كتاب : صبح الأعشى في صناعة الإنشا
المؤلف : أحمد بن علي القلقشندي
ما وقع عليه حاسة البصر فأنا مقصدك الأعظم ومهمك المقدم طالما أحرقت القلاع بشعاعي وحصنت الجيوش بدفاعي وقمت بما لم يقم به الجيش العرمرم والعسكر الجرار وأغنيت مع انفرادي عن كثرة الأعوان ومعاضدة الأنصار
فقال علم الآلات الحربية وإن حدك لكليل وإن جداك لقيل وإن المستنصر بك لذليل وماذا عسى تصل في الإحراق إليه أو تسلط في الحروب عليه أنا باع الحرب المديد والمحصن من كل بأس شديد والتالي بلسان الصدق على الأعداء ( قل جاء الحق وما يبديء الباطل وما يعيد )
فأنا نفس المقصود وعين المراد وعمود الحق وقاعدة الجهاد
فقال علم الكيماء ما أنت والقتال ومواقعة الحروب وقوارع النزال وهل أنت إلا آلة من الآلات لا تستقل بنفسك في حالة من الحالات وأنى يغني السلاح عن الجبان مع خور الطباع أو يحتاج إليه البطل الصنديد والمجرب الشجاع فالعبرة بالمقاتل لا بالذوابل والعمدة على الرجال لا ببوارق السيوف عند النزال وبكل حال فالعمدة في الحروب وجمع العساكر على النقدين دون ما عداهما والاستناد إلى الذهب والفضة بخلاف ما سواهما وإلي هذا الحديث يساق وعلي فيه يعتمد وعني يؤخذ وإلي في مثله يستند أحاول بحسن التدبير ما طبخته الطبيعة على ممر الدهور فآتي بمثله في الزمن القريب وأجانس بين المعادن في ممازجتها فيظهر عنها كل معنى غريب وأبرز من خصائص الإكسير ما يقلب المريخ قمرا من غير لبس ويحيل الزهرة شمسا وناهيك بإحالة الزهرة إلى الشمس فصاحبي أبدا عزيز المنال شريف النفس عن الطلب عفيف اللسان عن السؤال
فقال علم الحساب المفتوح إنك وإن دفعت عنا وجلبت غنى فأموالك الجمة وحواصلك الضخمة محتاجة إلى حسابي غير غنية عن كتابي أنا جامع الأموال وضابط أصولها والمتكفل بحفظ جملتها وتفصيلها مع احتياج كثير من العلوم إلي في الضرب والقسمة والإسقاط
قد أخذت من علم الارتماطيقي الذي هو أصل علوم الحساب بجوانبه وتعلقت منه بأسهل طرقه وأقرب مذاهبه وناهيك بشرف قدري ورفعة ذكري قول أبي محمد الحريري في بعض مقاماته منبها على شرف قلمي وسني حالاته ولولا قلم الحساب لأودت ثمرة الاكتساب ولا تصل التغابن إلى يوم الحساب
فقال علم حساب التخت والميل مه فما أنت إلا علم العامة في الأسواق تدور بين الكافة على العموم وتتداول بينهم على الإطلاق تكاد أن تكون بديهيا حتى للأطفال وضروريا للنساء والعبيد في جميع الأحوال يتسع عليك مجال الضرب فتقصر عنه همتك المقصرة وتتشعب عليك مدارك القسمة فتأتي بها على التقريب غير محررة أين أنت من سعة باعي وامتداد ذراعي وتحرير أوضاعي لا يعتمد أهل الهيئة في مساحة الأفلاك والكواكب غير حقائق أموري ولا يعولون فيها على سعة فضائها إلا على صحاحي وكسوري
فقال علم حساب الخطأين مالي ولعلم لا يوصل إلى المقصود إلا بعد عمل طويل ويحتاج صاحبه مع زيادة العناء إلى استصحاب تخت وميل وقد قيل كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فجداه قاصر ونفعه قليل على أن غيرك يشاركك فيما أنت فيه ويوصل إلى مقصودك بطريق لا يدخله الغلط ولا يعتريه وإنما الشأن في استكشاف غامض أو إظهار غريب
ولا أعجب من أن تصيب إخراج المجهول من الأعداء بخطأين فيقال أتى بخطأين وهو مصيب
فقال علم الجبر والمقابلة حسبك فإنما أنت في استخراج المجهولات كنقطة من قطر أو نغبة من بحر تقتصر منها بطرقك القاصرة وأعمالك المناكبة على ما أمكن صيرورته من العدد في أربعة أعداد متناسبة نعم أنا أبو عذرتها وابن بجدتها وأخوت نجدتها أستخرج جميع المجهولات من مسائل المعاملات والوصايا والتركات وغير ذلك مما يجري هذا المجرى وينحو هذا النحو ويسري هذا المسرى مما يدخل تحت الأموال والجذور والأعداد المطلقة من الصحاح والكسور
فقال علم حساب الدرهم والدينار مالك ولا دعاء التعميم في استخراج المجهولات وكشفت الغوامض وإنما أنت قاصر على استعلام المجهولات العددية المعلومة العوارض دون ما تزيد عدته على المعادلات الجبرية فقد فاتك حينئذ الدعاوى الحصرية لكني أنا كاشف هذه الحقائق ومبين سبلها بألطف الطرائق فبي إليها يتوصل وعلى قواعدي لاستخراج مقاصدها يجمل ويفصل
فقال علم حساب الدور والوصايا إن استخراج المجهولات وإن عظم نفعا وحسن وضعا فأنا أعظم منه فائدة وأجل منه عائدة أبين مقدار ما يتعلق بالدور من الوصايا حتى يتضح لمن يتأمل وأقطع الدور فتعود المسألة من أظهر القضايا ولولا ذلك لدار أو تسلسل
فقال علم الفقه وهل أنت إلا نبذة من الوصايا التي هي بارقة من بوارقي تتعلق بأطنابي وتدخل سرادقي بي تتميز معالم الأحكام ويتبين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام ويتعرف ما يتقرب به إلى الله تعالى من العبادات وسائر أنواع التكاليف الشرعية العملية مما تدعو إليه الضرورات وتجري به العادات فأنا إمام العلوم الذي به يقتدي
وعميدها الذي عليه يعتمد ونجمها الذي به يهتدى فلولا إرشادي لضل سعي المكلفين ولأمسوا في ديجاء مدلهمة فأصبحوا عن ركائب الخير مخلفين
وناهيك أن من جملة أفرادي وآحاد أعدادي علم الفرائض الذي حض الشارع على تعلمه وتعليمه وأخبر بأنه نصف العلم منبها على تعظيم شأنه وتفخيمه وبالغ في إثبات قواعده وإحكام أسه فقال إن الله لم يكل قسمة مواريثكم إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل بل تولاها فقسمها بنفسه
فقال علم أصول الفقه إن مقالك لعال وإن جيدك لحال غير أني أنا المتكفل بتقرير أصولك وتوجيه المسائل الواقعة في خلال أبوابك وفصولك بي تعرف مطالب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها ومواد حججها واستخراجها بدقيق النظر وتحقيق مناطها فبأصولي فروعك مقررة وبمحاسن استدلالي حججك منقحة محررة قد مهدت طرقك حتى زال عنها الإلباس وبنيت على أعظم الأصول فروعك فاسندتها للكتاب والسنة والإجماع والقياس
فقال علم الجدل قد علمت أن الدليل لا يقوم برأسه ولا يستقل بنفسه بل لا بد في تقريره من النظر في معرفة كيفية الاستدلال والطريق الموصل إلى المطلوب على التفصيل والإجمال وأنا المتكفل بذلك والموصل بكشف حقائق البحث إلى هذه المدارك بي تعرف كيفية تقرير الحجج الشرعية وقوادح الأدلة وترتيب النكت الخلافية فموضوعك علي محمول ونظرك إلى نظري بكل حال موكول
فقال علم المنطق خفض عليك فهل أنت إلا نوع من قياساتي المنطقية أفردت بالتصنيف وخصصت بالمباحث الدينية فخالطت أصول الفقه في التأليف فأنت إذا فرد من أفرادي وواحد من أعدادي مع ما اشتمل عليه سواك من القياسات البرهانية القاطعة في المناظرات
والقياسات الخطابية والبلاغات النافعة في مخاطبات الجمهور على سبيل المخاصمات والمساورات كذلك حال القياسات الشعرية وكيف يستعمل التشبيه المفيد للتخيل الموجب للانفعالات النفسانية كالإغراء والتحذير والترغيب والترهيب والتعظيم والتحقير وغير ذلك من معرفة الألفاظ والمعاني المفردة من حيث هي عامة كلية وتركيب المعاني المفردة بالنسبة إلى الإيجابية والسلبية تعصم مراعاتي الفكر عن الخطإ فلا يزل وتهديه سواء السبيل فلا يحيد عن الصراط السوي ولا يضل وأسري في جميع المعقولات فأتصرف فيما يدق منها ويجل
فقال علم دراية الحديث قد علمت بما ثبتت به الأدلة بالتلويح والتصريح أنه لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح وحينئذ فلا بد من نص شرعي تعتمد عليه وتستند في مقدماتك إليه ولا أقوى حجة وأوضح محجة من كلام الرسول الذي لا ينطق عن الهوى إذا تكلم فإذا استندت إلى نصوصه واعتمدت عليه في عمومه وخصوصه فقد حسن منك المقدم والتالي وكانت مقدماتك في البحث أمضى من المرهفات ونتائجك أنفع من العوالي وقد تحققت أني إمام هذا المقام ومالك قياد هذا الزمام
فقال علم رواية الحديث لقد ذكرت من الصحيح المتفق عليه بما لا طعن فيه لمريب وتعلقت من كلام النبوة بأوثق سببت فأتيت بكل لفظ حسن ومعنى غريب إلا أن الدراية موقوفة على الرواية وكيف يقع نظر الناظر في حديث قبل وصوله إليه أو يتأتى العلم بمعناه قبل الوقوف عليه وهل يثبت فرع على غير أصل في مقتضى القياس أو يرقى من غير سلم أو يبنى على غير أساس فعلى المحدث تقديم العلم بالرواية بشرطها ومعرفة أوقواله بالسماع المتصل وتحريرها وضبطها
فقال علم التفسير قد تبين لدى العلماء بالشريعة أن حكم الكتاب والسنة واحد وإن اختلفت في الأسماء فلم تختلف في المقاصد إلا أنهما
وإن اتفقا في الدلالة والإرشاد فقد اختص الكتاب في النقل بالتواتر وجاء أكثر السنة بالآحاد
فقال علم القراآت إلا أنه لا ينبغي للمفسر أن يقدم على التفسير ما لم يكن بقراءة السبع والشاذ عالما وبلغاتها عارفا وللنظر في معانيها ملازما مع ما يلتحق بذلك من علم قوانين القراءة المتعلق من المصاحف بخطها والأشكال والعلامات المتكفلة بتحريرها وضبطها
فقال علم النواميس وهو العلم بمتعلقات النبوة إنك لفرع من فروع الكتاب المبين وما نزل به الروح الأمين عل قلب سيد المرسلين وإلى النظر في أحوال النبوة وحقيقتها ومسيس الحاجة إليها في بيان الشريعة وطريقتها والفرق بين النبوة الحقة والدعاوى الباطلة غير المحقة ومعرفة المعجزات المختصة بالأنبياء والرسل عليهم السلام والكرامات الصادرة عن الصديقين الأبرار والأولياء الكرام فأنا المقدم على سائر العلوم الشرعية وإمام الأصلية منها والفرعية
فقال العلم الإلهي لقد تحققت أن اللازم المحتم والواجب تقديمه على كل مقدم العلم بمعرفة الله تعالى والطريق الموصل إليها وأثبات صفاته المقدسة وما يجب لها ويستحيل عليها وأنه الواجب الوجود لذاته وباعث الرسل لإقامة الحجة على خلقه بمحكم آياته وأنا الزعيم بإقامة الأدلة على ذلك من المعقول والمنقول والمتكفل بتصحيح مقدماته البرهانية بتحرير المقدم والتالي والموضوع والمحمول
فقال علم أصول الدين فحينئذ قد فزت من جمعكما بالشرفين وجمع لي منكما الفضل بطرفيه فصرت بكما معلم الطرفين وميزت بين صحيح الاعتقاد وفاسده فكان لي منهما أحسن الاختيارين وبينت طريق الحق لسالكها فكنت سببا للفوز والنجاة في الدارين فانا المقصود للإنسان بالذات في كمال ذاته وكل علم يستمد مني في مباديه ويفتقر إلي في مقدماته
فقال علم التصوف لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا إذ كان كل امريء بما عمل مجازى وبما كسب رهينا إنه يجب على كل من كان بمعتقد الحق جازما أن يكون عن دار الغرور متجافيا ولأعمال البر ملازما فإنما الدنيا مزرعة للآخرة إن حصلت النجاة فتلك التجارة الرابحة وإن كانت الأخرى فتلك إذا كرة خاسرة فمن لزم طريقتي في الإعراض عن الدنيا والزهد فيها سلم ومن اغتر بزخرفها الفاني فقد خاب في القيامة وندم
فلما كثرت الدعاوى والمعارضات وتتابعت الحجج والمناقضات نهض علم السياسة قائما وقصد حسم مادة الجدال وطالما وقال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وسائسها الكافي وحاكمها المهذب لقد ذكر كل منكم من فضله ما يشوق السامع وأظهر من جليل قدره ما تنقطع دونه المطامع وأتى من واضح كلامه بما لا يحتاج في إثباته إلى دليل ظني ولا برهان قاطع غير أنه لا يليق بالمنصف أن يتخطى قدره المحدود ولا يتعدى جزءه المقسوم ولكل أحد حد يقف عنده وما منا إلا له مقام معلوم فلو سلك كل منكم سبيل المعدلة وأنصف من نفسه فوقف عند ما حد له لكان به أليق ولمقام العلم أرفق
فقال علم تدبير المنزل لقد تحريت الصواب ونطقت بالحكمة وفصل الخطاب لكنه لا بد لكم من حبر عالم وإمام حاكم يكون لشملكم جامعا ولمواقع الشك في محل التفاضل بينكم رافعا محيط من كل علم بمقصوده ومراده عارف بم تشمل عليه مباديه من حده وموضوعه وفائدته واستمداده ليبلغ به من الفضل منتهاه ويقف به من الشرف عند حد لا يتعداه فلا يدعي مدع بغير مستحق ولا يطالب طالب ما ليس له بحق إلا أن المحيط بكلكم علما والقائم بجميعكم فهما أعز من الجوهر الفرد
والكبريت الأحمر وأقل وجودا من بيض الأنوق بل بيض الأنوق في الوجدان أكثر
فقال علم الفراسة على الخبير سقطت وبابن بجدتها حططت أنا بذلكم زعيم وبمظنته عليم فللعلم عرف ينم على صاحبه وتلوح عليه بوارقه وإن أكنه بين جوانبه فحامل المسك لا تخفى ريحه على غير ذي زكام والنهار لا يخفي ضوءه على ذي بصر وإن تسترت شمسه بأذيال الغمام ولقد تصفحت وجوه العلماء الكملة الذين طواياهم على أجمل العلوم منطوية وعلى تفاصيلها مشتملة وسبرت وقسمت وتفرست وتوسمت فلم أجد من يليق لهذا المقام ويصلح لقطع الجدال والخصام ويعرف بلغة كل علم فيجيب بلسانه ويحكم فلا ينقض حكمنه غيره لانحطاطه عن بلوغ مكانه إلا البحر الزاخر والفاضل الذي لا يعلم لفضله أول ولا يدرك لمداه آخر حبر الأمة وعلامة الأئمة وناصر السنة وحاميها وقامع البدعة وقاميها نجل شيخ الإسلام وخلاصة غرر الأيام جلال الدين بقية المجتهدين أبو الفضل عبد الرحمن البلقيني الشافعي الناظر في الحكم العزيز بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية وما أضيف إلى ذلك من الوظائف الدينية لا زالت فواضل الفضائل معروفة فهو العالم الذي إذا قال لا يعارض والحاكم الذي إذا حكم لا يناقض والإمام الذي لا يتخلل اجتهاده خلل والمناظر الذي ما حاول قطع خصم إلا كان لسانه أمضى من السيف أذا يقال سبق السيف العذل
( إذا قال بذ القائلين ولم يدع ... لملتمس في القول جدا ولا هزلا )
إن تكلم في الفقه فكأنما بلسان الشافعي تكلم والربيع عنه يروي والمزني منه يتعلم أو خاض في أصول الفقه قال الغزالي هذا هو الإمام باتفاق وقطع السيف الآمدي بأنه المقدم في هذا الفن على الإطلاق أو جرى في التفسير قال الواحدي هذا هو العالم الأوحد وأعطاه ابن عطية صفقة يده بأن مثله في التفسير لا يوجد واعترف له صاحب الكشاف بالكشف عن الغوامض وقال الإمام فخر الدين هذه مفاتيح الغيب وأسرار التنزيل فارتفع الخلاف واندفع المعارض أو أخذ في القراءات والرسم أزرى بأبي عمرو الداني وعدا شأو الشاطبي في الرائية وتقدمه في حرز الأماني أو تحدث في الحديث شهد له السفيانان بعلو الرتبة في الرواية واعترف له ابن معين بالتبريز والتقدم في الدراية وهتف الخطيب البغدادي بذكره على المنابر وقال ابن الصلاح لمثل هذه الفوائد تتعين الرحلة وفي تحصيلها تنفد المحابر أو أبدى في أصول الدين نظرا تعلق منه أبو الحسن الأشعري بأوفى زمام وسد باب الكلام على المعتزلة حتى يقول عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء ليتنا لم نفتح بابا في الكلام أو دقق النظر في المنطق بهر الأبهري في مناظرته وكتب الكاتبي على نفسه وثيقة بالعجز عن مقاومته أو ألم بالجدل رمى الأرموي نفسه بين يديه وجعل العميدي عمدته في آداب البحث عليه أو بسط في اللغة لسانه اعترف له ابن سيده بالسيادة وأقر بالعجز لديه الجوهري وجلس ابن فارس بين يديه مجلس الاستفادة أو نحا إلى النحو والتصريف أربى فيه على سيبويه وصرف الكسائي له عزمه فسار من البعد إليه أو وضع أنموذجا في علوم البلاغة وقف عنده الجرجاني ولم يتعد حده ابن أبي الاصبع ولم يجاوز وضعه الرماني أو روى أشعار العرب أزرى بالأصمعي في حفظه وفاق
أبا عبيدة في كثرة روايته وغزير لفظه أو تعرض للعروض والقوافي استحقها على الخليل وقال الأخفش عنه أخذت المتدارك واعترف الجوهري بأنه ليس له في هذا الفن مثيل أو أصل في الطب أصلا قال ابن سينا هذا هو القانون المعتبر في الأصول وأقسم الرازي بمحيي الموتى إن بقراط لو سمعه لما صنف الفصول أو جنح إلى غيره من العلوم الطبيعية فكأنما طبع عليه أو جذب له ذلك العلم بزمام فانقاد إليه أو سلك في علوم الهندسة طريقا لقال أوقليدس هذا هو الخط المستقيم وأعرض ابن الهيثم عن حل الشكوك وولى وهو كظيم وحمد المؤتمن بن هود عدم إكمال كتابه الاستكمال وقال عرفت قدر نفسي وفوق كل ذي علم عليم أو عرج على علوم الهيئة لاعترف أبو الريحان البيروني أنه الأعجوبة النادرة وقال ابن أفلح هذا العالم قطب هذه الدائرة أو صرف إلى علم الحساب نظره لقال السموأل بن يحيى لقد أحيا هذا الفن الدارس ونادى ابن مجلي الموصلي قد انجلت عن هذا العلم غياهبه حتى لم يبق فيه عمه لعامه ولا غمة على ممارس
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل )
وكيف لا تلقي إليه العلوم مقاليدها وتصل به الفضائل أسانيدها وهو ابن شيخ الإسلام وإمامه وواحد الدهر وعلامه وجامع العلوم المنفرد ومن حقق وجوده في أواخر الأعصار أن الزمان لا يخلو من مجتهد ومن لم يزل موضوع الأوضاع المعتبرة عليه محمولا ومن كان على رأس المائة الثامنة مضاهيا لعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى فالخناصر عليه وعلى ولده تعقد ولا غرو إن قام منشدهما فأنشد
( إن المائة الأولى على رأسها أتى ... لها عمر الثاني لذا الدين صائنه )
( ووالى رجال بعد ذاك كمثله ... فها عمر وافى على رأس ثامنه )
( يظاهره نجل سعيد غدت به ... معاقل علم في ذرا الحق آمنه )
( إذا شيخ إسلام أضاء سراجه ... رأيت جلالا من سنا الفضل قارنه )
( فلا يعدم الإسلام جمع علاهما ... ولن يبرحا للدين دأبا ميامنه )
فقال علم الأخلاق أصبت سواء الثغرة وجئت بالرأي الأكمل وعرفت من أين تؤكل الكتف فطبقت المفصل بالمفصل إلا أن من محاسن الأخلاق ومعالم الإرفاق أن تعودوا بفضلكم وترجعوا بمعروفكم وبركم إلى من جرى بكم في التفاخر مجرى الإنصاف وبسط لسان كلمه بما اشتمل عليه كل منكم من جميل الأوصاف ثم كان من شأنه أن وصل بالاتفاق والالتئام حبلكم وجمع بالمحل الكريم بعد التباعد شملكم وذكركم بحسن المصافاة أصل الوداد القديم وتلا بلسان الألفة فيكم ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) بأن ينتصب كل منكم له شفيعا إلى هذا السيد الجليل ويكون له وسيلة إلى هذا الإمام الحفيل أن يصرف إليه وجه العناية وينظر إليه بعين الإقبال والرعاية ليعز في الناس جانبه ويطلع في أفق السعد بعد الأفول غار به ويبلغ من منتهى أمله ما له جهد ويسعد بالنظر السعيد جده فقد قيل من وقع عليه نظر السعيد سعد
على أنه أمتع الله الإسلام ببقائه وبقاء والده وجمع بينهما في دار الكرامة كما جمع لهما بين طارف المجد وتالده قد فتح له من الترقي أول باب ولا شك أن نظرة منه إليه بعد ذلك ترقيه إلى السحاب
( فأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه ... وأول الغيث قطر ثم ينسكب )
فقال علم التاريخ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وقروا عينا فإلى القصد الجليل وصلتم وعلى غاية الأمل ولله الحمد حصلتم فقد بلوت الأوائل والأواخر وخبرت حال المتقدم والمعاصر فلم أر فيمن مضى
وغبر وشاع ذكره واشتهر من ذوي المراتب العلية والمناصب السنية من يساوي هذا السيد الجليل فضلا أو يدانيه في المعروف قولا وفعلا قد لبس شرفا لا تطمع الأيام في خلعه ولا يتطلع الزمان إلى نزعه وانتهى إليه المجد فوقف وعرف الكرم مكانه فانحاز إليه وعطف وحلت الرأسة بفنائه فاستغنت به عن السوى وأناخت السادة بأفنائه فألقت عصاها واستقر به النوى فقصرت عنه خطا من يجاريه وضاق عنه باع من يناويه واجتمعت الألسن على تقريضه فمدح بكل لسان وتوافقت القلوب على حبه فكان له بكل قلب مكان
( ولم يخل من إحسانه لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريظه بطن دفتر )
فهو الحري بأن يكتب بأقلام الذهب جميل مناقبه وأن يرقم على صفحات الأيام حميد مطالبه فلا يذهب على ممر الزمان ذكرها ولا يزول على توالي الدهور فخرها
ولما تم للعلوم هذا الاجتماع الذي قارن السعد جلاله وتفجرت ينابيع الفضل خلاله أقبلوا بوجوههم على الشعر معاتبين وبما يلزمه من تقريض هذا الحبر ومدحه مطالبين وقالوا قد أتى النثر من مدحه بقدر طاقته وإن لم يوف بجليل قدره ورفيع مكانته فلا بد من أن تختم هذه الرسالة بأبيات بالمقام لائقة ولما نحن فيه من القضية الواقعة مطابقة قائمة من مدحه بالواجب سالكة من ذلك أحسن المسالك وأجمل المذاهب لتكمل هذه الرسالة نظما ونثرا وتفتن في صناعة الأدب خطابة وشعرا فقال سمعا وطاعة واستكانة وضراعة ثم لم يلبث أن قام عجلا وأنشد مرتجلا
( بشراكم معاشر العلوم أن ... جمعتم بصدر حبر كامل )
( فنونه لم تجتمع لعالم ... وفضله لم يكتمل لفاضل )
( يشفي الصدور إن غدا مناظرا ... وبحثه فزينة المحافل )
( كم عمرت دروسه من دارس ... وزينت بحليها من عاطل )
( ووأوضحت أقواله من مشكل ... لما أتى بأوضح الدلائل )
( وكم غدت آراؤه حميدة ... ونبهت بجدها من خامل )
( وحكمه فكم أقال عثرة ... وجوده ففوق قصد الآمل )
( هذا وقد فاق الورى رآسة ... محفوفة بألطف الشمائل )
( من ذا يروم أن ينال شأوه ... أنى له بأمثل الأماثل )
( مولى علا فوق السماك رتبة ... قد زينت بأفضل الفواضل )
( فما له في فضله من مشبه ... وما لبحر جوده من ساحل )
( حاشى لراج فضله أن ينثني ... صفر اليدين أو ممنى الآجل )
قلت ولم أر من تعرض للمفاخرة بين العلوم سوى القاضي الرشيد أبي الحسين بن الزبير في مقالته المقدم ذكرها على أنها لم تكن جارية على هذا النمط ولا مرتبة على هذا الترتيب مع الاقتصار فيها على علوم قليلة أشار إلى المفاضلة بينها على ما تقدم ذكره
ولكن الله تعالى قد هدى بفضله إلى وجوه الترجيح التي يرجح بها كل علم على خصمه ويفلج به على غيره والمنصف يعرف لذلك حقه
والذي أعانني على ذلك جلالة قدر من صنفت له وعلو رتبته واتساع فضله وكثرة علومه وتعداد فنونه إذ صفات الممدوح تهدي المادح وترشده
ومنها المفاخرة بين السيف والقلم وقد أكثر الناس منهما فمن عال وهابط وصاعد وساقط
وهذه رسالة في المفاخرة بين السيف والقلم أنشأتها للمقر الزيني أبي يزيد الدوادار الظاهري في شهور سنة أربع وتسعين وسبعمائة وسميتها حلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم وهي
الحمد لله الذي أعز السيف وشرف القلم وأفردهما برتب العلياء فقرن لهما بين المجد والكرم وساوى بينهما في القسمة فهذا للحكم وهذا للحكم
أحمده على أن جمع بخير أمير بعد التفرق شملهما ووصل بأعز مليك بعد التقاطع حبلهما وأرغب إليه بشكر يكاثر النجوم في عديدها ويكون للنعمة على ممر الزمان أبا يزيدها وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له شهادة يأتم الإخلاص بمذهبها ولا ينجو من سيفها إلا من أجاب داعيها وأقربها وأن محمدا عبده ورسوله الذي خص بأشرف المناقب وأفضل المآثر واستأثر بالسؤدد في الدارين فحاز أفخر المعالي ونال أعلى المفاخر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قامت بنصرتهم دولة الإسلام فسمت بهم على سائر الدول وكرعت في دماء الكفر سيوفهم فعادت بخلوق النصر لا بحمرة الخجل صلاة ينقضي دون انقضائها تعاقب الأيام وتكل ألسنة الأقلام عن وصفها ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام
وبعد فإنه ما تقارب اثنان في الرتبة إلا تحاسدا ولا اجتمعا في مقام رفعة إلا ازدحما على المجد وتواردا ورام كل منهما أن يكون هو الفائز بالقدح المعلى وأن يكون مفرقه هو المتوج وجيده هو المحلى وادعى كل منهما أن جواده هو السابق في حلبة السباق والفائز بقصب السبق بالاتفاق وأن نجمه هو الطالع الذي لا يأفل وسؤدده هو الحاكم الذي لا يعزل وأن المسك دون عبيره والبحر لا يجيء نقطة في غديره والدر لا يصلح له صدفا ونفيس الجوهر لا يعادله شرفا وأن منابر المعالي موقوفة على قدمه ومجامر المفاخر فائحة بنشر كرمه
ولما كان السيف والقلم قد تدانيا في المجد وتقاربا وأخذا بطرفي الشرف وتجاذبا إذ كانا قطبين تدور عليهما دوائر الكمال وسعدين يجتمعان في دائرة الاعتدال ونجمين يهديان إلى المعالي ومصباحين
يستضاء بهما في حنادس الليالي وقاعدتين تبنى الدول على أركانهما وشجرتين يجتنى العز من أغصائها جر كل منهما ثوب الخيلاء فخرا فمشى وتبختر وأسبل رداء العجب تيها فما تخبل ولا تعثر واتسع له المجال في الدعوى فجال وطاوعته يد المقال فقال وطال وتطرقت إليهما عقارب الشحناء ودبت وتوقدت بينهما نار المنافسة وشبت وأظهر كل منهما ما كان يخفيه فكتب وأملى وباح بما يكنه صدره والمؤمن لا يكون حبلى وبدأ القلم فتكلم ومضى في الكلام بصدق عزم فما توقف ولا تلعثم فقال
باسم الله تعالى أستفتح وبحمده أتيمن وأستنجح إذ من شأني الكتابة ومن فني الخطابة وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله تعالى فهو أجذم وكل كلام لا يفتتح بحمده فأساسه غير محكم ورداؤه غير معلم والعاقل من أتى الأمر من فصه وأخذ الحديث بنصه والحق أحق أن يتبع والباطل أجدر أن يترك فلا يصغى إليه ولا يستمع إني لأول مخلوق بالنص الثابت والحجة القاطعة والمستحق لفضل السبق من غير منازعة أقسم الله تعالى بي في كتابه وشرفني بالذكر في كلامه لرسوله وخطابه فقال جل من قائل ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) وقال جلت قدرته ( إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فكان لي من الفضل وافر القسمة وخصصت بكمال المعرفة فجمعت شوارد العلوم وكنت قيم الحكمة
فقال السيف بسم الله والله أكبر ( نصر من الله وفتح قريب )
لكل باغ مصرع وللصائل بالعدوان مهلك لا ينجو منه ولا ينجع وفاتح باب
الشر يغلق به وقادح زند الحرب يحرق بلهبه أقول بموجب استدلالك وأوجب الاعتراض عليك في مقالك
نعم أقسم الله تعالى بالقلم ولست بذلك وكان أول مخلوق ولست المعني بما هنالك إن ذلك لمعنى يكل فهمك عن إدراكه ويضل نجمك أن يسري في أفلاكه وأنت وإن ذكرت في التنزيل وتمسكت من الامتنان بك في قوله ( علم بالقلم ) بشبهة التفضيل فقد حرم الله تعالى تعلم خطك على رسوله وحرمك من مس أنامله الشريفة ما يؤسى على فوته ويسر بحصوله لكني قد نلت في هذه الرتبة أسنى المقاصد فشهدت معه من الوقائع ما لم تشاهد وحلاني من كفه شرفا لا يزول حليه أبدا وقمت بنصره في كل معترك وسل حنينا وسل بدرا وسل أحدا ذكر الله تعالى في القرآن الكريم جنسي الذي أنا نوعه الأكبر ونبه على ما فيه من المنافع التي هي من نفعك أعم وأشهر وما اجتمع فيه من عظيمي الشدة والباس فقال تقدست عظمته ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس )
على أنك لو اعتبرت جنسي القصب والحديد وعرفت الكليل منهما والجليد لتحققت تسلط الحديد عليك قطا وبريا وتحكمه فيك أمرا ونهيا
فقال القلم فررت من الشريعة وعدلها وعولت على الطبيعة وجهلها فافتخرت بحيفك وعدوانك واعتمدت في الفضل على تعديك وطغيانك فملت إلى الظلم الذي هو إليك أقرب وغلب عليك طبعك في الجور والطبع أغلب فلا فتنة إلا وأنت أساسها ولا غارة إلا وأنت رأسها ولا شر إلا وأنت فاتح بابه ولا حرب إلا وأنت واصل أسبابه تؤكد مواقع الجفاء وتكدر أوقات الصفاء وتؤثر القساوة وتؤثر العدواة أما أنا فالحق مذهبي والصدق مركبي والعدل شيمتي وحلية الفضل زينتي إن حكمت أقسطت وإن استحفظت حفظت وما فرطت لا أفشي سرا يريد صاحبه
كتمه ولا أكتم علما يبتغي متعلمه علمه مع عموم الحاجة إلي والافتقار إلى علمي والاكتساب مما لدي أدير في القرطاس كاسات خمري فأزري بالمزامير وأهزأ بالمزاهر وأنفث فيه سحر بياني فألعب بالألباب وأستجلب الخواطر وأنفذ جيوش سطوري على بعد فأهزم العساكر
( فلكم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
فقال السيف أطلت الغيبة وجئت بالخيبة وسكت ألفا ونطقت خلفا
( السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب )
إن نجادي لحلية للعواتق ومصاحبتي آمنة من البوائق ما تقلدني عاتق إلا بات عزيزا ولا توسدني ساعد إلا كنت له حرزا حريزا أمري المطاع وقولي المستمع ورأيي المصوب وحكمي المتبع لم أزل للنصر مفتاحا وللظلام مصباحا وللعز قائدا وللعداة ذائدا فأنى لك بمساجلتي ومقاومتي في الفخر ومنافرتي مع عري جسمك ونحافة بدنك وإسراع تلافك وقصر زمنك وبخس أثمانك على بعد وطنك وما أنت عليه من جري دمعك وضيق ذرعك وتفرق جمعك وقصر باعك وقلة أتباعك
فقال القلم مهلا أيها المساجل وعلى رسلك أيها المغالب والمناضل لقد أفحشت مقالا ونمقت محالا فغادرتك سبل الإصابة وخرجت عن جادة الإنابة وسؤت سمعا فأسأت جابة إني لمبارك الطلعة
