كتاب : درء تعارض العقل والنقل
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس
قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه
وأما قوله : ( إنه قادر على الفعل لا يمنعه منه مانع ) فكلامه يقتضي أنه لم يزل قادرا على الفعل لا يمنعه منه مانع وهذا الذي قاله هو الذي عليه جماهير الناس ولهذا أنكروا على من قال : لم يكن قادرا على الفعل في الأزل وكان من يبغض الأشعري ينسب إليه هذا لتنفر عنه قلوب الناس وأراد أبو محمد الجويني وغيره تبرئته من هذا القول كما قد ذكرناه في غير هذا الموضعوإذا كان لم يزل قادرا على الفعل كان هذا صفة كمال فلهذا قال عبد العزيز : ( لأن الفعل صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع ) وقد خلق المخلوقات بفعله فوجدت بالفعل الذي هو الخلق والفعل الذي هو الخلق بقدرة الله تعالى والقدرة على خلق المخلوق هي القدرة عليه
كما قال تعالى : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى } ( يس : 81 ) وقوله تعالى : { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } ( القيامة : 40 ) وقوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } ( الأنعام : 65 ) الآية ونحو ذلك مما فيه وصف الله بالقدرة على الأفعال المتناولة للمفعولات وفيه بيان أن الخلق ليس هو المخلوق ولا أن نفس خلقه للسماوات والأرض هو السماوات والأرض والقدرة التي تزل ثم وجدت المخلوقات بدون فعل اصلا
فيقول له المريسي : فذلك الفعل الذي هو صفته وهو يقدر عليه لا يمنعه منه مانع إن كان قديما كان كالقدرة وكان السؤال علي كالسؤال عليك وإن كان حادثا من غير تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث تقدم فعل آخر سألتك عن سبب حدوثه بالقدرة التي لم تزل كما سألتني عن سبب حدوث المخلوق بالقدرة التي لم تزل وإن كان ذلك الفعل كان بفعل آخر وتسلسل الأمر : لزم تسلسل الأفعال ولزم أن يكون الفاعل لم يزل يفعل والخالق لم يزل يخلق
فيقول له عبد العزيز : لم أقل إنه قديم بل قلت : إنه صفة والله قادر عليه لا يمنعه منه مانع وماكان مقدورا له لا يمنعه منه مانع لم يجب أن يكون قديما معه بل إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله
وأماسؤالك عن سبب حدوثه فهنا لأهل الإثبات جوابان :
أحدهما : - وهو جواب الكرامية ومن وافقهم - أن إثبات الفعل للمفعول والخلق للمخلوق لا بد منه فإنا نعقل أن القادر على الفعل قبل أن يفعله ليس له فعل فإذا فعله كان هناك فعل به فعل المفعول وخلق به خلق المخلوق ونحن مقصودنا إثبات فعل وصفة لله تقوم به مغاير مخلوقاته وكلامه من هذا الباب ونحن لم نورد عليكم التسلسل فإن ذلك باطل على قولنا وقولكم جميعا
الجواب الثاني : أن يقول من يجيب به : لا يمتنع أن يكون قبل الفعل المعين ما هو أيضا فعل فعله الله بقدرته ولا يضرني التسلسل فإن ذلك جائز ممكن فإن هذا تسلسل في الأفعال والآثار والشروط وهذا ليس بممتنع
فعلى الجواب الأول : يظهر قوله : ( إنما قلت لم يزل الخالق سيخلق وسيفعل ولم أقل لم يزل يخلق ويفعل )
وأما على الجواب الثاني : ( فإذا قال : لم يزل يخلق ويفعل بل أقول : إنه لم يزل سيخلق وسيفعل فنقرره بوجهين :
أحدهما : أن الفعل لا يستلزم وجود مخلوق بل يكون الفعل قائما بنفسه بعد فعل قائم بنفسه وهلم جرا من غير وجود مخلوق منفصل عنه
الثاني : أنه لو قدر تسلسل المفعولات كتسلسل الأفعال فما من مفعول ولا فعل إلا وهو حادث كائن بعد أن لم يكن فليس مع الله في الأزل شيء من المفعولات ولا الأفعال إذ كان كل منهما حادثا بعد أن لم يكن والحادث بعد أن لم يكن لا يكون مقارنا للقديم الذي لم يزل وإذا قيل : ( إن نوع الأفعال أو المفعولات لم يزل ) فنوع الحوادث لا يوجد مجتمعا لا يوجد إلا متعاقبا فإذا قيل : ( لم يزل الفاعل يفعل والخالق يخلق ) - والفعل لا يكون إلا معينا والخلق والمخلوق لا يكون إلا معينا - فقد يفهم أن الخالق للسماوات والإنسان لم يزل يخلق السماوات والإنسان والفاعل لذلك لم يزل يفعله وليس كذلك بل لم يزل الخالق لذلك سيخلقه ولم يزل الفاعل لذلك سيفعله فما من مخلوق من المخلوقات ولا فعل من الأفعال إلا والرب تعالى موصوف بأنه لم يزل سيفعله ليس موصوفا بأنه لم يزل فاعلا له خالقا له بمعنى أنه موجود معه في الأزل وإن قدر أنه كان قبل هذا الفعل فاعلا لفعل آخر وقبل هذا المخلوق خالقا لمخلوق آخر فهو لم يزل بالنسبة إلى كل فعل ومخلوق سيفعله وسيخلقه لا يقال : لم يزل فاعلا له خالقا بمعنى مقارنته له وإذا أريد أنه لم يزل فاعلا للنوع كان هذا بمعنى قولنا : ( إنه لم يزل سيفعل ما يفعله ) لكن هذه العبارة تفهم من الباطل ما لا تفهمه تلك العبارة
وهذا الموضع للناس فيه أقوال فإن جمهور أهل السنة يقولون : لم يزل الله خالقا فاعلا كما قال الإمام أحمد : لم يزل الله عالما متكلما غفورا بل يقولون : لم يزل يفعل إما بناء على أن الفعل قديم وإن كان المفعول محدثا أوبناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل
ومذهب بشر وإخوانه الجهمية : أن المخلوقات كلها كائنة بدون فعل ولا خلق وكلام الله من جملتها فألزمه عبد العزيز على أصله فقال له : إذا قلت : كان الله ولما يفعل ولما يخلق شيئا وهو لم يزل قادرا ثم خلق المخلوقات فأنت تقول : لم يزل قادرا ولا تقول : لم يزل يفعل المخلوقات فلا بد له من أن يكون هناك فعل حصل بالقدرة وليس هو القدرة التي لم تزل ولا هو المخلوق المنفصل إذ لو كان كذلك لكان المخلوق قد وجد من غير خلق والمفعول قد وجد من غير فعل وهذا أعظم امتناعا في العقل من كونه وجد بغير قدرة فإنه إذا عرض على العقل مفعول مخلوق حدث بعد أن لم يكن بلا فعل ولا خلق كان إنكار العقل لذلك أعظم من إنكاره لحدوثه من غير قدرة الفاعل وإنكاره لحدوثه من غير فاعل أعظم امتناعا في العقل من هذا وهذا فإذا قيل : فعله الفاعل بلا قدرة أنكره العقل وإذا قيل : فعله بالقدرة التي لم تزل بدون فعل كان إنكاره أعظم وإذا قيل : حدث بلا فاعل كان أعظم وأعظم فإن الفاعل بلا فعل كالعالم بلا علم والحي بلا حياة والقادر بلا قدرة نحو ذلك وذلك نفي لجزء مدلول اللفظ الذي دل عليه بالتضمن وأما نفي القدرة عن الفاعل فهو نفي لما دل عليه باللزوم العقلي
وإذا قال القائل : ( بل يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا فعل ولا خلق غيره لأنه لو كان بفعل للزم أن يكون للفعل فعل ولزم التسلسل وأن يكون محلا للحوادث )
قيل : فعلى هذا يجوز أن يكون المفعول المخلوق حدث بلا قدرة من الفاعل لأن ثبوت القدرة يستلزم ثبوت الصفات وقيام الأعراض به
فإذا قال : ( الفعل بدون القدرة ممتنع وليس في العقل ما يحيل لوازم القدرة بل علمنا بامتناع الفعل بلا قدرة أعظم من علمنا بامتناع قيام الصفات به وإن سماها المسمي أعراضا )
قيل له : والمخلوق المفعول بلا فعل ولا خلق أعظم امتناعا في العقل وليس في العقل ما يحيل لوازم الفعل الذي كان بالقدرة بل علمنا بامتناع ذلك أعظم من علمنا بامتناع قيام الأفعال به وإن سماها المسمي حوادث
يبين ذلك : أن افتقار المخلوق إلى خلق والمفعول المنفصل إلى فعل يعلم باللزوم العقلي وبالقول السمعي فإن ( فاعل وخالق ) مثل متكلم وقائل ومريد ومتحرك وغير ذلك من الأسماء التي تستلزم قيام معان بالمسميات
فلما ظهرت حجة عبد العزيز على المريسي في أنه لا بد من فعل للرب تعالى بقدرته كما قال له : ( يلزمك أن تقول إنه خلق بلا فعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل هو القدرة لأن القدرة صفة لله ولا يقال لصفة الله : هي الله ولا يقال : إنه غير الله ) ولم يقل عبد العزيز أنها ليست هي الله ولا غيره بل قال : لا يقال إنها هي الله ولا يقال إنها غيره
وقل عبد العزيز هذا هو قول أئمة السنة كالإمام أحمد وغيره وهو قول ابن كلاب وغيره من الأعيان ولكن طائفة من أصحاب أحمد مع طائفة من متكلمي الصفاتية أصحاب الأشعري يقولون : لا هي الله ولا غيره
وتلك العبارة هي الصواب كما قد بسط في غير هذا الموضع فإن لفظ ( الغير ) فيه إجمال فلا يصح إطلاقه لا نفيا ولا إثباتا على الصفة ولكن يصح نفي إطلاقه نفيا أو إثباتا كما قال السلف مثل ذلك في لفظ ( الجبر ) ونحوه من الألفاظ المجملة : إنه لا يطلق لا نفيها ولا إثباتها وإذا قيل : ( لا يطلق لا هذا ولا هذا ) لم يلزم إثبات قسم ثالث لا هو الموصوف ولا غير الموصوف بل يلزم إثبات مالا يطلق عليه لفظ الغير لا ما ينفي عنه المغايرة
ومقصود عبد العزيز : أن القدرة صفة لله ليست هي الفعل الذي كان عن القدرة فإنه يقول : لم يزل الله قادرا ولا يقول : لم يزل فاعلا
فعارضه المريسي بأن هذا يلزمك أيضا فيلزمك أن تقول : لم يزل يفعل ويخلق
وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله
فقال له عبد العزيز : ليس لك أن تحكم علي وتلومني ما لا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل وذلك لأن عبد العزيز لم يقل في هذا قولا يحكى عنه ولكن قال له : إما أن تلتزم أنت ما ألزمتني وإلا التزمت أن تقول : إن المخلوق لم يزل مع الله
وهذا الذي قاله المريسي إنما يلزم عبد العزيز إذا أبطل كل قسم مما يمكن أن يقال في هذا المقام وهو لم يفعل ذلك ولا سبيل له إليه بخلاف ما ألزمه إياه عبد العزيز فإنه لازم له لامحالة إذ كان قوله : ( إن المخلوقات كلها - وكلام الله عنده من جملتها - حدثت بعد أن لم تكن من غير فعل فعله الله بل بقدرته التي لم تزل ) مع أن عبد العزيز قد بين فيما بعد أن ما أقر به المريسي يكفيه في الاحتجاج في مسألة القرآن فإن المريسي أقر بأن الله خلقها بقدرته فأثبت هنا معنى هو صفة لله تعالى ليس بمخلوق فبطل أصل قوله الذي نفى به الصفات وقال : إنا القرآن مخلوق لكن عبد العزيز بين له ما يلزمه وما أقر به وأن الحجة تحصل بهذا وبهذا وأما المريسي فعارضه بأن قال : يلزمك ما ألزمتني
وذلك مبني على مقدمات لم يذكر منها واحدة
أحدها : أن يقول : إذا كان أحدث الأشياء بفعله الكائن عن قدرته حصل المقصود من غير إثبات قديم مع الله تعالى ولهذا قال له عبد العزيز : ( إنما قلت : الفعل صف لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) وفي نسخة أخرى زيادة على ذلك : ( إنما قلت : إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة لله )
وهذه الزيادة لم تتقدم في كلام عبد العزيز فإما أن تكون ملحقة من بعض الناس في بعض النسخ أو يكون معنى الكلام : إنما قولي هذا وإنما قلت إني إنما اعتقدت والتزمت هذا أو يكون المعنى : إنما أقول وأعتقد هذا والأشبه أن هذه الزيادة ليست من كلام عبد العزيز فإنها لا تناسب ما ذكره من مناظرته المستقيمة ولم يتقدم من عبد العزيز ذكر هذا الكلام ولا ما يدل عليه بخلاف قوله : ( إنما الفعل صفة لله والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع ) فإن هذا كلام حسن صحيح وهو لم يكن قد قاله ولهذا لم يقل : إني قلت ذلك ولكن قال : هذا هو الذي يجب أن يقال وهو الذي يلزمني أن أقوله لأني بينت أن المخلوق لا يكون إلا بفعل عن قدرة الله والفعل قائم بالله ليس هو مخلوقا منفصلا وهذا مراده بقوله : ( إنه صفة ) لم يرد بذلك أن الفعل المعين لازم لذات الله تعالى لأنه قد قال : ( والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع )
فحصل بذلك مقصود عبد العزيز من أنها فعلا أحدث الله به المخلوقات عن قدرته فأقام الحجة على أنه يقوم بالله تعالى أمر غير المخلوقات عن القدرة واعترف له المريسي بالقدرة
فقد ثبت على كل تقدير أن قبل المخلوق شيئا خارجا عن المخلوق سواء كان هو القدرة وحدها أو كان مع ذلك الفعل والقول والإرادة وما كان متقدما قبل المخلوق فليس هو من المخلوق فبطل قول المريسي : إن ما لا يسمى بالله فهو مخلوق فإن هذه الأمور يقال : ( إنها غير الله ) وإذا قلنا : ( الله الخالق وما سواه مخلوق ) فقد دخل في مسمى اسمه صفاته فإنها داخلة في مسمى اسمه ولما قال النبي صلى الله عيه وسلم : [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] لم يكن الحلف بعزةالله ونحوه حلفا بغير الله
ولما حدثت الجهمية واعتقدوا أن القرآن خارج عن مسمى اسم الله تعالى قال من قال من السلف : ( الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق ) فاستثنوا القرآن مما سواه لما أدخله من أدخله فيما سواه ولفظ ( ما سواه ) هو كلفظ ( الغير ) وقد قلنا :
إن القرآن وسائر الصفات لا يطلق عليه أنه هو ولا يطلق عليه أنه غيره فكذلك لا يطلق عليه أنه مما سواه ولا أنه ليس مما سواه لكن مع القرينة قد يدخل في هذا تارة وفي هذا تارة
فما كان بعض الناس قد يفهم أن القرآن هو مما سواه قال من قال من السلف ( ماسواه مخلوق ) إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق : منه بدأ وإليه يعود ) ومن لم يفهم دخول الكلام في لفظ ( سواه ) لم يحتج إلى هذا الاستثناء بل قال : ( الله الخالق وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق ) لا يقول : ( إلا القرآن ) أي القرآن هو كلامه وكلامه وفعله وعمله وسائر ما يقوم بذاته لا يكون مخلوقا وإنما المخلوق ما كان مبيانا له ولهذا قال السلف والأئمة كأحمد وغيره : ( القرآن كلام الله ليس ببائن منه ) وقالوا : ( كلام الله من الله )
وقال أحمد بن حنبل لرجل سألة فقال له : ( ألست مخلوقا ؟ فقال : بلى فقال : أو ليس كلامك منك ؟ قال : بلى قال : والله ليس بمخلوق وكلامه منه ) ومراده أن المخلوق : إذا كان كلامه صفة له هو داخل في مسمى اسمه وهو قائم به فالخالق أولى أن يكون كلامه صفة له داخلة في مسمى اسمه وهو قائم به لأن الكلام صفة كمال وعدمه صفة نقص فالمتكلم أكمل ممن لا يتكلم والخالق أحق بكل كمال من غيره
والسلف كثيرا ما يقولون : الصفة من الموصوف والصفة بالموصوف فيقولون : علم الله من الله وكلام الله من الله ونحو ذلك لأن ذلك داخل في مسمى اسمه فليس خارجا عن مسماه بل هو داخل في مسماه وهو من مسماه
فعبد العزيز قرر حجته بأن الفعل صفة لله عن قدرته لا يمنعه منه مانع وهذا كاف وما ألزمه إياه بشر لا يلزمه إلا بمقدمات لم يقرر بشر منها شيئا
وأي تقدير من تلك التقديرات قال به القائل كان خيرا من قول المريسي
التقدير الأول : قول من يقول : إن الفعل حادث قائم بذات الله بقدرته كما يقول ذلك من يقوله من الكرامية وهذا خير من قول المريسي وأمثاله من الجهمية فإن ما يلزم أصحاب هذا القول من تسلسل الحوادث يلزمهم مثله والذي يلزمهم من نفي الخلق الفعل لا يلزم أصحاب هذا القول
وأما قولهم : ( إنه محل للحوادث ) فمثل قولهم : إنه محل للأعراض )
التقدير الثاني : قول من يقول : إن الفعل قديم أزلي كما يقول ذلك من يقوله من الكلابية ومن الفقهاء : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والصوفية
وهذا أيضا على هذا التقدير يكون من جنس قول الصفاتية وهؤلاء لا يقولون بقيام الحوادث به ولا تسلسلها وإذا ألزمهم المريسي وإخوانه أن يقال : فإذا كان الفعل لم يزل والإرادة لم تزل : لزم أن يكون المفعول المراد لم يزل وقيل لهم : فحدوث الحوادث لا بد له من سبب قالوا : هذا السؤال مشترك بيننا وبينكم لكن عبد العزيز لم يجب بهذا الجواب فإنه لو أجاب به لانتفضت حجته التي احتج بها على المريسي فإنه احتج بأنه لم يزل قادرا فلو قال ( الفعل قديم ) قال المريسي : إنه لم يزل فاعل عندك
وأيضا فعبد العزيز ذكر أنه يقدر على الفعل لا يمنعه منه مانع وذكر غير ذلك
التقدير الثالث : ان الفعل الذي كان عن قدرته كان قبله فعل آخر كان عن قدرته أيضا وهلم جرا ولم يكن شيء من المفعولات والمخلوقات موجودا معه في الأزل فإن الفعل ينقسم إلى متعد ولازم فإذا قدر دوام الأفعال اللازمة لم يجب دوام الأفعال المتعدية وعلى هذا التقدير فإذا قال : ( كان الله ولما يخلق شيئا ولما يفعل شيئا ) لم يزل أن لا يكون هناك فعل قائم بنفسه بدون مخلوق مفعول ولا يجب أن يكون المخلوق لم يزل مع الله تعالى
وهذا التقدير إن لم ينفه المريسي بالحجة لم يكن ما ألزمه لعبد العزيز لازما
وإذا قال السلف والأئمة : ( إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ) فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلما بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وإن كان يتكلم شيئا بعد شيء فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات وهو المسمى بتناهى الحوادث والذي عليه السلف وجمهور الخلف : أن المقدورات المرادات لا تتناهى وهم بهذا نزهوه عن كونه كان عاجزا عن الكلام كالأخرس الذي لا يمكنه الكلام وعن أنه كان ناقصا فصار كاملا وأثبتوا مع ذلك أنه قادر على الكلام باختياره وحجة عبد العزيز على المريسي تتم على هذا التقدير ولا يكون مع الله في الأزل مخلوق
التقدير الرابع : أنه لو قيل : ( بأن كل ماسوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن فليس مع الله في أزله شيء من المخلقوات لكنه لم يزل يفعل ) ولم يوجب ذلك أن يكوم معه شيء من المفعولات المخلوقات وإنما يوجب ذلك كون نوع المفعول لم يزل مع أن كل واحد من آحاده حادث لم يكن ثم كان معه فليس من ذلك شيء مع الله في الأزل و عبد العزيز لم يقل هذا ولم يلتزمه بل ولا التزم شيئا من هذه التقديرات ولا يلزمه واحد منها بعينه إلا بتقدير امتناع ما سواه ولكن المقصود أن إلزام المريسي له بأن يكون المخلوق لم يزل مع الله لا يلزمه التزامه فإنه على التقديرات الثلاث لا يلزم وجود شيء من المفعولات ولا نوعها في الأزل
وأما على التقدير الرابع : فإنما يلزم أنه لم يزل نوع المفعول لا شيء من المفعولات بعينه
وهذا التقدير إذا كان باطلا : فالمريسي لم يذكر إبطاله ولا إبطال شيء من التقديرات وهو لو أراد أن يبطل هذا لم يبطله إلا بإبطال التسلسل في الآثار كما هو طريقة من أبطل ذلك من أهل الكلام ولكن المريسي وموافقوه الذين يقولون : ( بأن الله يخلق المخلوقات بغير فعل قائم به ) ويقولون : ( الخلق هو المخلوق ) ويقولون : ( إن المخلوقات كلها وجدت بعد أن لم تكن موجودة من غير أن يتجدد من الله فعل ولا قصد ولا أمر من الأمور بل ولا من غيره ) - فيقولون : إن الأمر ما زال على وجه واحد ثم حدثت جميع المحدثات وكانت جميع المخلوقات وليس هناك من الفاعل شيء غير وجودها بل حاله قبل وجودها ومع وجودها وبعد وجودها واحد لم يتجدد منه أمر يضاف الحدوث إليه فأصحاب القول الأول يلتزمون التسلسل مع قولهم : ( بأن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه لكن تحدث الحوادث شيئا بعد شيء وهو محدثها بأفعاله سبحانه التي يفعلها أيضا شيئا بعد شيء ) وأصحاب الثاني يقولون : ( بل حدثت من غير سبب حادث ) كما ترى
ومن المعلوم : أنه إذا عرض على العقل القولان كان بطلان هذا القول أظهر من بطلان ذلك القول فإن ترجيح أحد طرفي الممكن بغير مرجح وتخصيص الشيء عن أمثاله التي تماثله من كل وجه بلا مخصص وحدوث الحوادث جميعها بدون سبب حادث - بل مع كون الأمر قبل حدوثها ومع حدوثها على حال واحد - هو أبعد في المعقول وأنكر في القلوب من كون المحدثات لم تزل تحدث شيئا بعد شيء ومن كون الله سبحانه لم يزل يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء كما أنه لا يزال في الأبد يفعل ما يشاء ويتكلم بما يشاء
فلو قدر أن عبد العزيز و المريسي انتهيا إلى هاتين المقدمتين لم يكن للمريسي أن يلزم عبد العزيز بشيء إلا ألزمه عبد العزيز بما هو أشنع منه فكيف و عبد العزيز لم يحتج إلى شيء من ذلك ؟ بل بين أنه لا بد أن يكون قبل المخلوق ما به يخلق المخلوق من صفات الله وأفعاله فيبطل ما يدعيه المريسي ونحوه من أن الله لا صفة له ولا كلام ولا فعل بل خلق المخلوقات وخلق الكلام الذي سماه كلامه بلا صفة ولا فعل ولا كلام
وهذان الجوابان اللذان يمكن عبد العزيز أن يجيب بهما عن إلزامه التسلسل يمكن معهما جواب ثالث مركب منهما كما تقدم التنبيه على ذلك وهو أن يقول :
إن كان التسلسل ممتنعا بطل هذا الإلزام وإن كان مممكنا أمكن التزامه كما قد ذكرنا في غير هذا الموضع : أن المسلمين وغيرهم من أهل الملل القائلين بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام يمكنهم أن يجيبوا بمثل هذا الجواب للقائلين بقدم العالم من الفلاسفة وغيرهم المحتجين على ذلك بحجتهم العظمى التي اعتمد عليها ابن سينا و ابن الهيثم وغيرهما حيث احتجوا على المعتزلة ونحوهم من أهل الكلام فقالوا : الموجب التام للعالم إن كان ثابتا في الأزل لزم قدمه وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإن لم يكن ثابتا في الأزل احتاج في حدوث تمامه إلى مرجح والقول فيه كالقول في الأول ويلزم التسلسل
وعظم شأن هذه الحجة على هؤلاء المتكلمين لأنهم يقولون ببطلان التسلسل وبحدوث الحوادث من غير سبب حادث ويقولون بأن المرجح التام لايستلزم أثره بل القادر أو المريد يرجح أحد مقدوريه أو أحد مراديه على الآخر بلا مرجح فصاروا بين أمرين : إما إثبات الترجيح بلا مرجح وإما التزام التسلسل وكلامهما مناقض لأصولهم ولهذا عدل من عدل في جوابها إلى الإلزام والمعارضة بالحوادث اليومية
جواب على الفلاسفة في مسألة التسلسل
ونحن قد بينا جوابها من وجوه :منها أن يقال : التسلسل يراد به أمور أحدها : التسلسل في المؤثرات والفاعلين والعلل وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء ومنها : التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثرا وهذا كالذي قبله باطل بصريح العقل وقول جمهور العقلاء
ومنها : التسلسل الذي في معنى الدور مثل أن يقال : لا يحدث حادث أصلا حتى يحدث حادث وهذا أيضا باطل بضرورة العقل واتفاق العقلاء
ومنها : التسلسل في الآثار المتعاقبة وتمام التأثير في الشيء المعين مثل أن يقال : لا يحدث هذا حتى يحدث قبله ولا يحدث هذا إلا ويحدث بعده وهلم جرا وهذا فيه نزاع مشهور بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف فمن المسلمين وغيرهم من جوزه في المستقبل دون الماضي
وإذا عرفت هذه الأنواع قالوا : إذا لم يكن المؤثر تاما في الأزل لم يحدث عنه شيء حتى يحدث حادث به يتم كونه مؤثرا إذ القول في ذلك الحادث كالقول في غيره فيكون حقيقة الكلام : أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء
لكن هذا الدليل إن طلبوا به أنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا يناقض قولهم وهو حجة عليهم وإن أرادوا أنه كان في الأزل مؤثرا تاما في الأزل لم تتجدد مؤثريته لزم من ذلك أنه لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء ولهذا عارضهم الناس بالحوادث اليومية وهذا لازم لا محيد لهم عنه وهو يستلزم فساد حجتهم
وإن أرادوا أنه مؤثر في شيء فالحجة لا تدل على ذلك وهو أيضا باطل من وجوه كما قد بسط في موضع آخر فالمؤثر التام يراد به المؤثر في كل شيء والمؤثر في شيء معين والمؤثر تأثيرا مطلقا في شيء بعد شيء : فالأول هو الذي يجعلونه موجب حجتهم وهو يستلزم أن لا يحدث شيء فعلم بطلان دلالة الحجة على ذلك ويراد به التأثير في شيء بعد شيء فهذا هو موجب الحجة وهو يستلزم فساد قولهم وأنه ليس في العالم شيء قديم بل لا قديم إلا الرب رب العالمين ويراد به التأثير في شيء معين فالحجة لا تدل على هذا فلم يحصل مطلوبهم بذلك بل هذا باطل من وجوه أخرى
فبهذا التقسيم ينكشف ما في هذا الباب من الإجمال والاشتباه فكل حادث معين فيقال : هذا الحادث المعين إن كان مؤثره التام موجودا في الأزل لزم جواز تأخير الأثر عن مؤثره التام فبطل قولهم
وإن قيل : بل لا بد أن يحدث تمام مؤثره عند حدوثه فالقول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث تمام الأول وذلك يستلزم التسلسل في حدوث تمام التأثير
وهو باطل بصريح العقل فيلزم على قولهم حدوث الحوادث بغير سبب حادث وهذا أعظم مما أنكروه على المتكلمين من التسلسل
فإن قيل : فما الفرق بين هذا التسلسل وبين التسلسل في تمام تأثير معين بعد معين
قيل : الفرقف بينهما من وجوه :
أحدها : أن هؤلاء قد قالوا إنه مؤثر تام في الأزل والمؤثر التام مستلزم أثره معه فيلزمكم أن لا يحدث عنه شيء بل تكون جميع الممكنات قديمة أزلية وهذا باطل بالحس والمشاهدة
فادعوا أمرين باطلين : أحدها : أنه كان مؤثرا تاما في الأزل وأن المؤثر التام يكون أثره معه في الزمان حتى يكون الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان
فإن قيل : إنه يتقدم عليه بالعلية وهذا بخلاف قول من قال : لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء فهذا لم يقل إنه كان مؤثرا في الأزل في شيء قط ولم يكن مؤثرا تاما في الأزل قط
الثاني : أنهم إن قالوا : إن الأثر يجب أن يقارنه أثره في الزمان لزم أن لا يحدث شيء
وإن قالوا : بل الأثر عقب المؤثر في الزمان لزم أن لا يكون معه قديم وحينئذ فمن قال بهذا قال : إنه لم يزل مؤثرا في شيء بعد شيء وكل ما سواه حادث مسبوق بالعدم
الثالث : أن هؤلاء يقولون : كل حادث معين لا بد أن يحدث تمام تأثيره فيكون هو حادثا عقب تمام التأثير فأي شيء كونه الله كان عقب تكوين الرب له كأجزاء الزمان والحركة التي توجد شيئا فشيئا فقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) فيكون الحادث عقب تكوين الرب له كما يكون الانكسار عقب التكسر والطلاق عقب التطليق فيلزم على هذا حوادث متعاقبة شيئا بعد شيء
وهذا غير ممتنع عند من يقول بهذا من أئمة أهل الملل ومن الفلاسفة بخلف قول المتفلسفة ومن وافقهم على أن الأثر يكون مع المؤثر في الزمان كما قالوا : الفلك قديم بقدم علته وهو معه في الزمان
فهؤلاء إن قالوا بحدوث الحوادث بدون سبب حادث لزمهم المحذور الذي فروا منه وإن قالوا : بل عند كل حادث يحدث مع زمن حدوثه وحدوث تمام مؤثره لزم حدوث حوادث لا تتناهى في آن واحد من غير تجدد شيء عن المؤثر الأزلي فلزمهم التسلسل في تمام أصل التأثير لا في تأثير معين وهو ممتنع مع قولهم بحوادث لا تتناهى في آن واحد
وهم وسائر العقلاء يسلمون بطلان هذا وإنما نازع فيه معمر صاحب المعاني وقد ظهر بطلان ذلك فإنه تسلسل في أصل التأثير لا في تأثير المعينات فلزمهم المحال الذي لزم أصحاب معمر ويلزمهم المحال والتناقض الذي اختصوا به ؟ وهو قولهم بأن المؤثر مع مؤثره في الزمان مع كون الرب مؤثرا تاما في الأزل فيلزمهم أن لا يحدث في العالم شيء
ومنها أن يقال : التسلسل جائز في أصلكم فلا تكون الحجة برهانية بل تكون جدلية وهي تلزمنا بتقدير صحتها أحد أمرين : إما القول بالترجيح بلا مرجح وإما القول بالتسلسل وإلا كنا قد تناقضنا في نفي هذا وهذا ولكن جواز التناقض علينا يقتضي بطلان أحد قولينا فلم قلتم : إن قولنا الباطل هو نفي الترجيح بلا مرجح مع اتفاقنا على بطلانه ؟ فقد يكون قولنا الباطل : هو نفي التسلسل في الآثار الذي نازعنا فيه من نازعنا من إخواننا المسلمين مع منازعتكم لنا في ذلك وإذا كان كذلك فالتزامنا لقول نوافق فيه إخواننا المسلمين وتوافقوننا أنتم عليه وتبطل به حجتكم على قدم العالم أولى أن نلتزمه من قول يخالفنا فيه هؤلاء وهؤلاء وتقوم به حجتكم على قدم العالم
الجواب الثالث : الجواب المركب وهو أن يقال : إن كان التسلسل في تمام التأثير ممكنا بطلت الحجة فإنه يمكن حينئذ أن يحدث كل ما سوى الله بأن يحدث تمام تأثيره وإن كان ممتنعا لزم إما أن لا يحدث شيء وهو خلاف المشاهد وإما أن تحدث الحوادث بدون سبب حادث وهو يبطل الحجة فبطلت الحجة على كل تقدير
وإن شئت قلت : إن التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بحيث يحدث شيئا بعد شيء ولا يكون علة تامة في الازل لزم حدوث كل ما سوى الله وبطلت الحجة وإن كان ممتنعا لزم أيضا أن تحدث الحوادث عن المؤثر التام الأزلي فيلزم حدوث جميع الحوادث عنه ولزم حينئذ حدوث العالم فتبطل حجة قدمه فالحجة باطلة على التقديرين وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
مراجعة تعليق عبد العزيز الكناني
وأما قول عبد العزيز : ( فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريدا ومرادا وقولا وقائلا ومقولا له وقدرة وقادرا ومقدورا عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق ) فيحتمل أمرين :أحدهما : أنه أراد بالمراد : المراد المتصور في علم الله وبالمقدور عليه : الثابت في علم الله وبالمقول له المخاطب الثابت في علم الله المخاطب خطاب التكوين كما قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) وهذه معان ثابتة لله تعالى قبل وجود المخلوق لهذا اضطربت نفاة الصفات من المعتزلة وغيرهم في هذه الأمور فتارة يثبتونها في الخارج وتارة ينفونها مطلقا ومن هنا غلط من قال : ( المعدوم شيء ) فإنهم ظنوا أنه لما كان لا بد من تمييز ما يريده الله مما لا يريده ونحو ذلك توهموا أن هذا يقتضي كون المعدوم ثابتا في الخارج وليس الأمر كذلك بل هي معلومة لله تعالى ثابتة في علم الله تعالى
وضل آخرون في مقابلة هؤلاء كهشام الفوطي فإنه ذكر عنه الأشعري في المقالات أنه كان يقول : ( لم يزل الله عالما أنه واحد لا ثاني له ولا يقول : إنه لم يزل عالما بالأشياء ) وقال : ( إذا قلت : لم يزل عالما بالأشياء أثبتها لم تزل مع الله ) وإذا قيل له : ( أفتقول بأن الله لم يزل عالما بأن ستكون الأشياء ؟ قال : إذا قلت بأن ستكون فهذه إشارة إليها ولا يجوز أن يشار إلا إلى موجود ) وكان لا يسمى ما لم يخلقه ولم يكن شيئا
والثاني : أن يريد بذلك نفس الفعل المقدور المراد الذي يكون به المخلوق
وأما القول : فهو المصدر كما تقدم والمقول هو الكلام فإن في إحدى النسختين : ( مقولا له ) وفي الأخرى : ( ومقولا )
وعلى هذا فقول عبد العزيز : ( إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد سبيلا إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول لأن الله لا يكون مكانا لحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك ! ) مراده : أنه لا يكون مكانا لما حدث مطلقا وهو ما حدث جنسه كالكلام عند من يقول : إنه حادث الجنس فإنه يقول : إن الله صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فيكون جنس الكلام محدثا وكذلك إذ قيل : أراد بعد أن لم يكن مريدا فحدث جنس الإرادة وكذلك إذا قيل : علم بعد أن لم كن عالما فيكون جنس العلم حادثا وأمثال هذا فإن الله لا يكون مكانا لأجناس الحوادث
وعلى هذا فيكون عبد العزيز قد ذكر على بطلان قول المريسي عدة حجج : أنه لا يكون مكانا للمخلوقات ولا يكون مكانا لما جنسه حادث ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء فهذه ثلاث حجج وهذا لا ينافي ما ذكره من أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة وأن الفعل صفة والله يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع وأنه أحدث الأشياء بأمره وقوله عن قدرته ونحو ذلك فإن هذا الفعل والقول المقدور الذي ليس هو مخلوقا منفصلا عنه ليس جنسه محدثا عنده وإن كان الواحد من آحاده يكون بعد أن لم يمكن فالجنس لا يقال له حادث ولا محدث بل لم يزل الله موصوفا بذلك عنده ولهذا قال : ( ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه ) فإن ما كان جنسه محدثا كان قد زادت به الذات وقد عرف أن المخلوق عنده : ما كان مسبوقا بفعله الذي خلق به وقوله وقدرته وأن المخلوق لا يكون إلا منفصلا عنه
