كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

المجلد الأول
مقدمة...
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
الحمد لله على أن بين للمستهدين معالم مراده، ونصب لجحافل المستفتحين أعلام أمداده فأنزل القرآن قانونا عاما معصوما، وأعجز بعجائبه فظهرت يوما فيوما، وجعله مصدقا لما بين يديه ومهيمنا، وما فرط فيه من شئ يعظ مسيئا ويعد محسنا، حتى عرفه المنصفون من مؤمن وجاحد، وشهد له الراغب والمحتار والحاسد، فكان الحال بتصديقه أنطق من اللسان، وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان، وأبرز آياته في الآفاق فتبين للمؤمنين أنه الحق، كما أنزله على أفضل رسول فبشر بأن لهم قدم صدق، فبه أصبح الرسول الأمي سيد الحكماء المربين، وبه شرح صدره إذ قال {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}[النمل:79] ، فلم يزل كتابه مشعا نيرا، محفوظا من لدنه أن يترك فيكون مبدلا ومغيرا. ثم قيض لتبيينه أصحابه الأشداء الرحماء، وأبان أسراره من بعدهم في الأمة من العلماء. فصلاة الله وسلامه على رسوله وآله الطاهرين، وعلى أصحابه نجوم الاقتداء للسائرين والماخرين1
أما بعد فقد كان أكبر أمنيتي منذ أمد بعيد، تفسير الكتاب المجيد، الجامع لمصالح الدنيا والدين، وموثق شديد العرى من الحق المتين، والحاوي لكليات العلوم ومعاقد استنباطها، والآخذ قوس البلاغة من محل نياطها، طمعا في بيان نكت من العلم وكليات من التشريع، وتفاصيل من مكارم الأخلاق، كان يلوح أنموذج من جميعها في خلال تدبره، أو مطالعة كلام مفسره2، ولكني كنت على كلفي بذلك أتجهم التقحم على هذا
ـــــــ
1 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كانجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فبنيت على هذا التشبيه تشبيه المهتدين بهم بفريقين: فريق سائرون في البر - وفي ذلك تشبيه عملهم في الاهداء, وهو اتباع طريق السنة بالسير في طرق البر - وفريق ماخرون أي سائرون في الفلك المواخر في البحر, وتضمن ذلك تشبيه عملهم في الاهداء وهو الخوض في العلوم بالمخر في البحر, ومن ذلك الإشارة إلى أن العلم كالبحر كما هو شائع, وأن السنة كالسبيل المبلغ للمقصود.
2 أشير بهذا إلى أن المهم من كلام المفسرين يرشد إلى الزيادة على ما ذكروه, والذي دون ذلك من كلامهم ينبه إلى تقويم ما ذكروه, والمفسر هنا مراد به الجنس.

المجال، وأحجم عن الزج بسية قوسي في هذا النضال. اتقاء ما عسى أن يعرض له المرء نفسه من متاعب تنوء بالقوة، أو فلتات سهام الفهم وإن بلغ ساعد الذهن كمال الفتوة. فبقيت أسوف النفس مرة ومرة أسومها زجرا، فإن رأيت منها تصميما أحلتها على فرصة أخرى، وأنا آمل أن يمنح من التيسير، ما يشجع على قصد هذا الغرض العسير. وفيما أنا بين إقدام وإحجام، أتخيل هذا الحقل مرة القتاد وأخرى الثمام. إذا أنا بأملي قد خيل إلي أنه تباعد أو انقضى، إذ قدر أن تسند إلي خطة القضا1. فبقيت متلهفا ولات حين مناص، وأضمرت تحقيق هاته الأمنية متى أجمل الله الخلاص، وكنت أحادث بذلك الأصحاب والإخوان، وأضرب المثل بأبى الوليد ابن رشد في كتاب "البيان"2 ولم أزل كلما مضت مدة يزداد التمني وأرجو إنجازه، إلى أن أوشك أن تمضي عليه مدة الحيازة، فإذا الله قد من بالنقلة إلى خطة الفتيا3. وأصبحت الهمة مصروفة إلى ما تنصرف إليه الهمم العليا، فتحول إلى الرجاء ذلك الياس، وطمعت أن أكون ممن أوتي الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس4. هنالك عقدت العزم على تحقيق ما كنت أضمرته، واستعنت بالله تعالى واستخرته? وعلمت أن ما يهول من توقع كلل أو غلط، لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسج هذا النمط، إذا بذلت الوسع من الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد.
أقدمت على هذا المهم إقدام الشجاع، على وادي السباع5؛ متوسطا في معترك أنظار
ـــــــ
1 في 26 رمضان 1331هـ والقضاء هنا بالقصر لمراعاة السجع.
2 حيث ذكر أنه شرع فيه, ثم عاقه عنه تقليد خطة القضاء بقرطبة فعزم على الرجوع إليه إن أريح من القضاء وأنه عرض عزمه على أمير المؤمنين علي بن يوسف بن تاشفين, فأجابه لذلك وأعفاه من القضاء ليعود إلى إكمال كتابه "البيان والتحصيل" وهذا الكتاب هو شرح جليل على كتاب "العتيبة" الذي جمع فيه العتبى سماع أصحاب مالك منه. وساع أصحاب ابن القاسم منه.
3 في 26 رجب 1341هـ
4 أردت الإشارة إلى الحديث: "لا حسد إلى في اثنتين" لأنه يتعين أن لايكون المراد خصوص الجمع بين القضاء بها وتعليمها, بل يحصل المقصود ولو بأن يقضى بها مدة, ويعلمها الناس مدة أخرى.
5 وادي السباع موضع بين مكة والبصرة وهو واد قفر من السكان تكثر به السباع قال سحيم بن وثيل:
مررت على وادي السباع ولا أرى ... كوادي السباع حين يظلم واديا
أقل به ركب أتوه تئية ... وأخوف إلا ما وقى الله ساريا

الناظرين، وزائر بين ضباح الزائرين1، فجعلت حقا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها، فإن الاقتصار على الحديث المعاد، تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد.
ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضر كثير، وهنالك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده، وحاشا أن ننقضه أو نبيده، عالما بأن غمض فضلهم كفران للنعمة، وجحد مزايا سلفها ليس من حميد خصال الأمة، فالحمد لله الذي صدق الأمل، ويسر إلى هذا الخير ودل.
والتفاسير وإن كانت كثيرة فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق بحيث لا حظ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل. وإن أهم التفاسير تفسير "الكشاف" و "المحرر الوجيز" لابن عطية و "مفاتيح الغيب" لفخر الدين الرازي، "وتفسير البيضاوي" الملخص من "الكشاف" ومن "مفاتيح الغيب" بتحقيق بديع، و"تفسير الشهاب الآلوسي"، وما كتبه الطيبي والقزويني والقطب والتفتزاني على "الكشاف"، وما كتبه الخفاجي على "تفسير البيضاوي"، و"تفسير أبي السعود"، و"تفسير القرطبي" والموجود من "تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي" من تقييد تلميذه الأبي وهو بكونه تعليقا على "تفسير ابن عطية" أشبه منه بالتفسير لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن و"تفاسير الأحكام"، و"تفسير الإمام محمد ابن جرير الطبري"، وكتاب "درة التنزيل" المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني. ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها، وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه وما أجلبه من المسائل العلمية، مما لا يذكره المفسرون، وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري علبه فيما بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة، ولست أدعي انفرادي به في نفس الأمر، فكم من كلام تنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلم، وكم من فهم تستظهره وقد تقدمك إليه متفهم، وقديما قيل:
ـــــــ
1 الزائرين هنا اسم فاعل من زأر بهمزة بعد الزاي, وهو الذي مصدره الزئير,وهو صوت الأسد قال عنترة:
حلت بأرض لزائرين فأصبحت ... عسرا علي طلابك ابنة مخرم

هل غادر الشعراء من متردم
إن معاني القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف موزعة على آياته فالأحكام مبينة في آيات الأحكام، والآداب في آياتها، والقصص في مواقعها، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر. وقد نحا كثير من المفسرين بعض تلك الأفنان، ولكن فنا من فنون القرآن لا تخلو عن دقائقه ونكته آية من آيات القرآن، وهو فن دقائق البلاغة هو الذي لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الأفانين الأخرى، من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لي من هذا الفن العظيم في آية من آي القرآن كلما ألهمته بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر.
وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال، واهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، وهو منزع جليل قد عني به فخر الدين الرازي، وألف فيه برهان الدين البقاعي كتابه المسمى "نظم الدرر في تناسب الآي والسور" إلا أنهما لم يأتيا في كثير من الآي بما فيه مقنع، فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع، أما البحث عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض، فلا أراه حقا على المفسر.
ولم أغادر سورة إلا بينت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعاني جمله كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله.
واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة. وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده، فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير، ومن أساليب الاستعمال الفصيح ما تصبو إليه همم النحارير، بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير، ففيه أحسن ما في التفاسير، وفيه أحسن مما في التفاسير. وسميته تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، من تفسير الكتاب المجيد واختصرت هذا الاسم باسم "التحرير والتنوير من التفسير" وها أنا1 أبتدئ بتقديم مقدمات تكون عونا للباحث في التفسير، وتغنيه عن معاد كثير
ـــــــ
1 عن قصد قلت "وها أنا" ولم أقل "وها أناذا" كما التزمه كثير من المتحذلقين أخذا بظاهر كلام "مغنى اللبيب" لما بينته عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: من الآية85]

المقدمة الأولى: في التفسير والتأويل وكون التفسير علما
التفسير مصدر فسر بتشديد السين الذي هو مضاعف فسر بالتخفيف من بابي نصر وضرب الذي مصدره الفسر، وكلاهما فعل متعد فالتضعيف ليس للتعدية. والفسر الإبانة والكشف لمدلول كلام أو لفظ بكلام آخر هو أوضح لمعنى المفسر عند السامع، ثم قيل المصدران والفعلان متساويان في المعنى، وقيل يختص المضاعف بإبانة المعقولات، قاله الراغب وصاحب البصائر، وكأن وجهه أن بيان المعقولان يكلف الذي يبينه كثرة القول، كقول أوس بن حجر1:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
فكان تمام البيت تفسيرا لمعنى الألمعي، وكذلك الحدود المنطقية المفسرة للمواهي والأجناس، لا سيما الأجناس العالمية الملقبة بالمقولات فناسب أن يخص هذا البيان بصيغة المضاعفة، بناء على أن فعل المضاعف إذا لم يكن للتعدية كان المقصود منه الدلالة على التكثير من المصدر، قال في "الشافية" وفعل للتكثير غالبا وقد يكون التكثير في ذلك مجازيا واعتباريا بأن ينزل كد الفكر في تحصيل المعاني الدقيقة، ثم في اختيار أضبط الأقوال لإبانتها منزلة العمل الكثير كتفسير صحار العبدي2 وقد سأله معاوية عن البلاغة فقال: "أن تقول فلا تخطئ، وتجيب فلا تبطئ" ثم قال لسائله "أقلني لا تخطئ ولا تبطئ".
ويشهد لهذا قوله تعالى {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33]
فأما إذا كان فعل المضاعف للتعدية فإن إفادته التكثير مختلف فيها، والتحقيق أن
ـــــــ
1 كما في "الصحاح" و "التهذيب", ويروي لبشر بن أبي خازم يرثي فضالة بن كلدة كما في "العباب".
2 صحار بضم الصاد وتخفيف الحاء المهملتين, وهو ابن عياش, بليغ من بلغاء عبد القيس في صدور الدولة الأموية.

المتكلم قد يعدل عن تعدية الفعل بالهمزة إلى تعديته بالتضعيف لقصد الدلالة على التكثير لأن المضاعف قد عرف بتلك الدلالة في حالة كونه فعلا لازما فقارنته تلك الدلالة عند استعماله للتعدية مقارنة تبعية. ولذلك قال العلامة الزمخشري في خطبة الكشاف الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما، ونزله على حسب المصالح منجما فقال المحققون من شراحه، جمع بين أنزل ونزل لما في نزل من الدلالة على التكثير، الذي يناسب ما أراده العلامة من التدريج والتنجيم.
وأنا أرى أن استفادة معنى التكثير في حال استعمال التضعيف للتعدية أمر من مستتبعات الكلام حاصل من قرينة عدول المتكلم البليغ عن المهموز. الذي هو خفيف إلى المضعف الذي هو ثقيل، فذلك العدول قرينة على المراد وكذلك الجمع بينهما في مثل كلام الكشاف قرينة على إرادة التكثير.
وعزا شهاب الدين القرافي في أول "أنواء البروق" إلى بعض مشايخه أن العرب فرقوا بين فرق بالتخفيف، وفرق بالتشديد، فجعلوا الأول للمعاني والثاني للأجسام بناء على أن كثرة الحروف تقتضي زيادة المعنى أو قوته، والمعاني لطيفة يناسبها المخفف، والأجسام كثيفة يناسبها التشديد، واستشكله هو بعدم اطراده، وهو ليس من التحرير بالمحل اللائق، بل هو أشبه باللطائف منه بالحقائق، إذ لم يراع العرب في هذا الاستعمال معقولا ولا محسوسا وإنما راعوا الكثرة الحقيقية أو المجازية كما قررنا، ودل عليه استعمال القرآن، ألا ترى أن الاستعمالين ثابتان في الموضع الواحد، كقوله تعالى {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الاسراء: 106] قرىء بالتشديد والتخفيف، وقال تعالى حكاية لقول المؤمنين {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وقال لبيد:
فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت إقدامها
فجاء بفعل قدم وبمصدر أقدم، وقال سيبويه "إن فعل وأفعل يتعاقبان" على أن التفرقة عند مثبتها، تفرقة في معنى الفعل لا في حالة مفعوله بالأجسام.
والتفسير في الاصطلاح نقول: هو اسم للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن وما يستفاد منها باختصار أو توسع. والمناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المنقول إليه لا يحتاج إلى تطويل.
وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه وبهذه

الحيثية خالف علم القراءات لأن تمايز العلوم-كما يقولون-بتمايز الموضوعات، وحيثيات الموضوعات.
هذا وفي عد التفسير علما تسامح؛ إذ العلم إذا أطلق، إما أن يراد به نفس الإدراك، نحو قول أهل المنطق، العلم إما تصور وإما تصديق، وإما أن يراد به الملكة المسماة بالعقل وإما أن يراد به التصديق الجازم وهو مقابل الجهل وهذا غير مراد في عد العلوم وإما أن يراد بالعلم المسائل المعلومات وهي مطلوبات خبرية يبرهن عليها في ذلك العلم وهي قضايا كلية، ومباحث هذا العلم ليست بقضايا يبرهن عليها فما هي بكلية، بل هي تصورات جزئية غالبا لأنه تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام وليس من القضية.
فإذا قلنا إن يوم الدين في قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] هو يوم الجزاء، وإذا قلنا إن قوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] مع قوله {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] يؤخذ منه أن أقل الحمل ستة أشهر عند من قال ذلك، لم يكن شيء من ذلك قضية، بل الأول تعريف لفظي، والثاني من دلالة الالتزام ولكنهم عدوا تفسير ألفاظ القرآن علما مستقلا أراهم فعلوا ذلك لواحد من وجوه ستة:
الأول : أن مباحثه لكونها تؤدي إلى استنباط علوم كثيرة وقواعد كلية، نزلت منزلة القواعد الكلية لأنها مبدأ لها، ومنشأ، تنزيلا للشيء منزلة ما هو شديد الشبه به بقاعدة ما قارب الشيء يعطي حكمه، ولا شك أن ما تستخرج منه القواعد الكلية والعلوم أجدر بأن يعد علما من عد فروعه علما، وهم قد عدوا تدوين الشعر علما لما فى حفظه من استخراج نكت بلاغية وقواعد لغوية.
والثاني أن نقول: إن اشتراط كون مسائل العلم قضايا كلية يبرهن عليها في العلم خاص بالعلوم المعقولة، لأن هذا اشتراط ذكره الحكماء في تقسيم العلوم، أما العلوم الشرعية والأدبية فلا يشترط فيها ذلك، بل يكفي أن تكون مباحثها مفيدة كمالا علميا لمزاولها، والتفسير أعلاها في ذلك، كيف وهو بيان مراد الله تعالى من كلامه، وهم قد عدوا البديع علما والعروض علما وما هي إلا تعاريف لألقاب اصطلاحية.
والثالث أن نقول: التعاريف اللفظية تصديقات على رأي بعض المحققين فهي تؤول إلى قضايا، وتفرع المعاني الجمة عنها نزلها منزلة الكلية، والاحتجاج عليها بشعر العرب وغيره يقوم مقام البرهان على المسألة، وهذا الوجه يشترك مع الوجه الأول في تنزيل

