كتاب : السيرة النبوية لابن هشام
المؤلف : أبو محمد عبد الملك بن هشام البصري
[ حَدِيثُ الْمَلَكَيْنِ اللّذَيْنِ شَقّا بَطْنَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَتْ
فَرَجَعْنَا بِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ بَعْدَ مَقْدِمِنَا ( بِهِ )
بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ لَفِي بَهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا ، إذْ
أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدّ ، فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ ذَاكَ أَخِي
الْقُرَشِيّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ
فَأَضْجَعَاهُ فَشَقّا بَطْنَهُ فَهُمَا يَسُوطَانِهِ . [ ص 165 ] قَالَتْ
فَخَرَجْت أَنَا وَأَبُوهُ نَحْوَهُ فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقَعَا
وَجْهُهُ . قَالَتْ فَالْتَزَمْته وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ فَقُلْنَا لَهُ
مَا لَك يَا بُنَيّ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ
فَأَضْجَعَانِي وَشَقّا بَطْنِي ، فَالْتَمِسَا ( فِيهِ ) شَيْئًا لَا
أَدْرِي مَا هُوَ . قَالَتْ فَرَجَعْنَا ( بِهِ ) إلَى خِبَائِنَا .
[ رُجُوعُ حَلِيمَةَ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أُمّهِ ]
قَالَتْ
وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا
الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ
ذَلِكَ بِهِ قَالَتْ فَاحْتَمَلْنَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ
فَفَالَتْ مَا أَقْدَمَك بِهِ يَا ظِئْرُ وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً
عَلَيْهِ وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَك ؟ قَالَتْ فَقُلْت : قَدْ بَلَغَ
اللّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الّذِي عَلَيّ وَتَخَوّفْت الْأَحْدَاثَ
عَلَيْهِ فَأَدّيْته إلَيْك كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ مَا هَذَا شَأْنُك ،
فَاصْدُقِينِي خَبَرَك . قَالَتْ فَلَمْ تَدَعْنِي حَتّى أَخْبَرْتُهَا .
قَالَتْ أَفَتَخَوّفَتْ عَلَيْهِ الشّيْطَانَ ؟ قَالَتْ قُلْت نَعَمْ
قَالَتْ كَلّا ، وَاَللّهِ مَا لِلشّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَإِنّ
لِبُنَيّ لَشَأْنًا ، أَفَلَا أُخْبِرُكِ خَبَرَهُ قَالَتْ ( قُلْت )
بَلَى ، قَالَتْ رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنّهُ خَرَجَ مِنّي نُورٌ
أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، ثُمّ حَمَلْتُ بِهِ
فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِنْ حَمْلٍ قَطّ كَانَ أَخَفّ ( عَلَيّ ) وَلَا
أَيْسَرَ مِنْهُ وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْته وَإِنّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ
بِالْأَرْضِ رَافِعٌ رَأَسَهُ إلَى السّمَاءِ دَعِيهِ عَنْك وَانْطَلِقِي
رَاشِدَةً . [ ص 166 ]
[ تَعْرِيفُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفْسِهِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
الْعِلْمِ وَلَا أَحْسَبُهُ إلّا عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ
الْكُلَاعِيّ أَنّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ
نَفْسِك ؟ قَالَ نَعَمْ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى (
أَخِي ) عِيسَى ، وَرَأَتْ أُمّي حِين حَمَلَتْ بِي أَنّهُ خَرَجَ مِنْهَا
نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشّامِ ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ
بْنِ بَكْرٍ ، فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخٍ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى
بَهْمًا لَنَا ، إذْ أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ
بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ ثَلْجًا ، ثُمّ أَخَذَانِي فَشَقّا
بَطْنِي ، وَاسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقّاهُ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ
عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَطَرَحَاهَا ، ثُمّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي
بِذَلِكَ الثّلْجِ حَتّى أَنْقَيَاهُ ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ
زِنْهُ بِعَشَرَةِ مِنْ أُمّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ ثُمّ
قَالَ زِنْهُ بِمِئَةِ مِنْ أُمّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ
ثُمّ قَالَ زَنّهِ بِأَلْفِ مِنْ أُمّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِمْ
فَوَزَنْتهمْ فَقَالَ دَعْهُ عَنْك ، فَوَاَللّهِ لَوْ وَزَنْتَهُ
بِأُمّتِهِ لَوَزَنَهَا [ ص 167 ]
[ هُوَ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ رَعَوْا الْغَنَمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَقُولُ مَا مِنْ نَبِيّ إلّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ قِيلَ وَأَنْتَ يَا
رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ وَأَنَا
[ اعْتِزَازُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُرَشِيّتِهِ وَاسْتِرْضَاعُهُ فِي بَنِي سَعْدٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ أَنَا أَعْرَبُكُمْ أَنَا قُرَشِيّ ،
وَاسْتُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ .
[ افْتَقَدَتْهُ حَلِيمَةُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رُجُوعِهَا بِهِ وَوَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ النّاسُ فِيمَا يَتَحَدّثُونَ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ أَنّ أُمّهُ السّعْدِيّةَ لَمّا قَدِمَتْ بِهِ مَكّةَ أَضَلّهَا
فِي النّاسِ وَهِيَ مُقْبِلَةٌ بِهِ نَحْوَ أَهْلِهِ فَالْتَمَسَتْهُ
فَلَمْ تَجِدْهُ فَأَتَتْ عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَتْ لَهُ إنّي قَدْ
قَدِمْت بِمُحَمّدٍ هَذِهِ اللّيْلَةَ . فَلَمّا كُنْتُ بِأَعْلَى مَكّةَ
أَضَلّنِي ، فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ فَقَامَ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو اللّهَ أَنْ يَرُدّهُ
فَيَزْعُمُونَ أَنّهُ وَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ ،
وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَأَتَيَا بِهِ عَبْدَ الْمُطّلِبِ ،
فَقَالَا لَهُ هَذَا ابْنُك وَجَدْنَاهُ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَأَخَذَهُ
عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَجَعَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ يُعَوّذُهُ وَيَدْعُو لَهُ ثُمّ أَرْسَلَ بِهِ إلَى أُمّهِ
آمِنَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
أَنّ مِمّا هَاجَ أُمّهُ السّعْدِيّةَ عَلَى رَدّهِ إلَى أُمّهِ مَعَ مَا
ذَكَرَتْ لِأُمّهِ مِمّا أَخْبَرَتْهَا عَنْهُ أَنّ نَفَرًا مِنْ
الْحَبَشَةِ نَصَارَى ، رَأَوْهُ مَعَهَا حِينَ رَجَعَتْ بِهِ بَعْدَ
فِطَامِهِ فَنَظَرُوا إلَيْهِ وَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَقَلّبُوهُ ثُمّ
قَالُوا لَهَا : لَنَأْخُذَنّ هَذَا الْغُلَامَ فَلَنَذْهَبَنّ بِهِ إلَى
مَلِكِنَا وَبَلَدِنَا ، فَإِنّ هَذَا غُلَامٌ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ نَحْنُ
نَعْرِفُ أَمْرَهُ فَزَعَمَ الّذِي حَدّثَنِي أَنّهَا لَمْ تَكَدْ
تَنْفَلِتُ بِهِ مِنْهُمْ . [ ص 168 ]
[ وَفَاةُ آمِنَةَ وَحَالُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ جَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بَعْدَهَا ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَعَ أُمّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وَجَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ
هَاشِمٍ فِي كَلَاءَةِ اللّهِ وَحِفْظِهِ يُنْبِتُهُ اللّهُ نَبَاتًا
حَسَنًا لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِتّ سِنِينَ تُوُفّيَتْ أُمّهُ
آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : أَنّ أُمّ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آمِنَةُ تُوُفّيَتْ
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنُ سِتّ سِنِينَ
بِالْأَبْوَاءِ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، كَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ
بِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّار ِ تُزِيرُهُ
إيّاهُمْ فَمَاتَتْ وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ إلَى مَكّةَ .
[ سَبَبُ خُؤُولَةِ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ : سَلْمَى بِنْتُ
عَمْرٍو النّجّارِيّةُ . فَهَذِهِ الْخُؤُولَةُ الّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ
إسْحَاقَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِمْ .
[ إكْرَامُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ صَغِيرٌ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَعَ جَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ
الْمُطّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلّ الْكَعْبَةِ ، فَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ
حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حَتّى يَخْرَجَ إلَيْهِ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ
أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إجْلَالًا لَهُ ؟ قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْتِي وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ حَتّى يَجْلِسَ
عَلَيْهِ فَيَأْخُذَهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخّرُوهُ عَنْهُ فَيَقُولُ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ ، إذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ دَعُوا ابْنِي ، فَوَاَللّهِ
إنّ لَهُ لَشَأْنًا ، ثُمّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ وَيَمْسَحُ
ظَهْرَهُ بِيَدِهِ وَيَسُرّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ .
[ وَفَاةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَمَا رُثِيَ بِهِ مِنْ الشّعْرِ ]
[
ص 169 ] صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَمَانِي سِنِينَ هَلَكَ عَبْدُ
الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ . وَذَلِكَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَمَانِي سِنِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
مَعْبَدِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ
تُوُفّيَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنُ ثَمَانِي
سِنِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيّبِ : أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ لَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
وَعَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ جَمَعَ بَنَاتِهِ وَكُنّ سِتّ نِسْوَةٍ صَفِيّةَ ،
وَبَرّةَ وَعَاتِكَةَ ، وَأُمّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ وَأُمَيْمَةَ ،
وَأَرْوَى ، فَقَالَ لَهُنّ ابْكِينَ عَلَيّ حَتّى أَسْمَعَ مَا تَقُلْنَ
قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يَعْرِفُ هَذَا الشّعْرَ إلّا أَنّهُ لَمّا
رَوَاهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ كَتَبْنَاهُ .
[ رِثَاءُ صَفِيّةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ ]
فَقَالَتْ صَفِيّةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا [ ص 170 ]
أَرِقْتُ لِصَوْتِ نَائِحَةٍ بِلَيْلٍ ... عَلَى رَجُلٍ بِقَارِعَةِ الصّعِيدِ
فَفَاضَتْ عِنْدَ ذَلِكُمْ دُمُوعِي ... عَلَى خَدّي كَمُنْحَدِرِ الْفَرِيدِ
عَلَى رَجُلٍ كَرِيمٍ غَيْرِ وَغْلٍ ... لَهُ الْفَضْلُ الْمُبِينُ عَلَى الْعَبِيدِ
عَلَى الْفَيّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيكِ الْخَيْرِ وَارِثِ كُلّ جُودِ
صَدُوقٍ فِي الْمَوَاطِنِ غَيْرِ نِكْسٍ ... وَلَا شَخْتِ الْمَقَامِ وَلَا سَنِيدٍ
طَوِيلِ الْبَاعِ أَرْوَعَ شَيْظَمِيّ ... مُطَاعٍ فِي عَشِيرَتِهِ حَمِيدٍ
رَفِيعِ الْبَيْتِ أَبْلَجَ ذِي فُضُولٍ ... وَغَيْثِ النّاسِ فِي الزّمَنِ الْحَرُودِ
كَرِيمِ الْجَدّ لَيْسَ بِذِي وُصُومِ ... يَرُوقُ عَلَى الْمُسَوّدِ وَالْمَسُودِ
عَظِيمِ الْحِلْمِ مِنْ نَفَرٍ كِرَامٍ ... خَضَارِمَةٍ مَلَاوِثَة أُسُودٍ
فَلَوْ خَلَدَ امْرُؤٌ لِقَدِيمِ مَجْدٍ ... وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْخُلُودِ
لَكَانَ مُخَلّدًا أُخْرَى اللّيَالِي ... لِفَضْلِ الْمَجْدِ وَالْحَسَبِ التّلِيدِ
[ رِثَاءُ بَرّةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ ]
وَقَالَتْ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا [ ص 171 ]
أَعَيْنَيّ جُودَا بِدَمْعٍ دِرَرْ ... عَلَى طَيّبِ الْخِيمِ وَالْمُعْتَصَر
عَلَى مَاجِدِ الْجِدّ وَارَى الزّنَادَ ... جَمِيلِ الْمُحَيّا عَظِيمِ الخَطَر
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ ذِي الْمَكْرُمَات ... وَذِي الْمَجْدِ وَالْعِزّ والمُفْتَخَر
وَذِي الْحِلْمِ وَالْفَصْلِ فِي النّائِبَاتِ ... كَثِيرِ الْمَكَارِمِ جَمّ الْفَجَر
لَهُ فَضْلُ مَجْدٍ عَلَى قَوْمِهِ ... مُنِيرٍ يَلُوحُ كَضَوْءِ القَمَر
أَتَتْهُ الْمَنَايَا فَلَمْ تُشْوِهِ ... بِصَرْفِ اللّيَالِي وَرَيْبِ القَدَر
[ رِثَاءُ عَاتِكَةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ ]
وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَعَيْنِيّ جُودَا وَلَا تَبْخَلَا ... بِدَمْعِكُمَا بَعْدَ نَوْمِ النّيَام
أَعَيْنِيّ وَاسْحَنْفِرَا وَاسْكُبَا ... وَشُوبَا بُكَاءَكُمَا بِالْتِدَامِ
أَعَيْنِيّ وَاسْتَخْرِطَا وَاسْجُمَا ... عَلَى رَجُلٍ غَيْرِ نِكْسٍ كَهام
عَلَى الْجَحْفَلِ الْغَمْرِ فِي النّائِبَاتِ ... كَرِيمِ الْمَسَاعِي وَفِيّ الذّمَام
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ وَارَى الزّنَاد ... وَذِي مَصْدَق بَعْدُ ثَبْتِ الْمَقَامِ
وَسَيْفٍ لَدَى الْحَرْبِ صَمْصَامَةٍ ... وَمُرْدَى الْمُخَاصِمِ عِنْدَ الخِصام
وَسَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَلْقِ الْيَدَيْنِ ... وَفِي عدملي صَمِيمٍ لُهام
تَبَنّكَ فِي بَاذِخٍ بَيْتُهُ ... رَفِيعُ الذّؤَابَةِ صَعْبُ المَرام
[ رِثَاءُ أُمّ حَكِيمٍ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ ]
وَقَالَتْ أُمّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءِ بنتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا [ ص 172 ]
أَلَا يَا عَيْنُ جُودِي وَاسْتَهِلّي ... وَبَكّي ذَا النّدَى وَالْمَكْرُمَاتِ
أَلَا يَا عَيْنُ وَيْحَك أَسْعِفِينِي ... بِدَمْعٍ مِنْ دُمُوعٍ هَاطِلَاتٍ
وَبَكّي خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... أَبَاكِ الْخَيْر تَيّارَ الْفُرَاتِ
طَوِيلَ الْبَاعِ شَيْبَةَ ذَا الْمَعَالِي ... كَرِيمَ الْخِيمِ مَحْمُودَ الْهِبَاتِ
وَصُولًا لِلْقَرَابَةِ هِبْرَزِيّا ... وَغَيْثًا فِي السّنِينَ الْمُمْحِلَاتِ
وَلَيْثًا حَيْنَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي ... تَرُوقُ لَهُ عُيُونُ النّاظِرَاتِ
عَقِيلَ بَنِي كِنَانَةَ وَالْمُرَجّى ... إذَا مَا الدّهْرُ أَقْبَلَ بِالْهَنَاتِ
وَمَفْزَعَهَا إذَا مَا هَاجَ هَيْجٌ ... بِدَاهِيَةٍ وَخَصْمَ الْمُعْضِلَات
فَبَكّيهِ وَلَا تسمي بِحُزْنٍ ... وَبَكّي ، مَا بَقِيَتْ الْبَاكِيَاتُ
[ رِثَاءُ أُمَيْمَةَ لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ ]
وَقَالَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا [ ص 173 ]
أَلَا هَلَك الرّاعِي الْعَشِيرَةَ ذُو الْفَقْدِ ... وَسَاقِي الْحَجِيجِ وَالْمُحَامِي عَنْ الْمَجْدِ
وَمَنْ يُؤْلَفُ الضّيْفَ الْغَرِيبَ بُيُوتَهُ ... إذَا مَا سَمَاءُ النّاس تَبْخَلُ بِالرّعْدِ
كَسَبْتَ وَلَيَدًا خَيْرَ مَا يَكْسِبُ الْفَتَى ... فَلَمْ تَنْفَكِكْ تَزْدَادُ يَا شَيْبَةَ الْحَمْدِ
أَبُو الْحَارِثِ الْفَيّاضُ خَلّى مَكَانَهُ ... فَلَا تُبْعِدَنْ فَكُلّ حَيّ إلَى بُعْدٍ
فَإِنّي لَبَاكٍ مَا بَقِيتُ وَمُوجَعٌ ... وَكَانَ لَهُ أَهْلًا لِمَا كَانَ مِنْ وَجْدِي
سَقَاكَ وَلِيّ النّاسِ فِي القَبرُ مُمْطِرًا ... فَسَوْفَ أُبَكّيهِ وَإِنْ كَانَ فِي اللّحْدِ
فَقَدْ كَانَ زَيْنًا لِلْعَشِيرَةِ كُلّهَا ... وَكَانَ حَمِيدًا حَيْثُ مَا كَانَ مِنْ حَمْدٍ
[ رِثَاءُ أَرِوَى لِأَبِيهَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ ]
وَقَالَتْ أَرْوَى بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
بَكَتْ عَيْنَيّ وَحُقّ لَهَا الْبُكَاءُ ... عَلَى سَمْحٍ سَجِيّتُهُ الْحَيَاءُ
عَلَى سَهْلِ الْخَلِيقَةِ أبْطَحيّ ... كَرِيمِ الْخِيمِ نِيّتُهُ الْعَلَاءُ
عَلَى الْفَيّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيكِ الْخَيْرِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
طَوِيلِ الْبَاعِ أَمْلَسَ شَيْظميّ ... أَغَرّ كَأَنّ غُرّتَهُ ضِيَاءُ
أَقَبّ الْكَشْحِ أَرُوعَ ذِي فُضُولٍ ... لَهُ الْمَجْدُ الْمُقَدّمُ وَالسّنَاءُ
أَبِيّ الضّيْمِ أَبْلَجَ هِبْرَزِيّ ... قَدِيمِ الْمَجْدِ لَيْسَ لَهُ خَفَا
وَمَعْقِلِ مَالِكٍ وَرَبِيعِ فِهْرٍ ... وَفَاصِلِهَا إذَا اُلْتُمِسَ الْقَضَاءُ
وَكَانَ هُوَ الْفَتَى كَرَمًا وَجُودًا ... وَبَأْسًا حَيْنَ تَنْسَكِبُ الدّمَاءُ
إذَا هَابَ الْكُمَاةُ الْمَوْتَ حَتّى ... كَأَنّ قُلُوبَ أَكْثَرِهِمْ هَوَاءُ
مَضَى قُدُمًا بِذِي رُبَدٍ خَشِيبٍ ... عَلَيْهِ حَيْنَ تُبْصِرهُ الْبَهَاءُ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ لِي مُحَمّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ
أَنّهُ أَشَارَ بِرَأْسِهِ وَقَدْ أَصْمَتَ أَنّ هَكَذَا فَابْكِينَنِي [
ص 174 ]
[ نَسَبُ الْمُسَيّبِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ وَ ] الْمُسَيّبُ بْنُ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ .
[ رِثَاءُ حُذَيْفَةَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ
بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ يَبْكِي عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمِ بْنِ
عَبْدِ مَنَاف ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُ وَفَضْلَ قُصَيّ عَلَى قُرَيْشٍ ،
وَفَضْلَ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ أَنّهُ أُخِذَ
بِغُرْمِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ بِمَكّةَ ، فَوَقَفَ بِهَا فَمَرّ
بِهِ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَافْتَكّهُ [
ص 175 ] [ ص 176 ] [ ص 177 ]
أَعَيْنِيّ جُودَا بِالدّمُوعِ عَلَى الصّدْرِ ... وَلَا تَسْأَمَا أُسْقِيتُمَا سَبَلَ الْقَطْرِ
وَجُودَا بِدَمْعٍ وَاسْفَحَا كُلّ شَارِقٍ ... بُكَاءَ امْرِئٍ لَمْ يُشْوِهِ نَائِبُ الدّهْرِ
( وَسُحّا وَجُمّا وَاسْجُمَا مَا بَقِيتُمَا ... عَلَى ذِي حَيَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَذِي سِتْرِ )
عَلَى رَجُلٍ جَلْدِ الْقُوَى ذِي حَفِيظَةٍ ... جَمِيلِ الْمُحَيّا غَيْرِ نِكْسٍ وَلَا هَذْرِ
عَلَى الْمَاجِدِ الْبُهْلُولِ ذِي الْبَاعِ وَالنّدَى ... رَبِيعِ لُؤَى فِي الْقُحُوط وَفِي الْعُسْرِ
عَلَى خَيْبَرِ حَافٍ مِنْ مُعَدّ وَنَاعِلٍ ... كَرِيمَ الْمَسَاعِي طَيّبَ الْخِيمِ وَالنّجْرِ
وَخَيْرُهُمْ أَصْلًا وَفَرْعًا وَمَعْدِنًا ... وَأَحْظَاهُمْ بِالْمُكْرَمَاتِ وَبِالذّكْرِ
وَأَوْلَاهُمْ بِالْمَجْدِ وَالْحِلْمِ وَالنّهَى ... وَبِالْفَضْلِ عِنْدَ الْمُجْحِفَاتِ مِنْ الْغُبْرِ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ الّذِي كَانَ وَجْهُهُ ... يُضِيءُ سَوَادَ اللّيْلِ كَالْقَمَرِ الْبَدْرِ
وَسَاقِي الْحَجِيجِ ثُمّ لِلْخَيْرِ هَاشِمٍ ... وَعَبْدُ مَنَاف ذَلِكَ السّيّدُ الفِهْري
طَوَى زَمزَما عِنْدَ الْمَقَامِ فَأَصْبَحَتْ ... سِقَايَتُهُ فَخْرًا عَلَى كُلّ ذِي فَخْرٍ
لِيَبْكِ عَلَيْهِ كُلّ عَانٍ بِكُرْبَةٍ ... وَآلُ قُصَيّ مِنْ مُقِلّ وَذِي وَفْرٍ
بَنُوهُ سَرَاةَ كَهْلُهُمْ وَشَبَابُهُمْ ... تَفَلّقَ عَنْهُمْ بَيْضَةُ الطّائِرِ الصّقْرِ
قُصَيّ الّذِي عَادَى كِنَانَةَ كُلّهَا ... وَرَابَطَ بَيْتَ اللّهِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
فَإِنْ تَكُ غَالَتْهُ الْمَنَايَا وَصَرْفُهَا ... فَقَدْ عَاشَ مَيْمُونَ النّقِيبَةِ وَالْأَمْرِ
وَأَبْقَى رِجَالًا سَادَةً غَيْرَ عُزّلٍ ... مصاليت أَمْثَالَ الرّدَيْنِيّةِ السّمْرِ
أَبُو عُتْبَةَ الْمُلْقَى إلَيّ حِبَاؤُهُ ... أَغَرّ هِجَانُ اللّوْنِ مِنْ نَفَرِ غُرّ
وَحَمْزَةُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَهْتَزّ لِلنّدَى ... نَقِيّ الثّيَابِ وَالذّمَامِ مِنْ الْغَدْرِ
وَعَبْدُ مَنَاف مَاجِدٌ ذُو حَفِيظَةٍ ... وَصُولٌ لِذِي الْقُرْبَى رَحِيمٌ بِذِي الصّهْرِ
كُهُولُهُمْ خَيْرُ الْكُهُولِ وَنَسْلُهُمْ ... كَنَسْلِ الْمُلُوكِ لَا تَبُورُ وَلَا تَحَرّى
مَتَى مَا تُلَاقِي مِنْهُمْ الدّهْرَ نَاشِئًا ... تَجِدْهُ بِإِجْرِيّا أَوَائِله بَجْرَى
هُمْ مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَعِزّةً ... إذَا اُسْتُبِقَ الْخَيْرَاتُ فِي سَالِفِ الْعَصْرِ
وَفِيهِمْ بُنَاةٌ لِلْعُلَا وَعِمَارَةٌ ... وَعَبْدُ مَنَاف جَدّهُمْ جَابِرُ الْكَسْرِ
بِإِنْكَاحِ عَوْفٍ بِنْتَه لِيُجِيرَنَا ... مِنْ أَعْدَائِنَا إذْ أَسْلَمَتْنَا بَنُو فِهْرِ
فَسِرْنَا تهامي الْبِلَادِ وَنَجْدَهَا ... بِأَمْنِهِ حَتّى خَاضَتْ الْعِيرُ فِي الْبَحْرِ
وَهُمْ حَضَرُوا وَالنّاسُ بَادٍ فَرِيقُهُمْ ... وَلَيْسَ بِهَا إلّا شُيُوخُ بَنِي عَمْرِو
بَنَوْهَا دِيَارًا جَمّةً وَطَوَوْا بِهَا ... بِئَارًا تَسُحّ الْمَاءَ مِنْ ثَبَجِ بَحْرِ
لَكَيْ يَشْرَبَ الْحُجّاجُ مِنْهَا وَغَيْرُهُمْ ... إذَا ابْتَدَرُوهَا صُبْحَ تَابِعَةِ النّحْرِ
ثَلَاثَةُ أَيّامٍ تَظَلّ رِكَابُهُمْ ... مُخَيّسَةً بَيْنَ الْأَخَاشِب وَالْحِجْرِ
وَقِدْمًا غَنِيّنَا قَبْلَ ذَلِكَ حِقْبَةً ... وَلَا نَسْتَقِي إلّا بِخُمّ أَوْ الْحَفْرِ
وَهُمْ يَغْفِرُونَ الذّنْبَ يُنْقَمُ دُونَهُ ... وَيَعْفُونَ عَنْ قَوْلِ السّفَاهَةِ وَالْهُجْرِ
وَهُمْ جَمَعُوا حِلْفَ الْأَحَابِيشِ كلّها ... وَهُمْ نَكّلُوا عَنّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرِ
فَخَارِجَ إمّا أَهْلكُنّ فَلَا تَزَلْ ... لَهُمْ شَاكِرًا حَتّى تُغَيّبَ فِي الْقَبْرِ
وَلَا تَنْسَ مَا أَسُدَى ابْنُ لُبْنَى فَإِنّهُ ... قَدْ أَسْدَى يَدًا مَحْقُوقَةً مِنْك بِالشّكْرِ
وَأَنْتَ ابْنُ لُبْنَى مِنْ قُصَيّ إذَا انْتَمَوْا ... بِحَيْثُ انْتَهَى قَصْدُ الْفُؤَادِ مِنْ الصّدْرِ
وَأَنْتَ تَنَاوَلْتَ الْعُلَا فَجَمَعْتَهَا ... إلَى مَحْتِدٍ لِلْمَجْدِ ذِي ثَبَجِ جَسْرِ
سَبَقْتَ وَفُتّ الْقَوْمَ بَذْلًا وَنَائِلًا ... وَسُدْت وَلَيَدًا كُلّ ذِي سُوْدُدِ غَمْرِ
وَأُمّك سِرّ مِنْ خُزَاعَةَ جَوْهَر ... إذَا حَصّلَ الْأَنْسَابَ يَوْمًا ذَوُو الْخُبْرِ
إلَى سَبَأِ الْأَبْطَالِ تُنَمّى وَتَنْتَمِي ... فَأَكْرِمْ بِهَا مَنْسُوبَةً فِي ذُرَا الزّهْرِ
أَبُو شمر مِنْهُمْ وَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ ... وَذُو جَدَن مِنْ قَوْمِهَا وَأَبُو الْجَبْرِ
وَأَسْعَدُ قَادَ النّاسَ عِشْرِينَ حِجّةً ... يُؤَيّدُ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ بِالنّصْرِ
[
ص 178 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " أُمّك سِرّ مِنْ خُزَاعَةَ " ، يَعْنِي
أَبَا لَهَبٍ أُمّهُ لُبْنَى بِنْتُ هَاجِرٍ الْخُزاَعِيّ . وَقَوْلُهُ "
بِإِجْرِيّا أَوَائِلُهُ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
[ رِثَاءُ مَطْرُودٍ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ وبني عَبْدِ مَنَافٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزاَعِيّ يَبْكِي عَبْدَ الْمُطّلِبِ وبَني عَبْدِ مَنَافٍ
يَا أَيّهَا الرّجُلُ الْمُحَوّلُ رَحْلَهُ ... هَلّا سَأَلْتَ عَنْ آلِ عَبْدِ مَنَافِ
هَبَلَتْكَ أُمّك لَوْ حَلَلْتَ بِدَارِهِمْ ... ضَمِنُوك مِنْ جُرْمٍ وَمِنْ إقْرَافِ
الْخَالِطِينَ غَنِيّهُمْ بِفَقِيرِهِمْ ... حَتّى يَعُودَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِي
الْمُنْعِمِينَ إذَا النّجُومُ تَغَيّرَتْ ... وَالظّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَالْمُطْعِمِينَ إذَا الرّيَاحُ تَنَاوَحَتْ ... حَتّى تَغِيبَ الشّمْسُ فِي الرّجّافِ
إمّا هَلَكْتَ أَبَا الْفِعَالِ فَمَا جَرَى ... مِنْ فَوْقِ مِثْلِك عَقْدُ ذَاتِ نِطَافِ
إلّا أَبِيكَ أَخِي الْمَكَارِمِ وَحْدَهُ ... وَالْفَيْضِ مُطّلِبٍ أَبِي الْأَضْيَافِ
[ وِلَايَةُ الْعَبّاسِ عَلَى سِقَايَةِ زَمْزَمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَلِيَ
زَمْزَمَ وَالسّقَايَةَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ مِنْ أَحْدَثِ إخْوَتِهِ سِنّا ، فَلَمْ [
ص 179 ] فَأَقَرّهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ
عَلَى مَا مَضَى مِنْ وِلَايَتِهِ فَهِيَ إلَى آلِ الْعَبّاسِ بِوِلَايَةِ
الْعَبّاسِ إيّاهَا ، إلَى ( هَذَا ) الْيَوْمِ .
كِفَالَةُ أَبِي طَالِبٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - يُوصِي بِهِ عَمّهُ أَبَا طَالِب ٍ وَذَلِكَ لِأَنّ عَبْدَ
اللّهِ أَبَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبَا
طَالِبٍ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمّ أُمّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ
عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ .
[ وِلَايَةُ أَبِي طَالِبٍ لِأَمْرِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الّذِي يَلِي أَمْرَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ جَدّهِ فَكَانَ إلَيْهِ
وَمَعَهُ .
[ نُبُوءَةُ رَجُلٍ مِنْ لَهَبٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
الزّبَيْرِ ، أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّ رَجُلًا مِنْ لَهَبٍ - قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَلَهَبٌ مِنْ أَزْدَشَنُوءَةَ - كَانَ [ ص 180 ]
عَائِفًا ، فَكَانَ إذَا قَدِمَ مَكّةَ أَتَاهُ رِجَالُ قُرَيْشٍ
بِغِلْمَانِهِمْ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَعْتَافُ لَهُمْ فِيهِمْ . قَالَ
فَأَتَى بِهِ أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ غُلَامٌ مَعَ مَنْ يَأْتِيهِ فَنَظَرَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ شَغَلَهُ عَنْهُ
شَيْءٌ فَلَمّا فَرَغَ قَالَ الْغُلَامُ عَلَيّ بِهِ فَلَمّا رَأَى أَبُو
طَالِبٍ حِرْصَهُ عَلَيْهِ غَيّبَهُ عَنْهُ فَجَعَلَ يَقُولُ وَيْلَكُمْ
رُدّوا عَلَيّ الْغُلَامَ الّذِي رَأَيْت آنِفًا ، فَوَاَللّهِ
لَيَكُونَنّ لَهُ شَأْنٌ . قَالَ فَانْطَلَقَ أَبُو طَالِبٍ .
[ قِصّةُ بَحِيرَى ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إلَى
الشّامِ ، فَلَمّا تَهَيّأَ لِلرّحِيلِ وَأَجْمَعَ الْمَسِيرَ صَبّ بِهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ -
فَرَقّ لَهُ ( أَبُو طَالِبٍ ) وَقَالَ وَاَللّهِ لَأَخْرُجَنّ بِهِ مَعِي
، وَلَا يُفَارِقُنِي ، وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا ، أَوْ كَمَا قَالَ .
فَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ فَلَمّا نَزَلَ الرّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ
الشّامِ ، [ ص 181 ] يُقَالُ لَهُ بَحِيرَى فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ وَكَانَ
إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ
الصّوْمَعَةِ مُنْذُ قَطّ رَاهِبٌ إلَيْهِ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ
كِتَابٍ فِيهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ
كَابِرٍ . فَلَمّا نَزَلُوا ذَلِكَ الْعَامَ بِبَحِيرَى وَكَانُوا
كَثِيرًا مَا يَمُرّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُكَلّمُهُمْ وَلَا
يَعْرِضُ لَهُمْ حَتّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ . فَلَمّا نَزَلُوا بِهِ
قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا ، وَذَلِكَ
فِيمَا يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ
يَزْعُمُونَ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ فِي الرّكْبِ حَيْن أَقْبَلُوا ، وَغَمَامَةٌ
تُظِلّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ . قَالَ ثُمّ أَقْبَلُوا فَنَزَلُوا فِي
ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ . فَنَظَرَ إلَى الْغَمَامَةِ حَيْنَ
أَظَلّتْ الشّجَرَةُ ، وَتَهَصّرَتْ أَغْصَانُ الشّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اسْتَظَلّ تَحْتَهَا .
فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيرَى نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ ثُمّ أَرْسَلَ
إلَيْهِمْ فَقَالَ إنّي قَدْ صَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ ، فَأَنَا أُحِبّ أَنْ تَحْضُرُوا كُلّكُمْ صَغِيرُكُمْ
وَكَبِيرُكُمْ وَعَبْدُكُمْ وَحُرّكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ
وَاَللّهِ يَا بَحِيرَى إنّ لَك لَشَأْنًا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتَ
تَصْنَعُ هَذَا بِنَا ، وَقَدْ كُنّا نَمُرّ بِك كَثِيرًا ، فَمَا شَأْنُك
الْيَوْمَ ؟ قَالَ لَهُ بَحِيرَى : صَدَقْتَ قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ
وَلَكِنّكُمْ ضَيْفٌ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ
لَكُمْ طَعَامًا فَتَأْكُلُوا مِنْهُ كُلّكُمْ . فَاجْتَمِعُوا إلَيْهِ
وَتَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَيْنِ
الْقَوْمِ لِحَدَاثَةِ سِنّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشّجَرَةِ .
فَلَمّا نَظَرَ بَحِيرَى فِي الْقَوْمِ لَمْ يَرَ الصّفَةَ الّتِي
يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، لَا
يَتَخَلّفَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي ؛ قَالُوا لَهُ يَا بَحِيرَى
، مَا تَخَلّفَ عَنْك أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَكَ إلّا غُلَامٌ
وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنّا ، فَتَخَلّفَ فِي رِحَالِهِمْ فَقَالَ
لَا تَفْعَلُوا ، اُدْعُوهُ فَلِيَحْضُرْ هَذَا الطّعَامَ مَعَكُمْ .
قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ وَاَللّاتِي
وَالْعُزّى ، إنْ كَانَ لَلُؤْمٌ بِنَا أَنْ يَتَخَلّفَ ابْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ [ ص 182 ] رَآهُ
بَحِيرَى جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا وَيَنْظُرُ إلَى أَشْيَاءَ
مِنْ جَسَدِهِ قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ حَتّى إذَا
فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَتَفَرّقُوا ، قَامَ إلَيْهِ بَحِيرَى
، فَقَالَ ( لَهُ ) : يَا غُلَامُ أَسْأَلُك بِحَقّ اللّاتِي وَالْعُزّى
إلّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَإِنّمَا قَالَ لَهُ
بَحِيرَى ذَلِكَ لِأَنّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا .
فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ (
لَهُ ) : لَا تَسْأَلْنِي بِاَللّاتِي وَالْعُزّى ، فَوَاَللّهِ مَا
أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطّ بُغْضَهُمَا ، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى :
فَبِاَللّهِ إلّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ فَقَالَ لَهُ
سَلْنِي عَمّا بَدَا لَك . فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ
حَالِهِ فِي نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخْبِرُهُ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ
بَحِيرَى مِنْ صِفَتِهِ ثُمّ نَظَرَ إلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ
النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْ صِفَتِهِ الّتِي
عِنْدَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ مِثْلَ أَثَرِ الْمِحْجَمِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى عَمّهِ أَبِي
طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْك ؟ قَالَ ابْنِي . قَالَ
لَهُ بَحِيرَى : مَا هُوَ بِابْنِك ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ
أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيّا ؛ قَالَ فَإِنّهُ ابْنُ أَخِي ؛ قَالَ فَمَا
فَعَلَ أَبُوهُ ؟ قَالَ مَاتَ وَأُمّهُ حُبْلَى بِهِ قَالَ صَدَقْت ،
فَارْجِعْ بِابْنِ أَخِيك إلَى بَلَدِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ
فَوَاَللّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنّهُ
شَرّا ، فَإِنّهُ كَائِنٌ لَابْنِ أَخِيك هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فَأَسْرِعْ
بِهِ إلَى بِلَادِهِ . [ ص 183 ]
[ رُجُوعُ أَبِي طَالِب ٍ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا كَانَ مِنْ زُرَيْر وَصَاحِبِيهِ ]
فَخَرَجَ
بِهِ عَمّهُ أَبُو طَالِب ٍ سَرِيعًا حَتّى أَقْدَمَهُ مَكّةَ حَيْنَ
فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشّامِ ؛ فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النّاسُ
أَنّ زُرَيْرًا وَتَمّامًا وَدَرِيسًا ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ قَدْ كَانُوا رَأَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السّفَرِ الّذِي كَانَ
فِيهِ مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادُوهُ فَرَدّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى
، وَذَكّرَهُمْ اللّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ
وَصِفَتِهِ وَأَنّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ
يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ
وَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ فَشَبّ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ
وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيّةِ لِمَا يُرِيدُ
بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ حَتّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا ،
وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا ، وَأَكْرَمَهُمْ
حَسَبًا ، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا ، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا ،
وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ
الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الّتِي تُدَنّسُ الرّجَالَ تَنَزّهًا
وَتَكَرّمًا ، حَتّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلّا الْأَمِينُ لِمَا
جَمَعَ اللّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصّالِحَةِ .
[ حَدِيثُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ عِصْمَةِ اللّهِ لَهُ فِي طُفُولَتِهِ ]
وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي -
يُحَدّثُ عَمّا كَانَ اللّهُ يَحْفَظُهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَأَمْرِ
جَاهِلِيّتِهِ أَنّهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتنِي فِي غِلْمَانِ قُرَيْشٍ
نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الْغِلْمَانُ كُلّنَا قَدْ
تَعَرّى ، وَأَخَذَ إزَارَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَحْمِلُ
عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَإِنّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ
إذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهُ لَكْمَةً وَجِيعَةً ثُمّ قَالَ شُدّ
عَلَيْك إزَارَك ؛ قَالَ فَأَخَذْتُهُ وَشَدَدْتُهُ عَلَيّ ثُمّ جَعَلْت
أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيّ مِنْ بَيْنِ
أَصْحَابِي [ ص 184 ]
حَرْبُ الْفِجَار
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو
عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ هَاجَتْ
حَرْبُ الْفُجّارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ ،
وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ ، وَكَانَ الّذِي هَاجَهَا أَنّ عُرْوَةَ
الرّحّالَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ،
أَجَارَ لَطِيمَةً لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذَرِ فَقَالَ لَهُ الْبَرّاضُ
بْنُ قَيْسٍ ، أَحَدُ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ [ ص
185 ] كِنَانَةَ : أَتُجِيرُهَا عَلَى كِنَانَةَ ؟ قَالَ نَعَمْ وَعَلَى
الْخَلْقِ ( كُلّهِ ) . فَخَرَجَ فِيهَا عُرْوَةُ الرّحّالُ وَخَرَجَ
الْبَرّاضُ يَطْلُبُ غَفْلَتَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِتَيْمَنَ ذِي ظِلَال ٍ
بِالْعَالِيَةِ غَفَلَ عُرْوَةُ فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَرّاضُ فَقَتَلَهُ
فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ فَلِذَلِكَ سُمّيَ الْفُجّارَ . وَقَالَ
الْبَرّاضُ فِي ذَلِكَ
وَدَاهِيَةٍ تُهِمّ النّاسَ قَبْلِي ... شَدَدْتُ لَهَا بَنِي بَكْرٍ ضُلُوعِي
هَدَمْت بِهَا بُيُوتَ بَنِي كِلَابٍ ... وَأَرْضَعْتُ الْمَوَالِيَ بِالضّرُوعِ
رَفَعْتُ لَهُ بِذِي ظِلَالٍ كَفّي ... فَخَرّ يَمِيدُ كَالْجِذْعِ الصّرِيعِ
[ ص 186 ] لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ :
أَبْلِغْ ، إنْ عَرَضْت ، بَنِي كِلَابٍ ... وَعَامِرَ وَالْخُطُوبُ لَهَا مَوَالِي
وَبَلّغْ إنْ عَرَضْت ، بَنِي نُمَيْرٍ ... وَأَخْوَالَ الْقَتِيلِ بَنِي هِلَالِ
بِأَنّ الْوَافِدَ الرّحّالَ أَمْسَى ... مُقِيمًا عِنْدَ تَيْمَنَ ذِي ظَلَالٍ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ .
[ نَشُوبُ الْحَرْبِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَهَوَازِنَ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : فَأَتَى آتٍ قُرَيْشًا ، فَقَالَ إنّ الْبَرّاضَ قَدْ
قَتَلَ عُرْوَةَ وَهُمْ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ بِعُكَاظَ ،
فَارْتَحَلُوا وَهَوَازِنُ لَا تَشْعُرُ ( بِهِمْ ) ، ثُمّ بَلَغَهُمْ
الْخَبَرُ فَأَتْبَعُوهُمْ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْل أَنْ يَدْخُلُوا
الْحَرَمَ ، فَاقْتَتَلُوا حَتّى جَاءَ اللّيْلُ وَدَخَلُوا الْحَرَمَ ،
فَأَمْسَكَتْ عَنْهُمْ هَوَازِنُ ، ثُمّ الْتَقَوْا بَعْدَ هَذَا
الْيَوْمِ أَيّامًا ، وَالْقَوْمُ مُتَسَانَدُونَ عَلَى كُلّ قَبِيلٍ مِنْ
قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ وَعَلَى كُلّ قَبِيلٍ مِنْ قَيْسٍ
رَئِيسٌ مِنْهُمْ . وَشَهِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَعْضَ أَيّامِهِمْ أَخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ . وَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْت أَنْبُلُ عَلَى
أَعْمَامِي : أَيْ أَرُدّ عَلَيْهِمْ نَبْلَ عَدُوّهِمْ إذَا رَمَوْهُمْ
بِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هَاجَتْ حَرْبُ الْفُجّارِ وَرَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً .
وَإِنّمَا سُمّيَ يَوْمَ الْفُجّارِ بِمَا اسْتَحَلّ هَذَانِ الْحَيّانِ
كِنَانَةُ وَقَيْسُ عَيْلَانَ ، فِيهِ مِنْ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ .
[ قُوّادُ قُرَيْشٍ وَهَوَازِنَ فِيهَا وَنَتِيجَتُهَا ]
وَكَانَ
قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبُ ( بْنُ ) أُمّيّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ ، وَكَانَ الظّفَرُ [ ص 187 ] كَانَ فِي وَسَطِ النّهَارِ كَانَ
الظّفَرُ لِكِنَانَةِ عَلَى قِيسٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدِيثُ
الْفُجّارِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْت ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ
اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ .
حَدِيثُ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
[ سِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ تَزْوِيجِهِ مِنْ خَدِيجَةَ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً تَزَوّجَ خَدِيجَةَ بِنْتَ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ
بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ، فِيمَا حَدّثَنِي
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيّ .
[ خُرُوجُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الشّامِ فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ وَمَا كَانَ مِنْ بَحِيرَى ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً
تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ . [ ص 188 ] مَالِهَا وَتُضَارِبُهُمْ
إيّاهُ بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجّارًا ؛
فَلَمّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَا بَلَغَهَا ، مِنْ صَدْقِ حَدِيثِهِ وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ وَكَرَمِ
أَخْلَاقِهِ بَعَثَتْ إلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي
مَالٍ لَهَا إلَى الشّامِ تَاجِرًا ، وَتُعْطِيهِ أَفَضْلَ مَا كَانَتْ
تُعْطِي غَيْرَهُ مِنْ التّجّارِ مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ
مَيْسَرَةَ فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْهَا ، وَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَلِكَ وَخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا
مَيْسَرَةُ حَتّى قَدِمَ الشّامَ . فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ
مِنْ الرّهْبَانِ فَاطّلَعَ الرّاهِبُ إلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ لَهُ مَنْ
هَذَا الرّجُلُ الّذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشّجَرَةِ ؟ قَالَ لَهُ
مَيْسَرَةُ هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ؛ فَقَالَ
لَهُ الرّاهِبُ مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشّجَرَةِ قَطّ إلّا نَبِيّ .
[ رَغْبَةُ خَدِيجَةَ فِي الزّوَاجِ مِنْهُ ]
ثُمّ
بَاعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِلْعَتَهُ الّتِي
خَرَجَ بِهَا ، وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ ثُمّ أَقْبَلَ
قَافِلًا إلَى مَكّةَ وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ . فَكَانَ مَيْسَرَةُ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - إذَا كَانَتْ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدّ الْحُرّ ، يَرَى
مَلَكَيْنِ يُظِلّانِهِ مِنْ الشّمْسِ - وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ .
فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ عَلَى خَدِيجَةَ بِمَالِهَا ، بَاعَتْ مَا جَاءَ
بِهِ فَأَضْعَفَ أَوْ قَرِيبًا . [ ص 189 ] وَعَمّا كَانَ يَرَى مِنْ
إظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ إيّاهُ . وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً
شَرِيفَةً لَبِيبَةً مَعَ مَا أَرَادَ اللّهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهِ
فَلَمّا أَخْبَرَهَا مَيْسَرَةُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ بَعَثَتْ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ لَهُ - فِيمَا
يَزْعُمُونَ - يَا ابْنَ عَمّ . إنّي قَدْ رَغِبْتُ فِيك لِقَرَابَتِك ،
وَسِطَتِكَ فِي قَوْمِك وَأَمَانَتِك وَحُسْنِ خُلُقِك ، وَصِدْقِ
حَدِيثِك ، ثُمّ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا . وَكَانَتْ خَدِيجَةُ
يَوْمئِذٍ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا ، وَأَعْظَمَهُنّ شَرَفًا ،
وَأَكْثَرَهُنّ مَالًا ؛ كُلّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ
مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
[ نَسَبُ خَدِيجَةَ ]
وَهِيَ
خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ
قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ
بْنِ فِهْرٍ . وَأُمّهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمّ
بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حَجَرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فَهِرّ . وَأُمّ فَاطِمَةَ هَالَةُ بِنْتُ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُنْفِذِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأُمّ
هَالَةَ قِلَابَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ .
[ زَوَاجُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَدِيجَةَ ]
فَلَمّا
قَالَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَرَ
ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ فَخَرَجَ مَعَهُ [ ص 190 ] حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، رَحِمَهُ اللّهُ حَتّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ
، فَخَطَبَهَا إلَيْهِ فَتَزَوّجَهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِشْرِينَ
بَكْرَةً وَكَانَتْ أَوّلَ امْرَأَةٍ تَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَتَزَوّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا حَتّى
مَاتَتْ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا .
[ أَوْلَادُهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَدِيجَةَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَلَدَهُ كُلّهُمْ إلّا إبْرَاهِيمَ الْقَاسِمَ وَبَهْ كَانَ
يُكَنّى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالطّاهِرَ وَالطّيّبَ
وَزَيْنَبَ ، وَرُقَيّةَ ، وَأُمّ كُلْثُومٍ ، وَفَاطِمَةَ ، عَلَيْهِمْ
السّلَامُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَكْبَرُ بَنِيهِ الْقَاسِمُ ثُمّ
الطّيّبُ ثُمّ الطّاهِرُ وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ رُقَيّةُ ثُمّ زَيْنَبُ
ثُمّ أُمّ كُلْثُومٍ ، ثُمّ فَاطِمَةُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا
الْقَاسِمُ وَالطّيّبُ وَالطّاهِرُ فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيّةِ [ ص 191
] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ أُمّ إبْرَاهِيمَ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا إبْرَاهِيمُ فَأُمّهُ مَارِيَةُ ( الْقِبْطِيّةُ
) . حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ أُمّ
إبْرَاهِيمَ مَارِيَةُ سُرّيّةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ مِنْ حَفْنَ مِنْ كُورَةِ
أَنْصِنَا .
[ حَدِيثُ خَدِيجَةَ مَعَ وَرَقَةَ وَصِدْقُ نُبُوءَةِ وَرَقَةَ فِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ قَدْ ذَكَرَتْ
لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَكَانَ
ابْنَ عَمّهَا ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا قَدْ تَتَبّعَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ
مِنْ عِلْمِ النّاسِ - مَا ذَكَرَ لَهَا غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ مِنْ
قَوْلِ الرّاهِبِ وَمَا كَانَ يَرَى مِنْهُ إذْ كَانَ الْمَلَكَانِ
يُظِلّانِهِ فَقَالَ وَرَقَةُ لَئِنْ كَانَ هَذَا حَقّا يَا خَدِيجَةُ ،
إنّ مُحَمّدًا لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَقَدْ عَرَفْتُ أَنّهُ كَائِنٌ
لِهَذِهِ الْأُمّةِ نَبِيّ يُنْتَظَرُ هَذَا زَمَانُهُ أَوْ كَمَا قَالَ .
( قَالَ ) : فَجَعَلَ وَرَقَةُ يَسْتَبْطِئُ الْأَمْرَ وَيَقُولُ حَتّى
مَتَى ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ فِي ذَلِكَ [ ص 192 ]
لَجِجْتُ وَكُنْتُ فِي الذّكْرَى لَجُوجًا ... لِهَمّ طَالَمَا بَعَثَ النّشِيجَا
وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ ... فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجًا
بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثَك أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجًا
بِمَا خَبّرْتِنَا مِنْ قَوْلِ قَسّ ... مِنْ الرّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنّ مُحَمّدًا سَيَسُودُ فِينَا ... وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجًا
وَيَظْهَرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءُ نُورٍ ... يُقِيمُ بِهِ الْبَرّيّةَ أَنْ تَمُوجَا
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا ... وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فَلُوجَا
فَيَا لَيْتِي إذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ ... شَهِدْت فَكُنْتُ أَوّلَهُمْ وُلُوجًا وُلُوجًا
فِي الّذِي كَرِهَتْ قُرَيْشٌ ... وَلَوْ عَجّتْ بِمَكّتِهَا عَجِيجًا
أُرَجّي بِاَلّذِي كَرِهُوا جَمِيعًا ... إلَى ذِي الْعَرْشِ إنْ سَفَلُوا عُرُوجًا
وَهَلْ أَمْرُ السّفَالَةِ غَيْرُ كُفْرٍ ... بِمَنْ يَخْتَارُ مَنْ سَمَكَ الْبُرُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ تَكُنْ أُمُورٌ ... يَضِجّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجًا
وَإِنْ أَهْلِكْ فَكُلّ فَتًى سَيَلْقَى ... مِنْ الْأَقْدَارِ مَتْلَفَةً حَرُوجًا
حديث بنيان الكعبة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين قريش في وضع الحجر
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِبُنْيَانِ
الْكَعْبَةِ ، وَكَانُوا يُهِمّونَ بِذَلِكَ لِيُسَقّفُوهَا وَيَهَابُونَ
هَدْمَهَا [ ص 193 ] كَانَتْ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ فَأَرَادُوا
رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزًا
لِلْكَعْبَةِ وَإِنّمَا كَانَ يَكُونُ فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ
، وَكَانَ الّذِي وُجِدَ عِنْدَهُ الْكَنْزُ دُوَيْكًا مَوْلًى لِبَنِي
مُلَيْحِ بْنِ عَمْرِو مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَقَطَعَتْ
قُرَيْشٌ يَدَهُ . وَتُزْعِمُ قُرَيْشٌ أَنّ الّذِينَ سَرَقُوهُ وَضَعُوهُ
عِنْدَ دُوَيْكٍ . وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إلَى جُدّةَ
لِرَجُلٍ مِنْ تُجّارِ الرّومِ ، فَتَحَطّمَتْ فَأَخَذُوا خَشَبَهَا ،
فَأَعَدّوهُ لِتَسْقِيفِهَا ، وَكَانَ بِمَكّةَ رَجُلٌ قِبْطِيّ نَجّارٌ
فَتَهَيّأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضُ مَا يُصْلِحُهَا . وَكَانَتْ
حَيّةً تَخْرَجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ الّتِي كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا
مَا يُهْدَى لَهَا كُلّ يَوْمٍ فَتَتَشَرّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ ،
وَكَانَتْ مِمّا يَهَابُونَ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا
أَحَدٌ إلّا احْزَأَلّتْ وَكَشّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا ، وَكَانُوا
يَهَابُونَهَا . فَبَيْنَا هِيَ ذَاتُ يَوْمٍ تَتَشَرّقُ عَلَى جِدَارِ
الْكَعْبَةِ ، كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ بَعَثَ اللّهُ إلَيْهَا طَائِرًا
فَاخْتَطَفَهَا ، فَذَهَبَ بِهَا ؛ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : إنّا لَنَرْجُو
أَنْ يَكُونَ اللّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا ، عِنْدَنَا عَامِلٌ
رَفِيقٌ وَعِنْدَنَا خَشَبٌ وَقَدْ كَفَانَا اللّهُ الْحَيّةَ . [ ص 194 ]
[ مَا حَدَثَ لِأَبِي وَهْبٍ عِنْدَ بِنَاءِ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ ]
فَلَمّا
أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فِي هَدْمِهَا وَبِنَائِهَا ، قَامَ أَبُو وَهْبِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ -
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ -
فَتَنَاوَلَ مِنْ الْكَعْبَةَ حَجَرًا ، فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتّى
رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، لَا تُدْخِلُوا
فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلّا طَيّبًا ، لَا يَدْخُلُ فِيهَا
مَهْرُ بِغَيّ وَلَا بَيْعُ رِبًا ، وَلَا مُظْلَمَةُ أَحَدٍ مِنْ النّاسِ
. وَالنّاسُ يَنْحُلُونَ هَذَا الْكَلَامَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَقَدْ حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكّيّ أَنّهُ
حُدّثَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمّيّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ
وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : أَنّهُ رَأَى ابْنًا لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ
بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَمْرِو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلَ عَنْهُ
فَقِيلَ هَذَا ابْنٌ لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ صَفْوَانَ : عِنْدَ ذَلِكَ جَدّ هَذَا ، يَعْنِي أَبَا وَهْبٍ الّذِي
أَخَذَ حَجَرًا مِنْ الْكَعْبَةِ حَيْنَ أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ لِهَدْمِهَا
فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتّى رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ
إلّا طَيّبًا ، لَا تُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بِغَيّ وَلَا بَيْعَ رِبًا ،
وَلَا مُظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنْ النّاسِ .
[ قَرَابَةُ أَبِي وَهْبٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَبُو وَهْبٍ خَالُ أَبِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ شَرِيفًا ، وَلَهُ يَقُولُ شَاعِرٌ مِنْ
الْعَرَبِ :
وَلَوْ بِأَبِي وَهْبٍ أَنَخْتُ مَطِيّتِي ... غَدَتْ مِنْ نَدَاهُ رَحْلُهَا غَيْرَ خَائِبٍ
بِأَبْيَضَ مِنْ فَرْعَيْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا حُصّلَتْ أَنْسَابُهَا فِي الذّوَائِبِ
أَبِيّ لِأَخْذِ الضّيْمِ يَرْتَاحُ لِلنّدَى ... تَوَسّطَ جَدّاهُ فُرُوعَ الْأَطَايِبِ
عَظِيمِ رَمَادِ الْقِدْرِ يَمَلّا جِفَانَهُ ... مِنْ الْخُبْزِ يَعْلُوهُنّ مِثْلُ السّبَائِبِ
[ ص 195 ]
[ تَجْزِئَةُ الْكَعْبَة ِ بَيْنَ قُرَيْشٍ ، وَنَصِيبُ كُلّ فَرِيقٍ مِنْهَا ]
ثُمّ
إنّ قُرَيْشًا جَزّأَتْ الْكَعْبَةَ ، فَكَانَ شِقّ الْبَابِ لِبَنِي
عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ ، وَكَانَ مَا بَيْنَ الرّكْنِ الْأَسْوَدِ
وَالرّكْنِ الْيَمَانِي لِبَنِي مَخْزُومٍ وَقَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ
انْضَمّوا إلَيْهِمْ وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ وَسَهْمٍ
ابْنَيْ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَكَانَ شِقّ
الْحَجَرِ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ ، وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ
الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَلِبَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ،
وَهُوَ الْحَطِيمُ .
[ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَهَدْمُ الْكَعْبَةِ وَمَا وَجَدُوهُ تَحْتَ الْهَدْمِ ]
ثُمّ
إنّ النّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرِقُوا مِنْهُ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ : أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ
ثُمّ قَامَ عَلَيْهَا ، وَهُوَ يَقُولُ اللّهُمّ لَمْ تُرَعْ - قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَمْ نَزِغْ - اللّهُمّ إنّا لَا نُرِيدُ إلّا
الْخَيْرَ . ثُمّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرّكْنَيْنِ فَتَرَبّصَ النّاسُ
تِلْكَ اللّيْلَةَ وَقَالُوا : نَنْظُرُ فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ
مِنْهَا شَيْئًا وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ
شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللّهُ صُنْعَنَا ، فَهَدَمْنَا . فَأَصْبَحَ
الْوَلِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ فَهَدَمَ وَهَدَمَ
النّاسُ مَعَهُ حَتّى إذَا انْتَهَى الْهَدْمُ بِهِمْ إلَى الْأَسَاسِ
أَسَاسِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ ، أَفْضَوْا إلَى حِجَارَةٍ
خُضْرٍ كَالْأَسْنِمَةِ آخِذٌ بَعْضُهَا بَعْضًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
فَحَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ ،
[ ص 196 ] كَانَ يَهْدِمُهَا ، أَدْخَلَ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ
مِنْهَا لِيُقْلِعَ بِهَا أَحَدَهُمَا ، فَلَمّا تَحَرّكَ الْحَجَرُ
تَنَقّضَتْ مَكّةُ بِأَسْرِهَا ، فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الْأَسَاسِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرّكْنِ
كِتَابًا بِالسّرْيَانِيّةِ فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ حَتّى قَرَأَهُ
لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَإِذَا هُوَ أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ
خَلَقْتهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَصَوّرْتُ الشّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَحَفَفْتهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ لَا تَزُولُ
حَتّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا ، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ
وَاللّبَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَخْشَبَاهَا : جَبَلَاهَا . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمَقَامِ كِتَابًا
فِيهِ مَكّةُ بَيْتُ اللّهِ الْحَرَامِ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ
ثَلَاثَةِ سُبُلٍ لَا يُحِلّهَا أَوّلُ مِنْ أَهْلِهَا . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَزَعَمَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ أَنّهُمْ وَجَدُوا
حَجَرًا فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ مَبْعَثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً إنْ كَانَ مَا ذَكَرَ حَقّا ، مَكْتُوبًا
فِيهِ مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا يَحْصُدْ غِبْطَةً وَمَنْ يَزْرَعْ شَرّا
يَحْصُدْ نَدَامَةً . تَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ وَتُجْزَوْنَ الْحَسَنَاتِ
أَجَلْ كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الشّوْكِ الْعِنَبُ .