فهذا الذي قاله عبد العزيز فيه رد على الكرامية ومن وافقهم في أنهم جوزوا عليه أن يحدث له جنس الكلام ونحوه مما لم يكن موجودا فيه قبل ذلك وجوزوا أن يحدث له جنس صفات الكمال ومتى قيل : ( إنه لم يكن موصوفا بجنس من أجناس صفات الكمال حتى حدث له ) لزم أن يكون قبل ذلك ناقصا عن صفة من صفات الكمال فلا يكون متكلما بل يكون موصوفا قبل ذلك بعدم الكلام وهذا الذي قاله عبد العزيز هو نظير قول الإمام أحمد وغيره من الأئمة
رأي أحمد بن حنبل في مسألة أفعال الله
قال أحمد في ( رده على الجهمية ) : باب ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى : - ( فقلنا : لم أنكرتم ذلك ؟ قالوا : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم وإنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فأسمع وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين فقلنا : هل يجوز لمكون أوغير الله أن يقول : { يا موسى * إني أنا ربك } ( طه : 12 ) أويقول : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } ( طه : 14 ) ؟ فمن قال ذلك زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمي : أن الله كون شيئا كان يقول ذلك المكون : { يا موسى إني أنا الله رب العالمين } ( القصص : 30 ) وقد قال جل ثناؤه { وكلم الله موسى تكليما } ( النساء : 164 ) وقال تعالى : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } ( الأعراف : 143 ) وقال تعالى : { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } ( الأعراف : 144 ) هذا منصوص القرآنفأما ما قالوا : ( إن الله لا يتكلم ) فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خثيمة عن عدي بن حاتم الطائي قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ]
وأما قولهم : إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات فقد قال تعالى : { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } ( الأنبياء : 79 ) أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا : { لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } فصلت : 21 ) أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان ؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير أن نقول : بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان فلما خنقته الحجج قال : إ : ن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره فقلنا : وغيره مخلوق ؟ قالوا : نعم قلنا : مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة وحديث الزهري قال : [ لما سمع موسى كلام الله قال : يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك ؟ قال : نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له : صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله ! وهل أستطيع أن أصفه لكم ؟ قالوا : فشبهه قال : هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله ]
فقد ذكر أحمد في هذا الكلام : أن الله تعالى يتكلم كيف شاء وذكر فيما استشهد به من الأثر ( أن الله كلم موسى عليه السلام بقوة عشرة آلاف لسان ) وأن له قوة الألسن كلها وهو أقوى من ذلك وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقا بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات التي لا تتعلق بمشيئة ولا قدرة وبين أيضا في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم ردا على الجهمية وأستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عدي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ] وجعل قوله : [ سيكلمه ربه ] دليلا على أنه سيتكلم فبين أن التكلم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل
وقال الإمام أحمد : ( وقلنا للجهمية : من القائل يوم القيامة : { يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } ( المائدة : 116 ) أليس الله هو القائل ؟ قالوا : يكون الله شيئا فيعبر عن الله كما كون شيئا فعبر لموسى قلنا : فمن القائل { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم } ( الأعراف : 6 - 7 ) أليس الله هو الذي يسأل ؟ قالوا : هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله فقلنا : قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان فلما ظهرت عليه الحجة قال : إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق قلنا : وكذلك بنوا آدم كلامهم مخلوق فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق ففي مذهبكم : قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة ! بل نقول : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول : إن كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما ولا نقول : إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول : إنه كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول : إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول : إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة )
فقد بين أحمد في هذا الكلام الإنكار على النفاة الذي شبهوه بالجمادات التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان مثل الأصنام المعبودة من دون الله والإنكار على من زعم أنه كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام فشبهه بالآدمي الذي كان لا يتكلم حتى خلق الله له كلاما فأنكر تشبيهه الجماد الذي لا يتكلم وبالإنسان الذي كان قادر على الكلام حتى خلق الله له الكلام فكان قادرا على الكلام في وقت دون وقت وبين أن من وصف الله ذلك فقد جمع بين الكفر - حيث سلب ربه صفة الكلام وهي من أعظم صفات الكمال وجحد ما أخبرت به النصوص - وبين التشبيه
ثم قال أحمد : ( بل نقول : إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول : إنه كان ولا يتكلم حتى خلق ) فبين أن الكلام يتعلق بمشيئته وأنه لم يزل متكلما إذا شاء فرد قول من لا يجعل الكلام متعلقا بالمشيئة كقول الكلابية ومن وافقهم ومن يقول : ( كان ولا يتكلم حتى حدث له الكلام ) كقول الكرامية ونحوهم وقال : ( لا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما لا نقول : إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علما فعلم ولا نقول : إنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسة قدرة ولا نقول : إنه قد كان له ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا ولا نقول : إنه كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة ) فنزهه سبحانه عن سلب صفات الكمال في وقت من الأوقات وإنا لا نقول : تجددت له صفات الكمال بل لم يزل موصوفا بصفات الكمال ومن صفات الكمال : إنه لم يزل متكلما إذا شاء لا أن يكون الكلام خارجا عن قدرته ومشيئته ولهذا لم يقل : لم يزل عالما إذا شاء ولا قال : يعلم كيف شاء وقد قال في موضع آخر فيما رواه عنه حنبل : ( لم يزل الله عالما متكلما غفورا )
وكلام أحمد وغيره من الأئمة في هذا الأصل كثير ليس هذا موضع بسطه مثل ما ذكره البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد والرد على الجهمية قال : باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق وهو فعل الرب وأمره فالرب تعالى بصفاته وفعله وأمره - وفي نسخه ( وكلامه ) - هو الخالق المكون غير مخلوق وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مكون مخلوق )
وقال بعد ذلك : باب قول الله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } إلى قوله { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ( سبأ : 23 ) ولم يقولوا ماذا خلق ربكم قال عز و جل : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ( البقرة : 255 ) وقال مسروق عن أبن مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا : { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ( سبأ : 23 ) ويذكر عن جابر بن عبد الله بن أنيس سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ] وذكر حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير ] وذكر حديث أبي سعيد الخدري قال : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم يقول الله : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك ! فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ] والحديث فيه طول استوفاه في موضع آخر
وقال بعد ذلك : باب ما جاء في قول الله تعالى : { كل يوم هو في شأن } ( الرحمن : 29 ) وقال : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } ( الأنبياء : 2 ) وقوله تعالى : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ( الطلاق : 1 ) وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله تعال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ( الشورى : 11 ) وذكر قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث : أن لا تكلموا في الصلاة ] وقول ابن عباس : كتابكم أحدث الأخبار بالرحمن عهدا محضا لم يشب
ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول ولهذا تأتلف ولا تختلف وتتوافق ولا تتناقض والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول فتشعبت بهم الطرق وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب وقد قال تعالى : { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } ( البقرة : 176 )
ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصيرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ؟ وكم من ذال تائه قد هدوه ؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجموعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين )
ومن أعظم أصول التفريق بينهم في هذه المسألة - مسألة أفعال الله تعالى وكلام الله ونحوه ذلك مما يقوم بنفسه ويتعلق بمشيئته وقدرته - فإن هذا الأصل لما أنكره من أنكره من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ونحوهم وظنوا أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع إلا إثبات حدوث الجسم ولا يمكن إثبات حدوثه إلا بإثبات حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة ألجأهم ذلك إلى أن ينفوا عن الله صفاته وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته أو ينفوا بعض ذلك وظنوا أن الإسلام لا يقوم إلا بهذا النفي وأن الدهرية من الفلاسفة وغيرهم لا يبطل قولهم إلا بهذا الطريق وأخطأوا في هذا وهذا
أما الفلاسفة الدهرية فإن هذه الطريقة زادتهم إغراء وأوجبت لهم حجة عجز هؤلاء عن دفعها إلا بالمكابرة التي لا تزيد الخصم إلا قوة وإغراء فقالو لهم : كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث ؟ وكيف تكون الذات حالها وفعلها وجميع ماينسب إليها واحدا من الأزل إلى الأبد ؟ والعالم يصدر عنها في وقت دون وقت من غير فعل يقوم به ولا سبب حدث ؟
فكان ما جعلوه أصل للدين وشرطا في معرفة الله تعالى منافيا للدين ومانعا من كمال معرفة الله وكان ما أحتجوا به من الحجج العقلية هي في الحقيقة على نقيض مطلوبهم أدل فالحوادث لا تحدث إلا بشرط جعلوه مانعا من الحدوث وأما أمور الإسلام : فإن هذا الأصل اضطرهم إلى نفي صفات الله تعالى لئلا تنتقض الحجة ومن لم ينف الصفات نفى الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته فلزمهم من عدم الإيمان ببعض ما جاء به الرسول ومن جحد بعض ما يستحقه الله تعالى من أسمائه وصفاته ما أوجب له من من التناقض والإرتياب ما تبين لأولى الألباب فلم يعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه ولا الجهاد لعدو الله ورسوله حقه وقد قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا } ( الآية ( الحجرات : 15 )
هذا مع دعواهم أنهم أعظم علما وإيمانا وتحقيقا لأصول الدين وجهادا لأعدائه بالحجج من الصحابة وإن هم في ذلك إلا كبعض الملوك الذين لم يجاهدوا العدو بل أخذوا منهم بعض البلاد ولا عدلوا في المسلمين العدل الذي شرعه الله للعباد إذا ادعى أنه أمكن وأعدل من عمر بن الخطاب وأصحابه رضوان الله عليهم
أقوال مختلفة في كلام الله تعالى
ثم إنهم بسبب ذلك تفرقوا في أصول دينهم كتفرقهم في كلام الله من القرآن وغيره فإنهم تفرقوا فيه شيعا : شيعة قالت : هومخلوق وحقيقة قولهم : لم يتكلم الله هبه كما كان قدماؤهم يقولون : لكن المعتزلة صاروا يطلقون اللفظ بأن الله متكلم حقيقة وكان مرادهم مراد من قال : إن الله لم يتكلم ولا يتكلم كما ذكره أحمد : إنهم تارة ينفون الكلام وتارة يقولون : يتكلم بكلام مخلوق وهو معنى الأولوهذا في الحقيقة تكذيب للرسل الذي إنما أخبروا الأمم بكلام الله الذي أنزله إليهم وجاءت الفلاسفة القائلون بقدم العالم فقالوا أيضا : متكلم وكلامه ما يفيض من العقل الفعال على نفوس الأنبياء وهذا قول من وافقهم من القرامطة الباطنية ونحوهم ممن يتظاهر بالإسلام ويبطن مذهب الصابئة والمجوس ونحو ذلك وهو قول طوائف من ملاحدة الصوفية كأصحاب وحدة الوجود ونحوهم الذين أخذوا دين الصابئة والفراعنة والدهرية فأخرجوه في قالب المكاشفات والولاية والتحقيق
والذين قالوا ليس هو مخلوقا ظن فريق منهم أنه لا يقابل المخلوق إلا القديم اللازم للذات الذي يثبتونه بدون مشيئة الرب وقدرته كثبوت الذات فقالوا ذلك
ثم طائفة رأت أن الحروف والأصوات يمتنع أن تكون كذلك فقالت : كلامه هو مجرد معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر وأنه إن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا فلزمهم أن تكون معاني القرآن هي معاني التوراة والإنجيل وأن يكون الأمر هو النهي وهو الخبر وأن تكون هذه صفات له لا أنواعا له ونحو ذلك مما يعلم فساده بصريح العقل
وطائفة قالت بل هو حروف وأصوات أزلية لا تتعلق بمشئيته وقدرته كما قال الذين من قبلهم
واتفق الفريقان على أن تكليم الله لملائكته وتكليمه موسى وتكليمه لعباده يوم القيامة ومناداته لمن ناداه ونحو ذلك : إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجودا كما أن تجليه - عند من ينكر مباينته لعباده وأن يكشف لهم حجابا منفصلا عنهم - ليس هو إلا خلق إدراك في أعينهم من غير أن يكون هناك حجاب منفصل عنهم يكشفه لهم
وطائفة ثالثة لما رأت شناعة كل من القولين قالت : بل يتكلم بعد أن لم يكن يتكلم بصوت وحروف وكلامه حادث قائم بذاته متعلق بمشيئته وقدرته وأنكروا أن يقال : لم يزل متكلما إذا شاء إذ ذلك يقتضي تسلسل الحوادث وتعاقبها وهذا هو الدليل الذي استدلوا به على حدوث أجسام العالم
فليتدبر المؤمن العالم كيف فرق هذا الكلام المحدث المبتدع بين الأمة وألقى بينها العداوة والبغضاء مع أن كل طائفة تحتاج أن تضاهي من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض إذ مع كل طائفة من الحق ما تنكره الأخرى فالذين قالوا بخلق القرآن إنما ألقاهم في ذلك أنهم رأوا أنه لا يمكن أن يكون الكلام لازما للذات لزوم العلم بل الكلام يتعلق بمشيئتة المتكلم وقدرته فقالوا : يكون من صفات الفعل والمتكلم : من فعل الكلام ثم لم يثبتوا فعلا إلا منفصلا عنه لنفيهم أن يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته وصار من قابلهم يريد أن يثبت كلاما لازما للمتكلم لا يتعلق بمشيئته وقدرته : إما معنى وإما حروفا ويثبت أن المتكلم لا يقدر على التكلم ولا يمكنه أن يقول غير ما قال ويسلب المتكلم قدرته على القول والكلام وتكلمه باختياره ومشيئته فإذا قال له الأول : ( المتكلم من فعل الكلام ) قال هو : ( المتكلم من قام به الكلام ) ولكن ذاك يقول : لا يقوم الكلام بفاعله وهذا يقول : لا يختار المتكلم أن يتكلم
فأخذ هذا بعض صفة الكلام وهذا بعضها والمتكلم المعروف : من قام به الكلام ومن يتكلم بمشيئته وقدرته ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها
وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه ولا يعرفون قائله فالشهرستاني صنف المل والنحل وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره و القاضي أبو بكر و أبو المعالي و القاضي أبو يعلى و ابن الزاغوني و أبو الحسين البصري و محمد بن الهيثم ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين تجد أحدهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة ويختار واحدا منها والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم مع أن عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون : إنهممتبعون للأئمة كمالك و الشافعي و أحمد و ابن المبارك و حماد بن زيد وغيرهم لا سيما الإمام أحمد فإنه بسبب المحنة المشهورة من الجهمية له ولغيره أظهر من السنة ورد من البدعة ما صار به إماما لمن بعده وقوله هو قول سائر الأئمة فعامة المنتسبين إلى السنة يدعون متابعته والاقتداء به سواء كانوا موافقين له في الفروع أو لا فإن أقوال الأئمة في أوصول الدين متفقة ولهذا كلما اشتهر الرجل بالانتساب إلى السنة كانت موافقته لأحمد أشد ولما كان الأشعري ونحوه أقرب إلى السنة من طوائف من أهل الكلام كان انتسابه إلى أحمد أكثر من غيره كما هو معروف في كتبه
وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة و مالك و الشأفعي و أحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها وتكون منصوصة عن النبي صلى الله عليه و سلم لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس حتى صار الحق الذي جاء به الرسول - وهو المطابق للمعقول - لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات : { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ( الحشر : 10 )
عدم ذكر مصنفي أصول الدين
وكان هذا من تلك البدع الكلامية كبدع الذين جعلوا أصل الدين مبنيا على كلامهم في الأجسام والأعراض ولهذا كثر ذم السلف والأئمة لهؤلاء وإذا رأيت الرجل قد صنف كتابا في أصول الدين ورد فيه من أقوال أهل الباطل ما شاء الله ونصر فيه من أقوال أهل الحق ما شاء الله ومن عادته أنه يستوعب الأقوال في المسأل فيبطلها إلا واحدا ورأيته في مسألة كلام الرب تعالى وأفعاله أو نحو ذلك ترك من الأقوال ما هو معروف عن السلف والأئمة - تبين أن هذا القول لم يعرفه ليقبله أو يرده إما لأنه لم يخطر بباله أو لم يعرف قائلا له أو لأنه خطر له فدفعه بشبهة من الشبهات وكثيرا ما يكون الحق مقسوما بين المتنازعين في هذا الباب فيكون في قول هذا حق وباطل وفي قول هذا حق وباطل والحق بعضه مع هذا وبعضه مع هذا وهو مع ثالث غيرها والعصمة إنما هي ثابتة لمجموع الأمة ليست ثابتة لطائفة بعينهافإذا رأيت من صنف في الكلام - كصاحب الإرشاد و المعتمد ومن أتبعهما ممن لم يذكروا في ذلك إلا أربعة أقوال وما يتعلق بها - علم أنه لم يبلغهم القول الخامس ولا السادس فضلا عن السابع فالذين يسلكون طريقة ابن كلاب كصاحب الإرشاد ونحوه يذكرون قول المعتزلة وقول الكرامية ويبطلونهما ثم لا يذكرون مع ذلك إلا ما يقولون فيه ( وذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله تعالى قديم أزلي ثم زعموا أنه حروف وأصوات وقطعوا بأن المسموع صوت القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله تعالى الله عن قولهم ! وهذا قياس جهالاتهم ثم قالوا : إذا كتب كلام الله بجسم من الأجسام رقوما ورسوما وأسطرا وكلما فهي بأعينها كلام الله القديم فقد كان إذ كان جسما حادثا ثم أنقلب قديما ثم قضوا بأن المرئي من الأسطر هو الكلام القديم الذي هو حرف وأصوات وأصلهم أن الأصوات على تقطيعها وتواليها كانت ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وقواعد مذهبهم مبينة على دفع الضرورات )
فلم يذكر أبوالمعالي إلا هذا القول من قول المعتزلة والكلابية والكرامية
ومعلوم أن هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول ولا نعرف هذا القول عن معروف بالعلم من المسلمين ولا رأينا هذا في شيء من كتب المسلمين ولا سمعناه من أحمد منهم فما سمعنا من أحد ولا رأينا في كتاب احد أن المداد الحادث انقلب قديما ولا أن المداد الذي يكتب به القرآن قديم بل رأينا عامة المصنفين من أصحاب أحمد وغيرهم ينكرون هذا القول وينسبون ناقله عن بعضهم إلى الكذب
و أبو المعالي وأمثاله أجل من أن يتعمد الكذب لكن القول المحكي قد يسمع من قائل لم يضبطه وقد يكون القائل نفسه لم يحرر قولهم بل يذكر كلاما مجملا يتناول النقيضين ولايميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر فيحكيه الحاكي مفصلا ولا يجمله إجمال القائل ثم إذا فصله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضا وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسه وما كل من قال قولا التزمه لوازمه بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم فالحاكي يجعل ما يظنه من لوازم قوله هو أيضا من قوله لا سيما إذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازما فإنه يجعله قولا بطريق الأولى
ولا ريب أن من الناس من يقول : هذا القرآن كلام الله وما بين اللوحين كلام الله ويقول : إن كلام الله محفوظ في القلوب متلو بالألسن مسموع بالآذان مكتوب في المصاحف وهذا الإطلاق حق متفق عليه بين المسملين ثم من هؤلاء من إذا سئل عن المداد وصوت العبد : أقديم هو ؟ أنكر ذلك وربما سكت عن ذلك وكره الكلام فيه بنفي أو إثبات خشية أن يجره ذلك إلى بدعة مع أنه لو سمع من يقول : ( إن المداد قديم ) ألزمه العقوبة به والعذاب الأليم
وأما صوت العبد فقد تكلم فيه طائفة من المنتسبين إلى الأئمة كالشافعي و أحمد وغيرهما فمنهم من قال : إن الصوت المسموع قديم ومنهم من يقول : يسمع شيئين الصوت القديم والمحدث وهذا خطأ في العقل الصريح وهو بدعة وقول قبيح
و الإمام أحمد وجماهير أصحابه منكرون لما هو أخف من ذلك فإن أحمد وأئمة أصحابه قد أنكروا على من قال : اللفظ بالقرآن غير مخلوق فكيف بمن قال : اللفظ به قديم فكيف بمن قال : الصوت غير مخلوق ؟ فكيف بمن قال : الصوت قديم ؟ وقد بدعوا هؤلاء وأمروا بهجرهم وقد صنف المروذي في ذلك مصنفا كبيرا ذكره الخلال في كتاب السنة كما جهموا وبدعوا من قال : اللفظ به مخلوق أيضا كما بين في موضعه
إذا المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء من لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل بل لم يعرف إلا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية ولا هو قول المسلمين بالحشوية فأين ذلك القول ؟ أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقا ولا باطلا ؟
ومعلوم أن كل قول من هذه الأقوال فاسد من وجوه وقد يكون بعضها أفسد من بعض فقول المعتزلة الذي قالوا : ( إن كلام الله مخلوق ) وإن كان فاسدا من وجوه فقول الكلابية فاسد من وجوه وقول الكرامية فاسد من وجوه
و الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا هذه الأقوال كلها : أنكروا قول الكلابية والكرامية بالنصوص الثابتة عنهم وإنكارهم لقول المعتزلة متواتر مستفيض عنهم وأنكروا على من جعل ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة فكيف بالقول المنسوب إلى هؤلاء الحشوية ؟ ولهذا لما كان أبو حامد مستمدا من كلام أبي المعالي وأمثاله وأراد الرد على الفلاسفة في التهافت ذكر أنه يقابلهم بكلام المعتزلة تارة وبكلام الكرامية تارة وبكلام الواقفة تارة كما يكلمهم بكلام الأشعرية وصار في البحث معهم إلى مواقف غايته فيها بيان تناقضهم وإذا ألزموه فر إلى الوقف
ومن المعلوم أنه لا بد في كل مسألة دائرة بين النفي والإثبات من حق ثابت في نفس الأمر أو تفصيل ومن المعلوم أن كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام موافق لصريح العقل فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يخبروا بمحالات العقل وإنما يخبرون بمجازات العقول وما يعلم بصريح العقل أنتفاؤه لا يجوز أن يخبر به الرسل بل تخبر بما لا يعلمه العقل وبما يعجز العقل عن معرفته
ومن المعلوم أن السلف والأئمة له قول خارج عن قول المعتزلة والكرامية والأشعرية والواقفة ومن علم ذلك القول فلا بد أن يحكيه ويناظرهم به كما يناظرهم بقول المعتزلة وغيرهم لكن من لم يكن عارفا بآثار السلف وحقائق أقوالهم وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول إلا بمبلغ علمه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإنكان ذلك في المسائل العملية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابة الرسول بحسب إمكانه : هو أحق بان يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه تحقيقا لقوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ( البقرة : 286 )
عدم ذكر الشهرستاني لقول السلف في نهاية الإقدام
و الشهرستاني - لما كان أعلم بالمقالات من إخوانه - ذكر في مسألة الكلام قولا سادسا وظن أنه قول السلف فقال في نهاية الإقدام - بعد أن ذكر قول الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية والكرامية وأن المعتزلة لما قالت : ( أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منظمومة وكلمات مجموعة وهي مقروءة مسموعة على التحقيق لها مفتتح ومختتم وأنه معجزه للرسول صلى الله عليه و سلم دالة على صدقه وأن الأشعرية تفرق بين اللفظ والمعنى وتثبت معنى هو مدلول اللفظ ) - ثم قال : ( قال السلف والحنابلة : قد تقرر الاتفاق على أن ما بين الدفتين كلام الله وأن ما نقرؤه ونكتبه ونسمعه عين كلام الله فيجب أن تكون تلك الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله ولما تقرر الاتفاق على أن كلام غير مخلوق فيجب أن تكون تلك الكلمات أزلية غير مخلوقةولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين : أحدهما القدم والثاني الحدوث والقولان مقصوران على الكلمات المتوبة والآيات المقروءة بالألسن فصار الآن قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات وقد حتم قدحا ليس منها وهو خلاف القولين فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الكلمات دون التعرض لمعنى وراءها فأبدع الأشعري قولا وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع وحكم بأن ما نقرأه كلام الله مجازا لا حقيقة وهو عين الابتداع فهلا قال : ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته ؟ كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين إلى غير ذلك من الصفات الخبرية )
قال : قال السلف : ولا يظن بنا أن نثبت القدم للحروف والأصوات التي قامت بألسنتنا وصارت صفات لنا فأنا على قطع نعلم افتتاحها واختتامها وتعلقها بأكسابنا وأفعالنا وقد بذل السلف أرواحهم وصبروا على أنواع البلايا والمحن من معتزلة الزمان دون أن يقولوا : القرآن مخلوق : ولم يكن ذلك على حروف وأصوات هي أفعالنا وأكسابنا بل هم عرفوا يقينا أن لله تعالى قولا وكلاما وأمرا وأن أمره غير خلقه بل هو أزلي قديم بقدمه
كما ورد القرآن بذلك في قوله تعالى : { ألا له الخلق والأمر } ( الأعراف : 54 ) وقوله تعالى : { لله الأمر من قبل ومن بعد } ( الروم : 4 ) وقوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) فالكائنات كلها إنما تتكون بقوله وأمره وقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) وقوله تعالى : { وإذ قال ربك } ( البقرة : 30 ) { وإذ قلنا للملائكة } ( البقرة : 34 ) { قال الله } ( المائدة : 115 ) فالقول قد ور في السمع مضافا إلى الله أخص من إضافة الخلق فإن المخلوق لا ينسب إلى الله تعالى إلا من جهة واحدة وهي الخلق والإبداع والأمر ينسب إليه لا على تلك النسبة وإلا فيرتفع الفرق بين الخلق والأمر والخلقيات والأمريات
قالوا : ومن جهة العقل : العاقل يجد فرقا ضروريا بين ( قال ) و ( فعل ) وبين ( أمر ) و ( خلق ) ولو كان القول فعلا كسائر الأفعال بطل الفرق الضروري فثبت أن القول غير الفعل وهو قبل الفعل وقبليته قبلية أزلية إذ لو كان له أول لكان فعلا سبقه قول آخر ويتسلسل )
قال : ( وحققوا زيادة تحقيق فقالوا : قد ورد في التنزيل أظهر مما ذكرناه من الأمر وهو التعرض لإثبات كلمات الله حيث قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } ( الأنعام : 115 ) وقال : { ولولا كلمة سبقت من ربك } ( يونس : 19 ) وقال تعالى : { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } ( الكهف : 109 ) وقال تعالى { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } ( لقمان : 17 ) وقال تعالى : { ولكن حق القول مني } ( السجدة : 13 ) وقال : { ولكن حقت كلمة العذاب } ( الزمر : 71 ) فتارة يجيء الكلام بلفظ الأمر وتثبت له الوحدة الخالقية التي لا كثرة فيها : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } ( القمر : 50 ) وتارة يجيء بلفظ الكلمات وتثبت لها الكثرة البالغة التي لا وحدة فيها ولا نهاية لها { ما نفدت كلمات الله } فله تعالى إذا أمر وكلمات كثيرة وذلك لا يتصور إلا بحروف
فعن هذا قلنا : أمره قديم وكلماته أزلية والكلمات مظاهر الأمر والروحانيات مظاهر الكلمات والأجسام مظاهر الروحانيات والإبداع والخلق إنما يبتدي من الأرواح والأجسام وأما الكلمات والحروف والأمر فأزلية قديمة وكما أن أمره لا يشبه أمرنا فكلماته وحروف كلماته لا تشبه كلامنا وهي حروف قدسية علوية وكما أن الحروف بسائط الكلمات والكلمات أسباب الروحانيات والروحانيات مدبرات الجسمانيات وكل الكون قائم بكلمات الله محفوظ بأمر الله )
قال : ( ولا يغفلن عاقل عن مذهب السلف وظهور القول في حدوث الحروف فإن له شأنا وهم يسلمون الفرق بين القراءة والمقروء والكتابة والممكتوب ويحكمون بأن القراءة التي هي صفتنا وفعلنا غير المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير أن المقروء بالقراءة قصص وأخبار وأحكام وأمر وليس المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا غير بأن المقروء بالقراءة قص وأخبار وأحكام وأمر وليس المقروء من قصة آدم وإبليس هو بعينه المقروء من قصة موسى وفرعون وليست أحكام الشرائع الماضية هي بعينها أحكام الشرائع الخاتمة فلا بد إذا من كلمات تصدر عن كلمة وترد على كلمة ولا بد من حروف تتركب منها الكلمات وتلك الحروف لا تشبه حروفنا وتلك الكمات لا تشبه كلامنا )
قلت : فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد وأتباعه فإن أولئك لم يحكوا إلا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام وأما القول الذي ذكره الشهرستاني : فقال به طائفة كبيرة وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد و مالك و الشافعي وغيرهم من الطوائف وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية وقد قاله طائفة غير هؤلاء كما ذكر ذلك الأشعري في كتاب المقالات لما ذكر كلام ابن كلاب فقال : ( قال ابن كلاب : إن الله لم يزل متكلما وإن كلامه صفة له قائمة به وإنه قدمي بكلامه وإن كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به وإن الكلام ليس بحروف ولا صوت ولا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض وإنه معنى واحد قائم بالله )
قال : ( وقال بعض من أنكر خلق القرآن : إن القرآن يسمع ويكتب وإنه متغاير غير مخلوق وكذلك العلم غير القدرة والقدرة غير العلم وإن الله لا يجوز أن يكون غير صفاته وصفاته متغايرة وهو غير متغاير )
قال : ( وزعم هؤلاء أن الكلام غير محدث وأن الله لم يزل متكلما وأنه مع ذلك حروف وأصوات وأن هذه الحروف الكثيرة لم يزل الله متكلما بها )
قلت : فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف مثل إنكارهم على من زعم أن الله خلق الحروف وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت ومثل تفريقهم بين صوت القارىء وبين الصوت الذي يسمع من الله ونحو ذلك فهذا كله موجود عن السلف والأئمة وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفا عن السلف والأئمة مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف المعين ولكن القول الذي أطبقوا عليه : هو أن كلام الله غير مخلوق ولكن الناس تنازعوا في مرادهم بذلك والنزاع في ذلك موجود في عامة الطوائف من أصحاب أحمد وغيرهم كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
والنزاع في ذلك مبني على هذا الأصل هو كون قوله - مع أنه غير مخلوق ومع أنه قائم به ومع أنه لم يزل متكلما - : هل يتعلق بقدرته ومشيئته أم لا ؟ فهذا القول السابع لم يذكره الشهرستاني ونحوه إذ الأقوال المعروفة للناس في مسألة الكلام سبعة أقوال
موقف الرازي في مسألة القرآن وأفعال الله
والمقصود هنا : أن أبا عبد الله الرازي في أكثر كتبه لم يبن مسألة القرآن على الطريقة المعروفة ل الأشعري وهو أنه يمتنع أن يحدث في نفسه كلام لكونه ليس محلا للحوادث وذلك لأنه قد ضعف هذا الأصل فلم يمكنه أن يبني عليه بل أثبت ذلك بإجماع مركب فقرر بأن الكلام له معنى غير العلم والإرادة خلافا للمعتزلة ونحوهم وإذا كان كذلك فكل من قال بذلك قال : إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى فلو لم يقل بذلك لكان خلاف الإجماع فهذا هو العمدة التي اعتمد عليها في نهاية العقول وهو ضعيف فإن الإقوال في المسألة متعددة قول غير المعتزلة والكلابيةوكان من الممكن أن يقال له : إن ثبت أنه لا يقوم بالله ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن أن يجعل كلام الله قديما بالطريقة المعروفة فإنه يمتنع أن يحدثه قائما في نفسه أو في محل آخر فإذا أمتنع حدوثها في نفسه تعين قدمه وإن لم يثبت ذلك بل أمكن أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن هنا قول الكرامية وقول أهل الحديث الذين يقولون : إنه قول السلف والأئمة فلم يتعين قول الكلابية فذكر في نهاية العقول ما جرت عادته وعادة غيره بذكره وهو أن معنى الكلام : إما أن يكون هو الإرادة والعلم وإما أن يكون الطلب مغايرا للإرادة والحكم الذهني مغايرا للعلم والأول باطل لأن الإنسان في الشاهد قد يخبر بما يعلمه ولا يعتقده وقد يأمر بأمر لا يريده كالسيد إذا كان قصده امتحان العبد
قال : ( وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب )
قال : ( فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية قائمة بذاته مغايره لذاته وعلمه وأن الألفاظ الواردة في الكتب الإلهية دالة عليها وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها لأن الأمة علىقولين في هذه المسألة : منهم من نفى كون الله موصوفا بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى ومنهم من أثبت ذلك وكل من أثبته موصوفا بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة فلو أثبتنا كونه تعالى موصوفا بهذه الصفات ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات كان ذلك قولا ثالثا خارقا للإجماع وهو باطل )
وأورد على نفسه أسئلة : فمنها قول القائل : ( لم قلتم إن تلك المعاني قديمة قولكم : كل من أثبت تلك المعاني أثبتها قديمة ؟ قلنا : القول في إثباتها مسألة والقول في قدمها مسألة أخرى فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت الأخرى لزم من أثبات كونه تعالى عالما بعلم قديم إثبات كونه تعالى متكلما بكلام قديم وإن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع وهو أن أحدا من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقا لإجماع )
وذكر في جواب ذلك ( قوله : لو لزم من إثبات هذه الصفة إثبات قدمها - لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - قلنا : الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين فلا نطول قوله : إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع قلنا : قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقا للإجماع )
قلت : المقصود أن يعرف أنه عدل عن الطريقة المشهورة وهو أنه لو أحدثه في نفسه لكان محلا للحوادث - مع أنه عمدة ابن كلاب و الأشعري ومن اتبعهما - لضعف هذا الأصل عنده ولو أعتقد صحته لكان ذلك كافيا مغنيا له عن هذه الطريقة التي أحدثها
وليس المقصود هنا الكلام في مسألة القرآن فإن هذا مبسوط في مواضعه وإنما الغرض التنبيه على اعتراف الفضلاء بأن هذا الأصل ضعيف وأما ضعف ما اعتمده في مسألة القرآن : فمبين في موضع آخر فإن إثبات المقدمة الأولى فيها كلام ليس هذا موضعه إذ كانت العمدة فيه على أمر الممتحن وخبر الكاذب والمنازع يقول : هذا إظهار للأمر والخبر وإلا فهو في نفس الأمر لم يدل الخبر هنا على معنى في النفس ولهذا يقول الله تعالى عن الكاذبين إنهم : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } ( الفتح : 11 ) فهم ينازعون في أن الكاذب قام بنفسه حكم أو دل لفظه على معنى في نفسه بل أظهر الدلالة على معنى في نفسه كذبا
وأما المقدمة الثانية فضعيفة وذلك أنه يقال : هب أن هذا ثبت لكن لم لا يجوز أن يتكلم بحروف ومعان قائمة في ذاته حادثة ؟ وهذا القول قول طوائف من المسلمين فليس هو خلاف الإجماع فإن أبطل هذا بقوله : ( ليس هو محلا للحوادث ) قيل : فهذا - إن صح - فهو دليل كاف كما سلكه من سلكه من الناس وإن لم يصح بطلت الدلالة فتبين أنه لا بد في إثبات قدمه من هذه المقدمة
وأما قوله : ( كل من أثبت اتصاف الله بهذه المعاني فإنه يقول بقدمها ) فليس الأمر كذلك بل كثير من أهل الحديث وأهل الكلام يثبتونها ولا يقولون بقدمها
وأما الفرق الذي ذكره في المحصول فهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألتين على قولين : فإن كان مأخذهما واحدا - كتنازعهم في الرد وذوي الأرحام - لم يكن لمن بعدهم إحداث موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة وإن كان المأخذ مختلفا - كتنازعهم في الشفعة وميراث ذوي الأرحام - جاز موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة فظن أن قدم الكلام مع إثبات هذه المعاني من هذا الباب وليس الأمر كذلك فإن مأخذ إثبات هذه المعاني ليس هو مأخذ القدم فإن القدم مبني على مسألة الصفات وعلى أنه : هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ؟ وأما إثبات هذه المعاني فمسألة أخرى
والناس لهم في مسمى ( الكلام ) أربعة أقوال : أحدهما : أنه اللفظ الدال على المعنى والثاني أنه المعنى المدلول عليه باللفظ والثالث : أنه مقول بالاشتراك على كل منهما والرابع : أنه اسم لمجموعهما وإن كان مع القرينة يراد به أحدهما وهذا قول الأئمة وجمهور الناس وحينئذ فمن أثبت هذه المعاني وقال : إن اسم ( الكلام ) يتناولهما بالعموم أو الأشتراك يمكنه إثبات قيام اللفظ والمعنى جميعا بالذات
ثم من جوز تعلق ذلك بمشيئته وقدرته يمكنه أن لا يقول بالقدم أو لا يقول بالقدم في الكلام المعين وإن قال بالقدم في نوع الكلام ومن لم يجوز ذلك فمنهم طائفة يقولون بقدم الحروف وطائف تقول بقدم المعاني دون الحروف وما به يستدل أولئك على حدوث الحروف كالتعاقب والمحل يعارضونهم بمثله في المعاني فإنه بالنسبة إلينا متعاقبة ولها محل لا يليق بالله تعالى فإن جاز أن تجعل فينا متعددة مع اتحادها في حق الله تعالى وأن محلها منه ليس كمحلها منا : أمكن أن يقال في الحروف كذلك : إنها وإن تعددت فينا فهي متحدة هناك وليس المحل كالمحل وإذا قيل : ( هي مرتبة فينا ) قيل : فكذلك المعاني مرتبة فينا فترتيب أحدهما كترتيب الآخر وإذا قيل : ( دعوى أتحادهما مخالف لصريح العقل ) قيل : وكذلك دعوى اتحاد المعاني فكلام هؤلاء من جنس كلام هؤلاء
والمقصود هنا : الكلام على هذا الأصل وهي مسألة الصفات الاختيارية كالأفعال ونحوها مما يقوم به ويتعلق بمشيئته وقدرته
وأما قول القائل : ( الجمهور على خلاف ذلك وإنما الخلاف فيه مع الكرامية ) فهذا قول من ظن أن طوائف المسلمين منحصرة في المعتزلة والكلابية والكرامية بل أكثر طوائف المسلمين يجوزون ذلك : من أهل الكلام وأهل الحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم وأما أئمة أهل الحديث والسنة فكالمجمعين على ذلك فكلام من يعرف كلامه في ذلك صريح فيه والباقون معظمون لمن قال ذلك شاهدون له بأنه إمام في السنة والحديث لا ينسبونه إلى بدعة
وأما متأخرو أهل الحديث فلهم فيها قولان ولأصحاب أحمد قولان ولأصحاب الشافعي قولان و لأصحاب مالك قولان و لأصحاب أبي حنيفة قولان وللصوفية قولان وجمهور أهل التفسير على الإثبات
وأما أهل الكلام فقد ذكر الأشعري هذا في كتاب المقالات عن غير واحد من أئمة الكلام غير الكرامية ولم يذكر للكرامية شيئا انفردوا به إلا قولهم في الإيمان بل ذكر عن هشام بن الحكم وغيره من الشيعة أنهم يصفونه بالحركة والسكون ونحو ذلك وأن عامة القدماء من الشيعة كانوا يقولون بالتجسيم أعظم من قول الكرامية وأن المتأخرين منهم هم الذين قالوا في التوحيد بقول المعتزلة بل ذكر عنهم تجدد الصفات من العلم والسمع والبصر والناس قد حكوا عن هشام والجهم أنهما يقولان بحدوث العلم وهذا رأس المعطلة وهذا رأس الشيعة لكن جهم كان يقول بحدوث العلم في غير ذاته وهشام يقول بحدوثها في ذاته وحكى الأشعري تجدد العلم له عن جمهور الإمامية وحكى عنهم إثبات الحركة به وأن كلهم يقولون بذلك إلا شرذمة منهم وذكر عن هشام بن الحكم وهشام بن الجواليقي وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وغيرهم أنهم يقولون إرادته حركة وهل يقال : إنها غيره أم لا ؟ على قولين لهم وذكر عن طائفة أنهم يقولون : يعلم الأشياء قبل كونها إلا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها وهذا قول غلاة القدرية كمعبد الجهني وأمثاله وهو أحد قولي عمروبن عبيد وذكر عن زهير الأثري أنه كان يقول : إن الله ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } ( الفجر : 22 ) ويزعم أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق )
قال : ( وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيرا في أكثر قوله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله : حدث غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في محبته وإرادته أيضا )
قال زهير : كلام الله حدث وليس بمحدث وفعل وليس بمفعول وامتنع أن يزعم أنه خلق ويقول : ليس بخلق ولا مخلوق وإنه قائم بالله ومحال أن يتكلم بالله بكلام قائم بغيره كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه : إن ذلك أجمع قائم بالله
قال الأشعري : ( وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول : إن الله لم يزل متكلما بمعنى أنه يزل قادرا على الكلام ويقول : إن كلام الله محدث غير مخلوق ) قال : ( وهذا قول داود الأصبهاني ) قال : ( وكل القائلين بأن القرآن غير مخلوق كنحو عبد الله بن كلاب ومن قال إنه محدث كنحو زهير ومن قال : إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون : إن القرآن ليس بجسم ولا عرض )
وأما الحجة التي احتج بها الرازي للنفاة فهي أيضا ضعيفة من وجوه
أحدها : أن المقدمة التي اعتمد عليها فيه قوله : ( إن الخالي عن الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص )
فيقال : معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل كما لا يمكن وجودها في الأزل فإن ما كان وجوده مشروطا بحادث سابق له امتنع إمكان وجوده قبل وجود شرطه وعلى هذا : فالخلو عن هذه في الأزل لا يكون خلوا عما يمكن الاتصاف به والخالي عما لا يمكن اتصافه به ليس بناقص
الوجه الثاني : أن يقال : هو لم يثبت امتناع ما ذكره من النقص بدليل عقلي ولا ينص كتاب ولا سنة بل إنما أثبته بما ادعاه من الإجماع وهذه طريقته وطريقة أبي المعالي قبله ومن وافقهم يقولون : إن امتناع النقص على الله تعالى إنما علم بالإجماع لا بالنص ولا بالعقل وإذا كان كذلك فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع فكيف يحتج بالإجماع في مسائل النزاع ؟
فإن قال : هؤلاء وافقونا على امتناع النقص عليه وإنما نازعونا في كون ذلك نقصا
قيل له : إما أن يكونوا وافقوا على إطلاق اللفظ وإما أن يكونوا وافقوا على معانية
فإن وافقوا على إطلاق القول بأنه سبحانه منزه عن النقص وقالوا : ليس هذا من النقص لم يكن مورد النزاع داخلا فيما عنوه بلفظ النقص ومعلوم إن الإجماع حينئذ لا يكون حاصلا على المعنى المتنازع فيه ولكن على لفظ لم يدخل فيه هذا المعنى عند بعض أهل الإجماع ومثل هذا لا يكون حجة في المعنى ولكن غايته - إذا قام الدليل على أن هذا يسمى في اللغة نقصا - : أن يكونوا لم يعبروا باللفظ اللغوي وهذا بتقدير أن لا يكون له مساغ في اللغة : إنما فيه خطأ لغوي فكيف إذا كانت هذه المقدمات غير مسلمة لهم في اللغة أيضا ؟ ومثل هذا ليس بحجة على المعاني المتنازع فيه وإنما يكون حجة لفظية لو صحت مقدماته فلا يحصل بها المقصود
وإن كانوا وافقوا على نفي المعاني التي يعبر عنها بلفظ النقص : فمعلوم أن المعنى المتنازع فيه لم يوافقهم عليه فتبين أن مورد النزاع لا إجماع على نفيه قطعا فلا يجوز الإحتجاج على نفيه بالإجماع
الوجه الثالث : أن يقال : إن قول القائل : ( إن الأمة اجتمعت على تنزه الله تعالى عن النقص وقوله : أجتمعت على تنزيه الله تعالى عن العيب والآفة ونحو ذلك ) وهذا القدر ليس بمنقول اللفظ عن كل واحد من الأمة لكن نحن نعلم أن كل مسلم فهو ينزه الله تعالى عن النقص والعيب بل العقلاء كلهم متفقون على ذلك فإنه ما من احد ممن يعظم الصانع سبحانه وتعالى وصف الله بصفة وهو يعتقد أنها آفة وعيب ونقص في حقه وإن كان بعض الملحدين يصفه بما يعتقده هو نقصا وعيبا فهذا من جنس نفاة الصانع تعالى ولهذا كان نفاة الصفات إنما نفوها وهم يعتقدون أن إثباته يقتضي النقص كالحدوث والإمكان ومشابهة الأحياء مثبتوها إنما اثبتوها لاعتقادهم أن إثباتها يوجب الكمال وعدمها يستلزم النقص والعدم ومشابهة الجمادات وكذلك مثبتة القدر ونفاته بل بعض نفاة النبوة زعموا أنهم نفوها تعظميا لله أن يكون رسوله من البشر وأهل الشرك أشركوا تعظيما لله أن يعبد بلا وساطة تكون بينه وبين خلقه فإذا كان كذلك فمن المعلوم : أن الإنسان لو احتج بإجماع المسملين على نفي النقص والعيب عن الله تعالى على من يثبت الصفات مدعيا أن إثباتها نقص وعيب أو بالعكس لقال له المثبتة : نحن لم نوافقك على نفي هذا المعنى الذي سميته أنت نقصا وعيبا فلا تحتج علينا بالموافقة على لفظ لم نوافقك على معناه وأمكنهم حينئذ أن يقولون : نحن ننازعك في هذا المعنى وإن سميته أنت نقصا وعيبا فلا يكون حجة ثابتة إلا أن يقوم دليل على انتفاء ذلك غير الإجماع المشروط بموافقتهم
الوجه الرابع : أن يقال له : قولك : ( إجماع الأمة على أن صفاته كلها صفات كمال ) إن عنيت بذلك صفاته كلها اللازمة له لم يكن في هذا حجة لك وإن عنيت ما يحدث بقدرته ومشيئته لم يكن هذا إجماعا فإنك أنت وغيرك من أهل الكلام تقولون : إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفا فكونه خالقا ومبدعا وعادلا ومحسنا ونحو ذلك عندك أمور حادثة متجددة وليست صفة مدح ولا كمال وإن قلت ( المفعولات ليست قائمة به بخلاف ما يقوم به ) قيل لك : هب أن الأمر كذلك لكن ما يحدث بقدرته ومشيئته إما أن يقال : هو متصف به أولا يقال : هو متصف به فإن قيل ( ليس متصفا لا بهذا ولا بهذا وإن قيل ( هو متصف به ) كان متصفا بهذا وهذا
ومعلوم أن المشهور عند أهل الكلام من عامة الطوائف أنهم يقسمون الصفات إلى صفات فعلية وغير فعلية مع قول من يقول منهم : إن الأفعال لا تقوم به فيجعلونه موصوفا بالأفعال كما يقولون : إنه موصوف بأنه خالق ورازق وعندهم هذه أمور كائنة بعد أن لم تكن ولما قال لهم من يقول بتسلسل الحوادث من الفلاسفة وغيرهم : ( الفعل إن كان صفة كمال لزم اتصافه به في الأزل وإن كان صفة نقص امتنع اتصافه به في الأبد ) أجابوا عن ذلك بأن الفعل ليس صفة كمال ولا نقص
الوجه الخامس : احتجاجه بقوله : ( إن الأمة مجمعة على أن صفاته لا تكون إلا صفة كمال ) أضعف من احتجاجه بإجماعهم على تنزيه عن صفة النقص فإن كونه منزها عن صفات النقص مشهور في كلام الناس وأما كون صفاته لا تكون إلا صفات كمال فليس هذا اللفظ مشهورا معروفا عن الأئمة ومن اطلق ذلك منهم فإنما يطلقه على سبيل الإجمال لما استقر بالقلوب من ان الله موصوف بالكمال دون النقص وهذه الإطلاقات لا تدل على دق المسائل ولوقيل لمطلق هذا : ( كونه يفعل أفعالا بنفسه يقدر عليها ويشاؤها هو صفة نقص أو كمال ) ؟ لكان إلى أن يدخل ذلك في صفات الكمال أو يقف عن الجواب أقرب منه إلى أن يجعل ذلك من صفات النقص
الوجه السادس : أن هذا الإجماع حجة عليهم فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاما وفعلا يقوم به والآخر لا يمكنه ذلك بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور له ولا مراد أو يكون بائنا عنه - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل موجودين وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه والآخر لا يمكنه ذلك - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني كما أنا إذا عرضنا على العقل موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقا أحدهما حي عليم قدير والآخر لا حياة له ولا علم ولا قدرة لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والعلم والقدرة صفة كمال به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به التي بها يفعل المفعولات المباينة صفة كمال
والعقلاء متفقون على أن الأعيان المتحركة أو التي تقبل الحركة أكمل من الأعيان التي لا تقبل الحركة كما أنهم متفقون على أن الأعيان الموصوفة بالعلم والقدرة والسمع والبصر أو التي تقبل الاتصاف بذلك أكمل من الأعيان التي لا تتصف بذلك ولا تقبل الاتصاف به
وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات وكان السلف يحتجون بها ويثبتون أن من عبد إلها لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فقد عبد ربا ناقصا معيبا مؤوفا ويثبتون أن هذه صفات كمال فالخالي عنه ناقص
ومن المعلوم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه يثبت للمخلوق فالخالق أحق له وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أحق بتنزيه عنه
ولما أورد من أورد من الملاحدة نفاة الصفات بأن عدم هذه الصفات إنما يكون نقصا إذا كان المحل قابلا لها وإنما يكون عدم البصر عمى وعدم الكلام خرسا وعدم السمع صمما : إذا كان المحل قابلا لذلك كالحيوان فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد فإنه لا يوصف بهذا ولا بهذا - أجيبوا عن هذا بأن ما لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا أعظم نقصا مما يقبلهما ويتصف بأحدهما وإن اتصف بالنقص فالجماد الذي لا يقبل الحياة والسمع والبصر الكلام أعظم نقصا من الحيوان الذي يقبل ذلك وإن كان أعمى أصم أبكم فمن نفى الصفات جعله كالأعمى الأصم الأبكم ومن قال : إنه لا يقبل لا هذا ولا هذا جعله كالجماد الذي هو دون الحيوان الأعمى الأصم الأبكم وهذا بعينه موجود في الأفعال فإن الحركة بالذات مستلزمة للحياة وملزومة لها بخلاف الحركة بالعرض كالحركة القسرية التابعة للقاسر والحركة الطبيعية التي تطلب بها العين العود إلى مركزها لخروجها عن المركز فإن تلك حركة بالعرض والعقلاء متفقون على ما كان من الأعيان قابلا للحركة فهو أشرف مما لا يقبلها وما كان قابلا للحركة بالذات فهو أعلى مما لا يقبلها بالعرض وما كان متحركا بنفسه كان أكمل من الموات الذي تحركه بغيره وقد بسط في غير هذا الموضع
فصل
ونحن نتكلم على هذه الحجة - حجة الكمال والنقصان - كلاما مطلقا لا يختص بنظم الرازي إذ يقول القائل : أنا أصوغها على غير الوجه الذي صاغها عليه الرازي فنقول :أعلم أن الطوائف المسلمين لهم في هذا الأصل الذي تنبني عليه مسألة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى أربعة أقوال تتفرع إلى ستة وذلك أنهم متنازعون : هل يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغير الأفعال ؟ على قولين مشهورين ومتنازعون في أن الأمور المتجددة الحادثة : هل يمكن تسلسلها ودوامها في الماضي والمستقبل أو في المستقبل دون الماضي أو يجب تناهيها وانقطاعها في الماضي والمستقبل ؟ على ثلاثة أقوال معروفة فصارت الأقوال أربعة :
طائفة تقول : يقوم به ما يتعلق بمشئيته وقدرته ثم هل يقال ما زال كذلك أو يقال : حدث هذا الجنس بعد أن لم يكن ؟ على قولين
وطائفة تقول : لا يقوم به شيء من ذلك ثم هل يمكن دوام ذلك وتسلسله خارجا عنه ؟ على قولين
وكل من الطائفتين تنازعوا : هل يمكن وجود هذه المعاني بدون محل تقوم به ؟ على قولين
فالقائلون من أهل القبلة بجواز تسلسل الحوادث : منهم من قال : تقوم به ومنهم من قال : تحدث لا في محل ومنهم من قال : تحدث في محل غيره
والمانعون لذلك من أهل القبلة : منهم من قال : تقوم له ولها ابتداء ومنهم من قال : بل تحدث قائمة في غيره ولها ابتداء ومنم من قال : بل تحدث لا في محل ولا ابتداء
وقد ذكرنا حجة المانعين من قيام المقدرورات والمرادات به وكلام من ناقضها ونحن نذكر حجة المانعين من التسلسل في الآثار وكلام بعض من عارضهم من أهل القبلة وهذا موجود في عامة الطوائف حتى في الطائفة الواحدة فإن أبا الثناء الأرموي قد ذكر في لباب الأربعين لأبي عبد الله الرازي من الاعتراضات على ذلك ما يناسب هذا الوضع وتابع في ذلك طوائف من النظار كأبي الحسن الآمدي وغيره بل نفس الرازي قد ذكر في مواضع من كتبه نقض ما ذكره في الأربعين ولم يجب عن ذلك كما قد حكينا كلامه في موضع آخر وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي في إفساد هذه الحجج التي ذكرها في تناهي الحوادث بأمور لم يذكر عنها جوابا
حجج الرازي على حدوث العالم ومعارضة الأموري له
وذلك أن أبا عبد الله الرازي ذكر في الأربعين في مسألة حدوث العالم من الحجج على حدوث الأجسام أو العالم ما لم يذكره في عامة كتبه
البرهان الأول
فذكر خمس حجج : الأولى : أنه لو كانت الأجسام قديمة لكانت إما متحركة أو ساكنة والأول يستلزم حوادث لا أول لها
امتناع حوادث لا أول لها من وجوه
واحتج على انتفاء ذلك بستة أوجه :( الأول والتعليق عليه )
أن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير وماهية الأزل تنفيها فامتنعت أزلية الحركة
فعارضه أبو الثناء الأرموي بأنه : لقائل أن يقول : كون ماهية الحركة مركبة من جزء سابق وجزء لاحق لا ينافي دوامها في ضمن أفرادها المتعاقبة لا إلى أول وهو المعني بكونها أزلية
قلت : ونكتة هذا الاعتراض أن يقال : إن المستدل قال : ماهية الحركة تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير فهل المراد بالغير : أن تكون الحركة مسبوقة بما ليس بحركة أو أن يكون بعض أجزائها سابقا لبعض ؟ أما الأول فباطل وهو الذي يشعر به قوله : ( ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ) فإن ذلك قد يفهم منه أم ماهيتها تقضي أن تكوم مسبوقة بغير الحركة ولو كان الأمر كذلك لا متنع كون المسبوق بغيره أزليا لكن لا يصلح أن يريد إلا الثاني وهو أن ماهيتها تقتضي تقديم بعض أجزاها على بعض وحينئذ فقد منعوه المقدمة الثانية وهي قولهم : ( إن ماهية الأزل تنفي ذلك ) وقالوا : لا نسلم أن ما كان كذلك لا يكون أزليا بل هذا رأس المسألة ولا سيما وهو - وجماهير المسلمين وغيرهم من أهل الملل - يسلمون أن ما كان كذلك فإنه يصلح أن يكون أبديا
ومعلوم أن ماهية الحركة تقتضي أن يكون بعضها متأخرا عن بعض ولا يمتنع مع ذلك وجود ما لا انقضاء له من الحركات قالوا : فكذلك لا يمتنع وجود ما لا ابتداء له منها كما لم يمنتع وجود ما لا أول لوجوده وهو القديم الواجب الوجود مع إمكان تقدير حركات وأزمنة لا ابتداء لها مقارنة لوجوده والكلام في انتهاء المحقق كالكلام في انتهاء المقدر
الثاني والتعليق عليه
قال الرازي : الوجه الثاني : ( لو كانت أدوار الفلك متعاقبة لا إلى أول كان قبل كل حركة عدم لا إلى أول وتكل العدمات مجتمعة في الأزل وليس معها شيء من الوجودات وإلا لكان السابق مقارنا للمسبوق فلمجموع الوجودات أول )قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه لوجود الحركة التي هي عدمها ضرورة تعاقب تلك الحركات لا إلى أول وإن عنيت به أنه لا ترتيب في بدايات تلك العدمات كما في بدايات الوجودات فلا يلزم من اجتماع بعض الوجودات معها المحذور )
قلت : مضمون هذا : أن عدم كل حركة ينتهي بوجودها فليست الأعدام متساوية في النهايات فلا تكون مجتمعة في شيء من الأوقات لأنه في كل وقت يثبت بعضها دون بعض لوجود حادث يزول به عدمه ولكن لا بداية لكل عدم منها فإن ما حدث لم يزل معدوما قبل حدوثه بخلاف الحركات فإن لكل بداية وحينئذ فلا يمتنع أن يقارن الوجود بعضها دون بعض كما يقارن الوجود الباقي الأزلي عدم كل ما سواه فالمستدل يقول : عدم كل حادث ثابت في الأزل وليس الجنس حادثا حتى يكون مسبوقا بعدم الجنس وإنما الحادث أفراده كما في دوامه في الأبد فليس لعدم المجموع تحقق في الأزل والعدم السابق لأفراد الحركات بمنزلة العدم اللاحق لها ولا يقال : إن تلك الإعدام مجتمعة في الأبد
والفرق بين عدم المجموع وعدم كل فرد فرد : فرق ظاهر والمستدل يقول : عدم كل واحد أزلي فمجموع الأعدام أزلي وهذا بمنزلة أن يقول : كل واحد من الأفراد حادث فالمجموع حادث أو كل حادث فله بداية فالمجموع له بداية وبمنزلة أن يقول : كل حادث فله انقضاء فمجموع الحوادث له انقضاء أو كل واحد مسبوق بغيره فالمجموع مسبوق بغيره
فإذا قال المتكلم عن المستدل : قول المعترض : ( إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا ما فهو ممنوع لأنه ما من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها فيه ) ليس بمستقيم فإنها مجتمعة في الأزل
قال المتكلم عن المعترض : ليس الأزل ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم كما أن الأبد ظرفا معينا يقدر فيه وجود أو عدم ولكن معنى كون الشيء أزليا : أنه ما زال موجودا أو ليس لوجوده ابتداء ومعنى كونه أبديا أنه لا يزال موجودا أو ليس لوجوده انتهاء
ومعنى كون عدم الشيء أزليا : أنه ما زال معدوما حتى وجد وإن كان عدمه مقارنا لوجود غيره
وقائل ذلك يقول : لا يتصور اجتماع هذه العدمات في وقت من الأوقات أصلا بل ما من حال إلا فيه عدم بعضها ووجود غيره فقول القائل : ( إن العدمات مجتمعة في الأزل ) فرع إمكان اجتماع هذه الأعدام واجتماع هذه الأعدام ممتنع وسيأتي تمام الكلام على ذلك بعد هذا
الثالث والتعليق عليه
قال الرازي : ( الثالث ) : إنه إن لم يحصل شيء من الحركات في الأزل أو حصل ولم يكن مسبوقا بغيرها - فلكلها أول وإن كان مسبوقا بغيرها كان الأزل مسبوقا بالغير ) قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : ليس شيء من الحركات الجزئية أزليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلم يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول )قلت : قول المستدل : ( إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيرها فلها أول ) يريد به : ليس مسبوقا بحركة أخرى فإن الحركة المعينة التي لم تسبقها حركة أخرى تكون لها إبتداء فلا تكون أزلية إذ الأزلي لا يكون إلا الجنس
أما الحركة المعينة إذا قدرت غير مسبوقة بحركة كانت حادثة كما أنها إذا كانت مسبوقة كانت حادثة ولم يرد بقوله : ( إن حصل شيء من الحركات في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره فلها أول ) أي لم يكن مسبوقا بغير الحركات فإن ما كان في الأزل ولم يكن مسبوقا بغيره لا يكون له أول فلو أراد بالغير غير الحركات لكان الكلام متهافتا فإن ما كان أزليا لا يكون مسبوقا بغيره فالجنس عند المنازع أزلي وليس مسبوقا بغيره والواحد من الجنس ليس بأزلي وهو مسبوق بغيره وما قدر أزليا لم يكن مسبوقا بغيره سواء كان جنسا أو شخصا لكن إذا قدر أزليا - وليس مسبوقا بغيره - فكيف يكون له أول ؟ ولكن إذا قدر مسبوقا بالغير كان له أول فالمسبوق بغير هو الذي له أول وأما ما ليس مسبوقا بغيره فكيف يكون له أول ؟
ومع هذا فيقال له : تقدير كون الحركة المعينة في الأزل ومسبوقة بأخرى جمع بين النقيضين فهو ممتنع لذاته والممتنع لذاته يلزمه حكم ممتنع فلا يضر ما لزم على هذا التقدير وأما على التقدير الآخر - وهو حصول شيء منها في الأزل مع كونه مسبوقا - فقد أجابوا الأرموي : بأن وجود الحركة المعينة في الأزل محال أيضا وإذا كان ذلك ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع وهو كون الأزلي مسبوقا بالغير وإنما الأزلي هو الجنس وليس مسبوقا بالغير
وقد اعترض بعضهم على هذا الاعتراض بأن قال : فحيئنذ ليس شيء من الحركات حاصلا في الأزل إذ لو حصل في الأزل لا متنع زواله وما هذا شأنه يمتنع كونا أزليا
وجواب هذا الاعتراض أن يقال : ليس شيء من الحركات المعينة في الأزل إذ ليس شيء منها لا أول له بل كل واحد منها له أول لكن جنسها : هل له أول ؟ وهذا غير ذلك والمنازع يسلم أن ليس شيء من الحركات المعينة أزليا وإنما نزاعه في غير ذلك كما أنه يسلم أنه ليس شيء من الحركات المعينة أبديا مع أنه يقول : جنسها أبدي
الرابع والتعليق عليه
قال الرازي : الوجه الرابع : ( كلما تحرك زحل دورة تحركت الشمس ثلاثين فعدد دورات زحل أقل من عدد دورات الشمس والاقل من غير متناه والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه فعددهما متناه )قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : تضعيف الواحد إلى غير النهاية أقل من تضعيف الاثنين كذلك مع كونهما غير متناهيين )
قلت : هذا الذي ذكره الأرموي معارضة ليس فيه منع شيء من مقدمات الدليل ولا حل له ثم قد يقول المستدل : الفرق بين مراتب الأعداد وأعداد الدورات من وجهين
