كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
قوله {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} استثناء من أحوال عامة، أي ما يقول قولا في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه.
والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شر ليكون عليه الجزاء فلا يكتب الحفظة إلا ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة. وقال الحسن: يكتبان كل ما صدر من العبد، قال مجاهد وأبو الجوزاء: حتى أنينه في مرضه. وروي مثله عن مالك بن أنس. وإنما خص القول بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وأنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم.
وأما الأعمال التي هي من أثر الشرك كالتطواف بالصنم، أو من أثر أذى النبي عليه الصلاة والسلام كإلقاء سلا الجذور عليه في صلاته، ونحو ذلك، فهم مؤاخذون به في ضمن أقوالهم على أن تلك الأفعال لا تخلو من مصاحبة أقوال مؤاخذ عليها بمقدار ما صاحبها.
ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل بإلقاء الشبه، وتغرير الأغرار، ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ، على أنه من المعلوم بدلالة الاقتضاء أن المؤاخذة على الأعمال أولى من المؤاخذة على الأقوال وتلك الدلالة كافية في تذكير المؤمنين.
وجملة {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} في موضع الحال، وضمير {لديه} عائد إلى {الإنسان} [ق: 16] والمعنى: لدى لفظه بقوله.
و {عتيد} فعيل من عتد بمعنى هيأ، والتاء مبدلة من الدال الأول إذ أصله عديد، أي معد كما في قوله تعالى {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: من الآية31]. وعندي أن {عتيد} هنا صفة مشبهة من قولهم "عتد" بضم التاء إذا جسم وضخم كناية عن كونه شديدا وبهذا يحصل اختلاف بينه وبين قوله الآتي {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [قّ: 23] ويحصل محسن الجناس التام بين الكلمتين.
وقد تواطأ المفسرون على تفسير التلقي في قوله {المتلقيان} بأنه تلقي الأعمال لأجل كتبها في الصحائف لإحضارها للحساب وكان تفسيرا حائما حول جعل المفعول المحذوف لفعل {يتلقى} ما دل عليه قوله بعده {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} بدلالته الظاهرة أو بدلالة الاقتضاء. فالتقدير عندهم: إذ يتلقى المتلقيان عمل الإنسان وقوله، فتكون هذه الجملة على تقديرهم منفصلة عن جملة {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [قّ: من الآية19] كما سنبينه.
ولفخر الدين معنى دقيق فبعد أن أجمل تفسير الآية بما يساير تفسير الجمهور قال ويحتمل أن يقال التلقي الاستقبال، يقال: فلان تلقى الركب، وعلى هذا الوجه يكون معناه: وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور. والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم النشور، أي وقت تلقيهما وسؤالهما أنه من أي القبيلين يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال ملكان ينزلان، وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [قّ: من الآية21]. فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى روحه من ملك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة، وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم اه.
وكأنه ينحو به منحى قوله تعالى {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة: 85-83] ولا نوقف في سداد هذا التفسير إلا على ثبوت وجود ملكين يتسلمان روح الميت من يد ملك الموت عند قبضها ويجعلانها في المقر المناسب لحالها. والمظنون بفخر الدين أنه أطلع على ذلك، وقد يؤيده ما ذكره القرطبي في التذكرة عن مسند الطيالسي عن البراء. وعن كتاب النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا حضر الميت المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء يقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان، فإذا قبضه الملك لم يدعوها في يده طرفة فتخرج كأطيب ريح المسك فتعرج بها الملائكة حتى يأتوا به باب السماء". وساق الحديث إلا إن في الحديث ملائكة جمعا وفي الآية {المتلقيان} تثنية.
وعلى هذا الوجه يكون مفعول {يتلقى} ما دل عليه قوله بعده {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ} والتقدير: إذ يتلقى المتلقيان روح الإنسان. ويكون التعريف في قوله {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} عوضا عن المضاف إليه أي عن يمينها وعن شمالها قعيد، وهو على التوزيع، أي عن يمين أحدهما وعن شمال الآخر. ويكون {قعيد} مستعملا في معنى: قعيدان فإن فعيلا بمعنى فاعل قد يعامل معاملة فعيل بمعنى مفعول، كقول الأزرق بن طرفة:
رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئا ومن أجل الطوي رماني
والاقتصار على {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} حينئذ ظاهر لأن الإنسان في تلك الحالة لا تصدر منه أفعال لعجزه فلا يصدر منه في الغالب إلا أقوال من تضجر أو أنين أو شهادة بالتوحيد، أو ضدها، ومن ذلك الوصايا والإقرارات.
[19] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}
عطف على جملة {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: 16] لاشتراكهما في التنبيه على الجزاء على الأعمال. فهذا تنقل في مراحل الأمور العارضة للإنسان التي تسلمه من حال إلى آخر حتى يقع في الجزاء على أعماله التي قد أحصاها الحفيظان.
وإنما خولف التعبير في المعطوف بصيغة الماضي دون صيغة المضارع التي صيغ بها المعطوف عليه لأنه لقربه صار بمنزلة ما حصل قصدا لإدخال الروع في نفوس المشركين كما استفيد من قوله {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} نظير قوله تعالى {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]
ويأتي على ما اختارها الفخر في تفسير {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [قّ: 17] الآية أن تكون جملة {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} الخ في موضع الحال. والتقدير: وقد جاءت سكرة الموت بالحق حينئذ.
والمجيء مجاز في الحصول والاعتراء وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احتضار الإنسان وشعوره بأنه مفارق الحياة التي ألفها وتعلق بها قلبه.
والسكرة: اسم لما يعتري الإنسان من ألم أو اختلال في المزاج يحجب من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة. وهي مشتق من السكر بفتح فسكون وهو الغلق لأنه يغلق العقل ومنه جاء وصف السكران.
والباء في قوله {بالحق} للملابسة، وهي إما حال من {سَكْرَةُ الْمَوْتِ} أي متصفة
بأنها حق، والحق: الذي حق وثبت فلا يتخلف، أي السكرة التي لا طمع في امتداد الحياة بعدها، وإما حال من {الموت} ، أي ملتبسا بأنه الحق، أي المفروض المكتوب على الناس فهم محقوقون به، أو الذي هو الجد ضد العبث كقوله تعالى {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [التغابن: من الآية3] مع قوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [صّ: 27].
وقول {ذلك} إشارة إلى الموت بتنزيل قرب حصوله منزلة الحاصل المشاهد.
و {تحيد} تفر وتهرب، وهو مستعار للكراهية أو لتجنب أسباب الموت. والخطاب للمقصود من الإنسان وبالمقصود الأول منه وهم المشركون لأنهم أشد كراهية للموت لأن حياتهم مادية محضة فهم يريدون طول الحياة قال تعالى {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: من الآية96] إذ لا أمل لهم في حياة أخرى ولا أمل لهم في تحصيل نعيمها، فأما المؤمنون فإن كراهتهم للموت المرتكزة في الجبلة بمقدار الإلف لا تبلغ بهم إلى حد الجزع منه. وفي الحديث "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" ، وتأويله بالمؤمن يحب لقاء الله للطمع في الثواب، وبالكافر يكره لقاء الله. وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إن المؤمن إذا حضرته الوفاة رأى ما أعد الله له من خير فأحب لقاء الله" أي والكافر بعكسه، وقد قال الله تعالى خطابا لليهود {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8].
وتقديم {منه} على {تحيد} للاهتمام بما منه الحياد، وللرعاية على الفاصلة.
[21,20] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} عطف على {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [قّ: 19] على تفسير الجمهور. فأما على تفسير الفخر فالجملة مستأنفة وصيغة المضي في قوله {ونفخ} مستعملة في معنى المضارع، أي ينفخ في الصور فصيغ له المضي لتحقق وقوعه مثل قوله تعالى {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] والمشار إليه بذلك في قوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} إذ أن ذلك الزمان الذي نفخ في الصور عنده هو يوم الوعيد.
والنفخ في الصور تقدم القول فيه عند قوله تعالى {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في سورة الأنعام. [73]
وجملة {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} معترضة. والإشارة في قوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} راجعة إلى النفع المأخوذ من فعل {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} والإخبار عن النفخ بأنه {يَوْمُ الْوَعِيدِ} بتقدير مضاف، أي ذلك حلول يوم الوعيد. وإضافة {يوم} إلى {الوعيد} من إضافة الشيء إلى ما يقع فيه، أي يوم حصول الوعيد الذي كانوا توعدوا به، والاقتصار على ذكر الوعيد لما علمت من أن المقصود الأول من هذه الآية هم المشركون. وفي الكلام اكتفاء، تقديره: ويوم الوعد.
وعطفت جملة {جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} على جملة {نُفِخَ فِي الصُّورِ} والمراد ب {كُلُّ نَفْسٍ} كل نفس من المتحدث عنهم وهم المشركون، ويدل عليه أمور:
أحدهما: السياق.
والثاني: قوله {مَعَهَا سَائِقٌ} لأن السائق يناسب إزجاء أهل الجرائم، وأما المهديون إلى الكرامة فإنما يهديهم قائد يسير أمامهم قال تعالى {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال: 6].
والثالث: قوله بعده {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [قّ: 22]
والرابع: قوله بعده {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [قّ:23] الآية.
وجملة {مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} بدل اشتمال من جملة {جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} و {سائق} مرفوع بالظرف الذي هو {معها} على رأي من أجازه، أو مبتدأ خبره {معها}. ويجوز أن يكون جملة {مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} حالا من {كُلُّ نَفْسٍ} وعطف {وشهيد} على {سائق} يجوز أن يكون من عطف ذات على ذات فيكون المراد ملكان أحدهما يسوق النفس إلى المحشر والآخر يشهد عليها بما حوته صحائف أعمالها. ويجوز أن يكون من عطف الصفات مثل:
إلى الملك القرم وابن الهمام
فهو ملك واحد.
والسائق الذي يجعل غيره أمامه يزجيه في السير ليكون بمرأى منه كيلا ينفلت وذلك من شأن المشي به إلى ما يسوء قال تعالى {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال: من الآية6] وقال {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر: من الآية71]، وأما قوله {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى
الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر: 73] فمشاكلة. وضد السوق: القود.
[22] {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}
مقول قول محذوف دل على تعينه من الخطاب، أي يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء.
وجملة القول ومقوله في موضع الحال من {كُلُّ نَفْسٍ} [قّ: 21] أو موقع الصفة، وعلامات الخطاب في كلمات {كنت} ، و {عنك} ، و {غطاءك} ، و {بصرك} مفتوحة لتأويل النفس بالشخص أو بالإنسان ثم غلب فيه التذكير على التأنيث. وهذا الكلام صادر من جانب الله تعالى وهو شروع في ذكر الحساب.
والغفلة: الذهول عما شأنه أن يعلم وأطلقت هنا على الإنكار والجحد على سبيل التهكم، ورشح ذلك قوله {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} بمعنى: بينا لك الدليل بالحس فهو أيضا تهكم.
وأوثر قوله {فِي غَفْلَةٍ} على أن يقال غافلا للدلالة على تمكن الغفلة منه ولذلك استتبع تمثيلها بالغطاء.
وكشف الغطاء تمثيل لحصول اليقين بالشيء بعد إنكار وقوعه، أي كشفنا عنك الغطاء الذي كان يحجب عنك وقوع هذا اليوم بما فيه، واسند الكشف إلى الله تعالى لأنه الذي أظهر لها أسباب حصول اليقين بشواهد عين اليقين. وأضيف "غطاء" إلى ضمير الإنسان المخاطب للدلالة على اختصاصه به وأنه مما يعرف به.
وحدة البصر: قوة نفاذه في المرئي، وحدة كل شيء قوة مفعوله، ومنه حدة الذهن، والكلام يتضمن تشبيه حصول اليقين برؤية المرئي ببصر قوي، وتقييده بقوله {اليوم} تعريض بالتوبيخ، أل ليس حالك اليوم كحالك قبل اليوم إذ كنت في الدنيا منكرا للبعث.
والمعنى: فقد شاهدت البعث والحشر والجزاء، فإنهم كانوا ينكرون ذلك كله، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] وقالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138] فقد رأى العذاب ببصره.
[23] {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
الواو واو الحال والجملة حال من تاء الخطاب في قوله {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ
هَذَا} [ق:22] أي يوبخ عند مشاهدة العذاب بكلمة {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} في حال قوله قرينه {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}
وهاء الغائب في قوله {قرينه} عائدة إلى {كُلُّ نَفْسٍ} [قّ: 21] أو إلى الإنسان.
وقرين فعيل بمعنى مفعول، أي مقرون إلى غيره. وكأن فعل قرن مشتق من القرن بالتحريك وهو الحبل وكانوا يقرنون البعير بمثله لوضع الهودج، فاستعير القرين للملازم. وهذا ليس بالتفات إذ ليس هو تغيير ضمير ولكنه تعيين أسلوب الكلام وأعيد عليه ضمير الغائب المفرد باعتبار معنى {نفس} أي شخص، أو غلب التذكير على التأنيث.
واسم الإشارة في قوله {هَذَا مَا لَدَيَّ} الخ، يفسره قوله {هَذَا مَا لَدَيَّ}
و {ما} في قوله {مَا لَدَيَّ} موصولة بدل من اسم الإشارة. و {لدي} صلة ، و {عتيد} خبر عن اسم الإشارة.
واختلف المفسرون في المراد بالقرين في هذه الآية على ثلاثة أقوال: فقال قتادة والحسن والضحاك وابن زيد ومجاهد في أحد قوليه هو الملك الموكل بالإنسان الذي يسوقه إلى المحشر أي هو السائق الشهيد. وهذا يقتضي أن يكون القرين في قوله الآتي {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [قّ: من الآية27] بمعنى غير معنى القرين في قوله {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} .
وعن مجاهد أيضا: أن القرين شيطان الكافر الذي كان يزين له الكفر في الدنيا أي الذي ورد في قوله تعالى {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [ فصلت: 25].
وعن ابن زيد أيضا: أن قرينه صاحبه من الإنس، أي الذي كان قرينه في الدنيا.
وعلى الاختلاف في المراد بالقرين يختلف تفسير قوله {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} . فإن كان القرين الملك كانت الإشارة بقوله {هذا} إلى العذاب الموكل به ذلك الملك؛ وإن كان القرين شيطانا أو أنسانا كانت الإشارة محتملة لأن تعود إلى العذاب كما في الوجه الأول، أو أن تعود إلى معاد ضمير الغيبة في قوله {قرينه} وهو في نفس الكافر، أي هذا الذي معي، فيكون {لدي} بمعنى: معي، إذ لا يخلو أحد من صاحب يأنس بمحادثته والمراد به قرين الشرك المماثل.
وقد ذكر الله من كان قرينا للمؤمن من المشركين واختلاف حاليهما يوم الجزاء بقوله
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يقول يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} الآية في سورة الصافات. [52,51] وقول القرين {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} مستعمل في التلهف والتحسر والإشقاق، لأنه لما رأى ما به العذاب علم أنه قد هيئ له، أولما رأى ما قدم إليه قرينه علم أنه لاحق على أثره كقصة الثورين الأبيض والأحمر اللذين استعان الأسد بالأحمر منهما على أكل الثور الأبيض ثم جاء الأسد بعد يوم ليأكل الثور الأحمر فعلا الأحمر ربوة وصاح ألا إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
وتقدم معنى {عتيد} عند قوله تعالى {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [قّ: 18]، وهو هنا متعين للمعنى الذي فسر عليه المفسرون، أي معد ومهيأ.
[25,24] {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ}
انتقال من خطاب النفس إلى خطاب الملكين الموكلين السائق والشهيد. والكلام مقول قول محذوف. والجملة استئناف ابتدائي انتقال من خطاب فريق إلى خطاب فريق آخر، وصيغة المثنى في قوله {ألقيا} تجوز أن تكون مستعملة في أصلها فيكون الخطاب للسائق والشهيد. ويجوز أن تكون مستعملة في خطاب الواحد وهو الملك الموكل بجهنم وخوطب بصيغة المثنى جريا على طريقة مستعملة في الخطاب جرت على ألسنتهم لأنهم يكثر فيهم أن يرافق السائر رفيقان، وهي طريقة مشهورة، كما قال امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقولهم: يا خليلي، ويا صاحبي. والمبرد يرى أن تثنية الفاعل نزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما كأنه قيل: ألق ألق للتأكيد. وهذا أمر بأن يعم الإلقاء في جهنم كل كفار عنيد، فيعلم منه كل حاضر في الحشر من هؤلاء أنه مدفوع به إلى جهنم.
والكفار: القوي الكفر، أي الشرك.
والعنيد: القوي العناد، أي المكابرة والمدافعة للحق وهو يعلم أنه مبطل.
والمناع: الكثير المنع، أي صد الناس عن الخير، والخير هو الإيمان، كانوا يمنعون أبناءهم وذويهم من اتباع الإيمان ومن هؤلاء الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه من دخل منكم في الإسلام لا أنفعه بشيء ما عشت. ويحتمل أن يراد به أيضا منع الفقراء من المال لأن الخير يطلق على المال وكان أهل الجاهلية يمنعون الفقراء ويعطون المال
لأكابرهم تقربا وتلطفا.
والمعتدي: الظالم الذي يعتدي على المسلمين بالأذى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والقول الباطل.
والمريب الذي أراب غيره، أي جعله مرتابا، أي شاكا، أي بما يلقونه إلى الناس من صنوف المغالطة ليشككوهم في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة الإيمان والتوحيد. وبين لفظي {عتيد} [ق: 18] و{عنيد} الجناس المصحف.
[26] {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} يجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من {كَفَّارٍ عَنِيدٍ} فإن المعرفة تبدل من النكرة كقوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:53,52] على أن الموصول هنا تعريفه لفظي مجرد لأن معنى الصلة غير مخصوص بمعين، وأن قوله {فألقياه} تفريع على {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [قّ:24] ومصب التفريع المتعلق وهو {فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أي في أشد عذاب جهنم تفريعا عللا الأمر بإلقائه في جهنم تفريع بيان، وإعادة فعل {ألقيا} للتأكيد مع تفريع متعلق الفعل المؤكد. وهذا من بديع النظم، ونظيره قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]
ففرع على قوله {كذبت} إلخ قوله {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} ومنه قوله تعالى {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]، فالمقصود بالتفريع هو قوله {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} وإعادة {تحسبنهم} تفيد التأكيد، وعليه فالذي جعل مع الله إلها آخر: الكفار المضاف إليه {كل} [ق:24] فهو صادق على جماعة الكفارين فضمير النصب في {ألقيناه} بمنزلة ضمير جمع، أي فألقياهم.
ويجوز أن يكون اسم الموصول مبتدأ على استئناف الكلام ويضمن الموصول معنى الشرط فيكون في وجود الفاء في خبره لأجل ما فيه من معنى الشرط وهذا كثير. والمقصود منه هنا تأكيد العموم الذي في قوله {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} .
[27] {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}
حكاية قول القرين بالأسلوب المتبع في حكاية المقاولات في القرآن وهو أسلوب
الفصل دون عطف فعل القول على شيء، وهو الأسلوب الذي ذكرناه في قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} الآية في سورة البقرة،[30] تشعر بأن في المقام كلاما مطويا هو كلام صاحب القرين طوي للإيجاز، ودليله ما تضمنه قول القرين من نفي أن يكون هو أطغى صاحبه إذ قال {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} . وقد حكي ذلك في سورة ص صريحا بقوله {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} [ص:59-61] وتقدير المطوي هنا: أن الكافر العنيد لما قدم إلى النار أراد التنصل من كفره وعناده وألقى تبعته على قرينه الذي كان يزين له الكفر فقال: هذا القرين أطغاني، فقال قرينه {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} .
فالقرين هذا هو القرين الذي تقدم ذكره في قوله {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [قّ:23].
والطغيان: تجاوز الحد في التعاظم والظلم والكفر، وفعله يائي وواوي ، يقال:طغي يطغي كرضي، وطغا يطغو كدعا.
فمعنى {مَا أَطْغَيْتُهُ} ما جعلته طاغيا، أي ما أمرته بالطغيان ولا زينته له. والاستدراك ناشئ عن شدة المقارنة بينه وبين قرينه لا سيما إذا كان المراد بالقرين شيطانه المقيض له فإنه قرن به من وقت إدراكه، فالاستدراك لدفع توهم أن المقارنة بينهما تقتضي أن يكون ما به من الطغيان بتلقين القرين فهو ينفي ذلك عن نفسه، ولذلك أتبع الاستدراك بجملة {كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.فأخبر القرين بأن صاحبه ضال من قبل فلم يكن اقترانه معه في التقييض أو في الصحبة بزائد إياه إضلالا، وهذا نظير ما حكاه الله عن الفريقين في قوله {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] وفعل {كان} لإفادة أن الضلال ثابت له بالأصالة ملازم لتكوينه.
والبعيد: مستعار للبالغ في قوة النوع حدا لا يبلغ إليه إدراك العاقل بسهولة كما لا يبلغ سير السائر إلى المكان البعيد إلا بمشقة أو بعيد الزمان، أي قديم أصيل فيكون تأكيدا لمفاد فعل {كان} ، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} في سورة النساء. [116]
والمعنى: أن تمكن الضلال منه يدل على أنه ليس فيه بتابع لما يمليه غيره عليه لأن شأن التابع في شيء أن لا يكون مكينا فيه مثل علم المقلد وعلم النظار.
[29,28] {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
هذا حكاية كلام يصدر يومئذ من جانب الله تعالى للفريقين الذي اتبعوا والذين اتبعوا، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام يدل عليه قوله {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [قّ: من الآية22].
وعدم عطف فعل {قال} على ما قبله لوقوعه في معرض المقاولة، والتعبير بصيغة الماضي لتحقق وقوعه فقد صارت المقاولة بين ثلاث جوانب.
والاختصام: المخاصمة وهو مصدر بصيغة الافتعال التي الأصل فيها أنها لمطاوعة بعض الأفعال فاستعملت للتفاعل مثل: اجتوروا واعتوروا واختصموا.
والنهي عن المخاصمة بينهم يقتضي أن النفوس الكافرة ادعت أن قرناءها أطغوها، وأن القرناء تنصلوا من ذلك وأن النفوس أعادت رمي قرنائها بذلك فصار خصاما فلذلك قال الله تعالى {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} وطوي ذكره لدلالة {لا تَخْتَصِمُوا} عليه إيثارا لحق الإيجاز في الكلام. والنهي عن الاختصام بعد وقوعه بتأويل النهي عن الدوام عليه، أي كفوا عن الخصام.
ومعنى النهي أن الخصام في ذلك لا جدوى له لأن استواء الفريقين في الكفر كاف في مؤاخذة كليهما على السواء كما قال تعالى {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: من الآية38] وذلك كناية عن أن حكم الله عليهم قد تقرر فلا يفيدهم التخاصم لإلقاء التبعة على أحد الفريقين.
ووجه استوائهما في العذاب أن الداعي إلى إضلاله قائم بما اشتهته نفسه من ترويج الباطل دون نظر في الدلائل الوزاعة عنه وأن متلقي الباطل ممن دعاه إليه قائم بما اشتهته نفسه من الطاعة لأئمة الضلال فاستويا في الداعي وترتب أثره.
والواو في {وَقَدْ قَدَّمْتُ} واو الحال. والجملة حال من ضمير {تختصموا} وهي حال معللة للنهي عن الاختصام.
والمعنى: لا تطمعوا في أن تدافعكم في إلقاء التبعة ينجيكم من العقاب بعد حال إنذاركم بالوعيد من وقت حياتكم فما اكترثتم بالوعيد فلا تلوموا إلا أنفسكم لأن من أنذر
فقد أعذر.
فقوله {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} كناية عن عدم الانتفاع بالخصام كون العقاب عدلا من الله.
والباء في {بالوعيد} مزيدة للتأكيد كقوله {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. والمعنى: وقد قدمت إليكم الوعيد قبل اليوم.
والتقديم: جعل الشيء قدام غيره.
والمراد به هنا: كونه سابقا على المؤاخذة بالشرك لأن الله توعدهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم. فالمعنى الأول المكنى عنه بين بجملة {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} ، أي لست مبطلا ذلك الوعيد، وهو القول، إذ الوعيد من نوع القول، والتعريف للعهد، أي فما أوعدتكم واقع لا محالة لأن الله تعهد أن لا يغفر لمن يشرك به ويموت على ذلك. والمعنى الثاني المكنى عنه بين بجملة {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، أي فلذلك قدمت إليكم الوعيد.
والمبالغة التي في وصف {ظلام} راجعة إلى تأكيد النفي. والمراد: لا أظلم شيئا من الظلم، وليس المعنى: ما أنا بشديد الظلم كما قد يستفاد من توجه النفي إلى المقيد يفيد أن يتوجه إلى القيد لأن ذلك أغلبي. والأكثر في نفي أمثلة المبالغة أن يقصد بالمبالغة مبالغة النفي، قال طرفة:
ولست بحلال التلاع خافة ... ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فإنه لا يريد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي.
وذكر الشيخ في دلائل الإعجاز توجه نفي الشيء المقيد إلى خصوص القيد كتوجه الإثبات سواء، ولكن كلام التفتزاني في كتاب المقاصد في أصول الدين في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك، فالأكثر أن النفي يتوجه في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك، فالأكثر أن النفي يتوجه إلى القيد فيكون المنفي القيد، وقد يعتبر القيد قيدا للنفي وهذا هو التحقيق. علي أني أرى أن عد مثل صيغة المبالغة في عداد القيود محل نظر فإن المعتبر من القيود هو ما كان لفظا زائدا على اللفظ المنفي من صفة أو حال أو نحو ذلك، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: لست ظلاما، ولكن أظلم، ويحسن أن يقال لا آتيك محاربا ولكن مسالما.
وقد أشار في الكشاف إلى أن إيثار وصف {ظلام} هنا إيماء إلى أن المنفي لو كان غير منفي لكان ظلما شديدا فيفهم منه أنه لو أخذ الجاني قبل أن يعرف أن عمله جناية
لكانت مؤاخذته بها ظلما شديدا. ولعل صاحب الكشاف يرمي إلى مذهبه من استواء السيئات، والتعبير بالعبيد دون التعبير بالناس ونحوه لزيادة تقرير معنى الظلم في نفوس الأمة، أي لا أظلم ولو كان المظلوم عبدي فإذا كان الله الذي خلق العباد قد جعل مؤاخذة من لم يسبق له تشريع ظلما فما بالك بمؤاخذة الناس بعضهم بعضا بالتبعات دون تقدم إليهم بالنهي من قبل، ولذلك يقال: لا عقوبة إلا على عمل فيه قانون سابق قبل فعله.
[30] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}
ظرف متعلق ب {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [قّ: 28]. والتقدير: قال لهم في ذلك القول يوم يقول قولا آخر لجهنم {هَلِ امْتَلأْتِ} . ومناسبته تعليقه به أن هذا القول لجهنم مقصود به ترويع المدفوعين إلى جهنم أن لا يطمعوا في أن كثرتهم يضيق بها سعة جهنم فيطمع بعضهم أن يكون ممن لا يوجد له مكان فيها، فحكاه الله في القرآن عبرة لمن يسمعه من المشركين وتعليما لأهل القرآن المؤمنين ولذلك استوت قراءة {يقول} بالياء، وهي لنافع وأبي بكر عن عاصم جريا على مقتضى ظاهر ما سبقه من قوله {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} وقراءة الباقين بالنون على الالتفات بل هو التفات تابع لتبديل طريق الإخبار من الحديث عن غائب إلى خطاب حاضر.
والقول الأول حقيقي وهو كلام يصدر من جانب الله بمحض خلقه دون واسطة. فلذلك أسند إلى الله كما يقال القرآن كلام الله.
والاستفهام في {هَلِ امْتَلأْتِ} . مستعمل في تنبيه أهل العذاب إلى هذا السؤال على وجه التعريض.
وأما القول لجهنم فيجوز أن يكون حقيقة بأن يخلق الله في أصوات لهيبها أصواتا ذات حروف يلتئم منها كلام، ويجوز أن يكون مجازا عن دلالة حالها على أنها تسع ما يلقى فيها من أهل العذاب بأن يكشف باطنها للمعروضين عليها حتى يروا سعتها كقول الراجز:
امتلا الحوض وقال: قطني
والاستفهام في {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} مستعمل للتشويق والتمني.
وفيه دلالة على أن الموجودات مشوقة إلى الإيفاء بما خلقت له كما قال الشيطان {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]. وفيه دلالة على إظهار الامتثال لما خلقها الله لأجله، ولأنها لا تتلكأ ولا تتعلل في أدائه على أكمل حال في بابه.
والمزيد: مصدر ميمي، وهو الزيادة مثل المجيد والحميد. ويجوز أن يكون اسم مفعول من زاد، أي هل من جماعة آخرين يلقون في.
[31-35] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} عطف {وأزلفت} على {نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} فالتقدير: يوم أزلفت الجنة للمتقين وهو رجوع إلى مقابل حالة الضالين يوم ينفخ في الصور، فهذه الجملة متصلة في المعنى بجملة {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [قّ:21] ولو اعتبرت معطوفة عليها لصح ذلك إلا أن عطفها على جملة {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ} غنية عن ذلك ولا سيما مع طول الكلام.
والإزلاف: التقريب مشتق من الزلف بالتحريك وهو القربة، وقياس فعله أنه كفرح كما دل عليه المصدر ولم يرو في كلامهم، أي جعلت الجنة قريبا من المتقين، أي ادنوا منها.
والجنة موجودة من قبل ورود المتقين إليها فإزلافها قد يكون بحشرهم للحساب بمقربة منها كرامة لهم عن كلفة المسير إليها، وقد يكون عبارة عن تيسير وصولهم إليها بوسائل غير معروفة في عادة أهل الدنيا.
وقوله {غَيْرَ بَعِيدٍ} يرجح الاحتمال الأول، أي غير بعيد منهم وإلا صار تأكيدا لفظيا ل {أزلفت} كما يقال: عاجل غير آجل، وقوله {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79] والتأسيس أرجح من احتمال التأكيد.
وانتصب {غَيْرَ بَعِيدٍ} على الظرفية باعتبار أنه وصف لظرف مكان محذوف. والتقدير: مكانا غير بعيد، أي عن المتقين. وهذا الظرف حال من {الجنة} . وتجريد
{بعيد} من علامة التأنيث: إما على اعتبار {غَيْرَ بَعِيدٍ} وصفا لمكان، وإما جري على الاستعمال الغالب في وصف بعيد وقريب إذا أريد البعد والقرب بالجهة دون النسب أن يجردا من علامة التأنيث كما قاله الفراء أو لأن تأنيث اسم الجنة غير حقيقي كما قال الزجاج، وإما لأنه جاء على زنة المصدر مثل الزئير والصليل، كما قال الزمخشري، ومثله قوله تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: من الآية56].
وجملة {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} معترضة، فلك أن تجعلها وحدها معترضة وما بعدها متصلا بما قبلها فتكون معترضة بين البدل والمبدل منه وهما {للمتقين} و {لِكُلِّ أَوَّابٍ} بدلا من {للمتقين}، وتكرير الحرف الذي جر به المبدل منه لقصد التأكيد كقوله تعالى {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [سبأ: من الآية32] لمن آمن منهم الآية وقوله {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: من الآية11] واسم الإشارة المذكر مراعى فيه مجموع ما هو مشاهد عندهم من الخيرات.
والأواب: الكثير الأوب، أي الرجوع إلى الله، أي إلى امتثال أمره ونهيه.
والحفيظ: الكثير الحفظ لوصايا الله وحدوده. والمعنى: أنه محافظ على الطاعة فإذا صدرت منه فلتة أعقبها بالتوبة.
و {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} بدل من {كُلِّ أَوَّابٍ}
والخشية: الخوف. وأطلقت الخشية على أثرها وهو الطاعة.
والباء في {بالغيب} بمعنى "في" الظرفية لتنزيل الحال منزلة المكان، أي الحالة الغائبة وهي حالة عدم اطلاع أحد عليه، فإن الخشية في تلك الحالة تدل على صدق الطاعة لله بحيث لا يرجو ثناء أحد ولا عقاب أحد فيتعلق المجرور بالتاء بفعل {خشي} .
ولك أن تبقي الباء على بعض معانيها الغالبة وهي الملابسة ونحوها ويكون {الغيب} مصدرا والمجرور حالا من ضمير {خشي} .
ومعنى {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} أنه حضر يوم الحشر مصاحبا قلبه المنيب إلى الله، أي مات موصوفا بالإنابة ولم يبطل عمله الصالح في آخر عمره، وهذا كقوله حكاية عن إبراهيم {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89,88]
وإيثار اسمه {الرحمن} في قوله {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} دون اسم الجلالة للإشارة إلى أن هذا المتقي يخشى الله وهو يعلم أنه رحمان، ولقصد التعريض بالمشركين الذين
أنكروا اسمه الرحمان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]
والمعنى على الذين خشوا: خشي صاحب هذا الاسم، فأنتم لا حظ لكم في الجنة لأنكم تنكرون أن الله رحمان بلة أن تخشوه.
ووصف قلب ب {منيب} على طريقة المجاز العقلي لأن القلب سبب الإنابة لأنه الباعث عليها.
وجملة {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} من تمام مقول القول المحذوف. وهذا الإذن من كمال إكرام الضيف أنه إن دعي إلى الوليمة أو جيء به فإنه إذا بلغ المنزل قيل له: ادخل بسلام.
والباء في {بسلام} للملابسة. والسلام: السلامة من كل أذى من تعب أو نصب، وهو دعاء.
ويجوز أن يراد به أيضا تسليم الملائكة عليهم حين دخولهم الجنة مثل قوله {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يّس:58]
ومحل هذه الجملة من التي قبلها الاستئناف البياني لأن ما قبلها يثير ترقب المخاطبين للإذن بإنجاز ما وعدوا به.
وجملة {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} يجوز أن تكون مما يقال للمتقين على حد قوله {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: من الآية73]، والإشارة إلى اليوم الذي هم فيه. وكان اسم الإشارة للبعيد للتعظيم.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى اليوم المذكور في قوله {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ} [قّ: 30] فإنه بعد أن ذكر ما يلاقيه أهل جهنم وأهل الجنة أعقبه بقوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} ترهيبا وترغيبا، وعلى هذا الوجه الثاني تكون هذه الجملة معترضة اعتراضا كوجها إلى المتقين يوم القيامة أو إلى السامعين في الدنيا.
وعلى كلا الوجهين فإضافة {يوم} إلى {الخلود} باعتبار أن أول أيام الخلود هي أيام ذات مقادير غير معتادة، أو باعتبار استعمال {يوم} بمعنى مطلق الزمان.
وبين كلمة {ادخلوها} وكلمة {الخلود} الجناس المقلوب الناقص، ثم إن جملة {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} يجوز أن تكون من بقية ما يقال للمتقين ابتداء من قوله {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} فيكون ضمير الغيبة التفاتا وأصله: لكم ما تشاؤون. ويجوز أن تكون مما خوطب به الفريقان في الدنيا وعلى الاحتمالين فهي مستأنفة استنئنافا بيانيا.
و {لَدَيْنَا مَزِيدٌ} أي زيادة على ما يشاؤون مما لم يخطر ببالهم، وذلك زيادة في
كرامتهم عند الله ووردت آثار متفاوتة القوة أن من المزيد مفاجأتهم بخيرات، وفيها دلالة على أن المفاجأة بالإنعام ضرب من التلطف والإكرام، وأيضا فإن الأنعام يجيئهم في صور معجبة. والقول في {مزيد} هنا كالقول في نظيره السابق آنفا.
وجاء ترتيب الآيات في منتهى الدقة فبدأت بذكر إكرامهم بقوله {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ثم بذكر أن الجنة جزاؤهم الذي وعدوا به فهي حق لهم، ثم أومأت إلى أن ذلك لأجل أعمالهم بقوله {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} الخ، ثم ذكرت المبالغة في إكرامهم بعد ذلك كله بقوله {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ} ثم طمأنهم بإن ذلك نعيم خالد، وزيد في إكرامهم بأن لهم ما يشاؤون ما لم يروه حين الدخول، وبأن الله وعدهم بالمزيد من لدنه.
[37,36] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [قّ: من الآية4] وما فرع عليه من قوله {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [قّ: 15] وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} إلى قوله {فَحَقَّ وَعِيدِ} [قّ:12 14]. فالوعيد الذي حق عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً}
والخبر الذي أفاده قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} تعريض بالتهديد وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وضميرا {قبلهم} و {منهم} عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} .ويفسره قوله بعده {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [قّ: 2]. وجرى على ذلك السنن قوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وقوله {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ: من الآية15]، ونظائره في القرآن كثيرة.
و {كم} خبرية وجر تمييزها ب {من} على الأصل.
والبطش: القوة على الغير.والتنقيب: مشتق من النقب بسكون القاف بمعنى الثقب، فيكون بمعنى:خرقوا، واستعير لمعنى: ذللوا وأخضعوا، أي تصرفوا في الأرض بالحفر
والغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا} في سورة الروم.[9]
وتعريف {البلاد} للجنس، أي في الأرض كقوله تعالى {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} [الفجر:11].
والفاء في {فنقبوا} للتفريع عن {أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد.
والجملة معترضة بين جملة {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} إلى آخره.
وجملة {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:14]
وجملة {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} بدل اشتمال من جملة {أهلكنا} ، أي إهلاكا لا منجي منه. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة. فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ولذلك دخلت {من} على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال: ما من محيص، وهذا قريب من قوله في سورة ص[3] {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}
والمحيص: مصدر ميمي من حاص إذا عدل وجاد، أي لم يجدوا محيصا من الإهلاك وهو كقوله تعالى {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} في سورة مريم.[98]
وقوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} إلى آخرها يجوز أن تكون الإشارة بذلك إلى إهلاك القرون الأشد بطشا، ويجوز أن يكون إل جميع ما تقدم من استدلال وتهديد وتحذير من يوم الجزاء.