وسميها شريف النفس كريمها آخذ بالفضائل من جميع جهاتها مستوف للممادح بسائر صفاتها فطائري ميمون وغولي مأمون وعطائي غير ممنون أصل وتقطع وأعطي وتمنع وتفرق وأجمع وإن ازدراءك بي من الكبر المنهي عنه وغضك عني من العجب المستعاذ منه ومن حقر شيئا قتله ومن استهان بفاضل فضله وإني وإن صغر جرمي فإني لكبير الفعال وإن نحف بدني فإني لشديد البأس عند النزال وإن عري جسمي فكم كسوت عاريا وإن جرى دمعي فكم أرويت ظاميا وإن ضاق ذرعي فإني بسعة المجال مشهور وإن قصر باعي فكم أطلقت أسيرا وأنا في سجن الدواة مأسور إذا امتطيت طرسي وتدرعت نقسي وتقلدت خمسي وجاشت على الأعداء نفسي
( رأيت جليلا شأنه وهو مرهف ... ضنى وسمينا خطبه وهو ناحل )
أنسيت إذ أنت في المعدن تراب تداس بالأقدام وتنسفك الرياح وتزري بك الأيام ثم صرت إلى القين تقعد لك السنادين بالمراصد وتدمغك المقامع وتسطو بك المبارد ثم لولا صقالك لأذهبك الجرب وأكلك الصدى مع قلة صبرك على المطر والندى
فقال السيف إنا لله لقد استأسدت الثعالب واستنسرت البغاث فعد العصفور نفسه من طير الواجب وجاء الغراب إلى البازي يهدده ورجع ابن آوى على الأسد يشرده فلو عرفت قدر نفسك ولزمت في السكينة طريق أبناء جنسك ووقفت عند ما حد لك وذكرت عجزك وكسلك لكان أجدر بك وأحمد لعاقبتك وأليق بأدبك
إن الملوك لتعدني لمهماتها وتستنجد بي في ملماتها وتتعالى في
نسبي وتتغالى في حسبي وتتنافس في قنيتي وتتحاسد وتجعلني عرضة لأيمانها فتتعاقد بالحلف علي وتتعاهد وتدخرني في خزائنها ادخار الأعلاق وتعدني أنفس ذخائرها على الإطلاق فتكللني الجواهر وتحليني العقود فأظهر في أحسن المظاهر أبرز للشجعان خدي الأسيل فأنسيهم الخدود ذوات السوالف وأزهو بقدي فأسلبهم هيف القدود مع لين المعاطف وأوهم الظمآن من قرب أن بأنهاري ماء يسيل وأخيل للمقرور من بعد أني جذوة نار فيطلبني على المدى الطويل ويخالني متوقع الغيث برقا لامعا ويظنني الجائز في الشرق نجما طالعا فالشمس من شعاعي في خجل والليل من ضوئي في وجل وما أسرعت في طلب ثأر إلا قيل فات ما ذبح وسبق السيف العذل
فقال القلم برق لمن لا عرفك وروج على غير الجوهري صدفك فما أنت من بزي ولا عطري ولست بمساو حدك القاطع بقلامة ظفري إن برقك لخلب وإن ريحك لأزيب وإن ماءك لجامد وإن نارك لخامد ومن ادعى ما ليس له فقد باء بالفجور ومن تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور
( ومن قال إن النجم أكبرها السهى ... بغير دليل كذبته ذكاء )
أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب وكريمها المبجل وعالمها المهذب يختلف حالي في الأفعال السنية باختلاف الأعراض وأمشي مع المقاصد الشريفة بحسب الأغراض وأتزيا بكل زي جميل فأنزل في كل حي وأسير في كل قبيل فتارة أرى إماما عالما وتارة لدر الكلام ناثرا وأخرى
لعقود الشعر ناظما وطورا تلفيني جوادا سابقا ومرة تجدني رمحا طاعنا وسهما راشقا وآونة تخالني نجما مشرقا وحينا تحسبني أفعوانا مطرقا قد فقت الشبابة في الطرب وبرزت عليها في كل معنى وإن جمع بيننا جنس القصب فكانت للأغاني وكنت للمعاني وجاءت بغريب النغم وجئت ببديع الحكم ولعبت بالأسماع طربا وولعت بالألباب فاتخذت لدهرها مما عراها عجبا
فقال السيف ذكرتني الطعن وكنت ناسيا وطلبت التكثر فازددت قلة وعدت خاسيا فكنت كطالب الصيد في عريسة الأسد إن لقيه أهلكه وخالفت النص فألقيت بيديك إلى التهلكة فاقنع من الغنيمة بالإياب وعد الهزيمة مع السلامة من أربح الأكساب فلست مممن يشق غباري ولا يقابل في الهيجاء ضرمي ولا يصطلي بناري فكم من بطل أبطلت حراكه وكم من شجاع عجلت هلاكه وكم صنديد أرقت دمه وكم ثابت الجأش زلزلت قدمه
وأراد القلم أن يأخذ في الكلام ويرجع إلى الجدال والخصال فغلب عليه رقة طبعه وحسن موارده وسلاسة قياده وجميل مقاصده فمال إلى الصلح وجنح إلى السلم وأعرض عن الجهل وتمسك بالحلم وأقبل على السيف بقلب صاف ولسان رطب غير جاف فقال قد طالت بيننا المجادلة وكثرت المراجعة والمقاولة مع ما بيننا من قرابة الشرف وأخذ كل منا من الفضل بطرف فنحن في الكرم شقيقان وفي المجد رفيقان لا يستقل أحدنا بنفسه ولا يأنس بغير صاحبه وإن كان من غير جنسه وقد حلبت الدهر أشطره وعلمت أصفاه وأكدره وقلبته ظهرا وبطنا وجبت فيافيه سهلا وحزنا وإن معاداة الرفيق ومباينة الشقيق توجب شماتة العدو وتغم الصديق فهل لك أن تعقد للصلح عقدا لا يتعدى حده ولا يحل على طول
الزمان عقده لنكون أبدا متآلفين وعلى السراء والضراء متصاحبين حتى لا يضرب بنديمي جذيمة مع اصطحابنا مثل ولا يتشبه بنا الفرقدان إلا باءا بالخطل
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
فقال السيف لقد رأيت صوابا ورفعت عن وجه المحجة نقابا وسريت أحسن مسرى وسرت أجمل سير وصحبك التوفيق فأشرت بالصلح والصلح خير
( وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا )
ثم قالا لا بد من حكم يكون الصلح على يديه وحاكم نرجع في ذلك إليه لنحظى بزيادة الشرف ونظفر من كمال الرفعة بغرف من فوقها غرف ولسنا بفائزين بطلبتنا وظافرين ببغيتنا إلا لدى السيد الأكمل والمالك الأفضل الماجد السري والبطل الكمي والبحر الخضم والغيث الأعم مولى المعالي ومولي النعم وممتطي جواد العز ورافع أعلام الكرم جامع أشتات الفضائل ومالك زمامها وضابط أمر الدولة الظاهرية وحافظ نظامها المقر الكريم العالي المولوي الزيني أبي يزيد الدوادار الظاهري ضاعف الله تعالى حسناته المتكاثرة وزاده رفعة في الدارين ليجمع له الارتقاء بين منازل الدنيا والآخرة فهو قطب المملكة الذي عليه تدور وفارسها الأروع وأسدها الهصور وبطلها السميدع وليثها
الشهير وأبو عذرتها حقا من غير نكر وابن بجدتها الساقطة منه على الخبير ومعقلها الأمنع وحرزها الحصين وعقدها الأنفس وجوهرها الثمين وتلادها العليم بأحوالها بمعرفة والجدير بمعرفة أقوالها وأفعالها وترجمانها المتكلم بلسانها وعالمها المتفنن في أفنانها وطبيبها العارف بطبها ومنجدها الكاشف لكربها
هذا وإنه لمالك أمرنا ورافع قدرنا والصائل منا بالحدين والجامع منا بين الضدين فلو لقيه فارس عبس لولى عابسا أو طرق حمى كليب لبات من حماه آيسا أو قارعه ربيعة بن مكدم لعلا بالسيف مفرقه أو نازله بسطام لبدد جمعه وفرقه كما أنه لو قرن خطه بنفيس الجوهر لعلاه قيمة أو قاسمه ابن مقلة في الكتابة لما رضي أن يكون قسيمه أو فاخره ابن هلال لرأى انه سبقه إلى كل كريمة
وبالجملة فعزه الظاهر وفضله الأكمل وسماكه الرامح وسماك غيره الأعزل فلا يسمح الزمان أن يأتي له بنظير ولا أراد مدع بلوغ شأوه إلا قيل اتئد فلقد حاولت الانتهاض بجناح كسير
( فحيهلا بالمكرمات وبالعلى ... وحيهلا بالفضل والسؤدد المحض )
فالحمد لله الذي جمعنا بأكرم محل وأفضل وأحسن مقام وأجمل فهلم إليه يعقد بيننا عقد الصلح ونبايعه على ملازمة الخدمة والنصح
ثم لم يلبثا أن كتبا بينهما كتابا بالصلح والمصافاة وتعاهدا على الود والموافاة وأعلن بعقد الصلح مناديهما وحدا بذكر التعاضد والتناصر حاديهما وراح ينشد
( حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحساد )
وزالت عنهما الأحقاد والإحن وباتا في أعز مكان وأشرف وطن وثلث قرانهما فأسعد ثم قام منشدهما فأنشد
( لا ينكر الصلح بين السيف والقلم ... فعاقد الصلح عالي القدر والهمم )
( أبو يزيد نظام الملك مالكنا ... وواصل العلم في علياه بالعلم )
( فهو المراد بما أبديه من مدح ... وغاية القصد من ترتيب ذا الكلم )
( وإن جرى مدح سيف أو علا قلم ... فذاك وصف لما قد حازم من كرم )
قلت وسبب إنشائي لهذه الرسالة أن الأمير أبا يزيد الموضوعة له تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان كان من جودة الخط وتحرير قواعده في الطبقة العليا وعظمت مكانته عند سلطانه الملك الظاهر برقوق وعلت رتبته حتى ولاه وظيفة الدوادارية بإمرة تقدمة ألف ولم يزل مقدما عنده حتى مات هو متوليها وأولاني عند عملها له من الصلة والبر المتوالي ما يقصر عنه الوصف ويكل عنه اللسان
الصنف الخامس من الرسائل الأسئلة والأجوبة وهي على ضربين
الضرب الأول الأسئلة الامتحانية
قد جرت عادة مشايخ الأدب وفضلاء الكتاب أنهم يكتبون إلى الأفاضل بالمسائل يسألون عنها إما على سبيل الاستفهام واستماحة ما عند المكتوب إليه في ذلك وأما على سبيل الامتحان والتعجيزثم تارة يجاب
عن تلك الأسئلة بأجوبة فتكتب وتارة لا يجاب عنها بحسب ما تقتضيه الحال
وهذه رسالة كتبها الشيخ جمال الدين بن نباتة المصري إلى الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي صاحب ديوان الإنشاء بالمملكة الشامية وقد بلغه أن بعض أهل الديوان نال منه وأن الشيخ شهاب الدين المذكور ناضل عنه ودافع فكتب إليه يشكره على ذلك ويسأل كتاب الديوان عن أسئلة بعضها يرجع إلى صنعة الإنشاء وأكثرها يرجع إلى فن التاريخ
وقد بينت بعضها ونبهت عليه في مواضعه في خلال هذا الكتاب هي
( لا يخرج الكره مني غير نائبة ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني )
الاستفتاح بلا تيمن ببركة الشهادة وهي ههنا مقراض يقطع من العيب المدة ويحسم المادة فحسم الله عن سيدنا الإمام العلامة القدوة شهاب الدين مكمل الآداب وملك الشعراء والكتاب شر كل عين حاسد ولو أنها عين الشمس وحماه عن مد ألسنة ذوي الاغتياب والارتياب من الهمج والهمس وهيأ له أسباب الخير حتى يكون يومه فيه مقصرا عن الغد زائدا على الأمس واستخدام له الأقدار حتى تكون فرائض تقبيل أنامله العشر عندهم كفرائض الخمس وجعل ما يرد عنه العين من العيب بعد شأنه عن المتناول وقاية عن اللمس حتى يكون المعني بقول القائل
( ولا عيب فيه غير أن علاءه ... إذا حددوه كان قد جاوز الحدا )
( ولا عيب أيضا في مآثر بيته ... سوى أنها تروى بألسنة الأعدا )
وحتى يؤمن عليه القائل
( ما كان أحوج ذا الكمال إلى ... عيب يوقيه من العين )
ويقبل من الآخر قوله
( شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد )
العبد يخدم بسلام ما روضة نقطها الجو بدر سحائبه وأفرغ عليها الأفق سفط كواكبه وامتد نوء الذراع لتدبيج سمائها وتأريج أرجائها وتخميش معاصم أنهارها المنشقة بأفنائها وصقال نسماتها السحرية ومغازلة عيونها السحرية وهوان الغالية بنفحاتها الشجرية تصرف دنانير أزهارها الصروف ويسل جدولها على الهموم السيوف وتجذب حمائمها القلوب بالأطواق ويتشفع دوحها إلى النواظر بالأوراق قد ترقرق في وجناتها ماء الشباب وغنى مطرب حمامها وعنتره في حك من الذباب وبحرها رونق السيف وفي قلب روضته الذباب
( فما كل أرض مثل أرض هي الحمى ... وما كل نبت مثل نبت هو البان )
يوما بأبهج منه أشواقا وأطيب منه انتشاقا واتساقا والطيبون للطيبات ولكل غيث نبات وما لذلك الغيث إلا هذا النبات
ونعود فنقول لا أدري أأتعجب
( على أنها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب )
من قوم هم ما هم شرب مناسب وطيب مكاسب قد أمكنتهم المعالي وطاوعتهم الأيام والليالي وخدمتهم جواري السعود وتطامنت لكل منهم مراقي الصعود كابر بسكون الجأش منحدر وكنت قد استجديت كلا منهم ولكن بالكلام واستسقيت ولكن قطرة من غمام الأقلام
( وأيسر ما يعطي الصديق صديقه ... من الهين الموجود أن يتكلما )
وليسعد النطق إن لم يسعد الحال فضن وظن ما ظن واستعطف بنسيم الكلام غصن يراعه فما عطف ولا حن وبخل بما رزقه الله فإن الفضيلة من الرزق وحرمني لذة ألفاظه فإنها التي إذا أدخلت في رق دخل حر البلاغة تحت ذلك الرق وهل هو البحر فكيف شح بمدة من مده والغيث و لا أقول إن الذي حبسه إلا ما قسمه الله تعالى من الحظ عند عبده
( وإذا الزمان جفاك وهو أبو الورى ... طرا فلا تعتب على أولاده )
فأعلى الله كلمة سيدنا العلامة في الدارين وشكر غني جود كرمه وكلمه الدارين فهو صاحب ديوانهم وحجة زمانهم فلقد وصفني بم يزيد على الجواب وشافهني من الشكر بما لا يتوارى من الرزق بحجاب وأمنني العز والزمان حرب ونصرني والأيام سيوف تتنوع من الضرب في كل ضرب وأعطاني كرمه والمحل محل وفي قلب الزمان ذحل ونحلني شهدة إحسانه والأوقات كإبر النحل حتى عذرني في حبه من كان من اللائمين واهتديت من لفظه وفضله بقمرين لا يميل أحدهما ولا يمين وصلت من جاهه وماله بيدين إلا أن كلتيهما في الإعراض يمين
( ويلومني في حب علوة نسوة ... جعل الإله خدودهن نعالها )
وحرس الله سيدنا شهاب زمانهم كما حرس به سماء ديوانهم فلقد أسمعنى من الشكر ما أربى على الأرب وجعلني كحاجب حين دخل على كسرى وهو واحد من العرب خرج وهو سيد العرب وهدتني أنواره وأنا أخبط من ليل القريحة في عشواء وجادت علي أنواؤه وناهيك بتلك الأنوار من الأنواء ورفعتني ألفاظه ولكن على السماك برغم حسودي العواء وهذه قصائده في تتدارسها ألسنة الأقلام وتكتب بأنقاس الليالي على صفحات الأيام من كل بيت هو بيت مال لا ينقصه الإنفاق ولولا التقى لقلت إنه البيت الذي أمر الله تعالى بحجه الرفاق من الآفاق فمتى أتفرغ لطلب مدحه وقد شغلني بمنحه ومتى أجاريه بامتداح وإنما مدحي له من فوائد مدحه
( وما هو إلا من نداه وإنما ... معاليه تمليني الذي أنا كاتبه )
أم أتعجب ممن ثنيت عنان الثناء إليه وجلوت عرائس المدائح عليه وعاديت في تنضيد أوصافه الكرى وأنضيت بالقلم له في نهار الطرس وليل النقس من السير والسرى ومدحته بملء في واجتهدت في وصفه وكان سواء على أن أجهدت في وصفه أو اجتهدت فجازاني مجازاة السنمار وأوقعني من عنت عتبه في النار وجعل محاسني التي أدلي بها ذنوبا فكيف يكون الاعتذار
( وكان كذئب السوء إذ قال مرة ... لعمروسة والذئب غرثان مرمل )
( أأنت التي من غير سوء شتمتنى ... فقالت متى ذا قال ذا عام أول )
( فقالت ولدت الآن بل رمت غدرة ... فدونك كلني لا هنالك مأكل )
وحل هذا المترجم وتحقيق هذا الظن المرجم أنه بلغني أن جماعة من الذين استفتيتهم استنباطا لفوائدهم والتقاطا لفرائدهم لا تكليفا لهم فيما لا يقوم به إلا الأقوى من الأقوام ولا يستنجد به في هذا الوقت إلا بأرباب صفحات السيوف لا أرباب قصبات الأقلام أرادوا الغض مني ونفي الإحسان عني وهيهات
( أنا أبو النجم وشعري شعري ... )
هأنا وبضاعتي وهذه يدي لا أني ألقيت بها إلى السلم ولكن لأعرض صناعتي
( هو الحمى ومغانيه مغانيه ... )
وإنهم اجتمعوا بالميدان على حديثي وذكروا قديمي وحديثي وتسابقوا في الغيبة أفراس رهان وأعجب كلا منهم أن يقول هذه الشقراء في يدي وهذا الميدان ولاموا وعذلوا وهموا بالسب وفعلوا واستطابوا لحم أخيهم فسلقوه بألسنة حداد وأكلوا حتى تعدى ذلك إلى من جاد علي بالجواب وفعله إما جزاء للمدح وإما للثواب
( فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امريء لم يشهد اليوم ناصره )
وما كان المليح أن يغري بي من سبق مدحه إلي ومن انتصر بعزه لنفسه فما انتصر لدي وهذا لعمري جهد من لا له جهد وما تخلو هذه الأفعال إما
أن تكون مجازاة على مدحهم فأين الكرام وفضلهم والمنصفون وعدلهم أو ظنا أني عرضت بهم فيمن عرضت فأين ذكاء الألباء وأين عقلهم وهل تظن السماء أن يدا تصل إليها والنجوم أن خلقا تحكم عليها والذهب محروس لا يصدا جرمه والجوهر معروف لا يجهل حكمه ومن الذي تحدثه نفسه أن يجحد الشمس فضلها الطائل أو يحسن له عقله أن يقول سحبان وائل كباقل فقلت أدركني ذلك اليوم ولما أمزق وأنجدني بكل لفظة هي أمضى من السهم وأرشق وأضوء من النجم وأشرق وما أعرف كيف صبري على هذا الحرب في صورة السلم وما أظنه أراد إلا أن يعلم قلبي الذي في يده الحكم كما علمه للقلم وحيث قضى الحديث ما قضى ومضى الوقت وما كان إلا سيفا في عرض العبد مضى
( فكرت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا )
فأنا أنشد الله تعالى هؤلاء السادة الغائبين أو القوم العاتبين هل يعرفون أن الذي عرضت به منهم قوم قد استولى عليهم العي بجريضه ونزل فيهم الجهاد بقضه وقضيضه وأصبح بابهم لهم كبستان بلا ثمار وديوانهم على رأي أبي العلاء كديوان أبي مهيار لا يحسن أحدهم في الكتابة غير العمامة المدرجة والعذبة المعوجة والعباءة الضيقة والأثواب المفرجة ويتناول السلم باليمين وكتابه إن شاء الله تعالى بالشمال ومشى هذا على هذا ولكن على الضلال لو سئل أحدهم عن البديع في الكتابة لم يعرف من السؤال غير الترديد وعن عبد الحميد لزاد في الفكر ونقص وعبد الحميد عبد الحميد والصاحب لقال إنه تبرقع بمجلسي و
الخوارزمي لقال سرج فرسي والفاضل لقال ها هو ذا ذيل ملبسي
فإن كان الأمر كذلك ففيم الملام والتفنيد
( علقوا اللحم للبزاة ... على ذروتي حضن )
( ثم لاموا البزاة أن ... قطعت نحوها الرسن )
( لو أرادوا صيانتي ... حجبوا وجهك الحسن )
والوجه الحسن ههنا وجه المنصب وحجابه عن شين تلك الآثار وتخميش تلك الألفاظ
وإن كان غير ذلك فما مثلي مع من ذكرني إلا قول القائل
( سافر بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا ... )
فقيل له بخلت الناس فقال كذبوني بواحد
وهأنا فلتكذبوني بواحد ممن عرضت وصحيح ممن أمرضت وليبرز إلى مضجعه وليكن على يقين من مصرعه ولا يترك شيئا من أدواته ولا يأتي إلا ومعه نادبته من حمائم همزاته
وأنا أقترح عليه من مسائل الكتابة بعض ما اقترحه الفضلاء ونبه عليه العلماء وإلا فما أنا أبو عذرته ومالك إمرته ولا يلوم إلا القائل
( من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الإمتحان )
فإنه الذي نبهني عليه وإن لم يكنن ساهيا وذكرني الطعن وما كنت ناسيا حتى رميته من هذه المسائل في مجاهل لا يهتدى فيها بغير الذهن الواقد واقتحمت به في بحار لا يعصم منها جبل الفكر الجامد على أنها فيما أغفلت كالثمد من البحار واللمحة من النهار ولولا الاختصار لأتيت منها بالجمع الجم فلنحمد الله والاختصار فأقول
من كتب في الورق واستنبطه ومن ختم الكتاب بالطين وربطه ومن غير طين الكتاب بالنشا وضبطه ومن قال أما بعد في كتابه ومن جعلها في الخطب وأسقطها في ابتدائه في المكاتبة وجوابه ومن كره الاستشهاد في مكاتبات الملوك بالأشعار وكيف تركها على ما فيها من الاثار ومن الذي أراد أن يكتب نثرا فجاء شعرا ومن وضع هذه الطرة في التقاليد واخترعها وما حجته إذ قدمها عل اسم الله ورفعها ومن الذي باعد بين السطور ووسعها وكيف ترك بالتعاظم في كتبه سنة رسول الله ولم يسعه من التواضع ما وسعها ومن استغنى بكتابة آية من كتاب الله عن الجواب ومن اكتفى ببيت من الشعر عما يحتاج من تطويله الكتاب ومن الذي عانى المترجمات ورتبها وأخفى ملطفات الجواسيس وغيبها ومن الذي سن البرد وبعثها في الملمات ومن حاكى شيئا من ملك سليمان فاستخدم الطيور في بعض المهمات وما أوجز مكاتبة كتب بها عن خليفة في معنى وما أبلغ جواب وأوجزه أجاب به عن خليفة من لا سمى لا كنى ولم أرخ بهجرة النبي وكيف لم يؤرخ بمولده أو غير ذلك من الأيام ومن الذي أمره الخليفة بكتابة معنى فارتج عليه الكلام ولقنه في المنام ومن الذي وصف برسالة طويلة شيئا لم يصفه بنثار ولا نظام وكيف جاز للكاتب أن يكتب آية من الكتاب في لفظة يحسبها من لا يحفظ أنها من عنده لا من حفظه مثل قوله مع الرسول ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقول الآخر في كتابه ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) وكثير من هذا وهل يؤخذ عليه في مثل ذلك ما أخذ على الحجاج في أسماء المستغيثين به من أهل السجن ( اخسؤوا فيها ولا تكلمون ) وما الفرق بينهما
وعلام يطول الكاتب باء البسمله ولا يثبت إلا قليلا واو الحسبله ولا يحمدل ولا يبسمل على ما ألف وكيف يعلم في بعض السجعات على الأسماء المقصورة بالياء والأصل فيها الألف وأسأله كيف يصف القراطيس والأقلام ويستدعيها والسكين والدواة ويستهديها وكيف يكتب ملك طلب منه عدو قطيعة عن جيشه يعطيها وكيف يكتب عن خليفة استسقى ولم يمطر وخليفة صارع فصرع كالمعتصم وكيف يعذر وما الذي يكتب في نار وقعت في حرم النبي وما الذي يكتب عن المهزوم إلى من هزمه في معنى ركونه إلى الإحجام وكيف يهني خليفة خلع فرجع وغرب عن السجن وطلع وأسره العدو ثم تخلص واستقام بعد ما نهضه الدهر بمرض أو تمرض فانتهض وكيف يهني من زوج بعد موت أبيه أمه ويعزي والدا قتل ولده وولدا قتل ولده ويصوب حكمه ويكتب عمن حاصر حصنا وتركه بعد تسهيل المسالك وكيف يكتب في نيل لم يوف لا أحوج الله لذلك ويعزي كافرا عن بعض الأعزاء الألزام وينشيء عهد يهودي بوزارة أمير المؤمنين عليه السلام ويكتب تقليدا لثلاثة أو أربعة من الحكام ويستنجد بأموال أو مساكين من عدو كافر على كافر ويبشر عدو بأخذ بلاده منه ويعتذر عن ملك أخذت شوانيه وحجزت عنه ويهني خصيا بزواجه ويعتذر عمن فر وترك ولده تحكم الظبا في أوداجه ويكتب لملك بنى مباني فاحترقت أو وقعت أو أجرى خيول رهان فسبقت خيله وانقطعت أو خرج لصيد فلم يجد ما يصاد أو لبرزة بندق احتفل فيها ولم يصرع شيئا من الواجب المعتاد أو ركب أول يوم من تملكه فتقطر به الجواد أو وضعت له أنثى فضلها بكلام على ما يرجوه من ذكور الأولاد
ومن ههنا أكف القلم عن شوطه وأرفع عنه ما وضعه اللسان من سوطه خوفا من الملال والصخب وكفى بالغرفة عن معرفة النهر
فإذا نشط هذا الكاتب من هذا العقال وتصرف في فنون هذا المقال وخرج من هذه الأسئلة خروج السيف من الصقال امتدت كف الثريا في هذا النسيان بمسح جبهته وجاء بجواب هذا النكث كما يقال برمته وأماط لثامها وشمر عن أزهارها أكمامها انقطعت الأطماع دون غايته وبسطت أيدي رسائل البلغاء لمبايعة رسالته بل أتته وحمل قلمه على أقلام فرسان الكلام سوداء رايته وبان هنالك ظلم العائب وحيفه فكان كمن سل لنحره سيفه وعذر على توالي التأنيب مؤنبه وكان يومئذ له الويل لا لمن يكذبه وامتاز هذا الفاضل بما تحدثه هذه الواقعة من الفخر وتجلبه
( فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب )
والمسؤول من إحسان سيدنا أن يسد الخلل كيف ما وجده ويصلح الخطأ والخطل كما عودته منه وكما عوده فإنه أمير هذه الصناعة ونحن الرعايا وشيخ الفصاحة ونحن الفقراء الذين كم وجدنا في زواياه منها خبايا وما هذه الرسالة إلا يد امتدت تسأل من الحلم ما يسعها وهذه السطور إلا حبائل تتصيد من عوائده ما ينفعها ويرفعها
( فأرخ عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدما علي عواري )
والله تعالى العالم أنها وردت عن قلب مذهول عن حسن الإيقان معدد عليه نوائب الدهر بأنامل الخفقان مرمي بسهام الأعادي في قسي الضلوع غائص في بحر الهم وكلما رمت أن يلقي إلي در الكلام ألقى در الدموع
( أبكي فتجري مهجتي في عبرتي ... وكأن ما أبكيته أبكاني )
لا يدع لي الفكر في قلة مصافاة الإخوان وقتا أستنبط فيه معنى ولا
يفسح لي التعجب من أبناء الزمان لنقصهم أن أصحح نقدا ولا وزنا أجنح لسلم الأيام فكأني لحربها جنحت وأقدح فكرتي في استعطاف الزمان فكأني فيه قد قدحت فلو قضى الله لي بالمنية من المنية لأرحت الزمان واسترحت
( فالأرض تعلم أنني متصرف ... من فوقها وكأنني من تحتها )
( ولا فرق فيما بيننا غير أننا ... بمس الأذى ندري ومن مات لا يدري )
ولا بد لي أن أطلق هذه الصناعة طلاقا قطعيا لا طلاقا رجعيا وأجاهرها جهارا حربيا لا جهارا عينيا وأضع صعدة حملها من أدب عن بدني وأتولى قوس داله مع سهم بائها فما أصبت غير كبدي كأنما القوس منها موضع الوتر و وقلت اذهبي يا صبوتي بسلام فماذا لقيت من آفاتها ومنيت به من الخوف في عرفاتها ومطرت لا من عوارض قطرها ولكن من عوارض مرجفاتها
( وإني رأيت الحب في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب )
ومع هذا الحديث لم أشك أن أحدا سينتقد على تشبيهي وطرقه قديمة في استفتاح المكاتبة واستنجاح المخاطبة ويقول تلك أمة قد خلت ودولة فاضلية أدبرت مثل ما أقبلت فكيف تبعها وترك طريقة فضلاء عصره وأبناء مصره فالجواب ما قاله القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله تعالى فما كان أسعد خاطره وأكثر ذهب لفظه وجواهره
( إني رأيت الشمس ثم رأيتها ... ماذا علي إذا عشقت الأحسنا )
وذكرت أن الاس عدره ونسيت أن الاس أفعلها
انتهت إلى هذا الموضع والديك قد نعى بعيد الظلام وبلغ عن
الصبح السلام والأزهار قد سلبته عينه فقام من كراه يصيح وميدان الغصون قد أصخب بمغنى الأطيار وشغب الريح ونسر السماء قد فر من الغداة وبازيها والنجوم قد حملت إلى ملحدها من الغرب على نعوش دياجيها والمجرة من الجوزاء عاطلة الخصر وخاقان الصبح قد حمل على نجاشي الظلام راية النصر
لا برح سيدنا معصوم الروية والارتجال مسجلا بشجاعة اليراعة والحرب سجال محمود المواقف والمساعي والنقس نقع والطروس مجال والسلام
الصنف السادس من الرسائل ما تكتب به الحوادث والماجريات
ويختلف الحال فيها باختلاف الوقائع فإذا وقعت للأديب ماجرية وأراد الكتابة بها إلى بعض إخوانه حكى له تلك الماجرية في كتابه مع تنميق الكلام في ذلك إما ابتداء وإما جوابا عند مصادفة ورود كتابه إذذاك إليهوهذه نسخة رسالة أنشأها الإمام قاضي قضاة المسلمين محيي الدين أبو الفضل يحيى ابن قاضي القضاة الإمام محيي الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن الحسين بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين ابن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد بن القاسم بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما ورد إلى القاهرة المحروسة في التاسع من جمادى الأولى من سنة تسع وعشرين وستمائة وتعرف برسالة النمس وهي
وردت رقعة سيدنا أسعده الله بتوفيقه وأوضح في اكتساب الخيرات
سبل طريقه فوقفت عليها وقوف السار بورودها المستسعد بوفودها المبتهل إلى الله في إبقاء مهجته التي يتشرف الوجود بوجودها
( وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه قد مازج اللحم والدما )
وفضضتها عن مثل النور تفتحه الصبا وبرود الرياض تساهمت في اكتساء وشيها الأهضاب والربا يكبو جواد البليغ في مضمار وصفها وينبو عضب لسانه عن مجاراتها في رصفها يخجل محيا النهار بياض طرسها ويود الليل لو نفضت عليه صبغة نقسها وتحسد الكواكب رائق معانيها وتتمنى لو أعيرت فضل إشراقها وتلاليها في كل فقرة روضة وكل معنى كأس مدام وكل ألف ساق وكل سين طرة غلام وكل واو عطفة صدغ وكل نون تقويس حاجب وكل لام مشقة عذار وكل صاد خطة شارب تصيب من سامعها أقصى ما يراد بالنفث في العقد وتستولي بلفظها على لبه استيلاء الجواد على الأمد
فلما اجتليت منها المعاني المسهبة في اللفظ الموجز وأجلت طرفي منها ما بين نزهة المطمئن وعقلة المستوفز وأسلمت قيادي إلى سحرها المحلل وإن جنى قتل العاشق المتحرز علمت أن سيدنا أجرى في حلبة السباق فحاز قصب سبقها وذللت له البلاغة فتوغل في شعابها وطرقها وحكمت يده في أعنة الفضائل فسلمت القوس إلى باريها ودرجات العلى إلى مستحقيها فمن وائل ومن سحبان ومن عبد الحميد وابن صوحان وأي خبر يقابل العيان ومن يقاوم ما هو كائن بما كان فسألت خاطري الجامد أن يعارض بوابله طلها وأن يقابل بجثمانه ظلها وأن يجاريها في حلبة المساجلة وإن دعي بالسكيت ولقد أسمعت لو ناديت حيا وكيف بنطق من ميت وأنى يطمع في مجاراة البحر ولات حين لعل أوليت فوجدته أصلد من
الصخرة مسا وألفيت باقلا لديه قسا فما كل من طرق قرى ولا من إذا خلق فرى وهذا المعهود من خاطري إذا كان جاما فكيف وقد نضب ماؤه وكدرت الحوادث بحر علمه والغير فمن دون أن تستخرج منه الدرر أن يلين لضرس الماضغ الحجر فبذل جهده لما شعبت الهموم سبله وتقنع بالخلق من لا جديد له
هذا مع واقعة وقعت له فأصبح متشتتا وثنى عنانه عن كل شيء إليها متلفتا وذلك أنه في بارحته استولى عليه القلق بسلطانه واستلبت يد الأرق كراه من بين أجفانه كأنه ساورته ضئيلة سمها ناقع أو مدت إليه خطاطيف حجن لها أيدي الخطوب نوازع
( إذا الليل ألبسني ثوبه ... تقلب فيه فتى موجع )
فتارة فكرته متوجهة نحو قلة حظه وآونة لايقع إلا على ما يقذفه طارف لحظه وإن يد الخمول قد استولت عليه وأزمة المطالب صرفت عنه وحقها أن تصرف إليه والسعادة شاردة عنه وما أجدرها أن تطيف ببابه وتستقر بين يديه
( لئن كان أدلى حابل فتعذرت ... عليه وكانت رادة فتخطت )
( لما تركته رغبة عن حباله ... ولكنها كانت لآخر خطت )
ولقد جهد في سلم الدهر وهو يحاربه وكيف توقى ظهر ما أنت راكبه فما شام بارقة أمل إلا أخفقت ورجع بخفي حنين وقرت أعين