أحدهما : أن مراتب الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج وإنما يقدرها الذهن تقديرا كما يقدر الأشكال المجردة يقدر شكلا مستديرا وشكلا أكبر منه وشكلا أكبر من الآخر وهلم جرا وتلك الأشكال التي يقدرها الذهن لا وجود لها في الخارج وكذلك الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج فالكم المتصل أو المنفصل إذا أخذ مجردا عن الموصوف به لم يكن إلا في الذهن وكذلك الجسم التعليمي - وهو أن يقدر طول وعرض وعمق مجرد عن الموصوف به - وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان تقدير ذلك في الذهن إمكان وجوده في الخارج فإن الذهن تقر فيه الممتنعات كاجتماع النقيضين والضدين فيقدر فيه كون الشيء موجودا معدوما وكون الشيء متحركا ساكنا ويقدر فيه أن كون الشيء لا موجودا ولا معدوما ولا واجبا ولا ممكنا ولا ممتنعا إلا غير ذلك من التقديرات الذهنية التي لا تسلتزم إمكان ذلك في الخارج ولهذا يمكن تقدير خط لا يتناهى وسطح لا يتناهى وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية وأبعاد لا نهاية لها ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له في الذهن إمكان ذلك في الخارج والمنازعون يسلمون امتناع أجسام لا يتناهى قدرها وأبعاد لا تتناهى وعلل ومعلولات لا تتناهى مع إمكان تقدير ذلك في الذهن
فإذا قيل لهم : كذلك تقدير أعداد لا تتناهى أو تقدير مراتب أعداد لا تتناهى بعضها أفضل من بعض إذا قدر في الذهن لم يدل ذلك على إمكان وجوده في الخارج - بطلت معارضتهم وكان من عارض تقدير الأعداد التي لا تتناهى بتقدير الأشكال التي لا تتناهى وتقدير التفاضل في هذا كالتفاضل في هذا : أولى ممن عارض تفاضل الدورات بتفاضل مراتب الأعداد فإنه إذا قيل : تضعيف الواحد إلى غير نهاية أقل من تضعيف الاثنين قيل : وإذا فرض خط عرضه بقدر الكف لا يتناهى طولا وخط عرضه بقدر الذراع لا يتناهى فالذي بقدر الكف أقل وإذا فرض أجسام مستديرة كل منها بقدر رأس الإنسان لا تتناهى وأخرى كل منها بقدر الفلك لا تتناهى كانت مقادير تلك أصغر مع أن الجميع لا يتناهى كان معلوما أن هذه المعارضة أعدل وأولى بالقبول من تلك المعارضة
الوجه الثاني : إن كان تضعيف الأعداد ومراتبها وسائر المقادير إلى غير نهاية كان هذا التضعيف إنما هو في الذهن فكل ما يتصوره الذهن من ذلك ويقدره فهو يتناهى والذهن لا يزال يضعف حتى يعجز وهكذا أذا نطق بأسماء الأعداد أو بألفاظ فلا يزال ينطق حتى يعجز وإن قدر أنه لا يعجز بل لا يزال الذهن يقدر اللسان ينطق فإن جميع ذلك داخل في الوجود الذهني واللفظي والجناني واللساني وكل ما يدخل من ذلك في الوجود فهو متناه وله مبدأ محدود فله أول ابتدء منه وهو من ذهن الإنسان ولفظه وكل ما يوجد منه متعاقبا فإنه منتهاه لكن هذا يدل على جواز ما لا نهاية له في المستقبل وأن الشيء قد يكون له بداية ولا يكون له نهاية فإن ما يخطر بالأذهان وينطق به اللسان له بداية ويمكن وجود ما لا يتناهى منه ومن هذا الباب أنفاس أهل الجنة وألفاظهم وحركاتهم فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس ومن هذا الباب تسبيح الملائكة دائما
فهذا المذكور من تضعيف الأعداد ذهنا ولفظا يدل على وجود ما لا يتناهى في المستقبل إذا كان له بداية محدودة وأما التفاضل فيه - سواء أريد به تضعيف الذهن أو اللسان أو جميعهما - فمعلوم أنه إذا قيل : ضعف الواحد وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهلم جرا وقيل : ضعف الاثنين وضعف ضعفهما وضعف ضعف الضعف وهلم جرا فإن أريد بكون تضعيف الواحد أقل من تضعيف الاثنين أن ما وجد من نطق اللسان بالتضعيف أو ما يخطر بالقلب من التضعيف أقل فهذا ممنوع إذا قدر التساوي في المبدأ والحركة وإن قدر التفاضل فأكثرهما أسبقهما مبدأ وأقواهما حركة وحينئذ فقد يكون تضعيف الواحد هو الأكثر
وإن أريد بذلك أن مسمى أحد اللفظين أكثر مما في كل مرتبة من مراتب التضعيف فإذا ضعف الواحد خمس مرات كان اثنين وثلاثين وإذا ضعف الاثنان خمس مرات كان أربعا وستين مرة فهذه الأربع والستون ليست معدودا موجودا في الخارج ولا في الذهن حتى يقال : وجد التفاضل فيما لا يتناهى وإنما نطق بلفظ أعداد متناهية والمعدودات ليست موجودة لا في الذهن ولا في الخارج فلو قدر وجود ألفاظ الأعداد من هذه المرتبة ومن هذه المرتبة في الذهن واللسان لم يلزم إذا قدر أنهما غير متناهيين أن يكونا متفاضلين مع استوائهما في المبدأ والحركة
وإن أراد أن مسمى هذا لو وجد لكان أكبر من مسمى هذا
فيقال : نعم ولكن لم قلت : إن وجود ذلك المسمى ممكن ؟ وهذا كما لو قال القائل : ( ما لا يتناهى أقدره في ذهني وأتكلم بلفظه ) لم يكن في ذلك ما يقتضي أنه يمكن وجوده في الخارج كما يقدر ذهنا ولسانا ما لا يتناهى من الأجسام والأبعاد والأشكال فهذا هذا فهذا مما يجيب به المستدل عن المعارضة بمراتب الأعداد
وهذا الفرق - وإن كما قد أوردناه - فقد ذكره غير واحد من النظار المفرقين بين العدد والحركات من متكلمي المسلمين وغيرهم وذكر هؤلاء هذا الفرق المعروف عند من يوافق المستدل على هذا النقض هو أن تضعيف العدد ليس أمرا موجودا بل مقدرا بخلاف ما وجد من الحركات
وهكذا فرق من فرق بين الماضي والمستقبل بأن الماضي قد وجد بخلاف المستقبل والممتنع وجود ما لا يتناهى لا تقدير ما لا يتناهى
ومن يوافق المعترض يقول : الماضي أيضا قد عدم فليست أفراده موجودة معا والمحذور وجود ما لا يتناهى فيما كان مجتمعا بل مجتمعا منتظما بعضه ببعض بحيث يكون له ترتيب طبيعي أو وضعي
وهذا فرق ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة ولكن ابن رشد يقول : إن مذهب الفلاسفة الفرق بين المجتمع وغير المجتمع سواء كان المجتمع له ترتيب أو ليس له ترتيب وإنما النزاع بينهم في النفوس البشرية المفارقة : هل هي موجودات متميزة غير متناهية أم لا ؟
ويقول هؤلاء : لا نسلم أن ما كان وعدم أو ما سيكون إذا قدر أن بعضه أقل من بعض يجب أن يكون متناهيا والمؤمنون بأن نعيم الجنة دائم لا ينقضي من المسلمين وأهل الكتاب يسلمون ذلك ولم ينازع فيه من أهل الكلام إلا الجهم ومن وافقه على فناء النعيم وأبو الهذيل القائل بفناء الحركات وهما قولان شاذان قد اتفق السلف والأئمة وجماهير المسلمين على تضليل القائلين بهما ومن أعظم ما أنكروه السلف والأئمة على الجهمية : قولهم بفناء الجنة
وقال الأشعري في كتاب المقالات : وأختلفوا أيضا في معلومات الله عز و جل ومقدوراته : هل لها كل أو لا كل لها ؟ على مقالتين فقال أبو الهذيل : إن لمعلومات الله كلا وجميعا ولما يقدر الله عليه : كل وجميع وإن أهل الجنة تنقطع حركاتهم يسكنون سكونا دائما وقال أكثر أهل الإسلام : ليس لمعلومات الله ولا لما يقدر عليه كل ولا غاية واختلفوا أيضا : هل لأفعال الله سبحانه آخر أم لا آخر لها ؟ على مقالتين فقال الجهم بن صفوان : إن لمعلومات الله ومقدوراته غاية ونهاية ولأفعاله آخر وإن الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما حتى يكون الله آخر وإنهما لا تزالان باقيتين وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون وأهل النار في النار يعذبون ليس لذلك آخر ولا لمعلومات الله ومقدوراته غاية ولا نهاية
وقد ذكر بعض الناس بين الماضي والمستقبل فرقا بمثال ذكره كما ذكره صاحب الإرشاد وغيره وهو أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل : لا أعطيك درهما إلا أعطيتك بعده درهما وهذا كلام صحيح والماضي بمنزلة لا أعطيك درهما إلا أعطيتك قبله درهما وهذاكلام متناقض
لكن هذا المثال ليس بمطابق لأن قوله : ( لا أعطيك ) نفي للحاضر والمستقبل ليس نفيا للماضي فإذا قال ( لا أعطيك هذه الساعة أو بعدها شيئا إلا أعطيتك قبله شيئا ) اقتضى أن لا يحدث فعلا الآن حتى يحدث فعلا في الزمن الماضي وهذا ممتنع أو بمنزلة أن يقول : ( لا أفعل حتى أفعل ) وهذا جمع بين النقيضين وإنما مثاله أن يقول : ما أعطيتك درهما إلا أعطيتك قبله درهما فكلاهما ماض فإذا قال القائل : ( ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء ) كان مثاله أن يقول : ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول لا يحدث بعده شيء ) كان مثاله أن يقول : ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء لا يقول ( لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء ) وكل ما له ابتداد وانتهاء كعمر العبد يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له أو عطاء لا ابتداء له وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال
والناس لهم في إمكان وجود ما لا يتناهى أقوال :
أحدها : امتناع ذلك مطلقا في الماضي والمستقبل والحاضر في كل شيء وهذا قول الجهم وأبي الهذيل
والثاني : جواز ذلك حتى في الأبعاد التي لا تتناهى وهو قول طائفة من فلاسفة الهند وطائفة من نظار أهل الملة وغيرهم يقولون : إن الرب له قدر لا يتناهى ثم من هؤلاء من يقول : لا يتناهى من جميع الجهات ومنهم من يقول : يتناهى من جهة العرش فقط وأما من سائر الجهات فإنه لا يتناهى
وقد ذكر الأشعري في المقالات هذه الأقوال وغيرها عن طوائف وممن ذكر ذلك : الكرامية وطائفة من أتباع الأئمة ك القاضي أبي يعلى وغيره وهؤلاء منهم من يقول بتناهي الحوادث في الماضي مع قوله بوجود ما لا يتناهى من المقدار في الحاضر
وكذلك معمر وأتباعه من أصحاب المعاني يقولون بوجود معان لا تتناهى في آن واحد مع قولهم بامتناع حوادث لا أول لها فصار بعض الناس يقول بجواز التناهي في الحوادث الماضية والأبعاد ومنهم من يقول بجواز ذلك في الأبعاد دون الحوادث فهذه ثلاثة أقوال
الرابع : قول من يقول : لا يجوز ذلك فيما دخل في الوجود لا في الماضي ولا في الحاضر ويجوز فيما لم يوجد بعد وهو المستقبلات وهذا قول كثير من النظار
الخامس : قول من يقول : يجوز ذلك في الماضي ولامستقبل ولا يجوز فيما يوجد في آن واحد لا في الأبعاد ولا الأنفس ولا المعاني وهو قول ابن رشد وحكاه عن الفلاسفة وزعم أن النفوس البشرية واحدة بعد المفارقة كما زعم أنها كانت كذلك قبل المفارقة
السادس : قول من يقول : ما كان مجتمعا مترتبا فإنه يجب تناهيه كالعلل والأجسام فتلك لها ترتيب طبيعي وهذه لها ترتيب وضعي وكلها موجودة في آن واحد وأما ما لم يكن له ترتيب - كالأنفس - أو كان له ترتيب ولكن يوجد متعاقبا - كالحركات - فلا يمتنع فيه وجود ما لا يتناهى وهذا قول ابن سينا وهو المحكي عندهم عن أرسطو وأتباعه لكن ابن رشد ذكر أن هذا القول لم يقله أحد من الفلاسفة إلا ابن سينا
وأما وجود علل ومعلولات لا تتناهى : فهذا مما لم يجوزه أحد من العقلاء
إذا عرف هذا تكلمنا على الاحتجاج بتفاضل الدورات التي لا تتناهى فإن الشمس تقطع الفلك في السنة مرة والقمر اثنتي عشرة مرة وهذا مشهود والمشتري في كل اثنتي عشرة سنة مرة وزحل في كل ثلاثين سنة مرة فتكون دورات القمر بقدر دورات زحل ثلاثمائة وستين مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فتكون دورات هذا أضعاف دورات هذا وكلاهما لا يتناهى عند القائلين بذلك والأقل من غير المتناهي متنهاه والزائد على المتناهي متناه وقد عرف أن المعارضة بالعدد باطلة
وقد يقال : هذا من جنس تطبيق الحوادث الماضية إلى اليوم بالحوادث الماضية إلى أمس فإن كلاهما لا يتناهى مع التفاضل وهو الوجه الخامس الذي سيأتي لكن بينهما فروق مؤثرة :
منها : أنه هناك هذه الحوادث هي تلك بعينها لكن زادت حوادث اليوم فغاية تلك : أن يكون ما لا إبتداء له من الحوادث لا يزال في زيادة شيئا بعد شيء وأما هنا : فهذه الدورات ليست تلك
ومنها : أنه هناك فرض انطباق اليوم على الأمس مع اشتراكهما في عدم البداية وهذا التطبيق ممتنع فإن حقيقته : أنا نقدر تماثلهما وتفاضلهما فإنه إذا طبق أحدهما على الآخر لزم التماثل مع التفاضل لأنهما استويا في عدم البداية وفي حد النهاية وهما متفاضلان وهذا تقدير ممتنع بخلاف الدورتين فإنهما هنا مشتركان في عدم البداية وفي حد النهاية فالتفاضل هنا حاصل مع الاشتراك في عدم النهاية عند هؤلاء فهذا لا يحتاج إلى فرض وتقدير حتى يقال : هو تقدير ممتنع بخلاف ذلك ولكن التقابل يوافق ذلك التقابل في أن كليهما قد عدمت فيه الحوادث الماضية ويوافقه في أن كليهما قد قدر فيه انتهاء الحوادث من أحد الجانبين فهما متفقان من هذين الوجهين مفترقان من ذينك الوجهين
وحينئذ فيقال : الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية لا يجعلون لها آخرا تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين بل يلزمهم قطعا أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلة فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال وكذلك دورات الشمس والقمر مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل وهذا أقل من هذا بقدر متناه وهذا أزيد من هذا بقدر متناه فإذا كان الأقول من غيره متناهيا لزم أن يكون كل من الدورات متناهيا
وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء وأنه محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن وأنه ينشق وينفطر فتبطل حركة الشمس والقمر وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية
وهذا الدليل إنما يدل على أن حركته يمتنع أن تكون غير متناهية ولا يلزم إذا وجب تناهي حركة جسم معين أن يجب تناهي جنس الحوادث إلا إذا كان الدليل الذي دل على تناهي حرك المعين يدل على تناهي الجنس وليس الأمر فإن هذا الدليل لا يتناول إلا الفلك وهو دليل على حدوثه وامتناع أن تكون حركته بلا بداية ولا نهاية فهو يدل على فساد مذهب أرسطو وابن سينا وأمثالهما ممن يقول بأن الفلك قديم أزلي فهذا حق متفق عليه بين أهل الملل وعامة العقلاء وهو قول جمهور الفلاسفة ولم يخالف في ذلك إلا شرمذة قليلة ولهذا كان الدليل على حدوثه قويا والاعتراض الذي اعترض به الأرموي ضعيفا بخلاف الوجوه الدالة على امتناع جنس دوام الحوادث فإن أدلتها ضعيفة واعتراضات غيره عليها قوية
وهذا مما يبين أن ما جاءت به الرسل هو الحق وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه وما يدخل في العقل وليس منه كالذين جعلوا من السمع : أن الرب لم يزل معطلا عن الكلام والفعل لا يتكلم بمشيئته ولا يفعل بمشيئته بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته
فجعل هؤلاء هذا قول الرسل وليس هو قولهم وجعل هؤلاء من المعقول : أنه يمتنع دوام كونه قادرا على الكلام والفعل بمشيئته
وعارضهم آخرون : فادعوا أن الواحد من مخلوقاته كالفلك أزلي معه وأنه لم يزل ولا تزال حوادثه غير متناهية فهذه الدورات لا تتناهى وهذه لا تتناهى مع أن هذه بقدر هذه مرات متناهية وكون الشيئين لا يتناهيان أزلا وأبدا مع كون أحدهما بقدر الآخر مرات مع كونه مفعولا معلوما مساويا لفاعله في الزمن - هو الذين أنفردوا به وأما الفاعلية فيما لا يتناهى ابتداء وانتهاء فهو الذي ذكر في هذا الوجه
وقد يقال : يلزم مثل هذا في كلمات الله وإرادته التي كل منها غير متناه أزلا وأبدا وإن كان أحدهما أكثر من الآخر وقد يذكر هنا أن مقدرار القمر أصغر من مقدار الشمس فحركته وإن زادت في الدورات فقد نقصت في المقدار لكن هذا لا ينفع إلا إذا عرف تساوي مقدار جميع حركات الكواكب التي كل منها غير متناه وإلا لزم التفاضل فيما لا يتناهى فإذا كان تساويها باطلا كان هذا السؤال باطلا
الخامس والتعليق عليه
قال الرازي : الوجه الخامس : ( نقدر أن الأدوار الماضية من اليوم لا إلى أول جملة ومن الأمس كذلك ثم نطبق الطرف المتناهي من إحدى الجملتين في الوهم على الطرف المتناهي من الأخرى ونقابل كل فرد إحداهما بنظيره من الأخرى فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره وإن قصرت كانت متناهية والأخرى زائدة بقدر متناه فهي متناهية أيضا )قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : الجملة الناقصة لا تنقطع من طرف المبدأ وإنما يكون الشيء مع غيره كهو لا مع غيره إذا كان أفراد الزائد مثل أفراد الناقص كما في مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى )
قلت : المعترض لم يبين فساد الحجة بل عارضها معارضة وغيره قد يمنع كلتا المقدمتين أو إحداهما فالمعترض يقول : ( وإن قصرت كانت متناهية ) فنقول : إنما تكون متناهية لو كانت منقطعة من طرف المبدأ فأما مع عدم انقطاعها فلا نسلم تناهيها كما أن المستقبل وتضعيف العدد لما لم يكن منقطعا من جهة المنتهى لم يكن متناهيا وإن أمكن فيه مثل هذه المقابلة
وأما غيره فيجيب بثلاثة أجوبة :
أحدها : قوله : ( فإن لم تقصر إحداهما عن الأخرى في الطرف الآخر كان الشيء مع غيره كهو لا مع غيره ) فنقول : هذا إنما يلزم إذا طبقنا إحدى الجملتين على الأخرى ) والتطبيق في المعدوم ممتنع كما في تطبيق مراتب الأعداد من الواحد إلى ما لا يتناهى ومن العشرة إلى ما لا يتناهى ومن المائة إلى ما لا يتناهى فإنا نعلم أن عدد تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المائة وعدد تضعيف المائة أقل من تضعيف الألف والجميع لا يتناهى وهذه الحجة من جنس حجة مقابلة دورات أحد الكوكبين بدورات الآخر لكن هناك الدورات وجدت وعدمت وهنا قدرت الأزمنة والحركات الماضية ناقصه وزائدة
ومما يجاب به عن هذه الحجة - وهي أشهر حججهم - أن يقال : لا نسلم إمكان التطبيق فإنه إذا كان كلاهما لا بداية له وأحدهما انتهى أمس والآخر انتهى اليوم : كان تطبيق الحوادث إلى اليوم على الحوادث إلى الأمس ممتنعا لذاته فإن الحوادث إلى اليوم أكثر فكيف تكون إحداهما مطابقة للأخرى ؟ فلما كان التطبيق ممتنعا جاز أن يلزمه حكم ممتنع
أيضا فيقال : نحن نسلم أنها متناهية من الجانب المتناهي لكن لم قلت : إذا كانا متناهيين من أحد الجانبيين كانا متناهيين من الجانب الآخر ؟ وهذا أول المسألة والتفاضل وقع من الجانب المتناهي لا من الجانب الذي ليس بمتناه فلم يقع فيما لا يتناهى تفاضل
السادس والتعليق عليه
قال الرازي : السادس : ( لو كانت الأدوار الماضية غير المتناهية كان وجود اليوم موقوفا على إنقضاء ما لا نهاية له والموقوف على المحال محال )قال الأرموي : ولقائل أن يقول : انقضاء ما لا نهاية له محال وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه نزاع
قلت : هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي أما اللفظي فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم إنقطاعها وأنها لا أول لها فهل يعبر عن هذا بأن يقال : لا نهاية لها أو يقال : لا بداية لها ولا يقال لا نهاية لها ؟ فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها والمعترض أنكر ذلك وهذا نزاع لفظي وذلك أنه يقال : هذا غير متناه بمعنى أنه ليس له حد محدود وقد يقال : ( غير متناه ) بمعنى أنه لا آخر له ويقال ( هذا له نهاية ) أي : له آخر و ( هذا لا نهاية له ) أي : لا آخر له والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل فإنه يقال : ( لا نهاية لها ) بالمعنى الأول وأما بالمعنى الثاني : فقد انقضت وانصرمت ولها آخر
وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كـ أبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية وذكروا أنه اعتمد عليها يحيى النحوي وغيره من المتقدمين وظنوا أن ما لا يتناهى يمتنع أن يكون منقضيا منصرما فإن ما أنقضى وانصرم فقد تناهى فكيف يقال : إنه لا نهاية له ؟ واشتبه عليهم لفظ ( النهاية ) لما فيه من الإجمال والاشتباه ) فإن الماضي له آخر انتهى إليه فهو متناه بهذا الاعتبار بلا نزاع وبهذا المعنى يقال : إنه انصرم وانقضى وفرغ ونفد وأما بالمعنى المتنازع فيه فهو أنه لا بداية له : أي لم تزل آحاده متعاقبة
وأما النزاع المعنوي فهو أنه : هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي مم جهة مبدئه أو لا ؟ ولا ريب أن المستدل لم يذكر دليلا على امتناع انقضاء ذلك لكن أخذ لفظ ( ما لا يتناهى ) ولفظ ( ما لا يتناهى ) فيه إجمال فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره فإذا قيل : ( إن هذا ينقضي ) كان ذلك جمعا بين النقيضين وقد يعني به ما لا بداية له وهو ينازع في إمكان ذلك لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية وكأنه يقول : ما له نهاية فلا بد له من بداية ومنازعوه يقولون : هذا مسلم في الأشخاص فكل شخص ينتهي فلا بد له من مبدأ إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديما وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي وينازعونه في النوع ويقولون : يمكن أن يقال : إن الله لم يزل يفعل شيئا بعد شيء
وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي على إفساد هذه الحجة التي ذكرها ههنا على تناهي الحوادث بكلام لم يذكر عنه جوابا
قال الرازي : وإن كان الجسم في الأزل ساكنا كان ذلك ممتنعا ( لأن ) السكون وجودي وكل وجودي أزلي فإنه يمتنع زواله
والمنازع نازعه في كون السكون وجوديا ولم ينازعه في أن الوجود الأزلي يمتنع زواله وقد قرر ذلك الرازي بأن القديم إما واجب بذاته أو ممكن يكون مؤثرة بذاته سواء كان تأثيره بنفسه أو بشرط لازم له ولا يحتاج إلى هذا بل يقال : القديم إن كان واجبا بنفسه امتنع عدمه وإن لم يكن كذلك فالمقتضى له - سواء سمى موجبا أو مختارا - إما أن يتوقف اقتضاؤه له على شرط محدث أو لا والثاني ممتنع فإن القديم لا يتوقف على شرط محدث إذ لو توقف عليه لكان القديم مع المحدث أو بعده وإذا لم يتوقف على شرط محدث لزم ان يكون قد وجد المقتضى التام المستلزم له في الأزل وحينئذ فيجب دوامه بدوام المقتضى التام ثم كون القديم لا يكون مقتضية له اختيار : فيه كلام ونزاع ليس هذا موضعه والمقصود هنا : أن منازعه نازعه في كون السكون وجوديا
وقد احتج عليه الرازي بأن ( تبدل حركة الجسم الواحد بالسكون وبالعكس يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت فيكون الآخر وجوديا لأن الحركة هي : الحصول في حيز مسبوقا بالحصول في الآخر والسكون هو : الحصول في حيز مسبوقا بالحصول فيه فاختلافهما إنما هو بالمسبوقية بالغير وإنها وصف عرضي لا يمنع اتحاد الماهية فيلزم كونهما وجوديين )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف الضدين في تمام الماهية وكذا العدم والملكة وايضا المسبوقية وصف عرضي لما به الاشتراك والوصف العرضي لما به الاشتراك يكون ذاتيا للماهية المركبة منهما )
قلت : مضمون ذلك أن الرازي احتج بأن السكون من جنس الحركة وإنما يختلفان في كون أحدهما مسبوقا بالغير وهذا اختلاف في وصف عرضي لا يمنع التماثل في الحقيقة فمنعه الأرموي بمقدمتين بل أبطل الأولى بأن المتقابلين تقابل الضدين - كالسواد والبياض والحلاوة والمرارة ونحو ذلك - هما مختلفان في الحقيقة وكذا المتقابلان تقابل العدم والملكة - كالعمى والبصر والحياة والموت والعلم والجهل ونحو ذلك - والحركة مع السكون : إما من هذا وإما من هذا فكيف تجعل حقيقة أحدهما مماثلة لحقيقة الآخر وأنهما لا يختلفان إلا بوصف عرضي ؟
وإيضاح هذا : أن الحركة ليست من جنس الحصول المشترك بينها وبين السكون فإن كون الشي في هذا الحيز وفي هذا الحيز معقول مع قطع النظر عن كونه متحركا فإنه إذا قدر أنه سكن في الحيز الثاني كان هذا الحصول من جنس ذلك الحصول وأما نفس حركته : فأمر زائد على مطلق الحصول المشترك ومنع الثانية وجعل سند منعه : أن قول القائل : ( المسبوقية وصف عرضي ) إن عنى أنها ليست ذاتية : فلا دليل على ذلك وإن عنى أنه عرضية لما اشتركا فيه : فالعرض لما به الاشتراك قد يكون ذاتيا للحقيقة المركبة من المشترك والمميز كالناطقية فإنها تعرض للحيوانية ليست ذاتية لها ثم أنها ذاتية للإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية
و الرازي قد يمكنه أن يجيب عن هذا بأن كون هذا مسبوقا بهذا إنما هو أمر إضافي أي هو متأخر عنه مثل هذا لا يكون من الصفات الذاتية كالحركتين المتماثلتين الثانية مع الأولى فإنهما إذا كانت متماثلتين لم يجز أن يجعل كون إحداهما مسبوقة بالغير دون الاخرى من الصفات الذاتية المفرقة بينهما
ولقائل أن يقول : الحجة والاعتراض مبني على أن الصفات اللازمة للحقيقة تنقسم إلى ذاتي وعرضي كما يقوله من يقوله من أهل المنطق فإن تقسيم الصفات اللازمة للحقيقة إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة وما هو عرضي خارج عنها : قول لا يقوم عليه دليل بل الدليل يقوم على نقيضه ولهذا لما لم يكن في نفس الأمر بينهما فرق لم يحدد المفرقون بينهما حدا بفصل بينهما بل ما ذكروه من الضوابط منتقض كما هو مبسوط في موضعه وإذا كانت الصفتان متلازمتين في الوجود والعدم والثبوت والانتفاء لا توجد هذه إلا مع هذه وإذا انتفت هذه انتفت هذه : كان التفريق بجعل إحداهما مقومة والأخرى عرضية تحكما
ثم إذا قيل : الذات هي المركبة من الصفات الذاتية والصفات الذاتية ما لا تتصور الذات إلا بها لم تعرفه الذات إلا بالصفات الذاتية ولا الصفات الذاتية إلا بالذات
وأيضا فإن هذا مبني على أن وجود الشيء في الخارج زائد على حقيقته الموجودة في الخارج وهو أيضا قول باطل ضعيف
وأيضا فالذات الموجودة في الخارج القائمة بنفسها كهذا والإنسان : إن قيل : ( إنه مركب من عرضين ) لزم كون الجوهر مركبا من عرضين وإن يكونا سابقين له وهذا ممتنع في البديهة وإن قيل : ( إنه ركب من جوهرين كل منهما يحمل عليه كما يقال : هو حيوان ناطق ) لزم أن يكون فيه جوهران أحدهما : حيوان والآخر : ناطق وهذا مكابرة للحس والعقل إذ هو حيوان واحد موصوف بأنه ناطق
وإذا كان كذلك فكون الحصول الذي هو مسبوق بحصول آخر إذا كان ذلك لازما له كان من الصفات اللازمة وإذا افترق الشيئان في الصفات اللازمة لم يجب أن تكون حقيقة أحدهما مثل حقيقة الآخر فإن المتماثلين هما المشتركان فيما يجب ويجوز ويمتنع فإذا وجب لأحدهما ما لا يجب للآخر لم يكن مثله
و للأرموي أن يقول : قد تبين بطلان المقدمتين سواء كان بطريقة المنطقيين أو بطريقة سائر أهل النظر الذين أنكروا على المنطقيين ما ذكروه كما أنكر سائر طوائف أهل النظر من المسلمين وغيرهم عليهم كثيرا مما ذكروه في الحدود وغيرها كما هو معروف في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية وطوائف الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وليس المقصود هنا بسط ما يتعلق بهذا
قال الرازي : ( وإنما قلنا السكون لا يمتنع زواله لأن الخصم يسلم جواز حركة كل جسم ولأن المتحيز يجوز خروجه من حيزه لأنه إن كان بسيطا كانت طبائع جوانبه متساوية فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر وإن كان مركبا كان هذا لازما لبسائطه وخروجه عن حيزه هو الحركة
ولقائل أن يقول : هذا يقتضي إمكان كون نوع الجسم يقبل الحركة فإذا قدر أن السكون وجودي وله موجب مستلزم له كان امتناع الحركة لمعنى آخر يختص به الجسم المعين لم يوجد لغيره من الأجسام فلا يلزم إذا قدر أنه موجود أزلي أنه يمكن زاواله بل هذا جمع بين المتناقضين فما قدر موجودا أزليا لا يمكن زواله بحال ولا يمكن أن يجمع بين تقديرين متناقضين وقبول كل جسم للحركة لا يحتاج إلى هذا فإذا قيل : ( إن السكون عدم الحركة ) أمكن مع كون السكون أزليا من إثبات الحركة ما لا يمكن مع تقدير كونه وجوديا وذلك أنه حينئذ لا تتوقف الحركة إلا على وجود مقتضيها وانتفاء مانعها وليس هناك معنى وجودي أزلي يحتاج إلى زواله
وقد أورد بعضهم على استدلاله على أن السكون أمر وجودي اعتراضا بالغا فقال : هذا فيه نظر من جهة أن مقدمة الدليل مناقضة للمطلوب لأن المطلوب كونهما وجوديين ومقدمة الدليل أن أحدهما وجودي ولا يمكن تقريره إلا بما سبق وهو يقتضي أن يكون أحدهما عدميا فادعاء كونهما وجوديين بعد ذلك مناقض له
قلت : وهذا كلام جيد فإن الأمرين اللذين تبدل أحدهما بالأخر ورفعه : إن لزم أن يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا لزم أن تكون الحركة والسكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا وهو نقيض المطلوب وإن جاز أن يكونا جميعا وجوديين أو عدميين بطل الدليل - وهو قوله : لأن تبدل أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون أحدهما وجوديا لان المرفوع إن كان وجوديا وإلا فالرافع وجودي لأن رفع العدم ثبوت - فإنه على هذا التقدير يمكن رفع العدم بالعدم والوجود بالوجود
وإن قيل : بل يجب أن يكونا وجوديين أو يكون أحدهما وجوديا ولا يجوز أن يكونا عدميين لأن العدم لا يرتفع بالعدم كما يرتفع الوجود بالوجود والعدم بالوجود أو بالعكس
قيل : بل العدمان قد يتضادان كما قد يتلازمان فكما أن عدم الشرط مستلزم لعدم المشروط فعدم الأمور الواجب واحد منها ينافي عدمها كلها فإذا كان الجنس لا يوجد إلا بوجود نوع له فصل امتنع مع وجود الجنس عدم جميع الأنواع والفصول فكان عدم بعضها ينافي عدمها كلها وهذا كما يقال في التقسيم وهو الشرطي المنفصل : قد يكون مانعا من الجمع والخلو كقول القائل : العدد إما شفع وإما وتر وقد يكون مانعا من الجمع فقط كقول القائل : الجسم إما أسود وإما أبيض وقد يكون مانعا من الخلو فقط فما كان مانعا من الخلو فقط أو من الجمع : امتنع اجتماع العدمين فيه فكما أن الشفعية تنافي الوترية في العدد فعدم الشفعية ينافي عدم الوترية لا ثبوتها فلا يحصل العدمان معا بل إذا ثبت أحد العدمين لم يثبت العدم الآخر فيكون الدعم رافعا للعدم
وأيضا فمطلوب المستدل : أن تكون الحركة والسكون وجوديين فإذا قال : ( تبدل الحركة بالسكون يقتضي كون أحدهما وجوديا لأن رفع العدم ثبوت ) كان إثبات كونهما وجوديين موقوفا على تقدير كون أحدهما عدميا لأنه قال ( لأن رفع العدم ثبوت ) فإن لم يكن أحدهما عدميا لم يصح هذا وإذا كان المرفوع عدميا امتنع أن يكونا وجوديين والمطلوب كونهما وجوديين فصار المطلوب مناقضا لمقدمة الدليل كما ذكره المعترض
لكنه قال : فالأولى أن يقال في تقريره : إن الحركة وجودية إجماعا ولأنه مبصر فوجب أن يكون السكون أيضا وجوديا بالتقرير الذي سبق
ثم ذكر اعتراض الأرموي فقال : وأورد بينهما إما تقابل التضاد أو العدم والملكة والبديهة حاكمة باختلاف ماهية المتضادين والمتقابلين
قال : وأجيب بان التضاد بين الشيئين إذا كان عارضا لهما كما بين الأسود والأبيض لم يلزم ذلك وما نحن فيه كذلك فإن التضاد عارض لهما بسبب المسبوقية بالغير وهي عدمية فلم يجز أن تكون جزءا ولأنه ليس جعل السكون عبارة عن دعم الحركة أولى من العكس فإما أن يكونا عدميين وهو باطل وفاقا وفتعين أن يكونا وجوديين
ولقائل أن يقول : التضاد بين الحركة والسكون من جنس التضاد بين الحياة والموت والعلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض والعمى والبصر والحلاوة والحموضة ونحو ذلك من الصفات الثبوتية أو التي بعضها ثبوتي وبعضها عدمي ليس هو من جنس تضاد القائمين بأنفسهما كالأسود والأبيض فإن التضاد إنما يكون في المعتقبين اللذين يعتقبان على محل واحد كما قال متكلمة أهل الإثبات : الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما في محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة فما لم يكن المعنيان قائمين بمحل واحد فلا تضاد والحركة والسكون يعتقبان على المحل الواحد إما تعاقب اللونين والطعمين وإما تعاقب العلم والبصر والسمع وعدم ذلك فكيف يكون أحدها مثل الآخر لا يفارقه إلا بصفة عرضية ؟ وفي الجملة : فالحركة والسكون هما إن كانا وجوديين فهما عرضان وإن كان أحدهما وجوديا فأحدهما عرض والآخر عدم العرض وعلى التقديرين : فليسا قائمين بأنفسهما فلا يجوز تشبيهما بالأجسام كالأسود والأبيض والطويل والقصير والعالم والجاهل بل يجب تشبيههما بالاعراض وعدم كالسواد والبياض والعلم وعدم العلم ونحو ذلك
فقول الأرموي : ( إن الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين أو تقابل العدم والملكة وعلى التقديرين : يجب اختلاف ماهيتها لا تماثلهما ) كلام صحيح وقول المعارض له : إن الاختلاف إذا كان لعارض كما بين الأسود والأبيض : لم يجب اختلاف الماهيتين فإن ماهية الأسود من جنس ماهية الأبيض : كلام باطل لأن الأسود والأبيض من باب الأجسام القائمة بأنفسهما لا من باب الصفات والأعراض
وأيضا فالأسود والأبيض لا يتقابلان تقابل الضدين ولا تقابل العدم والملكة فليس من هذا الباب اللهم إلا إذا مريد بذلك : أن الحيز الذي فيه الأسود لا يكون فيه الأبيض وحينئذ فيكون تضاد الأبيض والأسود كتضاد الأسودين والأبيضين
وأيضا فيقال : اختلاف الأسود والأبيض يراد به اختلاف عينهما مع قطع النظر عن السواد والبياض أوبشرط السواد والبياض فإن أريد الأول فلا اختلاف بين ذاتيهما مع قطع النظر عن اللونين فإن الجسم الذي هو الأسود قد يكون نفس الجسم الذي هو الأبيض وإن أريد بالاختلاف اختلافهما بشرط اللون المختلف فحينئذ يكون اختلافهما كاختلاف السواد والبياض فإن الشيء المشروط بالسواد مخالف للشيء المشروط بالبياض ولا يجوز أن يقال : إن الذاتين متماثلين إلا مع التجريد عن الاختلاف وإلا فإذا أخذت الذاتين مشروطتين بالاختلاف لم يكونا متماثلتين التماثل الذي لا يشترط فيه الاختلاف كيف والتماثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ؟ والشيء في حال سواده لا يجوز أن يكون أبيض وهو في حال بياضه لا يكون أسود ؟ فلا يكون الأسود حال كونه مشروطا بالسواد يجوز عليه ما يجوز على الأبيض حال كونه مشروطا بالبياض
وقول القائل : ( إن الإختلاف بين الحركة والسكون عارض بسبب المسبوقية بالغير ) ليس بمسلم له فإنه يعقل التضاد بينهما مع عدم خطور المسبوقية بالبال كما يعقل التضاد بين العلم والجهل والقدرة والعجز والسواد والبياض
وقول القائل : ( ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة بأولى من العكس ) دعوى مجردة فلا نسلم انتفاء هذه الأولوية بل هذه الدعوى بمنزلة قول القائل : ليس جعل العمى عدم البصر بأولى من العكس وليس جعل الصمم عدم السمع بأولى من العكس وليس جعل الجهل البسيط عدم العلم بأولى من العكس وليس جعل المتقابلين عدما والآخر وجودا بأولى من العكس
ومعلوم أن كل هذه دعاى مجردة بل باطلة فإنا نعلم بالحس أن الحركة أمر وجودي كما نعلم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر أمر وجودي وأما كون ما يقابل ذلك هو ضد ما ينافيها أو عدمها من محلها فهذا فيه نظر ولهذا تنازع العقلاء في هذا دون الأول وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظيا فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزما لأمر وجودي مثل الحياة مثلا فإن عدم حياة البدن مثلا مستلزما لأعراض وجودية
والناس تنازعوا في الموت : هل هو عدمي أو وجودي ؟ ومن قال : ( إنه وجودي ) احتج بقوله تعالى : { خلق الموت والحياة } ( الملك : 2 ) فأخبر أنه خلق الموت كما خلق الحياة ومنازعه يقول : العدم الطارىء يخلق كما يخلق الوجود أو يقول : الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة وحينئذ فالنزاع لفظي
وكذلك تنازعوا في الظلمة : هل هي وجودية أو عدمية وهي عدم النور عما من شأنه قبوله ومن قال : ( إنها وجودية ) يحتج بقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ( الأنعام : 1 ) والآخر يقول : كل ما يتجدد ويحدث من الأمور الوجودية والعدمية فالله سبحانه جاعله أو يقول : عدم النور مستلزم لأمور وجودية هي الظلمة المجعولة وكون السكون وجوديا أبعد من كون الموت والظلمة ونحو ذلك وجوديا والسكون قد يراد به قوة في الجسم تمنع حركته كالطبيعة التي في الحجر التي توجب استقراره في الأرض وهذا أمر وجودي لكن من قال ( إن السكون عدمي ) لم يجعل تلك الطبيعة هي السكون بل قد يسمون ذلك اعتمادا ويفرقون بين السكون والاعتماد لكن قد يقال له : فالجسم إذا كان ساكنا فإما أن يكون السكون وجوديا أو مستلزما لأمر وجودي وحينئذ فالمقتضى لذلك الأمر الوجودي : إما موجب بنفسه ويساق الدليل إلى آخره لكن من قال : ( إن الجسم الأول كان ساكنا في الأزل ثم تحرك ) يقول في هذا ما يقوله القائلون بحدوث الأجسام فإنهم إذا قالوا : ( حدثت هي وحركتها من غير سبب يقتضي حدوثها ) قال لهم هذا المنازع : بل كان ما قدر قديما من الأجسام ساكنا ثم حدثت حركته من غير سبب يقتضي حركتها وهذا يقوله من يقول : إن الأول جسم وإنه يتجدد له الفعل بعد أن لم يكن له فاعلا ويقول : الكلام في حدوث الفعل القائم به كالكلام في حدوث المفعول المنفصل عنه
وذلك أن أهل الكلام والنظر من أهل القبلة وغيرهم تنازعوا في ثبوت جسم قديم :
فطائفة قالت : بامتناع جسم قديم وحدوث كل جسم وتنازعوا في المحدث للجسم هل أحدث بعد أن لم يكن محدثا بدون سبب حادث أصلا أم لا بد من سبب حادث ؟ وهل تقوم به أمور حادثة كإرادة حادثة وتصور حادث بل وفعل حادث ؟ على قولين لهم
وطائفة قالت بثبوت جسم قديم : ثم هؤلاء منهم من قال : لم يزل فاعلا متحركا ومنهم من قال : بل تجدد له الفعل والحركة فإذا احتج الأولون على هؤلاء بأن الجسم لو كان أزليا لم يخل من الحركة والسكون والحركة لا تكون أزلية لامتناع دوام الحوادث وتسلسلها والسكون لايكون أزليا لأنه وجودي فلو كان أزليا لامتنع زواله لأن الوجودي الأزلي يمتنع زواله لأن المقتضي له إما موجب بنفسه أو لازم للموجب بنفسه ثم نقول : والسكون يجوز زواله فلا يكون أزليا
أجابوهم عن جواز الحوادث بأجبوتهم المعروفة كما تقدم التنبيه على ذلك وأجابوهم على السكون الأزلي بأن قالوا : ما ذكرتموه يناقض ما ذكرتموه في حدوث الأجسام وذلك أنكم إذا قلتم بحدوثها فلا يخلو : إما أن تقولون بجواز تسلسل الحوادث وإما أن لا تقولوا بجواز ذلك
فإن قلتم بجواز تسلسل الحوادث وأن الأجسام حدثت بشرط حوادث متعاقبة كما قال ذلك من قاله من القائلين بحدوث الأجسام كالأرموي و الأبهري وغيرهما قالوا لهم : فإذا جوزتم تسلسل الحوادث بطل دليلكم على امتناع التسلسل في الآثار وأمكن حينئذ أن يكون الجسم القديم لم يزل متحركا فبطل دليلكم على حدوث الجسم
وإن قلتم لا يجوز تسلسل الحوادث والآثار وقلتم بحدوث الأجسام من غير سبب حادث - لزم أن لا يكون حدوث الحادثات متوقفا على سبب حادث بل كان الفاعل المختار يحدث ما يحدث من غير سبب حادث أصلا كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن وافقهم
وحيئنذ فيقول لهم منازعوهم من الهشامية والكرامية وغيرهم : فيجوز حينئذ أن يكون الجسم القديم الازلي تحرك بعد أن كان ساكنا من غير سبب أوجب ذلك بل بمحض المشيئة والقدرة لأن القادر المختار يمكنه ترجيح احد طرفي الممكن بلا مرجح : يرجح السكون تارة والحركة أخرى
فإن قالوا هم : نحن نقول : ( يفعل بعد أن لم يكن فاعلا فإذا قلتم السكون أمر وجودي جعلتموه فاعلا في الأزل لأمر وجودي والفعل في الأزل محال )
قالوا لهم : نحن ليس لنا غرض في أن نجعل السكون أمرا وجوديا ولا أن نجعله فاعلا في الأزل لأمر وجودي بل اتفقنا نحن وأنتم على أنه يفعل ما لم يكن فاعلا له من غير سبب حادث لكن نزاعنا في الفعل : هل يقوم به ؟ وفي الفاعل : هل هو جسم ؟ فإذا طالبتمونا بسبب فعله للحركة بعد السكون قلنا لكم : هذا بمنزلة فعله لكل محدث بعد أن لم يكن فاعلا والفرق إنما يعود إلى محل الفعل لا إلا سببه ومقتضيه وتلك مسألة أخرى قد تكلم عليها في غير هذا الموضع وإلا فمن جهة المطالبة بسبب الفعل الحادث لا فرق بيننا وبينكم بل قولنا أقرب إلى المعقول من قولكم فإن أحداث الأمور المنفصلة بدون حدوث فعل يقوم بالفاعل أمر غير معقول بخلاف العكس
فإذا قالوا لهم : السكون أمر وجودي فإذا كان أزليا كان له موجب قديم فيمتنع زواله
قالوا لهم : حدوث ما يحدث إما أن يقف على سبب حادث وإما أن لا يقف فإن وقف على أمر حادث بطل قولكم بحدوث الأجسام وإن لم يقف فقد يقال : فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا وحدوث حادث يزيل أمرا عدميا فإن لم يقف بطل قولكم بحدوث الاجسام وإن وقف فلا فرق بين حدوث حادث يزيل أمرا وجوديا أو حدوث حادث لايزيل أمرا وجوديا وذلك أنه إن جوز على الفاعل أن يحدث ما يحدث من غير تجدد أمر فقد تغير الأمر الذي لم يزل بلا سبب اقتضى التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وحيئنذ فيجوز أن يتغير السكون الذي لم يزل بدون سبب يقتضي التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته وإذا كان الفاعل القادر المختار قادر على أن يحدث ما يحدث ويجعل المعدوم موجودا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح كان قادرا على أن يجعل الساكن متحركا بدون سبب حادث أصلا لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا إحداث الاجسام التي تكون ساكنة ومتحركة أعظم من إحداث نفس حركاتها فإذا أمكنه إحداثها بدون سبب حادث فإحداث حركاتها أمكن وأمكن
ويقال لهم : لو خلق الباري تعالى جسما ساكنا ثم أراد تحريكه بدون سبب حادث : أكان ذلك ممكنا أو ممتنعا ؟
فإن قلتم : ( يمتنع ذلك ) بطل مذهبكم ودليلكم وإن قلتم : ( يمكن ذلك ) قيل لكم : فالقول في زوال ذلك السكون كالقول في زوال غيره فإنه يقال : السكون أمر وجودي وذلك السكون الوجودي لا بد له من سبب وحيئنذ فتجيء مسألة زوال الضد : هل هو بإحداث ضد آخر أو بإحداث عدمه أو بخلق فناء أو نفس الاعراض لا تبقى ؟ فيقال في هذا ما يقال في ذلك
ومن قال : ( السكون الوجودي لا يبقى زمانين بل ينقضي شيئا فشيئا ) قيل له : فكذلك إذا قدر السكون قديما فإنه لا يبقى زمانين بل يحدث شيئا فشيئا وحينئذ فكل جزء من أجزاء السكون ليس هو قديما بنفسه كما قلتم في كل جزء من أجزاء الحركة : ليس هو قديما بنفسه
فإذا كان القائلون بأن السكون أمر وجودي يقولون : إنه يتجدد شيئا فشيئا كما يقولون مثل ذلك في الحركة
قيل لهم : فيكون دليلكم على امتناع كون الازلي ساكنا من جنس دليلكم على امتناع كونه متحركا وهو تناهي الحوادث وقد تقدم الكلام فيه
فإذا قالوا : ( السكون أمر وجودي فإذا كان قديما امتنع زواله لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه لأن القديم إما أن يكون واجبا بنفسه أو من لوازم الواجب بنفسه )
قيل لهم : هذا مثل أن يقال : عدم الفعل هو تركه وترك الفعل أمر وجودي فإذا كان قديما امتنع عدمه لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه
فإذا قالوا : ( عدم الفعل ليس هو تركا وجوديا ) أمكن أن يقال : عدم الحركة ليس هو سكونا وجوديا
وقد ضعف الآمدي وغيره هذه الحجة : حجة الحركة والسكون وهي فاسدة على أصول من يقول بان الأعراض لا تبقى زمانين من هذه الجهة وهي في الأصل من حجج المعتزلة الذين يقولون بجواز بقاء الأعراض لكن من ينازعهم من الهشامية والكرامية وغيرهم : ممن يقول بإثبات جسم قديم وأنه قام به من الفعل ما لم يكن قائما - سواء سموا ذلك حركة كما يقر بعضهم بذلك أو لم يسموه حركة كما يمتنع بعضهم من ذلك - فإن المقصود المعاني العقلية لا الإطلاقات اللفظية
فإذا قال من قال من معتزلة البصرة : ( إن إفناء الاجسام بإحداث فناء لا في محل كما إن إحداثها بحدوث إرادة لا في محل ) والتزموا حدوث عرض لا محل له وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وأن من الحوادث ما يحدث بدون إرادة وقالوا : لا يزوال الضد إلا بحدوث ضده
قال لهم هؤلاء : فكذلك إذا قدرنا جسما قديما متحرك بعد أن كان ساكنا كان زوال ذلك السكون بحدوث ضده من الحركة وحدوث ذلك بما به يحدث المنفصل ومن قال : ( العرض يعدم بإحداث إعدام ) كما هو أحد القولين لمتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية والكرامية وغيرهم قالوا : ذلك السكون يعدم بإحداث إعدام والقول في سبب حدوث الإعدام كالقول في حدوث سبب الإحداث
وإن قالوا : ( إن السكون ينقضي شيئا فشيئا كما تنقضي الحركة شيئا فشيئا ) كما قالوا مثل ذلك في سائر الأعراض - كما هو أحد قولي أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم - قالوا لهم : فالسكون إذن كالحركة فكما أن الحركة متعاقبة الأجزاء فكذلك السكون
ولا ريب أن هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوما لا محيد عنه وإنما التبس مثل هذا لأن الواحد من هؤلاء يبنى على المقدمة الصحيحة في موضع ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر فيظهر من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها لكن قد يكون ما أثبتوه في أحد الموضعين صحيحا متفقا عليه فلا ينازعوهم الناس فيه ولا في مقدماته وقد تكون المقدمات فيها ضعف لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها وإنما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع
والمسلمون متفقون على أن الله سبحانه وتعالى وصفاته اللازمة لذاته لايجوز عليها العدم وقد اشتهر في اصطلاح المتكلمين تسميته بالقديم بل غالب المعتزلة ومن سلك سبيلهم غالب ما يسمونه بالقديم وإن كان من المعتزة وغيرهم من لايسميه بالقديم وإن سماه بالأزلي وأكثرهم يجعلون القدم أخص وصفه كما أن الفلاسفة المتأخرين الإلهيين غالب ما يسمونه به ( واجب الوجود ) والمتقدمون منهم غالب ما يسمونه به ( العلة الأولى ) و ( المبدأ الأول )
فإذا قرر المقرر أن ما وجب قدمه امتنع عدمه كان من المعلوم أن الرب القديم الواجب الوجود يمتنع عدمه تعالى وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره حتى يقال : إنه يمتنع عدمه والمتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك يقولون : إنه يمتنع عدمها فهذه المقدمة وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يصلح أن يستدل بها من قال بما يناقضها أو بما يستلزم ما يناقضها فإن نفس ما يستدل به عليها إذا ناقض قوله أمكن معارضه أن يبطل حجته بالاعتراض المركب لاسيما إذا اقتضى فساد قوله على التقديرين
فمن كان من أصل قوله إن الفاعل المختار له أن يرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح أصلا بمجرد كونه قادرا أو بمجرد إرادته القديمة وقدر مع ذلك جسم قديم قادر مختار يقبل الحركة والسكون كان تحركه بعد سكونه الدائم بمنزلة تحريكه لغيره فإن أمكن تحركيه لغيره بمجرد كونه قادرا أو بمجرد إرادته أمكن ذلك في هذا الموضع ولا يمتنع من ذلك إلا أن يقوم دليل على أن الجسم يمتنع قدمه أو أن القديم يمتنع كونه يتحرك لكن هؤلاء إذا لم يثبتوا حدوث الجسم أو امتناع تحريك القديم إلا بهذا الدليل لم يمكنهم أن يجعلوا من مقدمات الدليل حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم بل إذا كان حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم موقوفا على هذا الدليل كانوا قد صادروا على المطلوب وجعلوا المطلوب حجة في إثبات نفسه لكن غيروا العبارات وداروا الدورات وهم من موضعهم لم يتغيروا فلهذا كان من وافقهم وفهم كلامهم حائرا لم يفده علما ومن لم يفهمه ووافقهم كان جاهلا مقلدا لأقوام جهال ضلال يظهرون أنهم من أعلم الناس بأصول الدين والكلام والعقليات
ثم إن الرازي ذكر من جهة المنازعين بأن هذه الوجوه الستة في امتناع كون الجسم أزليا متحركا - التي تقدمت وتقدم اعتراض الأرموي عليها - معارضة : ( بأن امتناع الحركة في الأزل إن كان لذاتها وجب أن لا توجد أصلا وإن كان لغيرها فذلك المانع إن كان واجبا لذاته فكذلك وإن كان واجبا لغيره عاد الكلام فيه وتسلسل أو ينتهي إلى واجب الوجود لذاته ولزم امتناع زوال المانع
فإن قلت : المانع هو مسمى الأزل لأنه ينافي المسبوقية بالغير التي تقتضيها الحركة وإنه زائل فيما لايزال
قلت : الترديد المذكور عائد في مسمى الأزل أنه : هل هو واجب لذاته أو لغيره ؟ )
وأجاب الرازي عن هذه المعارضة فقال : ( قوله : صحة الحركة أزلية قلنا : إنه لايلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية ) قلت : ولقائل أن يقول : ما تعني بقولك : صحة الحركة أزلية أتعني به : أنه يصح وجود الحركة في الأزل ؟ أم تعني به أنه في الأزل يصح الحكم عليها بالصحة فيما لا يزال ؟ أما الأول : فهو تسليم للمطلوب وأما الثاني : فهو حكم علمي لا كلام فيه كالأحكام العقلية الذهنية فينا فإنه يصح في الأزل الحكم بالامتناع على الممتنعات كما يصح الحكم بالجواز على الجائزات ثم يقال : الحركة في الأزل إما ممتنعة الإمكان العام الذي يدخل فيه الواجب وإما ممكنة فإن كانت ممتنعة فهو باطل كما تقدم وإن كانت ممكنة كان الدليل على امتناعها باطلا فبطلت الوجوه الدالة على امتناع الحركة في الأزل
ولم يرض أبو الحسن الآمدي هذا الجواب الذي ذكره الرازي بل ذكر جوابا آخر فقال : ( وجوابه أن يقال : لا يلزم من امتناع الوجود الأزلي على الحركة لذاتها امتناع الوجود الذي ليس بأزلي فإذا ما هو ممتنع غير زائل وهو الوجود الأزلي وما هو الجائز لم يكن ممتنعا )
قلت : ولقائل أن يقول : هذا يستلزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب يوجب هذا الانقلاب بما لا ينضبط لا في الوجود ولا في العقل فإن الإمكان الذاتي ثابت بالضرورة والاتفاق وما من وقت يقدر فيه الإمكان إلا والإمكان ثابت قبله لا إلى غاية فليس للإمكان ابتداء محدود
يبين ذلك : أنه قد يقال : صحة الحركة إو إمكان الحركة أو جواز الحركة وصحة الفعل أو جواز أو إمكان الفعل إما أن يكون به ابتداء وإما أن لا يكون فإن لم يكن له ابتداء لزم أنها لم تزل جائزة ممكنة فلا تكون ممتنعة فتكون جائزة في الأزل وإن كان لجوازها ابتداء فمعلوم أنه ما من وقت يقدره الذهن إلا والجواز ثابت قبله فكل ما يقدر فيه الجواز فالجواز ثابت قبله لا إلى غاية فعلم أنه ليس للجواز بداية فيكون جواز ثبوت الحركات دائما لا ابتداء له ويلزم من ثبوت الجواز عدم الامتناع
وإذا قال القائل : إن مسمى الحركة ممتنع في الأزل قيل : معنى هذا الكلام أن مسمى الحركة يمتنع أن يكون قبله حركة أخرى لا إلى أول وزوال الأزل ليس موقوفا على تجدد أمر من الأمور فإن المتجدد هو من الحوادث فتكون الحركة ممتنعة ثم صارت ممكنة من غير تجدد أمر من الأمور
فإن قيل : المتجدد هو عدم الأزل أو انقضاء الأزل أو نحو ذلك
قيل : عدم الأزل ليس شيئا كان موجودا فعدم ولا معدوما فوجد إذ معنى الأزل في الماضي كمعنى الأبد في المستقبل فما ليس بأزلي فهو متجدد حادث فإذا قيل ( يشترط في جواز المتجدد الحادث تجدد المتجدد الحادث ) كان المعنى أنه يشترط في إمكان الشيء ثبوته ومن المعلوم أن ثبوته كاف في إمكانه
يوضح هذا : أن القائل إذا قال : كل ما يسمى متجددا حادثا إما أن يكون ممكنا في الأزل وإما أن لا يكون فإن كان ممكنا بطل القول بامتناعه في الأزل وإن كان ممتنعا ثم صار ممكنا لزم انقلاب الشيء من كونه ممكنا إلى كونه ممتنعا من غير تجدد شيء أصلا وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب ممتنعا لاستلزامه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح فالقول بتجدد الإمكان والجواز أو حدوث الإمكان والجواز بلا سبب حادث أولى بالامتناع إذا كانت الحقيقة المحكوم عليها بالجواز والإمتناع هي هي بالنسبة إلى كل ما يقدر في كل وقت وقت وإذا كانت نسبة الحقيقة إلى كل ما يقدر من الأوقات كنسبتها إلى الوقت الآخر امتنع اختصاص أحد الوقتين بجواز الحقيقة فيه دون الوقت الآخر وإذا امتنع الاختصاص إلا بمخصص ولا مخصص لزم : إما الامتناع في جميع الأوقات وهو باطل بالحس والإجماع فلزم الإمكان والجواز في جميع الأوقات وهو المطلوب
وعلى هذا التقدير : فيمكن أن ينظم ما ذكروه من المعارضة بعبارة لا يرد عليها ما ذكر بأن يقال : إن قيل إن الحركة لم تزل ممكنة ثبت المطلوب وإن قيل إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة فالامتناع إما لذاتها وإما لموجب واجب بذاته وعلى التقديرين فيلزم دوام الامتناع وإن كان لا لذاتها ولا لموجب بذاته فلا بد أن يكون الامتناع لأمر واجب بغيره وحيئنذ فالكلام في ذلك المانع في غيره ويلزم التسلسل ثم يقال : تسلسل الموانع إن كان ممكنا ثبت جواز التسلسل وأمكن القول بتسلسل الحوادث وإن كان تسلسل الموانع ممتنعا بطل كون الامتناع متسلسلا وقد بطل كونه واجبا بنفسه أو بغيره فلا يكون الامتناع ثابتا في الأزل فيثبت نقيضه وهو الإمكان
وإيضاح ذلك بعبارة أخرى أن يقال : مسمى الحركة إما أن يكون ممتنعا في الأزل وإما أن لا يكون فإن لم يكن ممتنعا في الأزل ثبت إمكانه فيكون مسمى الحركة ممكنا في الأزل وإن كان ممتنعا في الأزل فامتناع إما لنفسه وإما لموجب واجب بنفسه أو لازم للواجب وحينئذ فلا يزول الامتناع وإن كان لمعنى متسلسل لزم جواز التسلسل وهو يستلزم بطلان الأصل الذي بنى عليه امتناع تسلسل الحوادث
وسر هذا الدليل : أن الأزل ليس هو شيئا معينا محدودا ولكن ما من وقت يقدر إلا وقبله شيء آخر وهلم جرا وهذا هو التسلسل فيلزم من تحقق الأزل التسلسل
لكن قد يقال : تسلسل العدميات ليس كتسلسل الوجوديات بل تسلسل العدميات ممكن بخلاف تسلسل الوجوديات ويكون حدوث حدوث الحوادث موقوفا علىتسلسل العدميات فيقال : إن لم يكن تسلسل العدميات أمرا محققا فلا حقيقة له فيكون إمكان حدوث الحوادث موقوفا على ما لا حقيقة له وهذا باطل وإن كان تسلسلها أمرا محققا فقد ثبت أن تسلسل الأمور المحققة جائز وأنه أزلي مع أن كل واحد من تلك التسلسلات ليس بأزلي وهذا ينقض ما ذكروه في امتناع تسلسل الحوادث فهم بين أمرين : إما أن يقولون بالترجيح بلا مرجح وإما أن يقولون بجواز التسلسل وهذا بعينها هو الذي يلزمهم في قولهم : إنه لا بد للحوادث من ابتداء فكما أنهم في هذا يلزمهم إما الترجيح بلا مرجح وإما التسلسل فكذلك في قولهم ( إنه لا بد لإمكانها من ابتداء ) يلزمهم إما هذا وإما هذا والقول بالترجيح بلا مرجح تام ممتنع وهم متفقون على أن الترجيح بلا فاعل مرجح ممتنع لكن لا يشترطون تمام ما به يكون مرجحا بل يقولون : يحصل الترجيح التام من غير حصول الرجحان ويحصل الرجحان بدون المرجح التام بناء على أن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح إذ أن الإرادة القديمة ترجح أحد المثلين بلا مرجح والقول بجواز التسلسل يبطل القول بامتناع التسلسل فثبت بطلان قولهم على التقديرين
حدوث العالم والأجسام
قال الرازي : ( البرهان الثاني : كل جسم متناهي القدر وكل متناهي القدر محدث ) وقرر الثانية بأن ( متناهي القدر يجوز كونه أزيد وأنقص فاختصاصه له دونهما لمرجح مختار وإلا فقد ترجح الممكن لا عن المرجح وفعل المختار محدث )
معارضة الأرموي
قال الأرموي : ( ولقائل أن يمنع لزوم الترجيح لا لمرجح )
تعليق ابن تيمية
قلت : مضمونه أنه يقول : لانسلم أنه لم يكن المرجح للقدر مختارا لزم الترجيح بلا مرجح بل قد يكون أمرا مستلزما للقدر فإن المرحج أعم من أن يكون مختارا أو غير مختار فإذا قدر المرجح أمرا مستلزما لذلك القدر إما أمر قائم به أو أمر منفصل عنه حصل المرجح للقدر وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذا إذا ذكرنا اعتراضات الآمدي على هذا
البرهان الثالث للرازي
قال الرازي : ( البرهان الثالث : لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك والأزلي يمتنع زواله لما تقدم فامتنعت الحركة عليه وقد ثبت جوازها )
معارضة الأرموي له
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : معنى الأزلي الدائم لا إلى أول فيكون معنى قولنا : لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين أنه لو كان الجسم دائما لا إلى أول لكان حصوله في حيز واحد معين دائما وهو معنى السكون وهذا ممنوع بل دائما يكون حصوله في موضع معين إما عينا وإما على البدل : أي يكون في كل وقت في حيز معين غير الذي كان حاصلا فيه قبله ) انتهى
تعليق ابن تيمية
قلت : مضمون هذا الاعتراض : أن المشار إليه بأنه هنا أو هناك لا يستلزم حيزا معينا يمتنع انتقاله عنه غاية ما يقال : إنه لا بد من حيز أما كونه واحدا بعينه في جميع الأوقات فلا وإذا استلزم نوع الحيز لا عينه أمكن كونه تارة في هذا وتارة في هذايوضح هذا : أن هذا الحكم لازم للجسم سواء قدر أزليا أو محدثا فإن الجسم المحدث لا بد له من حيز أيضا مع إمكان انتقاله عنه
فإن قال : لا بد للجسم من حيز معين يكون فيه إذ المطلق لا وجود به في الخارج فإذا كان أزليا امتنع زواله بخلاف المحدث
قيل : ليس الحيز أمرا وجوديا بل هو تقدير المكان ولو قدر وجودي فكونه فيه نسبة وإضافة ليس أمرا وجوديا أزليا
وأيضا فيقال : مضمون هذا الكلام : لو كان أزليا لزم أن يكون ساكنا لا يتحرك عن حيزه لأن الموجود الأزلي لا يزول
فيقال : إن لم يكن السكون وجوديا بطل الدليل وإن كان وجوديا فأنت لم تقم دليلا على إمكان زوال السكون الوجودي الأزلي وإنما أقمت الحجة على أن جنس الجسم يقبل الحركة ومعلوم أنه إذا كان كل جسم يقبل الحركة وغيرها من الصفات كالطعم واللون والقدرة والعلم وغير ذلك ثم قدر أن في هذه الصفات الوجودية ما هو أزلي قديم لوجوب قدم ما يوجبه لم يلزم إمكان زوال هذه الصفة التي وجب قدم ما يوجبها فإن ما وجب قدم موجبه وجب قدمه وامتنع حدوثه ضرورة
فإن قيل : نحن نشاهد حركة الفلك فامتنع أن يقال : لم يزل ساكنا
قيل : أولا : ليس الكلام في حدوث الفلك بعينه بل في حدوث كل جسم فإذا قدر جسم أزلي ساكن غير الفلك لم يكن فيما ذكره ولا في حركة الفلك دليل على حدوثه لا سيما عند من يقول القديم الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا كما يقوله كثير من النظار من الهشامية والكرامة وغيرهم
وقيل : ثانيا : الفلك - وإن كان متحركا - فحيزه واحد لم يخرج عن ذلك الحيز وحركته وضعية ليست حركة مكانية تتضمن نقله من حيز إلى حيز وحينئذ فقوله ( وقد ثبت جواز الحركة ) إن أراد به الحركة المكانية كان ممنوعا وإن أراد غيرها كالحركة الوضعية لم يلزم من ذلك جواز انتقاله من هذا الحيز إلى غيره
وقد سبق الآمدي إلى هذا الاعتراض فإنه قال في الأعتراض على المقدمة الأولى : ( الأزل ليس هو عبارة عن زمان مخصوص ووقت مقدر حتى يقال بحصول الجسم في الحيز فيه بل الأزل لا معنى له غير كون الشيء لا أول له والأزل على هذا يكون صادقا على ذلك الشيء في كل وقت يفرض كون ذلك الشيء فيه فقول القائل : ( الجسم في الأزل موصوف بكذا ) أي في حالة كونه متصفا بالأزلية وما من وقت يفرض ذلك الجسم فيه إلا وهو موصوف بالأزلية وأي وقت قدر حصول ذلك الجسم فيه وهو في حيز معين لم يلزم أن يكون حصوله في ذلك الحيز المعين أزليا لأن نسبة حصوله في ذلك الحيز المعين كنسبة حصولة في ذلك الوقت المعين وما لزم من كون الجسم الازلي لا يخلو عن وقت معين أن يكون كونه في الوقت المعين أزليا فكذلك الحصول في الحيز المعين ) قال : ( وفيه دقة مع ظهوره )
قلت : ويوضح فساد هذه الحجة أن قوله : ( كل جسم يجب اختصاصه بحيز معين لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك ) يجاب عنه بأن يقال : أتريد به أنه يجب اختصاصه بحيز معين مطلقا أو يجب اختصاصه بحيز معين حين الإشارة إليه ؟ أما الأول فباطل فليس كل مشار إليه إشارة حسية يجب اختصاصه دائما بحيز معين فإنه ما من جسم إلا وهو يقبل الإشارة الحسية مع العلم بأنا نشاهد كثيرا من الأجسام تتحول عن أحيازها وأمكنتها
فإن قال : ( بل يجب أن يكون حين الإشارة إليه له حيز معين ) فهذا حق لكن الإشارة إليه ممكنة في كل وقت فالاختصاص بمعين يجب أن يكون في كل وقت أما كونه في كل الأوقات لا يكون إلا في ذلك المعين لا في غيره فلا والأزلي : هو الذي لم يزل فليس بعض الأوقات أخص به من بعض حتى يقال : يكون في ذلك الوقت المعين في حيز معين بل يجوز أن يكون في وقت في هذا الحيز وفي وقت آخر في حيز آخر وتمام ذلك ما تقدم ذكره من أن الأزل ليس شيئا معينا حتى يطلب له حيز معين بل هو عبارة عن عدم الأول
البرهان الرابع
ثم ذكر الرازي البرهان الرابع والخامس وليس متعلقين بهذا المكان ومضمون الرابع : أن ( كل ماسوى الواحد ممكن بذاته وكل ممكن بذاته فهو مفتقر إلى المؤثر والمؤثر لا يؤثر إلا في الحادث لا في الباقي سواء كان تأثيره فيه في حال حدوثها أو حال عدمه لأن التأثير في الباقي من باب تحصيل الحاصل )( والمقدمة الأولى من هذه الحجة مبنية على وتوحيد الفلاسفة وهو نفي التركيب وأن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره وهو في غاية الضعف كما بسط في غير موضع
والثانية مبنية على أن علة الافتقار هي الحدوث لا الإمكان )
تعليق ابن تيمية
قلت : إنه إن أريد بذلك الحدوث مثلا دليل على أن المحدث يحتاج إلى محدث أو أن الحدوث شرط في افتقار المفعول إلى الفاعل فهذا صحيح وإن أريد بذلك أن الحدوث هو الذي جعل المحدث مفتقرا إلى الفاعل فهذا باطل وكذلك الإمكان إذا أريد به أنه دليل على الافتقار إلى المؤثر أو أنه شرط في الافتقار إلى المؤثر فهذا صحيح وإن أريد به أنه جعل نفس الممكن مفتقرا فهذا باطل وعلى هذا فلا منافاة بين أن يكون كل من الإمكان والحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر وشرطا في الافتقار إلى المؤثروإنما النزاع في مسألتين : أحدهما : أن الواجب بغيره هل يصح كونه مفعولا لمن يقول : الفلك قديم معلول ممكن فهذا مما ينكره جماهير العقلاء ويقولون : لا يمكن مقارنته لفاعله أزلا وأبدا ويقولون : الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا معدوما تارة وموجودا أخرى فنفس المخلوقات مفتقرة إلى الخالق بذاتها واحتياجها إلى المؤثر أمر ذاتي لا يحتاج إلى علة فليس كل حكم ثبت للذوات يحتاج إلى علة إذ ذلك يفضي إلى تسلسل العلل وهو باطل باتفاق العلماء بل من الأحكام ما هو لازم للذوات لايمكن أن يكون مفارقا للذوات ولا يفتقر إلى علة وكون كل ما سوى الله فقيرا إليه محتاجا إليه دائما هو من هذا الباب فالفقر والاحتياج أمر لازم ذاتي لكل ما سوى الله كما أن الغنى والصمدية أمر لازم لذات الله
وهنا ينشأ النزاع في المسألة الثانية وهو أن المحدث المخلوق هل افتقاره إلى الخالق المحدث وقت الإحداث فقط أو هو دائما مفتقر إليه ؟ على قولين للنظار
وكثير من أهل الكلام المتلقى عن جهم وأبي الهذيل يقولون : إنه لا يفتقر إليه إلا في حال الإحداث لا في حال البقاء وهذا في مقابلة قول الفلاسفة الدهرية القائلين بأن افتقار الممكن إلى الواجب لا يستلزم حدوثها بل افتقاره إليه في حال بقائه أزلا وأبدا وكلا القولين باطل
وهو في أكثر كتبه ينصر خلاف ذلك ولكن نحن نقرر أن كل ما سوى الواجب فهو محدث وأن التأثير لا يكون إلا في حادث وأن الحدوث والإمكان متلازمان وهو قول جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة وإنما أثبت ممكنا ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا و الرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها - مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون أرسطو وسلفهم - وهو أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديما أزليا وقال : ( لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا
قلت : و ابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا فتناقضى في ذلك تناقضا في غير هذا الموضع
وقد أورد هو على هذه الحجة معارضة مركبة تستلزم فساد إحدى المقدمتين وهي المعارضة بكونه تعالى عالما بالعلم قادرا بالقدرة فإن علمه إن كان واجبا لذاته وذاته واجبة أيضا فقد وجد واجبان وبطلت المقدمة الأولى وإن كان ممكنا كان واجبا بغيره لوجوب ذاته ولزم كون الأثر والمؤثر دائمين وبطلت المقدمة الثانية ولم يجب عن هذه المعارضة بل قال : ( وأما الجواب عن كونه عالما بالعلم قادرا بالقدرة فصعب )
وقد اعترض الأرموي على ما ذكره في المقدمتين أما الأولى فإن الرازي قال : ( لو وجد واجبان وجوبا ذاتيا لتشاركا في الوجوب الذاتي وتباينا بالتعيين فيلزم تركبهما مما به المشاركة والمباينة وكل مركب مفتقر إلى غيره لافتقاره إلى جزئه وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته )
قال الأرموي : ( ولقائل أن يقول : قد يكون الوجوب والتعيين وصفين عرضيين للماهية البسيطة )
قلت : تقدم الكلام على هذا في التركيب وذكر ما استدلوا به على امتناع كونه عرضيا فإن الوصف العرضي يحتاج إلى سبب منفصل عن الذات فيكون وجوب الواجب مفتقرا إلى شيء غير الواجب وأيضا فيكون وجوب الواجب وصفا عرضيا وهو ظاهر الفساد وأيضا التفريق في الصفات اللازمة للحقيقة بين الذاتي والعرضي تحكم محض
ولكن لقائل أن يقول : قول القائل : تشاركا في الوجوب الذاتي أتعني به تشاركهما في مطلق الوجوب أو أن أحدهما شارك الآخر في الوجوب الذي يخصه ؟
فإن أراد الأول قيل له : وكذلك قد اشتركا في مطلق التعين فإن هذا واجب وهذا واجب وهذا معين وهذا معين والمعينات مشتركة في مسمى التعين كما أن الواجبات مشتركة في مسمى الوجوب والموجودات مشتركة في مسمى الوجود والماهيات مشتركة في مسمى الماهية والحقائق مشتركة في مسمى الحقيقة وكذلك سائر الأسماء العامة المطلقة الكلية وحينئذ فلم يتباينا في مطلق التعيين كما لم يتباينا في مطلق الوجوب
وإن قال : اشتركا في عين الوجوب
قيل : هذا ممتنع كما أن اشتراكهما في عين التعين ممتنع
وإن جاء لقائل أن يقول : هذا شارك هذا في نفس وجوبه الذي يخصه لجاز لآخر أن يقول : إن هذا شارك هذا في نفس تعينه الذي يخصه وإنما المستدل أخذ الوجوب مطلقا وأخذ التعين مقيدا وكان الواجب أن يسوي بينهما في الإطلاق والتعيين إذ هما متلازمان فإن وجوب هذا ملازم لعينه ووجوب هذا ملازم لعينه فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر
ولو عكس عاكس قوله لكان قوله مثل قوله بأن يقول : اشتركا في التعين الذاتي فإن لكل منهما تعينا ذاتيا وتباينا في الوجوب فإن لكل منهما وجوبا يخصه ومعلوم أن هذا فاسد فكذلك نظيره
وفي الجملة فالصفات المتلازمة لا يكون بعضها أخص من بعض فإذا قدر إنسانان فكل منهما له إنسانا تخصه وحيوانية تخصه وناطقية تخصه وهي متلازمة لا توجد إنسانيته دون ناطقيته ولا ناطقيته دون إنسانيته ولا توجد واحدة منهما دون عينه المعينة وإن وجد إنسانية أخرى وناطقية أخرى فتلك نظير إنسانيته وناطقيته ليست هي هي بعينها كما أن هذا الإنسان نظير هذا الإنسان ليس هو إياه بعينه إلا أن يراد بلفظ العين النوع كما يقال لمن عمل مثل ما يعمل غيره : هذا عمل فلان بعينه فالمقصود أنه ذلك النوع بعينه ليس المقصود أنه ذلك العمل المشخص الذي قام بذات ذلك الفاعل فإنه مخالف للحس فقد تبين أن الموجودين والواجبين ونحو ذلك لم تركب أحدهما من مشارك ومميز بل ليس فيه إلا وصف مختص به تميز به عن غيره وإن كانت صفاته بعضها يشابه فيها غيره وبعضها يخالف فيها غيره
فإذا قيل : لو قدر واجبان أو موجودان إن إنسانان لكان أحدهما يشابه الآخر في الوجوب أو الوجود أو الإنسانية لكان صحيحا ولكان يمكن ذلك أنه يشابهه في الحقيقة كما يمكن أن يخالفه
ثم هب أن كلا منهم فيه ما يشارك به غيره وما يتميز به عنه فقوله : ( إنه مركب مما به الاشتراك والامتياز ) إن عنى بذلك أنه موصوف بالأمرين فصحيح وإن عنى أن هناك أجزاء تركبت ذاته منها فهذا باطل كقول من يقول : إن الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية فإنه لا ريب أنه موصوف بهما وأما كون الإنسان المعين له أجزاء تركب منها فهذا باطل كما تقدم
ولو سلم أن مثل هذا يسمى تركيبا فقوله : ( كل مركب مفتقر إلى غيره ) يدخل فيه ما ركبه المركب كالأجسام المركبة من مفرداتها من الأغذية والأدوية والأشربة ونحو ذلك ويدخل فيه ما يقبل تفريق أجزائه كالإنسان والحيوان النبات ويدخل فيه ما يتميز بعض جوانبه عن بعض ويدخل فيه الموصوف بصفات لازمة له وهذا هو الذي أراده هنا
فيقال له : حينئذ يكون المراد أن كل ما كان له صفة لازمة له فلابد في ثبوته من الصفة اللازمة له وهذا حق وهب أنك سميت هذا تركيبا فليس ذلك ممتنعا في واجب الوجود بل هو الحق الذي لا يمكنه نقيضه
قولك : ( المركب مفتقر إلى غيره ) معناه أن الموصوف بصفة لازمة له لا يكون موجودا بدون صفته اللازمة له لكن سميته مركبا وسميت صفته اللازمة له جزءا وغيرا وسميت استلزامه إياها افتقارا فقولك بعد هذا ( كل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ) معناه : أن كل مستلزم لصفة لازمة له لا يكون موجودا بنفسه بل بشيء مباين له ومعلوم أن هذا باطل وذلك لأن المعلوم أن ما كانت ذاته تقبل الوجود والعدم فلا يكون موجودا بنفسه بلا لا بد له من واجب بنفسه يبدعه وهذا حق فهو مفتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجودا له يبدعه وهذا هو الغير الذي يفتقر إليه الممكن وكل ما افتقر إلى شيء مباين له لم يكن موجودا بنفسه قطعا أما إذا أريد بالغير الصفة اللازمة وأريد بالافتقار التلازم فمن أين يقال : إن كل ما استلزم صفة لازمة له لا يكون موجودا بنفسه بل يفتقر إلى مبدع مباين له ؟
وقد ذكرنا مثل هذا في غير موضع وبينا أن لفظ ( الجزء ) و ( الغير ) و ( الافتقار ) و ( التركيب ) ألفاظ مجملة موها بها على الناس فإذا فسر مرادهم بها ظهر فساده وليس هذا المقام مقام بسط هذا
ونحن هذا البرهان عندنا صحيح وهو أن كل ماسوى الله ممكن وكل ممكن فهو مفتقر إلى المؤثر لأن المؤثر لا يؤثر إلا في حال حدوثه لكن يقرر ذلك بمقدمات لم يذكرها الرازي هنا كما بسط في موصع آخر
وأما الجواب عن المعارضة بكون الرب عالما قادرا فجوابه : أن الواجب بذاته يراد به الذات الواجبة بفسها المبدعة لكل ما سواها وهذا واحد ويراد به : الموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم
وعلى هذا : فالذات واجبة والصفات واجبة ولا محذور في تعداد الواجب بهذا التفسير كما لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده وسواء كان ذاتا أوصفه لذات القديم بخلاف ما إذا أريد بالقديم الخالقة لكل شيء فهذا واحد لا إله إلا هو وقد يراد بالواجب الموجود بنفسه القائم بنفسه وعلى هذا : فالذات واجبة دون الصفات
وعلى هذا : فإذا قال القائل : الذات مؤثرة في الصفات والمؤثر والأثر ذاتان قيل له : لفظ التأثير مجمل أتعني بالتأثير هنا : كونه أبدع الصفات وفعلها أم تعني به كون ذاته مستلزما لها ؟ فالأول ممنوع في الصفات والثاني مسلم والتأثير في المبدعات هو بالمعنى الأول لا بالمعنى الثاني بل قد بينا في غير هذا الموضع : أنه يمنع أن يكون مع الله شيء من المبدعات قديم بقدمه
البرهان الخامس
قال الرازي في البرهان الخامس : ( لو كان الجسم قديما لكان قدمه : إما أن يكون عين كونه جسما وإما مغايرا لكونه جسما والقسمان باطلان فبطل القول بكون الجسم قديماإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم عين كونه جسما لأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه جسما علما بكونه قديما فكما أن العلم بكونه جسما ضروري لزم أن يكون العلم بكونه قديما ضروريا ولما بطل ذلك فسد هذا القسم
وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قدم الجسم زائدا على كونه جسما لأن ذلك الزائد : إن كان قديما لزم أن يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وإن كان حادثا فكل حادث فله أول وكل قديم فلا أول له فلو كان قدم القديم عبارة عن ذلك الحادث للزم أن يكون ذلك الشيء له أول وأن لا يكون له أول وهو محال )
ثم قال : ( فإن عارضوا بكونه حادثا قلنا : الحادث عبارة عن مجموع الوجود الحاصل في الحال والعدم السابق ولا يبعد حصول العلم بالوجود الحاصل مع الجهل بالعدم السابق بخلاف القديم فإنه لا معنى له إلا نفس وجوده فظهر الفرق )
ثم قال : وهذا وجه جدلي فيه مباحثات دقيقة )
قال : ( وليكن هذا آخر كلامنا في شرح دلائل حدوث الأجسام )
معارضة الأرموي
قلت : قال الأرموي : ( لقائل أن يقول : ضعف الأصل والجواب لايخفى )
تعليق ابن تيمية
قلت : قد بين في غير هذا الموضع فساد مثل هذه الحجة من وجوه وهي مبنية على أن القديم : هل هو قديم بقدم أم لا ؟ فمذهب ابن كلاب و الأشعري - في أحد قوليه - وطائفة من الصفاتية : أنه قديم بقدم ومذهب الأشعري - في القول الآخر - و القاضي أبي بكر و القاضي أبي يعلى و أبي علي بن أبي موسى و أبي المعالي الجويني وغيرهم : ليس كذلك وهم متنازعون في البقاء فقول الأشعري وطائفة معه : أنه باق ببقاء وهو قول الشريف و أبي علي بن أبي موسى وطائفة وقول القاضي أبي بكر وطائفة كالقاضي أبي يعلى نفى ذلكوحقيقة الأمر : أن النزاع في هذه المسألة اعتباري لفظي كما قد بسط في غير هذا الموضع وهو متعلق بمسائل الصفات : هل هي زائدة على الذات أم لا ؟ وحقيقة الأمر : أن الذات أن أريد بها الذات الموجودة بالخارج فتلك مستلزمة لصفاتها يمتنع وجودها بدون تلك الصفات وإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم فلا يمكن فرض الذات الموجودة في الخارج منفكة عن لوازمها حتى يقال : هي زائدة أو ليست زائدة لكن يقدر ذلك تقديرا في الذهن وهو القسم الثاني فإذا أريد بالذات ما يقدر في النفس مجردا عن الصفات فلا ريب أن الصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في النفس ومن قال من متكلمة أهل السنة : ( إن الصفات زائدة على الذات ) فتحقيق قوله أنها زائدة على ما أثبته المنازعون من الذات فإنهم أثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات ونحن نثبت صفاتها زائدة على أثبتوه هم لا أنا نجعل في الخارج ذاتا قائمة بنفسها ونجعل الصفات زائدة عليها فإن الحي الذي يمتنع أن لا يكون إلا حيا كيف تكون له ذات مجردة عن الحياة ؟ وكذلك ما لا يكون إلا عليما قديرا كيف تكون ذاته مجردة عن العلم والقدرة ؟
والذين فرقوا بين الصفات النفسية والمعنوية قالوا : القيام بالنفس والقدم - ونحو ذلك من الصفات النفسية - بخلاف العلم والقدرة فإنهم نظروا إلى ما لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديره فجعلوه من النفسية وما يمكن تقديرها بدونه فجعلوه معنويا ولا ريب أنه لا يعقل موجود قائم بنفسه ليس قائما بنفسه بخلاف ما يقدر أنه عالم فإنه يمكن ذاته بدون العلم
وهذا التقدير عاد إلى ماقدروه في أنفسهم وإلا ففي نفس الأمر جميع صفات الرب اللازمة له هي صفات نفسية ذاتية فهو عالم بنفسه وذاته وهو عالم بالعلم وهو قادر بنفسه وذاته وهو قادر بالقدرة فله علم لازم لنفسه وقدرة لازمة لنفسه وليس ذلك خارجا عن مسمى اسم نفسه
وعلى كل تقدير فالاستدلال على حدوث الأجسام بهذه الحجة في غاية الضعف كما اعترفوا هم به فإن ما ذكروه يوجب أن لا يكون في الوجود شيء قديم سواء قدر أنه جسم أو غير جسم فإنه يقال : لو كان الرب - رب العالمين - قديما لكان قدمه إما أن يكون عين كونه ربا وإما زائدا على ذلك والأمران باطلان فبطل كونه قديما
أما الأول : فلأنه لو كان كذلك لكان العلم بكونه ربا أو واجب الوجود أو نحو ذلك علما بكونه قديما وهذا باطل
وأما الثاني : فلأن ذلك الزائد إن كان قديما يلزم أن يكون قدمه زائدا عليه ولزم التسلسل وإن كان حادثا كان للقديم أول فما كان جوابا عن مواضع الإجماع كان جوابا في مورد النزاع وإن كان العلم بكونه رب العالمين يستلزم العلم بقدمه لكن ليس العلم بنفس الربوبية هو العلم بنفس القدم بل قد يقوم العلم الأول بالنفس مع ذهولها عن الثاني وقد يشك الشاك في قدمه مع العلم بأنه ربه ويخطر له أن للرب ربا حتى يتبين له فساد ذلك وقد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم ذلك في الحديث الصحيح في قوله : [ إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ فيقول : الله فيقول : فمن خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته ] وقد بسطت هذا في موضع آخر كما سيأتي إن شاء الله
والمقصود هنا : أن هذه البراهين الخمسة التي احتج بها على حدوث الأجسام قد بين أصحاب المعظمون له ضعفها بل هو نفسه أيضا بين ضعفها في كتب أخرى مثل المطالب العالية وهي آخر ما صنفه وجمع فيها غاية علومه و المباحث المشرقية وجعل منتهى نظره وبحثه تضعيفها
وقد بسط الكلام على هذا في مواضع وبين كلام السلف والأئمة في هذا الموضع كالإمام أحمد وغيره وكلام النظار الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وغيره وأن القائل إذا قال : عبدت الله ودعوت الله وقال : الله خالق كل شيء ونحو ذلك فاسمه تعالى يتناول الذات والصفات ليست الصفات خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك بل هي داخلة في مسمى اسمه ولهذا قال أحمد فيما صفنه في الرد على الجهمية نفاة الصفات : ( قالوا : إذا قلتم الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره قلتم بقول النصارى
فقال لا نقول : الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره ولكن الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد ) فبين أحمد أنا لا نعطف صفاته على مسمى اسمه العطف المشعر بالمغايرة بل ننطق بما يبين أن صفاته داخلة في مسمى اسمه
ولما ناظره الجهمية في محنته المشهورة فقال له عبد الرحمن بن إسحاق القاضي : ما تقول في القرآن : أهو الله أم غير الله ؟ يعني إن قلت ( هو الله ) فهذا باطل وإن قلت : ( غير الله ) فما كان غير الله فهو مخلوق
فأجابه أحمد بالمعارضة بالعلم فقال : ما تقول في علم الله : أهو الله أم غير الله ؟ فقال : أقول في كلامه ما أقوله في علمه وسائر صفاته وبين ذلك في رده على الجهمية : بأنا لا نطلق لفظ الغير نفيا ولا إثباتا إذ كان لفظا مجملا يراد بغير الشيء ما بيانه وصارت مفارقته له ويراد بغيره ما أمكن تصوره بدون تصوره ويراد به غير ذلك
وعلم الله وكلامه ليس غير الذات بالمعنى الأول وهو غيرها بالمعنى الثاني ولكن كونه ليس غير الله بالمعنى الأول فعلى إطلاقه وأما كونه غير الله بالمعنى الثاني ففيه تفصيل فإن أريد بتصوره معرفته المعرفة الواجبة الممكنة في حق العبد فلا يعرفه هذه المعرفة من لم يعرف أنه حي عليم قادر متكلم فلا يمكن تصوره ومعرفته بدون صفاته فلا تكون مغايرة لمسمى اسمه وإن أريد أصل التصور وهو الشعور به من بعض الوجوه فقد يشعر به من لا يخطر له حينئذ أنه حي ولا عليم ولا متكلم فتكون صفاته مغايرة له بالاعتبار الثاني
وأجاب أحمد أيضا بأن الله لم يسم كلامه غيرا ولا قال : إنه ليس بغير يعني والقائل إذا قال : ماكان غير الله أو سوى الله فهو مخلوق فإن احتج على ذلك بالسمع فلا بد أن يكون مندرجا هذا اللفظ في كلام الشارع وليس كذلك وإن احتج بالعقل فالعقل إنما يدل على خلق الأمور المباينة له وأما صفاته القائمة بذاته فليست مخلوقة والذي يجعلون كلامه مخلوقا يقولون : هو بائن عنه والعقل يعلم أن كلام المتكلم ليس ببائن عنه
وبهذا التفصيل يظهر أيضا الخلل فيما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية والمعنوية بأن الذاتية لا يمكن تقدير الذات في الذهن بدون تقديرها بخلاف المعنوية فإنه يقال لهم : أم تعنون بتقدير الذات في الذهن أو تصور الذات أو نحو ذلك من الألفاظ ؟ أتعنون به اصل الشعور والتصور والمعرفة ولو من بعض الوجوه أم تريدون به التصور والمعرفة والشعور الواجب أو الممكن أو التام ؟ فإن عنيتم الأول فما من صفة تذكر إلا يمكن أن يشعر الإنسان بالذات مع عدم شعوره بها وقد يذكر العبد ربه ولا يخطر له حينئذ كونه قديما أزليا ولا باقيا أبديا ولا واجب الوجود بنفسه ولا قائما بنفسه ولا غير ذلك وكذلك قد يخطر له ما يشاهده من الأجسام ولا يخطر له كونه متحيزا أو غير متحيز
وإن عنيتم الثاني فمعلوم أن الإنسان لا يكون عارفا بالله المعرفة الواجبة في الشرع ولا المعرفة التي تمكن بني آدم ولا المعرفة التامة حتى يعلم أنه حي عليم قدير وممتنع لمن يكون عارفا بأن الله متصف بذلك إذا خطر بباله ذاته وهذه الصفات : أن يمكن تقدير ذاته موجودة في الخارج بدون هذه الصفات كما يمتنع أن يقدر ذاته موجودة في الخارج بدون أن تكون قديمة واجبة الوجود قائمة بنفسها فجميع صفاته تعالى اللازمة لذاته يمتنع مع تصور الصفة والموصوف والمعرفة بلزوم الصفة للموصوف يمتنع أن يقدر إمكان وجود الذات بدون الصفات اللازمة لها مع العلم باللزوم وإن قدر عدم العلم باللزوم أو عدم خطور الصفات اللازمة بالبال فيمكن خطور الذات بالبال بدون شيء من هذه الصفات وإذا علم لزوم بعض الصفات دون بعض فما علم لزومه لايمكن تقدير وجود الذات دونه وما لا يعلم لزومه أمكن الذهن أن يقدر وجوده دون وجود تلك الصفة التي لم يعلم لزومها لكن هذا الإمكان معناه عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان في الخارج إذ كل ما لم يعلم الإنسان عدمه فهو ممكن عنده إمكانا ذهنيا بمعنى عدم علمه بامتناعه لا إمكانا خارجيا بمعنى أنه يعلم إمكانه في الخارج
وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالامتناع وكثير من الناس يشتبه عليه هذا بهذا فإذا تصور ما لا يعلم امتناعه أو سئل عنه قال : هذا ممكن وهذا غير ممتنع وهذا لو فرض وجوده لم يكن من فرضه محال
وإذا قيل له : قولك ( إنه لو فرض وجوده لم يلزم منه محال ) قضية كلية وسلب عام فمن أين علمت أنه لا يلزم من فرض وجوده محال والنافي عليه الدليل كما أن المثبت عليه الدليل ؟ وهل علمت ذلك بالضرورة المشتركة بين العقلاء أم بنظر مشترك أم بضرورة اختصصت بها أم بنظر اختصصت به ؟ فإن كان بالضرورة المشتركة وجب أن يشركك نظراؤك من العقلاء في ذلك وليس الأمر كذلك عندهم وإن كان بنظر مشترك فإين الدليل الذي تشترك فيه أنت وهم ؟ وإن كان بضرورة مختصة أو نظر مختص فهذا أيضا باطل لوجهين أحدهما : أنك تدعي أن هذا مما يشترك فيه العقلاء ويلزمهم موافقتك فيه وتدعي أنهم إذا ناظروك كانوا منقطعين معك بهذه الحجة وذلك يمنع دعواك الإختصاص بعلم ذلك والثاني : أن اختصاصك بعلم ذلك ضرورة أو نظرا إنما يكون لاختصاصك بما يوجب تخصيصك بذلك كمن خص بنبوة أو تجربة أو نحو ذلك مما ينفرد به وأنت لست كذلك فيما تدعي إمكانه ولا تدعي اختصاصك بالعلم بإمكانه وإن ادعيت ذلك لم يلزم غيرك موافقتك في ذلك إن لم تقم عليه دليلا يوجب موافقتك سواء كان سمعيا أو عقليا وأنت تدعي أن هذا من العلوم المشتركة العقلية وهذه الأمور لبسطها موضع آخر
والمقصود هنا التنبيه على هذا الأصل الذي نشأ منه التنازع أو الاشتباه في مسأئل الصفات من هذا الوجه وتفريق هؤلاء المتلكمين في الصفات اللازمة للموصوف بين ما سموها نفسية وذاتية وما سموها معنوية يشبه تفريق المنطقيين في الصفات اللازمة بين ما سموه ذاتيا مقوما داخلا في الحقيقة وما سموه عرضيا خارجا عن الذات مع كونه لازما لها وتفريقهم في ذلك بين لازم الماهية ولازم وجود الماهية كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وبين أن هذه الفروق إنما تعود عند الحقيقة إلى الفرق بين ما يتصور في الأذهان وهو الذي قد يسمى ماهية وبين ما يوجد في الأعيان وهو الذي قد يسمى وجودها وأن ما يتصور في النفس من المعاني ويعبر عنه بالألفاظ : له لفظ دل عليه بالمطابقة هو الدال على تلك الماهية وله جزء من المعنى هو جزء تلك الماهية واللفظ المذكور دال عليه بالتضمن وله معنى يلزمه خارج عنه فهو اللازم لتلك الماهية الخارج عنها واللفظ يدل عليه باللالتزام وتلك الماهية التي في الذهن هي بحسب ما يتصوره الذهن من الصفات الموصوف تكثر تارة وتقل تارة وتكون تارة مجملة وتارة مفصلة وأما الصفات اللازمة للموصوف في الخارج فكلها لازمة له لا تقوم ذاته مع عدم شيء منها وليس منها شيء يسبق الوصوف في الوجود العيني كما قد يزعمونه من أن الذاتي يسبق الموصوف في الذهن والخارج وتلك الصفات هي أجزاء الماهية المتصورة في الذهن كما أن لفظ كل صفة جزء من تلك الألفاظ إذا قلت : جسم حساس نام مغتذ متحرك بالإرادة ناطق وأما الموصوف الموجود في الخارج كالإنسان فصفاته قائمة به حالة فيه ليست أجزاء الحقيقة الموجودة في الخارج سابقة عليها سبق الجزء على الكل كما يتوهمه من يتوهمه من هؤلاء الغالطين كما قد بسط في موضعه
وقول هؤلاء المتكلمين في الصفات اللازمة ( إنها زائدة على حقيقة الموصوف ( يشبه قول أولئك ( إن الصفات اللازمة العرضية خارجة عن حقيقة الموصوف ) وكلا الأمرين منه تلبيس واشتباه حاد بسببه كثير من النظار الأذكياء وكثر بينهم النزاع والجدال والقيل والقال وبسط هذا له موضع آخر
وإنما المقصود هنا التنبيه على ذلك والله أعلم وأحكم وإن كان قد بسط الكلام على ضعفها في غير هذا الموضع مع أن هذا الذي ذكره مستوعب لما ذكره غيره من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم في ذلك
طريقة الآمدي في الاستدلال على حدوث العالم
وكان المقصود ما ذكروه في تناهي الحوادث ولهذا لم يعتمد الآمدي في مسألة حدوث العالم على شيء من هذه الطرق بل بين ضعفها واحتج بما هو مثلها أو دونها في الضعف وهو أن الأجسام لا تنفك عن الأعراض والأعراض لا تبقى زمانين فنكون حادثة وما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث وهذا الدليل مبني على مقدمتين : على أن كل عرض في زمان فهو لايبقى زمانين وجمهور العقلاء يقولون : إن هذا مخالف للحس والضرورة وعلى امتناع حوادث لا أول لها وقد عرف الكلام في ذلك والوجوه التي ضعف بها الآمدي ما احتج به من قبله على حدوث الأجسام يوافق كثير منها ما ذكره الأرموي وهو متقدم على الأرمويفإما أن يكون الأرموي رأى كلامه وأنه صحيح فوافقه وإما أن يكون وافق الخاطر الخاطر كما يوافق الحافر الحافر أو أن يكون الآرموي و الآمدي أخذا ذلك أو بعضه من كلام الرازي أو غيره وهذا الاحتمال أرجح فإن هذين وأمثالهما وقفوا على كتبه التي فيها هذه الحجج مع أن تضعيفها مما سبق هؤلاء إليه كثير من النظار ومن تكلم من النظار ينظر ما تكلم به من قبله فإما أن يكون أخذه عنه أو تشابهت قلوبهم
وبكل حال فهما - مع الرازي ونحوه - من أفضل بني جنسهم من المتأخرين فاتفاقهما دليل على قوة هذه المعارضات لا سيما إذا كان الناظر فيها ممن له بصيرة من نفسه يعرف بها الحق من الباطل في ذلك بل يكون تعظيمه لهذه البراهين لأن كثيرا من المتكلمين من هؤلاء وغيرهم اعتمد عليها في حدوث الأجسام فإذا رأى هؤلاء وغيرهم من النظار قدح فيها وبين فسادها علم أن نفس النظار مختلفون في هذه المسالك وأن هؤلاء الذين يحتجون بها هم بعينهم يقدحون فيها وعلى القدح فيها استقر أمرهم وكذلك غيرهم قدح فيها كأبي حامد الغزالي وغيره وليس هذا موضع استقصاء ذكر من قدح في ذلك وإنما المقصود القدح في هذه المسالك التي يسمونها براهين عقلية ويعارض بها نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف ثم إن نفس حذاقهم قدحوا فيها
مسلك الآمدي على إثبات حدوث الأجسام
فأما المسلك الأول الذي ذكره الرازي فقال الآمدي : ( المسلك السادس لبعض المتأخرين من أصحابنا في الدلالة على إثبات حدوث الأجسام وهو أنه لو كانت الأجسام أزلية لكانت في الأزل : إما أن تكون متحركة أو ساكنة ) وساق المسلك إلى آخره ثم قال : ( وفيه وفي تقريره نظر وذلك أن القائل يقول : إما أن تكون الحركة عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر والسكون عبارة عن الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز أو لا تكون كذلك فإن كان الأول فقد بطل الحصر بالجسم في أول زمان حدوثه فإنه ليس متحركا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان في حيز آخر وليس ساكنا لعدم حصوله في الحيز بعد أن كان فيه وإن كان الثاني فقد بطل ما ذكره في تقرير كون السكون أمرا وجوديا ولا محيص عنهفإن قيل : الكلام إنما هو في الجسم في الزمن الثاني والجسم في الزمن الثاني ليس يخلو عن الحركة والسكون بالتقسير المذكور فهو ظاهر الإحالة فإنه إذا كان الكلام في الجسم إنما هو في الزمن الثاني من وجود الجسم فالزمن الثاني ليس هو حالة الأزلية وعند ذلك لا يلزم أن يكون الجسم أزلا لا يخلو عن الحركة والسكون )
قال : ( وإن سلمنا الحصر فلم قلتم بامتناع كون الحركة أزلية ؟ وما ذكروه من الوجه الأول في الدلالة فإنما يلزم أن لو قيل بأن الحركة الواحدة بالشخص أزلية وليس كذلك بل المعنى يكون الحركة أزلية أن أعداد أشخاصها المتعاقبة لا أول لها وعند ذلك فلا منافاة بين كون كل واحدة من آحاد الحركات المشخصة حادثة ومسبوقة بالغير وبين كون جملة آحادها أزلية بمعنى أنها متعاقبة إلى غير النهاية )
قال : ( وما ذكروه في الوجه الثاني باطل أيضا فإن كل واحدة من الحركات الدورية وإن كانت مسبوقة بعدم لا بداية له فمعنى اجتماع الأعدام السابقة على كل واحدة من الحركات في الأزل : أنه لا أول لتلك الأعدام ولا بداية ومع ذلك فالعدم السابق على كل حركة وإن كان لا بداية له فيقارنه وجود حركات قبل الحركة المفروضة لا نهاية لها على جهة التعاقب ) أي : يعاقبه وجود حركات لا نهاية لها قبل الحركة المفروضة ( وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وعلى هذا فيكون الكلام في العدم السابق على حركة حركة وعلى هذا فحصول شيء من الموجودات الأزلية مع هذه الأعدام أزلا على هذا النوع لا يكون ممتنعا إذ ليس في مقارنة للمسبوق على ما عرف )
قال : ( وفيه دقة فليتأمل )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا هو الاعتراض الذي ذكره الأرموي وقد ذكره غيرهما والظاهر أن الأرموي تلقى هذا عن الآمدي وهم يقولون : اجتماع الأعدام لا معنى له سوى أنها مشتركة في عدم البداية والأولية وحينئذ فعدم كل حركة يمكن أن يقارنه وجود أخرى وليس فيه مقارنة السابق للمسبوق وهذا الذي قالوه صحيح لكن قد يقال : هذا الاعتراض إنما يصح لو كان احتج بأن في ذلك مقارنة السابق للمسبوق فقط وهو لم يحتج إلا بأن العدمات تجتمع في الأزل وليس معها شيء من الموجودات إذ كان معها موجود لكان هذا الموجود مقارنا لتلك العدمات المجتمعة منها عدمه فاقترن السابق والمسبوق فعمدته اجتماعها في الأزلوقد قالوا له : إن عنيت باجتماعها تحققها بأسرها معا حينا فهو ممنوع لأنه من من حين يفرض إلا وينتهي واحد منها وهو يقول : أنا لم أعن باجتماعهما في حين حادث ليلزمني انتهاء واحد منها وإنما قلت : هي مجتمعة في الأزل
وفصل الخطاب أن يقال : العدم ليس بشيء وليس لعدم هذه الحركة حقيقة ثابتة مغايرة لعدم الأخرى حتى يقال : إن أعدامها اجتمعت في الأزل أو لم تجتمع بل معنى حدوث كل منها أنهاكانت بعد أن لم تكن وكون الحوادث كلها مشتركة في أنها لم تكن لا يوجب أن يكون عدم كونها حقائق متغايرة ثابتة في الأزل
يوضح ذلك أن يقال : أتعني بكونها مسبوقية بالعدم أن جنسها مسبوق بالعدم أو كل واحد منها مسبوق بالعدم ؟ أما الأول فهو محل النزاع وأما الثاني فإذا قدر أن كل واحد كان بعد أن لم يكن - والجنس لم يزل كائنا - لم يجز أن يقال : الجنس كائن بعد أن لم يكن ولا يلزم من كون كل من أفراده مسبوقا بعدم أن يكون الجنس مسبوقا بالعدم إلا إذا ثبت حدوث الجنس وهو محل النزاع وعدم الحوادث هو نوع واحد ينقضي بحسب الحدوث فكلما حدث حادث انقضى من ذلك العدم ذلك الحادث ولم ينقض عدم غيره فالأزلي حينئذ عدم أعيان الحوادث كما أن الأزلي عند من يقول بأنه لا أول لها هو جنس الحوادث فجنس وجودها أزلي وعدم كل من أعيانها أزلي ولا منافاة بين هذا وهذا إلا أن يثبت وجوب البداية وهو محل النزاع
إيراد أحد المتكلمين الدليل على وجه آخر
وبهذا يظهر الجواب عما ذكره بعضهم في تقرير هذا الوجه فإن بعضهم لما رأى ما أوردوه على ما ذكره الرازي حرر الدليل على وجه آخر فقال : القول بكون كل من الحركات الجزئية مسبوقا بأخرى لا إلى أول يستلزم المحال فيكون محالابيان الأول : أن كل واحد منه من حيث إنه حادث يقتضي أن يكون مسبوقا بعدم أزلي لأن كل حادث مسبوق بعدم أزلي فهذا يقتضي أن تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل ومن حيث إنه ما من جنس يفرض إلا وجب أن يكون فرد منها موجودا يقتضي ألا تكون تلك العدمات مجتمعة في الأزل وإلا لزم أن يكون السابق مقارنا للمسبوق ولا شك أن اجتماعهما في الأزل وعدم اجتماعهما فيه متناقضان فالمستلزم له محال
فيقال لمن احتج بهذا الوجه : العدم الأزلي السابق على كل من الحوادث إن جعلته شيئا ثابتا في الأزل متميزا عن عدم الحادث الآخر فهذا ممنوع فإن العدم الأزلي لا امتياز فيه أصلا ولا يعقل حتى يقال : إن هناك أعداما ولكن إذا حدث حادث علم أنه انقضى عدمه الداخل في ذلك النوع الشامل لها وليس شمول جنس الموجودات لها كشمول جنس العدم للمعدومات فإن الموجودات لها امتياز في الخارج فشخص هذا الموجود متميز في الخارج عن شخص الآخر وأما العدم فليس بشيء أصلا في الخارج ولا امتياز فيه بوجه من الوجوه
ولكن هذا الدليل قد بني على قول من يقول : المعدوم شيء ولا يبعد أن يكون الرازي أخذ هذا الوجه من المعتزلة القائلين بهذا فإنهم يثبتون المعدوم شيئا فيكون هذا الحادث في حال عدمه شيئا وهذا الحادث في حال عدمه شيئا وحينئذ فللحوادث أعدام متميزة ثابتة في الأزل
وهؤلاء القائلون بهذا يقولون ذلك في كل معدوم ممكن سواء حدث أو لم يحدث فإذا قال القائل : ( للحوادث أعدام أزلية ثابتة في الأزل متميزة ) لم يتوجه إلا على قول هؤلاء وهذا القول قد عرف فساده وبتقدير تسليمه فيجاب عنه بما ذكره هؤلاء وهو أن اجتماعه في الأزل بمعنى غير انتفاء البداية ممتنع وعدم البداية ليس أمرا موجودا حتى يعقل فيه اجتماع
وعلى هذا فيقال : لا نسلم أن الأزل شيء مستقر أو شيء موجود وليس للأزل حد محدود حتى يعقل فيه اجتماع بل الأزل عبارة عن عدم الابتداء وما لا ابتداء له فهو أزلي وما لا انتهاء له فهو أبدي وما من حين يقدر موجودا إلا وليس هو الأزل ففي كل حين بعضهما موجود وبعضها معدوم فوجود البعض مقارن لقدم البعض دائما وحينئذ فاجتماعها في الأزل معناه اشتراكهما في أن كل واحد ليس له أول وعدم اجتماعها فيه معناه أنه لم يزل في كل حين واحد منها موجودا وعدمه زائلا ولا تناقض بين اشتراكها في عدم الابتداء ووجود أشخاصها دائم إلا إذا قيل : يمتنع جنس الحوادث الدائمة
وقد اعترض المستدل بهذا على ما ذكره الآمدي و الأرموي في الوجه الأول
قال : فإن قلت : الأزلي الحركة الكلية بمعنى أن كل فرد منها مسبوق بالآخر لا إلى أول لا أفرادها الموجودة التي تقتضي المسبوقية بالغير
ثم قال : قلت : فحينئذ ما هو المحكوم عليه بالأزلي غير موجود في الخارح لامتناع وجود الحركة الكلية في الخارج وما هو موجود منها في الخارج فهو ليس بأزلي
ولقائل أن يقول : هذا غلط نشأ من الإجمال الذي لفظ الكلي وذلك أنه إنما يمتنع وجود الكلي في الخارج مطلقا إذا كان مجردا عن أفراده كوجود إنسان مطلق وحيوان مطلق وحركة مطلقة لا تختص بمتحرك ولا بجهة ولون مطلق لا يكون أبيض ولا أسود ولا غير ذلك من الألوان المعينة فإذا قدر حركة مطلقة لا تختص بمتحرك معين كا ن وجودها في الخارج ممتنعا وأما الحركات المتعاقبة فوجود الكلي فيها هو وجود تلك الأفراد كما إذا وجد عدة أناسى فوجود الإنسان الكلي هو وجود أشخاصه ولا يحتاج أن يثبت للكلي في الخارج وجودا غير وجود أشخاصه بل نفس وجود أشخاصه هو وجوده
ومعلوم إنه إذا أريد بوجود الكلي في الخارج وجود أشخاصه لا ينازع فيه أحد من العقلاء وإن كانوا قد يتنازعون في أن الكلي المطلق لا بشرط وهو الطبيعي : هل هو موجود في الخارج أم لا ؟ وحيئنذ فمرادهم بوجود الحركة الكلية في الخارج هو وجود أفرادها المتعاقبة شيئا بعد شيء فكل فرد مسبوق بالغير وليس هذا الجنس المتعاقب الذي يوجد بعضهم شيئا فشيئا بمسبوق بالغير
وإن شئت قلت : لا نسلم أن الكلي لا يوجد في الخارج ولكن نسلم أنه لا يوجد في الخارج كليا وهذا هو الكلي الطبيعي وهو المطلق لا بشرط كمسمى الإنسان لا بشرط فإنه يوجد في الخارج لكن معينا مشخصا وتوجد أفراده إما مجتمعة وإما متعاقبة كتعاقب الحوادث المستقبلة فوجود الحركات المعينة كوجود سائر الأشياء المعينة ووجود مسمى الحركة كوجود سائر المسميات الكلية والمحكوم عليه بالأزلية هو النوع الذي لا يوجد إلا شيئا فشيئا لا يوجد مجتمعا
فإن قال القائل ( مسمى الحركة ليس بموجود في الخارج على وجه الاجتماع كما يوجد من أفراد الإنسان ) فقد صدق وإن قال ( إنه لا يوجد شيئا فشيئا ) فهذا ممنوع وم قال ذلك لزمه أن لا يوجد في الخارج حركة أصلا لا متناهية ولا غير متناهية وهذا مخالف للحس والعقل وقد تفطن ابن سينا لهذا الموضع وتكلم في وجود الحركة بكلام له وقد نقله عنه الرازي وغيره وقد تكلمنا عليه وبينا فساده فيما سيأتي إن شاء الله
قال الآمدي : ( وباقي الوجوه في الدلالة ما ذكرناه في امتناع حوادث غير متناهية في إثبات واجب الوجود وقد ذكرت فلا حاجة إلى إعادتها )
وهو قد ذكر قبل ذلك في امتناع ما لا يتناهى أربعة طرق فزيفها واختار طريقا خامسا الأول : التطبيق وهو أن يقدر جملة ( فلو كا ما قبلها لا نهاية له فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة ولتكن الزيادة عشرة مثلا فالجملة الأولى : إما أن تكون مساوية لنفسها مع فرض الزيادة عليها أو أزيد أو أنقص والقول المساواة والزيادة محال فإن الشيء لا يكون مع غيره كهو لا مع غيره ولا أزيد وإن كانت الجملة الأولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية فمن المعلوم أن التفاوت بينهما إنما هو بأمر متناه وعند ذلك فالزيادة لا بد أن يكون لها نسبة إلى الباقي بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهي على المتناهي
ومحال أن يحصل بين ما ليس بمتناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين
وأيضا فإنه إذا كانت إحدى الجملتين أزيد من الأخرى بأمر متناه فليطبق بين الطرفين الآخرين بأن تأخذ من الطرف الأخير من إحدى الجملتين عدوا مفروضا ومن الأخرى مثله وهلم جرا فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فيلزم منه مساواة الانقص للأزيد في كلا طرفيه : وهو محال وإن قصرت الجملة الناقصة في الطرف الذي لانهاية له فقد تناهت والزائدة إنما زادت على الناقصة بأمر متناه وكل ما زاد على المتناهي بأمر متناه فهو متناه )
قال : ( وهذا لا يستقيم لا على قواعد الفلاسفة وعلى قواعد المتكلمين )
أما الفلاسفة فإنهم قضوا بأن كل ما له ترتيب وضعي كالأبعاد والامتدادات أو الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معا كالعلل والمعلولات فالقول بعدم النهاية فيه مستحيل وما سوى وذلك فالقول بعدم النهاية فيه غير مستحيل وسواء كانت آحاده موجودة معا كالنفوس بعد مفارقة الأبدان أو هي على التعاقب والتجدد كالأزمنة والحركات الدورية فإن ما ذكروه - وإن استمر لهم فيما قضوا فيه بالنهاية - فهو لازم لهم فيما قضوا فيه بعدم النهاية وعند ذلك فلا بد من بطلان أحد الأمرين : إما الدليل إن كان اعتقادهم عدم النهاية حقا وإما اعتقاد عدم النهاية إن كان الدليل حقا لاستحالة الجمع )
قال : ( وليس لما يذكره الفيلسوف من جهة الفرق بين العلل والمعلولات والأزمنة والحركات قدح في الجمع وهو قوله : إن ما لا ترتيب له وضعا ولا آحاده موجودة معا - وإن كان ترتيبه طبيعيا - فلا يمكن فرض جواز قبوله الانطباق وفرض الزيادة والنقصان فيه بخلاف مقابله لأن المحصل يعلم أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهي ذوات الأضلاع وفيما له الترتيب الطبيعي وآحاده موجودة معا ليس إلا من جهة إفضائه إلى وقوع الزيادة والنقصان بين ما ليس بمتناهيين وذلك إنما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض أو وحدة ما من العدد المفروض وعند ذلك فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات والنفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها مستعملة في صورة الإلزام مع اتحاد صورة القياسية من غير فرق
وأيضا فليس كل جملتين تفاوتتا بأمر متناه تكونان متناهيتين فإن عقود الحساب مثلا لا نهاية لأعدادها وإن كانت الأوائل أكثر من الثواني بأمر متناه وهذه الأمور - وإن كانت تقديرية ذهنية - فلا خفاء أن وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في الأمور الموجودة بالفعل فلا تتوهمن الفرق واقعا من مجرد هذا الاختلاف
والقول بأن ما زادت به إحدى الجملتين على الأخرى لابد وأن تكون له نسبة إلى الثاني غير مسلم ولا يلزم من قبول المتناهي لنسبة المتناهي إليه قبول غير المتناهى لنسبة المتناهى إليه )
حول إبطال القول بعدم النهاية
قال : ( وأما المتكلم فله في إبطال القول بعدم النهاية طرق الأول : ما أسلفناه من الطريقة المذكورة ويلزم عليه ما ذكرناه ما عدا التناقض اللازم للفيلسوف من ضرورة اعتقاد عدم النهاية فيما ذكرناه من الصور وعدم اعتقاد المتكلم لذلك غير أن المناقضة لازمة للمتكلم من جهة اعتقاده عدم النهاية في معلومات الله تعالى ومقدوراته مع وجود ما ذكرناه من الدليل الدال على وجوب النهاية فيها )قال : ( وما يقال : من أن المعني بكون المعلومات والمقدورات غير متناهية صلاحية العلم لتعلقه بما يصح أن يعلم وصلاحية القدرة لتعلقها بكل ما يصح أن يوجد وما يصح أن يعلم ويوجد غير متناه لكنه من قبيل التقديرات الوهمية والتجويزات الإمكانية وذلك مما لا يمتنع كونه غير متناه بخلاف الأمور الوجودية والحقائق العينية فلا أثر له في القدح أيضا فإن هذه الأمور - وإن لم تكن من موجودات الأعيان غير أنها متحققة في الأذهان ولا يخفى أن نسبة ما فرض استعماله فيما له وجود ذهني على نحو استعماله فيما له وجود عيني )
تعليق ابن تيمية
قلت : التفريق بين الشيئين يحتاج إلى ثبوت الوصف الفارق وثبوت تأثيره و الآمدي سلم لهم الوصف ونازعهم في كونه مؤثرا والتحقيق أن ما ذكروه من الوصف متوحه في القدرة فإن تعلقها بالمعدوم من باب التجويز بخلاف العلم فإن فساد تعلقه بالمعدوم ليس من باب التجويز فإن المعدوم هنا معلوم للعالم ليس المراد بذلك أن ثم صفة تصلح أن يعلم بها المعدوم إذا وجد بل هو معلوم قبل وجوده بخلاف القدرة فإن تعلقها بالمعدوم معناه أنها صفة صلاحة لتعلق المعدوم إذا وجدقلت : وأيضا فإن قول القائل : المعني بكون المعلومات والمقدروات غير متناهية هو صلاحية العلم والقدرة للتعلق وهو وإن سلم في القدرة فلا يسلم في العلم فإن الكلام ليس هو في إمكان العلم بها بل في العلم الذي يقال إنه علم موجود أزلي متعلق بما لا نهاية له وهذا أمر موجود
وعن هذه الشبهة صار طائفة من النظار إلى استرسال العلم على آحاد نوع العرض كما قاله أبو المعالي وحكي ذلك عن أبي الحسين البصري و داود الجواربي
قال أبو المعالي : ( الأجسام جنس واحد والأعراض أجناسها محصورة وأفراد الجنس غير محصورة ) قال : ( فلا يجوز وجود أجناس لا تتناهى لأنه يجب حينئذ وجود ما لا يتناهى في العلم والدليل دال على نفي النهاية في هذا وهذا ) قال : ( وأما آحاد الأعراض فإن العلم يسترسل عليها استرسالا وأما الجواب بصلاحية التعلق فهو جواب الشهرستاني ونحوه )
الثاني
قال : ( الطريق الثاني - يعني في بيان امتناع ما لا نهاية له - قوله : لو وجد أعداد لا نهاية لها لم تخل : إما أن تكون شفعا أو وترا أو شفعا ووترا معا أو لا شفعا ولا وترا فإن كانت شفعا فهي تصير وترا بزيادة واحد وإن كانت وترا فهي تصير شفعا بزيادة واحد وإعواز الواحد لما لا يتناهى محال وإن كانت شفعا ووترا فهو محال لأن الشفع ما يقبل الانقسام بمتساويين والوتر غير قابل لذلك والعدد الواحد لا يكون قابلا وغير قابل له معا وإن لم يكن شفعا ولاوترا فيلزم منه وجود واسطة بين النفي والإثبات وهو محال وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدد لا نهاية له فالقول به محال )قال : ( وهو محال من النمط الأول في الفساد لوجهين : الأول : قد نسلم استحالة الشفعية أو الوترية فيما لا نهاية له والقول بأن ما لا يتناهى لا يعوزه الواحد الذي به يصير شفعا إن كان وترا أو وترا إن كان شفعا فدعوى مجردة ومحض استبعاد لا دليل عليه
الوجه الثاني : أنه يلزم عليه عقود الحساب ومعلومات الله تعالى ومقدوراته فإنها غير متناهية إمكانا مع إمكان إجراء الدليل المذكور فيها )
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : أما الوجه الأول فضعيف فإن كون ما لا يتناهى معوزا للواحد كالمعلوم فساده بالضرورة بل يمكن أن يقال : ما لا يتناهى لا يمكن أن يكون لا شفعا ولاوترا لأن الشفع والوتر نوعا جنس العدد المحصور الذي له طرفان : مبدأ ومنتهى فأما إذا قدر ما لا مبدأ ولا منتهى له فليس عددا محصورا فلا يكون شفعا ولا وترا كما يقولوه المسلمون وغيرهم من أهل الملل فيما يحدثه الله تعالى في المستقبل من نعيم الجنة : إنه لا شفع ولا وتروهذا أيضا قول الفلاسفة الطبيعية والإلهية : إن ما لا نهاية له لا يكون شفعا ولا وترا وذلك أن ما لا نهاية له ليس طرفان والشفع : ما يقبل الانقسام بقسمين متساويين وهذا إنما يعقل فيما له طرفان منتهيان وإذا لم يمكن أن يكون شفعا لم يمكن أن يكون وترا
وأما عقود الحساب فالمقدر منها في الذهن محصور متناه وما لا يتناهى لا تقدره الأذهان بل كل مايضعفه الذهن من عقود الحساب فهو متناه والمراتب في نفسها متناهية ولكن إحدى المرتبتين لو وجدت أفرادها في الخارج لكانت أكثر من الأولى وليس ذلك تفاوتا في أمور موجودة ولا في الأذهان ولا في الأعيان
الثالث
قال أبو الحسن الآمدي : ( الطريق الثالث : أنه لو وجد أعداد لا نهاية لها فكل واحد منها محصور بالوجود فالجملة محصورة بالوجود وما لا يتناهى لا ينحصر بحاصر )قال : ( وهو أيضا فاسد لثلاثة أوجه :
الأول : لا نسلم أن الوجود زائد على الموجود حتى يقال : يكون الوجود حاصرا له بل الوجود هو ذات الموجود وعينه على ما يأتي
الثاني : وإن كان زائدا على كل واحد من آحاد الجملة فلا نسلم كونه حاصرا بل عارض مقارن لكل واحد من الآحاد والمعارض المقارن للشيء لايكون حاصرا له
الثالث : سلمنا أن الوجود حاصر لكل واحد من آحاد الجملة ولكن لا نسلم أن الحكم على الآحاد يكون حكما على الجملة ولهذا يصدق أن يقال لكل واحد من آحاد الجملة : إنه جزء الجملة ولا يصدق على الجملة أنها جزء الجملة )
تعليق ابن تيمية
ولقائل أن يقول : في إفساد هذا الوجه أيضا : قول القائل ( إنه محصور في الوجود ) أيريد به أن هناك سورا موجودا حصر ما يتناهى أو ما لا يتناهى بين طرفيه أم يريد به أنه موصوف بكونه موجودا ؟ فإن أراد الأول فهو باطل فإنه ليس للموجودات شيء خارج عن الموجودات يحصرها سواء قيل : إنها متناهية أو غير متناهية وإن قيل : إن كل واحد مما لا يتناهى من الموجودات فهو موجود فهذا حقفإذا سمى المسمى هذا حصرا كان هذا إطلاقا لفظيا وكان قوله حينئذ ( ما لا يتناهى لا يكون محصورا ) بمنزلة قوله ( لا يكون موجودا ) وهذا محل النزاع فقد غير العبارة وصادر على المطلوب ثم ما لا يتناهى في المستقبل موجود باتفاق أهل الملل وعامة الفلاسفة ولم ينازع في ذلك إلا من شذ كالجهم وأبي الهذيل ونحوهما ممن هو مسبوق بإجماع المسلمين محجوج بالكتاب والسنة مخصوم بالأدلة العقلية مع مخالفة جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وهو مع هذا محصور بالوجود كما أن ما لا يتناهى في الماضي محصور بالوجود لكنهم يفرقون بأن الماضي دخل في الوجود بخلاف المستقبل ومنازعوهم يقولون : الماضي دخل ثم خرج فصارا جميعا معدومين والمستقبل لم يدخل في الوجود وهة تفريق صوري حقيقته أن الماضي كان وحصل والمستقبل لم يحصل بعد
فيقال لهم : ولم قلتم : إن كل ما حصل وكان يمتنع أن يكون دائما لم يزل ؟ وهو وإن كان متناهيا من الجانب الذي يلينا فالمستقبل أيضا متناه في هذا الواجب وإنما الكلام في الطرفين الآخرين
وأيضا فالحوادث الماضية عدمت بعد وجودها فهي الآن معدومة كما أن الحوادث المستقبلة الآن معدومة فلا هذا موجود ولا هذا موجود الآن وكلاهما له وجود في غير هذا الوقت ذاك في الماضي وهذا في المستقبل وكون الشيء ماضيا ومستقبلا أمر إضافي بالنسبة إلى ما يقدر متأخرا عن الماضي ومتقدما على المستقبل وإلا فكل ماض قد كان مستقبلا وكل مستقبل سيكون ماضيا كما أن كل حاضر قد كان مستقبلا وسيصير ماضيا
الرابع
قال الآمدي : ( الطريق الرابع : أنه لو وجد ما لا يتناهى فما من وقت يقدر إلا وهو متناه في ذلك الوقت وانتهاء ما لا يتناهى محال )قال : ( وهو أيضا غير سديد فإن الانتهاء من أحد الطرفين - وهو الأخير - وإن سلمه الخصم فلا يوجب النهاية في الطرف الآخر ثم يلزم عليه عقود الحساب ونعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار فإنه وإن كان متناهيا من طرف الابتداء فغير متناه إمكانا في طرف الاستقبال )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الوجه من جنس الوجه السادس الذي ذكره الرازي وهو أنه : ( لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية كان وجود اليوم موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له وانقضاء ما لا نهاية له محال والموقوف على المحال محال )وقد اعترض عليه الأرموي بما اعترض به هو وغيره بأن انقضاء ما لا نهاية له محال
وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه النزاع وهو من جنس جواب الآمدي فإن الانتهاء الذي يسلمه الخصم هو من أحد الطرفين دون الآخر والآخر هو الابتداء وقد تقدم ذلك
كلام آخر للآمدي
ثم قال الآمدي : ( والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات غير متناهية وكل واحد منها ممكنا على ما وقع به الفرض فهي : إما متعاقبة وإما معا فإن كانت متعاقبة فقد قيل : إن ذلك محال لوجوه ثلاثةالأول : أن كل واحد منها يكون مسبوقا بالعدم والجملة مجموع الآحاد فالجملة مسبوقة بالعدم وكل جملة مسبوقة بالعدم فلوجودها أول تنتهي إليه وكل ما لوجوده أول ينتهي إليه فالقول غير متناه محال
الثاني : أن كل واحد منها يكون مشروطا في وجوده علته قبله ولا يوجد حتى توجد علته وكذلك الكلام في علته بالنسبة إلى علتها وهلم جرا
فإذا قيل بعدم النهاية فقد تعذر الوقوف على شرط الوجود فلا وجود لواحد منها وهذا كما إذا قيل : لا أعطيك درهما إلا وقبله درهم فإنه لما كان إعطاء الدرهم مشروطا بإعطاء درهم قبله وكذلك في إعطاء كل درهم يفرض إلى غير النهاية كان الإعطاء محالا
الثالث : هو أن القول بتعاقب العلل والمعلولات يجر إلى تأثير العلة بعد عدمها في معلولها وتأثير المعدوم في الموجود محال )
قال : ( وهذه الحجج مما لا مثبت لها
أما الأولى فلأنه لا يلزم من سبق على كل واحد من الآحاد سبقه على الجملة فإن الحكم على الآحاد لا يلزم أن يكون حكما على الجملة كما سبق تحقيقه
وأما الثاني فإنما يلزم أن لو كان ما توقف عليه الموجود وهو شرط في الوجود غير موجود كما في المثال المذكور وأما إن كان موجودا فلا يلزم امتناع وجود المشروط والقول بأن الشرط غير موجود محل النزاع فلا تقبل الدعوى به من غير دليل
وأما الثالثة فإنما تلزم أيضا أن لو كان معنى التعاقب وجود المعلول بعد عدم علته وليس كذلك بل معناه : وجود المعلول متراخيا عن وجود علته مع بقاء علته موجودة إلى حال وجوده وبقائه موجودا بعد عدم علته وكذلك في كل علة مع معلولها وذلك لا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود ولا أن تكون العلل والمعلولات موجودة معا وذلك متصور في العلل الفاعلة بالاختيار )
قال : ( والأقرب في ذلك أن يقال : لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة فكل واحد منها حادث لا محالة وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أو لا وجود لشيء منها في الأزل فإن كان الأول ممتنع لأن الأزلي لا يكون مسبوقا بالعدم والحادث مسبوق بالعدم فلو كان شيء منها في الأزل لكن مسبوقا بالعدم ضرروة كونه حادثا وغير حادث ضرورة كونه أزليا وإن كان الثاني فجملة العلل والمعلولات مسبوقة بالعدم ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية غير متوقف على سبق غيره عليه وهو المطلوب )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذا الوجه هو الوجه الثالث الذي ذكره الرازي حيث قال : ( إما أن يقال : حصل في الأزل شيء من هذه الحركات أو لم يحصل فإن لم يحصل في الأزل شيء من هذه الحركات وجب أن يكون لمجموع هذه الحركات والحوادث بداية وأول وهو المطلوب وإن حصل في الأزل شيء من هذه الحركات فتلك الحركة الحاصلة في الأزل إن لم تكن مسبوقة بغيرها كانت تلك الحركة أول الحركات وهو المطلوب وإن كانت مسبوقة بغيرها لزم أن يكون الأول مسبوقا بغيره وهو محال )وقد اعترض أبو الثناء الأرموي على هذا بأنه ( ليس من الحركات الجزئية أزليا بل كل واحدة منها حادثة وإنما القديم الحركة الكلية بتعاقب الأفراد الجزئية وهي ليست مسبوقة بغيرها فلا يلزم أن يكون لكل الحركات الجزئية أول )
وبيان هذا الاعتراض - فيما ذكره الآمدي - أن يقال : قوله : ( إما ان يقال بوجود شيء منها في الأزل أو لا وجود لشيء منها في الأزل ) جوابه : أنه ليس شيء بعينه موجودا في الأزل ولكن الجنس لم يزل متعاقبا وحيئنذ يندفع ما ذكره على التقديرين : أما الأول فإنه قال : لو كان شيء منها موجودا في الأزل لكان مسبوقا بالعدم غير مسبوق بالعدم وهذا إنما يلزم إذا قيل في واحد من الحوادث المتعاقبة : إنه قديم أزلي وهذا لا يقوله عاقل
وأما التقدير الثاني : فقوله : ( وإن كان الثاني فقول القائل : العلل والمعلولات المتعاقبة أو غيرها من الحوادث المتعاقبة تكون مسبوقة بالعدم ) إنما يلزم إذا قيل : إن جنسها ليس بقديم ولا أزلي وهذا محل النزاع
وحقيقة الأمر أن قول القائل : ( إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل أولا وجود لشيء منها في الأزل ) معناه : إما أن شيئا منها قديم أزلي أو ليس شيء منها قديما أزليا وهذا اللفظ محتمل فإن أراد به أن واحدا من الحوادث المتعاقبة يكون قديما أزليا فهذا لا يقولونه وإن أراد أن جنسها لم يزل يحدث شيئا بعد شيء وأنه لا أول للجنس بل الجنس قديم أزلي فهذا هو الذي يقولون وحينئذ فلا يلزم من نفي الأزلية عن واحد نفيها عن الجنس
وذلك أن معنى الأزل ليس هو شيئا له ابتداء محدود حتى يقال : هل حصل شيء منها في ذلك المبدأ المحدود ؟ بل معنى الأزل هو معنى القدم ومعناه : ما لا ابتداء لوجوده ولا يقدر الذهن غاية إلا كان قبل تلك الغاية فإذا قال القائل : ( هل وجد شيء من هذه الحوادث في الأزل ) كان معناه : هل منها قديم لا أول لوجوده لم يزل موجودا ؟
والمثبت لذلك إنما يقول : لم يزل الجنس موجودا شيئا بعد شيء كما يقوله المسلمون وجمهور الناس غيرهم في الأبد فيقولون : إنه لا يزال جنس الحوادث يحدث شيئا بعد شيء فلو قال القائل : ( الحوادث المنقضية لا تكون أبدية ولاتكون فيما لا يزال لأنه إما أن يوجد شيء منها في الأبد أو لا وجود لشيء منها في الأبد فإن كان الأول فهو ممتنع لأن الأبدي لا يكون منقضيا بل لا يزال موجودا وإن كان الثاني فجملة المنقضيات ملحوقة بالعدم وما كان ملحوقا بالعدم لم يكن أبديا لأن الأبدي هو ما لا يلحقه العدم كما أن الأزلي ما لا يسبقه العدم ) كان الجواب عن قول هذا القائل بأن يقال : الأبدي هو جنس الحوادث المنقضية لا واحد واحد منها والجنس لا يلحقه العدم وإن لحق آحاده كما قال تعالى { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } ( ص : 54 ) وقال تعالى : { أكلها دائم } ( الرعد : 35 ) فالدائم : هو الجنس وكذلك الذي لا نفاد له هو الجنس لا كل واحد من أعيان الرزق والمأكولات
قول آخر عن الآمدي
وقد أورد الآمدي على نفسه سؤالا وأجاب عنه فقال : ( قولكم : إن لم يوجد شيء منها في الأزل فلها أول وبداية فنقول : لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل أن تكون الجملة غير أزلية فإنه لا يلزم من الحكم على الآحاد أن يكون حكما على الجملة بل جاز أن يكون كل واحد من أحاد الجملة غير أزلي والجملة أزلية بمعنى تعاقب آحادها إلى غير النهاية ) وقال في الجواب عن هذا : ( قلنا إذا كان كل واحد من الآحاد لا وجود له في الأزل وهو بعض الجملة فليس بعض من أبعاض الجملة يكون موجودا في الأزل وإذا لم يكن شيء من الأبعاض موجودا في الأزل فالجملة غير موجودة في الأزل فإنه لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها )
تعليق ابن تيمية
قلت : ولقائل أن يقول : قوله : ( لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها ) أيعني به وجود أبعاضها معها ؟ أو وجود أبعاضها ولو كانت متعاقبة ؟أما الأول فلا يصح لأن ما فرض متعاقبا لايمكن أن تكون أبعاضه موجودة معه وليس له وجود مجتمع في زمن واحد حتى يمكن اجتماع أبعاضه معه بل وجود أبعاضه - وهو متعاقب مع جملته - جمع بين النقيضين
وإن عنى به وجود ابعضاها كيفما كان فيقال له : هذا صحيح والمنتفي إنما هو وجود شيء من أبعاضها في الأزل ولا يلزم من انتفاء كون الواحد من أبعاضها قديما أزليا أن لا يكون موجودا فإذا كان وجود الجملة موقوفا على وجود أبعاضها فوجود أبعاض المتعاقب ممكن وإن قال : ( إن وجود الجنس المتعاقب الذي هو قديم أزلي أبدي موقوف على كون الواحد من آحاده قديما أزليا أو أبديا ) فهذا محل النزاع
فتبين أن الجواب فيه مغلطة وحقيقة الجواب أنه يجب الحكم على الجملة بما يحكم به على أفرادها وقد بين هو وغيره فساد هذا الجواب فإنه إذا لم يكن بعض الجملة أزليا كان ذلك سلبا للأزلية عن أفراد الجنس ونفي الأزلية هو لحدوث فيصير معنى الكلام : إذا كان كل واحد من الأفراد أو الأبعاض المتعاقبة حادثا وجب أن يكون الجنس المتعاقب حادثا وقد عرف فساد هذا الكلام
و أبو الحسن الآمدي وغيره أدخلوا هذه المقدمة - أعني منع العلل المتعاقبة - في إثبات واجب الوجود ولا حاجة بهم إليها وهي مبنية على مقدمتين إحداهما : أن العلة قد تتقدم المعلول وقد ذكر هو في كتابه المسمى بـ ( دقائق الحقائق ) نقيض ما ذكره هنا في كتابه المسمى ( أبكار الأفكار ) وذكر في إثبات واجب الوجود هذه الطريقة التي تقدمت حكايتها عنه وقال فيها : إن كانت العلل والمعلولات غير متناهية فإما أن تكون متعاقبة أو معا لا جائز أن يقال بالأول إذ قد بينا امتناع الافتراق بين العلة والمعلول فيما تقدم )
والذي قاله فيما تقدم هو أن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة لمعلوله ولا كون المعلول معلولا إلى سبق العدم فإن ما كان من المعلولات الوجودية مسبوقا بالعدم : إما أن يكون وجوده بإيجاد العلة له في حال وجوده أو في حال عدمه لا جائز أن يكون ذلك له في حال عدمه لامتناع اجتماع الوجود والعدم فلم يبق إلا أن يكون موجودا له في حال وجوده لا بمعنى أنه أوجد بعد وجوده بل بمعنى أن ما قدر له من الوجود غير مستغن عن العلة بل يستند إليها ولولاها لما كان وإذا ذاك الفرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق بالعدم
تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الحجة هي حجة ابن سينا وأمثاله على أن المعلول يكون مع العلة في الزمان وهي حجة فسادة وبتقدير صحتها لا تنفع الآمدي في هذا المقام فإن الناس لهم في مقارنة المعولل لعلته والمفعول لفاعله ثلاثة أقوال :
الأقوال في مقارنة المعلول لعلته الثانية
قيل : يجب أن يقارن الأثر ولتأثيره بحيث لا يتأخر الأثر عن التأثير في الزمان فلا يتعقبه ولا يتراخى عنه وهذا قول هؤلاء الدهرية القائلين بأن العالم قديم عن موجب قديم وقولهم أفسد الأقوال الثلاثة وأعظمها تناقضا فإنه إذا كان الأثر كذلك لزم أن لا يحدث في العالم شيء فإن العلة التامة إذا كانت تسلتزم مقارنة معلولها لها في الزمان وكان الرب علة تامة في الأزل - لزم أن يقارنه كل معلول وكل ما سواه معلول له : إما بواسطة وإما بغير واسطة فيلزم أن لا يحدث في العالم شيءوأيضا فما يحدث من الحوادث بعد ذلك يفتقر إلى علة تامة مقارنة له فيلزم تسلسل علل أو تمام علل ومعلولات في آن واحد وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وإن قدر أن الرب لم يكن علة تامة في الأزل بطل قولهم
وقيل : بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر التام كما يقوله أكثر أهل الكلام ويلزم من ذلك أن يصير المؤثر مؤثرا تاما بعد أن لم يكن مؤثرا تاما بدون سبب حادث أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام
وهذا قول كثير من أهل الكلام منهم من يقول : القادر يرجح أحد المقدورين بلا مرجح
ومنهم من يقول : بل يرجح بالإرادة القديمة الأزلية
ومن هؤلاء وهؤلاء من يقول : بل يرجح مع كون الرجحان أولى لا مع وجوبه وهو قول محمود الخوارزمي من الأولين وهو قول محمد بن الهيثم الكرامي وغيره من الآخرين فإن الكرامية مع الأشعرية والكلابية يقولون : المرجح هو الإرادة القديمة الأزلية ويقولون : إن الإرادة لا توجب المراد لكن منهم من يقول : من شأن الإرادة أن ترجح بلا مزية للترجيح بل مع تساوي الأمرين كما تقوله الأشعرية : ومنهم من يقول : ترجيح أولوية الترجيح وهذا قول الكرامية
والقول الثالث : أن المؤثر التام يستلزم وجود أثره عقبه لا معه في الزمان ولا متراخيا عنه كما قال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) وعلى هذا فيلزم حدوث كل ما سوى الرب لأنه مسبوق بوجود التأثير ليس زمنه زمن التأثير والقادر المريد يستلزم مع وجود القدرة والإرادة وجود المقدور المراد والقدرة والإرادة حاصلان قبل المقدور المراد ومع وجود المقدور المراد هما مستلزمان له وهذا قول أكثر أهل الإثبات
وعلى هذا فيجب الفرق بين وجود العلة والفاعل والمؤثر عند وجود الأثر في الزمان فإن هذا لا بد منه وبين وجود العلة التي هي الفعل والتأثير في الزمان فإن هذا هو الذي يتعقبه المفعول المعلول الذي هو الأثر
ومن الناس من فرق بين التأثير القادر المختار وتأثير العلة الموجبة فزعم أن الأول لا يكون إلا مع تراخي الأثر والثاني لا يكون إلا مع مقارنة الأثر للمؤثر
وهذا أيضا غلط فإن الأدلة الدالة توجب التسوية لو قدر أنه يمكن أن يكون المؤثر غير قادر مختار فكيف إذا كان ذلك ممتنعا ؟
وكون المعلول والمفعول لا يكون مفعولا معلولا إلا بعد عدمه هو من القضايا الضرورية التي اتفق عليها عامة العقلاء من الأولين والآخرين وكل هؤلاء يقولون : ما كان معلولا يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم
وممن قال ذلك أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا وأمثاله صرحوا بذلك لكن ابن سينا تناقض مع ذلك فزعم أن الفلك هو قديم أزلي مع كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وهذا مخالف لما صرح به هو وصرح به أئمته وسائر العقلاء وهو مما أنكره عليه ابن رشد الحفيد وبين أن هذا مخالف لما صرح به أرسطو وسائر الفلاسفة وأن هذا لم يقله أحد قبله
وأرسطو لم يكن يقسم الوجود إلى واجب وممكن ولا يقول : إن الأول موجب بذاته للعالم بل هذا قول ابن سينا وأمثاله وهو - وإن كان أقرب إلى الحق مع فساده وتناقضه - فليس هو قول سلفه بل قول أرسطو وأتباعه : إن الأول إنما افتقر إليه الفلك لكونه يتحرك للتشبه به لا لكون الأول علة فاعلة له
وحقيقة قول أرسطو وأتباعه : أن ما كان واجب الوجود فإنه يكون مفتقرا إلى غيره فيكون جسما مركبا حاملا للأعراض فإن الفلك عندهم واجب بذاته وهو كذلك كما قد بسط كلامهم والرد عليهم في غير هذا الموضع وبين ما وقع من الغلط في نقل مذاهبهم وأن أتباعهم صاروا يحسنون مذاهبهم فمنهم من يجعل الأول محدثا للحركة بالأمر وليس هذا قولهم فإن الأول عندهم لا شعور له بحركة ولا إرادة وإنما الفلك يتحرك عندهم للتشبه به فهو يحركه كتحريك الإمام للمؤتم به أو المعشوق لعاشقه لا تحريك الآمر لمأموره كما يزعمه ابن رشد وغيره
ومنهم من يقول : بل هو علة مبدعة فاعلة للأفلاك كما يقوله ابن سينا وأتباعه وليس هذا أيضا قولهم
ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا وأتباعه وليس هذا أيضا قولهم
ولكن كثير من هؤلاء المتأخرين لا يعرفون من مذاهب الفلاسفة إلا ما ذكره ابن سينا كأبي حامد الغزالي و الرازي و الآمدي وغيرهم ويذكرون ما ذكره ابن سينا من حججه كما ذكره الآمدي في هذا الموضع حيث قال : ( إن العلة أو الفاعل لا يفتقر في كونه علة إلى سبق العدم لأن تأثير العلة في المعلول إنما هو في حال وجود المعلول )
فيقال لهم : ليس في هذا ما يدل على أن المعلول يجوز أن يكون قديما أزليا غير مسبوق بالعدم بل قولكم : ( وإذ ذاك فلا فرق بين أن يكون المعلول وجوده مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق ) دعوى مجردة
فتبين أن ما ذكره الآمدي وغيره من امتناع الافتراق بين العلة والمعلول في الزمن ووجوب مقارنتهما في الزمن من أضعف الحجج بل ما ذكره لا يدل على جواز الإقتران فضلا عن أن يدل على وجوب الاقتران بل غاية ما ذكره أن سبق العدم ليس بشرط في إيجاد العلة ولا يلزم من كونه ليس بشرط وجوب الاقتران بل قد يقال بجواز الاقتران وجواز التأخير
وحينئذ فلقائل أن يقول : هذا الذي ذكرته وإن كان باطلا كما قد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن للناس في هذا المقام ثلاثة أقوال :
قيل : يجوز أن يقارن المعلول العلة في الزمان فيقترن الأثر بالمؤثر في الزمان كما يقوله ابن سينا ومتابعوه
وقيل : بل يجب تراخي الأثر عن المؤثر وتأثيره كما يقوله أكثر المتكلمين
وقيل : بل الأثر يتعقب التأثير ولا يكون معه في الزمان ولا يكون متراخيا عنه وهذا هو الصواب كما قال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( النحل : 40 ) لهذا يقال : طلقت المرأة فطلقت وأعتقت العبد فعتق فالعتق والطلاق عقب التطليق والإعتاق لا يقترن به ولا يتأخر عنه
وبين أن من قال باقتران الأثر بالمؤثر كما يقوله هؤلاء المتفلسفة فإن ذلك يستلزم أن لا يكون لشيء من الحوادث فاعل ويستلزم أن لا يحدث شيء في العالم ومن قال بالتراخي فقوله يستلزم أن المؤثر التام لا يستلزم الأثر بل يحدث الحادث بلا سبب حادث وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن هذا الجواب الذي ذكره هو مأخوذ من كلام ابن سينا وهو مع فساده غايته أن المعلول يجوز أن يقارن وجوده وجود العلة لا يجب أن يكون مسبوقا بالعدم مع وجود العلة وليس في هذا بيان أنه يمتنع تأخر وجوده عن وجود العلة
