيرهم من الناس وتعرف أقوالهم وأفعالهم وغير ذلك من أحوالهم معرفة معينة لااشتراك فيها مع عدم المعاينة
لكن قد شوهد آحاد الأناسي وعلم أن هؤلاء من هذا النوع ولكن لم يشهد ما يشبه النبي صلى الله عليه و سلم وخلفاءه من كل وجه وإما شوهد ما يشبههم من بعض الوجوه
فهذا القدر المسمى يعلم بمشاهدة نظيره وأما القدر الفارق فلا بد أن يشارك غيره في وصف آخر فيعلم ما بينهما من القدر المشترك أيضا
فالأمور الغائبة لا يمكن معرفتها ولا التعريف بها إلا بما بينها وبين الأمور الشاهدة من المشابهة لكن إذا عرف أنه لا شركة في ذلك علم أنه واحد معين من علم بعض صفاته وإن جوز فيه الشركة لم يعلم عين ذاك
ففي الجملة معرفة عين من علم بعض صفاته قد يحصل بالسماع وقد يحصل بالعيان وقد يحصل بالاستدلال والعلم بالموصوف قد يعلم بطرق متعددة فمن علم نعت الملك ثم رآه فقد يعلم عينه لما استقر عنده من معرفة صفاته وقد يعلم ذلك بمن يخبره أن ذلك المسمى الموصوف هو هذا المعين
ولهذا إذا كان في كتاب الوقف ونحوه حدود عقار وصفاته فقد تعلم الحدود بالمعاينة والاستدلال بأن لا يدل ما يطابق تلك النعوت إلا هي وقد يعلم بالخبر والشهادة ما يشهد الشهود بأن الحد المسمى الموصوف هو هذا المعين وإذا شهد الشهود على مسمى منسوب وكتب بذلك حاكم إلى حاكم آخر أو شهد شهود فرع على شهود أصل فإنه يعلم عين المسمى المنسوب كمن شهد بنسبة ولا يوجد له شريك فإن وجد له شريك لم تعلم عينه بالشهادة باسمه ونسبه وصار ذلك كالحلية والنعت المشترك وهل يشهد بالتعيين بمجرد الحلية عند الحاجة ؟ فيه نزاع بين الفقهاء
وكما أن معرفة عين الموصوف تحصل بطرق فنفس العلم الأول بصفته المختصة يحصل بطرق والعلم بالمعينة قد يكون بالمشاهدة الظاهرة وقد يكون بالمشاهدة الباطنة وقد لا يكون إلا لمجرد الآثار
ومما يبين الفرق بين المعين والمطبق ما ذكره الفقهاء في باب الأعيان المشاهدة الموصوفة فإن المبيع قد يكون معينا وقد لا يكون والمعين قد يكون مشاهدا فهذا يصح بيعه بالإجماع وقد يكون غائبا وفيه ثلاثة أقوال مشهورة للعلماء وهي ثلاث روايات عن أحمد : أحدها : أنه لا يصح بيعه كظاهر مذهب الشافعي والثاني : يصح وصف أو لم يوصف كمذهب أبي حنيفة والثالث : وهو مذهب مالك والمشهور من مذهب أحمد : أنه يصح بالصفة ولا يصح بدونها
ولو تلف هذا المبيع قبل التمكن من قبضة بآفة سماوية انفسخ البيع فيه باتفاق العلماء ولم يكن للمشتري المطالبة ببدله لأن حقه تعين في عين معينة وأما المبيع المطلق في الذمة فمثل دين السلم فإنه أسلم في شيء موصوف مطلق ولم يعينه وهو بمنزلة الثمن المطلق الذي لم يعين وبمنزلة الديون التي ثبتت مطلقة كالصداق وبدل القرض والأجرة ونحو ذلك
ومثله في الواجبات الشرعية وجوب عين رقبة مطلقة ونحو ذلك فهنا الواجب أمر مطلق لم يتعين بل لمن هو عليه أن يأتي بأي عين من الأعيان إذا حصل به المقصود ولو أتى بمعين فتلف قبل التمكن من قبضه كان للمستحق المطالبة بعين أخرى
وهكذا قال الفقهاء في الهدي المطلق كهدي التمتع والقرآن والهدي المعين كما لو نذر هديا بعينه فإن المعين لو تلف بغير تفريط منه لم يكن عليه بدله بخلاف ما وجب في الذمة فإنه لو عينه وتلف كان عليه إبداله
وكل موجود في الخارج فهو في نفس معين لكن العلم به قد يكون مع العلم بعينه وقد لا يكون مع العلم بعينه كالمبيع إذا كان مشاهدا فقد عرف المشتري عينه وإذا كان غائبا فهو معين في نفسه والمشتري لا يعرف عينه وإنما يعرف منه أمرا مطلقا سواء كان ذلك المطلق لا يحتمل سواه أو يحتمله ويحتمل غيره فإنه قد يبيعه العبد أو الأرض التي من صفتها كذا وكذا ويصفها بصفات تميزها لا تحتمل دخول غيرها فيها وهذا بخلاف المسلم فيه فإنه لا يكون معينا ومتى كان معينا بطل السلم كما لو أسلم في ثمن بستان بعينه أو زرع أرضا بعينها قبل بدو الصلاح كما جاء في ذلك حديث مسند عن النبي صلى الله عليه و سلم
وإذا تبين هذا فإذا عرف محدث للحوادث واجب قديم وعلم انتفاء الشركة فيه بأنه واحد لا شريك في الخلق أو غير ذلك من خصائصه التي لا يوصف بها اثنان مثل أنه رب العالمين وأنه على كل شيء قدير ونحو ذلك - فقد تعرف عينه بالعقل - عرف أنه واحد معين في نفس الأمر لا شركة فيه فيطلب القلب حينئذ معرفة عينه بخلاف ما يمكن الشركة فيه
وإذا كان كذلك فقد يعترض المعترض على قول من قال : إن عينه لا تعرف إلا بالسمع ويقول : التعيين حينئذ بما جعل الله في القلوب من ضرورة المعرفة والقصد والتوجه والإشارة إلى ما فوق السماوات فإنها مفطورة على أنه ليس فوق العالم غيره
ولهذا كان منكرو علو الله ومباينته لمخلوقاته من الجهمية الحلولية أو النفاة للحلول والمباينة ونحوهم إنما يثبتون وجودا مطلقا لا يعين ولا يشار إليه بل يقولون بلا إشارة ولا تعيين وهؤلاء يثبتون وجودا مطلقا كليا لا يعينونه لا ببواطنهم ولا بظواهرهم
ولهذا يبقون في حيرة واضطراب تارة يجعلونه حالا في المخلوقات لا يختص بشيء وتارة يسلبونه هذا وهذا ويقولون : الحق لا يقيد ولا يخصص ولا يقبل الإشارة والتعيين نحو ذلك من العبارات التي مضمونها في الحقيقة نفي ثبوته في الخارج فإن كل موجود في الخارج فإنه متعين متميز عن غيره مختص بخصائصه التي لا يشركه فيها غيره
وهذا هو المقيد في اصطلاحهم وهم يظنون أن ما ذكره ثابت في الخارج لكنهم ضالون في ذلك وضلالهم كضلال في أمور كثيرة لا توجد إلا في الأذهان ظنونا ثابتة في الأعيان ومن هنا ضل من ضل في مسألة المعدوم : هل هو شيء أم لا ؟ وفي مسألة الأحوال وفي مسألة وجود الموجودات : هل هو ماهيتها الثابتة في الخارج أو غير ذلك ؟ والكلي الطبيعي : هل هو ثابت في الخارج أم لا ؟
وجماع أمرهم أنهم جعلوا الأمور العقلية التي لا تكون ثابتة إلا في العقل - كالمطلقات الكلية ونحوها - أمورا موجودة ثابتة في الخارج وزعموا أن هذا هو الغيب الذي أخبرت به الرسل وذلك ضلال
فإن الغيب الذي أخبرت به الرسل هو مما يمكن الإحساس به في الجملة ليس مما لا يمكن الإحساس به لكن مشاهدته والإحساس به يكون بعد الموت وفي الدار الآخرة
وهناك الحياة وتوابعها من الإحساس والعمل أقوى وأكمل فإن الدار الآخرة لهي الحيوان
فالرسل لم تفرق بين الغيب والشهادة لأن أحدهما معقول والآخر محسوس كما ظن ذلك من ظنه من المتفلسفة والجهمية ومن شركهم في بعض ذلك وإنما فرقت بأن أحدهما مشهود الآن والآخر غائب عنا لا نشهده الآن ولهذا سماه الله تعالى غيبا
قال تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } لم يسمه مقولا وقد بسط الكلام على هذا في موضعه
والمقصود هنا أن ما عرف وصفه تعرف عينه بوجه من وجوه الإحساس إما بذاته وإما ببعض خصائصه والله تعالى يختص بما فوق العالم فالعباد يشيرون إلى ذلك ويعلمون أن خالق العالم هو الذي فوق العالم لا يشركه في ذلك أحد وهذا العلم قد يحصل بالفطرة وقد يحصل بالاستدلال والقياس وقد يحصل بالسمع من الرسل كما أخبرت بأن الله فوق العالم
ولهذا قال فرعون : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا }
ولهذا كان معراج نبينا صلى الله عليه و سلم إلى السماء وكذلك سائر ما تعرفه القلوب من خصائصه
وقد يقال : هو تعيين يمكن حصوله بدون السمع وذلك أن معرفة عينه بالمشاهدة لا تحصل في الدنيا فلم يبق إلا معرفة عينه بغير هذه الطريق كما يعرف عين الرسول صلى الله عليه و سلم من لم يشاهده بمعرفة ما يعرفه من خصائصه
وأما القائل : إن عينه لا تعرف إلا بالسمع فقد يقول : إن ما حصل للقلوب من معرفة عينه إنما حصل بالسمع
والناس متنازعون في كونه فوق العالم : هل هو من الصفات التي تعلم بالعقل ؟ كما هو قول أكثر السلف والأئمة وهو قول ابن كلاب و ابن كرام وآخر قولي القاضي أبي يعلى أو هو من الصفات السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع كما هو قول كثير من أصحاب الأشعري وهو أول قولي القاضي أبي يعلى وطائفة معه
فابن أبي موسى وأمثاله قد يقولون بهذا ويقولون : لم نعلم ذلك إلا بالسمع
ويقولون : لم تعلم أنه فوق السماء إلا بالسمع لكن كلامه أعم من ذلك
وكلامهم يصح إذا فسر بأنواع من التعيين التي لم تعلم إلا بالسمع كالصفات الخبرية أو فسر بأن السمع هو الذي أرشد العقول إلى ما به يعلم التعيين وأنه لولا إرشاد السمع لم يعلم ذلك أو بأنه أراد بالتعيين معرفة الأسماء والصفات القولية التي يوصف الله بها أو أراد بذلك أن كثيرا من الناس - أو أكثرهم - لا تحصل لهم معرفة شيء من التعيين إلا بالسمع
وكثير ممن يقول بوجوب النظر وأنه أول الواجبات أو أول الواجبات : المعرفة يقولون مع ذلك : إن المعرفة لا تحصل إلا بالشرع كما ذكر ذلك أبو فرج المقدسي وابنه عبد الوهاب و ابن درباس وغيرهم كما قال من قال قبلهم : إنها لا تحصل إلا بالشرع
وهؤلاء يريدون بالعقل : الغريزة ولوازمها من العلوم التي تحصل لعامة العقلاء وأن ذلك مجردة لا يوجب المعرفة بل لا بد من أمر زائد على ذلك كما قالوا في استدلالهم : إن المعرفة لو كانت بالعقل لكان كل عاقل عارفا ولما وجد جماعة من العقلاء كفارا دل على أن المعرفة لم تثبت بالعقل
ألا ترى أن ما يدرك بالضرورة لا يختلف أرباب النظر فيه ؟ وهذا إنما ينفي المعرفة الإيمانية وإلا فعامة العقلاء يقرون بالصانع
وأيضا فهذا ينفي أن تكون المعرفة الإيمانية ضرورية وهو أيضا يوجب أن الطرق العقلية لا تفصل مورد النزاع ولا يحصل عليها الإجماع وهوكما قالوا فإن الطرق القياسية العقلية النظرية وإن كان منها ما يفضى إلى العلم فهي لا تفصل النزاع بين أهل الأرض تارة لدقتها وغموضها وتارةلأن النفوس قد تنازع في المقدمات الضرورية كما ينازع أكثر النظار في كثير من المقدمات الضرورية
ولهذا لم يأمر الله عند التنازع إلا بالرد إلى الكتب المنزلة
قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فجعل الحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه الكتاب المنزل من السماء
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فأمر عند التنازع بالرد إلى الله والرسول
كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي
ولهذا قال هؤلاء المقررون لكون المعرفة لاتحصل بمجرد العقل ما قاله عبد الوهاب ابن أبي الفرج وغيره : ( إنا نقول إن المعرفة لو كانت بالعقل لوجب أن يكون كل عاقل عارفا بالله تعالى مجمعا على رأي واحد في التوحيد ولما وجدنا جماعة من العقلاء كفارا مع صحة عقولهم ودقة نظرهم - دل على أن المعرفة لم تحصل بالعقل لأن العقل حاسة من جملة الحواس فالحواس لا تختلف في محسوساتها ألا ترى أن ما يدرك بالنظر من أسود وأحمر وأخضر وأصفر وحيوان وحجر لا يختلف أرباب النظر فيه ؟ فدل على أن معرفة الله حصلت بمعنى غير العقل لوجود الأختلاف في المعرفة والاتفاق فيما طريقة العقل والحواس )
تعليق ابن تيمية
وتسمية هؤلاء للعقل حاسة من الحواس هومما نازعهم فيه طوائف من أصحابهم وغيرهم كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره والنزاع في ذلك عند التحقيق يرجع إلى اللفظ ولذلك قالوا : لوكان العقل علة في معرفة الباري لوجب أن تحصل المعرفة بوجوده وتعدم بعدمه كالمنظورات تدرك بوجود البصر وتعدم معرفتها ونظرها بعدم البصر وكذلك المسموعات وسائر المحسوساتولما رأينا المسلم يرتد عن الإسلام مع وجود عقله الذي كان به قبل الارتداد مؤمنا علمنا أن المعرفة حصلت له بغير ذلك وكذلك نرى المؤمن بالله يذهب عقله ويحكم بجنونه وهو باق على المعرفة مقر بالتوحيد عارف بالله وعقلاء كثيرون يكفرون بالله ويشركون به فدل على أن المعرفة مستفادة بمعنى غير العقل
وهذا الكلام يقتضي أن مجرد الغريزة ولوازمها لا تستلزم المعرفة الواجبة على العباد وهذا مما لا ينازع فيه أحد فإن من يقول : إن المعرفة تحصل بالعقل يقول : إن أصل الإقرار بالصانع يحصل بعلوم عقلية ولكن ليس ذلك هو جميع المعرفة الواجبة ولا بمجرد ذلك يصير مؤمنا
وهذا العقل هوالعقل الذي هو شرط في الأمر والنهي وقد يراد بالعقل ما تحصل به النجاة كما قال تعالى عن أهل النار : { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }
وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }
وقال تعالى : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }
وقال : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وأمثال ذلك في القرآن
واحتجوا على أن المعرفة لا تحصل بمجرد العقل بقوله تعالى : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله }
وهذه الآية وأمثالها تدل على أن السمع والأبصار والأفئدة لا تنفع صاحبها مع جحده بآيات الله فتبين أن العقل الذي هو مناط التكليف لا يحصل بمجرده الإيمان النافع والمعرفة المنجية من عذاب الله وهذا العقل شرط في العلم والتكليف لا موجب له
احتجوا أيضا بما ذكروه [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : تعلموا العلم فإن تعليمه لله خشية وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه به يعرف الله ويعبد وبه يمجد الله ويوحد هو إمام العمل والعمل تابعه يرفع الله بالعلم أقواما فيجعلهم للناس قادة وأئمة يقتدى بهم وينتهى إلى رأيهم ]
قالوا : فوجه الدليل قوله : ( به يعرف الله ويعبد ) وهذا الكلام معروف عن معاذ بين جبل رضي الله عنه رووه عنه بالأسانيد المعروفة وهو كلام حسن ولكن روايته مرفوعا فيه نظر وفيه : أن الله يعرف ويعبد بالعلم لا بمجرد الغريزة العقلية وهذا صحيح لا ينازع فيه من يتصور ما يقول
ومن يقول : إن المعرفة تحصل بالعقل يقول : إنما تحصل بعلوم عقلية أي يمكن معرفة صحتها بنظر العقل لا يقول : إن نفس العقل - الذي هو الغريزة ولوازمها - يوجب حصول المعرفة والعبادة
وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل أيهما أشرف ؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية فإن العقل قد يراد به : الغريزة وقد يراد به : علم يحصل بالغريزة وقد يراد به : عمل بالعلم
فإذا أريد به علم كان أحدهما من جنس الآخر لكن قد يراد بالعلم : الكلام المأثور عن المعصوم فإنه قد ثبت أنه علم لقوله : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وأمثاله
ويراد بالعقل : الغريزة فهنا يكون أحدهما غير الآخر ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشرف من مسمى العقل فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر
وأيضا فقد تسمى العلوم المسموعة عقلا كما قيل :
( رأيت العقل عقلين ... فمطبوع ومسموع )
( فلا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع )
( كما لا تنفع العين ... وضوء الشمس ممنوع )
وأما العمل لعلم وهو جلب ما ينفع الإنسان ودفع ما يضره بالنظر في العواقب فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة كالآثار المروية في فضائل العقل
ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم وإن كان مرسلا : إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
وبهذا الاعتبار فالعقل يتضمن العلم والعلم جزء مسماه ومعلوم أن مجموع العلم والعمل به أفضل من العلم الذي لا يعمل به
وهذا كما قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة كما قال مالك بن أنس : ( الحكمة معرفة الدين والعمل به ) وكذلك قال الفضيل بن عياض و ابن قتيبة وغير واحد من السلف قال الشاعر :
( وكيف يصح أن تدعى حكيما ... وأنت لكل ما تهوى ركوب )
وقال آخر :
( ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم )
وهذا المعنى موجود في سائر الألسنة لكن لكل أمة حكمة بحسبها كما أن لكل أمة دينا فاليونان لهم ما يسمونه حكمة وكذلك الهند وأما حكمة أهل الملل فهي أجل من ذلك
ومما احتج به هؤلاء أنهم قالوا : لا يدرك بالعقل إلا ما يكنفه العقل ويحيط به علما والباري سبحانه وتعالى لا تدركه العقول ولا تحيط به لقوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } وقوله : { ولا يحيطون به علما }
قال ذو النون المصري : العقل عاجز ولا يدل إلا على عاجز فأما الربوبية فلا سبيل إلى كيفية إدراكها بالعقول ليس هو إلا الرضا والتسليم والإيمان والتصديق ) لكن هذا الكلام وما يشبهه إنما يقتضي أن معرفة كنهه وحقيقته لا تدركه العقول وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وإنما نازع في ذلك طوائف من متكلمي المعتزلة ومن وافقهم
ولهذا كان السلف والائمة يذكرون أنهم لا يعرفون كيفية صفاته كقولهم : ( الأستواء معلوم والكيف مجهول ) وهذا الكيف المجهول هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به
وقد قال ابن عباس : ( التفسير أربعة أوجه : تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله : من ادعى علمه فهو كاذب ) وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات : بين صرف اللفظ عن الأحتمال الراجح إلى المرجوح وبين تفسير اللفظ وبيان معناه وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به وبالمعنى الثالث انفرد الله به وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها
ومما احتج به هؤلاء : القدر وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته
تابع كلام عبد الوهاب بن أبي الفرج المقدسي وتعليق ابن تيمية عليه
قال عبد الوهاب : ( وأيضا فإن الله قال في حق المؤمنين : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } فاعلم أن الإيمان من تفضله وكتبه في القلوب فأي عمل للعقل بعد ذلك ؟ وإنما العقل بمنزلة القارىء للمكتوب فإن كان في القلب شيء مكتوب قرأه العقل كالمسطور يدركه النظر وإذا لم يكن في القلوب شيء مكتوب لم يفد العقل فائدة ) قال : ( ثم نقول : هل نال الأنبياء النبوة بعقولهم ؟ أم باصطفاء الله لهم وإرساله إليهم الملائكة ؟ فإن قال : بعقولهم فقد أكذبه الله تعالى بقوله : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وإذا ثبت أن العقل لم يفد الرسالة والنبوة وإنما ذلك اختصاص من الله لهم كذلك معرفة الله والإيمان به ليس للعقل في ذلك شيء وإنما العقل شرط في التكليف والخطاب بالشرع كالحياة والوجود )قال والده أبو الفرج : قال بعض أصحابنا : عرف بنور الهداية وقال غيره : عرفنا نفسه بتعرفه والجميع واحد
قال : ( وقد روي ذلك عن جماعة من السلف الصالح فسئل بعضهم : أعرفت الله بمحمد أم عرفت الله به ؟ فقال : عرفت الله به وعرفت محمدا بالله ولو عرفت الله بمحمد لكانت المنة لمحمد دون الله )
قلت : هذه الطريقة تصلح أن تكون ردا على القدرية من المعتزلة ونحوهم الذين يقولون : إن ما يحصل باختيار العبد من علم وعمل فإنه هو الذي أحدثه بدون معونة من الله له وله هدى يسره له خصه به دون الكافر بل يجعلون المؤمن والكافر سواء فيما فعل الله بهما من أسباب الهداية حيث أرسل الرسول إليهما جميعا وخلق لكل منهما استطاعة يتمكن بها من الإيمان وأزاح علةكل منهما
بل يقولون : إنه يجب عليه أن يفعل بكل منهما من اللطف الذي يؤمن به اختيارا كل ما يقدر عليه فيفعل به الأصلح في دينه وأنه ليس في المقدور مما يؤمن به اختيار شيء ولكن المؤمنون - كأبي بكر وعلي آمنا بأنفسهما والكفار - كأبي لهب وأبي جهل - كفرا بأنفسهما من غير أن يختص الله المؤمن بأسباب تقتضي إيمانه ولهذا قال لهم الناس : إذا كان الأمر كذلك وهما مستويان في أسباب الإيمان فلما أختص أحدهما بوجود الإيمان منه دون الآخر ؟ وإذا قالوا بمشيئته وقدرته قالوا لهم : إن كان للكافر مثل ذلك بطل الاختصاص وإن لم يكن له مثل ذلك كان المؤمن مخصوصا بأسباب من الهداية لم يحصل مثلها للكافر
وأيضا فإن الله يسأل الهدى إلى الصراط المستقيم في كل صلاة والهدى المشترك بين المؤمن والكافر قد فعله بل يجب عنده عليه فعله فما المطلوب بالدعاء بعد ذلك ؟
وأيضا فإن الله تعالى قال : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآية فبين أنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان
والقدرية من المعتزلة والشيعة تتأول ذلك بأنه حبب الإيمان إلى كل مكلف وزينة بما أظهره من دلائل حسنه وكره الكفر بما أظهر من دلائل قبحه
فيقال لهم : أول الآية وآخرها خطاب للمؤمنين بقوله : { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } وقال في آخرها : { أولئك هم الراشدون } فبين أن الذين حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر هم الراشدون والكفار ليسوا براشدين ولو كان قد فعل بالكفار كما فعل بهم لم يصح أن يمتن عليهم بما يشعر اختصاصهم به
كما قال في أثناء السورة : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فلو كان المراد بالهداية الهداية التي يشترك فيها المؤمن والكافر لم يقل : إن كنتم صادقين فإن تلك حاصلة سواء كانوا صادقين في قولهم أمناء أولم يكونوا صادقين
وهذا كقوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } وأمثال ذلك مما يبين اختصاص المؤمنين بهدى ليس للكفار
كقوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا }
وقوله : { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة }
وقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } ومثل هذا في القرآن كثير وليس هذا موضع بسط هذه المسألة ولكن المقصود التنبيه على المأخذ
فالمعتزلة يقولون إن ما يحصل بكسب العبد واختياره من المعرفة ليس مما جعله الله في قلبه ويقولون : إن المعرفة الواجبة لا تكون مما يقذفها الله في قلب العبد لأن الواجب لا يكون إلا مقدورا للعبد ومقدورات العباد عندهم لا يفعلها الله ولا يحدثها ولا له عليها قدرة وقد يقولون : إنه لا يستحق الثواب إلا على مقدوره
ولهذا يقول من يقول منهم : إنه يمتنع أن تكون ضرورية لأنه حينئذ لا يستحق عليها الثواب لكن هنا هم متنازعون فيه لإمكان أن يكون الثواب على ما سوى ذلك كما أن الحياة والقدرة على النظر والعلوم الضرورية هي من خلق الله عندهم ولا ثواب فيه ولا أجر لها
ولهذا جوز أهل الإثبات أن تقع المعارف النظرية ضرورية وبالعكس ولأن ذلك لا ينافي ما وعد الله به من الثواب عندهم بل يجوز عندهم أن يجعل الله في قلب العبد من معرفته ومحبته ما يحصل بغير كسبه ويثيبه عليه أعظم الثواب
فالذين احتجوا من أهل السنة على أن المعرفة والإيمان تحصل للعبد بفضل الله ورحمته وهدايته وتعريفه ونحو ذلك من العبارات يتضمن قولهم إبطال قول هؤلاء القدرية
وهذا صحيح لكن ليس في ذلك ما يقتضي أن المعرفة لا يمكن أن تحصل بنظر العقل كما أنه ليس في ذلك ما يقتضي أنها لا تحصل بتعليم الرسول والعلماء والمؤمنين ودعائهم وبيانهم واستدلالهم بل من المعلوم أن العلم يحصل في قلب العبد تارة بما يسمعه من الناس من البيان والتعليم : إما إرشادا إلى الدليل العقلي وإما اخبارا بالحق الواقع
وتحصل تارة بما يقذفه في قلبه من النظر والاعتبار والاستدلال الذي ينعقد في قلبه كما يحصل تارة بكسبه واستدلاله
ويحصل تارة بما يضطره الله إليه من العلم من غير إكتساب منه وإن كان العلم الذي حصل باكتسابه ونظره هو مضطر إليه في آخر الأمر فلا يمكن العالم العارف بعد حصول المعرفة في قلبه بدليل أو غير دليل أن يدفع ذلك عن قلبه اللهم إلا بأن يسعى فيما يوجب نسيانه وغفلته عن ذلك العلم وقد لا يمكنه تحصيل الغفلة والنسيان
وذلك أن ما كتبه الله في قلوب المؤمنين من الإيمان سواء حصل بسبب من العبد كنظره واستدلاله أو بسبب من غيره أو بدون ذلك هو والأسباب التي بها حصل بقضاء الله وقدره وهي من نعمة الله على عبده فإن الله هو الذي من بالأسباب والمسببات فمن ظن أن المعرفة والإيمان يحصل بمجرد عقله ونظره واستدلاله - كما تقوله القدرية - كان ضالا وهذا هو الذي أبطله هؤلاء
وقولهم : إن العقل شرط في التكليف والخطاب كالوجود والحياة كلام صحيح والشرط له مدخل في حصول المشروط به كما للحياة مدخل في الأمور المشروطة بها
والعقل قد يراد به الغريزة وقد يراد به نوع من العلم ونوع من العمل وكل هذه الأمور هي من الأمور المعينة على حصول الإيمان ولهذا يتفاضل الناس في الإيمان بحسب تفاضلهم في ذلك
وأهل السنة لا ينكرون وجود ما خلقه الله من الأسباب ولا يجعلونها مستقله بالآثار بل يعلمون أنه ما من سبب مخلوق إلا وحكمه متوقف على سبب آخر وله موانع تمنع حكمه كما أن الشمس سبب في الشعاع وذلك موقوف على حصول الجسم القابل به وله مانع كالسحاب والسقف
والله خالق الأسباب كلها ودافع الموانع ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في خطبته : [ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ]
كما قال تعالى : ( { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } وقال تعالى : { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } وقال تعالى : { ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه }
ولهذا كان مذهب أهل السنة أن ما يحصل بالقلب من العلم وإن كان بكسب العبد ونظره واستدلاله واستماعه ونحو ذلك فإن الله تعالى هو الذي أثبت ذلك العلم في قلبه وهو حاصل في قلبه بفضل الله وإحسانه وفعله
والقدرية لا يجعلونه من فعل الله بل يقولون : هو متولد عن نظره كتولد الشبع عن الأكل والري عن الشرب والجرح عن الجرح فيجعلون هذه الأمور المتولدات عن الأسباب المباشرة من فعل العبد فقط كما يقولون في الأمور المباشرة
وقد عارضهم من ناقضهم من متكلمة الإثبات فلم يجعل للعبد فعلا ولا أثرا في هذا المتولدات بل جعلها من مخلوقات الله التي لا تدخل تحت مقدور العباد ولا فعلهم ولم يجعل للعبد فعلا إلا ما كان في محل قدرته وهو ما قام ببدنه دون ما خرج عن ذلك
والقول الوسط أن هذه الأمور التي يقال لها المتولدات حاصلة بسبب فعل العبد وبالأسباب الأخرى التي يخلقها الله فالشبع يحصل بأكل العبد وابتلاعه وبما جعله الله في الإنسان وفي الغذاء من القوى المعينة علىحصول الشبع
وكذلك الزهوق حاصل بفعل العبد وبما جعله في المحل من قبول الانقطاع وهو سبحانه خالق للأثر المتولد عن هذين السببين اللذين أحدهما فعل العبد وهو خالق للسببين جميعا
ولهذا كان العبد مثابا على المتولدات والله تعالى يكتب له بها عملا وقد ذكر الأفعال المباشرة والمتولدة في آيتين في القرآن
قال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح } فهذه الأمور كلها هي مما يسمونه متولدا فإن العطش والتعب والجوع هو من المتولدات وكذلك غير الكافر
وكذلك ما يحصل فيهم من هزيمة ونقص نفوس وأموال وغير ذلك ثم قال تعالى : { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم } فالإنفاق وقطع الوادي عمل مباشر فقال فيه : { إلا كتب لهم } ولم يقل : به عمل صالح
وأما الجوع والعطش والنصب وغيظ الكفار ما ينال منهم فهو من المتولدات فقال فيه : { إلا كتب لهم به عمل صالح } فدل ذلك على أن عملهم سبب في حصول ذلك وإلا فلا يكتب للإنسان بدون سبب من عمله بل تكتب الآثار لأنها من أثر عمله
قال تعالى : { نكتب ما قدموا وآثارهم }
وقال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : [ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ]
وقال في الحديث الصحيح : [ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ]
ولهذا كانت هذه التي يسمونها المتولدات يؤمر بها تارة وينهى عنها أخرى كما قال تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }
وقال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم }
وقال : { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } وقال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين }
فأخبر أنه هو المعذب بأيدي المؤمنين فهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن القدرية لما كانت تزعم أن ما يحصل من الإيمان في القلب ليس من فعل الله بل هو من فعل العبد فقط وأنه خارج عن مقدور الله وعن ما من الله به على العبد - كان ما ذكر ردا عليهم
وأما من أقر بأن ذلك من فضل الله وإحسانه وجعل ما يحصل بالنظر والاستدلال من فضل الله وإحسانه فلا حجة عليه إذا قال إنه بنظر العقل واستدلاله قد يهدي الله العبد ويجعل في قلبه علما نافعا
وقد تنازع أهل الإثبات في اقتضاء النظر الصحيح للعلم : هل هو بطريق التضمن الذي يمتنع الفكاكة عنه عقلا ؟ أو بطريق إجراء الله العادة التي يمكن نقضها ؟ وبكل حال فالعبد مفتقر إلى الله في أن يهديه ويلهمه رشده وإذا حصل له علم بدليل عقلي فهو مفتقر إلى الله في أن يحدث في قلبه تصور مقدمات ذلك الدليل ويجمعها في قلبه ثم يحدث العلم الذي حصل بها
وقد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا ويهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه فلا حول ولا قوة إلا به
فمن اتكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته خذل ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم في الأحاديث الصحيحة كثيرا ما يقول : [ يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ] ويقول في يمينه : [ لا ومقلب القلوب ] ويقول : [ والذي نفسي بيده ] ويقول : [ ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن وإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ]
وكان إذا قام من الليل يقول : [ اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذانك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ] وكان يقول هو وأصحابه في ارتجاجهم :
( اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا )
( فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا )
وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده فيكون من المعاندين الجاحدين
قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }
وقال : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } فكما أن الإنسان فيما يكتسبه من الأعمال مفتقر إلى الله محتاج إلى معونته فإنه لا حول ولا قوة إلا به كذلك فيما يكتسبه من العلوم ومع هذا فليس لأحد حجة على الله في أن يدع ما أمر به من الأسباب التي يحصل بها العلم النافع والعمل الصالح ولكن الشأن في تعيين الأسباب فيذم من المعتزلة أنهم أحدثوا طرقا زعموا أن معرفة الله لا تحصل إلا بها وزعموا أن المعرفة تجب بها بفعل العبد لا بفعل الله
ومن الناس من قد يوافقهم على إحدى البدعتين دون الأخرى وكثير من الناس قد اختلف كلامه في هذا الأصل تارة يقول : إن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويجعل أول الواجبات النظر أو المعرفة الحاصلة به وقد يعين طريق النظر كما فعل ذلك القاضي أبي يعلى في المعتمد موافقة للقاضي أبي بكر وأمثاله من الموافقين في هذا الأصل للمعتزلة وكما فعل ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم
ومن توابع ذلك أن النظر المفيد للعلم لا يكون إلا نظرا في دليل والنظر الذي يوجبونه يكون نظرا فيما يعلم الناظر أنه دليل لأنه لو علم قبل النظر أنه دليل لعلم ثبوت المدلول وإذا كان عالما به لم يحتج إلى الاستدلال عليه فيوجبون سلوك طريق لا يعلم السالك أنه طريق
كلام أبي يعلى عن عدم وجوب النظر
ثم أن القاضي أبا يعلى في كتابه المعروف بعيون المسائل الذي صنفه في الخلاف من المعتزلة والأشعرية ذكر ما يخالف ذلك فقال : ( مسألة : مثبتو النبوات تحصل لهم المعرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول خلافا للأشعرية في قولهم : لا تحصل حتى ننظر نستدل بدلائل العقول دليلنا أن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علمنا أن هناك مرسلا أرسله إذ لا يكون هناك نبي إلى وهناك مرسل وإذا ثبت أن هناك مرسل أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته ولأنه لما لم يقف وجود المعرفة على النظر في دلائل العقول بل وجبت بالشرع كذلك طريقها جاز أن يحصل بالشرع دون دلائل العقول ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ] فحكم بصحة إيمانهم بالدعاء إلى الشهادتين والإجاب إليها من غير أن يوجد منهم نظر واستدلال )قال : ( واحتج المخالف بأن الله أمر بالنظر والاستدلال في دلائله فقال تعالى : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وقال : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }
وقال : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها }
وقال : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } وإذا أمر بذلك دل على أن النظر يثمر المعرفة )
قال : ( والجواب أنا لا نمنع حصول المعرفة به وإنما كلامنا هل تحصل بغيره أم لا ؟ وقد دللنا على حصوله بغيرها من الوجه الذي ذكرنا )
تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : أما قوله : ( إن المعرفة يجوز حصولها بالشرع ) فهذا مسلم لكن حصولها بالشرع على وجوه :أحدهما : أن الشرع ينبه على الطريق العقلية التي بها يعرف الصانع فتكون عقلية شرعية
الثاني : أن المعرفة المنفصلة بأسماء الله وصفاته التي بها يحصل الإيمان تحصل بالشرع كقوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }
وقوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
وقوله : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله هدى العباد بكتابه المنزل على نبيه
كلام الفرج الشيرازي عن وجوب المعرفة بالشرع
وأما كون مجرد الوجوب بالشرع فلا يدل على إمكان الحصول بمجرد الشرعونظير هذا استدلال طائفة كالشيخ أبي الفرج الشيرازي على أ وجوبها وحصولها بالشرع فقالوا : ( لا يخلو إما أن تكون معرفة الباري وجبت أو حصلت بالشرع دون العقل أو بالعقل دون الشرع أو بهما جميعا لا يجوز أن يكون ذلك بالعقل دون الشرع لما بينا
ولا يجوز أن يكون ذلك بالشرع والعقل لأنه لا يخلو إما أن يكون ما يعرف بالعقل يوجد في الشرع أو لا يوجد ولا يجوز أن يقال : لا يوجد في الشرع لأن الله تعالى قال : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وإذا كان ذلك موجودا في الشرع فلا حاجة بنا إلى ذكر العقل )
تعليق ابن تيمية
فيقال : هذه الطريقة تفيد أن ذلك موجود في الشرع ويستدل على ذلك بقوله : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء }وقوله : { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء }
وقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } ونحو ذلك مما فيه الاستدلال بذلك أجود من الاستدلال بقوله : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } لأن الكتاب هنا في أشهر القولين - هو اللوح المحفوظ كما يدل عليه السياق في قوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء }
وإذا كان الشيء موجودا في الشرع فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطريق العقلية والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها والقرآن ملآن من ذلك فتكون شرعية بمعنى أن الشرع هدى إليها عقلية بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل فقد جمعت وصفي الكمال
وأيضا فإذا كان الشرع قد دل على شيء أو أوجبه وقدر أن في العقل ما يوافق ذلك لم يضر ذلك وإن كان قد يستغنى عنه فلا يطعن في صحته للاستغناء عنه
وأما كون النبي صلى الله عليه و سلم لم يطالب الناس بالنظر والاستدلال فهذا دليل قاطع على أن الواجب متأدى بدون الطرق التي أحدثها الناس وأبدعها
وأما الوجه الأول وهو قوله : ( إن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجز علم أن هناك مرسلا أرسله لكون ثبوت لارسالة يستلزم ثبوت المرسل ) فهذا لا بد فيه من تقدير وهذا الكلام الذي قاله من أن العلم بالرسول يتضمن العلم بالمرسل كلام صحيح فإن العلم بالإضافة يستلزم العلم بالمضاف والمضاف إليه لكن المعترض يقول له : المعجزة لا تدل على الرسالة إلا بعد العلم بإثبات الصانع ثم يعلم بعد ذلك صدق الرسول إما لكون المعجز يجري مجرى التصديق والعلم بذلك ضروري في العادة وإما لكون المعجز لم يدل على الصدق للزم عجز الرب عن طريق يصدق به الرسول وإما لكون تصديق الكذاب قبيحا هو منزه عن فعل القبيح ونحو ذلك من الطرق التي سلكوها من سلكها من أهل النظر القائلين بأن صدق الرسول لا يعرف إلا بالمعجزة
والطريقان الأولان هما طريقا الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأمثاله والثاني هو طريق المعتزلة ومن وافقهم كأبي الخطاب وأمثاله
وأما القائلون بأن صدق الرسول يعرف بطرق أخرى غير المعجزة فلا يحتاجون إلى هذا وقد بسط الكلام على ذلك في موضعه
والمقصود هنا أن قول القائل : إن مثبتي النبوات تحصل لهم معرفة بالله بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول وإنا لا نمنع صحة النظر ولا نمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا : هل يحصل بغيره ؟ يحتاج إلى بيان حصول المعرفة لمثبتي النبوات
و القاضي في هذا قد سلك مسلك الخطابي كما قد كتبنا كلامه وقد قال : ( إنما يثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه : أحدها : ثبوت النبوات بالمعجزات التي أوردها نبيهم ) إلى قوله : ( فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في أنفسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله وإثبات صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن له صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته ) إلى آخر كلامه
وهذا الكلام يمكن تقريره بطرق :
أحدها : بأن يقال : الإقرار بالصانع ضروري لا يحتاج إلى نظر فإذا شوهدت المعجزات أمكن أن يعلم بها صدق الرسول
الثاني : أن يقال : نفس المعجزات يعلم بها صدق الرسول المتضمن إثبات مرسله لأنه دالة بنفسها على ثبوت الصانع المحدث لها وأنه أحدثها لتصديق الرسول وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدم من العبد معرفة الإقرار بالصانع
وقد يقال : إن قصة موسى من هذا الباب قال تعالى : { كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين * أن أرسل معنا بني إسرائيل * قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين * وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين * قال فعلتها إذا وأنا من الضالين * ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين * وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل * قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين * قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون * قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم * فجمع السحرة لميقات يوم معلوم * وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين * فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين * قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون * فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون * فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين }
وفي سورةطه : { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى } إلى آخر القصة
ففرعون كان منكرا للصانع مستفهما عنه استفهام إنكار سواء كان في الباطن مقرا به أو لم يكن ثم طلب من موسى آية فأظهر آيته ودل بها على إثبات إلهية ربه وإثبات نبوته جميعا
كما قال : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين * قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }
ولهذا قال السحرة لما عارضوا معجزته بسحرهم فبطل سحرهم تبين أن تلك آية لا يقدر عليها المخلوقين : { قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون } فكان إيمانهم بالله لما شاهدوا معجزة موسى صلى الله عليه و سلم فكانت المعجزة مبينة للعلم بالصانع وبصدق رسوله
وذلك أن الآيات التي يستدل بها على ثبوت الصانع تدل المعجزة كدلالتها وأعظم وإذا كانت دلالتها على صدق الرسول معلومة بالاضطرار كالمثل الذي ضربوه في أن رجلا لو تصدى بحضرة ملك مطاع وقال : إن كنت رسولك فانقض عادتك وقم ثم اقعد ثم قم ثم اقعد فخرق الملك عادته وفعل ما طلبه المدعي على وفق دعواه - لعلم الحاضرون بالضرورة أنه فعل ذلك تصديقا له
فمن المعلوم أنه إذا تنازع رجلان : هل داخل هذه الدار ناسخ يكتب خطا مليحا ؟ فأخذ المدعى ورقا أبيض ومعه شعر قد صنعوه في تلك الحال في ورقة أخرى وقال : إن كان هناك ناسخ فلينسخ هذا الشعر في هذه الورقة البيضاء فأخرجت إليهم الورقة البيضاء وقد كتب فيها ذلك الشعر - تيقنوا أن هناك من ينسخ
فكذلك من نازع في إثبات صانع يقلب العادات ويغير العالم عن نظامه فأظهر المدعي للرسالة المعجز الدال على ذلك - علم بالضرورة ثبوت الصانع الذي يخرق العادات ويغير العالم عن نظامه المعتاد
وبالجملة فانقلاب العصا حية أمر يدل على ثبوت صانع قدير عليم حكيم أعظم من دلالة ما اعيد من خلق الإنسان من نطفة فإذا كان ذاك يدل بنفسه على إثبات الصانع فهذا أولى وليس هذا الموضع بسط هذا
وإنما المقصود التنبيه على أن المعجزات قد يعلم بها ثبوت الصانع وصدق رسوله معا وما ذكرناه من كون الإقرار بالصانع فطري ضروري هو قول أكثر الناس حتى عامة فرق أهل الكلام قال بذلك طوائف منهم من المعتزلة والشيعة وغيرهم
وكون المعرفة يمكن حصولها بالضرورة لم ينازع فيه إلا شذوذ من أهل الكلام ولكن نازع كثير منهم في الواقع وزعم أن الواقع أنها لا تحصل لأكثر الناس إلا بالنظر وجمهور الناس نازعوه في هذا وقالوا : بل هي حاصلة لأكثر الناس فطرة وضرورة
كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
و ابن الزاغوني ممن يقول بوجوب النظر وأن المعرفة لا تحصل إلا به حتى قال : ( فصل : إذا قال القائل : أنا أعتقد حدوث العالم والتوحيد وصحة الدين وأقر بالنبوة لا بطريق النظر ولااستدلال ولا عن نظر في حجة أو دليل لكن بطريق التقليد في ذلك أو مما سوى ذلك مما لا يستدل إلى معرفة ثابتة عن نظر في حجة أو دليل بحيث ينتهي الاستدلال إلى العلم الحق فهذا ليس هو بمؤمن ولا نحكم بأنه مؤمن عند الله ولا يثاب على هذا الإيمان بل هو معاقب ملوم على ترك ما أمر به من العلم بالله وصحة الدين والنبوة والنظر فيما يقتضي به النظر فيه إلى معرفته بذلك بطريق اليقين )قال : ( وقالت طائفة : هو مؤمن عندنا وعند الله إذا صادق اعتقاده التوحيد والنبوة وما يجب عليه اعتقاده من الحق في المعارف الدينية سواء كان ممن يتهيأ له ذلك بطريق انقطع فيه بأدلته أو ممن لا يتهيأ له ذلك )
قال : ( وقالت طائفة : هو مؤمن في الظاهر عندنا ولا نعلم : هل هو مؤمن عند الله أم لا ؟ وقالت طائفة : نحكم بأنهم مؤمنون ما لم يخطر ببالهم ما يخالف ذلك من التشبيه والحيز وإبطال النبوات وأعراض الشبه في ذلك فإذا خطر لهم شيء من ذلك وجب عليهم النظر والاستدلال لدفعه وأن لا يتمكثوا ولا يتثبطوا عن النظر حتى يصلوا إلى عين الحق الرافع للشبهة فإن لم يصلوا إلى ذلك لم يؤدوا ما فرض عليهم من الإيمان علىحقه وإن عجزوا عن ذلك لم يكن عجزهم عذرا عن الوصول إلى حقيقة الحق )
قال : ( وقالت طائفة : لا يجب عليهم ذلك ويحل لهم البقاء على ما هم عليه وأن لا يعتقدوا في ذلك شيئا مع القيام على السنة )
قال : ( والدلالة عليه أنا قد قدمنا الدليل على وجوب معرفة الله وسائر المعارف الدينية : من التوحيد وصحة النبوة والدين وبينا أن حقيقة المعرفة إنما تكون بالعلم وأبطلنا أن يكون التقليد طريقا إلىالعلم وإنما يصل إلى العلم به واليقين فيه إذا خرج عن الشبهة العارضة الموجبة للشك الناقلة عن الحق وإذا ثبت ذلك بالأدلة المتقدمة فمدعي المعرفة مع ترك النظر والاستدلال - المؤدي إلى الدليل القاطع المتوقف على حقيقة التوحيد والمعارف الدينية - مبطل وإذا كان مبطلا في معرفته لم نحكم بإيمانه لأن الإيمان ها هنا هو التصديق وإنما يصدق بما يزول معه الشك ويبرأ من عهدة الاشتباه ) وبسط الكلام في ذلك العادة المعروفة
وقد قال في كتابه الكبير الذي سماه منهاج الهدى : ( فصل في معرفة الله وسائر معارف الدين : كسبية وليست حاصلة بطريق الضطرار )
قال : ( وقال طوائف منهم الجاحظ و صالح قبة و فضل الرقاشي والصوفية وكثير من الشيعة : معارف الدين كلها حاصلة بطريق الضرورة ثم اختلفوا بعد ذلك فقال طائفة منهم صالح قبة : إن الله جعل معارف دينه ضرورة يبتديها ويخترعها في قلوب البالغين من غير سبب متقدم ولا بحث ولا نظر وهو قول طائفة من الشيعة
وقالت طائفة من الشيعة : إن الله يخترعها في قلوب البالغين لكن من المحال أن يفعلها فيهم إلا بعد فكر ونظر يتقدمها ثم يهب الله المعرف لمن أحب كما يهب الولد عند الوطء وقد يجوز أن لا يهبها مع النظر كما لا يهب الولد مع الوطء
وقالت طائفة من الشيعة : الخلق مضطرون إلى المعارف بالأسباب فإذا حصلت عن الأسباب كانوا مختارين للمعرفة مضطرين إليها في حال واحدة فيكون مضطرا للسبب مختارا للإرادة
وقال طائفة من المعتزلة القائلين بأن المعرفة ضرورة : إن الله لا يخترع شيئا من أمور الدين والدنيا وعلومهمااختراعا ولكنها تحدث من بعد الإرادة وطباعا وأن الله خلق العباد وهيأهم لاكتساب الإرادة وما يحدث بعدها من نظر وغيره فهو واقع بالطبع وليس يضاف إلى الإنسان إلى على سبيل المجاز والاتساع )
قال : ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم غيلان بن مروان : إن معرفة الإنسان لنفسه ومعرفة صانعه وأنه غيره يضطر الإنسن إليها بالطبع فأما باقي المعارف الدينية فكلها اكتساب )
قال : ( وقالت طائفة منهم أبو الهذيل العلاف : معرفة العلم والدليل الذي يدعو إلى معرفة الصانع إضطرار فأما ما يحدث بعدها من علم فعام بالقياس فذلك علم اختيار واكتساب )
قال : ( وقالت : طائفة منهم بشر بن المعتمر : معرفة الإنسان لنفسه ليست من فعله ولا من كسبه ولا اضطرار إليها بل تخترع له وتخلق مخترعة في قلبه وما يدرك بالحواس من علوم الديانات وغيرها اضطرار وما يعلم بالقياس اكتساب ويجوز فيهما جميعا الاضطرار ويجوز فيهما جميعا أن يكونا اكتسابا )
قال : ( وقالت طائفة منالمعتزلة : الناس مضطرون إلى ذلك على كل حال وليس لهم في ذلك حيلة )
قال : ( وقالت طائفة من المعتزلة منهم الجاحظ : معرفة الله تقع ضرورة في طباع نامية عقب النظر والاستدلال )
قال : ( وقالت الجبرية ومتقدمهم جهم بن صفوان : معرفةالله تقع باختيار الله لا باختيار العبد وبنوه عل مذهبهم في الخبر )
قال ابن الزاغوني : ( وتفيد هذه المسألة فائدة حكيمة وهو أن القائل بمعرفة الله واجبة بطريق الكسب يقول : إن الله يعاقب العبد على جهله بالله وجهله بالدين واعتقاد الباطل وأمامن قال : إنها ضرورية فإنه يقول : فائدة ذلك أنه لا يجوز أن يعذب الله الجاهل على جهله وعل أنه لم يكتسب المعرفة لأن ذلك ليس من مقدوراته وإنما يعذبه على جحده وإنكاره لما عرفه إياه بطريق اضطراره له إليه )
فصل
وما ذكرناه من أن الرسل صلوات الله عليهم بينوا للناس الطرق العقلية ونبهوهم عليها وهدوهم إليها كما أنه معلوم لنا فهو مما ذكره طوائف من أئمة الكلام والفلسفة وأعظم المتكلمين المعظمين للطرق العقلية هم المعتزلة فإنهم يقولون : كما أن المعرفة لا تحصل ابتداء إلا بالعقل فإنهم يقولون بأنها واجبة بالعقل بناء على القول بأن العقل يعرف به الإيجاب والتحريم والتحسين والتقبيحوهذا الأصل تنازع فيه المتأخرون من عامة الطوائف فلكل طائفة من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد فيه قولان وأما الحنفيه فالمعروف عنهم القول بتحسين العقول وتقبيحه ونقلوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى
ولأصحاب الحديث والصوفية وغيرهم في هذا الأصل نزاع ومن القائلين بتحسين العقل وتقبيحه من أهل الحديث أبو نصر السجزي و أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري التي لم يسبق إليها وممن قال ذلك من أصحاب أحمد أبو الحسن التميمي و أبو الخطاب وغيرهما بل ذكروا أن هذا قول جمهور الناس وذكروا مع ذلك أن الرسل أرشدت إلى الطرق العقلية كما أمرت بالواجبات العقلية فهم مع قولهم بتحسين العقل وتقبيحه يقولون : إن الرسل بينت ذلك ووكدته وهكذا مع قولهم بأن المعرفة تحصل بالأدلة العقلية يقولون : إن الرسل بينت ذلك ووكدته فما يعلم بالعقل من الدين هو عندهم جزء من الشرع والكتاب - والسنة - يأتي على المعقولات الدينية عندهم
كلام الكلوذاني في تمهيده وتعليق ابن تيمية
قال أبو الخطاب في تمهيده : ( اختلف أصحابنا : هل في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا ؟ فقال أبو الحسن التميمي : في قضايا العقل ذلك حتى لا يجوز أن يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجابا كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة ونحو ذلك ولا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظورا نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والخيانة وما أشبه ذلك )قال : ( وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة )
قال : ( وقل شيخنا - يعني القاضي أبي يعلى - : ( ليس قضايا العقل ذلك وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع وتعلق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار : ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول وإنما هو الاتباع )
قال أبو الخطاب : ( وهذه الرواية - إن صحت عنه - فالمراد به الأحكام الشرعية التي سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وشرعها )
قلت : قول أحمد : ( لا تدركها العقول ) أي أن عقول الناس لا تدرك كل ما سنه رسول لله صلى الله عليه و سلم فإنها لو أدركت ذلك لكان علم الناس كعلم الرسول ولم يرد بذلك أن العقول لا تعرف شيئا أمر به ونهي عنه ففي هذا الكلام الرد ابتداء على من جعل عقول الناس معيارا على السنة ليس فيه رد على من يجعل القول موافقة للسنة )
قال أبوالخطاب : ( ولهذه القول قالت الأشعرية وطائفة من المجبرة وهم الجهمية )
قال : ( وعلى هذا يخرج وجوب معرفة الله : هل هي واجبة بالشرع حتى لو لم يرد ما يلزم أحدا أن يؤمن بالله وأن يعترف بوحدانيته ويوجب شكره أم لا ؟ فمن قال : يجب بالشرع يقول : لا يلزم شيء من ذلك لو لم يرد الشرع ومن قال بالأول : قال : يجب على كل عاقل الإيمان بالله والشكر له
ووجه ذلك أنه لو لم يكن في العقل إيجاب وحظر لم يتمكن المفكر أن يستدل على أن الله سبحانه لا يكذب خبره ولا يؤيد الكذاب بالمعجزة إذ لا وجه في العقل لاستقباحه وخروجه عن الحكمة قبل الخبر عندهم وإذا كان كذلك لم يؤمن العاقل كون كل خبر ورد عنه أنه كذب وكل معجزة رآها أن يكون قد أيد بهذا الكذاب المتخرص وفي ذلك ما يمنع الأخذ بخبر السماء والانقياد لمعجزات النبوة الدالة على صدقها ولما وجب اطراح هذا القول والاعتقاد بأن الله جلت عظمته منزه عن الكذب متعال عن تأييد المتخرص بالمعجزة ثبت أن ذلك إنما قبح وحظر في العقل وامتنع في الحكمة )
قلت هذه طريقة معروفة للقائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ويقولون إنهم يعلمون بتلك أن الله منزه عن أن يفعل القبيح كالكذب وتصديق الكاذب المدعي للنبوة بالمعجزة الدالة على صدقه وإن كان ذلك ممكنا مقدورا له لكن لا يفعله لقبحه وخروجه عن الحكمة وهم يقولون : إنه بهذه الطريقة يعلم صدق الأنبياء
والذين ينازعونهم - كالأشعري وأصحابه و ابن حامد و القاضي أبي يعلى و ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم - يسلكون في المعرفة بتصديق الأنبياء غير هذه الطريق
وإما طريقة القدرة - كما سلكها الأشعري في أحد قوليه والقاضيان أبو بكر و أبو يعلى وغيرهما - وهو أنه لا طريق إلى تصديق النبي غير المعجزة فلو لم تكن دالة على التصديق للزم عجز الباري عن تصديق الرسل
وإما طريقة الضرورة - كما سلكها الأشعري في قوله الآخر و أبو المعالي وطوائف أخر - وإما غير ذلك من الطرق التي بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع
وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذه المسائل بل المقصود أن جميع الطوائف - حتى أئمة الكلام والفلسفة - معترفون باشتمال ما جاءت به الرسل على الأدلة الدالة على معرفة الله وتصديق رسله كما سيأتي ذكره في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين والفلاسفة وغيرهم
قال أبوالخطاب : ( دليل آخر : أنه غير ممتنع أن يخطر للعاقل أنه لم يخلق نفسه ولا خلقه من هو مثله من أبيه وأمه إذ لو كانا قادرين على ذلك لكان هو أيضا قادرا وكانا يقدران على خلق غيره وهو يعلم أنهما لا يقدران فيعلم أن له خالقا من غير جنسه خلقه وخلق أبويه ثم يرى إنعامه عليه بإكماله وتسخير ما سخر له من المأكول والمشروب والأنعام وغير ذلك كإقداره عليهم ويخطر له أنه لم يعترف له بذلك ويشكره أنه يعاقبه وإذا جوز ذلك وجب عليه في عقله دفع الضرر والعقاب بالتزام الشكر
فإن قيل : كما يجوز أن يخطر له ما ذكرتم يجوز أن يخطر له أن له خالقا أنعم عليه وأنه غني عن شكره وجميع ما يتقرب به إليه ويخاف من تكلف له ذلك أن يسخط عليه ويقول : من أنت حتى تقابلني بالشكر وتعتقد أنه جزاء نعمتي ؟ وما أصنع بشكر مثلك ؟ ونحو ذلك وفي هذا ما يمنعه من التزام شيء من جهة عقله )
قال : ( والجواب : أن العاقل مع اعترافه بحكمة خالقه لا يتوهم أنه يسخط على من شكره وتذلل له وتضرع إليه وإن كان غنيا عن ذلك لأن الذي بعثه على الشكر ليس هو اعتقاد حاجة خالقه إلى الشكر ولا أن شكره يقومن بإزاء النعمة عليه فيمتنع لعلمه بغناه عن ذلك وإنما الباعث له حسن الشكر والتذلل والتعظيم للمنعم من بدائه العقول والحكيم لايسخط ما هذا سبيله فإذا قد أمن عاقبة الإقدام على الشكر ولم يأمن عاقبة العقاب على تركه فيجب في عقله توخي ذلك وصار مثال ذلك أن يقال للعاقل : في الطريق مفسدون يأخذون المال ويقتلون النفس أو سباع تفترس الآدمي ويقال له : أنت ما معك قليل نذر والمفسدون قد استغنوا بما قد أخذوا فلعلهم لا يعرضن لك أنفة من قلة مالك والسباع قد افترست جماعة فقد شبعوا فلعلهم لا يعرضون لك فإن في العقل يجب عليه التوقف عن سلوك ذلك الطريق لا الإقدام عليه كذلك ها هنا )
قلت : مضمون ذلك أن العقل يوجب سلوك الأمن دون طريق الخوف
قال : ( دليل ثالث : أنه لو لم يكن في قضاء العقول : إلزام وحظر لأمكن العاقل أن لا يلزمه شيء أصلا لأنه متى قصد بالخطاب سد سمعه فلم يسمع الخطاب
كما أخبر الله عن قوم نوح : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا } فلما علمنا أنه يجوز بعقله أن يكون في الخبر الذي خوطب به نجاته وسلامته من الهلاك وفي الإعراض عنه بسد أذنه هلاكه ودماره ثبت أن في عقله وجوب الإصغاء إلى الخبر وحظر الإعراض عنه وذلك وصية العقل لا السمع )
قال : ( دليل رابع : أن العقلاء أجمعوا على قبح الكذب والظلم والخيانة وكفران النعمة وحسن العدل والإنصاف والصدق وشكر المنعم : من أقر منهم بالنبوة ومن جحدها ولهذا يرى الدهرية وأهل الطبائع في ذلك كأهل الأديان بل أكثر فدل على أنهم استفادوا ذلك من العقل لا من الأنبياء وإذا ثبت أن فيها تحسينا وتقبيحا ثبت أن فيها حظرا وإباحة وقد صرح عليه السلام بذلك لما عرض نفسه على القبائل
دليل خامس : أنا نجد الحمد على الجميل والذم على القبيح يلزمان مع وجود العقل ويسقطان مع عدمه فلولا أنه مقتض للحسن والقبح لم يكن لتخصيص العاقل بالذم على القبيح والمدح على الحسن معنى وإذا قد وجدنا ذلك دل على أن في العقل حظرا أو إلزاما
دليل سادس : أن التكليف محال إلا مع العقل ولهذا لا يكلف الشرع شيئا إلا بعد كمال عقولنا فدل على أن السمع يعلم بالعقول وإذا كان معلوما به والعقل متقدم عليه ولا تقف معرفته على الشرع - استحال أن يقال : طريق معرفة الله السمع وكيف يتصور ذلك ونحن لا نعلم وجوب النظر بقول الرسول حتى نعلم أنه رسول ؟ ولا نعلم أنه رسول حتى نعلم أنه مؤيد بالمعجزة ؟ ولا نعلم أنه مؤيد بالمعجزة حتى نعلم أن التأييد من الله سبحانه ؟ ولا نعرف التأييد من الله حتى نعرفه ونعلم أنه لا يؤيد الكذاب بالمعجزة ؟ ولا نعرف ذلك إلا بفهم العقل الذي هو نوع من العلوم الضرورية ؟ فدل على أن معرفته سبحانه بالعقل
دليل سابع : لو لم تجب معرفته بالعقل لوجب أن يجوز على الله أن ينهي عن معرفته وأن يأمر بكفره وعصيانه والجور والكذب كما يجوز أن ينسخ ما شاء من السمعيات ويوجب ما كان قد نهى عنه فلما لم يكن ذلك دل على أن ذلك غير ثابت بالسمع وإنما يثبت بالعقل الذي لا يتغير ولا يجوز نكثه ونسخه
دليل آخر : أن الله وهب العقل وجعله كمالا للآدمي وإذا أغفل النظر وضيع العقل إذا لم يقتبس منه خيرا وإذا كان لا يقبح شيئا ولا يحسنه فوجوده وعدمه سيان وهذا لا يقوله عاقل
وأيضا يدل على ذلك عبارة ملخصة : أن من وجد نفسه مؤثرا بآثار الصنعة مستغرقا في أنواع النعمة لم يستبعد أن يكون له صانع صنعه وتولى تدبيره وأنعم عليه وأنه إن لم ينظر في حقيقة ذلك ليتوصل إلى الاعتراف له وإلتزام شكره عوقب على ما أغفل من النظر وضيع من الاعتراف والشكر فإن العقل سيلزمه النظر لا محاله إذ لا شيء أقرب إلى الإنسان من النظر فدل على وجوبه بالعقل )
قلت : هذه الأدلة فيها للمنازعين كلام يحتاج معه إلى فصل الخطاب كما ذكر في موضعه وهذه الطريقة التي سلكها أبو الخطاب وغيره من أهل النظر : من المعتزلة وغيرهم بنوها على أن معرفة الله تحصل بالاستدلال بنفس الإنسان ولا يحتاج مع ذلك إلى إثبات حدوث الإجسام كما سلك الأشعري أيضا هذه الطريقة
قال أبو الخطاب : ( احتج الخصم بظواهر الآية كقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولم يقل : حتى نجعل عقولا
وقوله تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ولم يقل : بعد العقل
وقوله : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } وغير ذلك من الآيات فجعل الحجة والعذاب يتعلق بالرسل
فثبت أنه لا بالمعقول حجة ولا عذاب )
وقال : ( والجواب أن الله بعث الرسل يأمرون بالشرائع والأحكام وينذرونهم قرب الساعة ووقوع الجزاء على الأعمال ويبشرونهم على الطاعة وشكر النعمة بدوام النعمة ومزيدها في دار الخلود ويخوفونهم على المعصية بالعذاب الشديد ويكونوا شهودا على أعمالهم
وقد قال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا }
وقال : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا }
وهذا بعد أن يعرفوا الله بعقولهم ويردون الشبهات المؤدية إلى التعطيل والتشبه بالحكمة التي جعلها الله فيهم والنور العقلي المفرق بين الحق والباطل وإلا فنحن نعلم أن المفكر إذا خطر بباله أن الكتاب لعله مخترع مختلق من جهة مخلوق والرسول لعله متخرص متمترق لم يخرج ذلك من قلبه الرجوع إلى الآيات والسنة وهو يتوهم فيها ما ذكرنا إنما يرجع إليه بعد ما ثبت عنده حقيقة التوحيد وصدق الرسول وأن القرآن كلام الله الذي لا يجوز عليه الكذب وعرف محكم الكتاب من متشابه وعرف طرق الأخبار وما يجب فيها فإنه يستغني حينئذ عن النظر بعقله )
قال : ( فإن قيل : هذا توهين لأمر الرسل وجعلهم لا يغنون في التوحيد شيئا وإنما يفيد بعثهم في الفروع وأنه لا فائدة من الآيات التي ذكر فيها التوحيد والدعوة إليه )
ثم قال : ( والجواب : أنا نقول : بل لهم في الأصول أعظم فائدة لأنهم ينبهون العقول الغافلة ويدلون على المواضع المحتاج إليها في النظر ليسهل سبيل الوقوف عليها كما يسهل من يقرأ عليه الكتاب على المتعلم بأن يدله على الرموز ويبين له مواضع الحجة والفائدة وإن كان ذلك لا يغنيه عن النظر في الكتاب وقراءته
وأيضا فإنه بعثهم لتأكيد الحجة فيؤكدون الحجة على العباد كيلا يقولوا : خلقت لنا الشهوات وشغلتنا بالملاذ عن التفكر والتدبر فغفلنا فقطع الله سبحانه حجتهم ألا ترى أنه تعالى قال : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر ثم التدبر للتنبيه )
قلت : فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل وأنها لا تحصل إلا بالعقل ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه من كتب المصنفين لا تقليدا لهم فيما ذكروه لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة والطرق الموصلة التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة أعظم من كلام كل متكلم فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم
و أبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ بل تجب قبل البلوغ بخلاف الواجبات الشرعية
قال : ( واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلا ؟ ولو كان ذلك كذلك لكان من أنكر الحسن والقبح مكابرا لعقله مغالطا لنفسه لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر )
قال : ( والجواب أن للحسن والقبح أصلا في بدائه العقول وهو علمنا بحسن شكر المنعم والإنصاف والعدل وقبح الكذب والجور والظلم ومنكر ذلك مكابر لكافة العقلاء إلا أن من العقلاء من قال : لا أعرف ذلك بضرورة العقل وإنما أعرفه بالنظر والخبر فذلك مقر بالحسن والقبح ومدع غير طريق الجماعة فيه فنتكلم في ذلك ونبين له أن الجاهلية وعبدة الأصنام ومن لم تبلغه الدعوة يعلم ذلك كما يعلمه أهل الأديان فسقط أن يكون طريقه إلا العقل وعلى أن القدم والحدوث لهما أصل في بدائه العقول ثم الخلف في ذلك واقع