مباحث التفسير منزلة المسائل، إلا أن وجه التنزيل في الأول راجع إلى ما يتفرع عنها، وهنا راجع إلى ذاتها مع أن التنزيل في الوجه الأول في جميع الشروط الثلاثة وهنا في شرطين، لأن كونها قضايا إنما يجيء على مذهب بعض المنطقيين.
الرابع أن نقول: إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: من الآية106] وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران: من الآية7] وقواعد المحكم عند تقرير {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: من الآية7] فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا، وقد اعتنى العلماء بإحصاء كليات تتعلق بالقرآن، وجمعها ابن فارس، وذكرها عنه في الإتقان وعنى بها أبو البقاء الكفوي في كلياته، فلا بدع أن تزاد تلك في وجوه شبه مسائل التفسير بالقواعد الكلية.
الخامس : أن حق التفسير أن يشتمل على بيان أصول التشريع وكلياته فكان بذلك حقيقا بأن يسمى علما ولكن المفسرين ابتدأوا بتقصي معاني القرآن فطفحت عليهم وحسرت دون كثرتها قواهم، فانصرفوا عن الاشتغال بانتزاع كليات التشريع إلا في مواضع قليلة.
السادس وهو الفصل: أن التفسير كان أول ما اشتغل به علماء الإسلام قبل الاشتغال بتدوين بقية العلوم، وفيه كثرت مناظراتهم. وكان يحصل من مزاولته والدربة فيه لصاحبه ملكة يدرك بها أساليب القرآن ودقائق نظمه، فكان بذلك مفيدا علوما كلية لها مزيد اختصاص بالقرآن المجيد، فمن أجل ذلك سمي علما.
ويظهر أن هذا العلم إن أخذ من حيث إنه بيان وتفسير لمراد الله من كلامه كان معدودا من أصول العلوم الشرعية وهي التي ذكرها الغزالي في الضرب الأول من العلوم الشرعية المحمودة من كتاب الإحياء، لأنه عد أولها الكتاب والسنة، ولا شك أنه لا يعنى بعلم الكتاب حفظ ألفاظه بل فهم معانيها وبذلك صح أن يعد رأس العلوم الإسلامية كما وصفه البيضاوي بذلك، وإن أخذ من حيث ما فيه من بيان مكي ومدني، وناسخ ومنسوخ، ومن قواعد الاستنباط التي تذكر أيضا في علم أصول الفقه من عموم وخصوص وغيرهما كان معدودا في متممات العلوم الشرعية المذكورة في الضرب الرابع من كلام الغزالي1، وبذلك الاعتبار عد فيها إذ قال الضرب الرابع المتممات وذلك في علم
ـــــــ
1 حيث قسم العلوم إلى شرعية وغيرها, وقسم الشرعية إلى محمودة ومذمومة, وقسم المحمودة منها إلى أضرب أربعة: أصول وفروع ومقدمات ومتممات, فالأصول الكتاب والسنة والإجماع وآثار الصحابة, والثاني الفروع وهو مافهم من الأصول, وهو الفقه وعلم الكتاب والسنة والإجماع وآثار الصحابة والثاني الفروع وهو ما فهم من الأصول, وهو الفقه وعلم أحوال القلوب والثالث المقدمات كالنحو واللغة, والرابع المتممات للقرآن وللسنة وللآثار وهي القراءات والتفسير والأصول وعلم الرجال وليس في العلوم الشرعية مذموم إلا عرضا, كبعض أحوال علم الكلام وبعض الفقه الذي يقصد للتحيل ونحوه.

القرآن ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ، كعلم القراءات، وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضا على النقل، وإلى ما يتعلق بأحكامه كالناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وكيفية استعمال البعض منه مع البعض وهو العلم الذي يسمى أصول الفقه وهو بهذا الاعتبار لا يكون رئيس العلوم الشرعية.
والتفسير أول العلوم الإسلامية ظهورا، إذ قد ظهر الخوض فيه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان بعض أصحابه قد سأل عن بعض معاني القرآن كما سأله عمر رضي الله عنه عن الكلالة، ثم اشتهر فيه بعد من الصحابة علي وابن عباس وهما أكثر الصحابة قولا في التفسير، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وكثر الخوض فيه، حين دخل في الإسلام من لم يكن عربي السجية، فلزم التصدي لبيان معاني القرآن لهم، وشاع عن التابعين وأشهرهم في ذلك مجاهد وابن جبير، وهو أيضا أشرف العلوم الإسلامية ورأسها على التحقيق.
وأما تصنيفه فأول من صنف فيه عبد الملك بن جريج المكي المولود سنة 80 ه والمتوفي سنة 149 هـ صنف كتابه في تفسير آيات كثيرة وجمع فيه آثارا وغيرها وأكثر روايته عن أصحاب ابن عباس مثل عطاء ومجاهد، وصنفت تفاسير ونسبت روايتها إلى ابن عباس، لكن أهل الأثر تكلموا فيها وهي "تفسير محمد بن السائب الكلبي" المتوفي سنة 146 ه عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد رمي أبو صالح بالكذب حتى لقب بكلمة دروغدت بالفارسية بمعنى الكذاب1 وهي أوهى الروايات فإذا انضم إليها رواية محمد بن مروان السدى عن الكلبي فهي سلسلة الكذب2، أرادوا بذلك أنها ضد ما لقبوه بسلسلة الذهب، وهي مالك عن نافع عن ابن عمر. وقد قيل إن الكلبي كان من أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل، الذي أسلم وطعن في الخلفاء الثلاثة وغلا في حب علي بن أبي
ـــــــ
1 "تفسير القرطبي"
2 "الإتقان".

طالب، وقال: إن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا وقد قيل إنه ادعى إلهية علي.
وهنالك رواية مقاتل ورواية الضحاك، ورواية علي بن أبي طلحة الهاشمي كلها عن ابن عباس، وأصحها رواية علي بن أبي طلحة، وهي التي اعتمدها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه فيما يصدر به من تفسير المفردات على طريقة التعليق، وقد خرج في الإتقان، جميع ما ذكره البخاري من تفسير المفردات، عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرتبة على سور القرآن. والحاصل أن الرواية عن ابن عباس، قد اتخذها الوضاعون والمدلسون ملجأ لتصحيح ما يروونه كدأب الناس في نسبة كل أمر مجهول من الأخبار والنوادر، لأشهر الناس في ذلك المقصد.
وهنالك روايات تسند لعلي رضي الله عنه، أكثرها من الموضوعات، إلا ما روي بسند صحيح، مثل ما في صحيح البخاري ونحوه، لأن لعلي أفهاما في القرآن كما ورد في صحيح البخاري، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله? فقال لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ثم تلاحق العلماء في تفسير القرآن وسلك كل فريق مسلكا يأوي إليه وذوقا يعتمد عليه.
فمنهم من سلك مسلك نقل ما يؤثر عن السلف، وأول من صنف في هذا المعنى، مالك ابن أنس، وكذلك الداودي تلميذ السيوطي في طبقات المفسرين، وذكره عياض في المدارك إجمالا. وأشهر أهل هذه الطريقة فيما هو بأيدي الناس محمد بن جرير الطبري.
ومنهم من سلك مسلك النظر كأبي إسحاق الزجاج وأبي علي الفارسي، وشغف كثير بنقل القصص عن الإسرائيليات، فكثرت في كتبهم الموضوعات، إلى أن جاء في عصر واحد عالمان جليلان أحدهما بالمشرق، وهو العلامة أبو القاسم محمود الزمخشري، صاحب "الكشاف"، والآخر بالمغرب بالأندلس وهو الشيخ عبد الحق بن عطية، فألف تفسيره المسمى بـ"المحرر الوجيز". كلاهما يغوص على معاني الآيات، ويأتي بشواهدها من كلام العرب ويذكر كلام المفسرين إلا أن منحي البلاغة والعربية بالزمخشري أخص، ومنحي الشريعة على ابن عطية أغلب، وكلاهما عضادتا الباب، ومرجع من بعدهما من أولي الألباب.
وقد جرت عادة المفسرين بالخوض في بيان معنى التأويل، وهل هو مساو للتفسير

أو أخص منه أو مباين. وجماع القول في ذلك أن من العلماء من جعلهما متساويين، وإلى ذلك ذهب ثعلب وابن الأعرابي وأبو عبيدة، وهو ظاهر كلام الراغب، ومنهم من جعل التفسير للمعنى الظاهر والتأويل للمتشابه، ومنهم من قال: التأويل صرف اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر محتمل لدليل فيكون هنا بالمعنى الأصولي، فإذا فسر قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم: 19] بإخراج الطير من البيضة، فهو التفسير، أو بإخراج المسلم من الكافر فهو التأويل، وهنالك أقوال أخر لا عبرة بها، وهذه كلها اصطلاحات لا مشاحة فيها إلا أن اللغة والآثار تشهد للقول الأول، لأن التأويل مصدر أوله إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، والغاية المقصودة من اللفظ هو معناه وما أراده منه المتكلم به من المعاني، فساوى التفسير، على أنه لا يطلق إلا على ما فيه تفصيل معنى خفي معقول. قال الأعشى:
على أنها كانت تأول حبها ... تأول ربعي السقاب فأصحبا
أي تبيين تفسير حبها أنه كان صغيرا في قلبه، فلم يزل يشب حتى صار كبيرا كهذا السقب، أي ولد الناقة، الذي هو من السقاب الربيعية لم يزل يشب حتى كبر وصار له ولد يصحبه قاله أبو عبيدة، وقد قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [لأعراف: 53] أي ينتظرون إلا بيانه الذي هو المراد منه، وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه لأبن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ، أي فهم معاني القرآن، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن أي يعمل بقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] فلذلك جمع في دعائه التسبيح والحمد وذكر لفظ الرب وطلب المغفرة فقولها "يتأول"، صريح في أنه فسر الآية بالظاهر منها ولم يحملها على ما تشير إليه من انتهاء مدة الرسالة وقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم، الذي فهمه منها عمر وأبن عباس رضي الله عنهما.

المقدمة الثانية: في استمداد علم التفسير
استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم، وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد، والمدد العون والغواث، فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء، وليس كل ما يذكر في العلم معدودا من مدده، بل مدده ما يتوقف عليه تقومه، فأما ما يورد في العلم من مسائل علوم أخرى، عند الإفاضة في البيان، مثل كثير من إفاضات فخر الدين الرازي، في مفاتيح الغيب فلا يعد مددا للعلم، ولا ينحصر ذلك ولا ينضبط، بل هو متفاوت على حسب مقادير توسع المفسرين ومستطرداتهم، فاستمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد، من المجموع الملتئم من علم العربية وعلم الآثار، ومن أخبار العرب وأصول الفقه قيل وعلم الكلام وعلم القراءات.
أما العربية فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة، بالسجية والسليقة، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها. إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي بالسليقة،ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين، قال في الكشاف: ومن حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة

على مراحل"1
ولعلمي البيان والمعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية، وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني وإظهار وجه الإعجاز ولذلك كان هذان العلمان يسميان في القديم علم دلائل الإعجاز قال في الكشاف: علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن برز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شئ من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما علما البيان والمعاني ا ه"2.
وقال في تفسير سورة الزمر [67] عند قوله تعالى {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} "وكم من آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف، بالتأويلات الغثه، والوجوه الرثة، لأن من تأولها ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير" يريد به علم البيان.
وقال السكاكي في مقدمة القسم الثالث من كتاب المفتاح: "وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى، وتقدس من كلامه مفتقر إلى هذين العلمين المعاني والبيان كل الافتقار، فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيهما راجل"
قال السيد الجرجاني في شرحه: ولا شك أن خواص نظم القرآن أكثر من غيرها فلابد لمن أراد الوقوف عليها، إن لم يكن بليغا سليقة، من هذين العلمين. وقد أصاب السكاكي بذكر الحكيم المحز، أي أصاب المحز إذ خص بالذكر هذا الاسم من بين الأسماء الحسنى، لأن كلام الحكيم يحتوي على مقاصد جليلة ومعاني غالية، لا يحصل الاطلاع على جميعها أو معظمها إلا بعد التمرس بقواعد بلاغة الكلام المفرغة فيه، وفي قوله ينبه إشارة إلى أن من حقه أن يكون معلوما ولكنه قد يغفل عنه، وقوله فالويل كل الويل تنفير، لأن من لم يعرف هذين العلمين إذا شرع في تفسير القرآن واستخراج لطائفه
ـــــــ
1 انظر عند قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]
2 ديباجة "الكشاف".

أخطأ غالبا، وإن أصاب نادرا كان مخطئا في إقدامه عليه ا هـ".
وقوله تمام مراد الحكيم ، أي المقصود هو معرفة جميع مراد الله من قرآنه، وذلك إما ليكثر الطلب واستخراج النكت، فيدأب كل أحد للاطلاع على غاية مراد الله تعالى، وإما أن يكون المراد الذي نصب عليه علامات بلاغية وهو منحصر فيما يقتضيه المقام بحسب التتبع، والكل مظنة عدم التناهي وباعث للناظر على بذل غاية الجهد في معرفته، والناس متفاوتون في هذا الاطلاع على قدر صفاء القرائح ووفرة المعلومات،
وقال أبو الوليد ابن رشد، في جوابه له عمن قال: إنه لا يحتاج إلى لسان العرب ما نصه: هذا جاهل فلينصرف عن ذلك وليتب منه فإنه لا يصح شئ من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب يقول الله تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] إلا أن يرى أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤدبه الإمام على قوله ذلك بحسب ما يرى فقد قال عظيما اه".،
ومراد السكاكي من تمام مراد الله ما يتحمله الكلام من المعاني الخصوصية، فمن يفسر قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] بإنا نعبدك لم يطلع على تمام المراد لأنه أهمل ما يقتضيه تقديم المفعول من القصد.
وقال في آخر فن البيان من "المفتاح": "لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي المعاني والبيان، ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة إلخ".
وقال الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز". في آخر فصل المجاز الحكمي: "ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها "أي على الحقيقة"، فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف، وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل، هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به".

وأما استعمال العرب، فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم، ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ قال شيخنا الجد الوزير "وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة، فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوي بحسب مثافنة ذلك التدبر اه".
ولله دره في قوله المقطوع ببلوغه غاية البلاغة المشير إلى وجوب اختيار الممارس لما يطالعه من كلامهم وهو الكلام المشهود له بالبلاغة بين أهل هذا الشأن، نحو المعلقات والحماسة ونحو نهج البلاغة ومقامات الحريري ورسائل بديع الزمان.
قال صاحب المفتاح قبيل الكلام على اعتبارات الإسناد الخبري "ليس من الواجب في صناعته وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل، أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها، فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكيمات وضيعة، واعتبارات إلفية، فلا بأس على الدخيل في علم المعاني، أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق اه".
ولذلك أي لإيجاد الذوق أو تكميله لم يكن غنى للمفسر في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في الآية، ببيت من الشعر، أو بشيء من كلام العرب لتكميل ما عنده من الذوق، عند خفاء المعنى، ولإقناع السامع والمتعلم اللذين لم يكمل لهما الذوق في المشكلات.
وهذا كما قلناه آنفا شئ وراء قواعد علم العربية. وعلم البلاغة به يحصل انكشاف بعض المعاني واطمئنان النفس لها، وبه يترجح أحد الاحتمالين على الآخر معاني القرآن ألا ترى أنه لو اطلع أحد على تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11] ، وعرض لديه احتمال أن يكون عطف قوله {وَلا نِسَاءٌ} على قوله {قَوْمٍ} عطف مباين، أو عطف خاص على عام فاستشهد المفسر في ذلك بقول زهير:
وما أدرى وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
كيف تطمئن نفسه لاحتمال عطف المباين دون عطف الخاص على العام، وكذلك

إذا رأى تفسير قوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وتردد عنده احتمال أن الباء فيه للتأكيد أو أنها للتبعيض أو للآلة وكانت نفسه غير مطمئنة لاحتمال التأكيد إذ كان مدخول الباء مفعولا فإذا استشهد له على ذلك بقول النابغة:
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا ... وأصبح جد الناس يظلع عاثرا
وقول الأعشى:
فكلنا مغرم يهوى بصاحبه ... قاص ودان ومحبول ومحتبل
رجح عنده احتمال التأكيد وظهر له أن دخول الباء على المفعول للتأكيد طريقة مسلوكة في الاستعمال.
روى أئمة الأدب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] ثم قال ما تقولون فيها? أي في معنى التخوف، فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوف التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في كلامها? قال: نعم. قال: أبو كبير الهذلي:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن1
فقال عمر "عليكم بديوانكم لا تضلوا، هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم" وعن ابن عباس الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغتهم رجعنا إلى ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه وكان كثيرا ما ينشد الشعر إذا سئل عن بعض حروف القرآن. قال القرطبي سئل ابن عباس، عن السنة في قوله تعالى {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ} [البقرة: 255] فقال النعاس وانشد قول زهير:
لا سنة في طوال الليل تأخذه ... ولا ينام ولا في أمره فند
وسئل عكرمة ما معنى الزنيم، فقال هو ولد الزنى وأنشد:
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغى الأم ذو حسب لئيم
فمما يؤثر2 عن أحمد بن حنبل رحمه الله، أنه سئل عن تمثل الرجل ببيت شعر لبيان معنى في القرآن فقال ما يعجبني فهو عجيب، وإن صح عنه فلعله يريد كراهة أن يذكر
ـــــــ
1 التامك: السنام, وقرد بفتح القاف وكسر الراء: كثير القراد, والسفن – بفتحتين – المبرد.
2.ذكره الألوسي.

الشعر لإثبات صحة ألفاظ القرآن كما يقع من بعض الملاحدة، روى أن ابن الراوندى1 "وكان يزن بالإلحاد" قال لابن الأعرابي: "أتقول العرب لباس التقوى" فقال ابن الأعرابي لا باس لا باس، وإذا أنجى الله الناس، فلا نجى ذلك الرأس، هبك يابن الرواندي تنكر أن يكون محمد نبيا أفتنكر ان يكون فصيحا عربيا?.
ويدخل في مادة الاستعمال العربي ما يؤثر عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات على قوانين استعمالهم، كما روى مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير قال قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فما على الرجل شئ أن لا يطوف بهما، فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} الآية اه ، فبينت له ابتداء طريقة استعمال العرب لو كان المعنى كما وهمه عروة ثم بينت له مثار شبهته الناشئة عن قوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} الذي ظاهره رفع الجناح عن الساعي الذي يصدق بالإباحة دون الوجوب.
وأما الآثار فالمعني بها، ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال، وذلك شئ قليل. قال ابن عطية عن عائشة ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل ، قال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف، قلت: أو كان تفسير ألا توقيف فيه، كما بين لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار، وقال له: " إنك لعريض الوسادة" ، وفي رواية "إنك لعريض القفا" ، وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول، وناسخ ومنسوخ، وتفسير مبهم، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى، ومثل كون المراد من قوله تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد،
ـــــــ
1 توفي سنة 240هـ

وكون المراد من قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم:77] الآية، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خباب بن الأرت كما في صحيح البخاري في تفسير سورة المدثر.
قال ابن عباس مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمنعني إلا مهابته، ثم سألته فقال: هما حفصة وعائشة. ومعنى كون أسباب النزول من مادة التفسير، أنها تعين على تفسير المراد، وليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها؛ لأن سبب النزول لا يخصص، قال تقي الدين السبكي: وكما أن سبب النزول لا يخصص، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص، كأن يرد خاص ثم يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام، نحو {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. وقد يكون المروي في سبب النزول مبينا ومؤولا لظاهر غير مقصود، فقد توهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا، روي أن عمر استعمل قدامة ابن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول? قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث، فقال عمر: ياقدامة إني جالدك، قال والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم? قال لأن الله يقول {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الخ، فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال: لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك? قال: إن الله يقول في كتابه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدرا واحدا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر، قال عمر: صدقت الحديث.
وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى، إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم

على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء، والزكاة المال المخصوص المدفوع.
وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى، فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب؛ لأنها إن كانت مشهورة، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية، لأنها لا تكون صحيحة الرواية، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته، كما احتجوا على أن أصل {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بالنصب كما في الكشاف، وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن، بل من حيث أنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.
وأما أخبار العرب فهي من جملة أدبهم. وإنما خصصتها بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني، فنحو قوله تعالى {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل: 92] وقوله {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج:4] يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.
وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين: إحداهما أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.
الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.
وقد عد عبد الحكيم والآلوسي، أخذا من كلام السكاكي، في آخر فن البيان الذي

تقدم آنفا وما شرحه به شارحاه التفتزاني والجرجاني، علم الكلام في جملة ما يتوقف عليه علم التفسير، قال عبد الحكيم: لتوقف علم التفسير على إثبات كونه تعالى متكلما، وذلك يحتاج إلى علم الكلام.
وقال الآلوسي لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام يعني من آيات التشابه في الصفات مثل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وهذا التوجيه أقرب من توجيه عبد الحكيم، وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في شرح المفتاح، وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام، ولا أثر له في التفسير، وأما معرفة ما يجوز وما يستحيل فكذلك، ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني، وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير.
ولم نعد الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي، لعدم توقف فهم القرآن، على مسائل الفقه، فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه، عند قصد التوسع في تفسيره، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم، ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله: "لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها".
تنبيه : اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير، الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيات، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب، ومفهوم المخالفة.
ذكر ابن هشام، في مغنى اللبيب، في حرف لا، عن أبي علي الفارسي، أن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وجوابه {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] اه.
وهذا كلام لا يحسن إطلاقه، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته

على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها.
واعلم أن استمداد علم التفسير، من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم، لأن كونه رأس العلوم الإسلامية، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال، فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم.

المقدمة الثالثة: في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه
إن قلت: أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه، أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" ، وفي رواية: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" . والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" وكيف محمل ما روي من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف? فقد روي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن تفسير الأب في قوله {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } [عبس:31]
فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي". ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
قلت: أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله. وهل يتحقق قول علمائنا إن القرآن لا تنقضي عجائبه إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير? ولولا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة: ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن كما تقدم في المقدمة الثانية.
ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. قال الغزالي والقرطبي: لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا

في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها. وسماع جميعها من رسول الله محال، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله: إنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه من خالفه، فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه. روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله? قال "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" إلخ وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن، وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم، قال الغزالي في الإحياء "التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين قال: ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة"
وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف بضم الخاء ا هـ. وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [ابراهيم: 42] هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا? فغضب وقال: إنما قاله من علمه يريد نفسه، وقال أبو بكر ابن العربي في العواصم إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.
وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك? وهذا الإمام الشافعي يقول: تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115]

قال شرف الدين الطيبي في شرح الكشاف في سورة الشعراء: شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال، سليما من التكلف عريا من التعسف ، وصاحب الكشاف يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.
وأما الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي فمرجعه إلى أحد خمسة وجوه:
أولها: أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول، فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل "رمية من غير رام" وهذا كمن فسر {آلم} [البقرة:1] إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك، وأما ما روي عن الصديق رضي الله عنه فيما تقدم في تفسير الآية فذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال أقول فيها برأي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان الخ. وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.
ثانيها : أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط، كمن يفسر قوله تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: من الآية7] الآية على ظاهر معناها يقول، إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 1 [النساء: من الآية78] أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الاسراء: 59] فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم
ـــــــ
1 هذا التمثيل للغزالي على أحد تفسيرين, والمثال يكفي فيه الفرض. وذكر الفخر في تفسير قوله تعالى{ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 7] أ،ه جرى على معنى التعليم للتأدب مع الخالق وقوله {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] جرى مجرى بيان الحقيقة.