أعاديه كلما سخنت منه العين فلقد أصبح أفرغ من حجام ساباط وإن كان أشغل من ذات النحيين
وكلما تأمل جده العاثر الناكص ونظر رزقه الناضب الناقص وقابله الدهر بالوجه العابس الكالح ومنى نفس عقبى يوم صالح ربع عليها فمن لي بالسانح بعد البارح وناجى نفسه بإعمال الركائب والاضطراب في المشارق والمغارب وأن يرى بالجود طلعة نائر وبالعرمس غرة آئب ويصل التهجير بالسرى ويبت من قيد الأوطان موثقات العرى وإن كسدت فضيلة من فضائله أو رثت وسيلة من وسائله اكتسب بأخرى من أخواتها ونفث في عقدها ومت بها وقال أنا ابن بجدتها فإلام وعلام وحتى متى أجاور من أنا فيهم أضيع من قمر الشتا وحالي أظهر من أن يقام عليه دليل وإذا ذل مولى المرء فهو ذليل
( وما أنا كالعير المقيم بأهله ... على القيد في بحبوحة الدار يرتع )
ثم استهول تقحم الإغوار والإنجاد واستفتح لقادح زناد الحظ
الإكداء والإصلاد وأقول أخطأ مستعجل أو كاد فأثوب مثاب من حلب الدهر أشطره وأخذ إذا ارتفع عن الدنية من حظه أيسره وبنى كما بنى سلفه وقرر ما قرره فأقول ارفض الدنية ولا تلو عليها فتكون أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها فالحرة تجوع ولا تأكل بثدييها
( ولسنا بأول من فاته ... على رفقه بعض ما يطلب )
( وقد يدرك الأمر غير الأريب ... وقد يصرع الحول القلب )
وتارة يخطر أن لو شكوت حالي إلى أصدقائي من ذوي الجاه وسألتهم بإلحاقي بهم في الابتغاء من فضل الله وأحضهم عل انتهاز فرصة الإحسان قبل الفوت وأضرب لهم أعن أخاك ولو بالصوت فليس على مثلي ممن يخيفه الدهر في ذلك من جناج وهل ينهض البازي بغير جناح ثم أرى أنهم لو فضل عنهم شيء لجادوا بل لو زويت الأرض لازدادوا ولو ملكوا ظل الله لأصبحت لديهم ضاحيا وما حالي بخاف عليهم وكفى برغائها مناديا وقبلي بغى علي ففاته وأدرك الجد السعيد معاويا وإلى كم أعلل تعليل الفطيم بالخضاب
( سئمت العيش حين رأيت دهري ... يكلفني التذلل للرجال )
وأخرى يسلي نفسه عن مصابها ومصائبها ويمنيها كر الأيام بتعاقبها ويقص عليها تقلب الليالي بالأمم الماضية في قوالبها وأنها ما قدمت لأحد سعادة إلا عقبتها بتغيير وما سقت صفو الأماني بشرا إلا شابت كأسه بتكدير
وأن سبيل كل أحد منها سبيل ذي الأعواد وقصاراي ولو اتخذت الأرض مسكنا وأهلها خولا سبيل رب القصر من سنداد ولو عمرت عمر نوح كنت كأني وآدم وقت الوفاة على ميعاد فإن شئت فارفع عصا التسيار أوضع فما هو إلا حارب بجد أودع
فبينا أنا أعوم في هذه الخواطر متفكرا وأقرع سن الندم على تقضي عمري في غير مآربي متحسرا وأتسلى بمصارع الأولين أخرى معتبرا ولو أنجزتني الأيام مواعيد عرقوب لأفضت بي إلى أحلى من ميراث العمة الرقوب ولقد تقاعس أملي حتى قنعت بحالي وشر ماألجأك إلى مخة عرقوب ثم يخاطبني حجاي بأن تثبت واصبر فالليل طويل وأنت مقمر فستبلغ بك الأسباب وينتهي بك إلى المقدور الكتاب فلا تعجل فجري المذكيات غلاب
فاستروحت إلى فتح باب كان مرتجا وارتدت باستجلاء محيا السماء من بعض همي فرجا وانتشقت من نسيم السحر ما وجدت به من ضيق فكري مخرجا ففتحته عن شباك كتخطيط الأوفاق أو كرقعة شطرنج وضعت بين الرفاق ألبس من صبغة الليل شعارا واتخذ لاستجلاء وجه الغزالة نهارا جلد على القيام والكد صبور على الحالين في الحر والبرد يحول
جثمان المرء عما واراه ويبيخ إنسان الطرف رعي حماه يديل من ظلمه الليل ضوء النهار وينم بما استودعته من الأسرار يشرف إلى غيضة قد التفت أشجارها وتهدلت ثمارها ورقصت أغصانها إذ غنت أطيارها واطردت بصافي الزلال أنهارها ونمت بعرف العنبر الشحري أزهارها وقد قامت عرائس النارنج على أرجلها تختال في حليها وحللها قد ألبست من أوراقها خلعا خضرا وحليت من ثمارها تبرا ونظم قداحها في جيادها لؤلؤا رطبا ورنحها نسيم السحر فمالت عجبا وقد مدت في أرضها من البنفسج مفارش سندس فروزت بالجداول كبساط أخضر سلت أيدي القيون عليه صقيلات المعاول وقد حدقت عيون الرقباء من النرجس قائمة عل ساق ولعبت بها يد النسيم فتمايلت كعناق المحبين عند الفراق فاجتليت محيا وسيما تتبلج أسرته ومنظرا جسيما تروق بهجته قد مد السماط بساطا أزرقا بزهر الكواكب مشرقا وطرزه بالشفق طرازا مذهبا وأبدى تحته للأصباح مفرقا أشيبا
( ورث قميص الليل حتى كأنه ... سليب بأنفاس الصبا متوشح )
( ورقع منه الذيل صبح كأنه ... وقد لاح شخص أشقر اللون أجلح )
( ولاحت بقيات النجوم كأنها ... على كبد الخضراء نور يفتح )
وجنح البدر للغروب فتداعت الكواكب تتبعه كوكبا فكوكبا فكأنه ملك اتخذ المجرة عليه مضربا وتوج بالثريا إكليلا وخنست الكواكب بين يديه توقيرا له وتبجيلا واصطفت حوله خدما وجنودا ونشرت من أشعتها ألوية وبنودا وأخذت مقاماتها في مراكزها كجيوش عبئت للقاء مناجزها ومسابقها أخذ فرصة النصر ومناهزها
( ولاح سهيل من بعيد كأنه ... شهاب ينحيه عن الريح قابس )
وانبرى نسيم السحر عليلا وجر على أعطاف الأزهار ذيلا بليلا وروى أحاديث الرياض بلسان نشره مذيعا لأسرار خزاماه وزهره وغردت خطباء الطير على منابر الأغصان واسنتبطت من قلوب المحبين دفائن الأشجان وحث داعي الفلاح طائفة التقى والصلاح على أن تؤدي فرضها ونفلها وترتقي بخضوعها بين يدي مولاها درجات السعادة التي كانت أحق بها وأهلها وهتف بشير النجح بمن أحيا ليلته لما تمزق قميص الليل وانفرى عند الصباح يحمد القوم السرى
فبينا أنا أتفكر في أن جملة ما عاينته سيصبح زائلا وعن تلك الصبغة العجيبة حائلا وأتدبر ( ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) إذ أهدت إلي الأيام إحدى طرفها وغرائبها وكبرى أوابدها وعجائبها فطرق سمعي من الشباك نبأة وتلتها وجبة تتبعها وثبة فاستعذت من كيد الشيطان المريد وقلت أسعد أم سعيد وإذا بنمس قد فارق وجاره إلى وجاري واختارني على الصحراء جارا فارتضيته لجواري فولج مستأنسا ومرح بين يدي آنسا وأراني أحد كتفيه في الاسترسال لينا والآخر بالتمنع شامسا فمد له الحرص على جوره حبائل مكره وشباكه ويد الغبش تحول دون قنصه وإمساكه وبقايا الظلام تقضي بتمنعه وتصد عن جعله من الوثاق في موضعه وأنا ملازمه ملازمة المعسر لرب الدين حتى يتبين الصبح لذي عينين
فلما خشيت على صلاتي الفوت عدلت إلى تأدية فرضها وتوجيهها بين يدي موجبها وعرضها فلما انفتلت من مصلاي وانصرفت عن مناجاة مولاي برقت لي بارقة خيل إلي أنها - صاعقة فقلت أذر قرن الغزالة وإلا فلات حين
ذبالة فقيل إن الغلام نظر إليه شزرا وهز له المهند فشق له من الظلماء فجرا وأبدى له وجها مكفهرا ورام أن يمطيه من المنية مركبا وعرا كأنه قد لاقى أسدا هزبرا وأترع له كأس الحمام بالوافي ورماه بثالثة الأثافي فعطفت عليه باللائمة منكرا لجهله وهتفت به زاجرا عن قبح فعله ثم عذرته ومن لك بأخيك كله وقلت له ماذا تراك تصنع لو لاقيت أسدا أغلبا لقد خلت أنك ترتد وإن كنت وليدا أشيبا أمن هذا بادرت إلى السيف مخترطا إنك لأجبن من المنزوف ضرطا لقد أظهرت من الفشل ما جاوز قدر الحد ووضعت المزاح في محل الجد وقابلت الأسهل بالأشد فسحا لك وبعدا لقد قدح مرجيك بعدها زنادا صلدا واستنبع الماء جلمدا جلدا
فصوب طرفه في وهتف مناديا وأظهر وفاء أزرى بالسموءل بن عاديا أنج هربا ولا إخالك ناجيا إني رميت من الخطوب بأصعبها ولا ينبئك بالحروب كمجربها والغاص باللقمة أخبر بها فلقد أوطأني ما لا أستقيل منه العثرة وما لاقيت في حرب كهذه المرة والعوان لا تعلم الخمرة لقد صرح لي بالشر ولم يجمجم وكشر عن أنيابه غير متبسم وحسبك من شر سماعه واست البائن أعلم تالله إنه لأجرأ من خاصي الأسد ولئن سبرته لتعلمن ما بين الذئب والنقد ولقد رضيت نفسي من الغنيمة أن تؤوب بذمائها لما تشبث بخنصري فخضبها بدمائها
فقلت أجفل عن جنابك الخير وأجلى أضرطا وأنت الأعلى ثم تضاحكت إليه لما شاهدت استعباره وأويت له إذ رأيت استكثاره الخطب واستكباره وقلت من ضاف الأسد قراه أظفاره ومن حرك الدهر أراه اقتداره وعدلت إلى الذلول الشامس المستأسد المستأنس ومددت يدي إليه فانقاد لها طائعا وخضع لإجابة دعوتي سامعا
فلما حازه في القبضة الإسار وبطل الإقلال من ذلك اللفظ والإكثار وقد كان أعز من الأبلق العقوق وأبعد من بيض الأنوق استجليت صورته متأملا إذ لم يبق له سوى قبضتي موئلا فرأيت هامة فحمة وجثة ضخمة وشدقا أهرتا رحبا ذا مرة على اختلاف الحوادث صعبا وأنيابا محددة عصلا كالنصال وطرفا مخالسا غير غر بالمكر والختال كأنه شهاب يتوقد أو شعلة نار لم تخمد وسامعتين تتوجسان ما دار في الأوهام وتدركان ما يناجي به المرء نفسه ولو في الأحلام قد نيطت بعنق صغرت هامته بالنسبة إليه إن استدبرته قلت هو مشرف عليها أو استقبلته قلت هي مشرفة عليه يشتمل على نحر خصيب وصدر رحيب فيه نزعتا بياض كهلالين قرنا في نسق يشتمل على أو نجمي ذؤابة ظهرا في غسق تسر نفس الناظر إليها ويعقد خنصر الاختيار في حسن الشيات عليها اتصل ذلك بمنكب عتيد وساعد شديد وبرثن شثن ومخلب حديد
( ذوات أشاف ركبت في أكفها ... نوافذ في صم الصخور نواشب )
( معقفة الترهيف عوج كأنها ... تعقرب أصداغ الحسان الكواعب )
قد جاور جؤجؤا نهدا وقابل كاهلا ممتدا يكاد خصره ينعقد
اضمطار وهمته تتسعر نارا برجلين تسبق في الحضر يديه وتقد بأظفارها أذنيه وذنب كالرداء المسبل يجره اختيالا ومرحا ويتيه عجبا وفرحا إن انساب قلت انساب أفعوان أو صال قلت أسد خفان أو وثب سبق الوهم في انحطاطه أو طلب أدرك البرق من نشاطه أو طلب فات الطرف في انخراطه أنعم مسا من أرنب وأزهى من ثعلب قد كساه الظلام خلعته وقبل الصباح طلعته حاز من القندس صقاله وبهجته ومن الفنك لينه ونعمته ألبس رداء الشباب ونزه عن تزوير الخضاب إن اختلس فما تأبط شرا أو خاتل أزرى بالشنفرى مكرا أحد نفسا من عمرو بن معدي لا يصلد قادح زناد بطشه ولا يكدي أنزق من أبي عباد وأصول من عنترة بن شداد أفتك من الحارث بن ظالم وأنهر فصدا للدم من حاتم لا يلين ولا يشكو إلى ذي تصميت كأنه كوكب في إثر عفريت يكاد عند المخاتلة في انسيابه يفوت الخاطر أو يخرج من إهابه إن قارن طيرا أباحه منسرا كمنسر الأسد أغلب فيه شغا كأنه عقد ثمانين في العدد فينشده ألا عم صباحا أيها الطلل البالي فلا يحس له بعين ولا أثر سجيس الليالي فكأن قلوبها رطبا ويابسا لدى وكره العناب والحشف البالي اعتاد قنص السانح والبارح فما فات ورد المنية منه غاد ولا رائح طويل القرا مدمج
الأعظم له مخاتلة سرحان وهجمة ضيغم أحن من نقبة وأظلم من حية أطيش من فراشة وأسبق إلى الغايات من عكاشة أخطف من عقاب وأشجع من ساكن غاب أسرق من جرذ وأنوم من فهد وألين من عهن وأخشن من قد بأسه قضاء على الطير منزل وبطشه ملك بآجالها مرسل
فلما تأملت خلقه وسبرت بتجربة الفراسة خلقه عجلت له جريرا مستحصد المرة لوثاقه وأحكمت شده في محل خناقه وقلت له إني مجربك سحابة هذا النهار ومن سلك الجدد أمن من العثار فعل ذي خبرة بمكره وعلى ثقة من غدره فإن اللئيم ذو صولة بعد الخضوع وفضح التطبع شيمة المطبوع وكيف الثقة به وإن استقر ولم ينبس وأنى الطمأنينة إليه وهو الأزرق المتلمس
ثم انصرفت إلى البلد لبعض شاني والاجتماع بأخلائي وأخداني واستغرقت أديم النهار فيما توجهت له وقطعت عمر يوم ما كان أطوله
فلما قضيت نهمتي من نجعتي وحانت مع وجوب الشمس رجعتي ألفيته عمد إلى الوثاق فقرضه ووفاه بالكيل الوافي ما اقترضه وصال على شيخة نستسعد بدعائها ونفزع إن دهمنا هم قبل نداء أولي البطش إلى ندائها ذات خلق عظيم ومنطق رخيم وقلب رحيم ووجه ذي نضرة ونعيم إن قامت أحيت الليل بالسهر أو قرأت رأيتنا حولها زمرا بعد زمر إن حادثتها نطقت بالسحر محللا أو تاركتها رأت الصمت على كثير من النطق مفضلا تسر نفسك في حالة الصخب وتريك وجه الرضا في صورة الغضب فمد إليها يد العدوان وأطاع بأذاها أمرها الشيطان ولم يرقب فيها
إلا ولا ذمة وحملها فحملنا من أذاها غمة ومزق قشيب أثوابها وحكم مخالبه الحديدة في إهابها فعظم مصاب من حوت داري بمصابها
فلما وصلت رأيتها باكية ذات قلب مريض وجناح مهيض فسليتها بأن المصائب تلقاها الأبرار وترفقت بها إلى أن رقأت تلك الأدمع الغزار وأوردت إن جرح العجماء جبار وقلت إيها لك وآها لقد ارتكبت خطة ما أليقها بعذرك وأولاها فلقد أنصف القارة من راماها ثم آليت ألية برة لأوطئنه من الوثاق جمرة ولأقتصن بهذه المرة تلك المرة وأتيته بسلسلة تنبو أنيابه عن عجمها ولا تثبت شياطين مكره برجمها قد أبدع قينها الصنعة بإحكامها وأتى بالعجب في نظامها فلله هو ممن تحكم فيما يقطع الجلمد فجعله من اللطافة يحل ويعقد فاستودعت عنقه منها أمينا لا يخفر وثيق ذمته ولا تتطرق الأوهام إلى تهمته مستحكم القوة في الشد فتغيظ تغيظ الأسير على القد ونظر إلي بطرف حديد وتذلل بعد بأس شديد وبصبص بذنبه فقلت أمكرا وأنت في الحديد
فلما أيس من الخلاص تلوت ( ولات حين مناص )
فلما تم ما ذكرته وأبدأته وأعدته وردت رقعة سيدنا على عقابيل هذه الوقعة التي وقعت وصدت عن الجواب ومنعت واقتضى بي الحال كتب هذه الخرافة وإن تشبثت بأذيال الجد فأخرجتها مخرج الهزؤ وإن دلت على حوز قصبات المجد ليعلم أن في الزوايا خبايا وإذا صح أن الأصول عليها تنبت الشجر فأنا ابن جلا وطلاع الثنايا
هذا وإن أبقى قراع الخطوب في حدي فلولا فالفحل يحمي شوله معقولا ولقد تجمعت الخطوب علي من كل وجهة وأوب وطرقت الرزايا جنابي من كل صوب وجريت مع الخطوب كفرسي الرهان وما هممت بمقصد إلا سقط بين العشاء عل سرحان وبكل حبل يختنق الشقي ولعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي والجلد يرى عواقب الأمور فيحمد عند النجاح عقبى السير ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير )
( تجوز المصيبات الفتى وهو عاجز ... ويلعب صرف الدهر بالحازم الجلد )
فسطرت هذه الأحرف إلى سيدنا ليوافق خبري عند أصحابه خبره ومن يشتري سيفي وهذا أثره واعلم أنها سيضرب بها في بابها المثل وقد أوردها سعد وسعد مشتمل
وهذه رسالة في الشكر على نزول الغيث من إنشاء أبي عبد الله
محمد بن أبي الخصال الغافقي الأندلسي نقلتها من خط الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري المصري وهي
الحمد لله الذي لا يكشف السوء سواه ولا يدعو المضطر إلا إياه ننزل فقرنا بغناه ونعوذ من سخطه برضاه ونستغفره من ذنوبنا ( ومن يغفر الذنوب إلا الله )
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها علا فاقتدر وأورد عباده وأصدر وبسط الرزق وقدر وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي بشر وأنذر ورغب وحذر وغلب البشرى على الإقناط ودل على الصراط وأشار إلى الساعة بالأشراط ولم يأل أمته في الذب والاحتياط صلى الله عليه وعلى الوزراء الخلفا والبررة الأتقيا والأشداء الرحما والأصحاب الزعما صلاة تملأ ما بين الأرض والسما وتوافيهم في كل الأوقات والآنا وتضع الثناء موضع الثنا
ولما لقحت حرب الجدب عن حيال وأشفق رب الصريحة والعيال وتنادى الجيران للتفرق والزيال وتناوحت في الهبوب ريحها الجنوب والشمال وتراوحت على القلوب راحتا اليمين والشمال وأحضرت
أنفس الأغنياء الشح وودوا أن لا تنشأ مزنة ولا تسح وتوهم خازن البر أن صاعه يعدل صاع الدر وخفت الأزواد وماجت الأرض والتقت الرواد وانتزعت العازب القصي فألقت العصي وصدرت بحسراتها وقد أسلمت حزراتها وأصبحت كل قنة فدعاء وهضبة درعاء صفاه وهنا ونقبا وهنا والصبح في كل أفق قطر أو قطع والأرض كلها سيف ونطع والشعر يشمر ذيله للنفاق ويضمر خيله للسباق وجاء الجد وراح الهزل وقلنا هذه الشدة هذا الأزل وللمرجفين في المدينة عجاجة ظنوها لا تلبد وقسي نحو الغيوب تعطف وتلبد فما يسقط السائل منهم إلا على ناب يحرق وشهاب يبرق حتى إذا عقدوا الأيمان وأخذوا بزعمهم الأمان وقالوا لا يطمع في الغيث وزحل في الليث فإذا فارق الأسد لكد ما أفسد
( تخرصا وأحاديثا ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب )
أنشأ الله العنان وقال له كن فكان فبينما النجوم دراريها الأعلام وأغفالها التي لا تحمد عندهم ولا تلام قد اختلط مرعاها بالهمل ولم تدر السدة بالحمل ولا علم الجدي بالرئبال ولا أحس الثور بالرامي ذي الشمال إذ غشيتها ظلل الغمام وحجبتها أستار كأجنحة الحمام وأخذت عليها في الطروق مصادر الغروب والشروق فما منها إلا مقنع بنصيف أو مزمل في نجاد خصيف لم تترك له عين تطرف ولا ثقبة يطلع منها أو يشرف فباتت بين دور متداركة السقوط ودرر متناثرة السموط وديم منحلة الخيوط وجيوش منصورة الأعلام ثابتة الأقدام وكتائب
صادقة الهجوم صائبة الرجوم تطلب المحل ما بين التخوم والنجوم وما زالت ترميه بأحجاره وتحترشه في أجحاره وتغزوه في عقر داره حتى عفت على آثاره وأخذت للحزن والسهل بثاره
فيا أيها المؤمن بالكواكب انظر إلى الديم السواكب واسبح في لجج سيولها وارتح في ممر ذيولها وسبح باسم ربك العظيم الذي قذف بالحق على الباطل وأعاد الحلي إلى العاطل فبرود الظواهر مخضرة وثغور الأزاهر مفترة ومسرات النفوس منتشرة والدنيا ضاحكة مستبشرة وأرواح الأدواح حاملة وأعطاف الأغصان مائلة وأوراق الأوراق تفصل وأجنحة الظلال تراش وتوصل وخطباء الطير تروي وتخبر وشيوخ المحارب تهلل وتكبر وإن من شيء إلا يخضع لجبروته ويشهد لملكوته وتلوح الحكمة ما بين منطقه وسكوته
فأما الخطاطيف فقد سبق هاديها ونطق شاديها وتراجع شكرا لله ناديها فعش يرم ولبنة إلى أخرى تزم وشعث يلم وبدأة توفى وتتم وكأنها حنت نحو المشاهد وسابقت اللقالق إلى المعاهد فظلت اللقالق بعدها نزاعا وسقطت على آطامها أوزاعا وأجدت إقطاعا وأجابت من الخصب أمرا مطاعا وحازت من الحدائق والبساتين إقطاعا وسيغرد في روضته المكاء ويضحكه هذا الوابل البكاء وترومه فلا تلحظه ذكاء تحته من الأفنان الناعمة قلاص وأحصنته من الخضراء التبعية دلاص فالويل لأهل الأقوال المنكرات والنيل لأهل الثناء والخيرات والمرعى والسعدان وأرض بكواكب النور تزدان وبقاع تدين الغيث كما تدان أذكرها فذكرت وسكرت من أخلاقه فشكرت وعرفها ما أنكرت كأنما
أعداؤها من أم خ ارجة نسب أن ملح قالت لها خطب فقال نكح فمثلت الأزهار بسبيله ونبتت في مسيله وثبتت كاللحظة في شطي خميله
فمن نرجس ترنو الرواني بأحداقه وتستعير الشمس بهجة إشراقه ويود المسك نفحة انتشاقه يحسد السندس خضرة ساقه ويتمناه الحمام بدلا من أطواقه كحلة ندى تترقرق أو غصن بان لا يزال يورق
ومن عرار تغنى مطالعة على عرار وكلفت به السواري والغوادي كلف عمرو بعرار فجاء كسوالف الغيد ترف وكوميض الثغور يعبق ويشف
ومن أقحوان جرى عل الثنايا الغر وسبك من ناصع الدر يقبله النسيم فيعبق ويصبح الجو بما [ . . . ] ويغبق ويستقبله ناظر الشمس فيشرق
ومن بنفسج كأطواق الورق أو كاليواقيت الزرق تشرف بأبدع الخلق وتألف من الغسق والخلق تلحظه من بين أوراقه نواظر دعج بالأجفان وقيت وبدموع الكحل سقيت نسيمه ألين من الحرير ونفسه أعطر من العبير يفاخر به كانون البرد مفاخرة نيسان بالورد
وكل ربوة قد أخذت زخرفها وازينت وبينت من آيات الله ما بينت كما تتوج في إيوانه كسرى واستقبلته وفوده تترى وانقلبت عن حسن ناديه النواظر حسرى وكل تلعة مذانب نصولها تسل ومضارب فصولها لا تثنى وأراقم تنساب ولجين يدأب ويذاب على حافاتها نجوم من النور مشتبكة وجيوب عن لبات الغواني منتهكة فلو افتتحت الظهور والبطون
ونطقت السهول والحزون لقالت ( قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون )
فشكرا لربنا شكرا وسحقا للذين بدلوا نعمة الله كفرا اللهم باريء النسم وداريء القسم وناشر الرحمة والنعم ومنزل الديم وباعث الرمم ومحيي الأمم فإنا نؤمن بقدرك خيره وشره ونطوي غيثك على غره ولا نتعرض لنشره حتى تأذن بنشره ونعتقد ربوبيتك كل الاعتقاد ونبرأ إليك من أهل المروق والإلحاد ونستزيدك من مصالح العباد ومنافع البلاد رزقنا لديك ونواصينا بيديك وتوكلنا عليك وتوجهنا إليك ولا نشرك بك في غيبك أحدا ولا يجد عبد من دونك ملتحدا تباركت وتعاليت وأمت الحي وأحييت الميت لا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت فاكفنا فيمن كفيت وتولنا فيمن توليت إنك تقضي ولا يقضى عليك وتقرأ ( ألم ترأن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ) الآية
وهذه نسخة رسالة كتب بها الصاحب فخر الدين عبد الرحمن بن مكانس تغمده الله برحمته إلى الشيخ بدر الدين البشتكي عندما زاد النيل الزيادة المفرطة سنة أربع وثمانين وسبعمائة وهي
ربنا اجعلنا في هذا الطوفان من الآمنين وسلام على نوح في العالمين
ما تأخير مولانا بحر العلم وشيخه عن رؤية هذا الما وما قعاده عن زرقة هذا النيل الذي جعل الناس فيه بالتوبة كالملائكة لما غدا هو أيضا كالسما وكيف لم ير هذا الطوفان الذي استحال للزيادة فما أشبه زيادته بالظما فهي كالزيادة الأصابع الدالة في الكف على نقصه وأولى أن ننشد بيت المثل بنصه
( طفح السرور علي حتى إنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني )
فإنه قارب أن يمتزج بنهر المجرة بل وصل وامتزج وأرانا من عجائبه ما حقق أنه المعني بقول القائل حدث عن البحر ولا حرج وتجاوز في عشر الثلاثين الحد وأرانا بالمعاينة في كل ساحل منه ما سمعناه عن الجزر والمد وأساء في دفعه فلم يدفع بالتي هي أحسن وأقعد الماشي عن التسبب والحركة حتى شكا إلى الله في الحالين جور الزمن وسقى الناس من ماء حياته المعهودة كما شربوا من الموت أصعب كاس وسئل ابن أبي الرداد عن قياس الزيادة فقال زاد بلا قياس امتلأ اليباب وهال العباب وضاع العد واختلط الحساب كال فطفف وزار فما خفف غسل الجسور وأعاد الإملاق بعزمه إلى البحور وبرع فكان أولى بقول الحلي من ابن منصور
( بمكارم تذر السباسب أبحرا ... وعزائم تذر البحار سباسبا )
جمع في صعوده إلى الجبال بين الحادي والملاح ودخل الناس إلى أسواق مصر وخصوصا سوق الرقيق على كل جارية ذات ألواح وغدا التيار ينساب في كل يم كالأيم وأصبحت هضاب الموج في سماء البحر وكأنما هي قطع الغيم واستحالت الأفلاك فكل برج مائي وتغيرت الألوان فكل ما في الأرض سمائي وحكى ماؤه حكاكة الصندل لما مسه شيطان الريح فتخبط وزاد فاستحال نفعه فتحقق ما ينسب إلى الصندل من الاستحالة إذا أفرط فلقد حكت أمواجه ودوائره الأعكان والسرر وغدا كل حي ميتا من زيادته لا كما قال المعري حيا من بني مطر وتحالى إلى أن أقرف الليمون الأخضر واحمرت عينه على الناس فأذاقهم الموت الأحمر ولقد صعب سلوكه وكيف لا وهو البحر المديد وأصبح كل جدول منه جعفرا ويزيد
( فلست أرى إلا إفاضة شاخص ... إليه بعين أو مشيرا بأصبع )
فلكم قال الهرم للسارين يا سارية الجبل وأنشد وقد شمر ساقه للخوض أنا الغريق فما خوفي من البلل وكم قال أبو الهول لا هول إلا هول هذا البحر وقال المسافرون ما رأينا مثل هذا النيل من هنا إلى ما وراء النهر وقال المؤرخون لم ننقل كهذه الزيادة من عهد النهروان وإلى هذا الدهر
وكيف يسوغ لمولانا في هذه الأيام غير ارتشاف فم الخمور ولم لا يغير مذهبه ويطيب على هذه الخلج بالسلسل والدور وكيف وكيف
ولم لا يتخذ مولانا حمو النيل وبرده رحلة الشتاء والصيف وهو في المبادرة إلى علو المعالي وغلو المعاني وانتهاز الفرص في بلاغ الآمال وبلوغ الأماني
( عجب من عجائب البر والبحر ... ونوع فرد وشكل غريب )
نعم
( من قاسكم بسواكم ... قاس البحار إلى الثماد )
أعلى الأنام في العلوم قدرا وإمام النحاة من عهد سيبويه وهلم جرا وشيخ العروضيين على الحقيقة برا وبحرا
( وشيخ سيحون والنيل ... والفرات ودجله )
( وشيخ جيحون أيضا ... وشيخ نهر الأبله )
أي والله
( أقولها لو بلغت ما عسى ... الطبل لا يضرب تحت الكسا )
لا مخبأ لعطر بعد عروس أنت أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس وأصلح إذا حدثت من صالح بن عبد القدوس وأشهى إذا هزلت من ابن حجاج إلى النفوس
( ولو أن بحر النيل جاراك مازحا ... وحقك ما استحلى له الناس زائدا )
نعود إلى ما كنا فيه من وصف النيل وذكر حاله الذي أصبح كما قال ابن عبد الظاهر كوجه جميل فلو رآه مولانا وقد هجم على مصر فجاس خلال الديار ودخل إلى المعشوق فتركه كالعاشق المهجور لم ير منه غير
الآثار لبكى بعيني عروة وأوى من الرصد وقد تفجرت من صلده عيون النز إلى ربوة أورنا لروض الجزيرة وقد خلع حلاه وتخلخلت عرائس أشجاره على الحالين بالمياه والنخيل وقد قتلت ملاكها حين فتك بالأسف وجف أحمر ثمرها وأصفره فأرانا العناب والحشف والجيزة وقد قلت لها تبا لجارك النيل إذ أفسدك صورة ومعنى وسكن مغانيك فسقى ديارك بغير استثنا وقراها الغربية وقد قلت لها حين أوت إلى أعالي الأرض هربا من المياه واعتصمت بالجبل الغربي لا عاصم اليوم من أمر الله وكل سفينة وقد علت على وجه الماء وارتقت لارتقاء البحر إلى أن اختلطت بالسماء وقد قالت لها أترابها عند الفراق إلا ترجعي وقلنا لها نحن على سبيل التفاؤل يا سماء أقلعي والنيل تبدو عليه القلوع خافية فكأنها الخيام بذي طلوح وجار على الناس بطغيانه فكأنما هو أخو فرعون مصر أو ابن طوفان نوح
فلقد طار النسر مبلول الجناح ودنا نهر المجرة من السكارى بالشخاتيت إلى أن كاد يدفعه من قام بالراح ونرجس البساتين وقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم وفارق أحبابه من الرياحين ولم يبق له غير القلانس صديق وغير الماء حميم والورد وقد قيل له مالك من آس وغصن البان وقد قيل له طوبى لمن عانقك ولا باس والأسماك وقد ألجمهم العرق والقلقاس وقد شكا شكوى ابن قلاقس وابنه من الغرق
والقصب بالجيزة وقد شرب ماء النز فهو بئس الشراب والقصب ببولاق لم ينجه من مشاهدة الغرق إلا كونه غاب والفارسي بالبساتين وقد ترجل ووقع فأرانا كيف تكسير الأقصاب وقيل للآس عالج جيرانك بالغيطان فالناس بالناس وبادر إلى جبر ما كسر فالحاجة تدعو المكسور في الحالين إلى الآس
هذا وأنا مقيم بالروضة إذ زهت على سائر الرياض وسلم جوهر حصبائها من أكثر هذه الأعراض وإن اعتلت بالاستسقاء فهو عين الصحة كما ينسب السقم إلى العيون المراض أو كما قال المملوك قديما من قصيدة في بعض الأغراض
( وقائل في لحاظ الغيد باقية ... من السقام وما ضمت خصورهم )
( وفى النسيم فقلت الأمر مشتبه ... عليك فالزم فأنت الحاذق الفهم )
( قلت الصحيح ولكني بموجبه ... أقول تلك دواة برؤها السقم )
قد أحاط بها النيل إحاطة المراشف باللما فأشرقت ضياء بين زرقته فكأنها البدر في كبد السما
( بصحن خد لم يغض ماؤه ... ولم تخضه أعين الناس )
متعطش مع هذا الطوفان لرياك متشوف وإن كنت مغازل النجوم الأرضية والسمائية يا بدر لرؤياك لكني يسليني أني ما نظرت إلى النيل إلا
رأيتك من سائر الجهات ولا لمحت بيوت البحر بل البحور إلا رأيتك عمارة الأبيات
( ولا هممت بشرب الماء من عطش ... إلا رأيت خيالا منك في الماء )
( ولكن للعيان لطيف معنى ... له طلب المشاهدة الكليم )
فهلم إلى التمتع برؤية هذا النيل الذي لم تر مثله العيون والنظر إلى سائر المخلوقات لعمومه وكل في فلك يسبحون فليس يطيب للتلميذ رؤية هذا البحر بغير رؤية شيخه ولا يلذ له التملي بمشاهدة هذا الفلك ما لم يشرق وجهه وذهنه ببدره ومريخه فما هذا الإهمال وليت شعري يا أديب تشاغلك بأي الأعمال أبالكتابة فلتكن في هذا النيل الذي هو كالطلحية بغير مثال أو بالنثر والنظم ففي هذا البحر الذي منه تؤخذ الدرر وفيه تضرب الأمثال ولقد ولد فيه الفكر للمملوك كيف تصادم الأكفاء وقهر الملوك للملوك فإنه لم يسمع في مملكة الإسلام ولا ورخ في عام من الأعوام بمثل هذه الزيادة الزائدة والجري على خرق العادة التي لا جعل الله بها صلة ولا منها عائدة وغاية ما وصل إليه في الماضي من عشرين فضيق بسعته المسالك وأوجب المهالك وتطرق تطرق أهل الجرائم والفساد فقطع الطريق على السالك وأحوج مرات إلى الاستضحاء لا أحوج الله لذلك
ودليل ما شمل به من الفساد وما عامل به البلاد وأهل البلاد ما قاله أدباء كل عصر عندما أبيح للمسافر في مد عرضه القصر
فمن ذلك ما قاله مولانا القاضي الفاضل وما هو رحمه الله إلا بحر طفح دره فلله دره من رسالة
ورود مثاله يتضمن نبأ سطوره العظيمة أمر طوفان النيل التي كأنها جداوله وأنه جاد لمؤمله بنفسه التي ليس في يده غيرها فليتق الله سائله . .