ولا يقال : إن مخالفنا مكابر عقله واحتج بأنه أجمع القائلون بأن في العقل إلزاما وحظرا على أنه لا يلزم ولا يحظر إلا بتنبيه يرد عليه فإذا ثبت هذا قلنا : يجب أن يكون ذلك التنبيه بخبر الشرع لا الخواطر لأن الخواطر يجوز أن تكون من الملك ومن الشيطان ومن ثوران المرة وما أشبه ذلك وإذا جاز ذلك فيها لم نلتفت إلى تنبيهها والتفتنا إلى ما تؤثر به وهو خبر الشرع فإذا عدم خبر الشرع ثبت أنه لا إلزام ولا حظر في ذلك )
وقال : ( والجواب أنه لا بد أن ينبه على معرفة حسن الشكر بخطور النعمة بباله من منعم قصد الإحسان إليه فإنه إذا خطر له نعمه عليه - على ما ذكرنا - ألزمه عقله الشكر لا محالة سواء نبه على ذلك وسوسة إو إلهام ولذلك مهما خطر بباله كفران النعمة عرف قبحة ومهما خطر بباله أن القبيح لا يبعد أن يكون سببا لهلاكه وعقابه وأن يكون ضده سببا لنجاته فإنه يلزمه النظر في ذلك سواء كانت الخطرة من الملك أو من الشيطان فثبت أن التنبيه لا يقف على خبر السماء ثم يلزم أن الحدوث والقدم لا يكون إلا بتنبيه ثم ذلك خاطر عقلي ولا يقال : يقف على تنبيه الشرع )
قال : ( واحتج بأن الأمة أجمعت أن التكليف يقف على البلوغ وليس العقل موصوفا بذلك من قبل أن الغلام إذا احتلم فليس يستحدث عقلا وإنما ذلك عقل قبل بلوغه فبان أن العقل لا يوجب شيئا ولا يحظره
وقال : ( الجواب : أن الموقوف من التكليف على البلوغ هو تكليف الشرعيات خاصة فأما الأحكام المتستفادة بالعقل فإنها تلزم الإنسان إذا استفاد من العقل ما يمكنه أن يفعل به بين الحسن والقبيح فلا نسلم ما ذكروه )
قلت : هذا الذي قاله هو قول كثير من الحنفية وأهل الكلام - المعتزلة وغيرهم - من القائلين بتحسين العقل وتقبيحه فإن هؤلاء لهم في الوجوب قبل البلوغ قولان : وكثير ممن يقول بتحسين العقل وتقبيحه هم ونفاة ذلك من الطوائف الأربعة ينفون الوجوب قبل البلوغ
وقد ذكر طائفة من مصنفي الحنفية في كتبهم قالوا : وجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة وقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا عذر لأحد بالجهل بخالقه لما يرى من خلق السماوات والأرض وخلق نفسه وسائر خلق ربه
قالوا : ويروى عنه أنه قال : لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم قالوا : وعليه مشايخنا من أهل السنة والجماعة حتى قال أبو منصور الماتريدي في صبي عاقل : إنه يجب عليه معرفة الله وإن لم يبلغ الحنث قالوا : وهو قول كثير من مشايخ العراق ومنهم من قال : لا يجب على الصبي شيء من قبل البلوغ كما لا تجب عليه العبادات البدنية بالاتفاق )
قلت : هذا الثاني قول أكثر العلماء وإن كان القول بالتحسين والتقبيح يقول به طوائف كثيرون من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد كما يقول به هؤلاء الحنفية وتنازع هولاء الطوائف في مسألة الحظر والإباحة وأن الأعيان قبل ورود الشرع هل هي على الحظر أو الإباحة ؟ لا يصح إلا على قول من يقول : إنه بالعقل يعلم الحظر إو الإباحة وأما من قال : إن العقل لا يعلم به ذلك ثم قال بأن هذه الأعيان قبل ورود الشرع حظرا أوإباحة فقد تناقض في ذلك وقد رام منهم من تفطن لتناقضه أن يجمع بي قوليه فلم يتأت كقول طائفة : إنه بعد الشرع علمنا به أن الأعيان كانت محظورة أومباحة ونحو ذلك من الأقوال الضعيفة وليس هذا موضع بسط ذلك
لكن المقصود هنا أن الأكثرين على انتفاء التكليف قبل البلوغ لقوله صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق ] وهو معروف في السنن وغيرها متلقى عند الفقهاء بالقبول من حديث عائشة وغيرهما
وأيضا فإن قتل الصبي من أهل الحرب لا يجوز - باتفاق العلماء
وأيضا فالناس مع تنازعهم في أولاد الكفار : هل يدخلون الجنة أو النار أو يتوقف فيهم ؟ لم يفرق أحد - علمناه - بين المميز وغيره بل المنصوص عن أحمد ويغره من أئمة السنة - وهو المشهور عنهم - الوقف فيهم
وذهب طائفة إلى أنهم في النار كما اختاره القاضي أبو يعلى وغيره وذكروا أن أحمد نص على ذلك وهو غلط عن أحمد فإن المنصوص عنه أنه أجاب فيهم بجواب النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وفي الصحيح أيضا من حديث ابن عباس
لكن هذا الحديث روي أيضا في حديث يروى [ أن خديجة سألته عن أولادها من غيره فقال : هم في النار فقالت : بلا عمل ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] فظن هؤلاء أن أحمد أفتى بما في حديث خديجة كم ذكر ذلك القاضي في المعتمد وهذا غلط على أحمد فإن هذا الحديث ضعيف بل موضوع و أحمد أجل من أن يعتمد على مثل هذا الحديث والحديث متناقض ينقض آخره أوله
وذهبت طائفة إلى أنهم في الجنة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره والذين قالوا بالوقف فسره بعضهم بأنه يدخل فريق منهم الجنة وفريق النار بحسب تكليفهم يوم القيامة كما جاء في ذلك عدة آثار وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث وقد بسطنا هذا فيما تقدم
والمقصود هنا أنا لم نعلم من السلف من قال إنه فرق فيمن لم يبلغ بين صنف وصنف في القتل أو في عقاب الآخرة بل الفقهاء متفقون على أن العقوبات التي فيها إتلاف كالقتل والقطع لا تكون إلا لبالغ لكن قد يجمع بين هذا وهذا بأن يقال : الإثم الموجب لعقاب الآخرة مرفوع عمن لم يبلغ وكذلك العقوبات الدنيوية التي فيها إتلاف فأما التعزير بالضرب ونحوه فلم يرفع عن المميز من الصبيان
بل قد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] فأمر بضربهم على ترك الواجب الشرعي الذي هو الصلاة فضربهم على الكذب والظلم أولى وهذا مما لا يعلم بين العلماء فيه نزاع : أن الصبي يؤذى على ما يفعله من القبائح وما يتركه من الأمور التي يحتاج إليها في مصلحته
وهذا النزاع من لوازم الواجبات العقلية للميزين عند من يقول بالإيجاب العقلي نظير النزاع في الواجبات الشرعية فإن أحد القولين في مذهب أحمد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز : أن الصلاة تجب على ابن عشر وكذلك الصوم يجب عليه إذا أطاقه
وحينئذ فإيجاب أبي الخطاب وموافقيه للتوحيد أولى من هذا بل يقال : لولم يقل بالوجوب العقلي فإنه يجب أن يقال : إن الصبي يجب عليه الإقرار بالشهادتين قبل وجوب الصلاة عليه فإن وجوبهما متقدم على وجوب الصلاة بالاتفاق وأما ما يجب في مال الصبي من النفقات وقضاء الديون وغيره والعشور والزكوات عند الجمهور الذين يوجبون الزكاة في ماله فذلك لا يشترط فيه التمييز باتفاق المسلمين بل يجب ذلك في مال المجنون أيضا وفي مال الطفل
وللفقهاء في إسلام الصبي وردته وإحرامه وغير ذلك من أقواله وأفعاله كلام معروف ليس هذاموضع بسطه وفي ذلك من تناقض أقوال بعضهم ورجحان بعض الأقوال على بعض ما ليس هذا موضعه وإنما المقصود هنا أن أعظم الناس تعظيما للعقل هم القائلون بأنه يوجب ويحظر ويحسن ويقبح كالمعتزلة والكرامية والشيعة القائلين بذلك ومن وافقهم من طوائف الفقهاء والعلماء
وأما الفلاسفة فالنقل عنهم مختلف لتناقض كلامهم فالمشهور عنهم أن العقل يحسن ويقبح كما نقله أبو الخطاب عنهم
ولكن كلامهم في مبادىء المنطق وقولهم : إن هذه القضايا من المشهورات لا من البرهانيات لما رأى الناس أنه يناقض ذلك صاروا يحكون عنهم أنهم لا يقولون بتحسين العقل وتقبيحه كما نقله الرازي وغيره فإذا كان المتكلمون القائلون بتحسين العقل وتقبيحه وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به وأنه يوجبها يعني على المميزين يقولون مع ذلك : إن الشرع بين هذه الطرق العقلية وأرشد إليها ودل الناس عليها ووكدها وقررها حتى تمت الحجة به على الخلق فجعلوا ما جاء به الشرع متضمنا للمقصود بالعقل من غير عكس حتى صارت العقليات النافعة جزءا من الشرع فكيف غيرهم من طوائف أهل النظر ؟ وكذلك الفلاسفة ذكروا ذلك كما ذكره أبو الوليد بن رشد الحفيد لما قسم الناس إلى أربعة أصناف كما سيأتي
فصل كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
فقد ذكرنا ما تيسر من طرق الناس في المعرفة بالله ليعرف أن الأمر في ذلك واسع وأن ما يحتاج الناس إلى معرفته مثل الإيمان بالله ورسوله فإن الله يوسع طرقه وييسرها وإن كان الناس متفاضلين في ذلك تفاضلا عظيما وليس الأمر كما يظنه كثير من أهل الكلام من أن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بطريق يعينونها وقد يكون الخطأ الحاصل الرسل وكان عليه سلف الأمة لا يذكره ولا يعرفه
وهذا موجود في عامة الكتب المصنفة في المقالات والملل والنحل مثل كتاب أبي عيسى الورق و النوبختي و أبي الحسن الأشعري و الشهر ستاني : تجدهم يذكرون من أقوال اليهود والنصارى والفلاسفة وغيرهم من الكفار ومن أقوال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئه والكلابية والكرامية والمجسمة والحشوية أنواعا من المقالات
والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين لا يعرفونه ولا يذكرونه بل وكذلك في كتب الأدلة والحجج التي يحتج بها المصنف للقول الذي يقول إنه الحق تجدهم يذكرون في الأصل العظيم قولين أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك وينصرون أحدهما ويكون كل ما ذكروه أقوالا فاسدة مخالفة للشرع والعقل والقول الذي جاء به الرسول وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح العقول لا يعرفونه ولا يذكرونه فيبقى الناظر في كتبهم حائرا ليس فيما ذكروه ما يهديه ويشفيه ولكن قد يستفيد من رد بعضهم على علمه ببطلان تلك المقالات كلها
وهذا موجد في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة : متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي و الآمدي ونحوها وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والالهية القول الذي هو الحق بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها إما أن يكون الكل خطأ وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة مثل إطلاق القول بإثبات الصانع وأنه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله لكن لا يعطون هذا القول حقه : لا تصورا ولا تصديقا فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها بل قد لا يحتاج إليها
وأما المطالب العالية والمقاصد السامية من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلا يعرفونه كما يجب وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم ولايذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول
و ابن رشد الحفيد واحد من هؤلاء ولهذا لما ذكر أصناف الأمة وجعلهم أربعة أقسام : باطنية وحشوية ومعتزلة وأشعرية : جرى في ذلك على طريق أمثاله من أهل الكلام والفلسفة وهو قد نبه على كثير مما جاء به القرآن كما سنذكره عنه
لكن المقصود أنه في تقسيم الأمة لم يذكر القسم الذي كان عليه السلف والأئمة وعليه خيارها إلى يوم القيامة لكنه صدق في وصفه من ذكره بالتقصير عن مقصود الشرع فإنه كما قال قال : وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري تعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيها مثل قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } ومثل قوله { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى
قال : وليس لقائل أن يقول : إنه لو كان واجبا على كل من آمن بالله أن لا يصح إيمانه إلا من قبل وقوفه على هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه و سلم لا يدعو أحدا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العبر كلها كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى
ولذلك قال تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } ولا يمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ منه فدامة الطبع وبلادة القريحة إلى أن لا يفهم شيئا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع للجمهور وهذا فهو أقل الوجود فإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع
قال : فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع
قال : وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الباري تعالى لا يكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها ودعا الناس إلى الإيمان به من قبلها وذلك أن طريقهم المشهورة انبنت على بيان أن العالم محدث وانبنى عندهم حدوث العالم على القول بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ وأن الجزء الذي لا يتجزأ محدث بحدوثه وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد - وبالجملة حدوث الأجسام - طريقة معتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلا عن الجمهور ومع ذلك فهي غير برهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري تعالى وذلك أنه إذا فرضنا أن العالم محدث لزم - كما يقولون - أن يكون له - ولا بد - فاعل محدث وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزليا ولا محدثا أما كونه محدثا فلأنه يفتقر إلى محدث وذلك المحدث إلى محدث ويمر الأمر إلى غير نهاية وذلك مستحيل
وأما كونه أزليا فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزليا فتكون المفعولات أزلية والحادث يحب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم فإن المفعول لا بد أن يتعلق به الفاعل وهم لا يسلمون ذلك فإن من أصولهم أن المقارن للحادث حادث
قلت : من أصولهم التي تلقوها عن المعتزلة أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث وهذا متفق عليه بين العقلاء إلا إذا أريد به الحادث بالشخص فإن ما لا يسبق الحادث المعين يجب أن يكون حادثا وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهو محل النزاع بين الناس وعليه ينبني هذا الدليل وكثير من الناس لايميز في هذا المقام بين ما هو بعينه حادث وما تكون آحاد نوعه حادثة والنوع لم يزل حتى أن كثيرا من أهل الكلام إذا رأوا أن الحركات حادثة أو غيرها من الأعراض اعتقدوا أن ما لا يسبق ذلك فهو حادث ولم يميزوا بين ما لا يسبق الحادث المعين وما لا يسبق النوع الدائم الذي آ حاده حادثة فهو لا يسبق النوع وإن سبق كل واحد واحد من آحاده
ولما تفطن كثير من أهل الكلام للفرق أرادوا أن يثبتوا امتناع حوادث لا تتناهى بطريق التطبيق وما يشبهه كما قد ذكر ذلك في موضعه فهم لايسلمون وجود حوادث لا أول لها عن فاعل قديم ويسلمون وجود فعل حادث العين عن فاعل قديم وهو يقول : الحادث يجب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث ثم ذلك الحادث متعلق بفعل حادث فيكون فعل حادث الأفراد دائم النوع عن فاعل قديم فهو يقول : لا يمكن وجود حادث عن فاعل أزلي إلا بفعل حادث الأفراد دائم النوع وهم لايسلمون ذلك قال : وأيضا إن كان الفاعل حينا يفعل وحينا لا يفعل وجب أن يكون هنالك علة صيرته بإحدى الحالتين أولى منه بالأخرى فلنسأل أيضا في تلك العلة مثل هذا السؤال وفي علة العلة فيمر الأمر إلى غير نهاية
قال : وما يقوله المتكلمون في جواب هذا من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ليس بمنج ولا مخلص من هذا الشك لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بإيجاده حادثا سواء فرضنا الإرادة قديمة أو حادثة متقدمة على الفعل أو معه فكيفما كان فقد يلزمهم أن يجوزوا على القديم أحد ثلاثة أمور : إما إرادة حادثة وفعل حادث وإما فعل حادث وإرادة قديمة وإما فعل قديم وإرادة قديمة
والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا وسطة إن سلمنا لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة ووضع الإرادة نفسها هي الفعل المتعلق بالمفعول شيء لا يعقل وهو كفرض مفعول بلا فاعل فإن الفعل غير الفاعل وغير المفعول وغير الإرادة والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل
وأيضا فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهرا لانهاية له إذا كان الحادث معدوما دهرا لانهاية له فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له وما لانهاية له لا ينقضي فيجب أن لا يخرج هذا المراد إلى الفعل أو ينقضي دهر لا نهاية له وذلك ممتنع
وهذا هو بعينه برهان المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك وأيضا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص دون وقت لا بد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل قدر زائد على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل وإلا لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه وأيضا كيف يتعين وقت للحادث من غير أن يتقدمه زمان ماض محدود الطرف إلى ما في هذا كله من التشغيب والشكوك العويصة التي لا يخلص منها العلماء المهرة بعلم الكلام والحكمة فضلا عن العامة ولو كلف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق
وأيضا فإن الطرق التي سلك هؤلاء القوم في حدوث العالم قد جمعت هذين الوصفين معا أغني أن الجمهور ليس في طباعهم قبولها ولا هي مع هذا برهانية فليست تصلح لا للعلماء ولا للجمهور ونحن ننبه ها هنا على ذلك بعض التنبيه فنقول إن الطرق التي سلكوا في ذلك طريقان :
أحدهما : وهو الأشهر الذي اعتمد عليها عامتهم ـ ينبني على ثلاث مقدمات هي بمنزلة الاصول لما يرومونه من إثبات حدوث العالم
إحداهما : أن الجواهر لا تنفك عن الأعراض أي لا تخلو منها والثانية : أن الأعراض حادثة والثالثة : أن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث أعني ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
فأما المقدمة الأولى وهي القائلة : إن الجوهر لا يعرى من الأعراض فإن عنوا الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة وإن عنوا بالجوهر الجزء الذي لا يتجزأ وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ففيها شك ليس باليسير وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفا بنفسه وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند وليس في قوة صنا عة الكلام تلخيص الحق منها وإنما ذلك صناعة البرهان وأهل هذه الصناعة قليل جدا والدلائل التي يستعملها الأشعرية في إثباته خطا بية في الأكثر وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو انهم يقولون : إن من المعلومات الأولى أن الفيل مثلا إنما يقولون فيه : إنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزائه على أجزاء النملة وإذا كان ذلك كذلك فهو مؤلف من تلك الأجزاء وليس هو واحدا بسيطا فإذا فسد الجسم فإليها ينحل وإذا تركب فمنها يتركب وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة وذلك إنما يصدق هذا في العدد أعني أن نقول : إن عددا أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه أعني الوحدات
وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه ولذلك نقول في الكم المتصل : أنه أعظم وأكبر ولا نقول : اكثر ونقول في العدد : إنه أكثر ولانقول : إنه أكبر وعلى هذا القول فتكون الأشياء كلها أعداد ولا يكون هناك عظم متصل أصلا فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها
ومن المعروف بنفسه أن كل عظم فإنه ينقسم بنصفين : أعني الأعظام الثلاثة التي هي : الخط والسطح والجسم
وأيضا فإن الكم المتصل هو الذي يمكن أن يفرض عليه في وسطه نهاية يلتقي عندها طرفا القسمين جميعا وليس يمكن ذلك في العدد ولكن يعارض هذا أيضا أن الجسم وسائر أجزاء الكم المتصل يقبل الانقسام وكل منقسم فإما أن ينقسم إلى شيء منقسم أو إلى شيء غير منقسم فإن انقسم إلى غير منقسم فقد وجدنا الجزء الذي لا ينقسم وإن انقسم إلى منقسم عاد السؤال في ذلك المنقسم : هل ينقسم إلى منقسم أو إلى غير منقسم ؟ فإن انقسم إلى منقسم إلى غير النهاية كانت في الشيء المتناهي أجزاء لا نهاية لها ومن المعلومات الأولى أن أجزاء المتناهي متناهية
قلت : هذا الموضع هو الذي أوجب قول النظام ونحوه بالطفرة وقول طائفة من المتفلسفة والمتكلمين بقبول انقسام إلى غيى نهاية بالقوة لا بالفعل
وقد أجاب عن هذا طائفة من نفاة الجزء بأن كل ما يوجد فهو يقبل القسمة بمعنى امتياز شيء منه عن شيء وهي القسمة العقلية المفروضة لكن لا يلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء لأن الموجود إن قيل : إنه لا يقبل القسمة بالفعل لم تكن فيه أجزاء لا تتناهى وإن قيل : إنه يقبلها بالفعل فإذا صغرت أجزاؤه فإنها تستحيل وتفسد وتفني كما تستحيل أجزاء الماء الصغار هواء وإذا استحالت عند تناهي صغرها لم يلزم أن تكون باقية قاتلة لانقسامات لا تتناهى ولا يلزم وجود أجزاء لا تتناهى
قال : ومن الشكوك المعتاصة التي تلزمهم أن يسألوا إذا حدث الجزء الذي لا يتجزأ : ما القابل لنفس الحدوث ؟ فإن الحوادث عرض من الأعراض وإذا وجد الحادث فقد ارتفع الحدوث فإن من أصولهم أن الأعراض لا تفارق الجواهر فيضطرهم الأمر إلى أن يضعوا الحدوث في موجود ما وبوجود ما
قلت من يقول : إن الإحداث هو نفس المحدث والمخلوق هو نفس الخلق والمفعول هو نفس الفعل كما هو قول الأشعرية لا يسلم أن لحدوث عرض ولا أن له محلا فضلا عن أن يكون وجوديا لكنه قد قدم إفساد هذا وأنه لا بد للمفعول من فعل وحينئذ فيقال : الإحداث قائم بالفاعل المحدث وحدوث الحادث ليس عرضا موجودا قائما بشيء غير إحداث المحدث
ويقال أيضا : إن هذا ينبني على أن المعدوم شيء وأن الماهيات في الخارج زائد على وجودها وكلاهما باطل وبتقدير صحته فيكون الجواب : أن القابل للحدوث هو تلك الذوات والماهيات
لكن هذا الذي ذكره يتقرر بطريقة أصحابه المشهورة : أن الحادث مسبوق بالإمكان لا بد له من محل فلا بد للمحدث من محل قال : وأيضا فقد يسألون إن كان الموجود يكون عن عدم فبم يتعلق فعل الفاعل ولا يتعلق عندهم بما وجد وفرغ من وجوده فقد ينبغي أن يتعلق بذات متوسطة بين العدم والوجود وهذا الذي اضطر المعتزلة إلى أن قالت : أن في القدم ذاتا ما وهؤلاء أيضا - يعني المعتزلة - يلزمهم أن يوجد ما ليس بموجود بالفعل وكلتا الطائفتين يلزمهم أن يقولوا بوجود الخلاء
قلت هذا هو الشبهة المشهورة من أن فعل الفاعل وإحداث المحدث ونحو ذلك : إن قيل : يتعلق بالشيء وقت عدمه لزم كونه موجودا معدوما وإن قيل يتعلق به وقت وجوده لزم تحصيل الحاصل ووجوده مرتين
وجوابه أنه يتعلق به حين وجوده بمعنى أنه هو الذي يجعله موجودا لا بمعنى أنه كان موجودا بدونه فجعله هو أيضا موجودا
قال : فهذه الشكوك - كما ترى - ليس في قوة صناعة الجدل حلها فإذا يجب أن لا يجعل هذا مبدأ لمعرفة الله تعالى وخاصة الجمهور فإن طريقة معرفة الله تعالى أصح من هذا وأوضح على ما سنبين بعد من قولنا
قال : وأما المقدمة الثانية وهي القائلة إن جميع الأعراض محدثة فهي مقدمة مشكوك فيها وخفاء هذا المعنى فيها كخفائه في الجسم وذلك أنا شاهدنا بعض الأجسام محدثة وكذلك بعض الأعراض فلا فرق في النقلة من الشاهد في كليهما إلى الغائب فإن كان واجبا في الأعراض أن ينقل حكم الشاهد منها إلى الغائب - أعني أن نحكم بالحدوث على ما لم نشاهده منها قياسا على ما شاهدنا - فقد يجب أن يفعل مثل ذلك في الأجسام ونستغني عن الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام وذلك أن الجسم السماوي - وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد - الشك في حدوث أعراضه كالشك في حدوثه نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه ولذلك ينبغي أن نجعل الفحص عنه من أمر حركته وهي الطريق التي تقضي بالسالكين إلى معرفة الله تبارك و تعالى بيقين
قال : وهي طريق الخواص وهي التي خص بها إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } لأن الشك كله إنما هو في الأجرام السماوية وأكثر النظار إنما انتهوا إليها واعتقدوا أنها آلهة
قلت : قول هذا وأمثاله : إن إبراهيم استدل بطريق الحركة هو من جنس قول أهل الكلام الذين يذمهم أصحابه وسلف الأمة : إن إبراهيم استدل بطريق الحركة لكن هو يزعم أن طريقة الخواص : طريقة أرسطو وأصحابه حيث استدلوا بالحركة على أن حركة الفلك اختيارية وأنه يتحرك للتشبه بجوهر غير متحرك وأولئك المتكلمون يقولون : إن استدلال إبراهيم بالحركة لكون المتحرك يكون محدثا لامتناع وجود حركات لا نهائية لها وكل من الطائفتين تفسد طريقة الأخرى وتبين تناقضها بالأدلة العقلية
وحقيقة الأمر أن إبراهيم لم يسلك واحدة من الطريقين ولا احتج بالحركة بل بالأفول الذي هو المغيب والاحتجاب كما قد بسط في موضع آخر
فالآفل لا يستحق أن يعبد ولهذا قال { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } وقال { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وقومه كانوا مقرين بالرب تعالى لكن كانوا مشركين به فاستدل على ذم الشرك لا على إثبات الصانع
ولو كان المقصود إثبات الصانع لكانت قصة إبراهيم حجة عليهم لا لهم فإنه من حين بزغ الكوكب والشمس والقمر إلى أن أفلت كانت متحركة ولم ينف عنها المحبة ولا تبرأ منها كما تبرأ مما يشركون لما أفلت فدل ذلك على أن حركتها لم تكن منافية لمقصود إبراهيم بل نافاه أفولها
فصل كلام ابن رشد في مناهج الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
قال ابن رشد : وأيضا فإن الزمان من الأعراض ويعسر تصور حدوثه وذلك أن كل حادث فيجب أن يتقدمه العدم بالزمان فإن تقدم عدم الشيء على الشيء لا يتصور إلا من قبل الزمان وأيضا فالمكان الذي يكون فيه العالم إذا كان كل متكون فالمكان سابق له يعسر تصور حدوثه لأنه إن كان خلاء - على رأي من يرى أن الخلاء هو المكان - احتاج أن يتقدم حدوثه إن فرض حادثا خلاء آخر وإن كان المكان نهاية الجسم المحيط بالمتمكن - على الرأي الثاني - لزم أن يكون ذلك الجسم في مكان فيحتاج ذلك الجسم إلى الجسم ويمر الأمر إلى غير نهاية وهذه كلها شكوك عويصة وأدلتهم التي يرومون بها بيان إبطال قدم الأعراض إنما هي لازمة لمن يقول بقدم ما يحسن منها حادثا أعني من يضع أن جميع الأعراض غير حادثة وذلك أنهم يقولون : إن الأعراض التي يظهر للحس أنها حادثة إن لم تكن حادثة فإما أن تكون منتقلة من محل إلى محل وإما أن تكون كامنة في المحل الذي ظهرت فيه من قبل أن تظهر ثم يبطلون هذين القسمين فيظنون أنهم قد بينوا أن جميع الأعراض حدوثه ولا ما يشك في أمره مثل الأعراض الموجودة في الأجرام السماوية من حركاتها وأشكالها وغير ذلك فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب وهو دليل خطابي إلا حيث النقلة معقولة بنفسها وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب وأما المقدمة الثالثة : وهي القائلة : إن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث فهي مقدمة مشتركة الاسم
وذلك أنها يمكن أن تفهم على معنيين : أحدهما ما لا يخلو من جنس الحوادث ويخلو من آحادها والثاني : ما لا يخلو من واحد منها مخصوص مشار إليه
كأنك قلت : ما لا يخلو من هذا السواد المشار إليه فهو مادي فأما هذا المفهوم الثاني فهو صادق أعني ما لا يخلو من عرض ما يشار إليه وذلك أن العرض الحادث يجب بالضرورة أن يكون الموضوع له حادثا لأنه إن كان قديما فقد خلا من ذلك العرض وقد كنا فرضناه لا يخلو وهذا خلف لا يمكن وأما المفهوم الأول وهو الذي يريدونه فليس يلزم عنه حدوث المحل أعني الذي لا يخلو من جنس الحوادث لأنه يمكن أن يتصور المحل الواحد - أعني الجسم - تتعاقب عليه أعراض غير متناهية : إما متضاده وإما غير متضاده كأنك قلت : حركات لا نهاية لها وحركات وسلوكيات لانهاية لها كما يرى كثير من القدماء في العالم أعني أنه يتكون واحد بعد واحد
ولهذا لما شعر المتأخرون من المتكلمين بوهاء هذه المقدمة رامو شدها وتقويتها بأن بينوا - في زعمهم - أنه لا يمكن أن تتعاقب على محل واحد أعراض لا نهاية لها وذلك أنهم زعموا أنه يجب على هذا الوضع أن لا يوجد في المحل منها عرض ما مشار إليه إلا وقد وجدت قبله أعراض لا نهاية لها وذلك يؤدي إلى امتناع الموجود منها أعني المشار إليه لأنه يلزم ألا يوجد إلا بعد انقضاء ما لا نهاية له ولما كان ما لا نهاية له لا ينقضي وجب ألا يوجد المشار إليه أعني المفروض موجودا مثال ذلك : أن الحركة الموجودة اليوم للجرم السماوي إن كان قد وجد قبلها حركات لا نهاية لها فقد كان يجب ألا يوجد ذلك ومثلوا ذلك برجل قال لرجل : لا أعطيك هذا الدينار حتى أعطيك قبله دنانير لانهاية لها قالوا : فليس يمكن أن يعطيه ذلك الدينار المشار إليه أبدا
قال : وهذا التمثيل ليس بصحيح لأن في هذا التمثيل وضع مبدأ ونهاية ووضع ما بينهما غير متناه لأن قوله وقع في زمان محدود وإعطاءه إياه يقع في زمان محدود فاشترط هو أن يعطيه الدينار في زمان يكون بينه وبين ذلك الزمان الذي تكلم فيه أزمنة لا نهاية لها وهي التي يعطيه فيها دنانير لانهاية لها وذلك مستحيل فهذا التمثيل بين أمره لا يشبه المسألة الممثل بها
وأما قولهم : إن ما يوجد بعد وجود أشياء لا نهاية لها لا يمكن وجوده فليس بصادق من جميع الوجوه وذلك أن الأشياء التي بعضها قبل بعض توجد على نحوين : إما على جهة الدور وإما على جهة الاستقامة فالتي توجد على جهة الدور الواجب فيها أن تكون غير متناهية إلا أن يفرض فيها ما ينهيها
مثال ذلك : أنه إن كان شروق فقد كان غروب وإن كان غروب فقد كان شروق فإن كان شروق فقد كان شروق وكذلك إن كان غيم فقد كان بخار صاعد من الأرض وإن كان بخار صاعد من الأرض فقد ابتلت الأرض وإن كان قد ابتلت الأرض فقد كان مطر وإن كان مطر فقد كان غيم
وأما التي تكون على استقامة مثل كون الإنسان من الإنسان وذلك الإنسان من إنسان آخر فإن هذا إن كان بالذات لم يصح أن يمر إلى غير نهاية لأنه إذا لم يوجد الأول من الأسباب لم يوجد الآخر وإن كان ذلك بالعرض مثل أن يكون الإنسان بالحقيقة عن فاعل آخر غير الإنسان الذي هو الإله وهو المصور له ويكون الأب إنما منزلته منزلة الآلة من الصانع فليس يمتنع إن وجد ذلك الفاعل يفعل فعلا لا نهاية له بآلات غير متناهية متبدلة أن يكون فعله لأشخاص الناس على الدوام بأشخاص لا نهاية لها أعني أنه يفعل الأبناء بالآباء وإليه الإشارة في قوله تعالى { أن اشكر لي ولوالديك }
قلت : مضمون هذا الكلام أن التسلسل في العلل ممتنع لأن العلة يجب وجودها عند وجود المعلول وأما في الشروط والآثار - مثل كون الوالد شرطا في وجود الولد ومثل كون الغيم شرطا في وجود المطر - فلا يمتنع وهذا فيه نزاع معروف وقد ذكر في غير هذا الوضع