[ اخْتِلَافُ قُرَيْشٍ فِيمَنْ يَضَعُ الْحَجَرَ وَلُعْقَةَ الدّمِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتْ
الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا ، كُلّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ ثُمّ
بَنَوْهَا ، حَتّى بَلَغَ الْبُنْيَانِ مَوْضِعَ الرّكْنِ فَاخْتَصَمُوا
فِيهِ كُلّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى مَوْضِعِهِ دُونَ
الْأُخْرَى ، حَتّى تَحَاوَزُوا وَتَحَالَفُوا ، وَأَعَدّوا لِلْقِتَالِ
فَقَرّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا ، ثُمّ
تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ عَلَى الْمَوْتِ
[ ص 197 ] فَسُمّوا لَعَقّةَ الدّمِ . فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ
أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا ، ثُمّ إنّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي
الْمَسْجِدِ وَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا .
[ إشَارَةُ أَبِي أُمّيّةَ بِتَحْكِيمِ أَوّلِ دَاخِل ٍ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
فَزَعَمَ
بَعْضُ أَهْلِ الرّوَايَةِ أَ نّ أَبَا أُمّيّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَكَانَ عَائِذٌ أَسَنّ
قُرَيْشٍ كُلّهَا ؛ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ
فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا
الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ فَفَعَلُوا . فَكَانَ أَوّلَ
دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَلَمّا رَأَوْهُ قَالُوا : هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا ، هَذَا مُحَمّدٌ ؛
فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهِمْ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ قَالَ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلُمّ إلَيّ ثَوْبًا ، فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ
الرّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ . ثُمّ قَالَ لِتَأْخُذَ كُلّ
قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنْ الثّوْبِ ثُمّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا ،
فَفَعَلُوا : حَتّى إذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ
ثُمّ بَنَى عَلَيْهِ .
[ شِعْرُ الزّبِيرِ فِي الْحَيّةِ الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا ]
[
ص 198 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمّي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ الْأَمِينَ . فَلَمّا
فَرَغُوا مِنْ الْبُنْيَانِ وَبَنَوْهَا عَلَى مَا أَرَادُوا ، قَالَ
الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَيّةِ
الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا :
عَجِبْتُ لِمَا تَصَوّبَتْ الْعُقَابُ ... إلَى الثّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا اضْطِرَابُ
وَقَدْ كَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ ... وَأَحْيَانًا يَكُونُ لَهَا وِثَابُ
إذَا قُمْنَا إلَى التّأْسِيسِ شَدّتْ ... تُهَيّبُنَا الْبِنَاءَ وَقَدْ تُهَابُ
فَلَمّا أَنّ خَشِينَا الرّجْزَ جَاءَتْ ... عُقَابٌ تَتْلَئِبّ لَهَا انْصِبَابُ
فَضَمّتْهَا إلَيْهَا ثُمّ خَلّتْ ... لَنَا الْبُنْيَانَ لَيْسَ لَهُ حِجَابُ
فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إلَى بِنَاءٍ ... لَنَا مِنْهُ الْقَوَاعِدُ وَالتّرَابُ
غَدَاةَ نَرْفَعُ التّأْسِيسَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ عَلَى مُسَوّينَا ثِيَابُ
أَعَزّ بِهِ الْمَلِيكُ بَنِي لُؤَيّ ... فَلَيْسَ لِأَصْلِهِ مِنْهُمْ ذَهَابُ
وَقَدْ حَشَدَتْ هُنَاكَ بَنُو عَدِيّ ... وَمُرّةُ قَدْ تَقَدّمَهَا كِلَابُ
فَبَوّأَنَا الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزّا ... وَعِنْدَ اللّهِ يُلْتَمَسُ الثّوَابُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : مُسَاوِينَا ثِيَاب
[ ارْتِفَاعُ الْكَعْبَةِ وَأَوّلُ مَنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ ]
وَكَانَتْ
الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ثَمَانِي عَشْرَةَ ذِرَاعًا ، [ ص 199 ] وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيّ
ثُمّ كُسِيت الْبُرُودَ وَأَوّلُ مَنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ الْحَجّاجُ
بْنُ يُوسُفَ .
حَدِيثُ الْحُمْسِ
[ الْحُمْسُ عِنْدَ قُرَيْشٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ - لَا أَدْرِي أَقَبْلَ
الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ - ابْتَدَعَتْ رَأْيَ الْحُمْسِ رَأْيًا رَأَوْهُ
وَأَدَارُوهُ فَقَالُوا : نَحْنُ بَنُو إبْرَاهِيمَ وَأَهْلُ الْحُرْمَةِ
وَوُلَاةُ الْبَيْتِ وَقُطّانُ مَكّةَ وَسَاكِنُهَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ
مِنْ الْعَرَبِ مِثْلُ حَقّنَا ، وَلَا مِثْلُ مَنْزِلَتِنَا ، وَلَا
تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَنَا ، فَلَا تُعَظّمُوا
شَيْئًا مِنْ الْحِلّ كَمَا تُعَظّمُونَ الْحَرَمَ ، فَإِنّكُمْ إنْ
فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفّتْ الْعَرَبُ بِحُرْمَتِكُمْ وَقَالُوا قَدْ
عَظّمُوا مِنْ الْحِلّ مِثْلَ مَا عَظّمُوا مِنْ الْحَرَمِ . فَتَرَكُوا
الْوُقُوفَ عَلَى عَرَفَةَ ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ
وَيُقِرّونَ أَنّهَا مِنْ الْمَشَاعِرِ وَالْحَجّ وَدِينِ إبْرَاهِيمَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ الْعَرَبِ أَنْ
يَقِفُوا عَلَيْهَا ، وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا ، إلّا أَنّهُمْ قَالُوا :
نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ
الْحُرْمَةِ وَلَا نُعَظّمُ غَيْرَهَا كَمَا نُعَظّمُهَا نَحْنُ الْحُمْسُ
وَالْحُمْسُ أَهْلُ الْحَرَمِ ، ثُمّ جَعَلُوا لِمِنْ وُلِدُوا مِنْ
الْعَرَبِ مِنْ سَاكِنِ الْحِلّ وَالْحَرَمِ مِثْلَ الّذِي لَهُمْ
بِوِلَادَتِهِمْ إيّاهُمْ يَحِلّ لَهُمْ مَا يَحِلّ لَهُمْ وَيَحْرُمُ
عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ .
[ الْقَبَائِلُ الّتِي دَانَتْ مَعَ قُرَيْشٍ بِالْحُمْسِ ]
وَكَانَتْ
كِنَانَةُ [ ص 200 ] وَخُزَاعَةُ قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ : أَنّ
بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ
هَوَازِن َ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَنْشَدَنِي لِعَمْرِو بْنِ
مَعْدِي كَرِبَ
أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا ... بِتَثْلِيثَ مَا نَاصَيْتَ بَعْدِي الْأَحَامِسَا
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : تَثْلِيثُ : مَوْضِع مِنْ بِلَادِهِمْ . وَالشّيَارُ (
السّمَانُ ) الْحِسَانُ . يَعْنِي بِالْأَحَامِسِ بَنِي عَامِرِ بْنِ
صَعْصَعَةَ . وَبِعَبّاسٍ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ وَكَانَ
أَغَارَ عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ بِتَثْلِيثَ . وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ
قَصِيدَةٍ لِعَمْرٍو . وَأَنْشَدَنِي لِلَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ
الدّارِمِيّ فِي يَوْمِ جَبَلَةَ :
أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبْسٍ ... الْمَعْشَرُ الْجِلّةُ فِي الْقَوْمِ الْحُمْسُ
لِأَنّ بَنِي عَبْسٍ كَانُوا يَوْمَ جَبَلَةَ حُلَفَاءَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ .
[ يَوْمَ جَبَلَةَ ]
وَيَوْمُ
جَبَلَةَ : يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ بَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَبَيْنَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ
فَكَانَ الظّفَرُ فِيهِ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى بَنِي
حَنْظَلَةَ ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ بْنُ عُدَسَ
وَأُسِرَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ [ ص 201 ] عُدَسَ بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ .
فَفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ
كَأَنّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعَوْا يَا لَدَارِمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
[ يَوْمُ ذِي نَجَبٍ ]
ثُمّ
الْتَقَوْا يَوْمَ ذِي نَجَبٍ فَكَانَ الظّفَرُ لِحَنْظَلَةَ عَلَى بَنِي
عَامِرٍ وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ حَسّانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيّ ،
وَهُوَ ابْنُ كَبْشَةَ . وَأُسِرَ يَزِيدُ بْنُ الصّعَقِ الْكِلَابِيّ
وَانْهَزَمَ الطّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ ، أَبُو
عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ . فَفِيهِ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ :
وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ... عَلَى قُرْزَلٍ رَجْلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا هَامَةَ ابْنِ خُوَيْلِدٍ ... نُزِيدُ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمَ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . فَقَالَ جَرِيرٌ
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لِابْنِ كَبْشَةَ تَاجَهُ ... وَلَاقَى امْرَأً فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مِصْقَعًا
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَحَدِيثُ يَوْمِ جَبَلَةَ وَيَوْمِ ذِي
نَجَبٍ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْنَا . وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ
اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْتُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ الْفِجَارِ .
[ مَا زَادَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْحُمْسِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 202 ] قَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ
يَأْتَقِطُوا الْأَقِطَ وَلَا يَسْلَئُوا السّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ وَلَا
يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ وَلَا يَسْتَظِلّوا إنْ اسْتَظَلّوا إلّا
فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ مَا كَانُوا حُرُمًا ، ثُمّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ
فَقَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ
جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلّ إلَى الْحَرَمِ ، إذَا جَاءُوا
حُجّاجًا أَوْ عُمّارًا ، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا
أَوّلَ طَوَافِهِمْ إلّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ فَإِنّ لَمْ يَجِدُوا
مِنْهَا شَيْئًا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَإِنْ تَكَرّمَ مِنْهُمْ
مُتَكَرّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمْسِ
فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا إذَا
فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ ثُمّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ، وَلَمْ يَمَسّهَا
هُوَ وَلَا الأماكن" > أَحَدٌ غَيْرُهُ أَبَدًا .
[ اللّقَى عِنْدَ الْحُمْسِ وَشعر فِيهِ ]
فَكَانَتْ
الْعَرَبُ تُسَمّي تِلْكَ الثّيَابَ اللّقَى . فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ
الْعَرَبَ ، فَدَانَتْ بِهِ . وَوَقَفُوا عَلَى عرفَاتٍ ، وَأَفَاضُوا
مِنْهَا ، وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً أَمّا الرّجَالُ فَيَطُوفُونَ
عُرَاةً وَأَمّا النّسَاءُ فَتَضَعُ إحْدَاهُنّ ثِيَابَهَا كُلّهَا إلّا
دِرْعًا مُفَرّجًا عَلَيْهَا ، ثُمّ تَطُوفُ فِيهِ . فَقَالَتْ امْرَأَةٌ
مِنْ الْعَرَبِ ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ :
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلّهُ
[
ص 203 ] طَافَ مِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحِلّ
أَلْقَاهَا ، فَلَمْ يَنْتَفِعُ بِهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ . فَقَالَ
قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَذْكُرُ شَيْئًا تَرَكَهُ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَا
يَقْرَبُهُ وَهُوَ يُحِبّهُ
كَفَى حَزَنًا كَرّى عَلَيْهَا كَأَنّهَا ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ
يَقُول : لَا تُمَسّ .
[ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الطّوَافِ وَإِبْطَالُ عَادَاتِ الْحُمْسِ فِيهِ ]
فَكَانُوا
كَذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ حَيْنَ أَحْكَمَ لَهُ دِينَهُ وَشَرَعَ لَهُ
سُنَنَ حَجّهِ { ثُمّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ
وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } يَعْنِي قُرَيْشًا
. وَالنّاسُ الْعَرَبُ . فَرَفَعَهُمْ فِي سُنّةِ الْحَجّ إلَى عَرَفَاتٍ
وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا . وَأَنْزَلَ اللّهُ
عَلَيْهِ فِيمَا كَانُوا حَرّمُوا عَلَى النّاسِ مِنْ طَعَامِهِمْ
وَلَبُوسِهِمْ عِنْدَ الْبَيْتِ ، حَيْنَ طَافُوا عُرَاةً وَحَرّمُوا مَا
جَاءُوا بِهِ مِنْ الْحِلّ مِنْ الطّعَامِ { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا
إِنّهُ لَا يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِيَ لِلّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ
نُفَصّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } فَوَضَعَ اللّهُ تَعَالَى
أَمْرَ الْحُمْسِ وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ عَلَى
النّاسِ بِالْإِسْلَامِ حَيْنَ بَعَثَ اللّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، [ ص 204 ] أَبِي
سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ عَمّهِ نَافِعِ بْنِ
جُبَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ
عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَإِنّهُ لَوَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتٍ
مَعَ النّاسِ مِنْ بَيْنَ قَوْمِهِ حَتّى يَدْفَعُ مَعَهُمْ مِنْهَا
تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
إخْبَارُ الْكُهّانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانِ مِنْ النّصَارَى
[ مُعْرِفَةُ الْكُهّانِ وَالْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ بِمَبْعَثِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانُ مِنْ
النّصَارَى ، وَالْكُهّانُ مِنْ الْعَرَبِ ، قَدْ تَحَدّثُوا بِأَمْرِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَمّا
تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ . أَمّا الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ
وَالرّهْبَانُ مِنْ النّصَارَى ، فَعَمّا وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ
صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ
إلَيْهِمْ فِيهِ . وَأَمّا الْكُهّانُ مِنْ الْعَرَبِ فَأَتَتْهُمْ بِهِ
الشّيَاطِينُ مِنْ الْجِنّ فِيمَا تَسْتَرِقُ مِنْ السّمْعِ إذْ كَانَتْ
وَهِيَ لَا تُحْجَبُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ بِالنّجُومِ . وَكَانَ
الْكَاهِنُ وَالْكَاهِنَةُ لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْهُمَا ذِكْرُ بَعْضِ
أُمُورِهِ لَا تُلْقِي الْعَرَبُ لِذَلِكَ فِيهِ بَالًا ، حَتّى بَعَثَهُ
اللّهُ تَعَالَى ، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ الّتِي كَانُوا
يَذْكُرُونَ فَعَرَفُوهَا .
[ قَذْفُ الْجِنّ بِالشّهُبِ وَآيَةُ ذَلِكَ عَلَى مَبْعَثِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
فَلَمّا
تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَضَرَ
مَبْعَثُهُ حُجِبَتْ الشّيَاطِينُ عَنْ السّمْعِ وَحِيلَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاسْتِرَاقِ السّمْعِ
فِيهَا ، فَرُمُوا بِالنّجُومِ فَعَرَفَتْ الْجِنّ أَنّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ
حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فِي الْعِبَادِ [ ص 205 ] تَبَارَكَ وَتَعَالَى
لِنَبِيّهِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْنَ بَعَثَهُ
وَهُوَ يَقُصّ عَلَيْهِ خَبَرَ الْجِنّ إذْ حُجِبُوا عَنْ السّمْعِ
فَعَرَفُوا مَا عَرَفُوا ، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حَيْنَ رَأَوْا
مَا رَأَوْا : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ
الْجِنّ فَقَالُوا إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى
الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا وَأَنّهُ
تَعَالَى جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنّهُ
كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللّهِ شَطَطًا وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ
تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ
مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا }
إلَى قَوْلِهِ { وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنّا لَا
نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبّهُمْ رَشَدًا } . فَلَمّا سَمِعَتْ الْجِنّ الْقُرْآنَ عَرَفَتْ
أَنّهَا إنّمَا مُنِعَتْ مِنْ السّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ لِئَلّا يُشْكِلَ
الْوَحْيُ بِشَيْءٍ مِنْ خَبَرِ السّمَاءِ فَيَلْتَبِسُ عَلَى أَهْلِ
الْأَرْضِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ اللّهِ فِيهِ لِوُقُوعِ الْحُجّةِ وَقَطْعِ
الشّبْهَةِ . فَآمَنُوا وَصَدّقُوا ، ثُمّ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ
مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى
الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } الْآيَةَ . وَكَانَ قَوْلُ الْجِنّ
: { وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ
الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أَنّهُ كَانَ الرّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ
مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ [ ص 206 ] فَنَزَلَ بَطْنَ وَادٍ مِنْ
الْأَرْضِ لِيَبِيتَ فِيهِ قَالَ إنّي أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي
مِنْ الْجِنّ اللّيْلَةَ مِنْ شَرّ مَا فِيهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
الرّهَقُ الطّغْيَانُ وَالسّفَهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : إذْ
تَسْتَبِي الْهَيّامَة الْمُرَهّقَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ
لَهُ . وَالرّهَقُ أَيْضًا : طَلَبُك الشّيْءِ حَتّى تَدْنُوَ مِنْهُ
فَتَأْخُذُهُ أَوْ لَا تَأْخُذُهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ
يَصِفُ حَمِيرِ وَحْشٍ بَصْبَصْنَ وَاقْشَعْرَرْنَ مِنْ خَوْفِ الرّهَقِ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَالرّهَقُ أَيْضًا : مَصْدَرٌ لِقَوْلِ
الرّجُلِ لِلرّجُلِ رَهِقْتُ الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الّذِي
أَرْهَقَتْنِي رَهَقًا شَدِيدًا ، أَيْ حَمَلْتُ الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ
الّذِي حَمَلَتْنِي حَمْلًا شَدِيدًا ، وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : {
فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } وَقَوْلُهُ { وَلَا
تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا }
[ فَزَعُ ثَقِيفٍ مِنْ رَمْيِ الْجِنّ بِالنّجُومِ وَسُؤَالُهُمْ عَمْرِو بْنِ أُمّيّةَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ أَوّلَ الْعَرَبِ فَزِعَ لِلرّمْيِ
بِالنّجُومِ حَيْنَ رُمِيَ بِهَا ، هَذَا الْحَيّ مِنْ ثَقِيفٍ ،
وَأَنّهُمْ جَاءُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ
أُمّيّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ - قَالَ وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ
وَأَنْكَرَهَا رَأْيًا - فَقَالُوا لَهُ يَا عَمْرُو : أَلَمْ تَرَ مَا
حَدَثَ فِي السّمَاءِ مِنْ الْقَذْفِ بِهَذِهِ النّجُومِ ؟ قَالَ بَلَى ،
فَانْظُرُوا ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمَ النّجُومِ الّتِي يُهْتَدَى بِهَا
فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنْ الصّيْفِ
وَالشّتَاءِ لِمَا يُصْلِحُ النّاسَ [ ص 207 ] كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا
، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا ، فَهَذَا لِأَمْرٍ أَرَادَ اللّهُ
بِهِ هَذَا الْخَلْقَ فَمَا هُوَ ؟ .
[ حَدِيثُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ الْأَنْصَارِ فِي رَمْيِ الْجِنّ بِالنّجُومِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ ، عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْعَبّاسِ ، عَنْ نَفَرٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
لَهُمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا النّجْمِ الّذِي يُرْمَى
بِهِ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيّ اللّهِ كُنّا نَقُولُ حَيْنَ رَأَيْنَاهَا
يُرْمَى بِهَا : مَاتَ مَلِكٌ مُلّكَ مُلْكٌ وُلِدَ مَوْلُودٌ مَاتَ
مَوْلُودٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَكُنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ إذَا قَضَى
فِي خَلْقِهِ أَمْرًا سَمِعَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَسَبّحُوا ، فَسَبّحَ
مَنْ تَحْتَهُمْ فَسَبّحَ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ تَحْتَ ذَلِكَ فَلَا
يَزَالُ التّسْبِيحُ يَهْبِطُ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا
، فَيُسَبّحُوا ثُمّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِمّ سَبّحْتُمْ
فَيَقُولُونَ سَبّحَ مَنْ فَوْقَنَا فَسَبّحْنَا لِتَسْبِيحِهِمْ
فَيَقُولُونَ أَلَا تَسْأَلُونَ مَنْ فَوْقَكُمْ مِمّ سَبّحُوا ؟
فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتّى يَنْتَهُوا إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ
فَيُقَالُ لَهُمْ مِمّ سَبّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ قَضَى اللّهُ فِي
خَلْقِهِ كَذَا وَكَذَا ، لِلْأَمْرِ الّذِي كَانَ فَيَهْبِطُ بِهِ
الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ حَتّى يَنْتَهِي إلَى السّمَاءِ
الدّنْيَا ، فَيَتَحَدّثُوا بِهِ فَتَسْتَرِقُهُ الشّيَاطِينُ بِالسّمْعِ
عَلَى تَوَهّمٍ وَاخْتِلَافٍ ثُمّ يَأْتُوا بِهِ الْكُهّانَ مِنْ أَهْلِ
الْأَرْضِ فَيُحَدّثُوهُمْ بِهِ فَيُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ فَيَتَحَدّثُ
بِهِ الْكُهّانُ فَيُصِيبُونَ بَعْضًا وَيُخْطِئُونَ بَعْضًا ثُمّ إنّ
اللّهَ عَزّ وَجَلّ حَجَبَ الشّيَاطِينَ بِهَذِهِ النّجُومِ الّتِي
يُقْذَفُونَ بِهَا ، فَانْقَطَعَتْ الْكَهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا
كَهَانَةَ . [ ص 208 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ
أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَبِيبَةَ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ .
[ الْغَيْطَلَةُ وَمَا حَدّثَتْ بِهِ بَنِي سَهْمٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّ امْرَأَةً مِنْ
بَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهَا الْغَيْطَلَةُ كَانَتْ كَاهِنَةً فِي
الْجَاهِلِيّةِ جَاءَهَا صَاحِبُهَا لَيْلَةً مِنْ اللّيَالِي ، فَانْقَضّ
تَحْتَهَا ، ثُمّ قَالَ أَدْرِ مَا أَدْرِ . يَوْمَ عَقْرٍ وَنَحْرٍ
فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حَيْنَ بَلَغَهَا ذَلِكَ مَا يُرِيدُ ؟ ثُمّ جَاءَهَا
لَيْلَةً أُخْرَى ، فَانْقَضّ تَحْتَهَا ، ثُمّ قَالَ شُعُوبُ مَا شُعُوبٌ
تُصْرَعُ فِيهِ كَعْبٌ لَجوب . فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا . قَالُوا
: مَاذَا يُرِيدُ إنّ هَذَا لِأَمْرٍ هُوَ كَائِنٌ فَانْظُرُوا مَا هُوَ ؟
فَمَا عَرَفُوهُ حَتّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِالشّعْبِ
فَعَرَفُوا أَنّهُ الّذِي كَانَ جَاءَ بِهِ إلَى صَاحِبَتِهِ .
[ نَسَبُ الْغَيْطَلَةِ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : الْغَيْطَلَةُ مِنْ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ
بْنِ كِنَانَةَ ، إخْوَةِ مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ وَهِيَ أُمّ الْغَيَاطِلِ
الّذِينَ ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ [ ص 209 ]
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِل
فَقِيلَ
لِوَلَدِهَا : الْغَيَاطِل ؛ وَهُمْ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
هُصَيْص . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي
مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
[ حَدِيثُ كَاهِنِ جَنْبٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ نَافِعٍ الْجُرَشِيّ أَنّ
جَنْبًا : بَطْنًا مِنْ الْيَمَنِ ، كَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ فِي
الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا ذُكِرَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَانْتَشَرَ فِي الْعَرَبِ ، قَالَتْ لَهُ جَنْبٌ
اُنْظُرْ لَنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي
أَسْفَلِ جَبَلِهِ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ حِينَ طَلَعَتْ الشّمْسُ فَوَقَفَ
لَهُمْ قَائِمًا مُتّكِئًا عَلَى قَوْسٍ لَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى
السّمَاءِ طَوِيلًا ، ثُمّ جَعَلَ يَنْزُو ، ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ
إنّ اللّهَ أَكْرَمَ مُحَمّدًا وَاصْطَفَاهُ وَطَهّرَ قَلْبَهُ وَحَشَاهُ
وَمُكْثُهُ فِيكُمْ أَيّهَا النّاسُ قَلِيلٌ ثُمّ أَسْنَدَ فِي جَبَلِهِ
رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ .
[ مَا جَرَى بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
كَعْبٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ ، أَنّهُ حَدّثَ أَنّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّاب ِ بَيْنَا هُوَ جَالِسٌ فِي النّاسِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ
الْعَرَبِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ يُرِيدُ عُمْرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَلَمّا
نَظَرَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ إنّ هَذَا الرّجُلُ
لَعَلَى شِرْكِهِ مَا فَارَقَهُ بَعْدُ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنًا فِي
الْجَاهِلِيّةِ . فَسَلّمَ عَلَيْهِ الرّجُلُ ثُمّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هَلْ أَسْلَمْتَ ؟ قَالَ نَعَمْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَهُ فَهَلْ كُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟
فَقَالَ الرّجُلُ سُبْحَانَ اللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ
خِلْتَ فِيّ وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرٍ مَا أَرَاك قُلْته لِأَحَدٍ مِنْ
رَعِيّتِك مُنْذُ وُلّيتَ مَا وُلّيتَ فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غُفْرًا ،
قَدْ كُنّا فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى شَرّ مِنْ هَذَا ، نَعْبُدُ
الْأَصْنَامَ وَنَعْتَنِقُ الْأَوْثَانَ حَتّى أَكْرَمْنَا اللّهُ
بِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ قَالَ
فَأَخْبرنِي مَا جَاءَك بِهِ صَاحِبُك ، قَالَ جَاءَنِي قَبْلَ
الْإِسْلَامِ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ إلَى الْجِنّ
وَإِبْلَاسِهَا ، وَإِيَاسِهَا مِنْ دِينِهَا ، وَلُحُوقِهَا بِالْقِلَاصِ
وَأَحْلَاسِهَا . قَالَ [ ص 210 ] ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْكَلَامُ
سَجْعٌ وَلَيْسَ بِشِعْرٍ . قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عِنْدَ ذَلِكَ يُحَدّثُ النّاسَ وَاَللّهِ إنّي
لَعِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ
، قَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ عِجْلًا ، فَنَحْنُ نَنْتَظِرُ
قَسْمَهُ لِيَقْسِمَ لَنَا مِنْهُ إذْ سَمِعْت مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ
صَوْتًا [ ص 211 ] قَطّ أَنْفَذَ مِنْهُ وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ
بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ يَقُولُ يَا ذَرِيحُ أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ
يَصِيحُ يَقُول : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
رَجُلٌ يَصِيحُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ .
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ
عَجِبْتُ لِلْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنّ كَأَنْجَاسِهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ الْكُهّانِ مِنْ الْعَرَبِ .
إنْذَارُ الْيَهُودِ بِرسول اللهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ إنْذَارُ الْيَهُودِ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ
رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : إنّ مِمّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ
مَعَ رَحْمَةِ اللّهِ تَعَالَى وَهَدَاهُ لَنَا ، لَمَا كُنّا نَسْمَعُ
مِنْ رِجَالِ يَهُودَ ( وَ ) كُنّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوَثَانٍ
وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا ، وَكَانَتْ لَا
تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ
مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا : إنّهُ ( قَدْ ) تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيّ
يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمٍ فَكُنّا
كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ . فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللّهِ
تَعَالَى ، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعّدُونَنَا بِهِ
فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا
وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ مِنْ الْبَقَرَةِ { وَلَمّا
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا
مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُمْ
مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ ص
212 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ
وَيَسْتَفْتِحُونَ ( أَيْضًا ) : يَتَحَاكَمُونَ وَفِي كِتَابِ اللّهِ
تَعَالَى : { رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } .
[ حَدِيثُ سَلَمَةَ عَنْ الْيَهُودِيّ الّذِي أَنْذَرَ بِالرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ ، وَكَانَ سَلَمَةُ
مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ ، قَالَ كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي
عَبْدِ الْأَشْهَلِ . قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ
حَتّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ - قَالَ سَلَمَةُ وَأَنَا
يَوْمئِذٍ مِنْ أَحْدَثِ مَنْ فِيهِ سِنّا ، عَلَيّ بُرْدَةٌ لِي ،
مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي - فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ
وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنّةَ وَالنّارَ . قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ
لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوَثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنّ بَعْثًا
كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَوَتَرَى
هَذَا كَائِنًا ، أَنّ النّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى دَارٍ
فِيهَا جَنّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ
وَاَلّذِي يُحْلَفُ بِهِ وَلَوَدّ أَنّ لَهُ بِحَظّهِ مِنْ تِلْكَ النّارِ
أَعْظَمَ تَنّورٍ فِي الدّارِ يَحْمُونَهُ ثُمّ يُدْخِلُونَهُ إيّاهُ
فَيُطَيّنُونَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النّارِ غَدًا .
فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ فَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَبِيّ
مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى مَكّةَ
وَالْيَمَنِ . فَقَالُوا : وَمَتَى تَرَاهُ ؟ قَالَ فَنَظَرَ إلَيّ
وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، فَقَالَ إنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا
الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ . قَالَ سَلَمَةُ فَوَاَللّهِ مَا ذَهَبَ
اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا رَسُولَهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ حَيّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، فَآمَنّا بِهِ
وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا . قَالَ فَقُلْنَا لَهُ وَيْحَك يَا
فُلَانُ أَلَسْت الّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْت ؟ قَالَ بَلَى ،
وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ . [ ص 213 ]
[ إسْلَامُ ثَعْلَبَةَ وَأَسِيد ابْنَيْ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ
شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ لِي : هَلْ تَدْرِي عَمّ كَانَ
إسْلَامُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسِيد بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ
عُبَيْدٍ ، نَفَرٍ مِنْ بَنِي هَدْلٍ إخْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ، كَانُوا
مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ ثُمّ كَانُوا سَادَتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
. قَالَ قُلْت : لَا وَاَللّهِ قَالَ فَإِنّ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ مِنْ
أَهْلِ الشّامِ ، يُقَال لَهُ ابْنُ الْهَيْبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا
قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ فَحَلّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، لَا
وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطْ لَا يُصَلّي الْخَمْسَ أَفَضْلَ
مِنْهُ فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنّا إذَا قَحِطَ عَنّا الْمَطَرُ قُلْنَا
لَهُ اُخْرُجْ يَا ابْنَ الْهَيْبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا . فَيَقُولُ لَا
وَاَللّهِ حَتّى تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرَجِكُمْ صَدَقَةً .
فَنَقُولُ لَهُ كَمْ ؟ فَيَقُولُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مُدّيْنِ مِنْ
شَعِيرٍ . قَالَ فَنُخْرِجُهَا ثُمّ يَخْرُجُ بِنَا إلَى ظَاهِرِ
حَرّتِنَا فَيَسْتَسْقِي اللّهُ لَنَا . فَوَاَللّهِ مَا يَبْرَحُ
مَجْلِسَهُ حَتّى يَمُرّ السّحَابُ وَنُسْقَى ، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ
مَرّةٍ وَلَا مَرّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ . قَالَ ثُمّ حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ عِنْدَنَا . فَلَمّا عَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ قَالَ يَا مَعْشَرَ
يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ
إلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ ؟ قَالَ قُلْنَا : إنّك أَعْلَمُ قَالَ
فَإِنّي إنّمَا قَدِمْتُ هَذِهِ [ ص 214 ] أتَوَكّفُ خُرُوجَ نَبِيّ قَدْ
أَظَلّ زَمَانُهُ وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ فَكُنْت أَرْجُو أَنْ
يُبْعَثَ فَأَتّبِعَهُ وَقَدْ أَظَلّكُمْ زَمَانُهُ فَلَا تُسْبَقُنّ
إلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ فَإِنّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدّمَاءِ
وَسَبْيِ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ مِمّنْ خَالَفَهُ فَلَا يَمْنَعْكُمْ
ذَلِكَ مِنْهُ . فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ
وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَاَللّهِ إنّهُ
لِلنّبِيّ الّذِي كَانَ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيْبَانِ
قَالُوا : لَيْسَ بِهِ قَالُوا : بَلَى وَاَللّهِ إنّهُ لَهُوَ بِصِفّتِهِ
فَنَزَلُوا وَأَسْلَمُوا ، وَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ
أَخْبَارِ يَهُودَ .
حَدِيثُ إسْلَامِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ كَانَ سَلْمَانُ مَجُوسِيّا ، فَمَرّ بِكَنِيسَةٍ فَتَطَلّعَ إلَى النّصْرَانِيّةِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمْرَ بْنِ قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَبّاسٍ ، قَالَ حَدّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ ، وَأَنَا أَسْمَعُ
مِنْ فِيهِ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ
قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جَيّ ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ
وَكُنْتُ أَحَبّ خَلْقِ اللّهِ إلَيْهِ لَمْ يَزَلْ بِهِ حُبّهُ إيّايَ
حَتّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ وَاجْتَهَدْت
فِي الْمَجُوسِيّةِ حَتّى كُنْتُ قَطْنَ النّارِ [ ص 215 ] قَالَ
وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ
يَوْمًا ، فَقَالَ لِي : يَا بُنَيّ إنّي قَدْ شُغِلْت فِي بُنْيَانِي
هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي ، فَاذْهَبْ إلَيْهَا فَاطّلَعَهَا .
وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ ثُمّ قَالَ لِي : وَلَا
تَحْتَبِسُ عَنّي فَإِنّك إنْ احْتَبَسْتَ عَنّي كُنْت أَهَمّ إلَيّ مِنْ
ضَيْعَتِي ، وَشَغَلَتْنِي عَنْ كُلّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي . قَالَ
فَخَرَجْت أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ الّتِي بَعَثَنِي إلَيْهَا ، فَمَرَرْتُ
بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النّصَارَى ، فَسَمِعْت أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا
وَهُمْ يُصَلّونَ وَكُنْت لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النّاسِ لِحَبْسِ أَبِي
إيّايَ فِي بَيْتِهِ فَلَمّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ
أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ فَلَمّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ
وَرَغِبْت فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْت : هَذَا وَاَللّهِ خَيْرٌ مِنْ الدّينِ
الّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا بَرِحْتُهُمْ حَتّى غَرَبَتْ
الشّمْسُ وَتَرَكْت ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا ؛ ثُمّ قُلْت لَهُمْ
أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدّينِ ؟ قَالُوا : بِالشّامِ . فَرَجَعْت إلَى
أَبِي ، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي ، وَشَغَلْته عَنْ عَمَلِهِ كُلّهِ
فَلَمّا جِئْته قَالَ أَيْ بُنَيّ أَيْنَ كُنْتَ ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ
عَهِدْتُ إلَيْك مَا عَهِدْتُ ؟ قَالَ قُلْت لَهُ يَا أَبَتِ مَرَرْتُ
بِأُنَاسٍ يُصَلّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ
مِنْ دِينِهِمْ فَوَاَللّهِ مَا زِلْت عِنْدَهُمْ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ
قَالَ أَيّ بُنَيّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدّينِ خَيْرٌ دِينُك وَدِينُ
آبَائِك خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ قُلْت لَهُ كَلّا وَاَللّهِ إنّهُ لَخَيْرٌ
مِنْ دِينِنَا . قَالَ فَخَافَنِي ، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا ، ثُمّ
حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ
[ اتّفَاقُ سَلْمَانَ وَالنّصَارَى عَلَى الْهَرَبِ ]
قَالَ
وَبَعَثْت إلَى النّصَارَى فَقُلْت لَهُمْ إذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ
مِنْ الشّامِ فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ . قَالَ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ
مِنْ الشّامِ تُجّارٌ مِنْ النّصَارَى ، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ فَقُلْت
لَهُمْ إذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى
بِلَادِهِمْ فَآذَنُونِي بِهِمْ . قَالَ فَلَمّا أَرَادُوا الرّجْعَةَ
إلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ
رِجْلَيّ ثُمّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتّى قَدِمْتُ الشّامَ . فَلَمّا
قَدِمْتُهَا ، قُلْتُ مَنْ أَفَضْلُ أَهْلُ هَذَا الدّينِ عِلْمًا ؟
قَالُوا : الْأُسْقُفُ فِي الْكَنِيسَةِ [ ص 216 ]
[ سَلْمَانُ وَأُسْقُفُ النّصَارَى السّيّئُ ]
قَالَ
فَجِئْته فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدّينِ فَأَحْبَبْتُ
أَنّ أَكُونَ مَعَك ، وَأَخْدُمُك فِي كَنِيسَتِك ، فَأَتَعَلّمَ مِنْك ،
وَأُصَلّيَ مَعَك ؛ قَالَ اُدْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ . قَالَ وَكَانَ
رَجُلُ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُهُمْ فِيهَا ، فَإِذَا
جَمَعُوا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ
الْمَسَاكِينَ حَتّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ . قَالَ
فَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْته يَصْنَعُ ثُمّ مَاتَ
فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ النّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ فَقُلْت لَهُمْ إنّ هَذَا
كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُركُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُكُمْ فِيهَا ،
فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا ، اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ
الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا . قَالَ فَقَالُوا لِي : وَمَا عِلْمُكَ
بِذَلِكَ ؟ قَالَ قُلْت لَهُمْ أَنَا أَدُلّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ قَالُوا :
فَدُلّنَا عَلَيْهِ قَالَ فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا
مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا . قَالَ فَلَمّا
رَأَوْهَا قَالُوا : وَاَللّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا . قَالَ
فَصَلَبُوهُ وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ
فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ .
[ سَلْمَانُ وَالْأُسْقُفُ الصّالِحُ ]
قَالَ
يَقُولُ سَلْمَانُ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلّي الْخَمْسَ أَرَى
أَنّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ ( وَ ) أَزْهَدَ فِي الدّنْيَا ، وَلَا
أَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ وَلَا أَدْأَبَ لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ .
قَالَ فَأَحْبَبْته حُبّا لَمْ أُحِبّهُ شَيْئًا قَبْلَهُ . قَالَ
فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا طَوِيلًا ، ثُمّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
فَقُلْتُ لَهُ يَا فُلَانُ إنّي قَدْ كُنْت مَعَك وَأَحْبَبْتُك حُبّا
لَمْ أُحِبّهُ شَيْئًا قَبْلَك ، وَقَدْ حَضَرَك مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ
اللّهِ تَعَالَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ
أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا عَلَى مَا كُنْتُ
عَلَيْهِ فَقَدْ هَلَكَ النّاسُ وَبَدّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا
كَانُوا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلَانٌ وَهُوَ عَلَى
مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ . [ ص 217 ]
[ سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِالْمُوصِلِ ]
قَالَ
فَلَمّا مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ ، فَقُلْت لَهُ
يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِك ،
وَأَخْبَرَنِي أَنّك عَلَى أَمْرِهِ فَقَالَ لِي : أَقِمْ عِنْدِي ،
فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ . فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْت لَهُ
يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إلَيْك ، وَأَمَرَنِي بِاللّحُوقِ
بِك ، وَقَدْ حَضَرَك مِنْ أَمْرِ اللّهِ مَا تَرَى ، فَإِلَى مِنْ تُوصِي
بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ
رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا بِنَصِيبِينَ
وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ .
[ سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِنَصِيبِينَ ]
فَلَمّا
مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْت بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ ، فَأَخْبَرْته خَبَرِي ،
وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبُهُ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْتُ
عِنْدَهُ فَوَجَدْته عَلَى أَمْرِ صَاحِبِيهِ . فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ
رَجُلٍ فَوَاَللّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمّا حُضِرَ
قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ ثُمّ
أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْك ؛ قَالَ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ
تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ
عَلَى أَمْرِنَا آمُرُك أَنْ تَأْتِيَهُ إلّا رَجُلًا بِعَمُورِيّةَ مِنْ
أَرْضِ الرّومِ ، فَإِنّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ
أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ فَإِنّهُ عَلَى أَمْرِنَا .
[ سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِعَمُورِيّةَ ]
فَلَمّا
مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُورِيّةَ ، فَأَخْبَرْته خَبَرِي ؛
فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ عَلَى هُدَى
أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ . قَالَ وَاكْتَسَبْتُ حَتّى كَانَتْ لِي
بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ . قَالَ ثُمّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللّهِ تَعَالَى
، فَلَمّا حُضِرَ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ
فَأَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَى [ ص 218 ]
تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا
أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ
مِنْ النّاسِ آمُرُك بِهِ أَنْ تَأْتِيَهُ وَلَكِنّهُ قَدْ أَظَلّ زَمَانُ
نَبِيّ وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَخْرُجُ
بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، مُهَاجَرُهُ إلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرّتَيْنِ
بَيْنَهُمَا نَخْلٌ بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى ، يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ
وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ فَإِنْ
اسْتَطَعْت أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ .
[ سَلْمَانُ وَنَقْلَتُهُ إلَى وَادِي الْقُرَى ثُمّ إلَى الْمَدِينَةِ
َسَمَاعُهُ بِبَعْثَةِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ثُمّ مَاتَ وَغُيّبَ وَمَكَثْت بِعَمُورِيّةَ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ
أَمْكُثَ ثُمّ مَرّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجّارٌ فَقُلْت لَهُمْ
احْمِلُونِي إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ
وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ قَالُوا : نَعَمْ . فأعْطَيْتُهُمُوها وَحَمَلُونِي
مَعَهُمْ حَتّى إذَا بَلَغُوا وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي ، فَبَاعُونِي
مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيّ عَبْدًا ، فَكُنْت عِنْدَهُ وَرَأَيْت النّخْلَ
فَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ الْبَلَدَ الّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، وَلَمْ
يَحِق فِي نَفْسِي ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ
عَمّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَابْتَاعَنِي
مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا
أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي ، فَأَقَمْتُ بِهَا ،
وَبُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامَ
بِمَكّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذكَرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ
مِنْ شُغْلِ الرّقّ ثُمّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاَللّهِ إنّي
لَفِي رَأْسِ عِذْقٍ لِسَيّدِي أَعْمَلُ لَهُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ
وَسَيّدِي جَالِسٌ تَحْتِي ، إذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمّ لَهُ حَتّى وَقَفَ
عَلَيْهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ قَاتَلَ اللّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاَللّهِ
إنّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ
مِنْ مَكّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنّهُ نَبِيّ .
[ نَسَبُ قَيْلَةَ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُودِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ
قُضَاعَةَ ، أُمّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . قَالَ [ ص 219 ] الْأَوْسَ
وَالْخَزْرَجَ :
بَهَالِيلُ مِنْ أَوْلَادِ قَيْلَةَ لَمْ يَجِدْ ... عَلَيْهِمْ خَلِيطٌ فِي مُخَالَطَةِ عَتْبَا
مَسَامِيحُ أَبْطَالٌ يَرَاحُونَ لِلنّدَى ... يَرَوْنَ عَلَيْهِمْ فِعْلَ آبَائِهِمْ نَحْبَا
وَهَذَانِ
الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ
لَبِيدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ قَالَ سَلْمَانُ
فَلَمّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ . فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَالْعُرَوَاءُ الرّعْدَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَالِانْتِفَاضُ فَإِنْ كَانَ
مَعَ ذَلِكَ عَرَقٌ فَهِيَ الرّحَضَاءُ وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ - حَتّى
ظَنَنْتُ أَنّي سَأَسْقُطُ عَلَى سَيّدِي ، فَنَزَلْت عَنْ النّخْلَةِ
فَجَعَلْت أَقُولُ لِابْنِ عَمّهِ ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ ؟ ( مَاذَا
تَقُولُ ) ؟ فَغَضِبَ سَيّدِي ، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمّ
قَالَ مَا لَك وَلِهَذَا ؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِك . قَالَ قُلْت : لَا
شَيْءَ إنّمَا أَرَدْت أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمّا قَالَ .
[ سَلْمَانُ بَيْنَ يَدَيْ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَدِيّتِهِ يَسْتَوْثِقُ ]
(
قَالَ ) : وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْته فَلَمّا أَمْسَيْتُ
أَخَذْتُهُ ثُمّ ذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت لَهُ إنّهُ قَدْ
بَلَغَنِي أَنّك رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَك أَصْحَابٌ لَك غُرَبَاءُ ذَوُو
حَاجَةٍ وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ كَانَ عِنْدِي لِلصّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ
أَحَقّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ فَقَرّبْته إلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا ، وَأَمْسَكَ
يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَذِهِ وَاحِدَةٌ .
قَالَ ثُمّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْت شَيْئًا ، وَتَحَوّلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، ثُمّ جِئْته
بِهِ فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَأَيْتُك لَا تَأْكُلُ الصّدَقَةَ وَهَذِهِ
هَدِيّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا . قَالَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ .
قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَاتَانِ ثِنْتَانِ [ ص 220 ] صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، قَدْ تَبِعَ جِنَازَةَ
رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ( وَ ) عَلَيّ شَمْلَتَانِ لِي ، وَهُوَ جَالِسٌ
فِي أَصْحَابِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ ثُمّ اسْتَدَرْت أَنْظُرُ إلَى
ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ؛ فَلَمّا
رَآنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَدْبَرْتُهُ
عَرَفَ أَنّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ
عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْت إلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ فَأَكْبَبْتُ
عَلَيْهِ أُقَبّلُهُ وَأَبْكِي ؛ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَوّلْ فَتَحَوّلْت فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَصَصْت عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدّثْتُك يَا ابْنَ عَبّاسٍ ،
فَأَعْجَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ
أَنْ يُسْمِعَ ذَلِكَ أَصْحَابَهُ . ثُمّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرّقّ حَتّى
فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَدْرٌ
وَأُحُدٌ .
[ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَلْمَانَ بِالْمُكَاتَبَةِ لِيَخْلُصَ مِنْ الرّقّ ]
قَالَ
سَلْمَانُ : ثُمّ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ ؛ فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ
مِئَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيّةً .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ
أَعِينُوا أَخَاكُمْ فَأَعَانُونِي بِالنّخْلِ الرّجُلُ بِثَلَاثِينَ
وَدِيّةً وَالرّجُلُ بِعِشْرِينَ وَدِيّةً وَالرّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ
وَدِيَةً وَالرّجُلُ بِعَشْرٍ يُعِينُ الرّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ
حَتّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِئَةِ وَدِيّةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقّرْ
لَهَا ، فَإِذَا فَرَغْتَ [ ص 221 ] قَالَ فَفَقّرْتُ وَأَعَانَنِي
أَصْحَابِي ، حَتّى إذَا فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَخَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعِي إلَيْهَا ،
فَجَعَلْنَا نُقَرّبُ إلَيْهِ الْوَدِيّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ حَتّى فَرَغْنَا . فَوَاَلّذِي نَفْسُ
سَلْمَانَ بِيَدِهِ . مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيّةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ
فَأَدّيْتُ النّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيّ الْمَالُ . فَأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدّجَاجَةِ مِنْ
ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فَقَالَ مَا فَعَلَ الْفَارِسِيّ
الْمُكَاتَبُ ؟ قَالَ فَدُعِيت لَهُ فَقَالَ خُذْ هَذِهِ فَأَدّهَا مِمّا
عَلَيْك يَا سَلْمَانُ " قَالَ قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا
رَسُولَ اللّهِ مِمّا عَلَيّ ؟ فَقَالَ خُذْهَا فَإِنّ اللّهَ سَيُؤَدّي
بِهَا عَنْك . قَالَ فَأَخَذْتهَا فَوَزَنْت لَهُمْ مِنْهَا ، وَاَلّذِي
نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ
حَقّهُمْ مِنْهَا ، وَعَتَقَ سَلْمَانُ . فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ الْخَنْدَقَ حُرّا ، ثُمّ لَمْ
يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ
بْنُ أَبِي حَبِيبٍ . عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ سَلْمَانَ :
أَنّهُ قَالَ لَمّا قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِنْ الّذِي عَلَيّ
يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَلّبَهَا عَلَى لِسَانِهِ ثُمّ قَالَ خُذْهَا فَأَوْفِهِمْ
مِنْهَا ، فَأَخَذْتهَا ، فَأَوْفَيْتهمْ مِنْهَا حَقّهُمْ كُلّهُ
أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، قَالَ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ حُدّثْت عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيّ : أَنّهُ قَالَ .
[ سَلْمَانُ وَالرّجُلُ الّذِي كَانَ يَخْرُجُ بَيْن غَيْضَتَيْنِ بِعَمُورِيّةَ ]
حُدّثْت
عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ ، أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِين أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ إنّ صَاحِبَ
عَمُورِيّةَ قَالَ لَهُ ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَإِنّ
بِهَا رَجُلًا بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ . يَخْرُجُ فِي كُلّ سَنَةٍ مِنْ
هَذِهِ الْغَيْضَةِ إلَى هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا ، يَعْتَرِضُهُ
ذَوُو الْأَسْقَامِ فَلَا يَدْعُو لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلّا شُفِيَ
فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا [ ص 222 ] تَبْتَغِي ، فَهُوَ يُخْبِرُك عَنْهُ .
قَالَ سَلْمَانُ : فَخَرَجْتُ حَتّى أَتَيْت حَيْثُ وُصِفَ لِي ،
فَوَجَدْتُ النّاسَ قَدْ اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَالِكَ حَتّى
خَرَجَ لَهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ مُسْتَجِيزًا مِنْ إحْدَى
الْغَيْضَتَيْنِ إلَى أُخْرَى ، فَغَشِيَهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ لَا
يَدْعُو لِمَرِيضٍ إلّا شُفِيَ وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ فَلَمْ أَخْلُصْ
إلَيْهِ حَتّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ الّتِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ إلّا
مَنْكِبِهِ . قَالَ فَتَنَاوَلْته : فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ وَالْتَفَتَ
إلَيّ فَقُلْت : يَرْحَمُك اللّهُ ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْحَنِيفِيّةِ
دِينِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ إنّك لَتَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مَا يَسْأَلُ
عَنْهُ النّاسُ الْيَوْمَ قَدْ أَظَلّك زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ بِهَذَا
الدّينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُك عَلَيْهِ .
قَالَ ثُمّ دَخَلَ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِسَلْمَانَ لَئِنْ كُنْتَ صَدّقْتَنِي يَا سَلْمَانُ ، لَقَدْ
لَقِيت عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ السّلَامُ .
ذِكْرُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى
وَعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْش ٍ وَعُثْمَانَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا فِي عِيدٍ لَهُمْ عِنْدَ
صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ كَانُوا يُعَظّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ لَهُ
وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ وَيُدِيرُونَ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ عِيدًا لَهُمْ
فِي كُلّ سَنَةٍ يَوْمًا ، فَخَلَصَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ نَجِيّا ،
ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَصَادَقُوا وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ
عَلَى بَعْضٍ قَالُوا : أَجَلْ . وَهُمْ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ؛ [ ص 223 ] وَعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشِ بْنِ
رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ
غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَكَانَتْ أُمّهُ
أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَعُثْمَانِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ
بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ
رِيَاحِ بْنِ رَزَاح بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ؛ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعَلّمُوا وَاَللّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ
لَقَدْ أَخْطَئُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ مَا حَجَرٌ نُطِيفُ بِهِ
لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ يَا قَوْمِ
الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ ( دِينًا ) ، فَإِنّكُمْ وَاَللّهِ مَا
أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ . فَتَفَرّقُوا فِي الْبُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ
الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ .
[ مَا وَصَلَ إلَيْهِ وَرَقَةُ وَابْنُ جَحْشٍ ]
فَأَمّا
وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَاسْتَحْكَمَ فِي النّصْرَانِيّةِ ، وَاتّبَعَ
الْكُتُبَ مِنْ أَهْلِهَا ، حَتّى عَلِمَ عِلْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
. وَأَمّا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، فَأَقَامَ عَلَى مَا هُوَ
عَلَيْهِ مِنْ الِالْتِبَاسِ حَتّى أَسْلَمَ ، ثُمّ هَاجَرَ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحَبَشَةِ ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ حَبِيبَةَ
بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْلِمَةً فَلَمّا قَدِمَهَا تَنَصّرَ وَفَارَقَ
الْإِسْلَامَ حَتّى هَلَكَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيّا .
[ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ ابْنُ جَحْشٍ بَعْدَ تَنَصّرِهِ بِمُسْلِمِي الْحَبَشَةِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ،
قَالَ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ حِين تَنَصّرَ يَمُرّ
بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ
هُنَالِكَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَيَقُولُ فَقّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ
أَيْ أَبْصَرْنَا وَأَنْتَمِ تَلْتَمِسُونَ الْبَصَرَ [ ص 224 ] وَلَدَ
الْكَلْبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ صَأْصَأَ
لِيَنْظُرَ . وَقَوْلُهُ فَقّحَ فَتّحَ عَيْنَيْهِ .
[ زَوَاجُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ امْرَأَةِ ابْنِ جَحْشٍ بَعْدَ مَوْتِهِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَلَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَعْدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْب ٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ
حُسَيْنٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ
فِيهَا إلَى النّجَاشِيّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، فَخَطَبَهَا
عَلَيْهِ النّجَاشِيّ ، فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِينَارٍ .
فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ : مَا نَرَى عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مَرْوَانَ وَقَفَ صَدَاقَ النّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِ مِئَةِ دِينَارٍ إلّا
عَنْ ذَلِكَ . وَكَانَ الّذِي أَمْلَكَهَا النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ .
[ تَنَصّرُ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ وَذَهَابُهُ إلَى قَيْصَرَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَقَدِمَ عَلَى
قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ ، فَتَنَصّرَ وَحَسُنَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِعُثْمَانَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَ قَيْصَرَ
حَدِيثٌ مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهِ مَا ذَكَرْتُ فِي حَدِيثِ حَرْبِ
الْفِجَارِ .
[ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو وَمَا وَصَلَ إلَيْهِ وَشَيْءٌ عَنْهُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ
فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيّةٍ وَلَا نَصْرَانِيّةٍ وَفَارَقَ دِينَ
قَوْمِهِ فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَالذّبَائِحَ
الّتِي [ ص 225 ] وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ وَقَالَ أَعْبُدُ
رَبّ إبْرَاهِيمَ ؛ وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أُمّهِ أَسَمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، قَالَتْ
لَقَدْ رَأَيْت زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ شَيْخًا كَبِيرًا
مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ ، وَاَلّذِي نَفْسُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ
مِنْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي ، ثُمّ يَقُولُ اللّهُمّ
لَوْ أَنّي أَعْلَمُ أَيّ الْوُجُوهِ أَحَبّ إلَيْك عَبَدَتْك بِهِ
وَلَكِنّي لَا أَعْلَمُهُ ثُمّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحَتِهِ . [ ص 226 ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّ ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ نُفَيْل ٍ ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ
قَالَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَسْتَغْفِرُ
لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ؟ قَالَ نَعَمْ فَإِنّهُ يُبْعَث أُمّةً وَحْدَهُ .
[ شِعْرُ زَيْدٍ فِي فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ ]
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ وَمَا كَانَ لَقِيَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ
أَرَبّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبّ ... أَدِينُ إذَا تُقُسّمَتْ الْأُمُورُ
عَزَلْتُ اللّاتَ وَالْعُزّى جَمِيعًا ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصّبُورُ
فَلَا الْعُزّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا ... وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُورُ
وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبّا ... لَنَا فِي الدّهْرِ إذْ حِلْمِي يَسِيرُ
عَجِبْتُ وَفِي اللّيَالِي مُعْجَبَاتٌ ... وَفِي الْأَيّامِ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ
بِأَنّ اللّهَ قَدْ أَفْنَى رِجَالًا ... كَثِيرًا كَانَ شَأْنَهُمْ الْفُجُورُ
وَأَبْقَى آخَرِينَ بِبِرّ قَوْمٍ ... فَيَرْبِلُ مِنْهُمْ الطّفْلُ الصّغِيرُ
وَبَيْنَا الْمَرْءُ يَفْتَرّ ثَابَ يَوْمًا ... كَمَا يُتَرَوّحُ الْغُصْنُ الْمَطِيرُ
وَلَكِنْ أَعْبُدُ الرّحْمَنَ رَبّي ... لِيَغْفِرَ ذَنْبِي الرّبّ الْغَفُورُ
فَتَقْوَى اللّهِ رَبّكُمْ احْفَظُوهَا ... مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا لَا تَبُورُوا
تَرَى الْأَبْرَارَ دَارُهُمْ جِنَانٌ ... وَلِلْكَفّارِ حَامِيَةً سَعِيرُ
وَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا ... يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ الصّدُورُ
[
ص 227 ] زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ نُفَيْلٍ أَيْضًا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: هِيَ لِأُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ إلّا
الْبَيْتَيْنِ الْأَوّلَيْنِ وَالْبَيْتَ الْخَامِسَ وَآخِرَهَا بَيْتًا .
وَعَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوّلِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ :
[ ص 228 ] إلَى اللّهِ أُهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا ... وَقَوْلًا رَصِينًا لَا يَنِي الدّهْرَ بَاقِيَا
إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ... إِلَاهٌ وَلَا رَبّ يَكُونُ مُدَانِيَا
أَلَا أَيّهَا الْإِنْسَانُ إيّاكَ وَالرّدَى ... فَإِنّك لَا تُخْفِي مِنْ اللّهِ خَافِيَا
وَإِيّاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ غَيْرَهُ ... فَإِنّ سَبِيلَ الرّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا
حَنَانَيْكَ إنّ الْحِنّ كَانَتْ رَجَاءَهُمْ ... وَأَنْتَ إِلَاهِي رَبّنَا وَرَجَائِيَا
رَضِيتُ بِكَ اللّهُمّ رَبّا فَلَنْ أَرَى ... أَدِينُ إِلَاهًا غَيْرَك اللّهُ ثَانِيَا
أَدِينُ لِرَبّ يُسْتَجَابُ وَلَا أَرَى ... أَدِينُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ الدّهْرَ دَاعِيَا
وَأَنْتَ الّذِي مِنْ فَضْلِ مَنّ وَرَحْمَةٍ ... بَعَثْتَ إلَى مُوسَى رَسُولًا مُنَادِيَا
فَقُلْت لَهُ يَا اذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوَا ... إلَى اللّهِ فِرْعَوْنَ الّذِي كَانَ طَاغِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوّيْت هَذِهِ ... بِلَا وَتَدٍ حَتّى اطْمَأَنّتْ كَمَا هِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ رَفّعْت هَذِهِ ... بِلَا عُمُدٍ أَرْفِقْ إذَا بِك بَانِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوّيْت وَسْطَهَا ... مُنِيرًا إذَا مَا جَنّهُ اللّيْلُ هَادِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشّمْسَ غُدْوَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسّتْ مِنْ الْأَرْضِ ضَاحِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الْحَبّ فِي الثّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يَهْتَزّ رَابِيَا
وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَبّهُ فِي رُءُوسِهِ ... وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا
وَأَنْتَ بِفَضْلٍ مِنْك نَجّيْتَ يُونُسَا ... وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا
وَإِنّي ( وَ ) لَوْ سَبّحْت بِاسْمِك رَبّنَا ... لَأُكْثِرُ إلّا مَا غَفَرْتَ خَطَائِيَا
فَرَبّ الْعِبَادِ أَلْقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً ... عَلَيّ وَبَارِكْ فِي بَنِيّ وَمَالِيَا
[ ص 229 ] صَفِيّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيّ - .
[ نَسَبُ الْحَضْرَمِيّ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ الْحَضْرَمِيّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عِمَادِ ( بْنِ
أَكْبَرَ ) أَحَدُ الصّدِفِ وَاسْمُ الصّدِفِ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ
السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ بْنِ كِنْدَى ؛ وَيُقَالُ كِنْدَةُ بْنُ ثَوْرِ
بْنِ مُرَتّعِ بْنِ عُفَيْر بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ
أَدَد بْنِ زَيْدِ بْنِ مِهْسَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ
بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ؛ وَيُقَالُ مُرَتّعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ .
[ شِعْرُ زَيْدٍ فِي عِتَابَ زَوْجَتِهِ عَلَى اتّفَاقِهَا مَعَ الْخَطّابِ فِي مُعَاكَسَتِهِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَجْمَعَ الْخُرُوجَ
مِنْ مَكّةَ لِيَضْرِبَ فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ
إبْرَاهِيمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ
الْحَضْرَمِيّ كَلّمَا رَأَتْهُ قَدْ تَهَيّأَ لِلْخُرُوجِ وَأَرَادَهُ
آذَنَتْ بِهِ الْخَطّابَ بْنَ نُفَيْلٍ ، وَكَانَ الْخَطّابُ بْنُ
نُفَيْلٍ عَمّهُ وَأَخَاهُ لِأُمّهِ وَكَانَ يُعَاتِبُهُ عَلَى فِرَاقِ
دِينِ قَوْمِهِ وَكَانَ الْخَطّابُ قَدْ وَكّلَ صَفِيّةَ بِهِ وَقَالَ
إذَا رَأَيْتِيهِ قَدْ هَمّ بِأَمْرٍ فَآذِنِينِي بِهِ - فَقَالَ زَيْدٌ
لَا تَحْبِسِينِي فِي الْهَوَا ... نِ صَفِيّ مَا دَابِي وَدَابُهُ
إنّي إذَا خِفْت الْهَوَا ... نَ مُشَيّعٌ ذُلُلَ رِكَابِهِ
دُعْمُوصُ أَبْوَابَ الْمُلُو ... كِ وَجَائِبٌ لِلْخِرَقِ نَابَهُ
قَطّاعُ أَسْبَابٍ تَذِ ... لّ بِغَيْرِ أَقْرَانٍ صِعَابه
وَإِنّمَا أَخَذَ الْهَوَا ... نُ الْعِيرَ إذْ يُوهَى إهَابُهُ
وَيَقُولُ إنّي لَا أَذّ ل ... بِصَكّ جَنْبَيْهِ صِلَابه
وَأَخِي ابْنُ أُمّي ثُمّ ... عَمْمِي لَا يُوَاتِينِي خِطَابُهُ
وَإِذَا يُعَاتِبُنِي بِسُوء ... قُلْتُ أَعْيَانِي جَوَابُهُ
وَلَوْ أَشَاءَ لَقُلْت مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهُ
[ شِعْرُ زَيْدٍ حِينَ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثَتْ ( عَنْ ) بَعْضِ أَهْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ نُفَيْلٍ : أَنّ زَيْدًا كَانَ إذَا اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ دَاخِلَ
الْمَسْجِدِ قَالَ لَبّيْكَ حَقّا حَقّا ، تَعَبّدًا وَرِقّا .
عُذْت بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمْ ... مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَهُوَ قَائِم
إذْ قَالَ
أَنْفِي لَك اللّهُمّ عَانٍ رَاغِمْ ... مَهْمَا تُجَشّمُنِي فَإِنّي جَاشِم
الْبِرّ
أَبْغِي لَا الْخَالَ لَيْسَ مُهَجّر كَمَنْ قَالَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَيُقَالُ الْبِرّ أَبْقَى لَا الْخَال ، لَيْسَ مُهَجّر كَمَنْ قَالَ .
قَالَ وَقَوْلُهُ " مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
الْعِلْمِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنُ
نُفَيْلٍ [ ص 231 ]
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا
دَحَاهَا فَلَمّا رَآهَا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا
إذَا هِيَ سِيقَتْ إلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبّتْ عَلَيْهَا سِجَالًا
[ الْخَطّابُ وَوُقُوفُهُ فِي سَبِيلِ زَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ وَخُرُوجُ زَيْدٍ إلَى الشّامِ وَمَوْتُهُ ]
وَكَانَ
الْخَطّابُ قَدْ آذَى زَيْدًا ، حَتّى أَخْرَجَهُ إلَى أَعَلَى مَكّةَ ،
فَنَزَلَ حِرَاءَ مُقَابِلَ مَكّةَ ، وَوَكّلَ بِهِ الْخَطّابُ شَبَابًا
مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ وَسُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِهَا ، فَقَالَ لَهُمْ
لَا تَتْرُكُوهُ يَدْخُلُ مَكّةَ ؛ فَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا إلّا سِرّا
مِنْهُمْ فَإِذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ آذَنُوا بِهِ الْخَطّابَ
فَأَخْرَجُوهُ وَآذَوْهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ
وَأَنْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاقِهِ . فَقَالَ وَهُوَ
يُعَظّمُ حُرْمَتَهُ عَلَى مَنْ اسْتَحَلّ مِنْهُ مَا اسْتَحَلّ مِنْ
قَوْمِهِ
لَاهُمّ إنّي مُحْرِمٌ لَا حِلّهْ ... وَإِنّ بَيْتِي أَوْسَطَ الْمَحِلّهْ
عِنْدَ الصّفَا لَيْسَ بِذِي مُضِلّهُ
ثُمّ
خَرَجَ يَطْلُبُ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَيَسْأَلُ
الرّهْبَانَ وَالْأَحْبَارَ حَتّى بَلَغَ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ
كُلّهَا ، ثُمّ أَقْبَلَ فَجَالَ الشّامَ كُلّهُ حَتّى انْتَهَى إلَى
رَاهِبٍ بِمَيْفَعَةٍ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ كَانَ يَنْتَهِي إلَيْهِ
عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ فَسَأَلَهُ عَنْ
الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إنّك لَتَطْلُبُ دِينًا مَا
أَنْتَ بِوَاجِدٍ مَنْ يَحْمِلُك عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَلَكِنْ قَدْ أَظَلّ
زَمَانُ نَبِيّ يَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك الّتِي خَرَجْت مِنْهَا ، يُبْعَثُ
بِدِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيّةِ فَالْحَقّ بِهَا ، فَإِنّهُ مَبْعُوثٌ
الْآنَ هَذَا زَمَانُهُ . وَقَدْ كَانَ [ ص 232 ] وَالنّصْرَانِيّةَ ،
فَلَمْ يَرْضَ شَيْئًا مِنْهُمَا ، فَخَرَجَ سَرِيعًا ، حِينَ قَالَ لَهُ
ذَلِكَ الرّاهِبُ مَا قَالَ يُرِيدُ مَكّةَ ، حَتّى إذَا تَوَسّطَ بِلَادَ
لَخْمٍ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ .
[ رِثَاءُ وَرَقَةَ لِزَيْدٍ ]
فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ يَبْكِيهِ
رَشَدْتَ وَأَنْعَمْت ابْنَ عَمْرٍو وَإِنّمَا ... تَجَنّبْتَ تَنّورًا مِنْ النّارِ حَامِيَا
بِدِينِكَ رَبّا لَيْسَ رَبّ كَمِثْلِهِ ... وَتَرْكُكَ أَوْثَانَ الطّوَاغِي كَمَا هِيَا
وَإِدْرَاكُك الدّينَ الّذِي قَدْ طَلَبْتَهُ ... وَلَمْ تَكُ عَنْ تَوْحِيدِ رَبّك سَاهِيَا
فَأَصْبَحْتَ فِي دَارٍ كَرِيمٍ مُقَامُهَا ... تُعَلّلُ فِيهَا بِالْكَرَامَةِ لَاهِيَا
تُلَاقِي خَلِيلَ اللّهِ فِيهَا وَلَمْ تَكُنْ ... مِنْ النّاسِ جَبّارًا إلَى النّار هَاوَيَا
وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيَا
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : يُرْوَى لِأُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ الْبَيْتَانِ
الْأَوّلَانِ مِنْهَا ، وَآخِرُهَا بَيْتًا فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَوْلُهُ
" أَوْثَانِ الطّوَاغِي " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
صِفّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ فِيمَا بَلَغَنِي عَمّا كَانَ وَضَعَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِيمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ فِي الْإِنْجِيلِ
لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِمّا أَثَبَتَ يُحَنّسُ الْحَوَارِيّ لَهُمْ حِينَ نَسَخَ
لَهُمْ الْإِنْجِيلَ عَنْ عَهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السّلَامُ [ ص 233 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ أَنّهُ
قَالَ مَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ الرّبّ وَلَوْلَا أَنّي صَنَعْت
بِحَضْرَتِهِمْ صَنَائِعَ لَمْ يَصْنَعْهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، مَا كَانَتْ
لَهُمْ خَطِيئَةٌ وَلَكِنْ مِنْ الْآنَ بَطِرُوا وَظَنّوا أَنّهُمْ
يَعِزّونَنِي ، وَأَيْضًا لِلرّبّ وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ أَنْ تَتِمّ
الْكَلِمَةُ الّتِي فِي النّامُوسِ أَنّهُمْ أَبْغَضُونِي مَجّانًا ، أَيْ
بَاطِلًا . فَلَوْ قَدْ جَاءَ الْمُنْحَمَنّا هَذَا الّذِي يُرْسِلُهُ
اللّهُ إلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ الرّبّ ( وَ ) رُوحُ الْقُدُسِ هَذَا الّذِي
مِنْ عِنْدَ الرّبّ خَرَجَ فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَيّ وَأَنْتُمْ أَيْضًا ،
لِأَنّكُمْ قَدِيمًا كُنْتُمْ مَعِي فِي هَذَا قُلْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا
لَا تَشْكُوَا . وَالْمُنْحَمَنّا ( بِالسّرْيَانِيّةِ ) : مُحَمّدٌ
وَهُوَ بِالرّومِيّةِ الْبَرْقَلِيطِسُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلّمَ .
مَبْعَثُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ وَكَافّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا ، وَكَانَ اللّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى قَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى كُلّ نَبِيّ بَعَثَهُ قَبْلَهُ
بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتّصْدِيقِ لَهُ وَالنّصْر لَهُ عَلَى مَنْ
خَالَفَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدّوا ذَلِكَ إلَى كُلّ مَنْ آمَنْ
بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ فَأَدّوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ
الْحَقّ فِيهِ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِمُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ [ ص 234 ] { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ
مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إِصْرِي } أَيْ ثِقَلَ مَا حَمّلْتُكُمْ مِنْ عَهْدِي { قَالُوا
أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ }
فَأَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ جَمِيعًا بِالتّصْدِيقِ لَهُ
وَالنّصْرِ لَهُ مِمّنْ خَالَفَهُ وَأَدّوْا ذَلِكَ إلَى مَنْ آمَنْ
بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ .
[ أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّؤْيَا الصّادِقَةُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ،
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا حَدّثَتْهُ أَنّ أَوّلَ مَا
بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
النّبُوّةِ حِين أَرَادَ اللّهُ كَرَامَتَهُ وَرَحْمَةَ الْعِبَادِ بِهِ
الرّؤْيَا الصّادِقَةُ لَا يَرَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ رُؤْيَا فِي نُوُمِهِ إلّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصّبْحِ قَالَتْ
وَحَبّبَ اللّهُ تَعَالَى إلَيْهِ الْخَلْوَةَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ
أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ .
[ تَسْلِيمُ الْحِجَارَةِ وَالشّجَرِ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ ، وَكَانَ
وَاعِيَةً عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَرَادَهُ اللّهُ بِكَرَامَتِهِ وَابْتَدَأَهُ
بِالنّبُوّةِ كَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتّى تَحَسّرَ
عَنْهُ الْبُيُوتُ وَيُفْضِي إلَى شِعَابِ مَكّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا
، فَلَا يَمُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحَجَرٍ
وَلَا شَجَرٍ إلّا قَالَ السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ
فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَوْلَهُ [ ص
235 ] فَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَلِكَ
يَرَى وَيَسْمَعُ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللّهِ وَهُوَ بِحِرَاءٍ
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
[ ابْتِدَاءُ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ
الزّبَيْرِ . قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ وَهُوَ
يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللّيْثَيّ حَدّثْنَا
يَا عُبَيْدُ ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوّةِ حِين جَاءَهُ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ ؟ قَالَ فَقَالَ عُبَيْدٌ - وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدّثُ
عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ النّاسِ - : كَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ
مِنْ كُلّ سَنَةٍ شَهْرًا ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا تَحَنّثَ بِهِ قُرَيْشٌ
فِي الْجَاهِلِيّةِ . وَالتّحَنّثُ التّبَرّزُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
[ بَحْثٌ لُغَوِيّ لِابْنِ هِشَامٍ فِي مَعْنَى التّحَنّثِ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : تَقُولُ الْعَرَبُ : التّحَنّثُ وَالتّحَنّفُ يُرِيدُونَ
الْحَنَفِيّةَ فَيُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ كَمَا قَالُوا :
جَدَثَ وَجَدَفَ يُرِيدُونَ الْقَبْرَ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ [
ص 236 ]
كان أحجاري مع الأجداف لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ
يُرِيدُ
الْأَجْدَاثَ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَبَيْتُ أَبِي
طَالِبٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي
مَوْضِعِهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ
الْعَرَبَ تَقُولُ فَم ، فِي مَوْضِعِ ثُمّ يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ
الثّاءِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ
قَالَ قَالَ عُبَيْدٌ : فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشّهْرَ مِنْ كُلّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ
جَاءَهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوّلُ مَا
يَبْدَأُ بِهِ إذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ الْكَعْبَةَ ، قَبْل أَنْ
يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا أَوْ مَا شَاءَ اللّهُ مِنْ
ذَلِكَ ثُمّ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ حَتّى إذَا كَانَ الشّهْرُ الّذِي
أَرَادَ اللّهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنْ
السّنَةِ الّتِي بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا ؛ وَذَلِكَ الشّهْرُ (
شَهْرُ ) رَمَضَانَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إلَى حِرَاءٍ ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ حَتّى
إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي أَكْرَمَهُ اللّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ
وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهَا ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ
بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ
فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ
فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ الْمَوْتُ ثُمّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ
اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت
أَنّهُ الْمَوْتُ ثُمّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت :
مَاذَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْتُ أَنّهُ [ ص 237 ]
أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ فَقُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ مَا
أَقُولُ ذَلِكَ إلّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا
صَنَعَ بِي ، فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ خَلَقَ
الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبّكَ الْأَكْرَمُ الّذِي عَلّمَ
بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } قَالَ فَقَرَأْتهَا
ثُمّ انْتَهَى فَانْصَرَفَ عَنّي وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا
كَتَبْتُ فِي قَلْبِي كِتَابًا . قَالَ فَخَرَجْتُ حَتّى إذَا كُنْتُ فِي
وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْت صَوْتًا مِنْ السّمَاءِ يَقُولُ يَا
مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ قَالَ فَرَفَعْت
رَأْسِي إلَى السّمَاءِ أَنْظُرُ فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ
صَافّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السّمَاءِ يَقُولُ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ
رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ . قَالَ فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ
فَمَا أَتَقَدّمُ وَمَا أَتَأَخّرُ وَجَعَلْت أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي
آفَاقِ السّمَاءِ قَالَ فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إلّا
رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدّمُ أَمَامِي وَمَا
أَرْجِعُ وَرَائِي حَتّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي ،
فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكّةَ وَرَجَعُوا إلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي
مَكَانِي ذَلِكَ ثُمّ انْصَرَفَ عَنّي
[ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُصّ عَلَى خَدِيجَةَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ مَعَهُ ]
وَانْصَرَفْتُ
رَاجِعًا إلَى أَهْلِي حَتّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْت إلَى فَخِذِهَا
مُضِيفًا إلَيْهَا : فَقَالَتْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَيْنَ كُنْتَ ؟
فَوَاَللّهِ لَقَدْ بَعَثَتْ رُسُلِي فِي طَلَبك حَتّى بَلَغُوا مَكّةَ [
ص 238 ] فَقَالَتْ أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمّ وَاثْبُتْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ
خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيّ هَذِهِ الْأُمّة
[ خَدِيجَةُ بَيْنَ يَدَيْ وَرَقَةَ تُحَدّثُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
ثُمّ
قَامَتْ فَجَمَعْت عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ، ثُمّ انْطَلَقْت إلَى وَرَقَةَ
بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْن قُصَيّ ، وَهُوَ
ابْنُ عَمّهَا ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ
وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، فَأَخْبَرْته بِمَا
أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
رَأَى وَسَمِعَ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : قُدّوسٌ قُدّوسٌ
وَاَلّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْتِ صَدّقْتِينِي يَا
خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي
مُوسَى ، وَإِنّهُ لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ
. فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَخْبَرْته بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، فَلَمّا قَضَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ
صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا ،
فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ
يَا ابْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ فَأَخْبَرَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ
وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَلَقَدْ
جَاءَك النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي جَاءَ مُوسَى وَلَتُكَذّبَنّهُ
وَلَتُؤْذَيَنّهُ وَلَتُخْرَجَنّهُ وَلَتُقَاتَلَنّهُ وَلَئِنْ أَنَا
أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنّ اللّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمّ
أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ .
[ امْتِحَانُ خَدِيجَةَ بُرْهَانَ الْوَحْيِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى آلِ
الزّبَيْرِ : أَنّهُ حُدّثَ [ ص 239 ] عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَيْ ابْنَ عَمّ أَتَسْتَطِيعُ أَنّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك هَذَا الّذِي
يَأْتِيك إذَا جَاءَك ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَتْ فَإِذَا جَاءَك
فَأَخْبِرْنِي بِهِ . فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا كَانَ
يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِخَدِيجَةَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي ، قَالَتْ قُمْ
يَا ابْنَ عَمّ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى ؛ قَالَ فَقَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَسَ عَلَيْهَا ،
قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ فَتُحَوّلْ فَاجْلِسْ عَلَى
فَخِذِي الْيُمْنَى ؛ قَالَتْ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتْ هَلْ
تَرَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَتْ فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي ،
قَالَتْ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا . قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ
فَتَحَسّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا ، ثُمّ قَالَتْ لَهُ هَلْ
تَرَاهُ ؟ قَالَ لَا ، قَالَتْ يَا ابْنَ عَمّ اُثْبُتْ وَأَبْشِرْ
فَوَاَللّهِ إنّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَقَدْ حَدّثْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ
قَدْ سَمِعْتُ أُمّي فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ تُحَدّثُ بِهَذَا
الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ إلّا أَنّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ أَدْخَلَتْ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
دِرْعِهَا ، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ هَذَا لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ
ابْتِدَاءُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَابْتُدِئَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالتّنْزِيلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ
وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ ص 240 ] وَقَالَ اللّهُ
تَعَالَى : { إنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ
مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
تَنَزّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ
أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى
: { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ
مُبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : {
إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } وَذَلِكَ مُلْتَقَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ
. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ
عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ
تَتَامّ الْوَحْيُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللّهِ مُصّدّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ قَدْ قَبِلَهُ
بِقَبُولِهِ وَتَحَمّلَ مِنْهُ مَا حَمَلَهُ عَلَى رِضَا الْعِبَادِ
وَسَخَطِهِمْ وَالنّبُوّةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا وَلَا
يَسْتَطِيعُ بِهَا إلّا أَهْلُ الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ
بِعَوْنِ اللّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ لَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ النّاسِ
وَمَا يُرَدّ عَلَيْهِمْ مِمّا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللّهِ سُبْحَانِهِ
وَتَعَالَى . قَالَ فَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى أَمْرِ اللّهِ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنْ
الْخِلَافِ وَالْأَذَى .
إسْلَامُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ
وَآمَنَتْ
بِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَصَدّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ
وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَتْ أَوّلَ مَنْ آمَنْ بِاَللّهِ
وَبِرَسُولِهِ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ . فَخَفّفَ اللّهُ بِذَلِكَ
عَنْ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمّا
يَكْرَهُهُ مِنْ رَدّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ إلّا
فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ بِهَا إذَا رَجَعَ إلَيْهَا ، تُثَبّتُهُ وَتُخَفّفُ
عَلَيْهِ وَتُصَدّقُهُ وَتُهَوّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النّاسِ رَحِمَهَا
اللّهُ تَعَالَى .
[ تَبْشِيرُ الرّسُولِ لِخَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ ]
[
ص 241 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ
أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُبَشّرَ خَدِيجَةَ
بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: الْقَصَبُ ( هَهُنَا ) : اللّؤْلُؤُ الْمُجَوّفُ .
[ جِبْرِيلُ يُقْرِئ خَدِيجَةَ السّلَامَ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ
أُقْرِئْ خَدِيجَةَ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك
السّلَامَ مِنْ رَبّك ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ
السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلِ السّلَامُ
[ فَتْرَةُ الْوَحْيِ وَنُزُولُ سُورَةِ الضّحَى ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتْرَةً مِنْ ذَلِكَ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِ
فَأَحْزَنَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الضّحَى ، يُقْسِمُ لَهُ
رَبّهُ وَهُوَ الّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مَا وَدّعَهُ
وَمَا قَلَاهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالضّحَى وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى مَا
وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَى } يَقُولُ مَا صَرَمَكَ فَتَرَكَك ، وَمَا
أَبْغَضَكَ مُنْذُ أَحَبّكَ . { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى
} أَيْ لِمَا عِنْدِي مِنْ مَرْجِعِك إلَيّ خَيْرٌ لَك مِمّا عَجّلْت لَك
مِنْ الْكَرَامَةِ فِي الدّنْيَا . { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ
فَتَرْضَى } مِنْ الْفُلْجِ فِي الدّنْيَا ، وَالثّوَابِ فِي الْآخِرَةِ .
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ
عَائِلًا فَأَغْنَى } يُعَرّفُهُ اللّه مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ مِنْ
كَرَامَتِهِ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَمَنّهِ عَلَيْهِ فِي يُتْمِهِ
وَعَيْلَتِهِ وَضَلَالَتِهِ وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ
بِرَحْمَتِهِ .
[ تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِمُفْرَدَاتِ سُورَةِ الضّحَى ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 242 ] قَالَ أُمّيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ :
إذْ أَتَى مَوْهِنَا وَقَدْ نَامَ صَحْبِي ... وَسَجَا اللّيْلُ بِالظّلَامِ الْبَهِيمِ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إذَا سَكَنَ طَرَفُهَا
: سَاجِيَةٌ وَسَجَا طَرَفُهَا : قَالَ جَرِيرُ ( بْنُ الْخَطَفَى ) :
وَلَقَدْ رَمَيْنَك حِينَ رُحْن بأعين ... يَقْتُلْنَ مِنْ خَلَلِ السّتُورِ سُوَاجِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ . قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
وَجَمْعُهُ
عَالَةٌ وَعَيْلٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا
فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْعَائِلُ ( أَيْضًا ) : الّذِي
يَعُولُ الْعِيَالَ . وَالْعَائِلُ ( أَيْضًا ) : الْخَائِفُ . وَفِي
كِتَابِ اللّه تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلّا تَعُولُوا } وَقَالَ
أَبُو طَالِبٍ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلٍ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي
مَوْضِعِهَا . وَالْعَائِلُ ( أَيْضًا ) : الشّيْءُ الْمُثْقَلُ الْمُعْي
. يَقُولُ الرّجُلُ قَدْ عَالَنِي هَذَا الْأَمْرُ أَيْ أَثْقَلَنِي
وَأَعْيَانِي قَالَ الْفَرَزْدَقُ : [ ص 243 ]
تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ
وَأَمّا السّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } أَيْ لَا تَكُنْ جَبّارًا وَلَا
مُتَكَبّرًا ، وَلَا فَحّاشًا فَظّا عَلَى الضّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ
اللّهِ . { وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } أَيْ بِمَا جَاءَك مِنْ
اللّهِ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ النّبُوّةِ فَحَدّثْ أَيْ
اُذْكُرْهَا وَادْعُ إلَيْهَا ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى
الْعِبَادِ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ سِرّا إلَى مَنْ يَطْمَئِنّ إلَيْهِ مِنْ
أَهْلِهِ .
ابْتِدَاءُ فَرْضِ الصّلَاةِ
وَافْتُرِضَتْ الصّلَاةُ
عَلَيْهِ فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَآلِهِ
وَالسّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
[ اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ زِيدَتْ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ اُفْتُرِضَتْ
الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلَ
مَا اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كُلّ صَلَاةٍ ثُمّ
إنّ اللّهَ تَعَالَى أَتَمّهَا فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَأَقَرّهَا فِي
السّفَرِ عَلَى فَرْضِهَا الْأَوّلِ رَكْعَتَيْنِ
[ تَعْلِيمُ جِبْرِيلَ الرّسُولَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوُضُوءَ وَالصّلَاةَ ]
[
ص 244 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ
الصّلَاةَ حِينَ اُفْتُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَهَمَزَ لَهُ
بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ
فَتَوَضّأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطّهُورُ
لِلصّلَاةِ ثُمّ تَوَضّأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَمَا رَأَى جِبْرِيلَ تَوَضّأَ ثُمّ قَامَ بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّى بِهِ
وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَلَاتِهِ ثُمّ
انْصَرَفَ جِبْرِيلُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ تَعْلِيمُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ الْوُضُوءَ وَالصّلَاةَ ]
فَجَاءَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ ، فَتَوَضّأَ
لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ
فَتَوَضّأَتْ كَمَا تَوَضّأَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ
وَالسّلَامُ ثُمّ صَلّى بِهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ
وَالسّلَامُ كَمَا صَلّى بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّتْ بِصَلَاتِهِ .
[ تَعْيِينُ جِبْرِيلَ أَوْقَاتَ الصّلَاةِ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
[
ص 245 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ
مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ،
وَكَانَ نَافِعُ كَثِيرَ الرّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَمّا
اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ
حِينَ مَالَتْ الشّمْسُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلّهُ
مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِين غَابَتْ الشّمْسُ ثُمّ صَلّى
بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِين ذَهَبَ الشّفَقُ ثُمّ صَلّى بِهِ
الصّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ثُمّ جَاءَهُ فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ مِنْ
غَدٍ حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ
ظِلّهُ مِثْلِيّهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِين غَابَتْ الشّمْسُ
لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ
ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ الْأَوّلُ ثُمّ صَلّى بِهِ الصّبْحَ مُسْفِرًا
غَيْرَ مُشْرِقٍ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ الصّلَاةُ فِيمَا بَيْنَ
صَلَاتِك الْيَوْمَ وَصَلَاتِك بِالْأَمْسِ .
ذِكْرُ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَوّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ كَانَ أَوّلَ ذَكَرٍ مِنْ النّاسِ آمَنَ بِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَلّى مَعَهُ وَصَدّقَ بِمَا
جَاءَهُ مِنْ اللّهِ تَعَالَى : عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، رِضْوَانُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ
يَوْمئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ .
[ نَشَأَتْهُ فِي حِجْرِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَبَبُ ذَلِكَ ]
وَكَانَ
مِمّا أَنْعَمَ اللّهُ ( بِهِ ) عَلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . [ ص 246 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهَدِ بْنِ
جَبْرٍ أَبِي الْحَجّاجِ قَالَ كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَى عَلِيّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَمِمّا صَنَعَ اللّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِهِ مِنْ
الْخَيْرِ أَنّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ أَبُو
طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ : فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْعَبّاسِ عَمّهِ وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي
هَاشِمٍ يَا عَبّاسُ إنّ أَخَاك أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ
أَصَابَ النّاسَ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ فَانْطَلِقْ بِنَا
إلَيْهِ فَلْنُخَفّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلًا ،
وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلًا ، فَنَكِلُهُمَا عَنْهُ فَقَالَ الْعَبّاسُ
نَعَمْ . فَانْطَلَقَا حَتّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ فَقَالَا لَهُ إنّا
نُرِيدُ أَنْ نُخَفّفَ عَنْك مِنْ عِيَالِك حَتّى يَنْكَشِفَ عَنْ النّاسِ
مَا هُمْ فِيهِ فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ إذَا تَرَكْتُمَا لِي
عَقِيلًا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال :
عَقِيلًا وَطَالِبًا . فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلِيّا ، فَضَمّهُ إلَيْهِ وَأَخَذَ الْعَبّاسُ جَعْفَرًا
فَضَمّهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلِيّ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيّا ،
فَاتّبَعَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَآمَنَ بِهِ وَصَدّقَهُ وَلَمْ
يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبّاسِ حَتّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ .
[
خُرُوجُ عَلِيّ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
شِعَابِ مَكّةَ يُصَلّيَانِ وَوُقُوفُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَمْرِهِمَا ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصّلَاةُ خَرَجَ
إلَى شِعَابِ مَكّةَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ . وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ
وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُصَلّيَانِ الصّلَوَاتِ فِيهَا ، [ ص 247 ] شَاءَ
اللّهُ أَنْ يَمْكُثَا . ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا
يَوْمًا وَهُمَا يُصَلّيَانِ فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا ابْنَ أَخِي مَا هَذَا الدّينُ الّذِي أَرَاك
تَدِينُ بِهِ ؟ قَالَ أَيْ عَمّ هَذَا دِينُ اللّهِ ، وَدِينُ
مَلَائِكَتِهِ وَدِينُ رُسُلِهِ وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ - أَوْ
كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ
رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ وَأَنْتَ أَيْ عَمّ أَحَقّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ
النّصِيحَةَ وَدَعَوْته إلَى الْهُدَى ، وَأَحَقّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ
وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالَ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَيْ ابْنَ
أَخِي ، إنّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا
عَلَيْهِ وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا يَخْلُصُ إلَيْك بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا
بَقِيتُ وَذَكَرُوا أَنّهُ قَالَ لِعَلِيّ أَيْ بُنَيّ مَا هَذَا الدّينُ
الّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ يَا أَبَتِ آمَنْتُ بِاَللّهِ
وَبِرَسُولِ اللّهِ وَصَدّقْته بِمَا جَاءَ بِهِ وَصَلّيْت مَعَهُ لِلّهِ
وَاتّبَعْته . فَزَعَمُوا أَنّهُ قَالَ لَهُ أَمَا إنّهُ لَمْ يَدْعُك
إلّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ .
إسْلَامُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ثَانِيًا
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شُرَحْبِيلَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ الْكَلْبِيّ
مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَوّلَ
ذَكَرٍ أَسْلَمَ ، وَصَلّى بَعْدَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .
[ نَسَبُهُ وَسَبَبُ تَبَنّي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ النّعْمَانِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ عَوْفِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ
بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللّاتِي بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ
ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ
خُوَيْلِدٍ قَدِمَ مِنْ الشّامِ بِرَقِيقٍ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ
وَصِيفٌ [ ص 248 ] خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ عِنْدَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهَا : اخْتَارِي
يَا عَمّةُ أَيّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ شِئْتِ فَهُوَ لَك ؛ فَاخْتَارَتْ
زَيْدًا فَأَخَذَتْهُ فَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عِنْدَهَا ، فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا ، فَوَهَبَتْهُ لَهُ
فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَبَنّاهُ
وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ .
[ شِعْرُ حَارِثَةَ حِينَ
فَقَدْ ابْنَهُ زَيْدًا وَقُدُومُهُ عَلَى الرّسُولِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُهُ رَدّهُ عَلَيْهِ ]
وَكَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ قَدْ جَزِعَ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا ، وَبَكَى عَلَيْهِ حِينَ فَقَدَهُ فَقَالَ
بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ ... أَحَيّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ
فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي وَإِنّي لَسَائِلٌ ... أَغَالَكَ بَعْدِي السّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ
وَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَك الدّهْرُ أَوْبَةٌ ... فَحَسْبِي مِنْ الدّنْيَا رُجُوعُك لِي بَجَلْ
تُذَكّرْنِيهِ الشّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتَعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ
وَإِنْ هَبّتْ الْأَرْوَاحُ هَيّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلَا أُسْأَمُ التّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيّ مَنِيّتِي ... فَكُلّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ الْأَمَلُ
ثُمّ
قَدِمَ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ
شِئْتَ فَأَقِمْ عِنْدِي ، وَإِنْ شِئْت فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيك ،
فَقَالَ بَلْ أُقِيمُ عِنْدَك . فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ فَصَدّقَهُ
وَأَسْلَمَ ، [ ص 249 ] وَصَلّى مَعَهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ
وَجَلّ { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } قَالَ أَنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ .
إسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَشَأْنُهُ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ ،
وَاسْمُهُ عَتِيقٌ وَاسْمُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ
أَبِي بَكْرٍ : عَبْدُ اللّهِ وَعَتِيقٌ لَقَبٌ لِحَسَنٍ وَجْهُهُ
وَعِتْقُهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ إسْلَامَهُ وَدَعَا إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ
. [ ص 250 ] وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ مُحَبّبًا
سَهْلًا ، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ
بِهَا ، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرّ وَكَانَ رَجُلًا
تَاجِرًا ، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ
وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ
وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللّهِ
وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمّنْ يَغْشَاهُ
وَيَجْلِسُ إلَيْهِ .
ذِكْرُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الصّحَابَةِ بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ إسْلَامُ عُثْمَانَ وَالزّبِيرِ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ وَسَعْدٍ وَطَلْحَةَ ]
قَالَ
فَأَسْلَمَ بِدُعَائِهِ - فِيمَا بَلَغَنِي - عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ
بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ
غَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ . [ ص 251 ] وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ
بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَاسْمُ أَبِي وَقّاصٍ
مَالِكُ بْنُ أُهَيْبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ مُرّةَ
بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَطَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ
بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ فَجَاءَ بِهِمْ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 252 ] وَصَلّوْا .
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ فِيمَا
بَلَغَنِي : مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إلَى الْإِسْلَامِ إلّا كَانَتْ فِيهِ
عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَنَظَرٌ وَتَرَدّدٌ إلّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي قُحَافَةَ مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ وَمَا
تَرَدّدَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بِدُعَائِهِ " عَنْ
غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ عَكَمَ تَلَبّثَ
قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَانْصَاعَ وَثّابٌ بِهَا وَمَا عَكَمَ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ هَؤُلَاءِ النّفَرُ الثّمَانِيَةُ الّذِينَ
سَبَقُوا النّاسَ بِالْإِسْلَامِ فَصَلّوْا وَصَدّقُوا رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ .
[ إسْلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَبِي سَلَمَةَ وَالْأَرْقَمِ وَأَبْنَاءِ مَظْعُونٍ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَامْرَأَتِهِ وَأَسْمَاءَ وَعَائِشَةَ وَخَبّابٍ ] ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْب بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَبُو سَلَمَةُ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ [ ص 253 ] وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ . وَاسْمُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدُ مَنَافِ بْنِ أَسَدٍ - وَكَانَ أَسَدٌ يُكَنّى أَبَا جُنْدُبِ - بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَخَوَاهُ قَدَامَةُ وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ . وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ [ ص 254 ] بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاح بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ؛ وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاح بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ . وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ . وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ صَغِيرَةٌ . وَخَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَيُقَالُ هُوَ مِنْ خُزَاعَةَ .
[ إسْلَامُ عُمَيْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الْقَارّيّ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، أَخُو سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقّاصٍ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ . [ ص 255 ] وَمَسْعُودُ بْنُ
الْقَارّيّ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ
بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حَمَالَةَ بْنِ غَالِبِ بْنِ مُحَلّمِ بْنِ
عَائِذَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ الْقَارّةِ .
[ شَيْءٌ عَنْ الْقَارّةِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالْقَارّةُ : لَقَبٌ ( لَهُمْ ) وَلَهُمْ يُقَالُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارّةَ مَنْ رَامَاهَا
وَكَانُوا قَوْمًا رُمَاةً .
[ إسْلَامُ سَلِيطٍ وَأَخِيهِ وَعَيّاشٍ وَامْرَأَتِهِ وَخُنَيْسٍ ، وَعَامِرٍ ]
[
ص 256 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ( حِسْلِ بْنِ )
عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : ( وَأَخُوهُ حَاطِبُ بْنُ
عَمْرٍو ) وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ أَسَمَاءُ بِنْتُ سَلَامَةَ بْنِ مُخَرّبَةِ
التّمِيمِيّةُ . وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ
سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعَامِرُ
بْنُ رَبِيعَةَ ، [ ص 257 ] عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ ، حَلِيفُ آلِ الْخَطّابِ
بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنْزُ بْنُ
وَائِلِ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، مِنْ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ .
[
إسْلَامُ ابْنَيْ جَحْشٍ وَجَعْفَرٍ وَامْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِ الْحَارِثِ
وَنِسَائِهِمْ وَالسّائِبِ وَالْمُطّلِبِ وَامْرَأَتِهِ ]
قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ
صَبِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ
بْنِ خُزَيْمَةَ . وَأَخُوهُ أَبُو أَحَمْدَ بْنُ جَحْشٍ ، حَلِيفَا بَنِي
أُمّيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ . وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؛
وَامْرَأَتُهُ أَسَمَاءُ بِنْتُ عُمَيْس بْنِ النّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ ، مِنْ خَثْعَمَ : وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ بْنِ
[ ص 258 ] عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ [ ص 258 ]
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلّلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ وَأَخُوهُ حَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ ؛
وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ . وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالسّائِبُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبٍ . وَالْمُطّلَبُ بْنُ
أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ
بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ
رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَة بْنِ سَعِيدِ ( بْنِ سَعْدِ
) بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
وَالنّحّامُ ، وَاسْمُهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيد ، أَخُو
بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
[ إسْلَامُ نُعَيْمٍ وَنَسَبُهُ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيد بْنِ
عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْد [ ص 259 ] عَوِيجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ وَإِنّمَا سُمّيَ النّحّامَ ، لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَقَدْ سَمِعْت نَحْمَهُ فِي الْجَنّةِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَحْمُهُ صَوْتُهُ . ( وَنَحْمُهُ ) : حِسّهُ .
[ إسْلَامُ عَامِرِ بْنِ فَهَيْرَةَ وَنَسَبُهُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ
الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَامِرُ بْنُ
فُهَيْرَةَ مُوَلّدٌ مِنْ مُوَلّدِي الْأَسْدِ أَسْوَدُ اشْتَرَاهُ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْهُمْ .
[ إسْلَامُ خَالِدِ بْنِ سَعِيد ٍ وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّة َ
بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ
مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ؛ وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ
بْنِ أَسَعْدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ
بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ .
[ إسْلَامُ حَاطِبٍ وَأَبِي حُذَيْفَةَ وَإِسْلَامُ وَاقِدٍ وَشَيْءٌ عَنْهُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِبْنِ عَبْدِ
وُدّ بْنِ نَصْرِ [ ص 260 ] مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ
بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ وَأَبُو حُذَيْفَةَ ، وَاسْمُهُ مهشم - فِيمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ . وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِبْنِ
عَرِينَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْن يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : جَاءَتْ بِهِ بَاهِلَةُ ، فَبَاعُوهُ مِنْ الْخَطّابِ
بْنِ نُفَيْلٍ ، فَتَبَنّاهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : {
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } قَالَ أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ،
فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ .
[ إسْلَامُ بَنِي الْبَكِيرِ وَعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدٌ وَعَامِرٌ وَعَاقِلٌ وَإِيَاسٌ بَنُو
الْبَكِيرِ [ ص 261 ] ابْنِ عَبْدِ ياليل بْنِ نَاشِبِ بْنِ غَيْرَةَ بْنِ
سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةِ بْنِ كِنَانَةِ
حَلْفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، حَلِيفُ
بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمّارُ بْنُ
يَاسِرٍ عَنْسِيّ مِنْ مَذْحِج .
[ إسْلَامُ صُهَيْبٍ وَنَسَبُهُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ ، أَحَدُ النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ
، حَلِيفُ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّمِرُ
بْنُ قَاسِطِ بْنِ هِنْبٍ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ وَيُقَالُ أَفْصَى بْنُ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ
بْنِ أَسَدٍ ، وَيُقَالُ صُهَيْبٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ
بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ [ ص 262 ] وَيُقَالُ
إنّهُ رُومِيّ . فَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَكَرَ أَنّهُ مِنْ النّمِرِ بْنِ
قَاسِطٍ ، إنّمَا كَانَ أَسِيرًا فِي أَرْضِ الرّومِ ، فَاشْتُرِيَ
مِنْهُمْ . وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ صُهَيْبٌ سَابِقُ الرّومِ
مُبَادَاةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ وَمَا كَانَ مِنْهُمْ
[ أَمْرُ اللّهِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمُبَادَاةِ قَوْمِهِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا مِنْ
الرّجَالِ وَالنّسَاءِ حَتّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكّةَ
وَتُحَدّثَ بِهِ . ثُمّ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ وَأَنْ
يُبَادِيَ النّاسَ بِأَمْرِهِ وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ وَكَانَ بَيْنَ مَا
أَخْفَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْرَهُ
وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ
ثَلَاثَ سِنِينَ - فِيمَا بَلَغَنِي - مِنْ مَبْعَثِهِ ثُمّ قَالَ اللّهُ
تَعَالَى لَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
} [ ص 263 ] وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَقُلْ
إِنّي أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ }
[ تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : اصْدَعْ اُفْرُقْ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِلِ . قَالَ
أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ يَصِفُ
أُتُنَ وَحْشٍ وَفَحْلَهَا :
وَكَأَنّهُنّ رِبَابَةٌ وَكَأَنّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ
أَيْ
يُفَرّقُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيُبَيّنُ أَنْصِبَاءَهَا . وَهَذَا الْبَيْتُ
فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ
أَنْتَ الْحَلِيمُ وَالْأَمِيرُ الْمُنْتَقِمُ ... تَصْدَعُ بِالْحَقّ وَتَنْفِي مَنْ ظَلِمْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ .
[ خُرُوجُ الرّسُولِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَصْحَابِهِ إلَى شِعَابِ مَكّةَ وَمَا فَعَلَهُ سَعْدٌ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إذَا صَلّوْا ، ذَهَبُوا فِي الشّعَابِ فَاسْتَخْفَوْا
بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِي
نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكّةَ ، إذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلّونَ فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا
يَصْنَعُونَ حَتّى قَاتَلُوهُمْ فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ
يَوْمَئِذٍ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجّهُ
فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ .
[ إظْهَارُ قَوْمِهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَدَاوَةَ لَهُ وَحَدَبُ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ ]
[
ص 264 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بَهْ كَمَا
أَمَرَهُ اللّهُ لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ وَلَمْ يَرُدّوا عَلَيْهِ
- فِيمَا بَلَغَنِي - حَتّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا ؛ فَلَمّا
فَعَلَ ذَلِك أَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ
وَعَدَاوَتَهُ إلّا مَنْ عَصَمَ اللّه تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ
وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ وَحَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ
وَمَضَى رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَمْرِ اللّهِ
مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ لَا يَرُدّهُ عَنْهُ شَيْءٌ . فَلَمّا رَأَتْ
قُرَيْشٌ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا
يَعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ
آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا أَنّ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ
وَقَامَ دُونَهُ فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ
قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ . وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ
بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ
كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرٌ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ وَاسْمُهُ الْعَاصِ بْنُ هِشَامِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ
بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو
الْبَخْتَرِيّ الْعَاصِ بْنُ هَاشِمٍ . [ ص 265 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ
قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَبُو
جَهْلٍ - وَاسْمُهُ عَمْرٌو ، وَكَانَ يُكَنّى أَبَا الْحَكَمِ - بْنَ
هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ
بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ
يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ
ابْنَا الْحَجّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ هَصِيص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْعَاصِ بْنُ
وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هَصِيص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
[ وَفْدُ قُرَيْشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ فِي شَأْنِ الرّسُولِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ . فَقَالُوا : يَا أَبَا
طَالِبٍ إنّ ابْنَ أَخِيك قَدْ سَبّ آلِهَتَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ،
وَسَفّهُ أَحْلَامَنَا ، وَضَلّلَ آبَاءَنَا ؛ فَإِمّا أَنْ تَكُفّهُ
عَنّا ، وَإِمّا أَنّ تُخِلّي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنّك عَلَى مِثْلِ
مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو
طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا ، وَرَدّهُمْ رَدّا جَمِيلًا ، فَانْصَرَفُوا
عَنْهُ .
[ اسْتِمْرَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي دَعْوَتِهِ وَرُجُوعُ وَفْدِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ ثَانِيَةً ]
وَمَضَى
رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ
يُظْهِرُ دِينَ اللّهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ ثُمّ شَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ حَتّى تَبَاعَدَ الرّجَالُ وَتَضَاغَنُوا ، وَأَكْثَرَتْ
قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهَا
، فَتَذَامَرُوا فِيهِ وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمّ إنّهُمْ
مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا
طَالِبٍ إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا ، وَإِنّا قَدْ
اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا ، وَإِنّا
وَاَللّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ
أَحْلَامِنَا ، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا ، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا ، أَوْ
نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي ذَلِكَ حَتّى يَهْلِكَ أَحَدُ [ ص 266 ]
قَالُوا لَهُ . ( ثُمّ ) انْصَرَفُوا عَنْهُ فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ
فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ
رَسُول اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ وَلَا خِذْلَانِهِ .
[ طَلَبُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الرّسُولِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَفّ عَنْ الدّعْوَةِ وَجَوَابُهُ لَهُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي
طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي ، إنّ قَوْمَك قَدْ
جَاءُونِي ، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ
فَأَبْقِ عَلَيّ وَعَلَى نَفْسِك ، وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا
لَا أُطِيقُ قَالَ فَظَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّهُ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ فِيهِ بَدَاءٌ أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ
وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ . قَالَ
فَقَالَ رَسُول اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَمّ ، وَاَللّهِ
لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى
أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ
فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو
طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي ، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ
أَخِي ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمُك لِشَيْءِ
أَبَدًا .
[ مَشْيُ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ ثَالِثَةً بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيّ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا حَيْن عَرَفُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ
قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ
مَشَوْا إلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ،
فَقَالُوا لَهُ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ [
ص 267 ] قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ فَلَك عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ
وَاِتّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَك ، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابْنَ أَخِيك
هَذَا ، الّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَك وَدِينَ آبَائِك ، وَفَرّقَ جَمَاعَةَ
قَوْمِك ، وَسَفّهُ أَحْلَامَهُمْ فَنَقْتُلَهُ فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ
بِرَجُلِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي أَتُعْطُونَنِي
ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ هَذَا
وَاَللّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا . قَالَ فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ
عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : وَاَللّهِ يَا
أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك ، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلّصِ
مِمّا تَكْرَهُهُ فَمَا أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا ؛
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ وَاَللّهِ مَا أَنْصَفُونِي ،
وَلَكِنّك قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيّ
فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك ، أَوْ كَمَا قَالَ . فَحَقَبَ الْأَمْرُ
وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا .
[ شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي التّعْرِيضِ بِالْمُطْعِمِ وَمَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ]
فَقَالَ
أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ يُعَرّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ وَيَعُمّ
مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ
قُرَيْشٍ ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ [ ص
268 ]
أَلَاقُلْ لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يَرُشّ عَلَى السّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ
تَخَلّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقِ ... إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمّنَا ... إذَا سُئِلَا قَالَا إلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجَمَا ... كَمَا جُرْجِمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقِ الصّخْرِ
أَخُصّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا ... فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفّهُمَا صِفْرُ
هُمَا أَشْرَكَا فِي الْمَجْدِ مَنْ لَا أَبَا لَهُ ... مِنْ النّاسِ إلّا أَنْ يُرَسّ لَهُ ذِكْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ ... وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إذَا بُغِيَ النّصْرُ
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ مِنّا عَدَاوَةٌ ... وَلَا مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ
فَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ ... وكانوا كَجَفْر بئس ما صنعت جَفْر
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا .
[ ذِكْرُ مَا فَتَنَتْ بَهْ قُرَيْشٌ الْمُؤْمِنِينَ وَعَذّبَتْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ
فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ [ ص 269 ] صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ فَوَثَبَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ عَلَى
مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعَذّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ
دِينِهِمْ وَمَنَعَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْهُمْ بِعَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ حِينَ رَأَى
قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ
الْمُطّلِبِ فَدَعَاهُمْ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْقِيَامِ دُونَهُ فَاجْتَمَعُوا
إلَيْهِ . وَقَامُوا مَعَهُ وَأَجَابُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ إلّا
مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ الْمَلْعُونِ .
[ شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي مَدْحِ قَوْمِهِ لِحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ ]
فَلَمّا
رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرّهُ فِي جَهْدِهِمْ مَعَهُ
وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ قَدِيمَهُمْ
وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِمْ
وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ لِيَشُدّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ وَلِيَحْدَبُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرِهِ فَقَالَ
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا وَصَمِيمُهَا
وَإِنْ حَصَلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا ... فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنّ مُحَمّدًا ... هُوَ الْمُصْطَفَى مَنْ سِرّهَا وَكَرِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثّهَا وَسَمِينُهَا ... عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلّ يَوْمٍ كَرِيهَةً ... وَنَضْرِبُ عَنْ أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذّوَاءُ وَإِنّمَا ... بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى وَتَنْمَى أُرُومُهَا
تَحَيّرُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِيمَا يَصِفُ بِهِ الْقُرْآنَ
[
اجْتِمَاعُهُ بِنَفَرِ مِنْ قُرَيْشٍ لِيَبِيتُوا ضِدّ النّبِيّ صَلّى
اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاتّفَاقُ قُرَيْشٍ أَنْ يَصِفُوا الرّسُولَ
صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّاحِرِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ
] [ ص 270 ] الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ
قُرَيْشٍ ، وَكَانَ ذَا سِنّيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ فَقَالَ
لَهُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ
وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا
بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا ،
وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيُكَذّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ
بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ قَالُوا : فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ، فَقُلْ
وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا
أَسْمَعْ قَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ
بِكَاهِنِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ
الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ مَجْنُونٌ قَالَ مَا هُوَ
بِمَجْنُونِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ
بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ
شَاعِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرِ لَقَدْ عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلّهُ
رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ
بِالشّعْرِ قَالُوا : فَنَقُولُ سَاحِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرِ لَقَدْ
رَأَيْنَا السّحّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا
عَقْدِهِمْ قَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قَالَ
وَاَللّهِ إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً ، وَإِنّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ وَإِنّ
فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال لَغَدِقٌ - وَمَا
أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلّا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ
وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا سَاحِرٌ جَاءَ بِقَوْلٍ
هُوَ سِحْرٌ يُفَرّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ
وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ [ ص 271 ] وَعَشِيرَتِهِ . فَتُفَرّقُوا
عَنْهُ بِذَلِكَ فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النّاسِ حِينَ قَدِمُوا
الْمَوْسِمَ لَا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلّا حَذّرُوهُ إيّاهُ وَذَكَرُوا
لَهُمْ أَمْرَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا
وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلّا إِنّهُ
كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } أَيْ خَصِيمًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
عَنِيدٌ مُعَانِدٌ مُخَالِفٌ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَنَحْنُ
ضَرّابُونَ رَأْسَ الْعُنّدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ .
{ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ
ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ نَظَرَ ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ } قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : بَسَرَ كَرّهَ وَجْهَهُ . قَالَ الْعَجّاجُ مُضَبّرُ
اللّحْيَيْنِ بَسْرًا مِنْهَسَا
يَصِفُ كَرَاهِيَةَ وَجْهِهِ . وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ { ثُمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ
إِنْ هَذَا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلّا قَوْلُ الْبَشَرِ }
[ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي النّفَرِ الّذِينَ كَانُوا مَعَ الْمُغِيرَةِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : فِي النّفَرِ الّذِينَ
كَانُوا مَعَهُ يُصَنّفُونَ الْقَوْلَ [ ص 272 ] صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ تَعَالَى : { كَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبّكَ
لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَاحِدَةُ الْعِضِينَ عِضَةٌ يَقُولُ عَضّوْهُ فَرّقُوهُ .
قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَلَيْسَ دِينُ اللّهِ بِالْمُعَضّى
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ .
[ تَفَرّقُ النّفَرِ فِي قُرَيْشٍ يُشَوّهُونَ رِسَالَةَ الرّسُولِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَعَلَ أُولَئِكَ النّفَرُ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَنْ لَقُوا مِنْ النّاسِ
وَصَدَرَتْ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ فِي بِلَادِ
الْعَرَبِ كُلّهَا .
[ شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ فِي اسْتِعْطَافِ قُرَيْشٍ ]
فَلَمّا
خَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ
قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي تَعَوّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكّةَ وَبِمَكَانِهِ
مِنْهَا ، وَتَوَدّدَ فِيهَا أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ
يُخْبِرُهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِ أَنّهُ غَيْرُ
مُسْلِمٍ رَسُولَ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا تَارِكُهُ
لِشَيْءِ أَبَدًا حَتّى يَهْلِكَ دُونَهُ فَقَالَ [ ص 273 ]
وَلَمّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدّ فِيهِمْ ... وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى ... وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوّ الْمُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً ... يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالْأَنَامِلِ
صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ ... وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي ... وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابهِ بِالْوَصَائِلِ
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ ... لُدًى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافٍ وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصَرَاتُهَا ... مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِلِ
تَرَى الْوَدْعَ فِيهَا وَالرّخَامَ وَزِينَةً ... بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةٌ كَالْعَثَاكِلِ
أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ ... وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ حَقّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ ... وَبِاَللّهِ إنّ اللّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ ... إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالْأَصَائِلِ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
[ ص 274 ] [ ص 275 ] [ ص 276 ]
وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا ... وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثُلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللّهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ ... وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ ... إلَالٌ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ الْقَوَابِلِ
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيّةً ... يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى ... وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ
وَجَمْعٍ إذَا مَا الْمُقْرَبَاتِ أَجَزْنَهُ ... سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا ... يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ
وَكِنْدَةُ إذَا هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيّةً ... تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ
حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا احْتَلَفَا لَهُ ... وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الْوَسَائِلِ
وَحَطْمِهِمْ سُمْرَ الصّفَاحِ وَسَرْحُهُ ... وَشَبْرِقَهٌ وَخْدَ النّعَامِ الْجَوَافِلِ
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مُعَاذٍ لِعَائِذٍ ... وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللّهَ عَاذِلِ
يُطَاعُ بِنَا الْعُدّى وَوَدّوا لَوْ انّنَا ... تُسَدّ بِنّا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نَتْرُكُ مَكّةَ ... وَنَظْعَنُ إلّا أَمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نُبْزَى مُحَمّدًا ... وَلَمّا نُطَاعِنُ دُونَهُ وَنُنَاضِلْ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصَرّعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ إلِيْكُمُ ... نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلَاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ ... مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ
وَإِنّا لَعَمْرُ اللّهِ إنْ جَدّ مَا أَرَى ... لَتَلْتَبِسَنّ أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ
بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعِ ... أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلًا مُجَرّمًا ... عَلَيْنَا وَتَأْتِي حَجّةٌ بَعْدَ قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لَا أَبَا لَك ، سَيّدًا ... يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلّافُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاصِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أُسَيْدٌ وَبِكْرُهُ ... إلَى بُغْضِنَا وَجَزّآنَا لِآكُلْ
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ ... وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا وَابْنَ عَبْدِ يُغِوثْهُمْ ... وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ
[ ص 277 ] [ ص 278 ]
لَقِينَا
مِنْ سبيع ونوفل21548"id="الشعر" > كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ
وَنَوْفَلٍ ... وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلْ
فَإِنْ يُلْقِيَا أَوْ يُمْكِنْ اللّهُ مِنْهُمَا ... نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ الْمُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا ... لِيَظْعَنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ ... فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍو بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلَى لَنَا بِاَللّهِ مَا إنْ يَغُشّنَا ... بَلَى قَدْ نَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ ... مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمُجَادِلِ
وَسَائِلْ أَبَا الْوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتَنَا ... بِسَعْيِكَ فِينَا مُعْرِضًا كَالْمُخَاتِلِ
وَكُنْتَ امْرَأً مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ ... وَرَحْمَتُهُ فِينَا وَلَسْتَ بِجَاهِلِ
فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ ... حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا ... كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ الْمَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ ... وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْتُ عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنّهُ ... شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمٍ نَجْدَةٍ ... وَلَا مُعْظِمٍ عِنْدَ الْأُمُورِ الْجَلَائِلِ
وَلَا يَوْمَ خَصْمٍ إذَا أَتَوْك أَلِدّةً ... أُولِي جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ الْمَسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ الْقَوْمَ سَامُوك خُطّةً ... وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْتُ بِوَائِلِ
جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ عَائِلٍ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... وَآلِ قُصَيّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا ... عَلَيْنَا الْعِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلٍ
فَعَبْدُ مَنَافٍ أَنْتُمْ خَيْرُ قَوْمِكُمْ ... فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمْ وَعَجَزْتُمْ ... وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثًا حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ ... الْآنَ حِطَابُ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ
لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا ... وَخِذْلَانُنَا وَتَرْكُنَا فِي الْمَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ ... وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ حُلَاحِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى ... وَأَلْأَمُ حَافٍ مِنْ مَعَدّ وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا ... وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا بِالتّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلًا قُصَيّا عَظِيمَةٌ ... إذًا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي الْمَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ ... لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ الْمَطَافِلِ
فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ ... لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ
[ ص 279 ] [ ص 280 ]
سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرّةٍ ... بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ خَاذِلِ
وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ ... وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهِمْ ... وَنَحْنُ الْكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالْكَوَاهِلِ
شَبَابٌ مِنْ الْمُطَيّبِينَ وَهَاشِمٍ ... كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا ... وَلَا حَالَفُوا إلّا شِرَارَ الْقَبَائِلِ
بِضَرْبٍ تَرَى الْفِتْيَانَ فِيهِ كَأَنّهُمْ ... ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ
بَنِي أَمَةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكِيّةٍ ... بَنِي جُمَحٍ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ
وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةٍ ... بِهِمْ نُعِيَ الْأَقْوَامُ عِنْدَ الْبَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنِ أُخْتِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ ... زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمّ مِنْ الشّمّ الْبَهَالِيلِ يَنْتَمِي ... إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ الْمَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كُلّفْتُ وَجْدًا بِأَحْمَدَ ... وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ الْمُحِبّ الْمُوَاصِلِ
فَلَا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا ... وَزِيَنًا لِمَنْ وَالَاهُ رَبّ الْمَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاس أَيّ مُؤَمّلٍ ... إذَا قَاسَهُ الْحُكّامُ عِنْدَ التّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ ... يُوَالِي إلَاهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ
فَوَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُنّةٍ ... تَجُرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ
لَكِنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ ... مِنْ الدّهْرِ جِدّا غَيْرَ قَوْلِ التّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لَا مُكَذّبٌ ... لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحَمْدٌ فِي أَرُومَةٍ ... تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ
حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ ... وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذّرَا وَالْكَلَاكِلِ
فَأَيّدَهُ رَبّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ ... وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ بَاطِلِ
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ ... إلَى الْخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ الْمَحَاصِلِ
فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبَةً ... فَلَا بُدّ يَوْمًا مَرّةً مِنْ تَزَايُلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لِي مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَة ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ أَكْثَرَهَا .
[
دَعَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلنّاسِ حِين أَقْحَطُوا ،
فَنَزَلَ الْمَطَرُ وَوَدّ لَوْ أَنّ أَبَا طَالِبٍ حَيّ ، فَرَأَى ذَلِكَ
]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ [ ص 281 ]
أَقْحَطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللّه صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ فَصَعِدَ رَسُولُ اللّه صَلّى
اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَسْقَى ، فَمَا لَبِثَ أَنْ
جَاءَ مِنْ الْمَطَرِ مَا أَتَاهُ أَهْلُ الضّوَاحِي يَشْكُونَ مِنْهُ
الْغَرَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ
حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، فَانْجَابَ السّحَابُ عَنْ الْمَدِينَةِ
فَصَارَ حَوَالَيْهَا كَالْإِكْلِيلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْيَوْمَ لَسَرّهُ
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَدْت
قَوْلَهُ
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
قَالَ أَجَلْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَوْلُهُ " وَشَبْرِقَهٌ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
[ الْأَسْمَاءُ الّتِي وَرَدَتْ فِي قَصِيدَةِ أَبِي طَالِبٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْغَيَاطِلِ : مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنُ
هُصَيْصٍ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ . وَمُطْعِمُ
بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ . [ ص 282 ] وَزُهَيْرُ
بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ مَخْزُومٍ ، وَأُمّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَسِيدٌ وَبِكْرُهُ عَتّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي
الْعَيْصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
قُصَيّ . وَعُثْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، أَخُو طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللّهِ التّيْمِيّ . وَقُنْفُذُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جُدْعَانَ
بْنِ عُمَرَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ . وَأَبُو
الْوَلِيدِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَأُبَيّ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ
الثّقَفِيّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَإِنّمَا سُمّيَ الْأَخْنَسُ . لِأَنّهُ خَنَسَ بِالْقَوْمِ يَوْمَ
بَدْرٍ ، وَإِنّمَا اسْمُهُ أُبَيّ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عِلَاجٍ وَهُوَ
عِلَاجُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْبَةَ . وَالْأَسْوَدُ
بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ
كِلَابٍ . وَسُبَيْعُ بْنُ خَالِدٍ ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ .
وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ
، وَهُوَ ابْنُ الْعَدَوِيّةِ . وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ،
وَهُوَ الّذِي قَرَنَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَطَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّه عَنْهُمَا فِي حَبْلٍ حِينَ أَسْلَمَا ،
فَبِذَلِكَ كَانَا يُسَمّيَانِ الْقَرِينَيْنِ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَبُو عَمْرٍو قَرَظَةُ بْنُ
عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ . " وَقَوْمٌ عَلَيْنَا
أَظِنّةٌ " : بَنُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ،
فَهَؤُلَاءِ الّذِينَ عَدّدَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ مِنْ الْعَرَبِ .
[ انْتِشَارُ ذِكْرِ الرّسُولِ فِي الْقَبَائِلِ وَلَا سِيّمَا فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ]
فَلَمّا
انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
الْعَرَبِ ، وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ
حَيّ مِنْ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ ذُكِرَ وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ هَذَا
الْحَيّ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَذَلِك لِمَا كَانُوا
يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ، وَكَانُوا لَهُمْ حُلَفَاءَ
وَمَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ . فَلَمّا وَقَعَ ذِكْرُهُ بِالْمَدِينَةِ
وَتَحَدّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ . قَالَ
أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ . أَخُو بَنِي وَاقِفٍ .
[ نَسَبُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : نَسَبُ ابْنِ إسْحَاقَ أَبَا قَيْسٍ هَذَا هَاهُنَا إلَى
بَنِي وَاقِفٍ وَنَسَبُهُ [ ص 283 ] خَطْمَةَ لِأَنّ الْعَرَب قَدْ
تَنْسِبُ الرّجُلَ إلَى أَخِي جَدّهِ الّذِي هُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو
الْغِفَارِيّ مِنْ وَلَدِ نُعَيْلَةَ أَخِي غِفَارٍ . وَهُوَ غِفَارُ بْنُ
مُلَيْلٍ وَنُعَيْلَةُ بْنُ مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ مَنَاةَ ، وَقَدْ قَالُوا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ السّلَمِيّ
وَهُوَ مِنْ وَلَدِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورٍ وَسُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَأَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ مِنْ بَنِي
وَائِلٍ وَوَائِلٌ وَوَاقِفٌ وَخَطْمَةُ إخْوَةٌ مِنْ الْأَوْسِ .
[ شِعْرُ ابْنُ الْأَسْلَتِ فِي الدّفَاعِ عَنْ الرّسُولِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ - وَكَانَ يُحِبّ
قُرَيْشًا ، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا ، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْنَبُ بِنْتُ
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَكَانَ يُقِيمُ عِنْدَهُمْ
السّنِينَ بِامْرَأَتِهِ - قَصِيدَةً يُعَظّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ
وَيَنْهَى قُرَيْشًا فِيهَا عَنْ الْحَرْبِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ
بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ
وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ عَنْ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَيُذَكّرُهُمْ بَلَاءَ اللّهِ عِنْدَهُمْ وَدَفْعَهُ عَنْهُمْ
الْفِيلَ وَكَيْدَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ [ ص 284 ]
يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضَتْ فَبَلّغْنَ ... مُغَلْغِلَةً عَنّي لُؤَيّ بْنَ غَالِبِ
رَسُولُ امْرِئٍ قَدْ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ ... عَلَى النّأْيِ مَحْزُونٍ بِذَلِكَ نَاصِبِ
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مَعَرّسٌ ... فَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي
نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاَللّهِ مِنْ شَرّ صُنْعِكُمْ ... وَشَرّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسّ الْعَقَارِبِ
وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ ... كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقّ صَائِبِ
فَذَكّرْهُمْ بِاَللّهِ أَوّلَ وَهْلَةٍ ... وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظّبَاءِ الشّوَازِبِ
وَقُلْ لَهُمْ وَاَللّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ ... ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ فِي الْمَرَاحِبِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ... هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ
تُقَطّعُ أَرْحَامًا وَتُهْلِكُ أُمّةً ... وَتَبْرِي السّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ
وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيّةِ بَعْدَهَا ... شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ الْمُحَارِبِ
وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا ... كَأَنّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ الْجَنَادِبِ
فَإِيّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنّكُمْ ... وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرّ الْمَشَارِبِ
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةٍ إذْ بَيّنَتْ أُمّ صَاحِبِ
تُحَرّقُ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا وَتَنْتَحِي ... ذَوِي الْعِزّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصّوَائِبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ ... فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ فِي حَرْبِ حَاطِبِ
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوّدٍ ... طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ غَيْرُ خَائِبِ
[ ص 285 ] [ ص 286 ]
عَظِيمِ رَمَادِ النّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ ... وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمٍ الْمَضَارِبِ
وَمَاءِ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ كَأَنّمَا ... أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصّبَا وَالْجَنَائِبِ
يُخَبّرُكُمْ عَنْهَا امْرُؤٌ حَقّ عَالِمٌ ... بِأَيّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ التّجَارِبِ
فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبِ وَاذْكُرُوا ... حِسَابَكُمْ وَاَللّهُ خَيْرُ مُحَاسِبِ
وَلِيّ امْرِئٍ فَاخْتَارَ دِينًا فَلَا يَكُنْ ... عَلَيْكُمْ رَقِيبًا غَيْرَ رَبّ الثّوَاقِبِ
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا فَأَنْتُمْ ... لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى بِالذّوَائِبِ
وَأَنْتُمْ لِهَذَا النّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ ... تُؤَمّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
وَأَنْتُمْ إذَا مَا حُصّلَ النّاسُ جَوْهَرٌ ... لَكُمْ سُرّةُ الْبَطْحَاءِ شُمّ الْأَرَانِبِ
تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عَتِيقَةً ... مُهَذّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ أَشَائِبِ
تَرَى طَالِبَ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ ... عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنّ سَرَاتَكُمْ ... عَلَى كُلّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ
وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا وَأَعْلَاهُ سُنّةً ... وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقّ وَسْطَ الْمَوَاكِبِ
فَقُومُوا فَصَلّوا رَبّكُمْ وَتَمَسّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسّهْلِ تُمْسِي وَرَجْلُهُ ... عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
فَلَمّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ
فَوَلّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إلَى أَهْلِهِ مِلْحُبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ
فَإِنْ تَهْلِكُوا نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمٌ ... يُعَاشُ بِهَا ، قَوْلُ امْرِئٍ غَيْرِ كَاذِبِ
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ " وَمَاءٌ هُرِيقَ " ، وَبَيْتَهُ "
فَبِيعُوا الْحِرَابَ " وَقَوْلَهُ " وَلِيّ امْرِئِ فَاخْتَارَ " ،
وَقَوْلَهُ عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ وَغَيْرُهُ .
[ حَرْبٌ دَاحِسً ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
فَحَدّثَنِي
أَبُو عُبَيْدَةَ النّحَوِيّ : أَنّ دَاحِسًا فَرَسٌ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ
زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ مَازِنِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ
غَطَفَانَ ؛ أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُؤَيّةَ بْنِ لَوْذَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيّ
بْنِ فَزَارَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ ،
يُقَال لَهَا : الْغَبْرَاءُ . فَدَسّ حُذَيْفَةُ قَوْمًا وَأَمَرَهُمْ
أَنْ يَضْرِبُوا وَجْهَ دَاحِسٍ إنْ رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ سَابِقًا ،
فَجَاءَ دَاحِسٌ سَابِقًا فَضَرَبُوا وَجْهَهُ وَجَاءَتْ الْغَبْرَاءُ .
فَلَمّا جَاءَ فَارِسُ دَاحِسٍ أَخْبَرَ قَيْسًا الْخَبَرَ ، فَوَثَبَ
أَخُوهُ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ الْغَبْرَاءِ فَقَامَ
حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ فَلَطَمَ مَالِكًا . ثُمّ إنّ أَبَا الْجُنَيْدِبِ
الْعَبْسِيّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ ثُمّ لَقِيَ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا فَقَتَلَهُ فَقَالَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ
أَخُو حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ : [ ص 287 ]
قَتَلْنَا بِعَوْفٍ مَالِكًا وَهُوَ ثَأْرُنَا ... فَإِنْ تَطْلُبُوا مِنّا سِوَى الْحَقّ تَنْدَمُوا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ الرّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيّ :
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ عَبْسٍ
وَفَزَارَةَ فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ
بَدْرٍ ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ يَرْثِي حُذَيْفَةَ
وَجَزِعَ عَلَيْهِ
كَمْ فَارِسٍ يُدْعَى وَلَيْسَ بِفَارِسٍ ... وَعَلَى الْهَبَاءَةِ فَارِسٌ ذُو مَصْدَقِ
فَابْكُوا حُذَيْفَةَ لَنْ تُرَثّوا مِثْلَهُ ... حَتّى تَبِيدَ قَبَائِلٌ لَمْ تُخْلَقْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ قَيْسُ ( بْنُ ) زُهَيْرٍ :
عَلَى أَنّ الْفَتَى حَمَلَ بْنَ بَدْرٍ ... بَغَى وَالظّلْمُ مَرْتَعُهُ وَخِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ زُهَيْرٍ أَخُو قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ :
تَرَكْتُ عَلَى الْهَبَاءَةِ غَيْرَ فَخْرٍ ... حُذَيْفَةُ عِنْدَهُ قَصْدُ الْعَوَالِي
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَرْسَلَ
قَيْسٌ دَاحِسًا وَالْغَبْرَاءَ وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطّارَ
وَالْحَنْفَاءَ وَالْأَوّلُ أَصَحّ الْحَدِيثَيْنِ . وَهُوَ حَدِيثٌ
طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ سِيرَةِ رَسُولِ
اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ حَرْبُ حَاطِبٍ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ " حَرْبُ حَاطِبٍ " . فَيَعْنِي حَاطِبَ
بْنَ الْحَارِثِ [ ص 288 ] قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
أُمَيّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيّا جَارًا
لِلْخَزْرَجِ فَخَرَجَ إلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ أَحْمَر بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ - وَهُوَ الّذِي يُقَال
لَهُ ابْنُ فُسْحُمٍ وَفُسْحُمٌ أُمّهُ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ الْقَيْنِ
بْنِ جَسْرٍ - لَيْلًا فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ
فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، فَكَانَ الظّفَرُ لِلْخَزْرَجِ عَلَى
الْأَوْسِ ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
عَطِيّةَ بْنِ حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ الْأَوْسِ ، قَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيّ
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ . فَلَمّا
كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ خَرَجَ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ مَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ
بْنِ صَامِتٍ ، فَوَجَدَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ غِرّةً مِنْ
الْمُجَذّرِ فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ . وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ فِي
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . ثُمّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهَا وَاسْتِقْصَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا ذَكَرْت
فِي ( حَدِيثِ ) حَرْبِ دَاحِسٍ .
[ شِعْرُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ فِي صَدّ قَوْمِهِ عَنْ عَدَاوَةِ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
الْأَوْقَصِ السّلَمِيّ حَلِيفُ بَنِي أُمَيّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ ،
يُوَرّعُ قَوْمَهُ عَمّا أَجَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ فِيهِمْ شَرِيفًا مُطَاعًا
: [ ص 289 ]
هَلْ قَائِلٌ قَوْلًا هُوَ الْحَقّ قَاعِدٌ ... عَلَيْهِ وَهَلْ غَضْبَانُ لِلرّشْدِ سَامِعُ
وَهَلْ سَيّدٌ تَرْجُو الْعَشِيرَةُ نَفْعَهُ ... لِأَقْصَى الْمَوَالِي وَالْأَقَارِبِ جَامِعُ
تَبَرّأْتُ إلّا وَجْهَ مَنْ يَمْلِكُ الصّبَا ... وَأَهْجُرُكُمْ مَا دَامَ مُدْلٍ وَنَازِعُ
وَأُسْلِمُ وَجْهِي لِلْإِلَهِ وَمَنْطِقِي ... وَلَوْ رَاعَنِي مِنْ الصّدِيقِ رَوَائِعُ
ذِكْرُ ما لُقَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْمِهِ
[ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَرَمْيُهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّحْرِ وَالْجُنُونِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا اشْتَدّ أَمْرُهُمْ لِلشّقَاءِ
الّذِي أَصَابَهُمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُمْ فَأَغْرَوْا بِرَسُولِ اللّه
صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُفَهَاءَهُمْ فَكَذّبُوهُ وَآذَوْهُ
وَرَمَوْهُ بِالشّعْرِ وَالسّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالْجُنُونِ وَرَسُولُ
اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُظْهِرٌ لِأَمْرِ اللّهِ لَا
يَسْتَخْفِي بِهِ مُبَادٍ لَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ
وَاعْتِزَالِ أَوْثَانِهِمْ وَفِرَاقِهِ إيّاهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ .
[ حَدِيثُ ابْنِ الْعَاصِ عَنْ أَكْثَرِ مَا رَأَى قُرَيْشًا نَالَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ،
عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ قُلْت لَهُ مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا
أَصَابُوا مِنْ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا
كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ ؟ قَالَ حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ
اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرُوا رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا مِثْلَ
مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ قَطّ ، سَفّهَ
أَحْلَامَنَا ، وَشَتَمَ آبَاءَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَفَرّقَ
جَمَاعَتَنَا ، وَسَبّ آلِهَتَنَا ، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ
عَظِيمٍ أَوْ كَمَا قَالُوا : فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إذْ طَلَعَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتّى
اسْتَلَمَ الرّكْنَ ثُمّ مَرّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمّا مَرّ
بِهِمْ غَمَزُوهُ [ ص 290 ] قَالَ فَعَرَفْت ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ
اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ثُمّ مَضَى ، فَلَمّا مَرّ
بِهِمْ الثّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ
رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ مَرّ بِهِمْ
الثّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَوَقَفَ ثُمّ قَالَ أَتَسْمَعُونَ
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَمَا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ
جِئْتُكُمْ بِالذّبْحِ . قَالَ فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتّى مَا
مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا كَأَنّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتّى إنّ
أَشَدّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا
يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ حَتّى إنّهُ لِيَقُولَ انْصَرِفْ يَا أَبَا
الْقَاسِمِ فَوَاَللّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا . قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ الْغَدُ
اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ
ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتّى إذَا
بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ . فَبَيْنَمَا هُمْ فِي
ذَلِكَ طَلَعَ ( عَلَيْهِمْ ) رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَوَثَبُوا إلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَأَحَاطُوا بِهِ
يَقُولُونَ أَنْت الّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، لِمَا كَانَ يَقُولُ
مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ أَنَا الّذِي أَقُولُ ذَلِكَ . قَالَ
فَلَقَدْ رَأَيْت رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ . قَالَ
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ دُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي
وَيَقُولُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبّي اللّهُ ؟ ثُمّ
انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ لَأَشَدّ مَا رَأَيْت قُرَيْشًا نَالُوا
مِنْهُ قَطّ .
[ بَعْضُ مَا نَالَ أَبَا بَكْرٍ فِي سَبِيلِ الرّسُولِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ ، وَحَدّثَنِي بَعْضُ آلِ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي
بَكْرٍ ، أَنّهَا قَالَتْ ( لَقَدْ ) رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ
وَقَدْ صَدَعُوا فَرْقَ رَأْسِهِ مِمّا جَبَذُوهُ بِلِحْيَتِهِ وَكَانَ
رَجُلًا كَثِيرَ الشّعْرِ . [ ص 291 ]
[ أَشَدّ مَا أُوذِيَ بِهِ الرّسُولُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ أَشَدّ مَا
لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ
أَنّهُ خَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ مِنْ النّاس إلّا كَذّبَهُ
وَآذَاهُ لَا حُرّ وَلَا عَبْدٌ فَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ فَتَدَثّرَ مِنْ شِدّةِ مَا أَصَابَهُ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ
فَأَنْذِرْ }
إسْلَامُ حَمْزَةَ رَحِمَهُ اللّهُ
[ أَذَاةُ أَبِي جَهْلٍ لِلرّسُولِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوُقُوفُ حَمْزَةَ عَلَى ذَلِكَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ ، كَانَ وَاعِيَةً أَنّ
أَبَا جَهْلٍ مَرّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ
الصّفَا ، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَنَالَ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ مِنْ
الْعَيْبِ لِدِينِهِ وَالتّضْعِيفِ لِأَمْرِهِ فَلَمْ يُكَلّمْهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ
جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ
[ ص 292 ] فَعَمَدَ إلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ،
فَجَلَسَ مَعَهُمْ . فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشّحًا قَوْسَهُ رَاجِعًا مِنْ
قَنْصٍ لَهُ وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ وَكَانَ
إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتّى يَطُوفَ
بِالْكَعْبَةِ وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرّ عَلَى نَادٍ مِنْ
قُرَيْشٍ إلّا وَقَفَ وَسَلّمَ وَتَحَدّثَ مَعَهُمْ وَكَانَ أَعَزّ فَتًى
فِي قُرَيْشٍ ، وَأَشَدّ شَكِيمَةً . فَلَمّا مَرّ بِالْمَوْلَاةِ وَقَدْ
رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَيْتِهِ
قَالَتْ لَهُ يَا أَبَا عُمَارَةَ لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيك
مُحَمّدٌ آنِفًا مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ وَجَدَهُ هَاهُنَا
جَالِسًا فَآذَاهُ وَسَبّهُ وَبَلَغَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ ثُمّ انْصَرَفَ
عَنْهُ وَلَمْ يُكَلّمْهُ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ إيقَاعُ حَمْزَةَ بِأَبِي جَهْلٍ وَإِسْلَامُهُ ]
فَاحْتَمَلَ
حَمْزَةَ الْغَضَبُ لَمّا أَرَادَ اللّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فَخَرَجَ
يَسْعَى وَلَمْ يَقِفْ عَلَى أَحَدٍ ، مُعِدّا لِأَبِي جَهْلٍ إذَا
لَقِيَهُ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَلَمّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ نَظَرَ إلَيْهِ
جَالِسًا فِي الْقَوْمِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتّى إذَا قَامَ عَلَى
رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا فَشَجّهُ شَجّةً مُنْكَرَةً
ثُمّ قَالَ أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ ؟
فَرُدّ ذَلِكَ عَلَيّ إنْ اسْتَطَعْت . فَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ بَنِي
مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ
دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ فَإِنّي وَاَللّهِ قَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ
سَبّا قَبِيحًا ، وَتَمّ حَمْزَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى إسْلَامِهِ
وَعَلَى مَا تَابَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ قَوْلِهِ . فَلَمّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ
أَنّ رَسُولَ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ عَزّ وَامْتَنَعَ
وَأَنّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ فَكَفّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا
يَنَالُونَ مِنْهُ .
قَوْلُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ مَا دَارَ بَيْنَ عُتْبَةَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
[
ص 293 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ
رَبِيعَةَ ، وَكَانَ سَيّدًا ، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي
قُرَيْشٍ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي
الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَلَا أَقُومُ إلَى
مُحَمّدٍ فَأُكَلّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلّهُ يَقْبَلُ
بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيّهَا شَاءَ وَيَكُفّ عَنّا ؟ وَذَلِكَ حِينَ
أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ فَقَالُوا : بَلَى يَا أَبَا
الْوَلِيدِ قُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتّى
جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا
ابْنَ أَخِي ، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنْ السّطَةِ فِي
الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك
بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت بِهِ
أَحْلَامَهُمْ وَعِبْت بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَفّرْت بِهِ مَنْ
مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضْ عَلَيْك أُمُورًا
تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا . قَالَ فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ
أَسْمَعْ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي ، إنْ كُنْت إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ
بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى
تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا
سَوّدْنَاك عَلَيْنَا ، حَتّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك ، وَإِنْ كُنْت
تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي
يَأْتِيك رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِك ،
طَلَبْنَا لَك الطّبّ ، وَبَذَلْنَا فِيهِ [ ص 294 ] غَلَبَ التّابِعُ
عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ . حَتّى إذَا
فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ
نَعَمْ قَالَ فَاسْمَعْ مِنّي ؛ قَالَ أَفْعَلُ فَقَالَ بِسْمِ اللّهِ
الرّحْمَنِ الرّحِيمِ { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ
فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا
قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } ثُمّ مَضَى رَسُولُ
اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ .
فَلَمّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ
خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ انْتَهَى
رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى السّجْدَةِ مِنْهَا ،
فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ
فَأَنْت وَذَاكَ
[ مَا أَشَارَ بِهِ عُتْبَةُ عَلَى أَصْحَابِهِ ]
فَقَامَ
عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ
بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي
ذَهَبَ بِهِ . فَلَمّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا : مَا وَرَاءَك يَا أَبَا
الْوَلِيدِ ؟ قَالَ وَرَائِي أَنّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاَللّهِ مَا
سَمِعْت مِثْلَهُ قَطّ ، وَاَللّهِ مَا هُوَ بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ
وَلَا بِالْكِهَانَةِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا
بِي ، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ
فَاعْتَزِلُوهُ فَوَاَللّهِ لَيَكُونَنّ لِقَوْلِهِ الّذِي سَمِعْتُ
مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ
بِغَيْرِكُمْ وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ
وَعِزّهُ عِزّكُمْ وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ قَالُوا : سَحَرَك
وَاَللّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ
فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ .
مَا دَارَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَتَفْسِيرٌ لِسُورَةِ الْكَهْف
[ اسْتِمْرَارُ قُرَيْشٍ عَلَى تَعْذِيبِ مَنْ أَسْلَمَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ الْإِسْلَامَ جَعَلَ يَفْشُو بِمَكّةَ فِي
قَبَائِل قُرَيْشٍ فِي الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَقُرَيْشٌ تَحْبِسُ مَنْ
قَدَرَتْ عَلَى حَبْسِهِ وَتَفْتِنُ مَنْ اسْتَطَاعَتْ [ ص 295 ] قُرَيْشٍ
مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ كَمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - قَالَ
[ حَدِيثُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ مَعَ الرّسُولِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - ]
اجْتَمَعَ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ
بْنُ حَرْب ٍ ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ( بْنِ كَلَدَةَ ) ، أَخُو
بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَالْأَسْوَدُ
بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ،
وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ
اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ وَنَبِيهٌ
وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ السّهْمِيّانِ وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ،
أَوْ مَنْ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ . قَالَ اجْتَمِعُوا بَعْدَ غُرُوبِ
الشّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ
ابْعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ فَكَلّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتّى تُعْذِرُوا فِيهِ
فَبَعَثُوا إلَيْهِ إنّ أَشْرَافَ قَوْمِك قَدْ اجْتَمَعُوا لَك
لِيُكَلّمُوك ، فَأْتِهِمْ فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّم - سَرِيعًا ، وَهُوَ يَظُنّ أَنْ قَدْ بَدَا لَهُمْ
فِيمَا كَلّمَهُمْ فِيهِ بَدَاءٌ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبّ
رُشْدَهُمْ وَيَعِزّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِمْ
فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمّدُ إنّا قَدْ بَعَثْنَا إلَيْك لِنُكَلّمَك ،
وَإِنّا وَاَللّهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى
قَوْمِهِ مِثْلَ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِك ، لَقَدْ شَتَمْتَ
الْآبَاءَ وَعِبْتَ الدّينَ وَشَتَمْت الْآلِهَةَ وَسَفّهْت الْأَحْلَامَ
وَفَرّقْت الْجَمَاعَةَ فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إلّا قَدْ جِئْتَهُ
فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَك - أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ - فَإِنْ كُنْتَ
إنّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَك
مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْتَ
إنّمَا تَطْلُبُ بِهِ الشّرَفَ فِينَا ، فَنَحْنُ نُسَوّدُك عَلَيْنَا ،
وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ
هَذَا الّذِي يَأْتِيك رِئْيًا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْك - وَكَانُوا
يُسَمّونَ التّابِعَ مِنْ الْجِنّ رِئْيًا - فَرُبّمَا كَانَ ذَلِكَ
بَذَلْنَا لَك أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطّبّ لَك حَتّى نُبْرِئَك مِنْهُ
أَوْ نُعْذِرَ فِيك . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّه - صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - : [ ص 296 ] مَا بِي مَا تَقُولُونَ مَا جِئْتُ بِمَا
جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الشّرَفَ فِيكُمْ وَلَا
الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنّ اللّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولًا ،
وَأَنْزَلَ عَلَيّ كِتَابًا ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا ، فَبَلّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَإِنْ
تَقْبَلُوا مِنّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَإِنّ تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللّهِ حَتّى
يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَإِنْ كُنْت غَيْرَ قَابِلٍ مِنّا شَيْئًا مِمّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْك فَإِنّك قَدْ عَلِمْتَ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ النّاسِ أَحَدٌ أَضْيَقَ بَلَدًا ، وَلَا أَقَلّ مَاءً وَلَا أَشَدّ عَيْشًا مِنّا ، فَسَلْ لَنَا رَبّك الّذِي بَعَثَك بِمَا بَعَثَك بِهِ فَلْيُسَيّرْ عَنّا هَذِهِ الْجِبَالَ الّتِي قَدْ ضَيّقَتْ عَلَيْنَا ، وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا ، وَلْيُفَجّرْ لَنَا فِيهَا أَنَهَارًا كَأَنْهَارِ الشّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا ، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يُبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ ، فَإِنّهُ كَانَ شَيْخَ صِدْقٍ فَنَسْأَلَهُمْ عَمّا تَقُولُ أَحَقّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ فَإِنْ صَدّقُوك وَصَنَعْتَ مَا سَأَلْنَاك صَدّقْنَاك ، وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَك مِنْ اللّهِ وَأَنّهُ بَعَثَك رَسُولًا كَمَا تَقُول . فَقَالَ لَهُمْ - صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - : مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إلَيْكُمْ إنّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ اللّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَقَدْ بَلّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْت بِهِ إلَيْكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى ، حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا : فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا لَنَا ، [ ص 297 ] رَبّك أَنْ يَبْعَثَ مَعَك مَلَكًا يُصَدّقُك بِمَا تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْك وَسَلْهُ فَلْيَجْعَلْ لَك جَنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضّةٍ يُغْنِيك بِهَا عَمّا نَرَاك تَبْتَغِي ، فَإِنّك تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ كَمَا نَقُومُ وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ حَتّى نَعْرِفَ فَضْلَك وَمَنْزِلَتَك مِنْ رَبّك إنْ كُنْت رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ . فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - : مَا أَنَا بِفَاعِلِ وَمَا أَنَا بِاَلّذِي يَسْأَلُ رَبّهُ هَذَا ، وَمَا بُعِثْت إلَيْكُمْ بِهَذَا ، وَلَكِنّ اللّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللّهِ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا : فَأَسْقِطْ السّمَاءَ عَلَيْنَا كِسَفًا كَمَا زَعَمْتَ أَنّ رَبّك إنْ شَاءَ فَعَلَ فَإِنّا لَا نُؤْمِنُ لَك إلّا أَنْ تَفْعَلَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - : ذَلِكَ إلَى اللّهِ إنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ قَالُوا : يَا مُحَمّدُ أَفَمَا عَلِمَ رَبّك أَنّا سَنَجْلِسُ مَعَك وَنَسْأَلُك عَمّا سَأَلْنَاك عَنْهُ وَنَطْلُبُ مِنْك مَا نَطْلُبُ فَيَتَقَدّمَ إلَيْك فَيُعَلّمَك مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ وَيُخْبِرُك مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا ، إذْ لَمْ نَقْبَلْ مِنْك مَا جِئْتنَا بِهِ إنّهُ قَدْ بَلَغْنَا أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَال لَهُ الرّحْمَنُ وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرّحْمَنِ أَبَدًا ، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إلَيْك يَا مُحَمّدُ وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُك وَمَا بَلَغْتَ مِنّا حَتّى نُهْلِكَك ، أَوْ تُهْلِكَنَا . وَقَالَ قَائِلُهُمْ نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللّهِ . وَقَالَ قَائِلُهُمْ لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتّى تَأْتِيَنَا بِاَللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا . [ ص 298 ]
[حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ -]
فَلَمّا
قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - قَامَ
عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ - وَهُوَ
ابْنُ عَمّتِهِ فَهُوَ لِعَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - فَقَالَ
لَهُ يَا مُحَمّدُ . عَرَضَ عَلَيْك قَوْمُك مَا عَرَضُوا فَلَمْ
تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ ثُمّ سَأَلُوك لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا
بِهَا مَنْزِلَتَك مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُول ، وَيُصَدّقُوك وَيَتّبِعُوك
فَلَمْ تَفْعَلْ ثُمّ سَأَلُوك أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِك مَا يَعْرِفُونَ
بِهِ فَضْلَك عَلَيْهِمْ وَمَنْزِلَتَك مِنْ اللّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ ثُمّ
سَأَلُوك أَنْ تُعَجّلَ لَهُمْ بَعْضَ مَا تُخَوّفُهُمْ بِهِ مِنْ
الْعَذَابِ فَلَمْ تَفْعَلْ - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ - فَوَاَللّهِ لَا
أُومِنُ بِك أَبَدًا حَتّى تَتّخِذَ إلَى السّمَاءِ سُلّمًا ، ثُمّ
تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْكَ حَتّى تَأْتِيَهَا ، ثُمّ تَأْتِي
مَعَك أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَك أَنّك كَمَا تَقُول
، وَاَيْمُ اللّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَا ظَنَنْتُ أَنّي أُصَدّقُك ،
ثُمّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - .
وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - إلَى
أَهْلِهِ حَزِينًا آسِفًا لِمَا فَاتَهُ مِمّا كَانَ يَطْمَعُ بِهِ مِنْ
قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إيّاهُ .
[ مَا تَوَعّدَ بِهِ أَبُو جَهْلٍ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - ]
فَلَمّا
قَامَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - قَالَ
أَبُو جَهْلٍ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ مُحَمّدًا قَدْ أَبَى إلّا مَا
تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا ، وَشَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ
أَحْلَامِنَا ، وَشَتْمِ آلْهِتَتَا ، وَإِنّي أُعَاهِدُ اللّهَ
لَأَجْلِسَنّ لَهُ غَدًا بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ - أَوْ كَمَا
قَالَ - فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ
فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ امْنَعُونِي ، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ
ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ قَالُوا : وَاَللّهِ لَا
نُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَدًا ، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ .
[ مَا حَدَثَ لِأَبِي جَهْلٍ حِينَ هَمّ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ عَلَى الرّسُولِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - ]
فَلَمّا
أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ أَخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ ثُمّ جَلَسَ لِرَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - يَنْتَظِرُهُ وَغَدَا رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - كَمَا كَانَ يَغْدُو . وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - بِمَكّةَ وَقِبْلَتُهُ
إلَى الشّامِ ، فَكَانَ إذَا صَلّى صَلّى بَيْنَ [ ص 299 ] الرّكْنِ
الْيَمَانِيّ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الشّامِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللّه - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم
- يُصَلّي وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ فَجَلَسُوا فِي أَنْدِيَتِهِمْ
يَنْتَظِرُونَ مَا أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ فَلَمّا سَجَدَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ ، ثُمّ
أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتّى إذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا
مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ مَرْعُوبًا قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ
حَتّى قَذَفَ الْحَجَرَ مِنْ يَدِهِ . وَقَامَتْ إلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ
، فَقَالُوا لَهُ مَا لَك يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ قُمْتُ إلَيْهِ
لِأَفْعَلَ بِهِ مَا قُلْتُ لَكُمْ الْبَارِحَةَ فَلَمّا دَنَوْتُ مِنْهُ
عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ لَا وَاَللّهِ مَا رَأَيْت
مِثْلَ هَامَتهِ وَلَا مِثْلَ قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطّ
، فَهَمّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذُكِرَ لِي
أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّم - قَالَ ذَلِكَ
جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لَوْ دَنَا لَأَخَذَه .
[ نَصِيحَةُ النّضْرِ لِقُرَيْشِ بِالتّدَبّرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
فَلَمّا
قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ قَامَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ
قُصَيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْش ٍ ، إنّهُ وَاَللّهِ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ
أَمْرٌ مَا أَتَيْتُمْ لَهُ بِحِيلَةِ بَعْدُ قَدْ كَانَ مُحَمّدٌ فِيكُمْ
غُلَامًا حَدَثًا أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا ،
وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً حَتّى إذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشّيْبَ
وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ قُلْتُمْ [ ص 300 ] وَسْوَسَتِهِ وَلَا
تَخْلِيطِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَانْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ فَإِنّهُ
وَاَللّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ .
[ مَا كَانَ يُؤْذِي بِهِ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَكَانَ
النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وَمِمّنْ كَانَ
يُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ، وَيَنْصِبُ
لَهُ الْعَدَاوَةَ وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحِيرَةَ ، وَتَعَلّمَ بِهَا
أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ واسبنديار .
فَكَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللّه - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
مَجْلِسًا فَذَكّرَ فِيهِ بِاَللّهِ وَحَذّرَ قَوْمَهُ مَا أَصَابَ مَنْ
قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللّهِ خَلَفَهُ فِي مَجْلِسِهِ
إذَا قَامَ ثُمّ قَالَ أَنَا وَاَللّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَحْسَنُ
حَدِيثًا مِنْهُ فَهَلُمّ إلَيّ فَأَنَا أُحَدّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ
حَدِيثِهِ ثُمّ يُحَدّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ واسبنديار ،
ثُمّ يَقُولُ بِمَاذَا مُحَمّدٌ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنّي ؟ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيمَا بَلَغَنِي : سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا
أَنْزَلَ اللّهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي : نَزَلَ فِيهِ ثَمَانِ
آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَوْلُ اللّه - عَزّ وَجَلّ - : { إِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ } . وَكُلّ مَا ذُكِرَ
فِيهِ مِنْ الْأَسَاطِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ .
[ أَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ
النّضْرَ وَابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى أَحْبَارِ يَهُودَ يَسْأَلَانِهِمْ
عَنْ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
فَلَمّا قَالَ لَهُمْ
ذَلِكَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بَعَثُوهُ وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ
بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ وَقَالُوا
لَهُمَا : سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمّدٍ وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ
وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأُوَلِ
وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ [ ص 301 ]
الْأَنْبِيَاءِ فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ ، فَسَأَلَا
أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ وَأَخْبَرَاهُمْ بِبَعْضِ قَوْلِهِ وَقَالَا
لَهُمْ إنّكُمْ أَهْلُ التّوْرَاةِ ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا
عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا . فَقَالَتْ لَهُمَا أَحْبَارُ يَهُودَ سَلُوهُ
عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنّ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنّ فَهُوَ
نَبِيّ مُرْسَلٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ فَرَوْا
فِيهِ رَأْيَكُمْ . سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدّهْرِ
الْأَوّلِ مَا كَانَ أَمْرُهُمْ فَإِنّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ
عَجَبٌ وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ وَسَلُوهُ عَنْ الرّوحِ مَا هِيَ ؟
فَإِذَا أَخْبَرَكُمْ بِذَلِك فَاتّبِعُوهُ فَإِنّهُ نَبِيّ ، وَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوّلٌ فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا
لَكُمْ . فَأَقْبَلَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي
مُعَيْطِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ حَتّى قَدِمَا مَكّةَ عَلَى قُرَيْشٍ ،
فَقَالَا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ قَدْ أَخْبَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ
نَسْأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ أَمَرُونَا بِهَا ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
عَنْهَا فَهُوَ نَبِيّ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ
فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ .
[ سُؤَالُ قُرَيْشٍ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَسْئِلَةٍ وَإِجَابَتُهُ لَهُمْ ]
فَجَاءُوا
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالُوا : يَا
مُحَمّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ قَدْ
كَانَتْ لَهُمْ قِصّةٌ عَجَبٌ وَعَنْ رَجُلٍ كَانَ طَوّافًا قَدْ بَلَغَ
مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ؛ وَأَخْبِرْنَا عَنْ الرّوحِ مَا
هِيَ ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - : أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا وَلَمْ
يَسْتَثْنِ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ . فَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا يَذْكُرُونَ - خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
لَا يُحْدِثُ اللّهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا ، وَلَا يَأْتِيهِ
جِبْرِيلُ حَتّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكّةَ ، وَقَالُوا : وَعَدَنَا مُحَمّدٌ
غَدًا ، وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً قَدْ أَصْبَحْنَا مِنْهَا
لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءِ مِمّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ وَحَتّى أَحْزَنَ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُكْثُ الْوَحْيِ [ ص
302 ] وَشَقّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلّمُ بِهِ أَهْلُ مَكّةَ : ثُمّ جَاءَهُ
جِبْرِيلُ مِنْ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ،
فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إيّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ وَخَبَرُ مَا
سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ الْفِتْيَةَ وَالرّجُلِ الطّوّافِ
وَالرّوحِ .
[ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي قُرَيْشٍ حِينَ سَأَلُوا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَغَابَ عَنْهُ الْوَحْيُ
مُدّةً ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذُكِرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ حِين جَاءَهُ لَقَدْ
احْتَبَسْتَ عَنّي يَا جِبْرِيلُ حَتّى سُؤْتُ ظَنّا فَقَالَ لَهُ
جِبْرِيلُ { وَمَا نَتَنَزّلُ إِلّا بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ
أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ
نَسِيّا } فَافْتَتَحَ السّورَةَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِحَمْدِهِ
وَذِكْرِ نُبُوّةِ رَسُولِهِ لِمَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ
فَقَالَ { الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ }
يَعْنِي مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّك رَسُولٌ مِنّي
: أَيْ تَحْقِيقٌ " لِمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ نُبُوّتِك . { وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيّمًا } أَيْ مُعْتَدِلًا ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ
. { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أَيْ عَاجِلَ
عُقُوبَتِهِ فِي الدّنْيَا . وَعَذَابًا أَلِيمًا فِي الْآخِرَةِ أَيْ
مِنْ عِنْدِ رَبّك الّذِي بَعَثَ رَسُولًا . { وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ
الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } أَيْ دَارُ الْخُلْدِ . لَا يَمُوتُونَ فِيهَا
الّذِينَ صَدّقُوك بِمَا جِئْت بِهِ مِمّا كَذّبَك بِهِ غَيْرُهُمْ
وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرْتهمْ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ . { وَيُنْذِرَ
الّذِينَ قَالُوا اتّخَذَ اللّهُ وَلَدًا } يَعْنِي قُرَيْشًا فِي
قَوْلِهِمْ إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللّهِ . { مَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ } الّذِينَ أَعْظَمُوا
فِرَاقَهُمْ وَعَيْبَ دِينِهِمْ . { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ } أَيْ لِقَوْلِهِمْ إنّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللّهِ . {
إِنْ يَقُولُونَ إِلّا كَذِبًا فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } يَا
مُحَمّدُ عَلَى آثَارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ
أَسَفًا : أَيْ لِحُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِين فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُو
مِنْهُمْ أَيْ لَا تَفْعَلْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَاخِعٌ نَفْسَك ،
أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَك ، فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ .
قَالَ ذُو الرّمّةِ
أَلَا أَيّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
وَجَمْعُهُ
بَاخِعُونَ وَبَخَعَةٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : قَدْ بَخَعْتُ [ ص 303 ] نُصْحِي وَنَفْسِي ، أَيْ
جَهَدْت لَهُ . { إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَيْ
أَيّهُمْ أَتْبَعُ لِأَمْرِي ، وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِي . { وَإِنّا
لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } أَيْ الْأَرْضِ وَإِنّ مَا
عَلَيْهَا لَفَانٍ وَزَائِلٌ وَإِنّ الْمَرْجِعَ إلَيّ فَأَجْزِي كُلّا
بِعَمَلِهِ فَلَا تَأْسَ وَلَا يَحْزُنْك مَا تَسْمَع وَتَرَى فِيهَا .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الصّعِيدُ : الْأَرْضُ وَجَمْعُهُ صُعُدٌ . قَالَ
ذُو الرّمّةِ يَصِفُ ظَبْيًا صَغِيرًا : كَأَنّهُ بِالضّحَى تَرْمِي
الصّعِيدَ بِهِ دَبّابَةٌ فِي عِظَامِ الرّأْسِ خُرْطُومُ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّعِيدُ ( أَيْضًا ) : الطّرِيقُ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إيّاكُمْ وَالْقُعُودَ عَلَى الصّعَدَاتِ
يُرِيدُ الطّرُقَ . وَالْجُرُزُ الْأَرْضُ الّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا ،
وَجَمْعُهَا : أَجْرَازٌ . وَيُقَالُ سَنَةٌ جُرُزٌ وَسُنُونَ أَجْرَازٌ
وَهِيَ الّتِي لَا يَكُون فِيهَا مَطَرٌ وَتَكُونُ فِيهَا جُدُوبَةٌ
وَيُبْسٌ وَشِدّةٌ . قَالَ ذُو الرّمّةِ يَصِفُ إبِلًا : طَوَى النّحْرُ
وَالْأَجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا فَمَا بَقِيَتْ إلّا الضّلُوعُ
الْجَرَاشِعُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
[ مَا أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ اسْتَقْبَلَ قِصّةَ الْخَبَرِ فِيمَا سَأَلُوهُ
عَنْهُ مِنْ شَأْنِ الْفِتْيَةِ فَقَالَ { أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ
الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } أَيْ قَدْ .
كَانَ مِنْ آيَاتِي فِيمَا وَضَعْت عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا
هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالرّقِيمُ :
الْكِتَابُ الّذِي رُقِمَ فِيهِ بِخَبَرِهِمْ وَجَمْعُهُ رُقُمٌ . قَالَ
الْعَجّاجُ [ ص 304 ] وَمُسْتَقَرّ الْمُصْحَفِ الْمُرَقّمِ وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ
تَعَالَى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبّنَا
آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمّ
بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا
أَمَدًا } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ
بِالْحَقّ } أَيْ بِصِدْقِ الْخَبَر عَنْهُمْ { إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ
قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ
مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أَيْ لَمْ
يُشْرِكُوا بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالشّطَطُ الْغُلُوّ وَمُجَاوَزَةُ الْحَقّ .
قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزّيْتُ وَالْفَتْلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
{
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ
عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَيْ بِحُجّةٍ
بَالِغَةٍ . { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلّا اللّهَ فَأْوُوا إِلَى
الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيّئْ لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ
كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ
الشّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَزَاوَرُ
تَمِيلُ وَهُوَ مِنْ الزّورِ . وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنِ حَجَرٍ [ ص
305 ]
وَإِنّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْتُ مُمَلّكًا ... بِسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الْفُرَانِقَ أَزْوَرَا
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَالَ أَبُو الزّحْفِ الْكَلْبِيّ يَصِفُ
بَلَدًا : جَأْبُ الْمُنَدّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ يُنْضِي الْمَطَايَا
خِمْسُهُ الْعَشَنْزَرُ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ و
تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ تُجَاوِزُهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ عَنْ
شِمَالِهَا قَالَ ذُو الرّمّةِ
إلَى ظُعْنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنّ الْفَوَارِسُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْفَجْوَةُ السّعَةُ وَجَمْعُهَا : الْفِجَاءُ . قَالَ الشّاعِرُ
أَلْبَسْتَ قَوْمَك مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حَتّى أُبِيحُوا وَخَلّوْا فَجْوَةَ الدّارِ
{
ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ } أَيْ فِي الْحُجّةِ عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ
مِنْ أُمُورِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ
بِمَسْأَلَتِك عَنْهُمْ فِي صِدْقِ نُبُوّتِك بِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ
عَنْهُمْ . { مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ
رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ
بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْوَصِيدُ
الْبَابُ .
قَالَ الْعَبْسِيّ ، وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ
بِأَرْضٍ فَلَاةٍ لَا يُسَدّ وَصِيدُهَا ... عَلَيّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَالْوَصِيدُ ( أَيْضًا ) : الْفِنَاءُ
وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ وَوُصْدَانُ وَأُصُدٌ وَأُصْدَانٌ [ ص 306
] { لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ
مِنْهُمْ رُعْبًا } إلَى قَوْلِهِ { قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى
أَمْرِهِمْ } أَهْلُ السّلْطَانِ وَالْمُلْكِ مِنْهُمْ { لَنَتّخِذَنّ
عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا سَيَقُولُونَ } يَعْنِي أَحْبَارَ يَهُودَ الّذِينَ
أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ { ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ
وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ } أَيْ
لَا عِلْمَ لَهُمْ . { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ
قُلْ رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلّا قَلِيلٌ فَلَا
تُمَارِ فِيهِمْ إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا } أَيْ لَا تُكَابِرْهُمْ { وَلَا
تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } فَإِنّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ
بِهِم { وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلّا أَنْ
يَشَاءَ اللّهُ وَاذْكُرْ رَبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ
يَهْدِيَنِي رَبّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } أَيْ وَلَا تَقُولَنّ
لِشَيْءِ سَأَلُوك عَنْهُ كَمَا قُلْت فِي هَذَا : إنّي مُخْبِرُكُمْ
غَدًا . وَاسْتَثْنِ شِيئَةَ اللّهِ وَاذْكُرْ رَبّك إذَا نَسِيت ، وَقُلْ
عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبّي لِخَيْرٍ مِمّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ
رَشَدًا ، فَإِنّك لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِعٌ فِي ذَلِكَ . {
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
} أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ . { قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ
غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ
مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } أَيْ
لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا سَأَلُوك عَنْهُ .
[ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي خَبَرِ الرّجُلِ الطّوّافِ ]
وَقَالَ
فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّجُلِ الطّوّافِ [ ص 307 ] {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ
ذِكْرًا إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ
سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا } حَتّى انْتَهَى إلَى آخِرِ قِصّةِ خَبَرِهِ
. وَكَانَ مِنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنّهُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ
أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمُدّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ حَتّى انْتَهَى مِنْ
الْبِلَادِ إلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا ، لَا يَطَأُ أَرْضًا
إلّا سُلّطَ عَلَى أَهْلِهَا ، حَتّى انْتَهَى مِنْ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ إلَى مَا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ الْخَلْقِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مِنْ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ عَنْ
الْأَعَاجِمِ فِيمَا تَوَارَثُوا مِنْ عِلْمِهِ أَنّ ذَا الْقَرْنَيْنِ
كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ . اسْمُهُ مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْذُبَةَ
الْيُونَانِيّ ، مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ وَهُوَ الّذِي بَنَى
الإسكندرية فَنُسِبَتْ إلَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي
ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكُلَاعِيّ وَكَانَ
رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ مَلِكٌ مَسَحَ
الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا بِالْأَسْبَابِ وَقَالَ خَالِدٌ سَمِعَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - رَجُلًا يَقُولُ يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غَفْرًا ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ
تَسَمّوْا بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تَسَمّيْتُمْ بِالْمَلَائِكَةِ . [ ص
308 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : اللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ أَقَالَ
ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمْ لَا ؟ (
فَإِنْ كَانَ قَالَهُ ) ، فَالْحَقّ مَا قَالَ .
[ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الرّوحِ ]
وَقَالَ
تَعَالَى فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّوحِ { وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا } .
[ سُؤَالُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ لِلرّسُولِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى
{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا } ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، أَنّهُ قَالَ لَمّا
قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ ،
قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ يَا مُحَمّدُ أَرَأَيْتَ قَوْلَك : وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلًا إيّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَك ؟
قَالَ كُلّا ؛ قَالُوا : فَإِنّك تَتْلُو فِيمَا جَاءَك : أَنّا قَدْ
أُوتِينَا التّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلّ شَيْءٍ . فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - : إنّهَا فِي عِلْمِ اللّهِ
قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ لَوْ أَقَمْتُمُوهُ
قَالَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ
ذَلِكَ { وَلَوْ أَنّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ
وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ
كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أَيْ أَنّ التّوْرَاةَ
فِي هَذَا مِنْ عِلْمِ اللّهِ قَلِيلٌ .
[ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى بِشَأْنِ طَلَبِهِمْ تَسْيِيرَ الْجِبَالِ ]
قَالَ
وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ
لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ [ ص 309 ] { وَلَوْ أَنّ
قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ
كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا } أَيْ لَا
أَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلّا مَا شِئْت .
[ مَا أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى رَدّا عَلَى قَوْلِهِمْ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُذْ لِنَفْسِك ]
وَأَنْزَلَ
عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ خُذْ لِنَفْسِك ، مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ
لِنَفْسِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا ،
وَيَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا يُصَدّقُهُ بِمَا يَقُول ، وَيَرُدّ عَنْهُ {
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا
وَقَالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُورًا انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا تَبَارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ }
أَيْ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسَ الْمَعَاشَ {
جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا }
. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَمَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلّا إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيرًا } أَيْ جَعَلْت بَعْضَكُمْ
لِبَعْضِ بَلَاءً لِتَصْبِرُوا ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدّنْيَا
مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُوا لَفَعَلْت .
[ مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى رَدّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي أُمَيّة ]
وَأَنْزَلَ
اللّهُ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ : {
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ
الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السّمَاءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي
السّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا
نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنْتُ إِلّا بَشَرًا رَسُولًا }
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْيَنْبُوعُ مَا نَبَعَ مِنْ الْمَاءِ مِنْ
الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا ، وَجَمْعُهُ [ ص 310 ] قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ
وَاسْمُهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيّ الْفِهْرِيّ .
وَإِذَا هَرَقْتَ بِكُلّ دَارٍ عَبْرَةً ... نُزِفَ الشّئُونُ وَدَمْعُك الْيَنْبُوعُ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْكِسَفُ الْقِطَعُ مِنْ الْعَذَابِ
وَوَاحِدَتُهُ كِسْفَةٌ مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ . وَهِيَ أَيْضًا :
وَاحِدَةُ الْكِسْفِ . وَالْقَبِيلُ يَكُونُ مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً
وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا }
أَيْ عِيَانًا وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ
أُصَالِحُكُمْ حَتّى تَبُوءُوا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْهَا قَبِيلُهَا
يَعْنِي
الْقَابِلَةُ لِأَنّهَا تُقَابِلُهَا وَتَقْبُلُ وَلَدَهَا . وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ الْقَبِيلُ جَمْعُهُ قُبُلٌ
وَهِيَ الْجَمَاعَاتُ وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { وَحَشَرْنَا
عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلًا } فَقُبُلٌ جَمْعُ قَبِيلٍ مِثْلُ سُبُلٍ
جَمْعُ سَبِيلٍ وَسُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وَقُمُصٍ جَمْعُ قَمِيصٍ .
وَالْقَبِيلُ ( أَيْضًا ) : فِي مَثَلٍ مِنْ الْأَمْثَالِ وَهُوَ
قَوْلُهُمْ مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْ دَبِيرٍ أَيْ لَا يَعْرِفُ مَا
أَقْبَلَ مِمّا أَدْبَرَ قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ
تَفَرّقَتْ الْأُمُورُ بِوَجْهَتَيْهِمْ ... فَمَا عَرَفُوا الدّبِيرَ مِنْ الْقَبِيلِ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ إنّمَا أُرِيدَ بِهَذَا (
الْقَبِيلِ ) : الْفَتْلُ فَمَا فُتِلَ إلَى الذّرَاعِ فَهُوَ الْقَبِيلُ
وَمَا فُتِلَ إلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ الدّبِيرُ وَهُوَ مِنْ
الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ الّذِي ذَكَرْتُ . وَيُقَالُ فَتْلُ
الْمِغْزَلِ . فَإِذَا فُتِلَ ( الْمِغْزَلُ ) إلَى الرّكْبَةِ [ ص 311 ]
قَالَ الْعَجّاجُ
مِنْ طَلَلٍ أَمْسَى تَخَالُ الْمُصْحَفَا ... رُسُومَهُ وَالْمُذْهَبَ الْمُزَخْرَفَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وَيُقَالُ أَيْضًا لِكُلّ مُزَيّنٍ . مُزَخْرَفٌ
[ مَا أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى رَدّا عَلَى قَوْلِهِمْ إنّمَا يُعَلّمُك رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ إنّا قَدْ بَلَغَنَا
أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ الرّحْمَنُ
وَلَنْ نُؤْمِنَ بِهِ أَبَدًا : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبّي لَا إِلَهَ
إِلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }
[ مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ وَمَا هَمّ بِهِ ]
وَأَنْزَلَ
عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَا هَمّ بِهِ {
أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ
عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذّبَ وَتَوَلّى
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنّ اللّهَ يَرَى كَلّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
لَنَسْفَعَنْ بِالنّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ
نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ كَلّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَنَسْفَعًا : لَنَجْذِبَنْ
وَلَنَأْخُذَنْ . قَالَ الشّاعِرُ
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصّرَاخَ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
وَالنّادِي
: الْمَجْلِسُ الّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْقَوْمُ وَيَقْضُونَ فِيهِ
أُمُورَهُمْ. وَفِي كِتَابِ اللّهِ [ ص 312 ] { وَتَأْتُونَ فِي
نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } وَهُوَ النّدِيّ
( قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ ): اذْهَبْ إلَيْك فَإِنّي مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَهْلُ النّدِيّ وَأَهْلُ الْجُودِ وَالنّادِي
وَفِي
كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { وَأَحْسَنُ نَدِيّا } وَجَمْعُهُ أَنْدِيَةٌ
. فَلْيَدْعُ أَهْلَ نَادِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ } يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ . قَالَ سَلَامَةُ بْنُ
جَنْدَلٍ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ :
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ
لَا مَهَاذِيرَ فِي النّدِيّ مَكَانِي ... رَ وَلَا مُصْمِتِينَ بِالْإِفْحَامِ
وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ النّادِي : الْجُلَسَاءُ .
وَالزّبَانِيَةُ الْغِلَاظُ الشّدَادُ وَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
خَزَنَةُ النّارِ . وَالزّبَانِيَةُ ( أَيْضًا ) فِي الدّنْيَا :
أَعْوَانُ الرّجُلِ الّذِينَ يَخْدُمُونَهُ وَيُعِينُونَهُ وَالْوَاحِدُ
زِبْنِيَةٌ .
قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى فِي ذَلِكَ
مَطَاعِيمُ فِي الْمَقْرَى مَطَاعِينُ فِي الْوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلُومُهَا
يَقُول
: شَدّادٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ صَخْرُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ الْهُذَلِيّ وَهُوَ صَخْرُ الْغَيّ زبانيه4827"id="الشعر"
> وَمِنْ كَبِيرٍ نَفَرٌ زَبَانِيَهْ [ ص 313 ]
[ مَا أَنْزَلَهُ تَعَالَى فِيمَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَمْوَالِهِمْ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا عَرَضُوا (
عَلَيْهِ ) مِنْ أَمْوَالِهِمْ { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ }
[اسْتِكْبَارُ قُرَيْشٍ عَنْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالرّسُولِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ]
فَلَمّا
جَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَا
عَرَفُوا مِنْ الْحَقّ وَعَرَفُوا صِدْقَهُ فِيمَا حَدّثَ وَمَوْقِعَ
نُبُوّتِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ حِين سَأَلُوهُ
عَمّا سَأَلُوا عَنْهُ حَالَ الْحَسَدُ مِنْهُمْ لَهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
اتّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ فَعَتَوْا عَلَى اللّهِ وَتَرَكُوا أَمْرَهُ
عِيَانًا ، وَلَجّوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ . فَقَالَ
قَائِلُهُمْ { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ } أَيْ اجْعَلُوهُ لَغْوًا وَبَاطِلًا ،
وَاِتّخِذُوهُ هُزُوًا لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَهُ بِذَلِكَ فَإِنّكُمْ إنْ
نَاظَرْتُمُوهُ أَوْ خَاصَمْتُمُوهُ يَوْمًا غَلَبَكُمْ .
[ تَهَكّمُ أَبِي جَهْلٍ بِالرّسُولِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَنْفِيرُ النّاسِ عَنْهُ ]
فَقَالَ
أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّمَا جُنُودُ اللّهِ الّذِينَ يُعَذّبُونَكُمْ فِي
النّارِ وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ
النّاسِ عَدَدًا ، وَكَثْرَةً أَفَيَعْجِزُ كُلّ مِئَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ
عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
مِنْ قَوْله : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النّارِ إِلّا مَلَائِكَةً
وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ إِلّا فِتْنَةً لِلّذِينَ كَفَرُوا } إلَى
آخِرِ الْقِصّةِ فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ جَعَلُوا إذَا
جَهَرَ رَسُولُ اللّه - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْقُرْآنِ
وَهُوَ يُصَلّي ، يَتَفَرّقُونَ عَنْهُ وَيَأْبَوْنَ أَنْ يَسْتَمِعُوا
لَهُ فَكَانَ الرّجُلُ مِنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْضَ مَا يَتْلُو
مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي ، اسْتَرَقَ السّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا
مِنْهُمْ فَإِنْ رَأَى أَنّهُمْ [ ص 314 ] ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ
فَلَمْ يَسْتَمِعْ وَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - صَوْتَهُ فَظَنّ الّذِي يَسْتَمِعُ أَنّهُمْ لَا يَسْتَمِعُونَ
شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا دُونَهُمْ أَصَاخَ لَهُ
يَسْتَمِعُ مِنْهُ .
[ سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ { وَلَا تَجْهَرْ } إلَخْ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ مَوْلَى عَمْرِو
بْنِ عُثْمَانَ ، أَنّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ حَدّثَهُمْ أَنّ
عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - حَدّثَهُمْ
إنّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } وَابْتَغِ مِنْ
أَجْلِ أُولَئِكَ النّفَرِ . يَقُولُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك
فَيَتَفَرّقُوا عَنْك ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فَلَا يَسْمَعْهَا مَنْ
يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ دُونَهُمْ لَعَلّهُ
يَرْعَوِي إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعَ بِهِ .
[عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَا نَالَهُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَبِيلِ جَهْرِهِ بِالْقُرْآنِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ أَوّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالُوا : وَاَللّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطّ ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : أَنَا ؛ قَالُوا : إنّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْك ، إنّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ أَرَادُوهُ قَالَ دَعُونِي فَإِنّ اللّهَ سَيَمْنَعُنِي . قَالَ فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضّحَى ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا ، حَتّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمّ قَرَأَ " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ " رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ { الرّحْمَنُ عَلّمَ الْقُرْآنَ } قَالَ ثُمّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا . قَالَ فَتَأَمّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ مَاذَا قَالَ [ ص 315 ] قَالَ ثُمّ قَالُوا : إنّهُ لَيَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ فَقَامُوا إلَيْهِ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنّ يَبْلُغَ . ثُمّ انْصَرَفَ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثّرُوا فِي وَجْهِهِ فَقَالُوا لَهُ هَذَا الّذِي خَشِينَا عَلَيْك ؛ فَقَالَ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللّهِ أَهْوَنَ عَلَيّ مِنْهُمْ الْآنَ وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنّهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا ؛ قَالُوا : لَا ، حَسْبُك ، قَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ.