كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
تعليق ابن تيمية
هذا كلامه فيقال : قول القائل : إن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزال ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلاموقد رأيت انه يلزم من قال باتحاد معنى الكلام اتحاد الصفات كلها ثم رفعها بالكلية وجعلها نفس الذات وهذا يعود إلى قول القائلين بان الوجود واحد ولا يميزون بين الواحد بالعين والواحد بالنوع وذلك لأنه من جوز على الحقائق المتنوعة أن تكون شيئا واحدا غلا فرق بين هذا وهذا وذلك من جنس من يقول إن العالم هو العلم والعلم هو القدرة
ولهذا كان منتهى هؤلاء النفاة إلى أن يجعلوا الوجود الذي هو نوع واحد واحدا بالعين فيجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات ووجود زيد هو عين وجود عمرو ووجود الجنة هو عين وجود النار ووجود الماء هو عين وجود النار
ومنشأ ضلال هؤلاء كلهم أنهم يأخذون القدر المشترك بين الأعيان وهو الجنس اللغوي فيجدونه واحدا في الذهن فيظنون أن ذلك هو وحدة عينية ولا يميزون بين الواحد بالجنس والواحد بالعين وأن الجنس العام المشترك لا وجود له في الخارج وإنما يوجد في الأعيان المتميزة
ولهذا شبه بعض أهل زماننا الكلام في أنه جنس واحد مع تعدد أنواعه بالنوع الواحد وعلى قوله لا يبقى في الخارج كلام أصلا ولو اهتدى لعلم أن هذا الكلام ليس هذا الكلام كما أن هذه الحركة ليست هذه الحركة وأن اشترك أنواع الكلام في الكلام كاشتراك أنواع الحركة في الحركة بل اختلاف معاني الكلام أعظم من اختلاف أنواع الحركات من بعض الوجوه والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا ان يقال : من جوز أن تكون القدرة والإرادة والعلم حقيقة واحدة كما أن الطلب والخبر حقيقة واحدة فلماذا لا يجوز أن تكون حقيقة الحروف المختلفة حقيقة واحدة وكذلك حقيقة الأصواب ؟ لست أعني واحدة بالنوع بل واحدة بالعين كما جعل الكلام واحدا بالعين وكما سوغ ان تكون الصفات المتنوعة واحدة بالعين
والذين قالوا : إن الكلام حروف وأصوات متقارنة قديمة لا يسبق بعضها بعضا وهو مع ذلك واحد إنما قالوه تبعا لأولئك وجريا على قياس قولهم وهو لازم لهم مع ظهور فساده وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
ويلزم من قال ذلك أن يجعل الطعم واللون والريح شيئا واحدا
وإذا قيل : هذا كالسواد والبياض
قيل له : ويلزمك ان تجعل السواد والبياض شيئا واحدا كما جعلت العلم والقدرة والحياة شيئا واحدا
فإذا قال : نحن تكلمنا فيما يمكن اجتماعه من المعاني والسواد والبياض متضادان
قيل : الجواب من وجهين
أحدهما : أنه يلزمك هذا في المعاني المختلفة التي يمكن اجتماعها كالطعم واللون والريح فقل إنها شيء واحد كما أن العلم والإرادة والقدرة والطلب والخبر والأمر والنهي شيء واحد
الثاني : أن يقال : تضاد الحروف كتضاد معاني الكلام أو تضاد الحركات لا كتضاد السواد والبياض فإن المحل الواحد لا يتسع لحركتين ولا لمعنيين فلا يتسع لحرفين وصوتين وفرق بين ما يتضادان لأنفسهما وما يتضادان لضيق المحل
وإذا كان كذلك كان تضاد الحروف والحركات كتضاد معاني الكلام
فإن قلب الإنسان يعجز في الساعة الواحدة عن جمع جميع معاني الكلام فإلحاق حروف الكلام بأسبابها وهي الحركات ومضموناتها ومدلولاتها وهي المعاني أولى من إلحاقها بالمتضادات لنفسها كالسواد والبياض
وحينئذ فإذا جعلت معاني الكلام شيئا واحدا فاجعل حروف الكلام شيئا واحدا وإلا فما الفرق ؟
وقد يقال في الفرق : إن الحروف مقاطع الأصوات والأصوات تابعة لأسبابها وهي الحركات والحركات : إما متماثلة وإما مختلفة وكل من الحركات المختلفة والمتماثلة متضادة لا يمكن اجتماع حركتين في محل واحد في زمن واحد فلا يجتمع صوتان فلا يجتمع حرفان
والحركات هي من الأكوان والأكوان كالألوان فكما لا يجتمع لونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد فلا يجتمع كونان مختلفان في محل واحد في وقت واحد
بخلاف معاني الكلام كالطلب الذي يتضمن الحب للمأمور به والبعض للمنهى عنه والخبر الذي يتضمن العلم والاعتقاد للمخبر عنه فإنها وإن كانت حقائق متنوعة لكن لا يمنع اجتماعها فإن الأمر بالشيء لا يضاد النهي عن غيره ولا العلم بثالث فلم تتضاد لأنفسها ولكنها لعجز العبد عن جمعها
فالأمور ثلاثة أنواع : ما امتنع اجتماعها لنفسها كالألوان المختلفة وما امكن اجتماعها وقد تجتمع كالعلم والإرادة والقدرة والطعم واللون والريح وما يعجز بعض الأحياء عن جمعها كجمع الإرادات الكثيرة والاعتقادات الكثيرة في زمن واحد فهذه ليس بين حقائقها منافاة تمنع اجتماعها ولكن العبد يعجز عن جمعها كما أنه لا يمتنع ان يعمل بلسانه عملا وبيده عملا وبرجله عملا وأن يسمع كلام هذا القارئ وهذا القارئ وهذا القارئ فالجمع بين هذه الأمور قد يتعذر العبد لا لامتناع اجتماعها في نفسه فإن سمع هذا لا ينافي سمع هذا لذاته ولا هذه الحركة تنافي هذه الحركة لذاتها ولهذا يعقل اجتماع هذه بخلاف اجتماع الضدين
وكذلك رؤية المرئيات المختلفة لا تتضاد ولكن يتضاد تحريك الأجفان إلى جهتين مختلفتين فنفس الحركات متضادة وأما ما يحصل عنها من إدراك فليس هو في نفسه متضادا
فإذا قدر إدراك لا يفتقر إلى حركة أو يحصل بحركة واحدة كمن ينظر إلى السماء بتحديق واحد لم يكن إدراكه لهذه المدركات في آن واحد متضادا فهل يمكن أن يقال في الصوت مثل ذلك وأنه يمكن حصول أصوات بلا حركات وحينئذ فلا تتضاد تلك الأصوات المجتمعة في محل واحد في زمن واحد ؟
فيه نزاع وجمهور العقلاء على امتناعه فإن كان هذا مما يمكن اجتماعه صار كمعاني الكلام والصفات وإن لم يمكن اجتماعه صار كالمتضادات
وعلى هذا التقدير : فمن قال بإمكان اجتماع هذه الأمور لم يكن في قوله من الاستبعاد اعظم من قول من يقول : تكون تلك الحقائق المختلفة شيئا واحدا
وليس اجتماع ما يظهر تضاده بأعظم من اتحاد ما يعلم اختلافه
وإذا قال القائل : الأمور الإلهية لا تشبه بأحوال العباد بل العبد يختلف علمه باختلاف المعلومات وإرادته باختلاف المرادات ويتعدد ذلك فيه والباري ليس كذلك
قيل : فإذا جوزتم أن يكون ما يعلم تعدده واختلافه في المخلوقين واحدا لا تعدد فيه ولا تنوع في حق الخالق أمكن منازعكم أن يقول كذلك فيقول : ما يمتنع اجتماعه في حقنا لا يمتنع اجتماعه في حقه لأنه واسع لا يقاس بالمخلوقين بل اجتماع الأمور التي يظهر تضادها فينا أقرب من اتحاد الأمور التي نعلم اختلافها فإن كون الشيء هو نفس ما يخالفه أمر فيه قلب الحقائق
وأما اجتماع الشيء وغيره في حق الخالق مع امتناع اجتماعهما في حق المخلوقات فيدل على أنه يمكن في حقه ما لا يمكن في حق الخلق وذلك يدل على عظمته وقدرته
وأيضا فقد يقول الكرامية وأمثالهم : إن محل هذه الحروف والأصوات ليس هو بعينه محل الأخرى والله واسع عظيم لا يحيط العباد به علما ولا تدركه أبصارهم
وبالجملة فالناس متنازعون في إمكان اجتماع الحروف وإمكان قدمها والنزاع في ذلك قديم ذكره الأشعري في المقالات وأصحاب أحمد متنازعون في ذلك وكذلك أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم من الطوائف وكذلك أهل الحديث والصوفية
وحينئذ فيقال : إما أن يكون ذلك ممتنعا وغما ان يكون ممكنا فغن كان ممتنعا لم يكن ظهور امتناعه أعظم من ظهور امتناع قول الكلابية الذي يوجب قدم المعاني المتنوعة التي هي مدلول العبارات المنتظمة ويجعلها مع ذلك معنى واحدا فإن الألفاظ قوالب المعاني ونحن كما لا نعقل الحروف إلا متوالية متعاقبة فلا تعقل معانيها إلا كذلك وبتقدير أن نعقل اجتماع معانيها فهي معان متنوعة ليست شيئا واحدا
ولهذا لما قالت الكلابية لهؤلاء : الحروف متعاقبة والسين بعد الباء وذلك يمنع قدمها
أجابوهم بثلاثة أجوبة كما ذكر ابن الزاغوني وقالوا هذا معارض بمعارض الحروف فإنها متعاقبة عندنا وانتم تقولون بقدمها
الثاني أن التعاقب والترتيب نوعان : أحدهما ترتيب في نفس الحقيقة والثاني ترتيب في وجودها فإذا كانت موجودة شيئا بعد شيء كان الثاني حادثا وأما الترتيب الذاتي العقلي فهو بمنزلة كون الصفات تابعة للذات وكون الإرادة مشروطة بالعلم والعلم مشروطا بالحياة
وادعوا أن تقدم الحروف من هذا الباب وهذا الذي يقال له تقدم بالطبع وهو تقدم الشرط على المشروط كتقدم الواحد على الإثنين وجزء المركب على جملته ومثل هذا الترتيب لا يستلزم عدم الثاني عند وجود الأول
فقول هؤلاء إن كان باطلا فكون العلم هو الحياة والحياة هي الإرادة ومعنى القرآن هو معنى التوراة ومعنى آية الكرسي وقل هو الله أحد هو معنى آية الدين وتبت يدا أبي لهب هو باطل أيضا سواء كان مثله في البطلان أو أخفى بطلانا منه او أظهر بطلانا منه
وحينئذ فيقال : هب أن قول السالمية والكرامية باجتماع الحروف محال فقول الكلابية أيضا محال فلا يلزم من بطلان ذاك صحة هذا وقول المعتزلة والفلاسفة أبطل من الكل
وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو انه لم يزل متكلما بحروف متعاقبة لا مجتمعة وهذا يستلزم قيام الحوادث به فمن قال بهذا لم يكن تناقض الكرامية حجة عليه ولم يلزم من بطلان قولهم بطلان هذا الأصل وإن كان اجتماع الحروف ممكنا بطل أصل الاعتراض
ومعلوم أن القسمة العقلية أربعة لأن الحروف : إما أن يمكن قدم أعيانها وحينئذ يلزم إمكان اجتماعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها بل قدم أنواعها وإما ان لا يمكن قدم أعيانها ولا أنواعها
وأما القسم الرابع : وهو قدم أعيانها لا أنواعها فهذا لا يقوله عاقل وعلى التقديرين فإما أن يمكن اجتماعها وإما ان لا يمكن فهذه خمسة أقسام
وأيضا فإذا أمكن الاجتماع فإما ان يكون بقاؤها ممكنا وإما أن لا يكون فالقول المذكور عن الكرامية يتضمن حدوث اعيانها وأنواعها لكن مع إمكان اجتماعها وبقائها بعد الحدوث وهذا قول من أقوال متعددة
وبإزاء ذلك من يقول : يجب حدوثها ويمتنع بقاؤها إما مع إمكان الاجتماع وإما مع عدم إمكان الاجتماع
ومن يقول يجب قدم نوعها لا قدم أعيانها قد يقول بإمكان الاجتماع وقد لا يقول
والناس متنازعون في تكليم الله لعباده : هل هو مجرد خلق إدراك لهم من غير تجدد تكليم من جهته أو لا بد من تجدد تكليم ؟ على قولين للمنتسبين إلى السنة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة و مالك والشافعي و أحمد وغيرهم
فالأول : قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم من أصحاب هؤلاء الأئمة القائلين بان الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته بل هو بمنزلة الحياة
والثاني : قول الأكثرين من أهل الحديث والسنة من أصحاب هؤلاء الأئمة وغيرهم وهو قول أكثر أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية والمعتزلة وغيرهم
قالوا : ونصوص الكتاب والسنة تدل على هذا القول ولهذا فرق الله بين أيحائه وتكليمه كما ذكر في سورة النساء وسورة الشورى
والأحاديث التي جاءت بأنه يكلم عباده يوم القيامة ويحاسبهم وأنه إذا قضى أمرا في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان إلى غير ذلك مما يطول ذكره
وإذا كان كذلك امتنع أن لا يقوم كلام الله به فإنه يلزم ان لا يكون كلامه بل كلام من قام به كما قد قرر في موضعه
والله سبحانه يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا وكذلك إذا ناجوه ودعوه أجابهم كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال الله حمدي عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى على عبدي فإذا قال : مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يقول هذا لكل مصل والناس يصلون في ساعة واحدة والله تعالى يقول لكل منهم هذا
وقد روي ان أبن عباس قيل له : كيف يحاسب الله الخلق في ساعة واحدة ؟ فقال كما يرزقهم في ساعة واحدة وأمثال ذلك كثير
وحينئذ فمن قال : إن هذه أقوال قائمة بنفسه تتعلق بمشيئته وقدرته يلزمه أحد أمرين إما أن يقول باجتماعها في محل واحد وإما أن يقول إن ذاته واسعة تسع هذه الأقوال كلها
ونحن نعقل ان يقوم بالذات الواحدة حروف كثيرة في آن واحد
وأصوات مجتمعة في آن واحد لكن لا يكون هذا حيث هذا إذ لا يعقل في الشاهد أنهما يجتمعان في محل واحد
وقد يقال : إن مثل هذا يجيء على قول من يقول : إنه يقوم بذاته لا نهاية لها وإرادات لا نهاية لها وقدر لا نهاية لها فإن ذلك كقيام أفعال وأقوال لا نهاية لها وهذا على وجهين : فمن قال : إن ذلك يقوم به على سبيل التعاقب فهو كمن يقول إنه تقوم به الكلمات والأفعال على سبيل التعاقب
ومن قال إنها كلها أزلية كما تقوله طائفة يقولون إنه تقوم به علوم لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله أبو سهل الصعلوكي وغيره فإن هذا يشبه قول من يقول : تقوم به حروف لا نهاية لها في آن واحد
لكن قد يقال : اجتماع العلوم بمعلومات والإرادات بمرادات قد يقال إنه لا يتضاد كاجتماع معاني الكلام بخلاف اجتماع حروف فإنه كاجتماع أصوات واجتماع أصوات كاجتماع حركات
وجماع ذلك ان الحقائق : إما أن تكون متماثلة وإما أن لا تكون وإذا لم تكن متماثلة فإما أن يمكن اجتماعها في محل واحد في زمن واحد وإما أن لا يمكن فالأولى المختلفة التي ليست بمتضادة كالعلم والقدرة وكالطعم واللون والثاني المتضادة كسواد والبياض وكالعجز مع القدرة كالعلم بمعلومات والقدرة على مقدورات والإرادة ليست هي متضادة بل يمكن اجتماع ذلك لكن قد يضيق عنه المحل كما يضيق قلب العبد عن إجتماع أمور كثيرة من ذلك وإن كان قد يجتمع في قلبه من ذلك ما يسعه قلبه
والقلوب تختلف أيضا بذاتها ولهذا يمكن بعض الناس أن يقرأ ويفعل بيده ورجله وآخر لا يمكنه ذلك كما يمكن هذا الحركة القوية الشديدة والآخر لا يمكنه ذلك ويمكن هذا أن يرى ويسمع من المختلفات ما لا يمكن الآخر رؤيته او سماعه
وإذا كان كذلك فالكلام في الصوت في شيئين : أحداهما : في بقائه وقدمه كما في بقاء الحركة وقدمها ولا ريب في إمكان بقاء نوع الصوت والحركة بمعنى حدوث الحركة والصوت شيئا فشيئا كحركة الفلك والكواكب
وأما إمكان قدم نوع الصوت والحركة ففيه قولان مشهوران للنظار فالجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم تنكر إمكان قدم ذلك وكثير من أئمة أهل الحديث والفقه والتصوف الفلاسفة يجوزون قدم ذلك ومنهم من يجوز قدم نوع الصوت لا نوع الحركة
وأما بقاء الصوت المعين والحركة المعينة فجمهور العقلاء يحيلون بقاء ذلك وقدمه بل امتناع قدم ما يمتنع بقاؤه اولى فإن ما وجب قدمه وجب بقاؤه وامتنع عدمه ومن الناس من جوز بقاء الصوت المعين والحركة المعينة وبعض هؤلاء جوز قدم الصوت المعين
ولا فرق بين الحركة والصوت وأما الحروف المنطوق بها فالناس متنازعون : هل هي طرف للصوت أم يمكن وجود حروف منظومة بلا صوت على قولين
وإذ قيل : لا يمكن وجود حرف منطوق له إلا بصوت فالحرف قد يعبر به عن نهاية الصوت وتقطعه وقد يعبر به عن نفس الصوت المقطع كما يعبر بلفظ الحرف عن الحرف المكتوب ويراد به مجرد الشكل تارة مجردا عن المادة ويراد به مجموع المادة والشكل وهو المداد المصور
والمسألة الثانية : أن الأصوات المتنوعة سواء قيل بوجوب تعقبها شيئا بعد شيء أو قيل بإمكان بقاء الصوت المعين : هل تقوم بالصائت الواحد إذا كان محل هذا الصوت ليس هو بعينه محل هذا الصوت وإن كان الصائت واحدا ؟
و لا ريب أن هذا أولى من قيام الحركات المتنوعة بالمتحرك الواحد إذا قامت كل حركة بمحل غير محل الأخرى
وأما اجتماع الصوتين والحركتين في محل واحد فهو متعذر للتضاد عند اكثر العقلاء أو لضيق المحل عند بعضهم كاجتماع العلمين والقدرتين والإرادتين المختلفتين والإدراكين ثم إذا قدر ان محل هذه الصفات لا يكون إلا جسما فيبقى الكلام في الجسم هل هو مركب هل مركب من الجواهر المنفردة ؟ أو من المادة والصورة ؟ اولا من هذا ولا من هذا ؟
لنظار ثلاثة أقوال في تركيب الجسم
وفي ذلك للنظار ثلاثة أقولا :فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد : هل هو جزء مفرد في القلب كما يذكر عن ابن الرواندي ؟ او أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة كما يقوله المعتزلة ؟ أو حكم العرض لا يتعدى محله بل يقوم بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك كما يقوله الأشعري ؟ على ثلاثة أقوال
ومن لم يقل بالجوهر الفرد لم يلزمه ذلك بل يقول : إن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه كما أن الجسم ليس بمنقسم وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة وهؤلاء يقولون : إن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه ويقولون : إن بدن الإنسان ليس مركبا من الجواهر المنفردة فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك
وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الأنقسام من الأعراض ببدنه وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه وإن قيل إنها جسم
وعلى هذا فإذا قيل : يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد
وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن ولا تصعد ولا تنزل وليست بجسم فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها مالا ينقسم كالعلم بما لا ينقسم فيجب أن لا ينقسم وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما وكلا المقدمتين ممنوعة كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع
ولما عسر جواب هذه على الرازي ونحوه من أهل الكلام اعتقدوا أن القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بان أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت
وليس الأمر كذلك فإن إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وجمهور العقلاء وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية
والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد ؟ وبسط هذه الأمور له موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على ما ذكره من البحث مع الكرامية وحينئذ فيقال قول الكرامية الذي حكاه عنهم من انه يستحيل تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها قول لا يوافقهم عليه كل من وافقهم على أصل هذه المسألة فإن الموافقين لهم على أصل المسألة هم أكثر الناس وأئمتهم من الطوائف كلها حتى من أئمة أهل السنة والحديث وأئمة الفلاسفة أهل الشرع وأهل الرأي وأما هذا القول فموافقهم عليه قليل
عود إلى مناقشة كلام الأمدي في مسألة كلام الله تعالى
قال وعند ذلك فإما ان يقال باجتماع حروف القول في ذاته تعالى أو لا يقال باجتماعها فيه فإن قيل باجتماعها : فإما ان يقال بتحري ذات الباري وقيام كل حرف بجزأ منه وإماأن يقال بقيامها بذاته مع اتحاد الذات فإن كان الأول فهو محال لوجهين : أحدهما انه يلزم منه التركيب في ذات الله وقد أبطلناه في أبطال لقول بالتجسيمقلت : ولقائل أن يقول : قول القائل : إما أن يتجزأ ويلزم منه التركيب لفظ مجمل كما قد عرف غير مرة فإن هذا يفهم منه إما جواز الافتراق عليه أو أنه مفترقا فاجتمع أو ركبه ونحو هذه المعاني التي لا يقولونها
فإن أراد المريد بقوله إما أن يقال بتجزي ذات الباري تعالى هذا المعنى فهم لا يقولون بتجزئة ولكن لا يلزم من رفع امتناع كون الذات واسعة تسع هذا وهذا وهذا وأن كل واحد يقوم لا يقوم الآخر وهذا هو الذي عناه بلفظ التجزي والتركيب
كلام الآمدي في نفي التجسيم وتعليق ابن تيمية
وقوله إنه أبطل هذا في أبطال القول بالتجسيم فهم يقولون ليس فيما ذكرته في نفي التجسيم حجة على نفي قولهموذلك أنه قال والمعتمد في نفي التجسيم أن يقال لو كان الباري جسما فإما أن يكون كالأجسام وإما أن لا يكون كالأجسام فغن قيل إنه لا كالأجسام كان النزاع في اللفظ دون المعنى والطريق في الرد ما أسلفناه في كونه جوهرا وإن قيل إنه كالأجسام فهو ممتنع لثمانية اوجه : منها أربعة وهي ما ذكرناها في استحالة كونه جوهرا وهي الأول والثالث والرابع والخامس ويختص الجسم بأربعة أخرى
قلت والذي ذكره في إبطال كونه جوهرا هو أن المعتمد هو أنا نقول لو كان الباري جوهرا لم يخل إما أن يكون جوهرا كالجواهر أولا كالجواهر والأول باطل لخمسة أوجه وإن قيل إنه جوهر لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب فإنا إنما ننكر كونه جوهرا كالجواهر وإذا عاد الأمر إلى الإطلاق اللفظي فالنزاع لفظي ولا مشاحة فيه إلا من وجهة ورد التعبد من الشارع به ولا يخفي أن ذلك مما لا سبيل إلى إثباته
قال وعلى هذا فمن قال إنه جوهر بمعنى أنه موجود لا في موضوع والموضوع هو المحل المقوم ذاته المقوم لما يحل فيه كما قاله الفلاسفة أو أنه جوهر بمعنى أنه قائم بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره كما قاله أبو الحسين البصري مع اعترافه أنه لا يثبت له أحكام الجواهر فقد وافق في المعنى وأخطأ في الإطلاق من حيث إنه لم ينقل عن العرب إطلاق الجوهر بأزاء القائم بنفسه لا ورد فيه إذن من الشرع
فيقال : إذا كان قول القائل : إنه جوهر لا كالجواهر وجسم لا كالأجسام موافقا لقولك في المعنى وإنما النزاع بينك وبينهم ف ياللفظ قامت حجته عليك لفظا ومعنى أما اللفظ فمن وجهين : أحداهما أنه كما أن الشارع لم يأذن في إثبات هذه الألفاظ له فلم يأذن في نفيها عنه وأنت لم تسمه سخيا لعدم إذن الشرع فليس لك أن تقول ليس بسخي لعدم إذن الشرع في هذا النفي بل إذا لم يطلق إلا ما إذن فيه الشرع لا يطلق لا هذا ولا هذا
ثم أنت تسميه قديما وواجب الوجود وذاتا ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع والشارع يفرق بين ما يدعي به من الأسماء فلا يدعي إلا بالأسماء الحسنى وبين ما يخبر بمضمونه عنه من الأسماء لإثبات معنى يستحقه نفاة عنه ناف لما يستحقه من الصفات كما انه من نازعك في قدمه أو وجوب وجوده قلت مخبرا عنه بما يستحقه إنه قديم وواجب الوجود فإن كان النزاع مع من يقول هو جوهر وجسم في اللفظ فعذرهم في الإطلاق أن النافي ما يستحقه الرب من الصفات في ضمن نفي هذا الاسم فأثبتنا له ما يستحقه من الصفات بإثبات مسمى هذا الاسم كما فعلت أنت وغيرك في اسم قديم وذات و واجب الوجود ونحو ذلك
الثاني : أنك احتججت على نفي ذاك العرب لم ينقل عنها إطلاق الجوهر بإزاء القائم بنفسه
فيقال لك : ولم ينقل عنها إطلاقة بإزاء كل متحيز حامل للأعراض ولا نقل عنها إطلاق لفظ ذات بإزاء نفسه وإنما لفظ الذات عندهم تأنيث ذو فلا تستعمل إلا مضافة كقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله { إنه عليم بذات الصدور } الأنفال 43 وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله ]
وقول خبيب
( وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع )
وأمثال ذلك أي في جهة الله أي لله تعالى
ولهذا أنكر ابن برهان وغيره على المتكلمين إطلاق لفظ ذات الله
وإذا كان كذلك فأنت أطلقت لفظ الذات على ما لم تطلقه العرب بغير إذن من الشرع ولو قال لك قائل : إن الله ليس بذات نازعته فهكذا يقول منازعك في اسم الجوهر والجسم إذا كان موافقا لك على معناهما
وأيضا فإن لفظ الجوهر والجسم قد صار في أصطلاحكم جميعا أعم مما استعملت فيه العرب فإن العرب لا تسمي كل متحيز جوهرا ولا تسمي كل مشار إليه جسما فلا تسمي الهواء جسما
وفي أصطلاحكم سميتم هذا جسما كما سميتم في اصطلاحكم باسم الذات كل موصوف أو كل قائم بنفسه أو كل شيء فلستم متوقفين في الاستعمال لا على حد اللغة العربية ولا على إذن الشارع لا في النفي ولا في الإثبات
فإن لم يكن لك حجة على منازعك إلا هذا كان خاصما لك وكان حكمه فيما تنازعتما فيه كحكمكما فيما اتفقتما أو فيما انفردت به من هذا الباب
وأيضا فحكايتك عن الفلاسفة أنهم يسمونه جوهرا والجوهر عندهم الموجود لا في موضوع إنما قاله ابن سينا ومن تبعه
وأما أرسطو وأتباعه وغيرهم من الفلاسفة فيسمونه جوهرا فالوجود كله ينقسم عندهم إلى جوهر وعرض والمبدأ الأول داخل عندهم في مقوله الجوهر
والأظهر أن النصارى إنما أخذوا تسميته جوهرا عن الفلاسفة فإنهم ركبوا قولا من دين المسيح ودين المشركين الصابئين
وأما النزاع المعنوي فيقال : قول القائل إنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام لفظ مجمل فإنه قد يراد به أنه مماثل لكل جوهر وكل جسم فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه وقد يريد به أنه مماثل لها في القدر المشترك بينها كلها بحيث يجب ويجوز ويمتنع عليه ما يجب ويجوز ويمتنع على ما حصل فيه القدر المشترك منها ولو أنه واحد
فأما الأول فإنه إما أن يقول مع ذلك بتماثل الأجسام والجواهر وإما أن يقول باختلافها فإن قال بتماثلها كان قوله هو القول الثاني إذ كان يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه باعتبار ذاته
وإن قال باختلافها امتنع مع ذلك أن يقول إنه كالأجسام فإنه من المعلوم على هذا التقدير أن كل جسم ليس هو مثل الآخر ولا يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فكيف يقال في الخالق سبحانه إنه يجوز عليه ما يجوز على كل مخلوق قائم بنفسه حتى في الجماد والنبات والحيوان
هذا لا يقوله عاقل حتى القائلون بوحدة الوجود فهؤلاء عندهم هونفس وجود الأجسام المخلوقة ولكن هم مع هذا لا يقولون إنه يجوز على وجود جميع الموجودات ما يجوز على وجود هذا
وهذا وإن قال : إنه كالأجسام المخلوقة في القدر المشترك بينها بحيث يجوز عليه ما يجوز على المجموع لا على كل واحد واحد فهذا أيضا قول معلوم الفساد ولا نعرف قائلا معروفا يقول به فإن هذا هو التشبيه والتمثيل الذي يعلم تنزه الله عنه إذ كان كل ما سواه مخلوقا والمخلوقات تشترك في هذا المسمى فيجوز على المجموع من العدم والحدوث والافتقار ما يجب تنزيه الله عنه بل لو جاز ووجب وامتنع عليه ما يجوز ويجب ويمتنع على الممكنات والمحدثات لزم الجمع بين النقيضين فإنه يجب له الوجود والقدم فلو وجب ذلك للمحدث مع أنه لا يجب له ذلك لزم أن يكون ذلك واجبا للمحدث غير واجب له ولو جاز عليه الإمكان والعدم مع أن الواجب بنفسه القديم الذي لا يقبل العدم لا يجوز عليه الإمكان والعدم للزم أن يمتنع عليه العدم لا يمتنع عليه وأن يجب له الوجود لا يجب له وذلك جمع بين النقيضين
فتنزيه الله عما يستحق التنزيه عنه من مماثلة المخلوقين يمنع أن يشاركها في شيء من خصائصها سواء كانت تلك الخاصة شاملة لجميع المخلوقات أو مختصة ببعضها
فعلم أن القول بأنه جوهر كالجواهر أو جسم كالأجسام سواء جعل التشبيه لكل منها أو بالقدر المشترك بينها لم تقل به طائفة معروفة أصلا فإن كان النزاع ليس إلا مع هؤلاء فلا نزاع في المسألة فتبقى بحوثه المعنوية في ذلك ضائعة وبحوثه اللفظية غير نافعة مع أني إلى ساعتي هذه لم أقف على قول لطائفة ولا نقل عن طائفة أنهم قالوا جسم كالجسام مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون يد كيدي وقدم كقدمي وبصر كبصري مقالة معروفة وقد ذكرها الأئمة كيزيد ابن هارون و احمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وغيرهم وأنكروها وذموها ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله
ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الجسام بل ببعضها ولا مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه والاختلاف من وجه لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال
وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون يد كيدي وبصر كبصري وقدم كقدمي
وقد قال الله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 وقال تعالى { ولم يكن له كفوا أحد } الإخلاص : 4 وقال { هل تعلم له سميا } مريم : 65 وقال تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا } البقرة : 22
وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض كما قد بسط الكلام على ذلك في غير موضع ن وأفردنا الكلام على قوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 في مصنف مفرد
وأما الكلام في الجسم والجوهر ونفيهما أو إثباتهما فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك لا نفيا ولا إثباتا
والنزاع بين المتنازعين في ذلك بعضه لفظي وبعضه معنوي اخطأ هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه فإن كان النزاع مع من يقول هو جسم أو جوهر إذا قال لا كالأجسام ولا كالجواهر إنما هو اللفظ فمن قال هو كالأجسام والجواهر يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى
فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى كان قوله مردودا وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله فكل قول تضمن هذا فهو باطل
وإن فسر قوله جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه
فلا بد أن يلحظ في هذا المقام إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا وذلك مثل أن يقول أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات وبين كل حي عليم سميع بصير وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات وإلا فلو قال الرجل هو حي لا كالأحياء وقادر لا كالقادرين وعليم لا كالعلماء وسميع لا كالسمعاء وبصير لا كالبصراء ونحو ذلك واراد بذلك نفي خصائص المخلوقين فقد أصاب
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه وهو من صفات كماله فقد أخطأ
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته يقع من جهة المعنى في شيئين أحدهما انهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين
فمن قال بتماثلها قال كل من قال إنه جسم لزمه التمثيل
ومن قال إنها لا تتماثل قال إنه لا يلزمه التمثيل
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة بحسب ما ظنوه لازما لهم كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية وغثاء وغثراء ونحو ذلك ما ظنوه لازما لهم
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم لم يجز نسبتها إليه على إنها قول له سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة بل إن كانت لازمة مع فسادها دل على فساد قوله
وعلى هذا النزاع بين هؤلاء وهؤلاء في تماثل الأجسام وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبين الكلام على جميع حججهم
والثاني أن مسمى الجسم في اصطلاحهم قد تنازعوا فيه هل هو مركب من أجزاء منفردة أو من الهيولى والصورة أو لا مركب لا من هذا ولا من هذا ؟
وإذا كان مركبا فهل هو جزآن أو ستة أجزاء أو ثمانية أجزاء أو ستة عشر جزءا أو اثنان وثلاثون ؟
هذا كله مما تنازع فيه هؤلاء فمثبتوا التركيب المتنازع فيه في الجسم يقولون لأولئك إنه لازم لكم إذا قالوا هو جسم وأولئك ينفون هذا اللزوم
وقد يكون في المجسمة من يقول إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة وينازعهم في امتناع مثل هذا التركيب عليه ويقول لا حجة لكم على نفي ذلك إلا ما اقمتموه من الأدلة على كون الأجسام محدثة أو ممكنة وكلها أدلة باطلة كما بسط في موضعه
وبينهم نزاع في أمور أخرى ينازعهم فيها من لا يقول هو جسم مثل كونه فوق العالم أو كونه ذا قدر أو كونه متصفا بصفات قائمة به فالنفاة يقولون هذه لا تقوم إلا بجسم وأولئك قد ينازعونهم في هذا أو بعضه وينازعونهم في إتنفاء هذا المعنى الذي سموه جسما فهم ينازعون إما في التلازم وإما في انتفاء اللازم
إذا تبين أن هذه الأمور كلها ترجع إلى هذه الأمور الثلاثة فإن الحجج الثمانية التي ذكرها الآمدي على نفي الجوهر وأربعة مختصة بالجسم
ذكر الآمدي أربعة حجج على نفي الجوهر مختصة بالجسم
الحجة الأولىقوله لو كان جوهرا كالجواهر فإما أن يكون واجبا لذاته وإما أن لا يكون فإن كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود لذاتها ضرورة اشتراكها في معنى الجوهرية وإن كان ممكنا لزم أن لا يكون واجبا لذاته وإن كان لا كالجواهر فهو تسليم للمطلوب
الرد عليه
فيقال لا نسلم انه إذا كان واجبا لذاته لزم اشتراك جميع الجواهر في وجوب الوجود ولا يلزم أن الاشتراك في الجوهرية يقتضي الاشتراك في جميع الصفات التي تجب لكل منها وتمتنع عليه وتجوز لهوكذلك سيقال لا نسلم أنه إذا لم يكن كالجواهر كان تسليما للمطلوب وذلك انه إذا قيل لا كالأحياء وعالم لا كالعلماء وقادر لا كالقادرين لا يلزم من ذلك نفي هذه الصفات ولا إثبات خصائص المخلوقات