وليس في هذا ما ينفع الفلاسفة في قولهم بقدم الأفلاك وإنما غايته إبطال ما يقوله من يقول بوجوب تناهي الحوادث وقد تقدم غير مرة أن حجة الفلاسفة باطلة على تقدير النقيضين فإنه إذا امتنع وجود ما لا يتناهى بطل قولهم وإن جاز وجوده لم يمتنع أن يكون وجود الأفلاك متوقفا على حوادث قبله وكل حادث مشروط بما قبله كما يقولون هم في الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها ويقتضي أنه يلزم من قولهم أن لا يكون للحوادث فاعل إذا كان كل حادث مشروطا بحادث قبله والعلة التامة المستلزمة لمعلولها يمتنع عندهم - وعند غيرهم - أن يحدث عنها شيء بوسط أو غير وسط لأن ذلك يقتضي تأخر شيء من معلولاتها فلا تكون تامة بل فيها إمكان ما بالقوة لم يخرج إلى الفعل وهو نقيض قولهم
قال ابن رشد : وأيضا فإن قولهم : إن الحركة المشار إليها لا تخرج إلا وقد انقضت قبلها حركات لانهاية لها قول لا يسلمه الخصوم فإن الخصوم : إنه لا ينقضي إلا ما له ابتداء وما لا مبدأ له - كما نضعه نحن - فلا انقضاء له وبهذا ينكرون قولهم : إن ما وقع في الماضي فقد دخل في الوجود لأن معنى : دخل في الوجود أنه تناهى وجوده وكمل ولا يتناهى إلا ما له ابتداء فأما ما لم يبتدي فلا يدخل في الوجود
قلت : لفظ الانقضاء والقضاء قد يعنى به الكمال والتمام كما قال تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } { فإذا قضيتم مناسككم } ويقال : قد انقضت هذه السنة والمضي والزوال فمعلوم أن الحوادث التي كانت قبلها قد انقضت ومضت وانتهت بمعنى أنها لم يبق منها شيء
وعلى هذا فقول القائل : كل حركة لا تكون حتى يكون قبلها حركات لا نهاية لها معناه : حتى توجد قبلها حركات لا ابتداء لها ليس المراد : لا آخر لها بل المراد : ليس لها ابتداء وهذا صحيح وهو أول المسألة والمنازع يقول : إذا كانت الحركات لا أول لها فالمعنى أنه قد مضى في الماضي ما لا ابتداء له كما يقال : إنه سيوجد في المستقبل ما لا انتهاء له وهذا هو قوله فما الدليل على بطلان هذا ؟
فهناك اشتراك واشتباه في الألفاظ والمعاني إذا ميزت ظهر المعنى ولفظ الدخول في الوجود قد يتناول ما كمل وجوده وما لم يكمل وجوده ويتناول ما وجد معا وما وجد متعاقبا لكن قول القائل : إن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل عند منازعه فرق لا تأثير له فإن أدلته النافية لإمكان دوام ما لا يتناهى كالمطابقة والشفع والوتر وغير ذلك يتناول الأمرين وهي باطلة في أحدهما فيلزم بطلانها في الآخر ومن اعتقد صحتها مطلقا ك أبي الهذيل و الجهم طردوها في الماضي والمستقبل وهو خلاف دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل
وهذا الذي يذكره هؤلاء المتفلسفة إنما يتوجه فيما مضى ولم يبق كالحركات فأما النفوس الإنسانية المجتمعة إذا قالوا بأنه الآن في الوجود منها ما لا يتناهى وهو مجتمع وأن ذلك لا يزال يزيد لم يكن ما ذكروه في الحركات متناولا لهذا
ولهذا فر ابن رشد من ذلك إلى أن جعل النفوس واحدة بالذات وشبهها بالضوء مع الشمس والضوء عرض وفساد هذا القول معلوم وليس هذا موضع بسطه
ولهذا قال ابن رشد هنا : وهذا كله ليس بينا في هذا الموضع وإنما سقناه ليعرف أن ما توهم القوم من هذه الأشياء أنه برهان فليس برهانا ولا هو من الأقاويل التي تليق بالجمهور أعني التراهين البسيطة التي كلف الله تعالى بها الجميع من عباده الإيمان به
قال : فقد تبين لك من هذا أن هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لانهاية لها لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة وقبل تلك الدورة دورة وذلك إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد أي متى وجدت دورة وجدت قبلها في المحل دورة وبعدها دورة وأن هذا المرور إلى غير نهاية كالحال في المستقبل فإنما نقول : إن بعد هذه الدورة دورة وبعدها دورة وذلك إلى غير نهاية ولا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم عن هذا أن يكون بعد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها الآن فيكون ما لا نهاية لها أعظم مما لا نهاية له وذلك محال وكذلك الحال في الأدوار الماضية وقولهم : إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي : أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد وأن مضى قد أنصرم وانقضى وما انصرم وانقضى فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه - قول حق إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة وذلك أنه لم يكن هناك حركة واجب أن تكون أولى يستحيل أن تكون قبلها حركة فليس يجب أن يكون ها هنا جملة هي أو لجملة دخلت في الوجود ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهية إن كانت من الأشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد وذلك على جهة التعاقب على محل وحد
فمن أين - يلزم ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد أن يكون هاهنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا ؟
والأصل في هذا كله أن لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى وجوده ولا ينقضي إلا ما ابتدى وجوده وإنما كان يلزم أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له الماضي في الوجود لو كان دخوله معا أعني ما لا نهاية له وأما الداخل فيه شخص فشخص على محل واحد وكأنك قلت على الجسم الدوري وليس هناك أول فليس يجب أن يكون ما دخل منها في الوجود منحصرا أو متناهيا لأن المتناهي هو الذي يمكن يزاد عليه شيء وأي جملة فرضناها متناهية فإنه يمكن أن يكون فيها جملة قبلها جملة أخرى هذا هو حد ما لا نهاية له الجائز الوجود أعنى أن يكون أبدا يوجد شيء خارج عنه ويسألون : كما أن تقدير وجود الباري سبحانه وتعالى في الماضي غير متناه وكما أن تقدير وجوده في المستقبل غير متناه وهذا معنى قولنا لم يزل ولا يزال : هل تقدر أفعاله في الماضي متناهية أو غير متناهية ؟
فإن قالوا : غير متناهية كما هو في المستقبل فقد اعترفوا بوجود ما لا نهاية له في الماضي على الشرط الذي يوجد ما لا نهاية له أعني أن لا يوجد معا وأن لا ينقطع المكان
وإن قالوا غير ذلك فقد أحالوا على الوجود الأزلي أن تكون أفعاله أزلية يلزمهم ذلك في علمه بالحادثات وإرادته لها فتكون معلوماته بالفعل متناهية وكذا إرادته وبالقوة غير متناهية
أما في الماضي فمن قبل أنه لا يجوز عندهم أن تكون أفعال لا نهاية لها وأما في المستقبل فمن قبل أن ما لا نهاية له إنما يوجد عنده بالقوة وذلك شيء لا يقولونه فإن قالوا : إرادته ومعلوماته غير متناهية بالفعل فقد سلموا دخول ما لا نهاية له بالفعل في الوجود قال : وهذا كله تشويش لعقائد المتشرعين وصد عن الغاية التي قصد بها تعريفهم هذه الأشياء وهو أن يكونوا مصمين في هذه الأشياء أخيارا فإن من ليس بمصمم العقيدة في هذه ليس بخير
قلت : قول القائل : هذا متناه أو غير متناه لفظ مجمل يراد به ما لا يتناهى من أوله ولا من آخره فلا يمكن أن يزال عليه وهذا هو مراد ابن رشد بما لا يتناهى من أوله فقط أو من آخرهس فقط كالحوادث الماضية إذا قيل : لا تتناهى فإنه لا نهاية له من جهة الابتداء بمعنى أنه لا ابتداء لها ولكن إذا قدر أنها انقضت اليوم فقد تناهت من هذا الطرف
قال ابن رشد : فخصماء هؤلاء المتكلمين لا يقولون : قيل هذه الدورة المعنية دورات لا نهاية لها بالمعنى الأول أي ليس لها أول ولا آخر بل يعترفون أنه حينئذ يكون للدورات آخر وهذا عندهم هو الذي لا يتناهى بالمعنى الآخر وهو جائز عندهم
قال : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما
قال : فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة وقبل تلك الدورة دورة إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد كالحال في المستقبل فإنا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم أن يكون بعد هذه الدورة بمدة عشرة آلاف سنه دورات لانهاية لها وبعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيكون ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له وذلك محال
فمعنى ما لا نهاية له الذي جعل مقتضاه محالا هو الذي لا يقبل أن يزاد عليه وهو ما لا أول له ولا آخر وأما إذا قيل : وجد قبل هذه الدورة دورة وقبلها دورة إلى غير نهاية فهنا إنما نفيت النهاية عن الجانب الماضي دون المستقبل فلا يطلق على الجملة أنها لا تتناهى لأنها تناهت من أحد الجانبين وإن كانت غير متناهنة من الجانب الآخر فهو يسلم امتناع انقضاء وجود ما لا يتناهى في الماضي إذا أريد به ما لا يتناهى من الجانبين وما قدر متناهيا من أحدهما فلا يسلم امتناع أنقضائه ولا يطلق عليه أنه لا يتناهى بل هو عنده قد تناهى لأنه انقضى والتناهي والانقضاء واحد ولكن يقال فيه : إنه وجد شيئا قبل شيء إلى غير نهاية فتكون النهاية مسلوبة عن ابتدائه لا عن الجانب الذي انتهى إليه
ويقال : لا يتناهى مقيدا لا مطلقا كما قال : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز وجودة هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أي يمكن أن يزاد عليه دائما فهذا يسميه ما لا نهاية له الجائز وجوده وهو أن يكون خارجا عنه شيء يمكن أن يزاد عليه دائما هو إنما يقبل الزيادة من الجهة التي تناهى منها فهو متناه من احد الطرفين غير متناه من الطرف الآخر فلهذا جاز أن يقال : ليس هو مما لا يتناهى لتناهيه من جانب ويجوز أن يقال : هو لا يتناهى لعدم تناهيه من الجانب الآخر ولهذا نقول : إنه لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى - ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده - لأنه إذا قدر أن الحوادث دائمة لم تزل ولا تزال فلم تنقض وإنما يفرض الإنسان انقضاء الماضي فرضا وإنما المنقضي ما لم يبق فيه شيء
والحوادث إذا كانت مستمرة فما انقضت ولا انتهت فما دخلت في الوجود والذي وجد في الماضي فهو متناه ليس هو مما لا يتناهى وإنما يكون قد دخل ما لا يتناهى إذا كان ممتنعا في الوجود فيكون قد انقضى مع كونه غير متناه وهذا ممتنع فأما ما يوجد شيئا بعد شيء وهو لم يزل ولا يزال فهذا ليس يجب أن يكون ما دخل منه في الوجود منحصرا أو متناهيا لأنه لم ينقض بل هو متواصل الوجود والمنقضي عنده ما انقطع وجوده ولم يبق منه شيء وليست الحوادث المستمرة كذلك
فلفظ انقضى و انتهى و انصرم ونحو ذلك معناها متقارب فإذا قال المتكلم : الحوادث الماضية قد انقضت فلو لم تكن متناهية للزم انقضاء ما لا نهاية له كان هذا تلبيسا فإنها إذا جعلت منقضية فإنما انقضت من جهتنا لا من البداية ومن هذه الجهة هي متناهية وأما من جهة الابتداء فلا انتهاء لها ولا انقضاء وما لا يتناهى هو ما لا ينقضي ولا ينصرم فإذا قيل : انصرم وانقضى ما لا يتناهى كان هذا تناقضيا بينا والحوادث الماضية ليس لها أول فإذا قدر أنها انقضت فقد انتهت وانصرمت فلا يطلق عليها أنها لا تتناهى مع تقدير أنها منقضية بل إذا قدر تناهيها فقد انقضت وإن قدر استمرارها فلم تنقض
وما ذكره ابن رشد كما أنه مبطل لقول من يقول بامتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل - كما يقوله من يقوله من المتكلمين - فهو مبطل أيضا لقول إخوانه من الفلاسفة الذين يقولون بوجود ما لا يتناهى ولا له أول ولا آخر في قديميين مختلفين كما يقولونه : إن حركات كل واحد من الأفلاك لا تتناهى ولا لها بداية ولا نهاية مع أن إحدى الحركات أكثر وأعظم من الأخرى
كما يقولون : إن القمر يتحرك في كل شهر مرة والشمس في كل سنة مرة والفلك المحيط في كل يوم مرة فهو أعظم مقدارا وأسرع حركة من فلك الشمس القمر وغيرهما فإنه محيط بالجميع فهو أعظم وهو يتحرك كل يوم الحركة الشرقية التي تحرك بها جميع الأفلاك وليس في الأفلاك ما يتحرك كل يوم غيره فتكون حركته أكبر وأكثر من حركة سائر الأفلاك : فلك الشمس والقمر وغيرهما فإن الأيام أكثر عددا من الشهور والشهور أكثر عددا من الأعوام
ونفس المتحرك كل يوم حركته أعظم مقدارا مما يتحرك في الشهر والعام مع أن كلا من هذه الحركات ليس لها أول ولا آخر عندهم فيلزم من ذلك أن يكون ما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر كحركة فلك القمر والشمس يقبل أن يزاد عليه أضعافا مضاعفة بل وجد ما هو بقدره أضعافا مضاعفة وهو حركة الفلك المحيط فيكون ما لا يتناهى من الجانبين وليس له أول ولا آخر أعظم مما لا يتناهى وليس له أول ولا آخر وأكبر منه وهذا هو الذي بين ابن رشد وغيره من النظار أنه ممتنع ولايلزم هذا أئمة أهل الملل قالوا : إن الرب يفعل أفعالا أو يقول كلمات لا نهاية لها ليس لها أول ولا آخر فإن هؤلاء يقولون : لا قديم إلا الله وحده وما سواه محدث مخلوق فلم يقم بغيرة ولا يصدرعن غيره ما لا يتناهى وإنما ذلك له وحده فلم يكن لغيره ما لا يتناهى من الطرفين لا أقل مما له ولا أكثر وذلك أن ابن رشد عنده ما لا يتناهى هو ما لا أول له ولا آخر فما كان له منتهى ينتهي إليه محدود فلا بد أن يكون له مبدأ محدود فلا يتناهى شيء في النهاية إلا وله مبدأ محدود
ولهذا قال : وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما إلى قوله : ( إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي : أن ما يأتي لم يدخل في الوجود بعد وأن ما مضى قد انقضى وانصرم وما انقضى ونصرم فواجب أن يدخل في الوجود فهو متناه فهو قول حق ومراده بذلك أن الذي ينقضي وينصرم هو ما له مبتدأ وأما ما لا ابتداء له فلا انتهاء له ولا ينقضي ولا ينصرم
ولهذا قال : إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة وذلك أنه لم يكن هناك حركة واجب أن تكون أولى بحيث يستحيل أن تكون قبلها حركة فليس يجب أن يكون ها هنا جملة دخلت في الوجود ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهيه إن كانت من الاشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد
إلى قوله : فمن أين يلزم - ليت شعري - إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد وقبله واحد أن يكون ها هنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا
قال : والأصل في هذا كله ألا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده وما انقضى ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده
إلى قوله : لأن المتناهي هو الذي يمكن أن يزاد عليه شيء وأي جمله فرضناها متناهية فإنه يمكن قبلها جملة أخرى وهذا هو حد مالا يتناهى الجائز الوجود
وقد قال قبل ذلك : لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما إلى قوله : ولا نقول : إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها فيلزم من هذا أن يكون بغد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها وبعد الدورة المشار إليها دورات لا نهاية لها فمن تدبر كلامه تبين له ما قلناه
قلت : فأما الكلام على إحاطة علم الله تعالى بالكليات والجزئيات وإرادته فمذكور في غير هذا الموضع وهذا الرجل قد أورد على هؤلاء هذا السؤال المعروف وهو الذي أوقع أبا المعالي في قوله بالارسترسال وأن العلم يحيط بأعيان الجواهر وأنواع الأعراض ويسترسل على أعيان الأعراض هذا ليس هو قول من يقول بأنه يتعلق بالكليات فإن ذلك لا يفرق بين الجواهر وأنواع أعراض وأعيانها ومن علم أن الكليات لا تكون إلا كلية في الذهن وأن كل موجود فإنه معين والأفلاك معينة والعقول والنفوس عندهم معينة ونفسه المقدسة معينة تبين له أن قول من يقول : يعلم الكليات وأنه إنما يعلم الجزئيات على وجه كلي مضمون كلامه أنه لا يعلم نفسه ولا شيئا من الموجودات
وهذا وهم يقولون : إنه مبدع لها وسبب في وجودها وأنا العلم بالسبب يقتضي العلم بالمسبب فقولهم هذا يوجب علمه بنفسه وبكل موجود وذلك يناقض هذا وهذا مبسوط في موضعه
وهذا الرجل - أعني ابن رشد - أراد أن يجمع بين قولهم هذا وبين علمه بالجزئيات فقال قولا فيه من الحيرة والتناقض ما هو مذكور في موضعه
والمقصود هنا ذكر ما ناقض به قول هؤلاء المتكلمين الذين يزعمون أن عقلياتهم تعارض الكتاب والسنة وله أيضا من عقلياته التي يزعم أنها تناقض ذلك في الباطن ما هو مردود عليه بالعقل الصريح أيضا
لكن من عرف كلام بعض هؤلاء مع بعض تبين له فساد كل ما يعارض به كل طائفة للنصوص النبوية وأنه ما من معقول يدعى معارضته لذلك إلا وقد نقضه أهل المعقول بما يتبين فساده { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } الصافات : 180 - 182
قال ابن رشد : والأولى أن يقال لمن وصل من الجمهور إلى هذا القدر من التشكك : إن العالم ليس هو موجودا واحدا وإنما هو أفعال لله متجددة ومتعاقبة فيمكن في العقل أن تكون هذه الأفعال أزلية ويمكن أن تكون محدثة إلا أن الشرائع كلها قد وردت بأنها محدثة فيجب التصديق بأحد الجائزين الذي ورد به الشرع وأن يقال في علمه وإرادته : إنهما غير مكيفين ولا حادثين ولا يلزم في العلم المكيف الحادث
فصل
قال ابن رشد : وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعرفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين : إحداهما أن العالم بجميع ما فيه جائر أن يكون على مقابل ما هو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو عليه أو يكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار أن تتحرك إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقيةوالمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالجائز الآخر
قال : فأما المقدمة الأولى فهي خطابية في بادئ الرأي وهي في بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسها مثل كون الإنسان موجودا على خلقه غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعضه الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية
إذ كان ذلك ليس معروفا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون ذلك لعلة غير بينة الوجود بنفسها أو تكون من العلل الخفية على الإنسان
ويشبه أن يكون ما يعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيها بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنايع وذلك أن هذا الذي شأنه قد يسبق إلى ظنه أن كل ما في تلك المصنوعات - أو جلها - ممكن أن يكون على خلاف ما هي عليه ويوجد على ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة
وأما الصانع الذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة
والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العظيم ! وهذه المقدمة من جهة أنها خطابية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فلا تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة - لأن الحكمة ليست شيئا أكثر من معرفة أسباب الشيء وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده - على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجودا فليس هنا معرفة يختص بها الحكيم
الخالق دون غيرة كما أنه لو لم تكن أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلا ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تتأتى بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالآذان كما بالعين والشم بالعين كما يتأتى بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك قلت : مضمون هذا الكلام إثبات ما في الموجودات من الحكمة والغاية المناسبة
لاختصاص كل منها بما خص به وأن ارتباط بعض الأمور ببعض قد يكون شرطا في الوجود وقد يكون شرطا في الكمال وبإثبات هذا أخذ يطعن في حجة أبي المعالي وأمثاله ممن لايثبت إلا مجرد المشيئة المحضة التي تخصص كلا من المخلوقات بصفته وقدره
فإن هذا قول من أهل الكلام كالأشعرية والظاهرية وطائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وأما الجمهور من المسلمين وغيرهم فإنهم - مع أنهم يثبتون مشيئة الله وإرادته - يثبتون أيضا حكمته ورحمته وهؤلاء المتفلسفة أنكروا على الأشعرية نفي الحكمة الغائية وهم يلزمهم من التناقص ما هو أعظم من ذلك فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية كما هو قول جمهور المسلمين فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريدا للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار ويقولون : إنه علة موجبة للمعلول بلا إردة كان هذا في غاية التناقص ما هو أعظم من ذلك فإنهم إذا أثبتوا الحكمة الغائية كما هو قول جمهور المسلمين فإنه يلزمهم أن يثبتوا المشيئة بطريق الأولى والأحرى فإن من فعل المفعول لغاية يريدها كان مريدا للمفعول بطريق الأولى والأحرى فإذا كانوا مع هذا ينكرون الفاعل المختار ويقولون : إنه على موجبة للمعلول بلا إرادة كان هذا في غاية التناقص ومن سلك طريقة أبي المعالي في هذا الدليل لايحتاج إلى أن ينفي الحكمة بل يمكنه إذا أثبت الحكمة المرادة أن يثبت الإرادة بطريق الأولى
وحينئذ فالعالم بما فيه من تخصيصه ببعض الوجوه دون بعض دال على مشيئة فاعله وعلى حكمته أيضا ورحمته المتضمنة لنفعه وإحسانه إلى خلقه
وإذا كان كذلك فقولنا : إن ما سوى هذا الوجه جائز يراد به أنه جائز ممكن من نفسه وأن الرب قادر على غير هذا الوجه كما هو قادر عليه وذلك لا ينافي أن تكون المشيئة والحكمة خصصت بعض الممكنات المقدرات دون بعض
فهذه المقدمة التي ذكرها أبو المعالي مقدمة صحيحة لا ريب فيها وإنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية وقد ذكر الكلام عليها في غير هذا الموضع وهو أن التخصص للممكنات ببعض الوجوه دون بعض : هل يستلزم حدوثها أم لا ؟
قال ابن رشد : وقد نجد ابن سينا يذعن إلى هذه المقدمة بوجه ما وذلك أنه يرى أن كل موجود ما سوى الفاعل فهو إذا اعتبر بذاته ممكن وجائز وأن هذه الجائزات صنفان : صنف هو جائز باعتبار فاعله وصنف هو واجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته وأن الواجب بجميع الجهات هو الفاعل الأول قال : وهذا قول في غاية السقوط وذلك أن الممكن في ذابه وفي جوهره ليس يمكن أن يكون ضروريا من جهة فاعله وإلا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري فإن قيل : إنما نعني بكونه ممكنا باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله وتفعا ارتفع هو قلنا : هذا الارتفاع مستحيل لازم عن مستحيل وهو ارتفاع السبب الفاعل وليس هذا موضع الكلام في هذا الرجل ولكن للحرص على الكلام معه في الأشياء التي اخترعها هذا الرجل استجزنا القول هنا معه
قلت : مراد ابن رشد أن المفعول لا يكون قديما أزليا فإن الضروري عنده وعند عامة العقلاء حتى أرسطو وأتباعه وحتى ابن سينا وأتباعه - وإن تناقصوا - هو القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه في الماضي والمستقبل وهذا يمتنع أن يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم بل هذا لا يكون إلا محدثا يمتنع أن ينقلب قديما فلهذا قال : الممكن يمتنع أن يكون ضروريا
أما كون الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه وهو المحدث يصير واجب الوجود بغيره فهذا لا ريب فيه وما أظن ابن رشد ينازع في هذا ولكن من المتكلمين من ينازع في هذا وهذا حق وإن قاله ابن سينا فليس كل ما يقوله ابن سينا هو باطلا
بل هو مذهب أهل السنة أنه م شاء الله كان فوجب وجوده وما لم يشأ لم يكن فامتنع وجوده وهذا يوافق عليه جماهير الخلق فإن هؤلاء يقولون : كل ما سوى الله ليس له من نفسه وجود وهذا يعنون بكونه ممكنا لا يعنون بذلك أنه يمكن أن لا يوجد فهو واجب بغيره غير واجب بنفسه ولهم نزاع فيما إذا عدم هل يقولون : عدم لعدم موجبه أولا يعلل عدمه ؟ بل ليس له من نفسه وجود وإنما وجوده بفاعله فإذا لم يفعله فاعل بقي على العدم المستمر هذا فيه نزاع لفظي اعتباري وتحقيق الأمر أن عدم علته مستلزم لعدمه لا أن عدم علته فعل عدمه وأوجب عدمه ولكن يلزم من عدم علته عدمه فإن أريد بالعلة في عدمه المؤثر في عدمه فعدمه المستمر لا يحتاج إلى مؤثر وإن أريد به المستلزم لعدمه فلا ريب أن عدم علته مستلزم لعدمه وهؤلاء يقولون : إن الجائزات صنفان : صنف هو جائز باعتبار فاعله وصنف هو واجب باعتبار فاعله بل الجائزات الموجوده كلها واجبة باعتبار فاعلها وما لم يوجد من الجائزات فهو جائز باعتبار يفسه وهو ممتنع لغيره
فكما أن ما وجد من الممكنات فهو واجب لغيره لا لنفسه فما لم يوجد منها فهو ممتنع لغيره لا لنفسه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء أن يكون فلا بد أن يكون وليس هو واجبا بنفسه ولا له من نفسه وجوده بل الله مبدعه
وما لم يشأ لم يكن فإنه يمتنع وجود شيء بدون مشيئة الله تعالى وإن كان الله قادرا عليه وهو ممكن في نفسه أي يمكن أن يخلقه الله لوشاء الله خلقه
فهذا الباب كثير من النزاع فيه لفظي وهم لا يعنون بكونه ممكنا باعتبار ذاته أنه متى توهم فاعله مرتفعا ارتفع هو ولكن ابن سينا وأتباعه الذين يقولون : إن الفلك قديم أزلي وهو مع هذا ممكن يعنون ذلك
وأما عامة العقلاء فيعنون بذلك أنه لا يوجد بنفسه وأنه باعتبار نفسه يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد وما كان كذلك فهو محدث
ولا ريب أنه مع هذا واجب بغيره حين وجوده لا قبل وجوده يمتنع ارتفاعه حين وجوده لا متناع ارتفاع فاعله ولا يمتنع ارتفاعه مطلقا إذا كان معدوما فوجد فارتفاعه مستحيل حين وجوده لازم عن مستحيل
والذي ينكره جمهور العقلاء - ابن رشد وغيره - على ابن سينا ومن وافقه من المتأخرين قولهم بأن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا واجبا بغيره فهذا مما ينكره الجمهور
وقد ذكر ابن رشد أنه مخالف لقول أرسطو ومتقدمي الفلاسفة ولهذا لزم ابن سينا وموافقيه من التناقض ما ذكر بعضه الرازي وهم إذا حقق الكلام عليهم في الممكن فروا إلى إثبات الإمكان الاستقبالي وهو أنه يمكن في هذا الموجود أن يعدم في المستقبل وفي المعدوم العين أن يوجد في المستقبل فيكون الممكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وهذا قول جمهور العقلاء
وكلامهم في الإلهيات وفي هذا الممكن القديم الأزلي مضطرب غاية الاضطراب كما ذكره ابن رشد وغيره وأما كلامهم فيه في المنطق وغيره فوافقوا فيه سلفهم
أرسطو واتباعه وسائر العقلاء وصرحوا بأن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا محدثا مسبوقا بعدم نفسه وقسموا الممكن إلى أقسام كلها محدثة وجعلوا قسيم الممكن العامي هو الضروري الواجب وجوده وهو القديم الأزلي وصرحوا بأن ما كان قديما أزليا يمتنع أن يقال : إنه ممكن يقبل الوجود والعدم 0
وممن صرح بذلك ابن سينا وأتباعه لما تكلموا في الإلهيات وأحدثوا مذهبا ركبوه من مذهب سلفهم - أرسطو وأتباعه - ومن مذهب أهل الكلام المعتزلة ونحوهم وقسموا الوجود إلى واجب ممكن كما قسمه المتكلمون إلى قديم وحادث 0
وهذا التقسيم ابتدعوه لم يذهب إليه قدماء الفلاسفة بل قدماؤهم قسموه إلى جوهر وتسعة أعراض كما هو معروف في كتاب قاطبغورياس وجعلوا العلة الأولى من مقولة الجوهر 0
وهؤلاء جعلوا هذه القسمة للممكن وقالوا : الوجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب 0 فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين 0
وظنوا أن هذه الطريقة التي ابتدعوها في إثبات رب العالمين طريقة عظيمة وأنها غاية عقول العقلاء وهي من أفسد الطرق لا تدل على إثبات مبدع للعالم البتة فإنهم يحتاجون إلى حصر الوجود في القسمين
ثم إلى بيان أن الممكن الذي جعلوه قسيم الواجب يستلزم ثبوت الواجب الذي ادعوه وهذا ممتنع على طريقهم 0
فإنهم إذا قالوا : الموجود إما أن يقبل العدم وإما أن لا يقبله وما قبل العدم فهو الممكن ولا بد له من واجب 0
قيل لهم : إن عنيتم بما يقبل العدم المحدث كان مقتضى الحجة إثبات قديم محدث للمحدثات 0 وهذا حق ولكن القديم عندكم قد يكون واجبا وقد يكون ممكنا فليس في هذا ما يدل على إثبات واجب0
وإن قلتم : إن الممكن لا بد له من واجب 0
قيل لكم : فمعلوم أن المحدث لا بد له من فاعل 0 وأما ما جعلتموه قديما أزليا وسميتموه ممكنا فهذا لا يعلم أنه يفتقر إلى فاعل بل عامة العقلاء يقولون : إنه يمتنع أن يكون لهذا فاعل 0 ولو قدر أن له فاعلا لكان هذا يعلم بنظر دقيق خفي فلا يمكن أن يكون إثبات واجب الوجود موقوفا على مثل هذه المقدمة0
فإن قالوا : نحن قد قررنا أنه ممكن ولا بد للمكن من واجب 0
قيل : أنتم جعلتموه ممكنا قديما أزليا وهذا عند جمهور العقلاء جمع بين النقيضين وهو ممتنع 0 والممتنع قد يلزمه حكم ممتنع 0 وإنما موجب دليلكم ثبوت قديم أزلي وهذا حق0
والقديم الأزلي عندكم يمكن أن يكون واجبا ويمكن أن يكون ممكنا وهذا الممكن لم نعلم أنه يفتقر إلى واجب فلا يلزم ثبوت الواجب الذي ادعيتموه كما لم يلزم ثبوت الممكن الذي ادعيتموه
وإن قلتم : إذا قدر عدم هذا الممكن لزم ثبوت القسم الآخر وهو الواجب لانحصار الموجود في الواجب والممكن كما بيناه
قيل لكم : كما لم يلزم ثبوت هذا الممكن فلم يثبت نفيه بل الشك حاصل وإن قدر انتفاؤه فإذا لم يثبت وجود ممكن بل واجب لم يكن في هذا ما يدل على أن في الوجود ما هو ممكن وأمكن أن يقال الوجود كله واجب كما يقوله من يقول بوحدة الوجود ويقول : عين وجود ما يسمى ممكنا ومحدثا هو عين وجود الواجب فصار حقيقة قولكم إن الوجود كله إما واجب وإما ممكن هو نوعان : قديم ومحدث
وهذا الكلام لا فائدة فيه بل ليس فيه إلا ذكر التقسيم والشك في وجود الواجب أو إثبات واجب يعم المحدث والقديم وهو باطل قطعا فليس فيه إلا الجزم بالباطل أو الشك في الحق أو يقولوا : إن الموجود يمكن أن يكون كله واجبا ويمكن أن يكون ليس فيه واجب بل هو إما محدث وإما قديم ممكن
ومعلوم أن كل القولين معلوم الفساد بالضرورة وأن الوجود فيه حوادث كانت معدومة فوجدت وهذه ممكنات وأنه لا بد لها من قديم أزلي والقديم الأزلي يجب وجوده ويمتنع أن يكون ممكنا وهذا يبين أن كل ما سوى الواجب المبدع فهو محدث كائن بعد أن لم يكن وهذا كله يناقض ما قالوه
ولهذا يوجد في بحوث من سلك طريقهم ك الرازي و الآمدي من البحوث المضطربة في الواجب والممكن والعلة والمعلول ما ليس هذا موضع بسطه وقد تكلم عليه في غير هذا الموضع
فصل
فإن قالوا : نحن إذ قلنا : الوجود : إما واجب ذاته لا تقبل العدم وإما ممكن يقبل العدم وما كان قابلا للعدم فلا بد له من واجب لزم ثبوت الواجب على التقديرين مع قطع النظر عن الممكن : هل يكون قديما أم لا ؟بل نفس تصور هذه الحقيقة وهو كونه يقبل العدم فيلزم افتقاره إلى فاعل قيل صحيح لكن هذا التقسيم لا يستلزم ثبوت القسمين في الخارج إن لم يبين ثبوت الممكن ولكن يلزم ثبوت موجود لا يقبل العدم على التقديرين وهذا لا يناقض قول القائل بأن الموجود واحد لا يقبل العدم وإنما يبطل قول هؤلاء إذا بين أن في الوجود ما هو ممكن يقبل العدم وليس في مجرد التقسيم ثبوت القسمين وإنما يثبت القسمان إذا ثبت أن في الوجود ممكنا يقبل العدم وهذا الممكن لا بد له من واجب وحينئذ فيكون استدلالا بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم وهذا استدلال بالمحدثات على القديم لا استدلال بالوجود من حيث هو جود الواجب كما ظن ابن سينا وأتباعه بأن الوجود من حيث هو وجود إذا دل على وجود واجب لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجبا
فإذا قال أنا أبين بعد أن فيه محدثا
قيل : إذا بين ذلك ثبت أن فيه قديما ويكون الدليل على ثبوت القديم وهو الحوادث وهذه طريقة صحيحة وهي تدل على إثبات قديم لا على ثبوت واجب له مفعول قديم لكن نفس الوجود يدل على كل تقدير ثم يقال : وليس الوجود كله واجبا قديما فإن نشهد حدوث المحدثات والمحدث ليس بقديم وليس بواجب الوجود وعدمه ولا بممتع الوجود يجب عدمه فإنه كان موجودا تارة ومعدوما أخرى فعلم أنه يمكن وجوده وعدمه وما كان هكذا فلا بد له من فاعل قديم أزلي يمتنع عدمه فثبت وجود الموجود القديم الأزلي من نفس الوجود ومن وجود المحدثات وثبت من وجود المحدثات أنه ليس كل موجود قديما ولا واجبا بل ثبت انقسام الوجود إلى قديم واجب وإلى محدث ممكن بهذه الطريق وهي طريق الحدوث وطريق الإمكان الذي لا يناقض الحدوث بل يلازمه فأما الإمكان الذي ابتدعوه فلا يثبت هو بنفسه ولا يثبت به شيء ثم الكلام في تعيين القديم الواجب وأن السماوات محدثه له طرق متعددة ضرورية ونظرية كما قد بسط في موضع آخر وبين أن معرفة الصانع فطرية ضرورية : معرفته بعينه وأن السماوات والأرض وما بينهما مخلوقه له حادثه بعد أن لم تكن وأن كل مولود يولد على الفطرة وأن الله خلق عباده حنفاء ولكن شياطين الإنس والجن أفسدوا فطرة بعض الناس فعرض لهم ما أزاحهم عن هذه الفطرة ولهذا قالت الرسل : { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } ولما قال فرعون لموسى على سبيل الإنكار لما قال موسى : إني رسول من رب العالمين قال : { وما رب العالمين } قال له موسى : { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } ولما قال لموسى وهارون : { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين }
قال ابن رشد : وأما المقدمة الثانية وهي القائلة : إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيئا جائزا أزليا ومنعه أرسطوطاليس وهو مطلب عويص ولم يتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادتة وشهادة ملائكته
قلت : أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوته الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذين أثنى الله عليهم بالتوحيد ليس هم من المشركين الذين يعبدون الكواكب والأوثان ويقولون بالسحر ولا ممن يقول بقدم الأفلاك ولا ممن يقول قولا يستلزم أن تكون الحوادث حدثت بأنفسها ليس لها فاعل ونعلم بالاضطرار أن العلم بالتوحيد ليس موقوفا على ما انفرادوا به في المنطق من الكلام في الحد والقياس بما يخالفهم فيه أكثر الناس كتفريقهم بين الذاتيات والعرضية اللازمة للماهية وتفريقهم بين حقيقة الأعيان الموجودة التي هي ما هيتها وبين نفس الوجود الذي هو الأمر الموجود وأمثال ذلك وهذا الذي ذكره من ينازع هذين فإنه ينصر قول أرسطو طاليس ويقول : إن الجائز وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا وينكر على ابن سينا قوله بأن الجائز وجوده وعدمه يكون قديما أزليا وحكايته لهذا عن أفلاطون قد يقال : إنه لا يصح فيما يثبته قديما من الجواهر العقلية كالدهر والمادة والخلاء فإنه يقول بأنها جواهر عقلية قديمة أزلية لكن القول مع ذلك بأنها جائزة ممكنة ونقل ذلك عنه فيه نظر
وأما الأفلاك فالمنقول عن أفلاطون وغيرة أنها محدثة فإن أرسطو طاليس يقول بقدم الأفلاك والعقول والنفوس وهي على اصطلاح هؤلاء ممكنة جائزة وعلى أصله يكون أزليا وهم ينقلون : إن أول من قال من هؤلاء بقدم العالم هو أرسطو طاليس وهو صاحب التعاليم وأما القدماء كأفلاطون وغيرة فلم يكونوا يقولون بقدم ذلك وإن كانوا يقولون - أو كثير منهم - بقدم أمور أخرى قد يخلق منها شيء أخر ويخلق من ذلك شيء آخر إلى أن ينتهي الخلق إلى هذا العالم فهذا قول قدمائهم أو كثير منهم وهو خير من قول أرسطو وأتباعه
قال ابن رشد : وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة بمقدمات : إحداها : أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى من الثاني والثانية : أن هذا المخصص لا يكون إلا مريدا والثالثة : أن الموجود على الإرادة حادث ثم بين أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة ليس يكون عنها أحد الجائزين المتماثلين دون مماثلة مثال ذلك أن السقمونيا ليس تدذب الصفراء التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر وأما الإرادة فهي التي تخصص الشيء دون مماثلة ثم أضاف إلى هذه أن العالم يماثل كونه في الموضع الذي خلق فيه من الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير ذلك الموضع من ذلك الخلاء فأنتج ذلك أن العالم خلق عن إرادة
قال : والمقدمة القائلة : إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن العالم في حد يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما لأنه إن كان محدثا احتاج إلى خلاء
قلت : أما تسليمه أن الإرادة تخص أحد المتماثلين فيناقض ما قد ذكر أولا من أنه لا بد من المفعول من حكمة اقتضت وجوده دون الآخر والإرادة تتعلق بالمفعول لعلم المريد بما في المفعول من تلك الحكمة المطلوبة ومن كان هذا قوله امتنع عنده تخصيص أحد المتماثلين بالإرادة بل لا بد أن يختص أحدهما بأمر أوجب تعلق الإرادة به وإلا فمع التساوي يمتنع أن يراد أحدهما على هذا القول ومتى تسلم هذا أمكن أن يقال : إن مجرد اختيار الفاعل وهي إرادته خصت الوجود بدهر دون دهر مع التماثل وبقدر دون قدر وبوصف دون وصف
وأما منازعته في أن العالم في حد يحيط به فهم لا يحتاجون أن يثبتوا أمرا واحدا وجوديا يكون العالم فيه بل هم يقولون : إنا نعلم إمكان تيامنه وتياسره بالضرورة وإن كان ما وراءه عدم محض وتسمية ذلك موضعا كقول القائل : العالم في موضع ولفظ الموضع والمكان والحيز يراد به أمر موجود وأمر معدوم
قال ابن رشد : وأما المقدمة القائلة : إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد حادث فذلك شيء غير بين وذلك أن الإرادة التي هي بالفعل فهي مع فعل المراد نفسه لأن الإرادة من المضاف وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل وجد الآخر بالفعل مثل الأب والابن وإذا وجد أحدهما بالقوة وجد الآخر بالقوة فإن كانت الإرادة التي هي بالفعل حادثة فالمراد لا بد حادث وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة فالمراد الذي بالفعل قديم وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل إذا لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد ولذلك هو بين أنها إذا خرج مرادها للفعل أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مرادها إلى الفعل إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل فإذا لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثة لوجب أن يكون المراد محدثا ولابد
قال : والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور ولذلك لم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة موجدة موجودات حادثة وذلك قوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وإنما كان ذلك كذلك لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا قدم لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة إرادة حادثة في موجود قديم لأن الأصل الذي يعولون فيه على نفي قيام الإرادة الحادثة بمحل قديم هي المقدمة التي بينا وهنها وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث وسنبين هذا المعنى بيانا أتم عند القول في الإرادة قلت : الكلام في الإرادة وتعددها أو وحده عينها أو عمومها أو خصوصها وقدمها أو حدثها أوحدوث نوعها أوعينها وتنازع الناس في ذلك ليس هذا موضعه وهي من أعظم محارات النظار والقول فيها يشبه القول في الكلام ونحوه لكن نفس تسليم الإرادة للمفعول يستلزم حدوثه بل تسليم كون الشيء مفعولا يستلزم حدوثه فأما مفعول مراد أزلي لم يزل ولا يزال مقارنا لفاعله المريد له الفاعل له بإرادة قديمة وفعل قديم فهذا مما يعلم جمهور العقلاء بضرورة العقل
وحينئذ فبتقدير أن يكون الباري لم يزل مريدا لأن يفعل شيئا بعد شيء يكون كل ما سواه حادثا كائنا بعد أن لم يكن وتكون الإرادة قديمة بمعنى أن نوعها قديم وإن كان كل من المحدثات مرادا بإرادة حادثة قال : فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة الله تعالى ليست طرقا نظرية يقينية ولا طرقا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع تعالى وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين : أحدهما : أن تكون يقينية والثاني : أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول
قال ابن رشد : وأما الصوفية فطرقهم في النطر ليست طرقا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة ونحن نقول : إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها فليست عامة للناس بما هم ناس ولوكانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها في الإنسان عبثا
مثل قوله تعالى : { واتقوا الله ويعلمكم الله } البقرة : 282 ومثل قوله تعالى : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } العنكبوت : 69 ومثل قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } الانفال : 29 إلى أشياء كثيرة يظن أنها عاضدة لهذا المعنى والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن إماته الشهوات قد تكون شرطا في صحة النظر لا أن إماته الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها وإن كانت شرطا فيها كما أن الصحة شرط في العلم وإن كانت ليست مفيدة له
ومن هذه الجهة دعا الشارع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ما حث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي بينا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه
قلت : العمل الذي أصله حب الله تعالى أمر الشرع به لأنه مقصود في نفسه وهو معين على حصول العلم النافع كما أنه معين على حصول عمل آخر صالح كما أن الشرع أمربالعلم بالله تعالى لأنه مقصود في نفسه وهو معين على العمل الصالح وعلى علم آخر نافع
قال ابن رشد : وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم شيئا من جنس طرق الأشعرية
قلت : طريق المعتزلة هي الطريق التي ذكرها عن الأشعرية وإنما أخذها من أخذها ولهذا لما كان الأشعري تارة يوافقهم وتارة يوافق السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة ذم هذه الطريقة كما تقدم ذكر كلامه في ذلك فذمها وعابها موافقه للسلف والأئمة في ذلك وابن رشد رأى ما رآه من كتب الأشعرية فرأى اعتمادهم عليها فذلك تكلم عليها
وأفضل متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري وعلى هذه الطريقة في كتبه كلها يعتمد حتى في كتابه الذي سماه غرر الأدلة
كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية
قال في أوله : إنا ذاكرون الغرض بهذا الكتاب والمنفعة به لكي إذا عرف الإنسان شرف تلك المنفعة وشرف الغرض صبرت نفسه على تحمل المشاق في طلبها والاجتهاد في تحصيلها فنقول : إن الغرض به هو التوصل بالأدلة إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال وصدق رسله وصحة ما جاءوا بهقال : وظاهر أن المنفعة بذلك عظيمة شريفة من وجوه منها : أن من عرف هذه الأشياء بالأدلة أمن من أن يستزله غيره عنها ومنها : أنه يمكنه أن يرد غيره عن الضلال إليها ومنها أن يكون على ثقة مما يقدم عليه في معاده غير خائف من أن يكون على ضلال يوديه إلى الهلاك
قال : وليس أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن نصدق الكذابين وليس يؤمن أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناءه إلا بعد أن يعلم أنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم ولا يعلم أنه يثيب ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله فيجب أن نتكلم في هذه الأشياء لنعلم صحة ما جاءت به الرسل ونمتثله فنكون آمنين في المعاد
ثم قال : باب الدلالة على محدث الأجسام الدلالة على محدث الأجسام والجواهر هي أن الأجسام والجواهر محدثة وكل محدث فله محدث فللأجسام إذا محدث
قال : وهذا الكلام يشتمل على أصلين : أحدهما : قولنا : إن الجسم لم يسبق الحركات والسكنات المحدثة والآخر : قولنا : وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث فالأول يشتمل على ثلاث دعاو : إثبات الحركة والسكون وأن الجسم ما سبقها وأنها محدثان
والأصل الآخر لا يشتمل إلا على دعوى واحدة : وهو أن ما لم يسبق المحدث محدث فصارت الدعاوى أربعا ونحن نبينها ليصح حدوث الجسم
قلت : وهذه الدعاوى الأربع التي ذكرها أبو المعالي في أول الإرشاد لكن جعل بدل الحركات والسكنات الأعراض ولكنه لم يقرر حدوث الأعراض إلا بحدوث الأكوان ولم يقرر ذلك إلا بالاجتماع والافتراق وأما طريقة الحركة والسكون التي اعتمدتها المعتزلة فهي التي يعتمدها الرازي وهي أقوى مما سلكه الآمدي وغيرة حيث سلكوا طريقة الأعراض مطلقا بناء على أن العرض لا يبقى زمانين فإن هذه أضعف الطرق وطريقة الحركة أقواها وطريقة الاجتماع والافتراق بينهما وهي طريقة أبي الحسن الأشعري وطريقة الكرامية وغيرهم ممن يقول : إنه جسم
ثم إن أبا الحسين أحتج لهذه الدعاوى الأربع بنظير ما تقدم
قيل : فإن قيل : فما الدليل على أن الحركة غيرة ؟
قيل : لو كان تحرك الجسم هو الجسم لكان إذا بطل تحرك بطل الجسم ولو كان تحرك الجسم هو الجسم لكانت الدلالة على حدث التحرك دلالة على حدث الجسم فلو كان تحرك الجسم هو الجسم لكان أسهل في الدلالة على حدث الجسم
قلت : هذا ينبني على أن ما ليس هو الشيء فهو غيره وهو قول المعتزلة وأما الصفاتية فينازعونهم في هذا ويقولون : الصفة لا يطلق عليها : إنها هي هو ولا إنها غيره وأئمتهم لا يقولون : لاهي هو ولا هي غيره لأن لفظ الغير مجمل وكثير منهم يقولون : لا هي هو ولا هي غيره لكن الاستدلال يمشي بأن تكون الحركة ليست هي الجسم وهي حادثة ويمشي بأن يقال : الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود والحركة تفارق الجسم بالوجود فإنه قد يكون موجودا ولا حركة له لكن يقال : لانسلم أن كل جسم يجوز أن يفارقه نوع الحركة بل قد تقارنه عين الحركة وهم لايدعون أن الجسم مستلزم لعين الحركة والسكون بل لنوعها قال أبو الحسين : والدلالة على استحالة سبق الجسم لجنس الحركة والسكون وهي أنه لو سبقه لكان لا واقفا ولا مارا ولا حا صلا في مكان مع أنه جرم متحيز والعلم باستحالة ذلك ضروري قال : والدلالة على حدوث الحركة والسكون هي أن كل حركة وسكون يجوز
عليهما العدم والقديم لايجوز عليه العدم وإنما قلنا : يجوز على السكنات والحركات لأنه ما من جسم متحرك إلا ويمكن أن يسكن أو يحول من حركة إلى حركة كخروج الفلك من دورة إلى دورة وما من جسم ساكن إلا ويمكننا أن نحركه : إما بجملته أو بأجزائه كالأجسام العظام وإنما قلنا : إن القديم لا يجوز عليه العدم لأن القديم واجب الوجود في كل حال وما وجب وجوده في كل حال استحال عدمه
وإنما قلنا : إنه واجب الوجود في كل حال لأنه موجود فيما لم يزل فإما أن يكون وجوده على طريق الجواز أو على طريق الوجوب فلو كان موجودا على طريق الجواز لم يكن بالوجود أولى منه بالعدم لولا فاعل ويستحيل أن يوجد القديم بالفاعل لأن المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم وليس للقديم حال عدم فيخرجه فصح أن وجود القديم واجب وليس بأن يجب وجوده في حال أولى من حال فصح أنه واجب الوجود في كل حال فاستحال عدمه
ثم قرر الأصل الثاني وهو المهم
قال : فإن قيل : ما أنكرتم أن الحوادث الماضية لا أول لها ولا يلزم حدث الجسم إذا لم يتقدمها ؟
قيل : إذا كان كل واحد من الحوادث له أول استحال ألا يكون لجميعها أول لأنها ليست سوى آ حادها كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود ولا يكونوا كلهم سودا ولأن كل واحد قد سبقه عدمه فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها ولا من عدمها ولا يفصل السابق من المسبوق
قلت : هذه المقدمة هي التي نازعهم فيها المنازعون كما تقدم ذكر بعض طعن الطاعنين فيها في كلام الرازي وغيره وهؤلاء يقولون : لا نسلم أنه إذا كان لكل واحد منها أول أن يكون لجميعها أول كما أن كل واحد منها له آخر وليس لجميعها آخر وكما أن كل واحد من العشرة عشر وليس المجموع عشرا وكل واحد من أعضاء الإنسان عضو وليس المجموع في جميع المواضع بل تارة يتصف المجموع بما يتصف به الأفراد كما أنه إذا كان كل جزء من الجملة موجودا فالجميع موجود وإن كان كل جزء من المجموع ممكنا فالمجموع ممكن وإذا كان كل جزء منها معدوما فالجميع معدوم وتارة لا يكون كذلك كما تقدم
فلا بد من بيان أن مورد النزاع من أحد الصنفين وإلا فدعوى ذلك هو أول المسألة فدعوى ذلك مصادرة وتمثيلهم بالزنج تمثيل بأم جزئي لايحصل به المقصود إلا أن يعلم أن هذا مثل هذا
ولهم عنه أجوبة : المنع والمعارضة والفرق أما المنع : فيقولون : لا نسلم أن هذا مثل الزنج
وأما المعارضة : فيعارضون ذلك بعلمنا بأن كل حركة لها آخر وكل حادث له آخر وليس لكل الحركات والحوادث آخر وأن كل عدد له نهاية وليس للأعداد نهاية وأن كل واحدة من الأخوات يباح التزويج بها وليس الجمع بين الاخوات مباحا وكل واحد من أفراد العشرة واحد وهو ثلث الثلاثة وربع الأربعة وليست العشرة ثلث الثلاثة ولا ربع الأربعة وأن كل واحد من أجزاء المركب هو مفرد بشرط المركب ليس مفردا بسيطا وأن كل واحد من أجزاء الدائرة جزء دائرة والدائرة ليست جزء دائرة وأن كل واحد من أجزاء المطر قطرة وليس المجموع قطرة وليس المجموع قطرة فإنه يفرق بين ما له مجموع يمكن أن يوصف بما وصفت به الأفراد وبين ما ليس له مجموع يمكن وصفه بذلك ولا ريب أنا إذا عرضنا على عقولنا أن كل زنجي فهو أسود فإنا نعلم بالضرورة أن مجموع الزنج سود وذلك لأن المجموع غير كل واحد واحد من الأفراد فتارة يمكن وصفه بصفات الأفراد كما نقول عن الحوادث المحدودة الطرفين : إن مجموعها حادث كما أن كل واحد منها حادث
وتارة لا يمكن وصفه بذلك اللفظ بل بصيغة الجمع فإن مجموع السودان لا يقال فيه بنفس اللفظ : أسود ولا يقال غير أسود بل يقال : سود وسود صيغة جمع فهي بمعنى قولنا : كل زنجي أسود
وإذا لم يكن الحكم على المجموع هو بلفظه الحكم على الأفراد كان نظير مثال الزنج وأما إذا اتحد الحكم فقد يكون حكم المجموع فيه حكم الأفراد وقد لا يكون
فالأول إذا قلنا : كل محدث فهو مخلوق أو فهو ممكن أو : كل ممكن فهو مفتقر إلى غير ممكن
فإن ذلك يوجب أن يكون مجموع المحدث مخلوقا وممكنا ومجموع الممكن مفتقرا إ لى غير ممكن لأن هذا الحكم ثابت للجنس من حيث هو هو فيلزم ثبوته حيث تحقق الجنس والجنس يتحقق في المجموع كتحققه في كل فرد فرد
فطبيعة المحدث تستلزم كونه مخلوقا ممكنا وطبيعة الممكن إذا وجد تستلزم الافتقار إلى غير ممكن والطبيعة لازمة للمجموع فيستحيل وجود الطبيعة منفكة عن لازمها فلا يكون مجموع الممكنات إلا مفتقرا إلى غيره كما لا يكون كل فرد منها إلا مفتقرا إلى غيره ولا يكون مجموع المخلوقات إلا حادثة وممكنة كما لا يكون كل منها إلا حادثا ممكنا كذلك في المعنى
لكن من المجموع ما يكون اللفظ يتناول جنسه كما يتناول الواحد منه كلفظ المخلوق والمحدث والممكن ومنه ما يكون لفظ الكثير فيه صيغة جمع لا يستعمل في الواحد منه
والزنج ليس لهم مجموع يحكم عليه بأنه أسود أو ليس بأسود بل يقال : مجموعهم سود وذلك معنى قولك : كل واحد منهم أسود ولكنه الأسود يتصف به المجموع من حيث هو مجموع كما يتصف به كل واحد واحد بخلاف اتصاف المجموع بكونه محدثا وممكنا ومفتقرا إلى غيره فإن هذا الوصف يمكن ثبوته للمجموع من حيث هو مجموع كما يثبت لكل فرد من أفراده
والحوادث إذا حكم على مجموعها بأن له أولا ليس له أول فهو حكم على الجنس المجموع فإن علم أن الجنس الحادث لا يكون دائما متصلا بل لا يكون إلا بعد عدم كما علم أن كل فرد فرد من أفراده كذلك كان هذا نظير المحدث والممكن لكن النزاع في هذا فإنا إذا عرضنا على العقل المحدث عن عدم من حيث هو مع قطع النظر عن أفراده ومجموعه : هل يكون مخلوقا ممكنا ؟ جزم العقل بأن ما كان مخلوقا محدثا فإن كونه محدثا يستلزم كونه ممكنا إذا لو لم يكن كذلك لزم كونه واجبا فلا يعدم أو ممتنعا فلا يوجد
والمحدث كان معدوما وصار موجودا فطبيعته تنافي الوجوب و الامتناع لا فرق في ذلك بين الواحد والجنس
وإذا عرضنا على العقل الحادث مع قطع النظر عن أفراده وجنسه : هل يستلزم أن يكون منتهيا منقطعا لن ابتداء أو يستلزم ذلك بل يمكن دوامه ؟ لم تجد في العقل ما يقضي بأن جنس الحادث يجب أن يكون منتهيا له ابتداء وهذا الباب من تدبره تبين له الفرق بين تسلسل المؤثرات الفاعلات أنه ممتنع وبين تسلسل الآثار : أثرا بعد أثر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود الفرق بين الزنجي وبين الحادث ومما يوضح ذلك أنا إذا قلنا : كل زنجي أسود لم يكن في الزنج ما ليس بأسود لأن هذا النقي يناقص ذلك الإثبات وصدق أحد المتناقضين اللذين لا يرتفعان يوجب كذب الآخر فإنا إذا قلنا : بعض الزنج ليس بأسود كان مناقضا لقولنا : كل زنجي أسود فإذا لم يكن في الزنج ما ليس بأسود لزم أن يكون جميعهم سودا وأما إذا قلنا : كل حادث فله يلزم أن لا يكون في الحوادث ما ليس له أول وهكذا عكس نقيضه فيمتنع أن يكون جميع الزنج سودا ؟ هذا محل نزاع فيقال : الفرق معلوم بين قولنا : جميع الحوادث لها أول بمعنى : أن كل واحد منها له أول وبين قولنا : إن جنس الحوادث لها أول بمعنى : أن الحوادث منقطعة غير دائمة ولا مستمرة ولا متسلسلة فإن العقل يتصور أن كل واحد له أول وآخر وهي مع ذلك دائمة مستمرة فيمكنه الحكم بأن كل حادث له أول كما أن كل زنجي أسود وهو بعد ذلك لم يعلم : هل هي دائمة أم هي منقطعة ؟
بل العلم بكون الحادث له أول هو العلم بأنه مسبوق بعدم وليس العلم بأن كل حادث هو مسبوق بعدم هو العلم بأنه كان العدم مستمرا دائما حتى حدث جنس الحوادث بل يمكن العقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث وبعده حادث وما من عدد إلا وبعده عدد 0 وهو يعلم أن كل حادث فله أول وكل نقص فله آخر وكل عدد فله حد ومنتهى وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى 0
ومما يبين ذلك الفرق : أن كون الشخص أسود وأبيض صفة قائمة به في حال وجوده فلا يمكن انتفاؤها عن الجنس الموجود مع قولنا : إن كلا منهم أسود 0 وأما أن كون الشيء حادثا أو مسبوقا بعدم أو موجودا بعد أن لم يكن أو له أول فهو بمنزله كونه ماضيا وملحوقا بعدم ومعدوما بعد ما كان 0
وهذا يقتضي أن كلا من هذه الأمور ثابت لكل واحد من الحادث والمنقضي أما كون جنس المنقضي انقطع فلا يكون بعده منقض أو كون جنس الحوادث منقطعا فلم يكن قبل الحوادث المعينة شيء حادث هذا نوع آخر
والحكم على كل فرد فرد غير الحكم على المجموع من حيث هو مجموع في النفي والإثبات ففي النفي نفرق بين قوله : لا تأكل هذا ولا هذا ولا تأكل السمك وتشرب اللبن إذا الأول نهى عن كل منهما والثاني نهى عن جميعها
وكذلك إذا قال : ما ضربت لا هذا ولا هذا أو لم أضربها وعنى نفي ضربهما جميعا ولهذا تنازع الفقهاء فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه كما لو حلف : لا آكل الرغيف فأكل بعضه ولم يتنازعوا في أنه لو عنى أكل جميعه لم يحنث بأكل البعض وهذا كما في قوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين } النساء : 23 ونهي النبي صلى الله عليه و سلم أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها فالجميع بينهما منهي عنه فهذه وحدها مباحة وهذه وحدها مباحة واجتماعهما ليس مباحا
وكذلك كل واحد من الضدين مقدور ممكن وليس الجمع بينهما مقدورا ممكنا وكذلك الجائع إذا حضرته أطعمة يكفيه كل منها فكل منها مباح له أكله ولا يباح له أكل المجموع حتى يبشم ويموت وكذلك من قال لغيره : خذ عبدا من عبيدي أو فرسا من خيلي كل منها مباح له وليس المجموع مباحا له فإذا قيل : كل من هذه مباح لم يستلزم أن يكون المجموع مباحا والمقصود أن الأمور التي يتصف بها كل واحد من الأفراد ثلاثة أنواع :
أحدها : ما لا يمكن تصوره في المجموع فلا يقال : هو ثابت ولا منتف
والثاني : ما يمكن تصوره في المجموع وهذا قد يكون ثابتا كثبوت الافتقار إلى الفاعل في مجموع الممكنات والحادثات وثبوت الحل في كل من الأجنبيات منفردة وفي جمع أربع وقد لا يكون ثابتا كثبوت النهاية في أفراد الحوادث المنقضية لا في مجموعها وثبوت الحل في كل من الأختين لا في مجموعهما والفرق بين هذا وهذان أن الحكم الذي ثبت للأفراد إن كان للمعنى الذي يوجد في المجموع ثبت له وإن لم يكن لذلك المعنى لم يلزم ثبوته له فيكون المحدث ممكنا أو مفتقرا إلى الفاعل ثبت لحقيقة الحدوث وهذا ثابت للأفراد والمجموع وكذلك افتقار الممكن إلى ما ليس ثبت لحقيقة الإمكان فإن حقيقة الممكن هو الذي لا يوجد إلا بغيره لا بنفسه وهذه الحقيقة لا تفرق بين الأفراد وبين المجموع وأما كون الحادث له أول أو الماضي له انتهاء فهذا يعلم في كل حادث حادث وماض ماض وأما كون هذا الجنس كذلك فالطبيعة تلزم كل واحد واحد وليس في الخارج مجموع ثابت للحوادث والماضيات حتى يقال : هل يحكم لذلك المجموع بحكم أفراده أم لا ؟ فإن أفراده موجودة على التعاقب وإذا قدر حوادث متعاقبة لم يكن في العلم بهذا ما يوجب أن لا تكون دائمة
لكن إذا قدر إجتماع حوادث في آن واحد أو كانت محدودة قيل : إن هذا المجموع له ابتداء وإذا قدر اجتماع أمور منقضية أو محدودة الآخر
قيل : لها انتهاء
وأما ما لا يمكن اجتماعه لا من هذا ولا من هذا فليس وجوده مجتمعا في الخارج وإنما يجتمع أفراده في الذهن لا في الخارج
يبين ذلك أن ما لا يوجد إلا متعاقبا متتاليا إذا قيل : إن كل واحد من أفراده يعقب فردا آخر لم يعلم من ذلك أنه كله يعقب شيئا آخر إذا لم يحكم على جنسه بأنه يعقب غير جنسه وإنما حكمنا على أفراد الجنس بالتعاقب
وكذلك إذا قلنا : كل واحد من أفراده سبقه عدم لم يحكم على الجنس بأنه سبقه عدم كما حكمنا هناك على جنس المحدث بافتقاره إلى الفاعل وعلى جنس الممكن بافتقاره إلى ما ليس بممكن أو إلى الفاعل أو الواجب ونحو ذلك والكلام على هذا مبسوط في موضعه
والمقصود التنبيه على ما ذكره المنازعون لأبي الحسين وغيره من القائلين بأن جنس الحوادث ممتنع دوامها من أهل الإسلام والسنة والفلاسفة وغيرهم وكذلك قوله : كل واحد قد سبقه عدم فلو كانت لا أول لها لكان ما مضى ما أنفك من وجودها وعدمها ولا ينفصل السابق من جنس المسبوق فإنهم يقولون : كل واحد مسبوق بعدم نفسه لا بعدم جنسه فإذا كان الجنس لا أول له لم يلزم أن يقارنه عدمه بل يقارن كل فرد من أفراده عدم غيره
وهم يسلمون عدم كل واحد واحد كما يسلمون حدوثه فإن حدوثه مستلزم لعدمه لكنهم ينازعون في عدم الجنس وانتهائه وامتناع دوامه في الأزل كما ينازعون في انتهائه وامتناع دوامه في الأبد
كلام أبي الحسين البصري في غرر الأدلة وتعليق ابن تيمية عليه
وبالجملة : هذا الموضع هو من أعظم الأصول التي ينبني عليها دليل المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على حدوث الأجسام وتنبني عليه مسألة كلام الله تعالى وفعله وخلقه للسماوات والأرض ثم استوائه على العرش وتكلمه بالقرآن وغيره من الكلام وأئمة أهل الحديث والسنة وطوائف من أهل النظر والكلام مع أئمة الفلاسفة تنازعهم في هذاثم إنهم والدهرية من الفلاسفة اشتركوا في أصل تفرعت عنه مقالاتهم وهو أن تسلسل الحوادث ودوامها يستلزم قدم العالم بل قدم السماوات والأفلاك فقال الفرقان إذا قدر حادث بعد حادث إلى غير نهاية كان العالم قديما فتكون الأفلاك قديمة
ثم إن الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله قالوا : تسلسل الحوادث ودوامها واجب لإن حدوث الحادث بدون سبب ممتنع فيمتنع أن يكون جنسها حادثا بلا سبب حادث لكل حادث سبب حادث كان الجنس قديما فيكون العالم قديما
وأبو الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام قالوا : تسلسل الحوادث ممتنع لأن كل حادث مسبوق بالعدم فيكون الجنس مسبوقا بالعدم فيلزم حدوث كل ما لا يخلو عن الحوادث والأجسام لاتخلو من الحوادث فتكون حادثة
ونفس الأصل الذي اشترك فيه الفريقان باطل وهو أنه يلزم من إمكان تسلسل الحوادث قدم الأفلاك أوقدم العالم أوقدم شيء من العالم
والفلاسفة الدهرية أعظم إقرارا ببطلانه من المعتزلة فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها ولا قدم السماوات والأفلاك ولا شيء من العالم والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لايقتضي قدم شيء من أعيانها وأن تسلسلها ممكن بل واجب
فيقال لهم : هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئا بعد شيء فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة ؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها ؟ بل يقال : هذا يبطل قولكم فإنها إذا كانت متسلسلة امتنعت أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة فإن العلة التامة لايتأخر عنها شيء من معلولها والحوادث متأخرة فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط
وهكذا يقول للمعتزلة منازعوهم يقولون : أنتم موافقون لسائر المسلمين وأهل الملل على أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأنه خالق كل شيء وأنه القديم وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم ومقصودكم بالأدلة بيان ذلك فأي حاجة لكم إلى أن تسلموا للدهرية ما يستظهرون به عليكم ؟
وإذا جاز أن يكون الله خلقها وأحدثها بأفعال أحدثها قبل ذلك وكل حادث مسبوق بحادث مع أن ما سوى الله مخلوق مصنوع مفطور حصل مقصودكم
وإذا كان الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء أو فاعلا لما يشاء لم يناقض هذا كون العالم مخلوقا له فتكون السماوات والأرض مخلوقة في ستة أيام كما أخبرت بذلك الرسل والله خالق كل شيء وكل ما سواه محدث مسبوق بالعدم
ويقول لهم منازعوهم : أنتم أردتم إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع سبحانه بما جعلتموه شرطا في حدوثه بل وشرطا في العلم بالصانع فكان ما ذكرتموه مناقضا لحدوث العالم وللعلم بحدوثه وللعلم بإثبات الصانع
وذلك أنكم ظننتم أنه لا يتم حدوث السماوات إلا بامتناع حوادث لا أول لها وأن إحداث الله تعالى لشيء من مخلوقاته لا يمكن إلا إذا بقي من الأزل إلى حين أحداث المحدثات لم يفعل شيئا من الأفعال ولا الأقوال بل ولا كان يمكنه عندكم الفعل الدائم ولا أن تكون كلماته دائمة لا نهاية لها في الأزل ثم حين أحداثها هو على ما كان عليه قبل ذلك فحدث من غير تجدد شيء أصلا
فلزمكم القول بترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب ولزمكم تعطيل الصانع سبحانه وجحده وسلبه القدرة التامة حيث سلبتم قدرته على جنس الكلام والفعل في الأزل
وقلتم : يجب أن يكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن بل أن يكون مخلوقا في غيره لا قائما بذاته أو أنه لايتكلم بمشيئته وقدرته
وقلتم : لا يمكنه أن يحدث شيئا إن لم يمتنع دوام الفعل منه فلا يكون قادرا متكلما إلا بشرط أن لا يكون كان قادرا فاعلا متكلما وقلتم : لا يجوز وجود الحوادث إلا بشرط ألا يحدث لها سبب حادث ولا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بشرط ألا يكون هناك سبب يقتضي الرجحان فجعلتم شرط حدوث العالم وسائر أفعال الله وكلامه ما يكون نقيضه هو الشرط وبدلتم الفضايا العقلية كما حرفتم الكتب الإلهية ومن هنا طمعت الفلاسفة فيكم وزادوا في الكتب الإلهية تحريفا وإلحادا وصار أصل الأصول عندكم - الذي بنيتم عليه إثباتكم للصانع ولصفاته ولرسله وبه كفرتم أو ضللتم من نازعكم من أهل القبلة أتباع السلف والأئمة ومن غير أهل القبلة - هو قولكم : إذا كان كل واحد من الحدوث له أول استحال ألا يكون لمجموعها أول لأنها ليست سوى آحادها والعقلاء يفرقون بصريح عقولهم بين الحكم والخبر والوصف لكل واحد واحد وبين الحكم والخبر والوصف للمجموع في مواضع كثيرة وأنتم تقولون بإثبات الجوهر الفرد فكل واحد من أجزاء الجسم جوهر فرد عندكم وليس الجسم جوهرا فردا بل المجموع من أفراد وقد ثبت للمجموع من الأحكام ما لا يثبت للفرد
وبالعكس فمجموع الإنسان إنسان وليس كل عضو منه إنسان وكذلك كل من الشمس والقمر والشجر والثمر وغير ذلك من الأجسام المجتمعة لها حكم ووصف لا يثبت لأجزائها والإنسان حي سميع بصير متكلم وليس كل واحد من أبعاضه كذلك فلم يجب إذا كان النوع والمجموع دائما باقيا أن يكون كل من أفراده دائما ؟
والأمور المقدارية والعددية كالكرات والدوائر والخطوط والمثلثات والمربعات والألوف والمئات كلها يثبت لأجزائها من الحكم ما لا يثبت لمجموعها وبالعكس فإذا وصف الشيء بأنه دائم أو طويل أو ممتد لم يلزم أن يكون كل واحد من أجزائه أو أفراده كذلك
قال تعالى في الجنة : { أكلها دائم وظلها } الرعد : 35 ومعلوم أن كل جزء من أجزاء الأكل والظل يفني وينقضي والجنس دائم لا يفنى ولا ينقضي ولا توصف الأجزاء بما وصف به الكل
قال تعالى : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } ص : 54 فأخبر عن الجنس أنه لا ينفد وأن كل واحد من أجزائه ينفد
ويقال للزمان والحركات في الأجسام : إنها طويلة ممتدة ولا يقال للصغير من أجزائها : إنه طويل ممتد فيكون الرب لم يزل ممتلكا إذا شاء أولم يزل فاعلا لما يشاء هو بمعنى كونه لم يزل متكلما فعالا وبمعنى دوام كلامه وفعاله لا يستلزم أن كل واحد من الأفعال دائم لم يزل
فإن قلتم : الحادث من حيث هو حادث يقتضي أنه مسبوق بغيره كما أن الممكن من حيث هو ممكن يقتضي الافتقار إلى غيره والمحدث هو من حيث هو محدث يقتضي الاحتياج إلى غيره فكما أن الممكنات - مفردها ومجموعها - يلزم أن تكون مفتقرة إلى الفاعل وكذلك المحدثات فكذلك الحوادث - مفردها ومجموعها - يقتضي أن تكون مسبوقة بالغير
وهذا من جنس قولهم : الحركة من حيث هي تقتضي كونها مسبوقة بالغير لأن أجزاءها متعاقبة لا مجتمعة
قال لكم منازعوكم : هذا لفظ مجمل مشتبه وعامة حججكم وحجج غيركم الباطلة مبناها على ألفاظ مجملة متشابهة مع إلغاء الفارق ويأخذون اللفظ المجمل المشتبه من غير تمييز لأحد معنييه عن الآخر فبالاشتراك والاشتباه في الألفاظ والمعاني ضل كثير من الناس
وذلك أن قولهم : الحادث - من حيث هو - يقتضي أنه مسبوق بغيره أو الحركة - من حيث هي - تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير
يقال لكم : الحادث المطلق لاوجود له إلا في الذهن لا في الخارج وإنما في الخارج موجودات متعاقبة ليس مجتمعة في وقت واحد كما تجتمع الممكنات والمحدثات المحدودة والموجودات والمعدومات فليس في الخارج إلا حادث بعد حادث فالحكم إما على كل فرد فرد وإما على كل جملة محصورة وإما على الجنس الدائم المتعاقب
فيقال لكم : أتريدون بذلك أن كل حادث فلا بد أن يكون مسبوقا بغيره أو أن الحوادث المحدودة لا بد أن تكون مسبوقة أو أن الجنس لا بد أن يكون مسبوقا ؟
أما الأول والثاني فلا نزاع فيهما وأما الثالث فيقال : أتريدون به أن الجنس مسبوق بعدمه أم مسبوق بفاعله بمعنى أنه لا بد من محدث ؟ الثاني مسلم والأول محل النزاع
وكذلك في الحركة : إن قلتم : إن الحركة المعينة مسبوقة بأخرى أو بعدم فهذا لا نزاع فيه وإن قلتم : إن نوعها مسبوق بالعدم فهذا محل النزاع
وذلك أن معظم ما اعتمدوا عليه قولهم : الحركة من حيث هي حركة تتضمن المسبوقة بالغير فإن الحركة تحول من حال إلى حال فإحدى الحالتين سابقة للحال الأخرى فلا تعقل حركة إلا مع سبق البعض على البعض وكل ما كان مسبوقا بغيره لم يكن أزليا فالحركة يمتنع أن تكون أزلية فيقال لهم : قولكم : الحركة تستلزم المسبوقة بالغير سبق بعض أجزائها على بعض وهو المعنى الذي دللتم عليه ؟ أم تريدون أنها مسبوقة بالعدم أم مسبوقة بالفاعل ؟
أما الأول وهو الذي دللتم عليه فإنه يقتضي نقيض قولكم وهو يقتضي أن الحركة لم يزل نوعها موجودا لأن كل ما هو حركة مسبوق بما هو حركة وكل حال تحول إليه المتحرك فهو مسبوق بحال أخرى وتلك الحال مسبوقة بأخرى فكان ما ذكرتموه دليلا على حدوث الحركة كما أنه يدل عل حدوث أعيان الحركة وأجزائها فهو يدل على دوام نوعها وهو نقيض قولكم
فكان ما ذكرتموه حجة في محل النزاع إنما يدل على مواقع الإجماع وهو في محل النزاع حجة عليكم لا لكم وحينئذ فيقول المنازع : نحن نقول بموجب دليلكم وهو حجة عليكم وإن أردتم أن مسمى الحركة مسبوق بالعدم فلم تذكروا على هذا دليلا أصلا وهو مورد النزاع
وإن أردتم أنه مسبوق بالفاعل فهذا أيضا يراد به أن كل جزء منها مسبوق بالفاعل ويراد به أن جنسها سبقه الفاعل سبقا انفصاليا وإن لم يقيموا دليلا على هذا فكان ما ذهبتم إليه لم تقيموا دليلا عليه وما أقمتم عليه دليلا لا يدل على قولكم بل على نقيضه
ولذلك يقال لخصومهم الفلاسفة : أنتم لم تقيموا دليلا عل قدم شيء من العالم بل عامة ما أقمتموه من الأدلة يستلزم دوام الفاعلية وهذا يدل على نقيض قولكم فإنه يقتضي أنه لم يزل يفعل والمفعول لا يكون إلا ما حدث عن عدمه
وأما قدم شيء من العالم فلا دليل لكم عليه بل دليلكم يدل على نقيضه فإنه لو كان المفعول مقارنا للفاعل لزم ألا يحدث في العالم شيء والطائفتان جميعا أصل قولها الكلام في الحركة فهؤلاء يقولون : يمتنع أن تكون الحركة دائمة فلا بد أن يكون جنس الحركة حادثا عن غير سبب حادث
وهؤلاء يقولون بل جنس الحركة يمتنع أن يكون حادثا فيمتنع أن تحدث الحركة لا من حركة والزمان مقدار الحركة فيجب قدم نوعه ثم قالوا : ولا حركة فوق حركة الفلك ولا قبلها إلا مقدار هذه الحركة فتكون هذه الحركة وزمانها أزليين
فيقال لهم : من أين لكم أنه لا حركة قبل حركة الفلك ولا فوقها ؟ وهل هذا إلا قول بلا علم ونفي لما لم تعلموا نفيه وتكذيب لما لم تحيطوا بعلمه ولما يأتيكم تأويله ؟
ثم قولكم بأنه لا حركة إلا هذه الحركات مع أنه لا أول لها ولا آخر وهذا كذلك وهذا أكثر من ذلك بأضعاف مضاعفة
قالوا : فالجسم يمتنع أن يتحرك حركة لا تتناهى كما ذكر ذلك أرسطو لأن الجسم ينقسم فتكون حركة الجزء مثل حركة الكل لا تتناهى وهذا ممتنع : يمتنع أن يكون الجزء مثل الكل
قيل لهم : بل هذا الذي ذكره أرسطو وتلقيتموه بالقبول يدل على نقيض مقصوده ومقصودكم فإن الجسم إذا قامت به حركة فحركة مجموع الجسم أكبر من حركة بعضه في المكان وهذا غير ممتنع عند أحد من العقلاء فليس حركة الجزء مثل حركة الكل ولكن كلاهما لا يتناهى بعضه أكثر من بعض في الزمان وما لا يتناهى لا يكون شيء أكبر منه
فهذا يدل على فساد قولكم لأنكم تقولون : إن حركة المحيط أعظم من الحركة المختصة بفلك الشمس والقمر وغيرهما وكلاهما لا يتناهى فهذا الذي ذكرتموه في حركة الجسم الواحد يستلزم بطلان قولكم في حركة الجسمين وأما الجسم الواحد فإن قولكم فيه ينبني على أنه يتبعض وأن حركته متبعضة حتى يقال : إن بعضه يساوي كله في عدم النهاية وهذا ممتنع بل هي حركة واحدة لا أول لها ولا آخر ولا امتناع في ذلك
ويقال للمتكلمين : إن قلتم : إنه مسبوق بالمحرك بمعنى أنه لا بد للحركة من محرك فهذا أيضا مسلم لكن قولكم : إن المحرك لا يجوز أن يحرك شيئا حتى تكون الحركة ممتنعة عليه أولا ثم تصير ممكنة من غير تجدد شيء فتنقلب من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث سبب أصلا ولا يجوز أن يحدث شيئا حتى يحدثه بلا سبب حادث أصلا
هذا هو الذي ينازعكم فيه جمهور المسلمين وغيرهم ويقولون لكم : لم ينزل الله قادرا على الفعل والقدرة عليه مع امتناع المقدور جمع بين النقيضين فإن القدرة على الشيء تستلزم إمكانه فكل ما هو مقدور للرب تعالى فلا بد أن يكون ممكنا لا ممتنعا
ويقولون : إذا قلتم : لم يكن قادرا على الفعل ثم صار قادرا لأن الفعل لم يكن ممكنا ثم صار ممكنا فما الموجب لهذا التجدد والتغير ؟
فإن قلتم : حدث ذلك بلا سبب كان هذا أعجب من قولكم الأول إذا كان القادر بصير قادرا بعد أن لم يكن من غير تجدد شيء أوجب قدرته
وإن قلتم ما ذكره أبو الحسين : المعقول من الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم فيمتنع وجوده في الأزل
قيل لكم : إن الفاعل لا يكون فاعلا حتى يحصل الشيء عن عدمه فلا يكون الفعل نفسه أو المفعول نفسه قديما لكن لم قلتم : إنه يشترط في الفعل المعين عدم غيره ؟ ولم قلتم : إنه لا يكون فاعلا لهذه السموات والأرض حتى لا يكون قبل ذلك فاعلا أصلا ولا يكون فاعلا حتى يكون جنس الفعل منه معدوما بل ممتنعا ؟ فهذا غير واجب في المعقول بل المعقول يعقل أنه حصل الشيء عن عدم
وإن كان قبل تحصيله حصل غيره عن عدم وهم قد يقولون : كان في الأول قادرا على الفعل فيما لم يزل وهذا كلام متناقض فإنه في حال كونه قادرا لم يكن الفعل ممكنا له عندهم
فحقيقة قولهم : كان قادرا حين لم يكن قادرا فإن القادر إنما يكون قادرا على ما يمكنه دون ما لا يمكنه فإذا كان الفعل في الأزل - وهو الفعل الدائم أي الذي يدوم جنسه - غير ممكن له مقدورا له فلا يكون قادرا عليه
وهذا مما أنكره المسلمون على هؤلاء المتكلمين وكان هذا من أسباب لعنة بعضهم على المنابر
ويقال لهم : مقصودكم الأول نصر الإسلام والرد على مخالفيه وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا عن أحد من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان هذا القول الذي أحدثتموه وجعلتموه أصل دين المسلمين ليس فيه أن الرب لم يزل لا يفعل شيئا
ولا يتكلم بشيء ولا يمكنه ذلك ثم إنه بعد تقدير أزمنة لا نهاية لها فعل وتكلم وإنه
صار ممكنا من الفعل والكلام بعد أن لم يكن متمكنا بل القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين يناقض ما ذكرتموه فكان ما ابتدعتموه من الكلام الذي ادعيتم أنه أصل الدين مخالفا للسمع والعقل ثم إنه صار من تقلدكم ينقل عن المسلمين واليهود والنصارى أن هذا قولهم
ولا يعرف هذا القول عن أحد من الأنبياء ولا أصحابهم بل المعروف عنهم يناقض ذلك ولكن الثابت عند الأنبياء أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن خلاف قول الفلاسفة الذين يقولون : إن الأفلاك أو العقول أو النفوس أو شيئا غير ذلك مما سوى الله قديم أزلي لم يزل ولا يزل
ويقال : قول القائل : الفاعل هو المحصل للشيء عن عدم أتريد به الفاعل للشيء المشار إليه أنه لا يكون فاعلا له إلا إذا حصله عن عدم ؟ أم تريد به أنه لا يكون الفاعل في نفسه فاعلا لشيء حتى تكون فاعليته ممتنعة ثم صارت ممكنة ؟
أما الأول فمسلم والثاني ممنوع وسبب ذلك الفرق بين الفعل ونوعه فإذا لم يعقل فاعل لمعنى إلا بعد عدمه لم يلزم ألا يعقل كون الفاعل فاعلا إلا بعد أن لم يكن فاعلا بل العقل لا يعقل حدوث فاعلية بلا سبب
تابع كلام أبي الحسين البصري
قال أبو الحسين البصري : فإذا ثبت حدوث العالم فالدلالة على أن له محدثا هي أنه لا يخلو أن يكون حدث وكان يجوز أن لا يحدث أو كان يجب أن يحدث فلو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذا كان حدوثه واجبا في نفسه وإن حدث مع جواز ألا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه ويستدل على أنه عالم قادر فصح قولناقال : واستدل شيوخنا على أن الأجسام تحتاج إلى محدث بأن تصرفنا يحتاج إلى محدث لأجل أنه محدث فحدوث كل محدث يحوجه إلى محدث فإذا كانت الأجسام محدثة احتاجت إلى محدث والدلالة على حاجة تصرفنا إلى محدث هو أنه لو حدث بنفسه من غير محدث لحدث 0 وإن كرهناه أو كنا ممنوعين منه فلما وقع بحسب قصدنا وانتفى بحسب كراهتنا علمنا أنه محتاج إلينا 0
قال : والدليل على أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه أنه إما أن يحتاج إلينا لحدوثه أو لبقائه أو لعدمه احتاج إلينا لبقائه لوجب ألا يبقى البناء إذا مات الباني 0 ولا يجوز أن يحتاج إلينا لعدمه لأن تصرفنا كان معدوما قبل وجودنا وقبل كوننا قادرين 0 فصح أنه يحتاج إلينا ليحدث ولإن حدوثه هو المتجدد بحسب قصدنا وإرادتنا وهو الذي لا يتجدد إذا كرهناه 0 فعلمنا أنه يحتاج إلينا لأجل حدوثه
تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا أصل أصول القوم الذي بنوا عليه دينهم الصحيح والفاسد فإن الإقرار بوجود الصانع تعالى وأنه حي عالم قادر ونبوة نبيه صلى الله عليه و سلم حق لا ريب فيه وأما نفيهم صفات الرب تعالى ودعواهم أنه لم يتكلم بكلام قائم به ولا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ونحو ذلك فهو من دينهم الفاسدوهذه الطريقة هي التي سلكها ابن عقيل إذا مال إلى شيء من أقوال المعتزلة فإنه كان قد أخذ عن أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري ولهذا يوجد في كلامه نصر كلامهم تارة وإبطاله أخرى فإنه كان ذكيا كثير الكلام والتصنيف فيوجد له من المقالات المتناقضة بحسب اختلاف حاله كما يوجد لأبي حامد والرازي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم
وابن الجوزي يقتدي به فيما يدخل فيه من الكلام مثل كلامه في منهاج الأصول وفي كف التشبيه ونحو ذلك
ولهذا يوجد في كلام هؤلاء من نفي الصفات الخبرية ومنعهم أن تسمى الآيات والأحاديث آيات الصفات وأحاديث الصفات بل آيات الإضافات ونصوص الإضافات ونحو ذلك من الكلام الموافق لأقوال المعتزلة ما يبين به أن الأشعري وأئمة أصحابه من المثبتين للصفات الخبرية ونحو ذلك أقرب إلى السنة والسلف والأئمة كأحمد بن حنبل وغيره من كلام هؤلاء الذي مالوا في هذا إلى طريقة المعتزلة
وهذه الطريقة التي سلكها أبو الحسين في إثبات أن المحدث لا بد له من حادث هي طريقة أبي المعالي وابن عقيل في كثير من كلامهم وغيرهم
والقاضي أبو بكر يذكر ما يشبهها في الأصلين من استدلاله على افتقار المحدث إلى محدث بالتخصيص والاستدلال على ذلك بالقياس
والأشعري أحسن استدلالا منه مع أنهم كلهم سلكوا سبيل المعتزلة في هذا الأصل وسلموا كلامهم وهي طريقة أثبتوا فيها الجلي بالخفي وأرادوا بها إيضاح الواضح كمن يقرر القضايا البديهية بقضايا نظرية يسندها إلى قضايا أخرى بديهية وذلك العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين في العقل من العلم بأن ما جاز حدوثه لم يكن بالحدوث أولى من ألا يحدث لولا شيء اقتضى حدوثه وبأن ما وجب حدوثه وجب في كل حال
فإن هذه القضايا وإن كانت حقا وهي ضرورية فالعلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين منها والعقل يضطر إلى التصديق بهذه أعظم مما يضطر إلى التصديق بتلك وتصور طرفي هذه القضية أبده في العقل من تصور تلك ولا تعرض هذه القضية وتلك على سليم الفطرة إلا صدق بهذه قبل تلك
وهذا كقول أبي المعالي ومن وافقه على طريقة إذا أثبت حدوث العالم : فالحادث جائز وجوده وكل وقت صادفه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته بساعات فإذا وقع الوجود الجائز بدلا عن استمرار العدم المجوز قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع وذلك - أرشدك الله - مستبين على ضرورة لا حاجة فيه إلى سبر الغير والتمسك فيه بسبيل النظر
ثم إذا وضح اقتضاء الحادث مخصصا على الجملة فلا يخلو ذلك المخصص من أن يكون موجبا وقوع الحدوث بمنزلة العلة الموجبة معلولها وإما أن تكون طبيعة كما صار إليه الطبائعيون وباطلا أن يكون جاريا مجرى العلل فإن العلة توجب معلولها على الاقتران فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة فإن كانت قديمة فيجب أن يجب وجود العالم أزلا وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم وقد أقمنا الدلالة على حدثه وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص ثم يتسلسل القول في مقتضى المقتضي
ومن زعم أن المخصص طبيعة فقد أحال فيما قال فإن الطبيعة عند مثبتها توجب أثرها إذا ارتفعت الموانع فإن كانت الطبيعة قديمة فلتقتض قدم العالم وإن كانت حادثة فلتكن مفتقرة إلى مخصص
قال : وإذا بطل أن يكون مخصص العالم علة أو طبيعة موجبة بنفسها لا على اختيار فتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار مخصص إيقاعها ببعض الصفات والأوقات قلت : فهذه الطريقة هي من جنس طريقة أبي الحسين كما ترى وهي من جنس طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم ومعلوم لكل ذي فطرة سليمة أن العلم بأن الحادث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن التخصص لا بد له من مخصص فإنه ليس التخصص إلا نوعا من الحوادث فإنهم لا يريدون بذلك أن كل تخصيص سواء كان محدثا أو قديما لا بد له من مخصص فاعل له على الاختيار فإن القديم يمتنع عندهم أن يكون له فاعل فلم يبق إلا التخصص الحادث فيكون المعنى أن كل تخصيص حادث لا بد له من مخصص فاعل مختار
والتخصص الحادث إما أن يكون مساويا للحادث في العموم والخصوص أو يكون أخص منه فإن كان مساويا له كان هذا بمنزلة أن يقال : المفعول الحادث والمتجدد الحادث وما أشبه ذلك وإن كان أخص منه كان استدلالا على أن كل محدث لا بد له من محدث لأن هذا النوع من الحادث لا بد له من محدث
ثم إن هذا النوع هو المطلوب إثباته بالدليل فيكون استدلالا على هذا النوع بالجنس ثم استدلالا على الجنس بذلك النوع فيكون استدلالا بالشيء على نفسه
لكن يقال من جهتهم : التخصص وإن كان مساويا للحدوث في العموم والخصوص فجهة كونه تخصيصا غير جهة كونه حدوثا وهم استدلوا بما فيه من التخصيص وإن كان مشروطا بالحدوث على أنه لا بد له من مخصص
فيقال : هذا صحيح لكن عليه سؤالان : أحدهما أن جهة كونه حدوثا أدل على المحدث من جهة دلالة كونه مخصصا على المخصص فإنه لو قال لهم قائل : لا نسلم أن التخصص لا بد له من مخصص لم يكن لهم جواب إلا ما هو دون جوابهم لمن قال : لا نسلم أن المحدث لا بد له من محدث
وإذا كان قد قال : إن ما جاز تقدمه وتأخره فإذا وقع وجوده بدلا عن عدمه قضت العقول ببدائهها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع فلأن يقال : ما حدث بعد أن لم يكن فإن العقول تقضي ببدائهها بافتقاره إلى محدث أحدثه أولى وأحرى فإن العلم بافتقاره المحدث إلى محدث أبين من العلم بافتقار المخصص إلى المخصص وافتقار ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إلى مرجح
السؤال الثاني : أن يقال لهؤلاء كلهم ك أبي الحسين ومن وافقه : هذه المقدمة التي بنيتم عليها إثبات الصانع تعالى تناقضهم فيها فإن حاصلها أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
فإن هؤلاء يقولون : إذا حدث مع جواز أن يحدث وأن لا يحدث لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يكون والآخرون يقولون إذا تخصص بوقت دون وقت مع تشابه الأوقات أو بقدر دون قدر لم يكن تخصيصه بأحدهما أولى من الآخر إلا بمخصص والأول ينبني على أنه قد استوى بالنسبة إلى ذاته الحدوث وعدمه فيفتقر إلى مرجح للحدوث والثاني ينبني على أن الأزمنة والمقادير والصفات مستوية فلا بد من مخصص يخصص أحدهما بالوقوع فيه وكل هذا مبني على أن الأمرين المتساويين في الإمكان لا يترجح أحدهما إلا بمرجح وهذا حق في نفسه لكنهم نقضوه حيث قالوا : إن هذه المحدثات والتخصيصات تقع بلا سبب يقتضي حدوثها ولا اختصاصها
فإنهم وإن أثبتوا فاعلا لكن يقولون : إن نسبة قدرته وإرادته إلى جميع الممكنات سواء وأنه حدثت الحوادث بلا سبب حادث أصلا بل حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ومعلوم أن هذا تصريح برجحان الممكن بلا مرجح تام
وهؤلاء يقولون : القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وهذا هو أصل قول القدرية وهو أصل قول الجهمية الجبرية القدرية أخرجوا به أفعال الحيوان أن تكون مخلوقة لله وقالوا : إن العبد قادر مختار فترجح الفعل على الترك بال مرجح
وقالوا : إن ما أنعم الله به على أهل الإيمان والطاعة مما يؤمنون به ويطيعون هو مثل ما أنعم به على أهل الكفر والمعصية فإن أرسل الرسل إلى الصنفين وأقدر الصنفين وأزاح علل الصنفين وفعل كل ما يمكن من اللطف الذي يؤمن عنده الصنفان بمنزلة من أعطى أبنيه مالا بالسوية ثم قالوا : إن المؤمن فعل الطاعة من غير نعمة خصه الله بها تعينه على الإيمان والكافر فعل الكفر من غير سبب من الله وهذا القول مخالف للشرع والعقل فإن الله بين ما خص به المؤمنين من نعمة الإيمان في غير موضع كقوله تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }
والقدرية يقولون : إن هذا خطاب لجميع الخلق وليس الأمر كذلك بل هو خطاب للمؤمنين كما قال : { أولئك هم الراشدون } وكما قال قبل ذلك : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين * واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم }
فهذا خطاب للمؤمنين لا لجميع الناس
وأيضا فإن العبد إذا كان قادرا على الطاعة والمعصية فلو لم يحدث سبب يوجب وقوع أحدهما دون الآخر للزم الترجيح بلا مرجح وذلك السبب إن كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل فلا بد أن يكون السبب الحادث الموجب للترجيح من غير العبد والسبب الذي به وقعت الطاعة نعمة من الله خص بها عبده المؤمن
ثم إن القدرية من المعتزلة وغيرهم بنوا على هذا أن الرب لم يكن يتكلم ولا يفعل ثم خلق الكلام والمفعولات بغير سبب اقتضى الترجيح وأما المثبتون للقدر من الجهمية ونحوهم فخالفوهم في فعل العبد وقالوا إنه لا يترجح أحد مقدوريه على الآخر إلا بمرجح ووافقوهم في فعل الله
ولهذا يوجد كلام الرازي - ونحوه من هؤلاء - متناقضا في هذا الأصل فإذا ناظروا القدرية استدلوا على أن القادر لا يرجح مقدورا إلا بمرجح وإذا أرادوا إثبات حدوث العالم وردوا على الدهرية بنوا ذلك على أن القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح وقالوا : إن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بغير مرجح يصح من القادر المختار ولا يصح من العلة الموجبة وادعوا الفرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل بالإختيار في هذا الترجيح
وهذا حقيقة قول القدرية لكن جهم نفسه نفى كون العبد قادرا ونفى أن يكون له قدرة على فعل وحينئذ إذا قال : إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح لم ينتقض قوله بناء على أصله الفاسد
و الأشعري وغيره ممن يقول : إن العبد كاسب وله قدرة ويقولون : ليس بفاعل حقيقة ولا لقدرته تأثير في المقدور إن حصل فرق معنوي بين قولهم وقول جهم احتاجوا الى الفرق بين فعل الرب وفعل العبد وإلا كانوا مثل جهم
وأما جمهور المثبتين للقدر الذين يقولون : للعبد قدرة وفعل وهذا قول السلف والأئمة فعندهم أن العبد فاعل قادر مختار وهو لا يرجح أحد مقدوريه على الآخر إلا لمرجح
و الرازي يميل إلى قول هؤلاء ويثبت للعبد قدرة وداعيا وأن مجموعهما يستلزم وجود الفعل
فهؤلاء الطوائف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث والفقه وغيرهم وإن خالفوا المعتزلة بقدر فهم يشاركونهم في الأصل الذي بنى أولئك قولهم في القدر عليه وهم يناظرون الفلاسفة القائلين بالموجب بالذات وأهل الطبع القائلين بأن فاعل العالم علة تامة أزلية تستلزم معلولها
وهذا القول أشد فسادا فإن حقيقة القول هؤلاء أنه ليس لحوادث العالم محدث كما أن حقيقة قول القدرية أنه ليس لفعل الحيوان محدث فما قاله القدرية في فعل الحيوان قاله هؤلاء في جميع حوادث العالم لأن العلة التامة المستلزمة لمعلولها لا يصدر عنها حادث لا بوسط ولا بغير وسط
فهؤلاء شبهوا فعله بفعل الجمادات مع تناقضهم وتقصيرهم في ما جعلوه فعل الجمادات والقدرية شبهوا فعله بفعل الحيوانات مع تناقضهم وتقصيرهم فيما جعلوه فعل الحيوانات ثم المثبتين للقدر من الكلابية وغيرهم يخالفون المعتزلة في إثبات القدر وفي بعض مسائل الصفات ويجعلون المخصص هو الإرادة القديمة التي نسبتها إلى جميع المرادات سواء وقالوا : إن من شأن الإرادة أن تخصص أحد المثلين عن الآخر بلا سبب ولهذا بنوا أصولهم على أن التخصيص بأحد الوقتين لا بد له من مخصص
ثم كلام أبي الحسين وأمثاله أحذق من كلام هؤلاء من وجه وأنقص من وجه فإنه من حيث جعل نفس وجود الحدوث بدلا عن العدم مع جواز أن لا يحدث دليلا على المقتضي لحدوثه كلامه أرجح من كلام من جعل الدليل هو التخصيص بوقت دون وقت فإن نفس الحدوث فيه من التخصيص ما يستغنى به عن نسبة الحادث إلى الأوقات
وأما كونه أنقص فإنه متناقص من وجه آخر وذلك أنه قال : لو حدث مع وجوب أن يحدث لم يكن بأن يحدث في تلك الحال أولى من أن يحدث من قبل فلا يستقر حدوثه على حال إذا كان حدوثه واجبا فإنه بعد أن يتجاوز عن أن نفس الحدوث يستلزم المحدث ولو قدر واجبا يقال له : إذا قدرت الحدوث واجبا فلم لا يجوز أن يكون حدوثه في حال أولى منه في حال أخرى ويكون واجبا في تلك الحال دون غيرها ؟
فإن قال : لأن الأحوال مستوية
قيل له : الأحوال مستوية سواء قدر أن الحدوث واجب أو جائز فلا بد من مخصص سواء قدر الحدوث واجبا أو جائزا
وإن قال : إن الواجب لا يختص بحال دون حال خلاف الجائز
قيل : هذا حق فيما وجب بنفسه لكن ليس العلم به بأبين من العلم يكون الحادث لا يحدث بنفسه بل يحتاج ذلك إلى مزيد بيان وإيضاح أكثر من هذا لأنه قد تقدم تقريره بأن القديم واجب الوجود في كل حال فإنه موجود في الأزل فلا يجوز أن يكون وجوده على طريق الجواز ولا بالفعل فتعيين أن يكون واجبا ولم يقرر أن الواجب لا يختص بوقت دون وقت
فإن قال : هذا بين معروف بنفسه معلوم بالضرورة
قيل له : إذا عرضنا على عقول العقلاء : أن الواجب : هل يكون واجبا في وقت دون وقت ؟ وأن الحادث : هل يحدث بنفسه كان ردهم لهذا الثاني أعظم من ردهم لذاك فلا يقرر الأبين بالأخفى
وأيضا فهذا أرجح من ذاك من وجه آخر وذلك أن الفلاسفة الدهرية الإلهين من المتأخرين ك ابن سينا وغيره يقولون : إن الواجب قد يكون قديما وهو واجب بغيره فالواجب بغيره عندهم قد لا يكون محدثا مع كونه مفتقرا إلى مخصص موجب فإذا عرف افتقاره إلى موجب لم يلزم على قولهم أن يكون له محدثا ولم يقل أحد من هؤلاء : إن المحدث يكون بغير محدث ومن قال هذا فإنه لا ينكر افتقار المخصص إلى مخصص فحينئذ فمن أقر بالمحدث أقر بالمخصص من غير عكس وما دل على المحدث دل على المخصص بالاتفاق وفي العكس نزاع
وأيضا فلو نازعه منازع في أن ما وجب حدوثه يجوز أن يحدث في وقت دون وقت وقال : هذا كما تقول أنت : إن القادر يخصه بوقت دون وقت لاحتاج إلى جواب
فإن قال : القادر له أن يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح كالجائع والهارب
قال له المعترض : فهذا الترجيح واجب أو جائز ؟
فإن قال : واجب
قال : فلم اختص بوقت دون وقت ؟
وإن قال : جائز
قال : فحدوثه مع جواز أن لا يحدث يفتقر إلى ترجيح آخر وإلا لم يكن بالحدوث أولى
وإن قال : العلم بأن الواجب بنفسه لا يختص بزمان دون زمان ضروري
قال المعترض : والعلم بأن الحادث لا بد له من محدث علم ضروري
فإن زعم أن هذا ليس بضروري بل نظري أمكن المعترض أن يقابله ويقول : العلم بأن الواجب لا يختص نظري لا ضروري
والمقصود هنا التنبيه على أصول هؤلاء التي هي عمدتهم وعليها بنوا دينهم الحق وما أدخلوا فيه من البدع وأن ذلك إما أن يكون باطلا وإما أن يكون حقا طولوه بما لا ينفع بل قد يضر واستدلوا على الجلي بالخفي بمنزلة من يحد الشيء بما هو أخفى منه
وإذا كانت الحدود والأدلة إنما يراد بها البيان والتعريف والدلالة والإرشاد فإذا كان المعروف المعلوم في الفطرة ويجعل خفيا يستدل عليه بما هو أخفى منه أو يدفع ويذكر ما هو نقيضه ومخالفه وكانت هذه طرق السلف والأئمة التي دل عليها الكتاب والسنة وهي الطرق الفطرية العقلية اليقينية الموافقة للنصوص الإلهية - تبين أن من عارض تلك الطرق الشرعية - معقولها ومنقولها - بمثل هذه الطرق البدعية بل عدل عنها إليها كان في ضلال مبين كما هو الواقع في الوجود والله يقول الحق وهو يهدي السبيل : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وأما طريق شيوخ المعتزلة التي ذكرها أبو الحسين وعدل عنها فهي أبعد وأطول والأسولة عليها أكثر كما لا يخفى ذلك مع أن هذه الطرق لم تتضمن كذبا ولا باطلا من جهة أنها إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه أو من جهة أنها قضايا كاذبة بل من جهة الاستدلال على الشيء بما هو أخفى منه بخلاف كلامهم في الترجيح بل مرجح والحدوث بلا سبب وإبطال دوام الحوادث فإن منازعيهم يقولون : كلامهم في ذلك من نوع الكذب الباطل وإن لم يعتمدوا الكذب كسائر المقالات الباطلة
وهاتان الطريقتان اللتان ذكرهما أبو الحسين عنه وعن شيوخه هما اللتان اعتمد عليهما كثير من المثبتين للصفات الذين استدلوا بطريقة الأعراض والحركات على حدوث الأجسام كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في المعتمد ) وغيرهما فإنهم سلكوا هذه الطريق فأثبتوا وجودها وأن الأجسام لا تخلو عنها وأنها لا تبقى زمانين وأنها محدثة وأن ما لا يخلو منها فهو محدث لأن الحوادث لها أول وأبطلوا وجود ما لا يتناهى مطلقا وذكروا النزاع في ذلك مع معمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم وأثبتوا ذلك بنظير ما تقدم من الحجيج وقالوا : إن ما لا ينفك عن الحوادث فهو محدث وقالوا : إذا ثبت أن ذلك محدث فلا بد له من محدث أحداثه وصانع صنعه خلافا للملحدة في نفي الصانع
قالوا : والدلالة عليه أن المحدث لو لم يتعلق بمحدث لم تتعلق الكتابة بكتاب ولا الضرب بضارب لأن ذلك كله يتعذر إذا استحالة محدث لا محدث له كاستحالة كتابة لا كاتب لها فلو جاز وجود محدث لا محدث له لجاز محدث لا إحداث له وذلك محال
وهؤلاء يقولون : المحدث عين الإحداث فحقيقة قولهم وجود محدث لا إحداث له وقد جعلوا هنا نفي هذا مقدمة معلومة يحتج بها
قالوا : وأيضا فإنا نرى الحوادث يتقدم بعضها بعضا ويتأخر بعضها عن بعض ولولا أن مقدما قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر لم يكن ما تقدم منها أولى من أن يكون متأخرا وما تأخر أولى من أن يكون متقدما فدل ذلك على أن لها مقدما محدثا لها قدم منها ما قدم وأخر منها ما أخر ثم لا يخلو ذلك الأمر من أن يكون نفس الحادثات أو معنى فيه أو نفسه ولا معنى فيه أو لجاعل جعله فيستحيل أن يكون ذلك لنفسه لأن نفسه هو وجوده والشيء لا يجوز أن يفعل نفسه ولا يجوز أن يكون لذلك المعنى لأن ذلك المعنى لا بد أن يكون موجودا إذ المعدوم ليس له تأثير في ذلك وإذا كان موجودا فلا يخلو من أن يكون قديما أو محدثا فلا يجوز أن يكون قديما لأنه لو كان قديما لوجب قدم الجسم المحدث وذلك باطل وإن كان محدثا فلا بد أن يكون متقدما أو متأخرا فإن كان كذلك مع جواز أن لا يكون متقدما لقدم موجبه فلا يكون كذلك إلا لمعنى آخر وذلك المعنى لمعنى آخر إلى غير نهاية
ولا يجوز أن يكون كذلك : لا لنفسه ولا لمعنى ولا لأمر لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون بالوجود في وقت أولى من عدمه وبقائه على عدمه ولما علو أن اختصاصه بالوجود أولى من عدمه بطل أن يكون إلا لأمر وإذا بطلت هذه الأقسام علم أن هذه الحوادث إنما اختصت في الوجود في أوقات معينة لجاعل جعله وأراد تقديم أحدهما على الآخر وتأخر بعضها عن بعض فثبت ما قلناه
فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى ومن سلك هذه الطريقة كأبي محمد بن اللبان وقبلهما القاضي أبو بكر وغيرهم : هي من جنس ما تقدم
وهؤلاء غالبهم إذا ذكروا طريقتهم في حدوث الأجسام بأن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ذكروا ذلك مسلما كأنه بين وإذا ذكروا مع ذلك أن الحوادث يجب تناهيها وجعلوا ذلك بمنزلة المسلم أو المقدمة الضرورية تسوية بين النوع وأشخاصه فيقولون مثلا إذا أثبتوا حدوث الأعراض وأن الجسم مستلزم لها : الحوادث لها أول أبتدئت منه خلافا لابن الراوندي وغيره من الملحدة
والدلالة على ذلك علمنا بأن معنى المحدث أنه الموجود عن عدم ومعنى الحوادث أنها موجودة عن عدم فلو كان فيها ما لا أول له لوجب أن يكون قديما وذلك فاسد لما بينا من إقامة الدلالة على حدوثها
والجمع بين قولنا : حوادث وأنه لا أول لها مناقضة ظاهرة في اللفظ والمعنى وذلك باطل
ثم يقولون : وإذا ثبت ما ذكرنا من ثبوت الأعراض وحدوثها وأن الجواهر لم تخل منها ولم تسبقها وجب أن تكون محدثة كهي لأن الجواهر لا تخلو من أن تكون موجودة معها أو بعدها أو قبلها فإذا بطل أن تكون الجواهر موجودة قبل الأعراض وبطل أن توجد بعدها وجب أن تكون موجودة معها وثبت حدوثها كحدوث الأعراض فهذا الذي يقوله هؤلاء كالقاضيين ومن وافقهما على ذلك وهذا لفظ القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ونحوهما
والمعترض على ذلك يقول إن موضع المنع لم يقيموا عليه حجة وإنما قالوا : معنى الحوادث أنها موجودة عن عدم فلو كان فيها ما هو لا أول له لوجب أن يكون قديما وهم لا يقولون فيها ما لا أول له بل كل حادث له أول عندهم وإنما يقولون : إن جنسها لا أول له بمعنى أنه لم يزل كل حادث قبله حادث وبعده حادث
وحينئذ فيقولون : إنه لا مناقضة بين قولنا : حوادث وقولنا : لا أول لها لأن معنى قولنا : حوادث أن كل واحد واحد منها حادث منها حادث بعد أن لم يكن ليس معناه أن جنسها حادث
والذي لا أول له هو الجنس عندهم لا كل واحد واحد فالذي أثبتوا له الحدوث هو كل واحد واحد من الأعيان وتلك لم يثبتوا لشيء منها قدما ولا قالوا : لا أول لشيء منها والذي قالوا : لا أول له بل هو قديم هو النوع المتعاقب وذلك لم يقولوا : إنه حادث
ثم إن هؤلاء أيضا بعد ذلك يقررون ما يدقونه من امتناع حوادث لا أول لها في ضمن دعواهم امتناع وجود ما لا يتناهى فيقعدون قاعدة فبقولون : لا يجوز وجود موجودات لا نهاية لعددها سواء كانت قديمة أو محدثة خلافا لمعمر والنظام وابن الراوندي وغيرهم من الملحدة في قولهم : يجوز وجود ذوات محدثة لا نهاية لها وخلافا للفلاسفة في قولهم : يجوز وجود جواهر قديمة لا غاية لها 0
ثم يقولون : والدليل على ذلك أن كل جملة من الجمل لو ضممنا إليها خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها زادت أو نقصت منه خمسة أجزاء لعلم ضرورة أنها قد نقصت
وإذا كان هذا كذلك وجب أن تكون متناهية لجواز قبول الزيادة والنقصان استحال أن تكون متناهية وإذا كان كذلك استحال وجود موجودات غير متناهية قديمة كانت أو محدثة
وليس لأحد أن يقول يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن معلومات الباري عز و جل أكثر من مقدوراته لأن جميع مقدوراته معلومة وله معلومات لا يصح أن تكون مقدورة وهي ذاته تعالى وسائر صفاته وسائر الباقيات والمحالات التي لا يصح وجودها لأن مقدورات الباري ومعلوماته على ضربين : موجودات ومعدومات فالموجودات من المقدورات والمعومات كلها متناهية والمعدومات منها غير متناهية ولا يصح فيها الزيادة والنقصان وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما قالوه فهذا الذي يذكره مثل هؤلاء كالقاضيين وابن اللبان أو غيرهم
وهذه الطريق هي طريق التطبيق ومبناها على أن ما لا يتناهى لا يتفاضل وعليها من الكلام والاعتراض ما قد ذكر في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على طرق الناس في الأصول التي يقول القائل : إنها تستلزم ما يخالف النصوص
كلام الجويني في الإرشاد عن امتناع حوادث لا أول لها
ومنهم من يسلك في دعوى امتناع دوام الحوادث مسلك الضرورة كما سلكه طوائف منهم أبو المعالي في إرشاده الذي جعله إرشادا إلى قواطع الأدلة وجعل أصل الأصول الذي بنى عليه جميع ما يذكره من أصول الدين التي بها كفر أو بدع من خالفه هو دليل الأعراض المذكور وسلك فيه مسلك من تقدمه من أهل الكلام السالكين طريق المعتزلة في تقرير ذلك وهو مبني على أربعة أركان : إثبات الأعراض ثم إثبات حدوثها ثم إثبات لزومها للجسم
قال والأصل الرابع يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها
قال : والاعتناء بهذا الركن حتم فإن إثبات العرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة فأصل مقالتهم أن العالم لم يزل على ما هو عليه فلم تزل دورة الفلك قبل جورة إلى غير أول ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح فكل ولد مسبوق بوالد وكل زرع مسبوق ببذر وكل بيضة مسبوقة بدجاجة فنقول : موجب أصلكم يقضي بوجود حوادث لا نهاية لأعدادها ولا غاية لآحادها على التعاقب في الوجود وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها ونقول من أصل الملحدة أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإذا تصرمت الدورات التي قبل هذه الدورة أذن انقضاؤها بتناهيها وهذا القدر كاف في غرضنا
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذه الحجة هي التي تقدم ذكر اعتراض كثير من النظار عليها حتى أتباع أبي المعالي كالرازي والآمدي والأرموي وغيرهم وهم ينازعونه في قوله : إن بطلان ذلك معلوم بأوائل العقول ويقولون : قد جوز ذلك طوائف متنوعة من العقلاء الذين لم يتلقه بعضهم عن بعض من أهل الملل : المسلمين واليهود والنصارى ومن الفلاسفة الأولين والآخرين وغيرهم بل قد يقولون : إن هذا قول الأنبياء وأتباعهم وفضلاء الطوائف لا يريدون أن قدم العالم هو قول الأنبياء بل يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء لكن يقولون : ما زال الله تعالى متكلما تكلم بما شاء أو ما زال فاعلا يفعل بنفسه ما شاء أو ما زال يفعل الحوادث شيئا بعد شيء أو نحو ذلك من المقالات التي يقولون : إنها موافقة لقول الأنبياء صلوات الله عليهم وأن أقوال الأنبياء لا تتم إلا بها
وأما قدم الأفلاك ودوامها فهو قول طائفة قليلة كأرسطو وأتباعه وقد نقل أرباب المقالات أنه أول من قال بقدم ذلك من الفلاسفة وأن الفلاسفة المتقدمين كانوا على خلاف قوله في ذلك وقول أرسطو هذا وأتباعه هو من أقوال الملاحدة المخالفين للرسل فإن الأقوال التي تخالف ما علم من نصوص الأنبياء هي من أقوال الملاحدة ومن عارض نصوص الأنبياء بعقله كان من الملاحدة
وما الأقوال التي قالها الرسل أو قالت ما يستلزمها ولم تقل نقيض ذلك فهذه لا تضاف إلى الملاحدة بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء ولم يوافقه عليه الأنبياء كان أقرب إلى أقوال أهل الإلحاد ولكن قد تشتبه على كثير من النظار فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلا عقليا ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس لا القول من أقوال الأنبياء بل قد يكون مناقضا لها ولا الدليل دليلا صحيحا في العقل بل فاسدا فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء وما فطر الله عليه العقلاء فمن خالف هذين كان مخالفا للشرع والعقل كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال
والمقصود هنا أن المعترضين على ما ذكر في تناهي الحوادث يقولون : لم يذكر على وجوب تناهيها دليلا فإن عمدته قوله : ما انتفت عنه النهاية يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإذا تصرمت الحوادث أذن انقضاؤها بتناهيها
وهم يقولون لفظ الانتهاء لفظ مجمل : أتريد به الانتهاء بمعنى أنه لا أول لها ؟ أو الانتهاء بمعنى انقضاء ما مضى ؟
أما الانتهاء بالمعنى الثاني فإنهم لا ينازعون فيه بل يسلمون أن ما انتهى فقد انتهى لكن لا يسلمون أن الحوادث انتهت بل يقولون : لم تزل ولا تزال فإن الانتهاء انقطاعها وانصرامها ونفادها وهي لم تنفد ولم تنقطع
وإن قيل : الماضي قد وجد بخلاف المستقبل
قيل : وجود ما وجد مع دوامها لا يوجب انتهاؤه
فإن قيل : فنحن نقدر أنها انتهت وفرغت
قيل : إذا قدر تناهيها لزم تناهيها على هذا التقدير وقيل : إن أريد بتناهيها أن ما مضى هو محدود بالحد الفاصل بين الماضي والمستقبل وهذا انتهاء
قيل : هب أن هذا يسمى انتهاء لكن على هذا التقدير فهي منتهية من هذا الطرف الذي انتهت إليه لا من الطرف الأول الذي لا ابتداء له
وعلى هذا فهؤلاء لا ينازعون في الانتهاء بهذا المعنى بل يقولون : كل ما مضى من الحوادث فقد انتهى وانقضى وانصرم وفرغ
وهذا هو الذي نفاه الله عن كلماته وعن نعيم أهل الجنة كما قال تعالى : { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } [ ص : 54 ]
وقال : { أكلها دائم وظلها } [ الرعد : 35 ] وقال : { لا مقطوعة ولا ممنوعة } [ الواقعة : 33 ]
وقال : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } [ الكهف : 109 ]
وأما عدم الانتهاء بمعنى أنه لا ابتداء لها فلم يذكر دليلا على امتناعه فإن القائل إذا قال : ما انتفت عنه النهاية بمعنى أنه لا ابتداء له يستحيل أن ينصرم بالواحد على إثر الواحد فإن الحوادث إذا انصرمت أذن انقضاؤها بتناهيها
قيل له : انقضاؤها يؤذن بتناهيها من آخرها فالانتهاء والانصرام هنا معناهما واحد فكأن القائل قال : إذا انتهت فقد انتهت وإذا انصرمت فقد انصرمت
وأما كون الانقضاء والانتهاء من الآخر يؤذن بأن لها مبدأ كان بعد أن لم يكن فليس في الانتهاء ما يؤذن بحدوث الابتداء بل هذا هو رأس المسألة وليس الاطراد بالانتهاء هنا انقطاعها بالكلية حتى لا يوجد شيء منها بل المراد انتهاء ما مضى منها فإن ما انقطع بالكلية فعدم جنسه يمكن أن يقال إن له مبتدأ ولو كان قديم الجنس لم يعد فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه سواء كان شخصا أو نوعا
وأما إذا أريد بالانتهاء انتهاء ما مضى مع دوام النوع في المستقبل فليس في هذا الانتهاء ما يستلزم أن يكون أوله محدودا
ومن المعلوم أن العقل إذا قدر حوادث متوالية لم تزل ولا تزال كان يعلم أن كل واحد منها قد انصرم وانصرم ما قبله مع أنه قد قدر دوام هذا النوع كما يعلم أن كل واحد منها له أول مع تقديره أنه لا أول لها فعلم أن هذا التقدير ينافي انصرام ما انصرم ولا حدوث ما حدث وإذا لم يتناف هذا وهذا لم يكن ثبوت أحدهما دليلا على انتفاء الآخر فعلم أن ما ذكروه لا ينافي جواز دوام الحدوث
وقد عارضهم المعترضون بالحوادث المستقبلة وأوردوا سؤالهم
قالوا : فإن قيل : مقام أهل الجنان فيها مؤبد مسرمد فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها
قلنا : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التوالي وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى : ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض وليس في حقيقة الحادث أن يكون له آخر
وقد أجاب المعترضون عن هذا الكلام بأن ما مضى دخل في الوجود ثم خرج فليس هو الساعة داخلا في الوجود وما يستقبل سيدخل في الوجود ثم يخرج فكلاهما في الحال ليس بداخل في الوجود وكلاهما لا بد من دخوله في الوجود وخروجه منه فقد استوى هذا وهذا في الدخول والخروج وفي العدم الآن لكن دخول هذا وخروجه ماض ودخول هذا وخروجه مستقبل وليس في هذا الفرق ما يمنع اشتراكهما فهما اشتركا فيه لا سيما والمضي والاستقبال أمران إضافيان فما من حادث إلا ولا بد أن يوصف بالمضي والاستقبال فيوصف بالمضي باعتبار ما بعده ويوصف بالاستقبال باعتبار ما قبله فإذا نظر إلى حادث معين فما قبله ماض وما بعده مستقبل وهكذا كل حادث
وإذا كانت الحوادث الدائمة كل منها يوصف بالمضي والاستقبال لم يصح الفرق بينهما بذلك فإن من شرط الفرق اختصاص أحد النوعين به وتأثيره في الحكم الذي فرق بينهما فيه لأجله وكلا الأمرين منتف هنا والدليل الدال على انتفاء دوام الحدوث يتناول هذا كتناول هذا فإما أن يصحا جميعا وإما أن يبطلا جميعا
ولهذا كان من طرد هذا الدليل وهما إماما أهل الكلام نفاة الصفات : الجهم بن صفوان إمام الجهمية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة كلاهما ينفي دوام الحدوث في المستقبل كما نفاه في الماضي
وإذا قال القائل : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التعاقب
قيل له : فالمستقبلات تدخل في الوجود وهي لا تتناهى آحادا على التعاقب لكن لم تدخل بعد وذاك دخل ثم خرج
وقوله : يستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد هو محل النزاع إذا قصره على الماضي وإن كان اللفظ عاما فهو خلاف ما سلمه بل هؤلاء يقولون : يجب أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري ما لا يتناهى وإلا لزم أن يكون الرب لم يكن قادرا ثم صار قادرا أو بالعكس من غير حدوث أمر أوجب انتقاله من القدرة إلى العجز وبالعكس وهذا فيه سلب للرب صفة الكمال وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول
ولهذا كان ما أنكره المسلمون على هؤلاء قولهم : إن الرب في الأزل لم يكن قادرا ثم صار قادرا وهو مما استحل به المسلمون لعنة بعض من أضيف إليه ذلك من أهل الكلام لا سيما من يسلم أن الرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال فإنه يجب أن يصفه بأنه لم يزل ولا يزال قادرا والقدرة لا تكون إلا على ممكن فلزم إمكان فعله فيما لم يزل ولا يزال
وقول القائل : من هؤلاء : أنه كان قادرا في الأزل على ما لم يزل كلام متناقض فإنه يقال لهم : حين كان قادرا : هل كان الفعل ممكنا ؟ فلا بد أن يقولوا : لا فإنه قولهم
فيقال لهم : كيف وصف بالقدرة مع امتناع شيء من المقدور ؟ فعلم أنه مع امتناع الفعل يمتنع أن يقال إنه : قادر على الفعل
وأما قوله : إثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض فيقولون : هو تناقض إذا نفى الأولية عن نفس ما له أول وهو كل واحد واحد من الحوادث أما إذا نفى الأولية عما لم تثبت له أولية وهو نوع الحوادث لم يتناقض كما تقدم
ثم قالوا في الفرق بين الماضي والمستقبل ما قاله أبو المعالي قال : وضرب المحصلون لذلك مثالين في الوجهين قالوا : مثال إثبات حوادث لا أول لها قبل كل حادث قول القائل لمن يخاطبه : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله دينارا ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبله درهما فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه دينارا ولا درهما ومثال ما ألزمونا أن يقول القائل : لا أعطيك دينارا إلا وأعطيك بعده درهما ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط
فيقول المعترضون : هذا التمثيل ليس مطابقا لمسألتنا فإن قوله : لا أعطيك حتى أعطيك نفي للمضارع المستقبل إذا وجد قبله ماض فحق القياس الصحيح والاعتبار المستقيم أن يقال : ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله دينارا ولا أعطيتك دينارا إلا أعطيتك قبله درهما فهذا إخبار أن كل ماض من الدراهم كان قبله دينار وكل دينار كان قبله درهم وهو نظير الحوادث الماضي التي قبل كل حادث منها حادث
كما أن قوله : لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده دينارا أو لا دينارا إلا وبعده درهم هو نظير الحوادث المستقبلة التي بعد كل حادث منها حادث فإن أمكن أن يصدق في قوله في المستقبل أمكن أن يصدق في قوله في الماضي وإن امتنع صدقه في الماضي امتنع صدقه في المستقبل إذ العقل لا يفرق بين هذا وهذا ولكنه يفرق بين قوله : لا أعطيك حتى أعطيك وبين قوله : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك
فإذا كان منتهى النظار هو القياس العقلي والإعتبار وهم في القياس الذي جعلون أصل أصول الدين يقيسون الشيء بما يبين مفارقته إياه في عين الحكم الذي سووا بينهما فيه علم أن ذلك قياس باطل
وهذا من أعظم أصولهم أو أعظم أصولهم الذي بنوا عليها نفيهم لما نفوه من أفعال الرب وصفاته وعارضوا بذلك ما أرسل به رسله من أنبائه وآياته
وقوله : لا أعطيك حتى أعطيك مثل قول : ما أعطيتك حتى أعطيتك فهنا نفي الماضي حتى يوجد الماضي وهناك نفي المستقبل حتى يوجد المستقبل وكلاهما ممتنع فإنه نفي للشيء حتى يوجد الشيء وحقيقته الجمع بين النقيضين حتى يجعل الشيء موجودا معدوما كما لو قيل : لا يوجد هذا حتى يوجد هو نفسه فيقتضي أن يكون وجوده قبل وجوده بل في حال عدمه فيكون قد جعل موجودا حال كونه معدوما وهذا ممتنع بين الامتناع
بخلاف قوله : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله ولا أعطيك إلا أعطيك بعده فإنه إثبات بعد كل عطاء عطاء وقبل كل عطاء عطاء فهذا يتضمن إثبات بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل وقبل كل حادث ماض حادث ماض فأين هذا من هذا ؟
وليتدبر العاقل القياس العقلي في هذا الباب فإنهم قد سلموا أنه يجوز أن يكون بعد كل حادث مستقبل حادث مستقبل كما إذا قال : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا
واتفقوا على أنه لا يجوز أن نقول لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا وتنازعوا هل يجوز أن يكون قبل كل حادث ماض حادث ماض أم لا ؟ فمنهم من منع ذلك وقال : هذا مثل أن نقول : لا أعطيك درهما حتى أعطيك دينارا ومنهم من جوز ذلك وقال : ليس هذا مثل هذا الممتنع ولكن هذا نظير ذلك الجائز وهو قوله : لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده دينارا فإن هذا معناه أن يكون بعد كل حادث حادث وذاك معناه أن يكون قبل كل حادث حادث
وهذا المعنى هو هذا المعنى لكن هذا قدم اللفظ بما بعد وهناك قدم التلفظ بما قبل وأما من جهة المعنى فلا فرق بينهما
قالوا : وأما الممتنع فنظيره أن نقول : ما أعطيتك إلا حتى أعطيتك فهذا نظير قوله : لا أعطيك حتى أعطيك ليس نظيره : ما أعطيتك إلا وقد أعطيتك قبله فهنا أصل متفق على جوازه وأصل متفق على امتناعه بل أصلان متفق على امتناعهما وأصل متنازع فيه هل هو نظير هذا الجائز أو نظير الممتنعين ؟
ولهذا كان الذين اتبعوا هؤلاء من المتأخرين كالرازي والآمدي وغيرهما قد يتبين لهم ضعف هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث الأجسام ويترجح عندهم حجة من يقول بدوام فاعلية الباري تعالى وهم يعلمون أن دين المسلمين واليهود والنصارى : أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء لكن قد لا يجمعون بين ذلك وبين دوام فاعلية الباري لكنهم لم يبنوا على ثبوت الأفعال القائمة به المقدورة المرادة له فيبقون دائرين بين مذهب الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم الأفلاك معظمين لأرسطوا وأتباعه كابن سينا وبين مذهب أهل الكلام القائلين بتناهي الحدوث وربما رجحوا هذا تارة وهذا تارة حتى قد يصير الأمر عندهم كأن دين المسلمين ودين الملاحدة عدلا جهل أو ربما مالوا أحيانا إلى دين الملاحدة حتى قد يصنفون في الشرك والسحر كعبادة الكواكب والأصنام
وأصل ذلك نفيهم لما يجب إثباته من فعل الرب تعالى كما دل عليه المنقول والمعقول فإن هؤلاء قد يثبتون أن الذين نفوا قيام الأمور الاختيارية بذات الله تعالى وسموا ذلك نفي حلول الحوادث به ليس لهم على ذلك حجة صحيحة : لا عقلية ولا سمعية بل الذين نفوا ذلك من جميع الطوائف يلزمهم القول به
فإن كان هذا الأصل في المعقول ولزومه للطوائف ودلالة الشرع عليه بهذه القوة وبتقدير إبطاله يلزم ترجيح مذهب الملاحدة المبطلين شرعا وعقلا على أقوال المرسلين الثابة شرعا وعقلا أو تكافي المسلمين بين أهل الإيمان وأهل الإلحاد - تبين ما ترتب على إنكار ذلك من الضلال والفساد
ومصداق ذلك أن الرازي - مثلا - إذا قرر في مثل نهاية العقول وأمثالها من كتبه الكلامية تناهي الحوادث واستوعبت ما ذكره أهل الكلام في ذلك من الحجج عارضه إخوانه المتكلمون فقدحوا فيها واحدة واحدة ثم هو نفسه يقدح فيها في مواضع من كتبه مثل المباحث المشرقية والمطالب العالية وغير ذلك ويبين أن دوام فاعلية الرب مما يجب القول به كما ذكره في المباحث المشرقية فإنه قال في بيان دوام فاعلية الباري : اعلم أنا بينا أن واجب الوجود لذاته كما أنه واجب الوجود لذاته فهو واجب الوجود من جميع جهاته وإذا كان كذلك وجب أن تدوم أفعاله بدوامه وبينا أيضا أن سبق العدم ليس بشرط في احتياج الفعل إلى الفاعل وبينا في باب الزمان أن الزمان لا يمكن أن يكون له مبدأ زماني وحللنا فيه الشكوك والشبه
قال : وأيضا العالم غير ممتنع أن يكون دائم الوجود وما لا يمتنع أن يكون دائم الوجود يجب أن يكون دائم الوجود فالعالم يجب أن يكون دائم الوجود أما الصغرى فقد مضى تقريرها وأما الكبرى فهي أن الذي لا يمتنع أن يكون موجودا دائما لو كان جائز العدم لكان : إما أن يكون عدمه ممكنا دائما أو لا يكون دائما فإن لم يكن له إمكان العدم دائما كان ذلك الإمكان محدودا وإذا تعدى ذلك الحد وجب فيه وجوده وامتنع عدمه مع أن الأحوال واحدة وهذا محال يبقى أنه إن كان عدمه ممكنا فهو ممكن العدم دائما وكل ما كان ممكنا فإنه إذا فرض موجودا أمكن أن يعرض منه كذب وأما المحال فلا يعرض البتة إذا فرض معدوما لكن فرض هذا العدم يعرض منه محال وبيانه هو : أنا نفرض أن أحد طرفي الممكن وهو الوجود الدائم وجد وهو مع ذلك يقوى على عدم الصورة دائما فلا يمتنع أن يقع ذلك الممكن فإن استحالة وقوعه لم يكن ذلك ممكنا لكنه يستحيل مع فرض وجوده دائما عدمه دائما وإلا لكان الشيء في زمان غير متناه معدوما وموجودا معا وهو محال نعم يمكن فرض عدمه بعد وجوده ولكن ذلك العدم غير دائم بل هو عدم متجدد وإذا كان هذا محالا بالوضع ليس بكذب غير محال بل هو محال فالحكم على ما يمكن وجوده دائما بأنه جائز العدم محال فإذا وجوده واجب وهو المطلوب
تعليق ابن تيمية
قلت : فهذه الحجة مضمونها أن الفعل يمكن أن يكون واجب الوجود فيجب أن يكون دائم الوجود لأنه لو لم يكن كذلك لكان ممكن الوجود والعدموالمقصود هنا أنه يمكن دوام وجوده بغيره فيجب دوام وجوده بغيره لا بنفسه إذ لو لم يجب بنفسه ولا بغيره بل أمكن عدمه لوجب أن يمكن عدمه دائما إذ إمكان عدمه في حال دون حال مع تساوي الأحوال محال وإمكان عدمه دائما ينافي وجوبه بنفسه أو بغيره في شيء من الأوقات فإنه لو وجب موجودا في حال بنفسه أو بغيره لم يكن ممكن العدم في حال وجوبه وهو إذا كان موجودا كان بغيره فيكون واجبا بالغير فإذا كان موجودا امتنع - في حال وجوده - أن يمكن عدمه فإذا قدر أنه ممكن العدم دائما بحيث لا يجب لا بنفسه ولا بغيره امتنع أن يكون موجودا في شيء من الأحوال
والتقدير أنه ممكن الوجود بل ممكن دوام الوجود وإمكان الوجود ينافي امتناع الوجود فما أمكن وجوده دائما امتنع عدمه
ونكته الحجة أن ما أمكن وجوده دائما يكون مع وجوده واجبا بغيره فإن الممكن إن اقترن به ما يوجب وجوده صار واجبا بغيره وإن لم يقترن به ما يوجب وجوده صار ممتنعا لغيره إذ الممكن لا يحصل إلا عند المرجح التام الذي يوجب وجوده إذ لو لم يجب معه لكان ممكنا وإذا كان ممكنا لم يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح
وهذا الموضع قد نازع فيه طوائف المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام طائفة يقولون إن القادر يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح أصلا كما يقول ذلك طوائف من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من أصناف المتكلمين
وهؤلاء يقولون : عند وجود القدرة والداعي لا يجب الفعل بل يكون جائز الوجود والعدم
وطائفة من المعتزلة الكرامية يقولون : بل عند وجود المرجح يكون الوجود راجحا على العدم من غير وجود وهذا قول محمود الخوارزمي وابن الهيصم الكرامي وغيرهما
والقول الثالث : هو قول طوائف من أهل السنة والمعتزلة كأبي الحسين : أنه عند وجود القدرة التامة والداعي التام يجب وجود المقدور
والقول الذي اختاره محمود يقول أصحابه : إنه عند وجود المرجح يكون الممكن أولى بالوجود منه بالعدم وإن لم ينته الترجيح إلى حد الوجوب وجعلوا فعل القادر المختار من هذا الوجه
وبهذا يناظرون الناس في مسألة القدر ويناظرون الفلاسفة في مسألة حدوث العالم لكن الناس بينوا فساد قولهم وذلك أنه إذا حصل مرجح وكان مع وجوده يمكن وجود الممكن ويمكن عدمه فلا بد من ترجيح لأحدهما على الآخر
فإن قيل : جانب الوجود : أقوى أو أضعف ؟
قيل : قول القائل : أقوى يريد به أنه مع هذه القوة يمكن وجوده وعدمه أو لا بد من وجوده
فإن قال بالثاني : ثبت وجوبه عند المرجح
وإن قال بالأول قيل له : فإن كان مع القوة يمكن وجوده وعدمه فلا بد من ترجيح وإلا كان الممكن نوعين أو له حالان : حال يحصل فيها بغير مرجح وحال لا يحصل فيها إلا بمرجح
والممكن ليس له من نفسه وجود أصلا بل وجوده ممكن ولا يحصل إلا بغيره فكل ما وصف بهذه الحقيقة يمتنع أن يوجد إلا بغيره فما دام ممكنا لا يوجد إلا بغيره وذلك الغير إذا كان يمكن أن يفعل ويمكن أن لا يفعل كان فعله ممكنا والممكن لا يحصل إلا بغيره
وإذا قيل : الغير هو القادر أو القادر المريد أو نحو ذلك
قيل : مجرد القادر المريد إذا كان معه وجود الفعل تارة وعدمه الأخرى كان ممكنا فلا بد له من مرجح وإلا فإذا قدر استوىء الحال من كل وجه فلا يترجح وإذا لم يكن ترجيح لزم حصول الممكن بلا ترجيح مرجح وهو ممتنع
وهذا الموضع هو الذي أنكره من أنكره من أئمة السنة والحديث ومن أئمة الفلاسفة أيضا على من صار إليه من أهل الكلام : المعتزلة والكلابية كالأشعرية وطائفة من أصحاب أحمد وغيره من الأئمة وهو أصل قول ابن كلاب في مسألة القرآن الذي أنكره عليه الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة وهو أصل شبهة الفلاسفة في مناظرتهم لهؤلاء في قدم العالم وقد بسط في موضعه
وإذا كان الممكن نفسه إما واجبا بغيره وإما ممتنعا لغيره فما كان يمكن دوام وجوده كان مع وجوده واجب الدوام بغيره فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه مع كونه واجب الدوام بغيره فيمتنع أن يكون حينئذ ممكن العدم والحال هذه مع كونه واجب الدوام بغيره فكل ما أمكن وجوده بغيره وأمكن دوامه امتنع مع وجوده عدمه وامتنع مع عدمه وجوده فإنه إذا لم يدم وجوده لزم أن لا يكون هناك ما يقتضي وجوده أو ما يقتضي وجوده في حال دون حال فإن ممكن الوجود إنما يعدم لعدم مقتضيه فالعدم الدائم عدم فيه مقتضى الوجود على سبيل الدوام والعدم الحادث عدم فيه مقتضى الوجود في تلك الحال
والمراد أنه عدم كمال المقتضى لا أنه عدم كل شرط من شروط الاقتضاء بل عدم بعض الشروط كاف في عدمه وعدم المقتضى في حال دون حال مع تماثل الأحوال منتف وعدمه دائما يوجب أنه يمتنع وجوده دائما والتقدير أنه فرض إمكان وجوده دائما
ومادة هذه الحجة مشاركة لمادة الحجة التي اعتمدوها في قدم العالم وهي أن الحدوث بدون سبب الحدوث ممتنع ووجود المقتضى التام في الأزل يستلزم وجود مقتضاه فإن الأصل في ذلك أنه لا يتجدد شيء بدون سبب يقتضي التجدد
فالمنازع لهم من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ونحوهم إما أن يقول : الفعل في الأزل ممتنع كما قاله طوائف منهم وإما أن يقول : هو ممكن لكن لم يحصل ما به يوجد فكان عدمه لفوات شرط الاتحاد إذ التقسيم العقلي يوجب أن يقال : الفعل في الأزل : إما ممكن وإما ممتنع وإذا كان ممكنا فإما أن يحصل مجموع ما به يوجد وإما أن لا يحصل
فالتقدير الأول أنه ممتنع لاستلزام تسلسل الحوادث والثاني أنه وإن قدر إمكانه لكن لم تتعلق به مشيئة الرب تعالى أو قدرته أو لم يحصل تعلق العلم بوجوده قبل ذلك الزمن أو نحو ذلك مما لا يوجد الفعل إلا به
فمن قال : إن دوام الفعل ممتنع فقد أبطلوا قوله كما ذكر ومن قال : إنه ممكن لكن لم يوجد تمام شرطه قالوا له : فهو قبل ذلك كان ممتنعا ثم صار ممكنا بل موجودا مع تساوي الحالين فيلزم الترجيح بلا مرجح
وإذا قال : إنه ممكن وما به يحصل موجود قالوا : فيلزم وجوده
ولما ذكر الرازي هذه الحجة قال : عمدة المنكرين لهذا امتناع حوادث لا أول لها وقد مضى القول فيه في باب الزمان فلا نطول بذكره تطويلاتهم الخارجة عن الأصول
كلام الرازي في المباحث المشرقية عن مسألة حدوث العالم وتعليق ابن تيمية
والموضع الذي أحال فيه ذكر فيه الحجج التي احتج بها هو وغيره على حدوث الزمان ولوازم ذلك من حدوث الحركة والجسم وأبطل ذلك كله فذكر ما احتج به المعتزلة والأشعرية وما ذكره هو في الأربعين ونهاية العقول في مسألة حدوث العالم وأبطل ذلك كله فركب لهم سبع حجج : أولها : الحوادث الماضية تتطرق إليها الزيادة والنقصان وما كان كذلك فبه بداية فللحوادث الماضية بداية بيان الأولى بأربعة أوجه أحدها أن الحوادث الماضية إلى زمن الطوفان أقل من الحوادث إلى زماننا بمقدار ما بين الطوفان وزماننا الثانية : أن الدورات الماضية إما أن تكون شفعا أو وترا وكيفما كان فهو ناقص عن العدد الذي فوقه الثالث : أن عودات القمر لا شك أنها أقل من عودات زحل والمشتري الرابع : أن الدورات الماضية لو كانت غير متناهية لكانت الأبدان البشرية الماضية غير متناهية فكانت النفوس البشرية غير متناهية لامتناع التناسخ فكانت النفوس البشرية الموجودة في زماننا غير متناهية لوجوب بقاء الأنفس البشرية لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا غير متناهية لوجوب بقاء الأنفس البشرية لكن عدد النفوس الموجودة في زماننا قابل للزيادة والنقصان فهو متناه فالنفوس التي كانت موجودة في زمان الطوفان لا شك أنها أقل عددا من عدد النفوس إلى زماننا وكل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه فالنفوس الموجودة البشرية متناهية ثم يستدل بتناهيها على تناهي الأبدان وتناهي الأبدان على تناهي الحركات والمتحركات وتناهي كل العالم
قال : وأما بيان أن كل عدد يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه فقد زعموا أن العلم بذلك بديهي
قال : والحجة الثانية : لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية لتوقف حدوث الحادث اليومي على انقضاء ما لا نهاية له وما يتوقف على انقضاء ما لا نهاية له استحال وجوده وكان يلزم أن لا يوجد الحادث اليومي فلما وجد علمنا أن الحوادث الماضية متناهية
قلت : وهذه هي التي ذكرها من ذكرها من شيوخ المعتزلة والشيعة وقد ذكرها أبو المعالي وأمثاله من أئمة الكلام
والثالثة : أن كل واحد واحد من الحوادث : إذا كان له أول وجب أن يكون للكل أول كما أن كل واحد واحد من الزنج لما كان أسود وجب أن يكون الكل سودا
قلت : وهذه حدة أبي الحسين البصري وأمثاله من المعتزلة
والرابعة : أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية لكان ما لا نهاية له متناهيا وذلك محال وأمثاله من المعتزلة
والرابعة : أن الحوادث الماضية قد انتهت إلينا فلو كانت الحوادث الماضية بلا نهاية لكان ما لا نهاية له متناهيا وذلك محال وهذا من جنس الثاني
والخامسة : أن الأزل إما أن يكون قد وجد فيه حادث أو لم يوجد والأول محال لأن ذلك الحادث يكون مسبوقا بالعدم والأزل لا يكون مسبوقا بالعدم وإن لم يوجد شيء من الحوادث في الأزل فقد أشرنا إلى حالة ما كان شيء من الحوادث هناك موجودا فإذا كل من الحوادث مسبوق بالعدم
السادسة : أن الأمور الماضية قد دخلت في الوجود وما دخل في الوجود فقد حصره الوجود وما حصره الوجود كان متناهيا فالحوادث الماضية يجب أن تكون متناهية
السابعة : أن كل واحد من الحوادث مسبوق بعدم لا أول له فإذا فرضنا جسما قديما وفرضنا حوادث لا أول لها لزم أن لا يكون ذلك الجسم متقدما لا على وجود تلك الحوادث ولا على عدمها ومحال أن يكون الشيء لا يتقدم أمورا ولا يتقدم ما هو سابق على كل واحد واحد من تلك الأمور فيصير حكم السابق والمسبوق في السبق والتقدم حكما واحدا
ثم قال : قالت الفلاسفة : الجواب عما ذكروه أولا من وجوه ثلاثة
الأول : المحكوم عليه بالزيادة والنقصان : إما كل الحوادث وإما كل واحد واحد منهما والأول محال لأن الكل من حيث هو كل غير موجود لا في الخارج ولا في الذهن على ما بيناه في باب اللانهاية وما لا يكون موجودا امتنع أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية من الزيادة والنقصان وغيرهما لما بينا في باب الوجود : أن ما لا يكون ثابتا في نفسه لا يمكن أن يكون موصوفا بالأوصاف الثبوتية
قلت : هذا كقولهم : الحركة غير موجودة والصوت غير موجود والكلام غير موجود وهذا لفظ مجمل فإن أريد بالموجود ما تقترن أجزاؤه في زمن واحد فهذا غير موجود وأما إن أريد ما هو أعم من ذلك بحيث يدخل فيه ما يوجد شيئا بعد شيء فهذا كله موجود وهو من حيث هو موجود شيئا بعد شيء لا موجود على سبيل الاقتران
الثاني : أنا بينا في باب تناهي الأجسام أن الشيء إذا كان متناهيا من جانب وغير متناه من جانب آخر فإذا انضم إلى الجانب المتناهي شيء حتى ازداد هذا الجانب فالزيادة إنما حصلت في الجانب المتناهي لا في الجانب الآخر فلا يلزم أن يصير الجانب الآخر متناهيا إلا أن يقال : إنا نفرض في الذهن انطباق الجانب المتناهي من الزائد على الجانب المتناهي من الناقص فلا بد وأن يظهر التفاوت من الجانب الآخر
ولكن إذا سلمنا لهم صحة هذا التطبيق فإنه لا يصح تطبيق طرف الزائد على طرف الناقص إلا بوقوع فضلة عددية من الزائد ومع ذلك فمن المحتمل أن يمتد الزائد مع الناقص أبدا من غير أن ينقطع الناقص بل يبقى أبدا مع الزائد بتلك الفضلة العددية
الثالث : معارضة ذلك بأمور أربعة : أولها : صحة حدوث الحوادث من الأزل إلى الطوفان أقل من صحتها من الأزل إلى زماننا هذا مع أنه لا يلزم تناهي الصحة
وثانيها : صحة حدوث الحوادث من الطوفان إلى الأبد أكثر من صحة حدوثها من الآن إلى الأبد مع أنه لا يلزم تناهي هذه الصحة في جانب الأبد
وثالثهما : تضعيف الألف مرارا غير متناهية أقل من تضعيف الألفين مرارا غير متناهية
ورابعها : معلومات الله أكثر من مقدوراته مع أن تلك غير متناهية
قال : والجواب عما ذكروه ثانيا - يعني الحجة الثانية - أنه إما أن يعني بالتوقف المذكور أن يكون أمران معدومان في وقت وشرط وجود أحدهما في المستقبل أن يوجد المعدوم الآخر قبله فإن كان الأمر على هذا فقد وجدنا أمرا معدوما ومن شرط وجوده أن توجد أمور بغير نهاية في ترتيبها وكلها معدومة فيبتدي في الوجود من وقت ما اعتبر هذا الاشتراط فالذي يكون كذلك كان ممتنع الحدوث في الوجود وأما أن يعني بهذا التوقف أنه لا يوجد هذا الحادث إلا وقد وجد قبله ما لا نهاية له ثم ادعى أن التوقف بهذا المعنى محال فهذا هو نفس المطلوب فإن النزاع ما وقع إلا فيه
والجواب عما ذكروه ثالثا أنه لا يلزم من ثبوت الأول لكل واحد ثبوت الأول للكل لأن من الجائز أن يكون حكم الكل مخالفا لحكم الآحاد لأن كل واحد من آحاد العشرة ليس بعشرة والكل عشرة وكل واحد من الأجزاء ليس بكل مع أن كلها كل وكل واحد من الحوادث اليومية غير مستغرق لكل اليوم مع أن مجموعها مستغرق لكل اليوم بل نقول : إن الكل من حيث هو كل يستحيل أن يكون مساويا لجزئه من حيث هو جزء وإلا لم يكن أحدهما كلا والآخر جزءا وأما المثال الواحد فلا يكفي لأنا لا ندعي أن حكم الكلية يجب أن يكون مخالفا لحكم الآحاد حتى يضرنا المثال الواحد بل نقول : إن ذلك التساوي قد يكون وقد لا يكون والأمر فيه موقوف على البرهان
قال : والجواب عما ذكروه رابعا أن انتهاء الحوادث إلينا يقتضي ثبوت النهاية لها من الجانب الذي يلينا وثبوت النهاية من أحد الجانبين لا ينافي أن لا نهاية لها من الجانب الآخر والدليل عليه الصحة فإنه لا بداية لها مع أنها قد تناهت إلينا وكذلك حركات أهل الجنة لا نهاية لها مع أنها في جانب البداية لها نهاية
قال : والجواب عما ما ذكروه خامسا وهو قولهم : الأزل هل وجد فيه حادث أم لا ؟ فنقول الأزل ليس حالة معينة بل هو عبارة عن نفي الأولية فالحادث بالزمان الذي هو عبارة عن الشيء المسبوق بالعدم يمتنع وقوعه في الأزل فأما قولهم : لما لم يقع شيء من الحوادث في الأزل فقد أشرنا إلى حالة لم يكن شيء من الحوادث هناك موجودا فنقول : قد بينا أن الأزل ليس وقتا مخصوصا حتى يقال بأن ذلك الوقت قد خلا عن الحوادث بل الأزل عبارة عن نفي الأولية فقولنا : الأزل لم يوجد فيه شيء من الحوادث معناه : أن نفي الأولية لم يوجد فيه شيء من الحوادث أي كل واحد من الحوادث مسبوق بالعدم فلم قلتم : إنه لما كان واحد منها مسبوقا بالعدم وجب أن يكون الكل كذلك فإن النزاع ما وقع إلا فيه
والذي يحسم مادة هذا الوهم معارضته بالصحة فنقول : صحة حدوث الحوادث : هل كانت حاصلة في الأزل أم لا ؟ فإن كانت حاصلة في الأزل أمكن حدوث حادث أزلي وذلك محال وإن لم تكن فللصحة مبدأ أول وهو محال ولما لم يكن هذا الكلام قادحا في أن الصحة لا بداية لها لم يكن قادحا في هذه المسألة
قال : والجواب عما ذكروه سادسا وهو أن ما دخل في الوجود فقد حصره الوجود فهو أن المراد بالحصر أن يكون للشيء طرف ونحن نسلم أن الحوادث محصورة من الجانب الذي يلينا أما لم قلتم : إنه يلزم من ذلك أن تكون محصورة من الطرف الذي لا يلينا ثم نعارض ذلك بصحة حدوث الحوادث ؟
والجواب عما ذكره سابعا من أنه لا يلزم أن لا ينفك الجسم عن حدوث الحوادث وعدمها فنقول : إن عنيتم به أنه يكون موصوفا بوجود كل الحوادث ويكون موصوفا بعدمها معا فذلك باطل لأن الحوادث ليس لكلها وجود حتى يكون الجسم موصوفا بعدمها معا فذلك باطل لأن الحوادث ليس لكلها وجود حتى يكون الجسم موصوفا به وإن عنيتم به أنه في كل واحد من الأزمان يكون موصوفا بواحد من تلك الحوادث فهو في ذلك الوقت لا يكون موصوفا بعدم ذلك الحادث حتى يلزم التناقض بل يكون موصوفا بعدم سائر الحوادث والتناقض إنما يلزم إذا كان الشيء موصوفا بالحادث المعين وبعدم ذلك الحادث معا فأما أن يكون في ذلك الوقت موصوفا بوجوده وبعدم غيره فأي تناقض فيه ؟
قال : هذا جملة ما قيل في هذه المسألة
قلت : فهذا كلام الرازي في هذا مع أنه من عادته في الكتاب المذكور الذي صنفه في الفلسفة وهو أكبر كتبه في ذلك إذا تمكن من القدح فيما يورده الفلاسفة قدح فيه كما قدح في قولهم : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا ونحو ذلك مما يتوجه له القدح فيه وكما تقرر ما ذكره بزيادات وتكميلات لم يذكروها هم إذا توجه له تقرير ذلك فإنه بحسب ما يتوجه له من البحث والنظر
ولهذا كان تارة يعارض ما ذكره الفلاسفة بما يناقضه من كلام المتكلمين كما يعارض من الكتب الكلامية ما يذكره المتكلمون بما يذكره في مناقضة الفلاسفة ويرجح ما يترجح له في تلك الحال وهو مع هذا ذكر هذه الحجج التي هي عمد القائلين بأن الحوادث لا تدوم وعليها بنوا حدوث الجسم وأبطلها كلها وذكر أدلة أولئك في دوام فاعلية الرب تعالى ولم يبطلها
وقد ذكر أيضا حجج هؤلاء في دوام الزمان بكلام طويل ليس هذا موضع بسطه والمقصود هنا أن من يريد هذا وأمثاله من كلام هؤلاء تبين له أن ما ذكره أئمتهم الأشعرية وشيوخ أئمتهم المعتزلة في هذا الباب كان مما تبين لهم فساده ثم مع هذا لا يمكنهم القدح في أدلة الفلاسفة إن لم يقروا بما أنكروه من مدلول الكتاب والسنة الموافق لصريح المعقول فحينئذ يمكنهم القول بالمعقولات الصريحة ويتبين لهم أنها موافقة للمنقولات الصحيحة وليس مما أمر الله به ورسوله ولا مما يرتضيه عاقل أن تقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد بل قول الصدق والتزام العدل لازم عند جميع العقلاء وأهل الإسلام والملل أحق بذلك من غيرهم إذ هم - ولله الحمد - أكمل الناس عقلا وأتمهم إدراكا وأصحهم دينا وأشرفهم كتابا وأفضلهم نبيا وأحسنهم شريعة
ومن المعلوم في دين الإسلام أن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة الخارجين عن الملل وأصح عقلا ودينا ولهذا كان خيار الصابئة من انتسب إلى ملة من الملل وقد اتفق أئمة الدين على إقرار اليهود والنصارى بالجزية وعلى حل ذبائحهم ونسائهم وإن خالف في ذلك أهل البدع
وأما الفلاسفة فإما أن يكونوا من المشركين وإما أن يكونوا من المجوس وإما يكونوا من الصابئين وإما أن يكونوا منتسبين إلى أهل الملل الثلاث فمن كان من المشركين كما يذكر عن الفلاسفة اليونان ونحوهم أو من المجوس كفلاسفة الفرس ونحوهم فاليهود والنصارى خير منه ولذلك هم خير من فلاسفة الصابئين والصابئون للعلماء فيهم طريقتان : إحداهما : أنهم هل يقرون بالجزية أم لا ؟ على قولين والثانية : إنه يفصل الأمر فيهم فمن تدين بدين أهل الكتاب ألحق بهم وإلا فلا وهاتان الطريقتان في مذهب الشافعي و أحمد وغيرهما
والنزاع في إقرارهم الجزية هو على قول من لا يقبل الجزية إلا من المجوس وأهل الكتاب كقول الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين وأما من يقر مشركي العجم بالجزية ك أبي حنيفة و مالك و أحمد في الرواية الأخرى فهؤلاء يتنازعون في حل ذبائحهم ونسائهم ولذلك ينتازع في ذلك من يفرق بين الكتابي الذي دخل سلفه قبل النسخ والتبديل وبين الذين دخلوا بعد النسخ والتبديل كما هو قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد بناء على أن أهل الكتاب الاعتبار فيهم بنسبتهم وهم من كان سلفهم مستمسكين به قبل النسخ والتبديل لكن جمهور العلماء ك مالك و أبي حنيفة و أحمد في المنصوص عنه على أن الاعتبار بنفس الرجل لا ينسبه كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة
والمقصود هنا أنه من رجح بعض أقوال الفلاسفة التي يخالفون فيها أقوال أهل الملل كان شرا ممن رجح بعض أقوال اليهود والنصارى على أقوال المسلمين
وإذا كانت الطريق التي سلكها أهل طريقة الأعراض والتركيب والاختصاص من أهل الكلام يوجب أن يصلوا إلى حد يرجحون فيه طريقة الفلاسفة على طريقة سلفهم من أهل الكلام علم بذلك أنهم جعلوا دين سلفهم المتكلمين أنقص من دين اليهود والنصارى بدرجتين إن كانوا مسلمين وإن لم يكونوا مسلمين جعلوا قول الفلاسفة الملحدين خيرا من قول الأنبياء والمرسلين فإنهم رجحوا كلام الفلاسفة على كلام سلفهم المتكلمين مع اعتقادهم أن أقوال الفلاسفة المناقضة لقول الرسول صلى الله عليه و سلم باطلة وأن اليهود والنصارى خير من الفلاسفة لزم الأول
وإن اعتقدوا أن قول الفلاسفة خير من قول سلفهم وقول سلفهم هو قول الأنبياء لزمهم أن يجعلوا قول الفلاسفة خيرا من قول الأنبياء فإن طرودا قولهم لزمهم ترجيح اليهود والنصارى على سلفهم أو ترجيح الفلاسفة على الأنبياء
وممن كان أقل علما وإيمانا منهم مال إلى القول الثاني ومن كان أعظم علما وإيمانا كان ميله إلى الأول أهون عليه فإن كفر لا حيلة فيه اللهم إلا أن يسلكوا مسلك القرامطة الباطنية فيدعون أن ما أظهرته الأنبياء من الأقوال والأفعال إنما هو للجهال والعامة دون الخاصة وأن لهذه الأقوال والأعمال بواطن تخالف ما أظهروه
وحينئذ فهؤلاء شر الطوائف هم شر من اليهود والنصارى ومن الفلاسفة المشركين القدماء الذين لم تقم عليهم حجة بكتاب منزل ونبي مرسل فإن أولئك وإن كانوا ضالين فهؤلاء شركوهم في الضلال ولكن هؤلاء حصل من حجة الله عليهم بكتابه ورسوله ومن كفرهم الذين يستحقون العقوبة عليه ما لم نعلمه من حال أولئك
وإن كان أولئك قد بلغهم نبوة بعض الأنبياء وأرسل إليهم رسول فليس هو مثل محمد صلى الله عليه و سلم بل نعلم قطعا أنهم لم يأتهم كتاب مثل القرآن ولا رسول مثل محمد صلى الله عليه و سلم ولا شريعة كشريعته
وكل من علم حاله يعلم بالاضرار من دينه أنه أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وأنه خالق كل شيء وأن هذه الأفلاك ليست قديمة أزلية فالقائل بذلك مناقض لأخباره وأخبار موسى وغيرهما من المرسلين مناقضة لا يتمارى فيها من له معرفة بذلك وأي هذين الوجهين اختاره السالك فما فيه مختار
وأصل هذا الضلال جهلهم بحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ونصرهم لما يظنونه جاء به بما يظنونه من المعقول ومعارضتهم لما يعلم أنه جاء به بما يظنونه من المعقول وتوهمهم تعارض صحيح المنقول وصريح المعقول وهذا هو الكلام الذي عابه السلف والأئمة
وأما أهل المعرفة العالمون بالمعقول والمنقول فلا يقولون في سلفهم ما هو من لوازم قولهم كما أنهم لا يقولون في الأنبياء ذلك بل يعلمون قطعا أن كلام الأنبياء هو الحق وكل ما ناقضه من قول متفلسف أو متكلم أو غيرهما فباطل وأنه لا يجوز أن يكون في العقل ما يناقض قول الأنبياء ولا يجوز تعارض الأدلة العلمية السمعية والعقلية أبدا ويعلمون أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس كلام الفلاسفة وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحيانا كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين وإن كان قد يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام
كما قال تعالى : { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } [ آل عمران : 75 ]
وهم يعلمون مع هذا أن كل من كان مؤمنا بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم باطنا وظاهرا على الوجه الذي يرضاه الله فهو خير من كل كتابي لكن من المظهرين للإسلام من المنافقين من يكون في الآخرة أشد عذابا من بعض اليهود والنصارى فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والإسلام الظاهر يتناول المؤمن والمنافق والسعداء في الآخرة هم المؤمنون دون المنافقين والمنافقون وإن أجريت عليهم في الدنيا أحكام الإسلام فما لهم في الآخرة من خلاق
فصل أهل الكلام أقرب إلى الإسلام من الفلاسفة
ونحن نبين هنا ما ننصر به أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الإسلام والسنة من هؤلاء الفلاسفة وإن كانوا ضالين فيما خالفوا به السنة
وذلك من وجوه
الوجه الأول
أن يقولوا لهؤلاء المتفلسفة : أنتم ادعيتم قدم العالم بناء على ما ذكرتموه من قدم الزمان ووجود دوام فاعلية الله تعالى ونحو ذلك مما غايتكم فيه إثبات دوام الحوادث إذ ليس في حججكم هذه وأمثالها ما يدل على قدم شيء من العالم : لا السموات التي أخبر الله أنه خلقها والأرض وما بينهما في ستة أيام ولا غير ذلكفيقولون لهم : الحوادث إما أن تكون لها بداية كما قلنا وإما أنه لا يجب ذلك كما قلتم فإن كان الأول بطل قولكم ولزم أن يكون للحوادث ابتداء فبطل قولكم بأن حركات الأفلاك أزلية وهو المطلوب
وإن كان الثاني أمكن أ يكون حدوث الفلك حركاته موقوفا على حوادث قبل ذلك كالحوادث اليومية وتلك الحوادث على حوادث أخرى وهذا مطابق لما أخبرت به الرسل من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء ومطابق للأخبار المتضمنة أنها خلقها من الدخان والبخار الذي حصل من الماء وذلك كله أسباب حادثة ومطابق لما أخبر به الله من أنه خالق كل شيء وليس في حججكم ما يناقض هذا
الوجه الثاني
أن يقال : دوام فاعلية الرب تعالى ودوام الحوادث يمكن معه أن تدوم الأفعال التي تقوم بالرب بمشيئته وقدرته وتحدث شيئا بعد شيء وأن تحدث حوادث منفصلة شيئا بعد شيء وعلى كل من التقديرين فلا يكون شيء من العالم قديما فلم قلتم : إن الأمر ليس كذلك وإن كان ما ذكرتموه صحيحا ؟ وإن كان باطلا فهو أبعد وأبعدفإن اعتذروا بأن واجب الوجود لا تقوم به الصفات والأفعال كان الجواب من وجوه : أحدها : أن قولكم في هذا أفسد من قولكم بدوام الحوادث وحجتكم على ذلك في غاية الفساد
فإن قلتم : هؤلاء المنازعون لنا من المعتزلة والأشعرية وغيرهم يسلمون لنا هذا
قيل لهم : هؤلاء إنما سلموا لكم امتناع قيام الأفعال المرادة المقدورة بذاته بناء على امتناع قيام الحوادث به وإنما منعوا ذلك لأن ذلك يفضي إلى تعاقبها عليه وإنما منعوا تعاقب الحوادث على القديم لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها فإن كان هذا القول فاسدا لم يكن لهم دليل على نفي ذلك
فيقولون لكم : هذا الدليل إن كان صحيحا بطل قولكم ولزم أن الحوادث لها ابتداء وإن كان باطلا بطل قولنا الذي بنينا عليه نفي الأفعال وليس لكم على هذا التقدير أن تلزمونا بأن القديم لا تقوم به الحوادث بأنا إنما بنيناه على أصل يعتقدون فساده
غاية ما في هذا الباب أنكم تلزمونا التناقض وتقولون : يلزمكم : إما القول بدوام الحوادث وإما القول بجواز قيامها بالقديم
فنقول : إن كان القول بدوامها هو الحق قبلناه وتركنا ذلك وكان في ذلك لنا مصلحتان : إحداهما : موافقة الأدلة العقلية التي ذكرتموها على ذلك والثانية : موافقة النصوص الإلهية التي بدعنا بمخالفتها إخواننا المؤمنين
والقول الذي يجمع لنا موافقة العقل والنقل خير من أن نوافقكم على قدم الأفلاك ونفي صفات الله تعالى فإن في هذا من الكفر المخالف للشرع والفساد المخالف للعقل ما يتبين لمن نظر فيه لا سيما والفلاسفة لا يمنعون قيام الحوادث والصفات بالقديم الأزلي ولا كون الجسم قديما أزليا بل يوجبون ذلك كله ولا دليل لهم على قدم جسم معين كالأفلاك ونحوها
الوجه الثالث
أن يقال للفلاسفة : ما ذكرتموه من الأدلة العقلية الموجبة لدوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولكم لا على وفقه فإن هذا يقتضى أن واجب الوجود لم يزل يفعل ويحدث الحوادث وأنتم على قولكم يلزم ألا يكون أحدث شيئا من الحوادث وذلك لأن الموجب لهذه الحوادث المتعاقبة إما أن يكون ثابتا في الأزل أو لا فإن كان الأول لزم وجود كل من الحوادث في الأزل وهو محال لأن الموجب التام لا يتخلف عنه موجبه ومقتضاه وهم يقولون : إن واجب الوجود علة تامة لا يتخلف عنه شيء من معلوله فإذا كانت هذه الحوادث المتعاقبة معلولة بوسط أو بغير وسط لزم مقارنتها له لأن العلة التامة يقارنها معلولها لا يتخلف عنها وإذا امتنع أن يتخلف عنها معلولها فما تأخر عنها فليس معلولا لها فيلزم أنه لم يحدث شيئا من الحوادث : لا بوسط ولا بغير وسطوقولهم بتسلسل الحوادث لا ينفعهم والحال هذه إذا جعلوه علة تامة مستلزمة لمعلولها لأن التقدير على قولهم : إنه ليس له فعل قائم بذاته متجدد أصلا : لا خلق ولا استواء ولا غير ذلك
ومعلوم أن الحوادث الحادثة هي مختلفة الأجناس متعاقبة في الوجود فالأجناس الحادثة المختلفة إذا قدر أن حال الفاعل لها لم يزل على حال واحدة لا يقوم به فعل ولا وصف بل هو واحد بسيط امتنع أن يختلف حاله في الإحداث وأن يحدث شيئا بعد أن لم يكن أحدثه كما يقولون هم ذلك ويجعلونه عمدتهم في قدم العالم وامتناع أن تحدث عنه الأنواع المختلفة الحادثة شيئا بعد شيء وهو في نفسه لم يتجدد له حال ولا فعل ولا حكم ولا وصف ولا شيء من الأشياء ؟
وهم أنكروا على المتكلمين نفاة الفعل الاختياري القائم به أن يحدث عنه شيء بلا سبب حادث وقالوا : إن هذا مخالف لصريح العقل
فيقال لهم : الباطل بعض قولكم وإذا كان حدوث بعض الحوادث عن هذا ممتنعا فحدوث الحوادث المختلفة دائما عن علة تامة لم يحدث فيها ولا منها شيء أعظم امتناعا من قول هؤلاء
وأيضا فالحادث لا يحدث حتى يحصل الفعل التام المحدث له والممكن لا يحصل حتى يحصل الموجب التام المرجح له والموجب التام يستلزم موجبه ومقتضاه فكل من الحوادث الممكنات ما حدث ووجد حتى حصل له الموجب التام وذلك الموجب التام لا بد له من موجب تام وهلم جرا فيلزم أ يحصل لكل من الحوادث موجبات تامة لا نهاية لها في آن واحد وذلك تسلسل في العلل والمؤثرات وهو باطل باتفاق العقلاء
وإنما لزم ذلك لأن الحوادث يمتنع حدوثها عن العلة التامة القديمة فإن العلة التامة القديمة لا يتخلف عنها معلولها والمحدث يجب أن تكون علته تامة عند حدوثه
وهم يقولون بكلا القولين فلزم من هذين القولين أن واجب الوجود لم يحدث شيئا من الحوادث وأن الحوادث لا محدث لها ويلزم أيضا وجود علل ومعلولات لا نهاية لها وفاعلين لا نهاية لهم وكل ذلك مما يعلمون هم وسائر العقلاء فساده ولا مخلص لهم عن هذا إلا بأن يقولوا بأن واجب الوجود تقوم به الأفعال الاختيارية المقدورة له وتقوم به الصفات وإذا قالوا ذلك بطل قولهم بنفي الصفات ووجوب قدم الأفلاك
فعلم أن ما ذكروه من الحجج الصحيحة الدالة على دوام فاعلية الرب ودوام الحدوث يدل على نقيض قولهم في أفعال الرب تعالى وصفاته وعلى ضد قولهم في قدم العالم وتوحيد واجب الوجود وهذا هو المطلوب وقد بسط ما يتعلق بهذا الكلام في موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على أن كل ما تقيمه كل طائفة من الناس من الحجج العقلية التي لا مطعن فيها فإنها إنما تدل على موافقة الكتب والسنة وإبطال ما خالف ذلك من أقوال أهل البدع متكلمهم ومتفلسفهم والله سبحانه أعلم
ومما يوضح هذا أن عمدة الحجة المتقدمة في دوام فاعليته من جنس الحجة المتقدمة لمن منع حدوث الأفعال القائمة به حيث قالوا : إن كل صفة تفرض لواجب الوجود فإن ذاته كافية في حصولها أو لا حصولها وإلا لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه فيلزم من دوام حقيقته دوام تلك الصفة وهكذا قال القائلون بقدم الفعل قالوا : ذاته إما أن تكون كافية فيه وإما أن تكون متوقفة على غيره فإن كانت كافية فيه لزم قدم الفعل لوجود موجبه التام في الأزل وإن لم تكن كافية فيه لزم افتقاره إلى سبب منفصل وذلك يقتضي إمكانه وهذا هو الذي يعتمدون عليه
والجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : هذا يبطل قولكم ويرد عليكم في جميع الحوادث فإن ذاته إن كانت كافية في حدوث الحوادث لزم قدمها وهو ممتنع وإن لم تكن كافية لزم توقف الحوادث على غير ذاته ثم ذلك الشرط في حدوث الحوادث : إن كانت ذاته كافية فيه لزم قدمه وإلا فالقول فيه كالقول في الحادث المشروط
ومهما قدر من الممكنات أمكن أن يقال : حدوثه موقوف على حادث قبله كما علم حدوثه من المحدثات
وإذا قالوا : مبدأ الحدوث هو حركة الفلك والحركة لذاتها تتجدد شيئا بعد شيء وسبب ذلك تجدد التصورات والإرادات
قيل : هذا بعينه يبطل حجتكم فإن هذا الذي هو كذاته يتجدد شيئا بعد شيء لو كان ذات واجب الوجود وحده كافية في وجوده لزم مقارنته له في الأزل وهو ممتنع فعلم أن ذاته لا تكفي في وجود شيء منه بل كل منه مشروط بما قبله وذاته لا توجب شيئا من الشروط
وإذا قيل : الذات أوجبت وجوده متعاقبا دائما لزم أن يكون الواحد البسيط القديم الذي لا صفة له ولا فعل يوجب لذاته أمورا منفصلة عنه متعاقبة مختلفة سواء كان بواسطة لازمة له أو بغير واسطة وهذا مع أنه باطل في ضرورة العقل فإنه ينقض أصولهم في تناسب الموجب والموجب ولزوم المعلول للعلة التامة وأن الواجب علة تامة
ومن المعلوم بصريح العقل أن المعلول الموجب إذا كان حادثا شيئا فشيئا فلا بد من حدوث أمر في علته الموجبة اقتضت ذلك وإلا فالعلة موجبة إذا كانت عند الحادث الثاني كما كانت عند الحادث الأول كان تخصيصها للأول بالتقدم تخصيصا بلا مخصص وكان ترجيح الأول ترجيحا الأول ترجيحا بلا مرجح
وأيضا فيمتنع أن تكون الحركات الحادثة شيئا بعد شيء معلول علة تامة قديمة أزلية يقارنها معلولها فإن العلة الأزلية التامة يقارنها معلولها والحركات الحادثة شيئا فشيئا ليس شيء منها مقارنا للعلة فامتنع أن يكون معلولا لها
وهذا بخلاف ما إذا كان الفاعل يحدث أفعاله القائمة به شيئا بعد شيء فإن ذاته واجبة الوجود بنفسها فلا يمتنع أن تكون مستلزمة لدوام الفعل وأما المفعولات فكلها ممكنة ليس فيها واجب بنفسه فامتنع أن يكون فيها ما يوجب الفعل الدائم بل ذلك مستند إلى الواجب بنفسه
الثاني : أن يقال : هذا إنما يصح فيما كان لازما لنفسه في النفي والإثبات أما ما كان موقوفا على مشيئته وقدرته كأفعاله فإنه يكون إذا شاءه الله ولا يكون إذا لم يشأه وهم لا يمكنهم إقامة الدليل على أنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته إلا ببيان أنه لازم لذاته ولا يمكنهم بيان أنه لازم لذاته إلا بنفي مشيئته وقدرته فلا تصح حجتهم
فإن قالوا : فتلك الأمور التي يقف عليها الفعل إن كانت قديمة لزم قدمه وإلا فلا بد لحدوثها من سبب
قيل : هذا غايته أنه يجب التسلسل في الشروط والآثار وذلك جائز عندكم
ثم نقول إن كان التسلسل في الشروط جائزا بطل هذا السؤال لجواز تسلسل الشروط وإن كان ممتنعا بطل أيضا لوجوب كون جنس الحوادث مسبوقا بالعدم
والثالث : أن يقال : أتعني بقولك : ذاته كافية : أنها مستلزمة لوجود اللازم في الأزل أم هي كافية فيه وإن تأخر وجوده ؟ فإنه عنيت الأول انتفض عليك بالمفعولات الحادثة فإنه يلزمك إما قدمها وإما افتقاره إلى سبب منفصل إذا كان ما لا تكفي فيه الذات مفتقرا إلى سبب منفصل
وإن عنيت الثاني كان حجة عليك إذا كان ما تكفي فيه الذات يمكن تأخره
الرابع : أن يقال : قولك : يفتقر إلى سبب منفصل : أتعني به سببا يكون من فعل الله أو سببا لا يكون من فعله ؟
أما الأول فلا يلزم افتقاره إلى غيره فإنه إذا كان هو فاعل الأسباب وفاعلها يحدث بها فهو فاعل الجميع وليس مفتقرا في فعل إلى غيره إلا أن يعنى به أنه لا يحصل أحد فعليه إلا بشرط فعله الآخر وهذا ليس فيه افتقار إلى غيره ومن سمى هذا افتقارا إلى غيره فهو بمنزلة من قال : إنه يفتقر إلى صفته
وقد ذكر غير مرة أن هذا بمنزلة قول القائل : إنه مفتقر إلى نفسه وهذا إذا أطلق لا ينافي ما وجب له من الغنى بل هذا الغنى الذي لا يتصور غيره
وإن عنيت بالسبب ما لا يكون من فعله لزمك أن كل ما لا تكفي الذات فيه ولا هو لازم لها في الأزل لا يوجد إلا بشريك مع الله ليس من مفعولاته وهذا مع أنه باطل بالإجماع الذي توافقون عليه أهل الملل فبطلانه معلوم بصريح العقل كما تقدم بيان بطلانه
الخامس : أن يقال ما تعني بقولك : ذاته كافية في ذلك ؟ أتعني به بالذات المجردة عن فعل يقوم بها ؟ أم تعني به الذات الموصوفة بقيام الفعل بها ؟ وأيهما عنيت بطل قولك
فإن عنيت الأول لزم أن تكون الذات المجردة عن الفعل القائم بها تفعل أمورا مختلفة متعاقبة مع أن حالها مع فعل الشيء هو حالها مع فعل خلافه ومع أن حالها بالنسبة إلى وجود المفعول وعدمه سواء وهذا باطل
ثم يقال : إن جاز أن يكون هذا صحيحا جاز أن يكون حالها قبل الفعل وحين الفعل سواء فيمكن قول القائل بأن الحوادث لها أول وإن لم يجز أن يكون صحيحا بطل قولهم بأن الحوادث تصدر بواسطة أو بغير واسطة عن ذات لم يقم بها فعل
وإن عنيت الثاني فالذات الموصوفة بقيام الفعل بها إذا قيل : هي كافية في المفعولات لم يلزم قدم المفعولات لأنها مشروطة بالفعل ولا يلزم من ذلك افتقارها إلى غيرها لأن فعلها الذي هو شرط في المفعولات من لوازم ذاتها كما أن صفاتها من لوازم ذاتها لكن قد يكون اللازم نوعا كالفعل المتعاقب وقد يكون عينا كالحياة التي لم تزل ولا تزال
وهذه الحجة هي التي يعتمد عليها أولوهم وآخروهم لكن يصرفون ألفاظها ومعانيها