ومنها ولم يزل يجري لمستقر له ويضمه شيئا فشيئا إلى أن أدرك آخره أوله حتى إذا تكامل سمو أمواجه حالا على حال وتنور أقاصي الأرض من بنية المقياس فأدناها النظر العال فلم يترك بقعة كانت من قبل فارغة إلا وكلها عند نظره ماق وليت هواه المعتل كان عدلا فحمل كل غدير ما أطاق وطالما جرى بالصفا ولكن كدر صفاه بهذا المسعى والمرجو من الله أن يتلو ما أفسده هذا الماء ما يصلحه خروج المرعى
وما قاله القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر سقى الله تلك الألفاظ النيلية صوب الماطر
وينهى إليه أمر النيل الذي سر في أوائله الأنفس بأنفس بشرى ويقص عليه نبأه العظيم الذي ما يرينا من آية إلا هي أكبر من الأخرى ويصف له ما ساقه إلى الأرض من كل طليعة إذا تنفس الليل تفرق صبحها وتفرى فهو وإن كان خص الله البلاد المصرية بوفوره ووفائه وأغنى به قطرها عن القطر فلم يحتج إلى مد كافة وفائه ونزهه عن منة الغمام الذي هو إن جاد فلا بد من شهقة رعده ودفعة بكائه فقد وطيء بلادها بعسكره العجاج وزاحم ساحتها بأفواج الأمواج فعمل فيها بذراعه ودار عليها بخناقه وتخللها بنزاعه وحملها على سواري الصواري تحت قلوعه وما هي إلا عمد قلاعه وزار زرابي الدور المبثوثة وجاس خلال الحنايا كأن له فيها خبايا موروثة ومرق كالسهم من قناطره المنكوسة وعلا زبد حركته ولولاه ظهرت في باطنه من الأقمار والنجوم أشعتها المعكوسة وحمل على بركة الفيل حمل الأسود على الأبطال وجعل المجنونة من تياره
المنحدر في السلاسل والأغلال والمرجو من الله أن يزيل أذاه ويعيد علينا منه ما عهدناه فأن له الإياب الأكبر وفيه العجائب والعبر فها وجود الوفاء عن عدم الصفاء وبلوغ الهرم إذا احتدم واضطرم وأمن كل فريق إذا قطع الطريق وفرح قطان الأوطان إذا كسر وهو كما يقال سلطان إلى غير ذلك من خصائصه وبراءته مع الزيادة من نقائصه طالما فتح أبواب الرحمة بتعليقه وفاز كل أحد عند رؤية مائه المعصفر بتخليقه
وما قاله المولى زين الدين عمر الصفدي تغمده الله بعفوه وجمع له بين حلاوة الكوثر وصفوه
وأما النيل فقد أخذ الدار والسكان وقال ابن الخامل كما قال ابن النبيه الأمان الأمان وبكى الناس عندما رأوه مقبلا عليهم بالطوفان وانسابت أراقم غدرانه في الإقليم فابتلعت غدران أراقمه ومحا سيله المتدفق معالمه المجهولة فاستعمل الأقلام في إثبات معالمه وأحاط بالقرى كالمحاصر فضرب بينها وبين السماء بسور وأخذ الطريق على السالكين فلا مركب إلا المراكب ولا عاصم إلا البحور
وما قاله السديد ابن كاتب المرج نصرة الأقباط وأحد عمد
الشعر المشهورة بالفسطاط فما أطيب مدائحه النبوية التي جعلها سورا بينه وبين النار وما أعجب رثاءه جعل الله قبره بالرحمة كالروض غب القطار
( يا نيل يا ملك الأنهار قد شربت ... منك البرايا شرابا طيبا وعذا )
( وقد دخلت القرى تبغي منافعها ... فعمها بعد فرط النفع منك أذى )
( فقال يذكر عني أنني ملك ... وتعتدي ناسيا إن الملوك إذا )
وما قاله شيخنا الشيخ جمال الدين بن نباتة الذي أطاعته من الآداب جوانح نظمها ونثرها وسخرت له بحور الشعر فقالت له الآداب اختر من درها فسبحان من يسر له ممتنع الكلام وهونه وجعله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فما أشف دقيق فكره الجليل وما أكثر ما يضحك زهر تقاطيعه على زهر مقطعات النيل فما كان إلا مخصوصا في الأدب ببحور الهبات وكلامه في العذوبة والبلاغة يزري بالفرات وابن الفرات وإن قيل أي أصدق كلمة قالها شاعر بعد لبيد يقال قول ابن نباتة
( فلا عجب للفظي حين يحلو ... فهذا الفطر من ذاك النبات )
وأما النيل فقد استوى على الأرض فثبتت فيها قدمه وامتد نصل تياره كالسيف الصقيل فقتل الإقليم وهذا الاحمرار إنما هو دمه
( حمرتها من دماء ما قتلت ... والدم في النصل شاهد عجب )
فلم يترك وعدا بل وعيدا إلا وفاه ولا وهدا بل جبلا إلا أخفاه أقبل كالأسد الهصور إذا احتد واضطرم وجاء من سن الجنادل فتحدر وعلا حتى بلغ أقصى الهرم وعامل البلاد بالخيلاء وكيف لا وهو سلطان جائر أيد بالنصر قائلا إن كنت بليت بالاحتراق في أرضكم فأنا أفيض بأن أرمي من بروق تياري بشرر كالقصر
هذا وطالما قابلنا قبلها بوجه جميل وسمعنا عنه كل خبر خير ثابت ويزيد كما قال جميل وكل بديع من آثار جود يصبغ الثرى فيخضر بخلاف المشهور عن صبغة الليل وطالما خصصناه بدعاء فكانت الراحة به كمقياسه ذات بسطه وكمنازل الخصب بقدومه المبارك ذات غبطة ومنحناه بولاء وثناء هذا يدور من الإخلاص بفلك وهذا يعذب من البحار بنقطة كم ورد إلى البلاد ضيفا ومعه القرى وكم أتى مرسلا بمعجز آيات الخصب إلى أهل القرى فهو جواد قد خلع الرسن ساهر في مصالح الخلق وقد ملأ الأمن أجفانهم بالوسن جامع لأهل مصر من سقياه ومرعاه ووجهه بين الماء والخضرة والوجه الحسن كم بات سير مقياسه يشمل بظله الغائبين والحاضرين وكم رفع على الوفاء راية صفراء فاقع لونها تسر الناظرين وبلغ وبلغ بخرير التيار سلامه وبات الناس بوفائه من حذار الغلاء تحت الستر والسلامة وخلق صدر العمود وكيف لا يخلق بشير العباد والبلاد ودعا مصر لأخذ زخرفها فسواء قيل ذات العمود أو ذات العماد وبسط يده ببركة الماء فقيل سلام لك من أصحاب اليمين وخضب بنانه وأقسم بحصول الخير فقيل لمخضوب البنان يمين وأشار إلى وصول المد المتتابع وقبض يده المخلقة على الماء فوفت وما خابت فروج الأصابع ونادى رائد
الوفاء ولكن كم حياة في الأرض لمن ينادي وتمت أصابع الزيادة ونمت حتى قال الناس ما ذي أصابع ذي أيادي
هذا وقد قرنت زرابي الدور المبثوثة بالنمارق وقال المقياس تغطت منها الدرج فنال الرجاء وظهرت الدقائق فهو جم المنافع عذب المنابع يشار في الحقيقة والمجاز إليه بالأصابع
فأعاده الله إلى ذلك النفع المعهود وأرانا منه الأمان من الطوفان إلى أن نرد الحوض المورود وكفى أهل مصر هذه المصيبة التي إذا أصابتهم قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ولا ابتلاهم بمثل ما ابتلى به قوما جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم فإنما يستغشى ثيابه منهم الفقراء في المطر ويجعل أصابعه في آذانه منهم المؤذنون اللهم إنك ولي النعمة وأولى برحمة خلقك من فيض هذه الرحمة
وما قاله صاحبنا الشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة الذي كان أغرب من زرقاء اليمامة وأعجب إذا ركب بغلته وزرزوره من أبي دلامة الأديب الذي كان حجة العرب والناثر الذي كان بنسبته إلى الطيور محرك المناطق وإلى الشعر صناجة الأدب والناظم الذي كان إذا أنشد مقاطيعه في التشبيب فاق على المواصيل ذوات الطرب والصديق الذي كانت منه عوائد الوفاء مألوفة وشيخ الصوفية الذي لا عجب إذا كانت له المقامات الموصوفة أسكنه الله فسيح الجنان وخص ذلك الوجه الجميل بالعارض الهتان من مقامته الزعفرانية عن أبي الرياش
فاعتنقته لدى السلام وقلت ما وراءك يا عصام فقد بلغنا أن النيل
تزايد دفعه وأدى إلى الضرر نفعه فقال خذ العفو ولا تكدر بذكر النيل الصفو فقد امتزج بالمعصرات ثجاجه وأعيى طبيب الغيطان علاجه
( وشرق حتى ليس للشرق مشرق ... وغرب حتى ليس للغرب مغرب )
قلت فما فعل النغير بجزيرة الطير قال لم يبق بها هاتف يبشر بالصباح ولا ساع يسعى برجل ولا طائر يطير بجناح إلا اتخذ نفقا في الأرض أو سلما في السماء أو أوى إلى جبل يعصمه من الماء فأذاق بها الحمام الحمام في المروج وترك أرضها كسماء ما لها من فروج وتلا على الحمام ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج )
وكم في سماء مائها من نسر واقع وبومة تصفر على ديارها البلاقع
( ومنهل فيه الغراب ميت ... سقيت منه القوم واستقيت )
قلت فمصر قال زحف عليها بعسكره الجرار ونفط مائه الطيار
قلت فالجيزة قال طغى الماء حتى علا على قناطرها وتجسر ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسر فأصبح بعد اخضرار بزته شاحب الإهاب ناصل الخضاب غارقا في قعر بحر يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء وترك الطالح كالصالح يمشي على الماء فتنادوا مصبحين ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وأدركهم الغرق فأيسوا من الخلاص وغشيهم من اليم ما غشيهم ولات حين مناص وخر عليهم السقف من فوقهم فهدت قواهم واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم
قلت فالروضة قال أحاط بها إحاطة الكمام بزهره والكأس بحباب خمره
( فكأنها فيه بساط أخضر ... وكأنه فيها طراز مذهب )
فلم يكن لها بدفع أصابعه يدان وكم أنشد مرجها حين مرج البحرين يلتقيان
( أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد )
قلت فدار النحاس قال أنحس حالها وأفسد ما عليها وما لها فدخل من حمامها الطهر وقطع الطريق بالجامع الظهر فألحق مجاز بابه بالحقيقة ورقي منه على درجتين في دقيقة كم اغترف ما جاوره من الغرف غرفا وأطلق من مائه الأحمر النار بموردة الخلفا
قلت فالخليج الحاكمي قال خرج عسكر موجه بعد الكسر على حمية ومرق من قسي قناطره مروق السهم من الرمية
قلت فالمنشاة قال أصبحت للبحر مقرة بعد أن كانت للعيون قرة وقيل لمنشئها أنى يحيي هذه الله بعد موتها قال يحييها الذي أنشأها
أول مرة قد مال على ما فيها من شون الغلال كل الميل وتركها تتلو بفمها الذي شفتاه مصراعا بابها ( يا أبانا منع منا الكيل )
قلت فجزيرة أروى قال قد أفسد جل ثمارها وأتى على مغانيها فلم يدع شيئا من رديها وخيارها أخلق ديباجة روضها الأنف وترك قلقاسها في الجروف على شفا جرف
( بعيني رأيت الماء يوما وقد جرى ... على رأسه من شاهق فتكسر )
طالما تضرع بأصابعه إلى ربه ولطم برؤوسه الحيطان مما جرى من الماء على قلبه وتمثل بقول الأول
( وإن سألوك عن قلبي وما قاسى ... فقل قاسى وقل قاسى وقل قاسى )
لم يفده تحصنه من ورقه بالدرق والستائر ولا حن عليه حين تضرع بأصابعه فصح أن الماء سلطان جائر
قلت فحكر ابن الأثير قال لم يبق منه غير الثلث والثلث كثير قد أخمل من دوره خمائلها وجعل عاليها سافلها فكم دار أعدم صاحبها قراره ونادى في عرصاتها المتداعية إياك أعني فاسمعي يا جارة فأصبحت بعد نفعها قليلة الجدا مستولية عليها يد الردى شبيهة بدار الدنيا لأنها دار متى أضحكت في يومها أبكت غدا
قلت فبولاق قال إملاق قد التفت بها من الزلق الساق بالساق
فأتى من النوتية على الصغير والكبير ومن المراكب وممرها على النقير والقطمير
هذا بعد أن ترك جامع الخطيري على خطر وحيطانه يانعة الثمر قد دنا قطافها وحان تلافها فكأني به وقد منع رفده وتلا على محرابه سورة السجدة
قلت فجزيرة الفيل قال اقتلع أشجارها بشروشها وترك سواقيها خاوية على عروشها
قلت فالتاج والسبعة وجوه قال هجم على حرمها وعم الوجوه من فرقها إلى قدمها فبل ثرى الموتى في التخوم وعنت الوجوه للحي القيوم قلت فما الحيلة قال ترك الحيلة
( دعها سماوية تجري على قدر ... لا تفسدنها برأي منك راضي )
طال الكتاب وخرجنا عن فصل الخطاب
( ولربما ساق المحدث بعض ما ... ليس الندي إليه بالمحتاج )
وكأني بقائل يقول أليس من الكبر أن يستخدم هذا في رسالته ملوك الكلام ومن الحمق أن يجلي عرائس أفكاره بما للناس من حلي النثار
والنظام فأقول مسلم أن كل ما أوردته درر وجواهر وعقود كزهر الربيع عيون وجوهها النواضر نواظر ولكنها ها هنا أمثل وجمع شملها على هذي العروس أجمل
( وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ... )
وعلى الجملة فيرجع المملوك إلى التواضع وهو الأليق بالأدب فيقول لا عيب على الفقيرة إذا تجملت بحلي الغنية ولا عار على الجوهري إذا نظم سلكا كانت درره على الطرق مرمية ونرجع إلى ما ولده الفكر من عجب البحر وما ظهر من دفع الملوك لأمثالها عن جريها إلى غاياتها بصور القمر فأقول إنما قالت الأدباء ذلك لما جرى من جور النيل على الأرض ولما عم الناس من الإرجاف بطول أذاه وهرجه فكأنما هم في يوم العرض وكل ذلك وما وصل إلى هذا الارتفاع وربما كان أنقص من هذه الزيادة بقريب الذراع
وعلى هذا القياس إنما دفع ضرره وجمل في البلاد أثره وحسن في السماء خبره وفي الأرض مخبره السري الذي اهتمامه بالمعروف معروف وسيف الدين الذي سهر في مصالح الرعايا لما تنام ملء أجفانها السيوف أتابك العساكر والملك الذي هو بالإسلام وله منصور وناصر حصن سائر الكوى بالجسور وركز على أفواه البحر والخليج الأمراء كما يركز المجاهدون على الثغور وقابل البحر من سطواته بما ليس له به قبل ورد دفعه بكل دفع من الرأي والتدبير يغني عن البيض والأسل وحاربه بجيش عزم إلى أن ولى هاربا مع التراع والقناطر وجاهده بجند ركزهم على جوانبه لما تحقق أن البحر سلطان جائر وحصره بالتضييق عليه كما تحصر البرك والتراع وغل يده عن التصرف فسقاه الموت كما سقى الناس أنواع النزاع فما هو إلا أن تضاءل بنيران سطواته واحترق وذل خاضعا وكفى به تضرعا بالأصابع وتوسلا بالملق وأطاع لما لم تنجه مجاهرته من تياره بالسيوف ولا تحصنه من داراته بالدرق
على أنه تطاول ليضاهي بأصابعه جود أياديه فقصر وتحسر فركب خيل خيلائه ليحاكي بأسه فوقع من جسور عجبه وتقطر وسمت نفسه كبرا لأن يبلغ قدره فقيل يا بحر هذا خليفة الله في أرضه والله أكبر نعم
( رأى البحر الخضم نداه طام ... يفيض على الورى منه بحار )
( فصار البحر ملتطما وأضحى ... على الحالين ليس له قرار )
فلو زدت في أيام غيره من الملوك المترفين وفيمن يؤثر ملاذ نفسه على مصالح المسلمين كنت أيها الملك بلغت قصدك وفعلت في أبناء مصرك جهدك وكنت من الملوك الذين إذا دخلوا قرية انتعلوا فيها الأهلة وأفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة لكن هب قبولك إدبارا ولاقت ريحك إعصارا فليس لك به قبل والسيل أدرى بالجبل فما لك سبيل إلى بلاده ولا طاقة بإياب الخير على عناده فإنه خادم الحرمين والمدعو له حتى في مواقف الحرب بين العلمين حامي السواحل والثغور والمخدوم بأيادي السحائب وأصابع البحور وإن كنت يا أبا خالد أبا جعفر فلست بمنصور والرأي أن تقف مستغفرا وتقول معتذرا لم أفرط بالزيادة في أيامه ولم أفض على طرف الميدان إلا لأفوز بتقبيل آثار جواد خيله ومواطيء أقدامه ونتبع نواهيه ونمتثل أوامره وندعو له كالرعايا بطول البقاء في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة
ونحن نسأل الله كما بلغ بك المنافع أن يرينا كوكب نؤنك عن قريب راجع وكما أغنى بزيادتك عن الاستسقاء لا يحوجنا في نقصك إلى الاستضحاء إنه سميع مجيب الدعاء بمنه وكرمه
الفصل الثالث من الباب الأول من المقالة العاشرة في قدمات البندق
جمع قدمة بكسر القاف وسكون الدال المهملة وهي رسائل تشتمل على حال الرمي بالبندق وأحوال الرماة وأسماء طير الواجب واصطلاح الرماة وشروطهموهذه نسخة قدمة كتب بها شيخنا الشيخ شمس الدين محمد بن الصائغ الحنفي الأديب رحمه الله لصلاح الدين بن المقر المحيوي بن فضل الله ونصها
الحمد لله الذي سدد لصلاح الدين سهام الواجب وشيد بنجاح المطلوب مرام الطالب وجعل حصول الرزق الشارد بالسعي في المناكب وسهل الممتنع على القاصدين فما منهم إلا من رجع وهو صائب
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا صاحب شهادة تزجر طير الأشراك بهذه الأشرك من كل جانب وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قربه فكان قاب قوسين أو أدنى وهذه أعلى المراتب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين رقوا في العلياء لمراق لم يسم إليها طير مراقب صلاة يسبق بها المصلي إلى بقاع شرف يشرق سناه في المشارق والمغارب ويرجع طائرا بالسرور ولا رجوع الطائر الشارد إلى المشارب
وبعد فإن الصيد من أحل الأشياء وأحلاها وأجلها وأجلاها وأبهاها وأشهرها وأشهاها وأفخر قيمة وأغزرها ديمة بورود الطير فيه إلى المناهل تنشرح الصدور وبوقوعه في شرور الشرك يتم السرور يحصل عند متعاطيه نشاطا ويزيده انبساطا ويشرح خاطره ويسرح ناظره ويملأ عينه قرة وقلبه مسرة يشجع الجبان ويثبت الجنان ويقوي الشهوة ويسوي الخطوة ويسوق الظفر ويشوق النظر ويروق منه الورد والصدر ويفوق فيه الخبر على الخبر
قال بعض الحكماء قلما يغمش ناظر زهرة أو يزمن مريع طريدة ويعني بذلك من أدمن الحركة في الصيد ونظر إلى البساتين فاستمتع طرفه بنضرتها وأنيق منظرها
ومن ذا الذي ينكر لذة الاصطياد والطرب بالقنص على الإطراد ولله در القائل
( لولا طراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا )
( هذا الشراب أخو الحياة وما له ... من لذة حتى يصيب عليلا )
يا حسنه من فعل اعتلت بالنسيم موارده ومصادره وفاقت أوائله في اللذاذة أواخره ولله القائل
( إنما الصيد همة ونشاط ... يعقب الجسم صحة وصلاحا )
( ورجاء ينال فيه سرور ... حين يلقى إصابة ونجاحا )
وما أطيب الاقتناص بعد الشرود وكيف يرى موقع الوصل بعد الصدود
( وزادني رغبة في الحب أن منعت ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا )
تقضي رياضات النفوس السامية بمعاطاة كاسه ومصافاة ناسه لما فيهم من الفتوة وكمال المروة وصدق اللسان وثبات الجنان وطيب الأخلاق وحفظ الميثاق لا يعرفون غير الصدق وإن كانوا يميلون إلى الملق ولا يبغون بصاحبهم بديلا يعطفون عليه عطف النسق لا سيما تعاطي صيد طيور الواجب الذي سنه الأكابر وجعلوا أمره من الواجب وتشرفت به هممهم العالية تارة إلى السماء وآونة إلى مشارع الماء
لا يتم سرورهم إلا برؤية تم كبدر التمام ومصباح الظلام يفر من ظله فرارا ويريك بياض لونه وسواد منقاره شيبا ووقارا ولا يداوي هموم لغبهم مثل كي لأجنحته الخوافق في الخافقين نشر وطي ولا تبتهج نفوسهم النفيسة إلا بإوزة يزدري دلالها بالكاعب المعتزة ولا يطرب أسماعهم غير لغات اللغلغة حين تمتد كأنها مدامة في الزجاجة مفرغة ولا يؤنسهم إلا الأنيسة الأنيسة والدرة النفيسة ولا يذهب حرجهم غير الحبرج الصادح المستوقف بحسنه كل غاد ورائح تكاد قلوبهم تطير بالفرح عند رؤية النسر الطائر وتجبر خواطرهم بكسر ذلك الكاسر إذا عاينوا عقبانا أعقبهم الفرح ونزح عنهم الترح وإن كركركي فرعنهم البوس ورأوا على رأسه ذلك التاج الذي لم يعل مثله على الرؤوس وإن عرض غرنوق غرقوا في بحار أفكارهم وجدوا إلى أن يقع بمجدول أوتارهم وإن لاح ضوع كالذهب المصوغ ألقوه في الجبال وهو بدمه مصبوغ وإن مر مرزم كالخودة الحسناء ضربوا له الآلة الحدباء وإن مر السبيطر أجنحته كالسحائب جاءته المرامي من كل جانب وإن عن عنز عمدوا إليه حتى يسقط في يديه قد تعالوا في رتبها وتغالوا في وصف وشيها وجعلوا كل آلة
صنيعة جمال وربة منيعة وبعيد الرمي بديعة من كل قوس هي في العين كالحاجب أو النون التي أجادها الكاتب تدور الطائر عند الرمي وتذيبه وتئن أنينا أولى به من تصيبه
وبندق جبلت طينته على صوب الصواب يستنزل الطير ولو استتر بذيل السحاب كأنه النجم الثاقب والشهاب الصائب يرى الطير كالسحاب الواكف فينقض عليه انقضاض البرق الخاطف ويرجع النسر من حتفه راتعا ويغدو بعد أن كان طائرا واقعا ويصيرا بعد أن كان كاسرا مكسورا وفي سوار القسي مأسورا فهنالك يلفى الغالب وهو مغلوب والطير الواجب وهو مندوب فحينئذ تنشرح النفوس وتطرب ولا طربها بالكؤوس
ولما كان بهذه المنزلة العظيمة والمرتبة الجسيمة تعاطته الملوك وأبناء الملوك ونظموا عقده بحسن السلوك وارتاضت به النفوس الطاهرة واعتاضت به عن الكؤوس الدائرة ورأت به تكميل الأدوات وسامت به فعل الواجب وإن قيل إن ذلك من الهفوات فهو تعب تنشأ الراحة عنه ولعب لم يكن شيء أشبه بالجد منه
فلذلك قصد الجناب الكريم العالي الصلاحي صلاح الدنيا والدين ونجاح الطالبين سليل الوزراء ونجل الكبراء وصدر الرؤساء وعين العظماء ابن المقر المحيوي بن فضل الله أدام الله تعالى علاه
وكبت عداه وأعلى معاليه وشكر مساعيه وأطال حياته وأطاب ذاته أن يسلك تلك المسالك ويريض نفسه الكريمة بذلك ويتحيل على تحصيل اللذات بالتحول عملا بقول الشاعر
( تنقل فلذات الهوى في التنقل ... )
وعمد إلى تحصيل آلاته سائرا كالبدر في هالاته فسار مع سرايا كالنجوم يتفاكهون في الحديث بالمنثور والمنظوم ويخلطون جد القول بهزله كلما خلط لهم طل الجود بوبله وانحدروا في النيل بجمعهم الصحيح وقصدوا المرامي العالية ولم يقنعوا من الأيام بالريح وظلوا يسيرون في تلك المراكب التي كأنها قطع السحائب
هذا وهم يتشوفون إلى المصايد ويشرفون إلى الشوارد فيطلعون أحيانا إلى البر متفرجين وبطيب ذلك النسيم متأرجين
( نسيم قد سرى فيهم بنشر ... فأذكرهم بمسراه السريا )
( كرامته استقرت حين وافى ... له نفس يعيد الميت حيا )
ويجتنون من الغصن الزاهي قدا ويجتلون من الورد الزاهر خدا ويتأملون ضحك الأرض من بكاء السماء وشماخة القضب عند خرير الماء لا تذوق أجفانهم طعم الكرى ولا يميلون عن السير ولا يملون السرى ما منهم إلا من إذا رأى الطير جائشا عاد من وقته له حائشا بينما هم يسيرون متفرقين حتى إذا لاح لهم طير تداعوا إليه غير مقصرين والتفوا محلقين ولم يزالوا كذلك ينهمون العيش بالدعة والطيش حتى إذا أقبل اليوم المبارك الثامن والعشرون من جمادى الاخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة وهو اليوم الذي عزم فيه الجناب الصلاحي عل الاصطياد بالبنادق الحداد فتباشرت به الطيور وسدت بأجنحتها الثغور وسهل عندها فيه نزول الرئيس فجادت له بالنفيس وخرجت من قشرها وسمحت عند مد القوس بحز
نحرها ورغب كل منها أن يكون له بذلك أوفر القسم وترجى أن يكون هو المكتوب له في القدم
ومد يده نحو السما فأصاب مرزما فيا له من صيد فاق به على الأكابر الصيد ويا له من يوم صار بنحر الطير يوم العيد قام فيه بواجب ما شرعه الرماة من الشرع وذكرنا بهذا الصرع يوم ذلك الصرع فلا زال سهمه مسدد الأغراض وجوهره محميا من الأعراض يجري بمراده المقدور ويطيعه في سائر الأمور
وقد نظمت مخمسا مشتملا على ذكر طيور الواجب وطرزته باسمه لأن هذه القدمة قد قدمت له وجعلت برسمه غير أني أعتذر عنها لعدم مادة عندي أستمد منها
( جل كؤوسا عطلت بالراح ... ولا تطع فيها كلام لاحي )
( واشرب هنيئا واسقني يا صاح ... واذكر زمانا مر بالأفراح )
( هبت به فيما مضى رياحي ... )
( أيام كنت أصحب الأكابرا ... وأغتدي مع الرماة سائرا )
( ولا أزال بالغيار غائرا ... إذا رأيت في المياه طائرا )
( نحوته من سائر النواحي ... )
( فتارة كنت أصيد النسرا ... وبعده العقاب يحكي الجمرا )
( والكي والكركي صدت جهرا ... وصدت غرنوقا وعنزا قهرا )
( وكنت بالإوز في انشراح ... )
( وتارة تما كبدر التم ... تتبعه أنيسة كالنجم )
( ولغلغ أسود مسك الهم ... وحبرج عن الرماة محمي )
( والضوع مع سبيطر سياح ... )
( وكم وكم قد صدت يوما مرزما ... أنزلته بالقوس من جو السما )
( جناحه يحكي طرازا معلما ... على بياض شية شبه الدما )
( كأنه ليل على صباح ... )
( حيث الصبا تشفع بالقبول ... وشملنا يجمع بالشمول )
( في مجلس ليس به فضولي ... وجاءنا التوقيع في الوصول )
( فسادكم يغفر بالصلاح ... )
( السيد الفائق في أفعاله ... والمزدري بالبدر في كماله )
( والمشتري حسن الثنا بماله ... لا أحد يحكيه في نواله )
( إلا أخوه معدن السماح ... )
( من ساد في الدنيا على الكتاب ... وصان سر الملك في حجاب )
( علي العالي على السحاب ... الباذل المال بلا حساب )
زاده الله نعما وأجرى له في الندى يدا وثبت له في العلى قدما بمنه وكرمه
وهذه نسخة رسالة في صيد البندق من إنشاء الشيخ شهاب الدين أبي الثناء محمود بن سلمان الحلبي رحمه الله وهي
الرياضة أطال الله بقاء الجناب الفلاني وجعل حبه كقلب عدوه واجبا وسعده كوصف عبده للمسار جالبا وللمضار حاجبا تبعث النفس على مجانبة الدعة والسكون وتصونها عن مشابهة الحمائم في الركون إلى الوكون وتحضها على أخذ حظها من كل فن حسن وتحثها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللسن وتأخذ بها طورا في الجد وطورا في اللعب وتصرفها من ملاذ السمو في المشاق التي يستروح إليها التعب فتارة تحمل الأكابر والعظماء في طلب الصيد على مواصلة السرى ومقاطعة الكرى ومهاجرة الأوطار ومهاجمة الأخطار ومكابدة الهواجر ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر وذلك من محاسن أوصافهم التي يذم المعرض عنها وإذا كان المقصود من ميلهم جد الحرب فهذه صورة لعب يخرج إليها منها
وتارة يدعوهم إلى البروز إلى الملق ويحدوهم في سلوك طريقها مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق فيعتسفون إليها الدجى إذا سجى ويقتحمون في بلوغها حرق النهار إذا انهار ويتنعمون بوعثاء السفر في بلوغ الظفر ويستصغرون ركوب الخطر في إدراك الوطر ويؤثرون السهر على النوم والليلة على اليوم والبندق على السهام والوحدة على الالتئام
ولما عدنا من الصيد الذي اتصل به حديثه وشرح له قديم أمره وحديثه تقنا إلى أن نشفع صيد السوانح برمي الصوادح وأن نفعل في الطير الجوانح بأهلة القسي ما تفعل الجوارح تفضيلا لملازمة الارتحال على الإقامة في الرحال وأخذا بقولهم
( لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة ... إلا التنقل من حال إلى حال )
فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها وتسير من الأفق الغربي إلى موضع رمسها وتغازل عيون النور بمقلة أرمد وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العود فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق أو عليل يقضي بين صحبه بقايا مدة الرمق وقد اخضلت عيون النور لوداعها وهم الروض بخلع حلته المموهة بذهب شعاعها
( والطل في أعين النوار تحسبه ... دمعا تحير لم يرقأ ولم يكف )
( كلؤلؤ ظل عطف الغصن متشحا ... بعقده وتبدى منه في شنف )
( يضم من سندس الأوراق في صرر ... خضر ويجنى من الأزهار في صدف )
( والشمس في طفل الإمساء تنظر من ... طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي )
( كعاشق سار عن أحبابه وهفا ... به الهوى فتراآهم على شرف )
إلى أن نضى المغرب عن الأفق حلي قلائدها وعوضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلة ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلا تحلة ونهضنا وبرد الليل موشع وعقده مرصع وإكليله مجوهر وأديمه معنبر وبدره في خدر سراره مستكن وفجره في حشا مطالعه مستجن كأن امتزج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل وكأن ثرياه لامتداده معلقة بأمراس كتان إلى صم جندل
( ولاحت نجوم الليل زهرا كأنها ... عقود على خود من الزنج تنظم )
( محلقة في الجو تحسب أنها ... طيور على نهر المجرة حوم )
( إذا لاح بازي الصبح ولت يؤمها ... إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم )
إلى حدائق ملتفة وجداول محتفة إذا خمش النسيم غصونها اعتنقت اعتناق الأحباب وإذا فرك المياه متونها انسابت في الجداول انسياب الحباب ورقصت في المناهل رقص الحباب وإن لثم ثغور نورها حيته بأنفاس المعشوق وإن أيقظ نواعس ورقها غنته بألحان المشوق فنسيمها وان وشميمها لعرف الجنان عنوان ووردها من سهر نرجسها غيران
( وطلها في خدود الورد منبعث ... طورا وفي طرر الريحان حيران )
وطائرها غرد وماؤها مطرد وغصنها تارة يعطفه النسيم إليه فينعطف وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف مع ما في تلك الرياض من توافق المحاسن وتباين الترتيب إذ كلما اعتل النسيم صح الأرج وكلما خر الماء شمخ والقضيب
( فكأنما تلك الغصون إذا ثنت ... أعطافها ريح الصبا أحباب )
( فلها إذا افترقت من استعطافها ... صلح ومن سجع الحمام عتاب )
( وكأنها حول العيون موائسا ... شرب وهاتيك المياه شراب )
( فغديرها كأس وعذب نطافها ... راح وأضواء النجوم حباب )
يحيط بملق نطاقها صاف وظلال دوحها ضاف وحصاها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد وفي رأي العين طاف إذا دغدغها النسيم حسبت ماءها بتمايل الظلال فيه يتبرج ويميل وإذا طردت عليه أنفاس الصبا ظننت أفياء تلك الغصون تارة تتموج وتارة تسيل فكأنه محب هام بالغصون هوى فمثلها في قلبه وكأن النسيم كلف بها غار من دنوها إليه فميلها عن قربه
( والنور مثل عرائس ... لفت عليهن الملاء )
( شمرن فضل الأزرعن ... سوق خلاخلهن ماء )
( والنهر كالمرآة تنظر ... وجهها فيه السماء )
وكأن صواف الطيور المتسقة بتلك الأرض خيام أو ظباء بأعلى الرقمتين قيام أو أباريق فضة رؤوسها لها أقدام ومناقيرها المحمرة أوائل ما انسكب من المدام وكأن رقابها رماح أسنتها من ذهب أو شموع أسود رؤوسها ما انطفى وأحمره ما التهب وكنا كالطير الجليل عدة وكطراز العمر الأول جدة
( من كل أبلج كالنسيم لطافة ... عف الضمير مهذب الأخلاق )
( مثل البدور ملاحة وكعمرها ... عددا ومثل الشمس في الإشراق )
ومعهم قسي كالغصون في لطافتها ولينها والأهلة في نحافتها وتكوينها والأزاهر في ترافتها وتلوينها بطونها مدبجة ومتونها مدرجة كأنها كواكب الشولة في انعطافها أو أرواق الظباء في التفافها لأوتارها عند القوادم أوتار ولبنادقها في الحواصل أوكار إذا انتضيت لصيد ذهب من الحياة نصيبه وإن انتضت لرمي بدا لها أنها أحق به ممن يصيبه ولعل ذاك الصوت زجر لبندقها أن يبطيء في سيره أو يتخطى الغرض إلى غيره أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها أو أسف على خروج بنيها من يدها على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء
( مثل العقارب أذنابا معقدة ... لمن تأملها أو حقق النظر )
( إن مدها قمر منهم وعاينه ... مسافر الطير فيها أو نوى سفرا )
( فهو المسيء اختيارا إذ نوى سفرا ... وقد رأى طالعا في العقرب القمر )
ومن البنادق كرات متفقة السرد متحدة العكس والطرد كأنما خرطت من المندل الرطب أو عجنت من العنبر الورد تسري كالشهب في الظلام وتسبق إلى مقاتل الطير مسددات السهام
( مثل النجوم إذا ما سرن في أفق ... عن الأهلة لكن نونها راء )
( ما فاتها من نجوم الليل إن رمقت ... إلا ثبات يرى فيها وأضواء )
( تسري ولا يشعر الليل البهيم بها ... كأنها في جفون الليل إغفاء )
( وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه ... خوافقا في الدياجي وهي صماء )
يصونها جراوة كأنها درج درر أو درج غرر أو كمامة ثمر أو كنانة نبل أو غمامة وبل حالكة الأديم كأنما رقمت بالشفق حلة ليلها البهيم
( كأنها في وضعها مشرق ... تنبث منه في الدجى الأنجم )
( أو ديمة قد أطلعت قوسها ... ملونا وانبثقت تسجم )
فاتخذ كل له مركزا وتقضى من الإصابة وعدا منجزا وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا
( كأنهم في يمن أفعالهم ... في نظر المنصف والجاحد )
( قد ولدوا في طالع واحد ... وأشرقوا من مطلع واحد )
فسرت علينا من الطير عصابة أظلتنا من أجنحتها سحابة من كل طائر
أقلع يرتاد مرتعا فوجد ولكن مصرعا وأسف يبتغي ماء جما فوجد ولكن السم منقعا وحلق في الفضاء يبغي ملعبا فبات هو وأشياعه سجدا لمحاريب القسي وركعا فتبركنا بذلك الوجه الجميل تداركنا أوائل ذلك القبيل
فاستقبل أولنا تمام بدره وعظم في نوعه وقدره كأنه برق كرع في غسق أو صبح عطف على بقية الدجى عطف النسق تحسبه في أسداف المنى غرة نجح وتخاله تحت أذيال الدجى طرة صبح عليه من البياض حلة وقار وله كدهن عنبر فوق منقار من قار له عنق ظليم والتفاتة ريم وسرى غيم يصرفه نسيم
( كلون المشيب وعصر الشباب ... ووقت الوصال ويوم الظفر )
( كأن الدجى غار من لونه ... فأمسك منقاره ثم فر )
فأرسل إليه عن الهلال نجما فسقط منه ما كبر بما صغر حجما فاستبشر بنجاحه وكبر عند صياحه وحصله من وسط الماء بجناحه
وتلاه كي نقي اللباس مشتعل شيب الراس كأنه في عرانين شيبه لا وبله كبير أناس إن أسف في طيرانه فغمام وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النسيم زمام ذو عيبة كالجراب ومنقار كالحراب ولون يغر في الدجى كالنجم ويخدع في الضحى كالسراب ظاهر الهرم كأنما يخبر عن عاد ويحدث عن إرم
( إن عام في زرق الغدير حسبته ... مبيض غيم في أديم سماء )
( أوطار في أفق السماء ظننته ... في الجو شيخا عائما في ماء )
( متناقض الأوصاف فيه خفة الجهال ... تحت رزانة العلماء )
فثنى الثاني إليه عنان بندقه وتوخاه فيما بين رأسه وعنقه فخر كمارد انقض عليه نجم من أفقه فتلقاه الكبير بالتكبير واختطفه قبل مصافحة الماء من وجه الغدير
وقارنته إوزة حلباء دكناء وحلتها حسناء لها في الفضاء مجال وعلى طيرانها خفة ذوات التبرج وخفر ربات الحجال كأنما عبت في ذهب أو خاضت في لهب تختال في مشيتها كالكاعب وتتأنى في خطوها كاللاعب وتعطف بجيدها كالظبي الغرير وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير
( إذا أقبلت تمشي فخطرة كاعب ... رداح وإن صاحت فصولة حازم )
( وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لي ... خفا ذي الخوافي أو قوى ذي القوادم )
( فأنعم بها في البعد زاد مسافر ... وأحسن بها في القرب تحفة قادم )
فلوى الثالث جيده إليها وعطف بوجه إقباله عليها فلجت في ترفعها ممعنة ثم نزلت على حكمه مذعنة فأعجلها عن استكمال الهبوط واستولى عليها بعد استمرار القنوط
وحاذتها لغلغة تحكي لون وشيها وتصف حسن مشيها وتربي عليها بغرتها وتنافسها في المحاسن كضرتها كأنها مدامة قطبت بمائها أو غمامة شفت عن بعض نجوم سمائها
( بغرة بيضاء ميمونة ... تشرق في الليل كبدر التمام )
( وإن تبدت في الضحى خلتها ... في الحلة الدكناء برق الغمام )
فنهض الرابع لا ستقبالها ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها فجدت في العلو مبتذة وتطاردت أمام بندقه ولولا طراد الصيد لم تك لذة وانقض عليها من يده شهاب حتفها وأدركها الأجل لخفة طيرانها من خلفها فوقعت من الأفق في كفه ونفرها ما في بقايا صفها عن صفه
وأتت في إثرها أنيسة آنسة كأنها العذراء العانسة أو الأدماء الكانسة عليها خفر الأبكار وخفة ذوات الأوكار وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار ولها أنس الربيب وإدلال الحبيب وتلفت الزائر المريب من خوف الرقيب ذات عنق كالإبريق أو الغصن الوريق قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشقيق وصدر بهي الملبوس شهي إلى النفوس كأنما رقم فيه النهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس وجناح ينجيها من العطب يحكي لونها المندل الرطب لولا أنه حطب
( مدبجة الصدر تفويفه ... أضاف إلى الليل ضوء النهار )
( لها عنق خاله من رآه ... شقائق قد سيجت بالبهار )
فوثب الخامس منها إلا الغنيمة ونظم في سلك رميه تلك الدرة اليتيمة وحصل بتحصيلها بين الرماة على الرتبة الجسيمة
وأتى على صوتها حبرج تسبق همته جناحه ويغلب خفق قوادمه صياحه مدبج المطا كأنما خلع حلة منكبيه على القطا ينظر من لهب ويخطو على رجلين من ذهب
( يزور الرياض ويجفو الحياض ... ويشبه في اللون كدر القطا )
( ويغوي الزروع ويلهو بها ... ولا يرد الماء إلا خطا )
فبدره السادس قبل ارتفاعه وأعان قوسه بامتداد باعه فخر على الألاء كبسطام بن قيس وانقض عليه راميه فحصله بحذق وحمله بكيس
وتعذر على السابع مرامه ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه فصعد هو وترب له إلى جبل وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل
فعن له نسر ذو قوائم شداد ومناسر حداد كأنه من نسور لقمان بن عاد تحسبه في السماء ثالث أخويه وتخاله في الفضاء قبته المنسوبة إليه قد حلق كالفقراء رأسه وجعل مما قصر من الدلوق الدكن لباسه واشتمل من الرياش العسلي إزارا وألف العزلة فلا تجد له إلا في قنن الجبال الشواهق مزارا قد شابت نواصي الليل وهو لم يشب ومضت الدهور وهو من الحوادث في معقل أشب
( مليك طيور الأرض شرقا ومغربا ... وفي الأفق الأعلى له أخوان )
( له حال فتاك وحلية ناسك ... وإسراع مقدام وفترة وان )
فدنا من مطاره وتوخى ببندقه عنقه فوقع في منقاره فكأنما هد منه
صخرا أو هدم به بناء مشمخرا ونظر إلى رفيقه مبشرا له بما امتاز به عن فريقه
وإذا به قد أظلته كاسر كأنما أضلت صيدا أفلت من المناسر إن حطت فسحاب انكشف وإن أقامت فكأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف بعيدة ما بين المناكب
( إذا أقلعت لجت علوا كأنما ... تحاول ثأرا عند بعض الكواكب )
( يرى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله )
( فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله )
فوثب إليها الثامن وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها ورماها بأول بندقة فما أخطأ قادمة جناحها فأهوت كعود صرع أو طود صدع قد ذهب باسها وتذهب بدمها لباسها وكذلك القدر يخادع الجو عن عقابه ويستنزل الأعصم من عقابه فحملها بجناحها المهيض ورفعها بعد الترفع في أوج جوها من الحضيض ونزل إلى الرفقة جذلا بربح الصفقة
فوجد التاسع قد مر به كركي طويل الشفار سريع النفار شهي الفراق كثير الاغتراب يشتو بمصر ويصيف بالعراق لقوادمه في الجو خفيف ولأديمه لون سماء طرأ عليها غيم خفيف تحن إلى صوته الجوارح وتعجب من قوته الرياح البوارح له أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد أو بقية جرح تحت ضماد أو فص عقيق شفت عنه بقايا ثماد ذو منقار كسنان وعنق كعنان كأنما ينوس على عودين من آبنوس
( إذا بدا في أفق مقلعا ... والجو كالماء تفاويفه )
( حسبته في لجة مركبا ... رجلاه في الأفق مجاديفه )
فصبر له حتى جازه مجليا وعطف عليه مصليا فخر مضرجا بدمه وسقط مشرفا على عدمه وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون وأصابه القدر بحبة من حمإ مسنون فكثر التكبير من أجله وحمله على وجه الماء برجله
وحاذاه غرنوق حكاه في زيه وقدره وامتاز عنه بسواد رأسه وصدره له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه معقودتان من أذنيه مكان شنفه
( له من الكركي أوصافه ... سوى سواد الصدر والراس )
( إن شال رجلا وانبرى قائما ... ألفيته هيئة برجاس )
فأصغى العاشر له منصتا ورما متلفتا فخر كأنه صريع الألحان أو نزيف بنت الحان فأهوى إلى رجله بيده وأيده وانقض عليه انقضاض الكاسر على صيده
وتبعه في المطار ضوع كأنه من النضار مصنوع تحسبه عاشقا قد مد صفحته أو بارقا قد بث لفحته
( طويلة رجلاه مسودة ... كأنما منقاره خنجر )
( مثل عجوز رأسها أشمط ... جاءت وفي رقبتها معجر )
فاستقبله الحادي عشر ووثب ورماه حين حاذاه من كثب فسقط كفارس تقطر عن جواده أو وامق أصيبت حبة فؤاده فحمله بساقه وعدل به إلى رفاقه
واقترن به مرزم له في السماء سمي معروف ذو منقار كصدغ معطوف كأن رياشه فلق اتصل به شفق أو ماء صاف علق بأطرافه علق
( له جسم من الثلج ... على رجلين من نار )
( إذا أقلع ليلا قلت ... برق في الدجى ساري )
فانتحاه الثاني عشر ميمما ورماه مصمما فأصابه في زوره وحصله من فوره وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره
والتحق به سبيطر كأنه مدية مبيطر ينحط كالسيل ويكر على الكواسر كالخيل ويجمع من لونيه بين ضدين يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل يتلوى في منقاره الأيم تلوي التنين في الغيم
( تراه في الجو ممتدا وفي فمه ... من الأفاعي شجاع أرقم ذكر )
( كأنه قوس رام عنقه يدها ... ورجله رجلها والحية الوتر )
فصوب الثالث عشر إليه بندقه فقطع لحيه وعنقه فوقع كالصرح الممرد أو الطراف الممدد
واتبعه عناز أصبح في اللون ضده وفي الشكل نده كأنه ليل ضم الصبح إلى صدره أو انطوى على هالة بدره
( تراه في الجو عند الصبح حين بدا ... مسود أجنحة مبيض حيزوم )
( كأنه حبشي عام في نهر ... وضم في صدره طفلا من الروم )
فنهض تمام القوم إلى التتمة وأسفرت عن نجح الجماعة تلك الليلة المدلهمة وغدا ذلك الطير الواجب واجبا وكمل العدد به قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا فيا لها ليلة حضرنا بها الصادح في الفضاء المتسع ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كل شمل مجتمع وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النظام أو شرب كأن رقابها من اللين لم يخلق لهن عظام وأصبحنا مثنين على مقامنا منثنين بالظفر إلى مستقرنا ومقامنا داعين للمولى جهدنا مذعنين له قبلنا أوردنا حاملين ما صرعنا إلى بين يديه عاملين على التشرف بخدمته والانتماء إليه
( فأنت الذي لم يلف من لا يؤده ... ويدعى له في السر أو يدعى له )
( فإن كان رمي أنت توضح طرقه ... وإن كان جيش أنت تحمي قبيله )
والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل بمنه وكرمه
إنما أثبت هذه الرسالة بكمالها لكثرة ما اشتملت عليه من الأوصاف ولتعلق بعضها ببعض
الفصل الرابع من الباب الأول من المقالة العاشرة في الصدقات وفيه طرفان
الطرف الأول في الصدقات الملوكية وما في معناها
قد جرت العادة أنه إذا تزوج سلطان أو ولده أو بنته أو أحد من الأمراء الأكابر وأعيان الدولة أن تكتب له خطبة صداق تكون في الطول والقصر بحسب صاحب العقد فتطال للملوك وتقصر لمن دونهم بحسب الحالوهذه نسخة صداق كتب به للملك السعيد بركة ابن السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري على بنت الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي الألفي قبل سلطنته بالقلعة المحروسة من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وهي
الحمد لله موفق الآمال لأسعد حركة ومصدق الفأل لمن جعل عنده أعظم بركة ومحقق الإقبال لمن أصبح نسيبه سلطانه وصهره ملكه الذي جعل للأولياء من لدنه سلطانا نصيرا وميز أقدارهم باصطفاء تأهله حتى حازوا نعيما وملكا كبيرا وأفرد فخارهم بتقريبه حتى أفاد شمس آمالهم ضياء وزاد قمرها نورا وشرف به وصلتهم حتى أصبح فضل الله عليهم بها عظيما وإنعامه كثيرا مهييء أسباب التوفيق العاجلة والآجلة وجاعل ربوع
كل إملاك من الأملاك بالشموس والبدور والأهلة آهلة جامع أطراف الفخار لذوي الإيثار حتى حصلت لهم النعمة الشاملة وحلت عندهم البركة الكاملة
نحمده على أن أحسن عند الأولياء بالنعمة الاستيداع وأجمل لتأميلهم الاستطلاع وكمل لأخيارهم الأجناس من العز والأنواع وأتى آمالهم بما لم يكن في حساب أحسابهم من الابتداء بالتخويل والابتداع وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حسنة الأوضاع ملية بتشريف الألسنة وتكريم الأسماع ونصلي على سيدنا محمد الذي أعلى الله به الأقدار وشرف به الموالي والأصهار وجعل كرمه دار لهم في كل دار وفجره على من استطلعه من المهاجرين والأنصار مشرق الأنوار صلى الله عليه وعليهم صلاة زاهية الأزهار يانعة الثمار
وبعد فلو كان اتصال كل شيء بحسب المتصل به في تفضيله لما استصلح البدر شيئا من المنازل لنزوله ولا الغيث شيئا من الرياض لهطوله ولا الذكر الحكيم لسانا من الألسنة لترتيله ولا الجوهر الثمين شيئا من التيجان لحلوله لكن ليتشرف بيت يحل به القمر ونبت يزوره المطر ولسان يتعوذ بالآيات والسور ونثار يتجمل باللآليء والدرر ولذلك تجملت برسول الله أصهاره وأصحابه وتشرفت أنسابهم بأنسابه وتزوج منهم وتمت لهم مزية الفخار حتى رضوا عن الله ورضي عنهم
والمرتب على هذه القاعدة الفاضلة نور يستمده الوجود وتقرير أمر يقارن سعد الأخبية منه سعد السعود وإظهار خطبة تقول للثريا لانتظام عقودها كيف وإبراز وصلة يتجمل بترصيع جوهرها متن السيف الذي يغبطه على إبداع هذا الجوهر به كل سيف ونسج صهارة يتم بها إن شاء الله كل أمر
سديد ويتفق بها كل توفيق تخلق الأيام وهو جديد ويختار لها أبرك طالع كيف لا تكون البركة في ذلك الطالع وهو السعيد
وذلك بأن المراحم الشريفة السلطانية أرادت أن تحصن المجلس السامي بالإحسان المبتكر وتفرده بالمواهب التي يرهف بها الحد المنتضى ويعظم الجد المنتظر وأن ترفع من قدره بالصهارة مثل ما رفعه من قدر صاحبيه أبي بكر وعمر فخطب إليه أسعد البرية وأمنع من تحميها السيوف المشرفية وأعز من تسبل عليها ستور الصون الخفية وتضرب دونها خدور الجلال الرضية وتتجمل بنعوتها العقود وكيف لا وهي الدرة الألفية فقال والدها وهو الأمير المذكور هكذا ترفع الأقدار وتزان وكذا يكون قران السعد وسعد القران وما أسعد روضا أصبحت هذه المراحم الشريفة السلطانية له خميلة وأشرف سيفا غدت منطقة بروج سمائها له حميلة وما أعظمها معجزة آتت الأولياء من لدنها سلطانا وزادتهم مع إيمانهم إيمانا وما أفخرها صهارة يقول التوفيق لإبرامها ليت وأشرفها عبودية كرمت سلمانها بأن جعلته من أهل البيت
وإذ قد حصلت الاستخارة في رفع قدر المملوك وخصصته بهذه المزية التي تقاصرت عنها آمال أكابر الملوك فالأمر لملك البسيطة في رفع درجات عبيده كيف يشاء والتصدق بما يتفوه به هذا الإنشاء وهو
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب مبارك تحاسدت رماح الخط وأقلام الخط على تحريره وتنافست مطالع النوار ومشارق الأنوار على نظم سطوره فأضاء نوره
بالجلالة وأشرق وهطل نوءه بالإحسان فأغدق وتناسبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل فقال الاعتراف هذا ما تصدق وقال العرف هذا ما أصدق مولانا السلطان أصدقها ما ملأ خزائن الأحساب فخارا وشجرة الأنساب ثمارا ومشكاة الجلالة أنوارا وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان أقاليم ومدائن وأمصارا فبذل لها من العين المصري ما هو باسم والدها قد تشرف وبنعوته قد تعرف وبين يدي هباته وصدقاته قد تصرف
وهذه نسخة صداق المقام الشريف العالي السيفي أنوك ولد السلطان الشهيد الملك الناصر محمد بن قلاوون على بنت المقر المرحوم السيفي بكتمر الساقي
وكان العاقد قاضي القضاة جلال الدين القزويني والقابل السلطان الملك الناصر والد الزوج وهي
الحمد لله مسير الشمس والقمر وميسر حياة كل شيء باتصال الروض بالمطر ومبشر المتقين من دراري الذراري بأسعد كوكب ينتظر وأحمد عاقبة تهتز لها أعطاف عظماء الملوك على كبر وتنجاب عن الأنجاب كما تتفتح الأكمام عن الثمر الذي مد من الشجرة المباركة الملوكية فروعا التفت بعضها على بعض ورفت على من استظل بها فراقب السماء على الأرض
نحمده على نعمه التي أطابت لنا جنى الغروس وأطالت منا منى النفوس وأطافت بملوكنا حتى مدت لسؤالهم الأيدي وخضعت لأمرهم الرؤوس ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نتخذها عصمة نافعة ونعمة لحسن العاقبة جامعة ورحمة تبارك على أئمتنا وعلى أبنائهم البدور الطالعة والأنوار الساطعة والبروق اللامعة والغيوث الهامعة والسيول الدافعة والسيوف القاطعة والأسود التي هي عن حرم حضرتها مانعة ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أزان من تمسك له بحسب
وشرف من اعتزى إليه بالقربى أو اعتز منه بصهر أو نسب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذي أرضاهم ورضي عنهم وكرمهم بصلته الشريفة لما زوجهم وتزوج منهم وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن من عادة الغمام أن يتفقد الأرض بمطره والبحر أن يسقي الزروع بما فاض من نهره والمصابيح أن تمد بأنوارها ما يتوقد والسماء أن لا يخلو أفقها من اتصال فرقد بفرقد ولو توقفت القربى على مقاربة كبير أو مقارنة نظير لما صلحت الأغماد لمضاجع السيوف ولا دنت الكواكب من الشمس والقمر المنير ولا صافحت يمين شمالا ولا جاورت جنوب شمالا ولا حوت الكنائن سهاما ولا جمع السلك للجواهر نظاما ولا طمح طرف إلى غاية ولا قدر لسان إنسان على تلاوة سورة ولا آية وإنما الصدقات الشريفة الملوكية لها في البر عوائد وفي الخير سجايا يقتدي فيها الولد بالوالد
ولم يزل من المقام الشريف الأعظم العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أعز الله سلطانه على من لاذ به تسبل ذيول الفخار وتودع في هالات أقمارهم ودائع الأنوار وتؤهل أهلتهم لأن يكون منها أحد الأبوين لذريته الأطهار وتخطب من حجبهم كل مصونة يغور بها بدر الدجى وتغار منها شمس النهار
وكان من تمام النعمة الشريفة السلطانية الناصرية على من تعرض لسحابها الماطر ووقف للاغتراف من بحرها الزاخر ما رفعت به ذكره إلى آخر الأبد وأتمت له السعادة إذ كان يعد في جدود من ينسب إليه من ولد وأكدت له بالقربى مزية مزيد واستخرجت من بحره جوهرة لا يطمع في التطوق بها كل جيد وقالت نحن أحق بتكميل ما بيننا وتخويل الخؤولة من أولينا وتأهيل من قر بنا عينا وقربناه إلينا وتفضيل غرس نعمة نحن غرسناه واجتنينا ثمراته بيدينا فاقتضى حسن الاختيار الشريف الملكي
الناصري لولده المقام العالي السيفي أحسن الله لهما الاختيار وأجرى بإرادتهما اقتدار الأقدار أن تزف أتم الشموس إلى ستوره الرفيعة وتصان أكمل معاقل العقائل بحجبه المنيعة وتحاط أشرف الدرر في مستودعه وتناط أشرف الدراري بمطلعه وتساق إليه الكريمة حسبا العظمية بأبيه عظم الله سلطانه أبا الذي كم له في خدمة الدولة من القاهرة مناقب كالنجوم ومذاهب تشبه بها البرق فتشبث بأذيال الغيوم ومراتب تقدم فيها على كل نظير قال وما منا إلا من له مقام معلوم من قدره لا يسامى ولا يسام ورأيه لا يرامى ولا يرام وسيفه في غير طاعتنا الشريفة لا يشيم ولا يشام وهو سيف الدولة لا كما يسمى به من استعار هذا اللقب في سالف الأيام كم له في مراضي سلطانه من رغبة بذل بها ما لديه وسمح فيها بولده وهو أحب شيء إليه وجاد بروحه أو بما هو أعز عليه كم نبهت بعزائمه السيوف من سناتها وكم وهبت من مكارمه الأيام ما يعد من حسناتها كم التهبت صوارمه نارا فجرت أنهارا فجرت من جنباتها كم لسماء الملك بشهبه من حرس وبقضبه من قبس وكم قام وقعد في مصلحة وكان أدناهم من ملكه مقاما لما قام وأعلاهم مجلسا لما جلس فسمع المقام العالي السيفي وأطاع وانتهى إلى ما برزت به مراسم والده أنفذها الله وامتثل أمره المطاع وعمل برأيه الشريف وهو ناصر السنة فقدم فيها ما استطاع وسارع إلى ما أمر الله به من الألفة والاجتماع واتبع السنة النبوية في تكثير الأمة بذرية أئمة ملوكية كل واحد منها له الأمة أتباع لعلمه اليقين أنه لو خطب له والده في أقطار الأرض إلى جميع الملوك لم يجد منهم إلا كل ملك عظيم وهو له عبد مملوك فأحيى سنة شريفة ملوكية ما برحت الخلفاء والملوك تحفظ بها قلوب أوليائها على أمداد المدى ويكفي من هذا ميمون فعل المأمون لما
تزوج بوران من أبيها ابن سهل وخطب المعتضد إلى ابن طولون ابنته قطر الندى
ورأى والدها أعزه الله تعالى قدرا هاله مهابة فسلم وقال للمالك التصرف وللملك التصريف وإذا اقتضى حسن النظر الشريف تشريف عبد فياحبذا التشريف ويا حبذا السبب الذي اتصلت له بالمقام الشريف الأسباب واحتفلت ديم النعم واحتفت للاجتماع على سنة وكتاب فتحاسدت على إثباته صفر الأصائل وحمر النعم وتنافست على رقم سطوره صحائف السحاب وصفيح الماء وصليل السيف وصرير القلم وتمنت الكواكب لو اجتمعت مواكب في يومه المشهود والمناقب لو أنها حوله بمقانب خافقة البنود وودت نسمات الأسحار لو كانت هي التي سعت بالاتفاق والحمائم لو أبيح لها أن تغرد وتخلع ما في أعناقها من الأطواق بل السيوف لما رأت مقام الجلالة أغضت وغضت الأحداق والرماح لما بدا لها سرير الملك مائلا وقفت على ساق
فبرزت المراسم الشريفة زادها الله شرفا بتحرير هذا الكتاب الكريم وتنضيد ما يصلح من الدرر لهذا العقد النظيم ونفذ المرسوم العالي المولوي السلطاني ما أمر به وصدق وتأدب إجلالا لمقام أبيه الشريف فأطرق وتواضع لله فلم يقل هذا ما تصدق بل قال هذا ما أصدق المقام العالي السيفي أنوك ابن مولانا السلطان الأعظم مالك رقاب الأمم الملك الناصر السيد الأجل العالم العادل الغازي المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المظفر المنصور الشاهنشاه ناصر الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين منصف المظلومين من الظالمين ملك البسيطة ناصر السنة ركن الشريعة ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه وارث الملك ملك العرب والعجم
والترك خداوند عالم بإدشاه بني آدم بهلوان جهان شهريار إيران إسكندر الزمان مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان فاتح الأقطار واهب الممالك والأقاليم والأمصار مبيد البغاة والطغاة والكفار صاحب البحرين حامي الحرمين خادم القبلتين كفيل العباد والعباد مقيم شعائر الحج والجهاد إمام المتقين قسيم أمير المؤمنين أبي المعالي محمد بن السلطان الشهيد الملك المنصور السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد سيف الدين والد الملوك والسلاطين أبي الفتح قلاوون خلد الله سلطانه ونصر جنوده وجيوشه وأعوانه الحجاب الكريم الرفيع المنيع المصون المكنون الجهة المكرمة المفخمة المعظمة بنت الجناب الكريم العالي الأميري الأجلي الكبيري العالمي العادلي الممهدي المشيدي الزعيمي المقدمي الغياثي الغوثي الذخري الأوحدي الظهيري الكافلي السيفي ركن الإسلام والمسلمين سيد الأمراء في العالمين نصير الغزاة والمجاهدين زعيم الجيوش مقدم العساكر عون الأمة غياث الملة ممهد الدول
مشيد الممالك ظهير الملوك والسلاطين عضد أمير المؤمنين بكتمر الساقي الناصري ضاعف الله نعمته
أصدقها ما تلقت به أنسابها إجلالا وبلغت به أحسابها جمالا وطلعت في سماء الملك هلالا ولبست فخارا وقبست أنوارا وأوت إلى حصن حصين ووصلت إلى مقام أمين وآبت بأموال وبنين ما لولا أدب الشرف وتجنب السرف والعمل بالشرع في تعيين معلوم وتبين مقدار مفهوم لخرج عن كل وصف محدود وقدر معدود ولما قام به موجود ولكان مما تقل له الممالك ولا يستكثر لأجله الوجود
قدم لها من الذهب العين المصري المسكوك ما هو بنقد ممالك والده معروف ومن حقوقه مقبوض وفي هباته مصروف ما يحمد مآلا وينمى مالا ويأتي كل دينار منه ووجهه بذكر الله واسم أبيه يتلالا
أصدقها على بركة الله تعالى وعونه وتوفيقه كذا وكذا عجل لها كذا وكذا قبضه وكيل والدها من وكيله قبضا تاما كاملا وتأخر بعد ذلك كذا وكذا دينارا حالا على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )
وولي تزويجها منه على الصداق المعين بإذن والدها أعزه الله تعالى المقدم ذكره العبد الفقير إلى الله تعالى قاضي القضاة حاكم الحكام خطيب خطباء المسلمين جلال الدين خالصة أمير المؤمنين أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام العالم العلامة إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد القزويني الشافعي الحاكم بالديار المصرية المحروسة وأعمالها وبلادها وجندها
وضواحيها وسائر الممالك المضافة إليها بالولاية الشرعية أدام الله أيامه وأعز أقضيته وأحكامه فقبل مولانا السلطان خلد الله ملكه لولده المسمى أدام الله تعالى نعمته ذلك منه قبولا شرعيا يخاطب عليه شفاها بحضور من تم العقد بحضوره في دار الملك بالقصر الأبلق بقلعة الجبل حرسها الله تعالى بكرة يوم السبت حادي عشرين من صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة
وهذه نسخة صداق المقر الشريف إبراهيم ابن السلطان الشهيد الملك الناصر محمد بن قلاوون من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله مغني الملوك بالمظافرة ومكثر زينة الأسماء بنجومهم الزاهره ومكبر أقدار الأولياء بم تمت النعمة به من شرف المصاهرة
نحمده على نعمه التي شرفت قدرا وصرفت أمرا وأطلعت من هالة البدر المنير شمسا لا تتخذ غير الأفق خدرا ولا تتمنى الليالي والأيام إلا أن تقلدها من الأشعة ياقوتا ومن الكواكب درا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تجمع من حماة الدين نسبا وصهرا وترفع في أنباء الأبناء لها حسبا وذكرا ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي عصم به وخص صفوة الخلق في المصاهرة باختلاط نسبهم بنسبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تستوثق بها الأسباب وتستوسق الأنساب وتبقى أنوارها بملك أبناء الملوك كلمة باقية في الأعقاب وسلم تسليما كثيرا
وبعد فلما جمع الله بملوك البيت الشريف المنصوري كثر الله عددهم شتات الإسلام ومحا ببوارق جهادهم ما امتد من ظلام حتى انتهت النوبة إلى من أصبحت به الدولة القاهرة وكل أوقاتها أنوار صباح ونوار أقاح سماء وسماح وأسمى نعم لا تعد إلا معاقد تيجان الملوك على كل جبين وضاح المقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي
الناصري زاد الله شرفه وأعلى على شرفات بروج السماء غرفه فأحب لما أجراه الله به وبمن سلف من ملوك بيته الشريف من تأييد هذه الأمة وتأييد ما شملها بفتوحاتهم المذهبات الفتوح من سوابغ النعمة أن يعمل بقول نبيه المشرف بموافقة اسمه ومتابعة حكمه في التزويج وأن تقع مواقع أمطاره على كل أرض حره فتنبت كل زوج بهيج
وكان من بنيه أدام الله سعودهم من يطيع في كل أمر أمره العالي أدام الله تمكينه ولولا هذا لما رضي سوى أقران الفرسان له قرينة وكان من نجبائهم إذا عدت الأولاد وأحبائهم إذا كان كما يقال الولد ثمرة الفؤاد ومن هو لجملتهم جمال ولدولتهم دلال ولغابهم أسد الأشبال من يعترف كل من عرفه بفضله ويؤمل في أبنائه ما لأبناء سميه إبراهيم من بركة نسله
برز المرسوم الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري أنفذه الله في الأقطار بأن يتخير لمغرسه الكريم ونسبه الصميم وصباحه المشرق وسماحه المغدق فصادف الإحسان موضعه وانتخب له من مشرق البدر التمام مطلعه ومن هو من هذه الدولة القاهرة على الحقيقة باليمين ومن هو البحر الزاخر ومن مكنونه يستخرج أفخر الثمين فبادر الخاطب إليه إلى اغتنام هذا الشرف الذي لا يطاول وعاجل هذه النعمة التي لولا فضل الله وصدقات سلطانه خلد الله ملكه ما كانت مما تحاول وقال إن رضيت تلك الستور بهذه المخطوبة أو أهلت تلك السماء العلياء هذه المحجوبة فهي لما أهلت له في خدمة ذلك المقام الأمين وهي كما شاء مالكها المتصدق من ذوات العفة وإلا فهي مما ملكت اليمين فأتمت الصدقة الشريفة عوارفها بما هو أشرف مقاما وأعظم لها في رتبة الفخار فهي تسمو بهذا ولا تسامى وشرفته بما وصلت إليه عند المقر الشريف من المقام الكريم ولم تكن إلا من ذوات العقود ولا كيد ولا كرامة لما ينجلي به الليل البهيم ولا لما يتحلى في جيد الجوزاء من عقد درها النظيم ولولا إجلال المقام عن التطويل لما اختصر القائل فقال
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أصدق . . الخ . . . . . . .
الطرف الثاني في صدقات الرؤساء والأعيان وأولادهم
وهي على نحو من الصدقات الملوكية في الترتيب إلا أنها أخصر ومن الألقاب بحسب أحوال أصحابها من أرباب السيوف والأقلاموهذه نسخة صداق جمال الدين عبد الله بن سيف الدين أبي سعيد أمير حاجب على بنت بيدمر العمري من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله مبلغ كل آمل ما يرجوه وراعي ذمم من لم ينسوا عهده ولم يخلفوه ومكمل الخير لكل ذي [ . . . ] يصد من يجفوه ومجيب كل منيب يدعوه قائما وقاعدا ( ولما قام عبد الله يدعوه )
نحمده حمدا نكرر فضله ونتلوه ونحل معضله ونجلوه ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يتظافر عليها الآمر المسلم وبنوه وتبيض بها وجوه الأوداء وتسود وجوه الأعداء يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي سعد به ذووه وصعد قدر صهره وحموه وشرف نسبا ما التقى فيه على سفاح هو ولا أولوه صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه صلاة لا يزال بها الروض الأرج يفوه والسحر يبلغها ولو سكت وختم بالبرق فوه وسلم تسليما
وبعد فإن أزهى زهر طاب مجتنوه وطال باعا في الفخار مجتبوه زهر كمامة جرت عنها لأمة كمي وأبرزتها سنة الإسلام من حجاب ذي أنف حمي وطلعت من أفق بدري طالما سنح مجتلوه وحمى سيف أمن في كلئه بكلاءته مختلوه
وكان الجناب الجمالي عبد الله ابن المرحوم سيف الدين أبي سعيد أمير حاجب أدام الله تعالى علاه ورحم أباه هو ولد ذلك الوالد وطارف ذلك التالد ونشو هذه الدولة الشريفة الكاملية التي أخذ منها حظه بالتمام والكمال وأصبحت به كالغادة الحسناء ذات الحسن والجمال ولم يمت أبوه في أيام سلطانها خلد الله ملكه حتى قرت به عينه وساواه في الإمرة لولا تفاوت العدة وقدم المدة بينه وبينه وجاء منه ولد نجيب وابن شاع وذاع سر أبيه وحمد وهذا عجيب
ولما انتقل والده رحمه الله تعالى إلى رحمة ربه وشرب بالكأس الذي لا بد لكل حي من شربه تطلب مثل ذلك الأب ولم يزل يجد حتى وجد وظفر بوالد إن لم يكن ولده حقيقة فإنه عنده مثل الولد وهو المقر بيدمر وهو الوالد الذي لم يفقد معه من والده ذرة والأب الذي هو أرأف من كل أم برة والنير البدري الذي سعد قرانا وصعد وداس بقدمه أقرانا وقسم دهره شطرين نهاره للضيوف قرى وليله لله قرآنا هذا إلى أنه طالما طيب لزكاة أمواله وثمرها وزين في أعماله بمدرسة عمرها وقيد شوارد حسناته وثقفها مع أنه شيد الممالك وسدد أمورها وسد ثغورها وحمى ببيض سيوفه السواد الأعظم ورمى بصوائب سهامه
النوائب ولم تستعظم ولم تزل نوب الأيام تجرب منه مسوريا وتجرد حرا كريما جاء في أول السنة صقرا بدريا فكان من تمام بره بمن سلف إجابة ولده وإجالة الرأي فيما يكون سببا لصيانة عزمته وذات يده فأنعم له بعقيلته الممنعة وربيبته التي غدت الشمس منها سافرة مقنعة وقال على الخير والخيرة وابن أخ كريم وجدع الحلال أنف الغيرة وما أسنى عقدا يكون متوليه ومنشئه إحسانا منه ومسنيه مولى به نظمت عقود اللآلي ورقمت بعلمه أعلام الأيام وذوائب الليالي وسلمت القضايا به إلى منفذ أحكامها ومنيل الفضل لحكامها البحر الزاخر والنجم الذي كم ترك الأول منه للآخر والغمام إلا أنه قضت صواعقه على الخصوم والإمام الذي أجمعت عليه السنة ولم تنكر الشيعة أنه الإمام المعصوم والعالم الذي ما برحت بروقه تشام وحقوقه على أهل مصر والشام والذي ولى الظلم منذ ولي واعترف ذوو الفضل والفصل في القضاء أن أتقاهم تقي الدين وأقضاهم
( قاضي القضاة أبو الحسن ... ببقائه يجلى الحزن )
( وهو الذي في حكمه ... يجري على أقوى سنن )
( طود إذا وازنته ... بالطود في حكم وزن )
( والبحر طي ردائه ... قلد العقود بلا ثمن )
فأضاء المحفل به وبالحاضرين وقام شعار الدين حتى قال القائل هذه سيوف المجاهدين وهذا سيف المناظرين وقيل هذا وقت جود قد حضر وموضع سرور ينبغي أن يعجل منه ما ينتظر فابتدأ السعد محياه الوسيم وافتتح فقال
بسم الله الرحمن الرحيم هذا . . . . . . . . . . . . . .
وهذه نسخة صداق ناصر الدين محمد بن الخطيري من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله وهي
الحمد لله الذي زاد الأصول الطيبة قربا وزان الأنساب الطاهرة بصلة تتأكد حبا وصان كرائم البيوت القديمة الفخار بمن يناضل عن حسبه ذبا ويناظر العلياء فلم يبن إلا بين منازل النجوم بيوتا ولم يسبل سوى السمر سمر القنا حجبا
نحمده حمد من دعاه قبل بث النسم فلبى واستدعاه لأخذ العهد عليه أمام تفريق القسم فما تأبى ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تستنطق ألسنة وتشكر قلبا وتستغدق أنواء السرور فتضيء البشائر بروقا وتمطر الرحمة سحبا ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قام في تكثير الأمة حتى زاد عددها على مواقع القطر وأربى وقال مما أمر به ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى أقربائه صلاة تضم آلا وصحبا ما سارت الشهب تقطع الآفاق شرقا وغربا وسلم تسليما
وبعد فإن أولى ما اشتبك وشيجه واشتبه في منابت الأيك بهيجه وانتبه في أرائك الخمائل أريجه وانتدب لإتيانه الأفق وظهر عليه من ذهب العشاء تمويهه ومن لمع الصباح تدبيجه ما اتبعت فيه الشريعة المطهرة حيث لا تختلف الأئمة والسنة النبوية على من سنها أفضل الصلاة والسلام فيما تأتلف به البعداء وتكثر لمباهاته الأمم يوم القيامة هذه الأمة وتدنو به الأجانب بعضهم من بعض ويجعل بينهم مودة ورحمة وتعد به أياد جمة لا
تحصر ويخلد به في العاقبة شرف الذكر ويتعجل به شرف النعمة وهو النكاح الذي تشتد به الأواصر وتعتد به الموارد لتمثيل أكثر الصور من أزكى العناصر وتمتد به همم الأبطال لما يستخرجه بحفدة أبنائه من أتم قوة وناصر
وأكمله ما تماثلت في أشرف البيوت العريقة وجوه فخاره وتقابلت في مطالع السعود حيث البدر المنير والشرف الخطير مشارق شمومه ومطالع أقماره
وكان الأبوان في أهل الفخار من جرثومة بسقا وأرومة تفرقت فروعها ثم تلاقى منها غصنان واعتنقا من بيت ما حجبه إلا مواضي الصفاح ولا شبهه إلا طلائع الأسنة في رؤوس الرماح ولاسحبه إلا ما يفيض على جنباته من النفوس أو يفيض من السماح ولا سجفه إلا المناقب لولا أن الثريا جاذبت ما يعرض في السماء أثناء الوشاح وكان هو الراغب إلى عمه الخاطب إليه ما لم يكن يخبأ إلا لقسمه الطامح نظره إلى عقيلة الفخار في غرفها الطامع بخطبة الشمس شمس النهار إلا أنها في بيت شرفها المتوقع من كرم عمه الإجابة التي لحظها بأمله وتولية يد كريمة لا يعتدل الزمان إلا إذا حملت شمسها في بيت حمله توقعا لنسل لا يزال به شرف هذا البيت الكريم موجودا ونسب إذا عد ولد منه الآباء عد جدين سعيدين هذا مسعودا وهذا محمودا فتلقى قصده بإكرام بوأه أكناف الشرف وأوطأه فرش الكرامة ممتعا بنعيم الترف ابتداعا للكرم المألوف واتباعا للسنة الشريفة إذ كان الأقربون أولى بالمعروف
فتباريا جودا سارع كل منهما في أداء حقه إلى الواجب وتجاريا إليه ليلحقا شأو أبويهما وكل منهما يعلم أنه العين والعين لا ترتفع على الحاجب وأتم الجناب الشرفي محمود أدام الله نعمته بحسن إجابته ويمن رغبته في أهل عصبته وأهل جنوده إلى أن ساروا إلى الهيجاء تحت عصابته بأن فوض هذا الأمر إلى أخيه الكبير والد الخاطب وسكت وقال هو في التصرف وعني المخاطب وله الأمر ولولا الشرف بنسبة الأخوة إليه لما قلنا
إلا أننا ملك يده وإذا كان العم صنو الأب فأي فرق بين ولدي وولده ولئن اختص في نسبة هذه الزوجة في يومه هذا فإن أولادها لا تعرف إلا به في غده فكمل هذا العقد وأشرق به السعد الطالع أضوأ مما قدم وأخر من النقد وكان من تمام التكريم أن قال قائله
بسم الله الرحمن الرحيم . . . . .
وهذه نسخة صداق القاضي تقي الدين وهي
الحمد لله الذي رفع إلى المنازل العلية من كان تقيا وجمع شمل من لم يبرح لسنن السنن تابعا وبها حفيا وخلع أثواب الثواب على من سرح طرف طرفه في روض التأهل وجعله وضيا
نحمده على نعمه التي من هز جذع نخلها تساقط عليه رطبا جنيا ونشكره على فضله الذي كم أجرى لقاصده من بحره المعروف سريا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تمنح قائلها في غرف الجنة مكانا عليا ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي آتاه الله الكتاب وجعله نبيا الآمر بالنكاح ليكاثر بهم الأمم يوم يقر به الله نجيا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان يحل منهم في حالتي الكرم والكرامات وليا ما أطلع التوفيق في آفاق الاتصال من الأنساب الكريمة كوكبا دريا وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى السنن بالاتباع سنة النكاح التي أخفى نور مصباحها شمس الصباح وخفقت على معالمها أعلام النجاة والنجاح وحمد المسير إلى ربوعها الآهلة بأهلة العصمة في الغدو والرواح يا لها سنة سنة وجهها جميلة وأصابع نيل نيلها بل أياديه جزيلة بها تحمى أشجار النسب ويطيب جناها وتبلغ النفوس من الصيانة أقصى مناها ويظفر أولو الرغبة فيما أحل الله بمطلوبهم وتؤلف بين من لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين
قلوبهم وهي الوسيلة التي تكثر سواد هذه الأمة والذريعة إلى بقاء النوع الذي أظهر الله في سماء التكريم نجمه وإليها الإشارة في قوله تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة )
ولما كان كذلك رغب في اقتناء آثارها واهتدى بالضوء اللامع من أقمارها من يتشرف المكان بذكر وصفه ويتعطر ما انتشر في طيبه من طيب عرفه ماجد عمر البلاد الساحلية بدوام ديمه وجواد ما جاوره البحر إلا ليقتبس من كرمه ورئيس امتطى ذروة العلياء بحسن السلوك وأريحي لو لم يكن صدرا لما أودع سر الملوك إن تكلم أبرز لك الجوهر المصون وإن كتب ضحكت لبكاء قلمه ثغور الثغور والحصون لله نسبه المشهور بين الأكابر الأعيان وبيته المعمور بالعين المرفوع خبرها إلى فتيان فخطب من علا قدرها واشتهر بالحسن الجميل ذكرها وجلت عن أن ترى العيون لها في الصون شبيها وعمت البقاع سحب بركة أبيها أكرم به عالما عاملا وإماما لم يزل يبدي فضلا ويسدي نائلا كم له من آثار مشهورة ومناقب مأثورة وصدقات مبرورة ومواطن بذكر الله معمورة
فقوبل بالبشر قول رسوله ورد رائده مخبرا ببلوغ سوله وقيل له بلسان الحال هذا ما كانت تنتظر الآمال ياله عقدا غلت جواهر عقوده وأنارت في آفاق الاتفاق أنجم سعوده وتمايلت قدود أغصان الأفراح
وزهت مجالس السرور بالانشراح وهبت قبول الإقبال وقام القلم خطيبا على منبر الطرس فقال
هذا ما أصدق . . . . . .
وهذه نسخة صداق من إنشاء الشيخ صلاح الدين الصفدي للقاضي بدر الدين خطيب بيت الآثار على بنت شمس الدين الخطيب من بيت الآثار تسمى سولي في مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة في مجلس مولانا قاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي أدام الله أيامه وهي
الحمد لله الذي زين سماء المعالي ببدرها وأنبت في رياض السعادة يانع زهرها وألهم ذوي الهمم أن يبذلوا في الكرائم غوالي مهرها
نحمده على نعمه التي جللت ما ضفا من لباسها وسوغت ما صفا من رضاب كاسها وخصنا بما عمت به من أنواع أجناسها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعلمنا في الإيمان نصها بالأداء وبنى اسمها على الفتح كما فتح المضاف في النداء ورفع خبرها إما على رأي الرواة للشهرة وإما على رأي النحاة بالابتداء ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي شرع النكاح لهذه الأمة ومنع السفاح فلم يكن أمرنا علينا غمة ونهج الصواب فما ظنك بالصباح إذا ابتلج عقيب الليلة المدلهمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تلقوا أوامره بالطاعة واجتنبوا نواهيه حتى بلغوا جهد الاستطاعة وفهموا مراده بمكاثرة الأمم فكان البضاع عندهم خير بضاعة صلاة رضوانها يضيء إضاءة الكواكب في أبراجها وغفرانها يكاثر البحار في
أعداد موجها ما اتصل سبب بالنكاح وانفصل نسب بالسفاح وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
وبعد فإن النكاح من محاسن هذا الدين القيم وفضائل هذا الشرع الذي لا زال شرفه بدرا بين مشرقات النجوم وهو مخيم به يحفظ النسب الشرود ويرعى عهد القرينة الولود الودود
وكان فلان ممن أشبه أباه وأبين ما أودعه من نفائس العلوم وحباه تصدر في المجالس ودرس في المدارس وأورد ما عنده من النفائس كيف لا وهو سبط شيخ الإسلام وإمام المسلمين وقاضي قضاة الشافعية وأوحد المجتهدين وقد أراد الآن إحصان فرجه وأن تنزل الزهرة مع بدره في برجه
فلذلك رغب المجلس العالي المسمى وخطب الجهة المصونة المحجبة النقية التقية العفيفة الخاتون غصن الإسلام شرف
الخواتين جمال ذوات الستور قرة عين الملوك والسلاطين السيدة سولي بنت فلان صان الله حجابها فأكرم موارد قصده وحباه أنفس درة في عقده
فلذلك قام خطيب هذا الحفل الكريم والنجم الذي لم يزل نجمه بالطالع المستقيم وقال
بسم الله الرحمن الرحيم . . . . . . . .