والأقسام الممكنة ثلاثة : إما أن يقال بوجوب المقارنة أو بوجوب التأخر أو بجواز الأمرين وما ذكرته لا يدل على شيء من ذلك ولو دل فإنما يدل على جواز الاقتران لا على وجوبه وأنت فيما ذكرته هناك جوزت تأخر المعلول فلا منافاة بين الأمرين
وذلك أن غاية ما ذكرته أن المؤثر - أي : المعلول الذي هو المصنوع المفعول - إما أن تكون تأثيراته قديمة كواجب الوجود وذلك لا ينفي أن يكون التأثير به هو الأحداث فإن فاعل هذه الحادثات تأثيره فيها في حال الوجود مع كونها محدثة فليس كون التأثير فيها في حال وجودها مما ينفي أنه لا بد أن تكون محدثة
وقولك : ( إذا كان التأثير فيها في حال وجودها فلا فرق بينه أن يكون وجودها مسبوقا بالعدم أو غير مسبوق ) دعوى مجردة لاستواء الحالين والعقلاء يعلمون - بضرورة عقلهم - أن المبدع الفاعل لا يعقل أن يبدع القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا وإنما يعقل إبداع ما لم يكن ثم كان بل العقلاء متفقون على أن الممكن الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه لا يكون إلا حادثا بعد عدمه ولا يكون قديما أزليا
وهذا مما اتفق عليه الفلاسفة مع سائر العقلاء وقد صرح به أرسطو وجميع أتباعه حتى ابن سينا وأتباعه ولكن ابن سينا وأتباعه تناقضوا فادعوا في موضع آخر أن الممكن الذي يمكن وجوده وعدمه قد يكون قديما أزليا ومن قبله من الفلاسفة - حتى الفارابي - لم يدعو ذلك ولا تناقضوا وقد حكينا أقوالهم في غير هذا الموضع
وأما المقدمة الثانية التي بنوا عليها امتناع العلل المتعاقبة فهي مبينة على امتناع حوادث لا أول لها والمتفلسف لا يقول بذلك فلم يمكنهم أن يجعلوها مقدمة في إثبات واجب الوجود
والتحقيق أنه لا يحتاج إليها بل ولا يحتاج في إثبات واجب الوجود إلى هذه الطريقة كما قد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
وهؤلاء تجدهم - مع كثرة كلامهم في النظريات والعقليات وتعظيمهم للعلم الإلهي الذي هو سيد العلوم وأعلاها وأشرفها وأسناها - لا يحققون ما هو المقصود منه بل لا يحققون ما هو المعلوم لجماهير الخلائق وإن أثبتوه طولوا فيه الطريق مع إمكان تقصيرها بل قد يورثون الناس شكا فيما هو معلوم لهم بالفطرة الضرورية
والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بإفسادها وتغييرها قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } ( الروم : 30 - 32 )
وفي الصحيحين [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قالوا : يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير ؟ فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ]
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ]
فالإقرار بالخالق سبحانه وتعالى والاعتراف بوجود موجود واجب الوجود قديم أزلي كما أنه مركوز في الفطرة مستقر في القلوب فبراهينه وأدلته متعددة جدا ليس هذا موضعها وهؤلاء عامة ما يذكرونه من الطرق : إما أن يكون فيه خلل وإما أن يكون طويلا كثير التعب والغالب عليهم الأول
إثبات الرازي للصانع
فالرازي أثبت الصانع بخمسة مسالك وهي كلها مبنية علىمقدمة واحدة( الأول )
الاستدلال بحدوث الذوات كالاستدلال بحدوث الأجسام المبني على حدوث الأعراض كالحركة والسكون وامتناع ما لا نهاية له وهذا طريق المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية كأبي المعالي - بناء على أن أجسام العالم محدثه وكل محدث فله محدث
تعليق ابن تيمية
أما المقدمة الأولي فقد تبين كلامهم فيها ومناقضة بعضهم بعضا وأنهم التزموا لأجلها : إما جحد صفات الله وأفعاله القائمة به وإما جحد بعض ذلك وأنهم اشترطوا في خلق الله تعالى للعالم ما ينافي خلق العالم فسلطوا عليهم أهل الملل والفلاسفة جميعاوأما الثاني فهي أظهر وأعرف وأبده في العقول من أن تحتاج إلي بيان فبنوها على أن كل محدث فهو ممكن الوجود وأن الممكن يحتاج في وجوده إلى مؤثر موجود وكل من هاتين المقدمتين صحيحة في نفسها مع أن القول بافتقار المحدث إلى المحدث أبين وأظهر في العقل من القول بافتقار الممكن إلى المؤثر الموجود فبتقدير بيانهم للمقدمتين يكونون قد طولوا وداروا بالعقول دورة تبعد على العقول معرفة الله تعالى والإقرار بثبوته وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود فكانوا كما قيل لبعض الناس : أين أذنك ؟ فرفع يده وأدارها على رأسه ومدها وتمطى وقال : هذه أذني وكان يمكنه أن يشير إليها بالطريق المستقيم القريب ويقول : هذه أذني وهو كما قيل :
( أقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء )
وهو نظير ما يذكر عن يعقوب بن إسحاق الكندي فيما حكاه عنه السيرافي من قوله : هذا من باب فقد عدم الوجود وفقد عدم الوجود هو الوجود فكيف وقد ذكروا في افتقار الممكن إلى الواجب بنفسه مع ظهوره وبيانه كما قد بيناه في غير هذا الموضع : ما هو نقيض المقصود : من التعليم والبيان : وتحرير الأدلة والبراهين وقد تكلمنا على تقرير ما يتعلق بهذا المقام في غير هذا الموضع
الثاني
قال الرازي : ( المسلك الثاني : الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع سبحانه وتعالى وهو عمدة الفلاسفة قالوا : الأجسام ممكنة وكل ممكن فل بد له من مؤثر أما بيان كونها ممكنة فبالطريق المذكورة في مسألة الحدوث وأما بيان أن الممكن لا بد له من مؤثر فبالطريق المذكورة هنا )
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذه الطريقة هي طريقةابن سينا وأمثاله من المتفلسفة وليست طريقة أرسطو والقدماء من الفلاسفة وابن سينا كان يعجب بهذه الطريقة ويقول : إنه أثبت واجب الوجود من نفس الوجود من غير احتياج إلى الاستدلال بالحركة كما فعل أسلافه الفلاسفة ولا ريب أن طريقته تثبت وجودا واجبا لكن لم تثبت أنه مغاير للأفلاك إلا ببيان إمكان الأجسام كما ذكره الرازي عنهم وإمكان الأجسام هو مبني على توحيدهم المبني على نفي صفات الله تعالى كما تقدم التنبيه عليه وهو من أفسد الكلام كما قد بين ذلك في غير موضعومن طريقهم دخل القائلون بوحدة الوجود وغيرهم من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والإتحاد كصاحب الفصوص وأمثاله الذين حقيقة قولهم : تعطيل الصانع بالكلية والقول بقول الدهرية الطبيعية دون الإلهية
الثالث
قال : ( المسلك الثالث : الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة و قديمة أو ممكنة وحادثة )قال : ( وتقريره أن يقال : اختصاص كل جسم بما له من الصفات : إما أن يكون لجسميته أو لما يكون حالا في الجسمية أو لما يكون محلا لها أو لما لا يكون حالا فيها ولا محلا لها وهذا القسم الأخير : إما أن يكون جسما أو جسمانيا أولا جسما ولا جسمانيا وتبطل كل هذه الأقسام سوى القسم الأخير بما مر تقريره في إثبات المسلك الأول في مسألة حدوث العالم )
تعليق ابن تيمية
قلت : وهذا هو القول بتماثل الأجسام وأن تخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد و الرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع وهذا الذي أحال عليه ليس فيه إلا أن الجسم لا يكون اختصاصه بالحيز واجبا بل جائزا وبتقدير ثبوت هذا في التحيز لا يلزم مثله في سائر الصفاتوما ذكره من الدليل لا يصح وذلك أنه قال : ( اختصاصه بذلك إن كان واجبا ) : فإما أن يكون الوجوب لنفس الجسمية أولأمر للجسمية أو لأمر الجسمية عرضت له أو لأمر غير عارض لها ولا معروض لها والأول يوجب اشتراك الأجسام في تلك الصفة وإن كان لعارض : فإما أن يكون ممتنع الزوال وهو اللازم أو ممكن الزوال وهو العارض فإن العرض في اصطلاحهم أعم من العرض فإن كان ممتنع الزوال : فإن كان الامتناع لنفس الجسمية عاد الإشكال الأول وإن كان لغيرها أفضى للتسلسل وإن كان لمعروض الجسمية لم يصح لأن المعقول من الجسمية الذهاب في الجهات فلو كان في محل لكن ذلك المحل يجب أن يكون ذاهبا في الجهات فيكون محل الجسمية جسما لأنه إن لم يكن ذاهبا في الجهات لم يكن له اختصاص بالحيز فلا يعقل حصول الجسم المختص بالحيز في محل غير مختص بالحيز وإذا كان محله ذاهبا في الجهات كان جسما وحينئذ فالقول في اختصاصه بذلك الحال فيه كالقول في الحيز لا يجوز أن يكون للجسمية أو لوازمها بل لأمر عارض ممكن الزوال فيكون ذلك الحيز ممكن الزوال وهو المقصود )
قلت : ولقائل أن يقول : هذا الدليل مبني على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء على خلافه وقد قرر الرازي في موضع آخر أنها مختلفة لا متماثلة وهو مبني أيضا على الكلام في الصورة والمادة ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسط الكلام فيه لكن يبين فساده ببيان موضع المنع في مقدماته
قوله : ( إن كان الامتناع لغير الجسمية أفضى إلى التسلسل ) ممنوع فإن الأجسام إذا كانت مشتركة في مسمى الجسمية وقد اختص بعضها بصفات أخرى لم يجب في ذلك التسلسل كما في سائر الأمور التي تشترك في شيء وتفترق في شيء فالمقادير والحيوانات إذا اشتركت في مسمى القدر والحيوانية واختص بعضها عن بعض بشيء آخر لازم له لم يلزم التسلسل سواء قيل بتماثل الأجسام أو اختلافها فإنه إن قيل باختلافها كانت ذات كل واحد موصوفة بصفات لازمة لها لا توجد في الآخر كسائر الحقائق المختلفة وإن قيل بتماثلها كتماثل أفراد النوع فالموجب لوجود كل فرد من تلك الأفراد هو الموجب لصفاته اللازمة له لا تفتقر صفاته اللازمة له إلى موجب غير الموجب لذاته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع وبين فيه فساد ما يقوله المنطقيون : من أن اختلاف أفراد النوع إنما هو بسبب المادة القابلة ونحو ذلك فإنهم بنوه على أن للحقيقة الموجودة في الخارج سببا غير سبب وجودها وهذا غلط لا يستريب فيه من فهمه مع أنه لاحاجة بنا هنا إلى هذا بل نقول : مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسما أو متحيزا أو موصوفا أو مقدرا أو غير ذلك لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له وليس إذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم أن يكون ذلك المخصص له مخصص آخر بل المشاهد خلاف ذلك فإن اختصاص الأجسام المشهودة بأحيازها ليس للجسمية المشتركة بل لأمر يخصها هو من لوازمها بمعنى أن المقتضي لذاتها هو المقتضى لذلك اللازم
وأيضا فقوله : ( إن كان الامتناع لمعروض الجسمية فهو محال ) ممنوع
وقوله : ( لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات فمحله لا بد أن يكون له ذهاب في الجهات )
يقال له : محل الامتداد في الجهات هو الممتد في الجهات كما أن محل التحيز هو المتحيز ومحل الطول والعرض والعمق هو الطويل العريض العميق ومحل المقدار هو المقدر وكذلك محل السواد والبياض هو الأسود والأبيض وهذا في كل ما يوصف بصفة فمحل الصفة هو الموصوف وهكذا جميع مسميات المصادر وغيرها من الأعراض محلها الأعيان القائمة بنفسها فإذا كانت الجسمية هي الامتداد في الجهات التي هي الطول والعرض والعمق مثلا كان محلها هو الشيء الممتد في الجهات الذي هو الطويل العريض العميق وحينئذ فمحلها له اختصاص بالحيز ويكون ذلك المعروض للجسمية الذي هو محل لها الممتد في الجهات هو المقتضي لاختصاصه بما اختص به من الصفات اللازمة وهو مستلزم لذلك كما هو مستلزم للامتداد في الجهات فجنس الجسم مستلزم لجنس الامتداد وجنس الأعراض والصفات فالجسم المعين هو مستلزم للامتداد المعين في الجهات المعينة ومستلزم للصفات المعينة التي يقال : إنها لازمة له حتى إنه متى قدر عدم تلك اللوازم فقد تبطل حقيقته فالموجب لها هو الموجب لحقيقته وهذا مطرد في كل ما يقدر من المواصفات المستلزمة لصفاتها كالحيوانية والناطقية للإنسان وكذلك الإغتذاء والنمو للحيوان والنبات مثلا فإن كون النبات ناميا متغذيا هو صفة لازمة له لعموم كونه جسما ولا لسبب غير حقيقته التي يختص بها بل حقيقته مستلزمة لنموه وأغتذائه وهذه الصفات أقرب إلى أن تكون داخلة في حقيقته من كونه ممتدا في الجهات وإن كان ذلك أيضا لازما له فإنا نعلم أن النار والثلج والتراب والخبز والإنسان والشمس والفلك وغير ذلك كلها مشتركة في أنها متحيزة ممتدة في الجهات كما أنها مشتركة في أنها موصوفة بصفات قائمة بها وفي أنها حاملة لتلك الصفات وما به افترقت وامتاز بعضها عن بعض أعظم مما فيه اشتركت فالصفات الفارقة بينها الموجبة لاختلافها ومباينة بعضها لبعض أعظم مما يوجب تشابهها ومناسبة بعضها لبعض فمن يقول بتماثل الجواهر والأجسام يقول : إن الحقيقة هي ما اشتركت فيه من التحيزية والمقدارية وتوابعها وسائر الصفات عارضة لها تفتقر إلى سبب غير الذات
ومن يقول باختلافها يقول : بل المقدارية للجسم والتحيزية للمتحيز كالموصوفية للموصوف واللونية للملون والعرضية للعرض والقيام بالنفس للقائمات بأنفسها ونحو ذلك ومعلوم أن الموجودين إذا اشتركا في أن هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه : لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن هذا لون وهذا لون وهذا طعم وهذا طعم وهذا عرض وهذا عرض : لم يكن أحدهما مثلا للآخر وإذا اشتركا في أن لهذا مقدارا ولهذا مقدارا ولهذا حيزا ومكانا ولهذا حيزا ومكانا : كان أولى أن لا يوجب هذا تماثلهما لأن الصفة للموصوف أدخل في حقيقته من القدر للمقدر والمكان للمتمكن والحيز للمتحيز فإذا كان اشتراكهما فيما هو أدخل في الحقيقة لا يوجب التماثل فاشتراكهما فيما هو دونه في ذلك أولى بعدم التماثل والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا : التنبيه على مجامع ما أثبتوا به الصانع
الرابع
قال الرازي : ( المسلك الرابع الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع تعالى مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا فإذا كانت تلك التركيبات أعراضا حادثة والعبد غير قادر عليه فلا بد من فاعل آخر ثم من ادعى العلم بأن حاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة هنا ومن استدل على ذلك بالإمكان أو القياس على حدوث الذوات فكذلك يقول أيضا في حدوث الصفات )قال : ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال لحدوثها أن الأول يقتضي أن لا يكون الفاعل جسما والثاني لا يقتضي ذلك )
تعليق ابن تيمية
قلت : هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن وهي التي جاءت بها الرسل وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث ويذكر في آياته خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ونحو ذلك لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حوادثها ولا تزال موجودة وإنما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كان تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون وكما تتغير ألوانه وكما تتغير أشكاله وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهموحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم : أن الرب لم يزل معطلا لا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئا بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل : الأنبياء وأتباعهم وبينهم وبين الفلاسفة في مثل هذا نزاع أخطأ فيه كل من الفرقين فإن الفلاسفة يقولون بإثبات المادة والصورة ويجعلون المادة والصورة جوهرين وهؤلاء يقولون : ليست الصورة إلا عرضا قائما بجسم
والتحقيق : أن المادة والصورة لفظ يقع على معان كالمادة والصورة الصناعية والطبيعية والكلية والأولية
فالأول : مثل الفضة إذا جعلت درهما وخاتما وسبيكة والخشب إذا جعل كرسيا واللبن والحجر إذا جعل بيتا والغزل إذا نسج ثوبا ونحو ذلك فلا ريب أن المادة هنا التي يسمونها الهيولى : هي أجسام قائمة بنفسها وأن الصورة أعراض قائمة بها فتحول الفضة من صورة إلى صورة هو تحولها من شكل إلى شكل مع أن حقيقتها لم تتغير أصلا
وبهذا يظهر لك خطأ قول القائل : إن من أثبت افتقار المحدث إلى الفاعل بالقياس على حدوث الذوات قال هنا كذلك وهذه الطريقة طريقة أبي علي و أبي هاشم ومن وافقهما
فيقال : هؤلاء إنما قاسوا على افتقار الكتابة إلى كاتب والبناء إلى بان ونحو ذلك ومعلوم أن البناء والكاتب لم يبدع جسما وإنما أحدث في الأجسام تأليفا خاصا وهو عرض من الأعراض فكيف يجعل مثل هذا محدثا للذوات ويجعل الذي خلق الإنسان من نطفة والشجرة من نواة إنما أحدث الصفات ؟ لكن المعتزلة لا يقولون : إن الجسم يحدث جسما وإنما يحدث عرضا
والثاني : من معاني المادة والصورة : هي الطبيعية وهي صورة الحيوانات والنباتات والمعادن ونحو ذلك فهذه إن أريد بالصورة فيها نفس الشكل الذي لها فهو عرض قائم بجسم وليس هذا مراد الفلاسفة وإن أريد بالصورة نفس هذا الجسم المتصور فلا ريب أنه جوهر محسوس قائم بنفسه
ومن قال : ( إن هذا عرض قائم بجوهر ) من أهل الكلام فقد غلط وحينئذ فيقول المتفلسف : إن هذه الصورة قائمة بالمادة والهيولى إن أراد بذلك ما خلق منه الإنسان كالمني - وهو لم يرد ذلك - فلا ريب أن ذاك جسم آخر فسد واستحال وليس هو الآن موجودا بل ذاك صورة وهذا صورة والله تعالى خلق إحداهما من الأخرى وإن أراد أن هنا جوهرا بنفسه غير هذا الجسم المشهود الذي هو صورة وأن هذا الجسم المشهود - الذي هو صورة - قائم بذلك الجوهر العقلي فهذا من خيالاتهم الفاسدة
ومن هنا تعرف قولهم في الهيولى الكلية حيث ادعوا أن بين أجسام العالم جوهرا قائما بنفسه تشترك في الأجسام ومن تصور الأمور وعرف ما يقول علم أنه ليس بين هذا الجسم المعين وهذا الجسم المعين قدر مشترك موجود في الخارج أصلا بل كل منهما متميز عن الآخر بنفسه المتناولة لذاته وصفاته ولكن يشتركان في المقدارية وغيرها من الأحكام اللازمة للأجسام وعلم أن اتصال الجسم بعد انفصاله هو نوع من التفرق والتفرق والاجتماع هما من الأعراض التي يوصف بها الجسم فالإتصال والإنفصال عرضان والقابل لهما نفس الجسم الذي يكون متصلا تارة ومنفصلا تارة أخرى كما يكون مجتمعا تارة ومفترقا أخرى ومتحركا تارة وساكنا أخرى وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
الخامس
قال الرازي : ( والطريقة الخامسة - وهي عند التحقيق عائدة إلى الطرق الأربع - وهي الاستدلال بما في العالم من الإحكام والإتقان على علم الفاعل والذي يدل على علم الفاعل هو بالدلالة على ذاته أولى )
تعليق ابن تيمية
قلت : والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم هو الحق الموافق لصريح المعقول وأن ما بينه من الآيات والدلائل والبراهين العقلية في إثبات الصانع سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله هو فوق نهاية العقول وأن خيار ما عند حذاق الأولين والآخرين من الفلاسفة والمتكلمين هو بعض ما فيه لكنهم يلبسون الحق بالباطل فلا يأتون به على وجهه كما أن طريقة الاستدلال بحدوث المحدثات على إثبات الصانع الخالق هي طريقة فطرية ضرورية وهي خيار ما عندهم بل ليس عندهم طريقة صحيحة غيرها لكنهم أدخلوا فيها من الاختلال والفساد ما يعرفه أهل التحقيق والانتقاد الذي آتاهم الله الهدى والسدادوقد بسط الكلام على هذه المطالب في غير الموضع
بسم الله الرحمن الرحيم : فصل
وأما ما تكلموا به في وجود واجب الوجود وتحيرهم فيه هل وجوده حقيقة أو زائد على حقيقته ؟ وفي صفاته وأفعاله ؟ فهذا بحر واسع قد بسطناه في غير هذا الموضعوقد اعترف الرازي بحيرته في مسائل الذات والصفات والأفعال وهو تارة يقول بقول هؤلاء وتارة يقول بقول هؤلاء والآمدي متوقف في مسائل الوجود والذات ونحو ذلك مع أنه لم يذكر دليلا على إثبات واجب الوجود البتة فإنه ظن أن الطرق المذكورة ترجع إلى الاستدلال بالإمكان على المرجع الموجب فلم يسلك في إثبات واجب الوجود إلا هذه الطريقة التي هي طريقة ابن سينا لكن ابن سينا وأتباعه قرروها أحسن من تقرير الآمدي فإن أولئك أثبتوا أثبتوا واجب الوجود بالبرهان العقلي الذي لا ريب فيه لكن احتجوا على مغايرته للموجودات المحسوسة بطريقتهم المبنية على نفي الصفات وهي باطلة
كلام الآمدي في الأبكار في أثبات واجب الوجود
وأما الآمدي فلم يقرر إثبات واجب الوجود بحال بل قال في كتاب أبكار الأفكار في أعظم مسائل الكتاب وهي مسألة إثبات واجب الوجود : مذهب أهل الحق من المتشرعين وطوائف الإلهيين القول بوجوب وجود وجوده لذاته لا لغيره وكل ما سواه فمتوقف في وجوده عليه خلافا لطائفة شاذة من الباطنية ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات العينية ونتحققه من الأمور الحسية فإنه إما أن يكون واجبا لذاته أو لا يكون واجبا لذاته فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فك موجود لا يكون واجبا لذاته فهو ممكن لذاته لأنه لو كان ممتنعا لذاته لما كان موجودا وإذا كان ممكنا فالوجود والعدم عليه جائزان عند ذلك فإما أن يكون في وجوده مفتقرا إلى مرجح أو غير مفتقر إليه فإن لم يكن مفتقرا إلى المرجح فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح وهو ممتنع وإن افتقر إلى المرجح فذلك المرجح إما واجب لذاته أو لغيره فإن كان الأول فهو مطلوب وإن كان الثاني فذلك الغير إما أن يكون معلولا لمعلوله أو لغيره فإن كان الأول فيلزم أن يكون كل واحد منهما مقوما للآخر ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوما لمقوم نفسه فيكون كل فليحج منهما مقوما لنفسه لأن مقوم المقوم مقوم وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوما بنفسه والمقوم بنفسه لا يكون ممكنا وهو خلاف الفرض ولأن التقويم إضافة بين المقوم والمقوم فيستدعى المغايرة بينهما ولا مغايرة بين الشيء ونفسه وإن كان الثاني : وهو أن يكون ذلك الغير معلولا للغير فالكلام في ذلك الغير كالكلام في الأول وعند ذلك فإما أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية فإن كان الأول فهو المطلوب وإن كان الثاني فهو ممتنعثم ذكر الأدلة المتقدمة على إبطال التسلسل وبين فسادها كلها كما تقدم حكاية قوله واختار الحجة المذكورة عنه التي حكيناها فقال وإن كانت العلل والمعلولات المفروضة موجودة معا فلا يخفى أن النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد واحد من آحادها فإن حقيقة الجملة غير حقيقة كل واحد من الآحاد وعند ذلك فالجملة موجودة وهي إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لا جائز أن تكون واجبة وإلا لما كانت آحادها ممكنة وقد قيل : إنها ممكنة كما سبق وإن كانت واجبة فهو مع الاستحالة عين المطلوب وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح والمرجح إما أن يكون داخلا فيها أو خارجا عنها لا جائز أن يقال بالأول فإن المرجح للجملة للجملة مرجح لآحادها يلزم أن يكون مرجحا لنفسه ضرورة كونه من الآحاد ويخرج بذلك عن أن يكون ممكنا وهو خلاف الفرض وأن يكون مرجحا لعلته لكونه من الآحاد وفيه جعل العلة معلولا والمعلول علة وهو دور ممتنع وأن كان المرجح خارجا عنها فهو إما ممكن أو واجب فإن كان ممكنا فهو من الجملة وهو خلاف الفرض فلم يبق إلا أن يكون واجبا لذاته وهو المطلوب
قلت : فهذه الطريقة التي ذكرها لم يذكر غيرها في إثبات الصانع ثم أورد على نفسه أسئلة كثيرة منها قول المعترض : لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهي ليصح ما ذكرتموه ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهي مع إشعاره بالحصر صحته في غير المتناهي سلمنا أن مفهوم الجملة حاصل فيما لا يتناهى وأنه ممكن ولكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية وعند ذلك فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد سلمنا أنه زائد على الآحاد ولكن ما لمانع أن يكون مترجحا بآحاد الداخلة فيه لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ليلزم ما ذكرتموه بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه ترجح كل واحد من الآحاد بالآخر إلى غير النهاية وعلى هذا فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ولا أن يكون المرجح للجملة مرجح لنفسه ولا لعلته
ثم قال في الجواب : قولهم : لا نسلم أن مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية قلنا : إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد فهو ظاهر الإحالة وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد فلا خفاء بكونه زائدا على كل واحد من الآحاد وهو المطلوب قولهم : ما لمانع من أن يكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه ؟ قلنا : إما ان يقال : تترجح الجملة بمجموع الآحاد الداخلة فيها أو بواحد منها فإن كان بواحد منها فالحال الذي ألزمناه حاصل وإن كان بمجموع الآحاد فهو نفس الجملة المرفوضة و فيه ترجح الشيء بنفسه و هو محال
تعليق ابن تيمية
فهذا ما ذكره في كتابه المشهور بأبكار الأفكار المصنف في الكلام وليس في هذا تعرض لإبطال علل ومعلولات ممكنة مجتمعة لا نهاية لها ولكن فيه إثبات واجب الوجود خارجا عنها وقد ذهب طائفة من أهل الكلام كأصحاب معمر إلى إثبات معان لانهاية لها مجتمعة وهي الخلق وهي شرط في الحدوثثم إنه في كتابه المسمى بدقائق الحقائق في الفلسفة ذكر هذه الحجة وزاد فيها إبطال إثبات علل ومعلولات لا نهاية لها ولكنه اعتراض عليها باعتراض وذكر أنه لا جواب له عنه فبقيت حجته على إثبات واجب الوجود موقوفة على هذا الجواب
فقال بعد أن ذكر ما ذكره هنا الجملة إما أن تكون باعتبار ذاتها واجبة أو ممكنة إذا كانت الآحاد ممكنة ومعناه افتقار كل واحد إلى علته وكانت الجملة هي مجموع الآحاد فلا مانع من إطلاق الوجوب وعدم الإمكان عليها بمعنى أنها غير مفتقرة إلى أمر خارج عن ذاتها وإن كانت أبعاضها مما يفتقر بعضها إلى بعض فتوهم ساقط فإنه إذا قيل إن الجملة غير ممكنة فقد بينا في المنطقيات أن كل ما ليس بممكن بالمعنى الخاص فإما واجب بذاته وإما ممتنع لا جائز أن يقال بالامتناع وإلا لما كانت موجودة بقي أن تكون واجبة بذاتها وإذا كانت الجملة هي مجموع آحادها وكل واحد من الآحاد ممكن فالجملة أيضا ممكنة بذاتها والواجب باعتبار ذاته يستحيل أن يكون ممكنا باعتبار ذاته وإن كانت ممكنة فلا بد لها من مرجح لضرورة كونها موجودة والمرجح فإما أن يكون ممكنا أو واجبا لا جائز أن يكون ممكنا إذ هو من الجملة ثم يلزم أن يكون مرجحا لنفسه لكونه مرجحا للجملة والمرجح للجملة مرجح لآحادها وهو من آحادها وذلك محال ثم يلزم أن يكون علة علته وهو دور ممتنع وإن كان واجبا لذاته غير مفتقر إلى علة في وجوده فإما أن يكون علة للجملة أو لبعضها فإن كان علة للجملة لزم أن يكون علة لكل واحد من آحادها إذ الجملة هي مجموع الآحاد وهو محال من جهة إفضائه إلى كون كل واحد من آحاد الجملة المفروضة معللا بعلتين وهي العلة الواجبة الوجود وما قيل إنه علة له من آحاد الجملة وإن كان علة لبعض منها لا يكون معلولا لغيره فهو خلاف الفرض
وهذه المحالات إنما لزمت من القول بعدم النهاية فهو محال كيف وكل علل ومعلولات قيل باستنادها إلى علة لا علة لها فالقول بكونها غير متناهية محال وجمع بين متناقضين وهو القول بأن ما من علة إلا ولها علة والقول بانتهاء العلل والمعلولات إلى علة لا علة لها
فإذا قد اتضح بما مهدنا امتناع كون العلل والمعلولات غير متناهية وإن القول بان لا نهاية لها محال
ثم قال : ولقائل أن يقول : إثبات الجملة لما لا يتناهى وإن كان غير مسلم لكن ما المانع من كون الجملة ممكنة الوجود ويكون ترجحها بترجح آحادها وترجح آحادها كل واحد بالآخر إلى غير النهاية على ما قيل
قال : وهذا إشكال مشكل وربما يكون عند غيري حله
قلت : فهذا استدلاله على واجب الوجود لم يذكر في كتبه غيره وأما حدوث العالم فأبطل طرق الناس وبناه على أن الجسم لا يخلو من الأعراض الحادثة إذ العرض لا يبقى زمانين واستدل على امتناع حوادث لا أول لها بعد ان أبطل وجوه غيره بالوجه الذي تقدم وتقدم ما فيه من الضعف الذي بينه الأرموي وغيره ثم إذا ثبت حدوث العالم فإنه لم يستدل بالحدوث على المحدث إلا بطريقة الذين بنوا ذلك على الإمكان وهو ان ذلك يتضمن التخصيص المفتقر إلى مخصص لأنه ترجيح لأحد طرفي الممكن فهو لا يستدل بالحدوث على المحدث إلا بناء على أن ذلك ممكن يفتقر إلى واجب ولا يجعل الممكن دالا على الواجب إلا بناء على نفي التسلسل والتسلسل قد أورد عليه السؤال الذي قال إنه لا جواب له عنه
وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها وبتقدير افتقاره إليها فأبطال التسلسل ممكن فتتم تلك المقدمات وذلك أن إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام كما تقدم بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغنى عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح فلا يحتاج أن يقرر ذلك بان الحدوث ممكن أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما
وهذه الطريقة يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك
من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم
وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإن كان الحد مطابقا للمحدود مطردا منعكسا يحصل به التمييز مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره لكون ذلك أظهر عنده فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي مثل من يكون من شانه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة فإذا كان الكلام طويلا مستغلقاها به وعظمة كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقا وهذا هو المقصود هنا وهؤلاء كثيرا ما يغلطون فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة
ولهذا لما بني الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل حصل ما حصل فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون وتركوا واحدا ظنا أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم ثم أنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد
ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور فقطعها كلها ولم يترك إلا واحد طويلا بعيدا ضعيفا ثم إنه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق ولم يبق لأحد طريق إلى العبور وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور ويشعر الناس أنه لا يمكن أحدا أن يعبر إلا بما يصنعه
أو مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور كل سور منه يحفظ المدينة فعمد المتولي فهدم تلك الأسوار كلها وترك سورا هو أضعفها وأطولها وأصعبها حفظا ثم إنه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو فلم يبق للمدينة سور يحفظها
فيقال إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدث وهذا يكفى فيه حدوث الإنسان نفسه أو حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدث لا بد من محدث وإذا قدر أنه أثبت الصانع بحدوث العالم لزم أن المحدث لا بد من محدث ثم إذا قدر أنه استدل بطريقة الإمكان إما ابتداء وإما مع طريقة الحدوث فالعلم بأن الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل