كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
لأن المسؤول عنهم يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسؤول عنه قد شاع بين الناس واستشرف منهم لمعرفة سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل نفسه، وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتا من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيدا لإبطال ما كان في الجاهلية من النسيء في أشهر الحج في بعض السنين.
والسؤال: طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخبارا بخبر، فإذا كان طلب بذل عدى فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدى الفعل بحرف "عن" أو ما ينوب منابة.
وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة بـ {يَسْأَلونَكَ} وهي سبع آيات غير بعيد بعضها من بعض، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفا به وهي الثلاث الأواخر منها، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها.
وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقية بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها.
والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها، فيعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة، فعلى تقدير كون السؤال واقعا بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب، فإن كان من الحكمة فالجواب بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جار على وفق السؤال وإلى هذا ذهب صاحب "الكشاف" ، ولعل المقصود من السؤال حينئذ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقا لما اصطلحوا عليه، لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه، فإنه متعارف لهم، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن واقعا هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي.
وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} غير مطابق للسؤال، فيكون إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب، تنبيها على أن ما صرف إليه هو المهم له، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم
وأخراهم، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى، لا سيما والرسول لم يجيء مبينا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعي تعليمهم مقدمات لذلك العلم، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذ،ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8-7] و قولهم: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [صّ:7] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر أنشده في المفتاح ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره:
أتت تشتكي مني مزاولة القرى ... وقد رأت الأضياف ينحون منزلي
فقلت لها لما سمعت كلامها ... هم الضيف جدى في قراهم وعجلي
وإلى هذا صاحب "المفتاح" وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة: لظهورها، وعلى أن الواو في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا: ما بال الهلال يبدو دقيقا الخ.
والأهلة: جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية، قيل والثالثة، ومن قال إلى السبع فإنما أراد الحجاز، لأنه يشبه الهلال، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين، وسبع وعشرين، لأنه في قدر الهلال في أول الشهر، وإنما سمي الهلال هلالا لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعضا لذلك، وإن هل وأهل بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:173]
وقوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} أي مواقيت لما يوقت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس، ولم تذكر الأعمال الموقتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به. واحتياج الحج للتوقيت ضروري؛ إذ
لو لم يوقت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها؛ بخلاف الصلاة فبيست موقتة بالأهلة، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحمل المقصد الشرعي ولكن شرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة مماثلا فلا يشق أحد على آخر في اختلاف الأكل والنوم ونحوهما.
والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة وقت وسمي العرب به الوقت، وكذلك سمي الشهر شهرا مشتقا من الشهرة، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس. وسمي العرب الوقت المعين ميقاتا كأنه مبالغة وإلا فهو الوقت عينه وقيل: أميقاة أخص من الوقت، لأنه وقت قدر فيه عمل من الأعمال، قلت: فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتبارا بأن ذلك العمل المعين يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها.
ومجيء ذكر الحج في هاته الآية وهي من أول ما نزل بالمدينة، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج لأن المشركين يمنعونهم_إشارة إلى وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه1. وسيأتي عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} في [سورة آل عمران:97] وعند قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] في هذه السورة.
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
معطوفة على {يَسْأَلونَكَ} وليست معطوفة على جملة: {هِيَ مَوَاقِيتُ} لأنه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولا للمجيب. ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان مواليا أو مقارنا لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم
ـــــــ
1 فيه نظر، إذ الأظهر أن هذه الآية نزلت بعد فرض الحج كما قدمنا قريبا.
جعلوا من أحكام الإجرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء، وكانا المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقبا في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا خلف الخيمة، وكان الأنصار يدينون بذلك، وأما الحمس فلم كانوا يفعلون هذا، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه، وهم: قريش. وكنانة. وخزاعة. وثقيف. وجثم. وبنو نصر ابن معاوية. ومدلج. وعدوان. وعضل. وبنو الحارث بن عبد مناف، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية،
ومعنى نفى البر عن هذا نفى أن يكون مشروعا أو من الحنيفية، وإنما لم يكن مشروعا لأنه غلو في أفعال الحج، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلا أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم، فالنفي في قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] والقرينة هنا هي قوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ولم يقل هنالك: واستقبلوا أية جهة شئتم، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين.
روي الواحدي في "أسباب النزول" أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتا وأن أحدا من الأنصار قيل: اسمه قطبة بن عامر وقيل: رفاعة بن تابوت كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لم دخلت وأنت قد أحرمت"? فقال له الأنصاري: دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحمس" فقال له الأنصاري: وأنا ديني على دينك رضيت بهديك فنزلت الآية، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله، وفي "تفسير ابن جرير وابن عطية" عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بابا وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال: إني أحمس فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "وأنا أحمس" فنزلت الآية، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها
وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها، وأقول: الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: "كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنه عبر بذلك فنزلت هذه الآية"، ورواية السدي وهم، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه، وسياق الآية ينافيه.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} القول فيه كالقول في قوله تعالى :{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:177].
و {اتَّقَى} فعل منزل منزلة اللازم؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
وجر {بِأَنْ تَأْتُوا} بالباء الزائدة لتأكيد النفي بليس، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظنا قويا فلذلك كان مقتضى حالهم أن يؤكد نفي هذا الظن.
وقوله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} معطوف على جملة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء؛ لأن قوله: {لَيْسَ الْبِرُّ} في منهي النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي.
وهذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل.
وقرأ الجمهور: {الْبُيُوتَ} في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فعل على فعول فهي كسرة لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرأوا: {عُيُونٍ} [الحجر:45]. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر. بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة، قال ابن العربي في "العواصم": والذي أختاره لنفسي إذا قرأت أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلا الهمزة فإني أتركه أصلا إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عين عيون. وأطال بما في بعضه نظر، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض.
وقد تقدم خلاف القراء في نصب {الْبِرَّ} من قوله: {لَيْسَ الْبِرُّ} وفي تشديد نون {لَكِنَّ} من قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ}
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تظفرون بمطلبكم من البر: فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئا إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم.
وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة: فقيل إن قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازا ومعنى؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة. وقيل: مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جدا لحصول الجواب من قبل، وقيل: كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألا يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك، وهذا بعيد معنى، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك، وسندا، إذ لم يرو أحد أن هذا سبب النزول.
[190] {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
جملة: {وَقَاتِلُوا} معطوفة على جملة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ} إلخ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء سنة ست وتوقع المسلمين غدر المشركين بالعهد، وهو قتال متوقع لقصد الدفاع لقوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] في وسرة الحج ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية: وقد ثبت في "الصحيح" "أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس الرسول على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان".
ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شان الخروج إلى الحديبية ينبئ بأن المشركين كانوا قد أضمروا صد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤا المسلمين لقتلهم، فقوله تعالى: {وَلا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألا يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك:
وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخا، وهي أيضا ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخا ولا يرى نسخ المفهوم، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادئ المشركون فيه المسلمين بالقتال، لأن السبب لا يخصص،
وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين، وقيل: المراد الكفار كلهم، فإنهم بصدد أن يقاتلوا. ذكره في "الكشاف" ، أي ففعل: {يُقَاتِلُونَكُمْ} مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة:180].
والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يقتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة، فقوله: {وَقَاتِلُوا} بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون.
وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعليها فالمقصود أنه هو المبتدئ بالفعل، ولهذا قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فجعل فاعله ضمير عدوهم، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم.
والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا؛ لأن تلك الحالة قد يفوت على المسلمين تداركها، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة، وعموم الأشخاص يستلزم عموم
الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191] تخصيصا أو تقييدا ببعض البقاع.
فقوله: {وَلا تَعْتَدُوا} أي لا تبتدئوا بالقتال وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} تحذير من الاعتداء؛ وذلك مسألة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين، وقيل: أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} آنفا.
[191, 192] {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َفإن انتهوا فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}
هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال، فإنه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عمم المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحا بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تعميم الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال. فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم.
وعطف الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغى فحصلت المغايرة المقتضية العطف، ولذلك قال هنا: {وَاقْتُلُوهُمْ} ولم يقل: وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيها على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غير مباشر للقتال وأنه من خرج محاربا فهو قاتل وإن لم يقتل.
و {ثَقِفْتُمُوهُمْ} بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفعله كفرح، وفسره في "الكشاف" بأنه وجود على حالة فهو وغلبة.
وقوله: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي يحل لكم حينئذ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة، فيكون هذا اللقاء
لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح:27] الآية.
وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخطابي، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه.
والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العيش وقد تقدمت عند قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعا من مؤاخذتهم عليه؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، ويراد منها أيضا الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة.وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيل.
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}
الجملة معطوفة على جملة: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حلوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه، إذ قد يبادر إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97]، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام
بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب.
وجعلت غاية النهي بقوله: {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين. فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.
وفي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوهُمْ} تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذ ولو في غير اشتباك معهم بقتال، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين.
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله: {فَاقْتُلُوهُمْ} لأنه يشمل القتل بدل قتال والقتل بقتال.
فقوله تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ } أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجؤون إليه إذا انهزموا.
وقد اختار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] إلى قوله هنا: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضا؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقاربة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلا عن سابقة وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات.
وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالا لمنع الناس منه ومناواة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدا لحرمة المسجد الحرام.
وقرأ الجمهور: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} ثلاثتها بألف بعد القاف، وقرأ حمزة والكسائي {ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم} بدون ألف بعد
القاف، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلا بعد أن صار مقتولا؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله:
غضبت تميم أن تقتل عامر ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
والمعنى ولا تقتلوا أحدا منهم حتى يقتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد "قتلوا" إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد. وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة.
وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال: لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ القتال؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق. قال ابن خويز منداد: وأما قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فيجوز أن يكون منسوخا بقوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193].
واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارا من القصاص والعقوبة فقال مالك: بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقا،
وبالحديث الذي رواه في "الموطأ" عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوه"، وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة.
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف، فكذلك عياذ الجاني به، وبمثل قوله قال الشافعي، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله، وقال أبو حنيفة: لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلا إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده: غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد،
قال ابن العربي في "الأحكام" : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس، فقال القاضي الزنجاني: من السيد? فقال: رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني: سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا، فأجاب بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال: قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فإن قريء: {ولا تقتلوهم} فالآية نص وإن قرئ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ} فهي تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصرا لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي، فإن الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن والتي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام اهـ.
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة. وأما قول الحنفية وبعض المالكية: إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب.
وقال ابن العرب في "الأحكام": الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}
وهو مما شمله قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
وقوله: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين} ، والإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله: {فَاقْتُلُوهُمْ} أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم؛ وهذا تهديد لهم، فقوله: {كَذَلِكَ} خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] لأن المقاتلة ليست جزاء؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوما بيوم.
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم؛ لأن الله غفور رحيم، فينبغي أن يكون الغفران سنة المؤمنين، فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} جواب الشرط وهو إيجاز بديع؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف الله بالمغفرة والرحمة لا يترتب على الانتهاء فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة وتأييد للمحذوف، وهذا من إيجاز الحذف.
والانتهاء: أصله مطلوع نهي يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن تربعهم في كل إصفار
أي عن الوقوع في ذلك.
[193] {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}
عطف على جملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبينة...
وقد تضمنت الجمل السابقة من قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] إلى هنا تفصيلا لجملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ؛ لأن عموم {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع وقد انقضى بيان أحوال
البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة. فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله: فإن قاتلوكم فاقتلوهم، فإعادة فعل {وَقَاتِلُوهُمْ} لتبنى عليه الغاية بقوله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله، ف"حتى" في قوله: {حَتَّى لا تَكُونَ} إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن "حتى" معنى التعليل، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة:217]. وأياما كان فالمضارع منصوب بعد حتى بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية.
والفتنة تقدمت قريبا والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساويا للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلا أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلا فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته.
وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين: إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتزول فتنتهم فيه، وإما بأن يقتلوا جميعا فتزول الفتنة بفناء الفاتنين. وقد يعرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين، بحيث يخشون بأسهم، إلا أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر، ولذلك فليس المقصود هنا إلا أحد أمرين: إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل،
وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات، ومن ثم قال علماؤنا: لا تقبل من مشركي العرب الجزية، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيرا باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.
وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} عطف على {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو معمول لأن المضمرة بعد "حتى" أي وحتى يكون الدين لله. أي حتى لا يكون دين هنالك إلا لله أي وحده.
فالتعريف في الدين تعريف الجنس، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.
واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الذين مختصا بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] ، وذلك يئول إلى معنى الاستغراق ولكنه ليس عينه، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد، والمعنى: ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصا لله لا حظ للإشراك فيه.
والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحا إذا كان مخلوط العناصر.
وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أثرا جيدا قال: جاء رجلان إلى ابن عمر أيام فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج? فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} فقال ابن عمر: قاتلنا مع رسول الله حتى لم تكن فتنة وكان الذين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله، قال ابن عمر: كان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. وسيأتي بيان آخر في نظير هذه الآية من سورة الأنفال.
وقوله: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم، وهذا تصريح بمفهوم قوله: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريح بأهم الغايتين من القتال؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال.
وقوله: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} قائم مقام جواب الشرط؛ لأنه علة الجواب المحذوف، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدءوهم بالقتال، لأنهم غير ظالمين؛ وإذ لا عدوان إلا على الظالمين وهو مجاز بديع.
والعدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل أي فلا هجوم عليهم، وإما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدوانا مشاكله لقوله: {عَلَى الظَّالِمِينَ} كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة. وهذه المشاكلة تقديرية.
[194] {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها؛ لأنه استئناف بياني؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعنى الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها. فإن كان هذا تشريعا نازلا على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعوا الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم، وإن كان نازلا على سبب كما قيل: إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألا يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية، أو ما روي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين اعتمر عمرة القضية: أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام قال: نعم، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح الله لهم قتال المدافعة، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام، والتقدير حرمة الشهر الحرام، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته.
وقيل: معنى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} أن قريشا صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست ويسر الله لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم: هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه، ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي، يعني أنه من قبيل قولهم "يوم بيوم والحرب سجال".
والباء في قوله: {بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} للتعويض كقولهم: صاعا بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان
والتعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر، لأنه يفيد حكما عاما ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية.
والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهابا ورجوعا وأداء، وشهر واحد مفرد هو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرمته مضر كلها ولذلك يقال له: رجب مضر، وقد أشير إليها في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36].
وقوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} تعميم للحكم ولذلك عطفه ليكون كالحاجة لما قبله من قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191] وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} إلخ فالجملة تذييل والواو اعتراضية ومعنى كونها قصاصا أي مماثلة في المجازاة والانتصاف، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191]والإخبار عن الحرمات بلفظ "قصاص" إخبار بالمصدر للمبالغة.
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} تفريع عن قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} ونتيجة له، وهذا وجه قول الكشاف: إنه فذلكة، وسمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكله على نحو ما تقدم آنفا في قوله: {فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] .
وقوله: {بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما
سيقوله، فإن قولك في الخطاب: اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب وسيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [لأنفال:24] في سورة الأنفال، والمعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية، ويجوز أن يكون المعنى: واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] فهو يجعلهم بمحل عنايته.
[195] {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
هذه الجملة معطوفة على جملة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:190] إلخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.
ووجه الحاجة إلى هذا الأمر - مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا بالله وثقة به، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيرا بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم، ولم يفرطوا في شئ ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر وهم أذلة، إذ هم يومئذ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شئ، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم، ويفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم. ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين، والإنفاق تقدم في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية3].
و "سبيل الله" طريقه، والطريق إذا أضيف إلى شئ فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه،
ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس تعين أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد، وقد غلب {سَبِيلِ اللَّهِ} في اصطلاح الشرع في الجهاد. أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته، و"في" للظرفية لأن النفقة تكون بإعطاء العتاد، والخيل، والزاد، وكل ذلك مظروف للجهاد على وجه المجاز وليست "في" هنا مستعملة للتعليل.
وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عطف غرض على غرض، عقب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغا للنصيحة والإرشاد لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبة العدو، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب وحفظ النفوس، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد.
والإلقاء رمي الشيء من اليد وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى المرمي إليه بإلى وإلى المرمي فيه بفي.
والظاهر أن الأيدي هي المفعول إذ لم يذكر غيره، وأن الباء زائدة لتوكيد اتصال الفعل بالمفعول كما قالوا للمنقاد "أعطي بيده" أي أعطي يده لأن المستسلم في الحرب ونحوه يشد بيده، فزيادة الباء كزيادتها في {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] وقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا
والمعنى ولا تعطوا الهلاك أيديكم فيأخذكم أخذ الموثق، وجعل التهلكة كالآخذ والآسر استعارة بجامع الإحاطة بالمقى، ويجوز أن تجعل اليد مع هذا مجازا عن الذات بعلاقة البعضية لأن اليد أهم شئ في النفس في هذا المعنى، وهذا في الأمرين كقول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر
أي ألقت الشمس نفسها، وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار والمفعول محذوف أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم.
والتهلكة بضم اللام اسم مصدر بمعنى الهلاك، وإنما كان اسم مصدر لأنه لم يعهد
في المصادر وزن التفعلة بضم العين وإنما في المصادر التفعلة بكسر العين لكنه مصدر مضاعف العين المعتل اللام كزكى وغطى، أو المهموز اللام كجزأ وهيأ، وحكى سيبويه له نظيرين في المشتقات التضرة والتسرة بضم العين من أضر وأسر بمعنى الضر والسرور، وفي الأسماء الجامدة التضنضبة والتتفلة الأول اسم شجر، والثاني ولد الثعلب،
وفي "تاج العروس" أن الخليل قرأها "التهلكة" بكسر اللام ولا أحسب الخليل قرأ كذلك؛ فإن هذا لم يرو عن أحد من القراء في المشهور ولا الشاذ فإن صح هذا النقل فلعل الخليل نطق به على وجه المثال فلم يضبط من رواه عنه حق الضبط، فإن الخليل أجل من أن يقرأ القرآن بحرف غير مأثور.
ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يجتني منه المقصود.
وعطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به فإن ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك كما قيل:
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
فلذلك وجب الإنفاق، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزم الأعداء اعتقاد غير صحيح، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعا وهذا من أبدع الإيجاز.
وفي البخاري عن ابن عباس وجماعة من التابعين في معنى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لا تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة وإن لم يكن إلا سهم أو مقص فأت به.
وقد قيل في تفسير {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أقوال:
الأول أن {أَنْفِقُوا} أمر بالنفقة على العيال، والتهلكة: الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة، ويبعده قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وإن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد.
الثاني أنها النفقة على الفقراء أي الصدقة والتهلكة الإمساك ويبعده عدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك.
الثالث الإنفاق في الجهاد، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد.
الرابع الإلقاء باليد إلى التهلكة: الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر.
الخامس أنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم.
روى الترمذي عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم "القسطنطينية" فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه وقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فانزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهليكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو اهـ، والآية تتحمل جميع المعاني المقبولة.
ووقوع فعل {تُلْقُوا} في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيا عنه محرما ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدما على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك. فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين،
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي أيوب وهو اقتحام الرجل الواحد على صف العدو فقال القاسم بن محمد "من التابعين" وعبد الملك بن الماجشون وابن خويز منداد "من المالكية" ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: لا بأس بذلك إذا كان فيه قوة وكان بنية خالصة لله تعالى وطمع في نجاة أو في نكاية العدو أو قصد تجرئة المسلمين عليهم، وقد وقع ذلك من بعض المسلمين يوم أحد بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن كذلك كان من الإلقاء إلى التهلكة.
وقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا} الإحسان فعل النافع الملائم، فإذا فعل فعلا نافعا مؤلما لا يكون محسنا فلا تقول إذا ضربت رجلا تأديبا: أحسنت إليه ولا إذا جاريته في ملذات مضرة أحسنت إليه، وكذا إذا فعل فعلا مضرا ملائما لا يسمى محسنا.
وفي حذف متعلق {أَحْسَنُوا} تنبيه على أن الإحسان مطلوب في كل حال ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله كتب الإحسان على كل شئ".
وفي الأمر بالإحسان بعد ذكر الأمر باعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة إشارة إلى أن كل هاته الأحوال يلابسها الإحسان ويحف بها، ففي الاعتداء يكون الإحسان بالوقوف عند الحدود والاقتصاد في الاعتداء والاقتناع بما يحصل به الصلاح المطلوب، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرفق بالأسير والمغلوب وبحفظ أموال المغلوبين وديارهم من التخريب والتحريق، والعرب تقول: ملكت فأسجح ، والحذر من الإلقاء باليد إلى التهلكة إحسان.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} تذييل للترغيب في الإحسان، لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخره، واللام للاستغراق العرفي والمراد المحسنون من المؤمنين.
[196] {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
هذا عود إلى الكلام على العمرة فهو عطف على قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189] إلخ. وما بينهما استطراد أو اعتراض، على أن عطف الأحكام بعضها على بعض للمناسبة طريقة قرآنية فلك أن تجعل هذه الجملة عطفا على التي قبلها عطف قصة على قصة.
ولا خلاف في أن هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت كما سيأتي في حديث كعب بن عجزة، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج
تبشيرا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.
والإتمام إكمال الشيء والإتيان على بقايا ما يقي منه حتى يستوعب جميعه.
ومثل هذا الأمر المتعلق بوصف فعل يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما وهو الأكثر أن يكون المطلوب تحصيل وصف خاص للفعل المتعلق به الوصف كالإتمام في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} أي كملوه إن شرعتم فيه، وكذا قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] على ما اخترناه وقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} [التوبة:4]، ومثله أن تقول: أسرع السير للذي يسير سيرا بطيئا، وثانيهما أن يجئ الأمر بوصف الفعل مرادا به تحصيل الفعل من أول وهلة على تلك الصفة نظير قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة:150]، وذلك كقولك: أسرع السير فادع لي فلانا تخاطب به مخاطبا لم يشرع في السير بعد، فأنت تأمره بإحداث سير سريع من أول وهلة، ونظيره قولهم: وسع فم الركية -وقولهم: وسع كم الجبة وضيق جيبها أي أوجدها كذلك من أول الأمر، وهذا ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز، ولكنه أمر بمجموع شيئين وهو أقل؛ لأن الشأن أن يكون المطلوب بصيغة الأمر ابتداء هو الحدث الذي منه مادة تلك الصيغة.
والآية تحتمل الاستعمالين، فإن كان الأول فهي أمر بإكمال الحج والعمرة، بمعنى إلا يكون حجا وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب أو هي أمر بإكمالهما وعدم الرجوع عنهما بعد الإهلال بهما ولا يصدهم عنهما شنآن العدو، وإن كان الثاني فهي أمر بالإتيان بهما تامين أي مستكملين ما شرع فيهما:
والمعنى الأول أظهر وأنسب بالآيات التي قبلها، وكأن هذا التحريض مشير إلى أن المقصود الأهم من الحج والعمرة هنا هما الصرورة في الحج وكذا في العمرة على القول بوجوبها.
واللام في "الحج والعمرة" لتعريف الجنس، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد للجماعة وفيه وقوف عرفة، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه،
وأصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه
وعن ابن السكيت: الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلانا أطالوا الاختلاف إليه وفي "الأساس": فلان تحجه الرفاق أي تقصده اه. فجعله مفيدا بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقانالمزعفرا
والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك. بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] الآية حتى قيل: إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعى لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم:
عليهن شعث عامدون لربهم ... فمن كأطراف الحني خواشع
وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون، وكان الحج طوافا بالبيت وسعيا بين الصفا والمروة ووقوفا بعرفة ونحرا بمنى. وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطا ولا سمنا أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف، ومنهم من يحج متجردا من الثياب، ومنهم من لا يستظل من الشمس، ومنهم من يحج صامتا لا يتكلم، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في "تاريخ العرب"،
وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل "أورشليم" وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلا هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح.
واتخذت النصارى زيارات كثيرة، حجا، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة "أورشليم" ، وكذا زيارة قبر "ماربولس" وقبر "ماربطرس" برومة، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة "عسقلان" من بلاد السواحل الشامية، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هن نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبد بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشا جرفها السيل:
كأن الوحوش به عسقلا ... ن صادفن في قرن حج ذيافا
أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة،
وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل "زفس" وللهنود حجوج كثيرة.
والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها وذكر الحج معها إدماج1، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين.
وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر، فكانوا يقولون "إذا برئ الدبر، وعفا الأثر، وخرج صفر، حلت العمرة لمن اعتمر". ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.
واصطلح المضربون، على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر، وتبعهم بقية العرب، ليكون المسافر للعمرة آمنا من عدوه؛ ولذلك لقبوا رجبا "منصل الأسنة" ويرون العمرة في أشهر الحج فجورا.
وقوله: {لله} أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلا لله ولا العمرة إلا له، لأن الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: {لله} تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم غيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة، لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين، ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفا عنه، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.
ـــــــ
1 في "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي، مادة إدماج، ج"1/464": الإدماج في اصطلاح يهل البديع: أن يضمن كلام سيق لمعنء" معنى آخر، وهذا المعن الآخر يجب ألا يكون مصرحا به ولا يكون في الكلام إشعار بأنه مسوق لأجله.
ويجوز أن يكون التقييد بقوله: {لله} لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإن المشركين لما وضعوا هبلا على الكعبة ووضعوا إسافا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى.
وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.
وليس في الآية حجة عند مالك وأبي حنيفة رحمهما الله على وجوب الحج ولا العمرة ولكن دليل حكم الحج والعمرة عندهما غير هذه الآية، وعليه فمحمل الآية عندهما على وجوب هاتين العبادتين لمن أحرم لهما، فأما مالك فقد عدهما من العبادات التي تجب بالشروع فيها وهي سبع عبادات عندنا هي الصلاة، والصيام، والاعتكاف، والحج، والعمرة، والطواف، والإتمام، وأما أبو حنيفة فقد أوجب النوافل كلها بالشروع.
ومن لم ير وجوب النوافل بالشروع ولم ير العمرة واجبة يجعل حكم إتمامها كحكم أصل الشروع فيها ويكون الأمر بالإتمام في الآية مستعملا في القدر المشترك من الطلب اعتمادا على القرآن، ومن هؤلاء من قرأ، "والعمرة" حتى لا تكون فيما سماه الأمر بالإتمام بناء على أن الأمر للوجوب فيختص بالحج.
وجعلها الشافعية دليلا على وجوب العمرة كالحج، ووجه الاستدلال له أن الله أمر بإتمامها فإما أن يكون الأمر بالإتمام مرادا به الإتيان بهما تامين أي مستجمعي الشرائط والأركان، فالمراد بالإتمام إتمام المعنى الشرعي على أحد الاستعمالين السابقين، قالوا: إذ ليس هنا كلام على الشروع حتى يؤمر بالإتمام، ولأنه معضود بقراءة "وأقيموا الحج" وإما أن يكون المراد بالإتمام هنا الإتيان على آخر العبادة فهو يستلزم الأمر بالشروع، لأن الإتمام يتوقف على الشروع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الأمر بالإتمام كناية عن الأمر بالفعل.
والحق أن حمل الأمر في ذلك على الأمر بأصل الماهية لا بصفتها استعمال قليل كما عرفت، وقراءة: "وأقيموا" لشذوذها لا تكون داعيا للتأويل، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه وأما على الاحتمال الأول فلأن التكني بالإتمام عن إيجاب الفعل مصير إلى خلاف الظاهر مع أن اللفظ صالح للحمل على الظاهر؛ بأن يدل على معنى: إذا شرعتم فأتموا الحج والعمرة، فيكون من دلالة الاقتضاء، ويكون حقيقة وإيجازا بديعا، وهو الذي يؤذن به السياق كما قدمنا، لأنهم كانوا نووا العمرة، على أن شأن إيجاب الوسيلة بإيجاب المتوسل إليه أن يكون المنصوص على وجوبه هو المقصد فكيف
يدعي الشافعية أن {أَتِمُّوا} هنا مراد منه إيجاب الشروع، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما أشار له العصام.
فالحق أن الآية ليست دليلا لحكم العمرة وقد اختلف العلماء في حكمها: فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة قال مالك: لا أعلم أحدا رخص في تركها وهذا هو مذهب جابر ابن عبد الله وابن مسعود من الصحابة والنخعي من التابعين.
وذهب الشافعي وأحمد وابن الجهم من المالكية إلى وجوبهما، وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس من الصحابة وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي وسعيد بن جبير، وأبو بردة، ومسروق، وإسحاق بن راهويه.
ودليلنا حديث جابر بن عبد الله: "قيل: يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج؟ فقال: "لا، وأن تعتمروا فهو أفضل"، أخرجه الترمذي، ولأن عبادة مثل هذه ولو كانت واجبة لأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وجوبها بتلفيقات ضعيفة، وقد روى عن ابن مسعود أنه كان يقول: لولا التحرج وأني لم أسمع من رسول الله في ذلك شيئا قلت: العمرة واجبة اه محل الاحتجاج قوله: لم أسمع إلخ، ولأن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ولم يذكر العمرة، ولأنه لا يكون عبادتان واجبتان هما من نوع واحد.
ولأن شأن العبادة الواجبة أن تكون مؤقتة،
واحتج أصحابنا أيضا بحديث: "بني الإسلام على خمس", وحديث جبريل في الإيمان والإسلام ولم يذكر فيها العمرة، وحديث الأعرابي الذي قال: "لا أزيد ولا أنقص: فقال: "أفلح إن صدق" ولم يذكر العمرة ولم يحتج الشافعية بأكثر من هذه الآية، إذ قرنت فيها مع الحخ، وبقول بعض الصحابة وبالاحتياط.
واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على منع التمتع وهو الإحرام بعمرة ثم الحل منها في مدة الحج ثم الحج في عامة ذلك قبل الرجوع إلى بلده، ففي البخاري أخرج حديث أبي موسى الأشعري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن فجئت وهو بالبطحاء "عام حجة الوداع" فقال: "بم أهللت"? فقلت: أهللت كإهلال النبي قال: "أحسنت هل معك من هدي؟"؛ قلت: لا، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي، ثم أهللت بالحج فكنت أفتي الناس به حتى خلافة عمر فذكرته له فقال: أن نأخذ بكتاب الله، فإنه يأمرنا بالتمام، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي
محله، يريد عمر والله أعلم أن أبا موسى أهل بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي كان مهلا بحجة وعمرة معا فهو قارن والقارن متلبس بحج، فلا يجوز أن يحل في أثناء حجة وتمسك بفعل الرسول عليه السلام أنه كان قارنا ولم يحل، وهذا مبني على عدم تخصيص المتواتر بالآحاد كما هو قوله في حديث فاطمة ابنة قيس في النفقة.
وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عطف على {َأَتِمُّوا} والفاء للتفريع الذكرى فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام.
ولا سيما الحج؛ لأن وقته يفوت غالبا بعد ارتفاع المانع، بخلاف العمرة، والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما، يقال: أحصره منعه مانع قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:273] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد وقال ابن ميادة:
وما هجر ليلى أن تكون تباعدت ... عليك ولا أن أحصرتك شغول
وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده، وأصده هذا قول المحققين من أئمة اللغة، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو، قال: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة:5] فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما كما قال الزمخشري في "الكشاف" ، ومن اللغويين من قال: أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جدا.
وجاء الشرط بحرف "إن" لأن مضمون الشرط كربه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه، والمقصود إشعارهم بان المشركين سيمنعونهم من العمرة وقد اختلف الفقهاء في المراد من الإحصار في هذه الآية على نحو الاختلاف في الوضع أو في الاستعمال والأظهر عندي أن الإحصار هنا أطلق على ما يعم المنع من عدو أو من غيره بقرينة قوله تعالى عقبه: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فإنه ظاهر قوي في أن المراد منه الأمن من خوف العدو، وأن هذا التعميم فيه قضاء حق الإيجاز في جمع أحكام الإحصار ثم تفريقها كما سأبينه عند قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} وكأن هذا هو الذي يراه مالك رحمه الله، ولذلك لم يحتج في "الموطأ" على حكم الإحصار بغير عدو بهذه الآية، وإنما
احتج بالسنة وقال جمهور أصحابه أريد بها المنع الحاصل من مرض ونحوه دون منع العدو، بناء على أن إطلاق الإحصار على هذا المنع هو الأكثر في اللغة. ولأن هذه الآية جعلت على المحصر هديا ولم ترد السنة بمشروعية الهدي فيمن حصره العدو أي مشروعية الهدي لأجل الإحصار أما من ساق معه الهدي فعليه نسكه لا لأجل الإحصار، ولذلك قال مالك بوجوب الهدي على من أحصر بمرض أو نفاس أو كسر من كل ما يمنعه أن يقف الموقف مع الناس مع وجوب الطواف والسعي عند زوال المانع ووجوب القضاء من قابل لما في "الموطأ" من حديث معبد بن حزابة المخزومي أنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل ابن عمر وابن الزبير ومروان بن الحكم فكلهم أمره أن يتداوى ويفتدى، فإذا أصح اعتمر. فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل، وأن عمر بن الخطاب أمر بذلك أبا أيوب وهبار بن الأسود حين فاتهما وقوف عرفه، بخلاف حصار العدو، واحتج في الموطأ بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء، ووجه أصحابنا ذلك بالتفرقة؛ لأن المانع في المرض ونحوه من ذات الحاج؛ فلذلك كان مطالبا بالإتمام، وأما في إحصار العدو فالمانع خارجي، والأظهر في الاستدلال أن الآية وإن صلحت لكل منع لكنها في منع غير العدو أظهر وقد تأيدت أظهريتها بالسنة،
وقال الشافعي: لا قضاء فيهما وهو ظاهر الآية للاقتصار على الهدي وهو اقتصار على مفهوم الآية ومخالفة ما ثبت بالسنة، وقال أبو حنيفة: كل منع من عدو أو مرض فيه وجوب القضاء والهدي ولا يجب عليه طواف ولا سعي بعد زوال عذره بل إن نحر هديه حل والقضاء عليه. ولا يلزمه ما يقتضيه حديث الحديبية؛ لأن الآية إن كانت نزلت بعده فعمومها نسخ خصوص الحديث، وإن نزلت قبله فهو آحاد لا يخصص القرآن عنده، على أن حديث الحديبية متواتر؛ لأن الذين شهدوا النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ يزيدون على عدد التواتر، ولم ينقل عنهم ذلك مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله.
وقال الشافعي: المراد هنا منع العدو بقرينة قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} ولأنها نزلت في عام الحديبية وهو إحصار عدو؛ ولذلك أوجب الهدي على المحصر أما محصر العدو فبنص الآية، وأما غيره فبالقياس عليه. وعليه: إن زال عذره فعليه الطواف بالبيت والسعي. ولم يقل بوجوب القضاء عليه؛ إذ ليس في الآية ولا في الحديث.
وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد
وهو السند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله: {مِنَ الْهَدْيِ} وقدره في "الكشاف" فعليكم، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي. ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور.
و {اسْتَيْسَرَ} هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستصعب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه، فاستيسر هنا مراد به جميع وجوه التيسر.
والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فعل من أهدى، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي1، فإن كان اسما فمن بيانية، وإن كان جمعا فمن تبعيضية، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب، وإن لم يكن ساقه معه فعلية توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها.
وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} الآية بيان لملازمة حالة الإحرام حتى ينحر الهدي، وإنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيدا لقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة. والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك.
والمحل بفتح الميم وكسر الحاء مكان الحلول أو زمانه يقال: حل بالمكان يحل بكسر الحاء وهو مقام الشيء والمراد به هنا مبلغه وهو ذبحه للفقراء، وقيل محله: هو محل ذبح الهدايا وهو منى والأول قول مالك.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس، وقوله: {أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} كناية عن
ـــــــ
1 جدية السرج شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج.
الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل. وكلمة من للابتداء أي أذى ناشئ عن رأسه.
وفي البخاري عن كعب بن عجرة قال : "حملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي، فقال" ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاة? قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك، فنزلت هذه الآية في خاصة وهي لكم عامة اه" ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ.
وقوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه. والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية، وقرينة المحذوف قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة، والنسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكا، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث: "والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم" يعني الضحية.
{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
الفاء للعطف على {أُحْصِرْتُمْ} إن كان المراد من الأمن زوال الإحصار المتقدم، ولعلها نزلت بعد أن فرض الحج، لأن فيها ذكر التمتع وذكر صيام المتمتع إن لم يجد هديا ثلاثة أيام في مدة الحج وسبعة إذا رجع إلى أفقه وذلك لا يكون إلا بعد تمكنهم من فعل الحج والفاء لمجرد التعقيب الذكري.
وجيء بإذا فعل الشرط مرغوب فيه، والأمن ضد الخوف، وهو أيضا السلامة من كل ما يخالف منه أمن كفرح أمنا، أمانا، وأمنا، وآمنة، وإمنا بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول: أمنت من اعدو، ويتعدى إلى المأمون تقول: أمنت فلانا إذا جعلته آمنا منك، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة:126]
وهذا دليل على المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل "إذا أمنتم" ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة، فالآية دلت على حكم العمرة، لأنها لا تكون إلا مع الأمن، وذلك أن المسلمين جاءوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف.
وقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} جواب "إذا" والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا إلى عام قابل، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضا عن هدي الحج، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة، وأن قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج، ويعلم أن من أمن وقد بقى ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج.
ومعنى {تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} انتفع بالعمرة عاجلا، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفه الإحرام مدة طويلة، وهذا رخصة من الله تعالى، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظور في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور.
فالباء في قوله: {بِالْعُمْرَةِ} صلة فعل {تمتع} ، وقوله: {إِلَى الْحَجِّ} متعلق بمحذوف دل عليه معنى "إِلَى" متربصا إلى وقت الحج أو بالغا إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة "إِلَى" أن بين العمرة والحج زمنا لا يكون فيه المعتمر محرما وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران، فعليه ما استيسره من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه والله أعلم،
والآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقران وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم
يحج من عامه ذلك فبل الرجوع إلى أفقه، وخص القران بأن يقترن الحج والعمرة في إهلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج عل العمرة كان ذلك شرعه الله رخصة للناس، وإبطالا لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج، وفرض الله عليه الهدي جبرا لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعا.
وقد اختلف السلف في التمتع وفي صغته فالجمهور على جوازه، وأنه يحل من عمرته التي أحرم بها في أشهر الحج ثم يحرم بعد ذلك في حجة في عامه ذلك، وكان عثمان بن عفان لا يرى التمتع وينهى عنه في خلافته، ولعله كان يتأول هذه الآية بمثل ما تأولها ابن الزبير كما يأتي قريبا، وخالفه علي وعمران بن حصين، وفي البخاري عن عمران بن حصين تمتعنا على عهد النبي ونزل القرآن ثم قال رجل من برأيه ما شاء "يريد عثمان" وكان عمر بن الخطاب لا يرى للقارن إذا أحرم بعمرة وبحجة معا وتم السعي بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه حتى يحل من إحرام حجه فقال له أبو موسى الأشعري إني جئت من اليمن فوجدت رسول الله بمكة محرما "أي عام الوداع" فقال لي: "بم أهللت?" قلت: أهللت بإهلال كإهلال النبي فقال لي: "هل معك هدي؟" قلت: لا فأمرني فطفت وسعيت فأحللت وغسلت رأسي ومشطتني امرأة من عبد القيس، فلما حدث أبو موسى عمر بهذا قال عمر: "إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمرنا بالإتمام وإن نأخذ بسنة رسوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله" ، وجمهور الصحابة والفقهاء يخالفون رأي عمر ويأخذون بخبر أبي موسى؛ وبحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" ، وقد ينسب بعض الناس إلى عمر أنه لا يرى جواز التمتع وهو وهم وإنما رأى عمر لا يجوز الإحلال من العمرة في التمتع إلى أن يحل من الحج وذلك معنى قوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله، فلعله رأى الإحلال للمتلبس بنية الحج منافيا لنيته وهو ما عبر عنه بالإتمام ولعله كان لا يرى الآحاد مخصصا للمتواتر من كتاب أو سنة لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا متواتر، إذ قد شهده كثير من أصحابه ونفلوا حجه وأنه أهل بها جميعا.
نعم كان أبو بكر وعمر يريان إفراد الحج أفضل من التمتع والقران وبه أخذ مالك، روى عنه محمد بن الحسن أنه يرجح أحد الحديثين المتعارضين بعمل الشيخين، وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يرى التمتع خاصا بالمحصر إذا تمكن من الوصول إلى البيت بعد أن فاته وقوف عرفه فيجعل حجته عمرة ويحج في العام القابل، وتأول قوله
تعالى: {إِلَى الْحَجِّ} أي إلى وقت الحج القابل والجمهور يقولون {إِلَى الْحَجِّ} أي إلى أيام الحج.
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة:196] الآية عطفت على {فَمَنْ تَمَتَّعَ} لأن فمن تمتع مع جوابه وهو {فَمَا اسْتَيْسَرَ} مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدي فعطفت عليه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}.
وجعل الله الصيام بدلا عن الهدي زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقا فجعله عشر أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج.
فقوله: {فِي الْحَجِّ} أي في أشهره إن كان أمكنه الاعتمار قبل انقضاء مدة الحج، فإن لم يدرك الحج واعتمر فتلك صفة أخرى لا تعرض إليها في الآية.
وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فذلكة الحساب1 أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعدا قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى:
ثلاث بالغداة فهن حسبي ... وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريي ... وشرب المرء فوق الري داء
فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق أيم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة "ذلك" كما نقول في قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ تلك لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق:
ثلاث واثنتان فتلك خمس ... وسادسة تميل إلى الشمام
"أي إلى الشم والتقبيل"
وفي وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلا تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال صاحب "الكشاف" لما ذكر مثله
ـــــــ
1 نص عليه في البيضاوي وحاشيته لمولانا عصام الدين.
كقول العرب علمان خير من علم. وعن المبرد أنه تأكيد لدفع وتوهم أن يكون بقى شيء مما يجب صومه،
وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلا من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} وتبعه صاحب "الكشاف" فقال الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة اه وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين.
وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول: إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لأنه قد يتوهم من حيث أن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير، فبين الله ما يدفع هذا التوهم، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية.
ونظيره قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [لأعراف:142] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه السلام مناجاة أربعين ليله ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيرا.
وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة؛ لأنهما عددان مباركان، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل. وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عن سببها، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية.
وأما قول: {كَامِلَةٌ} فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمة، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازة.
وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إشارة إلى أقرب شيء
في الكلام، وهو هدي التمتع أو بدله وهو الصيام، والمعنى أن الهدي على الغريب من مكة كي لا يعيد السفر للعمرة فأما الكي فلم ينتفع بالاستغناء عن إعادة السفر فلذا لم يكن عليه هدي، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور، فلذلك لم يكن عندهما على أهل مكة هدي في التمتع والقران، لأنهم لا مشقة عليهم في إعادة العمرة، وقال أبو حنيفة، الإشارة إلى جميع ما يتضمنه الكلام السابق على اسم الإشارة وهو التمتع بالعمرة مع الحج ووجوب الهدي، فهو لا يرى التمتع والقران لأهل مكة وهو وجه من النظر.
وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها، واختلف في تحديد ما جاورها فقال مالك: ما اتصل بمكة وذلك من ذي طوى على أميال قليلة من مكة. وقال الشافعي: من كان من مكة على مسافة القصر ونسبه ابن حبيب إلى مالك وغلطه شيوخ المذهب. وقال عطاء: حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وأهل عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، وقال الزهري: أهل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه، وقال ابن زيد: أهل مكة، وذوي طوى، وفج، وما يلي ذلك. وقال طاووس: حاضروا المسجد الحرام كل من كان داخل الحرم، وقال أبو حنيفة: هم من كانوا داخل المواقيت سواء كانوا مكيين أو غيرهم ساكني الحرم أو الحل.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلوا من مشقة للتحذير من التهاون بها، فلأمر بالتقوى عام، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم، ولأن الكلام فيه.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} افتتح بقوله: {وَاعْلَمُوا} اهتماما بالخبر فلم يقتصر بأن يقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] فإنه لو اقتصر عليه العلم المطلوب، لأن العلم يحصل من الخبر، ولكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم، لأنه في معنى تحقيق الخبر، كأنه يقول: لا تشكوا في ذلك، فأفاد مفاد إن، آنفا عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194].
[197] {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
استئناف ابتدائي للإعلام بتفصيل مناسك الحج، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] في سورة آل عمران فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالا، وهذه الآية فيها بيان أعماله،، وهو بيان مؤخر عن المبين، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق.
وبين نزول هذه الآية ونزول آية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة.
وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعي في أدائه، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره. وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها.
ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم، وبعضها بعض الأشهر الحرم، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم، وأما رجب فإنما حرمته مضر لأنه شهر العمرة.
فقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي في أشهر، لقوله بعده: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ولك أن تقدر: مدة الحج أشهر، وهو كقول العرب الرطب شهرا ربيع.
والمقصود من قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} يحتمل أن يكون تمهيدا لقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} تهوينا لمدة ترك الرفت والفسوق والجدال، لصعوبة ترك ذلك على الناس، ولذلك قللت بجمع القلة، فهو نظير ما روى مالك في "الموطأ": أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه، تعنى أكل لحم الصيد، ويحتمل أن يكون تقريرا لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة:36] الآية، وقيل: المقصود
بيان وقت الحج ولا أنثلج له.
والأشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط، أو ثلاثة عشر يوما منه، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك. وقال بالثالث الشافعي، والرابع قول مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في "المختصر" غير معزو.
وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الأشهر عند أصحاب القولين الثالث والربع فحرج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله، كما قالوا: ابن سنتين لمن دخل في الثانية، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دما ومن يرى خلافه يرى خلافه.
وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج، فقال مجاهد وعطاء والأوازعي والشافعي وأبو ثور: لا يجزي ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها، وعليه: يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج، واحتج الشافعي بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، وقال أحمد: يجزئ ولكنه مكروه، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي: يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلا أن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة، لأن عمر ابن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدرة، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة، واحتج النخعي بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] إذ جعل جميع مواقيت للحج ولم يفصل، وهذا احتجاج ضعيف، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا، مع التوزيع في التفصيل فيؤقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة. ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج. وقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان أهم أحكامه.
ومعنى فرض: نوى وعزم، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية، أو عمل من أعماله
كسوق الهدي، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولا أو عملا وهو أرجح، لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها.
وضمير {فِيهِنَّ} للأشهر، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث.
وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} جواب من الشرطية، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى {لا رَفَثَ} من ضمير يعود على "من"؛ لأن التقدير فلا يرفث.
وقد نفي الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهي فانتفت أجناسها، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة:228] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخير عنه بأنه فعل كما قرره في "الكشاف" في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا، على اعتبار "لا" نافية للجنس نصا، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع رفث وفسوق على أن "لا" أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرأ وَلا جِدَالَ بفتح اللام على اعتبار "لا" نافية للجنس نصا وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنه قال الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر لا محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} على أن {فِي الْحَجِّ} خبر "لا"، والكلام على القراءتين خبر مستعمل في النهي.
والرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج:
ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا ورفث التكلم
وفعله كنصر، وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء. وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك، قال النابغة:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
يريد من الدين الحج وقد فسروا قوله: لهو النساء بالغزل.
وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة، وإلا قضاه في القابل نظرا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافي تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري: لا يفسد الحج وعليه هدي، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع المباح فذريعة ينبغي سدها، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج.
وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث فقال له صاحبه حصين بن قيس: أترفث وأنت محرم? فقال: إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع.
والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة، وقد قيل أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام. وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في "المحلي" : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم.
والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاما شديدا وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء:107] في سورة النساء، إذ فاتنا بيانه هنا.
واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف؛ إذ كان يعضهم يقف في عرفه وبعضهم يقف في جمع وروى هذا
عن مالك.
واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير "الكشاف" وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم وقال: من بدا له أن يجادل في شئ فليفعل، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلا: بماذا فسرت قوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وأنه وجم لها، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم،
واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} عقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال: لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله: {فَلا رَفَثَ} إلخ:
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
معطوف على جملة: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير، والمعنى وأكثر من فعل الخير.
والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر، وهو تفعل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تعمم وتقمص أي جعل ذلك معه.
فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعداد ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت. قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي إليه أخذا من هذه الآية وغيرها:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقي ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} بمنزلة التذييل أي التقوى من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص.
ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمرا بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضا بقوم من أهل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله1 فيكونون كلا على الناس بالإلحاف.
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ} إلخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيها بالتفريع على أنه من التقوى؛ لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض.
وقوله: {وَاتَّقُونِ} بمنزلة التأكيد لقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ولم يزد إلا قوله: {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} المشير إلى أن التقوى مما يرغب فيه أهل العقول.
والألباب: جمع لب وهو العقل، واللب من كل شيء: الخالص منه، وفعله لبب يلب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فعل يفعل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا هذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيرا.
فقوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص، موقع قوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} على احتمال أن يراد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادة الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوى الدنيوية بصون العرض.
والتقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئا، وأصلها تقي قلبوا ياءها واو للفرق بين الاسم والصفة، فالصفة بالياء كامرأة تقي كخزيي وصديي، وقد أطلقت شرعا على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
ـــــــ
1 كانوا يقولون: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ وكانوا يقدمون مكة بثيابهم التي قطعوا بها سفرهم بين اليمن ومكة فيطوفون بها، وكان بقية العرب يسمونهم الطلس، لأنهم يأتون طلسا من الغبار.
[198] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}
جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فتقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالا لما كان عليه المشركون، إذ كانوا يرون التجارة للمحرم بالحج حراما. فالفضل هنا هو المال، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ} [المزمل:20].وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة:
كادت تساقطني رحلي وميثرتي ... بذي المجاز ولم تحسس به نغما1
من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا ... هل في مخفيكم من يشتري أدما
قلت لها وهي تسعى تحت لبتها ... لا تحطمنك إن البيع قد زرما
أي انقطع البيع وحرم، وعن ابن عباس: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في المواسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} في موسم الحج اهـ. أي قراها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج.
وقد كانت سوق عكاظ تفتح مستهل ذي القعدة وتدوم عشرين يوما وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء، فهي أعظم أسواق العرب وكان موقعها بين نخلة والطائف، ثم يخرجون من عكاظ إلى مجنة ثم إلى ذي المجاز، والمظنون أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة؛ لأن النابغة ذكر أنه أقام بذي المجاز أربع ليال وأنه خرج من ذي المجاز إلى مكة فقال يذكر راحلته:
باتت ثلاث ليال ثم واحدة ... بذي المجاز تراعي منزلا زيما
ثم ذكر أنه خرج من هنالك حاجا فقال:
ـــــــ
1 الضمائر الثلاثة المستترة في الأفعال في هذا البيت عائدة إلى الراحلة المذكورة في أبيات قبله.
كادت تساقطني رحلي وميثرتي
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
الفاء عاطفة على قوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197] الآية، عطف الأمر على النهي، وقوله: {إِذَا أَفَضْتُمْ} شرط للمقصود وهو: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}.
والإفاضة هنا: الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسال؛ ولذلك سموا إجالة القداح في الميسر إفاضة والمجيل مفيضا، لأنه يخرج القداح من الربابة بقوة وسرعة أي بدون تخير ولا جس لينظر القدح الذي يخرج، وسموا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة.
والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدفع، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة، وكلا الإطلاقين مجاز؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة.ولأن في تجنب دفعتم تجنبا لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفع بعض الناس بعضا؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضوضاء وجلبة وسرعة سير فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حجة الوداع وقال: "ليس البر بالإيضاع فإذا أفضتم فعليكم بالسكينة والوقار" .
و "عرفات" اسم واد ويقال: بطن وهو مسيل متسع تنحدر إليه مياه جبال تحيط به تعرف بجبال عرفة بالإفراد، وقد جعل عرفات علما على ذلك الوادي بصيغة الجمع بألف وتاء، ويقال له: عرفة بصيغة المفرد، وقال الفراء: قول الناس يوم عرفة مولد ليس بعربي محض، وخالفه أكثر أهل العلم فقالوا: يقال عرفات وعرفة، وقد جاء في عدة أحاديث: "يوم عرفة" ، وقال بعض أهل اللغة: لا يقال: يوم عرفات،
وفي وسط وادي عرفة جبيل يقف عليه ناس ممن يقفون بعرفة ويخطب عليه الخطيب بالناس يوم تاسع ذي الحجة عند الظهر، ووقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم راكبا يوم عرفة، وبنى في أعلى ذلك الجبيل علم في الموضع الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيقف الأضمة يوم عرفة عنده.
ولا يدري وجه اشتقاق في تسمية المكان عرفات أو عرفة، ولا أنه علم منقول أو مرتجل، والذي اختاره الزمخشري وابن عطية أنه علم مرتجل، والذي يظهر أن أحد
الاسمين أصل والآخر طارئ عليه وأن الأصل "عرفات" من العربية القديمة وأن عرفة تخفيف جرى على الألسنة، ويحتمل أن يكون الأصل"عرفة" وأن عرفات إشباع من لغة بعض القبائل.
وذكر"عرفات" باسمه في القرآن يشير إلى أن الوقوف بعرفة ركن الحج وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة".
سمي الموضع عرفات الذي هو على زنة الجمع بألف وتاء فعاملوه معاملة الجمع بألف وتاء ولم يمنعوه الصرف مع وجود العلمية.وجمع المؤنث لا يمنه من الصرف؛ لأن الجمع يزيل ما في المفرد من العلمية؛ إذ الجمع بتقدير مسميات بكذا، فما جمع إلا بعد قصد تنكيره، فالتأنيث الذي يمنع الصرف مع العلمية أو الوصفية هو التأنيث بالهاء.
وذكر الإفاضة من "عرفات" يقتضي سبق الوقوف به؛ لأنه لا إفاضة إلا بعد الحلول بها، وذكر "عرفات" باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان، خلافا لأبي حنيفة في الصفا والمروة، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197]، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء.
و"من" ابتدائية.
والمعنى فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المزدلفة.
والتصريح باسم "عرفات" في هذه الآية للرد على قريش؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في "جمع" وهو المزدلفة؛ لأنهم حمس، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة، لأن عرفة من الحل كما سيأتي، ولهذا لم يذكر الله تعالى المزدلفة في الإفاضة الثانية باسمها وقال: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} لأن المزدلفة هو المكان الذي يفيض منه الناس بعد إفاضة عرفات، فذلك حوالة على ما يعلمونه.
و"المشعر" اسم مشتق من الشعور أي العلم، أو من الشعار أي العلامة، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبس ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت.
ووصف المشعر بوصف "الحرام" لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات.
والمشعر الحرام هو "المزدلفة"، سميت مزدلفة لأنها ازدلفت من منى أي اقتربت؛ لأنهم يبيتون بها قاصدين التصبيح في منى. ويقال للمزدلفة أيضا "جمع" لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها، الحمس وغيرهم من عهد الجاهلية، قال أبو ذؤيب.
فبات بجمع ثم راح إلى منى ... فأصبح رادا يبتغي المزح بالسحل1
فمن قال: إن تسميتها جمعا لأنها يجمع فيها بين المغرب والعشاء فقد غفل عن كونه اسما من عهد ما قبل الإسلام.
وتسمى المزدلفة أيضا "قزح" بقاف مضمونة وزاي مفتوحة ممنوعا من الصرف، باسم قرن جبل بين جبال من طرف مزدلفة ويقال له: الميقدة لأن العرب في الجاهلية كانوا يوقدون عليه النيران، وهو موقف قريش في الجاهلية، وموقف الإمام في المزدلفة على قزح. روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح بجمع أتى قزح فوقف عليه وقال: "هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف"،
ومذهب مالك أن المبيت سنة وأما النزول حصة فواجب. وذهب علقمة وجماعة من التابعين والأوزاعي إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من الحج فمن فاته بطل حجه تمسكا بظاهر الأمر في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}.
وقد كانت العرب في الجاهلية لا يفيضون من عرفة إلى المزدلفة حتى يجيزهم أحد "بني صوفة" وهم بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وكانت أمه جرهمية، لقب الغوث بصوفة؛ لأن أمه كانت لا تلد فنذرت إن هي ولدت ذكرا أن تجعله لخدمة الكعبة فولدت الغوث وكانوا يجعلون صوفة يربطون بها شعر رأس الصبي الذي ينذرونه لخدمة الكعبة وتسمى الربيط، فكان الغوث يلي أمر الكعبة مع أخواله من جرهم فلما غلب قصي بن كلاب على الكعبة جعل الإجازة للغوث ثم بقيت في بنيه حتى انقرضوا، وقيل إن الذي جعل أبناء الغوث لإجازة الحاج هم ملوك كندة، فكان الذي يجيز بهم من عرفة يقول:
ـــــــ
1 من أبيات يصف فيها رجلا في الحج طلب أن يشتري عسلامن منى والراد الطالب، والمزج من أسماء العسل، والسحل النقد وأطلقه في البيت على الدراهم المنقودة من الوصف بالمصدر
لا هم إني تابع تباعه ... لإن كان إثم فعلى قضاعه
لأن قضاعة كانت تحل الأشهر الحرم، ولما انقرض أبناء صوفة صارت الإجازة لبني سعد ابن زيد مناة بن تميم ورثوها بالقعدد فكانت في آل صفوان منهم وجاء الإسلام وهي بيد كرب بن صفوان قال أوس بن مغراء:
لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}
الواو عاطفة على قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} والعطف يقتضي أن الذكر المأمور به هنا غير الذكر المأمور به في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} فيكون هذا أمرا بالذكر على العموم بعد الأمر بذكر خاص فهو في معنى التذييل بعد الأمر بالذكر الخاص في المشعر الحرام.
ويجوز أن يكون المراد من هذه الجملة هو قوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} فموقعها موقع التذييل. وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف بل تفصل وعدل عن مقتضى الظاهر فعطفت بالواو باعتبار مغايرتها للجملة التي قبلها بما فيها من تعليل الذكر وبيان سببه وهي مغايرة ضعيفة لكنها تصحح العطف كما في قول الحارث بن همام الشيباني:
أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب
وتلقني يشتد بي أجرد ... مستقدم البركة كالراكب
فإن جملة تلقني الثانية هي بمنزلة بدل الاشتمال من لا تلقني في النعم العازب لأن معناه لا تلقني راعي إبل وذلك النفي يقتضي كونه فارسا؛ إذ لا يخلو الرجل عن إحدى الحالتين فكان الظاهر فصل جملة تلقني تشتد في أجرد لكنه وصلها لمغايرة ما.
وقوله: {كَمَا هَدَاكُمْ} تشبيه للذكر بالهدي وما مصدرية. ومعنى التشبيه في مثل هذا المشابهة في التساوي أي اذكروه ذكرا مساويا لهدايته إياكم فيفيد معنى المجازاة والمكافأة فلذلك يقولون إن الكاف في مثله للتعليل وقد تقدم الفرق بينها وبين كاف المجازاة عند قوله تعالى: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة:167] وكثر ذلك في الكاف التي اقترنت بها "ما" كيف كانت، وقيل ذلك خاص بما الكافة والحق أنه وارد في الكاف المقترنة بما وفي غيرها.
وضمير {مِنْ قَبْلِهِ} يرجع إلى الهدي المأخوذ من ما المصدرية و "إن" مخففة. من "إن"
الثقيلة.والمراد ضلالهم في الجاهلية بعبادة الأصنام وتغيير المناسك وغير ذلك.
[199] {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الإخباري للترقي في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإضافة المذكورة في قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة.
فالمقصود من الأمر هو متعلق {أَفِيضُوا} أي قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} إشارة إلى عرفات فيكون متضمنا الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالا لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على "قزح" المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشا.
عن عائشة أنها قالت: كانت قريش ومن ذان دينها يقفون بيوم عرفة في المزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} اهـ فالمخاطب بقوله: {أَفِيضُوا} جميع المسلمين والمراد بالناس عموم الناس يعني من عدا قريشا ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم.
روى الطبري عن ابن أبي نجيح قال: كانت قريش لا أدري قبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا قالوا: نحن ولاة البيت وقاطنوا مكة فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم يعني لأن عرفة من الحل فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فلذلك تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك اه. يعني فكانوا لا يفيضون إلا إفاضة واحدة بأن ينتظروا الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة فيجتمع الناس كلهم في مزدلفة ولعل هذا وجه تسمية مزدلفة بجمع، لأنها يجمع بها الحمس وغيرهم في الإفاضة فتكون الآية قد ردت على قريش الاقتصار على الوقوف بمزدلفة.
وقيل: المراد بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا} الإفاضة من مزدلفة إلى منى، فتكون "ثم" للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال، وكان عليها العرب في الجاهلية وكان الإجازة فيها بيد خزاعة ثم صارت بعدهم لبني عدوان من قيس عيلان، وكان آخر من تولى الإجازة منهم أبا سيارة عميلة بن الأعزل أجاز بالناس أربعين سنة إلى أن فتحت مكة فأبطلت الإجازة وصار الناس يتبعون أمير الحج، وكانوا في الجاهلية يخرجون من مزدلفة يوم عاشر ذي الحجة بعد أن تطلع الشمس على ثبير وهو أعلى جبل قرب منى وكان الذي يجيز بهم يقف قبيل طلوع الشمس مستقبل القبلة ويدعو بدعاء يقول فيه "اللهم بغض بين رعائنا، وحبب بين نسائنا، واجعل المال في سمحائنا، اللهم كن لنا جارا ممن نخافه، أوفوا بعهدكم، وأكرموا جاركم، واقروا ضيفكم". فإن قرب طلوع الشمس قال: أشرق ثبير كيما نغير ويركب أبو سيارة حمارا أسود فإذا طلعت الشمس دفع بهم وتبعه الناس وقد قال في ذلك راجزهم:
خلوا السبيل عن أبي سياره ... وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره
أي يدعو الله تعالى لقوله: اللهم كن لنا جارا ممن نخافه.
فقوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة.وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة، ولولا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200].
وقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ} عطف على {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أمرهم بالاستغفار كما أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام وفيه تعريض بقريش فيما كانوا عليه من ترك الوقوف بعرفة.
[200, 202] {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
تفريع على قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك، وقضيت مناسكه.
وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلا جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلا قربان النساء.
والمناسك جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] فهو هنا مصدر ميمي أو هم اسم مكان والأول هو المناسب لقوله: {قَضَيْتُمْ}؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم.
وقرأ الجميع {مناسككم} بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير1.
وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضا عليه وإبطالا لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر، فإنه يجر إلى المراء والجدال، والمقصد أن يكون الحاج منغمسا في العبادة فعلا وقولا واعتقادا.
وقوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} بيان لصفة الذكر، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكرا كذكركم إلخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل "أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمي بها الجمرة فيفعلون ذلك".
وفي "تفسير ابن جرير" عن السدي: كان الرجل يقوم فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته. فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالا
ـــــــ
1 الإدغام ينقسم إلى كبير وصغير فالكبير هو ما كان المدغم والمدغم فيه متحركين سواء كان مثلين أو جنسين أو متقاربين، سمي به لأنه يسكن الأول ويدغم في الثاني فيحصل فيه عملان فصار كبيران. والصغير هو ما كان فيه المدغم ساكنان فيدغم في الثاني فيحصل فيه عمل واحد ولذا سمي به. انظر "الاتقان" و "شرح الشاطبي".
نحوا من ذلك.
والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء.
وقوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} أصل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت "أو" معنى من التدرج إلى أعلى، فالمقصود أن يذكروا الله كثيرا، وشبه أولا بذكر آبائهم تعريضا بأنهم يشتغلون في تلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر. ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جني: إن "أو" في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفيا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل. وعليه خرج قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولا إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر.
و {أَشَدّ} لا يخلو عن أن يكون معطوفا على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} تقديره: {فاذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم} فتكون فتحة {أَشَدّ} التي في آخره فتحة نصب، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله: {كَذِكْرِكُمْ} والتقدير: "ذكرا كذكركم آباءكم"، وعلى هذا الوجه فنصب {ذِكْراً} يظهر أنه تمييز لأشد، وإذ قد كان {أَشَدّ} وصفا لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفة وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام، إلا أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلا قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين، مع إفادة التمييز حينئذ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون: هو أشح الناس رجلا، وهما خير الناس اثنين، وهذا ما درج عليه الزجاج في تفسيره، قلت: وقريب منه استعمال تمييز "نعم" توكيدا في قول جرير:
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا
ويجوز أن يكون نصب {أَشَدّ} على الحال من "ذكر" الموالي له وأن أصل أسد نعت له وكان نظم الكلام: أو ذكرا أشد، فقدم النعت فصار حالا، والداعي إلى تقديم النعت حينئذ هو الاهتمام بوصف كونه أشد، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان. أو أن يكون
{أَشَدّ} معطوفا على "ذكر" المجرور بالكاف من قوله: {كَذِكْرِكُمْ} ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1] يجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى: {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] في سورة النساء أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في "إيضاح المفصل"، وعليه ففتحة {أَشَدّ} نائبة عن الكسرة، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب {ذِكْراً} على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج.
ولصاحب "الكشاف" تخريجان آخران لإعراب {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز، ولابن جني تبعا لشيخه أبي علي تخريج آخر، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفا ذكره عنه ابن المنير في "الانتصاف"، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء.
وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي، ونظيرتها آية سورة النساء، قال الشيخ ابن عرفة في "تفسيره" وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلا ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في سورة النساء: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له: ننظر ما قال: في {أَشَدَّ خَشْيَةً} فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فخص الشيخ إذ ذاك على نسخها اهـ .
وقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} إلخ الفاء للتفصيل، لأن ما بعدها تقسيم للفريقين من الناس المخاطبين بقوله: {فَاذْكُرُوا الله} فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلا تيمنا ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل، فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وادعوه. ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك، وإنما لم يفصل الذكر الأعم من الدعاء، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلا على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى
تفصيله تفصيلا ينبه إلى ما ليس بمحمود، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة، فيتعين أن المراد ليس بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون، لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة.
وقوله: {آتِنَا} ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله {حَسَنَةً} فيما بعد، أي {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} و "الخلاق" بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلافة وهي الجدارة، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديرا به، ولما كان معنى الجدارة مستلزما نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذه من خلاق له" أي في الخير وقول البعيث بن حريث:
ولست وإن قربت يوما ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
وجملة: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} معطوفة على جملة: {مَنْ يَقُولُ} فهي ابتدائية مثلها، والمقصود: إخبار الله تعالى عن هذا الفريق من الناس أنه لا حظ له في الآخرة، لأن المراد من هذا الفريق الكفار، فقد قال ابن عطية: كانت عادتهم في الجاهلية ألا يدعوا إلا بمصالح الدنيا إذ كانوا لا يعرفون الآخرة.
ويجوز أن تكون الواو للحال، والمعنى من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ولعل الحال للتعجيب.
و {حَسَنَةً} أصلها صفة لفعلة أو خضلة، فحذف الموصوف ونزل الوصف منزلة الاسم مثل تنزيلهم الخير منزلة الاسم مع أن أصله شيء موصوف بالخيرية، ومثل تنزيل صالحة منزلة الاسم في قول الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
ووقعت حسنة في سياق الدعاء فيفيد العموم، لأن الدعاء يقصد به العموم كقول الحريري:
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
وهو عموم عرفي بحسب ما يصلح له كل سائل من الحسنتين.
وإنما زاد في الدعاء {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار.
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} إشارة إلى الفريق الثاني، والنصيب: الحظ المعطى لأحد في خير أو شر قليلا كان أو كثيرا ووزنه على صيغة فعيل، ولم أدر أصل اشتقاقه فلعلهم كانوا إذا عينوا الحظ لأحد ينصب له ويظهر ويشخص، وهذا ظاهر كلام الزمخشري في "الأساس" والراغب في "مفردات القرآن" أو هو اسم جاء على هذه الصيغة ولم يقصد منه معنى فاعل ولا معنى مفعول، وإطلاق النصيب على الشقص المشاع في قولهم نصيب الشفيع مجاز بالأول.
واعلم أنه وقع في لسان العرب في مادة "كفل" أنه لا يقال هذا نصيب فلان حتى يكون قد أعد لغيره مثله فإذا كان مفردا فلا يقال نصيب وهذا غريب لم أره لغيره سوى أن الفخر نقل مثله عن ابن المظفر عند قوله تعالى: {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] في سورة النساء. ووقع في كلام الزجاج وابن عطية في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام:136] قال الزجاج تقدير الكلام جعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا، وقال ابن عطية قولهم جعل من كذا وكذا نصيبا يتضمن بقاء نصيب آخر ليس بداخل في حكم الأول اهـ.
وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء المسلمين الداعين في تلك المواقف المباركة إلا أنه وعد بإجابة شيء مما دعوا به بحسب ما تقتضيه أحوالهم وحكمة الله تعالى، وبألا يجر إلى فساد عام لا يرضاه الله تعالى فلذلك نكر "نصيب" ليصدق بالقليل والكثير وأما إجابة الجميع إذا حصلت فهي أقوى وأحسن، وكسبوا بمعنى طلبوا، لأن كسب بمعنى طلب ما يرغب فيه. ويجوز أن يراد بالكسب هنا العمل والنصيب نصيب الثواب فتكون "من" ابتدائية.
وأسم الإشارة مشير إلى الناس الذين يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} للتنبيه باسم الإشارة على أن اتصافهم بما بعد اسم الإشارة شيء استحقوه بسبب الإخبار عنهم بما قبل اسم الإشارة، أي أن الله استجاب لهم لأجل إيمانهم بالآخرة فيفهم منه أن دعاء الكافرين في ضلال.
وقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة، وزيادة تبشير لأهل ذلك الموقف، لأن إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول، فعلم أن الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والجزاء عليه.
والحساب في الأصل العد، ثم أطلق على عد الأشياء التي يراد الجزاء عليها أو قضاؤها، فصار الحساب يطلق على الوفاء بالحق يقال حاسبه أي كافأه أو دفع إليه حقه، ومنه سمي يوم القيامة يوم الحساب وقال تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء:113] قال: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ:36] أي وفاقا لأعمالهم، وهاهنا أيضا أريد به الوفاء بالوعد وإيصال الموعود به، فاستفادة التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم؛ لأن إجابتهم من جملة حساب الله تعالى عباده على ما وعدهم فيدخل في ذلك العموم.
والمعنى فإذا أتممتم أيها المسلمون مناسك حجكم فلا تنقطعوا عن أن تذكروا الله بتعظيمه وحمده، وبالالتجاء إليه بالدعاء لتحصيل خير الدنيا وخير الآخرة، ولا تشتغلوا بالتفاخر، فإن ذكر الله خير من ذكركم آباءكم كما كنتم تذكرونهم بعد قضاء المناسك قبل الإسلام وكما يذكرهم المشركون الآن. ولا تكونوا كالذين لا يدعون إلا بطلب خير الدنيا ولا يتفكرون في الحياة الآخرة، لأنهم ينكرون الحياة بعد الموت فإنكم إن سألتموه أعطاكم نصيبا مما سألتم في الدنيا وفي الآخرة، وإن الله يعجل باستجابة دعائكم.
[203] {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
معطوف على {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة:200] وما بينهما اعتراض, وإعادة فعل {اذْكُرُوا} ليبنى عليه تعليق المجرور أي قوله: {فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} لبعد متعلقه وهو {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} لأنه أريد تقييد الذكر بصفته ثم تقييده بزمانه ومكانه. فالذكر الثاني هو نفس الذكر الأول وعطفه عليه منظور فيه إلى المغايرة بما علق به من زمانه.
والأيام المعدودات أيام منى, وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر, يقيم الناس فيها بمنى وتسمى أيام التشريق, لأن الناس يقددون فيها اللحم, والتقديد تشريق, أو لأن الهدايا لا تنحر فيها حتى تشرق الشمس. وكانوا يعلمون أن إقامتهم بمنى بعد يوم النحر بعد طواف الإفاضة ثلاثة أيام فيعلمون أنها المراد هنا بالأيام المعدودات, ولذلك قال جمهور الفقهاء
الأيام المعدودات أيام منى وهي بعد اليوم العاشر وهو قول ابن عمر ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي والضحاك وجابر بن زيد ومالك, وهي غير المراد من الأيام المعلومات التي في قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] في سورة الحج.
فالأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة, وهي اليوم العاشر ويومان بعده. والمعدودات أيام منى بعد يوم النحر, فاليوم العاشر من المعلومات لا من المعدودات, واليومان بعده من المعلومات والمعدودات, واليوم الرابع من المعدودات فقط, واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] لأن اليوم الرابع لا نحر فيه ولا ذبح إجماعا, وقال أبو يوسف محمد بن الحسن لا فرق بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات وهي يوم النحر ويومان بعده فليس اليوم الرابع عندهما معلوما ولا معدودا, وعن الشافعي الأيام المعلومات من أول ذي الحجة حتى يوم النحر وما بعد ذلك معدودات, وهو رواية عن أبي حنيفة.
ودلت الآية على طلب ذكر الله تعالى في أيام رمي الجمار وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا.
وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام, لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء, قال العرجي:
ما نلتقي إلا ثلاثة منى ... حتى يفرق بيننا النفر
وقال عمر بن أبي ربيعة:
بدا لي منها معصم حين جمرت ... وكف خصيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رميت الجمر أم بثمان
لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر, بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة فكانوا يعودون إليها, فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها وذكر الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار.
والأيام المعدودات الثلاثة ترمى الجمار الثلاثة في كل يوم منها بعد الزوال يبتدأ بالجمرة التي تلي مسجد منى بسبع حصيات, ترمى الجمرتان الأخريان كل جمرة بمثل ذلك ويكبر مع كل حصاة, وآخرها جمرة العقبة, وفي أحكام الرمي ووقته وعكس الابتداء فيه بجمرة مسجد منى والمبيت بغير منى خلافات بين الفقهاء.
والآية تدل على أن الإقامة في منى في الأيام المعدودات واجبة فليس للحاج أن يبيت في تلك الليالي إلا في منى, ومن لم يبت في منى فقد أخل بواجب فعليه هدي, ولا يرخص في المبيت في غير منى إلا لأهل الأعمال التي تقتضي المغيب عن منى فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس المبيت بمكة لأجل أنه على سقاية زمزم, ورخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم إلى رعي الإبل في المراعي البعيدة عن منى وذلك كله بعد أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر ويرجعوا من الغد فيرمون, ورخص للرعاء الرمي بليل, ورخص الله في هذه الآية لمن تعجل إلى وطنه أن يترك الإقامة بمنى اليومين الأخيرين من الأيام المعدودات.
وقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ} تفريع لفظي للإذن بالرخصة في ترك حضور بعض أيام منى لمن أعجله الرجوع إلى وطنه, وجيء بالفاء لتعقيب ذكر الرخصة بعد ذكر العزيمة رحمة منه تعالى بعباده.
وفعلا {تَعَجَّلَ} و {تَأَخَّرَ}: مشعران بتعجل وتأخر في الإقامة بالمكان الذي يشعر به اسم الأيام المعدودات, فالمراد من التعجل عدم اللبث وهو النفر عن منى ومن التأخر اللبث في منى إلى يوم نفر جميع الحجيج, فيجوز أن تكون "صيغة" تعجل و {تَأَخَّرَ} معناه مطاوعة عجله وأخره فإن التفعل يأتي للمطاوعة كأنه عجل نفسه فتعجل وأخرها فتأخر فيكون الفعلان قاصرين لا حاجة إلى تقدير مفعول لهما ولكن المتعجل عنه والمتأخر إليه مفهومان من اسم الأيام المعدودات, أي تعجل النفر وتأخر النفر, ويجوز أن تكون صيغة التفعل في الفعلين لتكلف الفعل كأنه اضطر إلى العجلة أو إلى التأخر فيكون المفعول محذوفا لظهوره أي فمن تعجل النفر ومن تأخره.
فقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ} ظاهر المعنى في نفي الإثم عنه, وإنما قوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} يشكل بأن نفي الإثم يقتضي توهم حصوله فيصير التأخر إلى اليوم الرابع رخصة مع أنه هو العزيمة, ودفع هذا التوهم بما روي أن أهل الجاهلية كانوا على فريقين؛ فريق منهم يبيحون التعجيل, وفريق يبيحون التأخير إلى الرابع فوردت الآية للتوسعة في الأمرين, أو تعجل معنى نفي الإثم فيهما كناية عن التخيير بين الأمرين, والتأخير أفضل, ولا مانع في الكلام من التخيير بين أمرين وإن كان أحدهما أفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل.
وعندي أن وجه ذكر {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه} أن الله لما أمر بالذكر في أيام منى وترك ما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال فيها بالفضول كما تقدم, وقال بعد ذلك
الحج يحشرون إلى مواطنهم فذكرهم بالحشر العظيم، بلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثيرة، والعرب كانوا يتفرقون رابع أيام منى فيرجعون إلى مكة لزيارة البيت لطواف الوداع ثم ينصرفون فيرجع كل فريق إلى موطنه، قال امرؤ القيس يذكر التفرق يوم رابع النحر وهو يوم المحصب في منى:
فلله عينا من رأى من تفرق ... أشت وأنأى من فراق المحصب
غداة غدوا فسالك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع نجد كبكب
وقال كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح الأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا ... ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
والمعنى ليكن ذكركم الله ودعاؤكم في أيام إقامتكم في منى، وهي الأيام المعدودات الثلاثة الموالية ليوم الأضحى، وأقيموا في منى تلك الأيام فمن دعته حاجته إلى التعجيل بالرجوع إلى وطنه فلا إثم عليه أن يترك يومين من أيام منى وهما الثاني عشر من ذي الحجة والثالث عشر منه.
[204, 206] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}
عطف على جملة {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة:200] الخ، لأنه ذكر هنالك حال المشركين الصرحاء الذين لا حظ لهم في الآخرة، وقابل ذكرهم بذكر المؤمنين الذين لهم رغبة في الحسنة في الدنيا الآخرة، فانتقل هنا إلى حال فريق آخرين ممن لا حظ لهم في الآخرة وهم متظاهرون بأنهم راغبون فيها، مع مقابلة حالهم بحال المؤمنين الخالصين الذين يؤثرون الآخرة والحياة الأبدية على الحياة الدنيا، وهم المذكورون في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207]
و"من" بمعنى بعض كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:8]
فهي صالحة للصدق على فريق أو على شخص معين و"من" الموصولة كذلك صالحة لفريق وشخص.
والإعجاب إيجاد العجب في النفس والعجب: انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه. ولما كان شأن ما يخفى سببه أن ترغب فيه النفس, صار العجب مستلزما للإحسان فيقال أعجبني الشيء بمعنى أوجب لي استحسانه, قال الكواشي يقال في الاستحسان: أعجبني كذا, وفي الإنكار: عجبت من كذا, فقوله: {يُعْجِبُكَ} أي يحسن عندك قوله.
والمراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين, لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه, وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة؛ إذ لا غرض في ذلك هنا لأن المقصود ما يضاد قوله: وهو ألد الخصام إلى آخره.
والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير والإعراض عن الكفار, فيكون المراد ب"من" المنافقين ومعظمهم من اليهود, وفيهم من المشركين من أهل يثرب وهذا هو الأظهر عندي, أو طائفة معينة من المنافقين, وقيل: أريد به الأخنس بن شريف الثقفي واسمه أبي وكان لمولى لبني زهرة من قريش وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم, وكان يظهر المودة للنبي صلى الله عليه وسلم. ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس أي تأخر عن الخروج معهم إلى بدر وكان له ثلثمائة من بني زهرة أحلافه فصدهم على الانضمام إلى المشركين فقيل: إنه كان يظهر الإسلام وهو منافق, وقال ابن عطية: لم يثبت أنه أسلم قط, ولكن كان يظهر الود للرسول فلما انقضت وقعة بدر قيل: إنه حرق زرعا للمسلمين وقتل حميرا لهم فنزلت فيه هاته الآية ونزلت فيه أيضا: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] ونزلت فيه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1], وقيل بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة فبيتهم ليلا فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم فنزلت فيه الآية وعلى هذا فتقريعه لأنه غدرهم وأفسد.
ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب تحذيرا للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين وتنبيهه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لا بد منه والظرف من قوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويجوز أن يتعلق بيعجبك فيراد بهذا الفريق من الناس المنافقون الذين يظهرون كلمة الإسلام والرغبة فيه. على حد قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] أي إعجابك بقولهم لا يتجاوز الحصول في الحياة الدنيا فإنك في الآخرة
تجدهم بحالة لا تعجبك فهو تمهيد لقوله في آخر الآية: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} والظرفية المستفادة من "في" ظرفية حقيقية.
ويجوز أن يتعلق بكلمة {قوله} أي كلامه عن شئون الدنيا من محامد الوفاء في الحلف مع المسلمين والود للنبي ولا يقول شيئا في أمور الدين, فهذا تنبيه على أنه لا يتظاهر بالإسلام فيراد بهذا الأخنس بن شريق.
وحرف "في" على هذا الوجه للظرفية المجازية بمعنى "عن" والتقدير قوله عن الحياة الدنيا.
ومعنى {َيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه, ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم أنه لصادق.
وإنما أفاد ما في قلبه معنى المطابقة لقوله لأنه لما أشهد الله حين قال كلاما حلوا تعين أن يكون مدعيا أن قلبه كلسانه قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62].
ومعنى {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} أنه شديد الخصومة أي العداوة مشتق من لده يلده بفتح اللام لأنه من فعل, تقول: لددت يا زيد بكسر الدال إذا خاصم, فهو لاد ولدود فاللدة شدة الخصومة والألد الشديد الخصومة قال الحماسي ربيعة بن مقروم:
وألد ذي حنق علي كأنما ... تغلي حرارة صدره في مرجل
فألد صفة مشبهة وليس اسم تفضيل, ألا ترى أن مؤنثه جاء على فعلاء فقالوا: لداء وجمعه جاء على فعل قال تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} [مريم:97] وحينئذ ففي إضافته للخصام إشكال؛ لأنه يصير معناه شديد الخصام من جهة الخصام فقال في "الكشاف": إما أن تكون الإضافة على المبالغة فجعل الخصام ألد أي نزل خصامه منزلة شخص له خصام فصارا شيئين فصحت الإضافة على طريقة المجاز العقلي, كأنه قيل: خصامه شديد الخصام كما قالوا: جن جنونه وقالوا: جد جده, أو الإضافة على معنى في أي وهو شديد الخصام في الخصام أي في حال الخصام, وقال بعضهم يقدر مبتدأ محذوف بعد {وهو} تقديره: وهو خصامه ألد الخصام وهذا التقدير لا يصح لأن الخصام لا يوصف بالألد فتعين أن يؤول بأنه جعل بمنزلة الخصم وحينئذ فالتأويل مع عدم التقدير أولى, وقيل
الخصام هنا جمع خصم كصعب وصعاب وليس هو مصدرا وحينئذ تظهر الإضافة أي وهو ألد الناس المخاصمين.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} إذا ظرف تضمن معنى الشرط.
و {تَوَلَّى} إما مشتق من التولية: وهي الإدبار والانصراف يقال ولى وتولى وقد تقدم قوله تعالى: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142] أي وإذا فارقك سعى في الأرض ليفسد.
ومتعلق {تَوَلَّى} محذوف تقديره تولى عنك, والخطاب المقدر يجري على الوجهين المتقدمين وإما مشتق من الولاية: يقال ولي البلد وتولاه, أي وإذا صار واليا أي إذا تزعم ورأس الناس سعى في الأرض بالفساد, وقد كان الأخنس زعيم مواليه وهم بنو زهرة.
وقوله: {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} السعي حقيقته المشي الحثيث قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] ويطلق السعي على العمل والكسب, قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الاسراء:19] وقال امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
البيتين ويطلق على التوسط بين الناس لإصلاح ذات البين أو لتخفيف الإضرار قال عمرو بن كلثوم:
ومنا قبله الساعي كليب ... فأي الفضل إلا قد ولينا
وقال لبيد:
وهم السعاة إذا العشيرة أفظعت
البيت ويطلق على الحرص وبذل العزم لتحصيل شيء كما قال تعالى في شأن فرعون {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات:22] فيجوز أن يكون هنا بالمعنيين الأول والرابع أي ذهب يسير في الأرض غازيا ومغيرا ليفسد فيها. فيكون إشارة إلى ما فعله الأخنس بزرع بعض المسلمين، لأن ذلك مؤذن بكفره وكذبه في مودة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان وده صادقا لما آذى أتباعه. أو إلى ما صنعه بزرع ثقيف على قول من قال من المفسرين أن الأخنس بيت ثقيفا وكانت بينه وبينهم عداوة وهم قومه فأغار عليهم بمن معه من بني زهرة فأحرق زروعهم وقتل مواشيهم. لأن صنيعه هذا بقوم وإن كانوا يومئذ كفارا لا يهم المسلمين ضرهم، ولأنه لم يفعله انتصارا للإسلام ولم يكن في حالة حرب معهم فكان فعله ينم عن
خبث طوية لا تتطابق مع ما يظهره من الخير ولين القول؛ إذ من شأن أخلاق المرء أن تتماثل وتتظاهر فالله لا يرضى بإضرار عبيده ولو كفارا ضرا لا يجر إلى نفعهم؛ لأنهم لم يغزهم حملا لهم على الإيمان بل إفسادا وإتلافا ولذلك قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}
وقوله: {فِي الْأَرْضِ} تأكيد لمدلول {سَعَى} لرفع توهم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد وهو الغارة والتلصص لغير إعلاء كلمة الله، ولذلك قال بعده: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} فاللام للتعليل، لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي.
ويجوز أن يكون {سَعَى} مجازا في الإرادة والتدبير أي دبر الكيد لأن ابتكار الفساد وإعمال الحيلة لتحصيله مع إظهار النصح بالقول كيد ويكون ليفسد مفعولا به لفعل {سَعَى} والتقدير أراد الفساد في الأرض ودبره، وتكون اللام لام التبليغ كما تقدم في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إلى قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة:185] فاللام شبيه بالزائد وما بعد اللام من الفعل المقدرة معه "أن" مفعول به كما في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32] وقول جزء بن كليب الفقعسي:
تبغى ابن كوز والسفاهة كاسمها ... ليستاد منا أن شتونا لياليا
إذ التقدير تبغى الاستياد منا، قال المرزوقي أتى بالفعل واللام لأن تبغى مثل أراد فكما قال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32] والمعنى يريدون إطفاء نور الله كذلك قال تبغي ليستاد أي تبغي الاستياد منا اهـ.
وأقول: إن هذا الاستعمال يتأتى في كل موضع يقع فيه مفعول الفعل علة للفعل مع كونه مفعولا به، فالبليغ يأتي به مقترنا بلام العلة اعتمادا على أن كونه مفعولا به يعلم من تقدير "أن" المصدرية.
ويكون قوله: {فِي الْأَرْضِ} متعلقا بسعى لإفادة أن سعيه في أمر من أمور أهل أرضكم، وبذلك تكون إعادة {فِيهَا} من قوله: {لِيُفْسِدَ فِيهَا} بيانا لإجمال قوله: {فِي الْأَرْضِ} مع إفادة التأكيد.
وقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} بضم الياء أي يتلفه.
والحرث هنا مراد منه الزرع، والنسل أطفال الحيوان مشتق من نسل الصوف نسولا
إذا سقط وانفصل، وعندي أن إهلاك الحرث والنسل كناية عن اختلال ما به قوام أحوال الناس، وكانوا أهل حرث وماشية فليس المراد خصوص هذين بل المراد ضياع ما به قوام الناس، وهذا جار مجرى المثل، وقيل الحرث والنسل هنا إشارة إلى ما صنع الأخنس بن شريق، وأيا ما كان فالآية دالة على أن من يتسبب في مثل ذلك صريحا و كناية مستحق للعقاب في الآخرة ولذلك عقب بجملة التذييل وهي {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} تحذيرا وتوبيخا.
ومعنى نفي المحبة نفي الرضا بالفساد، وإلا فالمحبة وهي انفعال النفس وتوجه طبيعي يحصل نحو استحسان ناشئ مستحيلة على الله تعالى فلا يصح نفيها فالمراد لازمها وهو الرضا عندنا وعند المعتزلة: الإرادة والمسألة مبنية على مسألة خلق الأفعال. ولا شك أن التقدير: إذا لم يرض بشيء يعاقب فاعله، إذ لا يعوقه عن ذلك عائق وقد سمى الله ذلك فسادا ون كان الزرع والحرث للمشركين؛ لأن إتلاف خيرات لأرض رزء على الناس كلهم وإنما يكون القتال بإتلاف الأشياء التي هي آلات الإتلاف وأسباب الاعتداء.
والفساد ضد الصلاح، ومعنى الفساد: إتلاف ما هو نافع للناس نفعا محضا أو راجحا، فإتلاف الألبان مثلا إتلاف نفع محض، وإتلاف الحطب بعلة الخوف من الاحتراق إتلاف نفع راجح والمراد بالرجحان رجحان استعماله عند الناس لا رجحان كمية النفع على كمية الضر، فإتلاف الأدوية السامة فساد، وإن كان التداوي بها نادرا لكن الإهلاك بها كالمعدوم لما في عقول الناس من الوازع عن الإهلاك بها فيتفادى عن ضرها بالاحتياط في رواجها وبأمانة من تسلم إليه، وأما إتلاف المنافع المرجوحة فليس من الفساد كإتلاف الخمور بله إتلاف ما لا نفع فيه بالمرة كإتلاف الحيات والعقارب والفئران والكلاب الكلبة، وإنما كان الفساد غير محبوب عند الله: لأن في الفساد بالتفسير الذي ذكرناه تعطيلا لما خلقه الله في هذا العالم لحكمة صلاح الناس فإن الحكيم لا يحب تعطيل ما تقتضيه الحكمة، فقتال العدو إتلاف للضر الراجح ولذلك يقتصر في القتال على ما يحصل به إتلاف الضر بدون زيادة، ومن أجل ذلك نهى عن إحراق الديار في الحرب وعن قطع الأشجار إلا إذا رجح في نظر أمير الجيش أن بقاء شيء مكن ذلك يزيد قوة العدو ويطيل مدة القتال ويخاف منه على جيش المسلمين أن ينقلب إلى هزيمة وذلك يرجع إلى قاعدة: الضرورة تقدر بقدرها.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} إي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي
تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك, والأخذ أصله تناول الشيء باليد, واستعمل مجازا مشهورا في الاستيلاء قال تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة:5] وفي القهر نحو {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} [الأنعام:42].وفي التلقي مثل {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران:81] ومنه أخذ فلان بكلام فلان, وفي الاحتواء والإحاطة يقال أخذته الحمى وأخذتهم الصيحة, ومنه قوله هنا {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} أي احتوت عليه عزة الجاهلية.
والعزة صفة: يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيره ولا يعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم قال السموأل:
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
ومنه العزة بمعنى القوة والغلبة وإنما تكون غالبا في العرب بسبب كثرة القبيلة, وقد تغني الشجاعة عن الكثرة ومن أمثالهم: وإنما العزة للكاثر, وقالوا: لن نغلب من قلة وقال السموأل:
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
ومنها جاء الوصف بالعزيز كما سيأتي في قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209].
فـ"أل" في "العزة" للعهد أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه, لأن العزة تقتضي معنى المنعة فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.
وقوله: {بالإثم} الباء فيه للمصاحبة أي أخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو الاحتراس لأن من العزة ما هو محمود قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] أي فمنعته من قبول الموعظة وأبقته حليف الإثم الذي اعتاده لا يرعوي عنه وهما قرينان.
وقوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} تفريع على هاته الحالة, وأصل الحسب هو الكافي كما سيجيء عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]
ولما كان كافي الشيء من شأنه أن يكون على قدره ومما يرضيه كما قال أبو الطيب:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
أطلق الحسب على الجزاء كما هنا.
وجهنم علم على دار العقاب الموقدة نارا, وهو اسم ممنوع من الصرف قال بعض النحاة للعلمية والتأنيث, لأن العرب اعتبرته كأسماء الأماكن وقال بعضهم للعلمية والعجمة وهو قول الأكثر: جاء من لغة غير عربية, ولذلك لا حاجة إلى البحث عن اشتقاقه, ومن جعله عربيا زعم أنه مشتق من الجهم وهو الكراهية فزعم بعضهم أن وزنه فعل بزيادة نونين أصله فعل بنون واحدة ضعفت وقيل وزنه فعلل بتكرير لوه الأولى وهي النون إلحاقا له بالخماسي ومن قال: أصلها بالفارسية كهنام فعربت جهنم.
وقيل أصلها عبرانية كهنام بكسر الكاف وكسر الهاء فعربت وأن من قال إن وزن فعنل لا وجود له ولا يلتفت لقوله لوجود دونك اسم واد بالعامية وحفنكى اسم للضعيف وهو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين ونون ساكنة وكاف وألف وهما نادران, فيكون جهنم نادرا, وأما قول العرب ركية جهنم أي بعيد القعر فلا حجة فيه, لأنه ناشئ عن تشبيه الركية بجهنم, لأنهم يصفون جهنم أنها كالبئر العميقة الممتلئة نارا قال ورقة بن نوفل أو أمية بن أبي الصلت يرثي زيدا بن عمرو بن نفيل وكانا معا ممن ترك عبادة الأوثان في الجاهلية:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار مظلما
وقد جاء وصف جهنم في الحديث بمثل ذلك وسماها الله في كتابه في مواضع كثيرة نارا وجعل {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].
وقوله: {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي جهنم, والمهاد ما يمهد أي يهيأ لمن ينام, وإنما سمي جهنم مهادا تهكما, لأن العصاة يلقون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم.
[207] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}
هذا قسيم {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} [البقرة:204] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعابا لقسمي الناس, فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى, وإنما رضى الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به.
و "يَشْرِي" معناه يبيع كما يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة:41]. واستعمل يَشْرِي هنا في البذل مجازا، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكا في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان.
و {مَرْضَاتِ اللَّهِ} رضاه فهو مصدر رضى على وزن المفعل زيدت فيه التاء سماعا كالمدعاة والمسعاة، في أسباب النزول قال سعيد بن المسيب نزلت في صهيب بن سنان النمري بن النمر بن قاسط1 الملقب بالرومي؛ لأنه كان أسره الروم في الجاهلية في جهات الموصل واشتراه بنو كلب وكان مولاهم وأثرى في الجاهلية بمكة وكان من المسلمين الأوليين فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج صهيب مهاجرا فلحق به نفر من قريش ليوثقوه فنزل عن راحلته وانتثل كنانه وكان راميا وقال لهم لقد علمتم أني من أرماكم وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء؛ فقالوا: لا نتركك تخرج من عندنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا, ولكن دلنا على مالك ونخلي عنك وعاهدوه على ذلك فدلهم على ماله, فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين رآه "ربح البيع أبا يحيى" وتلا عليه هذه الآية, وقيل إن كفار مكة عذبوا صهيبا لإسلامه فافتدى منهم بماله وخرج مهاجرا, وقيل: غير ذلك, والأظهر أنها عامة, وأن صهيبا أو غيره ملاحظ في أول من تشمله.
وقوله: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} تذييل أي رؤوف بالعباد الصالحين الذين منهم من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فالرأفة كناية عن لازمها وهو إيتاء الخيرات كالرحمة.
والظاهر أن التعريف في قوله: {بِالْعِبَادِ} تعريف استغراق، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرزق، ويجوز أن يكون لتعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.
ويجوز أن يكون "أل" عوضا عن المضاف إليه كقوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}
ـــــــ
1 كان صهيب من المؤمنين الأولين، أسلم هو وعمار بن ياسر في يوم أحد، شهد بدرا وتوفي سنة37هـ
[النازعات:41]، والعبادة إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] في سورة الحجر.
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان ما صدق "من" عاما كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عبادا له، وإن كان ما صدق "من" صهيبا رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف الذين صهيب منهم، والجملة تذييل على كل حال. والمناسبة أن صهيبا كان عبدا للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به.
وفي هذه الآية وهي قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] إلى قوله: {رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} معان معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار نالظواهر إلا بعد التجربة والامتحان، فإن من الناس من يغر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري:
وقد يخلف الإنسان ظن عشيرة ... وإن راق منه منظر ورواء
وقد شمل هذا الحال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكلم وتبغ هلهلة دينه إلى حد أن يشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية.
وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبئ خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به.
[208, 209] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ
الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
استئناف على طريقة للاعتراض انتهازا للفرصة إلى الدخول في السلم، ومناسبة ذكره عقب ما قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب، أعلاها {مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207] لأن النفس أغلى ما يبذل، وأقلها {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] أي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الأرض، وذلك يشتمل على أنه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد أن يدعي الناس إلى الدخول فيما يطلق عليه اسم السلم وهذه المناسبة تقوى وتضعف بحسب تعدد الاحتمالات في معنى طلب الدخول في السلم.
والخطاب بيا أيها الذين آمنوا خطاب للمسلمين على عادة القرآن في إطلاق هذا العنوان، ولأن شأن الموصول أن يكون بمنزلة المعرف بلام العهد.
و"الدخول" حقيقته نفوذ الجسم في جسم أو مكان محوط كالبيت والمسجد، ويطلق مجازا مشهورا على حلول المكان الواسع يقال دخل بلاد بني أسد وهو هنا مستعار للاتباع والالتزام وشدة التلبس بالفعل.
و"السلم" بفتح السين وكسرها مع سكون اللام، قرأ نافع وابن كثير والكسائي وأبو جعفر بفتح السين وقرأ باقي العشرة بكسر السين، ويقال سلم بفتح السين واللام قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] وحقيقة السلم الصلح وترك الحرب قال عباس ابن مرداس:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب تكفيك من أنفاسها جزع
وشواهد هذا كثيرة في كلامهم وقال زهير:
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا
بكسر السين واشتقاقه من السلامة وهي النجاة من ألم أو ضر أو عناد يقال أسلم نفسه لفلان أي أعطاه إياها بدون مقاومة، واستسلم طلب السلم أي ترك المقاومة، وتقول العرب: أسلم أم حرب، أي أ أنت مسالم أم محارب، وكلها معان متولد بعضها من بعض فلذلك جزم أئمة اللغة بأن السلم بكسر السين وفتحها وبالتحريك يستعمل كل واحد منها فيما يستعمل فيه الآخر.
قالوا ويطلق السلم بلغاته الثلاث على دين الإسلام ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وأنشدوا قول امرئ القيس بن عابس الكندي في قضية ردة قومه:
دعوت عشسرتي للسلم لما ... رايتهموا تولوا مدبرينا
فلست مبدلالا بالله ربا ... ولا مستبدلا بالسلم دينا
وهذا الإطلاق انفرد بذكره أصحاب التفسير ولم يذكره الراغب في "مفردات القرآن" ولا الزمخشري في "الأساس" وصاحب "لسان العرب" وذكره في "القاموس" تبعا للمفسرين وذكره الزمخشري في "الكشاف" حكاية قول في تفسير السلم هنا فهو إطلاق غير موثوق بثبوته وبيت الكندي يحتمل معنى المسالمة أي المسالمة للمسلمين ويكون قوله "دينا" بمعنى العادة الملازمة كما قال المثقب العبدي:
تقول وقد أدرت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني
وعن أبي عمرو بن العلاء السلم بكسر السين هو الإسلام والسلم بفتح السين المسالمة، ولذلك قرأ {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} في هذه السورة بكسر السين لا غير وقرأ التي في سورة الأنفال والتي في سورة محمد صلى الله عليه وسلم بفتح السين قال الطبري توجيها منه لمعناه هنا إلى أنه الإسلام دون الآيتين الأخريين.وأنكر المبرد هذه التفرقة وقال: اللغة لا تؤخذ هكذا وإنما تؤخذ بالسماع لا بالقياس ويحتاج من فرق إلى دليل.
فكون السلم من أسماء الصلح لا خلاف فيه بين أئمة اللغة فهو مراد من الآية لا محالة وكونه يطلق على الإسلام إذا صح ذلك جاز أي يكون مرادا أيضا ويكون من استعمال المشترك في معنييه. فعلى أن يكون المراد بالسلم المسالمة كما يقتضيه خطابهم بيأيها الذين آمنوا الذي هو كاللقب للمسلمين كان المعنى أمرهم بالدخول في المسالمة دون القتال، وكما تقتضيه صيغة الأمر في {ادْخُلُوا} من أن حقيقتها طلب تحصيل فعل لم يكن حاصلا أو كان مفرطا في بعضه.
فالذي يبدو لي أن تكون مناسبة ذكر هذه الآية عقب ما تقدم هي أن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] الآيات تهيئة لقتال المشركين لصدهم المسلمين عن البيت وإرجافهم بأنهم أجمعوا أمرهم على قتالهم، والإرجاف بقتل عثمان بن عفان بمكة حين أرسله رسول الله إلى قريش، فذكر ذلك واستطرد بعده ببيان أحكام الحج والعمرة فلما قضى حق ذلك كله وألحق به ما أمر الله بوضعه في موضعه بين تلك الآيات، أستؤنف هنا أمرهم بالرضا بالسلم والصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عام الحديبية، لأن كثيرا من المسلمين كانوا آسفين من وقوعه ومنهم عمر بن
الخطاب فقد قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فكيف نعطي الدنية في ديننا رواه أهل "الصحيح" فتكون مدة ما بين نزول المسلمين بالحديبية وتردد الرسل بينهم وبين قريش وما بين وقوع الصلح هي مدة نزول الآيات من قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] إلى هنا. واعلم أنه إذا كان الضمير في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} [البقرة:210] راجعا إلى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} [البقرة:204] أو {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَه} [البقرة:207] كما سيأتي يكون قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة:208] اعتراضا بين الجملة ذات المعاد والجملة ذات الضمير.
فأما إذا فسر السلم بالإسلام أي دين الإسلام فإن الخطاب بيا أيها الذين آمنوا وأمر المؤمنين بالدخول في الإسلام يؤول بأنه أمر بزيادة التمكن منه والتغلغل فيه لأنه يقال دخل الإيمان في قلبه إذا استقر وتمكن، قال تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
وقال النابغة:
أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته ... تحرك داء في فؤادي داخل
وهذا هو الظاهر. فيراد بالأمر في {ادْخُلُوا} الدوام على ذلك وقيل أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان فتكون خطابا للمنافقين. فيؤول قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} بمعنى أظهروا الإيمان فيكون تهكما بهم على حد قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] فيكون خطابا للمنافقين وهذا تأويل بعيد لأن الذين آمنوا صار كاللقب لمن ابتع الذين اتباعا حقا، ولأن الظاهر على هذا أن يثبت للمنافقين وصف الإسلام ويطلب منهم الإيمان دون العكس، بدليل قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
وقيل المراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا من اليهود كعبد الله بن سلام فيؤول {ادْخُلُوا} بمعنى شدة التلبس أي بترك ما لم يجيء به الدين، لأنهم استمروا على تحريم السبت وترك شرب ألبان الإبل وبعض ما اعتادوه من أحوالهم أيام تهودهم إذا صح ما رواه أهل أسباب النزول أن طائفة من مؤمني اليهود فعلوا ذلك.
ويجوز أن يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي ويراد السلم بين المسلمين يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بألا يكون بعضهم حربا لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية، وبتناسي ما كان بين قبائلهم من العداوات، ومناسبة ذكر هذا عقب ما تقدم أنهم لما أمروا بذكر الله كذكرهم آباءهم وكانوا يذكرون في موسم الحج تراتهم ويفخرون
فخرا قد يفضي إلى الحمية، أمروا عقب ذلك بالدخول في السلم ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه حجة الوداع: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" فتكون الآية تكملة للأحكام المتعلقة بإصلاح أحوال العرب التي كانوا عليها في الجاهلية، وبها تكون الآية أصلا في كون السلم أصلا للإسلام وهو رفع التهارج كما قال الشاطبي أي التقاتل وما يفضي إليه، وإما أن يكون المراد من السلم هنا السلم مع الله تعالى على معنى المجاز: أي ادخلوا في مسالمة الله تعالى باتباع أوامره واجتناب منهياته كما أطلق الحرب على المعصية مجازا في قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] وفي الحديث القدسي الذي رواه الترمذي: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
و "كَافَّةً" اسم يفيد الإحاطة بأجزاء ما وصف به، وهو في صورة صوغه كصوغ اسم الفاعلة من كف ولكن ذلك مصادفة في صيغة الوضع، وليس فيها معنى الكف ولا حاجة إلى تكلف بيان المناسبة بين صورة لفظها وبين معناها المقصود في الكلام لقلة جدوى ذلك، وتفيد مفاد ألفاظ التوكيد الدالة على الشمول والإحاطة.
والتاء المقترنة بها ملازمة لها في جميع الأحوال كيفما كان المؤكد بها مؤنثا كان أو مذكرا مفردا أو جمعا، نحو {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]، وأكثر ما يستعمل {كَافَّةً} في الكلام أنه حال من اسم قبله كما هنا فقوله: {كَافَّةً} حال من ضمير {ادخلوا} أي حالة كونكم "جميعا" لا يستثنى منكم أحد، وقال ابن هشام في معنى اللبيب عند الكلام على الجهة الخامسة من الباب الخامس في ذكر الحال من الفاعل ومن المفعول أن {كَافَّةً} إذا استعملت في معنى الجملة والإحاطة لا تكون إلا حالا مما جرت عليه، ولا تكون إلا نكرة ولا يطون موصوفها إلا مما يعقل، ولكن الزجاج والزمخشري جوزا جعل كافة حالا من السلم والسلم مؤنث، وفي "الحواشي الهندية على المغني للدماميني" أنه وقع كافة اسما لغير العاقل وغير حال بل مضافا في كتاب عمر بن الخطاب لآل كاكلة وقد جعلت لآل كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا في كل عام" .
واعلم أن تحجير ما لم يستعمله العرب إذا سوغته القواعد تضييق في اللغة وإنما يكون اتباع العرب في استعمالهم أدخل في الفصاحة لا موجبا للوقوف عنده دون تعدية فإذا ورد في القرآن فقد نهص.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم
المأمور به بطريق النهي، عن خلاف المأمور به، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروف بأنه لا يشير بالخير، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عمر: "ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدنية في ديننا" وكما قال سهل ابن جنيف يوم صفين: "أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لفعلنا والله ورسوله أعلم" بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلا خيرا، كما قال أبو بكر لعمر إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا تنبيها لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساس الشيطان، وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام، والكلام على معنى لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين، وما فيه من الاستعارة تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168] الآية.
وقوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي.
وأصل الزلل الزلق أي اضطراب القدم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به، واستعمل الزلل هنا مجازا في الضر الناشئ عن اتباع الشيطان من بناء التمثيل على التمثيل؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضا بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله: {زَلَلْتُمْ} تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازا والمجاز هنا في مركبه.
والبينات: الأدلة والمعجزات ومجيئها وظهورها وبيانها، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته.
وجيء في الشرط بإن لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه.وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة. وقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} جواب الشرط، و {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، مفعول {اعْلَمُوا} والمقصود علم لازمه وهو العقاب.
والعزيز فعيل من عز إذا قوي ولم يغلب، أصله من العزة وقد مر الكلام عليها عند قوله: { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} [البقرة:206] وهو ضد، فكان العلم بأنه تعالى عزيز مستلزما تحققهم أنه معاقبتهم لا يفلتهم، لأن العزيز لا ينجو من يناوئه.
والحكيم يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم أي قوي الحكم، ويحتمل أنه المحكم للأمور فهو من مجيء فعيل بمعنى مفعل، ومناسيته هنا أن المتقن للأمور لا يفلت مستحق العقوبة، فالكلام وعيد وإلا فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم.
ولك أن تجعل قوله: {فَاعْلَمُوا} تنزيلا لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول.
وإنما قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} إعذارا لهم، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين، لأنه ما أوحاه الله إلا لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين، لأن الله عزيز لا يهن لأحد، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالة على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر.
وإن كان المراد الدخول في الإسلام أو الدوام عليه فالمعنى {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} الاتصاف بما ينافي الأمر بالدخول في السلم، والمراد بالبينات المعجزات الدالة على صدق الرسول، نقل الفخر عن "تفسير القاضي عبد الجبار" دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلا بعد البيان وأن المؤاخذة تكون بعد حصول البيانات لا بعد حصول اليقين من المكلف، لأنه غير معذور في عدم حصول اليقين إن كانت الأدلة كافية.
وفي "الكشاف" روى أن قارئا قرأ هذه الآية فإن الله غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره وقال لا يقول الحكيم كذا لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه اه وفي القرطبي عن "تفسير النقاش" نسبة مثل هذه القصة إلى كعب الأحبار، وذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غفور رحيم}، وبجنبي أعرابي فقال كلام من هذا? قلت كلام الله. قال: ليس هذا كلام الله فانتبهت فقرأت: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38] فقال أصبت هذا كلام الله فقلت
أتقرأ القرآن? قال لا قلت من أين علمت؟ قال يا هذا عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع.
[210] {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}
إن كان الإضمار جاريا على مقتضى الظاهر فضمير {يَنْظُرُونَ} راجع إلى معاد مذكور قبله، وهو إما {مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، وإما إلى {مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207]، أو إلى كليهما لأن الفريقين ينتظرون يوم الجزاء، فأخذ الفريقين ينتظره شكا في الوعيد بالعذاب، والفريق الآخر ينتظره انتظار الراجي للثواب. ونظيره قوله: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:102] فانتظارهم أيام الذين خلوا انتظار توقع سوء وانتظار النبي معهم انتظار تصديق وعيده.
وإن كان الإضمار جاريا على خلاف مقتضى الظاهر فهو راجع إلى المخاطبين بقوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة:208] وما بعده، أو إلى الذين زلوا المستفاد من قوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ}، وهو حينئذ التفات من الخطاب إلى الغيبة، إما لمجرد تجديد نشاط السامع إن كان راجعا إلى المخاطبين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:208]، وإما لزيادة نكتة إبعاد المخاطبين بقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} عن عز الحضور، قال القرطبي: {هَلْ يَنْظُرُونَ} يعني التاركين الدخول في السلم، وقال الفخر الضمير لليهود بناء على أنهم المراد من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} أي يا أيها الذين آمنوا بالله وبعض رسله وكتبه على أحد الوجوه المتقدمة وعلى أن السلم أريد به الإسلام، ونكتة الالتفات على هذا القول هي هي.
فإن كان الضمير لمن يعجبك أو له ولمن يشري نفسه، فالجملة استئناف بياني، لأن هاتين الحالتين العجيبتين في الخير والشر تثير أن سؤال من يسأل عن جزاء كلا الفريقين فيكون قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} جوابا لذلك، وإن كان الضمير راجعا إلى الذين آمنوا فجملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} استئناف للتحريض على الدخول في الإسلام خشية يوم الجزاء أو طمعا في ثوابه وإن كان الضمير للذين زلوا من قوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ} فالجملة بدل اشتمال من مضمون جملة: {فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49] لأن معناه
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ} فالله لا يفلتكم لأنه عزيز حكيم، وعدم الإفلات يشتمل على إتيان أمر الله والملائكة، وإن كان الضمير عائدا إلى اليهود فهو توبيخ لهم على مكابرتهم عن الاعتراف بحقية الإسلام. وعلى كل الاحتمالات التي لا تتنافى فقد جاء نظم قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} بضمير الجمع نظما جامعا للمحامل كلها مما هو أثر من آثار إعجاز هذا الكلام المجيد الدال على علم الله تعالى بكل شيء.
وحرف "هل" مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه، فلذلك قال أئمة المعاني إن هل لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم وقال الزمخشري في "الكشاف": إن أصل هل أنها مرادفة قد في الاستفهام خاصة، يعني قد التي للتحقيق وإنما اكتسبت إفادة الاستفهام من تقدير همزة الاستفهام معها كما دل عليه ظهور الهمزة معها في قول زيد الخيل:
سائل فوارس بربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
وقال في "المفصل": وعن سيبويه أن هل بمعنى قد إلا أنهم تركوا الألف قبلها؛ لأنها لا تقع إلا في الاستفهام اه. يعني أن همزة الاستفهام التزم حذفها للاستغناء عنها بملازمة هل للوقوع في الاستفهام، إذ لم يقل أحد أن هل ترد بمعنى قد مجردة عن الاستفهام فإن مواردها في كلام العرب وبالقرآن يبطل ذلك ونسب ذلك إلى الكسائي والفراء والمبرد في قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الانسان:1] ولعلهم أرادوا تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ولا نعرف في كلام العرب اقتران هل بحرف الاستفهام إلا في هذا البيت ولا ينهض احتجاجهم به لإمكان تخريجه على أنه جمع بين حرفي استفهام على وجه التأكيد كما يؤكد الحرف في بعض الكلام كقول مسلم بن معبد الوالبي:
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء
فجمع بين لامي جر، وأياما ما كان فإن هل تمحضت لإفادة الاستفهام في جميع مواقها، وسيلأتي هذا في تفسير قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} في سورة الإنسان.
والاستفهام إنكاري لا محال بدليل الاستثناء، فالكلام خبر في صورة الاستفهام. والنظر: الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه، لأن الذي يترقب أحد يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عندما يبدوا، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون
بأبصارهم في الآخرة إلا إتيان أمر الله والملائكة، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك، إلا أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله، فيكون قصرا ادعائيا، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك.
وهذا المركب ليس مستعملا فيما وضع له من الإنكار بل مستعملا إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير، وإما الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه، وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين، وإما التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين، فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55].ويجوز هذا أن يكون خبرا عن اليهود: أي أنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظل من الغمام على نحو قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145].
وأما المشركون فإنهم قد حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً -إلى قوله- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الاسراء:92]، وسيجيء القول مشبعا في موقع هذا التركيب ومعناه عند الكلام على قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} في سورة البقرة.
و "الظلل" بضم ففتح اسم جمع ظله، والظلة تطلق على معان والذي تلخص لي من حقيقتها في اللغة أنها اسم لشبه صفة مرتفعة في الهواء تتصل بجدار أو ترتكز على أعمدة يجلس تحتها لتوقي شعاع الشمس، فهي مشتقة من اسم الظل جعلت على وزن فعلة بمعنى مفعول أو مفعول بها مثل القبضة بضم القاف لما يقبض باليد،
والغرفة بضم الغين لما يغترف باليد كقوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] في قراءة بعض العشرة بضم الغين.
وهي هنا مستعارة أو مشبه بها تشبيها بليغا: السحابات العظيمة التي تشبه كل سحابة منها ظله القصر.
و {مِنَ الْغَمَامِ} بيان للمشبه وهو قرينة الاستعارة ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16].
والإتيان حضور الذات في موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان
إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالا في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم الجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبرا أو تهكما فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيدا من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون:
الوجه الأول: ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى، لكن كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث.فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوه منها:
الوجه الثاني: أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعا لمن يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول: أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكهه واستأصله، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2] -وقال: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:26] وليس قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} بمناف لهذا المعنى، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفا بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} قريبا.
الوجه الثالث: إسناد الإتيان إلى تعالى إسناد مجازي: وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} زيادة تنويه بذلك ووقعة لدى الناظرين.
الوجه الرابع: يأتيهم كلام الله الدال على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعا من قبل
ظلل من الغمام تحفه الملائكة.
الوجه الخامس: أن هنالك مضافا مقدرا يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآن أو يأتي لأمر ربك وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً} [الأعراف:4]ولا يخفلا أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازا في ظهور الأمر.
الوجه السادس: حذف مضاف تقديره، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رسله ويبعه قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} إلا أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث.
الوجه السابع: أن هنالك معمولا محذوفا دل عليه قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209] والتقدير لأن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه. والأحسن: تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعدا ووعيدا.
وقد ذكرت في تفسير قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] في سورة آل عمران ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام: قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا، وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر في المعنى المناسب دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة، وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر، وقسم متشابه شديد التشابه.
وقوله تعالى: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} أشد إشكالا من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية، وهي مستحيلة على الله تعالى، وتأويله إما بأن "في" بمعنى الباء أي {يأتيهم بظلل من الغمام} وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو اليح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيويا، أو {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] وكان رسول الله إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب، أو على كلامه تعالى، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني، وفي "تفسير القرطبي والفخر" قيل: إن في الآية تقديما وتأخيرا، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة، وروى أن ابن مسعود قرأها كذلك، وهذه الوجوه كلها مبنية
على أن هذا إخبار بأمر مستقبل، فأما على جعل ضمير {يَنْظُرُونَ} مقصودا به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكما أي ماذا ينتظرون في التباطؤ عند الدخول في الإسلام، ما ينتظرون إلا أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين، فإنهم قالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] واعتقدوا أن الله في الغمام، أو يكون المراد تعريضا بالمشركين، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان.
وقرأه الجمهور {وَالْمَلائِكَةُ} بالرفع عطفا على اسم الجلالة، وإسناد الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملا في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازا في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقته في الإسناد ولا مانع من ذلك؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة، قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك:
أتاك بي الله الذي نور الهدى ... ونور وإسلام عليك دليل
فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسناد حقيقي ثم أسنده بالعطف للنور والإسلام، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما: سبب الإتيان به ألا ترى أنه قال "عليك دليل". وقرأ أبو جعفر {وَالْمَلائِكَةُ} بجر {الْمَلائِكَةُ} عطف على {ظُلَلٍ}.
وقوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} إما عطف على جملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} إن كانت خبرا على المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيها على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه، والمعنى ما ينتظرون إلا يأتيهم الله وسوف يقضي الأمر، وإما عطف على جملة: {يَنْظُرُونَ} إن كانت جملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} وعيدا أو وعدا والفعل كذلك للاستقبال، والمعنى ما يترقبون إلا مجيء أمر الله وقضاء الأمر.
وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد، سواء كانت جملة: {هَلْ يَنْظُرُونَ} خبرا أو وعدا ووعيدا أي وحينئذ قد قضي الأمر، وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا
يُنْظَرُونَ} [الأنعام:8].
والقضاء: الفراغ والإتمام.
والتعريف في "الأمر" إما للجنس مراد منه الاستغراق أي قضيت الأمور كلها، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء.
وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} تذييل جامع لمعنى: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ}.
والرجوع في الأصل: المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع، ويستعمل مجازا في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره، فمنه {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:53]
ويجئ فعل رجع متعديا: تقول رجعت زيدا إلى بلده ومصدره الرجع، ويستعمل رجع قاصرا تقول: رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجوع،
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر ويعقوب "ترجع" بضم التاء وفتح الجيم على أنه مضارع أرجعه أو مضارع رجعه مبنيا للمفعول أي يرجع الأمور راجعها إلى الله، وحذف الفاعل على هذا العدم تعين فاعل عرفي لهذا الرجع، أو حذف لدفع ما يبدو من التنافي بين كون اسم الجلالة فاعلا للرجوع ومفعولا له بحرف إلى، وقرأه باقي العشرة بالبناء للفاعل من رجع الذي مصدره الرجوع فالأمور فاعل ترجع.
[211] {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
تتنزل هذه الآية من التي قبلها منزلة البرهان على معنى الجملة السابقة، فإن قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ} سواء كان خبرا أو وعيدا أو وعدا أم تهكما وأيا ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة، وقد دل بكل احتمال على تعريض بفرق ذوي غرور وتماد في الكفر وقلة انتفاع بالآيات البينات، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غناء الآيات لديهم على كثرتها، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيمانا ضعيفا ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلا.
وعلى احتمال أن يكون الضمير في {يَنْظُرُونَ} لأهل الكتاب: أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله: {بَنِي إِسْرائيلَ} لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذ أشد: أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان
المناسب لهم أن يبادروا بالإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة.
و {سَلْ} أمر من سأل يسأل أصله اسأل فحذفت الهمزة تخفيفا بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها إلحاقا لها بنقل حركة حرف العلة لشبه الهمزة بحرف العلة فلما تحرك أول المضارع استغنى عن اجتلاب همزة الوصل، وقيل: سل أمر من سأل الذي جعلت همزته ألفا مثل الأمر من خاف يخاف خف، والعرب يكثرون من هذا التخفيف في سأل ماضيا وأمرا؛ إلا أن الأمر إذا وقع بعد الواو والفاء تركوا هذا التخفيف غالبا.
والمأمور بالسؤال هو الرسول؛ لأنه الذي يترقب أن يجيبه بنو إسرائيل عن سؤاله؛ إذ لا يعبأون بسؤال غيره؛ لأن المراد بالسؤال سؤال التقرير للتقريع، ولفظ السؤال يجئ لما تجئ له أدوات الاستفهام. والمقصود من التقرير إظهار إقرارهم لمخالفتهم لمقتضى الآيات فيجئ من هذا التقرير التقريع فليس المقصود تصريحهم بالإقرار؛ بل مجرد كونهم لا يسعهم الإنكار.
والمراد بـ"بَنِي إِسْرائيلَ" الحاضرون من اليهود. والضمير في {آتَيْنَاهُمْ} لهم، والمقصود إيتاء سلفهم؛ لأن الخصال الثابتة لأسلاف القبائل والأمم، يصح إثباتها للخلف لترتب الآثار للجميع كما هو شائع في مصطلح الأمم الماضية من العرب وغيرهم. ويجوز أن يكون معنى إيتائهم الآيات أنهم لما تناقلوا آيات رسلهم في كتبهم وأيقنوا بها فكأنهم أوتوها مباشرة.
و"كم" اسم للعدد المبهم فيكون للاستفهام، ويون للإخبار، وإذا كانت للإخبار دلت على عدد كثير مبهم؛ ولذلك تحتاج إلى مميز في الإخبار، وهي هنا، استفهامية كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال، فالمسؤول عنه هو عد الآيات.
وحق سأل أن يتعدى إلى مفعولين من باب كسا أي ليس أصل مفعوليه مبتدأ وخبرا، وجملة: {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} لا تكون مفعوله الثاني؛ إذ ليس الاستفهام مطلوبا بل هو عين الطلب، ففعل سل معلق عن المفعول الثاني لأجل الاستفهام، وجملة: {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} في موقع المفعول الثاني سادة مسده.
والتعليق يكثر في الكلام في أفعال العلم والظن إذا جاء بعد الأفعال استفهام أو نفي أو لام ابتداء أو لام قسم، وألحق بأفعال العلم والظن ما قارب معناها من الأفعال، قال
في "التسهيل" "يشاركهن فيه "أي في التعليق" مع الاستفهام، نظر وتفكر وأبصر وسأل، وذلك كقوله تعالى: {يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذريات:12] ولما أخذ سأل هنا مفعوله الأول فقد علق عن المفعول الثاني، فإن سبب التعليق هو مضمون الكلام الواقع بعد الحرف الموجب للتعليق ليس حالة من حالات المفعول الأول فلا يصلح لأن يكون مفعولا ثانيا للفعل الطالب مفعولين، قال سيبويه: "لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض فلا يكون مبتدأ لا يعمل فيه سئ قبله" اه وذلك سبب لفظي مانع من تسلط العامل على معموله لفظا، وإن كان لم يزل عاملا فيه معنى وتقديرا، فكانت الجملة باقية في محل المعمول، وأداة الاستفهام من بين بقية موجبات التعليق أقوى في إبعادها معنى ما بعدها عن العامل الذي يطلبه، لأن الكلام معها استفهام ليس من الخبر في شئ، إلا أن ما تحدثه أداة الاستفهام من معنى الاستعلام هو معنى طارئ في الكلام غير مقصود بالذات بل هو ضعف بوقوعه بعد عامل خبري فصار الاستفهام صوريا، فلذلك لم يبطل عمل العامل إلا لفظا، فقولك: علمت هل قام زيد قد دل علم على أن ما بعده محقق فصار الاستفهام صوريا وصار التعليق دليلا على ذلك، ولو كان الاستفهام باقيا على أصله لما صح كون جملته معمولة للعامل المعلق،
قال الرضي: "إن أداة الاستفهام بعد العلم ليست مفيدة للاستفهام المتكلم بها للزوم التناقض بين علمت وأزيد قائم بل هي لمجرد الاستفهام والمعنى علمت الذي يستفهم الناس عنه" اهـ ، فيجئ من كلامه أن قولك علمت أزيد قائم بقوله: من علم شيئا يجهله الناس أو يعتنون بعلمه، بخلاف قولك علمت زيدا قائما، وقد يكون الاستفهام الواو بعد السؤال حكاية للفظ السؤال فتكون جملة للاستفهام بيانا لجملة السؤال قال صدر الأفاضل في قول الحريري سألناه أنى اهتديت إلينا أي سألناه هذا السؤال اهـ. وهو يتأتى في هذه الآية.
ويجوز أن يضمن سل معنى القول، أي فيكون مفعوله الثاني كلاما فقد أعطى سل مفعولين: أحدهما مناسب لمعنى لفظه والآخر مناسب لمعنى المضمن.
وجوز التفتازاني في "شرح الكشاف" أن جملة" {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} بيان للمقصود من السؤال، أي سلهم جواب هذا السؤال، قال السلكوتي في "حاشية المطول": فتكون الجملة واقعة موقع المفعول، أي ولا تعليق في الفعل.
وجوز صاحب "الكشاف" أن تكون "كم" خبرية، أي فتكون ابتداء كلام وقد قطع
فعل السؤال عن متعلقه اختصار لما دل عليه ما بعده، أي سلهم عن حالهم في شكر نعمة الله، فبذلك حصل التقويع. ويكون {كَمْ آتَيْنَاهُمْ} تدرجا في التقريع بقرينة {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} ، ولبعد كونها خبرية أنكره أبو حيان على صاحب "الكشاف" وقال إنه يفضي إلى اقتطاع الجملة فيها "كم" عن جملة السؤال مع أن المقصود السؤال عن النعم.
و {مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} تمييز "كم" دخلت عليه من التي ينتصب تمييز كم الاستفهامية على معناها والتي يجر تمييز كم الخبرية بتقديرها ظهرت في بعض المواضع تصريحا بالمقدر، لأن كل حرف ينصب مضمرا يجوز ظهوره إلا في مواضع مثل إضمار أن بعد حتى، قال الرضي: إذا فصل بين كم الخبرية والاستفهامية وبين مميزها بفعل متعد وجب جر التمييز بمن أي ظاهره لئلا يلتبس التمييز بالمفعول ونحو قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] وَ {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [القصص:58] اهـ أي لئلا يلتبس بمفعول ذلك الفعل الفاصل، أو هو للتنبيه من أول الأمر على أنه تمييز لا مفعول إغاثة لفهم السامع وذلك من بلاغة العرب، وعندي أن موجب ظهور من في حالة الفصل هو بعد المميز لا غير، وقيل: ظهور "من" واجب مع الفصل بالفعل المتعدى، وجائز مع الفصل بغيره، كما نقل عبد الحكيم عن اليمني والتفتازاني في "شرحي الكشاف".
وفي الكافية أن ظهور "من" في مميز "كم" الخبرية والاستفهامية جائز كذا أطلقه ابن الحاجب، لكن الرضي قال إنه لم يعثر على شاهد عليه في "كم" الاستفهامية إلا مع الفصل بالفعل وأما في كم الخبرية فظهور "من" موجود بكثرة بدون الفصل، والظاهر أن ابن الحاجب لم يعبأ بخصوص الأمثلة التي ذكرها الرضي، وإنما اعتد بظهور "من" قي المميز وهو الظاهر.
و "الآية" هنا المعجزة ودليل صدق الرسل، أو الكلمات الدالة على مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها آية لموسى؛ إذ أخبر بها قبل قرون، وآية لحمد عليه الصلاة والسلام، إذ كان التبشير به قبل وجوده بقرون، ووصفها بالبينة على الاحتمالين مبالغة في الصفة من فعل بأن أي ظهر، فيكون الظهور ظهور العيان على الوجه الأول، وظهور الدلالة على الوجه الثاني، وفي هذا السؤال وصيغته حذف دل عليه قوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ}، تقديره فبدلوها ولم يعلموا بها.
وقوله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} تذييل لجملة: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ} إلخ، أفاد أن المقصود أولا من هذا الوعيد بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله: {سَلْ بَنِي
إِسْرائيلَ} ، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلا لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء، فيغني مثله في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازا بديعا من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معا؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب؛ لأن من يبدل نعمة الله فالله معاقبه، ولأنه يفيد بهذا العموم حكما يشمل المقصودين وغيرهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضا يشبه التصريح، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلا لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع.
وإنما أثبت للآيات أنها نعم؛ لأنها إن كانت دلائل صدق الرسول فكونها نعما لأن دلائل الصدق هي التي تهدي الناس إلى قبول دعوة الرسول عن بصيرة لمن لم يكن اتبعه، وتزيد اللذين اتبعوه رسوخ إيمان قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] وبذلك التصديق يحصل تلقي الشرع الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة وتلك نعمة عاجلة وأجله، وإن كانت الآيات الكلام الدال على البشارة بالرسول فهي نعمة عليهم، لأنها قصد بها تنوير سبيل الهداية لهم عند بعثه الرسول لئلا يترددوا في صدقة بعد انطباق العلامات التي ائتمنوا على حفظها.
والتبديل على الوجه الأول تبديل الوصف بأن أعرضوا عن تلك الآيات فتبدل المقصود منها، إذ صارت بالإعراض سبب شقاوتهم في الدنيا والآخرة، لأنها لو لم تؤت لهم لكان خيرا لهم في الدنيا؛ إذ يكونون على سذاجة هم بها أقرب إلى فعل الخير منهم بعد قصد المكابرة والإعراض؛ لأنهما تعمدا لارتكاب الشرور، وفي الآخرة أيضا لأن العقاب على الكفر يتوقف على الدعوة وظهور المعجزة، وقد أشبههم في هذا التبديل المشركون بإعراضهم عن القرآن والتدبر في هديه أو التبديل بأن استعملوا تلك الآيات في غير المراد منها بأن جعلوها أسباب غرور فإن الله ما آتى رسولهم تلك الآيات إلا لتفضيل أمته فتوكأوا على ذلك وتهاونوا على الدين فقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] وقالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80].
والتبديل جعل شئ بدلا عن آخر، أي تعويضه به فيكون تعويض ذات بذات
وتعويض وصف بوصف كقول أبي الشيص:
بدلت من برد الشباب ملاءة ... خلقا وبئس مثوبة المقتاض
فإنه أراد تبديل حالة الشباب بحالة الشيب، وكقول النابغة:
عهدت بها حيا فبدلت ... خناظيل آجال النعاج الجوافل
وليس قوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ} من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير بأن يكون الأصل ومن يبدلها أي الآيات: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لظهور أن في لفظ "نعمة الله" معنى جامعا للآيات وغيرها من النعم.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن ، لأنها من لوازم المجيء عرفا.
وإنما جعل العقاب مترتبا على التبديل بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75].وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل. والعقاب ناشئ من تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها، ولا يكون تبديل إلا لقصد مخالفتها، وإلا لكان غير تبديل بل تأييدا وتأويلا، بخلاف قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [ابراهيم:28] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [ابراهيم:30].
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} دليل جواب الشرط وهو علته، لأن جعل هذا الحكم العام جوابا للشرط يعلم منه أن من ثبت له فعل الشرط يدخل في عموم هذا الجواب، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذكره لم يقصد منه الفائدة، لأنها معلومة: بل التهديد، فعلم أن المقصود تهديد المبل فدل على معنى: فالله يعاقبه، لأن الله شديد العقاب، ومعنى شدة عقابه: أنه لا يفلت الجاني وذلك لأنه القادر على العقاب، وقد جوز أن يكون فإن الله شديد العقاب نفس جواب الشرط يجعل أل في العقاب عن الضمير المضاف إليه أي شديد معاقبته.
وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: فإنه شديد العقاب، لإدخال
الروع في ضمير السامع وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلا بنفسه، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم، سمى عقابا لأنه يعقب الجناية.
[212] {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
استئناف بالرجوع إلى أحوال كفار العرب المعنيين من الآيات السابقة قصدا وتعريضا من قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] ، والمحتج عليهم بقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:211] استئنافا لبيان خلقهم العجيب المفضي بهم إلى قلة الاكتراث بالإيمان وأهله وإلى الاستمرار على الكفر وشعبه التي سبق الحديث عنها، فعن ابن عباس المراد: رؤساء قريش، فهذا الاستئناف في معنى التعليل للأحوال الماضية، ولأجل ذلك قطع عن الجمل السابقة لا سيما وقد حال بينه وبينها الاستطراد بقوله: {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ} [البقرة:211] الآية، وليس المراد بالذين كفروا أهل الكتاب من معلن ومنافق كما روى عن مقاتل، لأنه ليس من اصطلاح القرآن التعبير عنهم بالذين كفروا، ولأنهم لو كانوا هم المراد لقيل زين لهم الحياة الدنيا، لأنهم من بني إسرائيل، ولأن قوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يناسب حال المشركين لا حال أهل الكتاب كما سيأتي.
والتزيين: جعل الشيء زينا أو الاحتجاج لكونه زينا، لأن التفعيل يأتي للجعل ويأتي للنسبة كالتعليم وكالتفسيق والتزكية، والزين شدة الحسن.
والحياة الدنيا مراد بها ما تشتمل عليه الحياة من اللذات والملائمات والذوات الحسنة، وهذا إطلاق مشهور للحياة وما يرادفها؛ ففي الحديث: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أي إلى منافع دنيا، وهو على حذف مضاف اشتهر حذفه.
ومعنى تزيين الحياة لهم، إما أن ما خلق زينا في الدنيا قد تمكن من نفوسهم واشتد توغلهم في استحسانه، لأن الأشياء الزينة هي حسنة في أعين جميع الناس فلا يختص الذين كفروا بدعلها لهم زينة كما هو مقتضى قوله: {لِلَّذِينَ كَفَرُوا}؛ فإن اللام تشعر بالاختصاص، وإما ترويج تزيينها في نفوسهم بدعوة شيطانية تحسن ما ليس بالحسن كالأقيسة الشعرية والخواطر الشهوية،
والمزين على المعنى الأول هو الله تعالى إلا أنهم أفرطوا في الإقبال على الزينة، والمزين على المعنى الثاني هو الشيطان ودعاته.
وحذف فاعل التزيين، لأن المزين لهم أمور كثيرة: منها خلق بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر، ومنها إلقاء حسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان باديا، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يعد فاعلا للتزيين حقيقة أو عرفا، فلأجل ذلك طوى ذكر هذا الفاعل تجنبا للإطالة.
ويجوز أن يكون حذف الفاعل لدقته، إذ المزين لهم الدنيا أمر حفي فيحتاج في تفصيله إلى شرح في أخلاقهم وهو ما اكتسبته نفوسهم من التعلق باللذات وبغيرها من كل ما حملهم على التعلق به التنافس أو التقليد حتى عموا عما في ذلك من الأضرار المخالطة للذات أو من الأضرار المختصة المغشاة بتحسين العادات الذميمة، وحملهم على الدوام عليه ضعف العزائم الناشئ عن اعتياد الاسترسال في جلب الملائمات دون كبح لأزمة الشهوات، ولأجل اختصاصهم بهذه الحالة دون المؤمنين ودون بعض أهل الكتاب الذين ربت الأديان فيهم عزيمة مقاومة دعوة النفوس الذميمة بتعريفهم ما تشتمل عليه تلك اللذات من المذكات وبأمرهم بالإقلاع عن كل ما فيه ضر عاجل أو آجل حتى يجردوها عنها إن أرادوا تناولها وينبذوا ما هو ذميمة محضة، وراضتهم على ذلك بالبشائر والزواجر حتى صارت لهم ملكة، فلذلك لم تزين الدنيا لهم، لأن زينتها عندهم ومعرضة للحكم عليها بالإثبات تارة وبالنفي أخرى، فإن من عرف ما في الأمر الزين ظاهره من الإضرار والقبائح انقلب زينه عمده شينا، خص التزيين بهم، إذ المراد من قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ذمهم والتحذير من خلقهم، ولهذا لزم حمل التزيين على تزيين يعد ذما، فلزم أن يكون المراد منه تزيينا مشوبا بما يجعل تلك الزينة مذمة، وإلا فإن أصل تزيين الحياة الدنيا المقتضي للرغبة فيما هو زين أمر ليس بمذموم إذا روعي فيه ما أوصى الله برعيه قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [لأعراف:32].
وقد استقريت مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع: الأول ما ليس بزين أصلا لا ذاتا ولا صفة، لأن جمعية ذم وأذى ولكنه زين للناس بأوهام وخواطر شيطانية
وتخييلات شعرية كالخمر. الثاني ما هو زين حقيقة لكن له عواقب تجعله ضرا وأذى كالزنا. الثالث ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميما كنجدة الظالم وقد حضر لي التمثيل لثلاثتها بقول طرفة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعمد
وكري إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وقول: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} عطف على جملة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ، وهذه حالة أعجب من التي قبلها وهي حالة التناهي في الغرور؛ إذ لم يقتصروا على افتتانهم بزهرة الحياة الدنيا حتى سخروا بمن لم ينسج على منوالهم من المؤمنين الذين تركوا كثيرا من زهرة الحياة الدنيا لما هداهم الدين إلى وجوب ترك ذلك في أحوال وأنواع تنطوي على خبائث.
والسخر بفتحتين: كالفرح وقد تسكن الخاء تخفيفا وفعله كفرح والسخرية الاسم، وهو تعجب مشوب باحتقار الحال المتعجب منها، وفعله قاصر لدلالته على وصف نفسي مثل عجب، ويتعدى بمن جاره لصاحب الحال المتعجب منها فهي ابتدائية ابتداء معنويا وفي لغة تعديته بالباء وهي ضعيفة.
ووجه سخيرتهم بالمؤمنين أنهم احتقروا رأيهم في إعراضهم عن اللذات لامتثال أمر الرسول وأفنوهم في ذلك ورأوهم قد أضاعوا حظوظهم وراء أوهام باطلة، لأن الكفار اعتقدوا أن ما مضى من حياتهم في غير نعمة قد ضاع عليهم إذ لا خلود في الدنيا ولا حياة بعدها كما قال الشاعر: "أنشده شمر":
وأحمق ممن يلعق الماء قال لي ... دع الخمر واشرب من نقاخ1 مبرد
فالسخرية ناشئة عن تزيين الحياة عندهم ولذلك يصح جعل الواو للحال ليفيد تقييد حالة التزيين بحالة السخرية، فتتلازم الحالان ويقدر للجملة مبتدأ، أي هم يسخرون، وقد قيل إن من جملة من كان الكفار يسخرون منهم بلالا وعمارا وصهيبا يقولون: هؤلاء المساكين تركوا الدنيا وطيباتها وتحملوا المشاق لطلب ما يسمونه بالآخرة وهي شيء
ـــــــ
1 النقاخ: الماء العذب
باطل، وممن كان يسخر بهم عبد الله بن أبي والمنافقون.
وجيء في فعل التزيين بصيغة الماضي وفي فعل السخرية بصيغة المضارع قضاء لحقي الدلالة على أن معنيي فعل التزيين أمر مستقر فيهم؛ لأن الماضي يدل على التحقق، وأن معنى {يَسْخَرُونَ} متكرر متجدد منهم؛ لأن المضارع يفيد التجدد، ويعلم السامع أن ما هو محقق بين الفعلين هو أيضا مستمر؛ لأن الشيء الراسخ في النفس لا تفتر عن تكريره، ويعلم أن ما كان مستمرا هو أيضا محقق؛ لأن الفعل لا يستمر إلا وقد تمكن من نفس فاعله وسكنت إليه، فيكون المعنى في الآية: زين للذين كفروا وتزين الحياة الدنيا وسخروا ويسخرون من الذين آمنوا، وعلى هذا فإنما اختير لفعل التزيين خصوص المضي ولفعل السخرية خصوص المضارعة إيثار لكل من الصفتين بالفعل التي هي به أجدر؛ لأن التزيين لما كان هو الأسبق في الوجود وهو منشأ السخرية أوثر بما يدل على التحقق، ليدل على ملكة واعتمد في دلالته على الاستمرار بالاستتباع، والسخرية لما كانت مترتبة على التزيين وكان تكررها يزيد في الذم، إذ لا يليق بذي المروة السخرية بغيره، أوثرت بما يدل على الاستمرار واعتمد في دلالتها على التحقق دلالة الالتزام، لأن الشيء المستمر لا يكون إلا متحققا.
وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ} أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا؛ لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذبا وتلفيقا كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [لنجم:19] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمدا أثنى على آلهتهم.
فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني {الَّذِينَ آمَنُوا} لقصد التنبيه على مزية التقوى وكونها سببا عظيما في هذه الفوقية، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا، وينبه المؤمنين على وجوب التقوى لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دوما بين شدة الخوف وقليل الرجاء، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام.
والفوقية هنا فوقية تشريف وهي مجاز في تناهي الفضل والسيادة كما استعير التحت لحالة الفضول والمسخر والمملوك. وقيدت بيوم القيامة تنصيصا على دوامها، لأن ذلك
اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية.
فإن قلت: كيفما كان حظ المؤمنين من كثرة التقوى وقلتها إنهم فوق الذين كفروا يوم القيامة بالإيمان، والمقام مقام التنويه بفضل المؤمنين فكان الأحق بالذكر هنا وصف "الذين آمنوا" قلت: وأما بيان مزية التقوى الذي ذكرته فله مناسبات أخرى. قلت الآية تعريض بأن غير المتقين لا تظهر مزيتهم يوم القيامة وإنما تظهر بعد ذلك، لأن يوم القيامة هو مبدأ أيام الجزاء فغير المتقين لا يظهر لهم التفوق يومئذ، ولا يدركه الكفار بالحس قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] نعم تظهر مزيتهم بعد انقضاء ما قدر لهم من العذاب على الذنوب.
روى عن ابن عباس أن الآية نزلت في سادة قريش بمكة سخروا من فقراء المؤمنين وضعفائهم فأعلمهم الله أن فقراء المؤمنين خير منهم عند الله، ووعد الله الفقراء بالرزق وفي قوله: {مَنْ يَشَاءُ} تعريض بتهديد المشركين بقطع الرزق عنهم وزوال حظوتهم.
وقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} إلخ تذييل قصد منه تعظيم تشريف المؤمنين يوم القيامة، لأن التذييل لا بد أن يكون مرتبطا بما قبله فالسامع يعلم من هذا التذييل معنى محذوفا تقديره والذين اتقوا فوقهم فوقية عظيمة لا يحيط بها الوصف، لأنها فوقية منحوها من فضل الله وفضل الله لا نهاية له، ولأن سخرية الذين كفروا بالذين آمنوا أنهم سخروا بفقراء المؤمنين لإقلالهم.
والحساب هنا حصر المقدار فنفي الحساب نفي لعلم مقدرات الرزق، وقد شاعت هذه الكناية في كلام العرب كما شاع عندهم أن يقولوا يعدون بالأصابع ويحيط بها العد كناية عن القلة ومنه قولهم شئ لا يحصى ولذلك صح أن ينفى الحساب هنا عن أمر لا يعقل حسابه وهو الفوقية وقال قيس بن الخطيم:
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه ... في النوم غير مصرد محسوب
[213] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}
استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان من البشر لحكمة اقتضته وأنه ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وحدة الدين بالإسلام.
والمناسبة بينها وبين ما تقدمها تحتمل وجوها:
الأول: قال فخر الدين: إن الله تعالى لما بين في قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة:212] أن سبب إصرار الكفار على كفرهم هو استبدالهم الدنيا بالآخرة بين في هذه الآية أن هذه الحالة مختصة بالذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بل كانت حاصلة في الأزمنة المتقادمة لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق وما كان اختلافهم لسبب البغي والتحاسد في طلب الدنيا اه، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتنظير ما لقيه المسلمون بما كان في الأمم الغابرة.
الثاني: يؤخذ من كلام الطيبي عند قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة:214] أخذ من كلام الكشاف أن المقصود من قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} تشجيع الرسول عليه السلام والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين بذكر ما قابلت به الأمم السالفة أنبياءها وما لقوا فيها من الشدائد اه فالمناسبة على هذا في مدلول قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ} [البقرة:212] إلخ، وتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا للمناسبة.
والظاهر عندي أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها: فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين.
وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلف فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} إلى قوله: {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمنا على ما
سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبي وأمته، ردا على حسد المشركين، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} إلى قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
وحصلت عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة: الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام، فالمناسبة حاصلة مع جملة: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين. وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة: الوحدة في الضلال والكفر يكن الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية تثبيتا للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:212]. فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبيينا لفضيلة هذا الدين واهتداه أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأسيس به كما سنبينه عند قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}.
والناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، و "أل" فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه هموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريرا مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيرا مثل نوح: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:4]
والأمة بضم الهمزة: اسم للجماعة الذين أمرهم واحد، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها.
والوصف: "واحدة" في الآية لتأكيد الإفراد في قوله "أمة" لدفع توهم أن يكون
المراد من الأمة القبيلة، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد.
والوحدة هنا: مراد بها الاتحاد والتماثل في الدين بقرينة تفريع {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} الخ، فيحتمل أن يكون المراد كانوا أمة واحدة في الحق والهدى أي كان الناس على ملة واحدة من الحق والتوحيد، وبهذا المعنى روي الطبري تفسيرها عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد وهو مختار الزمخشري قال الفخر: وهو مختار أكثر المحققين قال القفال: بدليل قوله تعالى بعده: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} لأن تفريع الخبر ببعثة النبيين على الجملة السابقة وتعليل البعث بقوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} انتظم من ذلك كلام من بليغ الإيجاز وهو أن الناس كانوا أمة واحدة فجاءتهم الرسل بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ليدوموا على الحق خشية انصرافهم عنه إذا ابتدأ الاختلاف يظهر وأيدهم الله بالكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فلا جرم أن يكون مجيء الرسل لأجل إبطال اختلاف حدث، وأن الاختلاف الذي يحتاج إلى بعثة الرسل هو الاختلاف الناشئ بعد الاتفاق على الحق كما يقتضيه التفريع على جملة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} بالفاء في قوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} وعلى صريح قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}.
ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير فاختلفوا بعد قوله: {أُمَّةً وَاحِدَةً} ، لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله" الخ، ولو كان المراد أنهم كانوا أمة واحدة في الضلاب لصح تفريع البعثة على نفس هذا الكون بلا تقدير ولولا أن القرينة صرفت عن هذا لكان هو المتبادر، ولهذا قال ابن عطية كل من قدر الناس في الآية كانوا مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة الرسل إليهم اه.
ويؤيد هذا القدير قوله في آية سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس:19] لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة.
والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف:172]، وأنها ما غشاها إلا تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيين لإصلاح
الفطرة إصلاحا جزئيا فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمدا لإكمال ذلك الإصلاح، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدي وذلك معنى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ
وعن عطاء والحسن، أن المعنى كان الناس أمة واحدة متفقين على الضلال والشر وهو يروي عن ابن عباس أيضا وعليه فعطف قوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} عطف على اللفظ الظاهر لا تقدير معه أي كانوا كذلك فبعث الله النبيين فيعلم أن المراد ليرشدوا الناس إلى الحق بالتبشير والنذارة. فالمقصود من الآية على هذا التأويل إظهار أن ما بعث الله به النبيين قد وقع فيه التغيير والاختلاف فيما بعثوا به وأن الله بعث محمدا بالقرآن لإرشادهم إلى ما اختلفوا فيه فيكون المقصود بيان مزية دين الإسلام وفضله على سائر الأديان بما كان معه من البيان والبرهان.
وأبا ما كان المراد فإن فعل كان هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف اسمها المخبر عنه بمضمون خبرها في الزمن الماضي وأن ذلك قد انقطع، إذ صار الناس منقسمين إلى فئتين فئة على الحق وفئة على الباطل.
فإن كان المراد الوحدة في الحق فقد حصل ذلك في زمن كان الغالب فيه على الناس الرشد والاستقامة والصلاح والإصلاح فلم يكونوا بحاجة إلى بعثة الرسل إلى أن اختلفت أحوالهم فظهر فيهم الفساد، فقيل كان ذلك فيما بين آدم ونوح ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقال ابن عطية قال قوم كان ذلك زمن نوح كفر جل قومه فهلكوا بالطوفان إلا من نجاه الله مع نوح فكان أولئك النفر الناجون أمة واحدة قائمة على الحق، وقيل إنما كان الناس على الحق حين خلق الله الأرواح التي ستودع في بني آدم ففطرها على الإسلام فأقروا له بالوحدانية والعبودية وهو ما في قوله تعالى في سورة الأعراف {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173] على أحد تفاسير تلك الآية وروى هذا عن أبي بن كعب وجابر بن زيد والربيع بن سليمان،
وفي "تفسير الفخر" عن القاضي عبد الجبار وأبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في التمسك بالشرائع العقلية على وجود الخالق وصفاته واجتناب
الظلم والكذب وحجتهما على ذلك أن قوله: {النبيين} جمع يفيد العموم أي لأنه معرف باللام فيقتضي أن بعثة كل النبيين كانت بعد أن كان الناس أمة واحدة بدليل الفاء، والشرائع إنما تلقيت من الأنبياء، فتعين أن كون الناس أمة واحدة شيء سابق على شرائع الأنبياء ولا يكون إلا مستفادا من العقل، وهما يعنيان أن الله فطر الإنسان في أول نشأته على سلامة الفطرة من الخطأ والضلال، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وقيل: أريد بالناس آدم وحواء. نقله ابن عطية عن مجاهد وقوم، والذي نجزم به أن هذا كان في زمن من أزمان وجود الناس على الأرض يعلمه الله تعالى لقوله: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان:38] والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح،
وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحا أول الرسل إلى أهل الأرض، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمهم عاجلا فبعث الله نوحا إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحا ونفرا معه فأصبح جميع الناس صالحين، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين. فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك.
الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متمائلة ونسأوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلا اختلافا قليلا ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافرا ولا تغالبا.
ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسما وعقلا وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواء خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقا مشابها لخلق آدم، إذ أنها خلقت كما خلق آدم، قال تعالى:
{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم. ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتي للبشر أن يتصرف في خصائصه، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها.
هكذا كان شأن الذكر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكان الاستنباط الفكري والتقليد به أس الحضارة البشرية. فالصلاح هو الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهرا ليس بالقصير، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطرو أو معدومته، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب:
الأولى: خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفا عن الفضيلة لتلك العاهة.
الثاني: اكتساب رذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها.
الثالث: خواطر خيالية تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها.
الرابع: صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من الفعل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعا.
فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة، و الأول كان نادر الحدوث في البشر، لأن سلامة الأبدان وشباب واعتدال الطبيعة وبساطة العيش ونظام البيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني، ألا ترى أن نوع كل حيوان يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره.
و الثاني كان غير موجود، لأن البشر يومئذ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف؟.
و الثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف، والشفقة
الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حجبا لما يهجس من هذا الإحساس.
و الرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة.
أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلا فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل؛ لأن البشر لم يعرف الموت إلا يومئذ ولذلك أسرعت إليه الندامة، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذ أو هو الغالب عليها.
وينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل، لأن النسل منسل من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخلقية والخلقية، ولما كان النسل منسلا من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصلا على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساوية المظاهر لأحوال سلفه، قال نوح عليه السلام في عكسه {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27]، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاح ما نقله في "الكشاف" عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق.
ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلا قليلا خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعا لاختلاف بين حالي الأب والأم، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذ أسباب الانحطاط الأربعة، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتقي، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل، والتاريخ الديني دلنا على أن نوحا أول الرسل الذين دعوا إلى الله تعالى قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى:13] الآية، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم، ويذكر خطيئته ايتوا نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع، وأن آدم لم يكن رسولا وأنه نبي صالح أوحي إليه بما يهذب أبناءه
ويعلمهم بالجزاء.
فقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم {أُمَّةً وَاحِدَةً} دام مدة ثم انقضى، فيكون مفرعا على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وعلى الوجه الآخر مفرعا على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحا، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق. وعلى الثاني: يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك، وإنما كان مرشدا كما يرشد المربي عائلته.
والمراد بالبنيين هنا الرسل بقرينة قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال، وقد عبد قوم نوح الأصنام، عبدوا ودا و سواعا و يغوث و يعوق و نسرا وهم يومئذ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في "جبال نوذ" من بلاد الهند كما قيل، وفي البخاري عن ابن عباس أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا من صالحي قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت اه، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم، وقيل إن سواعا هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن يغوث ونسر بن يعوق، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صورا ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال1، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلا بمزيد الاحتراز، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدئ من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة. وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو "حمورابي" ويظن المؤرخون أنه كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في "سفر التكوين" باسم "ملكي صادق" الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له.
والبعث: الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث
ـــــــ
1 في "صحيح البخاري" و"كتاب ابن الكبي" أن هذه الأصنام عبدت في العرب وقد بينت ذلك في "تاريخ العرب في الجاهلية"
هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة.
و"النبيين" جمع نبي وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبي، والقرآن يذكر في الغالب النبي مرادا به الرسول، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلا الله تعالى قال تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان:38] وقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الاسراء:17]. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر.
والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله "بعث" وبقرينة الحال في قوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الآية. فالتعريف في "النبيين" للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني.
والبشارة: الإعلام بخير حصل أو سيحصل، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع.
فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم، وتعليم من يرونه أهلا لعلم الخبر من الأمة.
ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العبسي نبيا في عبس من العرب.
وقوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الإنزال: حقيقته تدلية الجسم من علو إلى سفل، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة.
وأضاف مع إلى ضمير النبيين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولمن جاء مؤيدا لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى.
والكتاب هو المكتوب، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى: {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2]على أحد الوجهين المتقدمين هنالك، وقد يكون مجازا على الوجه الآخر، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية.
والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وفي الحديث ومعك روح القدس.
والتعريف في الكتاب للاستغراق: أي وأنزل مع النبيين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك.
وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيين؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد، وجوز صاحب "الكشاف" كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه.
والضمير في {لِيَحْكُمَ} راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي، لأنه مبين ما به الحكم، أو فعل يحكم مجاز في البيان. ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم وإسناد الحكم مجاز عقلي، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به، وتعدية "يحكم" ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه.
وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهار الحق، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلا عن ضلال أو خطأ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد.
{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
عطف على جملة: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم دينا واحدا، والمعنى {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فاختلف فيه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [هود:110]. والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتا ونفيا.فالله بعض الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في صلالة، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافا آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم. والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك.
والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير:
إن البخيل ملوم حين كان ... ولكن الجواد على علاته هرم
وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير:
إلى ملك ما أمه من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره
والضمير من قوله: {فيه} يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب، والمعنى على التقديرين واحد، لأن الكتاب أنزل ملابسا للحق ومصاحبا له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.
والاختلاف في الكتاب ذهاب كل فريق في تحريف المراد منه مذهبا يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه.
وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه.
والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالا من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} متعلق باختلف، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل.والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصد عن الاختلاف في مقاصد الشريعة، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع. والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض.والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكما آخر، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ، أو كان الحكم كذا فصار كذا، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق. ومجيء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها.
والبعدية هنا: بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر، أي أن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين.
وقوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} مفعول لأجله لاختلفوا، والبغي: الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانيا وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم.
والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر.
وقوله: {بَيْنَهُمْ} متعلق بقوله: {بَغْياً} للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلما على عدوها.
واعلم أن تعلق كل من المجرور وهو {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ} وتعلق لأجله وهو {بَغْياً} بقوله: {اختلف} الذي هو محصور بالاستثناء المفرغ، ويستلزم أن يكون كلاهما محصورا في فاعل الفعل الذي تعلقا به، فلا يتأتى فيه الخلاف الذي ذكره الرضى
بين النحاة في جواز استثناء شيئين بعد أداة استثناء واحدة، لأن التحقيق أن ما هنا ليس استثناء أشياء بل استثناء شيء واحد وهم الذين أوتوه، لكنه مقيد بقيدين هما {من بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} و {بَغْياً} إذ المقصود أن الخلاف لم يكن بين أهل الدين ومعانديه، ولا كان بين أهل الدين قبل ظهور الدلائل الصارفة عن الخلاف، ولا كان ذلك الخلاف عن مقصد حسن بل كان بين أهل الدين الواحد، مع قيام الدلائل وبدافع البغي والحسد.
والآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافا في أصول الشريعة، فإنها إجماعية، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته، واتفقوا في أكثر الفروع، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع، وقد استبرءوا للدين فأعلنوا جميعا: أن الله تعالى حكما في كل مسألة، وأنه حكم واحد، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد، وأن مخطئه أقل ثوابا من مصيبه، وأن التقصير في طلبه إثم. فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار1.
أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول المعري:
فمجادل وصل الجدال وقد دري ... أن الحقيقة فيه ليس كما زعم
علم الفتى النظار أن بصائرا ... عميت فكم يخفي اليقين وكما يعم
وقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} هذا العطف يحتمل أن الفاء عاطفة على {اخْتَلَفُوا فِيهِ} الذي تضمنته جملة القصر، قال ابن عرفة: عطف بالفاء إشارة إلى سرعة هدايته المؤمنين بعقب الاختلاف اه، يريد أنه تعقيب بحسب ما يناسب سرعة مثله وإلا فهدي
ـــــــ
1 قال المصنف عند شرح: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران] " والمسلمون إن اختلفوا في أشياء كثيرة لم يكن اختلافهم إلا اختلافا علميا فرعيا، ولم يختلفوا اختلافا ينقض أصول دينهم، بل غاية الكل الوصول إلى الحق من الدين وخدمة مقاصد الشريعة. انظر أيضا شرح [آل عمران:105] و [الشورى:10]
المسلمين وقع بعد أزمان مضت، حتى تفاقم اختلاف اليهود واختلاف النصارى، وفيه بعد لا يخفى، فالظاهر عندي: أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدي المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأن السامع ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل: دام هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدي الله الذين آمنوا الخ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [البقرة:60].
والمراد من الذين آمنوا المسلمون لا محالة، والضمير في {اخْتَلَفُوا} عائد للمختلفين كلهم، سواء الذين اختلفوا في الحق قبل مجيء الرسل والذين اختلفوا في الشرائع بعد مجيء الرسل والبينات ولذلك بينه بقوله: {مِنَ الْحَقِّ} وهو الحق الذي تقدم ذكره في قوله: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} فإن اختلاف الفريقين راجع إلى الاختلاف في تعيين الحق إما عن جهل أو عن حسد وبغي.
والإذن: الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذن إذا أصغى أذنه إلى كلام من يكلمه، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابة مطلبه، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشيع في معنى الخطاب بإباحة الفعل، وبذلك صار لفظ الإذن قابلا لأن يستعمل مجازا في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة، لأن من ييسر لك شيئا فكأنه أباح لك تناوله.
وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله، فاختلف أتباعهم فيه بدلا من أن يحققوا بإفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوح الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد مما أنزل من الشرائع السالفة.
وقوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء، وهذا إجمال، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجيء شريعة الإسلام لما تهيأ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة،
فكانت الشرائع السابقة تمهيدا وتهيئة لقبول دين الإسلام، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار، وهذا اتحاد عجيب، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب، ولذا قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} وفي الحديث: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: تلك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه، فقال لهم أكملوا بقية عملكم فإنما بقى من النهار شئ يسير فأبوا، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور، فقالت اليهود والنصارى ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا? قلوا:لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء".
[214] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
إضراب انتقالي عن الكلام السابق فاحتاج إلى وجه مناسبة به، فقال الطيبي أخذا من كلام الكشاف: إن قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] كلام ذكرت فيه الأمم السالفة وذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد، ومدمج لتشجيع الرسول والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين كما قال: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فمن هذا الوجه كان الرسول وأصحابه مرادين من ذلك الكلام، يدل عليه قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:213] وهو المضرب عنه ببل التي تضمنتها أم أي دع ذلك، احسبوا أن يدخلوا الجنة اهـ.
وبيانه أن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداء في المحامد، فكان في قوله
تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} ، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أوقظوا أن لا يزهوا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضوا حق شكر النعمة فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم حرضهم هنا على الاقتداء بهدى المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك، فيكون قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ} إضرابا عن قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وليكون ذلك تصبيرا لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل، ويكون أيضا تمهيدا لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] الآية، وقد روى عن أكثر المفسرين الأولين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدائد فتكون تلك الحادثة زيادة في المناسبة.
و"أم" في الإضراب كبل إلا أن أم تؤذن بالاستفهام وهو هنا تقرير بذلك وإنكاره إن كان حاصلا أي بل أحسبتم أن تدخلوا دون بلوى وهو حسبان باطل لا ينبغي اعتقاده.
وحسب بكسر السين في الماضي: فعل من أفعال القلوب أخوات ظن، وفي مضارعه وجهان كسر السين وهو أجود وفتحها وهو أقيس وقد قريء بهما في المشهور، ومصدره الحسبان بكسر الحاء وأصله من الحساب بمعنى العد فاستعمال في الظن تشبيها لجولان النفس في استخراج علم ما يقع بجولان اليد في الأشياء لتعيين عددها ومثله في ذلك فعل عد بمعنى ظن.
والخطاب للمسلمين وهو إقبال عليهم بالخطاب بعد أن كان الكلام على غيرهم فليس فيه التفات، وجعله صاحب "الكشاف" التفاتا بناء على تقدم قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213] وأنه يقتضي أن يقال أم حسبوا أي الذين آمنوا، والأظهر أنه لما وقع الانتقال من غرض إلى غرض بالإضراب الانتقالي الحاصل بأم، صار الكلام افتتاحا محضا وبذلك يتأكد اعتبار الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، فالالتفات هنا غير منظور إليه على التحقيق.
ودخول الجنة هنا دخولها بدون سبق عناء وبلوى، وهو دخول الذين استوفوا كل ما وجب عليهم ولم يقصروا في شئ منه، وإلا فإن دخول الجنة محسوب لكل مؤمن ولو لم تأته البأساء والضراء أو أتته ولم يصبر عليها، بمعنى أن الصبر على ذلك وعدم الضجر منه
موجب لغفران الذنوب، أو المراد من ذلك أن نالهم البأساء فيصبروا ولا يرتدوا عن الدين، لذلك فيكون دخول الجنة متوقفا على الصبر على البأساء والضراء بهذا المعنى، وتطرق هاته الحالة سنة من سنن الله تعالى في أتباع الرسل في أول ظهور الدين وذلك من أسباب مزيد فضائل اتباع الرسل، فلذلك هيء المسلمون لتلقيه من قبل وقوعه لطفا بهم ليكون حصوله أهون عليهم.
وقد لقي المسلمون في صدر الإسلام من أذى المشركين البأساء والضراء وأخرجوا من ديارهم وتحملوا مضض الغربة، فلما وردوا المدينة لقوا من أذى اليهود في أنفسهم وأذى المشركين في قرابتهم وأموالهم بمكة ما كدر عليهم صفو حفاوة الأنصار بهم، كما أن الأنصار لقوا من ذلك شدة المضايقة في ديارهم بل وفي أموالهم فقد كان الأنصار يعرضون على المهاجرين أن يتنازلوا لهم عن حظ من أموالهم.
و "لما" أخت لم في الدلالة على نفي الفعل ولكنها مركبة من لم وما النافية فأفادت توكيد النفي، لأنها ركبت من حرفي نفي، ومن هذا كان النفي بها مشعرا بأن السامع كان يترقب حصول الفعل المنفي بها فيكون النفي بها نفيا لحصول قريب، وهو يشع بأن حصول المنفي بها يكون بعد مدة، وهذا استعمال دل عليه الاستقراء واحتجوا له بقول النابغة:
أزف1 الترحل أن ركابنا ... لما تزل برحالنا2 وكأن قد
فنفى بلما ثم قال وكأن قد أي وكأنه قد زالت.
والواو للحال أي أحسبتم دخول الجنة في حالة انتفاء ما يترقب حصوله لكم من مس البأساء والضراء فإنكم لا تدخلون الجنة ذلك الخول السالم من المحنة إذا تحملتم ما هو من ذلك القبيل.
والإتيان مجاز في الحصول، لأن الشيء الحاصل بعد العدم يجعل كأنه أتى من مكان بعيد.
والمثل: المشابه في الهيئة والحالة كما تقدم في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
ـــــــ
1 رواية "اللسان" "أفد الترحل".
2 في "تاج العروس" "برحالها"
اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة:17].
و {الَّذِينَ خَلَوْا}: هم الأمم الذين مضوا وانقرضوا وأصل خلوا: خلا منهم المكان فبولغ في إسناد الفعل فأسند إليهم ما هو من صفات مكانهم.
و {مِنْ قَبْلِكُمْ} متعلق بخلوا لمجرد البيان وقصد إظهار الملابسة بين الفريقين.
والمس حقيقته: اتصال الجسم بجسم آخر وهو مجاز في إصابة الشيء وحلوله، فمنه مس الشيطان أي حلول ضر الجنة بالعقل، ومس سقر: ما يصيب من نارها، ومسه الفقر والضر: إذا حل به، وأكثر ما يطلق في إصابة الشر قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} [الزمر:8] {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا} [يونس:12] {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف:73] فالمعنى هنا: حلت بهم البأساء والضراء. وقد تقدم القول في البأساء والضراء عند قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة:177].
وقوله: {وَزُلْزِلُوا} أي أزعجوا أو اضطربوا، وإنما الذي اضطرب نظام معيشتهم قال تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11]، والزلزلة تحرك الجسم من مكانه بشدة، ومنه زلزال الأرض، فوزن زلزل فعفل، والتضعيف فيه دال على تكرر كما قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} [الشعراء:94] وقالوا لملم بالمكان إذا نزل به نزول إقامة.
و"حتى" غاية للمس والزلزال، أي بلغ بهم الأمر إلى غاية يقول عندها الرسول والذين معه متى نصر الله.
ولما كانت الآية مخبرة عن مس حل بمن تقدم من الأمم ومنذرة بحلول مثله بالمخاطبين وقت نزول الآية، جاز في فعل يقول أن يعتبر قول رسول أمة سابقة أي زلزلوا حتى يقول رسول المزلزلين ف "أل" للعهد، أو حتى يقول كل رسول لأمة سبقت فتكون "أل" للاستغراق، فيكون الفعل محكيا به تلك الحالة العجيبة فيرفع بعد حتى؛ لأن الفعل المراد به الحال يكون مرفوعا، وبرفع الفعل قرأ نافع وأبو جعفر، وجاز فيه أن يعتبر قول رسول المخاطبين عليه السلام فأل فيه للعهد والمعنى: وزلزلوا مثلهم حتى يقول الرسول فيكون الفعل منصوبا؛ لأن القول لما يقع وقتئذ، وبذلك قرأ بقية العشرة، فقراءة الرفع أنسب بظاهر السياق وقراءة النصب أنسب بالغرض المسوق له الكلام، وبكلتا
القراءتين يحصل كلا الغرضين.
ومتى استفهام مستعمل في استبطاء زمان النصر.
وقوله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} كلام مستأنف بقرينة افتتاحه بألا، وهو بشارة من الله تعالى للمسلمين بقرب النصر بعد أن حصل لهم من قوارع صدر الآية ما ملأ القلوب رعبا، والقصد منه إكرام هذه الأمة بأنها لا يبلغ ما يمسها مبلغ ما مس من قبلها. وإكرام للرسول صلى الله عليه وسلم بألا يحتاج إلى قول ما قالته الرسل قبله من استبطاء نصر الله بأن يجيء نصر الله لهاته الأمة قبل استبطائه، وهذا يشير إلى فتح مكة.
[215] {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
استئناف ابتدائي لابتداء جواب عن سؤال سأله بعض المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم روى الواحدي عن ابن عباس أن السائل عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان ذا مال فقال: يا رسول الله بماذا يتصدق وعلى من ينفق؟، وقال ابن عطية: السائلون هم المؤمنون يعني أنه تكرر السؤال عن تفصيل الإنفاق الذي أمروا به غير مرة على الإجمال، فطلبوا بيان من ينفق عليهم وموقع هذه الآية في هذا الموضع إما لأن نزولها وقع عقب نزول التي قبلها وإما لأمر بوضعها في هذا الموضع جمعا لطائفة من الأحكام المفتتحة بجملة: {يَسْأَلونَكَ} وهي ستة أحكام،
ثم قد قيل إنها نزلت بعد فرض الزكاة فتكون بيانا لمصارف الزكاة ثم نسخت بآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية في سورة براءة، فهو بتخصيص لإخراج الوالدين والأقربين واليتامى، وإن كانوا من غير الأصناف الثمانية المذكورة في آية براءة.
و {مَاذَا} استفهام عن المنفق "بفتح الفاء" ومعنى الاستفهام عن المنفق السؤال عن أحواله التي يقع بها موقع القبول عند الله، فإن الإنفاق حقيقة معروفة في البشر وقد عرفها السائلون في الجاهلية. فكانوا في الجاهلية ينفقون على الأهل وعلى الندامى وينفقون في الميسر، يقولون فلان يتمم أيساره أي يدفع عن أيساره أقساطهم من مال المقامرة ويتفاخرون بإتلاف المال. فسألوا في الإسلام عن المعتد به من ذلك دون غيره، فلذلك طابق الجواب السؤال إذ أجيب: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ، فجاء
ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي.
والخير: المال كما تقدم في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة:180] في آية الوصية.
و {مَا أَنْفَقْتُمْ} شرط، ففعل {أَنْفَقْتُمْ} مراد به الاستقبال كما هو مقتضى الشرط، وعبر بالماضي لإظهار الرغبة في حصول الشرط فينزل كالحاصل المتقرر.
واللام في {لِلْوَالِدَيْنِ} للملك، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين، وقد تقدم بيانهم في قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177] الآية.
والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين، وذلك كله بحسب عادة أمثالهم، وفي تحديد القربى الموجبة للإنفاق خلاف بين الفقهاء. فليست هاته الآية بمنسوخة بآية الزكاة، إذ لا تعارض بينهما حتى نحتاج للنسخ وليس في لفظ هاته الآية ما يدل على الوجوب حتى يظن أنها نزلت في صدقة واجبة قبل فرض الزكاة،
وابن السبيل هو الغريب عن الحي المار في سفره، ينفق عليه ما يحتاج إليه.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} تذييل والمقصود من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الكناية عن الجزاء عليه، لأن العليم القدير إذا امتثل أحد لأمره لا يحول بينه
وبين جزائه عليه حائل. وشمل عموم {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} الأفعال الواجبة والمتطوع بها فيعم النفقات وغيرها.
[216] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] فقد كلفت به الأمم قبلنا، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض.
ولفظ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية، وأل في "القتال" للجنس، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموما عرفيا، أي كتب عليكم قتال عدو الدين.
والخطاب للمسلمين، وأعداؤهم يومئذ المشركون، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غير مأذون في القتال في أول ظهور الإسلام، ثم أذن له في ذلك بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، ثم نزلت آية قتال المبادئين بقتال المسلمين في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] كما تقدم آنفا.
هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جحش كما يأتي، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178 ]{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180].
فعلى المختار يكون قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} خبرا عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الآية، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده، أو إنشاء أنفا لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} إذن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له.
وقوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} ، حال لازمة وهي يجوز اقترانها بالواو، ولك أن تجعلها
جملة ثانية معطوفة على جملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}، إلا أن الخبر بهذا لما كان معلوما للمخاطبين تعين أن يكون المراد من الإخبار لازم الفائدة، أعني كتبناه عليكم ونحن عالمون أنه شاق عليكم، وربما رجح هذا الوجه بقوله تعالى بعد هذا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
والكره بضم الكاف: الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكره بالفتح على الأصح، وقيل: الكره بالضم المشقة ونفرة الطبع، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل ما بأذى أو مشقة، وحيث قرئ بالوجهين هنا وفي قوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الاحقاف:15] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العقيلي:
بكره سراتنا يا آل عمرو ... نغاديكم بمرهفة النصال
رووه بضم الكاف وبفتحها.
على أن قوله تعالى بعد ذلك: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الوارد مورد التذييل: دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئيا من جزئيات أن تكرهوا شيئا.
وقد تمحل صاحب "الكشاف" لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز. وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار
أي تقبل وتدبر،
وقيل: الكره اسم للشيء المكروه كالخبر. فالقتال كريه للنفوس، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذاته ونومه وطعامه وأهله وبيته، ويلجئ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح، ولكن فيه دفع المذلة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم، وفي الحديث: "لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتم فاصبروا"، وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العقيلي:
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي
ومعلوم أن كراهية الطبع لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة.
ثم إن كانت الآية خبرا عن تشريع مضي، يحتمل أن تكون جملة: {وَهُوَ كُرْهٌ} حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلا عليهم، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كرهوا الصلح واستحبوا القتال، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيرا لهم بأن الله أعلم بمصالحهم، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح فيوقت أحبوا فيه القتال، فحذف ذلك لقرينة المقام، والمقصود الإفضاء إلى قوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر، ويكون في الآية احتباك، إذ الكلام على القتال، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حب لكم، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217].
وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشئ عن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} ، لأنه إذا كان مكروها فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك.
وجملة: {وَعَسَى}: معطوفة على جملة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} وجملة: {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: حالية من {شيئا} على الصحيح من مجيء الحال من النكرة، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين، وإن كان سبحانه غنيا عن البيان والتعليل، لأنه يأمر فيطاع. ولكن في بيان الحكمة تخفيفا من مشقة التكليف، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته، إذ يكره الطبع شيئا وفيه نفعه وقد يحب شيئا وفيه هلاكه، وذلك باعتبار العواقب والغايات، فإن الشيء قد يكون لذيذا ملائما ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك، وقد يكون كريها منافرا وفي ارتكابه صلاح. وشأن جمهور الناس الغفلة عن
العاقبة والغاية أو جهلهما، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب.
فإن قلت: ما الحكمة في جعل أشياء كثيرة نافعة مكروهة، وأشياء كثيرة ضارة محبوبة، وهلا جعل الله تعالى النافع كله محبوبا والضار كله مكروها فتنساق النفوس للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنكفي كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال؟ قلت: إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خلقه الإنسان صالحا للأمرين وأراه طريقي الخبر والشر كما قدمناه عند قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213]، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كونه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات، وجعل الكمال الإنساني حاصلا عند حصول جميع الصفات النافعة فيه، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقية الصفات النافعة منه أو اضمحلت، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتب النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسب الناس وفعلوا قال تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال، وأحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتب الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب:
ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس.
ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو
المعبر عنه بالازدواج، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] وأما حصوله في المعاني، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معني صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة.
والفضائل جعلت متولدة من النقائص؛ فالشجاعة من التهور والجبن، والكرم من السرف والشح، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه، لأنه يكون أقل من الثلث، إذ ليس كلما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها.
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاما لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال "الدنيا مزرعة الآخرة" وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضا وكلامنا هذا سندا وانقلابا إلى استدلال.
وجملة: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تذييل للجميع، ومفعولا {يَعْلَمُ} و {تَعْلَمُونَ} محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعا والمنافر ضارا.
والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه.
[217] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}
من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه، أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهر الحرم إذ كلن محجرا في العرب من عهد قديم، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر؛ لأنه من المصالح قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97] فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام.
روى الواحدي في "أسباب النزول" عن الزهري مرسلا وروي الطبري عن عروة بن الزبير مرسلا ومطولا، أن هذه الآية نزلت في شأن سرية عبد الله بن جحش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في ثمانية من أصحابه يتلقى عيرا لقريش ببطن نخلة في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة، فلقي المسلمون العير فيها تجارة من الطائف وعلى العير عمرو بن الحضرمي، فقتل رجل من المسلمين عمروا وأسر اثنين من أصحابه وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وفر منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وغنم المسلمون غنيمة، وذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فعظم ذلك على قريش وقالوا: استحل محمد الشهر الحرام وشنعوا ذلك فنزلت هذه الآية. فقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم الغنيمة والأسيرين، وقيل: رد الأسيرين وأخذ الغنيمة.
فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وآية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالا لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة. والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:194].
والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}وهذا هو المناسب لقوله هنا {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلخ وقيل: سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش. فالجملة استئناف ابتدائي، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] ظاهرة.
والتعريف في الشهر الحرام تعريف الجنس، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في
قوله: {قِتَالٌ فِيهِ} ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله "فيه" يجعلها في قوة المعرفة. فالمراد بيان حكم أي شهر كان من الأشهر الحرم وأي قتال، فإن كان السؤال إنكاريا من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر، وإن كان استفسارا من المسلمين فكذلك، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهو لا يختص بشهر دون شهر.
وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيها على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال? لا لأجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام، وهذه نكتة لإبدال عطف البيان تنفع في مواقع كثيرة، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقا بارتكاب الإجمال ثم التفصيل،
وتنكير "قتال" مراد به العموم، إذ ليس المسؤول عنه قتالا معينا ولا في شهر معين، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس. و"فيه" ظرف صفة لقتال مخصصة له.
وقوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحا حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانيا باللام مع تقدم ذكره في السؤال، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف {فيه}، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلا التنصيص على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد، قال التفتازاني: فالمسؤول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن.
والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكارا من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباجة القتال فيثوروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض.
والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس، شبه القوى في نوعه بعظيم
الجثة في الأفراد، لأنه مألوف في أنه قوي، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام، مثل تسمية الذنب كبيرة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يعذبان في كبير وإنه لكبير" الحديث.
والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين، ولا لقتل في شهر دون غيره، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم، لأن المسؤول عنه حكم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحا هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسؤول عنه وهو الذي وقع التحرج منه، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذ.
والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحرم وتقرير لما تلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم، لعله من عهد إبراهيم عليه السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مدته.
وهذه الأشهر هو زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة، ولذلك أفردها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج، قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97] الآية.
وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ، فأما تخصيصه فبقوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194]. وأما نسخه فبقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إلى قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية؛ لأنه لم يكن عهدا مؤقتا بزمن معين ولا بالأبد، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الأخرى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة:13]. ثم إن الله تعالى أجلهم أجلا وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو عام تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس، لأن تلك الآية زلت في شهر شوال وقد خرج
المشركون فقال لهم: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة، ثم قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أي تلك الأشهر الأربعة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق، ولذلك قاتل النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفا في شهر ذي العقدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح.وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين.
فإن قلت: إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: "أن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا" فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر. قلت: إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها. والقتال الظلم محرم في كل وقت، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الحج على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال فبالأشهر الحرم؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة. وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلا للمسلمين وهم لا قتال بينهم، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج، فتسميته نسخا تسامح، وإنما هو انتهاء مورد الحكم، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة والإجماع لانقراضهم.
{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}
إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو، فإن المشركين استعظموا فعلا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرم ليس لذات الأشهر، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتال في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتية بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراما وحرم لأجل حجها الأشهر الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحرياء بالتحميق والمذمة، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعا لغيرها. وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما: "عجبا لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض". ويحق التمثل هنا يقول الفرزدق:
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ... جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم
والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إنما عند الله إثم القتال في الشهر الحرام.
والعندية في قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} عندية مجازية وهي عندية العلم والحكم.
والتفضيل في قوله: {أَكْبَرُ} تفضيل الإثم أي كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثما.
والمراد بالصد عن سبيل الله: منع من يريد الإسلام منه ونظيره قوله تعالى: {تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} [الأعراف:86].
والكفر بالله: الإشراك به بالنسبة للمشركين وهم أكثر العرب، وكذلك إنكار وجوده بالنسبة للدهريين منهم، وتقدم الكلام عن الكفر وضابطه عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:6] إلخ.
وقوله: {به} الباء فيه لتعدية {كُفْرٌ} وليست للظرفية والضمير المجرور بالباء عائد إلى اسم الجلالة.
و {كُفْرٌ} معطوف على {صَدٌّ} أي صد عن سبيل الله وكفر بالله أكبر من قتال الشهر الحرام وإن كان القتال كبيرا.
و {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} معطوف على "سبيل الله" فهو متعلق ب{صَدٌّ}تبعا لتعلق متبوعه به.
وأعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: وصد عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها، بأن قدم قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} فجعل معطوفا على {صَدٌّ} قبل أن يستوفى {صَدٌّ} ما تعلق به وهو "والمسجد الحرام" فإنه معطوف على "سبيل الله" المتعلق بـ {صَدٌّ} إذ المعطوف على المتعلق متعلق فهو أولى بالتقديم من المعطوف على السم المتعلق به، لأن المعطوف على المتعلق به أجنبي على المعطوف عليه، وأما المعطوف على المتعلق فهو في صلة المعطوف عليه، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهم فالأهم، فإن الصد عن سبيل الإسلام بجمع مظالم كثيرة، لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم، وجحد لرسالة رسول الله، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ:5] فليس الكفر بالله إلا ركنا من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دل عليه الصد عن سبيل الله بدلالة التضمن، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه.ولا يصح أن يكون {والْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} عطفا على الضمير في قوله "به" لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يعبد وما هو دين وما يتضمن دينا، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز.
وقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي إخراج المسلمين من مكة فإنهم كانوا حول المسجد الحرام، لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته العمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، على
أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكما يخصه.
والأهل: الفريق الذين لهم مزيد اختصاص بما يضاف إليه اللفظ، فمنه أهل الرجل عشيرته، وأهل البلد المستوطنون به، وأهل الكرم المتصفون به، وأراد به هنا المستوطنين بمكة وهم المسلمون، وفيه إيماء إلى أنهم أحق بالمسجد الحرام، لأنهم الذين اتبعوا ملة من بنى المسجد الحرام قال تعالى: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34].
وقوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} تذييل مسوق مساق التعليل، لقوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} ؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى، لأن تلك أعظم جرما من جريمة إخراج المسلمين من مكة.
والفتنة: التشغيب والإيقاع في الحيرة واضظراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل، ومنعهم من إظهار عبادتهم، وقطيعتهم في المعاملة، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالئ على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت، ولا يخفي أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحدا من رجال المشركين وهو عمرو الحضرمي وأسرهم رجلين منهم.
و "أكبر" أي أشد كبرا أي قوة في المحارم، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير.
{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولها المسلمون والمشركون.إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلا بعض أحوال القتال إلا ترى إلى قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] فسمي فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمي المسلمين مقاتلين بفتح التاء، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة، لأنهم
كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله: {لا يَزَالُونَ} وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك، وأنهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل، و "حتى" للغاية وهي هنا غاية تعليلية. والمعنى: أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم.
وقوله: {إِنِ اسْتَطَاعُوا} تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد توهمه الغاية في قوله: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} ولهذا جاء الشرط بحرف "إن" المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه.
والرد: الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعن، وقد حذف هنا أحد المتعلقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:89].
وتعليق الشرط بإن للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعد الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين رد واحد من المسلمين عناء باطلا.
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]
اعتراض ثان، أو عطف على الاعتراض الذي قبله، والمقصد منه التحذير، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين، أعقبه بالتحذير منه، وجيء بصيغة {يَرْتَدِدْ} وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قدر حصوله لا يكون إلا عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلا بعناء، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أي دين ومن يومئذ صار اسم الردة لقبا شرعيا على الخروج من دين
الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج.
وقوله "فيمت" معطوف على الشرط فهو كشرط ثان.
وفعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثرا بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل.
وحبط الأعمال: زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعا، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين.
وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخوة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلم في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.
والمراد بالأعمال: الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكرم تحريضا، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلا غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة.
وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} عطف على جملة الجزاء على الكفر، إذ الأمور بخواتمها، فقد ترتب على الكفر أمران: بطلان فضل الأعمال السالفة، والعقوبة بالخلود في النار، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}
وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة.
هذا وقد رتب حبط الأعمال على مجموع أمرين الارتداد والموت على الكفر، ولم يقيد الارتداد بالموت عليه في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]
وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلا ما فعله في الكفر أخذ به.وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه.
فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة1 شرطا ههنا، لأنه علق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية: ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين اه يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعا فقوله: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} جواب لقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} . وقوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جواب لقوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} ، ولعل في إعادة {وَأُولَئِكَ} إيذانا بأنه جواب ثان، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية.
وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفي فيها بالأدلة الظنية، فإذا كان
ـــــــ
1 الموافاة لقب عند قدماء المتكلمين أول من عبر به الشيخ الأشعري ومعناها الحالة التي يختم بها عمر الإنسان من إيمان أو كفر، فالكافر عند الأشعري من علم الله أنه يموت كافرا والمؤمن بالعكس وهي مأخوذة من إطلاق الموافاة على القدوم إلى الله تعالى أي رجوع روحه إلى عالم الأرواح
الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأنه دليل ظني، وغالب أدلة الفروع ظنية، فأما في أصول الاعتقاد فأخذ من كل آية صريح حكمها، وللنظر في هذا مجال، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج.
والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية.
فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلمت عليه من خير" ، فهل يكون المرتد عن الإسلام أقل حالا من أهل الجاهلية. فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خلو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها.
وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى الإسلام مقل قرة ابن هبيرة العامري، وعلقمة بن علاثة، والأشعث بن قيس، وعيينة بن حصن، وعمرو بن معد يكرب، وفي "شرح القاضي زكريا علي ألفية العراقي": وفي دخول من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ثم ارتد ثم أسلم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير اه قال حلولو في "شرح جمع الجوامع" ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها، لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة عظيمة، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر، أما من ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإسلام في حياته وصحبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
فإن قلت: ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين، قلت: تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ} [المائدة:5] بالإيمان أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] وآية {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبط الأعمال، ومن الخسارة بإجمال، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتداد المسلمين المخاطبين بالآية، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار.
وكانت هذه الآية من دلائل النبوة، إذ وقع في عام الردة، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديق رضي الله عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حيا، فلولا هذه الآية لأيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار.
وقد أشار العطف في قوله: {فيمت} بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية، فتكون الآية بها دليلا على وجوب قتل المرتد،
وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قتل كافرا وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلا أو امرأة، وقال أبو حنيفة في الرجل مثل قولهم، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق، وقال أصحابه تحبس حتى تسلم، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاووس وعبيد الله بن عمر وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي بقتل المرتد ولا يستتاب، وقيل يستتاب شهرا
وحجة الجميع حديث ابن عباس: "من بدل دينه فاقتلوه " وفعل الصحابة فقد قاتل أبو بكر المرتدين وأحرق على السبائية الذين ادعوا ألوهية علي، وأجمعوا على أن المراد بالحديث من بدل دينه الذي هو الإسلام، واتفق الجمهور على أن "من" شاملة للذكر والأنثى إلا من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء فخصوا به عموم "من بدل دينه"، وهو احتجاج عجيب، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد، والمرأة من شأنها ألا تقاتل، فإنه نهي أيضا عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء: إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل.
وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطان الكفر فقالا: يقتل ولا تقبل توبته إذا أخذ قبل أن يأتي تائبا.
ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولا تقبل توبته.
هذا، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور
المسلمين؛ والخروج من العقيدة وترك أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحة به بإقراره نصا أو صمنا فالنص ظاهر، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا عن كافر مثل السجود للصنم، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها.وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به، أي ما كان العلم به ضروريا قال ابن راشد في "الفائق" "في التفكير بإنكار المعلوم ضرورة خلاف". وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف.
وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام.
[218] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال الفخر: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان، أحدهما: أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرا أو ثوابا? فنزلت هذه الآية؛ لأن عبد الله كان مؤمنا ومهاجرا وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا "يعني فتحققت فيه الأوصاف الثلاثة". الثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] أتبع ذلك بذكر من يقوم به اه، والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد. وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع.
و {الَّذِينَ هَاجَرُوا} هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فرارا بدينهم، مشتق من الهجر وهو الفراق، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقل والمنتقل عنه قد هجر الآخر وطلب بعده، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم: عافاك الله فيدل على أنه هجر قوما هجرا شديدا، قال عبدة بن الطيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجهد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة، وقيل: لأنه يضم جهده إلى جهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير، وقيل: لأن المجاهد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية.
و"في" للتعليل.
و"سبيل الله" ما يوصل إلى رضاه وإقامة دينه، والجهاد والمجاهدة من المصطلحات القرآنية والإسلامية، وكرر الموصول التعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء.وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمة الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناء الخبر، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذ اسم المهاجرين فأكد قصد الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول.
والرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلا منه وصدقا، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل.
[219, 220] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ}
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية، والمشروع في بيانها من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى آخر السورة، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطا للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ، وقد تناسقت في هذه الآية.
والسائلون هم المسلمون؛ قال الواحدي: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله افتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال؛ فنزلت هذه الآية، قال في "الكشاف": فلما نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم وشربها آخرون ثم نزلت بعدها آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية.
وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديما لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه، وأما ما يذكره بعض علماء الإسلام: إن الإسكار حرام في الشرائع كلها فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير سريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم، على أن في مراعاتها درجات، ولا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحا شرب الخمر حتى سكر، وأن لوطا شرب الخمر حتى سكر سكرا أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع، والأخير من الأكاذيب؛ لأن النبوة تستلزم العصمة، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء والذي يجب اعتقاده: أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء؛ لأنها لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء،
ولا يشربونها لقصد التقوى لقلة هذا القصد من شربها.
وفي سفر اللاويين من التوراة "وكلم الله هارون قائلا: خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا. فرضا دهريا في أجيالكم. وللتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر".
وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم، وقصارى لذاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم، قال طرفة:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وعن أنس بن مالك: "حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر". فلا جرم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبة إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنان بذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل:67] على تفسير من فسر السكر بالخمر، وقيل السكر: هو النبيذ غير المسكر، والأظهر التفسير الأول.
وآية سورة النحل نزلت بمكة، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب. والصحيح الأول، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكرا من الثمرات التي خلقها لهم، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم ذي ذلك بالتدريج، فقيل: إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم، وأن سبب نزولها ما تقدم، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيها لهم، إذ كانوا لا يذكرون إلا محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم، قال البغوي: إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تقدم في تحريم الخمر" أي ابتدأ يهيء تحريمها يقال: تقدمت إليك في كذا أي عرضت عليك، وفي "تفسير ابن كثير": أنها ممهدة لتحريم الخمر على البنات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزها.
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية: نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داود، وروى أيضا عن ابن عباس أنه رأى أن آية المائدة نسخت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ونسخت آية {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، ونسب لابن عمر والشعبي