قلت وهذه نسخة صداق زين الدين صدقة السيفي أزدمر على بنت أمير المؤمنين المتوكل على الله أنشأته له في خلافة أخيها المستعن بالله العباسي وهي
الحمد لله مستخرج الدوحة الهاشمية من أطيب العناصر ومفرع النبعة العباسية من أكرم صنو انعقدت على فضله الخناصر ومخصص بيت الخلافة منها بأعز جانب ذلت لعزه عظماء الملوك ما بين متقدم ومعاصر
نحمده على أن صان عقائل الخلفاء بمعاقل الحسب وحصر كفاءتها في العلم والدين حيث لم يكافآ بحرفة ولا نسب ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي سن النكاح وشرعه وأرغم بالحل أنف الغيرة لدى الإباء وقمعه شهادة يستنشق من ريا عبيرها كل شذى أريج وتجتنى ثمار ينعها بشريف النتاج من كل زوج بهيج ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبي وفر في الفضل سهمه حتى لم يساهم وأكرم رسول رخص في تزويج بناته من صحابه وإلا فأين كفء رسول الله من العالم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين شرفهم بقربه وقرن الصهر بالنسب فيهم فخص مصاهرته أخصهم به صلاة تصل سبب قائلها بسببه وتجعل الفخار بها كلمة باقية في عقبه وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن أولى ما أطال فيه المطيل وشحذ في وصفه الذهن الكليل ورقمت محاسن ذكره على صفحة النهار بذائب ذهب الأصيل ما تواصلت به الأنساب وتوصل بواسطته في دراري الذراري إلى شرف الأحساب وتوفرت عليه الدواعي فاشتدت به الأواصر وحسنت في طريق قصده المساعي فتأكدت به المودة في البواطن والظواهر وهو النكاح الذي ندب الله تعالى إلى معاطاته وحض على التحلي بحليه حتى ألحقه بالعبادة في بعض حالاته طلبا للتحصين الكافل بسلوك نهج الاستقامة ورغبة في تكثير النسل الواقع به مكاثرة الأمم يوم القيامة
هذا وكرائم بيت الخلافة وربائب محتد المجد والإنافة في حيز لو طلب مناو مكافأتها لطلب معوزا أو رام مقاوم مضاهاتها في علو الرتبة لرام معجزا لما اختصت به من السيادة التي لا يرقى إلى منزلتها والمعالي التي لا تسمو النفوس وإن شمخت إلى رتبتها إذ كان النظير لشرف أرومتها ممتنعا والنقيض بما ثبت من طيب جرثومتها مرتفعا فبرق معاليها في التطاول لا يشام وجوهر فخارها في المآثر لا يسامى ولا يسام فعز بذلك في الوجود مكافيها وامتنع خوف الهجوم بالاختطاب موافيها إلا أن المواقف الشريفة المقدسة المتوكلة زاد الله تعالى في شرفها وأدام رعايتها بحلة الملوك وحمايتها وكنفها مع ما انفردت به من العز الشامخ الذي لا يساوى والشرف الباذخ الذي لا يناوى قد رغب تفضلها في أهل الفضل فمال إليهم واختص باقباله أهل الدين فأقبل بكليته عليهم محلا لهم من شريف مقامه العلي محل الاصطفاء ومقدما لهم في المصاهرة على أبناء الملوك والخلفاء فوافق في الفضل شن طبقة وحاول سارة النعم منها خير خاطب فتلقى بقبول إن الله تصدق عليكم بصدقة فعند ذلك ابتدر القلم منبر الطرس فخطب وخطب بالمحامد لسانه اللسن فكتب
هذا ما أصدق العبد الفقير إلى الله تعالى الجناب العالي الأميري الكبيري الشيخي الإمامي العالمي العاملي العابدي الخاشعي الناسكي
البليغي المفوهي الصدري الرئيسي الأصيلي العريقي الزيني أبو المعالي صدقة الجهة الشريفة العالية الكبرى المعظمة المحجبة المصونة سليلة الخلافة فرع الشجرة الزكية جليلة المصونات جميلة المحجبات سارة البكر البالغ ابنة سيدنا ومولانا المقام الأشرف المقدس العالي المولوي السيدي الإمامي النبوي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد أمير المؤمنين ابن المقام الأشرف العالي المولوي الإمامي المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر ابن الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد لا زال شرفه باذخا وعرنينه الشريف شامخا وذكر مناقبه العلية لكل منقبة ناسخا صداقا جملته كذا وكذا زوجها منه بذلك فلان وقبله فلان وتم على بركة الله تعالى وحسن توفيقه كاملة شروطه ولوازمه مباركة عوذه وتمائمه ميمونة فواتحه وخواتمه مفتتحة بطيب العيش أزاهره مفترة عن نوره إن شاء الله تعالى كمائمه
الفصل الخامس من الباب الأول من المقالة العاشرة فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب مما جرت العادة بمراعاة النثر المسجوع فيه ومحاولة الفصاحة والبلاغة وفيه طرفان
الطرف الأول فيما يكتب عن العلماء وأهل الأدب ثم هو على صنفين
الصنف الأول الإجازات بالفتيا والتدريس والرواية وعراضات الكتب ونحوها
أما الإجازة بالفتيا فقد جرت العادة أنه إذا تأهل بعض أهل العلم للفتيا والتدريس أن يأذن له شيخه في أن يفتي ويدرس ويكتب له بذلكوجرت العادة أن يكون ما يكتب في الغالب في قطع عريض إما في فرخة الشامي أو نحوها من البلدي وتكون الكتابة بقلم الرقاع أسطرا متوالية بين كل سطرين نحو أصبع عريض
وهذه نسخة إجازة بالفتيا والتدريس على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كتبت لي حين أجازني شيخنا العلامة سراج الدين أبو حفص عمر بن أبي الحسن الشهير بابن الملقن سقى الله تعالى عهده
عند قدومه ثغر الإسكندرية وأنا مقيم به في شهور سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وكتب لي بذلك القاضي تاج الدين بن غنوم موقع الحكم العزيز بالإسكندرية في درج ورق شامي في قطع الشامي الكامل وسني يومئذ إحدى وعشرون سنة فضلا من الله ونعمة
ونسختها بعد البسملة الشريفة
الحمد لله الذي رفع للعلماء مقدارا وأجزل نعمه عليهم إذ أعلى لهم منارا ووفق بسواء الطريق من اقتدى بهم إيرادا وإصدارا أشرعت هممهم العلية في حلبة السباق فهي لا تجارى وتحلو بالمفاخر جهرا وقد عجز غيرهم أن يتحلى بها إسرارا أبرز بهم في هالات المفاخر أقمارا وأزال بضياء علومهم ريب الشك حتى عاد ليل الجهالة نهارا جعلهم لدينه أنصارا وصيرهم نخبة أصفيائه إذ أودعهم من المعارف أسرارا واختصهم بكونهم ورثة أنبيائه وناهيك بها فخارا
أحمده حمد من هدي إلى الحق فجعله شعارا واستضاء بنور الهدى فلجأ إلى مولاه في حالتي سره وجهره افتقارا وعجز عن شكر ما أسدى إليه من النعم لما توالى عليه وبلها مدرارا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تصديقا وإقرارا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله والأصنام قد عبدت جهارا والكفار قد أعرضوا عن الحق استكبارا فقام بأمر الله انتصارا وقهر من أعرض عن الله اغترار وأخمد بضياء نوره الباطل وأهدره إهدار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تزيدنا في ديننا استبصارا وتحط عنا من ثقل الذنوب أوزارا وتبوؤنا إن شاء الله تعالى في دار الخلود قرارا
أما بعد فقد وضح لذوي الأبصار والبصائر واتضح عند ذوي
الأسرار والسرائر واستقر عند ذوي القلوب السليمة والعقول الراجحة المستقيمة أن منزلة علم الشريعة عند الله تعالى أعلى المنازل وفضله أفضل المآثر وآثر الفضائل وخصوصا معرفة تفاصيل أحكام أفعال المكلفين بالشريعة المحمدية التي من علمها وعمل بها وعلمها فقد سعد السعادة الأبدية إذ هي الشريعة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة الناسخة لما خالفها من الشرائع الغابرة الباقية إلى أن يأتي وعيد الله وكل شريعة سواها داثرة فقد أعظم الله تعالى على من حفظها على عباده المنة إذ جعله وقاية لهم من مهالك الجهل وجنة ووعده أن ينزل في أعلى منازل الجنة لما شهدت به نصوص الكتاب والسنة قال الله تعالى لنبيه ( وقل رب زدني علما ) فنبهه على أن العلم أقوى أسباب العبادة إذ خصه به وحضه على أن يطلب منه الزيادة وقال تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) فثنى بذكرهم بعده لكونهم أفضل الخلائق عنده وقال تبارك وتعالى اسمه وتقدس علمه ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) فأوضح بذلك أن أولياءه من خلقه العلماء إذ وصفهم وخصهم بأنهم الخائفون منه الأتقياء
وقال عليه السلام ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) وقال أيضا ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) وقال أيضا ( ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم ومتعلم
ولما كان فلان أدام الله تعالى تسديده وتوفيقه ويسر إلى الخيرات طريقه ممن شب ونشأ في طلب العلم والفضيلة وتخلق بالأخلاق المرضية الجميلة الجليلة وصحب السادة من المشايخ والفقهاء والقادة من الأكابر
والفضلاء واشتغل عليهم بالعلم الشريف اشتغالا يرضي وإلى نيل السعادة إن شاء الله تعالى يفضي استخار الله تعالى سيدنا وشيخنا وبركتنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العلامة الحبر الفهامة فريد دهره ونسيج وحده جمال العلماء أوحد الفضلاء عمدة الفقهاء والصلحاء سراج الدين مفتي الإسلام والمسلمين أبو حفص عمر ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العامل الأوحد الكامل القدوة المرحوم نور الدين أبي الحسن علي ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الصالح الزاهد العابد الخاشع الناسك القدوة المرحوم شهاب الدين بركة الصالحين أبي العباس أحمد ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الصالح القدوة العارف المرحوم شمس الدين أبي عبد الله محمد الأنصاري الشافعي أدام الله تعالى النفع به وببركته وأشركنا والمسلمين في صالح أدعيته بمحمد وآله وصحبه وعترته
وأذن وأجاز لفلان المسمى فيه أدام الله تعالى معاليه أن يدرس مذهب الإمام المجتهد المطلق العالم الرباني أبي عبد الله محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه وأن يقرأ ما شاء من الكتب المصنفة فيه وأن يفيد ذلك لطالبيه حيث حل وأقام كيف ما شاء متى شاء وأين شاء وأن يفتي من قصد استفتاءه خطا ولفظا على مقتضى مذهبه الشريف المشار إليه لعلمه بديانته وأمانته ومعرفته ودرايته وأهليته لذلك وكفايته
فليتلق أيده الله تعالى هذه الحلة الشريفة وليترق بفضل الله تعالى ذروة هذه المرتبة المنيفة وليعلم قدر ما أنعم الله تعالى عليه وأسدى من الإحسان الوافر إليه وليراقبه مراقبة من يعلم اطلاعه على خائنة الأعين وما تخفي الصدور وليعامله معاملة من يتحقق أنه يعلم ما يخفيه العبد وما يبديه في الورود والصدور ولا يستنكف أن يقول فيما لا يعلم لا أعلم فذاك
قول سعد قائله
وقد جاء جنة العالم لا أدري فإن أخطأها أصيبت مقاتله فالله تعالى يرزقنا وإياه التوفيق والتحقيق ويسلك بنا وبه أقرب طريق ويهدينا إلى سواء السبيل فهو حسبنا ونعم الوكيل
وكتب في تاريخ كذا
وكتب شيخنا الشيخ سراج الدين المشار إليه تحت ذلك بعد حمد الله تعالى ما صورته
ما نسب إلي في هذه الإجازة المباركة من الإذن لفلان أدام الله تعالى النفع به وأجرى كل خير بسببه بتدريس مذهب الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي قدس الله روحه ونور ضريحه والإفتاء به لفظا وخطا صحيح
فإنه ممن فاق أقران عصره بذكائه وبرع عليهم بالاستحضار وتحرير المنقول ووفائه
وقد اعتنى وفقه الله تعالى وإياي من جملة محفوظاته بمختصر الجوامع لشيخنا العلامة كمال الدين النشائي تغمده الله تعالى بغفرانه فاستحضر بحضرتي مواضع منه جمة وأزال ببديع فصاحته جملة مدلهمة وأظهر من مشكلاته ما يعجز عنه اللبيب ومن أغاريبه ما يقف عنده البارع الأريب
فليتق الله حينئذ فيما يبديه وليتحر الصواب في لفظه وخطه وليراقب الله فيه فإنه موقع عن الله تعالى فليحذر الزلل ومحاولة الخطإ والخطل ويستحضر ما اشتملت عليه من الجلالة فإن الله تعالى تولاها بنفسه حيث قال ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة )
وأجزت له مع ذلك أن يروي عني مالي من التآليف ومنها جامع الجوامع أعان الله على إكماله وكذا شرح صحيح الإمام أبي عبد الله
محمد بن إسماعيل البخاري ومنها البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير للإمام أبي القاسم الرافعي وبه تكمل معرفة الفقيه ويصير محدثا فقيها
وأجزت له مع ذلك ما جاز لي وعني روايته بشرطه عند أهله زاده الله وإياي من فضله ومنها الكتب الستة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والمسانيد مسند أحمد ومسند الشافعي وغير ذلك
وكان ذلك في تاريخ كذا
وكتب عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي غفر الله لهم حامدا ومصليا ومسلما وأشهد عليه جماعة من أهل العلم بآخره
قلت وتكون ألقاب المجاز على قدر رتبته مثل أن يكتب له الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم العامل الأوحد الفاضل المفيد البارع علم المفيدين رحلة القاصدين فلان الدين أبو فلان فلان فلان بحسب رتب آبائه
وإنما أهملت ذكر الألقاب في هذه الإجازة من حيث إنه لا يليق بأحد أن يذكر ألقاب نفسه في مصنف له لأنه يصير كأنه أثنى على نفسه
وأما الإجازة بعراضة الكتب فقد جرت العادة أن بعض الطلبة إذا حفظ كتابا في الفقه أو أصول الفقه أو النحو أو غير ذلك من الفنون يعرضه على مشايخ العصر فيقطع الشيخ المعروض عليه ذلك الكتاب ويفتح منه أبوابا ومواضع يستقرئه إياها من أي مكان اتفق فإن مضى فيها من غير توقف ولا تلعثم استدل بحفظه تلك المواضع على حفظه لجميع الكتاب وكتب له بذلك كل من عرض عليه في ورق مربع صغير يأتي كل منهم بقدر ما عنده من الملكة في الإنشاء وما يناسب ذلك المقام من براعة الاستهلال ونحوها فمن عال ومن هابط
وربما خفف بعضهم فكتب
وكذلك عرض علي فلان أو عرض علي وكتبه فلان إما رياسة وتأبيا عن شغل فكره وكد نفسه فيما يكتبه وإما عجزا عن مضاهاة من يكتب معه
وقد اخترت أن أضع في هذا المحل ما وافق الصنعة وجرى على أسلوب البلاغة
فمن ذلك ما كتب به الشيخ الإمام العلامة لسان العرب وحجة الأدب بدر الدين محمد بن أبي بكر المخزومي المالكي للنجل النبيل الذي تنتهي الألقاب ولا نهاية لمناقبه شهاب الدين أبي العباس أحمد ابن سيدنا الفقير إلى الله تعالى ذي الأوصاف التي تكل شبا الألسن عن حدها شمس الدين أبي عبد الله محمد العمري الشافعي حين عرض عليه عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني وشذور الذهب للشيخ جمال الدين بن هشام في رمضان سنة سبع عشرة وثمانمائة وهو
أما بعد حمد الله على كرمه الذي هو عمدتنا في النجاة يوم العرض وناهيك به عمدة وسندنا الذي لا يزال لسان الذوق يروي حديث حلاوته عن صفوان بن عسال من طريق شهدة والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أحيا بروح سنته الشريفة كل من جاء ومن ذهب وأعربت كلماته النفيسة عن عقود الجوهر وشذور الذهب وعلى آله وصحبه الذين
أحسنوا الرواية والدراية وبنوا الأمر على أساس التقوى وأعربوا عن طرق الهداية ما انهل من أفق الكرم المحمدي كل عارض صيب وتحلت الاسماع والأفواه من أخباره بنفائس الشذور البديعة وحلاوة الكلم الطيب فقد عرض علي الجناب العالي البارعي الأوحدي الألمعي اللوذعي الشهابي شهاب الدين نخبة النجباء أوحد الألباء نجل السادة العظماء سلالة الأعيان العلماء أبو العباس أحمد ابن سيدنا المقر الكريم العالي المولوي العالمي الفاضلي البليغي المفيدي الفريدي المفوهي الشمسي العمري أطاب الله حديثه وجمع له بالإعراب عن علو الهمة قديم الفضل وحديثه طائفة متفرقة من عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي وشذور الذهب للعلامة جمال الدين بن هشام رحمة الله عليهما عرضا قصرت دونه القرائح على طول جهدها وكانت الألفاظ الموردة فيه لأمة حرب الفئة الباغية عليه فأحسن عند العرض في سردها وزين أبقاه الله تلك الأماكن بطيب لحنه وإعراب لفظه وآذن امتحانه فيها بأن جواهر الكتابين قد حصلت بمجموعها في خزانة حفظه
فحبذا هو من حافظ روى حديث فضله عاليا وتلا على الأسماع ما اقتضى تقديمه على الأقران فلله دره مقدما وتاليا وسار في حكم العرض على أعدل طريق وناهيك بالسيرة العمرية وصان منطقة عن خلل المعاني وكيف لا وقد تمسك بطريقة والده وهي المقدمة الشمسية وسابق أقرانه فكانت له زبدة التفضيل في حلبة السباق وطابق بين رفع شأنه وخفض شانيه ولا ينكر لمن هو من هذا البيت حسن الطباق واشتغل فلم يقع التنازع في حسن دخوله من باب الاشتغال ونصب فكره لتحصيل العلم فتعين تمييزه على كل حال وتوقدت نار ذهنه فتلظى حاسده بالالتهاب ورويت أحاديثه بالغة في العلو إلى سماء الفضل ولا بدع إذا رويت أحاديث الشهاب وافتخر من والده بالفاضل الذي ارتفع في ديوان الإنشاء خبره وهز المعاطف بتوقيعه الذي لا يزال يحرره ويحبره ووشى المهارق فكأنما هي رياض قد غرد فيها
بسجعه ونحاها بإنشائه الذي هو عمدة المتأدبين فلا عجب في رفعة ونظم ببيانه نفائس الدرر ففدتها بالعين صحاح الجوهري وفتح بجيش بلاغته معاقل المعاني الممتنعة وحسبك بالفتح العمري
( بيانه السحر قد أخفى معاقده ... لكن أرانا لسر الفضل إنشاء )
( إذا أراد أدار الراح منطقة ... نظما ويطربنا بالنثر إن شاء )
والله تعالى يبهج نفسه بما يصبح به الحاسد وهو مكمد ويقر عينه بهذا الولد النجيب حتى لا بيرح يقول أشكر الله وأحمد بمحمد وآله
ومن ذلك ما كتب به الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الدائم لولدي نجم الدين أبي الفتح محمد حين عرض عليه المنهاج في الفقه للنووي في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وهو
الحمد لله الذي أوضح بنجم الدين منهاج الفقه وأناره وأفصح لسانه بكتاب من عند الله وأثاره فسطعت أنوار شهابه لمن استنبطه وأثاره من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويرفع مناره والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بعموم الرسالة والمنصوص فضله بجميع أنواع الدلالة وعلى آله وصحبه نجوم الهدى وشهب التأسي والاقتدا
وبعد فقد عرض علي الفقيه الفاضل نجل الأفاضل وسليل الأماثل ذو الهمة العلية والفطنة الذكية والفطرة الزكية نجم الدين أبو عبد الله محمد بن فلان نفع الله به كما نفع بوالده وجمع له بين طارف العلم وتالده مواضع متعددة من المنهاج في فقه الإمام الشافعي المطلبي رضي الله عنه وعنا به تأليف الحبر العلامة ولي الله أبي زكريا بن شرف بن مري النووي سقى الله تعالى ثراه وجعل الجنة مأواه دل حفظه لها على
حفظ الكتاب كما فتح الله له مناهج الخير دقه وجله وكان العرض في يوم كذا
وكتب علامة العصر الشيخ عز الدين بن جماعة ما صورته
كذلك عرض علي المذكور باطنها عرضا حسنا محررا مهذبا مجادا متقنا عرض من أتقن حفظه وزين بحسن الأداء لفظه وأجزل له من عين العناية حظه مر فيه مرور الهملاج الوساع في فسيح ذي السباع
وقد دلني ذلك منه نفعه الله تعالى ونفع به ووصل أسباب الخير بسببه على علو همته ووفور أريحيته وتوقد فكرته واتقاد فطنته وأصله في ذلك كله عريق
( سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع )
وقد أذنت له أن يروي عني الكتاب المذكور وجميع ما يجوز لي وعني روايته من مصنفاتي وغيرها من منظوم ومنثور ومنقول ومعقول ومأثور بشرطه المعتبر عند أهل الأثر
وكتب فلان في تاريخ كذا
ومن ذلك ما كتبته لمن اسمه محمد ولقبه شمس الدين من أبناء بعض الإخوان وقد عرض علي الأربعين حديثا للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله والورقات في الأصول لإمام الحرمين واللمحة
البدرية في النحو للشيخ أثير الدين أبي حيان دفعة واحدة وهو لدون عشر سنين وهو
الحمد لله الذي أطلع من داراري الأفاضل في أفق النجابة شمسا وأظهر من أفاضل الذراري ما يغض به المخالف طرفا ويرفع به المحالف رأسا وألحق بالأصل الكريم فرعه في النجابة فطاب جنى وأعرق أصلا وزكا غرسا وأبرز من ذوي الفطر السليمة من فاق بذكائه الأقران فأدرك العربية في لمحة وسما بفهمه الثاقب على الأمثال فأمسى وفهم الورقات لديه كالصفحة وخرق بكرم بدايته العادة فجاز الأربعين لدون العشر وأتى على ذلك بما يشهد له بالصحة والصلاة والسلام عل سيدنا محمد الذي عمت بركة اسمه الشريف سميه ففاز منها بأوفر نصيب وخص بإلهام التسمية به أولو الفضل والنهى فما سمي به إلا نجيب وعلى آله وصحبه الذين أينعت بهم روضة العلم وأزهرت وأورقت شجرة المعارف وأثمرت
وبعد فقد عرض علي فلان مواضع من كتاب كذا وكتاب كذا فمر فيها مرور الصبا وجرى في ميدانها جري الجواد فما حاد عن سنن الطريق ولا كبا
وأما الإجازة بالمرويات على الاستدعاءات
فمن ذلك ما كتب به الشيخ صلاح الدين الصفدي رحمه الله على استدعاء كتب له به القاضي شهاب الدين أحمد الحنبلي خطيب بيت الآلهة وكاتب الدست بالشأم يطلب منه فيه الإجازة لنفسه وهو
الحمد لله الذي إذا دعي أجاب وإذا أنعم على الأديب بذوق أتى في نظمه ونثره بالعجاب وإذا وهب البليغ فطرة سليمة لم يكن عل حجاه حجاب
نحمده على نعمه التي منها البلاغة وأتقان ما لصناعة الإنشاء من حسن الصياغة وصيد أوابد المعاني التي من أعمل فكره في اقتناصها أو روى أمن رواغة ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة فطر الضمير على إخلاصها وجبل الفكر على افتناء أدلتها القاطعة واقتناصها وجعلت وقاية لقائلها يوم يضيق على الخلائق فسيح عراصها ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفصح من نطق بهذا اللسان وجاء من هذه اللغة العربية بالنكت الحسان وحث على الخير وحض على الإحسان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رووا أقواله وبلغوا لمن لم يره سننه وأفعاله وعلموا أن هذه الشرعة المطهرة أذخرها الله تعالى له فلم تكن تصلح إلا له صلاة هامية الغفران نامية الرضوان ما أجاب مجيب لمن استدعى وعملت إن في المبتدإ نصبا ولم تغير على الخبر رفعا وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
وبعد فإن علم الرواية من محاسن الإسلام وخصائص الفضلاء الذين تخفق لهم ذوائب الطروس وتنتصب رماح الأقلام ولم تزل رغبة السلف تتوفر عليه وتشير أنامل إرشادهم للأنام بالحث إليه
قيل للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يشتهي فقال سند عال وبيت خال
وما برح الأئمة الكبار يرتحلون إلى أقاصي الأقاليم في طلبه ويتحملون المشاق والمتاعب فيه ويتجملون بسببه فقد ارتحل الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره إلى عبد الرزاق باليمن وكان فيمن أخذ عنه ممن هو أحق بالتفضيل عليه قمن ولكنه فن يحتاج إلى ذوق يعاضد من لا يعانده وأمر لا يصبر عنه من ألفه وما يعلم الشوق إلا من يكابده فما عند من طلب الرواية أجل من أبناء جنسه ولا عند المفيد المفيد أحلى من قوله حدثنا فلان أو انشدنا فلان لنفسه ولكن
( ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا )
ولما كان الشيخ الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ . . . . . . . . ممن نظم فودت الدرر في أفلاكه لو اتسقت وكتب فرقم الطروس ووشاها وغشاها من زهرات الرياض ما غشاها وحل المترجم فسحر عقل كل لبيب وخلب لبه ووقع على القصد فيه فكأنه شيء من الغيب خص الله به قلبه وأتى فيه ببدائع ما تساوى ابن الصيرفي ولا ابن نباتة عندها بحبة وخطب فصدع القلوب وأجرى ذنوب المدامع من أهل الذنوب وحذر فكانت أسجاعه كألحان إسحاق وسامعه يبكي بأجفان يعقوب كأنما هو في حلة الخطابة بدر في غمامة أو منبره غصن وهو فوقه حمامة أو بحر وفضائله مثل أمواجه ودره يحكي كلامه لو رآه ابن نباتة ما أورقت بالفصاحة أعواده أو ابن المنير ما رقمت بالبلاغة أبراده أو ابن تيمية ما حظيت بالجدود أجداده فأراد أن يشرف قدري ويعرف نكري فطلب الإجازة مني وأنا أحق بالأخذ عنه واستدعى ذلك مني ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
فنعم قد استخرت الله تعالى وأجزت له ما يجوز لي تسميعه وذكرت هنا شيئا من مروياتي وأشياخي رحمهم الله وذكرت مصنفاتي
( إجازة قاصر عن كل شيء ... يسير من الرواية في مفازه )
( لمن ملك الفضائل واقتناها ... وجاز مدى العلى سبقا وحازه )
ومن ذلك ما كتب به الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن الصائغ على استدعاء لبعض من سأله الإجازة
بعد أقول حمد الله الذي لا يخيب من استجدى كرمه ولا يخيب من استدعى نعمه والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وخدمه وما اسود مدمه
( أثرت الجوى بي إذ أردت جوابي ... وعظمت خطبي إذ قصدت خطابي )
( ومن أنا في الدنيا أجيب ومن أنا ... أجيز مضى الأشياخ تحت تراب )
( عجيب لطلاب لدينا تخلفوا ... وكم قد أتانا دهرنا بعجاب )
( نحن إلى الموبلحة أمر ناي ... عربناه بالعذيب عذاب )
يا أخانا إن بضاعتنا في العلم مزجاة وصناعتنا في الوقت مرجاة ونسيم أخباره عليل وأدب إخباره قليل وتصانيفي وجوه أكثرها مسودة وآمالي في تبييضها لقصر الهمم ممتدة سئلت قديما من بعض الفضلاء أن أعدها فكتبت فيها رسالة لا أعرف لصقل الأذهان حدها ومن الله بعد ذلك بتصانيف أخر ومقاطيع إن لم تكن كالزهر فهي كالزهر ثم عدد نيفا وثلاثين مصنفا منها مجمع الفرائد في ست عشرة مجلدة
ثم أنشد في آخر ذلك
( ولقد شرفت قدري ... بنفيس من هدايا )
( بنظام شنف السمع ... بدر كالثنايا )
( فارو مني وارو عني ... واغن عن شد المطايا )
( وانتق الفضل وحصل ... واحظ مني بمزايا )
( وتحر الصدق واعلم ... أنه خير الوصايا )
أجزت لك أن تروي هذه وغيرها عني ولك الفضل في قبول ذلك مني
الصنف الثاني التقريضات التي تكتب على المصنفات المصنفة والقصائد
المنظومةقد جرت العادة أنه إذا صنف في فن من الفنون أو نظم شاعر قصيدة فأجاد فيها أو نحو ذلك أن يكتب له أهل تلك الصناعة على كتابه أو قصيدته بالتقريض والمدح ويأتي كل منهم بما في وسعه من البلاغة في ذلك
فمن ذلك ما كتب به الشيخ صلاح الدين الصفدي على مصنف وضعه الشيخ تاج الدين علي بن الدرهم الموصلي الشافعي في الاستدلال على أن البسملة من أول الفاتحة وهي
وقفت على هذا التصنيف الذي وضعه هذا العلامة ونشر به في المذهب الشافعي أعلامه وأصبح ونسبته إليه أشهر علم وأبهر علامة فأقسم ما سام الروض حدائقه ولا شام أبو شامة بوارقه كل الأئمة تعترف بما فيه من الأدلة وكل التصانيف تقول أمامه بسم الله كم فيه من دليل لا يعارض بما ينقضه وكم فيه من حجة يكل عنها الخصم لأن عقله على محك النقد يعرضه قد أيد ما ادعاه بالحديث والأثر ونقل مذهب كل إمام سبق وما عثر لقد سر الشافعي بنص قوله الذي هذبه وجعل أعلام مذهبه مذهبة وأتى فيه بنكت تطرب من أسرار الحرف وفوائد عرف بها ما بين ابن الدرهم بين البوني من البون في تفاوت الصرف
( أكرم به مصنفا ... فاق تصانيف الورى )
( ليل المداد فيه بالمعنى ... المنير أقمر )
( كم فيه برد حجة ... قد حاكه محررا )
( وكم دليل سيفه ... إذا التقى خصما فرى )
( فلم يكن من بعده ... مخالف قط يرى )
ومن ذلك ما كتب به المقر الشهابي بن فضل الله على قصيدة ميمية
للشيخ غرس الدين خليل الصفدي المعروف بالصلاح الصفدي مدح بها الأمير سيف الدين ألجاي الدوادار الناصري في شهور سنة تسع وعشرين وسبعمائة وهي
وقفت على هذه القصيدة التي أشرقت معانيها فكادت ترى وتمكنت قوافيها فاستمسك بها الأدب لما كانت الميمات فيها كالعرا فوجدتها مشتملة من البلاغة بوزنها على البحر المحيط لطيفة لا تقاس بأمثالها من الكلام المركب لأنها من البسيط فنظرت إليها مكتسبا من بيانها سحر الحدق متعجبا من منشئها لغرس يسرع الإثمار في الورق ثم فطنت إلى أن الممدوح بها أعزه الله تعالى سحت ديمه فروضت الطروس وبرحت مناقبه بما كان مصونا في أخبية النفوس وقد استوجب هذا المادح عطف الله تعالى قلبه عليه من منائحه حظا جزيلا وحبا يقول به لمن قصد المساواة به لو كنت متخذا خليلا لا تخذت فلانا خليلا
( مدبر الملك له ... على العلى مقاعد )
( تهوي إلى جنابه ... القصاد والقصائد )
قلت وكتبت على قصيدة نظمها شرف الدين عيسى بن حجاج الشاعر المعروف بالعالية مدح بها النبي وضمنها أنواع البديع ضاهى بها بديعية الصفي الحلي في شهور سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ما صورته
أما بعد حمد الله الذي أحل سحر البيان وأقدر أهل البلاغة من بديع التخيل على ما يشهد بصحته العيان وذلل برائض أفكارهم صعاب الألفاظ
فامتطوا من متون أحاسنها الجياد وأوضح لهم طرق الفصاحة فغدت لديهم بحمد الله تعالى سهلة القياد وأحيى ميت الأدب بروح الأنفاس العيسوية وعمر بأنسها ربوعه الخالية وحمى نفس الفضل في رقعة المساجلة أن تصل إليه فرازنة الدعاوى ولا غرو أن حماها العالية والصلاة على رسوله محمد أفصح من نطق بالضاد وأوتي جوامع الكلم فلن تحصر معاني كلامه الأعداد فإني وقفت على البديعية البديعة التي نظمها الفاضل الأرفع واللوذعي المصقع أديب الزمان وشاعر الأوان شرف الدين أبو الروح عيسى العالية أعلى الله تعالى منار أدبه ورفعه على مناويه وبلغ به من قصب السبق ما يمتنع أن يراه على البعد مضاهيه فألفيتها الدرة الثمينة غير أنها لا تسام والخريدة المخدرة إلا أنها لا يليق بها الاحتشام
( تروم احتشاما ستر لألاء وجهها ... ومن ذا لذات الحسن يخفي ويستر )
قد اتخذت من الاحتشام معقلا وحصنا لا يغشى وانتبذت من حسادها مكانا قصيا فلا تخاف دركا ولا تخشى
( ولم أدر والألفاظ منها شريفة ... إلى البدر تسمو أم إلى الشمس ترتقي )
أراد المدعي بلوغ شأوها الجري في مضمارها فقيل كلا ورام الملحد في آياتها الغض منها عنادا فأبى الله إلا
( ما إن لها في الفضل مثل كائن ... وبيانها أحلى البيان وأمثل )
فأمسوا في معارضتها غير طامعين وتلت عليهم آيات بلاغتها ( فظلت أعناقهم لها خاضعين )
( كم جدلت يوم الوغى من جندل ... صاحت به فما أطاق تصبر )
وكيف لا تخضع لها الأعناق وتذل لها رقاب الشعراء على الإطلاق وهي اليتيمة التي أعقمت الأفهام عن مثلها والفريدة التي اعترف كل طويل النجاد بالقصور عن وصلها
( زادت على من ذا يطيق وصالها ... ومحلها منه الثريا أقرب )
وأنى بذلك وقد أخذت من المحاسن بزمامها وأحاطت من الطلاوة بكمامها وأحدقت رياض الأدب بحدائقها واقتطفت من أفنان الفنون ثمار معان تلذ لناظرها وتحلو لذائقها
( ولا تعر غيرها سمعا ولا نظرا ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل )
وتصرفت في جميع العلوم وإن كانت على البديع مقصورة وشرفت بشرف متعلقها فأصبحت بالشرف مشهورة
( أهانت الدر حتى ماله ثمن ... وأرخصت قيمة الأمثال والخطبا )
لا جرم أضحت أم القصائد وكعبة القصاد ومحط الرحال ومنهل الوراد فأربت في الشهرة على المثل السائر واعترف بفضلها جزالة البادي وسهولة الحاضر
( فللأ فاضل في عليائها سمر ... إن الحديث عن العلياء أسمار )
فأعجب بها من بادرة جمعت بين متضادين سمر وسمر وقرنت بين متباعدين زهر وزهر وجادت بمستنزهين روض ونهر وتفننت في أساليب الكلام وجالت وطاوعتها يد المقال فقالت وطالت ودعت فرسان العربية إلى المبارزة فنكسوا وتحقق المفلقون العجز عن مؤاخاتها ولو حرصوا
( فأعرب عن كل المعاني فصيحها ... بما عجزت عنه نزار ويعرب )
إن ذكرت ألفاظها فما الدر المنثور أو جليت معانيها أخجلت الروض
الممطور أو اعتبر تحرير وزنها فاق الذهب تحريرا أن قوبلت قوافيها بغيرها زكت توفيرا وسمت توقيرا أو تغزلت أسكتت الورق في الأغصان أو امتدحت قفت إثر كعب وسلكت سبيل حسان فإطنابها لفصاحتها لا يعد إطنابا وإيجازها لبلاغتها يمد على المعاني من حسن السبك أطنابا
( أبن لي مغزاها أخا الفهم إنها ... إلى الفضل تعزى أو إلى المجد تنسب )
هذا وبراعة مطلعها تحث على سماع باقيها شغفا وبديع مخلصها يسترق الأسماع لطافة ويسترق القلوب كلفا وحسن اختتامها تكاد النفوس لحلاوة مقطعه تذوب عليها أسفا
( لها من براهين البيان شواهد ... إذ الفضل ورد والمعالي موارد )
وبالجملة فمآثرها الجميلة لا تحصى وجمائلها المأثورة لا تعد ولا تستقصى فكأنما قس بن ساعدة يأتم بفصاحتها وابن المقفع يهتدي بهديها ويروي عن بلاغتها وامرؤ القيس يقتبس من صنعة شعرها والأعشى يستضيء بطلعة بدرها فلو رآها جرير لرأى أن نظمه جريرة اقترفها أو سمعها الفرزدق لعرف فضلها وتحقق شرفها أو بصر بها حبيب بن أوس لأحب أن يكون من رواتها أو اطلع عليها المتنبي لتحير بين جميل ذاتها وحسن أدواتها
( فللبصائر هاد من فضائلها ... يهدي أولي الفضل إن ضلوا وإن حاروا )
ولا نطيل فمبلغ القول فيها أن آيتها المحكمة ناسخة لما قبلها وبرهانها القاطع قاض بأن لا تسمح قريحة أن تنسج على منوالها ولا يطمع شاعر أن يسلك سبلها
( وآيتها الكبرى التي دل فضلها ... على أن من لم يشهد الفضل جاحد )
الطرف الثاني فيما يكتب عن القضاة وهو على أربعة أصناف
الصنف الأول التقاليد الحكمية وهي على مرتبتين
المرتبة الأولى أن تفتتح بخطبة مفتتحة بالحمد لله
ثم يقال أما بعد ثم يقال ولما علمنا من حال فلان الفلاني كذا وكذا استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا فليباشر ذلك ويوص بما يناسبثم يقال هذا عهدنا إليك وحجتنا عند الله عليك فاعلم هذا واعمل به وكتب ذلك عن الإذن الفلاني
وهذه نسخة تقليد
الحمد لله الولي الحميد الفعال لما يريد نحمده على ما أولانا من إحسانه فهو المولى ونحن العبيد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توصلنا إلى جنة نعيمها مقيم وتقينا من نار عذابها شديد أليم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المشتملين على الطاعة والقلب السليم وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن مرتبة الحكم لا تعطى إلا لأهلها والأقضية لا ينتصب لها إلا من هو كفء لها ومن هو متصف بصفات الأمانة والصيانة والعفة والديانة فمن هذه صفته استحق أن يوجه ويستخدم ويترقى ويتقدم
ولما علمنا من حال فلان الفلاني الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة فإنه قد حوى المعرفة والعلوم والاصطلاح والرسوم وجمعت فيه خصال حملتنا على استنابته وقوتنا على نيابته استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا
فليباشر ذلك متمسكا بحبل الله المتين ( إنه من يتق ويصبر فإن الله
لا يضيع أجر المحسنين ) وليجتهد في إقامة الدين وفصل الخصومات وفي النظر في ذوي العدالات والتلبس بالشهادات وإقامة البينات فمن كان من أهل العدالة نزها وإلى الحق متوجها فليراعه ويقدمه على أقرانه ومن كان منهم خلاف ذلك فليقصه ويطالعنا بحاله
ولينظر في أمر الجوامع والمساجد ويفعل في ذلك الأفعال المرضية وفي أموال الأيتام يصرف منها اللوازم الشرعية فمن بلغ منهم رشيدا أسلم إليه ما عساه يفضل له منها ويقرر الفروض ويزوج الخاليات من الأزواج والعدد والأولياء من الأزواج الأكفاء ويندب لذلك من يعلم ديانته ويتحقق أمانته ويتخير لكتابة الصكوك من لا يرتاب بصحته ولا يشك في ديانته وخبرته وينظر في أمر المتصرفين ومن عنده من المستخدمين فمن كان منهم على الطريقة الحميدة فليجره على عادته وليبقه على خدمته ومن كان منهم بخلاف ذلك فليستبدل به وليقصه
هذا عهدي إليك وحجتي غدا عند الله عليك فاعلم هذا واعمل به
وكتب ذلك عن الإذن الكريم الفلاني وهو في محل ولايته وحكمه وقضائه وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما في التاريخ الفلاني
ثم يكتب الحاكم علامته والتاريخ وحسبنا الله ونعم الوكيل
وهذه نسخة تقليد
الحمد لله الحكم العدل الهادي عباده صراطا مستقيما الحاكم الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما المثيب من قدم له الطاعة من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال الرقيب على ما يصدر من أفعالهم فلا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال
أحمده على نعمه التي تنشيء السحاب الثقال وأستعيذه من نقمه التي يرسلها فيصيب بها من يشاء من عباده وهو شديد المحال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تفيد المخلص بها في الإقرار النجاة يوم المآل وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نعته بأكرم الشيم وأشرف الخصال وعرفه بما يجب من عبوديته فقال ( ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه في الأقوال والأفعال وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن من حسنت سريرته وحمدت سيرته وعرف بورع وشهر بعفاف وديانة وخير وإنصاف وأضحى نزه النفس عن الأمور الدنية فقيها دربا بالأحكام الشرعية عارفا بالأوضاع المرضية استحق أن يوجه ويستخدم ويرقى ويتقدم
ولما علمنا من حال فلان الفلاني من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا
فليكن متمسكا معتصما بحبل الله القوي المتين ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) وليباشر ما قلدناه أعانه الله سبحانه وتعالى ويراع حقوق الله تعالى في السر والعلانية فإنه معين من استعان به وتوكل عليه وهادي من استرشده وفوض أموره إليه
وليجتهد في فصل الأحكام بين المتنازعين والمساواة في العدل بين المتحاكمين قال الله تعالى ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )
وأن يثبت في الخصومات ويفرق بين الحقائق والشبهات وينصف كل ظالم من ظالمه بالشريعة المحمدية ليكون ذلك سببا للسعادة الأبدية وينظر في أمر الشهود فمن كان منهم نزها وإلى الحق متوجها فليراعه ومن كان منهم غير ذلك طالعنا بحاله وينظر في أمر الجوامع والمساجد معتمدا في ذلك قول الله العزيز القاهر ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر )
وينظر في أمر الأيتام ويحتاط على ما لهم من الأموال ويفعل في ذلك على جاري عادة أمثاله من الحكام من نفقة وكسوة ولوازم شرعية فمن بلغ منهم رشيدا أسلم إليه ما فضل من ماله بالبينة المرضية ويقرر الفروض على مقتضى قول الله تعالى ( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) ويزوج النسوة الخالية من العدد والأولياء ممن رغب فيهن من الأكفاء ويندب لذلك من يعلم أمانته وخبرته وينظر في أمر المتصرفين فمن كان منهم على الطريقة المأثورة أجراه على عادته وأبقاه على حكمه وخدمته ومن كان منهم خلاف ذلك يبعده ويقصيه ويستبدل به غيره ليبقى مكانه وفي تصرفه
هذا عهدي إليك وحجتي يوم القيامة عند الله عليك فلتعلم ذلك وتعمل به إن شاء الله تعالى
ويؤرخ ويكون ذلك بخط الحاكم ويكتب وحسبنا الله ونعم الوكيل ويتوجه بعلامته الكريمة
وهذه نسخة تقليد
الحمد لله ذي الفضل والسخاء واللطف في الشدة والرخاء الذي
من تواضع إليه رفعه ومن أطاعه نفعه ومن أخلص له في العبادة أمال عنه كيد الشيطان ودفعه الذي أحاط علمه بالموارد والمصادر واستوت عنده أحوال الأوائل والأواخر واطلع على ضمائر النفوس ولا ينبغي لغيره أن يطلع على الضمائر الخافض الرافع والمعطي المانع فإليه الأمر والتدبير المقسط الجامع ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير )
أحمده حمدا يقضي للسعادة بالتيسير وأشكره شكرا يسهل من المآرب العسير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه نعم المولى ونعم النصير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى والكتاب المنير وجعله للأمة خير بشير ونذير صلى الله عليه وعلى آله وصحابته شهادة يحل المخلصون بها جنة ( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير )
أما بعد فإن من كان عارفا بأحكام الشريعة متهيئا لنيل درجاتها الرفيعة مستندا إلى بيت مشكور وقدر موفور قلد الأحكام الدينية ليعمل فيها بالشريعة المحمدية
ولما علمنا فلان بن فلان بن فلان الفلاني قلدناه كذا وكذا
فباشر أعانك الله محافظا على تقوى الله الذي إليه المرجع والمصير قال الله تعالى في كتابه العزيز ( والله بما تعملون بصير )
واستشعر خيفة الله واجعلها نصب عينك وتمسك بالحق واجعله حجابا بين النار وبينك وانتصب لتنفيذ الأحكام انتصاب من يراقب الله ويخشاه وحاسب نفسك محاسبة من يتحقق أنه يطلع عليه ويراه وابذل في إنصاف المظلوم من
الظالم وسعك ورحب للمتحاكمين ذرعك وانظر في أمر الشهود وحذرهم أن يزوغوا عن الحق وحاسبهم فيما جل ودق ولا ترخص لهم وألزمهم أن يتخذوا الصدق منطقهم وانههم عن التسمح فيها وعرفهم التحرز عما يؤدي من التهمة والتطرق إليها وانظر في أمر المتصرفين بباب الحكم العزيز نظرا يؤدي إلى صلاحهم ولا تعول في النيابة عنك إلا على من تختاره وترتضيه ولا تعرج إلى من هو مستند إلى غاية ولا تمل إليه وانظر في أمر الأحباس نظرا يحفظ أصولها ولا تراع في استخلاص ما يتعين لها كبيرا ولا صغيرا ولا تعامل فيها إلا ذوي الوفاء واليسار وارفض معاملة من يستند إلى العدم والإعسار وافعل ما يفعله مثلك من الحكام من إنشاء العدالة والفسخ والإنكاح وغير ذلك فقد قلدناك هذه الأحكام فإن عملت فيها بتقوى الله تعالى وطاعته يعينك على ذلك وإن عملت غير ذلك فأنت والله هالك ثم حالك واستمع نصيحتي وافعل ما تبرد به جلدتك وجلدتي إن شاء الله تعالى
المرتبة الثانية
قلت وربما كتب التقليد بصيغة كتاب مثل أن يكتب إلى الذي يتولى على قدر مرتبته من صدرت هذه المكاتبة أو هذه المكاتبة ثم يقال تتضمن إعلامه أن المجلس الفلاني بلقبه ويدعى له لما علمنا من حاله كذا وكذا استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه الحكم والقضاء بمكان كذا فليباشر ذلك على نحو ما تقدم في التقليد الذي قبله الصنف الثاني إسجالات العدالة ) قد جرت العادة أن أبناء العلماء والرؤساء تثبت عدالتهم على الحكام ويسجل لهم بذلك ويحكم الحاكم بعدالة من تثبت عدالته لديه ويشهد عليه بذلك ويكتب له بذلك في درج عريض إما في قطع فرخة الشامي الكاملة وإما في نحو ذلك من الورق البلدي وتكون كتابته بقلم الرقاع وأسطره متوالية وبين كل سطرين تقدير عرض أصبع أو نحو ذلك
قلت وهذه نسخة سجل أنشأته كتب به لولدي نجم الدين أبي الفتح محمد وكتب له بها عند ثبوت عدالته على الشيخ العلامة ولي الدين أحمد ابن الشيخ الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي خليفة الحكم العزيز بمصر والقاهرة المحروستين في شهور سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وهي
الحمد لله الذي أطلع نجم العدالة من سماء الفضائل في أفق معاليها وأنار بدراري العلماء من حنادس الجهالة مدلهم لياليها وكمل عقود النجابة من نجباء الأبناء بأغلى جواهرها وأنفس لآليها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترقي قائلها إلى أرفع الذرا ويمتطي منتحلها صهوة الثريا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المخصوص بمحاسن الشيم والموصوف بكرم المآثر ومآثر الكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا من عرا الدين بالسبب الأقوى وسلكوا جادة الهداية فحصلوا من أقصى مغياها على الغاية القصوى وسلم تسليما كثيرا
وبعد فلما كانت العدالة هي أس الشريعة وعمادها وركنها الأعظم في الاستناد إلى الصواب وسنادها لا تقبل دونها شهادة ولا رواية ولا يصح مع عدمها إسناد أمر ولا ولاية فقد بينت الشريعة المطهرة على أركانها
واعتمد الرواة في صحة الأخبار على أصولها وتعلقت الحكام في قبول الشهادة بأحضانها إذ هي الملكة الحاملة على ملازمة التقوى والحفيظة المانعة من الوقوع في هوة البدع المتمسك بسببها الأقوى والحكمة الثانية عن الجماح إلى ارتكاب الكبائر والعنان الصارف عن الجنوح إلى الإصرار على الصغائر والزمام القائد إلى صلاح أعمال الظواهر وسلامة عقائد الضمائر
ولما كان مجلس القاضي الأجل الفقيه الفاضل المشتغل المحصل الأصيل نجم الدين سليل العلماء أبو الفتح محمد بن فلان القلقشندي الفزاري الشافعي خليفة الحكم العزيز بالقاهرة المحروسة والده والحاكم بالعمل الفلاني وما معهما أيد الله تعالى أحكامه وأقر عينه بولده هو الذي ولد على فراش الديانة وظهرت عليه في الطفولية آثارها ونشأ في أحياء الصيانة فرويت عنه بالسند الصحيح أخبارها وارتضع ثدي العلم حين بزوغ نجمه وغذيه مع لبان أمه فامتزج بدمه ولحمه وعظمه وأعلن منادي نشأته بجميل الذكر فأغنى فيه عن الاستخبار ولاحت عليه لوائح النجابة فقضى له بالكمال قبل أن يبلغ قمر عمره زمن الإبدار فلم يرد منهل التكليف إلا وقد تزين من محاسن الفضائل بأكمل زين ولم يبلغ مبلغ العلم حتى صار لوالده ولله الحمد قرة عين رفعت قصة مخبرة عن حاله فيها من مضمون السؤال طلب الإذن الكريم بسماع بينة المذكور وكتابة إسجال بعدالته فشملها الخط الكريم العالي المولوي القاضوي الإمامي العالمي العاملي العلامي الشيخي المحدثي الحافظي الحبري المجتهدي المحققي المدققي الوحيدي الفريدي الحجي الحججي الخطيبي البليغي الحاكمي الجلالي الكناني البلقيني الشافعي شيخ الإسلام الناظر في الأحكام الشرعية بالديار المصرية والممالك الشريفة الإسلامية أدام الله تعالى أيامه وأعز أحكامه وأحسن إليه وأسبغ نعمه في الدارين عليه لسيدنا العبد الفقير
إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم الحافظ ولي الدين شرف العلماء أوحد الفضلاء مفتي المسلمين أبي زرعة أحمد ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين شيخ الإسلام قاضي المسلمين أبي الفضل عبد الرحيم ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى بدر الدين شرف العلماء أوحد الفضلاء مفتي المسلمين أبي عبد الله الحسين العراقي الشافعي خليفة الحكم العزيز بالقاهرة ومصر المحروستين والحاكم بالأعمال المنوفية ومفتي دار العدل الشريف بالديار المصرية أيد الله تعالى أحكامه وأحسن إليه بالنظر في ذلك على الوجه الشرعي
فحينئذ سمع سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم الحافظ ولي الدين الحاكم المشار إليه أحسن الله تعالى إليه البينة بتزكيته وصرحت له بالشهادة بعدالته وقبلها القبول الشرعي السائغ في مثله
ثم أشهد على نفسه الكريمة من حضر مجلس حكمه وقضائه وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما وذلك في اليوم المبارك يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وثمانمائة أنه ثبت عنده وصح لديه أحسن الله إليه على الوضع المعتبر الشرعي والقانون المحرر المرعي بالبينة العادلة المرضية التي تثبت بمثلها الحقوق الشرعية عدالة القاضي الأجل العدل الرضي نجم الدين محمد المسمى أعلاه زاده الله تعالى توفيقا وسهل له إلى الخير طريقا وما اشتمل عليه من صفاتها وتحلى به من أدواتها ثبوتا صحيحا معتبرا مستوفى الشرائط محررا
وأنه أيد الله تعالى أحكامه وسدد نقضه وإبرامه حكم بعدالته وقبول شهادته حكما تاما وجزمه وقضى فيه قضاء أبرمه وأذن له أيد الله تعالى أحكامه في تحمل الشهادة وأدائها وبسط قلمه في سائر أنديتها
وأرجائها وأجراه أجرى الله تعالى الخيرات على يديه مجرى أمثاله من العدول ونظمه في سلك الشهداء أهل القبول ونصبه بين الناس شاهدا عدلا إذ كان صالحا لذلك وأهلا
فليبسط بالشهادة قلمه وليؤلف على شروط أدائها كلمه وليحمد الله تعالى على ما منحه من ملابسها الجميلة وأناله من الترقي لرتبتها الجليلة وليتق الله تعالى في موارده ومصادره وليسلك مسالك التقوى في أول أمره وآخره وليعلم أن من سلك الحق نجا ومن يتق الله يجعل له مخرجا
أوزعه الله تعالى شكر هذه الرتبة العلية والمنزلة السنية
وتقدم أمر سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام العالم الحافظ ولي الدين الحاكم المذكور وقاه الله تعالى كل محذور بكتابة هذا الإسجال فكتب عن إذنه الكريم متضمنا لذلك مسؤولا فيه مستوفيا شرائطه الشرعية وأشهد على نفسه الكريمة بذلك في التاريخ المقدم ذكره بأعاليه المكتوب بخطه الكريم شرفه الله تعالى حسبنا الله ونعم الوكيل
قلت والعادة أن يعلم فيه الحاكم علامة تلو البسملة ويكتب التاريخ في الوسط والحسبلة في الآخر كل ذلك بخطه ويشهد عليه فيه من يشهد عليه من كتاب الحكم وغيرهم كما في سائر الإسجالات الحكمية
الصنف الثالث الكتب إلى النواب وما في معناها
واعلم أن الكتب التي تكتب عن القضاة ألفاظها مرسلة لا جنوح فيها إلى فن البلاغة والسجع إلا في القليل النادروهذه نسخة كتاب كتب به عن قاضي القضاة فخر الدين الشافعي إلى الحكام بالمملكة وهو
أدام الله فضائل الجنابات العالية والمجالس العالية وجعلهم قادة
يقتدى بهم في القول والعمل و [ ] الاحتفال من يعتنى بأمره ويحتفل ولا سيما من سارت طريقة فضله المثلى في الآفاق سير المثل ولا زال عرف معروفهم على ذوي الفضائل يفوح وجياد جودهم تغدو في ميدان الإحسان وتروح ونيل نيلهم يسري إلى القصاد فيحمد سراه عند الغبوق كما يحمد سراه عند الصبوح
هذه المكاتبة إليهم تقريهم سلاما ألطف من النسيم وتهدي إليهم ثناء مزاج كاتبه من تسنيم وتبدي لعلومهم الكريمة أن الجناب الكريم العالي الشيخي الإمامي الفاضلي البارعي الأوحدي الأكملي البليغي المقدمي الخطيبي البهائي أوحد الفضلاء فخر العلماء زين الخطباء قبلة الأدباء قدوة البلغاء صفوة الملوك والسلاطين خطيب الموصل أدام الله المسرة به ووصل الخير بسببه ونفع بفوائد فضله وأدبه ورد علينا بطرابلس المحروسة فحصلت المسرة بذلك الورود وتجدد بخدمته ما تقدم من وثيق العهود وأبدى لنا من نظرة الفائق الرقيق وإنشائه المغني عن نشوة الرحيق وكتابته التي هي السحر الحلال على التحقيق ما نزه الأبصار وشنف الأسماع وقطع من فرسان الأدب أسباب الأطماع فأزال عن القلب الكئيب فكرا وأخجل من الروض الأنيق زهرا وأخمل من المسك السحيق عطرا وكيف لا وهو النفيس الذي جمع فيه قديم الأدب وحديثه والجليس الذي لا يسأم كلامه ولا يمل حديثه يا له أديبا ليس فيما يبديه من الأدب تحريف ولا غلط وفاضلا لو لم يكن بحرا لما كان الدر من فيه يلتقط يمينه وفطنته الكريمتان ذواتا أفنان فهذه إن رقمت طرسا فروح وريحان أو بذلت برا فعينان تجريان وهذه إن نظمت شعرا
فياقوت ومرجان أو نثرت تبرا فثمين الدر ألوان ما برح الفضلاء إلى لقائه يسارعون وحق لهم أن يسارعوا ومن أبواب معروفة يقتبسون وكيف لا وهو الشهاب الساطع الجليل الذي لم نزل نشير إليه بالأصابع والنبيل الذي تجري لفراقه من عيون اللبيب المدامع والنزيل الذي ينشده العارف عند وداعه
( بعيشك خبرني متى أنت راجع ... )
يعرف المحسن إحسانه فينشر له من الثناء لواء ويجمل في مدح صفاته ونعوته الإنشاء إن شاء ويجزل في ذم مستحق الذم منه الهجاء فأكرم به مداحا وأعظم به هجاء العلماء لحضوره يترقبون وإليه يتقربون والفضلاء بفضله يعترفون ومن بحره يغترفون والأدباء إليه يستبقون ومنه يقتبسون والطلبة بأذيال فضله يتمسكون وبنشر أثنيته يتمسكون وإخوانه في الله بوجوده يفتخرون وإلى جوده يفتقرون كلما عرضت لهم حاجة تمسكوا بإيثاره وكلما عاندهم الدهر سألوه الإمداد بأنصاره فيجود في خدمتهم بيان بنانه ويجرد في نصرتهم سيف لسانه
ثم من قبل أن نبلغ منه الوطر ومن دون أن يكتفي منه السمع والبصر عرفنا أنه قصد التوجه إلى البلاد الساحلية والأعمال الطرابلسية ليملي على أهلها من فضائله الباهرة الباسقة وألفاظه التي هي كالدرر المتناسقة ويجليهم عرائس الأفكار من أفكاره ويجنيهم غرائس الأثمار من أشجار علمه ويريهم البديهة البديعة والقوافي المجيبة المطيعة
فليتقدم الجماعة أيدهم الله تعالى بإكرامه إكرام الأهل والأصحاب وتلقيه بالبشر والطلاقة والترحاب وإحلاله من الإحسان محلا ساميا وإنزاله من الإفضال منزلا عاليا والاعتناء الوافر بأمره واستجلاب بث حمده وشكره والتقاط درر فوائده واكتساب غرر فرائده والإصغاء
إلى المنثور والمنظوم من أقواله والتعجب من حسن بداهته وسرعة ارتجاله
وليحتفل كل يوم بخدمته غاية الاحتفال ويعتن بأمره اعتناء لا يشاركه تقصير ولا إهمال ويرع له حق الضيف الجليل والقادم الذي إذا رحل عن بلده أبقى له بها الذكر الجميل ويساعد على ما توجه بصدده كل ساعة يعود نفعها عليه وينفق مما آتاه الله ويحسن كما أحسن الله إليه
ونحن نؤكد على الجماعة أيدهم الله في ذلك كل التأكيد ونبالغ فيه مبالغة ما عليها من مزيد ونحذرهم من الإهمال والتسويف والتقصير ومن مقابلة جنابه الكريم بالنزر الحقير والقدر اليسير فإكرام هذا الرجل ليس كإكرام من لم يسر بسيره وما هو إلا لعلمه وفضله وخيره وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه وليس من يكرم لنفسه كالذي يكرم لغيره
فلتعظموه كل التعظيم وتنزلوه منزلة تليق بأهل الفضل والإفضال وترفعوا له المقام وتحفظوا له المقال ليعود محقق الآمال مبلغ المقاصد ناشرا ألوية الثناء والمحامد مشمولا بجميل الصلة والعائد ونحن منتظرون ما يرد عنه من مكاتباته الكريمة بما وصل إليه من المنازل الحسنة
وفي هممهم العلية ومكارمهم السنية ما يغني عن التأكيد بسببه والوصية والله تعالى يديم عليهم سابغ الإفضال والإنعام ويجمل بوجودهم وجودهم الأحكام والحكام بمنه وكرمه
الصنف الرابع ما يكتب في افتتاحات الكتب
فمن ذلك ما يكتب في أوائل كتب الأوقافوهذه نسخة خطبة في ابتداء كتاب وقف على مسجد وهي
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنه لا يخلف الميعاد وناصر الدين المحمدي بنبينا وعلى آله الكرام الأمجاد ومشرف هذه الأمة بالأئمة والجمعة والجماعات من أهل الرشاد وجاعل من ارتضاه من أرباب سنة نبيه المختار من عباده العباد وميسر القربات إليه لأهل السداد ومريد الأعمال الصالحات ممن أخلصه بالطاعات ومزيد الإرفاد ومفضل الأوقاف على أفضل وجوه البر من جعله للخير أهلا بالنفع المتعدي وكثرة الأمداد ومعظم الأجر لمن بنى بيتا لله بنيه خلية من الرياء والعناد وقد قال رسول الله ( من بنى مسجدا لله ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له به قصرا في الجنة ) ونرجو من كرم الله الازدياد
أحمده على مواد نعمه التي جلت عن التعداد وأشكره شكرا وافيا وافرا نجعله ذخيرة ليوم التناد وأستمد من اللطف لوازم الفضل الخفي وهو الكريم الجواد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله الخاتم الحائم على حوضه الوراد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أصغي إلى الذكر وأجيب كل داع من حاضر أو باد
وبعد فلما كانت المثوبات مضمونة الأجر عند الكريم والأعمال متعددة في التقديم وكان بنيان المساجد وافرا أجرا لمن أقام بواجب تبيان الظن الجميل وسدد إلى الخيرات سيرا وقد قال تعالى أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي خيرا ورأى العقلاء أن الأوقاف على المساجد والجوامع من أنفس قواعد الدين وأعلى فلذلك قيل في هذا الإسجال المبارك
هذا ما وقفه وحبسه وسبله وأبده فلان
وقف وحبس رغبة في مزيد الثواب ورجاء في تهون تهويل يوم الحساب واغتناما للأجر الجزيل من
الكريم الوهاب لقول الله تعالى في الآيات المبرورة ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة )
وقف بنية خالصة وعزيمة صالحة ونية صادقة ما هو له وفي ملكه وحوزه ويده وتصرفه من غير مناظر له في ذلك ولا شريك ثم يذكر الوقف
الفصل السادس في العمرات التي تكتب للحاج
وهذه نسخة عمرة اعتمرها أبو بكر بن محمد الأنصاري الخزرجي عند مجاورته بمكة المشرفة في سنة سبع وسنة ثمان وسنة تسع وسنة عشر وسبعمائة للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وهيالحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا وأمن من فيه بالقائم بأمر الله ومن هو للإسلام والمسلمين خير ناصر وجعله ببكة مباركا ووضع الإصر بمن كثرت منه ومن سلفه الكريم على الطائفين والعاكفين الأواصر وعقد لواء الملك بخير ملك وهو واحد في الجود ألف في الوغى ففي حالتيه تعقد عليه الخناصر وأطاب المقام في حرم الله تعالى وحرم سيدنا رسول الله بمن يستحق السلطنة بذاته الشريفة وشرف العناصر وسهل الطريق إلى حج بيته العتيق من المشارق والمغارب في دولة من أجمعت القلوب على محبته وورث الملك كابرا عن كابر وأنطق الألسنة
بالدعاء له من كل وافد إلى بيته الحرام على اختلاف لغاتهم واهتزت لوصف مناقبه المنابر
أحمده على ما بلغ من جزيل إنعامه وأشكره شكرا أستزيد به من فضله ونواله وإكرامه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم الذخيرة لصاحبها يوم لقائه وعند قيامه وأقولها خالصا مخلصا ويا فوز من كانت آخر كلامه وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أشرف مبعوث إلى الحق دعي فجاء بأشرف ملة فقال ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) وعلى جميع آله وأصحابه خصوصا على خليفته في أمته المخصوص بالسبق والمؤازرة والتصديق مولانا أبي بكر الصديق وعلى مظهر الأذان ومصدق الخطاب مولانا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلى من جمع على الأمة آيات القرآن مولانا أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي ابن عمه وارث علمه الجامع لجميع المآثر والمناقب مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلى بقية الأنصار والمهاجرة سادات الدنيا وملوك الآخرة وسلم تسليما كثيرا
وبعد فإن الله تعالى مالك الملك يؤتيه من يشاء من عباده والخير بيده يفيضه على خلقه في أرضه وبلاده فإذا أراد الله تعالى بعباده خيرا نصر ناصرهم ورفع عنهم الغلا ودفع عنهم العدا وولى عليهم خيارهم فيقيمه من خير أمة أخرجت للناس ليذهب عنهم الضرر ويزيل عنهم الباس ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وينصف المظلوم من الظالم ويقيم منار الشرع المطهر
ولما كان مولانا السلطان الأعظم والشاهنشاه المعظم الملك
الناصر خلد الله سلطانه قد جمع في المحتد بين طارف وتالد وورث الملك عن أشرف أخ وأعظم والد وقامت على استحقاقه للسلطنة الدلائل وألفه سرير الملك وعرف فيه من والده ومن أخيه رحمهما الله تعالى الشمائل فهو المالك الذي لم يزل الملك به آهلا ولم يزل له أهلا والسيد الذي لبس حلة الفخار فلم نجد له في السؤدد والفخار مثلا والملك الذي ما بدا الرائيه إلا قيل بحر طمى أو بدر تجلى والمؤيد الذي خصه الله تعالى بعلو شأنه وارتقائه ولم يرض مراقد الفراقد لعليائه والكريم الذي ساد الأوائل والأواخر وأضيفت عليه حلل المفاخر والمنصور الذي أعطي على الأعداء قوة ونصرا والناصر الذي اتسع مجال نصره فأخذ الكفار حصرا وحكمت سيوفه القواضب فوضعت عن الأولياء إصرا قد خصه الله تعالى بالعز والنصر كرة بعد كرة وفضله على سائر ملوك الإسلام بالحج وزيارة النبي مرة بعد مرة ومرة أخرى إن شاء الله تعالى ومرة ومرة كم سلك سنن والده وأخيه رحمهما الله تعالى بالغزاة فكان له كل مشهد مذكور وعرف تقدمه وإقدامه فكان أعظم ناصر وأشرف منصور يحمده الله تعالى والناس عن جميل ذبه عن الإسلام وحميد فعله واستقل الجزيل فينيل الجميل لمن أم أبوابه الشريفة فلا يستكثر هذا من مثله ما حملت راياته الشريفة كتيبة إلا نصرت ولا وقف بوجهه الكريم في دفع طائفة الكفر إلا كسرت ولا جهز عساكره المنصورة إلى قلعة إلا نزل أهلها من صياصيهم ولا حاصروا ثغر للكفار إلا أخذوا بنواصيهم ولا سير سرية لمواجهة محارب إلا ذل على رغمه ولا نطق لسان الحمد للمجاهد أو سار الشاهد إلا وقف الحمد على قوله واسمه فاختاره الله تعالى على علم على العالمين واجتباه
للذب عن الإسلام والمسلمين وجعله لسلطانه وارثا وفي الملك ماكثا وللقمرين ثالثا ولأموره سدادا ولثغور بلاد الإسلام سدادا وفوض إليه القيام بمصالح الإسلام والنظر في مصالح الخاص والعام وعدق به أمور الممالك والأملاك وأطلع بسعادته أيمن البروج في أثبت الأفلاك وحمى الإسلام والمسلمين من كل جانب شرقا وغربا وملأ بمهابته البلاد والعباد رعبا وحبا وبسط في البسيطة حكمه وعدله ونشر على الخلائق حلمه وفضله وفرض طاعته على جميع الأمم وجعله سيدا لملوك العرب والعجم وأمن بمهابته كل حاضر وباد ونوم سكان الحرمين الشريفين من كنفه في أوطإ مهاد وسكن خواطر المجاورين من جميع المخاوف وصان بالمقام في مكة الطائف والعاكف قد حسن مع الله تعالى سيرة وسيرا ودلت أيامه الشريفة أنه خير ملك أراد الله تعالى برعيته خيرا وراعى الله فيما رعى وسعى في مصالح الإسلام عالما أن ليس للإنسان إلا ما سعى
قد ملأ أعين الرعايا بالطمأنينة والهجوع وأمنهم في أيامه الشريفة بالرخاء من الخوف والجوع وجمع لهم بين سعادة الدنيا والأخرى وسهل لهم الدخول إلى بيته الحرام برا وبحرا وفتح الله تعالى على يديه خلد الله تعالى سلطانه جميع الأمصار وملأ من مهابته جميع الأقطار
( فسارت مسير الشمس في كل بلدة ... وهبت هبوب الريح في القرب والبعد )
فوجب على العالمين أن يدعوا لدولته الشريفة المباركة بطول البقاء ودوام العلو والارتقاء ووجب على كل من الواصلين إلى بيته الحرام وحضرة قدسه أن يبتهل بالدعاء له قبل أن يدعو لنفسه فكيف من هو مملوكه وابن مملوكه ووارث عبوديته ومن لم يزل هو ووالده وإخوته في
صدقات والده الشهيد رحمه الله تعالى وعميم نعمته العبد الفقير إلى الله تعالى أبو بكر بن محمد بن المكرم الأنصاري الخزرجي فإنه لم يزل مدة أيامه مبتهلا بصالح دعواته متوسلا إلى الله تعالى بدوام نصره وطول حياته طائفا عند مقامه الشريف حول بيته الحرام والمشاعر العظام
وأحب أن يتحفه بأشرف العبادة فلم يجد أجل مقدارا ولا أعظم أجرا من عمرة يعتمرها عنه ويهدي ثوابها لصحائفه الشريفة ويزيد بذلك فخرا فقام عنه بعمرتين شريفتين اعتمرهما عنه في رمضان مكملتين بإحرامهما وتلبيتهما وطوافهما وسعيهما يتقرب بذلك إلى أبوابه الشريفة ويسأل الله تعالى ويسأل صدقاته الشريفة أن ينعم عليه بنصف معلوم صدقة عليه وبنصفه لأولاده ليقضي بقية عمره في الثلاثة المساجد ويخصه بجزيل الدعاء من كل راكع وساجد وأن يكون ذلك مستمرا عليه مدة حياته وعلى ذريته ونسله وعقبه بعد وفاته لتشمل صدقات مولانا السلطان خلد الله تعالى ملكه الأحياء والأموات ويطيب لغلمانه في أيامه الشريفة الممات جعل الله تعالى مولانا السلطان وارث الأعمار وأجرى بدوام أيامه الشريفة المقدار وجعل كلمة الملك باقية في عقبه وبلغه من النصر الظفر والأجر غاية أربه وجعل أيامه كلها مسار وبشائر ودولته تسر النواظر وسعادته ليس لها آخر ويهنئه بما قد أتمه الله له من ملك والده الشهيد رحمه الله تعالى
( أهنيك بالملك يا خير من ... أجار البرايا ومن مارها )
( ومن ليس للأرض ملك سواه ... تميل له الخلق أبصارها )
( وأنت الذي تملك الخافقين ... [ ] وإعصارها )
( وتملك سيب تكفورها ... وتركب بالجيش أوعارها )
( وتحكم في المرء حكم الملوك ... وتنشد في التخت أشعارها )
( وتفتح بغداد دار السلام ... وتنفي بملكك أكدارها )
( وتأخذ بالعسكر الناصري ... قصور الخلافة أوتارها )
( ويأمن في ذلك العالمون ... وتحمي الأسود وأوكارها )
( وتبقى إلى أن تعم البلاد ... بنعمى تتابع إدرارها )
( ويبلغ ملكك أقصى البلاد ... وتجري العباد وأوطارها )
( وينظم سيرتك الناظمون ... وتعيي مغازيك سمارها )
والله يبقيه بعدها دائما ناصر الدنيا والإسلام والمسلمين كما سماه والده ناصر الدنيا والدين إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وحسبنا الله ونعم الوكيل
الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليات
اعلم أنه ربما اعتنت الملوك ببعضه فاقترحت على كتابها إنشاء شيء من الأمور الهزلية فيحتاجون إلى الإتيان بها على وفق غرض ذلك الملك كما وقع لمعين الدولة بن بويه الديلمي في اقتراحه على أبي إسحاق الصابي كتابة عهد بالتطفل لرجل كان عنده اسمه عليكا ينسب إلى التطفل ويسخر منه السلطان بسبب ذلكوهذه نسخة عهد بالتطفل التي أنشأها أبو إسحاق الصابي لعليكا المذكور
هذا ما عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إلى علي بن عرس الموصلي حين استخلفه على إحياء سننه واستنابه في حفظ رسومه من التطفل على أهل مدينة السلام وما يتصل بها من أرباضها وأكنافها ويجري
معها في سوادها وأطرافها لما توسمه فيه من قلة الحياء وشدة اللقاء وكثرة اللقم وجودة الهضم ورآه أهلا له من سد مكانه والرفاهة المهملة التي فطن لها والرقاعة المطرحة التي اهتدى إليها والنعم العائدة على لابسيها بملاذ الطعوم وخصب الجسوم وردا على من اتسعت حاله وأقدره الله على غرائب المأكولات وأظفره ببدائع الطيبات آخذا من ذلك كله بنصيب الشريك المناصف وضاربا فيه بسهم الخليط المفاوض ومستعملا للمدخل اللطيف عليه والمتولج العجيب إليه والأسباب التي ستشرح في مواضعها من أوامر هذا الكتاب وتستوفي الدلالة على ما فيها من رشاد وصواب وبالله التوفيق وعليه التعويل وهو حسبنا ونعم الوكيل
أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز والحرز الحريز والركن المنيع والطود الرفيع والعصمة الكالئة والجنة الواقية والزاد النافع يوم المعاد وحيث الأمثلة من الأزواد وأن يستشعر خيفته في سره وجهره ويراقبه في قوله وفعله ويجعل رضاه مطلبه وثوابه مكسبه والقربة منه أربه والزلفى لديه غرضه ولا يخالفه في مسعاة قدم ولا يتعرض عنده لعاقبة ندم ولا يقدم على ما كره وأنكر ولا يتقاعس عما أحب وأمر
وأمره أن يتأدب بأدبه فيما يأتي ويذر ويقف على حدوده فيما أباح وحظر فإنه إذا كان ذلك هجيراه وديدنه وجرى عليه منهاجه وسننه تكفل الله له بالنجاح والصلاح وأفضى به إلى الرشاد والفلاح وأظفره بكل بغية وأوصله إلى كل مشية ولم يخله من الفوز بما يرصد والحوز بما يقصد بذاك وعد وكذاك يفعل وما توفيقنا إلا بالله ولا مرجعنا إلا إليه
وأمره أن يتأمل اسم التطفيل ومعناه ويعرف مغزاه ومنحاه ويتصفحه تصفح الباحث عن حظه بمحموده غير القائل فيه بتسليمه
وتقليده فإن كثيرا من الناس قد استقبحه ممن فعله وكرهه لمن استعمله ونسبه فيه إلى الشره والنهم وحمله منه على التفه والقرم فمنهم من غلط في استدلاله فأساء في مقاله ومنهم من شح على ماله فدافع عنه باحتياله وكل الفريقين مذموم وجميعهما ملوم لا يتعلقان بعذر واضح ولا يعتريان من لباس فاضح ومنهم الطائفة التي ترى فيها شركة العنان فهي تتدله إذا كان لها وتتدلى عليه إذا كان لغيرها وترى أن المنة في المطعم للهاجم الآكل وفي المشرب للوارد الواغل وهي أحق بالحرية وأخلق بالخيرية وأحرى بالمروة وأولى بالفتوة وقد عرفت بالتطفيل ولا عار فيه عند ذوي التحصيل لأنه مشتق من الطفل وهو وقت المساء وأوان العشاء فلما كثر استعمل في صدر النهار وعجزه وأوله وآخره كما قيل للشمس والقمر قمران وأحدهما القمر ولأبي بكر وعمر العمران وأحدهما عمر وقد سبق إمامنا بيان رحمة الله عليه إلى هذا الأمر سبقا أوجب له خلود الذكر فهو باق بقاء الدهر ومتجدد في كل عصر وما نعرف أحدا نال من الدنيا حظا من حظوظها فبقي له منه أثر يخلفه وصيت يستبد به إلا هو وحده فبيان رضوان الله عليه يذكر بتطفيله كما تذكر الملوك بسيرها فمن بلغ إلى نهايته أو جرى إلى غايته سعد بغضارة عيشه في يومه ونباهة ذكره في غده جعلنا الله جميعا من السابقين إلى مداه والمذكورين كذكراه
أمره أن يعتمد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه وسمط الأمراء والوزراء بسراياه فإنه يظفر منها بالغنيمة الباردة ويصل عليها إلى الغريبة النادرة وإذا استقراها وجد فيها من طرائف الألوان الملذة للسان وبدائع الطعوم السائغة في الحلقوم ما لا يجده عند غيرهم ولا يناله إلا لديهم لحذق صناعتهم وجودة أدواتهم وانزياح عللهم وكثرة ذات بينهم والله يوفر من ذلك حظنا ويسدد نحوه لحظنا ويوضح عليه دليلنا ويسهل إليه سبيلنا
وأمره أن يتبع ما يعرض لموسري التجار ومجهزي الأمصار من
وكيرة الدار والعرس والإعذار فإنهم يوسعون على نفوسهم في النوائب بحسب تضييقهم عليها في الراتب وربما صبروا على تطفيل المتطفلين وأغضوا على تهجم الواغلين ليتحدثوا بذلك في محافلهم الرذلة ويعدوه في مكارم أخلاقهم النذلة ويقول قائلهم الباجح باتساع طعامه المباهي بكثرة حطامه إنني كنت أرى الوجوه الغريبة فأطعمها والأيدي الممتدة فأملؤها
وهذه طائفة لم ترد بما فعلته الكرم والسعة وإنما أرادت المن والسمعة فإذا اهتدى الأريب إلى طرائقها وصل إلى بغيته من إعلان قضيتها وفاز بمراده من ذخائر حسنتها إن شاء الله
وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبريها ويرافق وكلاء المطابخ وحماليها فإنهم يملكون أصحابهم أزمة مطاعمهم ومشاربهم ويضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم ومعارفهم وإذا عدت هذه الطائفة أحدا من الناس خليلا من خلانها واتخذته أخا من إخوانها سعد بمرافقتها ووصل إلى محابه من جهاتها ومآربه في جنباتها
وأمره أن يتعهد أسواق المسوقين ومواسم المتبايعين فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها وأطعمة قد احتشد مشتريها اتبعها إلى المقصد بها وشيعها إلى المنزل الحاوي لها واستعلم ميقات الدعوة ومن يحضرها من أهل النسيان والمروة فإنه لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه ويكمن له ليصحبه ويدخل معه وإن خلا من ذلك اختلط بزمر الداخلين وعصب الراحلين فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب ويخرج من سلطان البوابين والحجاب حتى يحصل حصولا قل ما حصل عليه أحد قبله فانصرف عنه إلا ضليعا من الطعام بريقا من المدام إن شاء الله
وأمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات والمغنين ومواطن الأبليات والمخنثين فإذا أتاه خبر لجمع يضمهم ومأدبة تعمهم ضرب إليها أعناق إبله وأنضى نحوها مطايا خيله وحمل عليها حملة الحوت الملتقم والثعبان الملتهم والليث الهاصر والعقاب الكاسر إن شاء الله
وأمره أن يتجنب مجامع العوام المقلين ومحافل الرعاع المقترين وأن لا ينقل إليها قدما ولا يعفر لمأكلها فما ولا يلقى في عتب دورها كيسانا ولا يعد الرجل منها إنسانا فإنها عصابة يجتمع لها ضيق النفوس والأحلام وقلة الإحكام والأموال وفي التطفيل عليها إجحاف بها يوسم وإزراؤه بمروءة المتطفل يوصم والتجنب لها أحرى والأزورار عنها أحجى إن شاء الله
وأمره أن يحرز الخوان إذا وضع والطعام إذا نقل حتى يعرف بالحدس والتقريب والبحث والتنقيب عدد الألوان في الكثرة والقلة وافتنانها في الطيب واللذة فيقدر لنفسه أن يشبع مع آخرها وينتهي منها عند انتهائها ولا يفوته النصيب من كثيرها وقليلها ولا يخطئه الحظ من دقيقها وجليلها
ومتى أحس بقلة الطعام وعجزه عن الأقوام أمعن في أوله إمعان الكيس من سعته الرشيد في أمره المالئ لبطنه من كل حار وبارد وخبيث وطيب فإنه إذا فعل ذلك سلم من عواقب الأغمار الذين يكفون تطرفا ويقلون تأدبا ويظنون أن المادة تبلغهم في آخر أمرهم وتنتهي بهم إلى غاية سعيهم فلا يلبثوا أن يخجلوا خجلة الواثق وينقلبوا بحسرة الخائب أعاذنا الله من مثل مقامهم وعصمنا من شقاء جدودهم إن شاء الله
وأمره أن يروض نفسه ويغالط حسه ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا ويطوي دونه كشحا ويستحسن الصمم عن الفحشا وإن أتته اللكزة في حلقه صبر عليها في الوصول إلى حقه وإن وقعت به الصفعة في رأسه صبر عليها لموقع أضراسه وإن لقيه لاق بالجفاء قابله باللطف والصفاء إذ كان قد ولج الأبواب وخالط الأسباب وجلس مع الحضور وامتزج بالجمهور فلا بد أن يلقاه المنكر لأمره ويمر به المستغرب لوجهه فإن كان حرا حييا أمسك وتذمم وإن كان فظا غليظا همهم وتكلم وتجنب عند ذلك المخاشنة واستعمل مع المخاطب له الملاينة ليبرد غيظه ويفل حده ويكف غربه ويأمن شغبه ثم إذا طال المدى تكررت الألحاظ عليه فعرف وأنست النفوس به فألف ونال من المحال المجتمع عليها منال من حشم وسئل الذهاب إليها
وقد بلغنا أن رجلا من العصابة كان ذا فهم ودراية وعقل وحصافة طفل على وليمة لرجل ذي حال عظيمة فرمقته فيها من القوم العيون وصرفت بهم فيه الظنون فقال له قائل منهم من تكون أعزك الله فقال أنا أول من دعي إلى هذا الحق
قيل له وكيف ذاك ونحن لا نعرفك فقال إذا رأيت صاحب الدار عرفني وعرفته نفسي فجيء به إليه فلما رآه بدأه بأن قال له هل قلت لطباخك أن يصنع طعامك زائدا على عدد الحاضرين ومقدار حاجة المدعوين قال نعم قال فإنما تلك الزيادة لي ولأمثالي وبها يستظهر لمن جرى مجراي وهي رزق لنا أنزله الله على يدك وبك فقال له كرامة ورحبا وأهلا وقربا والله لا جلست إلا مع علية الناس ووجوه الجلساء إذ أطرفت في قولك وتفننت في فعلك
فليكن ذلك الرجل إماما يقتدى به ويقتفى طريقه إن شاء الله
وأمره بأن يكثر من تعاهد الجوارشنات المنفذة للسدد المقوية
للمعد المشهية للطعام المسهلة لسبل الانهضام فإنها عماد أمره قوامه وبها انتظامه والتئامه إذ كانت تعين على عمل الدعوتين وتنهض في اليوم الواحد الأكلتين وهو يتناولها كذا كالكاتب الذي يقط أقلامه والجندي الذي يصقل حسامه والصانع الذي يحدد آلته والماهر الذي يصلح أدواته إن شاء الله
هذا عهد عليكا بن أحمد إليك وحجته لك وعليك لم يألك فيه إرشادا وتوقيفا وتهذيبا وتثقيفا وبعثا وتبصيرا وحثا وتذكيرا فكن بأوامره مؤتمرا وبزواجره مزدجرا ولرسومه متبعا وبحفظها مضطلعا إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
الخاتمة في ذكر أمور تتعلق بديوان الإنشاء غير أمور الكتابة وفيها أربعة
أبوابالباب الأول في الكلام على البريد وفيه فصلان
الفصل الأول في مقدمات يحتاج الكاتب إلى معرفتها ويتعلق الغرض من ذلك
بثلاثة أمورالأمر الأول معرفة معنى لفظ البريد لغة واصطلاحا
أما معناه لغة فالمراد منه مسافة معلومة مقدرة باثني عشر ميلا واحتج له الجوهري بقول مزرد يمدح عرابة الأوسي( فدتك عراب اليوم أمي وخالتي ... وناقتي الناجي إليك بريدها )
يريد سيرها في البريد
وقد قدره الفقهاء وعلماء المسالك والممالك بأنه أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال والميل ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي وهو أربعة وعشرون أصبعا كل أصبع ست شعيرات معترضات ظهر إحداها لبطن الأخرى والشعيرة سبع شعرات معترضات من ذنب بغل أو برذون
قال الجوهري ويقال أيضا على البريد المرتب يقال حمل فلان على البريد
قال ويطلق أيضا على الرسول بريد
ثم اختلف فيه فقيل إنه عربي
وعلى هذا ذهب الخليل إلى أنه مشتق من بردت الحديد إذا أرسلت ما يخرج منه
وقيل من أبردته إذا أرسلته
وقيل من برد إذا ثبت لأنه يأتي بما تستقر عليه الأخبار يقال
اليوم يوم بارد سمومه أي ثابت
وذهب آخرون إلى أنه فارسي معرب
قال أبو السعادات بن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث وأصله بالفارسية بريده دم ومعناه مقصوص الذنب
وذلك أن ملوك الفرس كانت من عادتهم أنهم إذا أقاموا بغلا في البريد قصوا ذنبه ليكون ذلك علامة لكونه من بغال البريد
وأنشد الجوهري لامريء القيس
( على كل مقصوص الذنابى معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بربرا )
الأمر الثاني أول من وضع البريد وما آل إليه أمره إلى الآن
أما في الجاهلية فقد ذكر في التعريف أن البريد كان موجودا في عهد الأكاسرة من ملوك الفرس والقياصرة ملوك الرومقال ولكن لا أعرف
هل كان على البريد المحرر أو كانت مقاديره متفاوتة كما هو الآن
ثم قال ولا أظنه إلا على القدر المحرر إذ كانت حكمتهم تأبى إلا ذلك
وأما في الإسلام فقد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل أن أول من وضعه في الإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما
قال في التعريف وذلك حين استقرت له الخلافة ومات أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وسلم له ابنه الحسن عليه السلام وخلا من المنازع فوضع البريد لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها فأمر بإحضار رجال من دهاقين الفرس وأهل أعمال الروم وعرفهم ما يريد فوضعوا له البريد
قال وقيل إنما فعل ذلك زمن عبد الملك بن مروان حين خلا وجهه من الخوارج عليه كعمرو بن سعيد الأشدق وعبد الله بن الزبير ومصعب بن الزبير والمختار بن أبي عبيد
والذي ذكره العسكري أن عبد الملك إنما أحكمه
وذكر عنه أنه قال لابن الدغيدغة وليتك ما حضر بابي إلا أربعة المؤذن فإنه داعي الله تعالى فلا حجاب عليه وطارق الليل فشر ما أتى به ولو وجد خيرا لنام والبريد فمتى جاء من ليل أو نهار فلا تحجبه فربما أفسد على القوم سنة حبسهم البريد ساعة والطعام إذا أدرك فافتح الباب وارفع الحجاب وخل بين الناس وبين الدخول
ثم قال ويذكر هذا الكلام عن زياد أيضا
قال في التعريف وكان الوليد بن عبد الملك يحمل عليه الفسيفساء وهي الفص المذهب من القسطنطينية إلى دمشق حتى صفح منه حيطان المسجد الجامع بها ومساجد بمكة والمدينة والقدس
قال ثم لم يزل البريد قائما والعمل عليه دائما حتى آن لبناء الدولة المروانية أن ينتقض ولحبلها أن ينتكث فانقطع ما بين خراسان والعراق لانصراف الوجوه إلى الشيعة القائمة بالدولة العباسية
ودام الأمر على ذلك حتى انقضت أيام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وملك السفاح ثم
المنصور ثم المهدي والبريد لا يشد له سرج ولا تلجم له دابة
ثم إن المهدي أغزى ابنه هارون الرشيد الروم وأحب أن لا يزال على علم قريب من خبره فرتب فيما بينه وبين معسكر ابنه بردا كانت تأتيه بأخباره وتريه متجددات أيامه
فلما قفل الرشيد قطع المهدي تلك البرد ودام الأمر على هذا باقي مدته ومدة خلافة موسى الهادي بعده
فلما كانت خلافة هارون الرشيد ذكر يوما حسن صنيع أبيه في البرد التي جعلها بينهما فقال له يحيى ابن خالد لو أمر أمير المؤمنين بإجراء البريد على ما كان عليه كان صلاحا لملكه فأمره به فقرره يحيى بن خالد ورتبه على ما كان عليه أيام بنى أمية وجعل البغال في المراكز وكان لا يجهز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر ثم استمر على هذا فلما دخل المأمون بلاد الروم ونزل على نهر البرذون وكان الزمان حرا والفصل صيفا قعد على النهر ودلى رجليه فيه وشرب ماءه فاستعذ به واستبرده واستطابه وقال لمن كان معه ما أطيب ما شرب عليه هذا الماء فقال كل رجل برأيه
فقال هو أطيب ما شرب عليه هذا الماء رطب إزاز فقالوا له يعيش أمير المؤمنين حتى يأتي العراق ويأكل من رطبها الإزاز فما استتموا كلامهم حتى أقبلت بغال البريد تحمل ألطافا فيها رطب إزاز فأتي المأمون بها فأكل منها وأمعن وشرب من ذلك الماء فكثر تعجب الحاضرين منه لسعادته في أنه لم يقم من مقامه حتى بلغ أمنيته على ما كان يظن من تعذرها فلم يقم المأمون من مقامه حتى حم حمى حادة كانت فيها منيته
ثم قطع بنو بويه البريد حين علوا على الخلافة وغلبوا عليها ليخفى على الخليفة ما يكون من أخبارهم وحركاتهم أحيان قصدهم بغداد وكان الخليفة لا يزال يأخذ بهم على بغتة
ثم جاءت ملوك السلاجقة على هذا وأهم ملوك الإسلام اختلاف
ذات بينهم وتنازعهم فلم يكن بينهم إلا الرسل على الخيل والبغال في كل أرض بحسبها
فلما جاءت الدولة الزنكية أقامت لذلك النجابة وأعدت له النجب المنتخبة
ودام ذلك مدة زمانها ثم زمان بني أيوب إلى انقراض دولتهم
وتبعها على ذلك أوائل الدولة التركية حتى صار الملك إلى الملك الظاهر بيبرس رحمه الله واجتمع له ملك مصر والشام وحلب إلى الفرات وأراد تجهيز دولته إلى دمشق فعين لها نائبا ووزيرا وقاضيا وكاتبا للإنشاء
قال وكان عمي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله هو كاتب الإنشاء فلما مثل إليه ليودعه أوصاه وصايا كثيرة آكدها مواصلته بالأخبار وما يتجدد من أخبار التتار والفرنج وقال له إن قدرت أن لا تبيتني كل ليلة إلا على خبر ولا تصبحني إلا على خبر فافعل فعرض له بما كان عليه البريد في الزمان الأول وأيام الخلفاء وعرضه عليه فحسن موقعه منه وأمر به
قال عمي فكنت أنا المقرر له قدامه وبين يديه
ثم ذكر أنه لم يزل باقيا على ذلك إلى أيامه
ثم قال وهو جناح الإسلام الذي لا يحص وطرف قادمته التي لا تقص
قلت ولم يزل البريد بعد ذلك مستقرا بالديار المصرية والممالك الشامية إلى أن غشي البلاد الشامية تمرلنك صاحب ما وراء النهر وفتح دمشق وخربها وحرقها في سنة أربع وثمانمائة فكان ذلك سببا لحص جناح البريد وبطلانه من سائر الممالك الشامية
ثم سرى هذا السم إلى الديار المصرية فألحقها بالهمل ورماها بعد الحلي بالعطل فذهبت معالم البريد من مصر والشام وعفت آثاره وصار إذا عرض أمر من الأمور السلطانية في
بعض نواحي الديار المصرية أو الممالك الشامية ركب البريدي على فرس له يسير بها الهوينا سير المسافر إلى المكان الذي يريده ثم يعود على هذه الصورة فيحصل بواسطة ذلك الإبطاء في الذهاب والإياب
الأمر الثالث بيان معالم البريد
إعلم أنه كان فيما تقدم في زمن الخلفاء للبريد شخص مخصوص يتولى أمره بتنفيذ ما يصدر وتلقي ما يرد يعبر عنه بصاحب البريدوممن تعرض إلى ذكر ذلك أبو جعفر النحاس في كتابه صناعة الكتاب في الكلام على أرباب الوظائف واشتقاق أسمائهم
وقد أشار إليه الجوهري في صحاحه أيضا فقال ويقال أبرد صاحب البريد إلى الأمير فهو مبرد يعني أرسل إليه البريد
ثم قد تقدم في مقدمة الكتاب في الكلام على صاحب ديوان الإنشاء وماله التحدث عليه أن صاحب ديوان الإنشاء بالأبواب السلطانية هو المتولي لأمر البريد وتنفيذ أموره في الإيراد والإصدار
وكان للبريد ألواح من فضة مخلدة بديوان الإنشاء تحت أمر كاتب السر بالأبواب السلطانية منقوش على وجهي اللوح نقشا مزدوجا ما صورته لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
ضرب بالقاهرة المحروسة
وعلى الوجه الآخر ما صورته عز لمولانا السلطان الملك الفلاني فلان الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين فلان ابن مولانا السلطان الشهيد الملك الفلاني فلان خلد الله ملكه
وفي ذلك اللوح ثقب معلق به شرابه من حرير أصفر ذات
بندين يجعلها البريدي في عنقه بإدخاله رأسه بين البندين ويصير اللوح أمامه تحت ثيابه والشرابة خلفه من فوق ثيابه
فإذا خرج بريدي إلى جهة من الجهات أعطي لوحا من تلك الألواح يعلقه في عنقه على ما تقدم ذكره ويذهب إلى جهة قصده فكل من رأى تلك الشرابة خلف ظهره علم أنه بريدي
وبواسطة ذلك تذعن له أرباب المراكز بتسليم خيل البريد
ولا يزال كذلك حتى يذهب ويعود فيعيد ذلك اللوح إلى ديوان الإنشاء
وكذلك الحكم في دواوين الإنشاء بدمشق وحلب وغيرهما من الممالك الشامية لا يختلف الحكم في ذلك إلا في الكتابة بمحل ضرب اللوح
فإن كان بدمشق كتب ضرب بالشام
وإن كان بحلب كتب ضرب بحلب المحروسة وكذلك باقي الممالك
الفصل الثاني من الباب الأول من الخاتمة في ذكر مراكز البريد
وهي الأماكن التي تقف فيها خيل البريد لتغيير خيل البريدية فيها فرسا بعد فرسقال في التعريف وليست على المقدار المقدر في البريد المحرر بل هي متفاوتة الأبعاد إذ ألجأت الضرورة إلى ذلك تارة لبعد ماء وتارة للأنس بقرية حتى إنك لترى في هذه المراكز البريد الواحد بقدر بريدين
ولو كانت على التحرير الذي عليه الأعمال لما كان تفاوت
وقد ذكر منها المقر الشهابي بن فضل الله رحمه الله في التعريف ما أربى في ذلك على المقصود وزاد وهو بذلك أدرى وأدرب
وهأنا أذكر ما ذكره موضحا لما يحتاج منه إلى التوضيح مع الزيادة عليه وتقريب الترتيب
ويشتمل على ستة مقاصد
المقصد الأول في مركز قلعة الجبل المحروسة بالديار المصرية التي هي قاعدة
الملك وما يتفرع عنه من المراكز وما تنتهي إليه مراكز كل جهةإعلم أن الذي يتفرع عن مركز القلعة ويتشعب منه أربع جهات وهي
جهة قوص من الوجه القبلي وما يتصل بذلك من أسوان وما يليها من بلاد النوبة وعيذاب وما يليها من سواكن وجهة الإسكندرية من الوجه البحري وجهة دمياط من الوجه البحري أيضا وما يتفرع عنها من جهة غزة من البلاد الشامية
فأما مراكز قوص وما يليها فمن مركز قلعة الجبل المحروسة ومنها إلى مدينة الجيزة
وهي قاعدة الأعمال الجيزية وقد تقدم الكلام عليها في الكلام على بلاد المملكة في المقالة الثانية
ثم منها إلى زاوية أم حسين وهي قرية من عمل الجيزة
قال في التعريف والمركز الآن بمنية القائد وهي على القرب من زاوية أم حسين المذكورة ثم منها إلى ونا وهي بلدة من عمل البهنسى ثم منها إلى دهروط وهي بلدة من عمل البهنسى أيضا ثم منها إلى أقلوسنا وهي بلدة من عمل الأشمونين ثم منها إلى منية بني خصيب وهي مدينة من عمل الأشمونين وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية ثم منها إلى مدينة الأشمونين وهي قاعدة بلادها وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية ثم منها إلى ذروة سربام وهي بلدة من عمل الأشمونين على فم الخليج اليوسفي الواصل من النيل إلى الفيوم وتعرف بذروة الشريف إضافة إلى الشريف ناصر الدين محمد بن تغلب الذي كان عصى بها في زمن الظاهر بيبرس وسمت نفسه إلى الملك حتى كاده الظاهر وقبض عليه وشنقه بالإسكندرية وبها دياره وقصوره والجامع الذي أنشأه بها إلى الآن ثم منها إلى مدينة منفلوط وهي قاعدة الأعمال المنفلوطية التي هي أجل خاص السلطان ثم منها إلى مدينة أسيوط وهي قاعدة الأعمال الأسيوطية ومقر نائب الوجه القبلي الآن وقد تقدم ذكرها في المقالة الثانية ثم منها إلى طما وهي قرية من عمل أسيوط المقدمة الذكر
على ضفة النيل ثم منها إلى المراغة وهي بلدة من عمل إخميم
قال في التعريف وربما سميت المرائغ ثم منها إلى بلسبورة وهي بلده من عمل إخميم أيضا
قال في التعريف وربما قيل بلزبورة بإبدال السين زايا ثم منها إلى جرجا وهي بلدة من العمل المذكور ثم منها إلى البلينة وهي بلدة من عمل قوص ويقال فيها البلينا بإبدال الهاء ألفا ثم منها إلى هو وهي بلدة من عمل قوص أيضا قال في التعريف ويليها الكوم الأحمر وهما من خاص السلطان وعندهما ينقطع الريف في البر الغربي ويكون الرمل المتصل بدندري ويسمى خان دندرى وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى في المقالة الثانية
ومنها إلى مدينة قوص قاعدة الأعمال القوصية وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية
ثم من قوص تنقطع مراكز البريد ويتشعب الطريق إلى جهة أسوان وبلاد النوبة وجهة عيذاب وسواكن
فمن أراد المسير إلى جهة أسوان ركب الهجن من قوص إلى أسوان ثم منها إلى بلاد النوبة
ومن أراد المسير إلى عيذاب سار من قوص إلى كيمان قفط على القرب من قوص
قلت ثم يسير في قفار وجبال من كيمان قفط إلى ماء يسمى ليطة على مرحلة من الكيمان به عين تنبع وليست جارية ثم منها إلى ماء يسمى الدريح على القرب من معدن الزمرد به عين صغيرة يستقى منها من الماء ما شاء الله وهي لا تزيد ولا تنقص ثم منها إلى حميثرة حيث قبر سيدي أبي الحسن الشاذلي وهناك عين ماء يستقى منها ثم منها إلى عيذاب وهي
قرية صغيرة على ضفة بحر القلزم في الشمال إلى الغرب وعلى القرب منها عين يستقى منها
وتقدير جميع المسافة من الكيمان إلى عيذاب نحو عشرة أيام بسير الأثقال على أنه في مسالك الأبصار قد ذكر أن الطريق إلى عيذاب من شعبة على القرب من أسوان ثم يسير منها في بلاد عرب يسمون بني عامر إلى سواكن وهي قرية حاضرة البحر صاحبها من العرب وكتب السلطان تنتهي إليه على ما تقدم ذكره في الكلام على المكاتبات
وأما الإسكندرية فالمراكز الموصلة بها في طريقين
الطريق الأول الآخذة على الجبل الغربي ويسمى طريق الحاجر
والمسير فيها من مركز القلعة المقدم ذكره إلى مدينة الجيزية ثم منها إلى جزيرة القط وهي قرية من آخر عمل الجيزة من الجهة البحرية ثم منها إلى وردان وهي قرية من عمل البحيرة
ثم منها إلى الطرانة ثم منها إلى طيلاس وهي بلدة من عمل البحيرة أيضا وتعرف بزاوية مبارك
قال في التعريف وأهل تلك البلاد يقولون انبارك
ثم منها إلى مدينة دمنهور وتعرف بدمنهور الوحش وهي قاعدة أعمال البحيرة ومحل مقام نائب السلطنة بالوجه البحري وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية ثم منها إلى لوقين وهي قرية من عمل البحيرة ثم منها إلى الإسكندرية
الطريق الثانية الآخذة في وسط العمران وتعرف بالوسطى
وهي من مركز القلعة إلى مدينة قليوب قاعدة الأعمال القليوبية وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية ثم منها إلى مدينة منوف العليا وهي
قاعدة الأعمال المنوفية وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية ثم منها إلى مدينة المحلة المعروفة بالمحلة الكبرى وهي قاعدة الأعمال الغربية وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية
وقد وهم في التعريف فسماها محلة المرحوم بلدة من بلاد الغربية غيرها ثم منها إلى النحريرية وهي مدينة من عمل الغربية ثم منها إلى الإسكندرية
وأما الطريق إلى دمياط وغزة فمن مركز القلعة إلى سرياقوس وهي بلدة من صواحي القاهرة وليس المركز في نفس البلد بل بالقرية المستجدة بجوار الخانقاه الناصرية التي أنشأها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون على القرب من سرياقوس
قال في التعريف وكان قبل هذا بالعش وكان طويل المدى في مكان منقطع وكانت البريدية لا تزال تتشكى منه فصلح بنقله وحصل به الرفق لأمور لم يكن منها إلا قربه من الأسواق المجاورة للخانقاة الناصرية وما يوجد فيها وأنسه بما حولها لكفى ثم منها إلى بئر البيضاء وهي مركز بريد منفرد ليس حوله ساكنون ثم منها إلى مدينة بلبيس قاعدة الأعمال الشرقية وقد تقدم الكلام عليها في المقالة الثانية
قال في التعريف وهي آخر المراكز السلطانية وهي التي تشترى خيلها من الأموال السلطانية ويقام لها السواس وتصرف لها العلوفات ثم منها إلى السعيدية ثم من السعيدية إلى أشموم الرمان قاعدة بلاد الدقهلية والمرتاحية وقد تقدم ذكرها في المقالة الثانية ومنها إلى دمياط ومن أراد غزة
وقد تقدم أن مدينة بلبيس هي آخر المراكز السلطانية
ثم السعيدية وما بعدها إلى الخروبة تعرف بالشهارة خيل البريد بها مقررة على عربان ذوي إقطاعات عليهم خيول موظفة يحضر بها أربابها عند هلال كل شهر إلى المراكز وتستعيدها في آخر الشهر ويأتي غيرها ومن هنالك سميت
الشهارة
قال في التعريف وعليهم وال من قبل السلطان يستعرض في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة ويدوغها بالداغ السلطاني
قال وما دامت تستجد فهي قائمة ومتى اكترى أهل نوبة ممن قبلهم فسدت المراكز لأن الشهر لا يهل وفي خيل المنسلخ قوة لا سيما والعرب قليلة العلف
وأول هذه المراكز السعيدية المقدم ذكرها ثم منها إلى الخطارة ثم منها إلى قبر الوايلي
قال في التعريف وقد استجد به أبنية وأسواق وبساتين حتى صار كأنه قرية ثم منها إلى الصالحية وهي قرية لطيفة
قال في التعريف وهي آخر معمور الديار المصرية ثم منها إلى بئر عفرى وإلى هذا المركز يجلب الماء من بئر وراءه ومنها إلى القصير
قال في التعريف وقد كان كريم الدين وكيل الخاص بنى بها خانا ومسجدا ومئذنة وعمل ساقية فتهدم ذلك كله ولم يوجد له من يجدده وبقيت المئذنة خاصة ورتب بها زيت للتنوير
قال وهذا القصير يقارب المركز القديم المعروف بالعاقولة المقارب لقنطرة الجسر الجاري تحتها فواضل ماء النيل أوان زيادته إذا خرج إلى الرمل ثم منها إلى حبوة
قال في التعريف وليس بها ماء ولا بناء وإنما هي موقف يقف به خيل العرب الشهارة ويجلب الماء إليها من بئر وراءها ثم منها إلى الغرابي ثم منها إلى قطيا وهي قرية صغيرة بها تؤخذ المرتبات السلطانية من التجار الواردين إلى مصر والصادرين عنها وهناك رمل بالطريق يختم في الليل ويحفظ ما حوله بالعربان حتى لا يمر أحد ليلا
فيكون من القاهرة إلى قطيا اثنا عشر بريدا ثم منها إلى صبيحة نخلة معن
قال في التعريف ومن الناس من يقتصر على إحدى هذه الكلمات في تسميتها ثم منها إلى المطيلب ثم منها
إلى السوادة
قال في التعريف وقد حولت عن مكانها فصار المسافر لا يحتاج إلى تعريج إليها ثم منها إلى الورادة قال في التعريف وهي قرية صغيرة بها مسجد على قارعة الطريق بناه الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون تغمده الله برحمته حصل به الرفق بمبيت السفارة به
قال وقد كان فخر الدين كاتب المماليك بنى إلى جانبه خانا فبيع بعده ثم منها إلى بئر القاضي
قال في التعريف والمدى بينهما بعيد جدا يمله السالك ومنها العربش
قال في التعريف وقد أحسن كريم الدين رحمه الله بعمل ساقية سبيل به وبناء خان حصين فيه يأوي إليه من الجأه المساء وينام فيه آمنا من طوارق الفرنج ثم منها إلى الخروبة وبها ساقية وخان بناهما فخر الدين كاتب المماليك حصل به من الرفق والأمن ما بالعريش
قال في التعريف وهذا آخر مراكز العرب الشهارة ثم مما يليها خيل السلطان ذوات الإصطبلات والخدم تشترى بمال السلطان وتعلف منه وأولها الزعقة ثم منها إلى رفح ثم منها إلى السلقة
قال في التعريف وكان قبل هذا المركز ببئر طرنطاي حيث الجميز ويسمى سطر
قال وكان في نقله إلى السلقة المصلحة ثم منها إلى الداروم ثم منها إلى غزة
يكون من قطيا إلى غزة أحد عشر مركزا
المقصد الثاني في مراكز غزة وما يتفرع عنه من البلاد الشامية
والذي يتفرع عنه مراكز ثلاث جهات وهي الكرك ودمشق وصفدفأما الطريق إلى الكرك فمن غزة إلى ملاقس وهو مركز بريد ثم منها إلى بلد الخليل عليه السلام ثم منها إلى جنبا ثم منها إلى الصافية ثم منها إلى الكرك
وأما مراكز دمشق فمن غزة إلى الجينين وهو مركز بريد ومنها إلى بيت دارس والناس يقولون تدارس وبها خان بناه ناصر الدين خزندار
تنكز
قال في التعريف وكان قديما بياسور وكان قريب المدى فنقل وكانت المصلحة في نقله ثم منها إلى قطرى
قال في التعريف وهو مركز مستجد كان المشير به طاجار الدوادار الناصري وبه بئر سبيل وآثار له
قال وقد حصل به رفق عظيم لبعد ما بين لد وبيت دارس أو ياسور ثم منها إلى لد ثم منها إلى العوجاء
قال في التعريف وهي زوراء عن الطريق ولو نقلت منه لكان أرفق ثم منها إلى الطيرة
قال في التعريف وبها خان كان قد شرع في بنائه ناصر الدين دوادار تنكز ثم كمل بيد غيره ثم منها إلى قاقون ثم منها إلى فحمة ثم منها إلى جينين
قال في التعريف وهي على صفد يعني القيام به وبه خان لطاجار الدوادار حسن البناء جليل النفع ليس على الطريق أخص منه ولا أحصن ولا أزيد نفعا منه لا أزين
ومن أراد دمشق وما يليها سار من حينين إلى ذرعين
قال في التعريف ومنها ينزل على عين جالوت وهو مركز مستجد حصل به أعظم الرفق والراحة من العقبة التي كان يسلك عليها بين جينين وبيسان مع طول المدى ثم منها إلى بيسان ثم منها إلى المجامع
قال في التعريف وهو مركز مستجد عند جسر أسامة كنت أنا المشير به في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وحصل به الرفق لبعد ما كان بين بيسان وزحر
قال وقد كان الطريق قديما من بيسان إلى طيبة اسم ثم إلى أربد وكانت غاية في المشقة إذ كان المسافر ما بين بيسان وطيبة اسم
يحتاج إلى خوض الشريعة وبها معدية للفارس دون الفرس وإنما يعبر فيها الفرس سباحة وكان في هذا من المشقة ما لا يوصف لا سيما أيام زيادة الشريعة وكلب البرد لقطع الماء ومعاناة العقاب التي لا يشقها جناح العقاب ولكن الأمير الطنبغا كافل الشام رحمه الله نقل هذه الطريق وجعلها على القصير حيث هي اليوم ونقل المركز من الطيبة إلى زحر حين غرق بعض البريدية الجبليين بالشريعة ثم من المجامع المذكورة إلى زحر ثم منها إلى أربد ثم منها إلى طفس ثم منها إلى الجامع
قال في التعريف وكان قديما في المكان المسمى برأس الماء فلما ملكه الأمير الكبير تنكز كافل الشام رحمه الله نقل المركز منه إلى هذا الجامع فقرب به المدى فيما بينه وبين طفس وكان بعيدا فما جاء إلا حسنا ثم منها إلى الصنمين ثم منها إلى غباغب ثم منها إلى الكسوة ثم منها إلى دمشق المحروسة
وأما الطريق الموصلة إلى صفد فمن جينين المقدم ذكرها إلى تبنين ثم منها إلى حطين وبها قبر شعيب عليه السلام ثم منها إلى صفد
المقصد الثالث في ذكر دمشق وما يتفرع عنه من المراكز الموصلة إلى حمص وحماة وحلب وإلى الرحبة وإلى طرابلس وإلى جعبر ومصياف وبيروت وصيدا وبعلبك والكرك وأذرعات
فأما طريق حلب فقال في التعريف من دمشق إلى القصير
والذي رأيته في بعض الدساتير أنه من دمشق إلى خان لاجين ثم إلى القصير
قال في التعريف ثم من القصير إلى القطيفة ثم منها إلى