فمن قال هو جوهر وفسره إما بالمتحيز وغما بالقائم بذاته وغما بما هو موجود في موضوع لم يسلم أن الجواهر متماثلة بل يقول تنقسم إلى واجب وممكن كما ينقسم الحي والعليم إلى هذا وهذا
فإن قال إذا كان متحيزا فالمتحيزات مماثلة له كان هذا مصادرة على المطلوب لأنه نفي كونه جسما بناء على نفي الجوهر ونفي الجوهر بناء على نفي على نفي المتحيز والمتحيز هو الجسم أو الجوهر والجسم فيكون قد جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه وهذه هي المصادرة
الحجة الثانية
قال الآمدي انه إما أن يكون قابلا للتحيزية أو لا يكون فإن كان الأول لزم أن يكون جسما مركبا وهو محال كما يأتي وغن كان الثاني لزم أن يكون بمنزلة الجوهر الفردولقائل أن يقول إن عنيت بالتحيزية تفرقته بعد الاجتماع أو اجتماعه بعد الافتراق فلا نسلم أن ما لا يكون كذلك يلزم أن يكون حقيرا
وإن عنيت به ما يشار إليه أو يتميز منه شيء عن شيء لم نسلم أن مثل هذا ممتنع بل نقول إن كل موجود قائم بنفسه فإنه كذلك وأن ما لا يكون كذلك فلا يكون إلا عرضا قائما وانه لا يعقل موجود إلا ما يشار إليه أو ما يقوم بما يشار إليه كما قد بسط في موضعه وسيأتي الكلام على نفي حجته
الحجة الثالثة
قال لا يخلو غما ان يكون لذاته قابلا لحلول الأعراض المتعاقبة أولا فإن كان الأول فيلزم ان يكون محلا للحوادث وهو محال كما يأتي وإن كان الثاني فيلزم امتناع ذلك على كل الجواهر ضرورة الاشتراك بينها في المعنى وهو محال خلاف المحسوس
الرد عليه من وجوه
ولقائل أن يقول الجواب من وجوهالأول أنا لا نسلم حلول الأعراض المتعاقبة وأنت قد اعتمدت في هذا الوجه الذي ذكرته من تناقض أهل هذا القول على نفي الجسم والجوهر فلو جعلت هذا حجة في ذلك لزم المصادرة على المطلوب إذ كنت في كل من المسألتين تعتمد على الأخرى وإن اعتمدت على نفيه بالوجوه الأخر فقد عرف فساد كلامك وكلام غيرك
الوجه الثاني
الثانية أن يقال ولم قلت إنه إذا امتنع حلول الحوادث على بعض الجواهر بعض وبعض القائمين بأنفسهم دون بعض وبعض الموصوفات دون بعض فلو قال لك قائل الاشتراك في كون كل من الشيئين ذاتا قائمة بنفسها موصوفة بالصفات يوجب اشتراكهما في حلول الحوادث لكان هذا القول إما أن يلزمك وإما أن لا يلزمك فإن لزمك كان هذا لازما لك ولمنازعك فليس لك أن تنفيه وإن لم يلزمك فما كان جوابك عن إلزام من يلزمك به هو جواب منازعكفإن قلت الاشتراك في الجوهرية اشتراك في المعنى الذي لآجله جاز قيام الحوادث به
قال لك كل من الخصمين والاشتراك في الذاتية والموصوفية والقيام بالنفس اشتراك في المعنى الذي لجله جاز قيام الحوادث به وأنت إذا أنصفت علمت أن البابين واحد
الحجة الثالثة
الثالثة أن يقال ما تعنى بقولك الأعراض المتعاقبة أتعني به أحواله التي دلت النصوص على قيامها به أم غير ذلك ؟الأول مسلم لكن لا نسلم مساواة المخلوقات له في خصائصه والثاني ممنوع
الحجة الرابعة
قال أنه لا يخلو إما ان تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها انها هنا أو هناك او لا تكون قابلة لذلك فإن كان الأول فيكون متحيزا إذ لا معنى للتحيز إلا هذا والتحيز على الله محال لوجهين
التحيز على الله محال لوجهين
الأول أنه إما ان يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه فيكون متحركاوإن لم يكن منتقلا عنه فيكون ساكنا والحركة والسكون حادثان على ما يأتي وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث
الثاني
أن اختصاصه بحيزه إما ان يكون لذاته او لمخص من خارج فإن كان الأول فليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى وإن كان لغيره وجب أن يكون الرب مفتقرا إلى غيره في وجوده فلا يكون واجب الوجود وإن كان غير متحيز لزم في كل جوهر ان يكون غير متحيز ضرورة المساواة في المعنى وهو محال وأنه لا معنى للجوهر غير المتحيز بذاته فما لا يكون كذلك لا يكون جوهرا
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه إذا كان قابلا للإشارة كان متحيزا وقوله : لا معنى للمتحيز إلا هذا : إن أراد به أن المفهوم من كونه مشارا إليه هو المفهوم من كونه متحيزا كان قوله فاسدا بالضرورة وإن أراد أن ما صدق عليه هذا صدق عليه هذاقيل له : من الناس من ينازعك في هذا ويقول : إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه وليس بمتحيز
فإن قال : هذا فساده معلوم بالضرورة
قيل له : ليس هذا بأبعد من قولك إنه موجود قائم بنفسه متصف بالصفات مرئي بالأبصار وهو مع هذا لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا مداخل له
فإن قلت : إحالة هذا من حكم الوهم
قيل لك : وإحالة موجود قائم بنفسه يشار إليه ولا يكون متحيزا من حكم الوهم بل تصديق العقول بموجود يشار إليه ولا يكون متحيزا أعظم من تصديقها بموجود قائم بنفسه متصف بالصفات لا يشار إليه وليس بداخل العالم ولا خارجه
ثم يقال ثانيا : لم قلتم : أنه يمتنع أن يكون متحيزا ؟ قولك : إما أن يكون متحركا أو ساكنا يقال لك فلم لا يجوز أن لا يكون قابلا للحركة والسكون وثبوت أحدهما فرع قبوله له ؟
فإن قلت كل متحيز فهو قابل لهما
قيل لك : علمنا بهذا كعلمنا بأن كل موجود قائم بنفسه موصوف بالصفات إما مباين لغيره وإما محايث فإن جوزت موجودا قائما بنفسه لا مباين ولا محايث فجوز وجود موجود متحيز ليس يمتحرك ولا ساكن
فإن قلت : المتحيز إما أن يكون منتقلا عن حيزه أو لا يكون منتقلا عنه والأول هو الحركة والثاني هو السكون
قيل لك : ليس كل متحيز أمرا وجوديا فإن العالم متحيز وليس له حيز وجودي ومن قال إن الباري وحده فوق العالم أو سلم لك إنه متحيز لم يقل إنه في حيز وجودي وحينئذ فالحيز أمر عدمي فقولك إما أن يكون منتقلا عنه أو لا كقولك : إما أن يكون منتقلا بنفسه أولا وهو معنى قولك إما أن يكون متحركا أو ساكنا وهذا إثبات الشيء بنفسه
فإن قلت : هذا بين مستقر في الفطرة والعلم به بديهي
قيل لك : ليس هذا بأبين من قول القائل : إما أن يكون صانع العالم حيث العالم وإما أن لا يكون حيث العالم والأول هو المحايثة والدخول فيه والثاني هو المباينة والخروج عنه
فإن قلت : يمكن أن لا يكون داخلا فيه ولا خارجا عنه
قيل لك : ويمكن أن لا يكون المتحيز منتقلا ولا يكون ساكنا كما تقوله أنت فيما تقول إنه قائم بنفسه لا منتقل ولا ساكن فإن قلت : أنا أعقل هذا فيما ليس بمتحيز ولا أعقله في المتحيز
قيل : وكيف عقلت اولا ثبوت ما ليس بمتحيز بهذا التفسير ؟
والمنازع يقول أنا لا أعقل إلا ما هو داخل أو خارج
فإذا قلت أنت : هذا فرع قبول ذلك وقابل ذلك هو المتحيز فما لا يكون كذلك لا يكون قابلا للمباينة والمحاديثة والدخول والخروج
قال لك : نحن لا نعقل موجودا إلا هذا
فإن قلت بل هذا ممكن في العقل وثابت أيضا
قال لك : وكذلك متحيز لا يقبل الحركة والسكون هو أيضا ممكن في العقل وثابت
فإن قلت الفطرة تدفع هذا
قيل لك : وهي لدفع ذاك أعظم
فإن قلت ذاك حكم الوهم
قيل وهذا حكم الوهم
فإن قلت العقل أثبت موجودا ليس بمتحيز
قيل لك : إنما أثبت ذاك بمثل هذه الأدلة التي تتكلم على على مقدماتها فإن أثبت مقدمات النتيجة بالنتيجة كنت مصادرا على المطلوب فأنت لا يمكنك إثبات موجود ليس بمتحيز إلا بمثل هذا الدليل وهذا الدليل لا يثبت إلا ببيان إن مكان وجود موجود ليس بمتحيز فلا يجوز أن تجعله مقدمة حجة في إثبات نفسه
ويقول له الخصم : ثالثا هب أنك تقول : لا بد له إذا كان متحيزا من الحركة والسكون فنحن نقول : إن كل قائم بنفسه لا يخلو عن الحركة والسكون فإنه إما أن يكون منتقلا أو لا يكون منتقلا فإن كان منتقلا فهو متحرك وإلا فهو ساكن
فإن قلت : ثبوت الانتقال وسلبه فرع قبوله
قيل لك : هذا التقسيم معلوم بالضرورة في كل قائم بنفسه كما ذكرت أنه معلوم بالضرورة في كل ما سميته متحيزا وحيزه عدم محض فإنه إذا لم يكن إلا الانتقال وعدم الانتقال فالانتقال هو الحركة وعدمه هو السكون
وإذا قلت : هذان متقابلان تقابل العدم والملكة فلا بد من ثبوت القبول
كان الجواب من وجوه :
الأول : أن يقال مثل هذا فيما سميته متحيزا
الثاني : أن يقال هذا اصطلاح اصطلحته وإلا فكل ما ليس بمتحرك وهو قائم بنفسه فهو ساكن كما أن كل ما ليس بحي فهو ميت
الثالث أن يقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة أكمل مما لا يقبلها فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة أعظم نقصا كما ذكرنا مثل ذلك في الصفات
ونقول رابعا الحركة الاختيارية للشيء كمال له كالحياة ونحوها فإذا قدرنا ذاتين إحداهما تتحرك باختيارها والأخرى لا تتحرك أصلا كانت الأولى أكمل
ويقول الخصم : رأبعا قوله لم لا يجوز أن يكون متحركا قولك : الحركة حادثة
قلت : حادثة النوع او الشخص ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وقولك مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث إن أريد به ما لا يخلو عن نوعها فممنوع والثاني لا يضر وانت لم تذكر حجة على حدوث نوع الحركة إلا حجة واحدة وهو قولك الحادث لا يكون أزليا وهي ضعيفة كما عرف
إذ لفظ الحادث يراد به النوع ويراد به الشخص فاللفظ مجمل كما أن قول القائل الفاني لا يكون باقيا لفظ مجمل فإن أراد به أن القائم بنفسه لا يكون باقيا فهو حق وإن أراد به أن ما كان فاني الأعيان لا يكون نوعه باقيا فهو باطل فإن نعيم الجنة دائم باق مع أن كل أكل وشرب ونكاح وغير ذلك من الحركات تفنى شيئا بعد شيء وإن كان نوعه لا يفنى
وأما قوله في الوجه الثاني : إن اختصاصه بحيزه : إما أن يكون لذاته أو لمخصص من خارج
فيقال أتعني بالحيز شيئا موجودا أو شيئا معينا سواء كان موجودا أو معدوما أو شيئا مطلقا فإن عنيت الأول فالرب سبحانه لا يجب أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار عند المنازع بل ولا عند طائفة معروفة وإن عنيت الثاني لم يسلم المنازع كونه متحيزا بهذا الاعتبار وإن عنيت الثالث فيقال لك حينئذ فليس اختصاصه بحيز معين من لوازم ذاته بل هو باختياره وإذا كان يخصص بعض الأحياز بما شاء من مخلوقاته فتصرفه بنفسه أعظم من تصرفه بمخلوقاته
وأما قولك ليس هو أولى من تخصيص غيره من الجواهر به ضرورة المساواة في المعنى
فكلام ساقط لوجوده :
الأولى : أن الله يخص ما شاء من الأحياز بما شاء من الجواهر ولا يقال ليس هذا أولى من هذا فكيف يقال إنه ليس أولى من بعض مخلوقاته بما هو قادر عليه مختار له ؟
والثاني إن يقال فما من جوهر إلا وله حيز يختص به دون غيره من الجواهر سواء قيل إنه حيزه الطبيعي أو لا فعلم أن مجرد الاشتراك في كل حيز
الثالث : أن كل جوهر مختص من غيره بصفة تقوم به ومقدار يخصه مع اشتراكها في الجواهرية فكيف لا يختص بحيزه ؟
الرابع : أن الحيز ليس أمرا وجوديا وإنما هو أمر عدمي والجواهر الموجودة لا بد أن يكون لبعضها نسبة إلى بعض بالعلو والسفول والتيامن والتياسر والملاقاة والمباينة ونحو ذلك وكل منها مختص من ذلك بما هو مختص به لا تشاركه فيه سائر الجواهر فكيف يجب أن يشارك المخلوق لخالقه ؟
الخامس : أن هذا مبني على تماثل الجواهر وهو ممنوع بل هو مخالف للحس وسيأتي كلامه في إبطاله
السادس : أنا لو فرضنا الجواهر متماثلة فالمخصص لكل منها بما يختص به هو مشيئة الرب وقدرته وإذا كان بقدرته ومشيئته يصرف مخلوقاته فكيف لا يتصرف هو بقدرته ومشيئته كما أخبرت عنه رسله وكما انزل بذلك كتبه حيث أخبر أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش وأمثال ذلك من النصوص
وأما قوله إن كان غير متحيز لزم ان يكون كل جوهر غير متحيز فعنه جوابان :
الأول : أن يقال له ولأمثاله كالرازي والشهر ستاني ونحوهما من المتأخرين الذين أثبتوا جواهر معقولة غير متحيزة موافقة للفلاسفة الدهرية أو قالوا : إنه دليل على نفي ذلك : أنتم إذا ناظرتم الملاحدة المكذبين فادعوا إثبات جواهر غير متحيزة عجزتم عن دفعهم أو فرطتم فقلتم : لا نعلم دليلا على نفيها أو قلتم بإثباتها وإذا ناظرتم إخوانكم المسلمين الذين قالوا بمقتضى النصوص الإلهية والطريقة السلفية وفطرة الله التي فطر عباده عليها والدلائل العقلية السليمة عن المعارض وقالوا : إن الخالق تعالى فوق خلقه سعيتم في نفي هذا القول لوازم هذا القول وموجباته وقلتم : لا معنى للجوهر إلا المتحيز بذاته فإن كان هذا القول حقا فادفعوا به الفلاسفة الملاحدة وإن كان باطلا فلا تعارضوا به المسلمين أما كونه يكون حقا إذا دفعتم ما يقوله إخوانكم المسلمون ويكون باطلا إذا عجزتم عن دفع الملاحدة في الدين فهذا طريق من بخس حظه من العقل والدين وحسن النظر والمناظرة عقلا وشرعا
والجواب الثاني : أنك قلت في أول هذا الوجه : إما أن تكون ذاته قابلة لأن يشار إليها أنها ههنا أو هناك أو لا تكون قابلة ثم قلت : فإن كان الأول فيكون متحيزا فكان حقك أن تقول : وإن لم تكن ذاته قابلة للإشارة إليه لزم في كل جوهر أن لا يكون مشارا إليه وأن لا يكون متحيزا
وإذا قلت ذلك قيل لك إثبات جوهرا لا يشار إليه هو قول المتفلسفة الذين يثبتون جواهر لا يشار إليها وقول النصارى الذين ينفون العلو
وحينئذ فيقولون : لا نسلم أن كل جوهر فإنه يجب ان يكون مشارا إليه وأنت قد اعترفت في بحثك مع الفلاسفة بهذا وهذا القول وإن كان باطلا لكن المقصود تبيين ضعف حجج هؤلاء النفاة نفيا يستلزم نفي الصفات
ويقال لك : إثبات جوهر لا يشار إليه كإثبات قائم بنفسه لا يشار إليه
وإن قال : أنا ذكرت هذا لنفي كونه جوهرا كالجواهر
فيقال : من قال هذا يقول : هو جوهر كالجواهر التي يدعي إثباتها من يقول بإثبات الجواهر العقلية المجردة فإنه هو جوهر كالجواهر العقلية المجردة فمن نفي هذه الجواهر أبطل قولهم وإلا فلا
الحجة الخامسة
قال الآمدي أنه لو كان جوهرا كالجواهر لما كان مفيدا لوجود غيره من الجواهر فإنه لا أولوية لبعض الجواهر بالعلية دون بعض ويلزم من ذلك أن لا يكون شيء من الجواهر معلولا او ان يكون كل جوهر معلولا للآخر والكل محال فإن قيل : الجواهر وإن تماثلت في الجوهرية ألا أنها متمايزة بأمور موجبة لتعين كل واحد منها عن الآخر وعند ذلك فلا مانع من اختصاص بأمور وأحكام لا وجود لها في البعض الأخر ويكون ذلك باعتبار ما به التعين لا باعتبار ما به الاشتراك فنقول والكلام في اختصاص كل واحد بما به التعين كالكلام في الأول فهو تسلسل ممتنع فلم يبق إلا أن يكون اختصاص كل واحد من المتماثلات بما اختص به لمخصص من خارج وذلك على الله محال
تعليق ابن تيمية
قلت : و لقائل أن يقول : قوله : لو كان جوهرا كالجواهر إن عني به أنه لو كان جوهرا مماثلا للجواهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم ينفعه هذا لوجوه :الأول أن إذا لا يقوله عاقل يتصور لمافيه من الجمع بين النقيضين كما تقدم
الثاني انه إذا كان يقتضي هذا أنه يماثل كل جوهر فيما يجب ويجوز ويمتنع لم يلزم انتفاء مشابهته له من بعض الوجوه فغن نفي التماثل في مجموع هذه الأمور يكون بانتفاء التماثل في واحد من أفرادها فإذا قدر انه خالف غيره في فرد هذه الأمور لم يكن مثله في مجموها ولكن ذلك لا ينفي مماثلة في فرد آخر وحينئذ فلا يكون قول القائل : هو جوهر لا كالجواهر صحيحا ولا يكون النزاع معه في اللفظ بل لا بد ان ينفي عنه مماثلة المخلوقات في كل ما هو من خصائصها
الثالث : انه على هذا التقدير يكون مشابها لها من وجه مخالفا من وجه وليس في كلامه ما يبطل ذلك بل قد صرح في غير هذا الموضع بأن هذا هو الحق
ذكر الآمدي حجة من حجج القائلين بالقدم
فقال في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالقدم قال : الوجه العاشر أنه لو كان العالم محدثا فمحدثه إما ان يكون مساويا له من كل وجه او مخالفا له من كل وجه فإن كان الأول فهو حادث والكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل الممتنع وإن كان الثاني فالمحدث ليس بموجود وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه وهو خلاف الفرض وإذا لم يكن موجودا امتنع ان يكون موجبا للموجود كما سبق وإن كان الثالث فمن وجهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحاولات إنما لزمت من القول بحدوث بالعالم فلا حدوث
رده عليها
ثم قال في الجواب : وأما الشبهة العاشرة فالمختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من الاختلافات بينهما في صفة القدم والحدوث وإن تماثلا بأمر آخر وهذا كما أن السواد والبياض مختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية واللونية والحدوث واستحالة تماثلها من كل وجه وإلا كان السواد بياضا ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضيةوإن عني به انه لو كان جوهرا مماثلا في مسمى الجوهرية فهذا مثل أن يقال : لو كان حيا مماثلا للأحياء في مسمى الحيية أو عالما مماثلا للعلماء في مسمى العالمية أو قادرا مماثلا للقادرين في مسمى القادرية أو موجودا مماثلا للموجودات في مسمى الموجودية وحينئذ فموافقته في ذلك لا تستلزم أن يكون مماثلا لها فيما يجب ويجوز ويمتنع إلا أن تكن الجواهر كلها كذلك
ومعلوم أن من يقول هو جوهر لا يقول إن الجواهر متماثلة بل يقول إنه مخالف لغيره بل جمهور العقلاء يقولون إن الجواهر مختلفة في الحقائق وحينئذ فتبقى هذه الوجوه موقوفة على القول بتماثل الجواهر والمنازع يمنع ذلك بل ربما قال العلم باختلافها ضروري
ودعوى تماثلها مخالف للحس والعلم الضروري فإنا نعلم أن حقيقة الماء مخالفة لحقيقة النار وأن حقيقة الذهب مخالفة لحقيقة الخبز وأن حقيقة الدم مخالفة لحقيقة التراب وأمثال ذلك وأن اشتراكهما في كونهما جوهرين هو اشتراكهما في كونهما قائمين بأنفسهما او متحيزين أو قابلين للصفات وهذا اشتراك في بعض صفاتها لا في الحقيقة الموصوفة بتلك الصفات
الثالث : أنه إن أراد بقوله : إنه جوهر كالجواهر أنه مماثل لكل جوهر في حقيقته ويجوز عليه ما يجوز على كل جوهر فهذا لا يقوله عاقل وأنما أراد المنازع انه إما قائم بنفسه وإما متحيز وإما نحو ذلك من المعاني التي يقول إن الاشتراك فيه كاشتراك في كون كل منهما حيا قائما بنفسه ونحو ذلك فيبقى النزاع في أن مسمى الجوهر عند هؤلاء يقتضي تماثل أفراده
وهؤلاء يقولون : لا بل هو اسم لما تختلف أفراده وفي أن هؤلاء يقولون : الاشتراك في التحيز الاصطلاحي يقتضي التماثل في الحقيقة وهؤلاء ينفون ذلك
ومعلوم عند التحقيق أن قول النفاة للتماثل هو الحق كما قد بسط في موضعه
وهؤلاء يقولون : قولنا جوهر كقولكم ذات قائمة بنفسها ونحو ذلك
فتبين أن ما ذكره من الدليل على نفي الجوهر هو دليل على نفي ما اتفقت الطوائف على نفيه فإن أحدا من العقلاء لا يقول إنه جوهر بمعنى مماثلته لكل قائم بنفسه فيما يجب ويجوز ويمتنع وما قاله المثبتة منه ما سلم لهم معناه ومنه مالا حجة له على نفيه إلا حجته على نفي الجسم وحينئذ فيكون الكلام في نفي الجوهر مفرعا على الكلام في نفي الجسم
وقوله : إن الوجوه الأربعة التي نفي بها الجوهر ينفي بها الجسم لا يستقيم فإنه إنما نفي بها الجوهر بمعنى انه مماثل لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع وهذا مما يسلمه له من يقول إنه جوهر وجسم فإقامة الدليل عليه نصب للدليل في غير محل النزاع لم ينف بها الجوهر بالمعنى الذي يثبته من قال
وحرف المسألة أن كلامه مبني على تماثل الجواهر ومن يقول ذلك لا يقول إنه جوهر ولا جسم فالكلام في هذا الباب فرع على تلك المسألة ولو هذا صحيحا لكان العلم بحدوث الأجسام وإمكانها من اسهل الأمور فإن بعضها محدث بالمشاهدة والمحدث ممكن فإذا كانت متماثلة جاز على كل واحد منها ما جاز على الآخر فيلزم إما حدوثها وإما إمكان حدوثها وعلى التقديرين يحصل المقصود
والنافي لتماثلها لا يقول السؤال الذي أورده إنها متماثلة في الجوهرية لكنها متمايزة ومتغايرة بأمور موجبة للتعين هو الموجب للاختصاص بل تقول أنها مختلفة بحقائقها وأنفسها لكنها تشابهت في كونها قائمة بأنفسها أو كونها متحيزة قابلة للصفات وهذا معنى اتفاقها في الجوهرية كما ذكرة هو في الاعتراض على دليل القائلين بتماثلها
ويقول أيضا إن الأمور المتماثلة من كل وجه لا يجوز تخصيص أحدها بما يتميز به عن الآخر إلا لمخصص وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح ومشيئة الله تعالى ترجح أحد الأمرين لحكمة تقتضي ذلك وتلك الحكمة مقصودة لنفسها وإلا فنسبة الإرادة إلى المتماثلين سواء وتلك الحكمة المرادة تنتهي إلى حكمة تراد لنفسها كما بسط في موضعه
وأيضا فإن القائل : إن هذه الجواهر المشهودة متماثلة في الحقيقة ولكن الفاعل المختار خص كلا منها بصفات تخالف بها الآخر يقتضي أن لها حقيقة مجردة عن جميع الصفات التي اختلفت فيها فيكون الماء المشهود له حقيقة غير هذا الماء المشهود والنار المشهودة لها حقيقة غير هذه النار المشهودة ويكون ما خالف به هذا لهذا في الماء والنار أمرا عارضا لتلك الحقيقة لا صفة ذاتية لها ولا لازمة
وهذا مكابرة للحس وأيضا فعلى هذا القول لا يكن لشيء من الموجودات صفة ذاتية ولا صفة لازمة لذاته أصلا بل كل صفة يوصف بها عارضة له يمكن زوالها مع بقاء حقيقته لأن كل ما اختلفت به الأعيان أمر عارض لها ليس بداخل في حقيقتها عند من يقول بتماثل الجواهر والأجسام وحينئذ فيكون الإنسان الذي هو حيوان ناطق يمكن زوال كونه حيوانا وكونه ناطقا مع بقاء حقيقته وذاته وكذلك الفرس يمكن زوال حيوانيته وصاهليته مع بقاء حقيقته وذاته وهكذا كل الأعيان
ثم يقال : إذا قدرنا عدم هذه الصفات التي هي لازمة للأنواع وذاتية لها لم يبق هناك ما يعقل كونه جوهرا لا مماثلا ولا مخالفا فإنا إذا نظرنا إلى هذا الإنسان وقدرنا أنه ليس بحي ولا ناطق ولا ضاحك ولا حساس ولا متحرك بالإرادة لم يعقل هنالك جوهر قائم بنفسه غيره تعرض له هذه الصفات بل إثبات ذلك نوع من الخيال الذي لا حقيقة له وهذا الخيال في الجواهر المحسوسة نظير خيال من أثبت الجواهر المعقولة لكن تلك محلها العقل وهذه محلها الخيال فإنا يمكننا تقدير هذا الشكل مع عدم كونه حيوانا ناطقا لكن حينئذ يكون المقدور شكلا مجردا هو عرض ن الأعراض وهو الذي يسمى الجسم التعليمي كما نقدر أعدادا مجردة عن المعدات وهذه المقادير المجردة والأعداد المجردة لا وجود لها إلا في الأذهان واللسان وكل جسم موجود له قدر يخصه وهذه هي الجسمية والجوهرية التي يثبتها من يقول بعدم تماثل الجواهر وهي نظير الصورة فدعوى أولئك أن الصورة الجسمية جوهر وأن المادة جوهر آخر هو نظير دعوى هؤلاء أن الصورة الجسمية جواهر متماثلة وليس هنا إلا هذه الأعيان القائمة بأنفسها وما قام بها من الصفات والمقادير التي هي أشكالها وصورها
ثم من العجيب أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين كأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي وأمثالهم ممن يوافق أهل المنطق يوافقون أهل المنطق فيما يدعونه من انقسام صفات الجواهر والأجسام إلى ذاتي وعرضي وانقسام العرض إلى لازم للماهية وعارض لها وانقسام العارض إلى لازم و مفارق مع ما في هذا الكلام من الخطأ فإن الصفات في الحقيقة إنما تنقسم إلى لازم للماهية وعارض لها
وأما تقسيم اللازم إلى ذاتي وعرضي وإثبات شيئين في هذه الأعيان أحدهما الذات والثاني هذا الموجود المشاهد فكلام باطل كما قد بسط في موضعه
ثم إنهم في قولهم بتماثل الجواهر والأجسام يدعون ان جميع صفات الأجسام التي تختلف بها إنما هي عارضة لها قابلة لزوالها ليس منها شيء لازم للحقيقة ولا هو من موجبات الذات ومقتضياتها فيا سبحان الله أين ذلك التلازم الذي غلوتم فيه حتى تجعلون الحقيقة مؤلفة من صفاتها الذاتية وتقولون إن الذات هي المقتضية للوازم ولوازم اللوازم ؟
وهنا يقولون ليس لهذه الأعيان حقيقة قائمة بنفسها إلا ما تشترك كلها فيه وليس لشيء منها لازم يخصه ولا لازم يفارق به غيره بل ليست اللوازم إلا ما لزم جميع ما يسمى جوهرا وجسما
وهذا المعنى قد رأيت منه عجائب لهؤلاء النظار يتكلم كل منهم مع كل قوم على طريقتهم بكلام يناقض ما تلكم به على طريقة أولئك مع تناقض كل من القولين في نفس الأمر وهذا إما ان يكون لكونه لم يفهم أن هذا المعنى الذي أثبته بهذه العبارة هو الذي نفاه بتلك فلا يكون قد تصور حقيقة ما يقول بل تصور ما يتقيد باللفظ بحيث إذا خرج المعنى عن ذلك اللفظ لم يعرف أنه هو وهذا قبيح بمن يدعى النظر في العقليات المحضة التي لا تتقيد بلغة ولا لفظ وإما أن يكون مع نسيانه وذهوله في كل مقام لما قاله في المقام الآخر وهذا أشبه أن يظن بم له عقل وتصور صحيح لكنه يدل على ان له في المسألة قولين وأنه يقول في كل مقام ما ترجح عنده في ذلك المقام ولا يمشي مع الدليل مطلقا بل يتناقض وإما أن يكون مع فهمه التناقض وحينئذ فإما ان لا يبالي بتناقض كلامه وإما ان يرجح هذا في هذا الموطن وهذا في هذا الموطن
فصل
ومن العجب أنكلامه وكلام أمثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وأن القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على انها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلةثم أنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر انه لا دليل على تماثلها فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاما بلا علم بل بخلاف الحق مع انه في الله تعالى
وقد قال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } الاعراف 33 وقال تعالى عن الشيطان { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } البقرة 169
كلام الآمدي في أن الجواهر متجانسة غير متحدة
قال في كتابه هذا الكبير الفصل الرابع في أن الجواهر متجانسة غير متحدة : اتفقت الأشاعرة وأكثر المعتزلة على أن الجواهر متماثلة متجانسة وذهب النظام والنجار من المعتزلة بناء على قولهما بتركب الجواهر من الأعراض إلى أن الجواهر إن تركبت من الأعراض المختلفة فهي مختلفة ولهذا فإنا ندرك الاختلاف بين بعض الجواهر كالاختلاف الواقع بين النار والهواء والماء والتراب ضرورة كما يدرك الاختلاف بين السواد والبياض والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسائر الأعراض المختلفةقال وهو باطل اما كون الجواهر مركبة من الأعراض فيما سبق وأما ما ندركه من الاختلاف بين الجواهر كالأمثلة المضروبة فلا نسلم أنه عائد إلى اختلاف الجواهر في أنفسها بل هو عائد إلى الأعراض القائمة واختلاف الاعراض لا يدل على اختلاف المعروض له في نفسه
تعليق ابن تيمية
قلت : النجار ليس هو من المعتزلة بل هو رأس مقالة وهو يخالف المعتزلة في القدر فيثبته وفي غير ذلك من أصول المعتزلة لكنه يوافقهم على نفي الصفات ويخالفهم أيضا في تماثل الأسماء والأحكام والوعيدوجمهور الناس على ان الأجسام مختلفة من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم وقد ذكر الأشعري في مقالاته النزاع في ذلك
تابع كلام الآمدي
والمقصود هنا اعترافه بأنه لا حجة للقائلين بالتماثل فإنه قيل ما ذكرتموه وإن دل على إبطال مأخذ القائلين بالاختلاف فما دليلكم في التماثل والتجانس فلئن قلتم : دليل التماثل اشتراك جميع الجواهر في صفات نفس الجوهر وهي التحيز وقبول الأعراض والقيام بنفسه فنقول وما المانع من كون الجواهر مختلفة بذواتها وإن اشتركت فيما ذكرتموه من الصفات ؟ فإنه لا مانع من اشتراك المختلفات في عوارض عامة لها وإنما يثبت كون ما ذكرتموه صفات نفس الجوهر أن لو لم يكن الجواهر مختلفة وهذه أعراض عامة لها وإنما يمتنع كون الجواهر مختلفة وأن هذه أعراض عامة لها أن لو كانت هذه الصفات صفات نفس الجوهر وهو دور ممتنعقال واعلم أن طرق أهل الحق في إثبات المجانسة وإن اختلفت عباراتها فكلها آيلة إلى ما ذكر وما قيل عليه من الإشكال فلازم لا مخلص منه إلا بان يقال : نحن لا نعنى بتجانس الجواهر غير كونها مشتركة فيما ذكرناه من الصفات وعند ذلك فحاصل النزاع يرجع إلى التسمية لا إلى نفس المعنى
تعليق ابن تيمية
قلت : فهذا قوله مع اطلاعه على طرق القائلين بالتجانس ورغبته في نصرهم لو أمكنه فذكر أن جميع ما ذكروه من الطرق يرجع إلى ما ذكره وهو مما يعلم بالاضطرار أنه لا يدل على تماثلها بل يدل على اشتراكها في معنى من المعاني وليس جعل ما به الاشتراك هو الذات وما به الاختلاف من الصفات باولى من العكس وهذا على سبيل التنزل وإلا فنحن نعلم بالضرورة والحس اختلاف الأجسام المختلفة كما نعلم اختلاف الاعراض المختلفة وما ذكره من أن الاختلاف عائد إلى الاعراض لا إلى المعروض فمخالفة للحس فإن نفس النار مخالفة للماء ليس مجرد حرارة النار هي المخالفة لبرودة الماء بل نحن نعلم أن النار تخالف الماء أعظم مما نعلم أن الحرارة تخالف عرضا قائما بغيره وهو صفة محسوسة بالمس وكذلك بين السواد والبياض من الاشتراك في العرضية واللونية والقيام بالغير والرؤية بالبصر وغير ذلك من الصفات أعظم من الاشتراك بين الماء والنار ن فإن الاشتراك بينهما هو في القدر ونحو ذلك من الكميات والاشتراك في الكيفية أعظم من الاشتراك ف يالكمية فإذا كان ذلك لا يوجب التماثل فذاك بطريق الأولىوأيضا فالحرارة قد تنكسر بالبرودة في مثل الفاتر فإنه لا يبقى حارا كحرارة النار ولا باردا برودة الماء المحض واما نفس الماء والنار فلا يجتمعان
وأيضا فالأعراض المختلفة تشترك في محل واحد واما نفس الأقسام فلا تشترك في محل واحد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان اعتراف هؤلاء بفساد الأصول التي بنوا عليها ما خالفوه من النصوص وبيان تناقضهم في ذلك وأنهم يقولون إذا تكلموا في المنطق وغيره بما يناقض كلامهم هنا ويبعد أو يمتنع في العادة ان يكون هذا لمجرد اختلاف الاجتهاد مع الفهم التام في الموضعين بل يكون لنقص كمال الفهم والتصور وخوفا أن لا يكون القولان متنافيين فلا يهجم بإثبات التناقض أو لنوع من الهوى والغرض ولو لم يكن إلا مراعاة الطائفة التي يتكلم باصطلاحها أن لا يخالفها فيما هو مشهورات أقوالها ولعل كلا الأمرين موجود في مثل هذه المعاني التي تعبر عنها العبارات الهائلة ولها عند أصحابها هيبة ووهم عظيم والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا نوع تنبيه على أن ما يدعونه من العقليات المخالفة للنصوص لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح وإنما هي من باب القعقعة بالشنان لمن بفزعه ذلك من الصبيان ومن هو شبيه بالصبيان وإذا أعطي النظر في المعقولات حقه من التمام وجدها براهين ناطقة بصدق ما أخبر به الرسول وأن لوازم ما أخبر به لازم صحيح وأن من نفاه لجهله بحقيقة الأمر وفزعا باطنا وظاهرا كالذي يفزع من الآلهة المعبودة من دون الله أن تضره ويفزع من عدو الإسلام لما عنده من ضعف الإيمان
قال تعالى عن الخليل صلوات الله عليه { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } الأنعام 80 - 81 قال الله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } الأنعام 82
ومن خالف الرسل لا يلم من الشرك والإفك { سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين } الصافات 180 - 182 { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الاعراف 152 قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة
وما أشبه هؤلاء في رعبهم من الألفاظ الهائلة التي لم يعلموا حقيقتها بمن راى العدو المخذول فلما رأى لباسهم رعب منهم قبل تحقق حالهم ن ومن كشف حالهم وجدهم في غاية الضعف والعجز ولكن قال تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } آل عمران 151
وبسط هذا يطول والمقصود التنبيه فهذا ما ذكره في الجوهر وأما الجسم فإنه اعتمد في نفيه على هذه الوجوه الأربعة وقد عرف حالها
كلا الآمدي في الجسم
وقال ويختص بأربعة أوجه :الوجه الأول : أنه إذا ثبت ان الرب غير متصف بكونه جوهرا امتنع أن يكون متصفا بكونه جسما لأن الجسم مركب من الجواهر ومفتقر إليها ويلزم من انتفاء ما لا بد منه في كونه جسما أن لا يكون جسما
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الوجه بين الضعف وذلك أنه لو قدر انتفاء كون الشيء جوهرا منفردا لم يلزم أن لا يكون جسما مؤلفا من الجواهر فإن الأجسام جميعها كل منها عنده ليس جوهرا منفردا مع كونها مؤلفة من الجواهر وهو لم يقم دليلا على نفي كونه جوهرا ولا نفى ما يستلزم الجوهروهذا كما لو أقام دليلا على أنه ليس بعلم أو قدرة أو كلام أو مشيئة لم يستلزم ذلك أن لا تكون هذه من لوازمه فنفى كون الشيء أمرا من الأمور غير نفي كونه ملزوما لذلك الأمر
وأيضا فيقال : أنت لم تقم دليلا على كون الجواهر متماثلة بل صرحت بأنه لا دليل على ذلك فبطل ما ذكرته في نفي الجوهر
وأيضا فيقال لفظ الجوهر فيه إجمال وله عدة معان أحدها الجوهر الفرد وعلى هذا فالجسم ليس بجوهر وفي كونه مركبا منه نزاع
الوجه الثاني : المتحيز وعلى هذا فالجسم جوهر ومن نفى الجوهر الفرد قال كل جسم جوهر وكل جوهر جسم ومن أثبته قال : الجوهر أعم من الجسم
والوجه الثالث : الجواهر العقلية عند من يثبت جوهرا ليس بمتحيز كالعقول والنفوس والمادة والصور فإن هؤلاء المتفلسفة المشائين يدعون ان الجوهر خمسة أقسام وجمهور العقلاء يدفعون هذا ويقولون : هذه الأمور التي سميتوها جواهر عقلية إنما وجودها في الأذهان لا في الأعيان
وقد يراد بالجواهر ما هو قائم بنفسه فمن كان الجوهر أعم عنده من الجسم فإذا انتفى الأعم انتفى الأخص وكذلك من كان الجوهر عنده مرادفا للجسم وأما من كان الجوهر عنده لا يتناول معنى الجسم مثل أن يقدر أنه لا يستعمل لفظ الجوهر إلا في الفرد فهذا لا يلزم من نفي كونه جوهرا نفي كونه جسما إلا بالحجة التي ذكرها وهو ان يقال : الجسم مركب من الجواهر فالحجة لا تستقيم إلا على تقدير ثبوت هذا الاصطلاح مع أني لا أعرفه اصطلاحا لأحد مطلقا ولكن بعض الناس قد يخص به الفرد مع أنه هو وغيره دائما يسمون الجسم جوهرا
ولهذا قال هذا الآمدي وغيره ف ينفي كونه جوهرا : إما أن يكون قابلا للتجزية فيكون جسما مركبا وإما ان لا يكون قابلا للتجزية فيكون في غاية الصغر والحقارة وكثيرا ما يقع في كلامهم لفظ الجوهر متناولا للجسم وكثيرا ما يقع مختصا بالفرد فما ذكره اولا في نفي الجوهر بالمعنى العام فالجسم يدخل فيه فإن صح ما ذكره صح نفي الجسم لكن قد عرف ضعفه
وأما إذا كان المنفي هو الجوهر الفرد فقط فيحتاج ان يقول إن الجسم مركب منه لينفي الجسم لكن هذا فيه نزاع معروف وأكثر الناس على انه ليس بمركب من الجواهر المنفردة وهو الصواب كما قد بسط في موضعه
فمن الناس من يقول : إنه مركب من جواهر متناهية لا تقبل القسمة بوجه من الوجوه حتى ولا بالوهم ومنهم من يقول : هو مركب من جواهر غير متناهية كذلك ومنهم من يقول هو مركب من الهيولي والصورة لكنه يقبل القسمة إلى غير نهاية ومنهم من يقول ليس بمركب لكنه يقبل التقسيم إلى الجواهر المنفردة التي لا تتجزأ
ومنهم من يقول : بل كل موجود فلا بد أن يتميز منه شيء عن شيء فلا يتصور وجود جوهر لا يتميز منه شيء عن شيء لكن إذا تصغرت الأجزاء استحالت وقد لا تقبل القسمة الفعلية بل إذا قسمت استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تصير هواء فهي وإن كان يتميز منها شيء عن شيء لكن ليس لها من القوة ما يحتمل الانقسام الفعلي بل تستحيل إذا أريد بها ذلك وعلى هذا القول فلا نثبت شيئا لا يتميز منه جانب عن جانب ولا يثبت ما لا نهاية له في ضمن مالا يتناهى ولا انقسام إلى غير نهاية بل كل موجود فإنه يتميز منه شيء عن شيء وهو قد يستحيل قبل وجود الانقسامات التي لا تتناهى فتزول بهذا القول الإشكالات الواردة على غيره مع انه مطابق للواقع فتبين ضعف هذا الوجه
تابع كلام الآمدي الوجه الثاني في نفي الجسمية عن الله تعالى
الوجه الثانيقال الآمدي أنه قد ثبت ان الرب متصف بالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات فلو كان جسما كالأجسام لزم من اتصافه بهذه الصفات المحال وذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه لو اتصف بهذه الصفات فإما أن يكون كل جزء من اجزائه متصفا بجميع الصفات وإما ان يكون المتصف بجملتها بعض الأجزاء وإما أن يكون كل جزء مختصا بصفة وإما أن تقوم كل صفة من هذه الصفات مع اتحادها بجملة الأجزاء فإن كان الأول يلزم منه تعدد الآلهة وأما الثاني فهو ممتنع لأنه لا أولوية لبعض تلك الأجزاء بان يكون هو المتصف دون الباقي ولأنه يلزم ان يكون الإله هو ذلك الجزء دون غيره لأن حكم العلة لا يتعدى محلها وإن كان الثالث فل أولولية أيضا وإن كان الرابع فهو محال لما فيه من قيام المتحد بالمعتدد
ولقائل أن يقول الاعتراض على هذا من وجوه
الرد عليه من وجه
الأولقولك : لو اتصف بكل واحدة من هذه الصفات فإما ان يكون كل جزء من أجزائه متصفا بجميع هذه الصفات إلى آخره فرع على ثبوت الأجزاء وذلك ممنوع فلم قلت إن كل كا هو جسم فهو مركب من الأجزاء ؟ فإن هذا مبني على ان الاجسام مركبة من الجواهر المنفردة وهذا ممنوع
وجمهور العقلاء على خلافة وهو لم يثبته هنا بالدليل فيكفي مجرد المنع وبسط ذلك في موضعه
وكل من أمعن في معرفة هذا المقام علم أن ما ذكروه من أن الجسم مركب من جواهر منفردة متشابهة عرض لها التركيب او من مادة وصورة وهما جوهران من أفسد الكلام وإذا كان كذلك أمكن أن يكون كل من الصفات القائمة بجميع المحل شائعة في جميع الموصوف ولا يلزم أن يكون الواحد قام بأجزاء بل القول في الصفة الحالة كالقول في المحل الذي هو الموصوف
الثاني
أن يقال : القول في وحدة الصفة وتعددها وانقسامها وعدم انقسامها كالقول في الموصوف وسواء في ذلك الصفات المشروطة بالحياة كالقدرة والحس ـ بل والحياة نفسها أو التي لا تشترط بالحياة كالطعم واللون والريح فإن طعم التفاحة مثلا شائع فيها كلها فإذا بعضت تبعض ولا يقال إنها قام طعم واحد بجملة التفاحة بل إن قيل : إن التفاحة أجزاء كثيرة قيل : أم بها طعوم كثيرة وإن قيل : هي شيء واحد قيل : قام بها طعم واحد فإن قيل فهذا هو التقدير الأول وهو اتصاف كل جزء من هذه الأجزاء بجميع هذه الصفات قيل : ليس كذلكأما أولا : فلمنع التجزي وأما ثانيا فلأنه لم يقل بكل جزء إلا جزء من الصفة القائمة بالجمع لم تقم جميع الصفة بكل جزء وحينئذ فيطل التلازم المذكور وهو كون كل جزء إليها فإن الإله سبحانه هو المتصف بأنه بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير أما إذا قدر موصوف قام به جزء من هذه القدرة لا تنقسم هي ولا محلها لم يلزم أن يكون ذلك الجزء قادرا فضلا عن أن يكون ربا إذ القادر لا يجب أن يكون من قام به جزء من القدرة ولا الحي من قام به جزء من الحياة ولا العالم من قام به جزء من العلم
فإن قيل : كيف يعقل انقسام القدرة والحياة والعلم ؟
قيل : كما يعقل انقسام محل هذه الصفات فإن الإنسان تقوم حياته بجميع بدنه وكذلك الحس والقدرة ببدنه من صفاته فكما أن بدنه ينقسم فالقائم ببدنه ينقسم
فإن قيل إذا انقسم لم يبق قدرة ولا علما ولا حياة
قيل : وكذلك المحل لا يبقى يدا ولا عضوا لا قادرا ولا حيا ولا عالما ولا حساسا فإن الجزء المنفرد بتقدير وجوده هو أحقر من أن يقال إنه يد أو عضو أو بدن حي عالم قادر فكيف يقال فيه إنه إله
الثالث
أن ما ذكروه معارض بقيام هذه الصفات في الإنسان فإن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس ولم نذكر العلم ولا نحتاج أن نقول كما قالت المعتزلة : إن الاعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء في الجملة عاد حكمها إلى جميع الجملة بل نذكر من الاعراض ما يعلم قيامه بالبدن الظاهر كالحياة والحس والحركة والقدرة فإن هذا التقسيم الذي ذكروه يرد عليه فإنه إن قيل : إن كل جزء من أجزائه متصف بهذه الصفات لزم تعدد الإنسان وإن كان المتصف بجملتها بعض الأجزاء فلا اولوية وبزم أن لا يتعدى حكم الصفة محلهاوالتقدير أن ظاهر البدن كله حي حساس وإن قيل كل واحد يختص بصفة فهو معلوم الفساد بالضرورة مع أنه لا أولوية
وإن قيل : تقوم الصفة الواحدة بالجملة لزم قيام الواحد بالمتعدد فإذا كان هذا التقسيم واردا على ما يعلم قيام الصفات به لم ينف قيامها به علم أنها حجة باطلة
الرابع
قوله والرابع محال لأنه يلزم منه قيام المتحد بالمتعددفيقال : لا نسلم التلازم فإن هذا القيام مبناه على أنه حينئذ يقوم الواحد بالمعتدد فإنه فرض قيام علم واحد وقدرة واحدة وحياة واحدة بجملة أجزاء
وهذا الأصل فاسد فإن المعلوم من وحدة الصفة الحالية وتعددها هو المعلوم من وحدة المحل وتعدده فالحياة القائمة بجسم حي إذا قيل : هي حياة واحدة قيل هو حي واحد وإذا قيل الحي أجزاء متعددة قيل : الحياة أجزاء متعددة فالحال ومحله سواء في الاتحاد والتعدد
وحينئذ فقولهم : أنه قام المتحد بالمتعدد كلام باطل بل ما فسروا به الاتحاد في احدهما كان موجودا في الآخر وما فسروا به تعدد أحدهما كان موجوا في الآخر
الخامس
أنا لا نسلم الحصر فيما ذكروه من الأقسام بتقدير انقسام الجسم بل من الممكن أن يقال : قام كل جزء من أجزاء هذه الصفات بجزء من أجزاء الموصوف وكل جزء منه متصف بجزء من الصفةوهذا التقسيم غير ما ذكره من الأقسام ليس فيه اتصاف كل جزء بجميع الصفة ولا المتصف بجميعها بعض الجملة ولا كل جزء مختصا بجميع صفته ولا قيام واحد بمتعدد
فإن قال : الصفة لا تنقسم ومحلها ينقسم
قيل : هذه مكابرة للحس والعقل بل انقسامها محلها يبين هذا أن من أعظم عمد مثبتي الجوهر الفرد قولهم : إن الحركة قائمة بالجسم والزمان مقدار الحركة والزمان فيه الآن الذي لا ينقسم فلا ينقسم قدره من الحركة فلا ينقسم الجزء الذي يحلها فإنما استدلوا على وجود الجزء الذي لا ينقسم إلا بوجود جزء من الحركة لا ينقسم فعلم أن انقسام الحال عندهم كانقسام محله مع أن هذا معلوم بالحس والعقل
وكذلك المتفلسفة القائلون بان النفس الناطقة ليست جسما :
عمدتهم انه يقوم بها مالا ينقسم ومالا ينقسم إلا بما لا ينقسم فقد اتفقت الطوائف على أن الصفة إذا لم تنقسم كان محلها لا ينقسم
السادس
أن قوله : إما أن يكون كل جزء من الأجزاء متصفا بهذه الصفاتيقال له : إن أردت أنه يتصف به كما تتصف به الجملة فهذا لا يقوله عاقل فإنه ليس في الأجسام ما يكون صفة جميعه صفة للجوهر الفرد منه على الوجه الذي هي به صفة لجمعية وإن أردت انه متصف به كما يليق بذلك الجزء فلم قلت إن ما اتصف به بالصفة على هذا الوجه يمكن انفراده عن غيره فضلا عن كونه إلها ؟
وهذا لأنه ليس في جميع ما يعلم من الموصوفين المنفردين بأنفسهم ما هو جوهر فرد ولا في شيء مما يشاهد من الموصوفين ما هو جوهر فرد بل والجوهر الفرد بتقدير وجوده لا يحس به ولا يوجد منفردا فما كان لا يوجد وحده حتى ينضم إليه أمثاله كيف يكون حيا فضلا عن أن يكون فرسا أو بعيرا ؟ فضلا عن أن يكون أنسانا أو ملكا أو جنبا فضلا عن أن يكون إلها ؟
وهل ذكر مثل هذا في حق الله إلا من أعظم الدليل على جهل قائله ؟
فإنهم لا يعلمون شيئا من الجواهر المنفردة يسمى باسم جملته لقيام الصفة بالجملة فكيف يجب في حق الله إذا قامت به الصفات الكمال أن يكون بتقدير ما ذكروه يجب فيه مثل ذلك ؟
السابع
أن يقال : كما أنه لا يجب في كل جزء من الإنسان ان يكون انسانا لأنه قام به من الصفات ما يقوم بالإنسان ولا في كل جزء من اجزاء الفرس وسائر الحيوان ان يكون فرسا لكونه من الجملة التي قامت بها الصفة فلماذا يجب في كل ما كان من الإله ان يكونإلها لقيام الإله بالإله الموصوف كله مع أن كل واحد من الموجودات لا يكون حكم جزئه حكم كله لقيام الصفة بالجميع وهل هذا إلا من أفسد الحجج وإن كان هو من اعظم عمد النفاة ؟
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال : في بيان المحال من اتصافه بهذه الصفات هو أنه لا يخلو إما أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته او لغيره لا جائز ان يقال بالأول وإلا لزم اتصاف كل جسم بها وجوبا لذاته ن للتساوي ف يالحقيقة على ما وقع به الفرض وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا إلى ما يخصصه بصفاته والمحتاج إلى غيره في إفادة صفاته لاه لا يكون إلها
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون اتصافه بها واجبا لذاته ؟قوله : يلزم اتصاف كل جسم بها للتساوي في الحقيقة على ما وقع به الفرض
قيل : الذي وقع به الفرض أنه جسم كالأجسام وذلك يقتضي الاشتراك في مسمى الجسمية فلم قلت : إن ذلك يستلزم التساوي في الحقيقة فإن هذا مبني على تماثل الأجسام وهو ممنوع وهو باطل
وإن قيل : إنه يقتضي مماثلة كل جسم في حقيقية بحيث يجوز عليه ما يجوز على كل جسم ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجب له ما يجب له فهذا لا يقوله عاقل يفهم ما يقول ولا يعرف هذا قولا لطائفة معروفة وفساده ظاهر لا يحتاج إلى إطناب ولكن لا يلزم من فساده أن لا يكون النزاع إلا لفظا فإن المنازع يقول : ليس هو مثل كل جسم من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع ولكن شاركها غيره في مسمي الجسمية كما إذا قيل : هو حي وغيره حي شاركه في مسمى الحي وكذلك شارك غيره في مسمى العالم والقادر والموجود والموجود والذات والحقيقة فما كان من لوازم القدر المشترك ثبت لهما وما أخص بأحدهما لم يثبت للآخر
ومعلوم ان مسمى الجسمية إن قيل إنه يستلزم أن يجوز على كل جسم ما جاز على الآخر فلا يقول عاقل : إن الله جسم بهذا التفسير ومن قال : إنه جسم لم يقل : إن القدر المشترك إلا كالقدر المشترك في الذات والقائم بالنفس ومسمى التحيز ويقول مع ذلك : إن هذا المسمى وقع على أمور مختلفة الحقائق كالموصوف والقائم بالنفس ونحو ذلك
وبالجملة إن ثبت تماثل الأجسام في كل ما يجب ويجوز ويمتنع أغناه عن هذا الكلام وإن لم يثبت لم ينفعه هذا الكلام فهذا الكلام لا يحتاج إليه على التقديرين فالمنازع يقول : مسمى الجسم كمسمى الموصوف والقائم بنفسه والذات والماهية والموجود ينقسم إلى واجب بنفسه وواجب بغيره وإذا كان أحد النوعين واجبا بنفسه لم يجب أن يكون كل موصوف قائما بنفسه ولا كل موجود وكذلك لا يكون كل جسم فتبين أن كل ما ذكره مغلطة لأنه قال : إما أن يقال : إنه جسم كالأجسام وإما أن يقال : جسم لا كالأجسام فإن قيل بالثاني كان النزاع في اللفظ لا في المعنى فدل ذلك على أن قوله في المعنى موافق لقول من يقول : جسم لا كالأجسام ثم جعل القسم الأول هو القول بتماثل الأجسام فكان حقيقة قوله : إنه إما أن يقال إنه مماثل للأجسام في حقيقتها بحيث يتصف بما تتصف به من الوجوب والجواز والامتناع وإما أن لا يقال بذلك فمن لم يقل بذلك لم ينازعه في المعنى ومن قال بالأول فقلوه باطل
ومعلوم أن أحدا من الطوائف المعروفة وأهل الأقوال المنقولة لم يقل : إنه جسم مماثل للأجسام كما ذكر ومعلوم أيضا أن فساد هذا أبين من أن يحتاج إلى ما ذكره من الأدلة فإن فساد هذا معلوم بالأدلة اليقينية لما في ذلك من الجمع بين النقيضين إذ كان كل منهما يلزم أن يكون واجبا بنفسه لا واجبا بنفسه محدثا لا محدثا ممكنا لا ممكنا قديما لا قديما إذ المتماثلان يجب اشتراكهما في هذه الصفات
وإذا كان القول الذي نفاه لم يقله أحد ولم ينازعه فيه أحد والقول الذي ادعى أنه موافق لقائله في المعنى لا يخالف فيه قائلة بقي مورد النزاع لم يذكره ولم يقم دليلا على نفيه وهو قول من يقول : هو جسم كالأجسام بمعنى أنه مشارك لغيره في مسمى الجسمية كما يشاركه في مسمى الموصوفية والقيام بالنفس وأنه لم يثبت له لوازم القدر المشترك ولا يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يكون مماثلا لشيء من الأجسام فيما يجب ويجوز ويمتنع عليه لأن الأجسام المخلوقة لها خصائص تختص باعتبارها ثبت لها ما يجب ويجوز ويمتنع عليه
والقدر المشترك عند هؤلاء لا يستلزم شيئا من خصائص المخلوقين وهذا القدر لم يتعرض له هنا بنفي ولا إثبات لكنه يقول : إن القدر المشترك يستلزم التماثل في الحقيقة وإن ما لزم كلا من الأجسام لزم الآخر وإنما يفترقان فيما يعرض لهما بمشيئة الخالق
لكن هذا القول لم يقرر هنا فبقي كلامه بلا حجة مع أن هذا القول فاسد في نفسه كما قد عرف وهو لما قرره في موضع آخر بناه على أصلين : على إثبات الجوهر الفرد وتماثل الجواهر وكلاهما منوع باطل قد قرر هو انه لا حجة عليه مع أن القول بانه جسم كالأجسام ما علمت أنه قاله أحد ولا نقله أحد عن أحد وهو مع هذا لم يذكر دليلا على نفيه فكيف قد أقام دليلا على نفي قول من يقول : هو جسم لا كالأجسام ؟
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
الحجة الثالثة : قال : هو أنه لو كان جسما لكان له بعد وامتداد وذلك إما أن يكون غير متناه أو متناهيا فإن كان غير متناه : فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات أو من بعض الجهات دون بعض فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني : يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره أو أن تتداخل الأجسام وهو يخالط القاذورات وهو محال وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لوجهين : الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى والثاني : أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر لذاته أو لمخصص من خارج فإن كان الأول فهو محال لعدم الأولوية وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على ما تقدم فيكون الرب معلول الوجود وهو محال وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار وهو إما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته أو لأمر خارج فإن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره وهو محال
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون مختصا بالشكل والمقدار لذاته ؟ قوله : إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة إنما يصح إذا سلم أن طبيعة الأجسام كلها متحدة وهذا ممنوع بل باطل بل معلوم الفساد بالضرورة والحس فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات وهذا مبني على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال : إنهم بنوا ذلك على أصلهم : أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجوهر المؤتلفة وأن الجواهر متجانسة وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفةومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلها هو وغيره وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء فأكثر العقلاء لا يقولون إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم ؟ فإنهم من أعظم الناس إنكارا لذلك
وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عله إذ المتنازعون في الجواهر المنفردة : منهم من يقول باختلافها ومنهم من يقول بتماثلها
وأيضا فقول القائل إما أن تكون مختصا بذلك المقدار لذاته أو لأمر خارج
يقال له أتريد بذاته مجرد الجسمية المشتركة أم ذاته الذي يختص بها ويمتاز بها عن غيره ؟
أما الأول فلا يقول عاقل فإن عاقلا لا يعلل الحكم المختص بالأم المشترك فلا يقول عاقل إن ما اختص به أحد الشيئين عن الآخر كان للقدر المشترك بينهما فإن القدر مستلزمة للمعلول الملزوم أعم من العلة فإذا لم يكن المشترك ملزوما للمختص كما أن لا يكون علة أولى وأحرى فإن الملزوم حيث وجد وجد اللازم
ومعلوم انه ليس حيث المشترك يوجد المختص إذ المشترك يوجد في هذا والمختص بالآخر منتف
وفي الجملة فهذا ما لا يتنازع فيه العقلاء فلا يكون اختصاص أحد الجسمين عن الآخر بخصائصه لمجرد الجسمية المشتركة بل تلك الخصائص مما يمتنع ثبوتها لسائر الأجسام
وحينئذ فيقال : معلوم أن كل جسم مختص بخصائص وخصائصه لا تكون لأجل الجسمية المشتركة وذلك يمنع تماثل الأجسام لأنها لو كانت متماثلة للزم أن يكون اختصاص بعضها بخصائصه لمختص والمخصص إما الرب وإما غيره وتخصيص غيره ممتنع لأنه جسم من الأجسام فالكلام فيه كالكلام في غيره ولأن التقدير أنها متماثلة فليس هذا بالتخصيص أولى من هذا وتخصيصه أيضا ممتنع لأنه يستلزم ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بغير مرجح وذلك ممتنع وإذا قيل المرجح هو القدرة والمشيئة
قيل نسبة القدرة والمشيئة إلى جميع المتماثلات سواء فيمتنع الترجيح بمجرد ذلك فلا بد أن يكون المرجح ما لله تعالى في ذلك من الحكمة والحكمة تستلزم علم الحكيم بأن أحد الأمرين أولى من الآخر وأن يكون ذلك الراجح أحب إليه من الآخر وحينئذ فذلك يستلزم تفاصيل المعلومات المرادات وذلك يمنع تساويها وهو المطلوب
وهذا الكلام يتعلق بمسألة حكمه الله في خلقه وأمره وهو مبسوط في غير هذا الموضع ونفاة ذلك غاية ما عندهم انهم يزعمون أن ذلك يقتضي افتقاره إلى الغير لأن من فعل شيئا لمراد كان مفتقرا إلى ذلك المراد مستكملا به والمستكمل بغيره ناق بنفسه
وهذه الحجة باطلة كبطلان حجتهم في نفي الصفات وذلك أن لفظ الغير مجمل فإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى شيء مباين منفصل عنه فهذا ممنوع فإن مفعولاته ومراداته هو الفاعل لها كلها لا يحتاج في شيء منها إلى غيره وإن أريد بذلك أنه يفتقر إلى ما هو مقدور له مفعول له كان حقيقة ذلك انه مفتقر إلى نفسه أو لوازم نفسه
ومعلوم أنه سبحانه موجود بنفسه لا يفتقر إلى ما هو غير له مباين له وأنه مستوجب لصفات الكمال التي هي من لوازم ذاته فإذا قال القائل إنه مفتقر إلى نفسه كان حقيقته أنه لا يكون موجودا إلا بنفسه وهذا المعنى حق
وإذا قيل هو مفتقر إلى صفاته اللازمة أو جزئه أو لوازم ذاته او نحو ذلك كان حقيقة ذلك أنه لا يكون موجودا إلا بصفات الكمال وأنه يمتنع وجوده دون صفات الكمال التي هي من لوازم ذاته وهذا حق ومعلوم : إن الأمور التي لا يمكن وجودها إلا حادثة متعاقبة ليس الكمال في أن يكون كل منها ازليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون كل منها أزليا فإن ذلك ممتنع ولا في أن ذلك لا يكون فإن ذلك نقص وعدم بل في أن تكون بحسب إمكانها على ما تقتضيه الحكمة فيكون وجود تلك المرادات للحكمة من أعظم نعوت الكمال التي يجب أن يوصف بها ونفيها عنه يقتضي وصفه بالنقائص وإن كل كمال يوصف به فليس مفتقرا فيه إلى غيره أصلا بل هو من لوازم ذاته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين يصفونه بالنقائص ويسلبونه الحكمة التي هي محض بل لا يقتضي إثباتها إلا استلزام ذاته لنعوت كماله وكمال نعوته لا افتقار إلى شيء مباين لنفسه المقدسة
وأيضا فيقال القول في استلزام الذات لقدرها الذي لم يقدره المشركون كما قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } الزمر 67 كاستلزام الذات لسائر صفاتها من العلم والقدرة والحياة فإنه لو كان مختص يحتاج إلى مخصص لزم الدور أو التسلسل الباطلان فلا بد من مختص بما يختص به يختص بذلك لنفسه وذاته لا لأمر مباين له
وهذا هو حقيقة الواجب لنفسه المستلزم لجميع نعوته من غير افتقار إلى غير نفسه مع أنما ذكره في وجوب تناهي الأبعاد قد أبطل فيه مسالك الناس كلها وأنشأ مسلكا ذكر أنه لم يسبقه إليه أحد وإذا حرر الأمر عليه وعليهم في تلك المسالك كان القدح فيها أقوى من مسالكهم في النفي فلو قدر ان أثنين أثبت احدهما موجودا قائما بنفسه لا يتناهى وأثبت الآخر موجودا لا يكون متناهيا ولا غير متناه كان قول الثاني أفسد والأول أقرب إلى الصواب وما من مقدمة يدعون بها إفساد قول الأول إلا وفي أقوالهم ما هو أفسد منها
والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل وتارة بين القولين الباطلين لتبين بطلانهما أو بطلان أحدهما او كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا لتنقطع بذلك حجة الباطل فإن هذا أمر مهم إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها أصول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله
وقد حكى الأشعري وغيره عن طوائف أنهم يقولون إنه لا يتناهى وهؤلاء نوعان : نوع يقول : هو جسم ونوع يقول ليس بجسم فإذا أراد النفاة أن يبطلون قول هؤلاء لم يمكنهم ذلك فإنهم إذا قالوا : يلزم أن يخالط اقاذورات والأجسام قالوا : كما أثبتم موجودا لا يشار إليه ولا هو داخل ولا خارج فنحن نثبت موجودا هو داخل ولا يخالط غيره فإذا قالوا هذا لا يعقل قالوا وذلك لا يعقل
ومذهب النفاة أبعد في العقل من مذهب الحلولية ولهذا إذا ذكر القولان لأهل الفطر السليمة نفروا عن قول النفاة أعظم من نفورهم عن قول الحلولية وكذلك ما ذكره من امتناع النهاية من بعض الجوانب دون بعض فإن هذا قاله طائفة ممن يقول إنه على العرش
وقول هؤلاء وإن قيل إنه باطل فقول النفاة أبطل منه إما احتجاجه على هؤلاء بأن اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر محال لعدم الأولوية أو لافتقاره إلى مخصص من خارج فيقولون له أنت دائما تثبت تخصيصا من هذا الجنس كما تقول إن الإرادة تخصص أحد المثلين لا لموجب فإذا قيل لك : هذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح قلت هذا شان الإرادة والإرادة صفة من صفاته فإذا كانت ذاته مستلزمة لما من شأنه ترجيح أحد المثلين لذاته بلا مرجح فلأن تكون ذاته تقتضي ترجيح أحد المثلين بلا مرجح أولى
وهذا للمعتزلة والفلاسفة ألزم فإن المعتزلة يقولون إن القادر المختار يرجح بلا مرجح والفلاسفة يقولون : مجرد الذات اقتضت ترجيح الممكنات بلا مرجح آخر فقد اتفقوا كلهم على أن الذات توجب الترجيح لأحد المتماثلين بلا مرجح فكيف يمكنهم مع هذا ان يمنعوا كونها تستلزم تخصيص أحد الجانبين بلا مخصص
ولو قال لهم منازعهم الموجودان القائمان بأنفسهما لا بد أن يكون بينهما حد وانفصال فعلمنا التناهي من جانب هذا الموجود واما الجانب الآخر فلا نعلم امتناعه إلا إذا علمنا امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وهذا غير معلوم لنا أو هو باطل لكان قوله أقوى من قولهم
والمقصود هنا أن غايتهم في إبطال قول هؤلاء أن ينتهوا إلى أبطال بعد لا يتناهى أو إلى عدم الأولوية أو وجوب المخالطة
وهذه المقدمات يمكن منازعوهم أن ينازعوهم فيها أعظم مما يمكنهم هم منازعة أولئك في مقدمات حجتهم ويرد عليهم من المناقضات والمعارضات أعظم مما يرد على أولئك وهذا مبسوط في موضعه
فهذه الحجة وأمثالها من حجج النفاة يمكن إبطالها من وجوه كثيرة بعضها جهة المعارضة بأقوال أهل باطل آخر وبيان انه ليس أولئك بأبطل من قول هؤلاء فإذا لم يمكن الاستدلال على نفي أحد القولين إلا بالمقدمة التي بها نفي القول الآخر لم يكن نفي أحدهما أولى من نفي الآخر بل إن كانت المقدمة صحيحة لزم نفيهما جميعا وغن كانت باطلة لم تدل على نفي واحد منهما فكيف إذا كانت المقدمة التي استدل بها المستدل على نفي قول منازعه قد قال بها وبما هو أبلغ منها ؟ وبعض ما تبطل به هذه الحجة يكون من جهة أهل الحق الذين لم يقولوا باطلا
بطلان حجته من وجوه
ونحن نذكر ما يحضر من إبطالها بالكلام على مقدماتها والمواضع التي ينازعه فيها الناس
الوجه الأول
قوله لو كان جسما لكان له بعد وامتداد فإن هذا مما نازعه فيه طائفة ممن يقول هو جسم وهو مع ذلك واحد لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه فلا يشار إلى شيء منه دون شيء فإن هذا معروف عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم و الرازي قد ذكر ذلك عن بعضهم لكنه ادعى أن هذا القول لا يعقل وأن فساده معلوم بالضرورةوكذلك قول من قال إنه فوق العرش وإنه مع ذلك ليس بجسم كما يذكر ذلك عن الأشعري وكثير من أهل الكلام والحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وهو قول القاضي أبي يعلي وأبي الحسن الزاغوني وقول أبي الوفاء بن عقيل في كثير من كلامه وهو قول أبي العباس القلانسي وقبله أبو محمد بن كلاب وطوائف غير هؤلاء
فإذا قال القائل : كونه جسما مع كون غير منقسم أو كونه فوق العرش مع كونه غير جسم مما يعلم فساده بضرورة العقل
فيقال : ليس العلم بفساد هذا بأظهر من العلم بفساد قول من قال إنه موجود قائم بنفسه فاعل لجميع العالم وأنه مع ذلك لا داخل في العالم ولا خارج عنه ولا حال فيه ولا مباين له لا سيما إذا قيل مع ذلك إنه حي عالم قادر وقيل مع ذلك ليس له حياة ولا علم ولا قدرة أو قيل : هو عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق وأن العلم والحب نفس العالم المحب ونفس الحب هو نفس العلم أو قيل مع ذلك إنه حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع يسمع بصير يبصر متكلم بكلام وقيل مع ذلك إنه لا داخل في مخلوقاته ولا خارج عنها ولا حال فيها ولا مباين لها وأن إرادته لهذا المراد ونفس رؤيته لهذا هو نفس رؤيته لهذا ونفس علمه بهذا هو نفس علمه بهذا وأن الكلام معنى واحد بالعين فمعنى آية الكرسي وآية الدين وسائر القرآن والتوراة والإنجيل وسائر ما تكلم به هو شيء واحد فإن كانت هذه الأقوال مما يمكن صحتها في العقل فصحة قول من قال هو فوق العرش وليس بجسم او هو جسم وليس بمنقسم أقرب إلى العقل
وإن قيل بل هذا القول باطل في العقل فيقال تلك أبطل في العقل ومتى بطلت تلك صح هذا
وإذا قيل النافي لإمكان تلك الأمور هو الوهم لا العقل وإلا فالعقل بجوز وجود ما ذكر قيل : والنافي لإمكان هذا هو الوهم وإلا فالعقل يجوز وجود ما ذكر وإذا قيل البرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم قيل والبرهان العقلي دل على وجود ما أنكره الوهم هنا
ومن تأمل هذا وجده من اصح المعارضة وأبين التناقض في كلام هؤلاء النفاة وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
الوجه الثاني
قوله وإذا كان له بعد وامتداد فإما أن يكون غير متناه وإما أن يكون متناهيافيقال من الناس من يقول إنه غير متناه وهؤلاء منهم من يقول جسم ومنهم من يقول غير جسم وقد حكى القولين أبو الحسن الأشعري في المقالات وحكاهما غيره أيضا ومن الناس من قال هو متناه من بعض الجهات وهذا مذكور عن طائفة من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وقد قاله بعض المنتسبين إلى الطوائف الأربعة من الفقهاء كما ذكره القاضي أبو يعلى في عيون المسائل فإن هذه الأقوال يوجد عامتها في بعض أتباع الأئمة منها ما يوجد في في بعض أصحاب أبي حنيفة ومنها ما يوجد في بعض أصحاب مالك ومنها ما يوجد في بعض أصحاب الشافعي ومنها مايو جد في بعض أصحاب أحمد ومنها ما يوجد في بعض أصحاب اثنين أو ثلاثة أو الأربعة
قوله إن كان غير متناه من جميع الجهات فهو محال لوجوه الأول ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى
فيقال له أنت قد أبطلت أدلة نفاة ذلك ولم تذكر إلا دليلا هو أضعف من أدلة غيرك فبقيت الدعوى بلا دليل
قوله الثاني انه يلزم منه نفي الأجسام أو تداخلها ومداخلة القاذورات
فيقال هؤلاء يقولون لا يلزم منه شيء من ذلك بل هو غير متناه مع كونه جسما أو مع كونه غير جسم ويقولون لا يلزم نفي سائر الأجسام ولا مداخلتها فإذا قيل لهم هذا ينفيه العقل قالوا نفي العقل لهذا كنفيه وجوده قائما بنفسه فاعلا للعالم وهو مع ذلك لا حال في العالم ولا بائن من العالم بل نفي العقل لهذا أعظم من نفيه لهذا وما قيل من الاعتذار عن ذلك بالفرق بين الوهم والعقل يمكن في هذا بطريق الأولى كما بسط في موضعه
فإن هؤلاء ادعوا أن قول القائل كل موجودين غما أن يكونا متحايثين أو متباينين أو كل موجودين قائمين بأنفسهما فإما أن يكونا متبايني أو متلاصقين ن أو كل موجود قائم بنفسه فلا بد أن يكون مشارا إليه وان قول القائل بإثبات موجود لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا حال فيه ولا مباين له ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يبعد من شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من الصفات السالبة النافية هو محال في العقل
قالوا إن هذا الموجب لذلك التقسيم والمحيل لوجود هذا إنما هو الوهم دون العقل وأن الوهم يحكم غير المحسوس بحكم المحسوس وهذا باطل
فقيل لهم فأنتم لم تثبتوا بعد وجود مالا يمكن الإحساس به وحكم الفطرة أولى بديهي والوهم عندكم إنما يدرك الأشياء المعينة كإدراك العداوة والصداقة كإدراك الشاة عدواة الذئب وصداقة اكبش وهذه أحكام كلية والكليات من حكم العقل لا من حكم الوهم
فهذا وأمثاله مما أبطل به ما ذكروه من الاعتذار بأن هذا حكم الوهم لكن المقصود هنا أن ذلك العذر إن كان صحيحا فلمنازعيهم أن يعتذروا به ههنا فيقولون ما ذكرتموه من كونه لو كان فوق العرش أو لو كان جسما لكان ممتدا متناهيا أو غير متناه هو من حكم الوهم وهو فرع كونه قابلا لثبوت الامتداد ونفيه أو لثبوت النهاية ونفيها ونحن نقول هو فوق العرش أو هو فوق العرش وهو مع ذلك لا يقبل أن يكون ممتدا ولا غير ممتد ولا أن يكون متناهيا ولا غير متناه كما قلتم أنتم إنه موجود قائم بنفسه مبدع للعالم مسمى بالأسماء الحسنى وأنه مع ذلك لا يقبل أن يقال هو متناه ولا غير متناه بل ذاته لا تقبل إثبات ذلك ولا نفيه ولا تقبل أن يقال هو حال في العالم ولا خارج عنه فلا توصف ذاته بالدخول ولا بالخروج فإن ذاته لا تقبل الاتصاف لا بإثبات ذلك ولا بنفيه
فهذا ونحوه قولكم فغن كان هذا القول صحيحا أمكن من أثبت العلو دون التجسيم أو العلو والتجسيم ونفي ما يذكر من لوازمه أن يقول فيه ما تقولونه أنتم حيث أثبتم موجودا قائما بنفسه مبدعا للعالم ونفيتم ما يذكر من لوازمه فإن لزوم تلك اللوازم لما أثبتوه أظهر في صريح العقل من لزوم هذه اللوازم لما أثبته هؤلاء فإن أمكنكم نفي اللزوم وادعيتم أن القول باللزوم وإحالة ما أثبتموه من حكم الوهم دون العقل أمكن خصومكم أن يقولوا مثل ذلك ما قلتموه بطريق الأولي
وهذا يفهمه من تصور حقيقة قول الطائفتين وأدلتهم العقلية فإنه إذا قابل بين قول هؤلاء وقول هؤلاء تبين له صحة الموازنة وان الإثبات أقرب إلى صريح المعقول وأبعد عن التناقض كما أنه أقرب إلى صحيح المنقول
الوجه الثالث
وكذلك يقال في الوجه الثالث فإن لإثبات النهاية من أحد الطرفين دون الآخر أبعد عن الإحالة من إثبات موجود قائم لا يمكن أن يقال فيه هو متناه ولا أن يقال غير متناهوكذلك إثبات موجود لا نهاية له من الطرفين أقرب إلى المعقول من كونه لا يقبل إثبات النهاية ولا نفيها
قوله فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء فيكون الرب معلولا لغيره
يقال ما من أحد من النفاة إلا وقد قال نظير هذا فالكلابية والأشعرية يقولون الذات اقتضت صفات معدودة دون غيرها من الصفات فإنهم وغن تنازعوا في كون صفاته كلها معلومة للبشر فإنهم لم يتنازعوا في إثبات صفات لا تناهي بل لا بد إن تكون صفاته متناهية فجعلوا الذات مقتضية لعدد معين دون غيره من الأعداد ولصفات معينة دون غيرها من الصفات بل واقتضت الأمر بشيء دون غيره من المأمورات وبإرادة شيء دون غيره من المرادات مع أن نسبتها إلى جميع المرادات والمأمورات نسبة واحدة
وأصلهم أنه يجوز تخصيص أحد المثلين دون الآخر بغير مخصص بل بمحض الإرادة ن وأن الذات اقتضت تلك الإرادة على ذلك الوجه دون غيرها لا لأمر آخر
فإذا قيل الذات اقتضت تناهيا من جانب دون جانب أو قدرا مخصوصا لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون لم يكن هذا في صريح العقل بأبعد من الامتناع من ذلك لا سيما وهو مع ذلك يقولون إن هذه الإرادة اقتضت أن تكون الحوادث متناهية من أحد الطرفين دون الآخر فالحوادث عندهم لا تناهي من جانب المستقبل مع تناهيها من جانب الماضي ومع إمكان تقدم الحوادث على مبدأ حدوثها وتأخرها عن ذلك المبدأ ولكن الإرادة هي المخصصة لأحد المثلين والذات هي المخصصة لتلك الإرادة المعينة دون غيرها من الإرادات وهي المخصصة للكلام المعين الذي هو أمر بشيء معين دون غيره من الكلام والأوامر
والمعتزلة يقولون إن تلك الذات هي المخصصة لأحد المقدورين دون أمثاله من المقدورات وكذلك هي المخصصة لكونها آمرة ومتكلمة وفاعلة بالأمر المعين والكلام المعين والفعل المعين دون غيره من الأوامر والكلام والفعل وهي المخصصة للإرادة أو لكونه مريدا دون غير تلك الإرادة أو غير تلك المريدية
والفلاسفة يقولون إن الذات أو الوجود الذي لا اختصاص له بحقيقة من الحقائق ولا صفة من الصفات هو المخصص للعالم كله بما هو عليه من الحقائق والصفات والمقادير وأنه علة تامة موجبة للمعلول مع أن الحوادث من المعلولات ليست أعيانها أزلية ولم يكن فيه ما يوجب تأخر شيء من المعلولات ولا قام به صفة ولا معنى ولا فعل يوجب التخصيص لا بحقيقة دون حقيقة ولا بصفة دون صفة ولا لحادث دون حادث ولا لتأخير ما يتأخر
والعالم يشهد فيه من الحقائق والحوادث الحادثة ما يعلم معه بالضرورة أنه لا بد له من مخصص وهم لا يثبتون إلا وجودا مطلقا ليس فيه اختصاص وجودي بوجه من الوجوه فضلا عن إن يكون مقتضبا لتخصيص حقيقة دون حقيقة ن وصفة دون صفة والحدوث من غير سبب يقتضي الحدوث وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود أن هؤلاء القائلين بعدم التناهي أو بالتناهي من جانب دون جانب مع كون قولهم فاسدا فنفاة كون الرب على العرش الذين يحتجون على نفي ذلك بنفي الجسم وعلى نفي الجسم بهذه الحجج يلزمهم من التناقض أعظم مما يلزم المثبتين والمقدمات التي يحتجون بها هي أنفسها وما هو أقوى منها من جنسها تدل على فساد أقوالهم بطريق الأولى فإن كانت صحيحة دلت على فساد قولهم ومتى فسد قولهم صح قول المثبتة لامتناع رفع النقيضين وإن كانت باطلة لم تدل على فساد قول المثبتة فدل ذلك على أن هذه المقدمات مستلزمة فساد قول النفاة دون قول أهل الإثبات
وهذه الطريق هي ثابتة في الأدلة الشرعية والعقلية فإنا قد بينا في الرد على أصول الجهمية النفاة للصفات في الكلام على تأسيس التقديس وغيره أن عامة ما يحتج به النفاة لرؤية والنفاة فرق العرش ونحوهم من الأدلة الشرعية الكتاب والسنة هي نقيض قولهم وهكذا أيضا عامة ما يحتجون به من الأدلة العقلية إذا وصلت معهم فيها إلى آخر كلامهم وما يجيبون به معارضهم وجدت كلامهم في ذلك يدل على نقيض قولهم وأن ما يذكرونه من المناظرات العقلية هو على قول أهل الإثبات أدل منه على قولهم
الوجه الرابع
قوله إذا كان متناهيا من جميع الجهات فاختصاصه بالشكل والمقدار إن كان لذاته لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعةفيقال له لا نسلم اشتراك جميع الأجسام في ذلك ولا نسلم أن االأجسام متحدة في الطبيعة وقد عرف أن النزاع في هذه المسألة من النظار من أشهر الأمور وهذا المصنف نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج أصحابه المدعين تماثلها وتماثل الجواهر فإذا كان هو نفسه قد بين فساد حجج القائلين بالاتحاد في الطبيعة كان قد أفسد حجته بما ذكره هو من الأدلة العقلية على فسادها فضلا عما يذكره غيره من العقلاء وقد بسط هذا في موضعه وإنما المقصود هنا التنبيه على أن كل مقدمة في هذه الحجة يمكن منعها ويكون قول المانع فيها أقوى من قول المحتج
تابع كلام الأمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
قال أنه لو كان جسما لكان مركبا ممن الأجزاء وهو محال لوجهين الأول أنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه وما افتقر إلى غيره كان ممكنا لا واجبا لذاته وقد قيل إنه واجب لذاته
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول هذا باطل من وجوهبطلان هذا من وجوه
الأول
أن الذين قالوا إنه جسم لا يقول أكثرهم إنه مركب من الأجزاء بل ولا يقولون إن كل جسم مركب من الأجزاء فالدليل على امتناع ما هو مركب من الأجزاء فقط لا يكون حجة على من قال إنه ليس بمركب وإن كان بناء على أن كل جسم مركب فهذا ممنوع
وإن قيل لا نعني بالأجزاء أجزاء كانت موجودة بدونه وإنما نعني بها أنه لا بد أن يتميز منه شيء عن شيء
قيل فحينئذ لا يلزم أن يكون ذلك الذي يمكن أن يصير جزءا غير مفتقر إليه إذ هو لا بد منه في وجود الجملة وليس موجودا دونها فالجملة لا تستغني عنه وهو أيضا لا يستغني عنها فتكون الحجة باطلة
الثاني
أن يقال ما تعني بقولك إنه يكون مفتقرا إلى كل واحد من تلك الأجزاءأتعني انه يكون مفعولا للجزء أو معلولا لعلة فاعلة أو تعني انه يكون وجوده مشروطا بوجود الجزء بحيث لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر فإن ادعيت الأول كان التلازم باطلا فإنه من المعلوم أن الأجسام التي خلقها الله تعالى ليس شيء من أجزائها فاعلا لها ولا علة فاعلة لها فإذا لم يكن شيء من المركبات المخلوقة جزؤه فاعلا له ولا علة فاعلة له كان دعوى أن ذلك قضية كلية من أفسد الكلام فإنه لا يعلم ثبوتها في شيء من الجزئيات المشهودة فضلا عن أن تكون كلية
وإن قيل نعني بالافتقار أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا
قيل ولم قلتم إن مثل هذا ممتنع على الواجب بنفسه فإن الممتنع عليه أن يكون فاعلا أو علة فاعلة إذ قيل بإمكان علة فاعلة لا تفعل بالاختيار فأما كونه لا يكون وجوده مستلزما للوازم لا يكون موجودا إلا بها فالواجب بنفسه لا ينافي ذلك سواء سميت صفات أو أجزاء أو ما سميت
الثالث
ويظهر هذا بالوجه الثالث وهو أن النافي لمثل هذا التلازم إن كان متفلسفا فهو يقول إن ذاته مستلزمة للممكنات المنفصلة عنه فكيف يمتنع أن تكون مستلزمة لصفاته اللازمة له أو لما هو داخل في مسمى اسمه وهو أيضا يسلم أن ذاته تستلزم كونه واجبا وموجوداوعاقلا ومعقولا وعقلا ولذيذا وملتذا به ن ومحبا لذاته ومحبوبا لها وأمثال ذلك من المعاني المتعددة
فإذا قيل هذه كلها شيء واحد
قيل : هذا مع كونه معلوم الفساد بالضرورة لكونه تضمن أن العلم هو الحب وأن العالم المحب هو العلم والحب فإن قدر إمكانه فقول القائل إن الجسم ليس بمركب من الهيولي والصورة ولا من الجواهر المنفردة بل هو واحد بسيط أقرب إلى العقل من دعوى اتحاد هذه الحقائق
وإن كان من المعتزلة وامثالهم فهم يسلمون ذاته تستلزم أنه حي عالم قادر وإن كان من الصفاتية فهم يسلمون استلزام ذاته للعلم والقدرة والحياة وغير ذلك من الصفات فما من طائفة من الطوائف إلا وهي تضطر إلى أن تجعل ذاته مستلزمة للوازم وحينئذ فنفي هذا التلازم لا سبيل لأحد إليه سواء سمي افتقارا أو يسم وسواء قيل إن هذا يقتضي التركيب أو لم يقل
الرابع
أن يقال قول القائل إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء أتعنى بالمركب تلك الأجزاء أو تعني به اجتماعها آو الأمرين أو شيئا رابعا فإن عنيت الأول كان المعنى أن تلك الأجزاء مفتقرة إلى تلك الأجزاء وكان حاصله أن الشيء المركب مفتقر إلى المركب وان الشيء مفتقر إلى نفسه وان الواجب بنفسه مفتقر إلى الواجب بنفسهومعلوم أن الواجب بنفسه لا يكون مستغنيا عن نفسه بل وجوبه بنفسه يستلزم أن نفسه لا تستغني عن نفسه فما ذكرتموه من الافتقار هو تحقيق لكونه واجبا بنفسه لا مانع لكونه واجبا بنفسه
وإن قيل إن المركب هو الاجتماع الذي هو اجتماع الأجزاء وتكبها
قيل فهذا الاجتماع هو صفة وعرض للأجزاء لا يقول عاقل إنه واجب بنفسه دون الأجزاء بل إنما يقال هو لازم للأجزاء والواجب لنفسه هو الذات القائمة بنفسها وهي الأجزاء لا مجرد الصفة التي هي نسبة بين الأجزاء وإذا لم يكن هذا هو نفس الذات الواجبة بنفسها وإنما هو صفة لها فالقول فيه كالقول في غيره مما سميتموه أنتم أجزاء وغايته أن تكون بعض الأجزاء مفتقرة إلى سائرها وليس هذا هو افتقار الواجب بنفسه إلى جزئه
وإن قيل إن المركب هو المجموع أي الأجزاء واجتماعها فهذا من جنس أن يقال المركب هو الأجزاء لكن على هذا التقدير صار الاجتماع جزءا من الأجزاء
وحينئذ فإذا قيل هو مفتقر إلى الأجزاء كان حقيقته انه مفتقر إلى نفسه أي لا يستغني عن نفسه وهذا حقيقة وجوبه بنفسه لا مناف لوجوبه بنفسه وإن عنيت به شيئا رابع فلا يعقل هنا شيء رابع فلا بد من تصويره
ثم هذا الكلام عليه وإن قال بل المجموع يقتضي افتقاره إلى كل جزء من الأجزاء
قيل افتقار المجموع إلى ذلك الجزء كافتقار إلى سائر الأجزاء وذلك الجزء وسائر الأجزاء هي المجموع فعاد الأمر إلى انه مفتقر إلى نفسه
فإن قيل فأحد الجزأين مفتقر إلى الآخر أو قيل الجملة مفتقرة إلى كل جزأ إلى آخره
قيل أولا ليس هذا هو حجتكم فإنما ادعيتم افتقار إلى الآخر أن أحدهما فاعل للآخر آو علة فاعلة له فهذا باطل بالضرورة فإن المركبات الممكنة ليس أحد أجزائها علة فاعلة للآخر ولا فاعلا له باختياره فلو قدر أن في المركبات ما يكون جزؤه فاعلا لجزئه لم يكن كل مركب كذلك فلا تكون القضية كلية فلا يجب أن يكون مورد النزاع داخلا فيما جزؤه مفتقر إلى جزئه فكيف إذا لم يكن في بعض أجزائه علة فاعلة للجزء الآخر ؟
وإن عنيت أن أحد الجزأين لا يوجد إلا مع الجزء الآخر فهذا غنما فيه تلازمهما وكون أحدهما مشروطا بالآخر وذلك دور معي اقتراني وهو ممكن صحيح لا بد منه في كل متلازمين وهذا لا ينافي كون المجموع واجبا بالمجموع
وإذا قيل في كل من الأجزاء هل هو واجب بنفسه أم لا ؟
قيل إن أردت هل هو مفعول معلول لعلة فاعلة أم لا ؟ فليس في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها في الأجزاء ما هو كذلك بل كل منها واجب بنفسه بهذا الاعتبار وإن عنيت أنه هل فيها ما يوجد بدون وجود الآخر فليس فيها ما هو مستقل فيها ما هو مستقل دون الآخر ولا هو واجب بنفسه بهذا الاعتبار والدليل دل على إثبات واجب بنفسه غنى عن الفاعل والعلة الفاعلة لا على أنه لا يكون شيء غني عن الفاعل مستلزما للوازم
فلفظ الواجب بنفسه فيه إجمال واشتباه دخل بسببه غلط كثير فما قام عليه البرهان من إثبات الواجب بنفسه ليس هو ما فرضه هؤلاء النفاة فإن الممكن هو الذي لا يوجد إلا بموجد يوجده والواجب هو الذي يكون بنفسه لا بموجد يوجده فكونه بنفسه مستلزما للوازم لا ينافي أن يكون ذاتا متصفة بصفات الكمال وكل من الذات والصفات ملازم للأخر وكل من الصفات ملازمة للأخرى وكل ما يسمى جزءا فهو ملازم للآخر
وإذا قيل هذا فيه تعدد الواجب
قيل إن أردتم تعدد الإله الموجود بنفسه الخالق للممكنات فليس كذلك وغن أردتم تعدد معان وصفات له أو تعدد ما سميتموه أجزاء له فلم قلتم إنه كان كل من هذه واجبا بنفسه ن أي هو موجود بنفسه أي هو موجود بنفسه لا بموجد يوجده مع أن وجوده ملزوم لوجود الآخر يكون ممتنعا ولم قلتم إن ثبوت معنيين أو شيئين واجبين متلازمين يكون ممتنعا ؟
وهذا كما تقوله المعتزلة إنكم إذا أثبتم الصفات قلتم بتعدد القديم
فيقال لهم إن قلتم إن ذلك بتضمن تعدد آلهة قديمة خالقة للمخلوقات فهذا التلازم باطل
وإن قلتم يستلزم تعدد صفات قديمة للإلهة القديم
فلم قلتم إن هذا محال ؟
فعامة ما يلبس به هؤلاء النفاة ألفاظ مجملة متشابهة إذا فسرت معانيها وفصل بين ما هو حق منها وبين ما هو باطل زالت الشبهة وتبين أن الحق الذي لا محيد عنه هو قول أهل الإثبات للمعاني والصفات
الخامس
أن يقال قولك إن المركب مفتقر إلى كل واحد من تلك الأجزاء ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه ليس فيه ما يدل على افتقار المركب إلى أجزائه فإن كونه يستحيل وجوده دون الأجزاء يقتضي أنه لا يوجد بدونها بل لا يوجد إلا وهي موجودةوكون الشيء لا يوجد إلا مع الشيء لا يقتضي افتقاره إليه بل إنما يكون مفتقرا إليه إذا كان لا يوجد إلا به ألا ترى أن المتضايفين لا يوجد أحدهما دون الآخر ولا يقال إن أحدهما مفتقر إلى الآخر كالنبوة والأبوة بل كلاهما معلول علة منفصلة فمعلولا العلة لا يوجد أحدهما دون الآخر وهما جميعا مفتقران إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر انه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى العلة ليس أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإذا قدر أنه لا علة لهما لم يكن أحدهما مفتقرا إلى الآخر ولا إلى علة
السادس
أن يقال قولك وكل منهما غير مفتقر إليه خطأ ظاهر فإنه ليس من ضرورة كون المركب متوقفا على كل من أجزائه أن لا يكون شيء من تلك الجزاء متوقفا عليه وذلك أن المركب إن أريد به نفس الجزاء المجتمعة كان المعنى أن المجتمع متوقف على أو أن كل جزء متوقف على سائر الأجزاء أو على جزء آخر أو المجتمع على نفسه وأي شيء فرض من ذلك لم يلزم أن يكون أحد الجزأين هو المفتقر دون الآخر وإن قدر أن المركب هو الاجتماع أو الاجتماع مع الأجزاء فإنه إذا قدر أنها متلازمة لم يكن أحد الأجزاء واجبا بنفسه بمعنى إمكان وجوده دون سائر الأجزاء لا الاجتماع ولا غيره بل لا يوجد شيء منها إلا بالآخر فلا يكون شيء من الأجزاء غير مفتقر إلى المركب بل كل منها مفتقر إليهوهذا لا يقاس بالواحد مع العشرة الذي يمكن وجوده دون وجود العشر فإن أجزاء العشرة ليست متلازمة وغنما الكلام في أمور متلازمة لا يمكن وجود بعضها دون بعض كالصفات اللازمة للرب تعالى
وما سماه النفاة أجزاء فإنه لا يمكن وجود صفة من تلك الصفات دون الذات بل ولا دون الصفة الأخرى وكذلك ما سموه جزءا لا يمكن وجوده دون الجميع ولا دون جزءا آخر فامتنع أن يقال إن كل جزء من الأجزاء غير مفتقر إلى المجموع المركب مع أن المجموع المركب مفتقر إليه بل إذا سمي هذا التلازم افتقارا فافتقار الصفة وما سموه جزءا إلى المجموع اعظم من افتقار الذات الواجبة بنفسها أو ما سموه المجموع المركب الواجب بنفسه إلى الصفة أو الجزء فإن المجموع هو الواجب بنفسه الذي لا يقبل العدم أصلا وكل جزء من أجزائه فلا يتصور وجوده بدون وجود الآخر وهذا كما يقولون إن الحيوانية والناطقية جزء من الإنسانية ومع هذا يمتنع وجود الجزء دون هذه الماهية المركبة وكذلك يقولون إن الجسم مركب من المادة والصورة ويمتنع وجود أحدهما بدون الجسم بل والجوهر الفرد عند عامة القائلين به يمتنع وجوده بدون وجود الجسم
السابع
أن يقال قولك إن المركب الواجب بنفسه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ضرورة استحالة وجود المركب دون أجزائه وكل منها غير مفتقر إليه كلام باطل وهو بالعكس أولىوذلك أن ما قدر انه جزء إذا كان مفتقر إليه لزم أن يكون واجبا بنفسه وإذا كان واجبا بنفسه فإما أن يكون مستقلا لا يتوقف على وجود الجزء الآخر ولا الجملة أو لا بد له من ذلك فإن كان مستقلا بنفسه لا يتوقف على جزء آخر ولا على المجموع لزم تعدد الأمور الواجبة بنفسها المستقلة التي يستغني بعضها عن بعض ولا يتوقف واحد منها على الآخر ولا على الجملة
ومعلوم أنه إذ كان هذا جائزا لزم أن يكون هناك مجموع كل منه واجب بنفسه والمجموع واجب بتلك الواجبات فإذا قدر تعدد الواجب بنفسه كان هذا مبطلا لأصل هذا الكلام فضلا عن فروعه
ومع تقدير تعدده يمتنع عدم تعدده فيكون الدليل الذي استدل به على نفي التركيب مستلزما لثبوت التركيب فيكون دليله يدل على نقيض مطلوبه وهذا أبلغ ما يكون في بطلان قوله
وإن قدر أن للمجموع غير تلك الأفراد فإن ما لزم الواجب كان واجبا ويبقى حينئذ الكلام في أن المجموع إن كان زائدا على العدد غنما وجوبه بالعدد نزاع لا فائدة فيه فإنه إذا قدر عشرة كل منهم واجب بنفسه لزم أن تكون العشرة واجبة قطعا وإذا كان كل من العشرة لا يقبل العدم لنفسه فالعشرة لا تقبل العدم بطريق الأولى والأحرى
وانضمام الواجب بنفسه إلى الواجب بنفسه إذا قدر ذلك لا يوجب ضعفا لأحدهما بل نفس ذلك الاجتماع هو من لوازم وجودهما بطريق الأولى والأحرى وإذا قدر أن اتصال بعضها ببعض من لوازم وجودها الواجب بنفسه لم يكن ممتنعا فإن الواجب بنفسه على هذا التقدير لا يمتنع أن يكون له لوازم وملزومات واجبة
ومن العجب أن هؤلاء القوم كهذا وأمثاله من الخائضين في واجب الوجود على طريقة ابن سينا الذين جعلوا التركيب عمدتهم في نفي ما ينفونه يوردون في طريق إثبات واجب الوجود أسولة تفسد ما ذكروه في انتفاء التركيب بالضرورة وهي لا تفسد امتناع التسلسل وهو مع ذلك يوردونها في طريق إثباته إشكالا على إبطال القول بالتسلسل الذي جعلوه مقدمة من مقدمات إثباته حتى يبقوا دائما في نصرة التعطيل بالباطل وهم إذا نصروا الإثبات ببعض ما نصروا به التعطيل كان فيه كفاية وبيان لفساد التعطيل
وبيان ذلك أنهم لما أثبتوا واجب الوجود جعلوا إثباته موقوفا على إبطال التسلسل لما قالوا إن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل ممكن مرجح ممكن فتتسلسل العلل والمعلولات الممكنة أو ينتهي الأمر إلى واجب لنفسه ثم قالوا لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزا كما قد تكلم على هذا في غير هذا الموضع
ومن أعظم أسولتهم قولهم لم لا يكون المجموع واجبا بأجزائه المتسلسلة وكل منها واجب بالآخر وهذا السؤال ذكره الآمدي وذكر انه لا يستطيع أن يجيب عنه ومضمونه وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر والمجموع معلول بالأجزاء
ومن المعلوم أنا إذا فرضنا مجموعا واجبا بأجزائه الواجبة التي لا تقبل العدم كان أولى في العقل من مجموع يجب بأجزاء كل منها ممكن لا يوجد بنفسه فإن المحتاج إلى الممكنات أولى بالإمكان أما الذي يكون وجوده لازما للواجبات فلا يمكن عدمه
والعقل الصريح الذي لم بكذب قط يعلم أن المركب المجموع من أجزاء كل منها ممكن لا وجود له بنفسه هو أيضا ممكن لا وجود له وأما المركب من أجزاء كل منها واجب بنفسه فإنه لا يمتنع كونه واجبا بنفسه أي بتلك الأجزاء التي منها واجب
وإذا قيل الإجتماع نفسه مفتقر إلى الأجزاء التي كل منها واجب بنفسه كان ذلك نزاعا لفظيا
والمقصود أن العقل يصدق بإمكان هذا ولا يصدق بإمكان أجزاء كل منها ممكن ن والمجموع واجب بها وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية فقالوا إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات ولا يوردون على أنفسهم ما أوردوه في إثبات واجب الوجود وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل مع تصديق ما جاءت به الرسل وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى بل وإثبات حقيقته التي لا يكون موجودا إلا بها فكان بمكنهم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب أو المركب الواجب أو الجملة الواجبة واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم ؟
وكان هذا خيرا من أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون المجموع الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجبا بنفسه أو واجبا بأجزائه ؟
وهذا الآمدي مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور وأعرفه بالكلام والفلسفة اضطرب وعجز عن الجواب عن الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود هو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل ويقول إن ذلك يستلزم التجسيم وأن المخالفين في الجسم جهال
ولو أعطى النظر حقه لعلم أن الجهل المركب فضلا عن البسيط أجدر بمن سلك مثل تلك الطريق فإن من شك في أوضح الأمرين وأبينهما في العقل وفي أمر لم يشك أحد من الأولين والآخرين فيه كان أولى بالجهل ممن قال بما قات به الأنبياء وارسل وأتباعهم وسائر عقلاء بني آدم من الأولين والآخرين وعلم ثبوته بالبراهين اليقينية
وذلك أنه لم يجوز أحد من بني آدم وجود فاعل للعالم ولذلك الفاعل فاعلة إلى ما لا نهاية له من غير أن يكون هناك فاعل موجود بنفسه فمن شك في جواز هذا أو عجز عن جواب شبهة مجوزة كان جهلة بينا وكان أجهل من افحش الناس قولا بالباطل المحض من التشبيه والتجسيم حتى لو فرض القول الذي يحكى عن غالية المنتقضة لله من اليهود وغيرهم مثل الذين يصفونه بالبكاء والحزن وعض اليد حتى جرى الدم ورمد العين سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فإذا قدر واجب بنفسه موصوف بهذه النقائص لم يكن هذا أبعد في العقل من وجود فاعل ليس موجودا بنفسه له فاعل ليس موجودا بنفسه إلى ما لا يتناهى فإن هذا وصف لجميع الفاعلين بالعدم الذي هو غاية النقص فإن غاية النقص أنه يرجع إلى أمور عدمية فكيف عدم ما يقدر فاعلا للعالم ؟
فتبين أن هؤلاء الذين يدعون العقليات التي تعارض السمعيات هم من أبعد الناس عن موجب العقل ومقتضاه كما هم من أبعد الناس عن متابعة الكتاب المنزل والنبي المريل وأن نفس ما به يقدحون في أدلة الحق التي توافق ما جاء به الرسول لو قدحوا به فيما يعارض ما جاء به الرسول لسلموا عن التناقض وصح نظرهم وعقلهم واستدلالهم ومعارضتهم صحيح المنقول وصريح المعقول بالشبهات الفاسدة
كلام الأمدي في مسألة هل وجوده تعالى زائد على ذاته أم لا ؟ والتعليق
عليهومن أعجب الأشياء أن هذا الآمدي لما تكلم على مسألة هل وجوده زائد على ذاته أم لا ذكر حجة من قال لا يزيد وجوده على ذاته فقال احتجوا بأنه لو كان زائدا على ذاته لم يخل إما أن يكون واجبا أو ممكنا لا جائز أن يكون واجبا لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا فإذا وجوده لو كان زائدا على ذاته لم كان واجبا فلم يبق إلا أن يكون ممكنا وإذا كان ممكنا فلا بد له من مؤثر والمؤثر فيه إما الذات أو خارج عنها والأول ممتنع لأنه يستلزم كون الذات قابلة وفاعلة ولأن المؤثر في الوجود لا بد أن يكون موجودا فتأثيرها في وجودها يفتقر إلى وجودها فالوجود مفتقر إلى نفسه وهو محال وإن كان المؤثر غيرها كان الوجود الواجب مستفادا له من غيره فلا يكون الوجود واجبا بنفسه
ثم قال وهذه الحجة ضعيفة إذ لقائل أن يقول ما لا مانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه قولكم لأنه مفتقر إلى الماهية والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا لنفسه قلنا لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره بل الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقر إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع أن يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقوله الفيلسوف في العقل الفعال بانه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
قال وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون ممكنا ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر بل الممكن هو المفتقر إلى الغير والافتقار إلى الغير أعم من الافتقار إلى المؤثر وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة
فيقال ففي هذا الكلام جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير وإن كونه ممكنا بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية
وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا حيث قال إن المجموع مفتقر إلى كل من أجزائه والمفتقر إلى الغير لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن
فيقال له : لا نسلم أن المفتقر إلى الغير على الإطلاق لا يكون واجبا بنفسه بل المفتقر إلى المؤثر لا يكون واجبا بنفسه وافتقار المجموع إلى كل من أجزائه ليس افتقارا إلى مؤثر بل إلى الغير كافتقار الوجود إلى الماهية إذا فرض تعددها
ويقال : قولك إن المجموع يكون ممكنا اتعني بالممكن ما يفتقر إلى مؤثر أم ما يفتقر إلى الغير ؟
فإن قلت الأول كان باطلا وإن قلت الثاني فلم إن الواجب بنفسه الذي لا يفتقر إلى فاعل لا يكون ممكنا بمعنى انه يفتقر إلى غير لا إلى فاعل ؟
فهذا الكلام الذي ذكره هو بعينه يجيب به نفسه عما ذكره هنا بطريق الأولى والاحرى فإن توقف المجموع الواجب باجزائه على كل من أجزائه لا ينفي وجوبه بنفسه التي هي المجموع مع الأجزاء اما توقف الوجود على الماهية المغايرة له فإنه يقتضي توقف الوجود الواجب على ما ليس داخلا فيه
ومعلوم ان افتقار الشيء إلى جزئه ليس هو كافتقاره إلى ما ليس جزاه بل الأول لا ينفي كمال وجوبه إذ كان افتقاره إلى جزئه ليس أعظم من افتقاره إلى نفسه والواجب بنفسه لا يستغني عن نفسه فلا يستغني عما هو داخل في مسمى نفسه أما إذا قدر وجود واجب وماهية مغايرة له كان الواجب مفتقرا إلى ما ليس داخلا في مسمى اسمه فمن جوز ذاك كيف يمنع هذا
ولهذا كان قول مثبتة الصفات خيرا من قول أبي هاشم وأمثاله من المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا : إن وجود كل موجود في الخارج مغاير لذاته الموجود في الخارج وأن وجود واجب الوجود زائدا على ماهيته وإن كان قد وافقه على ذلك طائفة من أهل الإثبات في إثناء كلامهم حتى من أصحاب الأئمة الأربعة احمد وغيره كأبن الزاغواني وهو احد قولي الرازي بل هو الذي رجحه في أكثر كتبه وكذلك أبو حامد
فإبطال مثل هذا التركيب أولى من إبطال ذاك وأدنى الأحوال ان يكون مثله فإن من قال : إن الوجود زائد على الماهية لزمه ان يجعل الماهية قابلة للوجود والوجود صفة لها فيجعل الوجود الواجب صفة لغيره والصفة مفتقرة إلى محلها وهذا الافتقار أقرب إلى أن تكون الصفة ممكنة من افتقاره إلى صفته اللازمة له وإلى ما يقدر أنه جزؤه الذي لا يوجد إلا في ضمن نفسه ؟ وأما افتقار الصفة إلى الموصوف فإدل على إمكان الصفة بنفسها فإذا كان الوجود الواجب لا يمتنع ان يكون صفة لماهية فكيف يمتنع أن يكون مجموعا ؟
وغاية ما يقال : إن الاجماع صفة للأجزاء المجتمعة الموجودة الواجبة ومعلوم أن صفة الأجزاء الواجبة بنفسها أولى أن تكون موجودة واجبة من صفة الماهية التي هي في نفسها ليست وجودا
فهذا الذي ذكره هناك حجة عليه هنا مع انه يمكن تقريره بخير مما قرره فإنه قد يقال : إن هذا تقرير ضعيف
وذلك أنه قال : لا نسلم أن الواجب لنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره فإن الواجب لنفسه هو الذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ولا يمتنع ان يكون موجبا بنفسه وإن كان مفتقرا إلى القابل فإن الفاعل الموجب بالذات لا يمتنع توقف تأثيره على القابل وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه أو لما هو خارج عنه وهذا كما يقول الفيلسوف في العقل الفعال بأنه موجب بذاته للصور الجوهرية والأنفس الإنسانية وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة
فقد يقال إن هذا التقدير ضعيف لوجوه
الوجه الأول : أن الكلام فيما هو واجب بنفسه لا فيما هو موجب لغيره أو فاعل له وإذا قدر ان الموجب الفاعل يقف على غيره لم يلزم أن يكون الواجب بنفسه يقف على غيره
الوجه الثاني : أن الموجب الفاعل لا تقف نفسه على غيره وإنما يقف تأثيره ولا يلزم من توقف تأثيره على غيره توقفه وهذا كما ذكره من التمثيل بالعقل الفعال فإن أحدا لا يقول : إن نفسه تتوقف على غيره الذي يقف عليه تأثيره فإذا كان هذا في الموجب فكيف بالواجب
بل هم يقولون : إن نفس إيجابه يتوقف على غيره بل وصول الأثر إلى المحل يتوقف على استعداد المحل
الوجه الثالث : ان هذا التمثيل يمكن في غير الواجب بنفسه أما هو سبحانه وتعالى فلا يتصور أن تقف ذاته على غيره ولا فعله على غيره فإن القوابل هي أيضا من فعله فالكلام في فعله للمقبول لها كالكلام في فعله للقابل فكل ما سواه فقير إليه مفعول له وهو مستغن عن كل ما سواه من كل وجه بخلاف الفاعل المخلوق الذي يتوقف فعله على قابل فإنه فعل مفتقر إلى شيء منفصل عنه لكن يمكن ان يجاب عنه بان يقال : إذا كان الموجب لغيره المتوقف إيجابه على غيره لا يمنع أن يكون موجبا بنفسه كما قالوا في العقل الفعال فإن يكون توقف إيجابه على غيره لا يمنع ان يكون واجبا بنفسه أولى وأحرى فإن الموجب لغيره واجب وزيادة إذ لا يوجد إلا ما هو موجود ولا يوجب إلا ما هو واجب
والعقل الفعال يقولون : هو واجب بغيره وهو موجب بغيره لا واجب بنفسه ومقصوده أن الوجوب والإيجاب بالذات لا يمنع توقف ذلك على غيره وإنما يمنع كونه مفعولا للغير
وتلخيص الكلام : أنه إذا قيل : إن الوجود زائد على الماهية كانت الماهية محلا للوجود الواجب فيكون الواجب لنفسه مفتقرا إلى قابل لا إلى فاعل
فنقول : الواجب هو الذي لا يكون مفتقرا إلى فاعل ليس هو الذي لا يكون مفتقرا إلى قابل فإن الذي قام عليه قطع التسلسل أن الواجب لا فاعل له ولا علة
أما كون الوجود الواجب له محل هو موصوف به أم لا ؟ فذاك كلام آخر لكنه عضد ذلك بأن الإيجاب بالذات لا ينافي كون الموجب له محل يقبله فكذلك الواجوب بالذات لا ينفي أن يكون له محل يقبله واستشهد بالعقل الفعال لكنهم يقولون العقل الفعال ليس بموجب بالذات واما الرب الموجب بالذات فليس له محل يقبله
فتبين ان الاستشهاد بهذا لا يصح وليس التمثيل به مطابقا
والمقصود هنا أن الذي يعتمد عليه هو وأمثاله في نفي ما يسمونه التركيب هم أنفسهم قد أبطلوه في مواضع أخر واحتجوا به في موضع آخر وهو حيث احتجوا به أضعف منه حيث أبطلوه
وكذلك ما ذكره من الوجه الثاني على إبطال التركيب فإنه قال :
كلام الأمدي عن إبطال التركيب
الوجه الثاني في امتناع كونه مركبا من الأجزاء أن تلك الأجزاء إما أن تكون واجبة الوجود لذاتها أو ممكنة أو البعض واجبا والبعض ممكنا لا جائز أن يقال بالأول على ما سيأتي تحقيقه في إثبات الوحدانية وإن كان الثاني أو الثالث فلا يخفي أن المفتقر إلى الممكن المحتاج إلى الغير أولى بالإمكان والاحتياج والممكن المحتاج لا يكون واجبا لذاته ومالا يكون واجبا لذاته لا يكون إلها
رد ابن تيمية عليه من وجوه
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الوجه أيضا فاسد من وجوه :الوجه الأول
أن يقال : لم لا يجوز أن تكون تلك الأجزاء كلها واجبة
قوله : على ما سيأتي تحقيقة في مسألة التوحيد
يقال له : الذي ذكرته فيما بعد مسألة التوحيد هي الطريقة المعروفة لأبن سينا وأتباعه من الفلاسفة وهي وجهان :
الوجه الأول : مبناه على أن المركب يفتقر إلى أجزائه وهذا هو الوجه الأول الذي ذكرته هنا فصار مدار هذا الوجه الثاني على الأول فلم يذكر إلا الأول وقد نبين فساده
الوجه الثاني : الذي ذكرته في التوحيد : مبناه على كون الوجوب يصير معلولا وهذا هو الذي ذكرته في كون الوجود الواجب لا يزيد على الماهية لئلا يكون معلولا للماهية وأنت قد أفسدت هذا الوجه وبما أفسدته به يفسد الآخر أيضا
فتبين أن ما ذكرته في مسألة التوحيد يعود إلى وجه واحد وأنت قد قدمت فساده فالحوالة على ما سيأتي وما سيأتي منه ما هو مكرر فكلاهما فاسد
وهو دائما في كلامه يذكر فساد هذه الطريقة حتى أنه لما استدلت الفلاسفة أتباع ابن سينا وغيرهم على أن الأجسام ممكنة بهذه الطريقة واستدل بها طائفة على حدوث العالم وهذا أول طريقة ذكرها في حدوث العالم فقال قد احتج الأصحاب بمسالك : الأول قولهم : العالم ممكن الوجود بذاته وكل ممكن بذاته فهو محدث
وقرر الإمكان بأن قال أجسام العالم مؤلفة ومركبة لما سبق بيانه في الأجسام وكل ما كان مؤلفا مركبا فهو مفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته فالأجسام ممكنة لذواتها والأعراض قائمة بالإجسام ومفتقرة إليها والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنا
ثم ضعف هذا المسلك : قال وقولهم : إن العالم مركب مسلم ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة ؟ وما ذكروه من الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها وأحال على ما ذكره في الوحدانية فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة ويحيل على ما ذكره في التوحيد
ومعلوم انه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك لكان مع ما فيه من التناقض أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء
الوجه الثاني
أن يقال : أنت أيضا قد بينت في الكلام على إثبات وحدانية الله تعالى فساد هذه الطريقة التي سلكها ابن سينا وغيره من الفلاسفة التي أحلت عليها هنا وذلك أنه قال الفصل الثاني في امتناع وجود إلهين لكل واحد منهما من صفات الإلهية ما للآخر وقد احتج النافون للشركة بمسالك ضعيفة : المسلك الأول : وهو ما ذكره الفلاسفة وذلك أنهم قالوا : لو قدر وجود واجبين كل واحد منهما واجب لذاته فلا يخلو : إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو باختلافهما من كل وجه أو باتفاقهما من وجه دون وجه فغن كان الأول فلا تعدد في مسمى واجب الوجود إذ التعدد والتغاير دون مميز محال وإن كان الثاني فما اشتركا في وجوب الوجود وإن كان الثالث فما به الاشتراك غير ما به الأفتراق وما به الاشتراك إن لم يكن هو وجوب الوجود فليسا بواجبين بل أحدهما دون الآخر وإن كان الاشترك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين : الوجه الأول : هو أن ما به الاشتراك من وجوب الوجود : إما أن يتم تحققه في كل واحد من الواجبين بدون ما به الافتراق أو لا يتم دونه فغن كان الأول فهو محال وإلا كان المعنى المشترك المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وهو محال وإن كان الثاني وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به وهو ما قيل بوجوب وجوده أولى أن يكون ممكنا الوجه الثاني : أن مسمى واجب الوجود إذا كان مركبا من أمرين وهو وجوب الوجود المشترك وما به الافتراق فيكون مفتقرا في وجوده إلى كل واحد من مفردية وكل واحد من المفردين مغاير للجملة المركبة منهما ولهذا يتصور تعقل كل أحد من الأفراد مع الجهل بالمركب منها والمعلوم غير المجهول وكل ما كان مفتقرا إلى غيره في وجوده إلى غيره ممكنا لا واجبا لذاته إذ لا معنى لواجب الوجود لذاته إلا ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره وهذه المحالات إنما لزمت من القول بتعدد واجب الوجود لذاته فيكون محالاقال : وربما استروح بعض الأصحاب في إثبات الوحدانية إلى هذا المسلك أيضا وهو ضعيف إذ لقائل أن يقول وإن سلمنا الاتفاق بينهما من وجه والافتراق من وجه وأن ما به الاتفاق هو وجوب الوجود ولكن لم قلتم بالامتناع ؟ وما ذكرتموه في الوجه الأول إنما يلزم ان لو كان مسمى وجوب الوجود معنى وجوديا وأما بتقدير أن يكون امرا سلبيا ومعنى عدميا وهو عدم افتقار الوجود إلى علة خارجة فلا فلم قلتم بكونه أمرا وجوديا
ثم بسط الكلام في كونه عدميا بما ليس هذا موضع الكلام فيه
تابع كلام الآمدي
قال وعلى هذا فقد بطل القول بالوجه الثاني فإنه إذا كان حاصل الوجوب يرجع إلى صفة سلب فلا يوجب ذلك التركيب من ذات واجب الوجود وإلا لما وجد بسيط أصلا فإنه ما من بسيط إلا ويتصف بسلب غيره عنه وإن سلمنا أن وجوب الوجود أمر وجودي ولكن ما ذكرتموه من لزوم التركيب فهو لازم وإن كان واجب الوجود واحدا من حيث ان مسمى واجب الوجود مركب من الذات المتصفة بالوجوب ومن الوةجوب الذاتي فما هو العذر عنه مع اتحاد الوجود فهو العذر مع تعدده
تعليق ابن تيمية
قلت : الوجه الأول ذكره الرازي قبله في إبطال هذا والوجه الثاني ذكره الرازي كما ذكره الشهرستاني قبله وهو أن هذا منقوض بمشاركة واجب الوجود لسائر الموجودات في مسمى الوجود وامتيازه عنها بوجوب الوجود فقد صار فيه على أصلكم ما به الاشتراك وما به الامتيازوالآمدي يقول : إن وجوب الوجود بالاشتراك اللفظي وقاله قبله الشهرستاني و الرازي وأتباعه في ذلك يبين بطلان ما أحال عليه في قوله لا يجوز أن تكون الأجزاء كلها واجبة على ما سيأتي تحقيقه في مسألة التوحيد
ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق وتقويتها إذا نصر بها باطل : أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد والمدلول حق لا ريب فيه وإن قدر ضعف الحجة ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد
وأيضا فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضا فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما فإن لا يمتنع جزءان كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والآحرى
واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة : أحدهما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا والثاني المعارضة : أما المعارضة فوارده على هؤلاء الفلاسفة لا مندوحة لهم عنها ومعارضة الشهرستاني و الرازي وأظن الغزالي أجود من معارضة الآمدي ومن اعتذر عن ذلك بان الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر
فبكل حال يلزم : إما لزوم التركيب وإما بطلان توحيدهم وأيهما كان لازما لزم الآخر فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب وهذا يبطل امتناع التركيب
ولا ريب أن أصل كلامهم بل وكلام نفاة العلو والصفات مبنى على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلي مطلق مثل الكليات وهذا الذي يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان والذي أبطلوه هو لازم لكل الأعيان فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج وأبطلوا واجب الوجود في الخارج
ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء : فنقول : قول القائل إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه أو اختلافهما من كل وجه أواتفاقهما من وجه دون وجه إن أريد به انهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج ولكن يشتبهان من بعض الجوه مع أن كلا منها مختص بما قام به نفسه كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين مع أنه ليس في أحدهما شيء مما في الآخر وغن أراد بقوله أو اختلافهما من كل وجه أنهما لا يشتبهان في شيء ما ولا يشتركان في شيء ما فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شيء وتشابه في شيء ما ولو انه مسمى الوجود وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من كل وجه وإن كانا مشتركين في أشياء بمعنى اشتباهما لا بمعنى أن في الخارج شيئا بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار
وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول هم مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام سواء كان متماثلا وهو التواطؤ الخاص أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص كالموجودين والحيوانين والإنسانين والسوادين اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه وإنما اشتركا في مطلق الوجود
والوجود المطلق المشترك الكلي لا يكون كليا لا في هذا ولا في هذا بل هو كلي في الأذهان مختص في الأعيان وإذا قيل : الكلي الطبيعي موجود فمعناه أن ما كان كليا في الذهن يوجد ف بالخارج لكن لا يتصور إذا وجد أن يكون كليا كما يقال العام موجود في الخارج ن وهو لا يوجد عاما
وقوله : غما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه
قلنا : إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه فقد يقال : ليسا مختلفين من كل وجه وإن أريد الامتياز فهما مختلفان من كل وجه
وقوله : إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الأمتياز فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلين من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد
والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الآخر بل لا بد أن يكون غيره
وحينئذ فقوله : ما به الاشتراك غير ما به الامتياز
قلنا : لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجا أشتراكهما فيه إلى الامتياز بل هما ممتازان بأنفسهما وإنما تشابها أو تماثلا في شيء والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما بل كل منهما ممتاز عن الأخر بنفسه
وقوله : ما به الاشتراك : إما وجوب الوجود أو غيره
قلنا : كل منهما مختص بوجوب وجوده الذي يخصه كما هو مختص بسائر صفاته التي تخص نفسه وهو أيضا مشابه الآخر في وجوب الوجود فما اشتركا فيه من الكلي لا يقبل الاختصاص وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجا إلى مخصص وما اختص به كل منهما يقاربه فيه مشترك وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك والامتياز بوجوب الوجود المختص والاشتراك أيضا في كل مشترك والامتياز بكل مختص
وقوله : إن كان الاشتراك بوجوب الوجود فهو ممتنع لوجهين : الوجه الأول : أن المشترك غما أن يتم بدون ما به الافتراق وذلك محال وإلا كان المطلق متحققا في الأعيان من غير مخصص وإن لم يتم إلا بما به الافتراق كان وجوب الوجود ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره
قلنا : أن أريد بالمشترك بينهما المعنى المطلق الكلي فذاك لا يفتقر إلى ما به الامتياز وليس له ثبوت في الأعيان حتى يقال : إنه يلزم أن يكون المطلق في الأعيان من غير مخصص وإن أريد به ما يقوم بكل منهما من المشترك وهو ما يوجد في الأعيان من الكلي فذاك لا اشتراك فيه الأعيان فإن كل ما لأحدهما فهو مختص به لا اشتراك فيه وحينئذ فالموجود من الوجوب هو مختص بأحدهما بنفسه لا يفتقر إلى مخصص فلا يكون الوجوب الذي لكل منهما في الخارج مفتقرا إلى مخصص وإذا لم يكن ذلك بطل ما احتجوا به على كونه ممكنا وأما المشترك الكلي المطلق من الوجوب فذاك ليس موجودا لهذا ولا لهذا ولا متحققا في الأعيان وحينئذ فلا يلزم أن الكلي يتحقق في الأعيان بلا مخصص
وأيضا فيقال : هب أن المشترك لا يتحقق في الأعيان إلا بالمختص فهذا لا يمنع وجوب وجوده إذا الواجب هو مالا فاعل له ليس هو مالا لازم ولا ملزوم له
وهذا الآمدي ذكر هذا فيما تقدم وبين أن الوجود الواجب لا يمتنع توقفه على القابل وإنما يمتنع توقفه على الفاعل
وبهذا يبطل الوجه الثاني وهو كون الوجود الواجب مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز فإن ما به الاشتراك لم يوجد في الخارج وما به الامتياز لم يقع فيه اشتراك فليس في أحدهما ما به الاشتراك وما به الامتياز ولكن كل منهما موصوف بصفة يشابهه بهذا الآخر وهو الوجوب واتصاف الموصوف بصفة يشابهه بها غيره من وجه وأمر يختص به إنما يوجب ثبوت معان تقوم به وأن ذاته مستلزمة لتلك المعاني وهذا لا ينافي وجوب الوجود بل لا يتم وجوب الوجود إلا به ولو سلم أن مثل هذا تركيب فلا نسلم أن مثل هذا التركيب ممتنع كما تقدم بيانه
فقد تبين بطلان الوجه الأول من وجهين وبطلان الوجه الثاني من وجهين غير ما ذكروه والله اعلم
والوجه الأول من الوجهين هو الذي اعتمده ابن سينا في إشارته وقد بسطنا الكلام عليه في جزء مفرد شرحنا فيه أصول هذه الحجة التي دخل منها عليهم التلبيس في منطقهم وإلهياتهم وعلى من أتبعهم كالرازي والسهرورودي والطوسي وغيرهم
وقد ذكرنا عنه هناك جوابين :
الأول : أن هؤلاء عمدوا إلى الصفات المتلازمة في العموم والخصوص ففرضوا بعضها مختصا وبعضها عاما بمجرد التحكم كالوجود والثبوت والحقيقة والماهية ونحو ذلك
فإذا قيل : الواجب والممكن كل منهما يشارك الآخر في الوجود ويفارقه بحقيقته أو ماهيته
قيل لهم : معنى الوجود يعمهما ومعنى الحقيقة يعمهما وكل منهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما يمتاز عنه بحقيقته التي تختص به فليس جعل هذا مشتركا وهذا مختصا باولى من العكس
وهكذا إذا قدر واجبان لكل منهما حقيقة فهمما مشتركان في مطلق الوجوب ومطلق الحقيقة وكل منهما يمتاز عن الآخر بما يخصه من الوجوب والحقيقة فما قلتم به الامتياز متلازم وما قلتم به الاشتراك متلازم ولا يفتقر ما جعلتم به الاشتراك إلى ما جعلتم به الامتياز ولا ما جعلتم به الامتياز إلى به الاشتراك بل كل منها موصوف بما به الامتياز وهو ما يخصه وتلك الخصائص تشابه خصائص الآخر من بعض الوجوه فذلك القدر المشترك الذي لا يختص بأحدهما هو ما به الاشتراك
فإذا قيل هذا لون وهذا لون كانت لونية كل منهما مختصة به واللونية العامة مشتركة بينهما
وكذلك إذا قيل : هذا حيوان وهذا حيوان وهذا إنسان وهذا إنسان وهذا أسود وهذا أسود وأمثاله ذلك فليس شيء من الموجودات في الخارج مركبا من نفس ما ب الاشتراك وما به الامتياز بل هو مختص بوصف وذلك الوصف يشابه غيره لكن هو مشتمل على صفات بعضها اعم عن بعض أي بعضها يوجد نظيره في غيره أكثر مما يوجد نظير الآخر وأما هو نفسه فلا يوجد في غيره
وأما الجواب الثاني : فلا ريب أن كلا منهما فيه وجوب وفيه معنى آخر غير الوجوب بل نفس الواجب الواحد فيه الوجوب وفيه ذاته وهذا هو النقض الذي عارضهم به الآمدي
لكن قول القائل : وجوب الوجود حينئذ يكون ممكنا لافتقاره في تحققه إلى غيره فالموصوف به أولى أن يكون ممكنا كلام مجمل
فإنه يقال : ما تعني بكون الوجوب مفتقرا إلى غيره : أتعني به انه مفتقر إلى مؤثر أم مستلزم لغيره ؟
فإن عنيت الأول فهو باطل فإنه لا يحتاج الوجوب سواء فرض مختصا أو مشتركا إلى فاعل ولكن لا بد له من محل يتصف به فإن الوجوب لا يكون إلا لواجب وافتقار الوجوب إلى محله الموصوف به لا يمنع المحل أن يكون واجبا بل ذلك يستلزم كونه واجبا
وقول القائل : إن الوجوب يكون ممكنا إن أراد به افتقار \ ه إلى محل فهذا حق لكن هذا لا يستلزم كونه مفتقرا إلى فاعل ولا كون المحل مفتقرا إلى فاعل
فقوله وإن كان الثاني كان الوجوب ممكنا فالموصوف به أولى مغلطة فإن الإمكان الذي يوصف به الوجوب إنما هو افتقاره إلى محل لا إلى فاعل ومعلوم أنه إذا كانت صفة الموصوف تفتقر إليه لكونه محلا لها لا فاعلا لم يلزم أن يكون الموصوف أولى بان يكون محلا ولو قدر أن الوجوب يفتقر إلى مميز غير المحل فهو من افتقار الشرط إلى المشروط واللازم إلى الملازم ليس هو من باب افتقار المعلول إلى العلة الفاعلة
ومثل هذا لا يمتنع على وجوب الوجود بل لا بد لوجوب الوجود من تلك إذ وجوب الوجود ليس هو الواجب الوجود بل هو صفة له مع أن الواجب الوجود له لوازم وملزومات وذلك لا يوجب افتقاره إلى المؤثر فالوجوب أولى أن لا يفتقر إلى مؤثر لأجل ما له من اللوازم والملزومات فهذان وجهان غير ما ذكره هو وأمثاله هنا
الوجه الرابع : أن يقال : لم لا يجوز أن يكون بعض تلك الأجزاء واجبا وبعضها ممكنا ؟
قوله الموقوف على الممكن أولى بالإمكان
قيل : متى إذ كان الجزء الممكن من مقتضيات الجزء الواجب أو بالعكس وهذا كما أن مجموع الوجود : بعضه واجب لنفسه وبعضه ممكن والممكن منه من مفعولات الواجب لنفسه ولا يلزم من ذلك أن يكون مجموع الموجودات أولى بالإمكان من الموجودات الممكنة
وهذا الجواب يقوله من يقوله في مواضع أحدها في الذات مع الصفات
فإذا قيل له : الذات والصفات مجموع مركب من أجزاء فغما أن تكون واجبة كلها أو بعضها واجب وبعضها ممكن أمكنه أن يقول : الذات الجبة والصفات ممكنة بنفسها وهي واجبة بالذات كما يجيب بمثل ذلك طائفة من الناس
فإذا قيل : المجموع متوقف على الممكن
قال : إن ذلك الممكن من مقتضيات الواجب بنفسه
وهذا يقوله هؤلاء إذا فسر إمكان الصفات بأنها تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى محل فالذات لا تفتقر إلى فاعل ولا محل والصفات لا بد لها من محل وإن فسر الواجب بما لا يفتقر إلى موجب فالصفات أيضا لا تفتقر إلى موجب لكنه قد يسلم لهم هؤلاء أن الصفات لها موجب وهو الذات
وقولهم : إن الشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا من أفسد الكلام كما قد بسط في موضعه فيقول هؤلاء الذات موجبة للصفات ومحل لها والذات واجبة بنفسها والصفات واجبة بها والمجموع واجب وإن توقف على الممكن بنفسه الواجب بغيره لأن الواجب بنفسه مستلزم للصفات ولا اجتماع المجموع
وأيضا فيقوله من يقول : إنه يقوم بذاته أمور متعلقة بمشيئة وقدرته فإن تلم أيضا ممكنة بنفسها وقد تدخل في مسمى أسمائه
ففي الجملة ليس معهم حجة تمنع كون الجموع فيه ما هو واجب موجب لغيره
وإذا قيل : المحتاج إلى الغير أولى بالاحتياج
قيل : هب أن الأمر كذلك لكن إذا كان الغير من لوازم الجزء الواجب بنفسه كان المجموع من لوازم الجزء بنفسه وحاصلة أن في الأمور المجتمعة ما هو مستلزم لسائرها
وإذا قيل فحينئذ لا يكون الواجب بنفسه إلا ذلك الملزوم
قيل : هذا نزاع لفظي فإن الممكنات لا بد لها من فاعل عن الفاعل والدليل دل على هذا وليس فيما ذكرتموه ما ينفي أن تكون ذاته مستلزمة لأمور لازمة له واسمه يتناول الملزوم واللازم جميعا وغن سمى الملزوم واجبا بنفسه واللازم واجبا بغيره كما قاله من قاله في الذات والصفات
فيقول المنازع له فهذه مجموع الأدلة التي ذكرها هو وغيره على نفي كون الواجب بنفسه جسما أو جوهرا قد تبين انه لا دلالة في شيء منها بل هي على نقيض مطلوبهم أدل منها على المطلوب
وهذا ذكرناه لما أحال عليه قوله إن الحروف إذا قام كل منها بمحل غير محل الآخر يلزم التركيب وقد أبطلناه في إبطال التجسيم
ثم قال الوجه الثاني انه قال ليس اختصاص بعض الأجزاء ببعض الحروف دون البعض أولى من العكس
ولقائل أن يقول هذا الوجه في غاية الضعف وذلك انه إذا كانت الحروف مقدورة له حادثة بمشيئته كما ذكرته عن منازعيك فتخصيص كل منها بمحله كتخصيص جميع الحوادث بما اختصت به من الصفات والمقادير والأمكنة والأزمنة
وهذا إما أن يرد إلى محض المشيئة وإما إلى حكمة جلية أو خفية وقد تنازع الناس في الحروف التي في كلام الآدميين هل بينها وبين المعاني مناسبة تقتضي الاختصاص على قولين مشهورين وأما اختصاصها بمحالها في حق الأدميين بسبب يقتضي الاختصاص فهذا لا نزاع فيه فعلم أن الاختصاص منه بالمحل أولى منه بالمعنى
واما قوله إن قالوا باجتماع الحروف بذاته مع اتحاد الذات فيلزم منه اجتماع المتضادات في شيء واحد فهذا قد تقدم أن للناس فيه قولين وان القائلين باجتماع ذلك إن كان قولهم فاسدا فقول من يقول باجتماع المعاني المتعاقبة وأنها شيء واحد وأن الصفات المتنوعة شيء واحد أعظم فسادا
وأما قوله وغن لم يقولوا باجتماع حروف القول في ذاته فيلزم منه مناقضة أصلهم في أن ما اتصف به الرب يستحيل عروه عنه فكلام صحيح ولكن تناقضهم لا يستلزم صحة قول منازعيهم إذا كان ثم قول ثالث وهذا اللازم فيه نزاع معروف وقد حكي النزاع عنهم أنفسهم
فمن قال إن ما اتصف به من الأصوات والأفعال ونحو ذلك يجوز عروه لم يكن مناقضا
والذين قالوا منهم إنه لا يجوز عروه عما اتصف به عمدتهم أنه لو جاز عروه عنه لم يكن ذلك إلا بحدوث ضد ثم ذلك الضد الحادث لا يزول إلا بضد حادث فيلزم تسلسل الحوادث بذاته وهذا يجيب عنه بعضهم بأنه يجوز عدمه بدون حدوث ضد ويجيب عنه بعضهم بالتزام التسلسل في مثل ذلك في المستقبل
عود إلى كلام الآمدي في الرد على الكرامية : السابع
قال الآمدي في تناقض الكرامية أنهم جوزوا اجتماع الإرادة الحادثة مع الإرادة القديمة ومنعوا ذلك في العلم والقدرة ولو سئلوا عن الفرق لكان متعذرا
تعليق ابن تيمية
قلت ولقائل أن يقول إن كانوا هم فرقوا فغيرهم لم يفرق بل جوز تجدد علوم وقدر وحينئذ فهم في الفرق على ما اعتمدت عليه المعتزلة في الفرق بين كونه عالما قادرا وبين كونه متكلما مريدا حيث قالوا العلم والقدرة عام في كل معلوم ومقدور فإنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وإلإرادة والكلام ليسا عامين في كل مراد ومقول بل لا يقول إلا الصدق ولا يأمر إلا بالخير ولا يريد إلا ما وجد ولا يريد إرادة محبة إلا لما أمرفهذا مما احتجوا به على حدوث كونه مريدا متكلما دون كونه عالما قادرا قالوا لأن الاختصاص يتعلق بالمحدثات بخلاف العموم فإنه يكون للقديم
فصل
ومما يبين الأمر في ذلك وان الأدلة التي يحتج بها هؤلاء على نفي لوازم علو الله على خلقه هم يقدحون فيها ويبينون فسادها في موضع آخر أن عامة هذه الحجج التي احتج بها الآمدي وغيره على نفي كونه جسما هم أنفسهم أبطلوها في موضع آخر
تابع كلام الآمدي في نفي الجسمية عن الله تعالى
والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي وذلك انه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها ن واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض وان العرض لا يبقى زمانين فتكون الأعراض حادثة ويمتنع حدوث ما لا نهاية له وما لا يخلو عن الحوادث التي لها أول فله أول وذكر أن هذه الطريقة هي المسلك المشهور للأشعرية وعليه اعتمادهوالرازي وامثاله لم يعتمدوا على هذا المسلك لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء وقالوا إن قائليها للحس ولضرورة العقل فرأي أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف
والآمدي قدح في الطرق التي اعتمد عليها الرازي كلها والمقصود هنا ذكر طعن الآمدي في حجج نفسه التي احتج بها على نفي كونه جسما ونفي قيام الحوادث به وقد تقدم ان حججه المبنية على تماثل الجواهر والأجسام قد قدح فيها وبين أنه لا دليل لمن أثبت ذلك وحجته المبنية على التركيب قد قدح هو فيها في غير موضع كما ذكر بعضه
وأما حجته المبنية على نفي المقدار والشكل وانه لا بد له من مخصص وكل ما له مخصص فهو محدث فإنه قال المقدمة الأولى وغن كانت مسلمة غير أن الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث وما ذكر في تقريرها باطل بما سبق في في المسلك الأول
قال وبتقدير تسليم حدوث ما أشير إليه من الصفات فلا يلزم أن تكون الأجسام حادثة لجواز أن تكون هذه الصفات المتعاقبة عليها إلى غير النهاية إلا بالالتفات إلى ما سبق من بيان امتناع حوادث متعاقبة لا أول لها تنتهي إليه فقد ذكر هنا وغن كان لا بد للمختص من مخصص فلا يلزم أن يكون حادثا بل جاز ان يكون قديما في ذاته وصفاته أو قديما في الذات مع تعاقب الصفات المحدثة من المقادير وغيرها عليه إلا إذا قيل ببطلان حوادث لا تتناهى
وحينئذ فيقال القديم إما واجب بنفسه وإما واجب بغيره فإن كان واجبا بنفسه بطلت حجته وغن كان واجبا بغيره لزم من كون المعلول مختصا أن تكون علته مختصة أيضا وإلا فبتقدير أن تكون العلة الموجبة وجودا مطلقا لا تختص بشيء من الأشياء كما يقوله من يقول هو وجود مطلق تكون نسبته إلى جميع أجناس الموجودات ومقاديرها وصفاتها نسبة واحدة وحينئذ فلا يخص مقدارا دون مقدار بالاقتضاء والإيجاب إلا أن يقال لا يمكن غير ذلك المقدار وإذا قيل ذلك لزم أن يكون من المقادير ما هو واجب لا يمكن غيره فإذا قيل هذا في الممكن ففي الواجب بنفسه أولى فإن تطرق الجواز إلى الممكن بنفسه أولى من تطرقه إلى الواجب بنفسه فإذا قدر في الممكن مقدار لا يمكن وجود ما هو أكبر منه فتقدير ذلك في الواجب بنفسه أولى
ونكته الجواب أن الموجب الذي يسمونه علة إن كان له مقدار بطل أصل قولهم وإن لم يكن له مقدار فإما أن تكون جميع المقادير ممكنة بالنسبة إليه وإما أن لا يكون كذلك فإن كان الأول لم يخص بعضها دون بعض بلا مخصص لما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وإن لم يمكن إلا بعضها كما يقوله من يقوله من المتفلسفة فحينئذ لزم أم يكون من المقادير ما هو ممتنع لنفسه ن بل منها ما هو متعين لا يمكن وجود غيره
وإذا جاز أن يمتنع بعضها لنفسه فوجوب بعضها لنفسه أولى وأحرى وإذا جاز أن يتعين ممكن من المقادير دون غيره لنفسه فتعين مقدار واجب لنفسه أولى وأحرى
وهذا كلام لا محيص لهم عنه فإن العالم إن كان واجبا بنفسه فقد ثبت أن الواجب بنفسه يختص بمقدار وإن كان ممكنا فوجد ما هو أكبر منه أو أصغر إما أن يكون في نفسه ممكنا وغما أن لا يكون فإن لم يكن ممكنا ثبت امتناع بعض المقادير لنفسه دون بعض في الممكنات في الواجب اولى
وحينئذ فبطل قول القائل : إنه ما من مقدار إلا ويمكن ما هو أكبر منه وأصغر وإن كان غير هذا المقدار ممكنا فتخصيص أحد الممكنين بالوجود يفتقر إلى مخصص والوجود المطلق لا اختصاص له بممكن دون ممكن فلا بد أن يكون المخصص أمرا فيه اختصاص وذلك الاختصاص واجب بنفسه وإذا كان الواجب لنفسه فيه اختصاص واجب لم يمكن أن يقال : كل اخصاص فلا بد له من مخصص إذ الاختصاص ينقسم إلى : واجب بنفسه وممكن
يوضح هذا أن المتفلسف إذا قال إن الموجب لتخصيص الفلك بمقدار دون مقدار كون الهيولى لا تقبل إلا ذلك المقدار مثلا أو امتناع بعد وراء العالم أو ما قيل من الأسباب
قيل له ما ذكرته من الهيولى وامتناع وجود موجود وراء العالم وإن كان باطلا فيقال ما الموجب لكون الهيولى لا تكون على غير تلك الصفة ولم لا كانت الهيولى غير هذه بحيث تقبل شكلا أكبر من هذا ثم إذا زعمت ان الممكن له مقدار لا يمكن ان يكون أكبر منه لعدم القابل مع انه لا يعلم وجود مخصص لمقدار دون مقدار ولا لكون حيز هذا المقدار يقبل الوجود دون الحيز الذي يجاوره فإن الأحياز المجردة المحضة متشابهة أبلغ من تشابه المقادير
فإذا ادعيت التخصيص في هذا ففي الواجب بنفسه اولى وأحرى ثم بتقدير ان تكون المقادير والصفات حادثة فالحجة المبنية على نفي حوادث لا تناهي قد عرف ضعفها وقد أبطل هو جميع أدلة الناس التي ذكرها إلا حجة واحدة اختارها وهي أضعف من غيرها كما قد ذكر غير مرة
وإذا كانت هذه الحجة لا تمنع جواز تعاقب الحوادث على القديم لم يمتنع كون القديم محلا للحوادث فبطل استدلالهم على نفي ذلك بمثل هذه الحجة0
فهذه الحجج الثلاث قد قدح هو فيها واما الرابعة وهي تعدد الصفات فالقدح فيها تبع للقدح في هذه الثلاث فإنها مبنية عليها إذ عمدة النفاة هي هذه الثلاث وكلامهم كله يدور عليها حجة التركيب وحجة الأعراض بأن مالا يخلو عن الحادث فهو حادث وحجة الاختصاص
وحججه الأولى على نفي الجوهر مبنية على نفي تماثل الجواهر وهو قد بين ان جميع ما ذكروه فإنه يرجع إلى ما قاله وقال إنه لا دليل فيه على نفي تماثلها
وأما الثانية وهي قوله إما أن يكون مركبا فيكون جسما أو لا يكون على نفي الجسم وقد عرف كلامه وقدحه في حجج نفي ذلك
واما حجته الثالثة فإنها مبنية على تماثل الجواهر أيضا وهو قد أبطل أدلة ذلك ومبنية على امتناع حلول الحوادث به أيضا وقد أبطل هو أيضا جميع حجج ذلك واستدل بحجة الكمال والنقصان كما احتج بها الرازي وهو أيضا قد أبطل هذه الحجة لما استدل بها الفلاسفة على قدم العالم كما ذكر عنه
وأما حجته الرابعة على نفي الجوهر فبناها علي نفي التحيز وبنى نفي التحيز على حجتين على حجة الحركة والسكون وعلى تماثل الجواهر
وهو قد بين انه لا دليل على تماثل الجواهر وأبطل أيضا حجة الحركة والسكون لما أحتج بها من احتج على حدوث الأجسام فإنه قال المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا يعني به الرازي وهذا المسلك آخذ الرازي عن المعتزلة ذكره أبو الحسين وغيره : أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل إما أن تكون متحركة او ساكنة والقسمان باطلان فالقول بأزليتها باطل
ثم اعترض عليه بوجوه متعددة :
قال ولقائل أن يقول إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا يكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا مخلص عنه
قلت : هذه مسألة نزاع بين أهل النظر : أن الجسم في أوقات حدوثه : هل يوصف بأحدهما أو يخلو عنهما ؟ والذي قاله الرازي هو قول أبي هاشم وغيره من المعتزلة ومضمونه : أنه في أوقات حدوثه ليس متحركا ولا ساكنا
واعترض عليه بتقسيم حاصر فقال : إن كانت الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز والسكون البقاء في حيز بعد حيز فالجسم في أوقات حدوثه : لا متحرك ولا ساكن وإن لم يكن الأمر كذلك فقد بطل ما ذكره من كون السكون أمرا وجوديا فإنه اعتمد في ذلك على أن السكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد ان كان في ذلك الحيز
تابع كلام الآمدي
قال الآمدي فإن قيل : الكلام إنما هو في الجسم ف يالزمان الثاني والجسم في الزمان الثاني لا يخلو عن الحركة والسكون بالتفسير المذكور فهذا قول ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام ف يالجسم إنما هو الزمان الثاني فوجود الجسم بالزمان الثاني ليس هو حالة الأولية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون
تعليق ابن تيمية
قلت : بل بتقدير قدمه لا يخلو عن الحركة والسكون لأنه حينئذ إما أن يبقى في حيز او ينتقل عنه والأول : السكون والثاني الحركةوما ذكره الآمدي من جواز خلوه عنهما على أحد التقديرين فإنما هو بتقدير حدوثه ومعلوم انه إذا كان بتقدير قدمه لا يهخلو عنهما وكلاهما ممتنع كان بتقدير قدمه مستلزما لأمر ممتنع وهو الجمع بين النقيضين فإنه إذا صحت المقدمتان لزم أن يكون حادثا بتقدير قدمه وهو انه لو كان قديما لم يخل من حادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث
وما ذكره الأمدي إنما يتوجه إذاقيل الجسم مطلقا لا يخلو عن الحركة والسكون وحينئذ فإما أن يخلو عنهما أو لا يخلو فإن خلا عنهما لم يكن ذلك إلا حال حدوثه فيكون حادثا وإن لم يخل عنهما لزم ان يكون حادثا فيلزم حدوثه على كل تقدير
ونحن نذكر ما يقدح به الآمدي وأمثاله في حججهم التي احتجوا بها في موضع آخر وإن كان بعض ذلك القدح ليس بحق ولكن يعطي كل ذي حق حقه قولا بالحق واتباعا للعدل
وقد ذكرنا كلام الآمدي على سائر ما ذكره ف يامتناع كن الحركة أزلية مثل قوله : لم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية ؟ وما ذكروه من الوجه الأول فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى بكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات الشخصية حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى انها متعاقبة إلى غير نهاية إلى آخر كلامه
والمقصود هنا التنبيه على أنه نقص في موضع آخر عامة ما احتج به هنا
فصل
ومما ينبغي معرفته في هذا الباب أن القائلين بنفي علو الله على خلقه الذين يستدلون على ذلك أو عليه وعلى غيره بنفي التجسيم فإنهم ينقضون الحجج التي يحتجون بها فتارة ينقض أحدهم الحجج التي يحتج كما ذكرناه عن الرازي والآمدي وأمثالهما من حذاق النظار الذين جمعوا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يعلم بصريح العقل موافق لها بما يعلم الصريح انه باطل وتارة كل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى ن بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح وليسوا متفقين على طريقة واحدةوهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين : من جهة العقل الصريح الذي بين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون ومن جهة انه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول
بل المقدمة التي تدعى طائفة النظار النظار صحتها تقول الآخرى هي باطلة وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم فإنها من العقليات التي اتفقت عليها فطر العقلاء السليمي الفطرة التي لا ينازع فيها إلا من تلقى النزاع تعليما من غيره لا من موجب فطرته فإنما يقدح فيها بمقدمة تقليدية أو نظرية لا ترجع إلى العقل الصريح وهو يدعى أنها عقلية فطرية
ومن كان له خبرة بحقيقة هذا الباب تبين له أن جميع المقدمات العقلية التي ترجع إليها براهين المعارضين للنصوص النبوية إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا إلى فطرة فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على وجوب تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه بل قد علم جواز الخطأ عليه وعلم وقوع الخطأ منه فيما هو دون الإلهيات فضلا عن الإلهيات التي يتيقن خطأ من خالف الرسل فيها بادلألة المجلة والمفصلة
والمقصود هنا التنبيه على جوامع قدح كل طائفة في طريق الطائفة الأخرى من نفاة العلو أو العلو وغيره من الصفات بناء على نفي التجسيم ففحول أهل الكلام كأبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري ومحمد بن الهيثم وأبي المعالي الجويني وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم يبطلون طرق الفلاسفة التي بنوا عليها النفي منهم من يبطل أصولهم المنطقية وتقسيم الصفات إلى ذاتي وعرضي وتقسيم العرضي إلى لازم للماهية وعارض لها ودعواهم ان الصفات اللازمة للموصوف منها ما هو ذاتي داخل في الماهية ومنها ما هو عرضي خارج عن الماهية وبناءهم توحيد واجب الوجود الذي مضمونه نفي الصفات على هذه الأصول
وهم في هذا التقسيم جعلوا الماهيات النوعية زائدا في الخارج على الموجودات العينية وليس هذا قول من قال : المعدوم شيء فإن أولئك يثبتون ذواتا ثابتة في العدم تقبل الوجود المعين وهؤلاء يثبتون ماهيات كلية لا معينة وأرسطو وأتباعه غنما يثبتونها مقارنة للموجودات المعينة لا مفارقة لها وأما شيعة أفلاطون فيثبتونها مفارقة ويدعون أنها أزلية أبدية وشيعة فيثاغورس تثبت أعدادا مجردة
وما يثبته هؤلاء إنما هو في الأذهان ظنوا ثبوته في الخارج وتقسيمهم الحد إلى حقيقي ذاتي ورسمي أو لفظي أو تقسيم المعرف إلى حد ورسم هو بناء على هذا التقسيم
وعامة نظار أهل الإسلام وغيرهم ردوا ذلك عليهم وبينوا فساد كلامهم وأن الحد إنما يراد به التمييز بين المحدود وغيره وأنه يحصل بالخواص التي هي لازمة ملزومة لا يحتاج إلى ذكر الصفات العامة بل منعوا أن يذكر في الحد الصفات المشتركة بينه وبين غيره بل وأكثرهم منعوا بتركيب الحد كما هو مبسوط في موضعه وقد صنف في ذلك متكلمو الطوائف كأبي هاشم وغيره من المعتزلة وأبن النوبخت وغيره من الشيعة و القاضي أبي بكر وغيره من مثبتة الصفات
واما أبو حامد الغزالي فإنه وإن وافقهم على صحة الأصول المنطقية وخالف بذلك فحول النظار الذين هم أقعد بتحقيق النظر في الإلهيات ونحوها من أهل المنطق وأتبعه على ذلك من سلك سبيله كالرازي وذويه وأبي محمد بن البغدادي صاحب ابن المثنى وذويه فقد بين في كتابه تهافت الفلاسفة وغيره من كتبه فساد قولهم في الإلهيات مع وزنه لهم بموازينهم المنطقية حتى انه بين انه لا حجة لهم على نفي التجسيم بمقتضى أصولهم المنطقية فضلا عن أن يكون لهم حجة على نفي الصفات مطلقا وإن كان أبو حامد قد يوجد كلامه ما يوافقهم عليه تارة أخرى وبهذا تسلط عليه طوائف من علماء الإسلام ومن الفلاسفة أيضا كابن رشد وغيره حتى أنشد فيه
( يوما يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن لقيت معديا فعدناني )
فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يقوم عليه الدليل وليس ذلك إلا فيما وافق فيع الرسول صلى الله عليه و سلم فلا يقوم دليل صحيح على مخالفة الرسول البتة
وهذا كما أن ابن عقيل يوجد في كرمه ما يوافق المعتزلة والجهمية تارة وما يوافق به المثبتة للصفات بل للصفات الخبرية أخرى فالاعتبار من كلامه وكلام غيره بما يوافق الدليل وهو الموافق لما جاء به الرسول
والمقصود هنا أن نبين ان فحول النظار بينوا فساد طرق من نفي الصفات أو لاعلو بناء على نفي التجسيم وكذلك فحول الفلاسفة كابن سينا وأبي البركات وابن رشد وغيرهم بينوا فساد أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة والأشعرية التي نفوا بها التجسيم حتى أن ابن رشد في تهافت التهافت بين فساد ما أعتمد هؤلاء كما بين أبو حامد في التهافت فساد ما اعتمد عليه الفلاسفة
ولهذا كان في عامة طوائف النظار من يوافق أهل الإثبات على إثبات الصفات بل وعلى قيام الأمور الاختيارة في ذاته وعلى العلو كما يوجد فيهم من يوافقهم على أن الله خالق افعال العباد فأخذق متأخري المعتزلة هو أبو الحسين البصري ومن عرف حقيقة كلامه علم انه يوافق على إثبات كونه حيا عالما قادرا وعلى أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس كونه قادرا لكنه ينازع مثبتة الأحوال الذين يقولون : ليست موجودة ولا معدومة
وهذا الذي اختاره هو قول أكثر مثبتة الصفات فنزاعه معهم نزاع لفظي كما انه يوافق على أن الله يخلق الداعي في العبد وعند وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور
وهذا قول أئمة أهل الإثبات وحذاقهم الذين يقولون : إن الله خالق أفعال العباد وهو أيضا يقول : إنه سبحانه مع علمه بما سيكون فإنه إذا كان يعلمه كائنا فعالميته متجددة
وابن عقيل يوافق على ذلك وكذلك الرازي وغيره وهذا موافق لقول من يقول بقيام الحوادث به
وبعض حذاق المعتزلة نصر القول بعلو الله ومباينته لخلقه بالأدلة العقلية وأظنه من أصحاب أبي الحسين
وقد حكى ابن رشد ذلك عن أئمة الفلاسفة أبو البركات وغيره من الفلاسفة يختارون قيام الحوادث به كإرادات وعلوم متعاقبة وقد ذكروا ذلك وما هو أبلغ منه عن متقدمي الفلاسفة كما ذكرت أقوالهم في غير هذا الموضع وتقدم بعضها
والمقصود هنا أن جميع ما احتج به النفاة قدح فيه بعض النفاة قدحا يبين بطلانه كما بين غير واحد فساد طرق الفلاسفة
كلام الغزالي في تهافت الفلاسفة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول
ليس بجسمقال أبو حامد مسالة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم فنقول هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث وكل حادث فيفتقر إلى محدث فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما لا أول لوجوده مع أنه لا يخلو عن الحوادث فلم يمتنع أن يكون الأول جسما إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره فإن قيل لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين بالكمية وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام وواجب الوجود واحد لا يقيل القسمة بهذه الوجوه
قلنا وقد أبطلنا هذا عليكم وبينا أنه لا دليل لكم عليه سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجود له لم يبعد تقدير مركب له وتقدير موجودات لا موجد لها إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب ونفي التركيب على نفي الماهية سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه
فإن قيل الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلا وإن كان له نفس فنفسه علة له فلا يكون الجسم أولا
قلنا أنفسنا ليست علة لوجود أجسامنا ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمه عندكم بل هما يوجدان بعلة سواهما فإذا جاز وجودهما قديما جاز أن لا يكون لهما علة
فإن قيل كيف اتفق اجتماع النفس والجسم ؟
قلنا هو كقول القائل كيف اتفق وجود الأول فيقال هذا سؤال عن حادث فأما ما لم يزل موجودا فلا يقال كيف اتفق فكذلك الجسم ونفسه إذا لم يزل كل واحد منهما موجودا لم يبعد أن يكون صانعا
فإن قيل لأن الجسم من حيث إنه جسم لا يخلق غيره والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ولا في إبداع النفوس والأشياء لا تناسب الأجسام
قلنا ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لن توجد الأجسام وغير الأجسام منها فاستحالة ذلك لا تعرف ضرورة ولا برهان يدل عليه إلا أنه لم يشاهد من هذه الأجسام المشاهدة وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة فقد أضافوا إلى الموجود الأول مالا يضاف إلى موجود أصلا ولم يشاهد من غيره وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه فكذا في نفس الجسم والجسم
فإن قيل الفلك الأقصى أو الشمس أو ما قدر من الأجسام فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص فلا يكون أولا
قلنا بم تنكرون على من يقول إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ولو كان أصغر منه أو اكبر لم يجز كما أنكم قلتم إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه متقدرا بمقدار وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ولكن يعين بعض المقادير ليكون النظام متعلقا به فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه فكذلك إذا قدر غير معلول بل لو أثبتوا في المعلول الأول الذي هو علة الجرم الأقصى عندهم مبدأ للتخصيص مثل إرادة مثلا لم ينقطع السؤال إذ يقال ولم أراد هذا المقدار دون غيره كما ألزموه على المسلمين في إضافتهم الأشياء إلى الإرادة القديمة وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء وفي تعيين نقطتي القطبين فإذا ظهر انهم مضطرون إلى تجويز تمييز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة إذ لا فرق بين إن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال لم اختص بهذا القدر وبين أن يتوجه في العلة فيقال ولم خصص هذا القدر عن مثله فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بان هذا المقدار ليس مثل غيره إذ النظام مرتبط به دون غيره أمكن دفع السؤال عن نفس الشيء ولم يفتقر إلى علة وهذا لا مخرج عنه فإن هذا المقدار المعين الواقع إن كان مثل الذي لم يقع فالسؤال متوجه أنه كيف ميز الشيء عن مثله خصوصا على أصلهم وهم ينكرن الإرادة المميزة وغن لم تكن مثلا له فلا يثبت الجواز بل يقال وقع كذلك قديما كما وقعت العلة القديمة بزعمهم
قال وليستمد الناظر في هذا الكتاب مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم أصلا
تعليق ابن تيمية
فهذا أبو حامد هو وغيره يبينون فساد ما ذكروه من نفي كون الأول جسما ويقولون لا طريق إلى ذلك إلا الاستدلال على حدوث الجسم وقد سبقهم الأشعري إلى بيان فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الجسموالرازي وأتباعه يبينون حدوث الجسم في كتبه الكلامية كالأربعين ونهاية العقول والمحصل وغير ذلك ثم يبينون فساد كل ما يحتج به على حدوث الأجسام في مواضع أخر مثل المباحث المشرقية وكذلك في المطالب العالية التي هي آخر كتبه بين فساد حجج من يقول بحدوثها وانه فعل بعد ان لم يكن فاعلا ويذكر حججا كثيرة على دوام الفاعلية ويورد عليها مع ذلك ما يدل على فسادها ويعترف بالحيرة في هذه المواضع العظيمة مسائل الصفات وحدوث العالم ونحو ذلك
وسبب ذلك أنهم يقولون أقوالا تستلزم الجمع بين النقيضين تارة ورفع النقيضين تارة بل نستلزم كليهما والأصل العظيم الذي هو من أعظم أصول العلم والدين يذكرون فيه إلا أقوالا ضعيفة
والقول الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه كما في مسألة حدوث العالم فإنهم لا يذكرون إلا قولين قول من يقول بقدم الأفلاك وإن كانت صادرة عن علة توجبها فالمعلول مقارن ازلا وقول من يقول بل تراخى المفعول عن المؤثر التام وأنه يمتنع انه لم يزل متكلما إذا شاء ويفعل ما يشاء
والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه وهو القول بأن الأثر يتعقب التأثير التام فهو سبحانه إذا كون شيئا كان عقب تكوينه له كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس : 82 وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والعتاق عقب التطليق والاعتاق والانكسار والانقطاع عقب الكسر والقطع فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ويذكرون في كونه موجبا بذاته وفاعلا بمشيئته وقدرته قولين فاسدين أحدهما قول من يقول المتفلسفة وان معلوله يجب ان يكون مقارنا له في الزمان أزلا وأبدا
وهذا القول من أفسد أقوال بني آدم فإنه يستلزم ان لا يحدث في العالم حادث فإنه إذا كانت علة تامة ازلية ومعلولها معها والعالم كله معلوله إما بواسطة وإما بغير واسط لزم ان لا يكون في العالم شيء إلا أزليا فلا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة
ثم إنهم لما أثبتوا الواجب بالممكن إنما استدلوا على الممكن بالحادث الذي يفتقر إلى محدث فإن لم يكن في العالم حادث بطل الإمكان الذي به أثبتوا الواجب ولزم إما أن لا يكون في العالم واجب الوجود ولا ممكن الوجود وهو إخلاء للوجود عن النقيضين وإما أن يكون جميعه واجب الوجود فيكون الحادث الذي كان بعد أن لم يكن واجب الوجود
وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له وغن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد وهو تسلسل في العلل وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث فهذا فيه نزاع مشهور
والناس فيه على أربعة أقوال قيل يمتنع في الماضي والمستقبل كقول جهم وابي الهذيل ولهذا قال الجهم بفناء الجنة والنار وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما
وقيل : يمتنع في الماضي دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف أهل الكلام كأكثر المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم
وقيل : يجوز فيهما فيما هو مفتقر إلى غيره كالفلك سواء قيل : إنه محتاج إلى مبدع كقول أبن سينا وأتباعه أو قيل : إنه محتاج إلى ما يتشبه به كقول أرسطو وأتباعه
وقيل : يجوز فيهما لكن لا يجوز ذلك فيما سوى الرب فإنه مخلوق مفعول وحوادثه القائمة به لا تحصل إلا من غيره فهو محتاج في نفسه وحوادثه إلى غيره والمحتاج لا يكون إلا مربوبا والمربوب لا يكون إلا مخلوقا محدثا والمحدث لا يقوم به حوادث لا أول لها فغن ما لم يسبق الحادث المعين والحوادث المحدودة فهو محدث مثلها باتفاق العقلاء إذ لو كان لم يسبقها فإما أن يكون معها أو بعدها وعلى التقديرين فهو حادث بخلاف الرب القديم الأزلي الواجب بنفسه فإنه إذا كان لم يزل متكلما إذا شاء فعالا لما يشاء كان ذلك من كماله وكان هذا كما قاله أئمة السنة والحديث
والثاني : قول من يقول : انه فاعل مختار لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح إما بمجرد كونه قادرا أو لمجرد كونه قادرا عالما أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح ويقولون : إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر التام
وهذا وإن كان خيرا من الذي قبله ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام ففساده أيضا بين فإنه إذا قيل : إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول كان حاله بعد حصول الأثر وقبله حالا واحدة متشابهة ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح مرجح وحدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا معلوم الفساد بصريح العقل
والقول الثالث : قول أئمة السنة : إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته وما لم يشأه امتنع لعدم مشيئته له فهو موجب بمشيئته وقدرته لا بذات خالية عن الصفات وهو موجب له إذا شاءه لا موجب له في الأزل كما قال { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس 82 : وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته لا مناف لذلك بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء وهو موجب له بمشيئته وقدرته والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الوجه العشرون
متابعة الملاحدة للنفاة في إنكار النصوص وتأويلها
أن نقول : ما سلكه هؤلاء نفاة الصفات من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هو بعينه الذي احتج به الملاحدة الدهرية عليهم في إنكار ما أخبر اله به عباده من أمور اليوم الآخر حتى جعلوا ما أخبرت به الرسل عن الله وعن اليوم الآخر لا يستفاد منه علم ثم نقلوا ذلك إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج فجعلوها للعامة دون الخاصة فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل كما قال تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } البقرة 62فأفضى الأمر بمن سلك سبيل هؤلاء إلى الإلحاد في الإيمان بالله واليوم والآخر والعمل الصالح وسرى ذلك في كثير من الخائضين في الحقائق من أهل النظر والتأله من أهل الكلام والتصوف حتى آل الأمر بملاحدة المتصوفة كابن عربي صاحب فصوص الحكم وأمثاله إلى أن جعلوا الوجود واحدا وجعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وهذا تعطيل للخالق
وحقيقة قولهم فيه مضاهاة لقول الدهرية الطبيعية الذين لا يقرون بواجب أبدع الممكن وهو قول فرعون ولهذا كانوا معظمين لفرعون ثم إنهم جعلوا أهل النار يتنعمون فيها كما يتنعم أهل الجنة في الجنة فكفروا بحقيقة اليوم الآخر ثم ادعوا أن الولاية أفضل من النبوة وأن خاتم الأولياء وهو شيء لا حقيقة له زعموا أنه أفضل من خاتم الأنبياء بل ومن جميع الأنبياء وأنهم كلهم يستفيدون من مشكاته العلم بالله الذي حقيقته عندهم أن وجود المخلوق هو وجود الخالق
وكان قولهم كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فإن المتأخر يستفيد من المتقدم دون العكس والأنبياء أفضل من غيرهم فخالفوا الحس والعقل مع كفرهم بالشرع وآخر تحقيقهم استحلال المحرمات وترك الواجبات كما كان يفعل أبرع محققيهم : التلمساني وأمثاله
هذا وشيوخ التصوف المشهورون من أبرأ الناس من هذا المذهب وأبعدهم عنه وأعظمهم نكيرا عليه وعلى أهله وللشيوخ المشهورين بالخير كالفضل بن عياض وأبي سليمان الداراني والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمر بن عثمان المكي وأبي عثمان النيسابوري وأبي عبد الله بن خفيف الشيرازي ويحيى بن معاذ الرازي وأمثالهم من الكلام في إثبات الصفات والذم للجهمية والحلولية مالا يتسع هذا الموضع لعشره
بل قد قيل للشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل ؟ فقال : لا كان ولا يكون والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع وإلا فهو كتاب الله وسنة ورسوله حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف : معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه كما قال بعض أكابر الشيوخ الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة والظهور لأحمد ابن حنبل
وذلك لأنه كان بعد القرون الثلاثة لما ظهرت بدعة الجهمية ومحنتهم المشهورة وأرادوا إظهار مذهب النفاة وتعطيل حقائق الأسماء والصفات ولبسوا على من لبسوا عليه من الخلفاء ثبت الله الإسلام والسنة بأحمد بن حنبل وغيره من أئمة الدين فظهرت بهم السنة وطفئت بهم نار المحنة فصاروا علما لأهل الإسلام وأئمة لمن بعده من علماء المسلمين : أهل السنة والجماعة وصار كل منتسب إلى السنة لا بد أن يواليه وإياهم ويوافقهم في جمل الاعتقاد إذ كان ذلك اعتقاد أهل الهدى والرشاد المعتصمين بالكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان
وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت ولهذا كان جمل الاعتقاد الذي يذكره أهل المقالات عن أهل السنة والجماعة هو قول أحمد وأمثاله من أئمة السنة
كلام الأشعري في الإبانة عن متابعته للإمام أحمد
ولهذا قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة فإن قال قائل : قد أنكرتم قول الجهمية والقدرية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين : التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا وبما روي عن الصحابة والتابعين وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد أحمد بن حنبل قائلون ولما خالف قوله مجانبون فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام معظم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمينوالمقصود هنا ان صفوة أولياء الله تعالى الذين لهم في الأمة لسان صدق من سلف الأمة وخلفها هو على مذهب أهل السنة والجماعة أهل الإثبات للأسماء والصفات وهم من أبعد الناس عن مذهب أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد وإن كان كثير من متأخري الصوفية دخلوا في مذهب الإباحة والحلولية وخلطوا التصرف بالفلسفة اليونانية كما خلطه بعضهم بشيء من أقوال أهل الكلام الجهمية
ومبدأ هذا من أقوال الذين يعارضون النصوص بآرائهم كما ذكر الشهرستاني في أول كتابه في الملل والنحل أن مبدأ انواع كل الضلالات هو من تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على الشرع فسرى في المنتسبين إلى لا علم والدين من أهل الفقه والكلام والتصوف من أقوال الملاحدة بسبب هذا الأصل مالا يعلمه إلا الله وأما ملاحدة الشيعة من القرامطة الباطنية والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم فأولئك أمرهم أظهر من أن يخفى على من عرف حالهم ممن فيه نوع إيمان بالله ورسوله ولهذا كثر الكاشفون لأسرارهم الهاتكون لأستارهم من جميع أصناف أهل القبلة حتى الشيعة والمعتزلة ونحوهم فإنهم متفقون على تكفيرهم كما اتفق على تكفيرهم أئمة السنة ومن انتسب إليهم من متكلمة الإثبات وغيرهم
وصنف القاضي أبو بكر كتابه المشهور فيهم ووصف فضائحهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو يعلي وأبو الوفا بن عقيل وأبو حامد الغزالي والشهرستاني والخبوشاني وغير واحد من العلماء وتكلموا في العبيديين الذين كانوا بالمغرب ومصر الذين ادعوا النسب العلوي وأضمروا مذهبهم تكلموا فيهم بما بينوا فيه بطلان نسبهم كما عرفوا بطلان مذهبهم وأن باطن مذهبهم أعظم كفرا من أقوال كفار أهل الكتاب ومن أقوال الغالية الذين يدعون نبوة علي أو إلهيته ونحوهم إذ كان مضمون مذهبهم : تعطيل الخالق وتكذيب رسله والتكذيب باليوم الآخر وإبطال دينه
وقد ذكروا منتهى دعوتهم في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي لهم وأن أقرب الطوائف إليهم الفلاسفة مع أنهم خالفوا الفلاسفة في إثبات واجب الوجود فإن الفلاسفة الإلهيين يثبتونه وهؤلاء أصحاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم أنكروه كما فعلت الدهرية الطبيعية
وقول الاتحادية كصاحب الفصوص وأمثاله يؤول إلى قول هؤلاء وهو القول الذي أزهره فرعون وأما المشاؤون أرسطو وأتباعه ومن اتبعهم من المتأخرين : كالفارابي وابن سينا وأمثالهم فهم يقرون بالعلة الأولى المغايرة لوجود الأفلاك لكن دليلهم الذي احتجوا به على الطبيعيين منهم هو دليل الحركة الذي احتج به أرسطو وقدماؤهم أو دليل الوجود الذي احتج به أبن سينا ومتأخروهم وهو منهم دليل ضعيف إذ مبناه على حجة التركيب وهي حجة ضعيفة كما قد بين في غير هذا الموضع
وكان أهل بيت ابن سينا من أتباع هؤلاء القرامطة من المستجيبين للحاكم الذي كان بمصر قال ابن سينا : وبسبب ذلك دخلت في الفلسفة
كما كان أصحاب رسائل إخوان الصفا من الموافقين لهم وصنف الرسائل على طريقتهم في الزمان الذي بنيت فيه القاهرة في أثناء المائة الرابعة وكان أمر المسلمين قد اضطرب ف يتلك المدة اضطرابا عظيما
كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة يحتجون على النفاة بما وافقوهم عليه من نفي الصفات والإعراض عن دلالة الآيات كما ذكر ذلك أبن سينا في الرسالة الأضحوية التي صنفها في المعاد لبعض الرؤساء الذين طلب تقربه إليهم ليعطوه مطلوبة منهم من الجاه والمال وصرح بذلك في أول هذه الرسالة قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن وان الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال : وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد : وهو أن الشرع والملة الآتية على نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد : من الإقرار بالصانع : موحدا مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع ولا داخلة فيه ولا حيث تصح الإشارة إليه أنه هنا أو هناك : ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور ولو ألقي هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف لتسارعوا إلى العناد واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم أصلا ولهذا ورد ما في التوراة تشبيها كله ثم إنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء ولا إلى صريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل بل إلى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى ولكن لقوم أن لا يقبلوه فإذا كان الأمر في التوحيد هذا فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية ؟ ولبعض الناس أن يقولون : إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا وان الألفاظ التشبيهية مثل : اليد والوجه والإتيان في ظلل من الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحة ولكن نحو الاستعمال وجهة العبارة يدل على استعمالها مستعارة مجازاقال ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة بل محققة أن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارة والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس وأما قوله { في ظلل من الغمام } البقرة 210 وقوله { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام 158 على القسمة المذكورة وما جرى مجراه فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا وأما قوله { يد الله فوق أيديهم } الفتح 10 وقوله { ما فرطت في جنب الله } الزمر 56 فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا يقع شبهة في أنها مستعارة مجازية كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مرادا فيها شيء غير الظاهر ثم ذهب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد ؟ والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة ؟
وقد قال في ضمن كلامه إن الشريعة الجائية على لسان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم جاءت أفضل ما يمكن أن تجئ عليه الشرائع وأكمله ولهذا صلح أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل
قال : وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد : مثل أنه عالم بالذات أو عالم بعلم قادر بالذات أو قادر بقدرة واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه متحيز الذات أو منزهها عن الجهات ؟ فإنه لا يخلو : إما أن تكون هذه المعاني واجبا والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل التصريح المستقصي فيه والمنبه عليه : والموفي حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف على معانيه فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه ولعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير مهمل فيه ثم سامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى تستعد للوقوف عليها لكلفه شططا وأن يفعل ما ليس في قوة البشر اللهم إلا أن تدركهم خاصة إلهية وقوة علوية وإلهام سماوي فتكون حينئذ وساطة الرسول مستغى عنها وتبليغه غير محتاد إليه ثم هبك الكتاب العزيز جائيا على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف ؟ وليس لقائل أن يقول : إن ذلك الكتاب محرف كله وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم وبلادهم متنائية وأوهامهم متباينة منهم يهود ونصارى وهم أمتان متعاديتان ؟ فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقربا مالا يفهمون إلى أوهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة
قال فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب يعني أمر المعاد واو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة بعيدة عن إدراك بدائة الأذهان لحقيقتها لم يكن سبيل الشرائع في الدعوة إليها والتحذير عنها منبها بالدلالة عليها بل بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الإفهام فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب
قلت فهذا كلام ابن سينا وهو ونحوه كلام أمثاله من القرامطة الباطنية مثل صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله من الملاحدة والكلام على هذا من فنين :
أحدهما : بيان لزوم ما ألزمه لنفاة الصفاة الذين سموا نفيها توحيدا من الجهمية المعتزلة وغيرهم
والثاني بيان بطلان كلامه وكلامهم الذي وافقوهم عليه
أما الأول فإن هؤلاء وافقوه على نفي الصفات وأن التوحيد الحق هو توحيد الجهمية المتضمن أن الله لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا رحمة ولا يرى في الآخرة ولا هو فوق العالم فليس فوق العرش إله ولا على السماوات رب ومحمد لم يعرج به إلى ربه والقرآن أحسن أحواله عندهم أن يكون مخلوقا خلقه في غيره أن لم يكن فيضا فاض على نفس الرسول وأنه سبحانه لا ترفع اليدي إليه بالدعاء ولم يعرج شيء إليه ولم ينزل شيء منه : لاملك ولا غيره ولا يقرب أحد إليه ولا يدنو منه شيء ولا يتقرب هو من أحد ولا يتجلى لشيء وليس بينه وبين خلقه حجاب وأنه لا يحب ولا يبغض ولا يرض ولا يغضب وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا مباينا للعالم ولا حالا فيه وإنه لا يختص شيء من المخلوقات بكونه عنده بل كل الخلق عنده بخلاف قوله تعالى { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } الأنبياء 19 وأنه إذا سمي حيا عالما قادرا سميعا بصيرا فهو حي بلا حياة عالم بلا علم قادر بلا قدرة سميع بلا سمع بصير بلا بصر إلى أمثال هذه الأمور التي يسمي نفيها الجهمية توحيدا ويلقبون أنفسهم بأهل التوحيد كما يلقب الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنفسهم بذلك وكما لقب ابن التومرت أصحابه بذلك إذ كان قوله في التوحيد قول نفاة الصفات جهم وابن سينا وأمثالهما
ويقال إنه تلقى ذلك عن من يوجد في كلامه موافقة الفلاسفة تارة ومخالفتهم أخرى ولهذا رأيت لابن التومرت كتابا ف بالتوحيد صرح فيه بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من إثبات الصفات ولا أثبت الرؤية ولا قال إن القرآن كلام الله غير مخلوق ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها في عقائدهم المختصرة ولهذا كان حقيقة قوله موافقا لحقيقة قول ابن سبعين وأمثاله من القائلين بالوجود المطلق موافقة لابن سينا وأمثاله من أهل الإلحاد كما يقال إن أن التومرت ذكره في فوائده المشرقية إن الوجود مشترك بين الخالق والمخلوق فوجود الخالق يكون مجردا ووجود المخلوق يكون مقيدا
والمقصود أن هؤلاء لما سموا هذا النفي توحيداصوهي تسمية ابتدعها الجهمية النفاة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا أحد من السلف والأئمة بل أهل الإثبات قد بينوا أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وعبادة الله وحده لا شريك له كما ذكر الله ذلك في سورتي الإخلاص وعامة آيات القرآن فلما وافقه هؤلاء الجهمية من المعتزلة وغيرهم على نفي الصفات وأن هذا هو التوحيد الحق احتج عليهم بهذه المقدمة الدلية على أن الرسل لم يبينوا ما هو الحق في نفسه من معرفة توحيد الله تعالى ومعرفة اليوم الآخر ولم يذكروا ما هو الذي يصلح أو يجب على خاصة بني آدم وأولو الألباب منهم أن يفهموه ويعقلوه ويعلموه من هذا الباب وأن الكتاب والسنة والإجماع لا يحتج بها في باب الإيمان بالله واليوم الآخر لا في الخلق ولا البعث لا المبدأ ولا المعاد وأن الكتب الإلهية غنما أفادت تخييلا تنفع به العامة لا تحقيقا يفيد العلم والمعرفة وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها وهو العلم بالله لم تبينه الرسل أصلا ولم تنطق به ولم تهد إليه الخلق بل ما بينت لا معرفة الله ولا معرفة المعاد لا ما هو الحق في الإيمان بالله ولا ما هو الحق في الإيمان باليوم الآخر بل ليس عندهم في كلام الله ورسوله من هذا الباب علم ينتفع به أولو الألباب وإنما فيه تخييل وإبهام ينتفع به جهال العوام ولما كان هذا حقيقة قول الملاحدة القرامطة الباطنية صاروا يجعلون أحد رؤوسهم مثل الرسول أو أعظم من الرسول ويسوغون له نسخ شريعة محمد صلى الله عليه و سلم كما زعموا أن محمد ابن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعته
وصار كل من هؤلاء يدعي النبوة والرسالة أو يريد أن يفصح بذلك لولا السيف كما فعل السهروردي المقتول فإنه كان يقول لا أموت حتى يقال لي : قم فأنذر وكان ابن سبعين يقول : لقد زرب أبن آمنة حيث قال : لا نبي بعدي ويقال إنه كان يتحرى غار حراء لينزل عليه فيه الوحي
وابن عربي ادعى ما هو أعظم من النبوة عنده وهو ختم الولاية وخاتم الأولياء عنده أفضل من خاتم الأنبياء في العلم بالله وهو يقول إن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون من مشكاة هذا الخاتم المدعي بمعرفة الله التي حقيقتها وحدة الوجود وهي تعطيل الصانع سبحانه التي هي سر قول فرعون
وأما أئمة القرامطة والإسماعلية كابن الصباح الذين تلقوا أركان الدعوة عن المستنصر أطول خلفائهم مدة وفي زمنه كانت فتنة البساسيري وأمثاله وأما سنان وأمثاله من الملاحدة فتظاهروا بإظهار الكفر بين أصحابهم وقالوا قد أبحنا لكم كل ما تشتهونه من فرج وشراب عنكم ونسخنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة
وهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الملاحدة على نفاة الصفات لإثبات إلحادهم هي من حجج أهل الإثبات عليهم لإثبات إيمانهم فإن الله سبحانه أخبر أنه { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } التوبة : 33 وقال تعالى { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } إبراهيم : 1
وقال تعالى { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } المائدة : 15 - 16 وقال تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } الشورى : 52 - 53 وقال تعالى { الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } البقرة : 1 - 2 وقال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } النحل : 89 وقال تعالى { ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء } يوسف : 111 وقال تعالى { قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } النساء : 174 وقال تعالى { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } الأعراف : 157 وقال تعالى { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } العنكبوت : 18 وقال تعالى { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } النحل : 44 وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } المائدة : 3 وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } التوبة : 115
وأمثال هذه النصوص التي تبين أن الرسول هدى الخلق وبين لهم وانه أخرجهم من الظلمات إلى النور لا أنه لبس عليهم وخيل وكتم الحق فلم يبينه ولم يهد إليه لا للخاصة ولا للعامة فإنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان اعظم موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره للزم إما أن يكون جاهلا به أو كاتما له عن الخاصة والعامة ومظهرا خلافه للخاصة والعامة
وكل من كان عارفا بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة عن علي انه كان عنده علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة التي لا يتنازع أهل المعرفة في صحتها عن علي رضي الله عنه أنه لما قيل له هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسر إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله لعبد في كتابه وما في هذه الصحيفة وفيها عقول الديات وفكاك الأسير أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ في الصحيح هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا لم يعهده إلى الناس ؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة الحديث
وقد اجمع أهل المعرفة بالمنقول على أن ما يروى عن علي وعن جعفر الصادق من هذه الأمور التي يدعيها الباطنية كذب مختلق ولهذا كانت ملاحدة الشيعة والصوفية يسبون إلحادهم إلى علي وهو بريء من ذلك فأهل البطاقة من أهل الإلحاد ينسبون ذلك إلى علي وكذلك باطنية الشيعة من الإسماعلية والنصيرية وكذلك جعفر الصادق نسبوا إليه من الكلام في المجوم واختلاج الأعضاء والتفاسير المحرفة وأنواع الباطل ما برأه الله منه حتى رسائل إخوان الصفا زعم بعض رؤوسهم أنها كلامه وهذه إنما فيها من حوادث الإسلام التي حدثت بعد المائة الثالثة مثل دخول النصارى بلاد الإسلام ونحو ذلك ما يبين إنها صنفت بعد جعفر بنحو مائتي سنة
ومن هذا الباب ما ينقله آخرون عن عمر رضي الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر يتحدثان كالزنجي بينهم فهذا وأمثاله من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة
وملاحدة الزهاد والعباد وجهالهم يرون من هذه الأمور فنونا مثل روايتهم أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار النبي صلى الله عليه و سلم لما لم يكن النصر معه ليحتجوا بذلك على أن العارف يكون مع من غلب وإن كان كافرا ويروون أن أهل الصفة عرفهم الله تعالى بالسر الذي اوحاه إلى نبيه صلى الله عليه و سلم صبيحة المعراج الأباطيل لم يكونوا خبيرين بالكذب فإن الصفة إنما كانت بالمدينة والمعراج كان بمكة بالنص والإجماع وقد علم كل عالم يعلم سيرة النبي صلى الله عليه و سلم بالاضطرار أن أهل الصفة كانوا كسائر المؤمنين مع النبي صلى الله عليه و سلم وانه لم يكن لأحد من الصحابة إلى الله طريق إلا متابعة رسوله وان أفضل الصحابة كان أقومهم بالمتابعة كأبي بكر وعمر وأبو بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما وهو أفضل الصديقين
وقد ثبت في الصحيحين انه قال إنه قد كان في الأمم قبلك محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
فعمر وإن كان محدثا فالصديق الذي يأخذ من مشكاة النبوة أفضل منه واكمل منه لأن ما استقر مجيء الرسول به فهو معصوم لا يتطرق إليه الخطأ وما يلقي إلى المحدث يقع فيه خطأ يحتاج إلى تقويمه بنور النبوة ولهذا كان أبو بكر يقوم عمر يرى أشياء ثم يتبين له الحق بخلافها كما جرى له هذا في عدة مواطن
وهذا وأمثاله مما يبين حاجة أفضل الخلق بعد الرسول واكملهم إلى الاهتداء بالرسول والتعلم منه ومعرفة الحق مما جاء به فكيف بمن يقول ليس في كلامه في معرفة الله واليوم الآخر علم ولا هدى ولا معرفة ينتفع بها أولو اللباب الذين هم دون عمر وأمثال عمر ؟
وقد قال الله تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } النساء : 59
وكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولو الألباب ؟
كما زعم هؤلاء الملاحدة من الفلاسفة المشائين المتأخرين وأتباعهم أن الشرائع لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب فما لا يحتج به كيف يحتج به الناس فيما اختلفوا فيه ؟
وأي اختلاف أعظم من اختلافهم في اعظم الأمور وهي معرفة الله تعالى واليوم الآخر لا سيما ومن المعلوم أن الخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخيرية التي لا تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ فتلك تتنوع في الشريعة الواحدة فكيف بالشرائع المتنوعة ؟
وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه له حقيقة فإنه إن كانا مشروعين في وقتين أو رسولين فكلاهما حق وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الكتاب المنزل والكتاب المنزل هو نفس الأمر والنهي والخبر وفيه الشرع الذي لا يكون خلافه شرعا
وحينئذ فما ذكره ابن سينا وأمثاله من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيء فكلام صحيح وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال
وكذلك ما ذكره من أن من المواضع ما لا يحتمل اللفظ فيها إلا معنى واحدا لا يحتمل ما يدعونه من الاستعارة والمجاز كما ذكر في قوله تعالى { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } البقرة : 21 وقال تعالى { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك } الأنعام : 158 على القسمة المذكورة وانه ليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية فإن كان أريد بها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والشبهة فهذا حجة على من نفى مضمون ذلك من نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا وموافقتهم له لا تنفعه فغن ذلك حجة جدلية لا علمية إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له فإذا بين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا
وكذلك قوله ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان الحكماء قاطبة ؟ كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا فإنه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد يبين أصلا وهذا التوحيد لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم
وقد بينا في غير موضع توحيد ابن سينا وأمثاله وبينا أنه من أفسد الأقوال التي بصريح العقل فساده ولنا في ذلك مفرد مكتوب في غير هذا الموضع
وأما قوله وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل انه عالم بالذات أو عالم بعلم أو قادر بالذات أو قادر بقدرة إلى آخره
فهو خطاب لمن وافقه على ضلاله وإلحاده حيث ظن أن التعطيل هو التوحيد وان الباري تعالى لا علم له ولا قدرة ولا صفات
فأما من لم يوافقه على خطئه فإنه يعلم أن الكتاب بين دقائق التوحيد الحق الذي جاءت به السل ونزلت به الكتب على احسن وجه
فإن الله تعالى أخبر عن صفاته وأسمائه بما لا يكاد يعد من آياته وذكر علمه في غير موضع
كقوله تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } البقرة : 255
وقوله تعالى { أنزله بعلمه } النساء : 166
وقوله تعالى { وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } فصلت : 47 وغير ذلك
وقد قال تعالى { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } الذاريات : 58
وقال تعالى { والسماء بنيناها بأيد } الذاريات : 47 أي بقوة وقال تعالى : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } فصلت : 15
وفي الحديث الصحيح حديث الاستخارة اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك فأي بيان لعلم الله وقدرته أبين من هذا ؟
وأما قول القائل هنا هو عالم بالذات أو عالم بعلم فغن كان يظن أن الذات التي تكون إلا عالمة قادرة يمكن وجودها مجردة عن العلم والقدرة كما يقوله النفاة فهو كلام ضال متناقض فغن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة وحي بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر مما يعلم فساده بالضرورة عقلا وسمعا
وهذا بمنزلة متكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومتحرك بلا حركة ومحب بلا محبة ومصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وحاج بلا حج وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وحلو بلا حلاوة ومر بلا مرارة وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الألفاظ المشتقة : كاسم الفاعل واسم الفعول والصفة المعدولة عنهما
فإن لم يكن هذا باطلا في بدائه العقول عقلا وسمعا لم يكن لنا طريق إلى معرفة الحق من الباطل ولهذا كان هؤلاء النفاة يعودون في آخر الأمر إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات
وغن كان معنى قوله هل هو عالم بالذات أو بعلم ان هنا ذاتا مجردة موجودة بدون العلم وان العلم زائد عليها ن فهذا تصور فاسد فإن الذات المجردة عن العلم اللازم لها غنما تقدر في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان
ولفظ الذات يراد به الذات الموصوفة بالعلم وحينئذ فقولنا هل هو عالم بالذات أو بالعلم كلام واحد لأن لفظ الذات متضمن للعلم على هذا التفسير فلا يكون قولنا أو بالعلم قسما آخر
ويراد بالذات المجردة عن العلم فهذه لا حقيقة لها إذا كانت الذات لاتكون إلا عالمة كما أن ما لا يكون إلا حيا لا يمكن وجوده منفكا عن كونه حيا وما لا يكون إلا متحيزا لا يمكن وجوده منفكا عن التحيز فما لا يمكن وجوده إلا عالما وقادرا ويمتنع وجوده غير عالم قادر كيف يكون تقديره غير عالم ولا قادر ممكنا في الخارج ؟
ونفس العلم والقدرة هو نفس كونه عالما قادرا على قول الجمهور الذين ينفون أن تكون الأحوال زائدة في الخارج على الصفات ومن أثبت الأحوال زائدة على الصفات كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وأبي المعالى في أول قوليه فهؤلاء يقولون ثبوت الصفات يستلزم ثبوت الأحوال وإثبات الملزوم مع أن الصواب أن الأحوال كالكليات لها وجود في الأذهان في الأعيان
ومما يبين ذلك أن النزاع في كون الرب تعالى عالما لذاته أو بالعلم أو قادرا لذاته أو بالقدرة كثير منه نزاع لفظي بل عامة المتنازعين فيه إذا حرر عليهم الكلام لم يتلخص بينهم نزاع وإنما يحصل النزاع بين مثبتة الأحوال ونفاتها فإن أهل الإثبات متفقون على أن علمه وقدرته من لوازم ذاته وانه لا يمكن وجوده غير عالم ولا قادر وينكرون وجود ذات مجردة عن العلم والقدرة وإذا قالوا هي زائدة على الذات فلا يعنون أنها زائدة على ذات مجردة عن العلم والقدرة إلا من يقول منهم إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما فهؤلاء مثبتوا الحال وأكثر الصفاتية هم من نفاة الأحوال
وأما النفاة فيسلمون ثبوت الأحكام وهي انه عالم قادر وينازعون في ثبوت الصفات ويتنازعون بينهم في ثبوت الأحوال ثم الأحكام التي يثبتونها لا يجوز أن يراد بها مجرد حكمنا بأنه عالم قادر واعتقادنا لذلك وخبرنا عنه وهو الوصف بالقول فإن هذا الوصف والحكم إن لم يكن مطابقا لمضمونه كان باطلا فكونه حيا عالما قادرا ليس هو مجرد الحكم بذلك والخبر عنه ووصفه بالقول ولا هو نفس الذات التي هي العالمة القادرة فإن كون الذات حية عالمة قادرة ليس هو نفس الذات فتعين أن يكون هو الصفة
وأئمة المعتزلة يعترفون بذلك لكن يشنعون على الصفاتية بكلام لم يحققوا قولهم فيه بل ذكروا عنهم ما يفهم منه معنى فاسد إما لكونهم لم يفهموا قول أولئك أو لكونهم ألزموهم ما ظنوه لازما لهم أو لنوع من الهوى الموجب للافتراق الذي ذمه الله ورسوله
كلام أبي الحسين البصري في عيون الأدلة
واعتبر ذلك بما ذكره أبو الحسين البصري أفضل متأخري المعتزلة فإنه قال في كتاب عيون الأدلة قال باب القول في أن الله قديم وحده عندنا أنه لا قديم إلا الله وذهب قوم إلى إثبات قديم أكثر من قديم واحد فالكلابية والأشعرية أثبتوا ذواتا قديمة قائمة بذات الباري تعالى منها ذات توجب أن يكون عالما ولولاها لم يكن عالما وذات توجب كونه قادرا ولولاها لم يكن قادرا وذات توجب كونه حيا ولولاها لم يكن حيا وكذلك القول في السمع والبصر والإرادةوأثبتت كلامه قديما وقالوا هذه المعاني لا هي الله ولا غيره ولا بعضه وكل منها ليس هو الآخر ولا غيره ولا بعضه وقالوا لو لم يكن في ذات الباري تعالى وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي وعندنا أن الله تعالى قادر عالم حي لذاته ونعني بذلك أن ذاته متميزة عن سائر الذوات تمييزا يجب معه أن يعلم الأشياء ويقدر على ما لا نهاية له ويحيا ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم وإلى معنى به يحيا ولو لم يكن في الوجود إلا ذات الله تعالى فقط لكان عندنا عالما حيا قادرا سميعا بصيرا
قال فإن قالوا لله علم وقدرة وحياة قيل لهم إن أردتم بذلك أنه قادر عالم حي فنعم لله علم بكل شيء وقدرة على كل شيء مما لا نهاية له بمعنى أنه عالم قادر حي وإن أردتم بالعلم ذاتا كان بها عالما ولولاها ما كان عالما تسمونها علما وأردتم بالقدرة ذاتا بالعلم قادرا تسمونها قدرة وأردتم بالحياة ذاتا بها كان حيا تسمونها حياة فالله تعالى مستغن عن ذلك
قال وذهبت الثنوية إلى إثبات قديمين لا يقوم أحدهما بذات الآخر نور وظلمة ونسبوا الخير كله إلى النور ونسبوا الشر كله إلى الظلمة وقالوا إنهما لم يزالا متباينين ثم امتزجا فحدث من امتزاجهما العالم فكل خير في العالم فمن النور وكل شر فيه فمن الظلمة ولم يقل أحد بإثبات قديمين مثلين حكيمين ونحن نفسد ذلك وغن لم يذهب إليه ذاهب ومن المجوس من يقول بحدوث الشيطان وقدم الله تعالى وأما النصارى فإنها تقول إن الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم وذهبوا بذلك إلى قريب من مذهب الكلابية ونسخة أمانتهم يعني النصارى تدل على انهم أثبتوا ذواتا فاعلة
قال ونحن نفسد هذه المذاهب كلها ليصح ما ذهب إليه شيوخنا من أنه لا قديم إلا الله
تعليق ابن تيمية
فيقال هذا الكلام يقتضي أنه ليس بينه وبين أئمة الكلابية والأشعرية وسائر الصفاتية خلاف معنوي فأما نقله عنهم أنهم أثبتوا أكثر من قديم واحد وانهم أثبتوا ذاتا قديمة قائمة بذات الله تعالى فيقال له أما الكلابية ومن سلك سبيلهم من أهل الحديث والفقه كأبي الحسن التميمي وأبي سليمان الخطابي وغيرهما من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم فإنهم لا يقولون عن الصفات وحدها إنها قديمة فلا يقولون العلم قديم ولكن يقولون الرب بعلمه قديم ومن أطلق منهم على الصفات أنها قديمة فلا يقول إن الذات والصفات قديمان ومن أطلق القدم على الصفات فإنهم لا يطلقون عليها لفظ الذوات فإن الذات إذا أطلقت يفهم منها أنها الذات القائمة بنفسها الموصوفة بالصفات ولهذا يفرق بين الذات والصفاتوأصل الذات تأنيث ذو ومعناه الصاحبة أي صاحبة الصفة فهم لا يسمون الصفات ذوات بهذا الاعتبار وإنما يسمونها معاني
وإذا قال بعضهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما إن العلة ذات من الذوات موجودة لا يصح أن يوجب الحكم إلا لذات موجودة فمرادهم بذلك أنها شيء موجود كما بينوه بقولهم إن العلة لا يجوز أن تكون معدومة ولا حكمها معدوما مع أن هذا ينازعهم فيه نفاة الحال
لكن المقصود أن مرادهم بهذا اللفظ ليس هو أنها ذات قائمة بنفسها بل معنى من المعاني وأما نقلك عنهم أنهم يثبتون ذاتا نوجب أن يكون عالما ولولاها لما كان عالما فهذا أولا ليس هو قول أئمتهم ولا جمهورهم بل هذا قول من يثبت الحال منهم وأما جمهورهم فعندهم العلم هو نفس كونه لا يثبتون هناك ذاتا أوجبت كونه عالما
وأنت قد اعترفت بأن له علما وقدرة وحياة بمعنى انه عالم قادر حي لا بمعنى أن له ذاتا بها كان عالما فقولك موافق لقول جمهورهم ثم مثبتة الحال تقول قام به معنى هو العلم أوجب كونه عالما وأما نقلك عنهم أنهم يقولون لو لم يكن في الوجود إلا ذات الباري وحده لكان غير قادر ولا عالم ولا حي فلبي الأمر على ما يفهم من هذه الشناعة فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت فإنهم متفقون على انه لو لم يكن موجود إلا الله وحده لكان حيا قادرا عالما وإنما نقلت قولهم بلفظ الذات ولفظ الذات مجمل فإن أردت أنهم يقولون لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بهذه الصفات فإنه من المعلوم أنه لو لم يكن إلا الذات الموصوفة بالعلم والقدرة لكانت عالمة قادرة وغن أردت انهم يقولون لو لم يكن إلا الذات المجردة عن الصفات فعندهم أن وجود ذات الرب مجردة عن هذه الصفات ممتنع فهو كما تقول أنت لو قدر انه ليس في الوجود إلا هو مع كونه غير عالم ولا قادر ومعلوم انه إذا قدر هذا التقدير الممتنع لذاته لزمه حكم ممتنع
ويقال له أنت قد قلت إن الله عندكم قادر حي لذاته
قلت ويعني بذلك أن ذاته متميزة من سائر الذوات تميزا يجب معه أن يعلم ويقدر هل نفس أن يعلم ويقدر هو الذات المتميزة أو نفس أن يعلم الذات ويقدر ليس هو نفس الذات ؟
فإن قلت إن نفس الذات هو نفس أن يعلم ويقدر فهذه مكابرة للضرورة فإن العلم ليس هو نفس العالم ولا القدرة نفس القادر وهذا أيضا متفق عليه بين المعتزلة وأهل الإثبات
وأيضا فيكون حقيقة قولك إن الذات متميزة تميزا تجب معه الذات وأنت لو قلت الذات أوجبت الذات لم يصح فكيف إذا كان تميزها هو الموجب لها وإن قلت ليس هذا هو هذا فهذا قول الصفاتية والعلم الذي يثبتونه هو قولك أن تعلم فإن أن والفعل هو بتأويل المصدر فقول القائل علم علما وله علم كقوله هو موصوف بأن يعلم يعلم وإذا قالوا عالم بالعلم لا بذاته لم يرد جمهورهم بذلك أن العلم هو أوجب صفة غير العلم وهو كونه عالما بل نفس علمه هو كونه عالما فيقولون عالم بصفة له هي العلم لا بذات مجردة عن العلم ومعلوم أن ذاته هي الموجبة لكونه عالما فلا ينازعون في انه عالم بالذات بمعنى أن ذاته أوجبت كونه عالما وأنه نفسه مستغن عما يجعله عالما وليس هناك شيء غيره جعله عالما
وأما قولك ولا يحتاج إلى معنى به يقدر وإلى معنى به يعلم فهذا لفظ مجمل فإن هذا إنما يصلح أن يكون حجة على مثبتة الأحوال الذين يقولون هناك معنى هو العلم أوجب كونه عالما فقولك هذا كقول القائل لا يحتاج إلى كونه عالما قادرا ولا يحتاج إلى أن يعلم ويقدر وانتم تسلمون لهم انه لا بد أن يعلم ويقدر وهذا هو عندهم العلم والقدرة فقول القائل بعد هذا يحتاج إلى هذا أو لا يحتاج سؤال لا يرد عليهم ولا على أحد وذلك أن معنى الحاجة إن أريد به أن اتصافه بصفات الكمال لا يستلزم كونه عالما قادرا فهذا باطل وإذا قيل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى صفة فهو كقول القائل إن ذلك يتضمن الحاجة إلى ذاته وهو غني بنفسه عن كل ما سواه ولا يقال هو غني عن نفسه فغن نفسه المقدسة الموصوفة بصفة الكمال المستلزمة لذلك هي الغنية فإذا قيل هو غني عن ذلك كان مثل قول القائل هو غني عن نفسه أو غني عن غناه أو غني عما لا يكون غنيا إلا به وكقوله الحي الذي تجب الحياة له غني عن حياته أو واجب الوجود غني عن وجوده والقديم عن قدمه ونحو ذلك
فإن قال هم يقولون عالم بعلم ولا يقولون موجود بوجود ولا باق ببقاء ولا قديم بقدم
قيل منهم من يقول ذلك ومنهم من لا يقول به ويفرق بأن نفس الذات القديمة الباقية إذا قدرت غير قديمة ولا باقية لم يرجع الخلاف في ذلك إلى معنى ثبتي قام بها فإن البقاء هو الدوام والشيء الباقي إذا قدر أنه لم يتغير فحاله مع البقاء ودونه سواء بخلاف العلم والقدرة فإن الذات العالمة القادرة إذا قدر أنها غير عالمة ولا قادرة علم ذلك اختلاف حالها في نفسها بتقدير عدمه ليس هو مجرد نسبة وإضافة كالبقاء ونحوه
وأيضا فجمعك بين هؤلاء الصفاتية وبين المجوس والنصارى فيه من التحامل مالا يخفى على منصف
وقولك عن النصارى إنهم ربما أومأوا إلى مذهب الكلابية فيقال له لو كان قول النصارى ليس فيه إلا إثبات أن الله حي بحياة عالم بعلم لكان قولهم وقولك وقول الكلابية سواء والنصارى لم يكفرهم الله بهذا وغنما كفرهم الله بما ذكره عنهم في كتابه مما لا يقول به أحد من الصفاتية المسلمين وقول النصارى فيه من التناقض والاضطراب ما يتبين لكل عاقل ساده حيث يثبتون الابن صفة أقنوما ويجعلونه مع ذلك إلها فاعلا ويجعلون مع ذلك الإله واحدا ويقولون إن المتحد بالمسيح هو الابن وهو الكلمة دون الأب فهو مذهب متناقض كتناقض الفلاسفة بل والمعتزلة متناقضون ايضا في نفي الصفات وإثبتها كما تراه وهذا كلام افضل متأخريهم
ثم إنه لم يحتج على الصفاتية إلا بحجتين إحداهما انه لو كان له علم لكان علمه مثل علمنا والمثلان لا يكون أحدهما محدثا والآخر قديما
والثانية أن كونه عالما قادرا واجب والصفة إذا كانت واجبة استغنت بوجوبها عن معنى يوجبها فقد سمى ذلك صفة وهذه الحجة غنما تلزم مثبتة الحال وهم يقولون يعلل الواجب بالواجب وأما الأولى ففسادها ظاهر جدا لا سيما وأبو الحسين لا يسلم لهم أن الواحد منا عالم لمعنى ولهذا عدل عن طريقتي شيوخه المذكورتين في نفي الصفات إلى طريقة ثالثة أضعف منهما فقال إنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني ومالا طريق إليه لا يجوز إثباته فكان مضمون كلامه نفي الشيء انتفاؤه في نفس المر بل النافي عليه الدليل لا ينعكس ولا يلزم متى انتفى الدليل على الشيء انتفاؤه في نفس الأمر بل النافي عليه الدليل على نفي ما نفاه كما على المثبت الدليل على ثبوت ما أثبته ومن ليس عنده دليل على النفي والإثبات فعليه أن لا ينفي ولا يثبت فغاية ما عنده التوقف في نفي ذلك وإثباته يبين ذلك أنه ذكر في حجة أهل الإثبات أن الواحد منا عالم لمعنى لا يكون عالما إلا به فوجب مثل ذلك للباري سبحانه وتعالى
قال والجواب يقال لهم ولم وجب أن يكون حكم الباري سبحانه وتعالى ؟ فما أنكرتم أن يكون الواحد منا عالما لمعنى ويكون الباري عالما لذاته على أن الواحد منا عالم لا لمعنى وغن لم يكن ذلك مذهب أصحاب أبي هاشم وقد فرق أصحاب أبي هاشم بين الواحد منا وبين الباري تعالى في ذلك فقالوا الواحد منا علم مع جواز أن لا يعلم فلم يجز أن يكون عالما إلا لمعنى يرجح به كونه عالما على كونه غير عالم والباري تعالى علم الأشياء ويستحيل أن لا يعلمها فلم يحتج إلى معنى يترجح به كونه عالما على كونه غير عالم
تعليق ابن تيمية
فيقال لأبي الحسين إذ كان مذهبك ومذهب نفاة الأحوال أن الواحد منا عالم لا لمعنى والباري عالم لا لمعنى فقد صحت حجة الصفاتية وتبين أن إثبات الصفة لأحد العالمين دون الآخر باطل وأما ما ذكرته من قول أبي هاشم فهو قول مثبتة الحال وحينئذ فيخاطبه مثبتة الحال من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ومن تبعهما فيقولون كونه علم مع وجوب أن يعلم لا يمنع استلزام ذلك علما به صار عالما بل الحال الواجبة تستلزم علة واجبة والحال الجائزة تستلزم علة جائزة وإنما الفرق بينهما أن الواحد منا علم مع جواز أن لا يكون له علم وان لا يكون عالما والباري علم مع وجوب أن يكون له علم وأن يكون عالما فالفرق بينهما من جهة وجوب الصفة والحال وجواز الصفة والحال أما ثبوت الصفة والحال في أحدهما دون الآخر وهذا كله مما تبين لمن علم وانصف أنه لا يمكن أبا الحسين وأمثاله من المعتزلة أن يذكروا فرقا معقولا بين قولهم وقول أئمة الصفاتية وإذا قدر أنهم يذكرون فرقا فحجتهم على النفي في غاية الفساد والتناقض فهم يتناقضون لا محالة في نفس المذهب أو في حجته ونقلهم عن منازعيهم فيه من التحريف والمجازفة والشناعة بغير حق ما يتبين لمن تأمله مثل تشنيعهم على أهل الإثبات بأنكم تقولون بتعدد القديم والقديم لفظ مجمل يوهمون به بعض الناس أنهم يقولون بتعدد الآلهية لا سيما مع قول اكثر شيوخهم كالجبائي ومن قبله إن أخص وصف الرب هو القدم وإن الاشتراك فيه يوجب التماثل فلو شاركت الصفة الموصوف في القدم لكانت مثله وهذا وإن كان في غاية الفساد فإن خصائص الرب التي لا يوصف بها غيره كثيرة مثل كونه رب العالمين وانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم القائم بنفسه القديم الواجب الوجود المقيم لكل ما سواه ونحو ذلك من الخصائص التي لا تشركه فيها صفة ولا غيرها
فيقال القدم هو من خصائصه هو قدم القائم بنفسه وكذلك وجوبه الذي هو وجوب وجود القائم بنفسه ونحو ذلك
وأما الصفات التي لا تقوم إلا به فإن قيل بقدمها أو وجوبها فلا ريب أنها ليست قائمة بنفسها بل لا تقوم إلا بالموصوف وحقيقة الأمر أن القديم الواجب بنفسه هو الذات المستلزمة لصفات الكمال وأما ذات مجردة عن هذه الصفات أو صفات مجردة عنها فلا وجود لها فضلا عن أن تكون واجبة بنفسها أو قديمة فقولهم مع فساده أوجب أن صار كثير من الناس يحترزون عن إطلاق لفظ القديم على الموصوف والصفة جميعا وإن كانوا يطلقون ذلك على أحدهما عند الانفراد وهذه طريقة ابن كلاب وأكثر أئمة متكلمي الصفاتية وعلى هذا جرى كلام أبي الحسن التميمي و الخطابي وغيرهما ممن سلك هذا المسلك
كلام أبي الحسن التميمي في جامع الأصول
كما قال أبو الحسن في كتاب الإشارة له في جامع الأصول قال مسألة إن سأل سائل فقال هل يقال إن الصفات قديمة قيل له هذا سؤال ضعيف لا يسأل عنه من عرف حقائق الكلام لآن القديم الأزلي لم يكن قديما بغير صفة وغنما كان قديما بصفاته التي هي مضافة إليه في نفسه فإثبات القديم قديما بصفاته يسقط المسألة عن قدم الصفات لإضافة الصفة إلى الموصوف فكل صفة للقديم في نفسه لم يزل بها ألا ترى أن المحدث جميعه محدث فإذا سألت عنه مفرقا كانت كل طائفة منه محدثة وكل شيء منه محدث لأنه كله محدث بكماله أو لا ترى أن الإنسان محدث بجميع جوارحه وآلته فيقال هو محدث عند المسألة عنه في الجملة ويقال يده محدثة عند المسألة عنها في التفسير ولا يقال إن الإنسان ورأسه محدثان فكذلك أيضا يقال القديم بجميع صفاته قديم وكل شيء من القديم فهو قديم غير محدثفإن قال قائل يقولون إن الموصوف قديم وصفته القديمة قديمان قيل له هذا خطأ لا يجوز أن يقال كما أنه لما لم يجز حين كان المحدث محدثا بجميع صفاته أن أجبت من سألني عنه منفردا وعن صفاته مفردة أن أقول إنه وصفته محدثان لنه واحد هو وصفاته فهو كله محدث وهي على حالها محدثة ولا يجوز أن أقول هما جميعا محدثان لأن في قولنا إنهما جميعا محدثان فسادا لإثبات الواحد المحدث وإيهام أنه اثنان وليس بواحد فكذلك في قولي في الأول الواحد القديم الذي له صفات إنه قديم وصفاته قديمة فإذا قلت هو وصفاته قديمان ففيه إثبات تعطيل لتوحيده وقدمه وإيجاب أنه اثنان دون واحد ففسد من ذلك أن يقال هو وصفته قديمان كما فسد أن يقال للمحدث هو وصفته محدثان وكان الواجب أن يقال إن القديم الأزلي لم يزل موصوفا فمن سأل عن صفة صفة مفردة جاز أن يقال له هي قديمة صفة لقديم لم يزل بها ولم تزل به كما لا تكون صفة المحدث إلا محدثة فما جرى على القديم في شرط القدم فهو واقع عليه بصفاته وليس بواقع عليه دون صفاته
فإذا قال القائل الموصوف قديم فقد قال إن صفاته قديمة كما إذا قال الموصوف محدث فقد أوجب أن صفاته محدثة
تعليق ابن تيمية
قلت فهذه الطريقة التي سلكها هؤلاء في انهم يقولون عن الذات إنها قديمة وعن الصفات إنها قديمة ولا يقولون عن الذات والصفات إنهما قديمان من الإشعار بالتغاير وهم لا يطلقون على الصفات إنها غير الذاتولهم في لفظ المغايرة ثلاث طرق احدها وهي طريق الأئمة كالإمام احمد وغيره وأظنها قول ابن كلاب وغيره وقد ذكرها أبو إسحاق الإسفراييني انهم لا يقولون عن الصفة إنها الموصوف ولا يقولون غنها غيره ولا يقولون ليست هي الموصوف ولا غيره لأن لفظ الغير مجمل فلا ينفونه عند الإطلاق ولا يثبتونه
والطريقة الثانية وهي المحكية عن الأشعري نفسه انه قال أقول مفرقا إن الصفة ليست هي الموصوف وأقول غنها ليست غير الموصوف لكن لا أجمع بين السلبين فأقول ليست الموصوف ولا غيره وهكذا أبو الحسن التميمي ومن سلك هذه الطريقة يقولون في العلم ونحوه من الصفات إنه ليس غير الله وان الصفات ليست متغايرة كما يقولون إنها ليست هي الله كما يقولون إن الموصوف قديم والصفة قديمة ولا يقولون عند الجمع قديمان كما لا يقال عند الجمع لا هو الموصوف ولا غيره
والثالثة قول من يجمع بين السلبين كما هي طريقة ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلي وغيرهما وهؤلاء قد يطلقون القول بإثبات قديمين : أحدهما الصفة والآخر الموصوف كما ذكروا ذلك في كتيهم وإذا احتج عليهم المعتزلة بانه إذا كانت صفاته قديمة وجب إثبات قديمين ولو كان علمه قديما لكان إلها أجابوهم بان كونهما قديمين لا يوجب تماثلهما كالسواد والبياض اشتركا في كونهما مخالفين للجوهر ومع هذا لا يجب تماثلهما وأنه ليس معنى القديم معنى الإله لأن القديم هو ما بولغ له في الوصف بالتقدم ومنه بناء قديم ودار قديمة إذا بولغ له في الوصف بالتقدم وليس معنى الإله مأخوذا من هذا ولأن النبي محدث وصفاته محدثة وليس إذا كان الموصوف نبيا وجب أن يكون صفاته أنبياء لكونها محدثة كذلك لا يجب إذا كانت الصفات قديمة والموصوف بها قديما أن تكون إلهة لكونها قديمة وبسط الكلام على ذلك له موضع آخر
كلام ابن سينا في الرسالة الأضحوية في مسألة الصفات وتعليق ابن تيمية
عليهوأما قول ابن سينا وهل هو : واحد الذات على كثرة الأوصاف أو قابل لكثرة ؟ تعالى عنها بوجه من الوجوه
فيقال له : الكتاب الإلهي مملوء بإثبات الصفات لله تعالى كالعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك ولم يتنازع اثنان من العقلاء أن النصوص ليست دالة على نفي الصفات بل إنما هي دالة على قول أهل الإثبات لكن غاية ما تدعيه النفاة أن ظاهرها دال على ذلك وأنه يمكن تأويله للدليل المعارض
ولا ريب أن ما ذكره لازم لنفاة الصفات إذ لو كان قولهم هو الحق لكان الواجب بيان ذلك وإن لم يبين فلا أقل من السكوت عن الحق ونقيضه فأما ذكر ما يدل ظاهره على نقيض الحق من غير ذكر للحق فهذا ممتنع في حق من قصده هدى الخلق وإن كان هذا جائزا فهو حجة لهؤلاء الملاحدة عليهم في المعاد بل وفي الشرائع أيضا فإن أجابوا الملاحدة في المعاد بانا نعلم بالاضطرار معاد الأبدان من أخبار الرسول فلا يحتاج أن نتلقاه من ألفاظ السمع لئلا يقدح في دلالة السمع بالتأويل كان هذا جوابا بعينه لأهل الإثبات فإنهم يقولون : إنا نعلم بالاضطرار أن إثبات الصفات مما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم وأنه أخبر الأمة أن ربهم الذي يعبدونه فوق العالم وأنه عليم قدير رحيم له العلم والقدرة والرحمة إلى أمثال ذلك من الصفات
والعلم بإثبات الصفات من قول الله ورسوله بعد تدبر النصوص الإلهية علم ضروري لا يرتاب فيه وهو أبلغ من العلم بثبوت الشفعة وميراث الجدة وتحريم المرأة على عمتها وخالتها وسجود السهو في الصلاة ونحو ذلك من الأحكام المعلومة عند الخاصة دون العامة فإن ما في الكتب الإلهية من إثبات علو الله تعالى وإثبات صفاته وأسمائه هو من العلم العام الذي علمته الخاصة والعامة كعلمهم بعدد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وغير ذلك من الشرائع الظاهرة المتواترة ولا تجد أحدا من نفاة الصفات يعتمد في ذلك على الشرع ولا يدعي أن أصل اعتقاده لذلك من جهة الكتاب والسنة ولا ينقل قوله عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين وإنما ينقل قوله في النفي عمن هو معروف بتقليد أو بدعة أو إلحاد وعلى قدر بدعته وإلحاده يكون إيغاله في النفي وبعده عن الإثبات
وقوله : أو قابل لكثرة تعالى عنها لفظ مموه فإنه إن عني كثرة الآلهة وهو لم يعن ذلك فقد علم أن الله سبحانه قد بين أن الإله إله واحد في غير موضع والقرآن ملآن من نفي تعدد الآلهة ونفي الشرك بكل طريق وإن عني كثرة صفاته التي دلت عليها أسماؤه آياته فتعليته الرب عنها كتعلية المشركين له أن يدعى ويعبد بلا واسطة وتعليتهم له عن أن يرسل رسولا من البشر فتنزيهه له عن صفاته كتنزيه المشركين له عن أن يكون إلها واحدا وأن يكون له رسول من البشر
وقد أنكر الله تعالى على المشركين نفيهم اسم الرحمن كما قال تعالى { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } الفرقان 60 وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن } الرعد 30
ومعلوم أن الاسم العلم لا ينكره أحد ولو كانت أسماؤه أعلاما لم يكن فرق بين الرحمن والجبار كيف وقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المعروف في السنن : يقول الله : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتته
فإذا كانت الرحم مشتقة من اسم الرحمن امتنع أن يكون علما لا معنى فيه
وفي الصحيح عنه الرحم شجنة من الرحمن
فإذا كان هذا قوله سبحانه فيمن ينكر الرحمن فما الظن بمن ينكر جميع معاني أسمائه وصفاته ؟ وحمية هذا الملحد وأمثاله أن يكون له صفات حمية جاهلية شر من حمية الذين قال الله فيهم { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } الفتح 26 فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم لما اصطلح هو والمشركون عام الحديبية أمر عليا أن يكتب في أول كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو وكان إذ ذاك مشركا لا نعرف الرحمن ولكن اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم فأمر عليا فكتب باسمك اللهم ثم قال اكتب هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقالوا لو علمنا أنلك رسول الله ما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله
فهؤلاء أخذتهم حمية جاهلية في إثبات أسماء الله ونبوة رسوله والملاحدة شاركوهم في ذلك من وجوه كثيرة فإنهم ينفون حقائق أسماء الله وحقيقة رسالة رسوله صلى الله لعيه وسلم وغايتهم أن يؤمنوا بها من وجه ويكفروا من وجه كالذين قالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويقال له ذات لا صفة لها لا وجود إلا في الذهن بل لفظ ذات تأنيث ذو ولا تستعمل إلا مضافا وذات معناه صاحبة كقوله تعالى { عليم بذات الصدور } آل عمران 119 وقوله تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } الأنفال 1 وقوله خبيب
( وذلك في ذات الإله )
أي في سبيل الإله وجهته
ثم استعملها أهل الكلام بالتعريف فقالوا الذات أي الصاحبة والمعنى صاحبة الصفات
فتقدير المستلزم للإضافة بدون الإضافة ممتنع وهذا كما أثبته ابن سينا وأمثاله من هؤلاء الملحدة حيث جعلوه وجودا مطلقا إما بشرط النفي وإما بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فكيف بالمطلق المشروط بالنفي فإنه أبعد عن الوجود من المشروط بالإطلاق وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
وقوله أهو متحيز الذات أم منزهها عن الجهات ؟
هو أيضا من حججهم على نفاة الصفات فإن الكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية ولم تنف أن يكون فوق العالم كما تقوله النفاة
وإذا كانت النصوص الإلهية قد بينت أن لعلي الأعلى الذي يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الذي تعرج الملائكة والروح إليه الذي نزل منه القرآن والملائكة تنزل من عنده الذي خلق السماوات والأرض في ستته أيام ثم أستوى على العرش ونحو ذلك من النصوص المبينة لمباينته لخلقه وعلوه عليهم فأي بيان للمقصود أعظم من هذا ؟
وأما لفظ التحيز والجهة فلفظان مجملان ومراد النفاة منهما غير المراد في اللغة المعروفة فإن المتحيز اسم فاعل من تحيز يتحيز فهو متحيز مثل تعوذ وتكبر وتجبر ونحو ذلك والحيز ما يحوز الشيء ويحوطه والمفهوم من ذلك في اللغة الظاهرة أن يكون هناك شيء موجود بحوز غيره
ولا ريب أن الخالق مباين للمخلوقات عال عليها كما دلت النصوص الإلهية واتفق عليه السلف والأئمة وفطر الله تعالى على ذلك خلقه ودلت عليه الدلائل العقلية
وإذا كان كذلك وليس ثم موجود إلا خالق ومخلوق فليس وراء المخلوقات شيء موجود يكون ميزا لله تعالى فلا يجوز أن يقال هو متحيز بهذا الاعتبار
وهم قد يريدون بالحيز أمرا عدميا حتى يسموا العالم متحيزا وإن لم يكن في شيء آخر موجود غير العالم وإذا كان كذلك فكونه متحيزا بهذا الاعتبار معناه انه في حيز عدمي والعدم ليس بشيء وما ليس بشيء فليس في كونه فيه أكثر من كونه وحده لا موجود معه وانه منحاز عن الخلق متميز عنهم بائن عنهم ليست ذاته مختلطة بذات المخلوق فإذا أريد بالمتحيز المباين لغيره وقد دلت النصوص على أن الله تعالى عال على الخلق بائن عنهم ليس مختلطا بهم فقد دلت على هذا المعنى فالقرآن قد دل على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها دقيقها وجليلها كما قال الشعبي ما ابتدع أحد بدعه إلا وفي كتاب الله بيانها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن قصر عنه
ولما كان لفظ المتحيز فيه إجمال وإبهام امتنع طوائف من أهل الإثبات عن إطلاق القول بنفيه أو إثباته ولا ريب أنه لا يوجد عن أحد من السلف والأئمة لا إثباته ولا نفيه كما لا يوجد مثل ذلك في لفظ الجسم والجهر ونحوهما
وذلك لأنها ألفاظ مجملة يراد بها حق وباطل وعامة من أطلقها ف بالنفي أو الإثبات أراد بها ما هو باطل لا سيما النفاة فإن الصفات كلهم ينفون الجسم والجوهر والمتحيز ونحو ذلك ويدخلون في نفي ذلك صفات الله وحقائق أسمائه ومباينته لمخلوقاته بل إذا حقق الأمر عليهم وجد نفيهم متضمنا لحقيقة نفي ذاته إذ يعود الأمر إلى وجود مطلق لا حقيقة له إلا في الذهن والخيال أو ذات مجردة لا توجد إلا في الذهن والخيال أو إلى الجمع بين المتناقضين بإثبات صفات ونفي لوازمها
فعامة من يطلق ذلك إما متناقض في نفيه وإثباته يثبت الشيء بعبارة وينفيه بأخرى أو يثبته وينفي نظيره أو ينفيه مفصلا ويثبته مجملا أو بالعكس أو يتكلم في النفي والإثبات بعبارات لا يحصل مضمونها ولا يحقق معناها
وهكذا كثير في الكبار فضلا عن الصغار وكثير منهم لا يفهم مراد أكابرهم بهذه العبارات وهم يعلمون أن عامتهم لا يفهمون مرادهم وإنما يظنونه تعظيما وتسبيحا من حيث الجملة والواجب على المسلمين أن يتلقوا الأقوال الثابتة عن الرسول بالتصديق والقبول مطلقا في النفي والإثبات
وأما الألفاظ التي تنازع فيها أهل الكلام فلا تتلقى بتصديق ولا تكذيب حتى يعرف مراد المتكلم بها فإن وافق ما قاله الرسول كان من القول المقبول وإلا كان من المردود ن ولا يكون ما وافق قول الرسول مخالفا للعقل الصريح أبدا كما لا يكون ما خالف قوله مؤيدا ببرهان العقل أبدا كما قد بين ذلك في غير هذا الموضع
وكذلك لفظ الجهة لفظ مجمل فإن الناطقين به من أهل الكلام والفلسفة وقد يريدون بلفظ الجهة أمرا وجوديا غما جسما وغما عرضا في جسم
وقد يريدون بلفظ الجهة ما يكون معدوما كما وراء الموجودات
فقول القائل إن الحق في جهة
إن أراد به ما هو موجود مباين له فلا موجود مباين له إلا مخلوقاته فإذا كان مباينا لمخلوقاته فكيف تكون محتوية عليه ؟
وإن أراد بالجهة ما فوق العالم فلا ريب أن الله فوق العالم وليس هناك إلا هو وحده وليس فوق المخلوقات إلا خالقها هو العلي الأعلى
فصل
وقول ابن سينا فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع الصدوف عنها وإغفال البحث والروية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعةفهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفاة وهم المخاطبون بهذه الجملة واما أهل الإثبات فهم يقولون إن ذلك كله مما صرح به في الشريعة
وكذلك قوله وليس التصريح المعمى أو الملبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل بالتصريح المستقصي فيه والموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف
فهذا كله حجة على إخوانه نفاة الصفات الجهمية وأما أهل الإثبات فيقولون إنه قد صرح بالتوحيد الحق التصريح المستقصي فيه الموفى حق البيان والإيضاح والتفهيم والتعريف وهذه نصوص القرآن والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم من السلف فيها من البيان للإثبات ما لا يحصيه إلا رب السماوات
وقوله فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح وعبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب ؟
فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية من المعتزلة وأتباعهم نفاة الصفات الذين يقولون إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة لأنه قول متناقض فاسد أعظم تناقضا من قول النصارى كما قد بين في موضعه فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات التي بها يفسدون ذهنه أو على تصور أقوالهم المتناقضة فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة كما تفعل القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكيا ولا بليدا بحقيقة قولهم إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها تتضمن ألفاظا مجملة يلبسون بها لعيه الحق بالباطل فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات مع ما فيه من التلبيس والإبهام حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه إلى أن يخرجوه أن تمكنوا من العقل والدين كما تخرج الشعرة من العجين فإن من درجات دعوتهم الخلع والسلخ وأمثال هذه العبارات
وقد رأيت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة كما احتج ابن سينا على المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول والسمع المنقول وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء الذين فيهم نوع من التهجم عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة لما ظهر قول الإثبات في بلدهم بعد ان كان خفيا واستجاب له الناس بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئا فريا فقال هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ثلاثين سنة ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه لم ينزل في حلقه إلا بكلفة
وهو كما قال : فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور وبين الباطل والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما ان في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك
وهذا كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق يحتاج إلى أعمال عظيمة وأفكار عميقة وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات ومفارقة الشهوات والعادات ثم آخر امرهم الشك بالرحمن وعبادة الطاغوت والشيطان وعمل الذهب المغشوش والفساد في الأرض والقليل منهم من ينال بعض غرضه الذي لا يزيده من الله إلا بعدا وغالبهم محروم مأثوم يتمنى الكفر والفسوق والعصيان وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان سماعون للكذب أكالون للسحت عليهم ذلة المفترين
كما قال تعالى { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } الأعراف 152 ولهذا تجد أهل هذه الأباطل الصعبة الشديدة في الغالب : إما ملحدا من أهل النفي والتكذيب وإما جاهلا قد أضلوه ببعض شبهاتهم
وأما قوله : فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب ؟ فيقال له : نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصرا عن بعض دقيق العلم لكن إذا وازنت من كان من محمد صلى الله لعيه وسلم من العرب الخاصة والعامة ومن كان مع موسى عليه الصلاة و السلام أيضا بمن فرضته من الأمم وجدتهم أكمل منهم في كل سب ينال به دقيق العلم وجليله فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية وعوام الفلاسفة الدهرية وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم فإنك تجد بين أدنى اولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم : انه إمام معصوم يعلم علم الأولين والآخرين بل عوام النصارى مع فرط جهلهم وضلالهم احذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم
وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤسها فلاسفة أو لم تكن أئمتكم اليونان كأرسطو وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان ويشركون بالرحمن ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان ؟
أو ليس من أعظم علومهم السحر الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين ويصوم ويصلي ويقرب له القرابين حتى ينال بذلك عرضا من الدنيا فساده أعظم من صلاحه وأثمه أكبر من نفعه ؟
أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة ؟ أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع ولو بدقيقة كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة ؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى فضلا عن مدينة من المدائن ؟ وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع ؟
ثم يقال له : أنت وأمثالك أئمة أتباعكم وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان في واجب الوجود وصفاته وأفعاله مع دعواهم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان
وكون الواحد منكم حاذقا في طب أو نجوم أو غرس أو بناء هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وافعاله وعبادته وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب الذي هو أجل المطالب وأرفع المواهب فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى : إما عجزا وغما تفريطا
ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى بعد أن بدلوا الكتاب ودخلوا فيما نهوا عنه احذق وأعرف بالله من أئمتكم وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلا وإدراكا وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف
واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية والعرباء وعوام التتر المشركين الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى تجد عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدنيا والدين من أولئك وتجد أولئك أفسد عقلا ودينا
وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم ففيهم من الجهل والضلال والكذب والمحال مالا يحصيه إلا ذو الجلال وهل كان الطوسي وامثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين ومكايد المحتالين المنافية للعقل والدين ؟
وأما أئمتكم البارعون كأرسطو وذويه فغايته ان يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وإنما صار فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة وتسع وعشرة سنة او اكثر منها وقد قيل إن ذلك كان على عهد آخر ملوكهم بطليموس صاحب المجسطي فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم
ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره وهذا جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير وكان مسلما موحدا حنيفا وقد قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة أو ما يقارب ذلك
وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل لمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفضلاء الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء ؟
فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم
وابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة لما كانوا إنما يخاطبون من المسلمين من هو ناقص في العلم والدين : إما رافضي وإما معتزلي وإما غيرهما صاروا يتكلمون في خيار القرون بمثل هذا الكلام
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم يقال لهذا الأحمق : أن كل أمة فيها ذكي وبليد بالنسبة إليها لكن هل رأى في أجناس الأمم امة أذكى من العرب ؟
واعتبر ذلك باللسان العام وما فيه من تفصيل المعاني والتمييز بين دقيقها وجليلها بالألفاظ الخاصة الناصة على الحقيقة ويليه في الكمال اللسان العبراني فأين هذا من لسان أصحابك الطماطم الذين يسردون ألفاظا طويلة والمعنى خفيف ؟ ولولا أن مثلك وأمثالك ممن شملته بعض سعادة المسلمين والعرب فصار فيكم بعض كمال الإنسان في العقل واللسان فعربتم تلك الكتب وهذبتموها وقربتموها إلى العقول وإلا لكان فيها من التطويل والهذيان ما يشح بمثله على الزمان وهي كما قال فيها ابو حامد الغزالي هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها وإن بعض الظن أثم فإن ما يقوم عليه الدليل من الرياضي ونحوه كثير التعب قليل الفائدة لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل
ثم يقال له : هب أن ما ذكرته من غتم العرانيين والعرب أهل الوبر لا يمكنهم معرفة الدقيق فهل يمكنك أن تقول ذلك في أذكياء العرب والعبرانيين وكل أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس
واعتبر ذلك بأتباعهم فإن كنت تشك في ذكاء مثل مالك و الأوزاعي والليث بن سعد و أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي و البخاري و مسلم وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من امثالهم فإن شككت في ذلك فأنت مفرط في الجهل أو مكابر فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم وعملهم حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد خالفه صاحب آخر
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة أنهم فوقنا في كل عقل وعلم وفضل وسب ينال به علم أو يدرك به صواب ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كما قال رحمة الله عليه
وأما قوله لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم إلى آخر كلامه
فيقال : لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أمورا من الغيب بعضها يمكن التعريف به مطلقا وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال وبعضها لا يمكن مخلوقا أن يعلمه ولهذا قال تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } السجدة 17
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير وإلا لم يمكن التعريف على وجهه
وفي الدعاء المشهور : اللهم إني أسألك اسم هو لم سميت به نفسك أو انزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك أو أستأثرت به في علم الغيب عندك فإذا كان من أسمائه ما استأثر بعلمه لم يعلمه غيره ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره
وفي الحديث الصحيح انه صلى الله عليه و سلم كان يقول في دعائه لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وفي حديث الشفاعة ينفتح على محامد أحمده بها لا احسنها الآن
فإذا كان اعلم الخلق بالله لا يحصى ثناء عليه فكيف غيره ؟ وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا فكيف حال غيره ؟
ونذكر في هذا قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما ذكره البخاري حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون ان يكذب الله ورسوله ؟
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل تفسير أية فقال : ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها وكفرك بها تكذيبك بها فتبين انه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم
ولهذا قال تعالى { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } إلى قوله { يضرب الله الأمثال } الرعد 17 فإن هذا مثل ضربة الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر وشبه القلوب بالأودية والأودية منها صغار وكبار فكل واد يسيل بقدره
فهذا ونحوه حق ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية أعظم مما تنكرها قلوب العامة وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه
وقوله : هبك الكتاب العزيز جاء على لغة العرب في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني هو من أوله إلى آخره تشبيه صرف ؟ إلى آخر كلامه
فيقال : هذا من أعظم حجج أهل الإثبات على نفاة الصفات ومن أعظم الحجج على صدق الرسولين العظيمين وصدق الكتابين الكريمين اللذين لم يأت من عند الله كتاب أهدى منهما
قال تعالى { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } القصص 43 إلى قوله : { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا } القصص 48 إلى قوله { قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } الآيات القصص 49
وقال تعالى حكاية عن الجن { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } الأحقاف 30
وقال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها } الأنعام 91 92
وقال تعالى : { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون * وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون } الأنعام 154 - 155 فقد قرن الله تعالى بين الكتابين العربي والعبري في غير موضع
ومن المعلوم ان موسى كان قبل محمد صلوات الله عليهما وسلامه ولم يأخذ عنه شيئا وكل من عرف حال محمد صلى الله عليه و سلم يعلم أنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا فإذا أخبر هذا بمثل ما أخبر به مرسل واحد من غير تواطؤ ولا تشاعر فيما يمتن في العادة التوافق فيه من غير تواطؤ كان هذا مما يدل على صدق كل من الرسولين في أصل الرسالة وعلى صدق خبر كل من الرسولين فيما أخبر به صفات ربه إذا كان كل منهما أخبر بمثل ما أخبر به الآخر وهب أن بعض ألفاظ أحد الكتابين قد يحرفها المحرف فالكتاب الآخر المصدق له يبطل ذلك التحريف ويبين أن المقصود واحد
وما ذكره من امتناع التحريف على كلية الكتاب العبري حق كما قال ويبين ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم بين من تحريف أهل الكتاب ما شاء الله وذمهم على ما وصفوا الله تتعالى به من النقائص كقولهم : إن الله فقير وإن الله بخيل وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض فاستراح فقال تعالى { وما مسنا من لغوب } ق 38
فلو كان ما في التوراة من إثبات الصفات مما بدلوه وافتروه لكان إنكار هذا من أعظم الواجبات ولكان الرسول يعيبهم بما ينكره النفاة متن التشبيه والتجسيم وأمثال هذه العبارات فلما كان الرسول العربي مقرا لما في التوراة من الصفات ومخبرا بمثل ما في التوراة كان ذلك من أعظم دليل على أن ما في التوراة من الصفات التي أخبر بها الرسول العربي أيضا ليس مما كذبه أهل الكتاب
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن خبرا من اليهود لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الله يوم القيامة يمسك السماوات على اصبع والأرضين على أصبع والجبال على اصبع والشجر والثرى على اصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك أنا الملك ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم تعجبا وتصديقا لقول الخبر ثم قرأ قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الزمر 67
وهذا الحديث رواه من هو من أعلم الصحابة وأعظمهم اختصاصا بالنبي صلى الله عليه و سلم : عبد الله بن مسعود ورواه عنه وعن أصحابه من هو أجل التابعين وأتباع التابعين قدرا ورواه أيضا عبد الله بن عباس الذي هو من أعلم الصحابة في زمانه وأصحاب ابن مسعود وابن عباس من اعظم التباعين علما وقدرا عند الأمة
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وفيهما أيضا من حديث ابن عمر في تفسير هذه الآية { وما قدروا الله حق قدره } الزمر 67 ما يناسب هذا الحديث ويوافق قول أهل الإثبات ويبين أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ينكر على أهل الكتاب ما يخبرون به من الصفات التي تسميها النفاة تجسيما وتشبيها وإنما أنكر عليهم ما وصفوا الله تعالى به من النقائص والعيوب
ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين أنهم ذموا أهل الكتاب بما يذمهم به نفاة الصفات ولا يذكرون لفظ التجسيم ونحوه من الألفاظ التي أحدثها المحدثون : لا بمدح ولا ذم ولا يقولون ما تقوله النفاة إن التوراة فيها تشبيه كما قال ابن سينا الكتاب العبراني كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف
فإنه يقال له : ما تعني بقولك : إنه تشبيه أتعني أنه متضمن للإخبار بأن صفات الرب مثل صفات العباد أو متضمن لإثبات الصفات التي يوصف الخلق بما هو بالنسبة إليهم كتلك الصفات بالنسبة إلى الله ؟
فإن أردت الأول فهذا كذب على التوراة فليس فيها الإخبار بأن صفات كصفات عباده بل فيها نفي التمثيل بالله
وإن أردت الثاني فهذا أمر لا بد منه لك ولكل أحد فإنك وأمثالك تقولون : إن الله موجود مع قولكم : إن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وتقولون وتقولون إنه عقل وعاقل ومعقول مع قولكم : إن اسم العقل يقع على العقول العشرة وتقولون : إنه علة للعالم مع قولكم : إن العلة تنقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث وتقولون : إن له عناية مع أن لفظ العناية يقال على صفات العباد وتقولون : إنه مبدأ ومبدع ونحو ذلك من العبارات التي تسمون بها غيره فإنكم تطلقون اسم المبادئ على العقول وتطلقون الإبداع على العقول وتقولون : إن كل عقل أبدع ما دونه والعقل العاشر أبدع ما تحت فلك القمر وتقولون : إنه موجب بالذات مع أن لفظ الإيجاب يطلق على غيره
ويقولون : إنه عاشق ومعشوق وعشق مع أن لفظ العشق فيه من التشبيه واحتمال النقص مالا يخفى على عاقل وليس في الكتب الإلهية تسميته بعقل ولا عاشق ولا معقول ولا معشوق
ويقولون أيضا : إنه يلتذ ويبتهج ولفظ اللذة فيها من التشبيه واحتمال النقص ما لا يخفى على عاقل ويقولون إنه مدرك وأن اللذة أفضل إدراك لأفضل مدرك فيسمونه مدركا ومدركا
ثم أعجب من هذا كله انكم تقولون : الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ومن هنا دخل من وافقكم في إثبات تشبه العبد بالرب في الذات والصفات والأفعال كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد وقالوا : إن الإنسان مثل الله وأن قوله : { ليس كمثله شيء } الشورى : 11 المراد أنه ليس كالإنسان الذي هو مثل الله شيء ويقولون إن الفلك إنما يتحرك تشبها بما فوقه فيجعلون العبد قادرا على أن يتشبه بالله وأن الفلك يتشبه بالله أو يتشبه بالعقل المشبه لله
فإذا كان في التوراة : أنا سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا أو نحو هذا فغايته أن يكون الله خالقا لمن يشبهه بوجه وأنتم قد جعلتم العبد قادرا على أن يتشبه بالله بوجه فإن كان التشبه بالله باطلا من كل وجه ولا يمكن الموجود أن يشبهه بوجه من الوجوه فتشبيهكم أنكر من تشبيه أهل الكتاب لأنكم جعلتم العبد قادرا على ان يتشبه بالرب وأولئك أخبروا عن الرب أنه قادر على أن يخلق ما يشبهه
فكان في قولكم إثبات التشبيه وجعله مقدورا للعبد وأولئك مع إثبات التشبيه إنما جعلوه مقدورا للرب فأي الفريقين أحق بالذم والملام ؟ أنتم أم أهل الكتاب ؟ إن كان مثل هذا التشبيه منكرا من القول وزورا وإن لم يكن منكرا من القول وزورا فأهل الكتاب أقوم منكم لأنهم تبعوا ألفاظ النصوص الإلهية التي أثبتت مقدورا لرب البرية وانتم ابتدعتم ما ابتدعتم بغير سلطان من الله
وأيضا فيقال : إنه ما من موجودين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميز فإنهما لا بد أن يشتركا في أنهما موجودان ثابتان حاصلان وأن كلا منهما له حقيقة : هي ذاته ونفسه وماهية حتى لو كان الموجودان مختلفين اختلافا ظاهرا كالسواد والبياض فلا بد أن يشتركا في مسمى الوجود والحقيقة ونحو ذلك بل وفيما هو أخص من ذلك مثل كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره ونحو ذلك وهما مع هذا مختلفان
وإذا كان بين كل موجودين جامع وفارق فمعلوم أن الله تعالى ليس كمثله شيء : لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فلا يجوز ان يثبت له شيء من خصائص المخلوقين ولا يمثل بها ولا أن يثبت لشيء من الموجودات مثل شيء من صفاته ولا مشابهة في شيء من خصائصه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا
وإذا كان المثل هو الموافق لغيره فيما يجب ويجوز ويمتنع فهو سبحانه لا يشاركه شيء فيما يجب له ويمتنع عليه ويجوز له وإذا أخذ القدر المطلق الذي يتفق فيه الخالق والمخلوق مثل : مسمى الوجود والحقيقة والعالم والقادر ونحو ذلك فهذا لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمخلوق لا يشارك مخلوقا في شيء من صفاته فكيف يكون للخالق شريك في ذلك ؟ لكن المخلوق قد يكون له من يماثله في صفاته والله تعالى لا مثل له أصلا والقدر المشترك المطلق كالوجود والعلم والحقيقة ونحو ذلك لا يلزمه شيء من صفات النقص الممتنعة على الله تعالى فما وجب للقدر المطلق المشترك لا نقص فيه ولا عيب وما نفي عنه فلا كمال فيه وما جاز له فلا محذور في جوازه
وأما ما يتقدس الرب تعالى ويتنزه عنه من النقائص والافات فهي ليست من لوازم ما يختص به ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا بل هي من خصائص المخلوقات الناقصة والله تعالى منزه عن كل نقص وعيب وهذه معاني شريفة بسطت في غير هذا الموضع
وما يذكره هؤلاء من تعظيم علوم الأسرار والأمر بكتمانها عن الجمهور وقصور الجمهور عن إدراك حقائق هو كلام مجمل يقوله الصديق والزنديق
والمخالفون من نفاة الصفات الخبرية أو نفي الأوامر الشرعية من المتفلسفة ومن دخل معهم من متصوفة النفاة ونحوهم يشيرون إلى ذلك ويحملون ما يروى من الآثار الصحيحة والسقيمة على ذلك فالأثر المروي : إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكروه إلا أهل الغرة بالله تعالى وهذا الحديث وإن لم يكن له إسناد صحيح فقد ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي وأبو حامد الغزالي وغيرهما
لكن ذكر شيخ الإسلام عن شيخه يحيى بن عمار أن من هذا أحاديث الصفات الموافقة لقول أهل الإثبات
و أبو حامد قد يحمل هذا إذا تفلسف على ما يوافق أقوال الفلاسفة النفاة
وكذلك ما في البخاري عن علي حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد حمله ابن رشد الحفيد على أقوال الفلاسفة الباطنية النفاة ومن المعلوم ان أقوال النفاة لا توجد في كلام الله ورسوله وإنما لا يحملها عقله أفضى إلى تكذيب الله ورسوله
والأمور الباطنة فيها إجمال فالملاحدة يدعون الباطن المخالف للظاهر وأما أهل الإيمان فالباطن الحق عندهم موافق للظاهر الحق فما في بواطنهم من المعارف والأحوال وتحقيق التوحيد ومقامات أهل العرفان موافق لما جاء به الكتاب والرسول يزداد صاحبها بأخبار الأنبياء إيمانا بخلاف الملاحدة كلما امعن الواحد منهم فيه بعد عن الله ورسوله
وقول ابن سينا هو الإقرار بالصانع مقدسا عن الكم والكيف والأين ومتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون له شريك في النوع أو يكون له جزء وجودي كمي او معنوي إلى آخره
فكلامه هذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى ومراده انه ليس لله علم ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام ولا محبة وأنه لا يرى ولا يباين المخلوقات
قلت : وقد تكلمنا على هذا وعلى ثبوت الكليات في الخارج التي ذكرها في إشارته وشرحها شارحو إشاراته كالرازي والطوسي وابن كمونه اليهودي وأمثالهم فإنه ذكر دليل توحيدهم وقدم قبله مقدمات