والذكرى: التذكرة العقلية، أي التفكر في تدبر الأحوال التي قضت عليهم بالإهلاك ليقيسوا عليها أحوالهم فيعلموا أن سينالهم ما نال أولئك، وهذا قياس عقلي يدركه اللبيب من تلقاء نفسه دون احتياج إلى منبه.
والقلب: العقل وإدراك الأشياء على ما هي عليه. وإلقاء السمع: مستعار لشدة الإصغاء للقرآن ومواعظ الرسول صلى الله عليه وسلم كأن أسماعهم طرحت في ذلك فلا يشغلها شيء آخر تسمعه.
والشهيد: المشاهد وصيغة المبالغة فيه للدلالة على قوة المشاهدة للمذكر، أي تحديق العين إليه للحرص على فهم مراده مما يقارن كلامه من إشارة أو سحنة فإن النظر يعين على الفهم.
وقد جيء بهذه الجملة الحالية للإشارة إلى اقتران مضمونها بمضمون عاملها بحيث يكون صاحب الحال ملقيا سمعه مشاهدا. وهذه حالة المؤمن ففي الكلام تنويه بشأن المؤمنين وتعريض بالمشركين بأنهم بعداء عن الانتفاع بالذكريات والعبر.
وإلقاء السمع مع المشاهدة يوقظ العقل للذكرى والاعتبار إن كان للعقل غفلة.
وموقع {أو} للتقسيم لأن المتذكر إما أن يتذكر بما دلت عليه الدلائل العقلية من فهم أدلة القرآن ومن الاعتبار بأدلة الآثار على أصحابها كآثار الأمم مثل ديار ثمود، قال تعالى {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: من الآية52] فقوله {أَلْقَى السَّمْعَ} استعارة عزيزة شبه توجيه السمع لتلك الأخبار دون اشتغال بغيرها بإلقاء الشيء لمن أخذه فهو من قسم من له قلب، وإما أن يتذكر بما يبلغه من الأخبار عن الأمم كأحاديث القرون الخالية. وقيل المراد بمن ألقى السمع وهو شهيد خصوص أهل الكتاب الذين ألقوا سمعهم لهذه الذكرى وشهدوا بصحتها لعلمهم بها من التوراة وسائر كتبهم فيكون {شهيد} من الشهادة لا من المشاهدة. وقال الفخر: تنكير {قلب} للتعظيم والكمال. والمعنى: لمن كان له قلب ذكي واع يستخرج بذكائه، أو لمن ألقى السمع إلى المنذر فيتذكر، وإنما قال و {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} ولم يقل: استمع، لأن إلقاء السمع، أي يرسل سمعه ولا يمسكه وإن لم يقصد السماع، أي تحصل الذكرى لمن له سمع. وهو تعريض بتمثيل المشركين بمن ليس له قلب وبمن لا يلقي سمعه.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ:38]
مناسبة اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما نزل قوله تعالى {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [قّ: 6] إلى قوله {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [قّ: من الآية10] وكان ذلك قريبا مما وصف في التوراة من ترتيب المخلوقات إجمالا ثم نزل قوله بعد ذلك {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [قّ: 15] كان بعض اليهود بمكة يقولون إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع، وهذا مكتوب في سفر التكوين من التوراة.
والاستراحة تؤذن بالنصب والإعياء فلما فرغت الآية من تكذيب المشركين في
أقوالهم عطفت إلى تكذيب الذين كانوا يحدثونهم بحديث الاستراحة، فهذا تأويل موقع هذه الآية في هذا المحل مع ما حكى ابن عطية من الإجماع على أن هذه السورة كلها مكية وقد أشرنا إلى ذلك في الكلام على طليعة السورة فقول من قال نزلت في يهود المدينة تكلف إذ لم يكن اليهود مقصورين على المدينة من بلاد العرب وكانوا يترددون إلى مكة.
فقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} تكملة لما وصف من خلق السماوات في قوله {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إلى قوله {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [قّ: من الآية7] ليتوصل به إلى قوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} إبطالا لمقالة اليهود، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها عطف القصة على القصة وقعت معترضة بين الكلام السابق وبين ما فرع عنه من قوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [قّ: من الآية39].
والواو في {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} واو الحال لأن لمعنى الحال هنا موقعا عظيما من تقييد ذلك الخلق العظيم في تلك المدة القصيرة بأنه لا ينصب خالقه لأن الغرض من معظم هذه ا لسورة بيان إمكان البعث إذ أحاله المشركون بما يرجع إلى ضيق القدرة الإلهية عن إيقاعه، فكانت هذه الآيات كلها مشتملة على إبراز معنى سعة القدرة الإلهية.
ومعنى {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ما أصابنا تعب. وحقيقة المس: اللمس، أي وضع اليد على شيء وضعا غير شديد بخلاف الدفع واللطم. فعبر عن نفي أقل الإصابة بنفي المس لنفي أضعف أحوال الإصابة كما في قوله تعالى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] فنفي قوة الإصابة وتمكنها أحرى.
واللغوب: الإعياء من الجري والعمل الشديد.
[40,39] {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
تفريع على ما تقدم كله من قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} [قّ: 2] الآيات، ومناسبة وقعه هذا الموقع ما تضمنه قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [مريم: 74] الآية من التعريض بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أي فاصبر على ما يقول المشركون من التكذيب بما أخبرتهم من البعث وبالرسالة وقد جمع ذلك كله الموصول وهو {ما يقولون} .
وضمير {يقولون} عائد إلى المشركين الذين هم المقصود من هذه المواعظ والنذر ابتداء من قوله {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}
عطف على {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فهو من تمام التفريع، أي اصبر على أقوال أذاهم وسخريتهم. ولعل وجه هذا العطف أن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاموا إلى الصلاة مثل قصة إلقاء عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم حين سجد في المسجد الحرام في حجر الكعبة فأقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] الآية. وقال تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} إلى قوله {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:9-19].
فالمراد بالتسبيح: الصلاة وهو من أسماء الصلاة. قال ابن عطية: أجمع المتأملون على أن التسبيح هنا الصلاة. قلت: ولذلك صار فعل التسبيح منزلا منزلة اللازم لأنه في معنى: صل. والباء في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} يرجح كون المراد بالتسبيح الصلاة لأن الصلاة تقرأ في كل ركعة منها الفاتحة وهي حمد لله تعالى، فالباء للملابسة.
واختلف المفسرون في المراد بالصلاة من قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ففي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني بذلك العصر والفجر. ثم قرأ جرير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} كذا. والقراءة {الغروب} .وعن ابن عباس: قبل الغروب: الظهر والعصر. وعن قتادة: العصر.
وقوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} الجمهور على أن التسبيح فيه هو الصلاة، وعن أبي الأحوض أنه قول سبحان الله فعلى أن التسبيح الصلاة قال ابن زيد: صلاة المغرب وصلاة العشاء.
{وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ظرف واسع يبتدئ من زوال الشمس عن كبد السماء لأنها حين
تزول عن كبد السماء قد مالت إلى الغروب وينتهي بغروبها، وشمل ذلك وقت صلاة الظهر والعصر، وذلك معلوم للنبي صلى الله عليه وسلم وتسبيح الليل بصلاتي المغرب والعشاء لأن غروب الشمس مبدأ الليل، فإنهم كانوا يؤرخون بالليالي ويبتدئون الشهر بالليلة الأولى التي بعد طلوع الهلال الجديد عقب غروب الشمس.
وقيل هذه المذكورات كلها نوافل، فالذي قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر، والذي قبل الغروب ركعتان قبل غروب الشمس قاله أبو برزة وأنس بن مالك، والذي من الليل قيام الليل قاله مجاهد.
ويأتي على هذا الوجه الاختلاف في محمل الأمر على الندب إن كانا عاما أو على الوجوب إن كانا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في سورة المزمل.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} في سورة الإنسان.[24-26]
وقريب منها أيضا قوله تعالى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} في سورة الطور [48-49].
وأما قوله {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} فيجوز أن يكون معطوفا على قوله {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ}
والإدبار: بكسر الهمزة حقيقته: الانصراف لأن المنصرف يستدير من كان معه، واستعير هنا للانقضاء، أي انقضاء السجود، والسجود: الصلاة، قال تعالى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وانتصابه على النيابة عن الظرف لأن المراد: وقت إدبار السجود.
وقرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر وحمزة وخلف بكسر همزة {إدبار} . وقرأه الباقون بفتح الهمزة على أنه جمع: دبر، بمعنى العقب والآخر، وعلى كلتا القراءتين هو وقت انتهاء السجود.
ففسر السجود بالحمل على الجنس، أي بعد الصلوات قال ابن زيد، فهو أمر بالرواتب التي بعد الصلوات. وهو عام خصصته السنة بأوقات النوافل، ومجمل بينت السنة مقاديره، وبينت أن الأمر فيه أمر ندب وترغيب لا أمر إيجاب. وعن المهدوي أنه كان فرضا فنسخ بالفرائض. وحمل على العهد فقال جمع من الصحابة والتابعين هو صلاة المغرب، أي الركعتان بعدها. وعن ابن عباس أنه الوتر.
والفاء في قوله {فسبحه} للتفريع على قوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} على أن يكون
الوقت على قوله {وَمِنَ اللَّيْلِ} تأكيدا للأمر لإفادة الوجوب فيجعل التفريع اعتراضا بين الظروف المتعاطفة وهو كالتفريع الذي في قوله آنفا {فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [قّ: 36] وقوله تعالى {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:14]
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ}
لا محالة أن جملة {استمع} عطف على جملة {سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق: 39] فالأمر بالاستماع مفرع بالفاء التي فرع بها الأمر بالصبر على ما يقولون. فهو لاحق بتسلية النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون المسموع إلا من نوع ما فيه عناية به وعقوبة لمكذبيه.
وابتداء الكلام ب {استمع} يفيد توشيقا إلى ما يرد بعده على كل احتمال. والأمر بالاستماع حقيقته: الأمر بالإنصات والإصغاء.
وللمفسرين ثلاث طرق في محمل {استمع} ، فالذي نحاه الجمهور حمل الاستماع على حقيقته وإذ كان المذكور عقب فعل السمع لا يصلح لأن يكون مسموعا لأن اليوم ليس مما يسمع تعين تقدير مفعول ل {استمع} يدل عليه الكلام الذي بعده فيقدر: استمع نداء المنادي، أو استمع خبرهم، أو استمع الصيحة يوم ينادي المنادي. ولك أن تجعل فعل {استمع} منزلا منزلة اللازم، أي كن سامعا ويتوجه على تفسيره هذا أن يكون معنى الأمر بالاستماع تخييلا لصيحة ذلك اليوم في صورة الحاصل بحيث يؤمر المخاطب بالإصغاء إليها في الحال كقول مالك بن الريب:
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي ... بذي الطبسين فالتفت ورائيا
ونحا ابن عطية حمل {استمع} على المجاز، أي انتظر. قال لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء لأن كل من فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم تحسس هذا اليوم وارتقبه فإن فيه تبين صحة ما قلته اه. ولم أر من سبقه إلى هذا المعنى، ومثله في تفسير الفخر وفي تفسير النسفي. ولعلهما اطلعا عليه لأنهما متأخران عن ابن عطية وهما وإن كان مشرقيين فأن الكتب تنقل بين الأقطار.
وللزمخشري طريقة أخرى فقال يعني: واستمع لما أخبرك به من حال يوم القيامة. وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل "يا معاذ اسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك". ولم أر من سبقه إلى هذا وهو محمل حسن دقيق.
واللائق بالجري على المحامل الثلاثة المتقدمة أن يكون {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} مبتدأ وفتحته فتحة بناء لأنه اسم زمان أضيف إلى جملة فيجوز فيه الإعراب والبناء على الفتح، ولا يناكده أن فعل الجملة مضارع لأن التحقيق أن ذلك وارد في الكلام الفصيح وهو قول نحاة الكوفة وابن مالك ولا ريبة في أنه الأصوب. ومنه قوله تعالى {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] في قراءة نافع بفتح {يوم} .
وقوله {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ} بدل مطابق من {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} وقوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} خبر المبتدأ.
ولك أن تجعل {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} مفعولا فيه ل {استمع} وإعراب ما بعده ظاهر.
ولك أن تجعل {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} ظرفا في موقع الخبر المقدم وتجعل المبتدأ قوله {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} ويكون تقدير النظم: واستمع ذلك يوم الخروج يوم ينادي المنادي الخ، ويكون اسم الإشارة لمجرد التنبيه، أو راجعا إلى يوم ينادي المنادي، فإنه متقدم عليه في اللفظ وإن كان خبرا عنه في المعنى واسم الإشارة يكتفي بالتقديم اللفظي بل يكتفي بمجرد الخطور في الذهن. وفي تفسير النسفي أن يعقوب أي الحضرمي أحد أصحاب القراءات العشر المتواترة وقف على قوله {واستمع} .
وتعريف {المنادي} تعريف الجنس، أي يوم ينادي مناد، أي من الملائكة وهو الملك الذي ينفخ النفخة الثانية فتتكون الأجساد وتحل فيها أرواح الناس للحشر قال تعالى {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68]
وتنوين {مَكَانٍ قَرِيبٍ} للنوعية إذ لا يتعلق الغرض بتعيينه، ووصفه ب {قريب} للإشارة إلى سرعة حضور المنادين، وهو الذي فسرته جملة {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} لأن المعروف أن النداء من مكان قريب لا يخفى على السامعين بخلاف النداء من كان بعيدا.
و {بالحق} بمعنى: بالصدق وهو هنا الحشر، وصف {بالحق} إبطالا لزعم المشركين أنه اختلاق.
والخروج: مغادرة الدار أو البلد، وأطلق الخروج على التجمع في المحشر لأن الحي إذا نزحوا عن أرضهم قيل: خرجوا، يقال: خرجوا بقضهم وقضيضهم.
واسم الإشارة جيء به لتهويل المشار إليه وهو {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} فأريد
كمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الخبر العظيم. ومقتضى الظاهر أن يقال: هو يوم الخروج.
و {يَوْمُ الْخُرُوجِ} علم بالغلبة على يوم البعث، أي الخروج من الأرض.
وجملة {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} تذييل، أي هذا الإحياء بعد أن أمتناهم هو من شؤوننا بأنا نحييهم ونحيي غيرهم ونميتهم ونميت غيرهم.
والمقصود هو قوله {ونميت} ، وأما قوله {نحيي} فإنه لاستيفاء معنى تصرف الله في الخلق.
وتقديم {إلينا} في {إِلَيْنَا الْمَصِيرُ} للاهتمام. والتعريف في {المصير} إما تعريف الجنس، أي كل شيء صائر إلى ما قدرناه له وأكبر ذلك هو ناموس الفناء المكتوب على جميع الأحياء وإما تعريف العهد، أي المصير المتحدث عنه، وهو الموت لأن المصير بعد الموت إلى حكم الله.
وعندي أن هذه الآيات من قوله {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} إلى قوله {المصير} مكان قريب هي مع ما تفيده من تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مبشر بطريقة التوجيه البديعي إلى تهديد المشركين بعذاب يحل بهم في الدنيا عقب نداء يفزعهم فيلقون إثره حتفهم، وهو عذاب يوم بدر فخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بترقب يوم يناديهم فيه مناد إلى الخروج وهو نداء الصريخ الذي صرخ بأبي جهل ومن معه بمكة بأن عير قريش وفيها أبو سفيان قد لقيها المسلمون ببدر وكان المنادي ضمضم بن عمرو الغفاري إذ جاء على بعيره فصرخ ببطن الوادي: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه. فتجهز الناس سراعا وخرجوا إلى بدر. فالمكان القريب هو بطن الوادي فإنه قريب من مكة.
والخروج: خروجهم لبدر، وتعريف اليوم بالإضافة إلى الخروج لتهويل أمر ذلك الخروج الذي كان استئصال سادتهم عقبه. وتكون جملة {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} وعيدا بأن الله يميت سادتهم وأنه يبقي من قدر إسلامه فيما بعد فهو يحييه إلى يوم أجله.
وكتب في المصحف {المناد} بدون ياء. وقرأها نافع وأبو عمرو وأبو جعفر بياء في الوصل وبدونها في الوقف، وذلك جار على اعتبار أن العرب يعاملون المنقوص المعرف باللام معاملة المنكر وخاصة في الأسجاع والفواصل فاعتبروا عدم رسم الياء في
آخر الكلمة مراعاة لحال الوقف كما هو غالب أحوال الرسم لأن الأسجاع مبنية على سكون الأعجاز. وقرأها عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف بحذف الياء وصلا ووقفا لأن العرب قد تعامل المنقوص المعرف معاملة المنكر. وقرأها ابن كثير ويعقوب بالياء وصلا ووقفا اعتبارا بأن رسم المصحف قد يخالف قياس الرسم فلا يخالف قياس اللفظ لأجله.
[44] {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ}
إن جربت على أقوال المفسرين في تفسير الآية السابقة أفادت هذه الآية بيانا لجملة {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] أو بدل اشتمال منها مع ما في المعاد منها من تأكيد لمرادفه. وإن جريت على ما ارتأيته في محمل الآية السابقة أفادت هذه الجملة استئنافا استدلالا على إمكان الحشر ووصف حال من أحواله وهو تشقق الأرض عنهم، أي عن أجساد مثيلة لأجسادهم وعن الأجساد التي لم يلحقها الفناء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {تشقق} بفتح التاء وتشديد الشين. وأصله تتشقق بتاءين فأدغمت التاء الثانية في الشين بعد قلبها شينا لتقارب مخرجيها. وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي {تشقق} بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل لاستثقال الجمع بين تاءين.
و {سراعا} حال من ضمير {عنهم} وهو جمع سريع، أي سراعا في الخروج أو في المشي الذي يعقبه إلى محل الحساب.
والقول في إعراب {تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ} كالقول في إعراب قوله {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [قّ: من الآية41]إلى {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} وكذلك القول في اختلاف اسم الإشارة مثله.
وتقدم المجرور في {علينا} للاختصاص، أي هو يسير في جانب قدرتنا لا كما زعمه نفاة الحشر.
[45] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}
استئناف بياني ناشئ عن قوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [قّ: 39] فهو إيغال في تسلية
النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريض بوعيدهم، فالخبر مستعمل مجازا في وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله سيعاقب أعداءه.
وقوله {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه غير مسؤول عن عدم اهتدائهم لأنه إنما بعث داعيا وهاديا، وليس مبعوثا لإرغامهم على الإيمان، والجبار مشتق من جبره على الأمر بمعنى أكرهه.
وفرع عليه أمره بالتذكير لأنه ناشئ عن نفي كونه جبارا عليهم وهذا كقوله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21,22] ولكن خص التذكير هنا بالمؤمنين لأنه أراد التذكير الذي ينفع المذكر. فالمعنى: فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد. وهذا كقوله {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45].
وكتب في المصحف {وعيد} بدون ياء المتكلم فقرأه الجمهور بدون ياء في الوصل والوقف على أنه من حذف التخفيف. وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء في الوصل. وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف.
مجلد السابع والعشرون
سورة الذاريات...
سْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سورة الذاريات
تسمى هذه السورة والذاريات بإثبات الواو تسمية لها بحكاية الكلمتين الواقعتين في أولها. وبهذا عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه وابن عطية في تفسيره والكواشي في تلخيص التفسير والقرطبي. وتسمى أيضا سورة الذاريات بدون الواو اقتصارا على الكلمة التي لم تقع في غيرها من سور القرآن. وكذلك عنونها الترمذي في جامعه وجمهور المفسرين. وكذلك هي في المصاحف التي وقفنا عليها من مشرقية ومغربية قديمة. ووجه التسمية أن هذه الكلمة لم تقع بهذه الصيغة في غيرها من سور القرآن. وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت السورة السادسة والستين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الأحقاف وقبل سورة الغاشية.
واتفق أهل عد الآيات على أن آيها ستون آية.
أغراض هذه السورة
احتوت على تحقيق وقوع البعث والجزاء. وإبطال مزاعم المكذبين به وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورميهم بأنهم يقولون بغير تثبت. ووعيدهم بعذاب يفتنهم. ووعد المؤمنين بنعيم الخلد وذكر ما استحقوا به تلك الدرجة من الإيمان والإحسان.
ثم الاستدلال على وحدانية الله والاستدلال على إمكان البعث وعلى أنه واقع لا محالة بما في بعض المخلوقات التي يشاهدونها ويحسون بها دالة على سعة قدرة الله تعالى وحكمته على ما هو أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد فنائه وعلى أنه لم يخلق إلا لجزائه.
والتعريض بالإنذار بما حاق بالأمم التي كذبت رسل الله، وبيان الشبه التام بينهم وبين
أولئك. وتلقين هؤلاء المكذبين الرجوع إلى الله وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم ونبذ الشرك. ومعذرة الرسول صلى الله عليه وسلم من تبعة إعراضهم والتسجيل عليهم بكفران نعمة الخلق والرزق.
ووعيدهم على ذلك بمثل ما حل بأمثالهم.
[1-6] {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً [1] فَالْحَامِلاتِ وِقْراً [2] فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً [3] فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً [4] إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [5] وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [6] .
القسم المفتتح به مراد منه تحقيق المقسم عليه وتأكيد وقوعه وقد أقسم الله بعظيم من مخلوقاته وهو في المعنى قسم بقدرته وحكمته ومتضمن تشريف تلك المخلوقات بما في أحوالها من نعم ودلالة على الهدى والصلاح، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله فيما أوجد فيها.
والمقسم بها الصفات تقتضي موصفاتها، فآل إلى القسم بالموصوفات لأجل تلك الصفات العظيمة. وفي ذلك إيجاز دقيق، على أن في طي ذكر الموصوفات توفيرا لما تؤذن به الصفات من موصوفات صالحة بها لتذهب أفهام السامعين في تقديرها كل مذهب ممكن.
وعطف تلك الصفات بالفاء يقتضي تناسبها وتجانسها، فيجوز أن تكون صفات لجنس واحد وهو الغالب في عطف الصفات بالفاء، كقول ابن زيابة:
يا لهف زيابة1 للحارث2 الص ... ابح فالغانم فالآيب3
ويجوز أن تكون مختلفة الموصوفات إلا أن موصوفاتها متقاربة متجانسة كقول امرئ القيس:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل ... فتوضح فالمقراة............
وقول لبيد:
بمشارق الجبلين أو بمحجر ... فتضمنتها فردة فرخامها
ـــــــ
1 يريد أمه واسمها زيابة.
2 هو الحارث بن همام الشيباني ، وهو شاعر قديم جاهلي وكان بينه وبين ابن زيابة عداوة.
وهذا البيت من أبيات هي جواب عن هجاء هجاه به الحارث.
3 تهكم بالحارث.
فصوائق إن أيمنت.........البيت
ويكثر ذلك في عطف البقاع المتجاورة، وقد تقدم ذلك في سورة الصافات.
واختلف أئمة السلف في محمل هذه الأوصاف وموصوفاتها. وأشهر ما روي عنهم في ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد أن {الذَّارِيَاتِ} الرياح لأنها تذرو التراب، و {الْحَامِلاتِ وِقْراً} : السحاب، و {الْجَارِيَاتِ} : السفن، و {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} الملائكة، وهو يقتضي اختلاف الأجناس المقسم بها.
وتأويله أن كل معطوف عليه يسبب ذكر المعطوف لالتقائهما في الجامع الخيالي، فالرياح تذكر بالسحاب، وحمل السحاب وقر الماء يذكر بحمل السفن، والكل يذكر بالملائكة. ومن المفسرين من جعل هذه الصفات الأربع وصفا للرياح قاله في الكشاف ونقل بعضه عن الحسن واستحسنه الفخر، وهو الأنسب لعطف الصفات بالفاء.
فالأحسن أن يحمل الذرو على نشر قطع السحاب نشرا يشبه الذرو. وحقيقة الذرو رمى أشياء مجتمعة ترمى في الهواء لتقع على الأرض مثل الحب عند الزرع ومثل الصوف وأصله ذرو الرياح التراب فشبه به دفع الريح قطع السحاب حتى تجتمع فتصير سحابا كاملا فالذاريات تنشر السحاب ابتداء كما قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48]. والذرو وإن كان من صفة الرياح فإن كون المذرو سحابا يؤول إلى أنه من أحوال السحاب وقيل ذروها التراب وذلك قبل نشرها السحب وهو مقدمة لنشر السحاب.
ونصب {ذَرْواً} على المفعول المطلق لإرادة تفخيمه بالتنوين، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى المفعول، أي المذرو، ويكون نصبه على المفعول به.
و {الْحَامِلاتِ وِقْراً} هي الرياح حين تجمع السحاب وقد ثقل بالماء، شبه جمعها إياه بالحمل لأن شأن الشيء الثقيل أن يحمله الحامل، وهذا في معنى قوله تعالى {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم: 48] الآية. وقوله {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] وقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43].
والوقر بكسر الواو: الشيء الثقيل.
ويجوز أن تكون الحاملات الأسحبة التي ملئت ببخار الماء الذي يصير مطرا،
عطفت بالفاء على الذاريات بمعنى الرياح لأنها ناشئة عنها فكأنها هي.
و {الْجَارِيَاتِ يُسْراً} : الرياح تجري بالسحاب بعد تراكمه وقد صار ثقيلا بماء المطر، فالتقدير: فالجاري بذلك الوقر يسرا.
ومعنى اليسر: اللين والهون، أي الجاريات جريا لينا هينا شأن السير بالثقل، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل
ف {يُسْراً} وصف لمصدر محذوف نصب على النيابة عن المفعول المطلق.
و {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} الرياح التي تنتهي بالسحاب إلى الموضع الذي يبلغ عنده نزول ما في السحاب من الماء أو هي السحب التي تنزل ما فيها من المطر على مواضع مختلفة.
وإسناد التقسيم إليها على المعنيين مجاز بالمشابهة. وروي عن الحسن {الْمُقَسِّمَاتِ} : السحب بقسم الله بها أرزاق العباد اه. يريد قوله تعالى { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً} [قّ: 9] إلى قوله {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} في سورة {ق9-11].
ومن رشاقة هذا التفسير أن فيه مناسبة بين المقسم به والمقسم عليه وهو قوله {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} فإن أحوال الرياح المذكورة هنا مبدؤها: نفخ، فتكوين، فإحياء، وكذلك البعث مبدؤه: نفخ في الصور، فالتئام أجساد الناس التي كانت معدومة أو متفرقة، فبث الأرواح فيها فإذا هم قيام ينظرون. وقد يكون قوله تعالى {أَمْراً} إشارة إلى ما يقابله في المثال من أسباب الحياة وهو الروح لقوله {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85].
و"ما" من قوله {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} موصولة، أي إن الذي توعدونه لصادق. والخطاب في {تُوعَدُونَ} للمشركين كما هو مقتضى التأكيد بالقسم وكما يقتضيه تعقيبه بقوله {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذريات:8].
فيتعين أن يكون {تُوعَدُونَ} مشتقا من الوعيد الذي ماضيه أوعد، وهو بمنى للمجهول فأصل {تُوعَدُونَ} تؤوعدون بهمزة مفتوحة بعد تاء المضارعة وواو بعد الهمزة هي عين فعل أوعد وبفتح العين لأجل البناء المجهول فحذفت الهمزة على ما هو المطرد من حذف همزة أفعل في المضارع مثل تكرمون، وسكنت الواو سكونا ميتا لأجل وقوع الضمة قبلها بعد أن كان سكونها حيا فصار {تُوعَدُونَ} ووزنه تافعلون.
والذي أوعدوه عذاب الآخرة وعذاب الدنيا مثل الجوع في سني القحط السبع الذي هو دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله "اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف" وهو الذي أشار إليه قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِين يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية في سورة الدخان [10, 11]. ومثل عذاب السيف والأسر يوم بدر الذي توعدهم الله به في قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] ويجوز أن يكون توعدون من الوعد، أي الإخبار بشيء يقع في المستقبل مثل قوله {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55] فوزنه تفعلون. والمراد بالوعد الوعد بالبعث.
ووصف {لَصَادِقٌ} مجاز عقلي إذ الصادق هو الموعد به على نحو {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} . [الجاثية: 21].
والدين: الجزاء. والمراد إثبات البعث الذي أنكروه.
ومعنى {لَوَاقِعٌ} واقع في المستقبل بقرينة جعله مرتبا في الذكر على ما يوعدون وإنما يكون حصول الموعود به في الزمن المستقبل وفي ذكر الجزاء زيادة على الكناية به عن إثبات البعث تعريض بالوعيد على إنكار البعث.
وكتب في المصاحف {إنما} متصلة وهو على غير قياس الرسم المصطلح عليه من بعد لأنهما كلمتان لم تصيرا كلمة واحدة، بخلاف {إنما} التي هي للقصر. ولم يكن الرسم في زمن كتابة المصاحف في أيام الخليفة عثمان قد بلغ تمام ضبطه.
[7-9] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [7] إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [8] يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ[9]} .
هذا قسم أيضا لتحقيق اضطراب أقوالهم في الطعن في الدين وهو كالتذييل للذي قبله، لأن ما قبله خاص بإثبات الجزاء. وهذا يعم إبطال أقوالهم الضالة فالقسم لتأكيد المقسم عليه لأنهم غير شاعرين بحالهم المقسم على وقوعه، ومتهالكون على الاستزادة منه، فهم منكرون لما في أقوالهم من اختلاف واضطراب جاهلون به جهلا مركبا والجهل المركب إنكار للعلم الصحيح. والقول في القسم ب {السَّمَاءِ} كالقول في القسم ب {الذَّارِيَاتِ} [الذاريات:1].
ومناسبة هذا القسم للمقسم عليه في وصف السماء بأنها ذات حبك، أي طرائق لأن المقسم عليه: إن قولهم مختلف طرائق قددا ولذلك وصف المقسم به ليكون إيماء إلى نوع جواب القسم.
والحبك: بضمتين جمع حباك ككتاب وكتب ومثال ومثل، أو جمع حبيكة مثل طريقة وطرق، وهي مشتقة من الحبك بفتح فسكون وهو إجادة النسج وإتقان الصنع. فيجوز أن يكون المراد بحبك السماء نجومها لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب المحبوك المتقن. وروي عن الحسن وسعيد بن جبير وقيل الحبك: طرائق المجرة التي تبدو ليلا في قبة الجو.
وقيل: طرائق السحاب. وفسر الحبك بإتقان الخلق. روي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة. وهذا يقتضي أنهم جعلوا الحبك مصدرا أو اسم مصدر، ولعله من النادر: وإجراء هذا الوصف على السماء إدماج أدمج به الاستدلال على قدرة الله تعالى مع الامتنان بحسن المرأى.
واعلم أن رواية رويت عن الحسن البصري أنه قرأ {الْحُبُكِ} بكسر الحاء وضم الباء وهي غير جارية على لغة من لغات العرب. وجعل بعض أئمة اللغة الحبك شاذا فالظن أن راويها أخطأ لأن وزن فعل بكسر الفاء وضم العين وزن مهمل في لغة العرب كلهم لشدة ثقل الانتقال من الكسر إلى الضم مما سلمت منه اللغة العربية. ووجهت هذه القراءة بأنها من تداخل اللغات وهو توجيه ضعيف لأن إعمال تداخل اللغتين إنما يقبل إذا لم يفض الى زنة مهجورة لأنها إذا هجرت بالأصالة فهجرها في التداخل أجدر ووجهها أبو حيان باتباع حركة الحاء لحركة تاء {ذَاتَ} وهو أضعف من توجيه تداخل اللغتين فلا جدوى في التكلف.
والقول المختلف: المتناقض الذي يخالف بعضه بعضا فيقتضي بعضه إبطال بعض الذي هم فيه هو جميع أقوالهم والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أقوالهم في دين الإشراك فإنها مختلفة مضطربة متناقضة فقالوا القرآن: سحر وشعر، وقالوا {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5]، وقالوا {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ: 7] وقالوا {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [لأنفال: 31] وقالوا: مرة {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] وغير ذلك، وقالوا: وحي الشياطين.
وقالوا في الرسول صلى الله عليه وسلم أقوالا: شاعر، ساحر، مجنون، كاهن، يعلمه بشر، بعد أن كانوا يلقبونه الأمين. وقالوا في أصول شركهم بتعدد الآلهة مع اعترافهم بأن الله خالق كل شيء وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 3] {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [لأعراف: 28].
و "في" للظرفية المجازية وهي شدة الملابسة الشبيهة بملابسة الظرف للمظروف مثل {بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [لبقرة: 15].
والمقصود بقوله {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} الكناية عن لازم الاختلاف وهو التردد في الاعتقاد، ويلزمه بطلان قولهم وذلك مصب التأكيد بالقسم وحرف "إن" واللام.
{ويؤفك}: يصرف. والأفك بفتح الهمزة وسكون الفاء: الصرف. وأكثر ما يستعمل في الصرف عن أمر حسن، قاله مجاهد كما في اللسان، وهو ظاهر كلام أئمة اللغة والفراء وشمر وذلك مدلوله في مواقعه من القرآن.
وجملة {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يجوز أن تكون في محل صفة ثانية ل {قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6]، فتكون جملة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} معترضة بين الجملة البيانية والجملة المبين عنها.
ثم إن لفظ {قَوْل} يقتضي شيئا مقولا في شأنه فإذ لم يذكر بعد {قَوْلٌ} ما يدل على مقول صلح لجميع أقوالهم التي اختلقوها في شأنه للقرآن ودعوة الإسلام كما تقدم.
فلما جاء ضمير غيبة بعد لفظ {قَوْلٌ} احتمل أن يعود الضمير إلى {قَوْلٌ} لأنه مذكور، وأن يعود إلى أحوال المقول في شأنه فقيل ضمير {عَنْهُ} عائد إلى {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} وأن معنى {يُؤْفَكُ عَنْهُ} يصرف بسببه، أي يصرف المصروفون عن الإيمان فتكون {عَنْ} للتعليل كقوله تعالى {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53] وقوله تعالى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114]، وقيل ضمير {عنه} عائد إلى {مَا تُوعَدُونَ} أو عائد إلى {الدِّين} [الذاريات:6]، أي الجزاء أن يؤفك عن الإيمان بالبعث والجزاء من أفك. وعن الحسن وقتادة: أنه عائد إلى القرآن أو إلى الدين أي لأنهما مما جرى القول في شأنهما، وحرف "عن" للمجاوزة.
وعلى كل فالمراد بقوله {مَنْ أُفِكَ} المشركون المصروفون عن التصديق. والمراد بالذي فعل الإفك المجهول المشركون الصارفون لقومهم عن الإيمان، وهما الفريقان اللذان تضمنهما قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُولا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
وإنما حذف فاعل {يُؤْفَكُ} غافر وأبهم مفعوله بالموصولية للاستيعاب مع الإيجاز.
وقد حملهم الله بهاتين الجملتين تبعة أنفسهم وتبعة المغرورين بأقوالهم كما قال تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13].
[10،11] {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} .
دعاء بالهلاك على أصحاب ذلك القول المختلف لأن المقصود بقتلهم أن الله يهلكهم، ولذلك يكثر أن يقال: قاتله الله، ثم أجري مجرى اللعن والتحقير والتعجيب من سوء أحوال المدعو عليه بمثل هذا.
وجملة الدعاء لا تعطف لأنها شديدة الاتصال بما قبلها ما أوجب ذلك الوصف لدخولهم في هذا الدعاء، كما كان تعقيب الجمل التي قبلها بها إيماء إلى أن ما قبلها سبب للدعاء عليهم، وهذا من بديع الإيجاز.
والخرص: الظن الذي لا حجة لصاحبه على ظنه، فهو معرض للخطأ في ظنه، وذلك كناية عن الضلال عمدا أو تساهلا، فالخراصون هم أصحاب القول المختلف، فأفاد أن قولهم المختلف ناشئ عن خواطر لا دليل عليها. وقد تقدم في الأنعام[116] {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} فالمراد هنا الخرص بالقول في ذات الله وصفاته.
واعلم أن الخرص في أصول الاعتقاد مذموم لأنها لا تبنى إلا على اليقين الخطر أمرها وهو أصل محل الذم في هذه الآية. وأما الخرص في المعاملات بين الناس فلا يذم هذا الذم وبعضه مذموم إذا أدى إلى المخاطرة والمقامرة. وقد أذن في بعض الخرص للحاجة. ففي الموطأ عن زيد بن ثابت وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها يعني في بيع ثمرة النخلات المعطاة على وجهة العرية وهي هبة مالك النخل ثمر بعض نخله لشخص لسنة معينة فإن الأصل أن يقبض ثمرتها عند جذاذ النخل فإذا بدا لصاحب الحائط شراء تلك الثمرة قبل طيبها رخص أن يبيعها المعري بالفتح للمعري بالكسر إذا أراد المعري ذلك فيخرص ما تحمله النخلات من الثمر على أن يعطيه عند الجذاذ ما يساوي ذلك المخروص إذا لم يكن كثيرا وحدد بخمسة أوسق فأقل ليدفع صاحب النخل عن نفسه تطرق غيره لحائطه، وذلك لأن أصلها عطية فلم يدخل إضرار على المعري من ذلك.
