كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية
قال الأشعري في المقالات : ( ذكر قول الحسين بن محمد النجار : كان هو وأصحابه يقولون : إن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى وهم فاعلون لها وإنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريده وأن الله لم يزل مريدا أن يكون في وقته ماعلم أنه يكون في وقته مريدا أن لا يكون ما علم أنه لا يكون وأن الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم الفعل وأن العون من الله يحدث في حال الفعل مع الفعل وهو الاستطاعة فإن الاستطاعة الواحدة لا يفعل بها فعلان وأن لكل فعل استطاعة تحدث معه إذا حدث وإن الاستطاعة لا تبقى وأن في وجودها وجود الفعل وفي عدمها عدم الفعل )وذكر سائر قوله في القدر من جنس قول الأشعري وأصحابه ( وأن الإنسان لا يفعل في غيره وأنه لا يفعل الأفعال إلا في نفسه كنحو الحركات والسكون والإرادات والعلوم والكفر والإيمان وإن الإنسان لا يفعل ألما ولا إدراكا ولا رؤية ولا يفعل شيئا على طريق التولد )
قال : ( وكان برغوث يميل إلى قوله )
قال : ( وكان يزعم أن الله لم يزل جوادا بنفي البخل عنه ولم يزل متكلما بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام وأنه كلام الله محدث مخلوق وكان يقول في التوحيد يقول المعتزلة إلا في باب الإرادة والجود وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء وكان يزعم أن جائز أن يحول الله العين إلى القلب ويجعل في العين قوة القلب فيرى الله الإنسان بعينه : أي يعلمه بها وكان ينكر الرؤية لله بالأبصار على غير هذا الوجه )
قلت : فقول ضرار والنجار وأتباعهما كبرغوث وحفص وقول بشر المريسي ونحوه من أهل الكلام الذين ذمهم الشافعي و أحمد وغيرهما من الأئمة ليس فيه إنكار للقدر بل فيه إثبات له وإنما ذمومهم لما في قولهم من نفي ما وصف الله به نفسه مع أن قول النجار وضرار خير من قول المعتزلة وقولهما في الرؤية يشبه قول من ينفي العلو ويثبت الرؤية من الأشعرية ونحوهم وأصل كلامهم الذي بنوا عليه نفي ذلك ما تقدم من الأصول الثلاثة ليس لهم غيرها وهي دليل الأعراض والتركيب والأختصاص
كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله
ومما يبين ذلك ما ذكره الشيخ أبو سليمان الخطابي في رسالته المعروفة في الغنية عن الكلام وأهله قال فيها : ( وقفت على مقالتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويزداد بسلاحه عن حريمها وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك : أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد المقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولا يقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها فرأيت إسعافك لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين فإن الدين النصيحة )[ واستشهد بقول النبي صلى الله عليه و سلم : الدين النصحية الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ]
قال : ( واعلم أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ]
قال : ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم وفضل ذكاء وذهن ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة للعامة وعد واحدا من الجمهور والكافة وأنه قد ضل فهمه واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا عن حقائقها ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس ولا قبلوا بيقين علم )
قال : ( ولما رأوا كتاب الله ينطق يخلاف ما انتحلوه ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولسنته المأثورة عنه وردوها على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالتزيد ونسبوهم إلى ضعف المنة وسوء المعرفة بما يروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سكلوا سبيل القصد ووقفوا عند ما أنتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين وروح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )
تعليق ابن تيمية
فهذا الذي وصفه الشيخ أبو سليمان الخطابي هو حال أهل الكلام الذين يعارضون الكتاب والسنة بعقلهم فيتأولون الكتاب على غير تأويله ويردون الحديث بما يمكنهم مثل زعمهم أنه خبر واحد وأن كان من المستفيضات المتلقاة بالقبول ومثل غير ذلك من وجوه الرد لأن الأصول التي بنوا عليها دينهم تناقض منصوص الكتاب والسنة كطريقة الأعرض والتركيب والاختصاص ونحو ذلك مما تقدموهم فيها خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص في حيرة وشبهة وشك من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات أقدامهم كان في حيرة وشك ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء فهو يدع تقليد النبي المعصوم وإجماع المؤمنين المعصوم ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة الذين هم في شك وحيرة ولهذا لا يوجد أحد من هؤلاء إلا وهو : إما حائر شاك وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة وعقائد غير مطابقة وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية وأدلة يقينية فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها ويبينون أنها شبهات فاسدة وحجج عن الحق حائدة
وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء بخلاف أتباع الرسول صلى الله عليه و سلم المتبعين له فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول هو الموافق لصريح المعقول وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض
قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }
فهؤلاء مثل نور الله في قلوبهم : { كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } : نور الإيمان ونور القرآن نور صريح المعقول ونور صحيح المنقول
كما قال بعض السلف : يكاد المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر فإذا جاء الأثر كان نورا على نور
وقال لغير واحد من الصحابة - كجندب بن عبد الله وعبد الله بن عمر : - تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا
قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }
وأما أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة فهم : إما في الجهل البسيط وإما في الجهل المركب كالكفار فالأولون : { كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
والآخرون : { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب }
فأهل الجهل والكفر البسيط لا يعرفون الحق ولا ينصرونه وأهل الجهل والكفر المركب يعتقدون أنهم عرفوا وعلموا والذي معهم ليس لعلم بل جهل
عود لكلام الخطابي في الغنية
قال أبو سليمان الخطابي : ( واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه ولا انقطاعا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة وقد كان وقع في زمانهم هذه الشبه والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأعرضوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هاهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم واعترضهم الملحدون بشبههم والمتحذلقون بجدلهم - حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا بهم ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان )
تعليق ابن تيمية
قلت : هو كما قال أبو سليمان فإن السلف كانوا أعظم عقولا وأكثر فهموما وأحد أذهانا وألطف إدراكا كما قال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيموقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه و سلم بأن : [ خير قرون الأمة القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]
وأعظم الفضائل فضيلة العلم والأيمان فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزا عنها بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز : على كشف الأمور أقوى وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى
وقول الخطابي : ( تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها ) فسنبين إن شاء الله أن تلك الطرق المخالفة للسنة هي في نفسها باطلة فأضربوا عنها كما يضرب عن الكذب والقول الباطل وإن كان مزخرفا مزينا ولم يستجيزوا أن يقابلوا الفاسد بالفاسد ويردوا البدعة بالبدعة وأما الكلام الذي لا يدري أصدق هو أم كذب فهو بمنزلة الشاهد الذي لا يعلم صدقه فهذا قد يعرض عنه خوفا أن يكون باطلا وكذبا فهذا يكون في الطرق المجهولة الحال
ولا ريب أن كثيرا من الناس لا يعلم أحق هي أم باطل فينهى عن القول بما لا يعلم وقد ينهى بعض الناس عن أن ينظر فيما يعجز عن فهمه ومعرفة الحق فيه من الباطل خوفا من أن يزل ذهنه فيضل ولا يمكن هداه فالخوف يكون فيما لا يعلم حاله أو لا يعلم حال سالكه وإن كان حقا وأما الكلام المخالف للنصوص فهو في نفسه باطل فالنهي عنه كالنهي عن الكذب والكفر ونحو ذلك
وقوله : ( وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه وشرح به صدورهم من نور معرفته )
فهذا بيان لأنهم كانوا أهل علم ويقين لا أهل جهل وتقليد وأنه حصل لهم معرفة يقينية ضرورية بهدى الله لهم وشرح صدورهم كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين أن الإيمان والعلم لا يتوقف على النطر الذي أحدثه أهل الكلام فضلا عن الكلام المخالف للنصوص
وقوله : ( ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب والسنة غنى ومندوحة عما سواهما )
فهذا لأن الكتاب - والسنة - قد بين الحق وبين الطرق التي بها يعرف الحق وذكر من الأدلة العقلية والأمثال المضروبة التي هي مقاييس برهانية ما هو أكمل في تحصيل العلم واليقين مما أحدثه أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة
وليس هدى الكتاب بمجرد كونه خبرا كما يظنه بعضهم بل قد نبه وبين ودل على ما به يعرف الحق من الباطل من الأدلة والبراهين وأسباب العلم واليقين كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع
وما ذكره من أنه لما تأخر الزمان وفترت عزائم بعض الناس عن طلب حقائق علوم الكتاب والسنة أخذوا يردون شبه الملحدين بالكلام المبتدع المستلزم مخالفة النصوص - فهو كما قال وقد تأملت هذا في عامة الأبواب فوجدته كذلك بل وجدت جميع أهل البدع يلزمهم أن لا يكونوا مصدقين بتنزيل القرآن ولا بتفسيره وتأويله في كثير من الأمور والعلم - والإيمان - يتضمن التصديق بالتنزيل وما دل عليه من التأويل وما من بدعة من بدع الجهمية وفروعهم إلا وقد قالوا في القرآن بما يقدح في تنزيله وقالوا في معانيه بما يقدح في تفسيره وتأويله
فمن تأمل طرق المعتزلة ونحوهم التي ردوا بها على أهل الدهر والفلاسفة ونحوهم فيما خالفوا فيه المسلمين رآهم قد بنوا ما خالفوا فيه النصوص على أصول فاسدة في العقل لا قطعوا بها عدوا الدين ولا أقاموا على موالاة السنة واتباع سبيل المؤمنين كما فعلوه في دليل الأعراض والتركيب والاختصاص
وكذلك من ناطرهم من الكلابية وغيرهم فيما خالفوا فيه السنة من مسائل الصفات والقدر وغير ذلك بنوا كثيرا من الرد عليهم على أصول فاسدة : إما أصول وافقوهم عليها مما أحدثه أولئك كموافقة من وافقهم على دليل الأعراض والتركيب ونحوهما وإما أصول عارضوهم بها فقابلوا الباطل بالباطل كما فعلوه في مسائل القدر والوعد والوعيد ومسائل الأسماء والأحكام فإن أولئك كذبوا بالقدر وأوجبوا إنفاذ الوعيد وقاسوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح وهؤلاء ابطلوا حكمة الله تعالى وحقيقة رحمته وعدله وقالوا ما يقدح في أمره ونهيه ووعده ووعيده وتوقفوا في بعض أمره ونهيه ووعده ووعيده فصار أولئك يكذبون بقدرته وخلقه ومشيئته وهؤلاء يكذبون برحمته وحكمته وببعض أمره ونهيه ووعده ووعيده كما قد بسط في موضعه
فكان ما دفعوا به أهل البدع من أصول مبتدعة باطلة وافقوهم عليها أو أصول مبتدعة باطلة قاتلوهم فيها ضلة من الرأي وغبنا فيه وخدعة من الشيطان بل الحق أنهم لا يوافقون على باطل ولا يقابل باطلهم بباطل
وهذا كما أصاب كثيرا من الناس من أهل العبادة والزهد والتصوف والفقر أعرضوا عن السماع الشرعي والزهد الشرعي والسلوك الشرعي فاحتاجوا أن يعتاضوا عن ذلك بسماع بدعي وزهد بدعي وسلوك بدعي يوافق فيه بعضهم بعضا في باطل أو يقابل باطلهم بباطل آخر وكما أصاب كثيرا من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم فيعاونونهم على الإثم والعدوان وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر فيخرجون عليهم ويقاتلونهم بالسيف وهو قتال الفتنة فمن الناس من يوافق على الظلم ولا يقابل الظلم مثل ما كان بعض أهل الشام ومنهم من كان يقابله بالظلم والعدوان ولا يوافق على حق ولا على باطل كالخوارج ومنهم من كان تارة يوافق على الظلم وتارة يدفع الظلم بالظلم مثل حال كثير من أهل العراق
وكثير من الناس مع أهل البدع الكلامية والعملية بهذه المنزلة : إما أن يوافقوهم على بدعهم الباطلة وإما أن يقابلوها ببدعة أخرى باطلة وإما أن يجمعوا بين هذا وهذا وإنما الحق في أن لا يوافق المبطل على باطل أصلا ولا يدفع بباطل أصلا فيلزم المؤمن الحق وهو ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه و سلم ولا يخرج عنه إلى باطل يخالفه : لا موافقة لمن قاله ولا معارضة بالباطل لمن قال باطلا وكلا الأمرين يستلزم معارضة منصوصات الكتاب والسنة بما يناقض ذلك وإن كان لا يظهر ذلك في بادي الرأي
بقية كلام الخطابي في الغنية
قال أبو سليمان : ( فإن قال هؤلاء القوم : فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول لم يثبت صدقة إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها ؟ )قال أبو سليمان : ( قلنا : إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز و جل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها )
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمةو الخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك وهذا كما ذكره الأشعري وغيره ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة وإنما ذموها لكونها بدعة أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها
وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها قد يقول ببعض موجباتها كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله ما يوافق موجبها وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم كما هو مذكور في غير هذا الموضع وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم
وأما قوله : ( إنهم أخذوا هذه الطريقة من الفلاسفة ) كما ذكر ذلك الأشعري
فيقال : كثير من الفلاسفة يبطل هذه الطريقة كأرسطو وأتباعه فلم يوجد عنهم ومن الفلاسفة من يقول بها والذين قالوا بها من أهل الكلام ليس كلهم أخذها عن الفلاسفة بل قد تتشابه القلوب
كما قال تعالى : { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم }
وقال تعالى : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون }
وأكثر المتكلمين السالكين لها مناقضون للقول المشهور عن الفلاسفة لا موافقون لهم بل يردون على أرسطو وأصحابه في المنطق والطبيعيات والألهيات
تابع كلام الخطابي في الغنية
قال الخطابي : ( وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمد صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيراوقال له : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }
وقال صلى الله عليه و سلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه : [ ألا هل بلغت ]
وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فلم يترك صلى الله عليه و سلم شيئا من أمور الدين : قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله - إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة : أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل )
قال الخطابي : ( وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه :
أحدهما : ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به وبسورة من مثله وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه : إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرهم طبعا وتركيبا ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته وحجة عليهم في وجود تصديقه وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهودة عنه الخارجة عن سوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصا في كفه وحنين الجذع لمفارقته ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه وسجود البعير له ونبوع الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم وأخبار الذراع إياه بأنها مسمومة وأمور كثيرة سواها يكثر تعدادها هي مشهورة ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن )
قال الخطابي : ( فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز و جل وأمر صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } : إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على جود الصانع الحكيم لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء والكبد التي يسلك إليها صفاوته وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن
وكقوله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت }
وكقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل الذي بان حقه وعن قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي قد ظهر صدقه ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم كافة عن كافة قرنا بعد قرن فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة وينقطع فيها العذر ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم عليه بها الحجة فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين وفي التوصل إلى المقصود به أقرب إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس وبمقدمات من العلم مركبة عليها لا يقع الخلف في دلالتها )
تعليق ابن تيمية
قلت : ذكر الخطابي طريقين إلى معرفة الله وصفاته : طريقا سمعية وطريقا عقلية وكلاهما طريق شرعية معروفة بالقرآن أما الأولى : فهو أن تعلم نبوة النبي صلى الله عليه و سلم بما أظهره الله على يديه من المعجزات وبغير ذلك ثم يعرفون بذلك ما أخبرهم به ودعاهم إليه من التوحيد وإثبات الصفات وهذا لأن نفس الإقرار بالصانع سبحانه فطري ضروري أو معلوم بأدنى نظر وتأمل يحصل لعموم الخلقثم معرفة صدق الرسول صلى الله عليه و سلم تعلم بما أظهره من المعجزات الدالة على صدق الرسول وقد نبه الخطابي أن فيما جاء به الرسول من بيان الطرق العقلية التي يعرف بها ثبوت الخالق وتوحيده وصفاته فإن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يكن تعريفه للناس ما عرفهم إياه بمجرد خبره وإن كان ذلك بعد ثبوت صدقه كما يظنه كثير من أهل الكلام بل عرفهم ما به يعرف ثبوت الخالق ووحدانيته وصفاته وما به يعرف صدقه فبين ما جاء به من أصول الدين وأدلته العقلية التي يعلم بها ما يمكن معرفته بالعقل وأخبرهم عن الغيب الذي لا يمكنهم معرفته بمجرد عقلهم
ولهذا قال الخطابي : ( وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أنه لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة )
قال : ( وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }
إلى قوله : ( وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يذكرها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الأمور ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب إلى آخر كلامه )
كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة
وهذا مما اعترف به النظار من جميع الطوائف : من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم كما قال القاضي عبد الجبار في أول كتابه المصنف في تثبيت نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم قال : ( الحمد لله الذي من على عباده بإرسال رسله وختمم بسيدهم محمد صلى الله عليه و سلم فأرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإنما يعرف الرسول من عرف المرسل وقد حصل لك العلم به تبارك وتعالى بما في كتاب المصباح وغيره وأجلها وأعظمها وأوضحها وأبينها ما في القرآن مما نبه الله عليه وجعله في عقول العقلاء فينبغي أن يراعيه ويديم النظر فيه ويواصل الفكر في آيات الله ويعتبر بالنقل والاعتبار تنال المعرفة )وكذلك قال الأشعري في كتابه المشهور المعروف باللمع لما ذكر خلق الإنسان واستدل به على الخالق تعالى كما قد حكينا كلامه وذكرنا كلامه وكلام القاضي أبي بكر عليه وأن كلامه أجود مع أنه جعل الإنسان مما يستدل على خلق جواهره بأنها لا تخلو من الحوادث بناء على أن الحدوث المشهود إنما هو حدوث الأعراض كالتأليف والتركيب وهو المراد بالخلق بناء على ثبوت الجوهر الفرد
وهذا وإن كان ضعيفا وأكثر علماء المسلمين ينازعون في هذا
كلام الباقلاني شرح اللمع
فالمقصود أنه استدل بالخلق على الخالق قال القاضي أبو بكر : ( ثم قال أبو الحسن مؤيدا لما ذكره من حدوث الإنسان وحدوث تصويره وتعلقه بخالق خلقه ومدبر دبره : وقد قال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له يكون قال : وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم ومدبر دبرهم )قال القاضي أبو بكر : ( واعملوا أن الغرض بذكر الآيتين الإخبار عن الله في نص كتابه بما دلهم العقول عليه وتقريبه والتنبيه على موضع الاستدلال به من جهة السمع ليكون المرء عند سماعه أقرب إلى العلم بإدراك ما يلتمس علمه وترتيب ما النظر فيه على حقه وموجبه وأن يجمع لأهل التوحيد المقربن بالسمع بين دلائل العقول وتنبيه السمع عليها وأن النظر في مقدورات الله والاعتبار بها طريقا إلى العلم بصانعها المدبر بها والخالق لأعيانها )
قال : ( وأما وجه التنبيه من قوله : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } فهو أن من سبيل الخالق المنشىء أن يكون ماخلقه واقعا بقصده وإرادته وأن يجد نفسه قادرة عليه وعلى إجاد عينه إن كان مخترعا له أو على تصويره وتخطيطه إن كان الخلق تصويرا وتقديرا )
قال : ( وإذا ثبتت هذه الجملة وعلمنا أن وجود الولد بنيته وهيئته وليس بمقصور على إرادة الوالد ولا مما يجد في نفسه القدرة عليه - ثبت بذلك أن الولد المخلوق ليس من فعل الوالد على سبيل المباشرة ولا على جهة التولد عن حركاته )
قال : ( وأما وجه التنبيه من قوله : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } رده لهم إلى الاعتبار في أحوالهم وتنقلهم من حال إلى حال ومن تركيب إلى تركيب وعجيب ما قد فعل بذواتهم من التصوير والتأليف وخلق الحواس ومواضعها وتركيب كل عضو من أعضائهم على صفة ما يحتاج إلى استعماله فيه : من اليد للبطش والرجل للمشي وغير ذلك من جوارحهم ومايتجدد في أنفسهم من الحوادث التي لم تكن ويزول عنهم من الأمور الني يؤثرون استدامتها مع علمهم بأن الصورة لا بد لها من مصور وأن التأليف للدار والكتابة وضروب المنسوجات والمصنوعات لا بد لها في عقولهم من صانع مؤلف وأن التغير في صفاته مع جواز بقائه على ما يعبر عنه لا بد له من ناقل نقله ومغير غيره وأنهم يجب أن يعلموا بذلك أن تصوير الإنسان وتغيره في الأحوال التي ذكرها أولى أن يتعلق بمصور صوره وناقل نقله وغيره من تركيب إلى تركيب وحال إلى حال : أن الإنسان أقرب إلى علم هذا بالتنبيه من ناحية السمع عليه وأجدر أن يتحقق علم ما فيه وإن كان لو أفرد بعقله وأحيل على صحيح نظره لقال بما نبه السمع على مواضعه وإن احتاج في ذلك إلى فضل فكر بالكد والروية وإتعاب النفس في طلب الحق )
قال : ( فهذا وجه التنبيه مما تلاه من التنزيل )
وذكر في التوحيد والمعاد نحوا من ذلك بخلاف نفي التشبيه فإنه جعله من باب ما دل القرآن عليه بالخبر
وأما ما ذكره هو وغيره : من أنهم عرفوا صدق الرسول بالمحجزات ابتداء فهذا يكون على وجهين :
أحدهما : أنهم عرفوا إثبات الخالق بالضرورة ثم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات
الثاني : أن يقال : نفس ظهور المعجزات دلت على إثبات الخالق وعلى صدق رسوله كما كان إظهار موسى للآيات : مثل العصا واليد دليلا على الصانع وعلى صدق الرسول
ولهذا لما قال له فرعون : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } قال له موسى : { قال أو لو جئتك بشيء مبين * قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين }
فأظهر موسى هذه الآيات لما قال له فرعون : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } فدل ذلك على أنه أظهرها لإثبات العلم بالصانع ولصدق الرسول والأدلة الدالة على صدق الرسول كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع وبنبوته يستدل على تفصيل صفات الله وأسمائه وعلى توحيده الذي هو عبادته وحده لا شريك له وهو توحيد الإلهية وكذلك على توحيد الربوبية
فكلا نوعي التوحيد مما يمكن علمه بالسمع وهذا مما اعترف به غير واحد من حذاق النظار وقالوا : إنه يمكن العلم بصدق الرسول قبل العلم بالوحدانية مع أن الخطابي أردا - والله أعلم - بعلم التوحيد : علم صفات الرب سبحانه وأسمائه فإنهم يسمون ذلك علم التوحيد وذلك مما يمكن معرفته بالشرع فإنه يعلم بالفطرة وبالعقل إثبات الصانع على طريق الإجمال وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع
وأيضا فإذا عرف أن العلوم الإلهية حقيقتها موجودة عند الأنبياء عليهم السلام فإنهم الصادقون المصدقون فيما يخبرون به من ذلك وأن الواجب تلقي ذلك عنهم - كان العلم بأن هذا يستفاد من الرسول يمكن إثباته بما به يعلم أنه رسول وإذا علم أنه رسول تعلم منه هذا المطلوب كما إذا عرف أن علاج المرضى يؤخذ من الأطباء والاستفتاء يرجع فيه إلى المفتين وأمر التقويم يرجع فيه إلى المقومين فإذا عرف أن هذا طبيب أو مفت أو مقوم رجع إليه في ذلك
وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق النبي صلى الله عليه و سلم له طرق متعددة فمن ادعى من المتكلمين : المعتزلة والجهمية وموافقيهم - أنه لا يمكن العلم بصدقة إلا بعد العلم بحدوث الأجسام وأن ذلك لا يعلم إلا بطريقة الأعراض فقوله خطأ مبتدع وهو الذي ذكر الخطابي أنه لم يسلك أحد من السلف هذه الطريق
وأما الطريق العقلية التي ذكرها فهي طريق دل عليها القرآن وأرشد إليها ونبه عليها وهي الاستدلال بما يجدونه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكما عالما خبيرا إلى قوله : ( فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها )
وهذا لأن الفعل الواحد المتسق المنتظم لا يكون عن اثنين ولا يكون إلا عن عالم قادر كما بين في غير هذا الموضع
عود لكلام الخطابي في الغنية
فهذه الصفات ونحوها مما يعلم بالعقل قال : ( ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل ) وهذا كالصفات الخبرية : مثل الوجه واليدين والاستواء على العرش ونحو ذلكقال الخطابي : ( فأما الأعراض فإن التعلق بها إما أن يكون عذرا وإما أن يكون تصحيح الدلالة من جهتها عسرا متعذرا وذلك أن اختلاف الناس قد كثر فيها فمن قائل : لا عرض في الدنيا ناف لوجود الأعراض أصلا وقائل : إنما هي قائمة بأنفسها لا تخالف الجواهر في هذه الصفة إلى غير ذلك من الاختلاف فيها وأوردوا في نفيها شبها قوية فالاستدلال بها والتعلق بأدلتها لا يصح إلا بعد التخلص من تلك الشبه والانفكاك عنها والطريقة التي سلكناها سليمة من هذه الآفات برية من هذه العيوب فقد بان ووضح فساد قول من زعم وادعى من المتكلمين أن من لم يتوصل إلى معرفة الله تعالى وتوحيده من الوجه الذي يصححونه من الاستدلال فإنه غير موحد في الحقيقة لكنه مستسلم مقلد وأن سبيله سبيل الذرية في كونها تبعا للآباء في الإسلام وثبت أن قائل هذا القول مخطىء وبين يدي الله ورسوله متقدم وبعامة الصحابة وجمهور السلف مزر وعن طريق السنة عادل وعن نهجها ناكب )
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا الذي ذكره الخطابي بين ظاهر بتقدير أن تكون تلك الطريق صحيحة في نفسها موصلة إلى العلم فإن سلوكها - والحال هذه - إما غرر وخطر وإما مشق صعب بل معجوز عنه فإنها تحتاج إلى تصحيح مقدمات كثيرة دقيقة متنازع فيها وقد لا تثبت للإنسان فيضل عنها فكانت بمنزلة من يريد الحج من طريق بعيدة مخوفة يمكن سالكها أن يصل بعد جهد ومشقة ويمكن أن ينقطع فمثل هذه الطريق قد يعجز صاحبها وقد يضل بعد جهد ومشقة عظيمة إذا لم يكن فيها مخوف وإذا كان فيها مخوف فقد يهلك قبل الوصولومعلوم أن من عدل إلى هذه الطريق وترك الطريق المستقيمة الواضحة الآمنة الميسرة كان ظلوما جهولا
وأما بتقدير أن تكون طريقا فاسدة كما يعرفه من عرف حقيقتها فإنها : إما أن لا توصل إلى مطلوب لأن النظر في الدليل الفاسد يستلزم الجهل المركب لا محالة بل قد لا يحصل معه لا علم ولا جهل وهذا حال كثير من حذاق النظار الذين سلكوها وإما أن توصل إلى نقيض الحق إذا اعتقد سالكها صدق بعض مقدماتها الكاذبة وهذه حال كثير ممن اعتقد صحتها وعارض بموجبها صحيح المنقول وصريح المعقول
وهي حال أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم على مقتضاها فإنها منشأ ضلال ما شاء الله تعالى من طوائف أهل الكلام كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع فالأولون يبقون في الجهل البسيط وهؤلاء يصيرون في الجهل المركب
تابع كلام الخطابي في الغنية
قال الخطابي : ( فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف فلا تشتغل - رحمك الله - بكلامهم ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازنه أو يقاربه فكل بكل معارض وبعض ببعض مقابل وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان وحذقه في صنعة الجدل والكلام وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم فهم يطالبونهم بقودها وطردها فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعا وجعلوه مبطلا وحكموا بالفلج لخصمه عليه والجدل لا يبين به حق ولا تقوم به حجة وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثلاثة غيرهما فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن كان مفسدا له قول خصمه لأنهما مجتمعان معا في الخطأ مشتركان فيه كقول الشاعر فيهم :( حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور )
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحدا من الفريقين لا يعتمد في مقالتها التي ينصرها أصلا صحيحا وإنما هي أوضاع تتكافأ وتتقابل فيكثر المقال ويدوم الاختلاف ويقل الصواب
قال الله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فأخبر سبحانه ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه
ثم قال سبحانه في الحق : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }
قال الخطابي : ( فإن قيل : دلائل النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه و سلم - ما عدا القرآن - إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر والحجة لا تقوم بنقل الآحاد على من كان في الزمان المتأخر لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها قيل : هذه الأخبار وإن كانت شروط التواتر في آحادها معدومة فإن جملتها راجعة من طريق المعنى إلى التواتر ومتعلقة به جنسا لأن بعضها يوافق بعضا ويجانسه إذ كل ذلك واقع تحت الإعجاز والأمر المزعج للخواطر الناقض لمجرى العادات )
قال : ( ومثال ذلك أن يروي قوم ان حاتم طي وهب لرجل مائة من الأبل ويروي آخرون أنه وهب لرجل آخر ألفا من الغنم ويروي آخرون أنه وهب آخر عشرة أرؤس من الخيل والرقيق إلى ما يشبه ذلك حتى يكثر عدد ما يروى عنه فهو وإن لم يثبت التواتر في كل واحد منها نوعا نوعا فقد ثبت التواتر في جنسها وحصل من جملتها العلم بأن حاتما سخي كذلك هذه الأمور وأن لم يثبت لأفراد أعيانها تواتر فقد ثبت برواية الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم ولا يتوهم التواطؤ في الكذب عليهم أنه قد جاء بمعنى معجز للبشر خارج عما في قدرهم فصح بذلك أمر نبوته )
كلام الخطابي في كتاب شعار الدين
وقال الخطابي أيضا فيما ألحقه بكتاب شعار الدين وبراهين المسلمين ( الكلام المكروه الذي زجر عنه العلماء وعابوه هو التجرد في مذهب الكلام والتعمق فيه على الوجه الذي يذهب المتكلمون وذلك أنهم أدعوا الوقوف على حقائق الأمور من جهة العقول وزعموا أن شيئا من المعلومات لا يذهب عليهم علمه ولا يعجزهم إدراكه على سبيل التحديد والتحقيق )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا هو حقيقة قول من لم يجعل السمعيات تفيد العلم إنما يحصل العلم عنده من جهة العقل فقط وقول من يظن أنه بمجرد عقله يعرف ما جاءت به الشرائعولهذا قول الإمام أحمد في أول رسالته في السنة التي رواها عنه عبدوس بن مالك العطار : ( ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول ) فبين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لا يجوز أن يعارض بضرب الأمثال له ولا يدركه كل أحد بقياس ولا يحتاج أن يثبته بقياس بل هو ثابت بنفسه وليس كل ما ثبت يكون له نظير وما لا نظير له لا قياس فيه فلا يحتاج المنصوص خبرا وأمرا إلى قياس بخلاف من أردا أن ينال كل ما جاءت به الرسل بعقله ويتلقاه من طريق القياس كالقياس العقلي المنطقي وهو قياس الشمول أو قياس التمثيل ونحو ذلك فإن كلا من هذا وهذ يسمى قياسا
وقد تنازع الناس في اسم القياس : هل هو حقيقة في قياس التمثيل مجاز في قياس الشمول ؟ كما يقوله أبو حامد الغزالي و أبو محمد المقدسي وغيرها أو هو حقيقة في قياس الشمول مجاز في قياس التمثيل ؟ كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره أو القياس حقيقة فيهما ؟ كما يقوله الجمهور على ثلاثة أقوال
وأيضا فهم متنازعون في الجنسين : أيهما هو الذي يوصل إلى العلم ؟ كثير من الناس من أهل النطق اليوناني ونحوهم يزعم أن الموصل إلى العلم هو قياس الشمول فقط دون قياس التمثيل وكثير من أهل الكلام يرجح قياس التمثيل ويقول : إن قياسهم المنطقي قياس الشمول قليل الفائدة أو عديمها
وحقيقة الأمر أن القياسين متلازمان فكل قياس شمول هو متضمن لتمثيل وكل قياس تمثيل هو متضمن لشمول فأن القايس قياس التمثيل لا بد أن يعلق الحكم بالوصف المشترك فإذا قال : النبيذ المسكر حرام لأنه مسكر فكان حراما كخمر العنب فقد علق التحريم بالسكر ولا بد له من دليل بدل على تعلق الحكم بذلك الوصف المشترك : إما بنص أو إجماع أوغير ذلك من الطرق الدالة على أن الحكم معلل بذلك الوصف المشترك بين الأصل والفرع وهو الذي يسمى جواب المطالبة فإن القايس إذا قاس توحه عليه منوع أحدها : منع الحكم في الأصل والثاني : منع ثبوت الوصف الذي علق به الحكم في الأصل والثالث : منع وجوده في الفرع وهذه الأسولة الثلاثة قد يسهل جوابها والرابع : منع علة الوصف وهو منع كون الحكم متعلقا به وهذا أعظم الأسولة
وذلك الوصف الذي علق به الحكم يسمونه : علة وسببا وداعيا وموجبا ومناطا وباعثا وأمارة وعلامة ومشتركا وأمثال ذلك ثم إذا أراد المستدل أن يصوغ هذا قياس شمول قال : النبيذ مسكر كل مسكر حرام ولا بد له من إثبات هذه القضية الكبرى وهو قوله : كل مسكر حرام كما يحتاج الأول إلى إثبات كون السكر هو مناط التحريم والذي جعله الأول مناط الحكم جعله الثاني الحد الأوسط المتكرر في المقدمتين ولا بد لكل منهما من الدلالة على ذلك وكل من القياسين يتضمن حكما عاما كليا ولهذا اتفق أرباب القياس الشمولي المنطقي على أنه لا بد فيه من قضية كلية واتفق أرباب القياس التمثيلي على أنه لا بد فيه من مشترك بين الأصل والفرع والمشترك هو الكلي لكن في قياس الشمول لا يجب أن يبين ثبوت الكلي في صورة من الصور المعنية بل يقول الرجل : السواد والبياص لا يجتمعان وإن لم يعين سوادا أو بياضا معينين ويقول : الكل أعظم من الجزء ولا يعين شيئا
وأما قياس التمثيل فلا بد فيه من تعيين أصل يقاس به الفرع ويمثل به فيقال : هذا السواد وهذا البياض لا يجتمعان فكذلك سائر السواد والبياض وهذا الكل أعظم من هذا الجزء وهلم جرا ويقول أهل التمثيل : هذا أنفع لأن الكليات لاوجود لها في الأعيان إنما وجودها في الأذهان فإذا مثل الفرع بمعين ثابت في الخارج أفاد ذلك معرفة شيء موجود معين بخلاف الكلي الذي لا تتمثل أعيانه في الخارج
ولهذا كل متكلم في كليات مقدرة لا يتصور أعيانها الموجودة في الخارج فإما أن يكون كلامه قليل الفائدة بل عديمها وإما أن يكون كثير الخطأ والغلط وإما أن يجتمع فيه الأمران ويقولون أيضا : إن العلم بكل واحد واحد من الأعيان يحصل بما به يحصل المعين الآخر فإنا إذا قلنا : الكل أعظم من الجزء كان علمنا بأن هذا الكل أعظم من هذا الجزء كعلمنا بذلك في الكل الآخر فلم نستفد بالقضية الكلية علما بمعين إلا والعلم بذلك المعين مستغن عن القضية الكلية ففيه تطويل بلا فائدة
ويقول أهل قياس الشمول : بل قياس التمثيل لا يفيد إلا بتوسط تعليق الحكم بالمشترك وهو الحد الأوسط فلا بد فيه من قضية كلية أيضا لكن قد يدعي القايس الممثل تعليق الحكم بالمشترك بمجرد التمثيل ولا يقيم دليلا على أن الوصف المشترك الجامع بين الأصل والفرع هو مناط الحكم الذي هو الحد الأوسط وربما أثبت ذلك بطرق لا تفيد العلم كالاستقراء الناقص الذي هو من نوع السبر والتقسيم ونحو ذلك ففي كل من القياسين قضية كلية لكن صاحب الشمول يثبتها وصاحب التمثيل لا يثبتها
قال أصحاب التمثيل : بل صاحب الشمول لا يمكنه إثباته إلا بطريق التمثيل وإلا فإذا نازعه المنازع في الشمول والعموم لم يكن له طريق إلا ذكر الأعيان بأن يقول : هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإذا قيل : بل العقل يقضي بالقضية الكلية قضاء عاما قيل : إنما كان ذاك بواسطة علمه بالجزئيات فيعود إلى التمثيل
ولهذا توجد عامة قضاياهم الكلية منتقضة باطلة لأنهم يدعون فيها العموم بناء على ما عرفوه من التجارب والعادات وتكون تلك منتقضة في نفس الأمر كما هو الواقع فإن من قال : كل نار فإنها تحرق ما لاقته إنما قاله لأجل إحساسه بما أحس به من جزئيات هذا الكلي وقد انتفض ذلك عليه بملاقاتها للياقوت والسمندل وغير ذلك وبسط الكلام في هذا له موضع آخر والمقصود هنا التنبيه على أن كل واحد من قياس التمثيل والشمول يفيد أمرا كليا مطلقا بواسطته يحصل العلم بالمعينات الموجودة في الخارج ثم قد يكون العلم بتلك المعينات غنيا عن ذينك القياسين والمعين الذي لا نظير به لا يعلم لا بهذا القياس ولا بهذا القياس وقد تكون الكلية منتقضة فالقياس لا يحصل بنفسه العلم بالمعينات وقد لا يحصل العلم به مطلقا وقد يكون كثير الانتقاض بخلاف النصوص النبوية فإنها لا تكون إلا حقا وهي تخبر عن المعينات على ما هي عليه
وأعظم المطالب العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول ولا بقياس التمثيل فإن الله تعالى لامثل له فيقاس به ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها فلهذا كانت طريقة القرآن - وهي طريقة السلف والائمة - أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل وقياس شمول تستوي أفراده بل يستعملون من هذا وهذا قياس الأولى فإن الله له المثل الأعلى فإذا أدخل هو - سبحانه - وغيره تحت قضية كلية مثل أن يقال : القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلا أو قيل : كل موجود فله خاصية لا يشركه فيها غيره ونحو ذلك - كان هو سبحانه أحق بمثل هذه الأمور من سائر الموجودات فهو أحق بالغنى عن المحل من كل قائم بنفسه وهو أحق بانتقاء المشارك له في خصائصه من كل موجود وكذلك إذا قيس قياس تمثيل فكل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده فالوجود الواجب أحق بتنزيه عنه وهو أحق بانتفاء أحكام العدم وأنواعه وأشباهه و ملزوماته عنه من كل موجود
وإذا كان الأمر الوجودي كالرؤية مثلا لا يتعلق إلا بأمور موجودة لا يجوز أن تتعلق بمعدوم لأن العدم لا يكون سببا للوجود وكان كل ما كان أكمل وجودا كان أحق بأن يرى كان الباري سبحانه بأن يرى أحق من كل موجود وإذا كان تعذر الرؤية أحيانا قد يكون لضعف الأبصار وكان في الموجودات القائمة بنفسها ما تتعذر أحيانا رؤيته لضعف أبصارنا في الدنيا كان ضعفها في الدنيا عن رؤيته أولى وأولى
وليس المقصود هنا الكلام على أعيان المسائل ولكن المقصود بيان مسمى القياس وأنه وإن كان قد يحصل به من العلوم أمور عظيمة فإنه لا يحصل به كل مطلوب ولا يطرد في كل شيء فطرق العلم ثلاث : أحدها : الحس الباطن والظاهر وهو الذي تعلم به الأمور الموجودة بأعيانها
والثاني : الاعتبار بالنظر والقياس وإنما يحصل العلم به بعد العلم بالحس فما إفاده الحس معينا يفيده العقل والقياس كليا مطلقا فهو لا يفيد بنفسه علم شيء معين لكن يجعل الخاص عاما والمعين مطلقا فإن الكليات إنما تعلم بالعقل كما أن المعينات إنما تعلم بالإحساس
والثالث : الخبر والخبر يتناول الكليات والمعينات والشاهد والغائب فهو أعم وأشمل لكن الحس والعيان أتم أكمل
وقد تنازع الناس في السمع والبصر إيهما أكمل ؟ فذهبت طائفة منهم ابن قتيبة إلى أن السمع أكمل لعموم ما يعلم به وشموله وذهب الجمهور إلى أن البصر أكمل فليس المخبر كالمعاين وليس كل ما يعاين يمكن الإخبار عنه وليس العلم الحاصل بالخبر كالعلم الحاصل بالعيان وإن كان الخبر لا ريب في صدقه لكن نفس المرئي المعاين لا يحصل العلم به قبل العيان كما يحصل عن العيان
والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل والسماع أعم وأشمل فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافا مضاعفة ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر ثم يصير المغيب شهادة والمخبر عنه معاينا وعلم اليقين عين اليقين
والمقصود هنا أن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل فإن المخبر عنه إن كان قد شوهد كان قد علم بالحس وإن لم يكن شوهد ما يشبهه من بعض الوجوه وإلا لم يعلم بالخبر شيء فلا يفيد الخبر إلا بعد الحس والعقل فكما أن العقل بعد الحس فالخبر بعد العقل والحس فالإخبار يتضمن هذا و هذا وكما أنه ليس كل ما علم بالخبر والسماع يمكن اعتباره بالقياس إما لعدم النظير له من كل وجه وإما لغير ذلك ثم إذا كان الخبر صادقا لا كذب فيه أمن معه من الانتفاض والفساد بخلاف القياس فإن كثيرا مما يبني فيه على قضايا كلية تكون منتقضة وإن كان فيه ما ليس منتقضا
والمقصود أنه ليس كل شيء يمكن علمه بالقياس ولا كل شيء يحتاج فيه إلى القياس فلهذا قال الأئمة : ليس في المنصوصات النبوية قياس وأما كونها لا تعارض بالأمثال المضروبة فهذا الذي ذكرناه من أن المنصوص لا يعارضه دليل عقلي صحيح
أما قولهم : لا تدرك بالعقول فإن نفس الغريزة العقلية التي تكون للشخص قد تعجز عن إدراك كثير من الأمور لا سيما الغائبات فمن رام بعقل نفسه أن يدرك كل شيء كان جاهلا لا سيما إذا طعن في الطرق السمعية النبوية الخبرية
وهذا هو الذي يسلكه من يسلكه من الفلاسفة ومن يشبههم من أهل الكلام وهؤلاء هم الذين يذكر أبوحامد الغزالي وغيره تهافتهم و تناقضهم وأن ما يدعونه من المعارف الإلهية بعقولهم جمهوره باطل وإن كان قد وقع في كلامه من كلام هؤلاء أمور قيل أنه رجع عنها ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه فهم يخبرنهم بمحارات العقول لا بمحالاتها فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله كان شبيها بمن قال الله تعالى فيه : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال : { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة }
كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية
قال الخطابي : ( وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي وجعلوا المعلومات قسمين : قسم يمكن استدراكه وتثبيته حقيقة وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب وقوله سبحانه : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } يجعلون الوقف عند قوله : { إلا الله } ويستأنفون الكلام فيما بعده وهو مذهب الصحابة وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وعائشة وابن عباس قالوا : وقد حجب عنا أنواع من العلم كعلم قيام الساعة وكعلم الروح حين يقول : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقال تعالى : { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وقال : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون }قلت : قد ذكرنا معنى لفظ ( التأويل ) في غير هذا الموضع وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به : حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله كما قال مالك : ( الاستواء معلوم والكيف مجهول )
ويراد به التفسير وهو كقوله : ( الاستواء معلوم ) فإنه تفسيره ومعناه معلوم ) ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه كتأويلات الجهمية مثل تأويل من تأول : استوى بمعنى استولى وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه ومثل هذا لا يقال فيه : لا يعلمه إلا الله بل يقال : إنه باطل وتحريف وكذب ولكن في القسم الأول يقال : لا يعلمه إلا الله وأما القسم الثاني فيعلمه الله وقد يعلمه الراسخون في العلم
قال الخطابي : ( فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر والتعديل والتجويز وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم شيئا كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها ولا فائدة فيها فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور وخافوا فتنتها والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه : من الأقوال الشنعة والمذاهب الفاسدة ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين وتوقيف الشريعة )
قلت : فقد ذكر الخطابي في الكلام المذموم ما لا يد ركه الإنسان بعقله وما لا فائدة فيه وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم بلا علم والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده ومن باب العلم الذي لا ينفع وقد استعاذ النبي صلى الله عليه و سلم من علم لا ينفع
ولهذا يقال : العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية فيقول : ( هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها - ونعوذ بالله من علم لا ينفع - وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن إثم فالأول كالعلم بدقائق الهيئة وحركات الكواكب وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان وتعذيب الحيوان والثاني كالعلم بأحكام النجوم التي غلبها ظنون لا تغني من الحق شيئا والخطأ فيها أكثر من الصواب والكذب فيها أكثر من الصدق )
وهذان النوعان غير ما ذكر أولا ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه فما كان كذبا غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه بخلاف ما فيه عسر وهو حق فإن هذا وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه آخر بخلاف ما لا يدركه الإنسان أو ما لا فائدة فيه فإن هذا قد يقال : إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع أو من جنس البطالة وتضييع الزمان لكن متى أفضى بصاحبة إلى اعتقاد الباطل حقا والكذب صدقا كان من القسم المذموم بنفسه وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه وهو باطل قطعا
وأما قوله : ( وتكلموا في الروح والقدر والتعديل والتجوير والعقل والنفس ) فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقا وليس كذلك بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم وإنما يذم الكلام الباطل والكلام بلا علم والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته كما قال ابن مسعود : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم
قال الخطابي : ( ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج الناس إليه نصا وتسمية فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص من طريق المعاني والمعقول من النصوص فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب - ثم السنة - بالزجر عنه وعن الخوض فيه وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين )
قال : ( وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام وعابه من مذاهب المتكلمين وبما زجر عنه من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال فعلمنا أن زجر عنه ليس هو الذي أمر به وتبينا أن له في الأصول مذهبا ثالثا ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام والخائضين في أوديته وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول الدين التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها )
قال : ( ونحن لم نعد فيما أوردنا من الكلام في كتاب شعار الدين هذه الجملة وإن كان الذي عبناه في مسألة الغنية عن الكلام هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له وهو مذهب الغلو والأفراط وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد ولا يقول بحجج العقول فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والأفراط والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال وهو ما نختاره ونذهب إليه )
قال : ( وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع فلا يكون ذلك منا مناقضة وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع وكراهته في موضع آخر والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات : القول بالحس حسب وهو مذهب الدهرية فإنهم قالوا بما يدركه الحس لم يقولوا بمعقول ولا خبر وقال قوم بالحس والمعقول حسب ولم يقولوا بالخبر وهو مذهب الفلاسفة لأنهم لا يثبتون النبوة وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر الأثر وهو جماعة المسلمين وهو قول عمائنا وبه نقول )
قلت : تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوسا وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل والفلاسفة أيضا لا تنكر جنس الخبر بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء وهم قد يعظمون الأنبياء - صلوات الله عليهم - ويوجبون اتباع شرائعهم ويأمرون بقتل من يخرج عنها لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء
وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور وحقيقة قولهم هو ما ذكره الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقا إلى العلم وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد من المنتسبين إلى المسلمين ما تبين به هذا الأصل وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه
وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية قائمة في الذهن لا حقيقة لها في الخارج وما يثبتونه من المجردات العقليات بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك يعود إلى هذا ومن هنا استطال عليهم إخوانهم الفلاسفة الطبيعية والدهرية فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه والفريقان جميعا كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا فأولئك هم سعداء في الآخرة
كما قال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
وأما الصابئة المشركون الذين يعبدون الكواكب والأوثان ونحوهم من الفلاسفة المشركين فهؤلاء كفار كسائر المشركين
والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان وفي مقالاتهم حق وباطل كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين وهذا مبسوط في موضعه
وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصا فهذا كلام في القياس العلمي الشرعي وهو مبسوط في موضعه
والناس في هذا بين إفراط وتفريط كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري
فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص بل إنما تعلم بالقياس وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط ويردون قياس الأولى وفحوى الخطاب والعلة المنصوصة ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما وقصرت في معرفتهما وفهمهما واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي تغنى من شيئا أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله
وكثيرا ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك من غير دليل يدله على ذلك بل بمجرد اشتباه قام في نفسه أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد التي متى حوقق عليها سقط بناؤه وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب فضلا عن أن يكون من كلام المعصوم وقد يتمسكون بما يظهر له من ألفاظ المعصوم ولا تكون داله على ما فهموه
وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله - في زعم أحدهم - مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها ويفرق بين المتماثلين تفريقا لا يأتى به عاقل فضلا عن نبي معصوم وتجمد على ما تراه ظاهر النص من خطائها في فهم النص ومراد قائله وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل والرجل العاقل
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة التي نطق بها الكتاب والسنة وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه والاجتهاد في عدل الشخص المعين والنفقه بالمعروف للمرأة المعينة والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين المثل الواجب في إتلاف المال المعين وصلة الرحم الواجبة ودخول أنواع من المسكرات في اسم الخمر وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه
فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء وهو ضروري في كل شريعة فإن الشارع غاية ما يمكنه بان الأحكام بالأسماء العامة الكلية ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان
وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة وجزاء الصيد وعدل الشخص ونحو ذلك وهذا لا حجة فيه فإن مثل هذا لا نزاع فيه وهو ضروري لا بد منه ولا يمكن إثبات حكم النوع - أو عين - إلا بمثل هذا
ونفاة القياس لا يسمونه قياسا وإن سماه المسمي قياسا كان نزاعا لفظيا والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب هو من قياس الشمول وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض هو من قياس التمثيل لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم وإن سماه الممي قياسا كليا بل هو عمدتهم وعصمتهم هو واستصحاب الحال فهذا نوع ومن نازع في القياس والعموم جميعا - كما فعل ذلك من فعله من الرافضة - فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط وهي داخلة فيه وليس كذلك فإن هذه فيها نزاع
وهنا نوع ثان يسمى تنقيح المناط وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها بل يتناولها وغيرها فيحتاج أن ينقح مناط الحكم أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم بحيث لا يزداد عليه ولا ينقص منه
وهذا كأمره صلى الله عليه و سلم للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة ثم لما أتى العرق قال : أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن وأمره لمن سأله عمن أحرم بعمرة وعليه جبة وهو متضمخ بخلوق أن ينزع عنه الجبة ويغسل الخلوق ويصنع في عمرته ما كان صانعا في حجته وأمره لمن ابتاع صاعا جيدا من التمر بصاعين من الرديء أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيدا ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار ومثل رجمه لماعز والغامدية وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما وأمثال ذلك
فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه و سلم ليس مخصوصا بتلك الأعيان بل يتناول ما كان مثلها لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم
وهذا قد يكون ظاهرا وقد يكون خفيا فالظاهر : مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن وسبب القطع هو السرقة والخفي : مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع أو لعموم الإفطار وهل وجبت لنوع من الإفطار أو لجنسه ؟ وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان أو لوقاع في صوم واجب في رمضان ؟ سواء كان صحيحا أو فاسدا ؟ كما يجب في الإحرام الواجب سواء كان صحيحا أو فاسدا فهذه مما تنازع فيه الفقهاء
وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة والسمن ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان فلا بد من إثبات حكم عام وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس أو أكثرهم وكثير من الفقهاء لا يسميه قياسا بل يثبتون به الكفارات والحدود وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس فإنه هنا قد علم يقينا أن الحكم ليس مخصوصا بمورد النص فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها إلا بدليل يدل على ذلك ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات ظهر خطاؤهم يقينا فإن الشارع - صلوات الله عليه - لم يعلق الحكم في خطابه بفأره وقعت في سمن ولكن السائل سأله عن ذلك والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة أو نوع باسمه لم يجب أن يكون الحكم معلقا مختصا بما سأل عنه السائل بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلا في حكم عام كما إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصا بتلك العين ولا فرق بين أن يسأل عن عين أونوع فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال فهذا من أعظم الغلط
وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه و سلم مثل أن يقول القائل : الحكم هنا ليس متعلقا بمجرد الميتة بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فإن الميتة وإن شاركت الخنزير والدم في التحريم فقد شمل الجميع اسم الخبيث فالتحريم متناول للوصف العام ليس مخصوصا بنوع من الأنواع وكلام الرسول صلى الله عليه و سلم ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك - وهو الخبث - فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة سواء كان دما أو ميتة متجسدة ونحو ذلك ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك ثم يبقى النظر : هل يفرق بين الماء وسائر المائعات ؟ أو يسوي بينهما ؟ وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما ؟ وهل يفرق بين القليل والكثير أو يسوى بينهما ؟ هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء
والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس وكذلك العلة المنصوصة وكذلك القياس في معنى الأصل وقياس الأولى وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة فهذا محل اجتهاد ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة ومنهم من يقول بالمؤثر وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتا لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر وأما إذا لم يكن مؤثرا فهو الذي يسمونه المناسب الغريب وفيه قولان مشهوران فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة
ومن تدبر الأدلة الشرعية : منصوصها ومستنبطها تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلا فإن الرسول صلى الله عليه و سلم بعث بالعدل فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقضي تلك التسوية ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح كما لا يتناقض معقول صريح ومننقول صحيح بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس كان أحد الأمرين لازما : إما أن القياس فاسد وإما أن النص لا دلالة له
ومع هذا فالكتاب والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العامة لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب لإدخال كل معين تحت نوع وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول صلى الله عليه و سلم
وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع وتناولها الاعتبار الصحيح وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العموم الذي يرجع إلى تحقيق المناط وهو في معنى قياس الشمول البرهاني والاعتبار الصحيح تناولها بطريق قياس التمثيل الذي يتضمن التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه وكما أن القياس الشمولي والتمثيلي يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا مع فسادهما أو فساد أحدهما فكذلك الخطاب العام والاعتبار الصحيح يرجعان إلى أصل واحد ولا يجوز تناقضهما إلا لفساد دلالتهما أو أدلة أحدهما
وهذا تنبيه على مجامع نظر الأولين والآخرين في جميع استدلالهم ومن تبصر في ذلك وفهمه وعلم ما فيه من الأحاطة وبين له أن دلائل الله تعالى لا تتناقض وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم هو الحق الموافق لصرائح المعقول وأن ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد وإن فهم - مع ذلك - مسألة التحسين والتقبيح العقلي وارتباطها بمسألة المناسبات ورجوع جنس التحسين والتقبيح إلى حصول المحبوب ودفع المكروه - هو المعروف والمنكر - كما يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم وإن هذا يرجع إلى الحق النافع وفي مقابلته الباطل الذي لا ينفع وهذا يرجع إلى الحق الموجود وفي مقابلته المعدوم - تبين به أيضا تناسب جميع العلوم الصحيحة والموجودات المعتدلة والشرائع الإلهية وأعطى كل ذي حق حقه : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وإذا أحسن الاعتبار تبين له ما في منطق اليونان وفلسفتهم من الصواب والخطأ في الحد والبرهان لت سيما في مواد القياس والبرهان وتبين له كثير من خطأهم في التفريق بين المتماثلين والتسوية بين المختلفين مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية وليس الأمر كذلك وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية كما قد ذكر في غير هذا الموضع فهذا لمعة من كلام علماء الكلام وغيرهم في طريقة الأعراض ونحوها
كلام ابن رشد في مناهج الأدلة
وأما كلام الفلاسفة في هذا الباب فقال القاضي أبو الوليد بن رشد الحفيد في كتابه المعروف بالأصول في العقائد : ( قد رأيت أن أفصح في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من خالفه : إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم وسببه ما عرض لهم من الضلال عن مقصد فهم الشريعةوأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة : الطائفة التي تسمى بالأشعرية والتي تسمى بالمعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذا الطوئف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها في تلك الاعتقادات وزعم كل منهم أن اعتقاده هو الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو : إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشرع ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة
وأنا أذكر من ذلك ما يجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع الذي لا يتم الإيمان إلا به وأتحرى في ذلك مقصد الشارع صلى الله عليه و سلم دون ما جعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز
ونبتدي من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر آراء تلك الفرق المشهورة فنقول : أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا : إن طريق معرفة وجود الله سبحانه هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانا كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لا مدخل للعقل فيه )
قال : ( وهذه الفرقة الظاهر منها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تبارك وتعالى )
تعليق ابن تيمية
قلت : ليس المقصود هنا الكلام علىكل ما يقوله هذا الرجل فإن حصره للمسلمين في هذه الطوائف الأربعة تقصير منه إذ السلف والأئمة وخيار المسلمين ليس منهم واحد من هذه الطوائف فإن المعتزلة قد عرفت بدعتهم عند المسلمين والأشعرية جاءوا بعدهم وما كان في كلامهم من حق فهو قول السلف والأئمة وما كان فيه من باطل فهو مما أحدث كأقوال المعتزلة وغيرهموأما الباطنية فهم أبعد عن السلف والأئمة من هؤلاء وهؤلاء
وأما الذي سماهم بالحشوية فهذا الذي ذكره عنهم إن يريد به أن الإيمان بوجود الرب تبارك وتعالى يكفي فيه مجرد إخبار من لم يعلم صدقه بعد فهذا قول لا يقوله عاقل يعقل ما يقول فضلا عن أن يكون هذا قول طائفة لها قول أو قول سلف الأمة وأئمتها ولكن غاية ما قد يقال : إن الجزم بوجود الرب تعالى يكفي في الأيمان بأي طريق من الطرق حصل ذلك
وقد تنازع الناس في الجزم : هل يمكن أن يكون يغير علم أم لا ؟ وهل يحصل الإيمان بدون العلم به أم لا ؟ وإذا حصل الإيمان بدون العلم فهل بعد ذلك طلب العلم به أم لا ؟
وتنازعوا في العلم به : هل يحصل ضرورة وموهبة أم لا يحصل إلا كسبا ؟ ونحو ذلك من المسائل التي ليس هذا موضعها
وكذلك العلم بصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم أو غيره من المخبرين له طرق متنوعة ليس هذا موضعها فغير الرسول صلى الله عليه و سلم إذا أخبر بشيء قد يعلم صدقه بوجوه متنوعة فالرسول صلى الله عليه و سلم أولى أن يعلم صدقه كذلك وقد يفرق في التصديق بين شخص وشخص فهذا وأمثاله مما يقوله من يتكلم في العلم
فهؤلاء قد يقولون : العلم بوجود الرب هو فطري ضروري لا يتوقف على النظر والعلم بصدق الرسول صلى الله عليه و سلم مع ما يقترن برسالته من آيات الصدق التي تحصل أيضا بالضرورة
وإذ حصل العلم بالصانع تعالى وبالرسول بعلوم ضرورية أمكن بعد هذا أن يعلم تفصيل المعرفة بالله وصفاته وغير ذلك بطريق السماع من الرسول
ومما يبين هذا أن الذين خاطبهم الرسول صلى الله عليه و سلم كان عامتهم مقرين بالصانع وكانت آيات رسالته وأعلام نبوته أظهر عند طالب الحق من أن تخفى على عاقل
وأيضا فقد يقال : إن من الناس من يحصل له العلم بحال الرسول صلى الله عليه و سلم وأنه عالم صادق فيما يذكره من العلوم الإلهية والمعارف الدينية ثم يعرف من الرسول صلى الله عليه و سلم هذه العلموم كما قد يسلكه أبو حامد وهذا الرجل وغير واحد في العلم بالنبوة - فيقولون نعلم أن هذا نبي كما نعلم أن هذا الطبيب وأن هذا شاهد عدل وأن هذا أمين وسائر الصناعات فإنه إذا علم وجود النوع كان العلم بأن هذا الشخص من أهل هذا النوع له طرق متنوعة فهذا طريق تعرف به نبوة النبي قبل العلم بتفصيل العلوم الإلهية والدينية
وبالجملة فالعلم بنبوة النبي لها طرق كثيرة قد ذكرت في غير هذا الموضع فالذين يسلكون في معرفة الله تعالى طريق السماع والخبر المجرد يعرفون صدق النبي أولا ثم يعلمون بخبره ما أخبر به
ولعلم بصدق النبي ليس موقوفا على إثبات المقدمات التي يذكرها كثير من أهل الكلام كالمعتزلة ومن تبعهم لما سلكوا في ذلك طريق إثبات حدوث الأجسام بما ادعوه من التركيب وبما اتصفت به من الاختصاص وبما قام بها من الأعراض والحوادث وظنوا أنه لا طريق إلى العلم بصدق الرسول إلا هذه - أخذوا يشنعون على من لم يسلك هذه الطرق أو قال ما يناقض مقدماتها وقد عرف بطلان طريقهم شرعا وعقلا ولهم ولنحوهم من أهل الكلام الباطل تشنيعات على أهل الجماعة
وقد تقدم من كلام أبي سليمان الخطابي وغيره في الغنية عن الكلام وأهله وبيان طريق المعرفة بهذا الموضع ومثل هذا موجود في كلام عامة أئمة المسملين فإنهم يذمون الطريق التي أحدثها أهل الكلام كالمعتزلة ونحوهم ولكن هؤلاء الذين ابتدعوها يذمون من لم يسلكها من عوام المسلمين وعلمائهم ويسمونهم حشوية فإن لفظ الحشوية أول ما عرف الذم به من كلام المتعتزلة ونحوهم رووا عن عمر بن عبيد أنه قال : عبد الله بن عمر حشويا وهم يسمون العامة الحشو كما تسميهم الرافضة والفلاسفة الجمهور ويسمون مذهب الجماعة مذهب الحشو فما كان السلف والأئمة يردونهم إلى الشرع وظنوا هم أن الشرع لا يدل إلا بمجرد خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا بطريق الإلزام فيلزم أن يكون وجود الصانع تعالى يكفي فيه مجرد خبر الرسول بوجوده وكان هذا من تقصيرهم في معرفة الشرع فإن الشرع يتضمن بيان الدلائل العقلية التي يحتاج إليها وينتفع لها في هذا الباب
وقد اعترف بذلك أئمة طوائف الكلام والفلسفة الذين يقولون : لا تعرف إلا بالعقل بل الذين يقولون بأن وجوب المعرفة والنظر ثابت في العقل كما سنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم في ذلك فإن الكتاب - والرسول - وإن كان يخبر أحيانا بخبر مجرد كما يأمر أحيانا بأمر مجرد فهو يذكر مع إخباره عن الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله من الدلالة والبيان والهدى والإرشاد ما يبين الطرق التي يعلم لها ثبوت ذلك وما يهدي القلوب ويدل العقول على معرفة ذلك ويذكر من الآيات والأمثال المضروبة التي هي مقاييس عقلية وبراهين يقينية ما لا يمكن أن يذكر أحد من أهل الكلام والفلسفة ما يقاربه فضلا عن ذكر ما يماثله أو يفضل عليه
ومن تدبر ذلك رأى أنه لم يذكر أحد - طريقا عقليا يعرف به وجود الصانع أو شيء من أحواله - من أهل الكلام والفلاسفة إلا وقد جاء القرآن بما هو خير منه وأكمل وأنفع وأقوى وأقطع بتقدير صحة ما يذكره هؤلاء
تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل
مما يبين أصل الكلام في هذا المقام أنه قد تنازع الناس في أصل المعرفة بالله : هل تحصل ضرورة في قلب العبد ؟ أو لا تحصل إلا بالنظر ؟ أو تحصل بهذا تارة وهذا تارة ؟
القائلون بأنها لا تحصل بالنظر
فذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الطوائف من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم إلى أنها لا تحصل إلا بالنظر وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد : هل هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة ؟ وقد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهموالنزاع لفظي فإن النظر واجب وجوب الوسيلة من باب ما لا يتم الوجب إلا به والمعرفة واجبة وجوب المقاصد فإول واجب وجوب الوسائل هو النظر وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة ومن هؤلاء من يقول : أول واجب هو القصد إلى النظر وهو أيضا نزاع لفظي فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة وحكى عن أبي هاشم أنه قال : أول الواجبات الشك وقال كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم : إن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العقلاء البالغين من غير سبب يتقدم وغير نظر وبحث وأنها تقع ضرورة ويذكر ذلك عن صالح قبة و فضل الرقاشي وغيرهما وعن الجاحظ أنه قال : معرفة الله ضرورية وأنها تقع في طباع نامية عقب النظر والاستدلال وأن العبد غير مأمون بها ويذكر نحو ذلم عن ثمامة بن أشر
وذكروا عن الجهم أنه قال : معرفة الله واقعة باختيار الله لا باختيار العبد لأن العبد لا يفعل شيئا
وقال جمهور طوائف المسلمين : يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر بل قال كثير من هؤلاء : إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة فالذين جوزوا وقوعها ضرورة هم عامة أهل السنة وسائر المثبتين للقدر كالأشعري وغيره
وتنازع نظارهم : هل ذلك بطريق خرق العادة أو هو معتاد ؟ على قولين ومن هؤلاء القائلين بأنها تحصل تارة بالضرورة وتارة بالنظر أبو حامد و الرازي و الآمدي وغيرهم
ولهذا لما أوردوا عليهم في مسألة وجوب النظر : أن المعرفة قد تحصل بغير الحس والخبر والنظر بطريق تصفية النفس وأنها طريق الصوفية وأنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية بخلاف أصحاب النظر فإنه قد لا يحصل لهم هذا الجزم
وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى تحصيل معرفة الله فلا أقل من أن تكون هي من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله تعالى
كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية
فقال الرازي في كتابه الكبير نهاية العقول في الجواب : العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية وإما أن لا تكون فإن كانت ضرورية فلا كلام لنا فيها فإنا قد نسلم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية أو يلزم فإن لزم فتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية فلا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد توجد لأصحاب الرياضة من المبطلين من اليهود والنصارى والدهرية )
كلام الآمدي في الأبكار
وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجوب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع : ( إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال بل أمكن حصولها بطريق آخر إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه كالمؤيد بالمعجزات الصادقة وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى تعليم وتعلم )وقال في الجواب : ( قولهم : لا نسلم توقف المعرفة على النظر قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله بغير النظر وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر في حقه غير واجب )
وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون : بإيمان العامة : إما لحصول المعرفة لهم ضرورة وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم
كلام أبي الحسن الطبري الكيا
وممن ذكر ذلك أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا في كتابه في الكلام أو بعض نظرائه من أصحاب الأستاذ أبي المعالي قال : ( فإن قيل : إذا قلتم : إن النظر واجب والمعرفة واجبة فما قولكم في العوام وسائر الناس الذين لا ينظرون ولا يعرفون ؟ أهم مؤمنون أم كافرون ؟ قلنا : اختلف في هذا علماء الأصول أما أبو هاشم رأس القدرية فإنه ركب الأبلق العقوق في هذا وقال : من لا يعرف الله فهو كافر غير مؤمن وقال : المعرفة واجبة فإذا لم تحصل فضدها النكرة والنكرة كفر وقرره بأن هؤلاء العامة يقولون : إنهم مخيرون في المذاهب أم غير مخيرين ؟ فإن قلتم : إنهم مخيرون بين الرفض والاعتزال والقدر والتجسيم والتشبيه وغير ذلك من المذاهب فهذا خطأ وعناد وإن قلتم : لا يخيرون بل يتبعون بعض المذاهب فلا يمكن اختيار بعض المذاهب إلا بدليل وذلك هو العلم والنظر )قال : ( وأما علمائنا فكلهم مجمعون على أن العامة مؤمنون وأنهم حشو الجنة إلا أنهم اختلفوا في ذلك فقال قائلون : إنهم عالمون بالله تعالى عارفون بالأدلة إلا أن عبارتهم غير مفصحة بالألفاظ المصطلح عليها وإلا فالأدلة في طي عقولهم ونشر نفوسهم وإذا رأى أحدهم خضرة تفوه يقول : سبحان الله وما هذا نظر منه وقالوا : لا معنى للعلم إلا اعتقاد المعلوم على ما هو عليه وهذا موجود في حق العامة ثم أنهم قالوا في العلوم النظرية : ما قولكم فيها ؟ أتجيزون وجودها ضرورة أم لا تجوزوا ذلك فقد أبعدتم وإن جوزتم ذلك فألا قلتم مثله ههنا ؟ ويكون التكليف الوارد في حقهم قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله وتكون المعارف ضرورية )
قال : ( وقال قائلون من علمائنا : هم مؤمنون غير عالمين لأن العلم حقيقة فإن وجدت حكمنا بإنهم عالمون وإلا فلا والعلم معرفة المعلوم على ما هو به على وجه لا يمكن الانحلال عنه ولا الانفكاك منه وإذا طرأت علية شبهة لا يرتاع لها ولا يتشكك
وهذا العلم بناؤه على طريق يفيد العلم ولا يوجد هذا في حق العامة فإنهم وإن اعتقدوا المعلوم على ما هو به إلا أنهم يعرضه التشكك إذا ذكرت لهم شبهة أذ لا يقدرون على دفعها بطريق يستند العلم إليه لأنهم يدفعون الشبه باتباع الآباء والتعصب الذي نشأوا عليه وهذا لا يحصل به العلم وإذا قال : إن العم حصل بغير اتباع الآباء والتقليد فهذا عالم حقيقة كسادات الصوفية فإن المعارف في حقهم ضرورة )
قال : ( وأما قوله بأن العامة ينظرون قلنا : لعمري ذاك كله مبادىء النظر وما وصلوا إلى غاية النظر وهو وقوف منهم على أحد شطري الشيء لأنهم يقولون : العالم حادث ويجوز أن يكون حادثا ويجوز أن يكون قديما مثلا فيعتقد حدوثه لا ينظر إلى الجانب الآخر والعالم يستعرض المسالك ويشرحها بالمدارك وينهي النظر إلى الغاية القصوى )
قال : ( فإن قيل : كيف يكونون مؤمنين وليسوا بعارفين ؟ قلنا : لأن الله تعالى أوجب عليهم هذا القدر ولم يوجب عليهم العلم وهذا معلوم بضرورة العقل مستندا إلى السمع فإن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يكتفي من الأعراب بالتصديق مع علمنا بقصور علمهم عن معرفة النظر والأدلة بل يجب عليهم نفي الشك عنهم فإذا كانوا قد نفوا الشك واللبس عنهم وعقائدهم مستقرة فهم مؤمنون ولا نقول : يجب العلم بل لو زال الشك عنهم بخبر التواتر ظاهرا أو قول بعض المشايخ أو منام هائل في حق الخصوم ثم سكنت قلوبهم إلى اعتقادهم صح ذلك فإن لم يزل عنهم الشك إلا بالعلم فعند ذلك لا بد منه )
قال : ( وفي القرآن حجاج وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج غير أن العامي يكتفي له كقوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول } وليس من أنكر الحشر ينكره لأجل العياء وكذلك قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } { ألكم الذكر وله الأنثى } وليس هذا يدل على نفي الولد قطعا فمبادىء النظر كافية لهم فإن قيل : فإذا لم يجب هذا النظر على كافة الناس فهل يجب على الآحاد ؟ قلنا : أجل يجب في كل عصر أن يقول به آحاد الناس وهو فرض من فروض الكفايات كالجهاد وتعلم القرآن وغير ذلك من فروض الكفايات فأما عامة الناس فلا يتعين عليهم العلم بل الاعتقاد الصحيح يكفيهم )
تعليق ابن تيمية
قلت : المقصود أن الطائفة الأولى الذين قالوا : إن العامة عليهم العلم قالوا : إنه قد يحصل لهم ضرورة وقد يحصل بالنظر والطائفة الثانية الذين اكتفوا بالاعتقاد اعترفوا بأن من الناس من يحصل له المعرفة ضرورة كسادات الصوفيه وأما ذكره من أن الحجاج الذي في القرآن يكتفي به العامي وإن لم يكن فيه الغلبة والفلج فهذا الكلام يقوله مثل هذا الرجل وأمثاله من أهل الكلام الجاهلين بحقائق ما جاء به التنزيل وما بعث به الرسول حتى قد يقول بعضهم : إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن وهؤلاء جهلهم بمعاني الأدلة البرهانية التي دل عليها القرآن كجهلهم بحقائق ما أخبر به القرآن بل جهلهم بحقائق ما دل عليه الشرع من الدلائل العقلية والمطالب الخبرية أعظم من جهلهم بما سلكوه من الطرق البدعية التي سموها عقليةوقد رأيت في كلام هذا الرجل وأمثاله من ذلك عجائب يخالفون بها صريح المعقول مع مخالفتهم لصحيح المنقول ونقص علمهم وإيمانهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق التي جاء بها القرآن هي الطرق البرهانية التي تحصل العلم في المطالب الإلهية مثال ذلك أنه يستدل بقياس الأولى البرهاني لا يستدل بقياس التمثيل والتعديل وذلك أن الله تعالى ليس مماثلا لشيء من الموجودات فلا يمكن أن يستعمل في حقه قياس شمول منطقي تستوي أفراده في الحكم كما لا يستعمل في حقه قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع فإنه سبحانه لا مثل له وإنما يستعمل في حقه من هذا وهذا قياس الأولى مثل أن يقال : كل نقص ينزه عنه مخلوق من المخلوقات فالخالق تعالى أولى بتنزيهه عنه وكل كمال مطلق ثبت لموجود من الموجودات فالخالق تعالى أولى بثبوت الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه لأنه سبحانه واجب الوجود فوجوده أكمل من الوجود الممكن من كل وجه ولأنه مبدع الممكنات وخالقها فكل كمال لها فهو منه وهو معطيه والذي خلق الكمال وأبدعه وأعطاه أحق بأن يكون له الكمال كما يقولون : كل كمال في المعلول فهو من العلة
وكان المشركون يقولون : إن الملائكة بنات الله كما حكى الله ذلك عنهم بقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } وهم مع هذا يجعلون البنات نقصا وعيبا ويرون الذكر كمالا فقال لهم : كيف تصفون ربكم بأنقص الوصفين وأنتم مع هذا لا ترضون هذا لأنفسكم ؟ فهذا احتجاج عليه بطريق الأولى في بطلان قولهم : إن له البنات ولهم البنين لم يحتج بذلك على نفي الولد مطلقا كما يقول من يفتري على القرآن
قال تعالى : { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون } { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } إلى قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون }
فبين سبحانه وتعالى أنهم يفضلون أنفسهم على ربهم ويجعلون له ما يكرهون ويقولون بوصفهم الكذب أن لهم الحسنى وأنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون وأن ما جعلوا لله نظيره إذا بشر به أحدهم ظل وجه مسودا يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون فبين سبحانه أن هذا الحكم حكم سىء
كما قال تعالى في الآية الأخرى : { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى } أي قسمة جائرة وقال في الآية الأخرى : { وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون } فقال تعالى مقيما للحجة مخاطبا باستفهام الإنكار المبين لبطلان ما أنكره وامتناعه وأن ذلك مستقر في الفطر : { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } فإنه لوقدر على سبيل الفرض أن يتخذ ولدا أكان يتخذ مما يخلق بنات ويصفيكم بالبنين ؟ ! أي يجعل البنين صافين لكم لا يشرككم في اتخاذ البنين بل تكونون أنتم مخصوصون بخير الصنفين وهو سبحانه مخصوص بالصنف المنقوص ؟ !
ثم ذكر عنهم ما يبين فرط نقص البنات عندهم فقال : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا } وهن الإناث كما ذكر ذلك في سورة النحل أي بالذي جعله مثلا للرحمن وهن البنات اللاتي جعل للرحمن مثلهن فضربه للرحمن مثلا أي جعله له مثلا حيث مثل به الملائكة الذين جعلهم بنات الله فجعلهن يماثلن البنات اللاتي جعل الرحمن مثلهن فضرب للرحمن - أي جعل له - مثلا يماثل البنات اللاتي إذا بشر أحدهم بها ظل وجهه مسودا وهو كظيم
ثم بين نقص النساء فقال : { أو من ينشأ في الحلية } وهن النساء تربين في الحلية : { وهو في الخصام غير مبين } وهي المرأة لا تكاد تتكلم بحجة لها إلا كانت عليها فبين أنهم من نقصهن يكملن بالحلية التي تزينهن في أعين الرجال وهي لا تبين في الخصام
وعدم البيان صفة نقص فإن الله ميز الإنسان بالنطق والبيان الذي فضله به على سائر الحيوان كما قال تعالى { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } وقال : { اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم }
وأهل المنطق يقولون : الإنسان هو الحيوان الناطق ولما كان هذا أظهر صفاته قال تعالى : { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } وقد قال تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } وهذه هي الأصنام الكبرى التي كانت بمدائن الحجاز فإنه كانت اللات لأهل المدينة والعزى لأهل مكة ومناة الثالثة الأخرى لأهل الطائف
وهذه كلها مؤنثة كما قال في الآية الأخرى : { إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا }
وهذه جعلوها شركاء له تعبد من دونه وسموها بأسمائه مع التأنيث كما قيل : إن اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من مني يمنى إذا قدر وكانوا يسمونها الربة وهم سموها بهذه الأسماء التي فيها وصفها لها بالإلهية والعزة والتقدير والربوبية وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان أي من كتاب وحجة فإن الله تعالى لم يأمر أحدا بإن يعبد أحدا غيره ولم يجعل لغيره شركاء في إلهيته
كما قال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }
وهو سبحانه دائما ينزه نفسه في كتابه العزيز عن الشريك والولد كما ذكره في سورة النحل حيث قال : { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم } الآية وما بعدها
وقال : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا }
وقال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا * الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك }
وقال تعالى : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد }
وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون }
وقالت الجن : { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا }
وإذا أراد أن يحتج سبحانه على نفي الولد مطلقا لم يذكر هذه الحجة التي لن يفهم وجهها من لم يعرف ما في القرآن من الحجاج وظن هو وأمثاله من أهل الضلال أن حجاجهم أكمل من حجاج القرآن وأنهم حققوا أصول الدين أعظم من تحقيق الصحابة والتابعين
بل يذكر سبحانه الحجة المناسبة للمطلوب كقوله تعالى : { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }
وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم }
والكلام على هذه الآيات وما فيها من الأسرار مذكور في غير هذا الموضع وقد بين هناك أن هؤلاء الآيات تضمنت إبطال قول المبطلين من المشركين والصابئين وأهل الكتاب وتضمنت إبطال ما كان يقوله مشركو العرب وما يقوله النصارى وما يقوله مشركو الصابئة وفلاسفتهم الذين يقولون بتولد العقول أو العقول والنفوس عنه
ومن أراد الجمع بين كلامهم وبين النبوات سماها ملائكة ويقول : العقل كالذكر والنفس كالأنثى فهؤلاء خرقوا له بنين وبنات بغير علم
ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض والإبداع خلق الشيء على غير مثال بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما
والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته مع استقلال الخالق له وعدم شريك له والتولد لا يكون إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه
تعليق ابن تيمية
وقال تعالى : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله : { ولم تكن له صاحبة } فإن التولد لا يكون إلا من أصلين وليس في الموجودات ما يكون وحده مولدا لشيء بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج لهوقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون : لا يصدر عن الواحد إلا واحد حتى قالوا : إن الواجب لم يصدر عنه أولا إلا العقل ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك
وهذا الكلام وإن كان فساده معلوما من وجوه كثيرة كما قد بسط في موضعه فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات بل هذا الواحد لا حقيقة له
وأيضا فإنه لا يعرف في الوجود واحد صدر عنه بمجرده شيء وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الإحراق والتسخين والماء لا يصدر عنه إلا التبريد والشمس يصدر عنها الشعاع ونحو ذلك كلها حجج عليهم فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين : أحدهما : النار أو الشعاع أو الحركة فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة والثاني : محل قابل لذلك كبدن الحيوان والنبات ونحو ذلك وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار
وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع
وهؤلاء الملاحدة يقولون : إن الأول الواجب الوجود الذي يسمونه العلة هو ذات بسيطة ليس له نعت من النعوت وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضا لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة وهنا كل ما سوى الأول فهو معلول له ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك كاشتراك الشمس والمطارح القابلة واشتراك النار والموارد القابلة
فقوله تعالى : { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحب له فكيف يكون له ولد
وهذا القدر لما كان مستقر في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولدا ونتاجا إنما يكون عن أصلين فالأمور التي تسمى متولدات - كالشبع والري ونحو ذلك - إنما حدثت عن أصلين : فعل العبد والأسباب الأخر المعاونة له
وكذلك النظار يقولون : النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من الحيوان لأن هذين أصلان في التوليد وهذين أصلان في التولد
ثم قال تعالى : { وخلق كل شيء } وذلك بيان لأنه إذا كان خالقا لجميع الأشياء فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه ؟ والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد
كما قال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا }
وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه فلا يكون عبده من هذه الآية لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد
وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى كما في الصحيح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعل صاحبها يلم بها ؟ قالوا : أجل قال : لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له ؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له ؟ ]
فبين صلى الله عليه و سلم أنه إذا وطىء تلك الحبلى وسقى ماءه زرع غيره فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين يصير شريكا له في التولد وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده ولا أن يجعله موروثا عنه كما يورث ماله فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره فكيف بالولد الذي انعقد منه ؟
وكذلك قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } كما قال في الآية الأخرى : { لقد أحصاهم وعدهم عدا } فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه لا ينفردون عنه بشيء كما ينفرد الولد عن والده والشريك عن شريكه
وقوله في الآية الأخرى : { بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته وأنها منقادة له فإذا قال له : كن كانت وهذا مناف للتوليد بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة ( كن )
وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له : كن فيكون ؟
وأما ما ذكره من قوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول } وقول ذلك القائل : من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الأول فيقال له : مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن كان فيه الدلالة على جهله وضلاله ما لا يقدر على وصفه الإنسان
وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من دلائل المعاد وبراهينه ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق
فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان و بطريق الاعتبار والبرهان والأول أعظم الطريقين فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع
كما قال تعالى في سورة البقرة : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون } فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية
وقال في قصة البقرة : { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون }
وقال في الذين خرجوا من ديارهم : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس } الآية - وهي قصة معروفة
وقال تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام وموت حماره ومعه طعامه وشرابه ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات
وذكر بعد ذلك قول إبراهيم : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم } فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلا مضروبا لاختلاط الأخلاط الأربعة ثم أحيى الأطيار وميز بين هذا وهذا وجعلهن يأتين سعيا إجابة لدعوة الداعي فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل
فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين وقصة في إحياء البهائم وقصة في إبقاء الطعام والشراب وقصة في إحياء الطير وذلك في غير هذا موضع إحياء المسيح صلى الله عليه و سلم للموتى وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياما لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا
وقال في القصة : { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها }
فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول وإخبارهم بها من أعلام نبوته كما قد بسط في موضع آخر
وأما الصنف الثاني وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارة بخلق النبات ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على إنبات النبات وتارة يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى
وتارة يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض كما في قوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى و منكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور }
وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان
وقال تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم
وقال تعالى : { ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج }
وقال تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور }
وقال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون }
وقال تعالى : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم }
وقال تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }
وقال تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه }
وقد بين سبحانه من حجج منكري المعاد والجواب عنها وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه كما في قوله : { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } إلى آخر الآيات وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه
فأما الآية التي ذكرها القائل التقدم وهي قوله : { أفعيينا بالخلق الأول } فإن العرب تقول : عي وعيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه ويقول الرجل : عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه وأعياني هو
وقال الشاعر :
( عيوا بأمرهم كما ... عييت ببيضتها الحمامة )
فالعيي بالأمر يكون عاجزا عنه مثل أن لا يدري ما يفعل فيه فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه وأن ذلك معلوم عند المخاطب : { أفعيينا بالخلق الأول } فلم نكن عالمين بما نصنع فيه ولا قادرين عليه ؟ أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا وأتنيا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا ؟
وهذا نظير قوله : { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }
تعليق ابن تيمية
ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل أفلا يكون ذلك دالا على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعي بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأخرى ؟ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية فظن أن قوله : { ولم يعي بخلقهن } وهو من الإعياء : الذي هو النصب اللغوب وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول فكيف نتعب في الثاني ؟ فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن ولا يفرقون بين عيي وأعياء فقد أوتي من جهة جهله بالعقل والسمع
وهؤلاء المبتدعين يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لتبينوا أنه الجامع لكل خير
وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب
وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث فجعلوا القديم الأزلي داخلا في مسمى الممكن وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم مع تناقضهم في ذلك
وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلا على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح كما قد بسط في موضعه ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات فكثير من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول : إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات
ومآل القولين واحد وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود فمن جعله هو الوجود الواجب أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك كان منكرا للصانع ثم إذا كان هذا الوجود الواجب كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه كما بينا ذلك في غير هذا الموضع
فمن جعله وجود كل موجود كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها ويوقعهم في شر مما منه فروا
والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال : { أفعيينا بالخلق الأول } لم يرد الإعياء الذي هو التعب وإيما أراد العي كما تقول العرب : عيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه ومن كان خالقا لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى
والملاحدة المنكرون للعماد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته ونفي العي يثبت هذه الصفات فتنتفي أصول شبههم فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر والعلم - رهط الفارابي و ابن سينا وأمثالهما - عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات لا يختلف فعلها فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك
وهؤلاء في كلامهم من نفي قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقا للمحدثات
وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة دل على الخالق العليم القدير الحكيم علم فساد قول هؤلاء فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها فلا يكون شيء من الحوادث معلولا لها فلا يكون مفعولا لها ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها لأن القول في تلك العلة كالقول في هذه ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له لأن الممكن لا يكون موجودا بنفسه بل لا بد له من موجد - سمي علة أو لم يسم - ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه لأن كون ذلك الممكن محدثا لها أمر ممكن محدث
فلا بد له من محدث فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل
ووجه الحصر أن يقال : محدث الحوادث : إما أن يكون هو الواجب بنفسه بوسط أو بغير وسط أو غير الواجب بنفسه وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن والممكن إما أن يكون له موجد وإما أن لا يكون والثاني ممتنع والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن فلا بد له من موجد
فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث يكون واجبا بنفيه ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها وهذا يبطل أصل قولهم
وهذا قول حذاقهم - كابن سينا وأمثاله - الذين يقولون : إنه صدر عن موجب بالذات ويحكى هذا القول عن برقلس وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئا ولا يفعل شيئا بل الفلك يتحرك للتشبه به - وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك
وإنما المقصود هنا التنبيه على أن قوله تعالى : { ولم يعي بخلقهن } فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى وبسط ذلك يطول
ومما يبين خذلان الله لأهل البدع والمخالفين للكتاب والسنة أن هذين الأصلين : أمر الولادة وأمر المعاد هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم الذين يقولون : إن العقول تولدت عن الله وينكرون إحياء الله الموتى
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقول الله تعالى : شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ] وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة وابن عباس
وهؤلاء الملاحدة شتموه بما ذكروه من تولد الموجودات عنه وكذبوه بقولهم : لن يعيدنا كما بدأنا وضاهوا في ذلك أشباههم من ملاحدة العرب
قال تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } إلى قوله : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا } إلى قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }
فذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد وعلى من قال : إنه اتخذ ولدا كما جمع النبي صلى الله عليه و سلم بينهما في الحديث
وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله
ولهذا كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى لا على البرهان الذي تستوي أفراده أو يماثل فرعه أصله
قال تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } بعد قوله : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم }
وقال تعالى في الآية الأخرى : { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن } أي بما ضربوه للرحمن مثلا والمثل الذي ضربوه له هو البنات وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب
فقال تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } ومن قال : إنه ولد الملائكة أو قال : إنه ولد العقول أو النفوس فإنه لا يؤمن بالآخرة فله مثل السوء
والله تعالى له المثل الأعلى فلا يضرب له المثل المساوي إذا لا كفو ولا ند فضلا عن أن يضرب له المثل الناقص ولا يكتفي في حقه بالمثل العالي بل له المثل الأعلى إذ هو الأعلى سبحانه والعلم به أعلى العلوم وذكره أعلى الأذكار وحبه أعلى الحب
والذي يبتغي وجه ربه الأعلى هو أعلى إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله كما قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال تعالى : { وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى }
ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } يقول تعالى : إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله بحيث يخاف ذلك المملوك كما يخاف السادة بعضهم بعضا فكيف تجعلون لي شريكا هو مملوكي وتجعلونه شريكا فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني ؟
ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضا ملك ناقص فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه لا يملك عينه وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته وملك المستأجر بعض منافع أجيره ولهذا يشبه النكاح بملك اليمين كما قال عمر رضي الله عنه : النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته
وقال زيد بن ثابت : الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى : { وألفيا سيدها لدى الباب } فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكا للمالك فكيف بالملك الحق التام لكل شيء ؟ ملك المالك للأعيان والصفات والمنافع والأفعال الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه ولا لغيره ملك مفرد ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه كيف يسوغ في مثل هذا أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه ؟
والشرك نوعان : أحدهما : شرك في الربوبية والثاني شرك في الإلهية فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله كمن يجعل الحيوان مستقلا بإحداث فعله ويجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية أو العقول أو النفوس أو الملائكة أو غير ذلك مستقلا بشيء من الإحداث فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به وجوده وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره فلا يتم به حدوث حادث ولا وجود ممكن
وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وإنما كان من النوع الثاني فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس
والثاني الشرك في الإلهية وضده هو التوحيد في الإلهية وهو عبادة الله وحده لا شريك له فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع ويستدفعون بها المضمار ويتخذونها وسائل تقربهم إليه وشفعاء يستشفعون بها إليه
وهؤلاء خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعا ولا ضرا إلا بإذنه فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل
بل قد قال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }
قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }
وقال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون }
وهذا المعنى كثير في القرآن : يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره ولا إذن في ذلك بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربا فاعلا يمتنع أن يكون إلها معبودا
وإذا كان جعل المملوك شريكا في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك يرهب منه كما يرهب من المالك - ممتنعا يوجب الفساد فجعل المملوك المخلوق شريكا لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزم الفساد
وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره فإذا كان يعلم أنه لا يضره إلا بإذن الله سبحانه كان الله تعالى هو الذي يجب أن يخاف وكذلك الذي يرجوه إذا كان إنما يرجو نفعه وهو لا ينفعه إلا بإذن الله كان الله هو الذي يجب أن يرجى إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله بخلاف مملوك البشر فإنه - وإن كان لا يترف في المال إلا بإذن سيده ولا يمنع من أذن له سيده - فقد يمكنه معصية سيده وإن كان في معصيته نوع من الفساد
والخالق تعالى لا يمكن أحدا أن يفعل شيئا إلا بمشيئته وقدرته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه من عجز المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده ومعصية المخلوق لأمره الذي أرسل به رسله أعظم فسادا من معصية المملوك لأمر سيده
قال تعالى في قصة الخليل صلى الله عليه و سلم ومناظرته لقومه : { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون }
قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }
وقال تعالى : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم }
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل وهما متلازمان كان من سلك الطريق العقلي دله على الطرق السمعي وهو صدق الرسول ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية كما بين ذلك القرآن وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا
كما قال أهل النار : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }
وقال تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }
ولهذا نفى سبحانه عن الشرك الطريق السمعي والعقلي ونفى شرك الإلهية والربوبية في مثل قوله : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } فطالبهم أولا بالطريق العقلي وثانيا بالطريق السمعي
ونظيره قوله : { قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } وهذا باب واسع قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه اللطيف على بعض ما في القرآن من تقرير المعاد ونفي الولد والشريك إذ كان هذا فصلا معترضا في هذا المقام
فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة كما هو قول الكلابية والأشعرية وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية والنجارية والجهمية وغيرهم وهو قول طوائف أهل السنة من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفه و مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم
وإنما ينازع في ذلك من ينازع من القدرية كالمعتزلة ونحوهم مع أنهم متنازعون في ذلك بل كثير من أهل الكلام بل وجمهور العلماء يقولون : إن الإقرار بالصانع حاصل لعامة الخلق بطريق الضرورة
ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى
كما ذكر الشهرستاني في كتابه المعروف بنهاية الإقدام في قاعدة التعطيل قال : ( قد قيل : إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى : منها : تعطيل الصنع عن الصانع ومنها : تعطيل الصانع عن الصنع ومنها : تعطيل الباري عن الصفات الأزلية الذاتية ومنها تعطيل الباري عن الصفات الأزلية القائمة بذاته ومنها : تعطيل الباري عن الصفات والأسماء أزلا ومنها : تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها )ثم قال أما تعطيل العالم عن الصانع العليم القادر الحكيم فلست أراها مقالة ولا عرفت عليها صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية : أنهم قالوا : كان العالم في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة فاصطكت اتفاقا فحصل منها العالم بشكله الذي تراه عليه ودارت الأكوار وكرت الأدوار وحدثت المركبات )
قال : ( ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع بل هو معترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البخت والاتفاق احترازا عن التعطيل فما عدت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت - بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها - على صانع حكيم قادر عليم : أفي الله شك { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم }
قال : وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء : { دعوا الله مخلصين له الدين } { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه }
ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشريك : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق في التوحيد ونفي الشريك { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا } { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا }
قال : ( وقد سلك المتكلمون طريقا في إثبات الصانع وهو الاستدلال بالحوادث على محدث صانع وسلك الأوائل طريقا آخر وهو الاستدلال بإمكان الممكنات على مرجح لأحد طرفي الإمكان ويدعي كل واحد من جهة الاستدلال ضرورة وبديهة )
قال : ( وأنا أقول ما شهد به الحدوث أو دل عليه بعد تقديم المقدمات ودون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتجاج ذاته إلى مدبر هو منتهى مطلب الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه ويستغنى به ولا يستغنى عنه ويتوجه إليه ولا يعرض عنه ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب والحادث إلى المحدث وعن هذا المعنى كانت تعريفات الحق سبحانه في التنزيل على هذا المنهاج
{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه } { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } { ومن يرزقكم من السماء والأرض } { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده }
قال : ( وعن هذا المعنى قال صلى الله عليه و سلم : [ خلق الله العباد على معرفته فاجتالتهم الشياطين عنها ] فتلك المعرفة هي ضرورة الاحتياج وذلك الاجتيال من الشيطان هو تسويله الاستغناء ونفي الحاجة والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها من تسويلات الشياطين فإنهم الباقون على أصل الفطرة وما كان له عليهم من سلطان : { فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى } { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى }
ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث يرجع إلى نفسه أدنى رجوع فيعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ثم استبصر من آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه : { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لم يتعطل عن الصانع الحكيم العالم القدير تعالى وتقدس )
وقال أيضا في أول كتابه : ( قد أشار إلي من إشارته غنم وطاعته حتم أن أجمع له مشكلات الأصول وأحل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول لحسن ظنه بي أني وقفت على نهايات مسارح النظر وفزت بغايات مطارح الفكر ولعله استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم
( لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم )
( فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم )
فلكل عقل مسرى ومسرح هو سدرته المنتهى ولكل قدم محط ومجال هو غايته القصوى إذا وصل إليها ووقف دونها فيظن الناظر أولا أن ليس وراء مرتبته مطاف لطيف الخاطر ولا فوق درجته مطرح لشعاع الناظر ويتيقن آخرا أن مطار الأفكار إنما يتعلق بذوات المقدار وجناب العزة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار )
إلى أن قال : ( وإذا كان لا طريق إلى المطلوب من المعرفة إلا الاستشهاد بالأفعال ولا شهادة للفعل إلا من حيث احتياج الفطرة واضطرار الخلقة فحيثما كان الاضطرار والعجز أشد كان اليقين أوفر وآكد : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } لا جرم : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه }
والمعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخا في القلب من المعارف التي نتائج الأفكار في حال الاختيار )
تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا كله كلام الشهرستاني وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبروأما ما ذكره من أن إنكار الصانع ليس مقالة معروفة لصاحب مقالة فإنه وإن لم يكن مذهبا مشهورا عليه أمة من الأمم المعروفة لكنه مما يعرض لكثير من الناس ويقوله بعض الناس : إما ظاهرا دون الباطن - كحال فرعون ونحوه - وإما باطنا وظاهرا كما ذكر الله مناظرة إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه للذي حاجه في ربه ومحاجة موسى صلوات الله عليه وسلامه لفرعون
لكن هذا لا يمنع أن تكون المعرفة به مستقرة في الفطرة ثابتةبالضرورة فإن هذا نوع من السفسطة حال يعرف لكثير من الناس : إما عمدا وإما خطأ وكثير من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية والمعارف الفطرية في الحسيات والحسابيات وكذلك في الإلهيات ومن تأمل ما يحكيه الناس من المقالات عن الناس في العلوم الطبيعية والحسابية رأى عجائب وغرائب وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات فإنهم جنس عظيم التفاوت ليس في المخلوقات أعظم تفاضلا منه خيارهم خير المخلوقات عند طائفة أو من خيرها عند طائفة وشرهم شر المخلوقات أو من شرها
قال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }
وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } وقال تعالى : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال }
وقال تعالى : { أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص }
ونظير هذا كثير وكما تنازع النظار في المعرفة : هل تحصل ضرورة أو نظرا أو تحصل بهذا وهذا على ثلاثة أقوال فكذلك تنازعوا في مسألة وجوب النظر المفضي إلى معرفة الله تعالى على ثلاثة أقوال فقالت طائفة من الناس : إنه يجب على كل أحد وقالت طائفة : لا يجب على أحد وقال الجمهور : إنه يجب على بعض الناس دون بعض فمن حصلت له المعرفة او الإيمان عند من يقول : إنه يحصل بدون المعرفة بغير النظر لم يجب عليه ومن لم تحصل له المعرفة ولا الإيمان إلا به وجب عليه
كلام ابن حزم في الفصل
وذكر غير واحد أن هذا قول جمهور المسلمين كما ذكر ذلك أبو محمد بن حزم في كتابه المعروف ب الفصل في الملل والنحل فقال في مسألة : ( هل يكون مؤمنا من اعتقد الإسلام دون استدلال أم لا يكون مسلما إلا من استدل ؟ )قال : ( وذهب محمد بن جرير والأشعرية إلا أبا جعفر السمناني إلى أنه لا يكون مسلما إلا من استدل وإلا فليس مسلما )
قال : ( وقال الطبري : من بلغ الاحتلام أو الإشعار من الرجال أو النساء أو بلغ المحيض من النساء ولم يعرف الله بجميع أسمائه وصفاته من طريق الاستدلال فهو كافر حلال الدم والمال : وقال إنه أذا بلغ الغلام أو الجارية سبع سنين وجب تعليمهما وتدريبهما على الاستدلال على كل ذلك )
قال : ( وقالت الأشعرية : لا يلزمهما الاستدلال على ذلك إلا بعد البلوغ ) قال : وقال سائر أهل الإسلام : كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه وقال بلسانه : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبرىء من كل دين سوى دين محمد صلى الله عليه و سلم فإنه مسلم مؤمن ليس عليه غير ذلك
تعليق ابن تيمية
قلت : القول الأول هو في الأصل معروف عمن قاله من القدرية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام وإنما قاله من قاله من الأشعرية موافقة لهم ولهذا قال أبو جعفر السمناني : القول بإيجاب النظر بقية بقيت في المذهب من أقوال المعتزلة وهؤلاء الموجبون للنظر يبنون ذلك على أنه لا يمكن حصول المعرفة الواجبة إلا بالنظر لا سيما القدرية منهم فإنهم يمنعون أن يثاب العباد على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية وليس إيجاب النظر على الناس هو قول الأشعرية كلهم بل هم متنازعون في ذلك
كلام الأشعري
فقال الأشعري في بعض كتبه : ( قال بعض أصحابنا : أول الواجبات الإقرار بالله تعالى وبرسله وكتبه ودين الإسلام وقال أيضا : لو سأل سائل عمن ورد من الصين ورأى الاختلاف ماذا يلزمه ؟ فقال : عنه جوابان : أحدهما : أن يلزمه النظر ليعرف الحق فيتبعهوالثاني : يلزمه اتباع الحق وقبول الإسلام ثم تصحيح المعرفة بالنظر والاستدلال على أقل ما يجزئه )
وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين : هل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات ؟ والذين لا يجعلونه فرضا على الأعيان منهم من يقول : الواجب هو الاعتقاد الجازم ومنهم من يقول : بل الواجب العلم وهو يحصل بدونه كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعرية وغيرهم ك الرازي و الآمدي وغيرهما
والذين يجعلونه فرضا على الأعيان متنازعون : هل يصح الإيمان بدونه وتاركه آثم أم لا يصح ؟ على قولين والذين جعلوه شرطا في الإيمان أو أوجبوه ولم يجعلوه شرطا اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام
ولا ريب أن المؤمنين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي ذكره أهل الكلام المحدث كطريق الأعراض والأجسام لكن هل يقال : مجرد الاعتقاد الجازم كان كافيا لهم ؟ أم لا بد من علم يحصل بالنظر ؟ أم يحصل علم ضروري بغير الطريقة النظرية ؟ فهذا مما تنوزع فيه
رد ابن حزم
قال ابن حزم : ( فاحتج من أوجب الاستدلال بالإجماع على أن التقليد مذموم وما لم يعرف بالاستدلال فهو تقليد ) ( قالوا والديانات لا يعرف حقها من باطلها بالحس لا يعلم إلا بالاستدلال ومن لم يحصل له العلم فهو شاك واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم فيما حكاه من المسؤول في قبره قال : [ فأما المؤمن - أو الموقن - فيقول : هو عبد الله ورسوله وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ]وقال في الجواب : ( التقليد أخذ المرء قول من هو دون الرسول صلى الله عليه و سلم ممن لم يأمرنا الله باتباعه وأخذ قوله بل حرم علينا ذلك وأما أخذ قول الرسول صلى الله عليه و سلم الذي فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليدا بل إيمان وتصديق واتباع للحق و طاعة الله ورسوله )
قال : ( فموه هؤلاء الذين أطلقوا على الحق - الذي هو اتباع الحق - اسم التقليد الذي هو باطل والقرآن إنما هو ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه لم يذم من اتبعهم أصلا )
قال : ( وأما احتجاجهم بأنه لا تعرف الأشياء إلا بالدلائل وبأن ما لم يصح به دليل فهو دعوى ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما فإن هذا ينقسم قسمين فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى تصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم حتى يسمع الدلائل فهذا فرض عليه طلب الدليل إلا أنه مات شاكا أو جاحدا قبل أن يسمع من البرهان ما تثلج به نفسه فقد مات كافرا وهو مخلد في النار بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد النبي صلى الله عليه و سلم حتى رأى المعجزات فهذا أيضا لو مات قبل أن يرى المعجزات مات كافرا بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان لأن فرضا عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر والقسم الثاني : من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم وسكن قلبه إلى الإيمان ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل توفيقا من الله له وتيسيرا له لما خلق له من الخير والحسنى فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكراه والعباد وأصحاب الحديث الأئمة الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين )
قال : ( وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم : { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم }
وقال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء }
قال : ( فقد سمى الله راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم وكره إليهم المعاصي فضلا منه ونعمة وهذا هو خلق الله الإيمان في قلوبهم ابتداء وعلى ألسنتهم ولم يذكر الله في ذلك استدلالا أصلا وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم محققون في قلوبهم أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام )
قال : ( وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حسا وشاهدناه في ذواتنا يقينا فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه ونحن - ولله الحمد - في غاية اليقين بدين الإسلام وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم وفي غاية سكون النفس إليه وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك وكانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان فنكاد لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعا لها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سئل عن ذلك فقيل له : إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأن ذلك محض الإيمان وأخبر أنه وسوسة الشيطان ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها - ولله الحمد والمنة - فما زادنا يقينا على ما كنا بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق وصرنا كما عرف وقد أيقن يكون - الفيل سماعا ولم يره ثم رآه فلم يزدد يقينا بصحة إنيته أصلا لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط )
قال : وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد فصح بما قلنا أن كل من محض اعتقاد الحق بقلبه وقاله بلسانه فهم مؤمنون محققون ليسوا مقلدين أصلا وإنما كانوا مكذبين مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه و سلم لتركناه فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفارا غير مؤمنين لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم لم يتبعوا النبي صلى الله عليه و سلم الذي أمروه باتباعه )
قال : ( وإنما كلق الله الإتيان بالبرهان - إن كانوا صادقين - الكفار المخالفين لما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وهذا نص الآية ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبرهان ولا أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان والفرق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه و سلم فلا برهان له أصلا فكلف المجيء بالبرهان تبكيتا وتعجيزا وإن كانوا صادقين - وليسوا صادقين - فلا برهان لهم وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه فسواء علم هو بذلك - أي البرهان - أو لم يعلم حسبه أنه على الحق الذي صح البرهان به ولا برهان على سواه فهو محق مصيب )
قال : ( وأما قولهم : ما لم يكن علما فهو شك وظن والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال قالوا : والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال فإن لم يستدل المرء فليس عالما وإذا لم يكن عالما فهو جاهل شاك أو ظان وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر قال : فهذا ليس كما قالوا لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال هذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها ولا جاء بتصحيحها قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا لغة ولا طبيعة ولا قول صاحب وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط وكل من اعتقد شيئا على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به وسواء كان عن ضرورة حس أو عن بديهة عقل أو عن برهان استدلال أو عن تيسير الله عز و جل له وخلقه لذلك المعتقد في قلبه ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء كما هو ذلك الشيء وهو غير عالم به وهذا تناقض وفساد وتعارض )
قال : وقول النبي صلى الله عليه و سلم في مساءلة الملك حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما قال فيه : [ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه و سلم ] ولم يقل : فأما المستدل فحسبنا نور المؤمن الموقن كيف كان إيمانه ويقينه و [ قال صلى الله عليه و سلم : وأما المنافق أو المرتاب ] - ولم يقل : غير المستدل - فيقول : [ سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ] فنعم هذا هو قولنا لأن المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين وهذا مقلد للناس لا محقق فالخبر حجة عليهم كافية
وأما قولهم : إن الله قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به والعلم به لا يكون إلا عن استدلال فهذا أيضا زيادة أقحموها وهي قولهم : وأمر به
فهذا لا يجدونه أبدا ولكن الله ذكر الاستدلال وحض عليه ونحن لا ننكر الاستدلال بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه لأنه مزيد من الخير وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق وإنما ننكر كونه فرضا على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه فهذا هو الباطل المحض
وأما قولهم : إن الله أوجب العلم به فنعم
وأما قولهم : والعلم لا يكون إلا عن استدلال فهذا هو الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفا وأول بطلانها أنه دعوى بلا برهان )
قال : ( فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان وكان دعوى منهم مفتراه لم يأت بها نص قط ولا إجماع ونحن ذاكرون البراهين على بطلان قولهم يقال لمن قال : لا يكون مسلما إلا من استدل أخبرنا : متى يجب عليه فرض الاستدلال ؟ أقبل البلوغ أو بعده ؟ فأما الطبري فإنه أجاب بأن واجب قبل البلوغ قال ابن حزم : وهذا خطأ لأن من لم يبلغ ليس مكلفا ولا مخاطبا )
قال : وأما لاأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم وتقشعر منها جلود أهل الاسلام وتصطك منه المسامع ويقطع ما بين قائلها وبين الله وهو أنهم قالوا : لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم فقالوا غير مساترين : لا يصح إسلام أحد بأن يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق قال : وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم : إنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز و جل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صلى الله عليه و سلم صادق أو كاذب ؟ ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء : إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر ولا يصح التصديق إلا بالجحد ولا يوصل إلى رضا الله عز و جل إلا بالشك فيه وأن من اعتقد موقنا بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو وأن محمد رسول الله وأن دين الله الذي لا دين غيره - فإنه كافر مشرك نعوذ بالله من الخذلان فوالله لولا خذلان الله - الذين هو غالب على أمره - ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك وجعلوه أول الواجبات ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول قال إنه لابد من حصوله وإن لم يؤمر بهوهذا بناء على أصلين : أحدهما : أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم والثاني : أن النظر يضاد العلم فإن الناظر طالب للعلم فلا يكون في حال النظر عالما
وكلا الأصلين باطل أما الأول فقد عرف الكلام فيه وأما الثاني فإن النظر نوعان : أحدهما : النظر المتضمن طلب الدليل وهو كالنظر في المسؤول عنه ليعلم ثبوته أو انتفاؤه كالنظر في مدعي النبوة : هل هو صادق أو كاذب ؟ والنطر في رؤية الله تعالى : هل هي ثابتة في الآخرة أم منتفية ؟ والنظر في النبيذ المسكر : أحلال هو أم حرام ؟
فهذا الناظر طالب وهو في حال طلبه شاك وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم وهو النظر في الدليل كالنظر في الآية والحديث أو القياس الذي يستدل به فهذا النظر مقتض للعلم مستلزم له وذلك النظر مضاد للعلم مناف له
ولما كان في لفظ ( النظر ) إجمال كثر اضطراب الناس في هذا المقام وتناقض من تناقض منهم فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم ثم يقولون : النظر يضاد العلم فكيف يكون ما يتضمن العلم مضادا له لا يجتمعان
فمن فرق بين النظر في الدليل وبين النظر الذي هو طلب الدليل تبين له الفرق والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول بل قد يكون في القلب ذاهلا عن الشيء ثم يعلم دليله فيعلم المدلول وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب وقد يكون عالما به ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير لكن هؤلاء لزمهم المحذور لأنهم إنما أوجبوا عليه النظر فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول فيكون الناظر طالبا للعلم فيلزم أن يكون شاكا فصاروا يوجبون على كل مسلم : أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه سواء أوجبوه أو قالوا : هو من لوازم الواجب
ومن غلطهم أيضا أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ بل النظر قبل ذلك ممكن بل واقع فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر وإن لم يكن واجبا كما لوتعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود ونظير ذلك : إن يتوضأ الصبي قبل البلوغ والبالغ قبل دخول وقت الصلاة فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت
والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول صلى الله عليه و سلم وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل : منها : أن الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال : هل يمكن أم لا ؟ وإذا أمكن : فهل يسمى علما أم لا ؟
ومنها : أن لفظ ( الضرورة ) فيه إجمال فقد يراد به مايضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه وقد يراد به ما لا يقبل الشك وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوما لا يمكن الانفكاك عنه
ومنها : أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولا ضروريا مع توهمه أنه لم يحصل له كما يقع مثل ذلك في القصد والنية فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية من جنس القصد والإرادة محلها القلب باتفاقهم فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه
ثم إن كثيرا من الناس اشتبه عليهم أمر النية حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين حتى قيل : الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل أو جهل بالشرع
وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها مع خروجهم عن الفطرة السليمة التي فطر الله عليها عباده ومن المعلوم أن كل من علم ما يريد أن يفعله فلا بد ان ينويه ويقصده فيمتنع أن يفعل العبد فعلا باختياره مع علمه به وهو لا يريده فالمصلي إذا خرج من بيته وهويعلم أنه يريد الصلاة امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها وكذلك الصائم إذا علم أن غدا من رمضان وهوممن يصومه أمتنع أن لا ينويه وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة أمتنع أن لا يريدها
وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج فيصوم ويصلي ظانا أن ذلك قضاء بعد الوقت فهذا نوى القضاء فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع
وكذلك من اغتسل بالماء لقصد لقصد إزالة الوسخ أو لتعليم الغير فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة وأمثال ذلك
ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقا بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيما أو مسافرا يريد الصيام وبين ما إذا كان مسافرا لا يريد الصيام
فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان وقد يشك في وجودها أولا يحسن أن يعبر عن وجودها أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره قد يكون حاصلا في نفس الإنسان وهو يشك في وجوده أو يطلب وجوده أو لا يحسن أن يعبر عنه لأن وجود الشيء في النفس شيء والعلم بوجوده في النفس شيء آخر فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر
فهكذا عامة المؤمنين : إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب التي توجب معرفته بالله وبرسوله ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه كما أن كثيرا من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه
والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه ومنه ما يحصل دفعة كالعلم بما أحسه ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها
وكذلك حصول الإرادة فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها كإرادة دفع الأمور الضارة له وكإرادة الجائع الشديد الجوع والعطشان الشديد العطش لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب
ومنه ما يحصل شيئا بعد شيء كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل فإن هذا قد تحصل إرادته شيئا بعد شيء
وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجا إليه أو كونه نافعا له فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم وقد تضعف بضعفه وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته
ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية وعلوم فطرية وأن كثيرا من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها فيسعون في حصولها وتحصيل الحاصل ممتنع فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود ثم يسعون في وجوده ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه
وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل مع نوع من الذهول والغفلة فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة أو توجهت نحو المطلوب فيحصل لها معرفته ومحبته
والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم : قال : [ يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
وقد قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }
وقال صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ] ؟ والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع
ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس فلو كلف بقية الناس بمعرفته كلفوا ما لا يطيقون ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها وإن كان هذا فرضا على الكفاية
ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلا لا ينضبط لنا والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يفاضلون في فهمه تفاضلا عظيما وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات كما قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسول ؟ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول صلى الله عليه و سلم أو ممن سمعها منه وعلم أنه قالها يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها
والقرآن مورد يرده الخلق كلهم وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له قال تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال }
وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزل من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك شبه الإيمان بالماء النازل والقلوب بالأودية فمنها كبار ومنهاصغار وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان وأخبر أن ذلك الزبد بجفأ جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض كذلك الشبهات تجفوها القلوب وما ينفع يمكث فيها
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ]
وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظيا وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه سواء كان ذلك التصور ضروريا أو لم يكن بل كثير من الناس يقول : إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري يضطر إليه الإنسان وهذا اختيار أبي المعالي وغيره
وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعا معنويا وليس كذلك كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري والكسبي هو النظري ومنهم من يفرق بينهما فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه لا في تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه وإن كان عن نظر اضطر إليه من غير كسب منه فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم وقد يختار اكتساب أسبابه وهذا في الحسيات وغيرها كمن يفجأه ما يراه ويسمعه من غير قصد إلى رؤيته وسمعه ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي
والثاني يدخل تحت الأمر والنهي
وأيضا فمن الناس من يقول : العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم ومنهم من يسمى كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضروريا وبديهيا وإن كان ذلك مختصا بنوع من الناس كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام
وعلى هذا فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه وجعله له في قلب العبد بدون استدلال يسميه هؤلاء علما ضروريا وإن كان ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضروريا فهذا نزاع لفظي
ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوما لا يمكنه الانفكاك عنه جعل هذا كله ضروريا وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر : إن علمنا ضروري كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي ورأيتها بخطه عن الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى قال : دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم فقالا : يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين فقالا لي : كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا وكلما أقام حجة أبطلتها وكلما أقمت بجة أبطلها ؟ فقلت : ما أدري ما تقولان ولكن أنا أعلم علم اليقين فقالا : فبين لنا ما هذا اليقين فقلت : واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يرددان هذا الكلام ويقولون : واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها
وتعجبا من هذا الجواب لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها قالا له : كيف الطريق إلى هذه الواردات ؟ فقال لهما : بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر الرازي بما له من الموانع وأما المعتزلي فقال : أنا محتاج إلى هذه الواردات فإن الشبهات قد أحرقت قلبي فأمر الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك ففتح الله عليه بهذه الواردات
والمعتزلة ينفون العلو والصفات ويسمون من أثبت مجسما حشويا فلما فتح الله تعالى عليه بذلك قال : والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة أو كما قال فإن عهدي بالحكاية من زمان وكان هذا الشيخ الكبرى إذا قيل له : من قال : { الرحمن على العرش استوى } فهو مجسم يقول : فخذ إني حنيئذ مجسم وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده بلاد جرجان وخوارزم
تابع كلام ابن حزم
قال أبو محمد بن حزم : ( ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبه وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وإصغاره ويقبل من آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام ومنهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام : إني لا أقبل إسلامك ولايصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه قال : ولسنا نقول : إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد بل نقطع - نحن وجميع أهل الأرض - قطعا كقطعنا على ما شاهدنا : أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام ويبينه هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع وخلاف لله ولرسوله ولجميع أهل الإسلام قاطبة )
تعليق ابن تيمية
قلت : قبول الإسلام الظاهر يجري على صاحبه أحكام الإسلام الظاهرة : مثل عصمة الدم والمال والمناكحة والموروثة ونحو ذلك وهذا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر وإن لم يعلم ما في باطن الإنسانكما قال صلى الله عليه و سلم : [ فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ]
وقال : [ إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم ]
ولهذا يقاتل الكافر حتى يسلم أو يعطي الجزية فيكون مكرها على أحد الأمرين ومن قال : لا تؤخذ الجزية من وثني قال : إنه يقاتل حتى يسلم وأما الإيمان الباطن الذي ينجي من عذاب الله في الآخرة فلا يكفي فيه مجرد الإقرار الظاهر بل قد يكون الرجل مع إسلامه الظاهر منافقا وقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم منافقون وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن في غير هذا موضع وميز سبحانه بين المؤمنين والمنافقين في غير موضع
كما في قوله : { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير }
وقال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون }
وهؤلاء قد قالت طائفة : إنهم أسلموا ظاهرا مع كونهم منافقين وقال الأكثرون : بل كانوا مسلمين غير منافقين ولا واصلين إلا حقيقة الإيمان فإنه قد قال فيهم : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم }
والمنافق عمله حابط لا يتقبله الله ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولايسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ] وغير ذلك من الأحاديث التي تكلم عليها في غير هذا الموضع فإن مسألة الإيمان والكفر والنفاق متعلقة بمسألة أول الواجبات ووجوب النظر بالفاسق الملي وتكفير أهل البدع وغير ذلك من المسائل التي تكلم عليها الناس
وبهذا أجابوا عن هذه الحجة فإنه لما قيل لهم : أجمع المسلمون على أن الكافر إذا أراد أن يسلم يكتفي منه بالإقرار بالشهادتين قالوا : إنما نجتزىء منه بذلك لإجراء الإسلام عليه فإن صاحب الشرع جعل ذلك أمارة لإجراء الأحكام
ولو كان ذلك إيمانا حقيقيا لما قال في حق النسوة المهاجرات : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } ثم يقول : من ترك ملة من الملل وعاد إلى ملتنا فلا بد له من حامل يحمله عليه فإن كان الذي يحمله عليه ما علمه من فساد ملته وعقيدته وصحة دين الإسلام فهذا القدر كاف من النظر والاستدلال على الجملة وإن كان الذي يحمله رهبة منا أو رغبة فيما أعطانا الله من المال وغيره فهجرته إلى ما هاجر إليه
تابع كلام ابن حزم
قال أبو محمد : ( فإن قالوا : فما كانت حاجة الناس إلى الآيات والمعجزات ؟ وإلى احتجاج الله عليهم بالقرآن وإعجازه ؟ وبدعاء اليهود إلى تمني الموت ودعاء النصارى إلى المباهلة وشق القمر ؟ قلنا وبالله التوفيق قد قلنا : إن الناس قسمان : قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين : طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت فكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الاستدلال فرضا ولابد وقسم وفقهم الله تعالى لتصديقه عليه السلام وخلق في نفوسهم الإيمان كما قال تعالى : { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فهؤلاء آمنوا له عليه السلام بلا تكليف آية وأهل هذه الصفة هم اليوم المعتقدون للإسلام حقا بلا معرفة باستدلال قال أبو محمد ويلزم أهل هذه المقالة أن جميع أهل الأرض كفار إلا الأقل وقد قال بعضهم : إنهم مستدلون قال : وهذه مجاهرة هو يدري أنه فيها كاذب وكل من سمعه يدري أنه فيها كاذب لأن أكثر العامة من حاضرة وبادية لايدري ما معنى الاستدلال فكيف يستعمله ؟ )
تعليق ابن تيمية
قلت : لفظ الاستدلال فيه إجمال فإن أريد العبارة عن نظم الأدلة والجواب عن الممانعات والمعارضات فهذا قد يقال : إنه لا يحسنه إلا من يحسن الجدل وأما الاصطلاح المعين والترتيب المعين أو اللفظ المعين فهذا بمنزلة اللغات لا يعرفه إلا من يعرف تلك اللغة وليس هذا واجبا بلا ريبوإن أريد به نفس طلب العلم بالشيء بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء فهذا مركوز في فطرة جميع الناس فإنه مامنهم من أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال بل ومن الجدال بحسب ما هداه الله إليه من ذلك
وقد قال تعالى : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } والإنسان يجادل بالباطل ليدحض به الحق من غير معرفة بقوانين الجدل فكيف لا يجادل بالحق ؟
وللناس من النظر والمناظرة في صناعتهم وأمور دنياهم ما يبين أن النظر والمناظرة مركوز في فطرهم فكيف في أمور الدين ؟
والله سبحانه يقول : { الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } وقال تعالى : { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }
وهذا الذي ذكره ابن حزم هو قول كثير من الأشعرية فإنهم متنازعون في النظر : هل هو فرض على الأعيان أو على الكفاية ؟ وفي الواجب : هل هو المعرفة أو الاعتقاد الجازم المصمم ؟ وهل يسمى ذلك علما أم لا ؟
كلام الجويني في نفي وجوب النظر
وكان أبو المعالي يقول : ( لم يكلف الناس العلم فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علما لم يمنع من أطلاقه )قال : ( وقد كنا ننصر هذه الطريقة زمانا من الدهر وقلنا : مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع )
قال : ( وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن )
كلام أبي إسحاق الإسفراييني
وقال أبو إسحاق الإسفراييني في آخر مصنفاته : ( من اعتقد ما يجب اعتقاده هل يكتفي به ؟ اختلف الأصحاب فيه : فمنهم من اكتفى به ومنهم من شرط إقرار هذه العقائد بالأدلة )
تعليق ابن تيمية
قلت : والذين أوجبوا النظر من الطوائف العامة نوعان : أحدهما : من يقول : إن أكثر العامة تاركوه وهؤلاء على قولين فغلاتهم يقولون : إن إيمانهم لا يصح وأكثرهم يقولون يصح إيمانهم تقليدا مع كونهم عصاة بترك النظر وهذا قول جمهورهمقد ذكر هذا طوائف من الحنفية وغيرهم كما ذكر من ذكر من الحنفية في شرح الفقه الأكبر فقالوا : قال أبو حنيفة و سفيان و مالك و الأوزاعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث بصحة إيمان المقلد ولكنه عاص بترك الاستدلال
كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة
وقال الشارح : ( هذا يفيد فائدتين : إحداهما : أن الإيمان بالتقليد صحيح وإن لم يهتد إلى الاستدلال خلافا للمعتزلة والأشعرية فإنهما لا يصححان إيمان المقلد والإيمان بالتقليد ويقولان بكفر العامة )وقال : ( وهذا قبيح من أقبح القبائح لأنه يؤدي إلى تفويت حكمة الله تعالى في الرسالة والنبوة لأن من أعطي الرسالة والنبوة أمر بعرض الإسلام أولا على الكفرة فلو كان الإسلام لا يصح بالعرض والتقليد لفات الحكمة في الرسالة إلا أن درجة الاستدلال أعلى من درجة التقليد ألف مرة وكل من كان في الاستدلال والاستنباط أكثر كان إيمانه أنور )
وذكر كلاما آخر
تعليق ابن تيمية
قلت : القول القبيح الباطل تكفير من حكم الشارع بإيمانه وهم المؤمنون من العامة وغيرهم الذين لم يسلكوا الطرق المبتدعة كطريق الأعراض ونحوها وأما كون إيمان العامة تقليدا أو ليس تقليدا ؟ وهل هم عصاة أو ليسوا عصاة ؟ فهذا كلام آخروأما المعتزلة والأشعرية فلهم في ذلك نزاع وتفصيل معروف
والنوع الثاني من موجبي النظر - وهم جمهورهم - يقولون : إنه متيسر على العامة كما يقوله القاضي أبو بكر و القاضي أبو يعلي وغيرهما ممن يقول ذلك
كلام أبي يعلى في وجوب النظر
قالوا : ( فإن قيل : فتقولون بوجوب معرفة الله ومعرفة نبوة رسله في حق كل مكلف من أهل النظر والعامة وجفاة الأعراب والأكراد وأهل القصبة والرستاق ومن يقصر فهمه عن معرفة الدقيق وأدلة التفصيل ؟ قيل : نعم لأنه ليس في جميع من ذكرت من يعرف فهمه ويقصر علمه عن معرفة الحدث والمحدث عند مشاهدة تغيير العالم وما يحدث ويتجدد في أجسامه من الزيادة والنقصان والنماء وتغير الحالات وما تجد عليه النطفة من التصور والانتقال من حال إلى حال وإن قصرت عبارته عن أن يقول : إن هذه أمور متجددة طارئة إنه لا بد للصنعة من صانع وللكتابة من كاتب وقد علم أن انتقال النطفة إلى أن تصير إنسانا أو بهيمة أعظم في الأعجوبة من تحول الفضة خاتما والخشبة سريرا وبابا والغزل ثوبا منسوجا وإن لم يعبر عن ذلك بعبارات المتكلمين وألفاظ الناظرين وكما يفرق بين خبر الوحد الذي لا يوجب العلم وبين خبر التواتر الموجب للعلم وكما تجد في أنفسها الفرق بين الظن والتقليد وبين المشاهدة وعلم اليقين وإن تعذر عليها الفصل بين ذلك أجمع من طريق العبارة وإذا كان كذلك وجب أن يكون لجميعهم سبيل إلى معرفة الحدوث والمحدث ) هذه عبارة القاضي أبي يعلي وغيره من هؤلاء الذين وافقوا القاضي أبا بكر على طريقته
كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر
وكذلك قال ابن الزاغوني وهو من القائلين بوجوب النظر والاستدلال وحكى ذلك عن عامة العلماء كما ذكره القاضي أبو يعلي و ابن عقيل و أبو الخطاب وغيرهمقال : ( والذي فرضه الله على الأعيان على ضربين : أحدهما : ما لا يتم الإيمان إلا به وهو معرفة الله وتوحيده وأنه صانع الأشياء وأن الكل عبيده وأمثال ذلك فهذا يستوي في لزومه العالم والعامي ونعني بقولنا : العالم الذي تبصر وتدرب وعرف الحجة من الشبهة وتبحر في مواقف الاجتهاد للمعرفة وانتصب دافعا بالحق شبه أهل الاعتراض على وجه يترجح به الثقة ويساعده بالفهم اليقين والمعرفة ونعني بالعامي من فصل عن أرباب الاختصاص في أحراز العلم وكثرة التبحر وإنما سمي عاميا من جهة قلة العدد في خواص العلماء بالإضافة إلى من بقي فخواص العلماء في كل زمان آحاد يسير عددهم والناس غيرهم أعم وجودا وأكثر عددا فلهذا سمي من قل علمه عاميا ومن جملة العامة ولسنا نريد بالعامي من لا معرفة له بشيء من العلم بحال فإذا ثبت هذا فسائر العامة مؤمنون عارفون بالله في عقائدهم وديانتهم غير مقلدين في شيء قدمناه ذكره )
قال : ( وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء فإما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله )
قال : ( والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول : حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس وسكون القلب إلى معرفة مايعتقد بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة وبيان ذلك : أنه لو قيل لأحد من العوام : بم عرفت ربك ؟ لقال : بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وإلى السماء كيف رفعت } ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها وهذا الآيات هي الأصل عند العلماء وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببيسط البيان المليح والتشقيق والغامض الدقيق وفي بيان حكم يدركها العامي فهما بجنانه ويقصر عن شرحها بلسانه فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة وأحدهما في الكشف أبسط باعا وأفصح شرحا وهذا يرجع إلى شيء وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته وضمن فيما أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به ولا يوصل إلى ذلك في حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه وهذا خلاف ما نص الله عليه
دليل آخر : وهو أنا إذا تأملنا أدلة التوحيد وما يجب على العامي ترك التقليد فيه وجدناه سهلا في مأخذه قريبا في تناوله تشتاق النفوس إليه بأنسها ويستند ذلك إلى شيئين : أحدهما : أن ذلك منوط بالعقل ولأجل هذا ادعى خصومنا أن المعرفة وجبت بالعقل والعوام عقلاء
ويظهر ذلك شرعا وعقلا : أما الشرع فلا يكلف إلا عاقلا وهو تسليم أموالهم إليهم لرشدهم ولا رشيد إلا عاقل وأما طريق العقل فيما يظهر من ذلك في تدبيرهم وتدقيق حيلهم وخفي مكرهم في تقاسيم أحوال الدنيا
وقد سطر الناس في ذلك كتبا وصنفوا فيها من فنون المكر والحيل وتدقيق الآراء في أنواع التدبير ما فيه غنية لمن تأمله
والثاني : أن أدلة ذلك جلية في أعلى مقامات الإيضاح والكشف حتى تجد النفوس بها مستأنسة وذلك مثلما يستدل العامي على معرفة أن له خالقا فيعلم عند تأمل نفسه أنه جسم مجموع مفعول مصنوع وهو عاجز في نفسه عن صنع ذاته وصفاته من وجوه
أيسرها : أن الصانع من شرطه أن يتقدم على المصنوعات فإذا ثبت ذلك في نفسه واستقر ذلك في أمثاله من جنسه واستوى العالم كله عنده في أنه يشاركه في صفات نفسه اقتضى ذلك إثبات صانع آخر يخالفهم في استحقاق الجمع لحقيقة الوحدة ويتحقق فيه شرط السبق إلى غير غاية
وهذا وأمثاله معروف عند العامة لا يخفى عليهم وإن عجزوا في بعضه عن الإفصاح بشرحه والمأخوذ على المكلف فهمه ومعرفته على وجه يزول عنه الشك ويبعد فيه الريب ويستضيء به العقل وتثق به النفس
وهذا سهل لا تقصر العامة عن معرفته فلهذا قضينا لهم بالإيمان والمعرفة وهذا جلي واضح ولكونه حقا في نفسه صحيحا في معناه سوى الله في أحكامه بين العالم والعامي في احكام ذلك العامة وهي الخطاب بالأمر والنهي وإقرارهم على حكم القبول في المعقود من الأنكحة والبيوع وأداء الفرائض واجتناب المحارم والغسل والتكفين والصلاة عليهم والدفن في مقابر المسلمين إلى قبلتهم والتوارث منهم وذلك يوجب لهم القضاء بالإيمان والمعرفة )
قال : ( واحتج المخالف بأن حقيقة المعرفة هو العلم بالشيء أو العلم بالمعلوم وإنما يكون ذلك إذا وصل صاحبه إلى اليقين فيه وإذا لم يكن قادرا على بصيرة دليل يكشفه ولا على دفع شبهة يحلها لم يكن على يقين فيما علمه لأنه قد يعترض عليه فيما عنده شك ما يوجب نقلته عما كان عليه أو يعرض له من الشكوك ما يزيل الثقة بما عنده
ومن هو على هذه الصفة فهو ناقص المعرفة وتجويز النقصان في هذا يوجب أنه لم يتعلق بما مثله يصلح أن يكون كافيا في مقصوده شافيا في مراده وإلا فحقيقة المعرفة لا تدخلها التجزئة فيثبت منها بعض دون بعض فبان بهذا أن كل من كان في عداد العامة فهو غير عارف على الحقيقة ومن ليس بعارف لم يثبت له تسمية ما يستحقه أهل المعرفة من ذلك )
قال : ( والجواب أن ما أسلفناه في أول المسألة هو جواب عما ذكروه وهو أنه إذا أضاف ما علمه إلى دليل مثله لا يفسد وقد استحكمت ثقة المعترف به في مدة حياته لا يعتريه فساد ولا يدخله نقص واتفق على ذلك من يساويه في معرفته ومن يزيد عليه في مقام العلم والاجتهاد فقد استحكمت ثقته به من وجهين : أحدهما : علمه وتجربته والثاني : اتفاق أهل الملة على صحته ومثل هذا لا يعارضه شك يخرج المتمسك به عن الثقة فإنه قد ثبت عند العامة عموما لا يختلف فيه أحد منهم أن كل جسم مبني مجموع محدث كان بعد أن لم يكن ويتوهم نقضه كما يتحقق بناؤه وإن كان كل واحد منهم ليس بفاعل نفسه ولا فعله مثله ويتحقق أن من شرط الفاعل أن يكون سابقا على المفعول فإذا تساوت الأجسام في هذا دل على أن الفاعل لها غيرها وهو من لا يشاركها فيما أوجب بها العجز وهذا جلي واضح لا يمكن دفعه ولا تقابله شبهة تؤثر فيما استقر عند العالم به وهذا كاف لا يقصر عنه عامي ولا يقدر على الزيادة فيه عالم إلا بتحسين العبارة فيه أو حذف مواد الشبهة عنه وهذا أمر زائد على مقدار فهمه والثقة بصحته ولهذا كان من فرائض الكفايات )
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : إن جمهور العامة لا يعرف هذا الدليل بل ولا يعرف مسمى الجسم في اصطلاح المستدلين به ولا يعرف أن الهواء يسمى جسما بل أكثر الناظرين في العلم من أهل الفلسفة والكلام والفقه والحديث والتصوف لم يعرفوا صحة هذا الدليل بل قالوا : إن باطل والسلف والأئمة جعلوا هذا من الكلام المبتدع الباطل ولم يدع أحد من الأنبياء وأتباعهم أحدا إلى الاستدلال على معرفة الله بهذا الطريق وإنما ابتدعه في الإسلام من كان مبتدعا في الإسلام من الجهمية والمعتزلة ونحوهم ولكن الذي يعرفه العامة والخاصة إن كل واحد من الآدميين محدث كان بعد أن لم يكن وأنه ليس بفاعل نفسه ولم يفعله مثلهولهذا استدل سبحانه بذلك في قوله تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وكذلك يعلمون حدوث ما يشهدون حدوثه ويعلمون أنواعا من الادلة غير هذا
تابع كلام ابن الزاغوني
قال أبو الحسن بن الزاغوني : ( وأما قولهم : إنه قد يعترض عليه من الشبهة ما يوجب تفلته ويرفع ثقته فليس كذلك من وجهين : أحدهما : أن خيالات الشبه لا تكافي فيما ذكرنا فما يقصر من الشبه فتقصيره يظهر سريعا والنثاني : أنه إذا طرأ على العامي شبهة فإنه لا يزال يسأل عنها ويبالغ في التفتيش والتنقير حتى يخبره العلماء الربانيون في ذلك بما تقوى به ثقته )قال : ( وأما قولهم : إن المعرفة ناقصة في حقه فإن أردتم أنها ناقصة من حيث إنه لا يصل إلى مطلوب المسألة فهذا محال لا فهذا مما لا يدخله نقص وذلك لأن الإنسان : إما عارف بالمسألة أو غير عارف ولا واسطة بينهما وإن أردتم بالنقص من طريق العدد في المسائل أو في الدلائل فصحيح غير أنه يفصل به بين علم الأعيان وعلم الكفاية وذلك غير قادح في ثبوت المسألة بدليلها الذي لا غنى عنه ولا زيادة عليه )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا مبني على أن المعرفة بالله تعالى لا تتفاضل وأن الشيء لا يكون معلوما من وجه مجهولا من وجه وهذا أحد القولين للناس في هذه المسألة وهو قول طائفة من أهل الحديث والفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم وقول كثير منهم من أصحاب الأشعري أو أكثرهم وهو قول جهم بن صفوان وكثير من المرجئةلكن جمهور الناس على خلاف هذا وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد في روايتين وهذا يشبه تنازع الناس في العقل : هل يتفاضل ؟ فمذهب الجمهور أنه يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء ك التميمي والقاضي و أبي الخطاب وغيرهم من العلماء
وقالت طائفة : لا يتفاضل وهو قول أكثر أصحاب الأشعري و ابن عقيل وغيرهم
وهو يشبه تنازعهم في أن بعض الواجبات : هل تكون أوجب من بعض ؟ ف ابن عقيل وغيره ينكرون التفاضل في هذا وجمهور الفقهاء يجوزون التفاضل في هذا والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن الذين يقولون بوجوب النظر والاستدلال على الأعيان أو يقولون : إن الإيمان لا يصح إلا به لأن المعرفة واجبة والمعرفة لا تتم إلا به فقول جمهورهم : إن المراد بذلك هو العلم الذي يقوم بالقلب لا العبارة عنه ولا يوجبون نظم الدليل بالعبارة ولا القدرة على جواب المعارض ويقولون : إن العلم بالدليل أمر متيسر على العامة وإن العامة المؤمنين قد حصل لهم في قلوبهم النظر والاستدلال المفضي إلى العلم وإن لم يكونوا قادرين على نظم الدليل وبيانه بالعبارة
وهذا موجود في عامة ما يقوم بالنفس من علم وحب وبغض ولذة وألم وغير ذلك يكون ذلك موجودا في النفس يعلم به الإنسان ولكن وصف ذلك وبيانه والتعبير عنه شيء آخر
وليس كل من علم شيئا أمكنه أن يصفه ولهذا يسمى مثل هذا متكلما ومعلوم أن العلم ليس هو الكلام ولهذا يقال : العلم علمان : علم في القلب وعلم على اللسان فعلم القلب هو العلم النافع وعلم اللسان هو حجة الله على عباده وقد روي ذلك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا وقد قيل : إنه من كلام الحسن وهو أقرب
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إنكم في زمان كثير فقهاؤه قليل خطباؤه كثير معطوه قليل سائلوه وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه قليل معطوه كثير سائلوه
فالفقيه الذي تفقه قلبه غير الخطيب الذي يخطب بلسانه وقد يحصل للقلب من الفقه والعلم أمور عظيمة ولا يكون صاحبه مخاطبا بذلك لغيره وقد يخاطب غيره بأمور كثيرة من معارف القلوب وأحوالها وهو عار عن ذلك فارغ منه
وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة : طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الثمرة : طعمها طيب ولا ريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة : ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة : طعمها مر ولا ريح لها ]
فبين صلى الله عليه و سلم إن الإنسان قد يقرأ القرآن فيتكلم بكلام الله وهو منافق ليس في قلبه إيمان وآخر يكون مؤمنا قلبه فيه من معرفة الله تعالى وتوحيده ومحبته وخشيته ما هو من أعظم الأمور وهو لا يتكلم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى
ولهذا قال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان
وقد قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }
وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ]
فأخبر انه أنزل الإيمان في القلوب وقد تقدم قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } وهذا مثل ضربه الله لما أنزله في القلوب من الإيمان والقرآن وشبه القلوب بالأودية وشبه ما يخالط القلوب من الشهوات والشبهات بالزبد الذي يذهب جفاء يجفوه القلب ويدفعه وشبه ما يبقى في الأرض من الماء النافع بما يبقى في القلوب من الإيمان النافع
وتقدم أيضا حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ مثل بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان : لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ]
فقسم صلى الله عليه و سلم الناس فيما بعث به من الهدى والعلم الذي شبهه بالغيث إلى ثلاثة أقسام : فقسم قبلوه فانتفعوا به في نفوسهم علما وعملا وقسم حفظوه وأوده إلى غيرهم وقسم ثالث لا هذا ولا هذا
وقوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } نظير قوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
ففي هاتين الايتين بين سبحانه أن الإيمان والهدى حصل بالوحي النازل لا بمجرد العقل الذي كان حاصلا قبل الوحي
والناس متنازعون في المعرفة : هل حصلت بالشرع أو بالعقل ؟ وهل وجبت بهذا أو بهذا ؟
والنزاع في هاتين المسألتين موجود بين عامة الطوائف من اصحاب أحمد وغيره
فإن الناس لهم في العقل : هل يعلم به حسن الأشياء وقبحها ؟ والوجوب والتحريم قولان مشهوران : أحدهما : أنه لا يعلم به ذلك وهو قول الأشعري وأصحابه و ابن حامد و القاضي أبي يعلى و القاضي يعقوب و ابن عقيل و ابن الزاغوني وغيرهم من أصحاب أحمد وكثير من أصحاب مالك و الشافعي وغيرهما
والثاني : أنه يعلم به ذلك وهذا قول المعتزلة والكرامية وغيرهم وهو قول أبي الحسن التميمي و أبي الخطاب وغيرهما من أصحاب أحمد وذكر أبو الخطاب أنه قول جمهور العلماء وهو قول كثير من أئمة الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم ك أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني و أبي نصر السجزي وقول كثير من أصحاب مالك و الشافعي وهو الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة وذكروه عن أبي حنيفة نفسه
وقد بسط الكلام على هذه المسألة وما فيها من التفصيل في غير هذا الموضع وكذلك المعرفة : هل تحصل بالعقل أو بالشرع ؟ فيها نزاع بين العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم من العلماء
وحقيقة المسألة : أن المعرفة منها ما يحصل بالعقل ومنها ما لا يعرف إلا بالشرع فالإقرار الفطري : كالإقرار الذي أخبر الله به عن الكفار قد يحصل بالعقل كقوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله }
وأما ما في القلوب من الإيمان المشار إليه في قوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فلا يحصل إلا بالوحي كما في قوله : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي }
ومما يتعلق بهذه المسألة الكلام فيما يلهمه الله تعالى المؤمنين من الإيمان كقوله تعالى : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي }
وقوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } وقوله : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه }
وقوله : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } إلى قوله : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }
وقوله : { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم }
وقوله : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } وقوله : { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }
وأمثال ذلك مما يبين أن ما يحصل في القلوب من الهدى والنور الإيمان هو من الله تعالى بفضله ورحمته
وهذا يتعلق بمسألة القدر ولما كانت المعتزلة قدرية تنكر أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد ويقولون : إن ما يحصل للعبد من الإيمان لم يحصل من الله تعالى بل قد أعطى الكافر من أسباب الإيمان مثل ما أعطى المؤمن وليس له نعمة على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر ولكن نفس القدرة التي بها آمن هذا بها كفر هذا وكل منهما رجح أحد مقدوريه بلا سبب يوجب الترجيح لأن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وأما من قال منهم بقول أبي الحسين : إن الفعل لا يحصل مع القدرة إلا بالداعي وإن الله يخلق الداعي وأنه يجب وجود المقدور عند وجودهما فهذا موافق لأهل السنة في المعنى وإن أظهر نزاعهم
والمعتزلة كانوا هم أئمة الكلام في وجوب النظر والاستدلال بطريقة الأعراض والأجسام وما يتبع ذلك وصاروا يقولون : إن الإيمان لا يمكن أن يحصل للعبد بدون اكتسابه له لا يمكن عندهم أن يحصل بعلم ضروري يجعله الله في قلب العبد ولا بإلهام وهداية منه يختص بها من يشاء من عباده
ولهذا خالفهم المثبتون للقدر ك الأشعري وغيره وقالوا : يمكن أن يعلم بالاضطرار ما يعلم بالنظر فإن هذا عندهم ليس أمرا لازما لكنه بحسب العادة
والمعتزلة يقولون : إن الإيمان إذا كان موهبة من الله تعالى لعبد وتفضلا منه عليه لم يستحق العبد الثواب
وأهل السنة يقولون : هو محسن إلى العبد متفضل عليه بأن أرسل إليه الرسول صلى الله عليه و سلم وأن جعل له السمع والبصر الفؤاد الذي يعقل به وأن هداه للإيمان وأن أماته عليه فكل هذا إحسان منه إلى المؤمن وتفضل عليه وإن كان هو قد كتب على نفسه الرحمة وكان حقا عليه نصر المؤمن وحق العباد عليه إذا وحدوه ألا يعذبهم فذاك حق أوجبه بنفسه بكلماته التامات وبما تستحقه نفسه المقدسة من حقائق الأسماء والصفات لا أن شيئا من المخلوقات أوجب عليه شيئا أو حرم عليه شيئا والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر
فلما صار من أخذ ما أخذه من الكلام المحدث عنهم ك الأشعري ومن سلك سبيله من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي يسلكون مسلكهم في مسألة إيجاب النظر وأن الإيمان لا يحصل إلا به قال أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأشعرية : ( هذه المسألة بقية بقيت في المذهب من الأعتزال لمن اعتقدها وذلك لكون الأشعري كان معتزلا تلميذا لأبي علي الجبائي ثم رجع عن ذلك إلى مذهب ابن كلاب وأمثاله من الصفاتية المثبتين للقدر والقائلين بأن أهل الكبائر لا يخلدون ونحو ذلك من الأصول التي فارق بها المعتزلة للجماعة
وأصل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة المذموم عند السلف والأئمة كان أئمة الجهمية والمعتزلة وأمثالهم والمعتزلة قدرية جهمية وجهم وأتباعه جهمية مجبرة ثم الأشعري كان منهم ولما فارقهم وكشف فضائحهم وبين تناقضهم وسلك مسالك أبي محمد بن كلاب وأمثاله ناقضهم غاية المناقضة في مسائل القدر والوعيد والأسماء والأحكام كما ناقضهم في ذلك الجهمية والضرارية والنجارية ونحوهم
وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية حتى مال إلى قول جهم في ذلك لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة ك الإمام أحمد وغيره ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء ما ليس عن أولئك الطوائف
ولهذا كان هو وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث وكانوا هم خير هذه الطوائف وأقربها إلى الكتاب والسنة ولكن خبرته بالحديث والسنة كانت مجملة وخبرته بالكلام كانت مفصلة فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة ودخل معه في تلك البقايا وغيرها طوائف من المنتسبين إلى السنة والحديث من أتباع الأئمة من أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد
وعامة هؤلاء يقولون الأقوال المتناقضة ويقولون القول ولا يلتزمون لوازمه ومن أسباب ذلك أنهم يقولون القول المأثور عن الصحابة والسلف الموافق للكتاب والسنة ولصريح المعقول ويسلكون في الرد على بعض الكفار أو بعض أهل البدع مسلكا سلكته المعتزلة ونحوهم وذلك المسلك لا يوافق أصول أهل السنة فيحتاجون إلى التزام لوازم ذلك المسلك المعتزلي وإلى القول بموجب نصوص الكتاب والسنة والمعقول الموافق لذلك فيحصل التعارض والتناقض
وهكذا المعتزلة ردوا على كثير من الكفار ردا بطرق سلكوها متى التزموا لوازمها عارضت حقا آخر معلوما بالشرع أو العقل ومن تدبر هذه الأبواب رأى عجائب وما ثم ما يثبت على السبر والتقسيم ويسلم عن التناقض إلا ما جاء من عند الله
كما قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }
وكثير من هذه الطوائف يتعصب على غيره ويرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع المعترض في عينه ويذكر من تناقض أقوال غيره ومخالفتها للنصوص والمعقول ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال أو أضعف منها أو أقوى منها
والله تعالى يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم كما قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما }
وقال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا }
وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ] رواه أهل السنن
ومعلوم أن الحكم بين الناس في عقائدهم وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم
وقد قال تعالى : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير }
وقد رأيت من كلام الناس في هذا الباب وغيره ألوانا لا يسعها هذا الموضع وكثير من نزاع الناس يكون نزاعا لفظيا أو نزاع تنوع لا نزاع تناقض
فالأول مثل أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا هو معنى اللفظ الذي لا يقوله هذا وإن اختلف اللفظان فيتنازعان لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما غير معنى اللفظ في اصطلاح الآخر وهذا كثير
والثاني أن يكون هذا يقول نوعا من العلم والدليل صحيحا ويقول الآخر نوعا صحيحا
وكثير من نزاع الناس في هذا الموضع من هذا الباب وكثير منه نزاع في المعنى والنزاع المعنوي : إما أن يكون في ثبوت شيء وانتفائه وإما أن يكون في وجوب شيء وسقوطه
فالنزاع في صحة دليل الأعراض ونحوه نزاع معنوي وكذلك النزاع في وجوب الاستدلال بهذا الدليل على الإيمان أو توقف صحة الإيمان عليه ونحو ذلك
ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذ في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات : هل هو النظر أو القصد أو الشك أو المعرفة ؟ صار كثير من المنتسبين إلى السنة المخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم يوافقونهم على ذلك ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم ك مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه : ( قال أصحابنا ) و ( اختلف أصحابنا ) فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص فقد يكون الرجل من هؤلاء دون هؤلاء وبالعكس وقد يجتمع فيه الوصفان
وهذا موجود كثيرا في أتباع جميع الأئمة فتجد الواحد من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد يقول : اختلف أصحابنا في أول الواجبات ونحو ذلك ولا يصح كلامه إلا على هذا الوجه
كلام أبي الفرج المقدسي
كما يقول أبو الفرج المقدسي الحنبلي في تبرصته فإنه قال : ( فصل ) : في أول ما أوجب الله على العبد المكلف وفي ذلك وجهان لأصحابنا : أحدهما : أن أول ما أوجب الله على العبد معرفته والثاني : أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى )قال : ( وقال قوم : أول ما أو جب الله على العبد الطهارة و الصلاة وغير ذلك )
ثم قال : ( دليلنا أن معرفة الله يجب أن تتقدم على عبادته لأنه لا يجوز للمكلف ان يعبد ما لا يعرف وإذا ثبت هذا وجب تقدم المعرفة على العبادة )
قال : ( وإلى ذلك دعانا الباري بقوله تعالى : { أولم يتفكروا في أنفسهم } وقال : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض }
قال : ( ولم يندبنا إلى النظر والتفكر إلا لكي نستدل على معرفته )
قال : ( دليل ثان : أن النبي صلى الله عليه و سلم أول ما أرسل به إلى الأمة التوحيد ومعرفة الله تعالى بالوحدانية ونفى الإليهة عما سواه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] ثم فرض عليهم بعد ذلك الفرائض فدل على ما قلناه )
تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول ولا هذا القول وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبل المتقدمة والنبي صلى الله عليه و سلم لم يدع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء ولا إلى مجرد إثبات الصانع بل أول ما دعاهم إليه الشهادتان وبذلك أمر أصحابهكما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن : [ إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فإعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ]
وكذلك سائر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم موافقه لهذا كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عمر : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ]
وفي حديث ابن عمر : [ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ]
وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين وعلماء المسلمين فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين سواء كان معطلا أو مشركا أو كتابيا وبذلك يصير الكافر مسلما ولا يصير مسلما بدون ذلك
كما قال أبو بكر بن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذ قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأن كل ما جاء به محمد حق وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام - وهو بالغ صحيح يعقل - أنه مسلم فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدا يجب عليه ما يجب على المرتد
لكن تنازعوا فيما إذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله : هل يتضمن ذلك الشهادة بالتوحيد أو لا يتضمن ؟ أو يفرق بين من يكون مقرا بالتوحيد ومن لا يكون مقرا على ثلاثة أقوال معروفة من مذهب أحمد وغيره من الفقهاء ولهذا قال غير واحد ممن تكلم في أول الواجبات كالشيخ عبد القادر وغيره : أول واجب على الداخل في ديننا هو الشهادتان
واتفق المسلمون على أن الصبي إذا بلغ مسلما لم يجب عليه عقب بلوغه تجديد الشهادتين
والقرآن العزيز ليس فيه أن النظر أول الواجبات ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد وإنما في الأمر بالنظر لبعض الناس وهذا موافق لقول من يقول : إنه واجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به بل هو واجب على كل من لا يؤدي واجبا إلا به وهذا أصح الأقوال
فقوله تعالى : { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون } وهذا بعد قوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون }
ثم قال تعالى : { أولم يتفكروا في أنفسهم } فالضمير عائد إلى الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
وقوله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين * أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون }
فهذا مذكور بعد قوله : { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين }
ثم قال : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } فالضمير عائد إلى المكذبين فإنه قال تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } ثم قال تعالى : { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون } فقول هؤلاء كأبي المعالي وغيره : ( أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعا القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم ) هو في الأصل من كلام المعتزلة وهو كلام مخالف لما أجمع عليه أئمة الدين ولما تواتر عن سيد المرسلين بل لما علم بالاضطرار من دينه
وإذا قدر أن أول الواجبات هو النظر أو المعرفة أو الشهادتان أو ماقيل فهذا لا يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ إلا إذا لم يكن قد فعله قبل البلوغ فأما من فعل ذلك قبل البلوغ فإنه لا يجب عليه فعله مرة ثانية لا سيما إذا كان النظر مستلزما للشك المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان فيكون التقدير : اكفر ثم آمن واجهل ثم أعرف وهذا كما أنه محرم في الشرع فهوممتنع في العقل فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف ما لا يقدر عليه فإن الجاهل يمكن أن يصير عالما فإذا أمر بتحصيل العلم كان ممكنا أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلا كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه فمن كان الله قد أنعم عليه وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه فحصل له الإيمان المتضمن للمعرفة لم يمكن أن يؤمر بما يناقض المعرفة من نظر ينافي المعرفة أو شك أو نحو ذلك بل الأمر لمن حصل له علم ومعرفة أن يقدم ذلك ثم يحصله مثل تكليف من حصل له قصد الصلاة ونيتها بأن يقدم ذلك ثم تحصل النية وهذا مع أنه من باب الجهل والسفه والضلال فهو من باب تكليف العباد ما يعجزون عنه ولهذا يقال : الوسوسة لا تكون إلا من خبل في العقل أو جهل بالشرع
وقد اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا تطهر قبل البلوغ لم يجب عليه إعادة الوضوء إذا بلغ وكذلك لوكان عليه ديون فقضاها أو قضاها وليه لم يجب عليه إعادة القضاء بعد البلوغ بل لو صلى الفرض في أول الوقت ثم بلغ ففي إعادة الصلاة عليه نزاع معروف بين العلماء ومذهب الشافعي لا تجب الإعادة وهو قول في مذهب أحمد ومن الناس من يضعف هذا القول ولعله أقوى من غيره فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا من الصبيان بإعادة الصلاة مع العلم بأن كثيرا منهم يحتلم بالليل وقد صلى العشاء مع بقاء وقتها
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ
والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمنا بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله ولا يصير مؤمنا بذلك حتى يشهد أن محمدا رسول الله ثم كون ما يجب من العرفة لا يحصل إلا بالنظر أو يمكن حصوله بدونه ؟ وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية ؟ أو يحصل بهذا تارة ولهذا تارة ؟ والنظر المحصل لها : هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين ؟ هذه مسائل أخر
ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة : هل تحصل بالعقل أو بالشرع ؟ وكثير من النزاع في ذلك لفظي وبعضه معنوي فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم كان النزاع معه معنويا
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء وأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا بهذه الطرق ولا علق إيمانه ومعرفته بالله بهذه الطرق بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق ولم ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة
ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على قول من يقول : لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أوسبع لا وجوب على من لم يبلغ ذلك وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين وإن كان لم يتكلم بهما وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة
وهذا هو المعنى الذي قصده من قال : أول الواجبات الطهارة والصلاة فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا أو إذا ميزوا كما [ قال صلى الله عليه و سلم : مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ]
ولهذا قال الأئمة كالشافعي و أحمد وغيرهما : يجب على كافل الصبي أن يأمره بالطهارة والصلاة لسبع ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد شهادتين ولا نظر ولا استدلال ونحو ذلك ولا يؤمر بذلك بعد البلوغ وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ووجوب ذلك يسبق وجوب الصلاة لكن هو قد أدى هذا الواجب قبل ذلك : إما بلفظه وإما بمعناه فإن نفس الإسلام والدخول فيه إلتزام لذلك
وهنا مسائل تكلم الفقهاء فيها فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما ؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام
فإن قال هؤلاء : يعني بكونه أول الواجبات : أنه أول العبد من الواجبات ؟ قيل : قد يؤدي قبل ذلك واجبات : من قضاء الديون وأداء الأمانة وصلة الأرحام والعدل وغير ذلك
فإن قيل : لكن هذا أول واجب يتعلق به الثواب في الآخرة بخلاف ما أدي بدونه فإنه لا ثواب فيه في الآخرة ؟
قيل : مع قولنا بأنه لا وجوب ولا ثواب في الآخرة إلا بالشرع فلا يثاب لا على هذا وعلى هذا قبل مجيء الشرع ولا يجب لا هذا ولا هذا إلا بالشرع وإذا خاطبه الشارع الناس فإنما يأمر العبد ابتداء لما لم يؤده من الواجبات دون ما أداه فلم يخاطب المشركين ابتداء بالمعرفة إذ كانوا مقرين بالصانع وإنما أمرهم بالشهادتين ولو لم يكونوا مقرين بالصانع فإنه لم يأمرهم بإقرار مجرد عن الشهادتين بل أمرهم بالشهادتين ابتداء
والشهادتان تتضمن المعرفة فلو أقروا بالصانع وعرفوه من غير إقرار بالشهادتين لم يقبل ذلك منهم ولم يخرجوا بذلك من الكفر ولم يرتب خطابهم بذلك شيئا بعد شيء بل خاطبهم بالجميع ابتداء
وهنا تكلم الناس في وجوب إمهال الكافر إذا طلب الإمهال للنظر فأوجبه من أوجبه من المتكلمين من المعتزلة ومن تبعهم على هذه الطريقة كالقاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى في المعتمد وغيرهما
وأما الفقهاء أئمة الدين فلا يوجبون ذلك مطلقا أما في حال المقاتلة فيقاتلون حتى يسلموا أو يقروا بالجزية إن كانوا من أهلها فإذا أسر الرجل منهم فهذا لا يتعين قتله فإذا طلب مثل هذا الإمهال ورجى إسلامه أمهل وأما المرتد فلا يؤخر عند الجماهير أكثر من ثلاث وأما من له عهد فذلك لا يكره على الإسلام فهو في مهلة النظر دائما
ولوطلب أهل دار ممتنعين من الإمام أن يمهلهم مدة ورجا بذلك إسلامهم ولم يخف مفسدة راجحة أمهلهم
والحربي إذا طلب الأمان حتى يسمع القرآن وينظر في دلائل الإسلام أمناه كما قال تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }
وأما من قال بالوجوب العقلي كما هو قول المعتزلة والكرامية ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم فهؤلاء هم الذين قالوا ابتداء : أول ما يجب المعرفة أو النظر المؤدي إليها لكن أخد كلامهم من أراد أن يبنية على أصوله من الأشعرية ونحوهم فتناقض كلامه
ومن قال بالوجوب العقلي إذا قال : أول الواجبات المعرفة كان ذلك أقرب ثم له أن يقول : الرسول صلى الله عليه و سلم إذا أوجب الشهادتين ابتداء فقد ضم إلى الواجب العقلي ما يجب بالشرع وجعل أحدهما شرطا في الآخر فلا يقبل لأحدهما دون الآخر ومن أدى هذا الواجب أو بعضه لم يخاطبه إلا بفعل ما لم يؤده وعلى هذا فيكون خطاب الشارع للناس بحسب أحوالهم
وأول الواجبات الشرعية يختلف باختلاف أحوال الناس فقد يجب على هذا ابتداء ما لا يجب على هذا ابتداء فيخاطب الكافر عند بلوغه بالشهادتين وذلك أول الواجبات الشرعية التي يؤمر بها وأما المسلم فيخاطب بالطهارة إذا لم يكن متطهرا وبالصلاة وغير ذلك من الواجبات الشرعية التي لم يفعلها
وفي الجملة فينبغي أن يعلم أن ترتيب الواجبات في الشرع واحدا بعد واحد ليس هو أمرا يستوي فيه جميع الناس بل هم متنوعون في ذلك فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا فكذلك قد يؤمر هذا ابتداء بما لا يؤمر به هذا فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض وكلهم يؤمر بالصلاة فهم مختلفون فيما يؤمرون به ابتداء من واجبات الصلاة فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أمر بفعل ذلك ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداء ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا
وهكذا الواجبات العقلية : إذا قيل بالوجوب العقلي يتنوع الناس في ترتيبها فهذا يؤمر بقضاء ما عليه من الديون وهذا يؤمر برد ما عنده من الودائع وهذا يؤمر بالعدل في حكمه والصدق في شهادته وأمثال ذلك وكما أنهم متنوعون في ترتيب الوجوب فهم متنوعون في ترتيب الحصول علما وعملا
كلام أبي الحسين البصري عن العلم
وقد سلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة ومن وافقهم ترتيبا معينا في العلم الواجب على كل مكلف وزعموا أنه لايمكن حصول المعرفة لأحد إلا على ذلك الترتيب الخاص كما ذكرناه من كلام أبي الحسين البصري وأمثاله حيث قالوا : ( ليس يثق أحد بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن يصدق الكذابين وليس يعلم أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناه إلا بعد أن يعلم بأنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلم أنه يثبت ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا نعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله )قال : ( فيجب أن يتكلم في هذه الأشياء ليعلم صحة ما جاءت به الرسل )
ثم إنه تكلم في حدوث الأجسام وبنى الأمر في ذلك على أن ما لم يسبق الحوادث فهو محدث وبنى ذلك على أنه إذا كان كل من الحوادث له أول استحال أن لا يكون له أول لأنها ليست سوى آحادها كما يستحيل أن يكون كل واحد من الزنج أسود ولا يكونوا كلهم سودا
تعليق ابن تيمية
فقد جعل الدين كله مبنيا على هذا الترتيب المبني على هذه المقدمة التي ينازعه فيها جمهور العقلاء من أهل الملل وغيرهم وهذا هي أصول الدين عندهم وهذا مما يخالفهم فيه جماهير المسلمين بل جمهور عقلاء العالمين بل يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول لم يوجب هذه الطريق ولا دعا إليها ولا كان إيمان السابقين الأولين موقوفا عليهاوعامة ما ذكره من الترتيب ممنوع فقوله : لا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات ينازعه فيه طوائف كثيرون بل أكثر الناس
وقوله : ( لا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح ) ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وقوله : ( لا يعلم غناه إلا إذا علم أنه ليس بجسم ) ينازعه فيه أيضا طوائف كثيرون وكذلك ما ذكره من قوله : ( ولا يعلم ذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ) ومراده نفي الصفات والقول : بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة ونحو ذلك مما ينازعه فيه طوائف كثيرون
وقوله : ( إنما يعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معرفة باضطرار ) ينازعه فيه طوائف آخرون
فهذا ترتيب المعتزلة للعلم بالله ورسله ولغيرهم من طوائف المتكلمين ترتيب آخر وفيه من الممانعات والمعارضات من جنس ما في ترتيب هؤلاء
ونظير هذه التراتيب التي أحدثها أهل الكلام وادعوا أنه لا يحصل العلم إلا بها تراتيب ذكرها طوائف من الصوفية المصنفين في أحوال القلوب وأعمالها لما تكلموا في المقامات والمنازل وترتيبها فهذا يذكر عددا من المنازل والمقامات وترتيبا وهذا يذكر عددا آخر وترتيبا ويقول هذا : إن العبد لا ينتقل إلى مقام كذا حتى يحصل له كذا وأنه ينتقل إلى كذا بعد كذا ويقول هذا : عدد المنازل مائة ويقول الآخر عددها أكثر وأقل ثم هذا يقسم المنازل أقساما يجعلها الآخر كلها قسما ويذكر هذا أسماء وأحوالا لا يذكرها الآخر
وغاية الواحد من هؤلاء أن يكون ما ذكره وصف حاله وحال أمثاله وسلوكهم وترتيب منازلهم فإذا كان ما قالوه حقا فغايته أن يكون وصف سلوك طائفة معينة أما كون جميع أولياء الله تعالى لا يسلكون إلا على هذا الوجه المرتب وهذه الانتقالات فهذا باطل
وكذلك أيضا نظير هذا ما يذكره من المتفلسفة وأهل المنطق في ترتيب العلم وأسباب حصوله وما يذكرونه من الحدود والأقيسة والانتقالات الذهنية فغاية كلامهم - إذ كان صحيحا - أن يكون ذلك وصفا لما تسلكه طائفة معينة أما كون جميع بني آدم لا يحصل لهم العلم بمطالبهم إلا بهذه الطرق المعينة فهذا كلام باطل فحصر هؤلاء لمطلق العلم في ترتيب معين وحصر هؤلاء العلم بالله وبصدق رسله في ترتيب معين وحصر هؤلاء للوصول إلى الله في ترتيب معين كل هذا مع كونه في نفسه مشتملا على حق وباطل فالحق منه لا يوجب الحصر ولكن هو وصف قوم معينين وطرق العلم والأحوال وأسباب ذلك وترتيبه أوسع من أن تحصر في بعض هذه الطرائق
ولهذا كانت الرسل صلوات الله عليهم وسلامه يأمرون بالغايات المطلوبة من الإيمان بالله ورسوله وتقواه ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما أقوى وأنفع وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل ويذكرون من ذلك ما هو أضعف وأضر فمتبع الأنبياء لا يضل ولا يشقى ومتبع هؤلاء ضال شقي إذ كانت قضايا هؤلاء فيها من الباطل الذي هو كذب وإفك وإن لم يعلم صاحبه أنه كذب وإفك بل يظنه صدقا ما لا يحصيه إلا الله
وإذا كان الناس يتنوعون في الوجوب وترتيب الواجبات ويتنوعون في الحصول وترتيب الحاصلات لم يمكن أن يجعل ما يخص بعضهم شاملا لجميعهم وكثير من الغلط في هذا الباب إنما دخل من هذا الوجه : يصف أحدهم طريق طائفة ثم يجعله عاما كليا ومن لم يسلكه كان ضالا عنده ثم ذلك الطريق إما أن يكون خطأ وإما أن يكون صوابا ولكن ثم طرق أخرى غير ذلك الطريق فيجيء من سلك غير ذلك الطريق : يبطله بالكلية ويرد ما فيه من الصواب
وقد تكلمنا على مسألة تحسين العقل وتقبيحه في غير هذا الموضع وفصلنا القول فيها وبينا منشأ الغلط فإن الطائفتين اتفقوا على أن الحسن والقبح باعتبار الملائمة والمنافرة قد يعلم بالعقل والملائمة تتضمن حصول المحبوب المطلوب المفروح به والمنافرة تتضمن حصول المكروه المحذور المتأذى به
وهذا الذي اتفقوا عليه حق لكن توهموا بعد هذا أن الحسن والقبح الشرعي خارج عن ذلك وليس الأمر كذلك بل هو في الحقيقة يعود إلى ذلك لكن الشارع عرف بالموجود وأثبت المفقود فتحسينه : إما كشف وبيان وإما إثبات لأمور في الأفعال والأعيان
وعلى قول من يجعل الأحكام صفات ثابتة للأفعال وللأعيان فالتحسين الشرعي يتضمن أن الحسن ما حصل به الحمد والثواب والقبح ما حصل به الذم والعقاب ومعلوم أن الحمد والثواب ملائم للإنسان والذم والعقاب مناف للإنسان
وكذلك توهم من توهم من الطائفتين أن إثبات ذلك في حق الله تعالى ممتنع لكون هؤلاء المتوهمين لم يفرقوا بين الإرادة والمحبة والرضا بل جعلوا كل مراد محبوبا مرضيا ثم قال هؤلاء : الكفر والفسوق والعصيان ليس محبوبا باتفاق المسلمين فلا يكون مرادا فيكون وقوع ذلك بدون إرادته فيكون في ملكه ما لا يريده فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون
وقال هؤلاء بل هو مريد لكل حادث فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والكفر والفسوق والعصيان مراد له فيكون محبوبا مرضيا فيكون محبا راضيا فيكون محبا راضيا بالكفر والفسوق والعصيان فهؤلاء سووا بين المأمور والمحظور في أن الجميع محبوب مرضي فلزمهم تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد وإن لم يلتزموه
وأولئك قالوا : يكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون فلزمهم أن يكون عاجزا مغلوبا وإن كانوا لا يكرمون عجزه فهؤلاء لم يجعلوا لله الملك وأولئك لم يجعلوا الحمد والله تعالى له الملك وله الحمد هؤلاء أرادوا إثبات إلهيته وأنه معبود محمود حكيم عادل فقصروا في ذلك ونقصوه موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته وهؤلاء أثبتوا موجب ربوبيته وقدرته ومشيئته لكنهم نقصوا موجب إلهيته وحكمته ورحمته وحمده وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على منشأ النزاع في الوجوب كما نبهنا على النزاع في ترتيب الوجوب وأما الحصول فكثير من الناس يقول : المعرفة لا تحصل إلا بالعقل وقد يسرف هؤلاء حتى لا يثبتوا أشياء من صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا إلا بالعقل وصرح هؤلاء بأنه لا يستدل بنصوص الرسل على شيء من صفات الله تعالى لا إثباتا ولا نفيا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن اتبعهم من متأخري الأشعرية ويجعلون أصول الدين هي : العقليات المحضة التي لا تعلم بالسمع ثم قد يعينون من الطرق العقلية ما هو باطل عقلا وشرعا كطريقة الأعراض وطريقة التركيب وطريقة الاختصاص وإلى هذه الثلاث تعود جميع أصول النفاة ويقابلهم آخرون فيقولون : المعرفة لا تحصل إلا بالسمع ولا تحصل بالعقل وربما قالوا : إنه لا يمكن حصولها بالعقل وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة العقلية والسمعية متلازمة كل منهم مستلزم صحة الآخر فالأدلة العقلية تستلزم صدق الرسل فيما أخبروا به والأدلة السمعية فيها بيان الأداة العقلية التي بها يعرف الله وتوحيده وصفاته وصدق أنبيائه
ولكن من الناس من ظن أن السمعيات ليس فيها عقلي والعقليات لا تتضمن السمعي ثم افترقوا فمنهم من رجح السمعيات وطعن في العقليات ومنهم من عكس
وكلا الطائفتين مقصر في المعرفة بحقائق الأدلة السمعية والعقلية ثم تجد هؤلاء وهؤلاء في أتباع الأئمة : مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم
كلام أبي الفرج صدقة بن الحسين
وكثير من النزاع في ذلك قد يكون لفظيا وقد رأيت من ذلك عجائب كطائفة من أصحاب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد سلكوا الطريقة الأولى ونسبوا من خالفهم في ذلك إلى الجهل والغباوة حتى أن بعض متأخري أصحاب أحمد وهو أبو الفرج صدقة ابن الحسين البغدادي صنف مصنفا سماه محجة الساري في معرفة الباري سلك فيه مسلك ابن عقيل وأمثاله من المتكلمين المنتسبين إلى السنة مشوب من كلام المعتزلة مع مخالفتهم لهم في شعار مذهبهم فذكر أنه سئل عن المعرفة بأي طريق تحصل ؟ ومن أي طريق تجب ؟ وأن يبين اختلاف الناس في ذلك وذكر أن الناس تنازعوا في أول واجب على الإنسان بعد سن البلوغ والعقل هل هو النظر أو المعرفة ؟ وأنهم اتفقوا على وجوب المعرفة واختلفوا في طريقهقال : ( فذهب أهل الحق والسنة والجماعة إلى أن طريق الوجوب هو السمع والنقل وقالت المعتزلة : طريق الوجوب هو العقل )
ثم قال : ( وهنا مزلة أقدام لبعض أصحابنا الحنابلة لأنهم إذا سئلوا مطلقا عن معرفة الله وقيل لهم : بم يعرف الله ؟ قالوا : بالشرع من غير فصل بين الوجوب والحصول )
قال : ( وقد نبهتهم على هذا غير مرة فما هبوا من رقدتهم ولا انتبهوا من سنتهم )
ثم ذكر قول الإمامية والباطنية وأن المعرفة تحصل عندهم بقول الرسول والإمام المعصوم دون نظر العقل وتكلم في مسألة نفي الوجوب العقلي بما ليس هذا موضعه
وتكلم في طرق المعلومات بالكلام المعروف لأهل هذه الطريقة وأن منها ما لا يعلم إلا بالعقل ومنها ما لا يعلم بالسمع ومنها ما يعلم بهما فالذي لا يعلم إلا بالعقل : علمنا بأنه لا بد من موجود قديم لأن الكل لو كان حادثا لكان حادثا بلا سبب وهذه المعرفة تتقدم على ورود الرسول فلا حاجة فيها إلى الرسول بل مثاله علمنا بدلالة معجزة رسول الله صلى الله عليه و سلم على صدقه والذي يعلم بمجرد التعليم من النبي المعصوم مثل علمنا بمقادير العبادات الواجبة وما يتعلق بالآخرة من الجنة والنار وعذاب القبر والحساب والميزان وغير ذلك
قال : ( فالرسول صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليفصل الشرع وليشرح أمر الآخرة فأما معرفة افتقار هذا العالم إلى صانع قادر على إرسال الرسل فهو متقدم على قول الرسول فكيف يكون مستفادا من قول الرسول ؟ فمعرفة المرسل إذا تقدم على معرفة الرسول ومعرفة صدقه فكيف يعرف بقول الرسول ؟ قال : وأما مثال ما يدرك بالعقل والسمع جميعا فهو كرؤية الله تعالى وكونه خالقا لأعمال العباد فهذا مما يعلم بمجرد السمع وبمجرد العقل
ثم قال : ( وأما حجتنا في حصول المعرفة بمجرد العقل فقوله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت } وقال في موضع آخر { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وقال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } فهذا كله دعوة إلى الدلائل العقلية وهو التأمل في الآيات الدالة على حدوث العالم وقدم الصانع من غير شرط على ما نبنيه من بعد )
قال : ( ولأنه بالعقل يستدل بالشاهد على الغائب وبالبناء على الباني وبالكتابة على الكتاب من غير سماع خطاب )
قال : ( وآثار صنع الباري - عزت قدرته - في الموجودات أكثر وأظهر من كل دليل وكل من وقف على آثار صنعته بنور عقله يقع له العلم بوجود الصانع إذ لا يتصور مصنوع بلا صانع ولا مخلوق بلا خالق )
قال : ( والدليل على أن النظر أول الواجبات هو أن سائر الواجبات من الصلاة والصيام إنما يوجد بعد المعرفة لأن إنما يصح أن يتقرب إلى الله من يعرفه فصارت المعرفة متقدمة على سائر الواجبات والنظر متقدم على المعرفة لأنه طريق إليها وطريق الشيء متقدم عليه فصح أن النظر متقدم على كل شيء واجب وهنا التقدم في النظر إنما هو في وجوده لا في وجوبه وإلا فالواجب الأول هو المعرفة يعني : الواجب قصدا )
قال : ( والحاجة التي دعت إلى النظر هو أنه لا طريق إلى المعرفة إلا به والدليل على ذلك أن المعرفة إما تكون واقعة مبتدأة كمعرفة العاقل أن العشرة أكثر من الخمسة وإما أن تكون واقعة عن طريق كمعرفتنا بالمدركات إذا أدركناها بحواسنا الخمس وكمعرفتنا بما غاب عنا إذا أخبرنا به خلق عظيم شاهدوه نحو معرفتنا بمكة من جهة الخبر وإما أن تكون بالاستدلال كاستدلالنا بالبناء على الباني )
قال : ( ومعلوم أن معرفة الله تعالى لا تجري مجرى معرفتنا بأن العشرة أكثر من الخمسة لأنه لو جرت هذا المجرى لاستغنينا عن الاستدلال عليه كما نستغني عن الاستدلال على أن العشرة أكثر من الخمسة ومعلوم أن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال على الله تعالى ولا يجوز أن تكون معرفتنا بالله تعالى لإدراك الحواس لأنه لا يجوز أن يدرك بشيء منها في الدنيا ولا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة وليس أحد يخبرنا بالله عن مشاهدة ولا يجوز أن تكون معرفته بطريق الإلهام كما زعمت طائفة من الصوفية وبعض الشيعة لأن الإلهام هو تخايل يقع في القلب قد يكون ذلك من الله وقد يكون من وسوسة الشيطان وليس على أحدهما دليل يدل عليه ولأن من يدعي الإلهام يمكن خصمه أن يدعي خلافه فإنه إذا قال : ألهمت بكذا فيقول خصمه : وأنا ألهمت بكذا فكان العمل به عملا بلا دليل ألا ترى أن صاحب الشرع أمرنا بالاجتهاد عند فقد النصوص ؟ هو عمل بدلالة النصوص كما روي في حديث معاذ )
قال : ( ولا يلزم على هذا التحري في الأواني وغيرها في الشرع فإنه عمل بشهادة القلب لأنه هناك ليس ثم دليل سواه
وذلك ليس من قبل ما ذكرنا لأن الإلهام لا يصلح حجة لإلزام الحكم على الغير وكذلك التحري أيضا لا يصلح للإلزام على غيره وإنما اعتبر لجواز العمل في حق نفسه عند عدم سائر الأدلة أما المشروعات فلا يتصور أن تنفك عن نوع دليل : إما الكتاب أو السنة أو إجماع أو قياس فلا ضرورة في العمل بغير حجة ودليل فإذا بطلت هذه الأقسام كلها ثبت أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بالنظر )
قال : ( فإن قيل : بماذا تعلمون أن في العقول حجة ودليلا ؟ قيل : بأن تبين في كل مسألة تبيينا عقليا يفضي النظر فيه إلى العلم فإن قيل لم قلتم إن معرفة الله لا تنال إلا بالنظر في حجة العقل ؟ قيل : الدلالة على ذلك : أن الكتاب إنما يصح أن يستدل به إذا علم أنه كلام الله الحكيم فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وبأن هذا كلامه وإنما لم يصح الاستدلال عليه بالسنة لأنه إنما يصح الاستدلال بها إذا ثبت أنها كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم الحكيم فيجب تقدم العلم بالله وحكمته وأن هذا الرسول رسوله وإنما لم يصح الاستدلال بالإجماع على الله لأنه إنما يصح الاستدلال بالإجماع بعد أن يعلم أن الله ورسوله قد شهدا بأنه حجة فيجب تقدم العلم بالله فصح أن العلم بالله لا يستفاد بغير حجة العقل )
قال : ( فإن قيل فما الدليل الذي يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى ؟ قيل : نفسك وسائر ما تشاهدوه من الأجسام فوجه دلالة الإنسان من نفسه على الله تعالى أنه قد كان نطفة ثم تقلبت به الأحوال إلى أن انتهى إلى حال الكمال فلا بد لهذا التنقل والتغير من مغير ولم يكن التغير في وقت أولى من وقت فلا يخلو ذلك المغير إما أن يكون قد اقتضى تغيرها على سبيل الإيجاب من غير اختيار بالطبع أو القالب أو يكون اقتضى تغيرها على سبيل الاختبار وهو الفاعل ولا يخلو ذلك الفاعل إما أن يكون هو الإنسان أو غيره وإن كان غيره فلا يخلو إما أن يكون من جنسه أو من غير جنسه فإن كان من جنسه فإما أن يكون أبويه أو غيرهما فإن كان من غير جنسه فهو قولنا وسنبطل سائر الأقسام ونثبت هذا الأخير أما أنه لا يجوز أن يكون الإنسان قد تشكل لأجل أن الرحم على شكل القالب فلأن الكلام فيمن شكل ذلك القالب كالكلام فيمن شكل الإنسان ولأن القالب يقتضي تشكيل ظاهر ما يلقى فيه فما الذي اقتضى تشكيل باطن الإنسان ووضع أجزاء الباطن مواضعها ؟ ولا يجوز أن يكون المقتضى لتغيير الإنسان وتشكيله طبيعية غير عالمة ولا مختارة لأن الإنسان أبلغ في الترتيب والحكمة من بناء دار وصناعة تاج
وكما لم يجز أن يحصل ذلك ممن ليس بعالم فكذلك الإنسان ألا ترى أن أعضاء الإنسان مقسومة على حسب المنفعة وموضوعة مواضعها ؟ ولا يجوز أن يكون الإنسان هو الذي غير نفسه من حال إلى حال لأنه لو قدر على ذلك في حال ضعفه لكان في حال كماله أقدر وإذا عجز عن خلق مثله وخلق أعضائه في حال كماله فهو عن ذلك في حال الضعف أعجز ولا يجوز أن يكون المغير له من حال إلى حال أبويه لأنه ليس يجري على حسب إيثارهما ألا ترى أنهما يريدانه فلا يكون ويكرهانه فيكون ؟ ويريدانه ذكرا فيكون أنثى ويريدانه أنثى فيكون ذكرا ؟ فإذا لم يكن لأبويه في ذلك تأثير فغيرهما مما لا تعلق له به أجدر فصح أن للإنسان فاعلا مخالفا له وهو الله تعالى )
قال : ( فإن قيل : فكيف يدل غير على الله ؟ قيل : إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهذه حوادث فيجب أن يكون للجسم محدثا إذ لم يتقدم الحوادث والدليل على أن الأجسام محدثة هو أن الأجسام محدثة وكل محدث يحتاج إلى محدث )
قال : ( وهذا الكلام يشتمل على أصلين : أحدهما : أن الأجسام محدثة والثاني : أن كل محدث يحتاج إلى محدث أما الأصل الأول فالغرض به أن يدل على أن الجواهر والأجسام محدثة غير قديمة ولا يصح أن تثبت صفة لشيء وتنقى صفة عن شيء إلا وقد عرفنا ما تثبت له الصفة والصفة التي نثبتها والصفة التي ننفيها فيجب أن نذكر ما الجوهر و ما الجسم و ما القديم وما المحدث ولما كان الوصلة إلى حدوث الجسم هو العرض الذي هو الحركة والسكون والكون والاجتماع والافتراق ولم يصح أن يتوصل بما لا نعرفه وجب أن نبين ما العرض و ما الكون و ما الحركة و ما السكون و ما الاجتماع والافتراق فالجوهر هو الذي يشغل الحيز في وجوده و يصح أن تحله الأعراض ومعنى شغله الحيز أن يوجد في جهة ومكان فيحوزه ويمنع مثله من أن يوجد معه بحيث هو و الجسم هو المؤلف عند قوم : هو الطويل العميق والقديم هو : الموجود الذي لم يزل والذي لا أول لوجوده والمحدث هو الذي لوجوده أول والعرض هو ما يعرض في الوجود ولا يكون له لبث كلبث الجواهر والأجسام وذلك أن ما قل لبثه بالإضافة إلى غيره سموه عارضا قال الله تعالى : { هذا عارض ممطرنا } وذلك نحو الحركة والسكون و الحركة زوال الجسم من مكان إلى مكان والسكون لبث الجوهر في المكان أكثر من وقت واحد والكون ما به كون الجوهر في مكان دون مكان والاجتماع كونا جوهرين متماسين والافتراق كونا جوهرين غير متماسين )
قال : ( وإذ قد ذكرنا حدود هذه الأشياء فلندل على حدوث الأجسام فنقول : إن الأجسام لم تسبق الحركة والسكون المحدثين وكل ما لم يسبق المحدث فهو محدث )
ثم إنه ساق هذه الحجة إلى آخرها كما ساقها من قبله مثل ابن عقيل ونحوه وقبلهم أبو الحسين البصري وأمثاله الذين هم أئمة هذه الحجة وقد ذكرنا سياق أبي الحسين لها فلا حاجة إلى تكريرها
وقال : ( فإن قيل : فما تقولون فيمن حصلت له هذه المعرفة بمجرد التقليد أو غيره ؟ أيكون عارفا بالله مؤمنا ؟ قيل : نعم إلا أنه يكون مأثوما بترك ما وجب عليه من النظر )
تعليق ابن تيمية
قلت : أما هذه الحجة : حجة الأعراض فقد عرف اعتراض الناس عليه وذمهم لها وأما الحجة المتقدمة وهي الاستدلال بحدوث الإنسان فإنها حجة صحيحة وهي من الحجج التي دل عليها القرآن وأرشد إليهاوالمقصود هنا أن هذا وأمثاله ممن يقولون : إن المعرفة لا تحصل إلا بالعقل ويشنعون على من يقول : إنها تحصل بالسمع من أصحابهم وغير أصحابهم إذا تدبر كثير من كلام أصحابهم الذين ينازعهم هؤلاء تبين أن نزاعهم لهم ليس في نفس ما ثبت معرفته بمجرد العقل بل في أمر آخر
والمعنى الذي أراد أولئك أنه يحصل بالسمع ليس هو المعنى الذي اتفقوا على أنه لا يحصل إلا بالعقل كما ذكر ذلك الشريف أبو علي بن أبي موسى وغيره وسنذكر إن شاء الله تعالى بعض كلامهم فالنزاع بينهم وبين كثير من أصحابهم قد يكون لفظيا وقد يكون معنويا فإن المقدمات التي حصروا بها المعرفة في طريقهم ينازعهم الناس في كل واحدة منها وإن تنوع المنازعون وهذا كله بناء على أن دلالة السمع هي مجرد خبر المخبر الصادق كما هو اصطلاح هؤلاء
وأما إذا عرف أن دلالة السمع تتناول الأخبار وتتناول الإرشاد والتنبيه والبيان للدلائل العقلية وأن الناس كما يستفيدون من كلام المصنفين والمعلمين الأدلة العقلية التي تبين لهم الحق فاستفادتهم ذلك من كلام الله أكمل وأفضل
فتلك الأدلة عقلية باعتبار أن العقل يعلم صحتها إذا نبه عليها وهي شرعية باعتبار أن الشرع دل عليها وهدى إليها فعلى هذا التقدير تكون الدلائل حينئذ شرعية عقلية
وعلى هذا فقد يقال : الأدلة الشرعية نوعان : عقلي وسمعي فالعقلي ما دل الشرع عليه من المعقولات والسمعي ما دل بمجرد الإخبار وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن أئمة النظار معترفون باشتمال القرآن على الدلائل العقلية وأما على اصطلاح أولئك فكثيرا ما يعنون بالدليل الشرعي الدليل السمعي الخبري وهو مجرد خبر الشارع الصادق فعلى اصطلاحهم ينازعهم الناس في تلك المقدمات العقلية التي زعموا أن المعرفة لا تحصل إلا بها
فأما المقدمة الأولى وهي قولهم : إن المعرفة لا تحصل مبتدأة في النفس بل لا بد لها من طريق فهي من موارد النزاع فإذا قيل لهم : إنها قد تحصل في النفس مبتدأة لم يكن لها على نفي ذلك دليل إلا مجرد الاستقراء الذي هو : إما فاسد وإما ناقص
وقولهم : إن نفوس العقلاء تتشوف إلى الاستدلال يقول لهم المنازعون : لا نسلم أن جميع العقلاء كذلك بل جمهور العقلاء مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى وهم مفطورون على ذلك ولهذا إذا ذكر لأحدهم اسمه تعالى وجد نفسه ذاكرة له مقبلة عليه كما إذا ذكر له ما هو عنده من المخلوقات
والمتجاهل الذي يقول : إنه لا يعرفه هو عند الناس أعظم تجاهلا ممن يقول : إنه لا يعرف ما تواتر خبره من الأنبياء والملوك والمدائن والوقائع وذلك عندهم أعظم سفسطة من غيره من أنواع السفسطة
ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل وجد المسفسطين فيها أعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع فعلم أن معرفته في الفطرة أثبت وأقوى إذ كان وجود العبد ملزوم وجوده وحاجته معلقة به سبحانه وتعالى بل كل ما يخطر بقلب العبد ويريده فهو ملزوم له وخواطر العباد وإرادتهم لا نهاية لها وانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم لا ينحصر بل إقرار القلوب به قد لا يحتاج إلى وسط وطريق بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون وقد كان مستيقنا في الباطن كما قال له موسى : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } وقال تعالى عنه وعن قومه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا }
ولهذا قال : { وما رب العالمين } على وجه الإنكار له قال له موسى : { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } وقد زعم طائفة أن فرعون استفهم استفهام استعلام فسأله عن الماهية وأن المسؤول عنه لما لم يكن له ماهية عجز موسى عن الجواب
وهذا غلط وعلى هذا التقدير يكون استفهم استفهام إنكار وجحد كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدا لله نافيا له لم يكن مثبتا له طالبا للعلم بماهيته
فلهذا بين لهم موسى أنه معروف وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو فإن هذا إنما هو سؤال عما يجهل وهو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل بل معرفته مستقرة في الفطرة أعظم من معرفة كل معروف وهو سبحانه له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو في السماء إله وفي الأرض فأهل السماوات والأرض يعرفونه ويعبدونه وإن كان أكثر أهل الأرض كما قال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }
ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأمهم : { أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } وهذا استفهام إنكار يتضمن النفي ويبين أنه ليس في الله شك
وقول القائل : ليس في هذا شك يراد به أنه قد بلغ في الظهور والوضوح ولزوم معرفته إلى حيث لا ينبغي أن يشك فيه وإلى حيث لا يشك فيه وعلى كلا التقديرين يتبين أن الإقرار بالصانع بهذه المثابة
وأما الطريق الثاني وهو إدراك الحواس فلا ريب أنهم لا يقولون إنهم يدركونه بالحس الظاهر بل يقولون : إن الحس نوعان : ظاهر وباطن والإنسان يحس بباطنه الأمور الباطنة كالجوع والعطش والشبع والري والفرح والحزن واللذة والألم ونحو ذلك من أحوال النفس فهكذا يحسون ما في بطونهم من محبته سبحانه وتعظيمه والذل له والافتقار إليه مما اضطروا إليه وفطروا عليه ويحسون أيضا ما يحصل في بواطنهم من المعرفة المتضمنة لمثله الأعلى في قلوبهم
والإحساس نوعان : نوع بلا واسطة كالإحساس بنفس الشمس والقمر والكواكب وإحساس بواسطة : كالإحساس بالشمس والقمر والكواكب في مرآه أو ماء أو نحو ذلك
والقلوب مفطورة على أن يتجلى لها من الحقائق ما هي مستعدة لتجليها فيها فإذا تجلى فيها شيء أحست به إحساسا باطنا تجليه فيها
وأيضا فنفس مشاهدة القلوب لنفسه تبارك وتعالى أمر ممكن وإن كان ذلك قد يقال : إنه مختص ببعض الخلق كما قال أبو ذر و ابن عباس وغيرهما من السلف : [ إن نبينا صلى الله عليه و سلم رأى ربه بفؤاده ] و قال ابن عباس : رآه بفؤاده مرتين
فهذا النوع إذا كان ممكنا وقد قيل : إنه واقع لم يمكن نفيه إلا بدليل وأما الرؤية بالعين في الدنيا وإن كانت ممكنة عند السلف والأئمة لكن لم تثبت لأحد ولم يدعها أحد من العلماء لأحد إلا لنبينا صلى الله عليه و سلم على قول بعضهم وقد ادعاها طائفة من الصوفية لغيره لكن هذا باطل لأنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن أحدا لا يراه في الدنيا بعينه
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت ]
وقد بسطنا الكلام على مسألة الرؤية في غير هذا الموضع وبينا أن النصوص عن الإمام أحمد وأمثاله من الأئمة هو الثابت عن ابن عباس من أنه يقال : رآه بقلبه أو : رآه بفؤاده
وأما تقييد الرؤية العين فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد
والذي في الصحيح [ عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه ] ! وقد روى أحمد بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده واعتمد أحمد على قول أبي ذر لأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن هذه المسألة وأجابه - وهو أعلم بمعنى ما أجابه به النبي صلى الله عليه و سلم فلما ثبت أنه رآه بفؤاده دل ذلك على مراده
وأما قولهم : لا يجوز أن تكون معرفتنا به واقعة بالخبر لأن الخبر إنما يفضي إلى المعرفة إذا أخبر به خلق كثير عن مشاهدة وليس أحد يخبر بالله عن مشاهدة
فهذا مما ينازعهم فيه المنازعون ويقولون : ليس من شرط أهل التواتر أن يخبروا عن مشاهدة بل إذا أخبروا عن علم ضروري حصل العلم بمخبر أخبارهم وإن لم يكن المخبر مشاهدا
والمعرفة بالله قد تقع ضرورة وإذا كان كذلك أمكن المعرفة بتصديق أخبار المخبرين عن المعرفة الحاصلة ضرورة إلى ترى أن ما يخبر به الناس عن أنفسهم من لذة الجماع وكثير من المطاعم والمشارب بل ولذه العلم والعبادة والرئاسة وحال السكر والعشق وغير ذلك من الأمور الباطنة تحصل المعرفة بوجودها بالتواتر لمن لم يجدها من نفسه ولا عرفها بالضرورة في باطنه ؟ وليست أمرا مشاهدا بل إطباق الناس على وصف رجل بالعلم أو العدل أو الشجاعة أو الكرم أو المكر أو الدهاء أو غير ذلك من الأمور النفسانية التي لا تعلم بمجرد المشاهدة يوجب العلم بذلك لمن تواترت هذه الأخبار عنده وإن لم يكن المخبرون أخبروا عن مشاهدة وكذلك الإخبار عن ظلم الظالمين
ولهذا كانت العداله والفسق تثبت بالاستفاضة ويشهد بها بذلك كما يشهد المسلمون كلهم أن عمر بن عبد العزيز كان عادلا وأن الحجاج كان ظالما والعدل والظلم ليس أمرا مشاهدا بالظاهر فإن الإنسان أكثر ما يشاهد الأفعال كما يسمع الأقوال فإذا رأى رجلا يعطى ويقتل شاهد الفعل أما كونه قتل بحق أو بغير حق أو أعطى عدلا وإحسانا أو غير عدل و أحسان فهذا لا يعلم بمجرد المشاهدة بل لابد من دخول العقل في هذا العلم
وكذلك من لا يعرف الطب والنحو : إذا رأى ما تواتر عند أهل الطب والنحاة من علم أبقراط وجالينوس وأمثالهما و الخليل و سيبويه علم أن هؤلاء علماء بالطب والنحو وإن لم يعرف هو الطب والنحو وليست معرفة المخبرين بذلك عن المشاهدة
بل وكذلك إذا تواتر عنده كلام الناس بالإخبار عن علم مالك و الشافعي و أحمد و يحيى بن معين و البخاري و مسلم وأمثالهم بالفقه والحديث علم علمهم بذلك وإن كان المخبرون لم يخبروا عن مشاهدة لكن من رآى كلام هؤلاء من أهل الخبرة بالفقه والحديث علم بالضرورة أنهم علماء بذلك ثم هؤلاء يخبرون بذلك غيرهم فيتواتر ذلك عند هؤلاء
وكذلك القضايا الحسابية كالعلم بالمضروبات والمنسوبات والمجموعات ونحو ذلك هو ضروري لمن علمه فإذا أخبر أهل تواتر بذلك لواحد حصل له العلم بذلك وإن كانوا إنما أخبروا عن علم ضروري
وهكذا العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب يعلمه من باشره وجربه ضرورة ويعلمه من تواتر ذلك عنده بطريق الخبر ولهذا كان العلم بأن محمدا صلى الله عليه و سلم كان صادقا معروفا بالصدق لا يكذب متواترا عند من لم يباشره لأن الذين جربوه من أعدائه وغيرهم كانوا متفقين على أنه صادق أمين حتى أن هرقل لما سأل أبا سفيان - وكان حين سأله من أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم - : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فقال أبو سفيان : لا فأخبر أنه - هو وغيره من قريش - لم يكونوا يتهمونه بالكذب فضلا عن أن يخبروا عنه بالكذب وكانوا يسمونه الأمين
ولما كان أبو سفيان مخبرا بهذا بين جماعة من قومه يقرونه على ذلك مع قيام المقتضى للتكذيب لو كان قد كذب استفاد هرقل بهذا أنه لا يكذب فقال : قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله
وهذا وأمثاله باب واسع فالعلم بمخبر الأخبار يحصل إذا كان المخبر عالما بالضرورة سواء كان المخبر مشاهدا أو لم يكن
وأما طريقة الإلهام فالإلهام الذي يدعى في هذا الباب هو عند أهله علم ضروري لا يمكنهم دفعه عن أنفسهم أو مستند إلى أدلة خفية لا تقبل النقض فلا يمكن أن يكون باطلا
وأما الاستدلال على الأحكام بالإلهام فتلك مسألة أخرى ليس هذا موضعها والكلام في ذلك متصل بالكلام على الاستحسان والرأي وأنواعهما وأن ما يعنيه هذا بالاستحسان قد يعنيه هذا بالإلهام وليس الكلام فيما علم فساده من الإلهام لمخالفته دليل الحس والعقل والشرع فإن هذا باطل بل الكلام فيما يوافق هذه الأدلة لا يخالفها
وليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهاما فدعوى المدعي امتناع ذلك يفتقر إلى دليل
فطرق المعارف متنوعة في نفسها والمعرفة بالله أعظم المعارف وطرفها أوسع وأعظم من غيرها فمن حصرها في طريق معين بغير دليل يوجب نفيا عاما لما سوى تلك الطريق لم يقبل منه فإن النافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل
نعم من نفى تلك بحسب علمه لم ينازع في ذلك فإذ قال : لا أعلم طريقا آخر أو لم يحصل لي ولمن عرفته طريق آخر كان نافيا لعلمه ولما علم وجوده لا نافيا للأمور المحققة في نفس الأمر
كلام العلماء في ذم علم الكلام
فهذا الكلام وأمثاله يرد على النزاع المعنوي ولهذا كان كثير من الفضلاء الذين يوجبون هذه الطريقة ويصححونها قد رجعوا عن ذلك وتبين لهم ذم هذا الكلام بل بطلانه كما يوجد مثل ذلك في كلام غير واحد منهم مثل أبي المعالي و ابن عقيل و أبي حامد و الرازي وغيرهم من الذين يصححون هذه الطريق بل يوجبونها تارة ثم إنهم ذموها أو أبطلوها تارةقال أبو المعالي في آخر عمره : ( خليت أهل الإسلام و علومهم وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهوا عنه والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق ببره فأموت على دين العجائز وإلا فالويل لابن الجويني )
وسأل رجل ابن عقيل فقال له : هل ترى لي أن أقرأ الكلام فإني أحسن من نفسي بذكاء ؟ فقال له : ( إن الدين النصيحة فأنت الآن على مابك مسلم سليم وإن لم تنظر في الجزء - يعني الجوهر الفرد - وتعرف الطفرة - يعني طفرة النظام - ولم تخطر ببالك الأحوال ولا عرفت الخلاء والملاء والجوهر والعرض وهل يبقى العرض زمانين وهل القدرة مع الفعل او قبله وهل الصفات زوائد على الذات وهل الاسم المسمى أو غيره وهل الروح جسم أو عرض فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك ولا تذاكروه فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا فكن وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبي بكر وعمر والجماعة فبئس الاعتقاد والرأي )
قال : ( ثم هذا علم الكلام قد أفضى بأربابه إلى الشكوك وأخرج كثيرا منهم إلى الإلحاد بشم روائح الإلحاد من فلتات كلامهم وأصل ذلك كله أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ولا أخرج الباري من علمه ما علمه هو من حقائق الأمور وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعات ولما راموا ما وراءها ردوا إلى مقام غايته التحكيم والتسليم وهو الذي يزرى به طائفة المتكلمين على أهل النقل والسنة وتسميهم الحشوية وإليه ينتهي المتكلمون أيضا لكنهم يتحسنون بما ليس لهم وبما لم يتحصل عندهم فهم بمثابة من يدعي الصحة بتجلده وهو سقيم ويتغانى على الفقراء وهو عديم والعقل وإن كان للتعليل طالبا فإنه يذعن بأن فوقه حكمة إلهية توجب الاستكانة والتحكيم لمن هو بعض خلقه )
قال : ( وإنما دخلت الشبه من ثلاث طرق ترجع إلى طريق واحد وذلك أن قوما نظروا إلى أن العقل هو الأصل في النظر والاستدلال اللذين هما طريقة العلم فإذا قضى العقل بشيء عولوا عليه فلما قضى بوجود صانع لهذا العالم المحكم بالقواعد أثبتوه ثم نظروا في أفعاله فرأوا هدم الأبنية المحكمة وشاهدو جزيئات لم تأت على نظام الكليات ومضمار تعقب منافع فجحدوا الأول بالآخر ففسد اعتقادهم في الكل بما عرض لهم من اختلال الجزء وقالوا : إن دل الإحكام على حكيم فقد دل الاختلال على الإهمال فشكوا والقبيل الآخر أثبتوا صانعا للكليات وأضافوا الشرور إلى صانع آخر فثنوا بعد أن وحدوا والقبيل الآخر عللوا بما انحرم بعلل لم تشف غليل العقل فلما لم يستقم لهم التعليل جنحوا وقالوا : خفي علينا وجه الحكمة فيما عرض في العالم من الفساد فسلموا لمن استحق التسليم وهو الصانع وهذه طائفة أهل الحديث )
قال : ( وهذا الذي يقال له مذهب العجائز وإليه كل عالم محق )
قال : وقد ظن قوم أن مذهب العجائز ليس بشيء وليس كذلك وإنما معناه أن المدققين لما بالغوا في النظر فلم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليلات وقفوا مع هذه الجملة التي هي مراسم )
تعليق ابن تيمية
قلت : قول القائل : ( إن الصحابة - رضي الله عنهم - ماتوا وما عرفوا ذلك ) فيه تفصيل وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد وطفرة النظام وامتناع بقاء العرض زمانين ونحو ذلك فهذا قد لا يخطر ببال الانبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب فإن القول الباطل الكذب هو من باب ما لا ينقض الوضوء ليس له ضابط وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع وصار هذا كالنهي عن المنكر وجهاد العدو فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان وكان بهذه البلاد من الكفار المشركين الصابئين وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات وبينوا بطلانها لمن سألهموالواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال ويسألونه عن أنواع من المسائل ويوردون عليه أنواعا من الأسولة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه
و الشافعي و أحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعا من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل ولكن من عرف طريق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها علم ما كانوا يقولونه كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسأئل الفقه مثل مسألة قتل المسلم بالذمي أو القتل بالمثقل ونحو ذلك فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه فيعرف الفقيه الفاضل - مما نقل - ما لم ينقل
وأما الخوض في مسألة الروح : هل هي قائمة بنفسها أم هي عرض ؟ فكلام الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة في أن الروح : عين بنفسها تخرج من البدن وتصعد وتعرج وتنعم وتعذب وتتكلم وتسأل وتجيب وأمثال ذلك أكثر من أن يمكن سطره هنا فكيف يقال : إن الصحابة ماتوا وما عرفوا هل الروح عين قائمة بنفسها أو صفة من الصفات ؟ وإن كانوا هم كانوا لا يتخاطبون بلفظ الجسم والعرض
وكذلك قول القائل : إن الصحابة لم يعرفوا هل الصفات زوائد على الذات ليس بسديد فإن كلام الصحابة في إثبات الصفات لله تعالى أكثر وأعظم من أن يمكن سطره هنا بل كلام الصحابة في إثبات الصفات العينية الخبرية التي تسميها نفاة الصفات تجسيما أكثر من أن يمكن سطره هنا وكلامهم وكلام التابعين صريح في أنهم لم يكونوا يثبتون ذاتا مجردة عن الصفات
وأما اللفظ : هل الصفات زائدة على الذات أم لا ؟ فلفظ مجمل فإن أراد به المريد أن هناك ذاتا قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا لا يقوله أهل الإثبات ولا الصحابة وإن أراد به أن الصفات زائدة على الذات المجردة التي يعترف بها النفاة فهذا حق ولكن ليس في الخارج ذات مجردة فالسلف والأئمة لم يثبتوا ذاتا مجردة حتى يقولوا : الصفات زائدة عليها بل الذات التي أثبتوها هي الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها وهذا المعنى متواتر في كلام الصحابة
ففي الجملة : المعاني الصحيحة الثابتة كان الصحابة أعرف الناس بها وإن كان التعبير عن تلك المعاني يختلف بحسب اختلاف الاصطلاحات والمعاني الباطلة قد لا تخطر ببال أحدهم وقد تخطر بباله فيدفعها أو يسمعها من غيره فيردها فإن ما يلقيه الشيطان من الوسواس والخطرات الباطلة ليس لها حد محدود وهو يختلف بحسب أحوال الناس
وأما ما ذكره ابن عقيل من قوله : ( ليس في قوة العقل درك لما عند الله من الحكمة التي انفرد بها إلى آخر كلامه ) فهذا كله في العلل الغائية وحكمة الأفعال وعواقبها ومسائل القدر والتعديل والتجوير فإن ابن عقيل كان - لكثرة نظره في كتب المعتزلة وما عارضها - عنده في هذا الأصل أمر عظيم وهو من أعظم الأصول التي تشعب فيها كلام الناس
وكان طوائف من المنتسبين إلى الحديث والسنة كالأشعري و القاضي أبي بكر ومن وافقهم في أصل قولهم وإن كان يختلف كلامه كالقاضي أبي يعلى و ابن الزاغوني وطوائف لا يحصيهم إلا الله ينكرون التعليل جملة ولا يثبتون إلا محض المشيئة ولا يجعلون في المخلوقات والمأمورات معاني لأجلها كان الخلق والأمر إلى غير ذلك من لوازم قولهم
والمعتزلة يثبتون تعليلا متناقضا في أصله وفرعه فيثبتون للفاعل تعليلا لا تعود إليه حكمة ثم يزعمون أن كل واحد من العباد قد أراد به الفاعل كل من هو صالح له أو أصلح وفعل معه ما يقدر عليه من ذلك ويتكلمون في الآلام والتعويضات والثواب والعقاب بكلام فيه من التناقض والفضائح ما لا يحصى
وفي ذلك الحكاية المشهورة لأبي الحسن الأشعري مع أبي علي الجبائي لما سأله عن إخوة ثلاثة : مات أحدهم قبل البلوغ والآخر بلغ فكفر والآخر بلغ فآمن وأصلح فرفع الله درجات هذا في الجنة والصغير جعله دونه في الجنة والكافر أدخله النار فقال له الصغير : يارب ارفعني إلى درجة أخي قال : إنك لا تستحق ذلك فإن أخاك عمل عملا صالحا استحق به ذلك فقال : يارب إنك أحييته حتى بلغ وأنا أمتني فلو أبقيتني لعملت مثل ما عمل فقال له : إنه كان في علمي إنك لو بقيت لكفرت فاخترتك إحسانا إليك
قال : فصرخ الكافر من النار : يارب فهلا أمتني قبل البلوغ ما فعلت بهذا ؟ قالوا : فما سأله عن ذلك انقطع
ولهم على الكلام أبي الحسن اجوبة لها موضع آخر
والمقصود هنا أن ابن عقيل نظر في تعليلات المعتزلة فرآها عليلة ورأى أنه لا بد من إثبات الحكمة والتعليل في الجملة خلافا لما كان ينصره شيخه القاضي أبو يعلى : فصار يثبت الحكمة والتعليل من حيث الجملة ويقر بالعجز عن التفصيل
و القاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى في كتابه المصنف في أصول الدين الذي رتبه ترتيب محمد بن الهيصم في كتابه المسمى بجمل المقالات يسلك مسلك من أثبت الحكمة والمصلحة العامة التي تجب مراعاتها وإن أفضى ذلك إلى مفسدة جزيئة كما يشخد ذلك في المخلوقات والمأمورات وهذا مذهب الفقهاء في تعليل الشرعيات وهو مذهب كثير من النظار أو أكثرهم في تعليل المخلوقات كما ذهب إلى ذلك الكرامية والفلاسفة وغيرهم من الطوائف وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
ولم يرد ابن عقيل بقوله : ( وقد درج الصدر الأول على ما درج عليه الأنبياء من هذه الإقناعيات ) والإقناعيات تكون في الأدلة الدالة على العلم بإثبات الصانع وإثبات الصفات له والمعاد ونحو ذلك فإن تلك عند ابن عقيل وامثاله برهانيات يقينيات فكيف يجعلها عند الأنبياء والسلف إقناعيات ؟ ولكن أراد بذلك الإقناعيات في تعليل أفعاله وسماها هو إقناعيات لأن هذا مبلغ أمثاله من العلم ومنتهاهم من المعرفة في ذلك
وأما الأنبياء عليهم السلام والسلف رضوان الله عليهم فإن الله تعالى أطلعهم من حكمته في خلقه وأمره على ما لم يطلع عليه هو وأمثاله ولكن هؤلاء ليس لهم بحقائق أحوال الأنبياء والصحابة من الخبرة ما يعرفون به منتهاهم في هذه المطالب العالية كما أنه ليس لهم من الخبرة بهذه المسائل الكبار ما انتهوا معه إلى غايتها لكنهم يعلمون أن الأنبياء أفضل الخلق والصحابة بعدهم أفضل الخلق فيعتقدون فيهم أنهم وصلوا إلى منتهى ما يصل إليه الخلق في هذه المسائل
ثم إنهم لما نظروا - مع فرط ذكائهم - ولم يصلوا إلا إلى هذا ظنوا أنه لا غاية وراءهم فقالوا ما قالوا وهكذا كل طائفة سلكت فانتهت إلى حيث رأت أنه منتهى الخلق فإنها تقضي على كل من تعظمه بأن هذا منتهاه كما قد رأينا طائفة من الفلاسفة لما رأوا أن قول الفلاسفة هو منتهى معارف العقلاء صاروا إذا رأوا شخصا ظهر عنه ما يدل على كمال عقله وعظم علمه وفضله ومعرفته بأقوالهم على الحقيقة يجعلون قوله هو منه ورأينا من كلامه ما يناقض قول الفلاسفة يقول ذلك الفيلسوف الفاضل : هذا والله قد عرف حقيقة قولنا ومن عرف حقيقة قولنا لم يعدل عنه إلا أن يكون هناك شيء أعلى منه ثم يبقى حائرا : هل فوق قولهم ما هو أكمل منه لما ظهر منه من كون العارف بحقيقة قولهم مع حسن قصده وعدله قد عدل عنه إلى قول يناقضه ؟ أو ليس فوقه ما هو أكمل منه ؟ لأن هذا الفيلسوف لا يعرف أن فوقه ما هو أكمل منه
وهكذا الاتحادية أهل الوحدة ينسبون كل من عرف علمه وعقله وكماله إلى أنه منهم وإن كان مظهرا للإنكار عليهم وهكذا أهل الحيرة في الصفات الخبرية يجعلون السلف والأئمة يمرون آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت مع عدم علمهم بمعانيها
وإن كانوا من نفاتها قالوا : إنهم كانوا يعتقدون نفيها في الباطن : ولا يعلمون مدلول النصوص ولما كان هذا عندهم هو الغاية التي انتهوا إليها والسلف عندهم أعظم الناس جعلوا هذا غاية السلف
وهؤلاء الطوائف وقع لهم الخطأ من جهتين : أحداهما : أنهم لم يعرفوا الحق في نفسه على ما هو عليه لا بدليل عقلي ولا سمعي الثانية : أنهم لم يعرفوا حقيقة أقوال السلف وما كان عندهم من العلم والبيان فكان عندهم قصور في معرفة الحق في نفسه وفي معرفة الأنبياء والسلف به وظنوا أن ما وصلوا إليه هو الغاية الممكنة فجعلوا ذلك منتهى غيرهم فصاروا يحكون كلام المعظمين عندهم على هذا الوجه
وقد رأينا من ذلك أمورا حتى أن من قضاتهم وأكابرهم من يحكي أقوال الأئمة الأربعة في مسألة من المسائل الكبار فإذا قيل له : أهذا نقله أحد عن الشافعي أو فلان أو فلان ؟ قال : لا ولكن هذا قاله العقلاء و الشافعي لا يخالف العقلاء أو نحو هذا الكلام
فالطوائف المقصرة الضالة تجد حكايتهم للمنقولات مثل نظرهم في المعقولات فلا نقل صحيح ولا عقل صريح وكل من كان أبعد عن متابعة الأنبياء كان أبلغ في هذين الأمرين حتى ينتهي الأمر إلى القرامطة الباطنية الذي مبنى أمرهم على السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
ثم الشيعة أقرب منهم فكان عندهم من السفسطة والقرمطة بحسبهم والمعتزلة خير منهم فهم أقل سفسطة وقرمطة ولكن دخل من ذلك عندهم بحسب ما فيهم من مخالفة الكتاب والسنة أمور كثيره