والغمرة: المرة من الغمر، وهو الإحاة ويفسرها ما تضاف إليه كقوله تعالى: {وَلَوْ
تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] فإذا لم تقيد بإضافة فإن تعيينها بحسب المقام كقوله تعالى : {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} في سورة المؤمنين[54] والمراد: في شغل، أي ما يشغلهم من معاداة الإسلام شغلا لا يستطيعون معه أن يتدبروا في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والسهو: الغفلة. والمراد أنهم معرضون إعراضا كإعراض الغافل وما هم بغافلين فإن دعوة القرآن تقرع أسماعهم كل حين واستعمال مادة السهو في هذا المعنى نظير استعمالها في قوله تعالى {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5].
[12-14] {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [12] {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [13] {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [14].
هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من ضمير {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذريات:10] وأن تكون
استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذريات:10] لأن جملة {قُتِلَ الْخَرَّاصُون} أفادت تعجيبا من سوء عقولهم وأحوالهم فهو مثار سؤال في نفس السامع يتطلب البيان، فأجيب بأنهم يسألون نع يوم الدين سؤال متهكمين، يعنون أنه لا وقوع ليوم الدين كقوله تعالى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ
النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ : 1-3].
و {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّين} مقول قول محذوف دل عليه {يَسْأَلونَ} لأن في فعل السؤال معنى القول. فتقدير الكلام: يقولون: أيان يوم الدين. ولك أن تجعل جملة {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} بدلا من جملة {يَسْأَلون} لتفصيل إجماله وهو من نوع البدل المطابق.و {أَيَّانَ} اسم استفهام عن زمان فعل وهو في محل نصب مبني على الفتح، أي متى يوم الدين، ويوم الدين زمان فالسؤال عن زمانه آيل إلى السؤال باعتبار وقوعه، فالتقدير: أيان وقوع يوم الدين، أو حلوله، كما تقول: متى يوم رمضان أي متى ثبوته لأن أسماء الزمان حقها أن تقع ظروفا للأحداث لا للأزمنة.
وجملة {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنون} جواب لسؤلهم جرى على الأسلوب الحكيم من تلقيايرما يتطلب إذ هم حين قالوا: أيان يوم الدين، أرادوا التهكم والإحالة فتلقى كلامهم بغير مرادهم لأن في الجواب ما يشفي وقع تهكمهم على طريقة قوله تعالى {يسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [لبقرة:189]. والمعنى: يوم الدين يقع يوم تصلون النار ويقال لكم: ذوقوا فتنتكم.
وانتصبْ {يوم هم َعَلي لنَّارِ يُفْتَنُونَ} على الظرفية وهو خبر عن مبتدأ محذوف دل عليه السؤال عنه بقوله: أيان يوم الدين. والتقدير: يوم الدين يوم هم على النار يفتنون.
والفتن: التعذيب والتحريق، أي يوم هم يعذبون على نار جهنم وأصل الفتن الاختيار. وشاع إطلاقه على معان منها إذابة الذهب على النار في البوتقة لاختيار ما فيه من معدن غير ذهب، ولا يذاب إلا بحرارة نار شديدة فهو هنا كناية عن الإحراق الشديد.
وجملةُ {ذوقوا فِتْنَتَكُمْ} مقول قول محذوف دل عليه الخطاب، أي يقال لهم حينئذ، أو مقولا لهم ذوقوا فتنتكم، أي عذابكم. والأمر في قوله {ذُوقُوا} مستعمل في التنكيل.
والذوق: مستعار للإحساس القوي لأن اللسان أشد الأعضاء إحساسا.
وإضافة فتنة إلى ضمير المخاطبين يومئذ من إضافة المصدر إلى مفعوله. وفي الإضافة دلالة على اختصاصها لهم لأنهم استحقوها بكفرهم، ويجوز أن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى فاعله. والمعنى: ذوقوا جزاء فتنتكم. قال ابن عباس: أي تكذيبكم. ويقوم من هذا الوجه أن يجعل الكلام موجها بتذكير المخاطبين في ذلك اليوم ما كانوا يفتنون به المؤمنين من التعذيب مثل ما فتنوا بلالا وخبابا وعمارا وشميسة وغيرهم، أي هذا جزاء فتنتكم. وجعل المذوق فتنتهم إظهارا لكونه جزاء عن فتنتهم المؤمنين ليزدادوا ندامة قال تعالى موعدا إياهم {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيق} [البروج:10].
وإطلاق اسم العمل على جزائه وارد في القرآن كثيرا كقوله تعالى {وَتْجَعلونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون} [الواقعة:82] أ ي وتجعلون رزفكم أنكم تكذبون وحدانيته.
والإشارة في قوله {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} إلى الشيء الحاضر نصب أعينهم، وهكذا الشأن في مثله تذكير اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة [68].
ومعنى {كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُون} كنتم تطلبون تعجيله فالسين والتاء للطلب، أي كنتم في الدنيا تسألون تعجيله وهو طلب يريدون به أن ذلك محال غير واقع.وأقوالهم في هذا كثيرة حكاها القرآن كقوله {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الملك:25].
والجملة استئناف في مقام التوبيخ وتعديد المجارم، كما يقال للمجرم: فعلت كذا،
وهي من مقول القول.
[15-19] {إن المتقينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} [5] أِخِذيَن ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [16] كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [17] وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [18]وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [19].
اعتراض قابل به حال المؤمنين في يوم الدين جرى على عادة القرآن في اتباع النذارة بالبشارة، والترهيب بالترغيب.
وقوله: {إّن الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} نظير قوله في سورة الدخان[51 ،52 ]{إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} .
وجمع {جَنَّاتٍ} : باعتبار جمع المتقين وهي جنات كثيرة مختلفة وفي الحديث إنها لجنان كثيرة، وإنه لفي الفردوس، وتنكير {جَنَّاتٍ} [البقرة: من الآية25] للتعظيم.
ومعنى {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أنهم قابلون ما أعطاهم، أي راضون به فالأخذ مستعمل في صريحه وكنايته كناية رمزية عن كون ما يؤتونه أكمل في جنسه لأن مدارك الجماعات تختلف في الاستجادة حتى تبلغ نهاية الجودة فيستوي الناس في استجادته، وهي كناية تلويحية.وأيضا فالأخذ مستعمل في حقيقته ومجازه لأن ما يؤتيهم الله بعضهم مما يتناول باليد كالفواكه والشراب والرياحين، وبعضه لا يتناول باليد كالمناظر الجميلة والأصوات الرقيقة والكرامة والرضوان وذلك أكثر من الأول.
فإطلاق الأخذ على ذلك استعارة بتشبيه المعقول بالمحسوس كقوله تعالى {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} في سورة البقرة،[63] وقوله {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} في سورة الأعراف[145].
فاجتمع في لفظ {آخِذِينَ} كنايتان ومجاز. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: "يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم? فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك? فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" .
وفي إيثار التعبير عن الجلالة بوصف "رب" مضاف إلى ضمير المتقين معنى من
اختصاصهم بالكرامة والإيماء إلى أن سبب ما آتاهم هو إيمانهم بربوبيته المختصة بهم وهي المطابقة لصفات الله تعالى في نفس الأمر.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} تعليل لجملة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي كان ذلك جزاء لهم عن إحسانهم كما قيل للمشركين {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذريات:14]. والمحسنون: فاعلوا الحسنات وهي الطاعات.
وفائدة الظرف في قوله {قَبْلَ ذَلِكَ} أن يؤتى بالإشارة إلى ما ذكر من الجنات والعيون وما آتاهم ربهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيحصل بسبب تلك الإشارة تعظيم شأن المشار إليه، ثم يفاد بقوله {قَبْلَ ذَلِكَ} أي قبل التنعم به أنهم كانوا محسنين، أي عاملين الحسنات كما فسره قوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} الآية. فالمعنى: أنهم كانوا في الدنيا مطيعين لله تعالى واثقين بوعده ولم يروه.
وجملة {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} بدل من جملة ْ {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} بدل بعض من كل لأن هذه الخصال الثلاث هي بعض من الإحسان في العمل. وهذا كالمثال لأعظم إحسانهم فإن ما ذكر من أعمالهم دال على شدة طاعتهم لله ابتغاء مرضاته ببذل أشد ما يبذل على النفس وهو شيئان.
أولهما: راحة النفس في وقت اشتداد حاجتهما إلى الراحة وهو الليل كله وخاصة آخره، إذ يكون فيه قائم الليل قد تعب واشتد طلبه للراحة.
وثانيهما: المال الذي تشح به النفوس غالبا، وقد تضمنت هذه الأعمال الأربعة أصلي إصلاح النفس وإصلاح الناس. وذلك جماع ما يرمي إليه التكليف من الأعمال فإن صلاح النفس تزكية الباطن والظاهر ففي قيام الليل إشارة إلى تزكية النفس باستجلاب رضى الله تعالى. وفي الاستغفار تزكية الظاهر بالأقوال الطيبة الجالبة لمرضاة الله عز وجل.
وفي جعلهم الحق في أموالهم للسائلين نفع ظاهر للمحتاج المظهر لحاجته. وفي جعلهم الحق للمحروم نفع المحتاج المتعفف عن إظهار حاجته الصابر على شدة الاحتياج.
وحرفْ {مَا} في قوله: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} مزيد للتأكيد. وشاعت زيادة
{مَا} بعد اسم {قَلِيلٌ} و {كَثِيرٌ} وبعد فعل {قُلْ} {كَثُرَ} {طَالَ}.
والمعنى: كانوا يهجعون قليلا من الليل. وليست {مَا} نافية.
والهجوع:النوم الخفف وهو الغرار.
ودلت الآية على أنهم كانوا يهجعون قليلا من الليل وذلك اقتداء بأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاًالمزمل نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} المزمل:2-4] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بذلك كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال له: "ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار" قال: نعم. قال: "لا تفعل إنك إن فعلت ذلك نفهت النفس وهجمت العين" . وقال له: "قم ونم، فإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا" .
وقد اشتملت هذه الجملة على خصائص من البلاغة.
أولاها : فعل الكون في قوله {كَانُوا} الدال على أن خبرها سنة متقررة.
الثاني : العدول عن أن يقال: كانوا يقيمون الليل، أو كانوا يصلون في جوف الليل، إلى قوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} لأن في ذكر الهجوع تذكيرا بالحالة التي تميل إليها النفوس فتغلبها وتصرفها عن ذكر الله تعالى وهو من قبيل قوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، فكان في الآية إطناب اقتضاه تصوير تلك الحالة، والبليغ قد يورد في كلامه ما لا تتوقف عليه استفادة المعنى إذا كان يرمي بذلك إلى تحصيل صور الألفاظ المزيدة.
الثالث : التصريح بقوله {مِنَ اللَّيْلِ} للتذكير بأنهم تركوا النوم في الوقت الذي من شأنه استدعاء النفوس للنوم فيه زيادة في تصوير جلال قيامهم الليل وإلا فإن قوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} يفيد أنه من الليل.
الرابع : تقييد الهجوع بالقليل للإشارة إلى أنهم لا يستكملون منتهى حقيقة الهجوع بل يأخذون منه قليلا. وهذه الخصوصية فاتت أبا قيس بن الأسلت في قوله:
قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع
الخامس : المبالغة في تقليل هجوعهم لإفادة أنه أقل ما يهجعه الهاجع.
وانتصب {قَلِيلاً} على الظرف لأنه وصف بالزمان بقوله {مِنَ اللَّيْلِ} . والتقدير: زمنا قليلا من الليل، والعامل في الظرف {مَا يَهْجَعُونَ} و {مِنَ اللَّيْل} تبعيض.
ثم أتبع ذلك بأنهم يستغفرون في السحر، أي فإذا آذن الليل بالانصرام سألوا الله أن
يغفر لهم بعد أن قدموا من التهجد ما يرجون أن يزلفهم إلى رضى الله تعالى. وهذا دل على أن هجوعهم الذي يكون في خلال الليل قبل السحر. فأما في السحر فهم يتهجدون، ولذلك فسر ابن عمر ومجاهد الاستغفار بالصلاة في السحر. وهذا نظير قوله تعالىَ {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَار} [آل عمران:17]، وليس المقصود طلب الغفران بمجرد اللسان ولو كان المستغفر في مضجعه إذ لا تظهر حينئذ مزية لتقييد الاستغفار بالكون في الأسحار.
والأسحار: جمع سحر وهو آخر الليل. وخص هذا الوقت لكونه يكثر فيه أن يغلب النوم على الإنسان فيه فصلاتهم واستغفارهم فيه أعجب من صلاتهم في أجزاء الليل الأخرى. وجمع الأسحار باعتبار تكرر قيامهم في كل سحر.
وتقديم {بالأسحار} على ْ{يَسْتَغْفِرُونَ} للاهتمام به كما علمت.
وصيغ استغفارهم بأسلوب إظهار المسند إليه دون ضميره لقصد إظهار الاعتناء بهم وليقع الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي فيفيد تقوي الخبر لأنه من الندرة بحيث يقتضي التقوية لأن الاستغفار في السحر يشق على من يقوم الليل لأن ذلك وقت إعيائه.فهذا الإسناد على طريقة قولهم هو: يعطي الجزيل.
وحق السائل والمحروم: هو النصيب الذي يعطونه إياهما، أطلق عليه لفظ الحق؛ إما لأن الله أوجب على المسلمين الصدقة بما تيسر قبل أن يفرض عليهم الزكاة فإن الزكاة فرضت بعد الهجرة فصارت الصدقة حقا للسائل والمحروم، أو لأنهم ألزموا ذلك أنفسهم حتى صار كالحق للسائل والمحروم. وبذلك يتأول قول من قال: إن هذا الحق هو الزكاة.
والسائل: الفقير المظهر فقره فهو يسأل الناس، والمحروم: الفقير الذي لا يعطى الصدقة لظن الناس أنه غير محتاج من تعففه عن إظهار الفقر، وهو الصنف الذي قال الله تعالى في شأنهم {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي ولا يسأل الناس إلحافا" .
وإطلاق اسم المحروم ليس حقيقة لأنه لم يسأل الناس ويحرموه ولكن لما كان مآل أمره إلى ما يؤول إليه أمر المحروم أطلق عليه لفظ المحروم تشبيها به في أنه لا تصل إليه ممكنات الرزق بعد قربها منه فكأنه ناله حرمان.
والمقصود من هذه الاستعارة ترقيق النفوس عليه وحث الناس على البحث عنه ليضعوا صدقاتهم في موضع يحب الله وضعها فيه ونظيرها في سورة المعارج. قال ابن
عطية: واختلف الناس في {المحروم} اختلافا هو عندي تخليط من المتأخرين إذ المعنى واحد عبر علماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالا. قلت ذكر القرطبي أحد عشر قولا كلها أمثلة لمعنى الحرمان، وهي متفاوتة في القرب من سياق الآية فما صلح منها لأن يكون مثالا للغرض قبل وما لم يصلح فهو مردود، مثل تفسير من فسر المحروم بالكلب. وفي تفسير ابن عطية عن الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم. وزاد القرطبي في رواية عن الشعبي قال: لي اليوم سبعون سنة منذ احتملت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ.
[20] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين} [ ا لذريات:20].
هذا متصل بالقسم وجوابه من قوله {وَالذَّارِيَاتِ} [الذريات:1] وقوله {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} . إلى قوله {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ1} [الذريات: 6، 7] فبعد أن حقق وقوع البعث بتأكيده بالقسم انتقل إلى تقريبه بالدليل لإبطال إحالتهم إياه، فيكون هذا الاستدلال كقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39].
وما بين هاتين الجملتين اعتراض، فجملة {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة جواب القسم وهي {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذريات:5] والمعنى: وفي ما يشاهد من أحوال الأرض آيات للموقنين وهي الأحوال الدالة على إيجاد موجودات بعد إعدام أمثالها وأصولها مثل إنبات الزرع الجديد بعد أن باد الذي قبله وصار هشيما.وهذه دلائل واضحة متكررة لا تحتاج إلى غوص الفكر فلذلك لم تقرن هذه الآيات بما يدعو إلى التفكر كما قرن قوله {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21].
وأعلم أن الآيات المرموقة من أحوال الأرض صالحة للدلالة أيضا على تفرده تعالى بالإلهية في كيفية خلقها ودحوها للحيوان و الإنسان، وكيف قسمت إلى سهل وجبال وبحر، ونظام إنباتها الزرع والشجر، وما يخرج من ذلك من منافع للناس، ولهذا حذف تقييد آيات بمتعلق ليعم كل ما تصلح الآيات التي في الأرض أن تدل عليه.وتقديم الخبر في قوله {وَفِي الْأَرْضِ} للاهتمام والتشويق إلى ذكر المبتدأ.
ـــــــ
1 في المطبوعة: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} إلى قوله :{وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ،والمثبت هو الأنسب للسياق.
واللام في {لِلْمُوقِنِينَ} معلق ب {آيَاتٍ} وخصت الآيات ب {الْمُوقِنِينَ} لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها فأكسبتهم الإيقان بوقوع البعث. وأوثر وصف الموقنين هنا دون الذين أيقنوا لإفادة أنهم عرفوا بالإيقان. وهذا الوصف يقتضي مدحهم بثقوب الفهم لأن الإيقان لا يكون إلا عن دليل ودلائل هذا الأمر نظرية. ومدحهم أيضا بالإنصاف وترك المكابرة لأن أكثر المنكرين للحق تحملهم المكابرة أو الحسد على إنكار حق من يتوجسون منه أن يقضي على منافعهم. وتقديم {فِي الْأَرْضِ} على المبتدأ للاهتمام بالأرض باعتبارها آيات كثيرة.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [21].
عطف على {فِي الْأَرْضِ} [الذاريات:20] فالتقدير: وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون. تفريعا على هذه الجملة المعطوفة فيقدر الوقف على {أَنْفُسَكُمْ} . وليس المجرور متعلقا ب {تبصرون} متقدما عليه لأن وجود الفاء مانع من ذلك إذ يصير الكلام معطوفا بحرفين. والخطاب موجه إلى المشركين. والاستفهام إنكاري، أنكر عليهم عدم الإبصار للآيات.والإبصار مستعار للتدبر والتفكر، أي كيف تتركون النظر في آيات كائنة في أنفسكم.
وتقديم {فِي أَنْفُسِكُم} على متعلقه للاهتمام بالنظر في خلق أنفسهم وللرعاية على الفاصلة.
والمعنى: ألا تتفكرون في خلق أنفسكم: كيف أنشأكم الله من ماء وكيف خلقكم أطوارا، أليس كل طور هو إيجاد خلق لم يكن موجودا قبل. فالموجود في الصبي لم يكن موجودا فيه حين كان جنينا.
والموجود في الكهل لم يكن فيه حين كان غلاما. وما هي عند التأمل إلا مخلوقات مستجدة كانت معدومة فكذلك إنهاء الخلق بعد الموت.
وهذا التكوين العجيب كما يدل على إمكان الإيجاد بعد الموت يدل على تفرد مكونة تعالى بالإلهية إذ لا يقدر على إيجاد مثل الإنسان غير الله تعالى فإن بواطن أحوال الإنسان وظواهرها عجائب من الانتظام والتناسب، وأعجبها خلق العقل وحركاته واستخراج المعاني، وخلق النطق والإهام إلى اللغة، وخلق الحواس، وحركة الدورة الدموية وانتساق الأعضاء الرئيسة، وتفاعلها، وتسوية المفاصل، والعضلات، والأعصاب، والشرايين وحالها بين الارتخاء واليبس فإنه إذا غلب عليها التيبس جاء العجز وإذا غلب الارتخاء جاء الموت.والخطاب للذين خوطبوا بقوله أول السورة {إنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5]. [22] {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون} .
بعد أن ذكر دلائل الأرض ودلائل الأنفس التي هم من علائق الأرض عطف ذكر السماء للمناسبة، وتمهيدا للقسم الذي بعده بقوله {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [ الذاريات: 32] ولما في السماء من آية المطر الذي به تنبت الأرض بعد الجفاف، فالمعنى: وفي السماء آية المطر، فعدل عن ذكر المطر إلى الرزق إدماجا للامتنان في الاستدلال فإن الدليل في كونه مطرا يحيي الأرض بعد موتها. وهذا قياس تمثيل للنبت، أي في السماء المطر الذي ترزقون بسببه.
فالرزق: هو المطر الذي تحمله السحب والسماء هنا: طبقات الجو. وتقديم المجرور على متعلقه للتشويق وللاهتمام بالمكان وللرد على الفاصلة.
وعطف {وَمَا تُوعَدُونَ} إدماج بين أدلة إثبات البعث لقصد الموعظة الشاملة للوعيد على الإشراك والوعد على الإيمان إن آمنوا تعجيلا بالموعظة عند سنوح فرصتها.
وفي إيثار صيغة {تُوعَدُونَ} خصوصية من خصائص إعجاز القرآن، فإن هذه الصيغة صالحة لأن تكون مصوغة من الوعد فيكون وزن {تُوعَدُونَ} تفعلون مضارع وعد مبنيا للنائب. وأصله قبل البناء للنائب تعدون وأصله توعدون، فلما بني للنائب ضم حرف المضارعة فصارت الواو الساكنة مدة مجانسة للضمة فصار: توعدون.وصالحة لأن تكون من الإيعاد ووزنه تأفعلون مثل تصريف أكرم يكرم وبذلك صار {تُوعَدُونَ} مثل تكرمون، فاحتملت للبشارة والإنذار.
وكون ذلك في السماء يجوز أن يكون معناه أنه محقق في علم أهل السماء، أي الملائكة الموكلين بتصريفه. ويجوز أن يكون المعنى: أن مكان حصوله في السماء، من جنة أو جهنم بناء على أن الجنة وجهنم موجودتان من قبل يوم القيامة، وفي ذلك اختلاف لا حاجة إلى ذكره. وفيه إيماء إلى أن ما أوعدوه يأتيهم من قبل السماء كما قال تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11،10] فإن ذلك الدخان كان في طبقات الجو كما تقدم في سورة الدخان.
[23] {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} .
بعد أن أكد الكلام بالقسم ب {الذاريات} [الذاريات:1] وما عطف عليها فرع على ذلك زيادة تأكيد بالقسم بخالق السماء والأرض على أن ما يوعدون حق فهو عطف على الكلام السابق ومناسبته قوله {وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات : 22].
وإظهار اسم السماء والأرض دون ذكر ضميرهما لإدخال المهابة في نفوس السامعين بعظمة الرب سبحانه.
وضمير {إِنَّهُ لَحَقٌّ} عائد إلى {ماتُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]. وهذا من رد العجز على المصدر لأنه رد على قوله أول السورة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] وانتهى الغرض.
وقوله {مِثْل مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} زيادة تقرير لوقوع ما أوعدوه بأن شبه بشيء معلوم كالضرورة لا امتراء في وقوعه وهو كون المخاطبين ينطقون. وهذا نظير قولهم: كما أن قبل اليوم أمس، أو كما أن بعد اليوم غدا. وهو من التمثيل بالأمور المحسوسة، ومنه تمثيل سرعة الوصول لقرب المكان في قول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقوله: مثل ما أنك هاهنا، وقولهم: كما أنك ترى وتسمع.
وقرأ الجمهور {مِثْلَ} بالنصب على أنه صفة حال محذوف قصد منه التأكيد. والتقدير: إنه لحق حقا ما أنكم تنطقون. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف مرفوعا على الصفة {لَحَقٌّ} صفة أريد بها التشبيه.
و {مَا} الواقعة بعد {مِثْل} زائدة للتوكيد. وأردفت ب {أن} المفيدة للتأكيد تقوية لتحقيق حقية ما يوعدون.
واجتلب المضارع في {تَنْطِقُون} دون أن يقال: نطقكم، يفيد التشبيه بنطقهم المتجدد وهو أقوى في الوقوع لأنه محسوس.
[24-30] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [42] إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [25] فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [26] فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [27] فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [28] فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [29] قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [30].
انتقال من الإنذار والموعظة والاستدلال إلى الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المماثلة للمخاطبين المشركين في الكفر وتكذيب الرسل. والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وغير أسلوب الكلام من خطاب المنذرين مواجهة إلى أسلوب التعريض تفننا بذكر قصة إبراهيم لتكون توطئة للمقصود من ذكر ما حل بقوم لوط حين كذبوا رسولهم، فالمقصود هو ما بعد
قوله {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} [الحجر:57].
وكان في الابتداء بذكر قوم لوط في هذه الآية على خلاف الترتيب الذي جرى عليه اصطلاح القرآن في ترتيب قصص الأمم المكذبة بابتدائها بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود ثم قوم لوط أن المناسبة للانتقال من وعيد المشركين إلى العبرة بالأمم الماضية أن المشركين وصفوا آنفا بأنهم في غمرة ساهون فكانوا في تلك الغمرة أشبه بقوم لوط إذ قال الله فيهم {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، ولأن العذاب الذي عذب به قوم لوط ك4ان حجارة أنزلت عليهم من السماء مشبهة بالمطر. وقد سميت مطرا في قوله تعالى {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40] وقوله {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود:82] ولأن في قصة حضور الملائكة عند إبراهيم وزوجه عبرة بإمكان البعث فقد تضمنت بشارتها بمولود يولد لها بعد اليأس من الولادة. وذلك مثل البعث بالحياة بعد الممات.
ولما وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله {هَلْ أَتَاك} عرف أن المقصود الأصلي تسليته على ما لقيه من تكذيب قومه. ويتبع ذلك تعريض بالسامعين حين يقرأ عليهم القرآن أو يبلغهم بأنهم صائرون إلى مثل ذلك العذاب لاتحاد الأسباب.
وتقدم القول في نظير {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ} عند قوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} في سورة ص:[21] وأنه يفتتح به الأخبار الفخمة المهمة.
والضيف: اسم يقال للواحد وللجمع لأن أصله مصدر ضاف، إذا مال فأطلق على الذي يميل إلى بيت أحد لينزل عنده. ثم صار اسما فإذا لوحظ أصله أطلق على الواحد وغيره ولم يؤنثوه ولا يجمعونه وإذا لوحظ الاسم جمعوه للجماعة وأنثوه للأنثى فقالوا أضياف وضيوف وامرأة ضيفة وهو هنا اسم جمع ولذلك وصف ب {الْمُكْرَمِينَ} ، وتقدم في سورة الحجر[68] {قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي} .
والمعني به الملائكة الذي أظهرهم الله لإبراهيم عليه السلام فأخبروه بأنهم مرسلون من الله لتنفيذ العذاب لقوم لوط وسماهم الله ضيفا نظرا لصورة مجيئهم في هيئة الضيف كما سمي الملكين الذين جاءا داود خصما في قوله تعالى {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [صّ:21]، وذلك من الاستعارة الصورية.
وفي سفر التكوين من التوراة: أنهم كانوا ثلاثة. وعن ابن عباس: أنهم جبريل
وميكائيل وإسرافيل. وعن عطاء: جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر.
ولعل سبب إرسال ثلاثة ليقع تشكلهم في شكل الرجال لما تعارفه الناس في أسفارهم أن لا يقل ركب المسافرين عن ثلاثة رفاق. وذلك أصل جريان المخاطبة بصيغة المثنى في نحو قفا نبك. وفي الحديث "الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب". رواه الحاكم في المستدرك وذكر أن سنده صحيح.
وقد يكون سبب إرسالهم ثلاثة أن عذاب قوم لو كان بأصناف مختلفة لكل صنف منها ملكه الموكل به.
ووصفهم بالمكرمين كلام موجه لأنه يوهم أن ذلك لإكرام إبراهيم إياهم كما جرت عادته مع الضيف وهو الذي سن القرى، والمقصود: أن الله أكرمهم برفع الدرجة لأن الملائكة مقربون عند الله تعالى كما قال {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء :ء 26] وقال {كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:11].
وظرف {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} يتعلق ب {حديث} لما فيه من معنى الفعل، أي خبرهم حين دخلوا عليه.
وقولهً {قَالَ سَلامٌا قَالَ سَلامٌ} تقدم نظيره في سورة هود. وقرأ الجمهور {قَالَ سَلامٌ} وقرأه حمزة والكسائي {قال سلم} بكسر السين وسكون اللام.
وقوله: {قوْمٌ مُنْكَرُونَ} من كلام إبراهيم. والظاهر أنه قاله خفتا إذ ليس من الإكرام أن يجاهر الزائر بذلك، فالتقدير: هم قوم منكرون.
والمنكر: الذي ينكره غيره، أي لا يعرفه. وأطلق هنا على من ينكر حاله ويظن أنه حال غير معتاد، أي يخشى أنه مضمر سوء، كما قال في سورة هود[70 ] {فلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} ومنه قول الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
أي كرهت ذاني.
وقصة ضيف إبراهيم تقدمت في سورة هود.
و {راغ} مال في المشي إلى جانب، ومنه: روغان الثعلب. والمعنى: أن إبراهيم حاد عن المكان الذي نزل فيه الضيوف إلى أهله، أي إلى بيته الذي فيه أهله.
وفي التوراة: أنه كان جالسا أمام باب خيمته تحت وأنه أنزل الضيوف تحت
شجرة وأنه أنزل الضيوف تحت الشجرة. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: إن الروغان ميل في المشي عن الاستواء إلى الجانب مع إخفاء إرادته ذلك وتبعه على هذا التقييد الراغب والزمخشري وابن عطية فانتزع منه الزمخشري أن إخفاء إبراهيم ميله إلى أهله من حسن الضيافة كيلا يوهم الضيف أنه يريد ان يحضر لهم شيئا فلعل الضيف أن يكفه عن ذلك ويعذره وهذا منزع لطيف.
وكان منزل إبراهيم الذي جرت عنده هذه القصة بموضع يسمى بلوطات ممرا من أرض جبرون.
ووصف العجل هنا ب {سمين} ، ووصف في سورة هود بحنيذ، أي مشوي فهو عجل سمين شواه وقربه إليهم، وكان الشوا أسرع طبخ أهل البادية وقام امرؤ القيس يذكر الصيد:
فظل طهاة اللحم ما بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل
فقيد قدير ب "معجل" ولم يقيد صفيف شواء لأنه معلوم.
ومعنى {قربه} وضعه قريبا منهم، أي لم ينقلهم من مجلسهم إلى موضع آخر بل جعل الطعام بين أيديهم. وهذا من تمام الإكرام للضيف بخلاف ما يطعمه العافي والسائل فإنه يدعى الى مكان الطعام كما قال الفرزدق:
فقلت إلى الطعام فقال منهم ... فريق يحسد الأنس الطعاما
ومجيء الفاء لعطف أفعال {فَرَاغَ} {فَجَاءَ} ، {فَقَرَّبَهُ} للدلالة على أن هذه الأفعال وقعت في سرعة، والإسراع بالقرى من تمام الكرم، وقد قيل: خير البر عاجله.
وجملة {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} بدل اشتمال من جملة {قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} .
و {أَلا} كلمة واحدة، وهي حرف عرض، أي رغبة في حصول الفعل الذي تدخل عليه. وهي هنا متعينة للعرض لوقوع فعل القول بدلا من فعل {قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} ، ولا يحسن جعلها كلمتين من همزة استفهام للإنكار مع "لا" النافية.
والعرض على الضيف عقب وضع الطعام بين يديه زيادة في الإكرام بإظهار الحرص على ما ينفع الضيف وإن كان وضع الطعام بين يديه كافيا في تمكينه منه. وقد اعتبر ذلك إذنا عند الفقهاء في الدعوة الى الولائم بخلاف مجرد وجود مائدة طعام أو سفرة، إذ يجوز أن تكون قد أعدت لغير المدعو.
والفاء في {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} فصيحة لإفصاحها عن جملة مقدرة يقتضيها ربط المعنى، أي فلم يأكلوا فأوجس منهم خيفة، كقوله {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، وقد صرح بذلك في سورة هود {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ} أي إلى العجل {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70].
و {أَوْجَسَ} أحس في نفسه ولم يظهر، وتقدم نظيره في سورة هود. وقولهم له {لا تَخَفْ} لأنهم علموا ما في نفسه مما ظهر على ملامحه من الخوف، وتقدم نظيره في سورة هود.
والغلام الذي بشروه به هو إسحاق لأنه هو ابن سارة، وهو الذي وقعت البشارة به في هذه القصة في التوراة، ووصف هنا ب {عَلِيمٌ} وأما الذي ذكرت البشارة به في سورة الصافات فهو إسماعيل ووصف ب {حَلِيمٌ} ولذلك فامرأة إبراهيم الحادث عنها هنا هي سارة، وهي التي ولدت بعد أن أيست، أما هاجر فقد كانت فتاة ولدت في مقتبل عمرها. وأقبلت امرأته حين سمعت البشارة لها بغلام، أي أقبلت على مجلس إبراهيم مع ضيفه، قال تعالى في سورة هود[71] {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} .
وكان النساء يحضرن مجالس الرجال في بيوتهن مع أزواجهن ويواكلنهم. وفي الموطأ قال مالك: لا باس أن تحضر المرأة مع زوجها وضيفه وتأكل معهم.
والصرة: الصياح، ومنه اشتق الصرير. و {فِي} للظرفية المجازية وهي الملابسة.
والصك: اللطم، وصك الوجه عند التعجب عادة النساء أيامئذ. ونظيره وضع اليد على الفم في قوله تعالى ِ {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9].
وقولها {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} خبر محذوف، أي أنا عجوز عقيم.
والعجوز: فعول بمعنى فاعل وهو يستوي في المذكر والمؤنث مشتق من العجز ويطلق على كبر السن لملازمة العجز له غالبا.
والعقيم: فعيل بمعنى مفعول، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوف مؤنث، مشتق من عقمها الله، إذا خلقها لا تحمل بجنين، وكانت سارة لم تحمل قط.
وقول الملائكة {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} الإشارة إلى الحادث وهو التبشير بغلام.والكاف
للتشبيه، أي مثل قولنا: قال ربك فنحن بلغنا ما أمرنا بتبليغه.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} تعليل لجملة {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} المتقضية أن الملائكة ما أخبروا إبراهيم إلا تبليغا من الله وأن الله صادق وعده وأنه لا موقع لتعجب امرأة إبراهيم لأن الله حكيم يدبر تكوين ما يريده، وعليم لا يخفى عليه حالها من العجز والعقم.
وهذه المحاورة بين الملائكة وسارة امرأة إبراهيم وقع مثلها بينهم وبين إبراهيم كما قص في سورة الحجر، فحكي هنا ما دار بينهم وبين سارة، وحكي هناك ما دار بينهم وبين إبراهيم والمقام واحد، والحالة واحدة كما بين في سورة هود[72] {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} .
[31، 34] {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُون [31] قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [32] لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [33] مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [34].
علم إبراهيم من محاورتهم فيما ذكر في هذه الآية وما ورد ذكره في آيات أخرى أنهم ملائكة مرسلون من عند الله فسألهم عن الشأن الذي أرسلوا لأجله. وإنما سألهم بعد أن قراهم جريا على سنة الضيافة أن لا يسأل الضيف عن الغرض الذي أورده ذلك المنزل إلا بعد استعداده للرحيل كيلا يتوهم سآمة مضيفه من نزوله به، وليعينه على أمره إن كان مستطيعا، وهم وإن كانوا قد بشروه بأمر عظيم إلا أنه لم يعلم هل ذلك هو قصارى ما جاءوا لأجله.؟
وحكي فعل القول بدون عاطف لأنه في مقاولة محاورة بينه وبين ضيفه.
والفاء فيما حكي من كلام إبراهيم فصيحة مؤذنة بكلام محذوف ناشىء عن المحاورة الواقعة بينه وبين ضيفه وهو من عطف كلام على كلام متكلم آخر ويقع كثيرا في العطف بالواو نحو قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124 ] بعد قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] وقوله حكاية على نوح {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:112]. فإبراهيم خاطب الملائكة بلغته ما يؤدي مثل بفصيح الكلام العربي بعبارة {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} وتقدير المحذوف: إذ كنتم مرسلين من جانب الله تعالى فما خطبكم الذي أرسلتم من أجله.
وقد علم إبراهيم أن نزول الملائكة بتلك الصورة لا تكون بمجرد بشارته بابن يولد له ولزوجه إذ كانت البشارة تحصل له
بالوحي، فكان من علم النبوءة أن إرسال الملائكة إلى الأرض بتلك الصورة لا يكون إلا لخطب قال تعالى و {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر:8 ].
والخطب: الحدث العظيم والشأن المهم، وإضافته إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.
والمعنى: ما الخطب الذي أرسلتم لأجله إذ لا تنزل الملائكة إلا بالحق. وخاطبهم بقوله {أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} لأنه لا يعرف ما يسميهم به إلا وصف أنهم المرسلون، والمرسلون من صفات الملائكة كما في قوله تعالى {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفا} [المرسلات:1] عن أحد تفسيرين.
والمراد بالقوم المجرمين أهل سدوم وعمورية، وهم قوم لوط، وقد تقدمت قصتهم في سورة الأعراف وسورة هود.
والإرسال الذي في قوله {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} مستعمل في الرمي مجازا كما يقال: أرسل سهمه على الصيد، وهذا الإرسال يكون بعد أن أصعدوا الحجارة إلى الجو وأرسلتها عليهم، ولذلك سميت مطرا في بعض الآيات.
وحصل بين {أَرْسَلْنَا} وبين {لِنُرْسِلَ} جناس لاختلاف معنى اللفظين.
والحجارة: اسم جمع للحجر، ومعنى كون الحجارة من طين: أن أصلها طين تحجر بصهر النار، وهي حجارة بركانية من كبريت قذفتها الأرض من الجهة التي صارت بحيرة تدعى اليوم بحيرة لوط وأصعدها ناموس إلهي بضغط جعله الله يرفع الخارج من البركان إلى الجو فنزلت على قرى قوم لوط فأهلكتهم، وذلك بأمر التكوين بواسطة القوى الملكية.
والمسومة: التي عليها المسومة أي العلامة، أي عليها علامات من ألوان تدل على أنها ليست من الحجارة المتعارفة.
ومعنى {عِنْدَ رَبِّكَ} أن علاماتها بخلق الله وتكوينه.
والمسرفون: المفرطون في العصيان، وذلك بكفرهم وشيوع الفاحشة فيهم، فالمسرفون: القوم المجرمون، عدل عن ضميرهم إلى الوصف الظاهر، لتسجيل إفراطهم في الإجرام.
[35-37 ]{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [35] فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [36] وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [37].
هذه الجملة ليست من حكاية كلام الملائكة بل هي تذييل لقصة محاورة الملائكة مع إبراهيم، والفاء في {فَأَخْرَجْنَا} فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر هو ما ذكر في سورة هود من مجيء الملائكة إلى لوط وما حدث بينه وبين قومه، فالتقدير: فحلوا بقرية لوط فأمرناهم بإخراج من كان فيها من المؤمنين فأخرجوهم. وضمير أخرجنا ضمير عظمة الجلالة.
وإسناد الإخراج إلى الله لأنه أمر به الملائكة أن يبلغوه لوطا، ولأن الله يسر إخراج المؤمنين ونجاتهم إذ أخر نزول الحجارة إلى أن خرج المؤمنون وهم لوط وأهله إلا امرأته.
وعبر عنهم ب {الْمُؤْمِنِينَ} للإشارة إلى أن إيمانهم هو سبب نجاتهم، أي إيمانهم بلوط. والتعبير عنه ب {الْمُسْلِمِينَ} لأنهم آل نبي وإيمان الأنبياء إسلام قال تعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وضمير {فيها} عائد إلى القرية ولم يتقدم لها ذكر لكونها معلومة من آيات أخرى كقوله {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40].
وتفريع {فَمَا وَجَدْنَا} تفريع خبر على خبر، وفعل {وَجَدْنَا} معنى علمنا لأن"وجد" من أخوات "ظن" فمفعوله الأول قوله {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} و"من" مزيدة لتأكيد النفي وقوله {فيها} في محل المفعول الثاني.
وإنما قال {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} دون أن يقول: فأخرجنا لوطا وأهل بيته قصدا للتنويه بشأن الإيمان والإسلام، أي أن الله نجاهم من العذاب لأجل إيمانهم بما جاء به رسولهم لا لأجل أنهم أهل لوط، وأن كونهم أهل بيت لوط لأنهم انحصر فيهم وصف {الْمُؤْمِنِينَ} في تلك القرية، فكان كالكلي الذي انحصر في فرد معين.
والمؤمن: هو المصدق بما يجب التصديق به.والمسلم المنقاد إلى مقتضى الإيمان ولا نجاة إلا بمجموع الأمرين، فحصل في الكلام مع التفنن في الألفاظ الإشارة إلى التنويه بكليهما وإلى أن النجاة باجتماعهما.
والآية تشير إلى أن امرأة لوط كانت تظهر الانقياد إلى زوجها وتضمر الكفر وممالأة
أهل القرية على فسادهم، قال تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] الآية، فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم فبيت لوط كان كله من المسلمين ولم يكن كله من المؤمنين فلذلك لم ينج منهم إلا الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام معا.
والوجدان في قوله {فَمَا وَجَدْنَا} مراد به تعلق علم الله بالمعلوم بعد وقوعه وهو تعلق تنجيزي، ووجدان الشيء: إدراكه وتحصيله.
ومعنى {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} أن القرية بقيت خرابا لم تعمر، فكان ما فيها من آثار الخراب آية للذين يخافون عذاب الله، قال تعالى في سورة في سورة الحجر [76 ]{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} . أو يعود الضمير إلى ما يؤخذ من مجموع قوله {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الذاريات:32] على تأويل الكلام بالقصة، أي تركنا في قصتهم.
والترك حقيقته: مفارقة شخص شيئا حصل معه في مكان ففارق ذلك المكان وأبقى منه ما كان معه، كقول عنترة:
فتركته جزر السباع ينشنه
ويطلق على التسبب في إيجاد حالة تطول، كقول النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
بتشبيه إبقاء تلك الحالة فيه بالشيء المتروك في مكان. ووجه الشبه عدم التغير.
والترك في الآية: كناية عن إبقاء الشيء في موضع دون مفارقة التارك، أو هو مجاز مرسل في ذلك فيكون نظير ما في بيت النابغة.
و {لَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ} : هم المؤمنون بالبعث والجزاء من أهل الإسلام وأهل الكتاب دون المشركين فإنهم لما لم ينتفعوا بدلالة مواقع الاستئصال على أسباب ذلك الاستئصال نزلت دلالة آيته بالنسبة إليهم منزلة ما ليس بآية كما قال تعالى {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [قّ: 45].
والمعنى: أن الذين يخافون اتعظوا بآية قوم لوط فاجتنبوا مثل أسباب هلاكهم، وأن الذين أشركوا لا يتعظون فيوشك أن ينزل عليهم عذاب أليم.
[38، 40] {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [38] فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ
أَوْ مَجْنُون [39] فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [40].
قوله {وَفِي مُوسَى} عطف على قوله {فِيهَا آيَةً} [الذرايات: 73].
والتقدير: وتركنا في موسى آية، فهذا العطف من عطف جملة على جملة لتقدير فعل: تركنا، بعد واو العطف، والكلم على حذف مضاف أي في قصة موسى حين أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى الخ، فيكون الترك المقدر في حرف العطف مرادا به جعل الدلالة باقية فكأنها متروكة في الموضع لا تنقل منه كما تقدم آنفا في بيت عنترة.
وأعقب قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لشهرة أمر موسى وشريعته، فالترك المقدر مستعمل في مجازيه المرسل والاستعارة. وفي الواو استخدام مثل استخدام الضمير في قول معاوية بن مالك الملقب معود الحكماء لقبوه به لقوله في ذكر قصيدته :
أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما ألحق في الحدثان نابا
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والمعنى: أن قصة موسى آية دائمة. وعقبت قصة قوم لوط بقصة موسى وفرعون لما بينهما من تناسب في أن العذاب الذي عذب به الأمتان عذاب أرضي إذ عذب قوم لوط بالحجارة التي هي من طين، وعذب قوم فرعون بالغرق في البحر. ثم ذكر عاد وثمود وكان عذابهما سماويا إذ عذبت عاد بالريح وثمود بالصاعقة.
والسلطان المبين: الحجة الواضحة وهي المعجزات التي أظهرها لفرعون من انقلاب العصا حية، وما تلاها من الآيات الثمان.
والتولي حقيقته: الانصراف عن المكان. والركن حقيقته: ما يعتمد عليه من بناء ونحوه، ويسمى الجسد ركنا لأنه عماد عمل الإنسان.
وقوله: {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} تمثيل لهيئة رفضه دعوة موسى بهيئة المنصرف عن شخص وبإيراد قوله {بِرُكْنِهِ} تم التمثيل ولولاه لكان قوله :{تَوَلَّى} مجرد استعارة.
والباء للملابسة، أي ملابسا ركنه كما في قوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: 83].
والمليم: الذي يجعل غيره لائما عليه، أي وهو مذنب ذنبا يلومه الله عليه،أي
أي يؤاخذه به. والمعنى: أنه مستوجب العقاب كما قال {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [ابراهيم: 22].
والمعنى أن قصة موسى وفرعون آية للذين يخافون العذاب الأليم فيجتنبون مثل أسباب ما حل بفرعون وقومه من العذاب وهي الأسباب التي ظهرت في مكابرة فرعون عن تصديق الرسول الذي أرسل إليه، وأن الذين لا يخافون العذاب لا يؤمنون بالبعث والجزاء لا يتعظون بذلك لأنهم لا يصدقون بالنواميس الإلهية ولا يتدبرون في دعوة أهل الحق فهم لا يزالون معرضين ساخرين عن دعوة رسولهم متكبرين عليه، مكابرين في دلائل صدقه، فيوشك أن يحل بهم من مثل ما حل بفرعون وقومه، لأن ما جاز على المثل يجوز على المماثل، وقد كان المسلمون يقولون: إن أب جهل فرعون هذه الأمة.
[41] [42] {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ [41]مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [42]} .
نظم هذه الآية مثل نظم قوله {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ} [الذاريات:38] انتقل إلى العبرة بأمة من الأمم العربية وهم عاد وهم أشهر العرب البائدة.
و {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} هي: الخلية من المنافع التي ترجى لها الرياح من إثارة السحاب وسوقه، ومن إلقاح الأشجار بنقل غبرة الذكر من ثمار إلى الإناث من أشجارها، أي الريح التي لا نفع فيها، أي هي ضارة. وهذا الوصف لما كان مشتقا مما هو من خصائص الإناث كان مستغنيا عن لحاق هاء التأنيث لأنها يؤتى بها للفرق بين الصنفين والعرب يكرهون العقم في مواشيهم، أي ريح كالناقة العقيم لا تثمر نسلا ولا درا، فوصف الريح بالعقيم تشبيه بليغ في الشؤم، قال تعالى {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55].
وجملة {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} صفة ثانية، أوحال، فهو ارتقاء في مضرة هذا الريح فإنه لا ينفع وأنه يضر أضرارا عظيمة.
وصيغ {تَذَرُ} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة. و ِ {شَيْءٍ} البقرة: من ال في معنى المفعول ل {تَذَر} فإن "من" لتأكيد النفي والنكرة المجرورة ب"من" هذه نصف في نفي الجنس ولذلك كانت عامة، إلا أن هذا العموم مخصص بدليل العقل لأن الريح إنما تبلي الأشياء التي تمر عليها إذا كان شأنها أن يتطرق إليها البلى، فإن الريح لا تبلي الجبال ولا البحار ولا الأودية وهي تمر عليها وإنما تبلي الديار والأشجار والناس والبهائم، ومثله
قوله تعالى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25].
وجملة {جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} في موضع الحال من ضمير {الرِّيحُ} مستثناة من عموم
أحوال {شَيْءٍ} يبين المعرف، أي ما تذر من شيء أتت عليه في حال من أحوال تدميرها إلا في حال قد جعلته كالرميم.
والرميم: العظم الذي بلي. يقال: رم العظم، إذا بلى، أي جعلته مفتتا.
والمعنى: وفي عاد آية للذين يخافون العذاب الأليم إذ أرسل الله عليهم الريح.
والمراد: أن الآية كائنة في أسباب إرسال الريح عليهم وهي أسباب تكذيبهم هودا وإشراكهم بالله وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، فيحذر من مثل ما حل بهم أهل الإيمان. وأما الذين لا يخافون العذاب الأليم من أهل الشرك فهم مصرون على كفرهم كما أصرت عاد فيوشك أن يحل بهم من جنس ما حل بعاد.
[43-45] {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ [43] فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [44] فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [45]} .
أتبعت قصة عاد بقصة ثمود لتقارنهما غالبا في القرآن من أجل أن ثمود عاصرت عادا وخلفتها في عظمة الأمم، قال تعالى {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [لأعراف: 74] ولاشتهارهما بين العرب.
و {فِي ثَمُودَ} عطف على {وَفِي عَادٍ} أو على {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} .
والمعنى: وتركنا آية للمؤمنين في ثمود في حال قد أخذتهم الصاعقة، أي في دلالة أخذ الصاعقة إياهم، على أن سببه هو إشراكهم وتكذيبهم وعتوهم عن أمر ربهم، فالمؤمنون اعتبروا بتلك فسلكوا مسلكالنجاة من عواقبها، وأما المشركون فإصرارهم على كفرهم سيوقعهم في عذاب من جنس ما وقعت فيه ثمود.
وهذا القول الذي ذكر هنا هو كلام جامع لما أنذرهم به صالح رسولهم وذكرهم يه من نحو قوله {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} [لأعراف: 74 ] وقوله {أتتركون فيما هنا آمنين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] وقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ} [هود: 61]. ونحو ذلك مما يدل على أنهم أعطوا ما هو متاع، أي نفع في الدنيا فإن منافع الدنيا
زائلة، فكانت الأقوال التي قالها رسولهم تذكيرا بنعمة الله عليهم يجمعها {تَمَتَّعُوا حَتَّى حين} ، على أنه يجوز أن يكون رسولهم قال لهم هذه الكلمة الجامعة ولم تحك في القرآن إلا في هذا الموضع، فقد عمت من المقدمة السابعة من مقدمات هذا التفسير أن أخبار الأمم تأتي موزعة على قصصهم في القرآن.
فقوله: {تَمَتَّعُوا} أمر مستعمل في إباحة المتاع. وقد جعل المتاع بمعنى النعمة في مواضع كثيرة كقوله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26] قوله: {وإن أدري لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111].
والمراد ب {حِينٍ} زمن مبهم، جعل نهاية لما متعوا به من النعم فإن نعم الدنيا زائلة، وذلك الأجل: إما أن يراد به أجل كل واحد منهم الذي ينتهي إليه حياته، وإما أن يراد به أجل الأمة الذي ينتهي إليه بقاؤها. وهذا نحو قوله {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [هود: 3] فكما قال الله للناس على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لعله قاله لثمود على لسان صالح عليه السلام.
وليس قوله {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} بمشير إلى قوله في الآية الأخرى {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] ونحوه لأن ذلك الأمر مستعمل في الإنذار والتأييس من النجاة بعد ثلاثة أيام فلا يكون لقوله بعده : {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} مناسبة لتعقيبه به بالفاء لأن الذي تفيده الفاء يقتضي أن ما بعدها مرتب في الوجود على ما قبلها.
والعتو: الكبر والشدة. وضمن {عُتُوٍّ} معنى أعرضوا، فعدي ب {عن} ، أي فأعرضوا عما أمرهم الله على لسان رسوله صالح عليه السلام.
وأخذ الصاعقة إياهم إصابتهم إياهم إصابة تشبه أخذ العدو عدوه.
وجملة {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} حال من ضمير النصب في {أَخَذَتْهُمُ} أي أخذتهم في حال نظرهم إلى نزولها، لأنهم لما رأوا بوارقها الشديدة علموا أنها غير معتادة فاستشرفوا ينظرون إلى السحاب فنزلت عليهم الصاعقة وهم ينظرون. وذلك هول عظيم زيادة في العذاب فإن النظر إلى النقمة يزيد صاحبها ألما كما أن النظر إلى النعمة يزيد المنعم مسرة، قال تعالى: { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50].
وقرأ الكسائي {الصعقة} بدون ألف.
وقوله {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} تفريع على {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أي فما استطاعوا أن يدفعوا ذلك حين رؤيتهم بوادره. فالقيام مجاز للدفاع كما يقال: هذا أمر لا يقوم له أحد، أي لا يدفعه أحد. وفي الحديث "غضب غضبا لا يقوم له أحد" ، أي فما استطاعوا أي دفاع لذلك.
وقوله {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} أي لم ينصرهم حتى يكونوا منتصرين لأن انتصر مطاوع نصر، أي ما نصرهم أحد فانتصروا.
[ 46] {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
قرأ الجمهور {قَوْمِ} بالنصب بتقدير "اذكر"، أو بفعل محذوف يدل عليه ما ذكر من القصص قبله، تقديره: وأهلكنا قوم نوح، وهذا من عطف الجمل وليس من عطف المفردات.
وقرأ أبو عمروا وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بالجر عطفا على {ثَمُودَ} [ الذريات43 :].
على تقدير:وفي قوم نوح.
ومعنى {مِنْ قَبْلُ} أنهم أهلكوا قبل أولئك فهم أول الأمم المكذبين رسولهم أهلكو.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} تعليل لما تضمنه قوله :{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} وتقدير كونهم آيه للذين يخافون العذاب: من كونهم عوقبوا وأن عقابهم لأنهم كانوا قوما فاسقين.
وأخر الكلام على قوم نوح لما عرض من تجاذب المناسبات فيما أورد من آيات العذاب للأمم المذكورة آنفا بما علمته سابقا. ولذلك كان قوله: {مِنْ قَبْلُ} تنبيها على وجه مخالفة عادة القرآن في ترتيب حكاية أحوال الأمم على حسب ترتيبهم في الوجود.وقد أومأ قوله: {قَبْلُ} إلى هذا ومثله قوله تعالى {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم:50-52]
[47] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} .
لما كانت شبهة نفاة البعث قائمة على توهم استحالة إعادة الأجسام بعد فنائها أعقبت تهديدهم بما يقوض توهمهم فوجه إليه الخطاب يذكرهم بأن الله خلق أعظم المخلوقات
ولم تكن شيئا فلا تعد إعادة الأشياء الفانية بالنسبة إليها إلا شيئا يسيرا كما قال تعالى {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
وهذه الجملة والجمل المعطوفة عليها إلى قوله {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [51] معترضة بين جملة {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} [الذريات: 46] الخ وجملة {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [الذريات:52] الآية.
وابتدئ بخلق السماء لأن السماء أعظم مخلوق يشاهده الناس، وعطف عليه خلق الأرض عطف الشيء على مخالفه لاقتران المتخالفين في الجامع الخيالي. وعطف عليها خلق أجناس الحيوان لأنها قريبة للأنظار لا يكلف النظر فيها والتدبر في أحوالها ما يرهق الأذهان.
واستعير لخلق السماء فعل البناء لأنه منظر السماء فيما يبدوا للأنظار شبيه بالقبة ونصب القبة يدعى بناء.
وهذا استدلال بأثر الخلق الذي عاينوا أثره ولم يشهدوا كيفيته، لأن أثره ينبئ عن عظيم كيفيته، وأنها أعظم مما يتصور في كيفية إعادة الأجسام البالية.
والأيد: القوة. وأصله جمع يد، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسما للقوة، وتقدم عند قوله تعالى {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} في سورة ص[17].
والمعنى: بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها.
وتقديم{السَّمَاءِ} على عامله للاهتمام به، ثم بسلوك طريقة الاشتغال زاده تقوية ليتعلق المفعول بفعله مرتين: مرة بنفسه، ومرة بضميره، فإن الاشتغال في قوة تكرر الجملة. وزيد تأكيده بالتذييل بقوله {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} والواو اعتراضية.
والموسع:اسم فاعل من أوسع، إذا كان ذا وسع، أي قدرة. وتصاريف جائية من السعة، وهي امتداد مساحة المكان ضد الضيق، واستعير معناها للوفرة في أشياء مثل الأفراد مثل عمومها في {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [لأعراف: 156] ووفرة المال مثل {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7 ]، وقوله و {َعَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وجاء في أسمائه تعالى الواسع {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وهو عند إجرائه على الذات يفيد كمال صفاته الذاتية: الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، والحكمة، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} {البقرة: 115} ومنه قوله هنا {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} .
وأكد الخبر بحرف "إن" لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر سعة قدرة الله تعالى إذ أحالوا إعادة المخلوقات بعد بلاها.
[48 ] {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} .
القول في تقديم {الْأَرْضِ} على عامله وفي مجيء طريقة الاشتغال كالقول في {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} [الذريات: 47]. وكذلك القول في الاستدلال بذلك على إمكان البعث.
من دقائق فخر الدين: أن ذكر الأمم الأربع للإشارة إلى أن الله عذبهم بما هو من أسباب وجودهم، وهو التراب والماء والهواء والنار، وهي عناصر الوجود، فأهلك قوم لوط بالحجارة وهي من طين، وأهلك قوم فرعون بالماء، وأهلك عادا بالريح وهو هواء، وأهلك ثمودا بالنار.
واستغنى هنا عن إعادة {بِأَيْدٍ} [الذريات: 47] لدلالة ما قبله عليه.
والفرش: بسط الثوب ونحوه للجلوس والاضطجاع، وفي {فَرَشْنَاهَا} استعارة تبعية، شبه تكوين الله الأرض على حالة البسط بفرش البساط ونحوه.
وفي هذا الفرش دلالة على قدرة الله وحكمته إذ جعل الأرض مبسوطة لما أراد أن يجعل على سطحها أنواع الحيوان يمشي عليها ويتوسدها ويضطجع عليها ولو لم تكن كذلك لكانت محدودبة تؤلم الماشي بلة المتوسد والمضطجع.
ولما كان في فرشها إرادة جعلها مهدا لمن عليها من الإنسان اتبع {فَرَشْنَاهَا} بتفريع ثناء الله على نفسه على إجادة تمهيدها تذكيرا بعظمته ونعمته، أي فنعم الماهدون نحن.
وصيغة الجمع في قوله: {الْمَاهِدُونَ} للتعظيم مثل ضمير الجمع في [1000] وروعي في وصف خلق الأرض ما يبدو للناس من سطحها لأنه الذي يهم الناس في الاستدلال على قدرة الله وفي الامتنان عليه بما في لطفهم والرفق بهم. دون تعرض إلى تكويرها إذ لا يبلغون إلى إدراكه، كما روعي في ذكر السماء ما يبدو من قبة أجواءها دون بحث عن ترامي أطرافها وتعدد عوالمها لمثل ذلك. ولذلك اتبع الاعتراض بالتذييل بقوله : {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} المراد منه تلقين الناس الثناء على الله فيما صنع لهم فيها من منة
ـــــــ
1 كلمة غير واضحة في المطبوعة.
ليشكروه بذلك الثناء كما في قوله :{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
[ 49] {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
لما أشعر قوله: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذريات:48] بأن في ذلك نعمة على الموجودات التي على الأرض اتبع ذلك بصفة خلق تلك الموجودات لما فيه من دلالة على تفرد الله تعالى بالخلق المستلزم بتفرده بالإلهية فقال: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} والزوج: الذكر والأنثى. والمراد بالشيء: النوع من جنس الحيوان. وتثنية زوج هنا لأنه أريد به ما يزوج من ذكر وأنثى.
وهذا الاستدلال عليه بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلما لفتوا أبصارهم، وقدحوا أفكارهم، وهو خلق الذكر والأنثى ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه وذلك أقرب تمثيل لإنشاء الخلق بعد الفناء. وهو البعث الذي أنكروه لأن الأشياء تقرب بما هو واضح من أحوال أمثالها.
ولذلك أتبعه بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي تتفكرون في الفروق بين الممكنات والمستحيلات، وتتفكرون في مراتب الإمكان فلا يختلط عليكم الاستبعاد وقلة الاعتياد بالاستحالة فتتوهموا غريب محالا.
فالتذكر مستعمل في عادة التفكر للأشياء ومراجعة أنفسهم فيما أحالوه ليعلموا بعد إعادة النظر أن ما أحالوه ممكن ولكنهم لم يألفوا فاشتبه عليهم الغريب بالمحال فأحالوا فلما كان تجديد التفكر المغفول عنه شبيها بتذكر الشيء المنسي أطلق عليه {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وهذا في معنى قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة:60، 62 ] فقد ذيل هنالك بالحث على التذكر، كما ذيل هنا برجاء التذكر، فأفاد أن خلق الذكر والأنثى من نطفة هو النشأة الأولى وهي الدالة على النشأة الآخرة.
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تعليل لجملة {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي رجاء أن يكون في الزوجين تذكر لكم، أي دلالة مغفول عنها. والقول في صدور الرجاء من الله مبين عنه قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 52 ].
[ 50، 51 ] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
بعد أن بين ضلال هؤلاء في تكذيبهم بالبعث بيانا بالبرهان الساطع، ومثل حالهم بحال الأمم الذين سلفوهم في التكذيب بالرسل وما جاءوا به جميعا بين الموعظة للضالين وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكانت فيما مضى من الاستدلال دلالة على أن الله متفرد بخلق العالم وفي ذلك إبطال إشراكهم مع الله آلهة أخرى أقبل على تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يستخلصه لهم عقب بأن يدعوهم إلى الرجوع إلى الحق بقوله : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فالجملة المفرعة بالفاء مقول قول محذوف والتقدير: فقل فروا، دل عليه قوله : {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} فإنه كلام لا يصدر إلا من قائل ولا يستقيم أن يكون كلام مبلغ. وحذف قول كثير الورود في القرآن وهو من ضرب إيجازه، فالفاء من الكلام الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومفادها التفريع على ما تقرر مما تقدم. وليست مفرعة فعل الأمر المحذوف لأن المفرع بالفاء هو ما يذكر بعدها.
وقد غير أسلوب النوع إلى توجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم هذه الموعظة لأن لتعدد الواعظين تأثير على نفوس المخاطبين بالموعظة.
والأنسب بالسياق إن الفرار إلى الله مستعار للإقلاع عن ما هم فيه من الإشراك وجحود البعث استعارة تمثيلية بتشبيه حال تورطهم في الضلالة بحال من هو في مكان مخوف يدعو حاله أن يفر منه إلى من يجيره، وتشبيه حال الرسول صلى الله عليه وسلم بحال نذير قوم بأن ديارهم عرضة لغزو العدو فاستعمل المركب وهو {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} في هذا التمثيل.
فالمواجه ب {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} المشركون لأن المؤمنين قد فروا إلى الله من الشرك.
والفرار: الهروب، أي سرعة مفارقة المكان تجنبا لأذى يلحقه فيه فيعدى ب {من} الابتدائية للمكان الذي به الأذى يقال: فر من بلد الوباء ومن الموت، والشيء الذي يؤذي، يقال: فر من الأسد وفر من العدو.
وجملة {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} تعليل للأمر ب {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} باعتبار أن الغاية من الإنذار قصد السلامة من العقاب فصار الإنذار بهذا الاعتبار تعليلا للأمر بالفرار إلى الله، أي التوجه إليه وحده.
وقوله: ْ {مِنْهُ} صفة ل ٍ {نذير} قدمت على الموصوف فصارت حالا.
وحرفَ {مِنْ} للابتداء المجازي، المأمور له بأن أبلغكم.
وعطف {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً} على {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} نهي عن نسبة الإلهية إلى أحد غير الله. فجمع بين الأمر والنهي مبالغة في التأكيد بنفي الضد لإثبات ضده كقوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79].
ومن لطائف فخر الدين أن قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ} جمع الرسول والمرسل إليهم والمرسل.
[52 ]{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} .
كلمة {كَذَلِكَ} فصل خطاب تدل على إنهاء حديث والشروع في غيره، أو الرجوع إلى حديث قبله أتى عليه الحديث الأخير. والتقدير: الأمر كذلك والإشارة إلى ما مضى من الحديث، ثم يورد بعده حديث آخر والسامع يرد كلا إلى ما يناسبه، فيكون ما بعد اسم الإشارة متصلا بأخبار المم التي تقدم ذكرها من قوم لوط ومن عطف عليهم.
أعقب تهديد المشركين بأن يحل بهم ما حل بأمم المكذبين برسل الله من قبلهم بتنظيرهم بهم في مقالهم، وقد تقدم ورود {كَذَلِكَ} فصلا للخطاب عند قوله تعالى {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} في سورة الكهف،[19] فقوله: {كَذَلِكَ} فصل وجملة {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} الآية مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
ولك أن تجعل قوله {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلخ آخره مبدأ استئناف أو عودا إلى الإنحاء على المشركين في قوله المختلف بأنواع التكذيب في التوحيد والبعث وما يتفرع على ذلك.
واسم الإشارة راجع إلى قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذريات:8] الآية كما علمت هنالك، أي مثل قولهم المختلف قال الذين من قبلهم لما جاءتهم الرسل فيكون قوله: {كَذَلِكَ} في محل حال وصاحب الحال {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
وعلى كلا الوجهين فالمعنى: أن حال هؤلاء كحال الذين سبقوهم ممن كانوا مشركين أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، أو مجنون فكذلك سيجيب هؤلاء عن قولك: فروا إلى الله {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} بمثل جواب قبلهم فلا مطمع في ارعوائهم عن عنادهم.
والمراد ب {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الأمم المذكورة في الآيات السابقة وغيرهم، وضمير
{قَبْلِهِمْ} عائد إلى مشركي العرب الحاضرين.
وزيادة {مِنْ} في قوله: {مِنْ رَسُولٍ} للتنصيص على إرادة العموم، أي أن كل رسول قال فيه فريق من قومه: هو ساحر، أو مجنون، أي قال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: مجنون، مثل قوم نوح دون السحر إذ لم يكن السحر معروفا في زمانهم قالوا {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:25] وقد يجمعون القولين مثل قول فرعون في موسى.
وهذا العموم يفيد أنه لم يخل قوم من الأقوام المذكورين إلا قالوا لرسولهم أحد القولين، وما حكي ذلك عن بعضهم في آيات أخرى بلفظه أو بمرادفه كقول قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54].
وأول الرسل هو نوح كما هو صريح الحديث الصحيح في الشفاعة. فلا يرد أن آدم لم يكذبه أهله، وأن أنبياء بني إسرائيل يوشع، وأشعيا لم يكذبهم قومهم، لأن الله قال [ مِنْ رَسُولٍ] والرسول أخص من النبي.
والاستثناء في {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} استثناء من أحوال محذوفة.
والمعنى: ما أتى الذين من قبلهم من رسول في حال من أحوال أقوالهم إلا في حال قولهم ساحر أو مجنون.
والقصر المستفاد من الاستثناء قصر ادعائي لأن للأمم أقوالا غير ذلك وأحوالا أخرى، وإنما قصروا على هذا اهتماما بذكر هذه الحالة العجيبة من البهتان، إذ يرمون أعقل الناس بالجنون وأقومهم بالسحر.
وإسناد القول إلى ضمير الذين من قبل مشركي العرب الحاضرين إسناد باعتبار أنه قول أكثرهم فإن الأمور التي تنسب إلى الأقوام والقبائل تجري على اعتبار الغالب.
[ 53] {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
الاستفهام مستعمل في التعجب من تواطئهم على هذا القول على طريقة التشبيه البليغ، أي كأنهم أوصى بعضهم بعضا بأن يقولوه. فالاستفهام هنا كناية عن لازمه وهو التعجب لأن شأن الأمر العجيب أن يسأل عنه.
والجملة استئناف بياني لأن تماثل هؤلاء الأمم في مقالة التكذيب يثير سؤال سائل
عن منشأ هذا التشابه.
وضمير {تواصوا} عائد إلى ما سبق من الموصول ومن الضمير الذي أضيف إليه قبلهم، أي أوصى بعضهم بعضا حتى بلغت الوصية إلى القوم الحاضرين.
وضمير {بِهِ} عائد على المصدر المأخوذ من فعل ٍ {إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]، أي أتواصوا بهذا القول.
وفعل الوصية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء كقوله تعالى :{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3].
و {بَلْ} إضراب عن مفاد الاستفهام من التشبيه أو عن التواصي به، ببيان سبب التواطؤ على هذا القول فإنه إذا ظهر السبب بطل العجب. أي ما هو بتواص ولكنه تماثل في منشأ ذلك القول، أي سبب تماثل المقالة تماثل التفكير والدواعي للمقالة، إذ جميعهم قوم طاغون، وإن طغيانهم وكبرياءهم يصدهم عن اتباع رسول يحسبون أنفسهم أعظم منه، وإذ لا يجدون وصمة يصمونه به اختلقوا لتنقيصه عللا لا تدخل تحت الضغط وهي ادعاء أنه مجنون أو أنه ساحر، فاستووا في ذلك بعلة استواءهم في أسبابه ومعانيه.
فضمير {هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {أَتَوَاصَوْا} .
وفي إقحام كلمة {قَوْمِ} إيذان بأن الطغيان راسخ في نفوسهم بحيث يكون من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة[164].
[54, 55] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [54] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
تفريع على قوله {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} إلى قوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} لمشعر بأنهم بعداء عن أن تقنعهم الآيات والنذر فتول عنهم، أي اعرض عن الإلحاح في جدالهم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمانهم ويغتم من أجل عنادهم في كفرهم فكان الله يعاود تسليته الفينة بعد الفينة كما قال :{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، فالتولي مراد به هذا المعنى، وإلا فإن القرآن جاء بعد أمثال هذه الآية بدعوتهم وجدالهم غير مرة قال تعالى : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْف َيُبْصِرُونَ} في سورة الصافات.[ 174-175].
وفرع على أمره بالتولي عنهم إخباره بأنه لا لوم عليه في إعراضهم عنه وصيغ الكلام في صيغة الجملة الاسمية دون: لا نلومك، للدلالة على ثبات مضمون الجملة في النفي. وجيء بضمير المخاطب مسندا إليه فقال :{فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} دون أن يقول: فلا ملام عليك، أو نحوه للاهتمام للتنويه بشأن المخاطب وتعظيمه.
وزيدت الباء في الخبر المنفي لتوكيد نفي أن يكون ملوما.
وعطف {وَذَكِّرْ} على {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} احتراس كي لا يتوهم أحد أن الإعراض إبطال للتذكير بل التذكير باق فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الناس بعد أمثال هذه الآيات فآمن بعض من لم يكن آمن من قبل، وليكون الاستمرار على التذكير زيادة في إقامة الحجة على المعرضين، ولئلا يزدادوا طغيانا فيقولوا: ها نحن أولاء قد أفحمناه فكف عما يقوله.
والأمر في {وَذَكِّرْ} :مراد به الدوام على التذكير وتجديده.
واقتصر في تعليل الأمر بالتذكير على علة واحدة وهي انتفاع المؤمنين بالتذكير لأن فائدة ذلك محققة، ولإظهار العناية بالمؤمنين في المقام الذي أظهرت فيه لقلة الاكتراث بالكافرين قال تعالى {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى: 9-11].
ولذلك فوصف المؤمنين يراد به المتصفون بالإيمان في الحال كما هو شأن اسم الفاعل، وأما من سيؤمن فعلته مطوية كما علمت آنفا.
والنفع الحاصل من الذكرى هو رسوخ العلم بإعادة التذكير لما سمعوه واستفادة علم جديد فيما لم يسمعوه أو غفلوا عنه. ولظهور حجة المؤمنين على الكافرين يوما فيوما ويتكرر عجز المشركين عن المعارضة ووفرة الكلام المعجز.
[56، 57] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} . الأظهر أن هذا معطوف على جملة {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ} .
[الذاريات: 52] الآية التي هي ناشئة عن قوله {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} إلى {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر} [الذاريات:50، 51] عطف الغرض على الغرض لوجود المناسبة.
فبعد أن نظر حالهم بحال الأمم التي صممت على التكذيب من قبلهم أعقبه بذكر شنيع حالهم من الانحراف عما خلقوا لأجله وغرز فيهم.
فقوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعا لتضليل المضلين.
والجن: جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس وهو جنس شامل للشياطين قال تعالى عن إبليس {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [ الكهف:50].
والإنس: اسم جمع واحدة إنسي بياء النسبة إلى جمعه.
والمقصود في هذا الإخبار هو الإنس وإنما ذكر الجن إدماجا وستعرف وجه ذلك.
والاستثناء مفرغ من علل محذوفة عامة على طريقة الاستثناء المفرغ.
واللام في {لِيَعْبُدُونِ} لام العلة، أي ما خلقتهم لعلة إلا علة عبادتهم إياي. والتقدير: لإرادتي أن يعبدون، ويدل على هذا التقدير قوله في جملة البيان {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .
وهذا التقدير يلاحظ في كل لام ترد في القرآن تعليلا لفعل الله تعالى، أي ما أرضى لوجودهم إلا أن يعترفوا لي بالتفرد بالإلهية.
فمعنى الإرادة هنا: الرضى والمحبة، وليس معناها الصفة الإلهية التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق العلم، التي اشتق منه اسمه تعالى "المريد" لأن إطلاق الإرادة على ذلك إطلاق آخر، فليس المراد هنا تعليل تصرفات الخلق الناشئة عن اكتسابهم على اصطلاح الأشاعرة، أو عن قدرتهم على اصطلاح المعتزلة على تقارب ما بين الاصطلاحين لظهور أن تصرفات الخلق قد تكون مناقضة لإرادة الله منهم بمعنى الإرادة الصفة، فالله تعالى خلق الناس على تركيب يقتضي النظر في وجود الإله ويسوق إلى توحيده ولكن كسب الناس يجرف أعمالهم عن المهيع الذي خلقوا لأجله، وأسباب تمكنهم من الانحراف كثيرة راجعة إلى تشابك الدواعي والتصرفات والآلات والموانع.
وهذا يغني عن احتمالات في تأويل التعليل من قوله: {لِيَعْبُدُونِ} من جعل عموم الجن والإنس مخصوصا بالمؤمنين منهم، أو تقدير محذوف في الكلام، أي إلا لآمرهم بعبادتي، أو حمل العبادة بمعنى التذلل والتضرع الذي لا يخلوا منه الجميع في أحوال الحاجة إلى التذلل والتضرع كالمرض والقحط وقد ذكرها ابن عطية.
ويرد على جميع تلك الاحتمالات أن كثيرا من الإنس غير عابدين بدليل المشاهدة، وأن الله حكى عن بعض الجن أنهم غير عابدين.
ونقول: أن الله خلق مخلوقات كثيرا وجعل فيها نظاما ونواميس فاندفع كل مخلوق يعمل بما تدفعه إليه نواميس جبلته، فقد تعود بعض المخلوقات على بعض بنقص ما هيء هو له ويعود بعضها على غيره بنقص ما يسعى إليه، فتشابكت أحوال المخلوقات ونواميسها، فربما تعاضدت وتظاهرت وربما تناقصت وتنافرت فحدثت من ذلك أحوال لا تحصى ولا يحاط بها ولا بطرائقها ولا بعواقبها، فكثيرا ما تسفر عن خلاف ما أعد له المخلوق في أصل الفطرة فلذلك حاطها الله بالشرائع، أي فحصل تناقض بين الأمر التكويني والأمر التشريعي.
ومعنى العبادة في اللغة العربية قبل حدوث المصطلحات الشرعية دقيق الدلالة، وكلمات أيمة اللغة فيه خفيه والذي يستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضر ملكا ذاتيا مستمرا، فالمعبود إله للعابد كما حكى الله قول فرعون: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47].
فالحصر المستفاد من قوله :{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} قصر علة خلق الله الإنس والجن على إرادته أن يعبدوه، والظاهر أنه قصر إضافي وأنه من قبيل قصر الموصوف على الصفة، وأنه قصر قلب باعتبار مفعول {يَعْبُدُونَ} أي إلا ليعبدوني وحدي، أي لا ليشركوا غيري في العبادة، فهو رد للإشراك، وليس هو قصرا حقيقيا فإنا وإن لم نطلع على مقادير حكم الله تعالى من خلق الخلائق، لكنا نعلم أن الحكمة من خلقهم ليست مجرد أن يعبدوه، لأن حكم الله تعالى من أفعاله كثيرة لا يحيط بها، وذكر بعضها كما هنا مما يقتضي عدم وجود حكمة أخرى، ألا ترى أن الله ذكر حكما للخلق غير هذه كقوله {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} هود:[118، 911] بله ما ذكره من حكمة خلق بعض الإنس والجن كقوله في خلق عيسى {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم 21].
ثم إن اعتراف الخلق بوحدانية الله يقشع تكذيبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم ما كذبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحدا نبذه، فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعه امتثال الشرائع التي يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فهذا معنى تقتضيه عبادة الله بدلالة الالتزام، وذلك هو ما سمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السنة في نحو قوله أن تعبد الله كأنك تراه ؛ وليس يليق أن يكون مرادا في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علة لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإسلام، واحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإن لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيرا وأصبح متعارفا بين الأمة من عهد ظهور الإسلام.
وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحهم العاجل والآجل وحصول الكمال النفساني لذلك الصلاح، فلا جرم أن الله أراد من الشرائع كمال الإنسان وضبط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره. وتلك حكمة إنشائه، فاستتبع قوله {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي فعبادة الإنسان ربه لا تخرج عن كونها محققة للمقصد من خلقه وعلة لحصوله عادة.
وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بمعنى: إلا لآمرهم وأنهاهم. وتبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع نت كتاب المقاصد من كتابة أنواع التعريف الموافقات وفي محمل الآية عليه نظر قد علمته فحققه.
وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى. وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن فقال قائلهم {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} [الجن:4].
وتقديم الجن في الذكر في قوله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن، ليعلموا أن الجن عباد الله تعالى، فهو نظير قوله :{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنَُ لَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
وجملة {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} تقرير لمعنى {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئا يصنعونه أو يتخذونه، فإنه المعروف في المعرف أن من يتخذ شيئا إنما يتخذه لنفسه، وليست الجملة لإفادة
الجانب المقصور دونه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج لذكر الضد. ولا يحسن ذكر الضد ولا يحسن ذكر الضد في الكلام البليغ.
فقوله :{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال، فلذلك ابتدئ به ثم عطف عليه، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر، وقد لا يجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعام أو يطعمه إياه، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منه سدنة الأصنام.
والرزق هنا: المال كقوله تعالى :{ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17] قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7],
ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى :{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:62] ويمنع من إرادته هنا عطف {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} .
[ 58] {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} .
تعليل لجملتي {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57] و {الرزقُ} هنا بمعنى ما يهم المال والإطعام.
والرزاق: الكثير الإرزاق، والقوة: القدرة.
وذو القوة: صاحب القدرة. ومن خصائص {ذُو} أن تضاف إلى أمر مهم، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص.
والمتين: الشديد، وهو هنا وصف لذي القوة، أي الشديد القوة، وقد عد {الْمَتين} في أسمائه تعالى. قال العزالي: وذلك يرجع إلى معاني القدرة. وفي معارج النور شرح الأسماء المتين: كما في قوته بحيث لا يعارض ولا يداني.
فالمعنى أنه المستغني غنى مطلقا فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وإظهار اسم الجلالة في {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} إخراج للكلام على خلاف مقتضى
الظاهر لأن مقتضاه: إني أنا الرزاق، فعدل عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سيرت مسير الكلام الجامع والأمثال:
وحذفت ياء المتكلم من {يَعْبُدُونَ} و {يُطْعِمُونِ} للتخفيف، ونظائره كثيرةفي القرآن.
وفي قوله :{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} طريق قصر لوجود ضمير الفصل، أي: لا رزاق، ولا ذا قوة، ولا متين إلا الله، وهو قصر إضافي، أي دون الأصنام التي يعبدونها.
فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها: الإرزاق، والقوة، والشدة، فأبطل ذلك بهذا القصر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، وقال {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
[ 59] {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} .
تفريع على جملة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] باعتبار أن المقصود من سياقه إبطال عبادتهم غير الله، أي فإذا لم يفردني المشركون بالعبادة فإن لهم ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم، وهو يلمح إلى ما تقدم من ذكر ما عوقبت به الأمم السالفة من قوله :{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} إلى قوله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات: 32، 46].
والمعنى: فإذا ماثلهم الذين ظلموا فإن لهم نصيبا عظيما من العذاب مثل نصيب أولئك.
والذين ظلموا: الذين أشركوا من العرب، والظلم: الشرك بالله.
والذنوب بفتح الذال: الدلو العظيمة يستسقي بها السقاة على القليب كما ورد في حديث الرؤيا ثم أخذها أبو بكر ففزع ذنوبا أو ذنوبين ولا تسمى ذنوبا إلا إذا كانت ملأى.
والكلام تمثيل لهيئة تساوي حظ الذين ظلموا من العرب بحظوظ الذين ظلموا من الأمم السالفة بهيئة الذين يستقون من قليب واحد إذ يتساوون في أنصبائهم من الماء، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس، وأطلق على الأمم الماضية اسم وصف أصحاب الذين ظلموا باعتبار الهيئة المشبه بها إذ هي هيئة جماعات الورد يكونون متصاحبين.
وهذا التمثيل القابل للتوزيع بأن يشبه المشركون بجماعة وردت على الماء، وتشبه الأمم الماضية بجماعة سبقتهم للماء، ويشبه نصيب كل جماعة بالدلو التي يأخذونها من الماء.
قال علقمة بن عبدة يمدح الملك الحارث بن أبي شمر ويشفع عنده لأخيه شأس بن عبدة وكان قد وقع في أسره مع بني تميم يوم عين أباغ:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
فلما سمعه الملك قال نعم وأذنبة وأطلق له أخاه شأس بن عبدة ومن معه من أسرى تميم، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود: أن يسمعه المشركون فهو تعريض، وبهذا الاعتبار أكد الخبر ب "أن" لأنهم كانوا مكذبين بالوعيد، ولذلك فرع على التأكيد قوله: {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} لأنهم كانوا يستعجلون بالعذاب استهزاء وإشعارا بأنه وعد مكذوب فهم في الواقع يستعجلون الله تعالى بوعيده.
وعدي الاستعجال إلى ضمير الجلالة وهم إنما استعجلوه النبي صلى الله عليه وسلم لإظهار أن النبي صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله تعالى توبيخا لهم وإنذارا بالوعيد. وحذفت ياء المتكلم للتخفيف.
والنهي مستعمل في التهكم إظهارا لغضب الله عليهم.
[60] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} .
فرع على وعيدهم إنذار آخر بالويل، أو إنشاء زجر.
والويل: الشر وسوء الحال، وتقدم في قوله :{فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة،[79]، وتنكيره للتعظيم.
والكلام يحتمل الإخبار بحصول ويل، أي عذاب وسوء حال لهم يوم أوعدوا به، ويحتمل إنشاء الزجر والتعجيب من سوء حالهم في يوم أوعدوه.
و"من" للابتداء المجازي، أي سوء حال بترقبهم عذابا آتيا من اليوم الذي أوعدوه.
والذين كفروا: هم الذين ظلموا، عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر لما فيه من تأكيد الاسم السابق تأكيدا بالمرادف، مع ما في صفة الكفر من الإيماء إلى أنهم لم يشكروا نعمة خالقهم.
واليوم الذي أوعدوه هو زمن حلول العذاب فيحتما أنه يراد يوم القيامة ويحتمل حلول العذاب في الدنيا، وأيا ما كان فمضمون هذه الجملة مغاير لمضمون التي قبلها.
وإضافة {يوم} إلى ضميرهم للدلالة على اختصاصه بهم، أي هو معين الجزائف كما أضيف يوم إلى ضمير المؤمنين في قوله تعالى : {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103]. واليوم: يصدق بيوم القيامة، ويصدق بيوم بدر الذي استأصل الله فيه شوكتهم.
ولما كان المضاف إليه ضمير الكفار المعينين وهم كفار مكة ترجح أن يكون المراد من هذا اليوم يوما خاصا بهم وإنما هو يوم بدر لأن يوم القيامة لا يختص بهم بل هو عام لكفار الأمم كلهم بخلاف اليوم الذي في قوله في سورة الأنبياء : {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} لأن ضمير الخطاب فيه عائدا إلى {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101] كلهم.
وفي الآية من اللطائف تمثيل ما سيصيب الذين كفروا بالذنوب، والذنوب يناسب القليب وقد كان مثواهم يوم بدر قليب بدر الذي رميت فيه أشلاء سادتهم وهو اليوم القائل فيه شدلاد بن أوس الليثي المكنى أبا بكر يرثي قتلاهم:
وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تزين بالسنام
تحيي بالسلامة أم بكر ... وهل لي بعد قومي من سلام
ولعل هذا مما يشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف على القليب يوم بدر {قد وَجَدْنَا مَا
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف:44].
وفي قوله :{مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} مع قوله في أول السورة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} رد العجز على الصدر، ففيه إيذان بانتهاء السورة وذلك من براعة المقطع.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطورسميت هذه السورة عند السلف سورة الطور دون واو قبل الطور. ففي جامع الطواف من الموطإ حديث مالك عن أم سلمة قالت فطفت ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ ب: َالطور وكتاب مسطور ، أي يقرأ بسورة الطور ولم ترد يقرأ بالآية لأن الآية فيها {وَالطُّورِ} بالواو وهي لم تذكر الواو.
وفي باب القراءة في المغرب من الموطأ حديث مالك عن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالطور في المغرب .
وفي تفسير سورة الطور من صحيح البخاري عن جبير بن مطعم قال سمعت النبي يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية :{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:35،37] كاد قلبي أن يطير. وكان جبير بن مطعم مشركا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسرى بدر وأسلم يومئذ.
وكذلك وقعت تسميتها في ترجمتها من جامع الترمذي وفي المصاحف التي رأيناها، وكثير من التفاسير. وهذا على التسمية بالإضافة، أي سورة ذكر الطور كما يقال: سورة البقرة، وسورة الهدهد، وسورة المؤمنين.
وفي ترجمة هذه السورة من تفسير صحيح البخاري سورة والطور بالواو على حكاية اللفظ الواقع في أولها كما يقال سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وهي مكية جميعها بالاتفاق. وهي السورة الخامسة والسبعون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة نوح وقبل سورة المؤمنين.
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وأربعين، وعدها أهل الشام وأهل الكوفة تسعا وأربعين، وعدها أهل البصرة ثمانيا وأربعين.
أغراض هذه السورة
أول أغراض هذه السورة التهديد بوقوع العذاب يوم القيامة للمشركين المكذبين بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من إثبات البعث وبالقرآن المتضمن ذلك فقالوا: هو سحر.
ومقابلة وعيدهم بوعد المتقين المؤمنين وصفة نعيمهم ووصف تذكرهم خشية، وثنائهم على الله بما من عليهم فانتقل إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وإبطال أقوالهم فيه وانتظارهم موته.
وتحديهم بأنهم عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن.
وإبطال خليط من تكاذيبهم بإعادة الخلق وببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من كبرائهم وبكون الملائكة بنات الله وإبطال تعدد الآلهة وذكر استهزائهم بالوعيد.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركهم وأن لا يحزن لذلك، فإن الوعيد حال بهم في الدنيا ثم في الآخرة وأمره بالصبر، ووعده بالتأييد، وأمر بشكر ربه في جميع الأوقات.
[ 1-8] {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} .
القسم للتأكيد وتحقيق الوعيد، ومناسبة الأمور المقسم بها للمقسم عليه أن هذه الأشياء المقسم بها من شؤونه بعثة موسى عليه السلام إلى فرعون وكان هلاك فرعون ومن معه من جراء تكذيبهم موسى عليه السلام.
و {الطُّو} : الجبل باللغة السريانية قاله مجاهد. وأدخل من العربية وهو من الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن.
وغلب علما على طور سيناء الذي ناجى فيه موسى عليه السلام، وأنزل عليه فيه الألواح المشتملة على أصول شريعة التوراة.
فالقسم به باعتبار شرفه بنزول كلام الله فيه ونزول الألواح على موسى وفي ذكر الطور إشارة إلى تلك الألواح لأنها اشتهرت بذلك الجبل فسميت طور المعرب بتوراة.
وأما الجبل الذي خوطب فيه موسى من جانب الله فهو جبل حوريب واسمه في العربية الزبير ولعله بجانب الطور كما في قوله تعالى : {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} وتقدم بيانه في سورة القصص،[29] وتقدم عند قوله تعالى : {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [ في سورة البقرة.[63 ].
والقسم بالطور توطئة للقسم بالتوراة التي أنزل أولها على موسى في جبل الطور.
والمراد ب {كِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} التوراة كلها التي كتبها موسى عليه السلام بعد نزول الألواح، وضمنها كل ما أوحى الله إليه مما أمر بتبليغه في مدة حياته إلى ساعات قليلة قبل وفاته. وهي الإسفار الأربعة المعروفة عند اليهود: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر العدد، وسفر التثنية، وهي التي قال الله تعالى في شأنها {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [ في سورة الأعراف[154].
وتنكير {كِتَابٌ} للتعظيم. وإجراء الوصفين عليه لتميزه بأنه كتاب مشرف مراد بقاؤه مأمور بقراءته إذ المسطور هو المكتوب. والسطر: كتابة طويلة لأنها تجعل سطورا، أي صفوفا من الكتابة قال تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، أي يكتبون.
والرق بفتح الراء بعدها قاف مشددة الصحيفة تتخذ من جلد مرق أبيض ليكتب عليه. وقد جمعها المتلمس في قوله:
فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور
والمنشور: المبسوط غير المطوي قال يزيد بن الطثرية:
صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوما ما والعتاب يطول
أي: أقسم بحال نشره لقراءته وهي أشرف أحواله لأنها حالة حصول الاهتداء به للقارىء والسامع.
وكان اليهود يكتبون القرآن في ورق ملصق بعضها بعض أو محيط بعضها ببعض، فتصير قطعة واحدة ويطوونها طيا أسطوانيا لتحفظ فإذا أرادوا قراءتها نشروا مطويها، ومنه
ما في حديث الرجم "فنشروا التوراة".
وليس مراد بكتاب مسطور القرآن لأن القرآن لم يكن يومئذ مكتوبا سطورا ولا هو مكتوبا في رق.
ومناسبة القسم بالتوراة أنها الكتاب الموجود الذي فيه ذكر الجزاء وإبطال الشرك وللإشارة إلى القرآن الذي أنكروا أنه من عند الله ليس بدعا فنزلت قبله التوراة وذلك لأن المقسم عليه وقوع العذاب بهم وإنما هو جزاء على تكذيبهم القرآن ومن جاء به بدليل قوله بعد ذكر العذاب {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:12].
والقسم بالتوراة يقتضي أن التوراة يومئذ لم يكن فيها تبديل لما كتبه موسى: فأما أن يكون تأويل ذلك على قول ابن عباس في تفسير معنى قوله تعالى : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة 13] أنه تحريف بسوء فهم وليس تبديلا لألفاظ التوراة، وأما أن يكون تأويله أن التحريف وقع بعد نزول هذه السورة حين ظهرت الدعوة المحمدية وجبهت اليهود دلالة مواضع من التوراة على صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو يكون تأويله بأن القسم بما فيه من الوحي الصحيح.
والبيت المعمور: عن الحسن أنه الكعبة وهذا الأنسب بعطفه على الطور، ووصفه ب {الْمَعْمُورِ} لأنه لا يخلو من طائف به، وعمران الكعبة هو عمرانها بالطائفين قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18] الآية.
ومناسبة القسم سبق القسم بكتاب التوراة فعقب ذلك بقسم بمواطن نزول القرآن فإن من نزل به من القرآن أنزل بمكة وما حولها مثل جبل حراء. وكان نزوله شريعة ناسخة لشريعة التوراة، على أن الوحي كان ينزل حول الكعبة. وفي حديث الإسراء بينا أنا نائم عند المسجد الحرام إذ جاءني الملكان الخ، فيكون توسيط القسم بالكعبة في أثناء ما قسم به من شؤون شريعة موسى عليه السلام إد ما جاء.
وفي الطبري : أن عليا سئل: ما البيت المعمور? فقال:البيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا، يقال له: الضراح. بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وحاء مهملة، وأن مجاهدا والضحاك وابن زيد قالوا مثل ذلك. وعن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل تدرون ما البيت المعمور? قال: فإنه مسجد في السماء تحته
الكعبة" إلى آخر الخبر. وثمة أخبار كثيرة متفاوتة في أن في السماء موضعا يقال له : البيت المعمور، لكن الروايات في كونه المراد من هذه الآية ليست صريحة.
وأما السقف المرفوع: ففسروه بالسماء لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء:32] وقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] فالرفع حقيقي ومناسبة القسم بها أنها مصدر الوحي كله التوراة والقرآن. وتسمية السماء على طريقة التشبيه البليغ.
والبحر: يجوز أن يراد به البحر المحيط بالكرة الأرضية. وعندي: أن المراد بحر القلزم، وهو البحر الأحمر ومناسبة القسم به أنه أهلك به فرعون وقومه حين دخله موسى وبنو إسرائيل فلحق بهم فرعون.
و {الْمَسْجُورِ} قيل المملوء، مشتقا من السجر وهو الملء والإمداد. فهو صفة كاشفة قصد منها التذكير بحال خلق الله إياه مملوءا ماء دون أن تملأه أودية أو سيول، أو هي للاحتراز عن إرادة الوادي إذ الوادي ينقص فلا يبقى على ملئه وذلك دال على عظم القدرة. والظاهر عندي: أن وصفه بالمسجور للإيماء إلى الحالة التي كان بها هلاك فرعون بعد أن فرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ثم أسجره، أي أفاضه على فرعون وملئه.
وعذاب الله المقسم على وقوعه وهو عذاب الآخرة لقوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} إلى قوله {تُكَذِّبُونَ} [الطور 9- 14] وأما عذاب المكذبين في الدنيا فسيجيء في قوله تعالى {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47]. وتحقيق وقوع عذاب الله يوم القيامة إثبات للبعث بطريقة الكناية القريبة، وتهديد للمشركين بطريقة الكناية التعريضية.
والواوات التي في هذه الآية واوات قسم لأن شأن القسم أن يعاد ويكرر، ولذلك كثيرا ما يعيدون المقسم به نحو قول النابغة:
والله والله لنعم الفتى
وإنما يعطفون بالفاء إذا أرادوا صفات المقسم به.
ويجوز صرف الواو الأولى للقسم واللاتي بعدها عاطفات على القسم، و المعطوف على القسم قسم.
والوقوع: أصله النزول من علو واستعمل مجازا للتحقق وشاع ذلك، فالمعنى: أن عذاب ربك لمتحقق.
وحذف متعلق {لَوَاقِعٌ} ، وتقديره: على المكذبين، أو بالمكذبين، كما دل عليه قوله بعد {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] أي المكذبين بك بقرينة إضافة رب إلى ضمير المخاطب المشعر بأنه معذبهم لأنه ربك وهم كذبوك فقد كذبوا رسالة الرب. وتضمن قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] إثبات البعث بعد كون الكلام وعيدا لهم على إنكارهم أن يكونوا معذبين.
وأتبع قوله {لَوَاقِعٌ} بقوله {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} ، وهو خبر ثان عن {عَذَابٌ} أو حال منه، أي: ما للعذاب دافع يدفعهم عنهم.
والدفع: إبعاد الشيء عن شيء باليد وأطلق هنا على الوقاية مجازا بعلاقة الإطلاق ألا يقيهم من عذاب الله أحد بشفاعة أو معارضة.
وزيدت {مِنْ} في النفي لتحقيق عموم النفي وشموله، أي نفي جنس الدافع.
روى أحمد بن حنبل عن جبير بن مطعم قال قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ {وَالطُّورِ} إلى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} فكأنما صدع قلبي، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب.
[ 9 -12] {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} .
يجوز أن يتعلق {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} بقوله: {لَوَاقِعٌ} [الذاريات:7 ] على أنه ظرف له فيكون قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} تفريعا على الجملة كلها ويكون العذاب عذاب الآخرة.
ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات :7] فيكون {يَوْمِ} متعلقا بالكون الذي بين المبتدأ والخبر في قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقدم الظرف على عامله للاهتمام، فلما قدم الظرف أكتسب معنى الشرطية وهو استعمال متبع في الظروف والمجرورات التي تقدم على عواملها فلذلك قرنت الجملة بعده بالفاء على تقدير: إن حل ذلك اليوم فويل للمكذبين.
وقوله : {يَوْمَئِذٍ} على هذا الوجه أريد به التأكيد للظرف فحصل تحقيق الخبر
بطريقين طريق المجازاة، وطريق التأكيد في قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} الآية، تصريح بيوم البعث بعد أن أشير إليه تضمنا بقوله : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} فحصل بذلك تأكيده أيضا.
والمور بفتح الميم وسكون الواو: التحرك باضطراب، ومور السماء هو اضطراب أجسامها من الكواكب واختلال نظامها وذلك عند انقراض عالم الحياة الدنيا.
وسير الجبال: انتقالها من مواضعها بالزلازل التي تحدث عند انقراض عالم الدنيا، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} إلى قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:1، 6]
وتأكيد فعلي {تَمُورُ} وَ {تَسِير} بمصدرين {مَوْراً} و {سَيْراً} لرفع احتمال المجاز، أي هو مور حقيقي وتنقل حقيقي.
والويل: سوء الحال البالغ منتهى السوء، وتقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79] وتقدم قريبا في آخر الذاريات.
والمعنى: فويل يومئذ للذين يكذبون الآن. وحذف متعلق للمكذبين لعلمه من المقام، أي الذين يكذبون بما جاءهم به الرسول من توحيد الله والبعث والجزاء والقرآن فأسم الفاعل في زمن الحال.
والخوض: الاندفاع في الكلام الباطل والكذب. والمراد خوضهم في تكذيبهم بالقرآن مثل ما حكى الله عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] وهو المراد بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الأنعام:[68].
و {فِي} للظرفية المجازية وهي الملابسة الشديدة كملابسة الظرف للمظروف، أي الذين تمكن منهم الخوض حتى كأنهم أحاط بهم.
و {يَلْعَبُونَ} حالية. واللعب: الاستهزاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65 ].
[31 -16] {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاًهَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{يَوْمَ يُدَعُّونَ} بدل من {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} وهو بدل اشتمال.
والدع: الدفع العنيف، وذلك إهانة لهم وغلظة عليهم، أي يوم يساقون إلى نار جهنم سوقا بدفع، وفيه تمثيل حالهم بأنهم خائفون متقهقرون فتدفعهم الملائكة الموكلون بإزجائهم إلى النار.
وتأكيد {يَدْعُونَ} ب {دَعَا} لتوصل إلى إفادة تعظيمه بتنكيره.
وجملة {هَذِهِ النَّارُ} إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه السياق. والقول المحذوف يقدر بما هو حال من ضمير {يُدْعَوْنَ} وتقديره: يقال لهم، أو مقولا لهم، والقائل هم الملائكة الموكلون بإيصالهم إلى جهنم. والإشارة بكلمة {هَذِهِ} الذي هو للمشار إليه التقريب المؤنث تومىء إلى أنهم بلغوها وهم على شفاها، والمقصود بالإشارة التوطئة لما سيرد بعدها من قولهِ {الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} إلى {لا تُبْصِرُونَ} .
والموصول وصلته في قوله :{التي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} لتنبيه المخاطبين على فساد رأيهم إذ كذبوا بالحشر والعقاب فرأوا ذلك عيانا.
وفرع على هذا التنبيه تنبيه آخر على ضلالتهم في الدنيا بقوله : {أَفَسِحْرٌ هَذَا} إذ كانوا حين يسمعون الإنذار يوم البعث والجزاء يقولون: هذا سحر، وإذا عرض عليهم القرآن قالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذانهم وقر ومن بيننا وبينك حجاب، فللمناسبة بين ما في صلة الموصول من معنى التوقيف على خطئهم وبين التهكم عليكم بما كانوا يقولونه دخلت فاء التفريع وهو من جملة ما يقال لهم المحكي بالقول المقدر.
و {أَمْ} منقطعة، والاستفهام {أ م} بعدها مستعمل في التوبيخ والتهكم.والتقدير: بل أنتم لا تبصرون.
ومعنى {لا تُبْصِرُونَ} لا تبصرون المرئيات كما هي في الواقع فلعلكم تزعمون أنكم لا ترون نارا كما كنتم في الدنيا تقولون: {بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] أي فلا نراك، وتقولون {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15].
وجيء بالمسند إليه مخبرا عنه بخبر فعلي لإفادة تقوي الحكم، فلذلك لم يقل: أم لا تبصرون، لأنه لا يفيد تقويا، ولا: أم لا تبصرون أنتم، لأن مجيء الضمير المنفصل
بعد الضمير المتصل يفيد تقرير المسند إليه المحكوم عليه بخلاف تقديم المسند إليه فإنه يفيد تأكيد الحكم وتقويته وهو أشد توكيدا، وكل ذلك في طريقة التهكم.
وجملة {اصْلَوْهَا} مستأنفة هي بمنزلة النتيجة المترقبة من التوبيخ والتغليظ السابقين، أي ادخلوها فاصطلوا بنارها يقال: صلي النار يصلاها، إذ قاس حرها.
والأمر في {اصْلَوْهَا} إما مكني به عن الدخول لأن الدخول لها يستلزم الاحتراق بنارها، وإما مستعمل مجازا في التنكيل. وفرع على {اصْلَوْهَا} أمر للتسوية بين صبرهم على حرها وبين عدم الصبر وهو الجزع لأن كليهما لا يخففان عنهم شيئا من العذاب، ألا ترى أنهم يقولون: {سَوَاءٌ أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم:21] لأن جرمهم عظيم لا مطمع في تخفيف جزائه.
و {سَوَاءٌ عَلَيْكُم} خبر المبدأ محذوف، تقديره :ذلك سواء عليكم.
وجملة {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} مؤكدة لجملة {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} فلذلك فصلت عنها ولم تعطف. وجملة {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليل لجملة {اصْلَوْهَا} إذ كلمة {إِنَّمَا} مركبة من "إن" و"ما" الكافة، فكما يصح التعليل ب "أن" وحدها كذلك يصح التعليل بها مع "ما" الكافة، وعليه فجملتا {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} معترضتان بين جملة {اصْلَوْهَا} والجملة الواقعة تعليلا لها.
والحصر المستفاد من كلمة {إِنَّمَا} قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن ما لقوه من العذاب ظلم لم يستوجبوا مثل ذلك من شدة ما ظهر عليهم من الفزع.
وعدي {تُجْزَوْنَ} إلى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بدون الباء خلافا لقوله بعده {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:19 ] ليشمل القصر مفعول الفعل المقصور، أي تجزون مثل عملكم لا أكثر منه فينتفي الظلم عن مقدار الجزاء كما انتفى الظلم عن أصله، ولهذه الخصوصية لم يعلق معمول الفعل بالباء إذ جعل الجزاء بمنزلة نفس الفعل.
[17-19] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
استئناف بياني بعد أن ذكر حال المكذبين وما يقال لهم، فمن شأن السامع أن
يتساءل عن حال أضدادهم وهم الفريق الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فما جاء به القرآن وخاصة إذ كانوا السامعون المؤمنين وعادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير وعكسه، والجملة معترضة بين ما قبلها وجملة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور:30].
وتأكيد الخبر ب "إن" للاهتمام به. وتنكير {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} لتعظيم، أي في أية جنات وأي نعيم.
وجمع {جَنَّاتٍ} تقدم في سورة الذاريات.
والفاكه: وصف من فكه كفرح، إذا طابت نفسه وسر.
وقرأ الجمهور {فَاكِهِينَ} بصيغة اسم الفاعل، وقرأه أبو جعفر {فَكِهِينَ} بدون ألف.
والباء في {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُم} للسببية والمعنى:أن ربهم أرضاهم بما يحبون.
واستحضار الجلالة بوصف {رَبِّهِمْ} للإشارة إلى عظيم ما آتاهم إذ العطاء يناسب حال المعطي، وفي إضافة {رب} إلى ضميرهم تقريب لهم وتعظيم وجملة {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور:18] في موضع الحال، والواو حالية، أو عاطفة علي {فَاكِهِينَ} الذي هو حال، والتقدير: وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم، وهو حال من المتقين. والمقصود من ذكر هذه الحالة: إ ظهار التباين بين حال المتقين وحال المكذبين زيادة في الامتنان فإن النعمة تزداد حسن وقع في النفس عند ملاحظة ضدها.
وفيه أيضا أن وقايتهم عذاب الجحيم عدل، لأنهم لم يقترفوا ما يوجب العقاب. وأما ما أعطوه من النعيم فذلك فضل من الله وإكرام منه لهم.
وفي قوله {رَبِّهِمْ} ما تقدم قبيله.
وجملة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى آخرها مقول قول محذوف في موضع الحال أيضا،تقديره: يقال: لهم، أو مقولا لهم. وهذا القول مقابل ما يقال للمكذبين {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور16:].
وحذف مفعول {كُلُوا وَاشْرَبُوا} لإفادة النعيم، أي كلوا ما يؤكل واشربوا كل ما يشرب، وهو عموم عرفي، أي مما تشتهون.
و {هَنِيئاً} اسم على وزن فعيل بمعنى مفعول وقع وصفا لمصدرين لفعلي {كُلُوا
وَاشْرَبُوا} أكلا وشربا، فلذلك لم يؤنث الوصف لأن فعيلا إذا كان بمعنى مفعول يلزم الإفراد والتذكير. وتقدم في سورة النساء لأنه سالم مما يكدر الطعام والشراب.
و "ما" موصولة، والباء سببية، أي بسبب العمل الصالح الذي يومي إليه قوله: {الْمُتَّقِينَ} وفي هذا القول زيادة كرامة لهم بإظهار أن ما أتوه من الكرامة عوض عن أعمالهم كما آذنت به باء السببية وهو نحو قول من يسدي نعمة إلى المنعم عليه: لا فضل لي عليك وإنما هو مالك، أو نحو ذلك.
[20 ] {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَه وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} .
حال من ضمير {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الطور: 19] أي يقال لهم كلوا وأشربوا حال كونهم متكئين، أي وهم في حال إكلة أهل الترف المعهود في الدنيا، فقد كان أهل الرفاهية يأكلون متكئين وقد وصف القرآن ذلك في سورة يوسف31 بقوله: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} أى لخر الطعام والثمار. وفي الحديث "أما أنا فلا آكل متكئا" وكان الأكاسرة ومرازبة الفرس يأكلون متكئين وكذلك كان أباطرة الرومان وكذلك شأنهم في شرب الخمر، قال الأعشى:
نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وخمرة مزة راووقها خضل
و السرر: جمع سرير، وهو ما يضطجع عليه.
والمصفوفة: المتقابلة، والمعنى: أنهم يأكلون متكئين مجتمعين للتأنس كقوله تعالى {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44].
وجملة {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} عطف على {مُتَّكِئِينَ} فهي في موضع الحال.
ومعنى {زَوَّجْنَاهُمْ} : جعلنا كل فرد منهم زوجا، أي غير مفرد، أي قرناهم بنساء حور عين. والباء للمصاحبة، أي جعلنا حورا عينا معهم، ولم يعد فعل {زَوَّجْنَاهُمْ} إلى {حُورٌ} بنفسه على المفعولية كما في قوله تعالى {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37 ]، لأن {زوجنا} في هذه الآية ليس بمعنى، أنكحناهم، إذ ليس المراد عقد النكاح لنبو المراد عن هذا المعنى، فالتزويج هنا وارد بمعناه الحقيقي في اللغة وهو جعل الشيء المفرد زوجا وليس واردا بمعناه المقول عنه في العرف والشرع، وليس الباء لتعدية فعل {وَزَوَّجْنَاهُمْ} بتضمينه معنى: قرنا، ولا هو على لغة أزد شنؤة فإنه لم يسمع في فصيح الكلام : تزوج بامرأة.
وحور: صفة لنساء المؤمنين في الجنة، وهن النساء اللاتي كن أزواجا لهم في الدنيا
إن كن مؤمنات ومن يخلقهن الله في الجنة لنعمة الجنة وحكم نساء المؤمنين اللاتي هن مؤمنات ولم يكن في العمل الصالح مثل أزواجهن في لحاقهن بأزواجهن في الدرجات في الجنة تقدم عند قوله تعالى {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} في سورة الزخرف [70] وما يقال فيهن يقال في الرجال من أزواج النساء الصالحات.
و {عَيْنٍ} صفة ثانية، وحقها أن تعطف ولكن كثر ترك العطف.
[21] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} .
{والدين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنابهم ذريتهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}
اعتراض بين ذكر كرامات المؤمنين، والواو اعتراضية.
والتعبير بالموصول إظهار في مقام الإضمار لتكون الصلة إيماء إلى أن وجه بناء الخبر الوارد بعدها، أي أن سبب إلحاق ذرياتهم بهم في نعيم الجنة هو إيمانهم وكون الذريات آمنوا بسبب إيمان آبائهم لأن الآباء المؤمنين يلقنون أبنائهم الإيمان.
والمعنى: والمؤمنون الذين لهم ذريات مؤمنون ألحقنا بهم ذرياتهم.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] وهل يستطيع أحدكم أن يقي النار غيره إلا بالإرشاد. ولعل ما في الآية من إلحاق ذرياتهم من شفاعة المؤمن الصالح لأهله وذريته.
والتنكير في قوله :{بِإِيمَانٍ} يحتمل أن يكون للتعظيم، أي بإيمان عظيم، وعظمته بكثرة الأعمال الصالحة، فيكون ذلك شرطا في إلحاقهم بآبائهم وتكون عن النعمة في جعلهم في مكان واحد.
ويتحمل أن يكون للنوعية، أي ما يصدق عليه حقيقة الإيمان.
وقرأ الجمهور {وَاتَّبَعَتْهُمْ} من بهمزة وصل وبتشديد التاء الأولى وبتاء بعد العين هي تاء تأنيث ضمير الفعل. وقرأه أبو عمرو وحده {واتبعناهم} بهمزة قطع وسكون التاء.
وقوله : {ذُرِّيَّتَهُمْ} الأول قرأه الجمهور بصيغة الإفراد. وقرأه أبو عمرو {ذرياتهم} بصيغة جمع ذرية فهو مفعول {اتبعناهم}. وقرأه ابن عامر ويعقوب بصيغة الجمع أيضا
لكن مرفوعة على أنه فاعل {أتبعتهم} ، فيكون الإنعام على آبائهم بإلحاق ذرياتهم بهم وإن لم يعلموا مثل عملهم.
وقد روى جماعة منهم الطبري والبزار وابن عدي وأبو نعيم وابن مردويه حديثا مسندا إلى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه" أي في العمل كما صرح به في رواية القرطبي لتقر بهم عينيه ثم قرأ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} إلى قوله {مِنْ شَيْءٍ} .
وعلى الاحتمالين هو نعمة جمع الله بها للمؤمنين أنواع المسرة بسعادتهم بمزاوجة الحور وبمؤانسة الإخوان المؤمنين وباجتماع أولادهم ونسل بهم، وذلك أن في طبع الإنسان التأنس بأولاده وحبه اتصالهم به.
وقد وصف ذلك محمد بن عبد الرفيع الجعفري المرسي الأندلسي تزيل تونس سنة 1013 ثلاث عشر وألف في كتاب له سماه الأنوار النبوية في آبار خير البرية1 قال في خاتمة الكتاب قد أطلعني الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدي وأنا ابن ستة أعوام مع أني كنت إذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم ثم أرجع إلى بيتي فيعلمني والدي دين الإسلام فكنت أتعلم فيهما كذا معا وسني حين حملت إلى مكتبهم أربعة أعوام فأخذ والدي لوحا من عود الجوز كأني أنظر لها الآن إليه مملسا من غير طفل اسم لطين يابس وهو طين لزج وليست بعربية وعربيته طفال كغراب، فكتب لي في حروف الهجاء وهو يسألني عن حروف النصارى حرفا حرفا تدريبا وتقريبا فإذا سميت له حرفا أعجميا يكتب لي حرفا عربيا حتى استوفى جميع حروف الهجاء وأوصاني أن أكتم ذلك حتى عن والدتي وعمي وأخي مع أنه رحمه الله قد ألقى نفسه للهلاك لإمكان أن أخبر ذلك عنه فيحرق لا محالة وقد كان يلقنني ما أقول عند رؤيتي الأصنام، فلما تحقق والدي أني أكتم أمور دين الإسلام أمرني أن أتكلم بإفشائه لوالدتي وبعض الأصدقاء من أصحابه وسافرت الأسفار من جيان لأجتمع بالمسلمين الأخيار إلى غرناطة وأشبيلية وطليطلة وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، فتخلص لي معرفتهم أني ميزت منهم سبعة رجال كانوا يحدثونني بأحوال غرناطة وما كان بها في الإسلام وقد مروا كلهم على شيخ من مشائخ غرناطة يقال له الفقيه الأوطوري... الخ.
ـــــــ
1 مخطوط عندي.
وإيثار فعل {أَلْحَقْنَا} دون أن يقال: أدخلنا معهم، أو جعلنا معهم لعلمه لما في معنى الإلحاق من الصلاحية للفوز والتأخير، فقد يكون ذلك الإلحاق بعد إجراء عقاب على بعض الذرية استحقوه بسيئاتهم على ما في الأعمال من تفاوت في استحقاق العقاب والله أعلم بمراده من عباده. وفعل الإلحاق يقتضي أن الذاريات صاروا في درجات آبائهم. وفي المخالفة بين الصيغتين تفنن لدفع إعادة اللفظ.
و {أَلَتْنَاهُمْ} نقصناهم، يقال: آلته حقه، إذا نقصه إياه، وهو من باب ضرب ومن باب علم.
فقرأه الجمهور بفتح لام {أَلَتْنَاهُمْ} وقرأه ابن كثير بكسر لام { أَلَتْنَاهُمْ} وتقدم عند قوله تعالى :{لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} في سورة الحجرات[14] والواو للحال وضمير الغيبة عائد إلى {الَّذِينَ آمَنُوا} .
والمعنى: أن الله ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة في الجنة فضلا منه على الذين آمنوا دون عوض احتراسا من أن يحسبوا أن إلحاق ذرياتهم بهم بعد عطاء نصيب من حسناتهم لذرياتهم ليدخلوا به الجنة على ما هو متعارف عندهم في فك الأسير، وحمالة الديات، وخلاص الغارمين، وعلى ما هو معروف في الانتصاف من المظلوم للظالم بالأخذ من حسناته وإعطائها للمظلوم، وهو كناية عن عدم انتقاص حظوظهم من الجزاء على الأعمال الصالحة.
و {مِنْ عَمَلِهِمْ} متعلق ب {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} و "من" للتبعيض و"من" التي في قوله {مِنْ شَيْءٍ} لتوكيد النفي وإفادة الإحاطة والشمول للنكرة.
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} .
جملة معترضة بين جملة {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ} وبين جملة {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور:22] قصد منها تعليل الجملة التي قبلها وهي بما فيها من العموم صالحة للتذييل مع التعليل، و {كُلُّ امْرِئٍ} يعم أهل الآخرة كلهم.وليس المراد كل امرئ من المتقين خاصة.
والمعنى: انتفى إنقاصنا إياهم شيئا من عملهم لأن كل أحد مقرون بما كسب ومرتهن عنده والمتقون لما كسبوا العمل الصالح كان لزاما لهم مقترنا بهم لا يسلبون منه شيئا، والمراد بما كسبوا: جزاء ما كسبوا لأنه الذي يقترن بصاحب العمل وأما نفس
العمل نفسه فقد انقضى في أبانه.
وفي هذا التعليل كنايتان: إحداهما أن أهل الكفر مقرونون بجزاء أعمالهم، وثانيتهما أن ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بآبائهم في النعيم ألحقوا بالجنة كرامة لآبائهم ولولا تلك الكرامة لكانت معاملتهم على حسب أعمالهم. وبهذا كان لهذه الجملة وقع أشد حسنا عما سواه مع أنها صارت من حسن التتميم.
والكسب: يطلق على ما يحصله المرء بعمله لإرادة نفع نفسه.
ورهين: فعيل بمعنى مفعول من الرهن وهو الحبس.
[22،23] {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُون يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا َأْثِيمٌ} .
عطف على {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] الخ.
والإمداد: إعطاء المدد وهو الزيادة من نوع نافع فيما زيد فيه، أي زدناهم على ما ذكر من النعيم والأكل والشرب الهنيء فاكهة ولحما مما يشتهون من الفوكه واللحوم التي يشتهونها، أي ليوتي لهم بشيء لا يرغون فيه فكل منهم ما اشتهي.
وخص الفاكهة واللحم تمهيدا لقوله :{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} منحهم الله في الآخرة لذة نشوة الخمر والمنادمة على شربها لأنها من أحسن اللذات فيما ألفته نفوسهم، وكان أهل الترف في الدنيا إذا شربوا الخمر كسروا سورة حدتها في البطن بالشواء من اللحم قال النابغة يصف قرن الثور:
سفود شرب نسوه عند مفتأد
ويدفعون لذغ الخمر عن أفواههم بأكل الفواكه ويسمونها النقل - بضم النون وفتحها - ويكون من ثمار ومقاث.
ولذلك جيء بقوله {يَتَنَازَعُونَ} حالا من ضمير الغائب في و {أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} الخ. والتنازع أطلق على التداول والتعاطي. وأصله تفاعل من نزع الدلو من البئر عند الاستقاء فإن الناس كانوا إذا وردوا للاستقاء نزع أحدهم دلوه من الماء ثم ناول الدلو لمن حوله وربما كان الرجل القوي الشديد ينزع من البئر للمستقين كلهم يكفيهم تعب النزع، ويسمى الماتح بمثناة فوقية
وقد ذكر الله تعالى نزع موسى عليه السلام لابنة شعيب لما رأى انقباضهما على الاندماج في الرعاء. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا نزعه على القليب ثم نزع أبي بكر رضي الله عنه ثم نزع عمر رضي الله عنه. ثم استعين أو جعل مجازا عن المداولة والمعاورة في مناولة أكؤس الشراب، قال الأعشى:
نازعتهم قضب الريحان متكئا ... وخمرة مزة روواقها خضل
والمعنى: أن بعضهم يصب لبعض الخمر ويناوله إيثارا وكرامة.
وقيل: تنازعهم الكأس مجاذبة بعضهم كأس بعض إلى نفسه للمداعبة كما قال امرؤ القيس في المداعبة على الطعام:
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
والكأس: إناء تشرب فيه الخمر لا عروة له ولا خرطوم، وهو مؤنث، فيجوز أن يكون هنا مرادا به الإناء المعروف ومراد به الجنس، وتقدم قوله في سورة الصافات[45] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}، وليس المراد أنهم يشربون في كأس واحدة بأخذ أحدهم من آخر كأسه. ويجوز أن يراد بالكأس الخمر، وهو من إطلاق اسم المحل على الحال مثل قولهم: سأل الوادي وكما قال الأعشى:
نازعتهم قضب الريحان البيت السابق آنفا
وجملة {لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} يجوز أن تكون صفة ل "كأس" وضمير {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} عائد إلى "كأس" ووصف الكأس ب {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} . إن فهم الكأس بمعنى الإناء المعروف فهو على تقدير: لا لغو ولا تأثيم لصاحبها، فإن "في" للظرفية المجازية التي تؤول بالملابسة، كقوله تعالى {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ففيهما - أي "والديك فجاهد" ، أي جاهد ببرهما، أو تأول "في" بمعنى التعليم كقول النبي صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا".
وإن فهم الكأس مرادا به الخمر كانت "في" مستعارة للسببية، أي لا لغو يقع بسبب شربها. والمعنى على كلا الوجهين أنها لا يخالط شاربيها اللغو والإثم بالسباب ولضرب ونحوه، أي أن الخمر التي استعملت الكأس لها ليست كخمور الدنيا، ويجوز أن تكون جملة {لا لَغْوٌ فِيهَاَلا تَأْثِيمٌ} مستأنفة ناشئة عن جملة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } ويكون ضمير {فِيهَا} عائد إلى {جَنَّاتٍ} من قوله {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الطور: 17] مثل
ضمير {فِيهَا كَأْساً} ، فتكون في الجملة معنى التذييل لأنه إذا انتفى اللغو والتأثيم عن أن يكونا في الجنة انتفى أن يكونا في كأس شرب أهل الجنة.
ومثل هذين الوجهين يأتي في قوله تعالى { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} إلى قوله {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} في سورة النبأ [31-35].
واللغو: سقط الكلام والهذيان الذي يصدر عن خلل العقل.
والتأثيم: ما يؤثم به فاعله شرعا أو عادة من فعل أو قول مثل الضرب والشتم وتمزيق الثياب وما يشبه أفعال المجانين من آثار العربدة مما لا يخلو عنه الندامى غالبا، فأهل الجنة منزهون عن ذلك كله لأنهم من عالم الحقائق والكمالات فهم حكماء علماء، وقد تمدح أصحاب الأحلام من أهل الجاهلية بالتنزه عن مثل ذلك، ومنهم من اتقى ما يعرض من الفلتات فحرم على نفسه الخمر مثل قيس بن عاصم.
وقرأ الجمهور {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} برفعهما على أن "لا" مشبهة ب "ليس" . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتحهما على أن "لا" مشبهة ب "إن" وهما وجهان في نفي النكرة إذا كانت إرادة الواحد غير محتملة ومثله قولها في حديث أم زرع: زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة رويت النكرات الأربع بالرفع وبالنصب.
[ 24] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} .
عطف على جملة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} [الطور: 23] فهو من تمامه وواقع موقع الحال مثله، وجيء به في صيغة المضارع للدلالة على التجدد والتكرر، أي ذلك لا ينقطع بخلاف لذات الدنيا فإنها لا بد لها من الانقطاع بنهايات تنتهي إليها فتكره لأصحابها الزيادة منها مثل الغول، والإطباق، ووجع الأمعاء في شرب الخمر ومثل الشبع في تناول الطعام وغير ذلك من كل ما يورث العجز عن الازدياد من اللذة ويجعل الازدياد ألما.
ولم يستثن من ذلك إلا لذات المعارف ولذات المناظر الحسنة والجمال.
ولما أشعر فعل {يَطَّوَّفَ} بأن الغلمان يناولونهم ما فيه لذاتهم كان مشعرا بتجدد المناولة وتجدد الطواف وقد صار كل ذلك لذة لا سآمة منها.
والطواف: مشي متكرر ذهابا ورجوعا وأكثر ما يكون على استدارة، ومنه طواف الكعبة، وأهل الجاهلية بالأصنام ولأجله سمي الصنم دورا لأنهم يدورون به. وسمي
مشي الغلمان بينهم طوافا لأن شأن مجالس الأحبة والأصدقاء أن تكون حلقة ودوائر ليستوي في مرآهم كما أشار إليه في قوله تعالى في سورة الصافات[44] {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} ومنه جعلت مجالس الدروس حلقا وكانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم حلقا. وقد أطلق على مناولة الخمر إدارة فقيل: أدارت الحارثة الخمر، وهذا الذي يناول الخمر المدير.
وترك ذكر متعلق {يَطَّوَّفَ} لظهوره من قوله {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} وقوله {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22] ودل عليه قوله تعالى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [ الزخرف: 71]. وقوله {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:45،46] فلما تقدم ذكر ما شأنه أن يطاف به ترك ذكره بعد فعل {يُطَافُ} بخلاف ما في الآيتين الأخريين.
والغلمان: جمع غلام، وحقيقته من كان في سن يقارب البلوغ أو يبلغه، ويطلق على الخادم لأنهم كانوا أكثر ما يتخذون خدمهم من الصغار لعدم الكلفة في حركاتهم وعدم استثقال تكليفهم، وأكثر ما يكونون من العبيد ومثله إطلاق الوليدة على الأمة الفتية كأنها قريبة عهد بولادة أمها.
فمعنى قوله {غِلْمَانٌ لَهُمْ} خدمة لهم. وعبر عنهم بالتنكير وتعليق لام الملك بضمير {الَّذِينَ آمَنُوا} دون الإضافة التي هي على تقدير اللام لما في الإضافة من معنى تعريف المضاف بالانتساب إلى المضاف إليه عند السامع من قبل. وليس هؤلاء الغلمان بمملوكين للمؤمنين ولكنهم مخلوقون لخدمتهم خلقهم الله لأجلهم في الجنة قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [ الإنسان: 19] وهذا على نحو قوله تعالى{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] أي صنف من عبادنا غير معروفين للناس.
وشبهوا باللؤلؤ المكنون لحسن المرأى. واللؤلؤ: الدر. والمكنون: المخزون لنفاسته على أربابه فلا يتحلى به إلا في المحافل والمواكب فلذلك يبقى على لمعانه وبياضه.
[25-28] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} .
عطف على جملة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسأ} [الطور:23]. والتقدير: وقد أقبل بعضهم
على بعض يتساءلون، أي هم في تلك الأحوال قد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
ولما كان إلحاق ذرياتهم بهم مقتضيا مشاركتهم إياهم في النعيم كما تقدم آنفا عند قوله {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] كان هذا التساؤل جاريا بين الجميع من الأصول والذريات سائلين و مسؤولين.
وضمير {بَعْضُهُمْ} عائد إلى {الْمُتَّقِينَ} [الطور:17] وعلى {ذُرِّيَّتَهُمْ} الطور:21].
وجملة {قَالُوا} بيان لجملة {يَتَسَاءَلُونَ} على حد قوله تعالى {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ضمير {قَالُوا} عائد إلى البعضين، أي يقول كل فريق من المتسائلين للفريق الآخر هذه المقالة.
وإشفاق: توقع المكروه وهو ضد الرجاء، وهذا التوقع متفاوت عند المتسائلين بحسب تفاوت ما يوجبه من التقصير في أداء حق التكليف، أو من العصيان. ولذلك فهو أقوى في جانب ذريات المؤمنين الذين ألحقوا بأصولهم بدون استحقاق. ولعله في جانب الذريات أظهر في معنى الشكر وأن أصولهم من أهلهم فهم يعلمون أن ذرياتهم كانوا مشفقين من عقاب الله تعالى أو بمنزلة من يعلم ذلك من مشاهدة سيرهم في الفاء بحقوق التكليف، وكذلك أصولهم بالنسبة إلى من يعلم حالهم من أصحابهم أو يسمع منهم إشفاقهم واستغفارهم. وحذف متعلق {مُشْفِقِينَ} لأنه دل عليه {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} .
وعلى هذا الوجه يكون معنى "في" الظرفية. ويتعلق {فِي أَهْلِنَا} ب {كُنَّا} ، أي حين كنا في ناسنا في الدنيا. ف {أَهْلِنَا} هنا في معنى آلنا.
ويجوز أن تكون المقالة صادرة من الذين آمنوا يخاطبون ذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم يكونوا يحسبون أنهم سيلحقون بهم: فالمعنى: إنا كنا قبل مشفقين عليكم، فتكون "في" للظرفية المجازية المفيدة للتعليل، أي مشفقين لأجلكم.
ومعنى {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} من علينا بالعفوا عنكم فأذهب عنا الحزن ووقانا أن يعذبكم بالنار. فلما كان عذاب الذريات يحزن آباءهم جعلت وقاية الذريات منه بمنزلة وقاية آبائهم فقالوا: {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} إغراقا في الشكر عنهم وعن ذرياتهم، أي فمن علينا جميعا ووقانا جميعا عذاب السموم.
والسموم بفتح السين، أصله اسم الريح التي تهب من جهة حارة جدا فتكون جافة شديدة الحرارة وهي معروفة في بلاد العرب تهلك من يتنشقها. وأطلق هنا على ريح جهنم
على سبيل التقريب بالأمر المعروف، كما أطلقت على العنصر الناري في قوله تعالى {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} في سورة الحجر [27] وكل ذلك تقريب بالمألوف.
وجملة {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم، أي كنا من قبل اليوم ندعوه، أي في الدنيا.
وحذف متعلق {نَدْعُوهُ} للتعميم، أي كنا نبتهل إليه في أمورنا، وسبب العموم داخل ابتداء وهو الدعاء لأنفسهم ولذرياتهم بالنجاة من النار وبنوال نعيم الجنة.
ولما كان هذا الكلام في دار الحقيقة لا يصدر إلا عن إلهام ومعرفة كان دليلا على أن دعاء الصالحين لأبنائهم وذرياتهم مرجو الإجابة، كما دل على إجابة دعاء الصالحين من الأبناء لآبائهم على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر وولد صالح يدعوا له بخير" .
وقوله {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} قرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح همزة "أنه" على تقدير حرف الجر محذوفا حذفا مطردا مع "أن" وهو هنا اللام تعليلا ل {َنَدْعُوهُ} ، وقرأه الجمهور بكسر همزة "إن" وموقع جملتها التعليل.
والبر: المحسن في رفق.
والرحيم: الشديد الرحمة وتقدم في تفسير سورة الفاتحة.
وضمير الفصل لإفادة الحصر وهو لقصر صفتي {الْبِرَّ} و {الرَّحِيمِ} على الله تعالى وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد ببرور غيره ورحمة غيره بالنسبة إلى برور الله ورحمته باعتبار القوة فإن غير الله لا يبلغ بالمبرة والرحمة مبلغ ما لله وباعتبار عموم المتعلق، وباعتبار الدوام لأن الله بر في الدنيا والآخرة، وغير الله بر في بعض أوقات الدنيا ولا يملك في الآخرة شيئا.
[29] {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} .
تفريع على ما تقدم كله من قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] لأنه تضمن تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب المكذبين والافتراء عليه، وعقب بهذا لأن من الناس مؤمنين به متيقنين أن الله أرسله مع ما أعد لكلا الفريقين فكان ما تضمنه ذلك يقتضي أن في
استمرار التذكير حكمة أرادها الله، وهي ارعواء بعض المكذبين عن تكذيبهم وازدياد المصدقين توغلا في إيمانهم، ففرع على ذلك أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير.
فالأمر مستعمل في طلب الدوام مثل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] ولما كان أثر التذكير أهم بالنسبة إلى فريق المكذبين ليهتدي من شرح قلبه للإيمان روعي ما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم ثباتا على التذكير من تبرئته مما يواجهونه من قولهم لهو: هو كاهن أو هو مجنون، فربط الله جأش رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بأن براءته من ذلك نعمة أنعم بها عليه ربه تعالى ففرع هذا الخبر على الأمر بالتذكير بقوله {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} والباء في {نعْمَتِ رَبِّكَ} للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير {أَنْتَ} .
ونفي هذين الوصفين عنه في خطاب أمثاله ممن يستحق الوصف بصفات الكمال يدل على أن المراد من النفي غرض آخر وهو هنا إبطال نسبة من نسبه إلى ذلك كما في قوله تعالى {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، ولذلك حسن تعقيبه بقوله {أمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور:30] مصرحا فيه ببعض أقوالهم، فعلم أن المنفي عنه فيما قبله مقالة من مقالهم.
وقد اشتملت هاته الكلمة الطيبة على خصائص تناسب تعظيم من وجهت إليه وهي أنها صيغت في نظم الجملة الاسمية فقيل فيها "ما أنت بكاهن" دون : فلست بكاهن، لتدل على ثبات مضمون هذا الخبر.
وقدم فيها المسند إليه مع أن مقتضى الظاهر أن يقدم المسند وهو {كَاهِنٍ} أو {مَجْنُون} لأن المقام يقتضي الاهتمام بالمسند ولكن الاهتمام بالضمير المسند إليه كان أرجح هنا لما فيه من استحضار معاده المشعر بأنه شيء عظيم وأفاد مع ذلك أن المقصود أنه متصف بالخبر لا نفس الإخبار عنه بالخبر كقولنا: الرسول يأكل الطعام ويتزوج النساء. وأفاد أيضا قصرا إضافيا بقرينه المقام لقلب ما يقولونه أو يعتقدونه من قولهم: هو كاهن أو مجنون، على طريقة قوله تعالى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز} [هود:91].
وقرن الخبر المنفي بالباء الزائدة لتحقيق النفي فحصل في الكلام تقويتان، وجيء بالحال قبل الخبر، أو بالجملة المعترضة بين المبتدأ والخبر، لتعجيل المسرة وإظهار أن الله أنعم عليه بالبراءة من هذين الوصفين.
وعدل عن استحضار الجلالة بالاسم العلم إلى تعريفة بالإضافة وبوصفه الرب لإفادة
لطفه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم لأنه ربه فهو يربه ويدبر نفعه، ولتفيد الإضافة تشريف المضاف إليه. وقوله تعالى {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} رد على مقالة شيبة بن ربيعة قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كاهن، وعلى عقبة بن أبي معيط إذ قال: هو مجنون، ويدل لكونه ردا على مقالة سبقت أنه أتبعه بقوله {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور: 30 ] ما سيكون وما خفي مما هو كائن.
والكاهن: الذي ينتحل معرفة ما سيحدث من الأمور وما خفي مما هو كائن ويخبر به بكلام ذي أسجاع قصيرة. وكان أصل الكلمة موضوعة لهذا المعنى غير مشتقة، ونظيرها في العبرية الكوهين وهو حافظ الشريعة والمفتي بها، وهو من بني لاوي، وتقدم ذكر الكهانة عند قوله تعالى {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} في سورة الشعراء.[ 210].
وقد اكتفي في إبطال كونه كاهنا أو مجنونا بمجرد النفي دون استدلال عليه، لأن مجرد التأمل في حال النبي صلى الله عليه وسلم كاف في تحقق انتفاء ذينك الوصفين عنه فلا يحتاج في إبطال اتصافه بهما إلى أكثر من الإخبار بنفيهما لأن دليله المشاهدة.
[30] {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} .
إن كانت {أَمْ} مجردة عن عمل العطف فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، وإلا فهي عطف على جملة {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29].
وعن الخليل كل ما في سورة الطور من {أَمْ} فاستفهام وليس بعطف، يعني أن المعنى على الاستفهام لا على عطف المفردات. وهذا ضابط ظاهر. ومراده: أن الاستفهام مقدر بعد {أَمْ} وهي منقطعة وهي للإضراب عن مقالتهم المردودة بقوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} الطور:[ 29] للانتقال إلى مقالة أخرى وهي قولهم هو شاعر {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 29] وعدل عن الإتيان بحرف "بل" مع أنه أشهر في الإضراب الانتقالي، لقصد تضمن {أَمْ} للاستفهام. والمعنى: بل أيقولون شاعر الخ. والاستفهام المقرر إنكاري.
ومناسبة هذا الانتقال عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدوام على التذكير يشير إلى مقالاتهم التي يردون بها دعوته فلما أشير إلى بعضها بقوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] انتقل إلى إبطال صفة أخرى يثلثون بها الصفتين المذكورتين قبلها وهي صفة شاعر.
روى الطبري عن قتادة قال قائلون من الناس: تربصوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان، ولم يعينوا اسم الشاعر ولا أنه كان يهجو كفار قريش.
وعن الضحاك ومجاهد: أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة فكثرت آرائهم في محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا بنو عبد الدار: هو شاعر تربصوا به ريب المنون، فسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت هذه الآية فحكت مقالتهم كما قالوها، أي فليس في الكلام خصوص ارتباط بين دعوى أنه شاعر، وبين تربص الموت به لأن ريب المنون يصيب الشاعر والكاهن والمجنون وجاء {يَقُولُونَ} مضارعا للدلالة على تجدد ذلك القول منهم. والتربص مبالغة في: الربص، وهو الانتظار.
والريب هنا: الحدثان، وفسر بصرف الدهر وعن ابن عباس: ريب في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور {رَيْبَ الْمَنُونِ} .
والباء في {بِهِ} يجوز أن تكون للسبب، أي بسببه، أي نتربص لأجله فتكون الباء متعلقة ب {َتَرَبَّصُ} ويجوز أن تكون للملابسة وتتعلق ب {رَيْبَ الْمَنُونِ} حالا منه مقدما على صاحبها، أي حلول ريب المنون به.
والمنون: من أسماء الموت ومن أسماء الدهر، ويذكر. وقد فسر بكل المعنيين، فإذا فسر بالموت فإضافة {رَيْبَ} إليه بيانية؛ أي الحدثان الذي هو الموت وإذ فسر النون بالدهر فالإضافة على أصلها، أي أحداث الدهر مثل موت أو خروج من البلد أو الرجوع إلى دعوته، فريب المنون جنس وقد ذكروا في مقالتهم قولهم: فسيهلك، فاحتملت أن يكونوا أرادوه بيان ريب الموت أو إن أرادوه مثالا لريب الدهر، وكلا الاحتمالين جار في الآية لأنها حكت مقالتهم.
وقد ورد {رَيْبَ الْمَنُونِ} في كلام العرب بالمعنيين؛ فمن وروده في معنى الموت قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمتعب من يجزع
ومن وروده بمعنى حدثان الدهر قول الأعشعى:
أإن رأت رجلا أعشى أضربه ... ريب المنون ودهر متبل خبل
أراد أضر بذاته حدثان الدهر، ولم يرد إصابة الموت كما أراد أبو ذؤيب.
ولما كان انتفاء كونه شاعرا أمرا واضحا يكفي فيه مجرد التأمل لم يتصد القرآن للاستدلال على إبطاله وإنما اشتملت مقالتهم على أنهم يتربصون أن يحل به ما حل بالشعراء الذين هم من جملة الناس.
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول: {تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] وهو جواب منتصف لأن تربص حلول حوادث الدهر بأحد الجانبين أو حلول المنية مشترك الإلزام لا يدري أحدنا ماذا يحل بالآخرة.
[31 ] {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} .
وردت جملة {قُلْ تَرَبَّصُوا} مفصولة بدون عطف لأنها وقعت في مقام المحاورة لسبقها بجملة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} الطور: 30} [ الخ]، فإن أمر أحد بأن يقول بمنزلة قوله فأمر بقوله، ومثله قوله تعالى {مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51].
والأمر في {تَرَبَّصُوا} مستعمل في التسوية، أي سواء عندي تربصهم بي وعدمه. وفرع عليه {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} أي فإني متربص بكم مثل ما تتربصون بي إذا لا ندري أينا يصيبه ريب المنون قبل.
وتأكيد الخبر ب {أن} في قوله {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر أنه يتربص بهم كما يتربصون به لأنهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه، فهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر.
والمعية في قوله {مَعَكُمْ} ظاهرها أنها للمشاركة في وصف التربص.
ولما كان قوله : {مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} مقدرا معه "بكم" لمقابلة قولهم : {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] كان في الكلام توجيه بأنه يبقى معهم يتربص هلاكهم حين تبدو بوادره، إشارة إلى أن وقعة بدر إذ أصابهم من الحدثان القتل والأسر، فتكون الآية مشيرة إلى صريح قوله تعالى في سورة براءة[52] {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} . وإنما قال هنا: {مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} ليشير إلى أن النبي يتربص بهم ريب المنون في جملة المتربصين من المؤمنين، وذلك ما في آية سورة براءة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
قد صيغ نظم الكلام في هذه الآية على ما يناسب الانتقال من غرض إلى غرض وذلك بما نهي به من شبه التذييل بقوله : {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} إذ تمت به المفاصلة.
32] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} .
إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإنكاري المقدر بعد {أَمْ} من معنى التعجب من حالهم كيف يقولون مثل ذلك القول السابق ويستقر ذلك في إدراكهم وهم يدعون أنهم أهل عقول لا تلتبس عليهم أحوال الناس فهم لا يجهلون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بحال الكهان ولا المجانين ولا الشعراء وقد أبى عليهم الوليد بن المغيرة أن يقول مثل ذلك في قصة معروفة.
قال الزمخشري. وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى والمعنى:أم تأمرهم أحلامهم المزعومة بهذا القول.
والإشارة في قوله : {بِهَذَا} إلى المذكور من القول المعرض به في قوله: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] والمصرح به في قوله :{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]، وهذا كما يقول من يلوم عاقلا على فعل فعله ليس من شأنه أن يجهل ما فيه من فساد: أعاقل أنت ? أو: هذا لا يفعله عاقل بنفسه، ومنه ما حكى الله عن قوم شعيب من قولهم له : {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].
والحلم:العقل، قال الراغب: المانع من هيجان الغضب. وفي القاموس هو الأناة. وفي معارج النور:والحلم ملكة غريزية تورث لصاحبها المعاملة بلطف ولين لمن أساء أو أزعج اعتدال الطبيعة.
ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله، وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل1 له. قالوا وإنما للكافر الذهن والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي.
ـــــــ
1 رواه القرطبي عن الحكيم الترمذي صاحب "نوادر الأصول".
والأمر في : {تَأْمُرُهُمْ} مستعار للباعث أي تبعثهم أحلامهم على هذا القول.
{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
إضراب انتقالي أيضا متصل بالذي قبله انتقل به إلى استفهام عن اتصافهم بالطغيان. والاستفهام المقدر مستعمل: إما في التشكيك باعثا على التأمل في حالهم فيؤمن بأنهم طاغون، وإما مستعمل في التقرير لكل سامع إذ يجدهم طاغين.
وإقحام كلمة {قَوْمِ} يمهد لكون الطغيان من مقومات حقيقة القومية فيهم، كما قدمناه في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} : [124] في سورة البقرة، أي تأصل فيهم الطغيان وخالط نفوسهم فدفعهم إلى أمثال تلك الأقوال.
[33، 34] {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .
انتقال متصل بقوله : {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور:30] الخ. وهذا حكاية لإنكارهم أن يكون القرآن وحيا من الله، فزعموا أنه تقوله النبي صلى الله عليه وسلم على الله، فالاستفهام إنكار لقولهم وهم قد أكثروا من الطعن وتمالؤوا عليه ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة {يَقُولُونَ} المفيدة للتجدد.
والتقول: نسبة كلام إلى أحد لم يقله، ويتعدى إلى الكلام بنفسه ويتعدى إلى من ينسب إليه بحرف "على"، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين}ِ [الحاقة:44، 45] الآية. وضمير النصب في {تَقَوَّلَهُ} عائد إلى القرآن المفهوم من المقام.
وابتدىء الرد عليهم بقوله : {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ} لتعجيل تكذيبهم قبل الإدلاء بالحجة عليهم وليكون ورود الاستدلال مفرعا على قوله : {لا يُؤْمِنُون} بمنزلة دليل ثان. ومعنى {لا يُؤْمِنُونَ} أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقول القرآن بينة لديهم ولكن الزاعمين ذلك يأبون الإيمان فهم يبادرون إلى الطعن دون نظر ويلقون المعاذير سترا لمكابرتهم.
ولما كانت مقالتهم هذه طعنا في القرآن وهو المعجزة القائمة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكانت دعواهم أنه تقول على الله من تلقاء نفسه قد تروج على الدهماء تصدى القرآن لبيان إبطالها بأن تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بقوله : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ
كَانُوا صَادِقِينَ} أي صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوله من تلقاء نفسه، أي فعجزهم عن أن يأتوا بمثله دليل على أنهم كاذبون.
ووجه الملازمة أن محمدا صلى الله عليه وسلم أحد العرب وهو ينطق بلسانهم. فالمساواة بينه وبينهم في المقدرة على نظم الكلام ثابتة، فلو كان القرآن قد قاله محمد صلى الله عليه وسلم لكان بعض خاصة العرب البلغاء قادرا على تأليف مثله، فلما تحداهم الله بأن يأتوا بمثل القرآن وفيهم بلغائهم وشعراؤهم وكلمتهم وكلهم واحد في الكفر كان عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن دالا على عجز البشر عن الإتيان بالقرآن ولذلك قال تعالى في سورة هود[13،14] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } .
كما قال تعالى {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
والإتيان بالشي: إحضاره من مكان آخر. واختير هذا الفعل دون نحو: فليقولوا مثله ونحوه، لقصد الأعذار لهم بأن يقتنع منهم بجلب كلام مثله ولو من أحد غيرهم، وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة البقرة[ 23] : {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} أنه يحتمل معنيين، هما: فأتوا بسورة من مثل القرآن، أو فأتوا من مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، أي من أحد من الناس.
والحديث: الإخبار بالحوادث وأصل الحوادث أنها الواقعات الحديثة، ثم توسع فأطلقت على الواقعات، ولو كانت قديمة كقولهم: حوادث سنة كذا، وتبع ذلك إطلاق الحديث على الخبر مطلقا، وتوسع فيه فأطلق على الكلام ولو لم يكن إخبارا، ومنه إطلاق الحديث على كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فيجوز أن يكون الحديث هنا قد أطلق على الكلم مجازا بعلاقة الإطلاق، أي فليأتوا بكلام مثله، أي في غرض من الأغراض التي تشتمل عليها القرآن لا خصوص الأخبار. ويجوز أن يكون الحديث هنا أطلق على الأخبار، أي فليأتوا بأخبار مثل قصص القرآن فيكون استنزالا لهم فإن التكلم بالأخبار أسهل على المتكلم من ابتكار الأغراض التي يتكلم فيها، فإنهم كانوا يقولون أن القرآن أساطير الأولين، أي أخبار عن الأمم الماضين فقيل لهم: فليأتوا بأخبار مثل أخباره لأن الإتيان بمثل ما في القرآن من المعارف والشرائع والدلائل لا قبل لعقولهم به، وقصاراهم أن يفهموا ذلك إذا سمعوه.
ومعنى المثلية في قوله: {مِثْلِهِ} المثلية في فصاحته وبلاغته، وهي خصوصيات
يدركونها إذا سمعوها ولا تحيط قرائحهم بإيداعها في كلامهم. وقد بينا أصول الإعجاز في المقدمة العاشرة من العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
ولام الأمر في {فَلْيَأْتُوا} مستعملة في أمر التعجيز كقوله حكاية عن قول إبراهيم {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258].
وقوله : {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أي في زعمهم أنه تقوله، أي فإن لم يأتوا بكلام مثله فهم كاذبون. وهذا إلهاب لعزيمتهم ليأتوا بكلام مثل القرآن ليكون عدم إتيانهم بمثله حجة على كذبهم وقد أشعر نظم الكلام في قوله : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِين} الواقع موقعا شبيها بالتذليل والمختوم بكلمة الفاصلة، أنه نهاية غرض وأن ما بعده شروع في غرض آخر كما تقدم في نظم قوله : {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31].
[،35،36] {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} .
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} .
إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث، وقد عملت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاء على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل، فإذ وفي حق ما اقتضته تلك المنسبات ثني عنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهم : {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49].
فكان قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} الآيات أدلة على أن ما خلقه الله من بدء الخلق أعظم من إعادة خلق الإنسان. وهذا متصل بقوله آنفا : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] لأن شبهتهم المقصود ردها بقوله : {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هي قولهم : {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الإسراء: 49] ونحو ذلك.
فحرف "من" في قوله : {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} يجوز أن يكون للابتداء، فيكون معنى الاستفهام المقدر بعد "أم" تقريريا. والمعنى: أيقرون أنهم خلقوا بعد أن كانوا عدما فكلما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى ينشأون من عدم في النشأة الآخرة، وذلك إثبات لإمكان
البعث فيكون في معنى قوله تعالى {فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5، 8] وقوله : {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] ونحو ذلك من الآيات.
ومعنى {شَيْءٍ} على هذا الوجه: الموجود فغير شيء: المعدوم، والمعنى: اخلقوا من عدم. ويجوز أن تكون "من" للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد "أم" إنكاريا، ويكون اسم {شَيْءٍ} صادقا على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف "من" التعليلية، والمعنى: إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلوا عنها فعل أحكم الحكماء، فيكون في معنى قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وقوله :{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} [الحجر: 85 ].
ولحرف "من" في هذا الكلام الوقع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلا على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوبا تقتضيه الحكمة الإلهية العليا. ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري، أعني صيغة النفي بأن يقال: أما خلقوا من غير شيء؛ والعدول عن تعيين ما أضيف إليه : {غَيْرِ} إلى الإتيان بلفظ مبهم وهو لفظ شيء، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة.
وإذا كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله:
{أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
وهو إضراب انتقال أيضا، والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} إنكاري، أي ما هم الخالقون وإذ كانوا لم يدعوا ذلك فالإنكار مرتب على تنزيلهم منزلة من يزعمون أنهم خالقون.
وصيغت الجملة في صيغة الحصر الذي طريقه تعريف الجزأين قصرا إضافيا للرد عليهم بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم الخالقون لا الله، لأنهم عدوا من المحال ما هو خارج عن قدرتهم، فجعلوه خارجا عن قدرة اله، فالتقدير: أم هم الخالقون لا نحن. والمعنى: نحن الخالقون لا هم.
وحذف مفعول {الْخَالِقُونَ} لقصد العموم، أي الخالقون للمخلوقات وعلى هذا جرى الطبري وقدره المفسرون عدا الطبري: أم هم الخالقون أنفسهم كأنهم جعلوا ضمير {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} دليل على أن المحذوف اسم معاد ذلك الضمير ولا افتراء في انتفاء أن يكونوا خالقين، فلذلك لم يتصد إلى الاستدلال على هذا الانتفاء.
وجملة {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يظهر لي أنها بدل من جملة {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} بدل مفصل من مجمل إن كان مفعول {الْخَالِقُونَ} المحذوف مرادا به العموم وكان المراد بالسماء والأرض ذاتيهما مع من فيهما أو بدل بعض من كل أن المراد ذاتي السماء والأرض، فيكون تخصيص السماوات والأرض بالذكر لعظم خلقهما.
وإعادة حرف {أَمْ} للتأكيد كما يعاد عامل المبدل منه في البدل، والمعنى: أم هم الخالقون للسماوات والأرض.
والاستفهام إنكاري والكلام كناية عن إثبات أن الله خالق السماوات والأرض.
والمعنى: أن الذي خلق السماوات والأرض لا يعجزه إعادة الأجساد بعد الموت والفناء. وهذا معنى قوله تعالى :{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 99] أي أن يخلق أمثال أجسادهم بعد انعدامهم.
{بَلْ لا يُوقِنُونَ} .
إضراب إبطال على مضمون الجملتين اللتين قبله، أي لم يخلقوا من غير شيء ولا خلقوا السماوات والأرض، فإن ذلك بين لهم فما إنكارهم البعث إلا ناشئ عن عدم إيقانهم في مظان الإيقان وهي الدلائل الدالة على إمكان البعث وأنه ليس أغرب من إيجاد المخلوقات العظيمة، فما كان إنكارهم إياه إلا عن مكابرة وتصميم على الكفر.
والمعنى: أن الأمر لا هذا ولا ذاك ولكنهم لا يوقنون بالبعث فهم ينكرونه بدون حجة ولا شبهة بل رانت المكابرة على قلوبهم.
[37] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} .
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} .
انتقال بالعودة إلى رد جحودهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك غير أسلوب الأخبار فيه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأصل الذي ركزوا عليه جحودهم توهم أن الله لو أرسل رسولا
من البشر لكان الأحق بالرسالة رجلا عظيما من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [صّ: من 8] وقال تعالى : {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يعنون قرية مكة وقرية الطائف.
والمعنى: إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمر على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبر فيما وكل عليه، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاءون ويمنعون من يشاءون.
والخزائن: جمع خزينة وهي البيت، أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات، أو المال وما هو نفيس عند خازنه، وتقدم عند قوله تعالى : {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [يوسف: 55]. وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات، ومنها اصطفاء من هيأه من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر، وقد تقدم في سورة الأنعام قوله : {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} سورة الأنعام: [50] قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقال : {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
وقد سلك معهم هنا مسلك الإيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله : {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم: كاهن، ومجنون، وشاعر. الخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله.
فقوله تعالى هنا : {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} هو كقوله في سورة ص:[8،9] {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [صّ:8] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} وقوله في سورة الزخرف [32 ] {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} .
وكلمة {عند} تستعمل كثيرا في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59 ] فالمعنى: أيملكون خزائن ربك، أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة {خَزَائِنُ} إلى {رَبُّكَ} على نحو {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [لنجم:35]. وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى : {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ} [الإسراء: 100].
{أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [37].
إنكار لأن يكون لهم تصرف في عطاء الله تعالى ولو دون تصرف المالك مثل تصرف الوكيل والخازن وهو ما عبر عنه بالمصيطرون.
والمصيطر: يقال بالصاد والسين في أوله: اسم فاعل من صيطر بالصاد والسين، إذا حفظ وتسلط، وهو فعل مشتق من سيطر إذا قطع، ومنه الساطور، وهو حديد يقطع به اللحم والعظم. وصيغ منه وزن فعيل للإلحاق بالرباعي كقولهم: بيقر، بمعنى هلك أو تحضر، وبيطر بمعنى شق، وهيمن، ولا خامس لها في الأفعال. وإبدال السين صادا لغة فيه مثل الصراط والسراط.
وقرأ الجمهور {الْمُصَيْطِرُونَ} بصاد. وقرأه قنبل عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر، وحفص في روايته بالسين في أوله.
وفي معنى الآية قوله تعالى {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: [32]، وليس في الآية الاستدلال لهذا النفي في قوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} لأن وضوحه كنار على علم. وقد تقدم في صدر تفسير هذه السورة حديث جبير بن مطعم لما سمع هذه الآية وكانت سبب إسلامه.
[38] {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} .
لما نفي أن يكون لهم تصرف قوي أو ضعيف في مواهب الله تعالى على عباده أعقبه بنفي أن يكون لهم اطلاع على ما قدره الله لعباده اطلاعا يخولهم إنكار أن يرسل الله بشرا أو يوحي إليه وذلك لإبطال قولهم {تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33] ومثل ذلك قولهم : {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} الطور:[الطور:30] المقتضي أنهم واثقون بأنهم يشهدون هلاكه. وحذف مفعول {يَسْتَمِعُونَ} ليعم كلاما من شأنه أن يسمع من الأخبار المغيبة بالمستقبل وغيره الواقع وغيره.
وسلك في نفي علمهم بالغيب طريق التهكم بهم بإنكار أن يكون لهم سلم يرتقون به إلى السماء ليستمعوا ما يجري في العالم العلوي من أمر تتلقاه الملائكة أو أهل الملأ الأعلى بعضهم مع بعض فيسترقوا بعض العلم مما هو محجوب عن الناس إذ من المعلوم أنه لا سلم يصل أهل الأرض بالسماء وهم يعلمون ذلك ويعلمه كل أحد.
وعلم من اسم السلم أنه آلة الصعود، وعلم من ذكر السماوات في الآية قبلها أن المراد سلم يصعدون به إلى السماء، فلذلك وصف ب {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أي يرتقون به إلى السماء فيستمعون وهم فيه، أي في درجاته الكلام الذي يجري في السماء. و {فِيهِ} ظرف مستقر حال من ضمير {يَسْتَمِعُونَ} ، أي وهم كائنون فيه لا يفارقونه إذ لا يفرض أنهم ينزلون منه إلى ساحات السماء.
وإسناد الاستماع إلى ضمير جماعتهم على اعتبار أن المستمع سفير عنهم على عادة استعمال الكلام العربي من إسناد فعل بعض القبيلة إلى جميعها إذا لم تصله عن عمله في قولهم: قتلت بنو أسد حجرا، ألا ترى أنه قال بعد هذا {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} ، أي من استمع منهم لأجلهم، أي أرسلوه للسمع. ومثل هذا الإسناد شائع في القرآن وتقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وما بعده من الآيات في سورة البقرة.[49].
و "في" للظرفية وهي ظرفية مجازية اشتهرت حتى ساوت الحقيقة لأن الراقي في السلم يكون كله عليه، فالسلم له كالظرف للمظروف، وإذ كان في الحقيقة استعلاء ثم شاع في الكلام فقالوا: صعد في السلم، ولم يقولوا: صعد على السلم ولذاك اعتبرت ظرفية حقيقية، أي حقيقة عرفية بخلاف الظرفية في قوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] لأنه لم يشتهر أن يقال: صلبه في جذع، بل يقال: صلبه على جذع، فلذلك كانت استعارة، فلا منافاة بين قول من زعم أن الظرفية مجازية وقول من زعمها حقيقة.
والفاء في {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} لتفريع هذا الأمر التعجيزي على النفي المستفاد من استفهام الإنكار. فالمعنى: فما يأتي مستمع منهم بحجة تدل على صدق دعواهم. فلام الأمر مستعمل في إرادة التعجيز بقرينة انتفاء أصل الاستماع بطريق استفهام الإنكار.
والسلطان: الحجة، أي حجة على صدقهم في نفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أو في كونه على وشك الهلاك.
والمراد بالسلطان ما يدل على إطلاعهم على الغيب من أمارات كأن يقولوا: آية صدقنا فيما ندعيه وسمعناه من حديث الملأ الأعلى، أننا سمعنا أنه يقع غدا حادث كذا وكذا مثلا، مما لا قبل للناس بعلمه، فيقع كما قالوا ويتوسم منه صدقهم فيما عداه. وهذا معنى وصف السلطان المبين، أي المظهر لصحة الدعوى.
هذا تحد لهم بكذبهم فلذلك اكتفى بأن يأتي بعضهم بحجة دون تكليف جميعهم بذلك على نحو قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْله} [البقرة:23] أي فليأت من يتعهد منهم بالاستماع بحجة. وهذا بمنزلة التذييل للكلام على نحو ما تقدم في قوله: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] وقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } [الطور:34].
[ 39] {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}.
لما جرى نفي أن تكون لهم مطالعة الغيب من الملأ الأعلى إبطالا لمقالاتهم في شؤون الربوبية أعقب ذلك بإبطال نسبتهم لله بنات استقصاء لإبطال أوهامهم في المغيبات من العالم العلوي، فهذه الجملة معترضة بين جملة {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور:38] وجملة {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} [ الطور: 40]، ويقدر الاستفهام إنكارا لأن يكون لله البنات.
ودليل الإنكار لنفس الأمر استحالة الولد على الله تعالى ولكن لما كانت عقول أكثر المخاطبين بهذا الرد غير مستعدة لإدراك دليل الاستحالة، وكان اعتقادهم البنات لله منكرا، تصدي لدليل الإبطال وسلك في إبطاله دليل إقناعي يتفطنون به إلى خطل رأيهم وهو قوله {وَلَكُمُ الْبَنُونَ} .
فجملة {وَلَكُمُ الْبَنُونَ} في موضع الحال من ضمير الغائب، أي كيف يكون لله البنات في حال أن لكم بنين وهم يعلمون أن صنف الذكور أشرف من صنف الإناث على الجملة كما أشار إليه قوله تعالى {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [ا لنجم:21، 22] فهذا مبالغة في تشنيع قولهم فليس المراد أنهم لو نسبوا لله البنين لكان قولهم مقبولة لأنهم لم يقولوا ذلك فلا طائل تحت إبطاله.
وتغير أسلوب الغيبة المتبع ابتداء من قوله {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} إلى أسلوب الخطاب التفات مكافحة لهم بالرد بجملة الحال.
وتقديم {لَكُمُ} على {الْبَنُونَ} لإفادة الاختصاص، أي لكم البنون دونه فهم لهم بنون وبنات، وزعموا أن الله ليس له إلا البنات.
وأما تقديم المجرور على المبتدأ في قوله {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ} فللاهتمام باسم الجلالة وقد أنهي الكلام بالفاصلة لأنه غرض مستقل.
[40 ]{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} .
هذا مرتبط بقوله {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [ الطور:33] وقوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: 37] إذ كل ذلك إبطالا للأسباب التي تحملهم على زعم انتفاء النبوة عن محمد صلى الله عليه وسلم فبعد أن أبطل وسائل اكتساب العلم بما زعموه عاد إلى إبطال الدواعي التي تحملهم على الإعراض عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك جاء هذا الكلام على أسلوب الكلام الذي اتصل هو به، وهو أسلوب خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال هنا {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} وقال هنالك {أم عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37].
والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} مستعمل في التهكم بهم بتنزيلهم منزلة من يتوجس خيفة من أن يسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم أجرا على إرشادهم.
والتهكم استعارة مبنية على التشبيه، والمقصود ما في التهكم من معنى أن ما نشأ عنه التهكم أمر لا ينبغي أن يخطر بالبال.
وجيء بالمضارع في قوله {تَسْأَلُهُمْ} لإفادة التجدد، أي تسألهم سؤالا متكررا لأن الدعوة متكررة، وقد شبهت بسؤال سائل.
وتفريع {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} لما فيه من بيان الملازمة بين سؤال الأجر وبين تجهم من يسأل والتحرج منه. وقد فرع قوله: {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} على الفعل المستفهم عنه لا على الاستفهام، أي ما سألتهم أجرا فيثقل غرمه عليهم، لأن الاستفهام في معنى النفي، والإثقال يتفرع على سؤال الأجر المفروض لأن مجرد السؤال محرج للمسؤول لأنه بين الإعطاء فهو ثقيل وبين الرد وهو صعب.
والمغرم بفتح الميم مصدر ميمي، وهو الغرم. وهو ما يفرض على أحد من عوض يدفعه.
والمثقل: أصله المحمل بشيء ثقيل، وهو هنا مستعار لمن يطالب بما يعسر عليه أداؤه، شبه طلبه أداء ما يعسر عليه بحمل الشيء الثقيل على من لا يسهل عليه حمله. وَ {مِنْ} للتعليل، أي مثقلون من أجل مغرم حمد عليهم.
والمعنى: أنك ما كلفتهم شيئا يعطونه إياك فيكون ذلك سببا لإعراضهم عنك تخلصا من أداء ما يطلب منهم، أي انتفى عذر إعراضهم عن دعوتك.
[41] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُون} .
هذا نظير الإضراب والاستفهام في قوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: [37]، أي بل أعندهم الغيب فهم يكتبون ما يجيدونه فيه ويروونه للناس، أما عندهم الغيب حتى يكتبوه، فبعد أن رد عليهم إنكارهم الإسلام بأنهم كالذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أجرا على تبليغها أعقبه برد آخر بأنهم كالذين أطلعوا على أن عند الله ما يخالف ما أدعى الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغه عن الله فهم يكتبون ما اطلعوا عليه فيجدونه مخالفا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال قتادة: لما قالوا {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] قال الله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغيب} أي حتى علموا متى يموت محمد أو إلى ما يؤول إليه أمره فجعله راجعا إلى قوله :{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] والوجه ما سمعته آنفا.
والغيب هنا مصدر بمعنى الفاعل، أي ما غاب عن علم الناس.
والتعريف في {الْغَيْبِ} تعريف الجنس وكلمة {عِنْدَ} ا تؤذن بمعنى الاختصاص والاستئثار، أي استأثروا بمعرفة الغيب فعلموا ما لعلم به غيرهم.
والكتابة في قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} يجوز أنها مستعارة للجزم الذي لا يقبل التخلف كقوله : {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] لأن شأن الشيء الذي يراد تحقيقه والدوام عليه أن يكتب ويسجل، كما قال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فيكون الخبر في قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} مستعملا في معناه من إفادة النسبة الخبرية.
ويجوز أن تكون الكتابة على حقيقتها، أي فهم يسجلون ما اطلعوا عليه من الغيب ليبقى معلوما لمن يطلع عليه ويكون الخبر من قوله : {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} مستعملا في معنى الفرض والتقدير تبعا لفرض قوله: {عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} ويكون من باب قوله تعالى : {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم:35] وقوله: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداًأَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 77،88 ].
وحاصل المعنى: أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه.
[42 ] {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} .
انتقال من نقض أقوالهم وإبطال مزاعمهم إلى إبطال نواياهم وعزائمهم من التبييت للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدعوة الإسلام من الإضرار والإخفاق وفي هذا كشف لسرائرهم
وتنبيه للمؤمنين للحذر من كيدهم.
وحذف متعلق {كَيْداً} ليعم كل ما يستطيعون أن يكيدوه فكانت هذه الجملة بمنزلة التتميم لنقض غزلهم والتذييل بما يعم كل عزم يجري في الأغراض التي جرت فيها مقالاتهم.
والكيد والمكر متقاربان وكلاهما إظهار إخفاء الضر بوجه الإخفاء تغريرا بالمقصود له الضر.
وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} وكان مقتضى الظاهر أن يقال فهم المكيدون لما تؤذن به الصلة من وجه حلول الكيد بهم لأنهم كفروا بالله، فالله يدافع عن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين وعن دينه كيدهم ويوقعهم فيما نووا إيقاعهم فيه.
وضمير الفصل أفاد القصر، أي الذين كفروا المكيدون دون من أرادوا الكيد بهم.
وإطلاق اسم الكيد على ما يجازيهم الله به عن كيدهم من نقض غزلهم إطلاق على وجه المشاكلة بتشبيه إمعان الله إياهم في نعمة إلى أن يقع بهم العذاب بفعل الكائد لغيره، وهذا تهديد صريح لهم، وقد تقدم قوله : {وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين} في سورة الأنفال.[30] ومن مظاهر هذا التهديد ما حل بهم يوم بدر على غير ترقب منهم.
والقول في تفريع {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} كالقول في تفريع قوله : {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [ الطور: 40].
[:43 ]{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
هذا آخر سهم في كنانة الرد عليهم وأشد رمي لشبح كفرهم، وهو شبح الإشراك وهو أجمع ضلال تنضوي تحته الضلالات وهو إشراكهم مع الله آلهة أخرى.
فلما كان ما نعي عليهم من أول السورة ناقضا لأقوالهم ونواياهم، وكان ما هم فيه من الشرك أعظم لم يترك عد ذلك عليهم من اشتهاره بعد استيفاء الغرض المسوق له الكلام لهذه المناسبة، ولذلك كان هذا المنتقل إليه بمنزلة التذييل لما قبله لأنه ارتقاء إلى الأهم في نوعه والأهم يشبه الأعم فكان كالتذييل، ونظيره في الارتقاء في كمال النوع قوله تعالى : {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد 13، 17] الآية.
وقد وقع قوله : {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} إتماما للتذييل وتنهية المقصود من فضح حالهم.
وظاهر أن الاستفهام المقدر بعدْ {أَمْ} استفهام إنكاري. واعلم أن الآلوسي نقل عن الكشف على الكشاف كلاما في انتظام الآيات من قوله تعالى : {يَقُولُونَ شَاعِرٌ} إلى قوله : {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} فيه نكت وتدقيق فانظره.
44-46 ] {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} .
عطف على جملة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} [الطور: 3] وما بعدها من الجمل الحالية لأقوالهم بمناسبة اشتراك معانيها مع ما في هذه الجملة في تصوير بهتانهم ومكابرتهم الدالة على أنهم أهل البهتان فلو أروا كسفا ساقطا من السماء وقيل لهم: هذا كسف نازل كابروا وقالوا هو سحاب مركوم.
ويجوز أن يكون {كِسَفاً} تلويحا إلى ما حكاه الله عنهم في سورة الإسراء {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً}. وظاهر ما حكاه الطبري عن ابن زيد أن هذه الآية نزلت بسبب قولهم ذلك، وإذ قد كان الكلام على سبيل الغرض فلا توقف على ذلك.
والمعنى: أن يروا كسفا من السماء مما سألوا أن يكون آية على صدقك لا يذعنوا ولا يؤمنوا ولا يتركوا البهتان بل يقولوا: هذا سحاب، وهذا المعنى مروي عن قتادة. وهو من قبيل قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14، 15].
والكسف بكسر الفاء: القطعة، ويقال: كسفه. وقد تقدم في سورة الإسراء.
و {مِنَ السَّمَاءِ} صفة ل {كِسَفاً} و {مِنَ} تبعيضية، أي قطعة من أجزاء السماء مثل القطع التي تسقط من الشهب.
والمركوم: المجموع بعضه فوق بعض يقال: ركمه ركما، وهو السحاب الممطر قال تعالى {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43].
والمعنى: أن يقع ذلك في المستقبل يقول سحاب، وهذا لا يقتضي أنه يقع لأن
أداة الشرط إنما تقتضي تعليق وقوع جوابها على وقوع فعلها لو وقع. وقع {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} خبر عن مبتدأ محذوف، وتقديره: هو سحاب وهذا سحاب.
والمقصود: أنهم يقولون ذلك عنادا مع تحققهم أنه ليس سحابا. ولكون المقصود أن العناد شيمتهم فرع عليه أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتركهم، أي يترك عرض الآيات عليهم، أي أن لا يسأل الله إظهار ما اقترحوه من الآيات لأنهم لا يقترحون ذلك طلبا للحجة ولكنهم يكابرون، قال تعالى {إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96،97]. وليس المراد ترك دعوتهم وعرض القرآن عليهم.
ويجوز أن يكون الأمر في قوله {فَذَرْهُمْ} مستعملا في تهديديهم لأنهم يسمعونه حتى يقرأ عليهم القرآن كما يقال للذي لا يرعوي عن غيه: دعه فإنه لا يقلع.
وأفادت الغاية أنه يتركهم إلى الأبد لأنهم بعد أن يصعقوا لا تعاد محاجتهم بالأدلة والآيات.
وقرأ الجمهور {يُلاقُوا} . وقرأه أبو جعفر {يلقوا} بدون ألف بعد اللام.
واليوم الذي فيه يصعقون: هو يوم البعث الذي يصعق عنده من في السماوات ومن في الأرض.
وإضافة اليوم إلى ضميرهم لأنهم اشتهروا بإنكاره وعرفوا بالذين لا يؤمنون بالآخرة. وذا نظير النسب في قول أهل أصول الدين: فلان قدري، يريدون أنه لا يؤمن بالقدر. فالمعنى بنسبته إلى القدر أنه يخوض في شأنه أو لأنه اليوم الذي أوعدوه، فالإضافة لأدنى ملابسة.
ونظيره قوله تعالى {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
والصعق: الإغماء من خوف أو هلع قال تعلى {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143]، وأصله مشتق من الصاعقة لأن المصاب بها يغمى عليه أو يموت، يقال: صعق، بفتح فكسر، وصعق بضم وكسر.
وقرأه الجمهور {يُصْعَقُونَ} بفتح المثناة التحتية، وقرأه ابن عامر وعاصم بضم المثناة.
وذلك هو يوم الحشر قال تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] وملاقاتهم لليوم مستعارة لوقوعه، شبه اليوم وهو الزمان بشخص غائب على طريقة المكنية وإثبات الملاقاة إليه تخييل. والملاقاة مستعارة أيضا للحلول فيه، والإتيان بالموصول للتنبيه على خطئهم في إنكاره.
و {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} بدل من {يَوْمِهِمْ} وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى معرب.
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج إلى ما تقوم به حاجياته، وإذا قيل: أغنى عنه كان معناه: أنه قام مقامه في دفع حاجة كان حقه أن يقوم بها، ويتوسع فيه بحذف مفعوله لظهوره من المقام.
والمراد هنا لا يغني عنهم شيئا من العذاب المفهوم من إضافة {يَوْمَ} إلى ضميرهم ومن الصلة في قوله {الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} .
و {كَيْدُهُمْ} من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما يكيدون به وهو المشار إليه بقوله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} [الطور: 42] أي لا يستطيعون كيدا يومئذ كما كانوا في الدنيا.
فالمعنى: لا كيد لهم فيغني عنهم على طريقة قول امرئ القيس:
على لا حب لا يهتدى بمناره
...
أي لا منارة له فيهتدى به.
وهذا ينفي عنهم التخلص بوسائل من فعلهم، وعطف عليه {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} لنفي أن يتخلصوا من العذاب بفعل من يخلصهم وينصرهم فانتفى نوعا الوسائل المنجية.
[47] {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
جملة معترضة والواو اعتراضية، أي وإن لهم عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة، وهو عذاب الجوع في سني القحط، وعذاب السيف يوم بدر.
وفي قوله: {لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال:
وإن له عذابا جريا على أسلوب قوله: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45] فخولف مقتضى الظاهر لإفادة علة استحقاقهم العذاب في الدنيا بأنها الإشراك بالله.
وكلمة {دُونِ} أصلها المكان المنفصل عن شيء انفصالا قريبا، وكثر إطلاقه على الأقل، يقال: هو في الشرف دون فلان، وعلى السابق لأنه قرب أقرب حلولا من المسبوق، وعلى معنى "غير"، و {دُونِ} في هذه الآية صالحة للثلاثة الأخيرة، إذ المراد عذاب في الدنيا وهو قل من عذاب الآخرة قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَر} [السجدة:21]، وهو مغاير له كما هو بين.
ولكون هذا العذاب مستبعدا عندهم وهم يرون أنفسهم في نعمة مستمرة كما قال تعالى {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [ فصلت:50] أكد الخبر ب {أَنَّ} فالتأكيد مراعى فيه شكهم حين يسمعون القرآن، كما دل عليه تعقيبه بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
والاستدراك الذي أفادته "لكن" راجع إلى مفاد التأكيد, أي هو واقع لا محالة ولكن أكثرهم لا يعلمون وقوعه، أي لا يخطر ببالهم وقوعه، وذلك من بطرهم وزهوهم ومفعول {لا يَعْلَمُونَ} محذوف اختصارا للعلم به وأسند عدم العلم إلى أكثرهم دون جميعهم لأن فيهم أهل رأي ونظر يتوقعون حلول الشر إذا كانوا في خير.
والظلم: الشرك قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وهو الغالب في إطلاقه في القرآن.
[ 48،49] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم} .
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .
عطف على جملة {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ} [الطور: 45] الخ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7] المسوق مساق التسلية له، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى الله عليه وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى
ختمت بالسورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمد الله شكرا له على تفضيله بالرسالة.
والمراد ب {ِحُكْمِ رَبِّك} ما حكم به وقدره من انتفاء إجابة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم.
فاللام في قوله: {لِحُكْمِ رَبُّكَ} يجوز أن تكون بمعنى "على" فيكون لتعدية فعل {اصْبِرْ} كقوله تعالى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون} [المزمل:10] ويجوز فيها معنى "إِلَى" أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} [يونس: 109] ويجوز أن تكون للتعليل فيكون {لِحُكْمِ رَبِّكَ} هو ما حكم به من إرساله إلى الناس، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك.
فللام في هذا الموقع جامع لا يفيد غير اللام مثله.
والتفريع في قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} تفريع العلة على المعلول {اصْبِرْ} لأنك بأعيننا، أي بمحل العناية والكلاءة منا، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم، وقد وفى بهذا كله التمثيل في قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، فإن الباء للإلصاق المجازي، أي لا نغفل عنك، يقال: هو بمرأى مني ومسمع، أي لا يخفى علي شأنه. وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من نصر والجزاء والحفظ.
وقد آذن بذلك قوله: {لِحُكْمِ رَبِّكَ} دون أن يقول: واصبر لحكمنا، أو لحكم الله، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب.
وجمع الأعين:أمامبالغة في التمثيل كأن الملاحظة بأعين عديدة كقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود:37] وهو من قبيل {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذريات: 47].
ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلقات الملاحظة فملاحظة للذب عنه، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة, وملاحظة لجزاء إعداده بما يستحقونه، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به، وهذا الجمع على نحو قوله تعالى في قصة نوح {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13، 14] لأن عناية الله بأهل السفينة تتعلق بإجرائها وتجنيب الغرق عنها وسلامة ركابها واختيار الوقت لإرسائها وسلامة الركاب في هبوطهم، وذلك خلاف قوله في قصة موسى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فإنه
تعلق واحد بمشي أخته إلى آل فرعون وقولها {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه: 40].
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُوم} [49].
التسبيح: التنزيه، والمراد ما يدل عليه من قول، وأشهر ذلك هو قول سبحان الله وما يرادفه من الألفاظ، ولذاك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار.
والباء في قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} للمصاحبة جمعا بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال.
و {حِينَ تَقُومُ} وقت الهبوب من النوم، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أمر بالصبر والتسبيح والحمد.
فالتسبيح مراد به: الصلاة، والقيام: جعل وقت للصلوات: إما للنوافل، وإما للصلاة الفريضة وهي الصبح.
وقيل: التسبيح في قوله سبحان الله، والقيام: الاستعداد للصلاة و الهبوب من النوم وروى ذلك عن عوف بن مالك وابن زيد والضحاك على تقارب بين أقوالهم، أي يقول القائم: سبحان الله وبحمده أو سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ولا إله غيرك.
وعن عوف بن مالك وابن مسعود وجماعة: أن المراد بالقيام القيام من المجلس لما روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من جلس مجلسا فكثر فيه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" ولم يذكر أنه قرأ هذه الآية.
و {مِنَ اللَّيْلِ} أي زمنا هو بعض الليل، فيشمل وقت النهي للنوم وفيه تتوارد على الإنسان ذكريات مهماته، ويشمل وقت التهجد في الليل.
وقوله: {فَسَبِّحْهُ} اكتفاء، أي واحمده.
وانتصب {وَإِدْبَارَ النُّجُوم} على الظرفية لأنه على تقدير: ووقت إدبار النجوم.
والإدبار: رجوع الشيء من حيث جاء لأنه ينقلب إلى جهة الدبر، أي الظهر.
وإدبار النجوم: سقوط طوالعها، فإطلاق الإدبار هنا مجاز في المفارقة والمزايلة،
أي عند احتجاب النجوم. وفي الحديث "إذا أقبل الليل من ههنا" الإشارة إلى المشرق "وأدبر النهار من ههنا" الإشارة إلى جهة الغرب "فقد أفطر الصائم".
وسقوط طوالعها التي تطلع: أنها تسقط في جهة المغرب عند الفجر إذا أضاء عليها ابتداء ظهور شعاع الشمس، فإدبار النجوم: وقت السحر، وهو وقت يستوفي فيه الإنسان حظه من النوم ويبقى فيه ميل إلى استصحاب الدعة، فأمر بالتسبيح فيه ليفصل بين النوم المحتاج إليه وبين التناوم الناشىء عن التكاسل، ثم إن وجد في نفسه بعد التسبيح حاجة إلى غفوة من النوم اضطجع قليلا إلى أن يحين وقت صلاة الصبح، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد صلاة الفجر حتى يأتيه المؤذن بصلاة الصبح.
والنجوم: جمع نجم وهو الكوكب الذي يضيء في الليل غير القمر، وتقدم قوله تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ} في سورة النحل[12].
والآية تشير إلى أوقات الرغائب من النوافل وهي صلاة الفجر والأشفاع بعد العشاء وقيام آخر الليل. وقيل: أشارت إلى الصلوات الخمس بوجه الإجمال وبينته السنة.
سم الله الرحمن الرحيم
سورة النجمسميت سورة النجم بغير واو في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه. وقال: يكفني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. وهذا الرجل أمية بن خلف. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون. فهذه تسمية لأنها ذكر فيها النجم.
وسموها سورة والنجم بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أوله وكذلك ترجمها البخاري في التفسير والترمذي في جامعه .
ووقعت في المصاحف بالوجه وهو من تسمية السورة بلفظ وقع في أولها وهو لفظ النجم أو حكاية لفظ والنجم .
وسموها {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] كما في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فلم يسجد ، أي في زمن آخر غير الوقت الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس. وهذا كله اسم واحد متوسع فيه فلا تعد هذه السورة بين السور ذوات أكثر من اسم.
وهي مكية، قال ابن عطية: بإجماع المتأولين. وعن ابن عباس وقتادة: استثناء قوله تعالى {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32] الآية قالا: هي آية مدنية. وسنده ضعيف. وقيل: ونسب إلى الحسن البصري: أن السورة كلها مدنية، وهو شذوذ.
وعن ابن مسعود هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
وهي السورة الثالثة والعشرون في عد ترتيب السور. نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس.
وعد الجمهور العادين آيها إحدى وستين، وعدها أهل الكوفة أثنتين وستين.
قال ابن عطية: سبب نزولها أن المشركين قالوا: إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك.
أغراض هذه السورة
أول أغراضها تحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما نبلغه عن الله تعالى وإنه منزه عما ادعوه.
وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل.
وتقريب صفة نزول جبريل بالوحي في حالين زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة.
وإبطال إلهية أصنام المشركين.
وإبطال قولهم في اللات والعزى ومناة بنات الله وأنها أوهام لا حقائق لها وتنظير قولهم فيها بقولهم في الملائكة أنهم إناث.
وذكر جزاء المعرضين والمهتدين وتحذيرهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة.
وإبطال قياسهم عالم الغيب على عالم الشهادة وأن ذلك ضلال في الرأي قد جاءهم بضده الهدى من الله. وذكر لذلك مثال من قصة الوليدين المغيرة، أو قصة ابن أبي سرح.
وإثبات البعث والجزاء.
وتذكيرهم بما حل بالأمم ذات الشرك من قبلهم وبمن جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الرسل أهل الشرائع.
وإنذارهم بحادثة تحل بهم قريبا.
وما تخلل ذلك من معترضات ومستطردات لمناسبات ذكرهم عن أن يتركوا أنفسهم.
وأن القرآن حوى كتب الأنبياء السابقين.
[1-3] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى[1] مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى[2] وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [3]} .
كلام موجه من الله تعالى إلى المشركين الطاعنين في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
والنجم: الكوكب أي الجرم الذي يبدو للناظرين لامعا في جو السماء ليلا.
أقسم الله تعالى بعظيم من مخلوقاته دال على عظيم صفات الله تعالى.
وتعريف {النَّجْمُ} باللام، يجوز أن يكون للجنس كقوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]. وقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]، ويتمل تعريف العهد. وأشهر النجوم بإطلاق اسم النجم عليه الثريا لأنهم كانوا يوقتون بأزمان طلوعها مواقيت الفصول ونضج الثمار، ومن أقوالهم: طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كمساء طلع النجم غدية وابتغى الراعي شكية تصغير شكوة وعاء من جلد يوضع فيه الماء واللبن يعنون ابتداء زمن البرد وابتداء زمن الحر.
وقيل {النَّجْمُ} الشعرى اليمانية وهي العبور وكانت معظمة عند العرب وعبدتها خزاعة.
ويجوز أن يكون المرادب {النَّجْمُ} الشهاب، وبهوية:سقوطه من مكانه إلى مكان آخر، قال تعالى :{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:6،7] وقال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
والقسم ب {النَّجْمُ} لما في خلقه من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى، ألا ترى إلى قول الله حكاية عن إبراهيم {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76].
وتقييد القسم بالنجم بوقت غروبه لإشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أوجه في شرف الارتفاع في الأفق على أنه تسخير لقدرة الله تعالى، ولذلك قال إبراهيم {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76].
والوجه أن يكون {إِذَا هَوَى} بدل اشتمال من النجم، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ومن أعظم أحواله حال هويه، ويكون {إِذَا} اسم زمان
مجردا عن معنى الظرفية في محل جر بحرف القسم، وبذلك نتفادى من إشكا ل طلب متعلق {إِذَا} وهو إشكال أورده العلامة الجنزي1 على الزمخشري، قال الطيبي وفي المقتبس قال الجنزي: فاوضت جار الله في قوله تعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ما العامل في {إِذَا} ? فقال: العامل فيه ما تعلق به الواو, فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل وهذا لأم معناه قسم الآن, وليس معناه أقسم بعد هذا2 فرجع وقال: العامل فيه مصدر محذوف تقديره: وهوي النجم إذا هوى, فعرضته على زين المشائخ3 فلم يستحسن قوله الثاني. والوجه أ ن {إِذَا} قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد, ونحوه: آتيك إذا احمر البسر, أي وقت احمراره فقد عري عن معنى الاستقبال لأنه وقعت الغنية عنه بقوله: آتيك اهـ . كلام الطيبي, فقوله: فالوجه يحتمل أن يكون من كلام زين المشائخ أو من كلام صاحب المقتبس أو من كلام الطيبي, وهو وجيه وهو أصل ما بنينا عليه موقع {إِذَا} هنا, وليس تردد الزمخشري في الجواب إلا لأنه يلتزم أن يكون إ ذا ظرفا للمستقبل كما هو مقتضى كلامه في المفصل مع أن خروجها عن ذلك كما تواطأت عليه أقوال المحققين.
والهوي: السقوط, أطلق هنا على غروب الكوكب, استعير الهوي إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهوي: سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء, فهو هوي حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه.
وفي ذكر {إِذَا هَوَى} احتراس من أن يتوهم المشركون أن في القسم بالنجم إقرارا لعبادة نجم الشعرى, وأن القسم به اعتراف بأنه إله إذ كان بعض قبائل العرب يعبدونها فإن حالة الغروب المعبر عنها بالهوي حالة انخفاض ومغيب في تخيل الرائي لأنهم يعدون طلوع النجم أوجا لشرفه ويعدون غروبه حضيضا, ولذلك قال الله تعالى :{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [ الأنعام: 76].
ـــــــ
1 هو عمر بن عثمان بن الحسن الجنزي بفتح الجيم وسكون النون نسبة إلى جنزة أعظم مدينة بأران قرأ على أبي المظفر الأبيوردي وتوفي بمرو سنة 550هـ.
2 يريد أن مقتضى حرف القسم فعل إنشائي حاصل في حال النطق ومقتضى إذا الزمن المستقبل فتنافيا.
3 هو محمد بن أبي القاسم بن بايجوك البقالي الأدمي أو الآدمي الخوارزمي النحوي أخذ اللغة والنحو عن الزمخشري ، وجلس بعد مكانه توفي سنة 562هـ عن نيف وسبعين سنة.
ومن مناسبات هذا يجيء قوله : {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} في هذه السورة, وتلك اعتبارات لهم تخيلية شائعة بينهم فمن النافع موعظة الناس بذلك لأنه كاف في إقناعهم وصولا إلى الحق.
فيكون قوله : {إِذَا هَوَى} إشعارا بأن النجوم كلها مسخرة لقدرة الله في مسيرة في نظام أوجدها عليه ولا اختيار لها فليست أهلا لأن تعبد فحصل المقصود من القسم بما فيها من الدلالة على القدرة الإلهية مع الاحتراس عن اعتقاد عبادتها.
وقال الراغب قيل أراد بذلك أي {النَّجْمُ} القرآن المنزل المنجم قدرا فقدرا, ويعني بقوله : {هَوَى} نزوله اه.
ومناسبة القسم ب {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} , أن الكلام مسوق لإثبات أن القرآن وحي من الله منزل من السماء فشابه حال نزوله الاعتباري حال النجم في حالة هويه مشابهة تمثيلية حاصلة من نزول شيء منير إنارة معنوية نازل من محل رفعة معنوية, شبه بحالة نزول نجم من أعلى الأفق إلى أسفله وهو تمثيل المعقول بالمحسوس, أو الإشارة إلى مشابهة حالة نزول جبريل من السماوات بحالة نزول النجم من أعلى مكانه إلى أسفله, أو بانقضاض الشهاب تشبيه محسوس بمحسوس, وقد يشبهون سرعة الجري بانقضاض الشهاب, قال أوس بن حجر يصف فرسا:
فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
والضلال: عدم الاهتداء إلى الكريق الموصول إلى المقصود, وهو مجاز في سلوك ما ينافي الحق.
والغواية: فساد الرأي وتعلقه بالباطل.
والصاحب: الملازم للذي يضاف إليه وصف صاحب, والمراد بالصاحب هنا: الذي له ملابسات وأحوال مع المضاف إليه, والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كقول أبي معبد الخزاعي الوارد في أثناء قصة الهجرة لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته وفيها أم معبد وذكرت له معجزة مسحه على ضرع شاتها هذا صاحب قريش , أي صاحب الحوادث الحادثة بينه وبينهم.
وإيثار التعبير عنه بوصف {صَاحِبُكُمْ} تعريض بأنهم أهل بهتان إذ نسبوا إليه ما ليس منه في شيء مع شدة اطلاعهم على أحواله وشؤونه إذ هو بينهم في بلد لا تتعذر فيه إحاطة
علم أهله بحال واحد معين مقصود من بينهم. ووقع في خطبة الحجاج بعد دير الجماجم قوله للخوارج ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتم الكفر يريد أنه لا تخفى عنه أحوالهم فلا يحاولون التنصل من ذنوبهم بالمغالطة والتشكيك.
وهذا رد من الله على المشركين وإبطال في قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قالوا: مجنون, وقالوا: شاعر, وقالوا في القرآن: إن هذا إلا اختلاق.
فالجنون من الضلال لأن المجنون لا يهتدي إلى وسائل الصواب, والكذب والسحر ضلال وغواية, والشعر المتعارف بينهم غواية كما قال تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] أي يحبذون أقوالهم لأنها غواية.
وعطف على جواب القسم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وهذا وصف كمال لذاته. والكلام الذي ينطق به هو القرآن لأنهم قالوا فيه {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان:4] وقالوا {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان: 5 ] وذلك ونحوه لا يعدو أن يكون اختراعه أو اختياره عن محبة لما يجترع وما يختار بقطع النظر عن كونه حقا أو باطلا، فإن من الشعر حكمة، ومنه حكاية واقعات، ومنه تخيلات ومفتريات. وكله ناشئ عن محبة الشاعر أن يقول ذلك، فأراهم الله أن القرآن داع إلى الخير.
و"ما" نافية نفت أن ينطق عن الهوى.
والهوى: ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم، ولذلك يختلف الناس في الهوى ولا يختلفون في الحق، وقد يحب المرء الحق والصواب فالمراد بالهوى إذا أطلق أنه الهوى المجرد عن الدليل.
ونفي النطق عن هوى يقتضي نفي جنس ما ينطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم.
واعلم أن تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة. ولذلك ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمزح ولا يقول إلا حقا وهنا تم إبطال قولهم فحسن الوقف على قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} .
وبين {هَوَى} و {الهوى} جناس شبه التام.
[ 4-10] {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .
استئناف بياني لجملة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [لنجم:3].
وضمير {هُوَ} عائد إلى المنطوق به المأخوذ من فعل ٌ {يَنْطِقُ} كما في قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائد:8] أي العدل المأخوذ من فعل {اعْدِلُوا} .
ويجوز أن يعود الضمير إلى معلوم من سياق الرد عليهم لأنهم زعموا في أقوالهم المردودة بقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] زعموا القرآن سحرا، أو شعرا، أو كهانة، أو أساطير الأولين، أو إفكا افتراه.
وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بغير القرآن عن وحي كما في حديث الحديبية في جوابه للذي سأله: وما يفعل المعتمر? وكقوله "إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها" ومثل جميع الأحاديث القدسية التي فيها قال الله تعالى ونحوه.
وفي سنن أبي داود و الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه" .
وقد ينطق عن اجتهاد كأمره بكسر القدور التي طبخت فيها الحمر الأهلية فقيل له: أونهريقها ونغسلها? فقال: "أو ذاك".
فهذه الآية بمعزل عن إيرادها في الاحتجاج لجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها كان نزولها في أول أمر الإسلام وإن كان الأصح أن يجوز له الاجتهاد وأنه وقع منه وهي من مسائل أصول الفقه.
والوحي تقدم عند قوله تعالى :{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} في سورة النساء[163] وجملة {يُوحَى} مؤكدة لجملة { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} مع دلالة المضارع على أن ما ينطق به متجدد وحيه غير منقطع.
ومتعلق {يُوحَى} محذوف تقديره: إليه، أي إلى صاحبكم.
وترك فاعل الوحي لضرب من الإجمال الذي يعقبه التفصيل لأنه سيرد بعده ما يبينه من قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .
وجملة {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} الخ، مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان كيفية الوحي.
وضمير الغائب في {عَلَّمَهُ} عائد إلى الوحي، أو إلى ما عاد إليه ضمير {هُوَ} من قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} وضمير {هُوَ} يعود إلى القرآن، وهو ضمير في محل أحد مفعولي علم وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: علمه إياه، يعود إلى {صَاحِبُكُمْ} ، ويجوز جعل هاء {عَلَّمَهُ} عائدا إلى {صَاحِبُكُمْ} والمحذوف عائد إلى {وَحْيٌ} إبطالا لقول المشركين {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
و علم هنا متعد إلى مفعولين لأنه مضاعف علم المتعدي إلى مفعول واحد.
و {شَدِيدُ الْقُوَى} : صفة لمحذوف يدل عليه ما يذكر بعد مما هو من شؤون الملائكة، أي ملك شديد القوى. واتفق المفسرون على أن المراد به جبريل عليه السلام.
والمراد ب {الْقُوَى} استطاعة تنفيذ ما يأمر الله به من الأعمال العظيمة العقلية والجسمانية، فهو الملك الذي ينزل على الرسل بالتبليغ.
والمرة، بكسر الميم وتشديد الراء المفتوحة، تطلق على قوة الذات وتطلق على متانة العقل وأصالته، وهو المراد هنا لأنه قد تقدم قبله ووصف بشديد القوى، وتخصيص جبريل بهذا الوصف يشعر بأنه الملك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء، ولذلك لما ناول الملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء كأس لبن وكأس خمر، فاختار اللبن قال له جبريل: اخترت الفطرة ولو أخذت الخمر غوت أمتك.
وقوله: {فَاسْتَوَى} مفرع على ما تقدم من قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}.
والفاء لتفصيل {عَلَّمَهُ} ، والمستوي هو جبريل. ومعنى استوائه: قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله، كما يقال: استقل قائما، ومثل: بين يدي فلان، فاستواء جبريل هو مبدأ التهيؤ لقبول الرسالة من عند الله، ولذلك قيد هذا الاستواء بجملة الحال في قوله: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} . والضمير لجبريل لا محالة، أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي.
والأفق: اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طرف منتهى النظر من الأرض وبين
منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب.
ووصفه ب {الْأَعْلَى} في هذه الآية يفيد أنه ناحية من جو السماء. وذكر هذا ليرتب عليه قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} .
{ثُمَّ} عاطفة على جملة {فَاسْتَوَى} ، والتراخي الذي تقيده {ثُمَّ} تراخ رتبي لأن الدنو يبلغ الوحي هو الأهم في هذا المقام.
والدنو: القرب، وإذ قد كان فعل الدنو قد عطف ب {ثُمَّ} على {فَاسْتَوَى} {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} علم أنه دنا إلى العالم الأرضي أي أخذ في الدنو بعد أن تلقى ما يبلغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتدلى: انخفض من علو قليلا، أي ينزل من طبقات إلى ما تحتها كما يتدلى الشيء المعلق في الهواء بحيث لو رآه الرائي يحسبه متدليا، وهو ينزل من السماء غير منقض.
وقاب، وقيل معناه: قدر. وهو واوي العين، ويقال: قاب وقيب بكسر القاف، وهذا ما درج عليه أكثر المفسرين. وقيل يطلق القاب على ما بين مقبض القوس أي وسط عوده المقوس وما بين سيتيها أي طرفيها المنعطف الذي يشد به الوتر فللقوس قابان وسيتان، ولعل هذا الإطلاق هو الأصل للآخر، وعلى هذا المعنى حمل الفراء والزمخشري وابن عطية وعن سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ولكل قوس قاب واحد.
وعلى كلا التفسيرين فقوله: {قَابَ قَوْسَيْنِ} أصله قابي قوس أو قابي قوسين بتثنية أحد اللفظين المضاف والمضاف إليه، أو كليهما فوقع إفراد أحد اللفظين أو كليهما تجنبا لثقل المثنى كما في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أي قلباكما.
وقيل يطلق القوس في لغة أهل الحجاز على ذراع يذرع به ولعله ذا مصدر قاس فسمي به ما يقاس به
والقوس: آلة من عود نبع، مقوسة يشد بها وتر من جلد ويرمي عنها السهام. والنشاب وهي في مقدار الذراع عند العرب.
وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع
بقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة فكانت قواه البشرية يومئذ غير معتادة لتمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئا يشق عليه، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغط قال النبي صلى الله عليه وسلم "فغطني حتى بلغ مني الجهد" ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثر وسورة المزمل قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة أنه جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيان الإيمان والإسلام بقوله إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته "يا عمر أتدري من السائل? قال عمر: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
وقوله: {أَوْ أَدْنَى} {أَوْ} فيه للتخيير للتقدير، وهو مستعمل في التقريب، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخير بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقرير لا مبالغة فيه.
وتفريع {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} على قوله: {فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} المفرع على المفرع على قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبين لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالا، وهذه كيفية من صور الوحي.
وضمير {أَوْحَى} عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} كما تقدم، والمعنى: فأوحى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كاف في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإيحاء لإبطال إنكارهم إياه.
وإيثار التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان {عَبْدِهِ} إظهار في مقام الإضمار في اختصاص الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف.
وفي قوله: {ما أَوْحَى} إيهام لتفخيم ما أوحى إليه.
[11،12] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [11] أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [12]} .
الأظهر أن هذا رد لتكذيب من المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الملك جبريل وهو الذي يؤذن به قوله بعد {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} .
واللام في قوله: {الْفُؤَادُ} عوض عن المضاف إليه، أي فؤاده وعليه فيكون تفريغ الاستفهام في قوله {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} استفهاما إنكاريا لأنهم ماروه.
ويجوز أن يكون قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} تأكيدا لمضمون قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} [لنجم: 9] فإنه يؤذن بأنه بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم برفع احتمال المجاز في تشبيه القرب، أي هو قرب حسي وليس مجرد اتصال روحاني فيكون الاستفهام في قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} مستعملا في الفرض والتقدير، أي أفستكذبونه فيما يرى بعينيه كما كذبتموه فيما بلغكم عن الله، كما يقول قائل أتحسبني غافلا وقول عمر بن الخطاب للعباس وعلي في قضيتهما أتحاولان مني قضاء غير ذلك.
وقرأ الجمهور {مَا كَذَبَ} بتخفيف الذال، وقرأه هشام عن ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الذال، والفاعل والمفعول على حالهما كما في قراءة الجمهور.
والفؤاد: العقل في كلام العرب قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} [القصص: 10].
والكذب: أطلق على التخييل والتلبيس من الحواس كما يقال: كذبته عينه.
و {مَا} موصولة، والرابط محذوف وهو ضمير عائد إلى {عَبْدِهِ} في قوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [لنجم: 10] أي ما رآه عبده ببصره.
وتفريع {أَفَتُمَارُونَهُ} على جملة {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} .
وقرأ الجمهور {أَفَتُمَارُونَهُ} من المماراة وهي الملاحات والمجادلة في الإبطال. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف {أفتما رونه} بفتح الفوقية وسكون الميم مضارع مراه إذا جحده، أي أتجحدونه أيضا فيما رأى، ومعنى القراءتين متقارب.
وتعدية الفعل فيهما بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى الغلبة، أي هبكم غالبتموه على
عبادتكم الآلهة، وعلى الإعراض عن سماع القرآن ونحو ذلك أتغلبونه على ما رأى ببصره.
[ 13-18] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [13] عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [14] عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [15] إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [16] مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [17] لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [18]} .
أي إن كنتم تجحدون رؤيته في الأرض فلقد رآه رؤية أعظم منها إذ رآه في العالم العلوي مصاحبا، فهذا من الترقي في بيان مراتب الوحي، والعطف عطف قصة على قصة أبتدئ بالأضعف وعقب بالأقوى.
فتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق لأجل ما في هذا الخبر من الغرابة من حيث هو قد رأى جبريل ومن حيث أنه عرج به إلى السماء ومن الأهمية من حيث هو دال على عظيم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم، فضمير الرفع في {رَآهُ} عائد إلى {صَاحِبُكُمْ} [لنجم: 2]، وضمير النصب عائد إلى جبريل.
و {نَزْلَةً} فعل من النزول فهو مصدر دال على المرة: أي في مكان آخر من النزول الذي هو الحلول في المكان، ووصفها ب {أُخْرَى} . بالنسبة إلى ما في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [لنجم:8] فإن التدلى نزول بالمكان الذي بلغ إليه.
وانتصاب {نَزْلَةً} على نزع الخافض، أو على النيابة عن ظرف المكان، أو على حذف مضاف بتقدير: وقت نزلة أخرى: فتكون نائبا عن ظرف الزمان.
وقوله: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} متعلق ب {رَآهُ} وخصت بالذكر رؤيته عند سدرة المنتهى لعظيم شرف المكان بما حصل عنده من آيات ربه الكبرى ولأنها منتهى العروج في مراتب الكرامة.
و {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} اسم أطلقه القرآن على مكان علوي فوق السماء السابعة، وقد ورد التصريح بها في حديث المعراج من الصحاح عن جمع من الصحابة.
ولعله شبه ذلك المكان بالسدرة التي هي واحدة شجر السدر إما في صفة تفرعه، وإما في كونه حدا انتهى إليه قرب النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع لم يبلغه قبله ملك. ولعله مبني على إصلاح عندهم بأن يجعلوا في حدود البقاع سدرا.
إضافةَ {سِدْرَةِ} إلى {الْمُنْتَهَى} يجوز أن تكون إضافية بيانية. ويجوز كونها تعريف السدرة بمكان ينتهي إليه لا يتجاوزه أحد لأن ما وراءه لا تطيقه المخلوقات.
والسدرة: واحدة السدر وهو شجر النبق قالوا: ويختص بثلاث أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فجعلت السدرة مثلا المكان ما جعلت النخلة مثلا للمؤمن.
وفي قوله: {مَا يَغْشَى} إبهام للتفخيم الإجمالي وأنه تضيق عنه عبارات الوصف في اللغة.
وجنة المأوى: الجنة المعروفة بأنها مأوى المتقين فإن الجنة منتهى مراتب ارتقاء الأرواح الزكية. وفي حديث الإسراء بعد ذكر سدرة المنتهى "ثم أدخلت الجنة".
وقوله :{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ظرف مستقر في موضع الحال من {سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أريد به التنويه بما حف بهذا المكان المسمى سدرة المنتهى من الجلال والجمال. وفي حديث الإسراء "حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي" . وفي رواية "غشيها نور من الله ما يستطيع أحد أن ينظر إليها" ، وما حصل فيه للنبي صلى الله عليه وسلم من التشريف بتلقي الوحي مباشرة من الله دون واسطة الملك ففي حديث الإسراء "حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلام ففرض الله على أمتي خمسين صلاة" الحديث.
وجملة {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} معترضة وهي في معنى جملة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} إلى آخرها، أي رأى جبريل رؤية لا خطأ فيها ولا زيادة على ما وصف، أي لا مبالغة.
والزيغ: الميل عن القصد، أي ما مال بصره إلى مرئي آخر غير ما ذكر، والطغيان: تجاوز الحد.
وجملة {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} تذييل، أي رأى آيات غير سدرة المنتهى، وجنة المأوى، وما غشي السدرة من البهجة والجلال، رأى من آيات الله الكبرى.
والآيات: دلائل عظمة الله تعالى التي تزيد الرسول ارتفاعا.
[19-23 ] {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [19]وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [20] أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الْأُنْثَى [21] تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى [22] إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} .
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .
لما جرى في صفة الوحي ومشاهدة رسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وما دل على شؤون جليلة من عظمة الله تعالى وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وشرف جبريل عليه السلام إذ وصف بصفات الكمال ومنازل العزة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعروج في المنازل العليا، كان ذلك مما يثير موازنة هذه الأحوال الرفيعة بحال أعظم آلهتهم الثلاث في زعمهم وهي: اللات، والعزى، ومناة التي هي أحجار مقرها الأرض لا تملك تصرفا ولا يعرج بها إلى رفعة. فكان هذا التضاد جامعا خياليا يقتضي تعقيب ذكر تلك الأحوال بذكر أحوال هاته.
فانتقل الكلام من غرض إثبات النبي صلى الله عليه وسلم موحى إليه بالقرآن، إلى إبطال عبادة الأصنام، ومناط الإبطال قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .
فالفاء لتفريع الاستفهام وما بعده على جملة {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [لنجم:12] المفرعة على جملة {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [لنجم:11].
والروية في {أَفَرَأَيْتُمْ} يجوز أن تكون بصرية تتعدى إلى مفعول واحد فلا تطلب مفعولا ثانيا ويكون الاستفهام تقريريا تهكميا، أي كيف ترون اللات والعزى ومناة بالنسبة لما وصف في عظمة الله تعالى وشرف ملائكته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تهكم بهم وإبطال لإلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى، ودليله العيان. وأكثر استعمال َ أَرَأَيْتَ أن تكون للرؤية البصرية على ما اختاره رضي الدين.
وتكون جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} الخ استئنافا وارتقاء في الرد أو بدل اشتمال من جملة {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} لأن مضمونا مما تشتمل عليه مزاعمهم، كانوا يزعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله كما حكى عنهم ابن عطية وصاحب الكشاف وسياق الآيات يقتضيه.
ويجوز أن يكون الرؤية علمية، أي أزعمتم اللات والعزى ومناة فحذف المفعول الثاني اختصارا لدلالة قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} عليه والتقدير: أزعمتموهن بنات
الله، أتجعلون له الأنثى وأنتم تبتغون الأبناء الذكور، وتكون جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ} الخ بيانا للإنكار وارتقاء في إبطال مزاعمهم، أي أتجعلون لله البنات خاصة وتغتبطون لأنفسكم بالبنين الذكور.
وجعل صاحب الكشف قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} سادا ومسد المفعول الثاني أرأيتم.
وأيضا لما كان فيما جرى من صفة الوحي ومنازل الزلفى التي حضي بها النبي صلى الله عليه وسلم وعظمة جبريل إشعار بسعد قدرة الله تعالى وعظيم ملوكته مما يسجل على المشركين في زعمهم شركاء لله أصناما مثل اللات والعزى ومناة. فساد زعمهم وسفاهة رأيهم أعقب ذكر دلائل العظمة الإلهية بإبطال إلهية أصنامهم بأنها أقل من مرتبة الإلهية إذ تلك أوهام لا حقائق لها ولكن اخترعتها مخيلات أهل الشرك ووضعوا لها أسماء ما لها حقائق ففرع {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} الخ فيكون الاستفهام تقريريا إنكاريا، والرؤيا علمية والمفعول الثاني هو قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} .
وتكون جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} الخ معترضة بين المفعولين للارتقاء في الإنكار، أي وزعتموهن بنات لله أو وزعتموهم الملائكة بنات لله.
وهذه الوجوه غير متنافية فنحملها على أن جميعا مقصود في هذا المقام.
ولك أن تجعل فعل أرأيتم على اعتبار الرؤية علمية معلقا عن العمل لوقوع {إِنَّ} النافية بعده في قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} وتجعل جملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} إلى قوله: {ضِيزَى} اعتراضا.
واللات: صنم كان لتثقيف بالطائف، وكانت قريش وجمهور العرب يعبدونه، وله شهرة عند قريش، وهو صخرة مربعة بنوا عليها بناء. وقال الفخر: كان على صورة إنسان،وكان في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى كذا قال القرطبي فلعل المسجد كانت له منارتان.
والألف واللام في أول {اللَّاتَ} زائدتان. و"أل" الداخلة عليه زائدة ولعل ذلك لأن أصله: لات، بمعنى معبود، فلما أرادوا جعله علما على معبود خاص أدخلوا عليه لام تعريف العهد كما في {اللَّهِ} فإن أصله إله. ويوفق عليه بسكون تاءه في الفصحى.
وقرأ الجمهور: {اللَّاتَ} بتخفيف المثناة الفوقية. وقرأ رويس عن يعقوب بتشديد
التاء وذلك لغة في هذا الاسم لأن كثيرا من العرب يقولون: أصل صخرته موضع كان يجلس عليه رجل في الجاهلية يلت السويق للحاج فلما مات اتخذوا مكانه معبدا.
و {العزى} : فعل من العز: اسم صنم حجر أبيض عليه بناء وقال الفخر: كان على صورة نبات ولعله يعني: أن الصخرة فيها صورة شجر، وكان ببطن نخلة فوق ذات عرق وكان الجمهور العرب يعبدونها وخاصة قريش وقد قال أبو سفيان يوم أحد يخاطب المسلمين لنا العزى ولا عزى لكم.
وذكر الزمخشري في تفسير سورة الفاتحة أن العرب كانوا إذ شرعوا في عمل قالوا: باسم اللات باسم العزى.
وأما {وَمَنَاةَ} فعلم مرتجل، وهو مؤنث فحقه أن يكتب بها تأنيث في آخره ويوقف عليه بالهاء، ويكون ممنوعا من الصرف، وفيه لغة بالتاء الأصلية في آخره فيوقف عليه بالتاء ويكون مصروفا لأن تاء لات مثل باء باب، وأصله: منوة بالتحريك وقد يمد فيقال: منآءة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقياس الوقف عليه أن يوقف عليه بالهاء، وبعضهم يقف عليه بالتاء تبعا لخط المصحف، وكان صخرة وقد عبده جمهور العرب وكان موضعه في المشلل حذو قديد بين مكة والمدينة، وكان الأوس والخزرج يطوفون حوله في الحج عوضا عن الصفا والمروة فلما حج المسلمون وسعوا بين الصفا والمروة فنزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} كما تقدم عن حديث عائشة في الموطا في سورة البقرة[158 ].
وقرأ الجمهور {وَمَنَاةَ} بتاء بعد الألف وقرأه ابن كثير بهمزة بعد الألف على إحدى اللغتين. والجمهور يقفون عليه بالتاء تبعا لرسم المصحف فتكون التاء حرفا من الكلمة غير علامة تأنيث فهي مثل تاء {اللَّاتَ} ويجعلون رسمها في المصحف على غير قياس.
ووصفها بالثالثة لأن ثالثة في الذكر وهو صفة كاشفة، ووصفها بالأخرى أيضا صفة كاشفة لأن كونها ثالث في الذكر غير المذكورتين قبلها معلوم للسامع، فالحاصل من الصفتين تأكيد ذكرها لأن اللات والعزى عند قريش وعند جمهور العرب أشهر من مناة لبعد مكان مناة عن بلادهم ولأن ترتيب مواقع بيوت هذه الأصنام كذلك، فاللات في أعلى تهامة بالطائف، والعزى في وسطها بنخلة بين مكة والطائف، ومناة بالمشلل بين مكة
والمدينة فهي ثالثة البقاع.
وقال ابن عطية: كانت مناة أعظم هذه الأوثان قدرا وأكثرها عبادة ولذلك قال تعالى: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} فأكدها بهاتين الصفتين.
والأحسن أن قوله: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظن أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا وفلان هو الآخر ووجهه هنا أن عباد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه.
وجملة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ارتقاء في الإبطال والتهكم والتسفيه كما تقدم، وهي مجاراة لاعتقادهم أن تلك الأصنام الثلاثة بنات الله وأن الملائكة بنات الله، أي اجعلتم لله بنات خاصة وانتم تعلمون أن لكم أولادا ذكورا وإناثا وأنكم تفضلون الذكور وتكرهون الإناث وقد خصصتم الله بالإناث دون الذكور والله أولى بالفضل والكمال لو كنتم تعلمون فكان في هذا زيادة تشنيع لكفرهم إذ كان كفرا وسخافة عقل.
وكون العزى ومناة عندهم انثتين ظاهر من صيغة أسميهما، وأما اللات فبقطع النظر عن اعتبار التاء في الاسم علامة تأثيث أو أصلا من الكلمة فهم كانوا يتوهمون اللات أنثى، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لعروة بن مسعود الثقفي يوم الحديبية أمصص أو أعضض بظر اللات.
وتقديم المجرورين في {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} للاهتمام بالاختصاص الذي أفاده اللام اهتماما في مقام التهكم والتسفيه على أن في تقديم {وَلَهُ الْأُنْثَى} إفادة الاختصاص أي دون الذكر.
وجملة {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} تعليل للإنكار والتهكم المفاد من الاستفهام في {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} ، أي قد جرتم في القسمة وما عدلتم فأنتم أحقاء بالإنكار.
والإشارةب {تِلْكَ} إلى المذكور باعتبار عنه بلفط {قِسْمَةٌ} فإنه مؤنث اللفظ.
و {َإِذَن} حرف جواب أريد به جواب الاستفهام الإنكاري، أي يترتب على ما زعمتم أن ذلك قسمة ضيزى، أي قسمتم قسمة جائزة.
و {ضِيزَى} : وزنه فعلى بضم الفاء من ضازه حقه، إذا نقصه، وأصل عين ضاز همزة، يقال: ضازه حقه كمنعه ثم كثر في كلامهم تخفيف الهمزة فقالوا: ضازه بالألف. ويجوز في مضارعه أن يكون يائي العين أو واويها قال الكسائي: يجوز ضاز يضيز، وضازة يضوز. وكأنه يريد أن لك الخيار في المهموز العين إذا خفف أن تلحقه بالواو أو الياء، لكن الأكثر في كلامهم اعتبار العين ياء فقالوا: ضازه حقه ضيزا ولم يقولوا ضوزا لأن الضوز لوك التمر في الفم، فأرادوا التفرقة بين المصدرين، وهذا من محاسن الاستعمال. وعن المورج السدوسي كرهوا ضم الضاد في ضوزى فقالوا: ضيزى. كأنه يريد استثقلوا ضم الضاد، أي في أول الكلمة مع أن لهم مندوحة عنه بالزنة الأخرى.
ووزن {ضِيزَى} فعلى اسم تفصيل مثل كبرى وطوبى شديدة الضيز فلما وقعت الياء الساكنة بعد الضمة حركوه بالكسر محافظة على الياء لئلا يقلبوها واوا فتصير ضوزى وهو ما كرهوه كما قال المؤرج. وهذا كما فعلوا في بيض جمع ابيض ولو اعتبروه تفضيلا من ضاز يضوز لقالوا: ضوزى ولكنهم أهملوه.
وقيل: وزن {ضِيزَى} فعلى بكسر الفاء على أنه أسم مثل دفلى وشعرى، ويبعد هذا أنه مشتق فهو بالوصفية أجدر. قال سيبويه: لا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات، أو على أنه مصدر مثل ذكرى وعلى الوجهين كسرته أصلية.
وقرأ الجمهور {ضِيزَى} بياء ساكنة بعد الضاد، وقرأه ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الضاد مراعاة لأصل الفعل كما تقدم آنفا. وهذا وسم لهم بالجور زيادة على الكفر لأن التفكير في الجور كفعله فإن تخيلات الإنسان ومعتقداته عنوان على أفكاره وتصرفاته.
وجملة {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} استئناف يكر بالإبطال على معتقدهم من أصله بعد إبطاله بما هو من لوازمه على مجاراتهم فيه لإظهار اختلال معتقدهم وفي هذه الجملة احتراس لئلا يتوهم متوهم إنكار نسبتهم البنات لله انه إنكار لتخصيصهم الله بالبنات وأن له أولادا ذكورا وإناثا أو أن مصب الإنكار على زعمهم أنها بنات وليست ببنات فيكون كالإنكار عليهم في زعمهم الملائكة بنات. والضمير {هِيَ} عائد إلى اللات والعزى ومناة. وما صدق الضمير الذات والحقيقة، أي ليست هذه الأصنام إلا أسماء لا مسميات لها ولا حقائق ثابتة وهذا كقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40].
والقصر إضافي، أي هي أسماء لا حقائق عاقلة متصرفة كما تزعمون، وليس القصر
حقيقيا لأن لهاته الأصنام مسميات وهي الحجارة أو البيوت التي يقصدونها بالعبادة ويجعلون لها سدنة.
وجملة {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} تعليل لمعنى القصر بطريقة الاكتفاء لأن كونها لا حقائق لها في عالم الشهادة أمر محسوس إذ ليست إلا حجارة.
وأما كونها لا حقائق لها من عالم الغيب فلأن عالم الغيب لا طريق إلى إثبات ما يحتويه إلا بإعلام من عالم الغيب سبحانه، أو بدليل العقل كدلالة العالم على وجود الصانع وبعض صفاته والله لم يخبر أحدا من رسله بأن للأصنام أرواحا أو ملائكة، مثل ما أخبر عن حقائق الملائكة والجن والشياطين.
والسلطان: الحجة، وإنزالها من الله: الإخبار بها، وهذا كناية عن انتفاء أن تكون عليها حجة لأن وجود الحجة يستلزم ظهورها، فنفي إنزال الحجة بها من باب:
على لا حب لا يهتدي بمناره
أي لا منار له فيهتدي به.
وعبر عن الإخبار الموحى به بفعل أنزل لأنه إخبار يرد من العالم العلوي فشبه بالدلاء جسم من أعلى إلى أسفل.
وكذلك عبر عن إقامة دلائل الوجود بالإنزال لأن النظر الفكري من خلق الله وشبه بالإنزال كقوله {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فاستعمال {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} من استعمال اللفظ في معنييه المجازيين. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} في سورة الحج،[17] وتقدم في سورة يوسف[40 ] قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .
وأكد نفي إنزال السلطان بحرف "من" الزائدة لتوكيد نفي الجنس.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} .
هذا تحويل عن خطاب المشركين الذي كان ابتداؤه من أول السورة وهو من ضروب الالتفات، وهو استئناف بياني فضمير {يَتَّبِعُونَ} عائد إلى الذين كان الخطاب موجها إليهم.
أعقب نفي أن تكون لهم حجة على الخصائص التي يزعمونها لأصنافهم أو على أن الله سماهم بتلك الأسماء بإثبات أنهم استندوا فيها يزعمونه إلى الأوهام وما تحبه نفوسهم من عبادة الأصنام ومحبة سدنتها ومواكب زيارتها، وغرورهم بأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله تعالى بما يرغبونه في حياتهم فتلك أوهام وأماني محبوبة لهم يعيشون في غرورها.
وجيء بالمضارع في {يُتْبِعُونَ} للدلالة على أنهم سيسمرون على اتباع الظن وما تهواه نفوسهم وذلك يدل على انهم اتبعوا ذلك من قبل بدلاله لحن الخطاب أو فحواه.
وأصل الظن الاعتقاد غير الجازم، ويطلق على العلم الجازم إذا كان متعلقا بالمغيبات كما في قوله تعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ} في سورة البقرة[46] وكثر إطلاقه في القرآن على الاعتقاد الباطل كقوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} في سورة الأنعام[116] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وهو المراد هنا بقرينة عطف {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} عليه كما عطف {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} على نظيره في سورة الأنعام، وهو كناية عن الخطأ باعتبار لزومه له غالبا كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
وهذا التفنن في معاني الظن في القرآن يشير إلى وجوب النظر في الأمر المظنون حتى يلحقه المسلم بما يناسبه من حسن أو ذم على حسب الأدلة، ولذلك استنبط علماؤنا إن الظن لا يغني في إثبات أصول الاعتقاد وأن الظن الصائب تناط به تفاريع الشريعة.
والمراد ب {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} : ما لا باعث عليه إلا الميل الشهواني، دون الأدلة فإن كل الشيء المحبوب قد دلت الأدلة على حقيقته فلا يزيده حبه إلا قبولا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمساجد" وقال "وجعلت قرة عيني في الصلاة" .
فمناط الذم في هذه الآية هو قصر اتباعهم على ما تهواه أنفسهم.
ثم أن للظن في المعاملات بين الناس والأخلاق النفسانية أحكاما ومراتب غير ما له في الديانات أصولها وفروعها، فمنه محمود ومنه مذموم، كما قال تعالى {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وقيل: الحزن سوء الظن بالناس.
والتعريف في {الْأَنْفُسُ} عوض عن المضاف إليه، أي وما تهواه أنفسهم و {مَا} .
الموصولة.
وعطف {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} على الظن عطف العلة على المعلول،أي الظن الذي يبعثهم على اتباعهم انه موافق لهداهم وإلفهم.
وجملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} حالية مقررة للتعجيب من حالهم، أي يستمرون على اتباع الظن والهوى في حال أن الله أريل إليهم رسولا بالهدى.
ولام القسم لتأكيد الخبر للمبالغة فيما يتضمنه من التعجيب من حالهم كأن المخاطب يشك في أنه جاءهم ما فيه هدى مقنع لهم من جهة استمرارهم على ضلالهم استمرارا لا يظن مثله بعاقل.
والتعبير عن الجلالة بعنوان {رَبِّهِمْ} لزيادة التعجيب من تصاممهم عن سماع الهدى مع أنه ممن تجب طاعته فكان ضلالهم مخلوطا بالعصيان والتمرد على خالقهم.
والتعريف في {الْهُدَى} للدلالة على معنى الكمال، أي الهدى الواضح.
[24،25] {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} .
إضراب انتقالي ناشئ عن قوله: و {مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [ النجم: 23].
والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} إنكاري قصد به إبطال نوال الإنسان ما يتمناه وأن يجعل ما يتمناه باعثا عن أعماله ومعتقداته بل عليه أن يتطلب الحق من دلائله وعلاماته وإن خالف ما يتمناه. وهذا متصل بقوله :{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].
وهذا تأديب وترويض للنفوس على تحمل ما يخالف أهواءها إذا كان الحق مخالفا للهوى وليحمل نفسه عليه حتى تتخلق به.
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس ووقوعه في حيز الإنكار المساوي للنفي جعله عاما في كل إنسان.
والموصول في {مَا تَمَنَّى} بمنزلة المعرف بلام الجنس ووقوعه في حيز الاستفهام الإنكاري الذي بمنزلة النفي يقتضي العموم، أي ما للإنسان شيء مما تمنى، أي ليس الشيء جاريا على إرادته بل على إرادة الله وقد شمل ذلك كل هوى دعاهم إلى الإعراض عن
كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فشمل تمنيهم شفاعة الأصنام وهو الأهم من أحوال الأصنام عندهم وذلك ما يؤفن به قوله بعد هذا {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} [النجم:6 2]. وتمنيهم أن يكون الرسول ملكا وغير ذلك نحو قوله {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وقولهم {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [ يونس:15].
وفرع على الإنكار أن الله مالك الآخرة والأولى، أي فهو يتصرف في أحوال أهلهما بحسب إرادته لا بحسب تمني الإنسان. وهذا إبطال لمعتقدات المشركين التي منها يقينهم بشفاعة أصنامهم.
وتقديم المجرور في {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} لأن محط الإنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يعرضون عن كل ما يخالف أهوائهم، فتقديم المعمول هنا لإفادة القصر وهو قصر قلب، أي ليس ذلك مقصورا عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنون، أي بل أماني الإنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقول: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} .
وهذا من معاني الحكمة لأن رغبة الإنسان في أن يكون ويتمناه حاصلا رغبة لو تبصر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذرا لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أعطي لأحد ما يتمناه حرم من يتمنى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخارة، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة، ولكل أحد نصيب، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضا بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة. وفي الحديث "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتقعد فإن لها ما كتب لها" .
وتفريع {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} تصريح بمفهوم القصر الإضافي كما علمت آنفا. وتقديم المجرور لإفادة الحصر، أي لله لا للإنسان.
{والآخرة} : العالم الأخروي، {والأولى} : العالم الدنيوي. والمراد بهما ما يحتويان عليه من الأمور، أي أمور الآخرة وأمور الأولى، والمقصود من ذكرهما تعميم الأشياء مثل قوله :{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17].
وإنما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتثنية إلا أنها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها لأن الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، مع ما في هذا التقديم من
الرعاية للفاصلة.
[26] {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}
لما بين الله أن أمور الدارين بيد الله تعالى وأن ليس للإنسان ما تمنى، ضرب لذلك مثالا من الأماني التي هي أعظم أماني المشركين وهي قولهم في الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. وقولهم :{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [ يونس: 18]، فبين إبطال قولهم بطريق فحوى الخطاب وهو أن الملائكة الذين لهم شرف المنزلة لأن الملائكة من سكان السماوات فهم لا يستطيعون إنكار أنهم أشرف من الأصنام لا يملكون الشفاعة إلا إذا أذن الله أن يشفع اذا شاء أن يقبل الشفاعة في المشفوع له، فكيف يكون للمشركين ما تمنوا من شفاعة الأصنام للمشركين اللذين يقولون َ {هؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وهي حجارة في الأرض وليست ملائكة في السماوات، فثبت أن لا شفاعة إلا لمن شاء الله، وقد نفى الله شفاعة الأصنام فبطل اعتقاد المشركين أنهم شفعاؤهم، فهذه مناسبة عطف هذه الجملة على جملة {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24] وليس هذا الانتقال اقتضابا لبين عظم أمر الشفاعة.
و {كَمْ} اسم يدل على كثرة العدد وهو مبتدأ والخبر {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم} .
وقد تقدم الكلام على {كَمْ} في قوله تعالى {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} في سورة البقرة[211]، وقوله :{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ َهْلَكْنَاهَا} لأعراف: [4].
و {فِي السَّمَاوَاتِ} صفة ل {مُلْكِ} والمقصود منها بيان شرفهم بشرف العالم الذي هم أهله، وهو عالم الفضائل ومنازل الأسرار.
وجملة {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُم} الخ، خبر عن {كَمْ} ، أي لا تغني شفاعة أحدهم فهو عام بوقوع الفعل في سياق النفي، ولإضافة شفاعة إلى ضميرهم، أي جميع الملائكة على كثرتهم وعلو مقدارهم لا تغني شفاعة واحد منهم.
و {شَيْئاً} مفعول مطلق للتعميم، أي شيئا من الإغناء لزيادة التنصيص على عموم نفي إغناء شفاعتهم.