تكن عمياء، فهذا من الرأي المذموم لفساده.
ثالثها : أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف، فيجر شهادة القرآن لتقرير رأيه ويمنعه عن فهم القرآن حق فهمه ما قيد عقله من التعصب، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه حتى إن لمع له بارق حق وبدا له معنى يباين مذهبه حمل عليه شيطان التعصب حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك، وهو خلاف معتقدك كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكن والاستقرار، فإن خطر له أن معنى قوله تعالى {الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23] أنه المنزه عن كل صفات المحدثات حجبة تقليده عن أن يتقرر ذلك في نفسه، ولو تقرر لتوصل فهمه فيه إلى كشف معنى ثان أو ثالث، ولكنه يسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته مذهبه.وجمود الطبع على الظاهر مانع من التوصل للغور. كذلك تفسير المعتزلة قوله {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] بمعنى أنها تنتظر نعمة ربها على أن إلى واحد الآلاء مع ما في ذلك من الخروج عن الظاهر وعن المأثور وعن المقصود من الآية.
وقالت البيانية في قوله تعالى {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138]: إنه بيان ابن سمعان كبير مذهبهم1. وكانت المنصورية أصحاب أبي منصور الكسف2 يزعمون أن المراد من قوله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] أن الكسف إمامهم نازل من السماء، وهذا إن صح عنهم ولم يكن من ملصقات أضدادهم فهو تبديل للقرآن ومروق عن الدين.
رابعها : أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين.
خامسها: أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرع
ـــــــ
1 وهو بيان بن سمعان التميمي, والبيانية من غلاة الشيعة, يقولون بالحلول وبإلهية علي والحسن والحسين ومحمد بن الحنفية. صلب خالد بن عبد الله القسري بيانا هذا سنة 119هـ بالكوفة.
2 هو أبو منصور العجلي الملقب بالكشف – بكسر الكاف وسكون السين – زعم أنه خليفة الباقر وزعم أنه عرج إلى السماء وتلقى من الله الإذن بأن يبلغ عنه وأنه المراد بقوله تعالى: { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44] قتله يوسف بن عمر الثقفي أمير العراق بين سنة 120 و 126هـ

إلى ذلك، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازية إلى غيره. وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في القرآن، ذكر ذلك في المزهر فأبى أن يتكلم في أن سرى وأسرى بمعنى واحد، لأن أسرى ذكرت في القرآن، ولا في أن عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن، وقال: الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه في القرآن اه.
فهذا ضرب من الورع يعتري بعض الناس لخوف، وأنه قد يعتري كثيرا من أهل العلم والفضل، وربما تطرق إلى بعضهم في بعض أنواع الأحوال دون بعض، فتجد من يعتريه ذلك في العلم ولا يعتريه في العقل، وقد تجد العكس، والحق أن الله ما كلفنا في غير أصول الاعتقاد بأكثر من حصول الظن المستند إلى الأدلة والأدلة متنوعة على حسب أنواع المستند فيه، وأدلة فهم الكلام معروفة وقد بيناها.
أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر، فإن أرادوا به ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أرادوا بالمأثور ما روى عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره الدر المنثور، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن علي بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع، وقد ثبت عنه أنه قال: ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروي عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروي عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروي عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقه، ويقربون ما

بعد من الشقة، إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم تأولوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم، وهي ثابتة في تفسير الطبري ونظرائه، وقد التزم الطبري في تفسيره أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين، لكنه لا يلبث في كل آية ان يتخطى ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج، وقد سبقه إليه بقي ابن مخلد ولم نقف على تفسيره، وشاكل الطبري فيه معاصروه، مثل ابن أبي 1حاتم وابن مردويه والحاكم، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين، والزجاج والرماني ممن بعدهم، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.
وإذ قد تقصينا مثارات التفسير بالرأي المذموم وبينا لكم الأشياء والأمثال، بما لا يبقي معه للاشتباه من مجال، فلا نجاوز هذا المقام ما لم ننبهكم إلى حال طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين، ويبين مراد الله. ولما توقعوا أن يحاجهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا ان لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء، فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة، وأنه يشبه الخلق تعالى
ـــــــ
1 زيادة من المصحح.

وتقدس وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها. ولهم في التفسير تكلفات ثقيلة منها قولهم ان قوله تعالى {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [لأعراف: 46] أن جبلا يقال له الأعراف هو مقر أهل المعارف الذين يعرفون كلا بسيماهم. وأن قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي لا يصل أحد إلى الله إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة إما في صباه، أو بعد ذلك، ثم ينجي الله من يشاء. وإن قوله تعالى {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] أراد بفرعون القلب.
وقد تصدى للرد عليهم الغزالي في كتابه الملقب ب "المستظهري". وقال إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى اه يعني والذي يتخذونه حجة لهم يمكن أن نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن المعنى الظاهر هو الذي لا يمكن اختلاف الناس فيه لاستناده للغة الموضوعة من قبل. وأما الباطن فلا يقوم فهم أحد فيه حجة على غيره اللهم إلا إذا زعموا أنه لا يتلقى إلا من الإمام المعصوم ولا إخالهم إلا قائلين ذلك. ويؤيد هذا ما وقع في بعض قراطيسهم قالوا إنما ينتقل إلى البدل مع عدم الأصل، والنظر بدل من الخبر فإن كلام الله هو الأصل فهو خلق الإنسان وعلمه البيان والإمام هو خليفته ومع وجود الخليفة الذي يبين قوله فلا ينتقل إلى النظر اه وبين ابن العربي في كتاب العواصم شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا.
فإن قلت فما روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا". وعن ابن عباس أنه قال: إن للقرآن ظهرا وبطنا. قلت لم يصح ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، بله المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه? على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال فظهره التلاوة وبطنه التأويل فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية تفسير القاشاني وكثير من أقوالهم مبثوث في "رسائل إخوان الصفاء. "
أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه، وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان: فالغزالي يراها مقبولة، قال

في كتاب من "الإحياء"1: إذا قلنا فى قوله صلى الله عليه وسلم "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال: ولست أقول إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر ا ه. فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عام في آية بخاص من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من صحيح البخاري عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} [ابراهيم: 28] قال هم كفار قريش، ومحمد نعمة الله {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [ابراهيم: 28] قال يوم بدر.
وابن العربي في كتاب "العواصم" يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر "رسائل إخوان الصفاء" أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال: "وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي، وعقدا في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة" اه.
وعندي إن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء: الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية، {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، وذكر الآية عند تلك
ـــــــ
1 ج 1/49- دار المعرفة –"كتاب العلم". الباب الخامس: في آداب المتعلم والمعلم. انظر أيضا: إتحاف الزبيدي" 1/306.

الحالة كالنطق بلفظ المثل، ومن هذا قولهم في حديث "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" كما تقدم عن الغزالي.
الثاني : ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده، والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} [البقرة: 255] من ذل ذي إشارة للنفس يصير من المقربين للشفعاء، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.
الثالث : عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرأوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظه فإذا أخذوا من قوله تعالى {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل:16] اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.
ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر: هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار، فجعل يبكي ويقول: إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار.
فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدت عقولهم وتدبرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.
وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة، وفحوى الخطاب، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف: 19] ومشروعية الضمان من قوله {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. ومشروعية القياس من قوله {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:

105] ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] و {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الاسراء: 44] لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.
قال في الكشاف: وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.
هذا وإن واجب النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم قضي علي أن أنبه إلى خطر أمر تفسير الكتاب والقول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه شروط الضلاعة في العلوم التي سبق ذكرها في المقدمة الثانية.
فقد رأينا تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن فمنهم من يتصدى لبيان معنى الآيات على طريقة كتب التفسير ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية جانبا، جالبا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبا، وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدى طوره، وأن يرد الأشياء إلى أربابها، كي لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون في حالك سواد، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة، وإفحاش لأهل هذه الغلطة، فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء، فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجاجه، تحذيرا للمطالع، وتنزيلا في البرج والطالع.

المقدمة الرابعة: فيما يحق أن يكون غرض المفسر
كأني بكم وقد مر على أسماعكم ووعت ألبابكم ما قررته من استمداد علم التفسير، ومن صحة تفسير القرآن بغير المأثور، ومن الإنحاء على من يفسر القرآن بما يدعيه باطنا ينافي مقصود القرآن، ومن التفرقة بين ذلك وبين الإشارات، تتطلعون بعد إلى الإفصاح عن غاية المفسر من التفسير، وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم غاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم، وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير مقادير اتصال ما تشتمل عليه، بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار ما أوفى به من المقصد، ومقدار ما تجاوزه، ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه، وبين من يفصل معانيه تفصيلا، ثم ينعطف القول إلى نموذج مما استخرجه العلماء من مستنبطات القرآن في كثير من العلوم.
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية. فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية. وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية.وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعي المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.

فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [صّ:29] سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه.
وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها: منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع أيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداءا قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] وقال {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157,156] لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.
أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور:
الأول : إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح. وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ

تَتْبِيبٍ} [هود: 101] فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.
الثاني : تهذيب الأخلاق قال تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]
وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق " وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بله خاصة الصحابة، وقال أبو خراش الهذلي مشيرا إلى ما دخل على العرب من أحكام الإسلام بأحسن تعبير:
فليس كعهد الدار يأم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
أراد بإحاطة السلاسل بالرقاب أحكام الإسلام. والشاهد في قوله وعاد الفتى كالكهل.
الثالث : التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم، فقوله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] المراد بهما إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس. قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية.
الرابع : سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] وقوله {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وقوله {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [لأنفال: 46] وقوله {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
الخامس : القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:

3] {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: من الآية90] وللتحذير من مساويهم قال {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [ابراهيم: 45] وفي خلالها تعليم، وكنا أشرنا إليها في المقدمة الثانية.
السادس : التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر، ثم نوه بشأن الحكمة فقال {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم. وقد لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل، إنما قصارى علومهم أمور تجريبية، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] و {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: من الآية9] وقال {نْ وَالْقَلَمِ} [القلم:1] فنبه إلى مزية الكتابة.
السابع : المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين، وهذا باب الترغيب والترهيب.
الثامن : الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدي لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه. هذا ما بلغ إليه استقرائي. وللغزالي في أحياء علوم الدين بعض من ذلك.
فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل، فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح وعادات، وتعرض صاحب الكشاف إلى شيء من عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره.
فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي

للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل. وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع كما أشرنا إليه في المقدمة الثانية.
ففي الطريقة الثانية قد فرع العلماء وفصلوا في الأحكام، وخصوها بالتآليف الواسعة، وكذلك تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب الإحياء فلا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية، وله مزيد تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] بما ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك، والقول في ألفاظ القرآن وما قاله أهل المذاهب في ذلك. وكذا أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي. وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها ثمانمائة مسألة. وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق الإنسان {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج: 5] الآيات، فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية.
وفي الطريقة الثالثة تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية: إما على أن بعضها يومىء إليه معنى الآية ولو بتلويح ما كما يفسر أحد قوله تعالى {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله {خَيْراً كَثِيراً} فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه. وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء. وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان

التمانع لتقرير معنى قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الانبياء: من الآية22]. وكتقرير مسألة المتشابه لتحقيق معنى نحو قوله تعالى { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذريات: من الآية47] فهذا كونه من غايات التفسير واضح، وكذا قوله تعالى {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [قّ:6] فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين في علم الهيأة كان قد زاد المقصد خدمة.
وإما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع. وإما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف: من الآية47] أن فناء العالم يكون بالزلازل ومن قوله {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم. وشرط كون ذلك مقبولا أن يسلك فيه مسلك الإيجاز فلا يجلب إلا الخلاصة من ذلك العلم ولا يصير الاستطراد كالغرض المقصود له لئلا يكون كقولهم: السي بالسي يذكر1.
وللعلماء في سلوك هذه الطريقة الثالثة على الإجمال آراء: فأما جماعة منهم فيرون من الحسن التوفيق بين العلوم غير الدينية وآلاتها وبين المعاني القرآنية، ويرون القرآن مشيرا إلى كثير منها. قال ابن رشد الحفيد في فصل المقال أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس. وتباين قرائحهم في التصديق وتخلص إلى القول بأن بين العلوم الشرعية والفلسفية اتصالا. وإلى مثل ذلك ذهب قطب الدين الشيرازي في شرح حكمة الإشراق، وهذا الغزالي والإمام الرازي وأبو بكر ابن العربي وأمثالهم صنيعهم يقتضي التبسط وتوفيق المسائل العلمية، فقد ملأوا كتبهم من الاستدلال على المعاني القرآنية بقواعد العلوم الحكمية وغيرها وكذلك الفقهاء في كتب "أحكام القرآن"، وقد علمت ما قاله ابن العربي فيما أملاه على سورة نوح وقصة الخضر وكذلك ابن جنى والزجاج وأبو حيان قد أشبعوا "تفاسيرهم" من الاستدلال على القواعد العربية، ولا شك أن الكلام الصادر عن علام الغيوب تعالى وتقدس لا تبنى معانيه على فهم طائفة واحدة ولكن معانيه تطابق الحقائق، وكل ما كان من الحقيقة في علم من
ـــــــ
1 السي: بسين مهملة مكسورة وتحتية مشددة النظير والمثيل.

العلوم وكانت الآية لها اعتلاق بذلك فالحقيقة العلمية مرادة بمقدار ما بلغت إليه أفهام البشر وبمقدار ما ستبلغ إليه. وذلك يختلف باختلاف المقامات ويبنى على توفر الفهم، وشرطه أن لا يخرج عما يصلح له اللفظ عربية، ولا يبعد عن الظاهر إلا بدليل، ولا يكون تكلفا بينا ولا خروجا عن المعنى الأصلي حتى لا يكون في ذلك كتفاسير الباطنية.
وأما أبو إسحاق الشاطبي فقال في الفصل الثالث من المسألة الرابعة: لا يصح في مسلك الفهم والإفهام إلا ما يكون عاما لجميع العرب. فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه وقال في المسألة الرابعة من النوع الثاني "ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب تنبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وأشباهها وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح فإن السلف الصالح كانوا أعلم بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أن أحدا منهم تكلم في شيء من هذا سوى ما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة. نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب وما هو على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة" الخ. وهذا مبني على ما أسسه من كون القرآن لما كان خطابا للأميين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمية. وهو أساس واه لوجوه ستة: الأول أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حال إلى حال وهذا باطل لما قدمناه، قال تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: من الآية49]. الثاني أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة. الثالث أن السلف قالوا: إن القرآن لا تنقضي عجائبه يعنون معانيه ولو كان كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه. الرابع أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه ما لم تف به الأسفار المتكاثرة. الخامس أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم فأما مازاد على المعاني الأساسية فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. السادس أن عدم تكلم السلف عليها إن كان فيما ليس راجعا إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها فلا نسلم وقوفهم فيها عند

ظواهر الآيات بل قد بينوا وفصلوا وفرعوا في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقتفي على آثارهم في علوم أخرى راجعة لخدمة المقاصد القرآنية أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أما ما وراء ذلك فإن كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا. لأن العلوم العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك فذلك ليس من التفسير لكنه تكملة للمباحث العلمية واستطراد في العلم لمناسبة التفسير ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم.اد في العلم لمناسبة التفسير ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم.
وذهب ابن العربي في "العواصم" إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم على غير هاته العلوم وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية وهو مفرط في ذلك مستخف بالحكماء.
وأنا أقول: إن علاقة العلوم بالقرآن على أربع مراتب:
الأولى : علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم، وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة.
الثانية : علوم تزيد المفسر علما كالحكمة والهيأة وخواص المخلوقات.
الثالثة : علوم أشار إليها أو جاءت مؤيدة له كعلم طبقات الأرض والطب والمنطق.
الرابعة : علوم لا علاقة لها به إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا، وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي.

المقدمة الخامسة: في أسباب النزول
أولع كثير من المفسرين بتطلب أسباب نزول آي القرآن، وهي حوادث يروى أن آيات من القرآن نزلت لأجلها لبيان حكمها أو لحكايتها أو إنكارها أو نحو ذلك، وأغربوا في ذلك وأكثروا حتى كاد بعضهم أن يوهم الناس أن كل آية من القرآن نزلت على سبب، وحتى رفعوا الثقة بما ذكروا. بيد أنا نجد في بعض آي القرآن إشارة إلى الأسباب التي دعت إلى نزولها ونجد لبعض الآي أسبابا ثبتت بالنقل دون احتمال أن يكون ذلك رأي الناقل، فكان أمر أسباب نزول القرآن دائرا بين القصد والإسراف، وكان في غض النظر عنه وإرسال حبله على غاربه خطر عظيم في فهم القرآن. فذلك الذي دعاني إلى خوض هذا الغرض في مقدمات التفسير لظهور شدة الحاجة إلى تمحيصه في أثناء التفسير، وللاستغناء عن إعادة الكلام عليه عند عروض تلك المسائل، غير مدخر ما أراه في ذلك رأيا يجمع شتاتها.
وأنا عاذر المتقدمين الذين ألفوا في أسباب النزول فاستكثروا منها، بأن كل من يتصدى لتأليف كتاب في موضوع غير مشبع تمتلكه محبة التوسع فيه فلا ينفك يستزيد من ملتقطاته ليذكي قبسه، ويمد نفسه، فيرضى بما يجد رضى الصب بالوعد، ويقول زدني من حديثك يا سعد. غير هياب لعاذل، ولا متطلب معذرة عاذر، وكذلك شأن الولع إذا امتلك القلب ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفا، حتى أوهموا كثيرا من الناس أن القرآن لا تنزل آياته إلا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هاديا إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام. نعم إن العلماء توجسوا منها فقالوا إن سبب النزول لا يخصص، إلا طائفة شاذة ادعت التخصيص بها، ولو أن أسباب النزول كانت كلها متعلقة بآيات عامة لما دخل من

ذلك ضر على عمومها إذ قد أراحنا أئمة الأصول حين قالوا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن أسبابا كثيرة رام رواتها تعيين مراد من تخصيص عام أو تقييد مطلق أو إلجاء إلى محمل، فتلك هي التي قد تقف عرضة أمام معاني التفسير قبل التنبيه على ضعفها أو تأويلها. وقد قال الواحدي في أول كتابه في أسباب النزول: "أما اليوم فكل أحد يخترع للآية سببا، ويختلق إفكا وكذبا، ملقيا زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد" وقال : "لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل" اه.
إن من أسباب النزول ما ليس المفسر بغنى عن علمه لأن فيها بيان مجمل أو إيضاح خفي وموجز، ومنها ما يكون وحده تفسيرا. ومنها ما يدل المفسر على طلب الأدلة التي بها تأويل الآية أو نحو ذلك. ففي صحيح البخاري أن مروان بن الحكم أرسل إلى ابن عباس يقول لئن كان كل امرئ فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون يشير إلى قوله تعالى {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188] فأجاب ابن عباس قائلا: "إنما دعا النبي اليهود فسألهم على شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم"، ثم قرأ ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188,187] الآيات. وفي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أنه قال قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: من الآية158] فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} اهـ.
ومنها ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام كما سننبهك إليه في أثناء المقدمة العاشرة.

وقد تصفحت أسباب النزول التي صحت أسانيدها فوجدتها خمسة أقسام:
الأول : هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منها على علمه فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: من الآية1] ونحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104] ومثل بعض الآيات التي فيها {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة: من الآية8].
والثاني : هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها، مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت عنه آية اللعان، ومثل حديث كعب بن عجرة الذي نزلت عنه آية {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: من الآية196] الآية فقد قال كعب بن عجرة: هي لي خاصة ولكم عامة، ومثل قول أم سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: يغزو الرجال ولا نغزو، فنزل قوله تعالى {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: من الآية32] الآية. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة تفهم في معنى الآية وتمثيلا لحكمها، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة، إذ قد اتفق العلماء أو كادوا على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.
والثالث : هو حوادث تكثر أمثالها تختص بشخص واحد فنزلت الآية لإعلانها وبيان أحكامها وزجر من يرتكبها، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري في باب قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: من الآية77] أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" فأنزل الله تصديق ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية فدخل الأشعث بن قيس فقال ما حدثكم أبو عبد الرحمان? فقالوا كذا وكذا، قال في أنزلت، لي بئر في أرض بن عم لي الخ، فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام? والأشعث بن قيس ظنها خاصة به إذ قال في أنزلت بصيغة الحصر.
ومثل الآيات النازلة في المنافقين في سورة براءة المفتتحة بقوله تعالى {وَمِنْهُمْ- وَمِنْهُمْ} [التوبة: من الآية58] ولذلك قال ابن عباس: كنا نسمي سورة التوبة سورة الفاضحة. ومثل

قوله تعالى {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: من الآية105] فلا حاجة لبيان أنها نزلت لما أظهر بعض اليهود مودة المؤمنين. وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ولا فائدة في ذكره، على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.
والرابع : هو حوادث حدثت وفي القرآن آيات تناسب معانيها سابقة أو لاحقة فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ويدل لهذا النوع وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب النزول من الإتقان فارجعوا إليه ففيه أمثلة كثيرة.
وفي "صحيح البخاري" في سورة النساء أن ابن عباس قرأ قوله تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: من الآية94] بألف بعد لام السلام وقال كان رجل في غنيمة له تصغير غنم فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه أي ظنوه مشركا يريد أن يتقي منهم بالسلام وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} الآية. فالقصة لابد أن تكون قد وقعت لأن ابن عباس رواها لكن الآية ليست نازلة فيها بخصوصها ولكن نزلت في أحكام الجهاد بدليل ما قبلها وما بعدها فإن قبلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: من الآية94] وبعدها {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء: من الآية94].
وفي تفسير تلك السورة من صحيح البخاري بعد أن ذكر نزاع الزبير والأنصاري في ماء شراج الحرة قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: من الآية65] الآية قال السيوطي في "الإتقان" عن الزركشي قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها. وفيه عن ابن تيمية قد تنازع العلماء في قول الصحابي: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند أو يجري مجرى التفسير? فالبخاري يدخله في المسند، وأكثر أهل المسانيد لا يدخلونه فيه، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلونه في المسند.
والخامس: قسم يبين مجملات، ويدفع متشابهات مثل قوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ

بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44] فإذا ظن أحد أن من للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا، ثم إذا علم أن سبب النزول هم النصارى علم أن من موصولة وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود قال لما نزل قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: من الآية82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يلبس إيمانه بظلم ظنوا أن الظلم هو المعصية. فقال رسول الله: "إنه ليس بذلك? ألا تسمع لقول لقمان لابنه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " [لقمان: من الآية13]. ومن هذا القسم ما لا يبين مجملا ولا يؤول متشابها ولكنه يبين وجه تناسب الآي بعضها مع بعض كما في قوله تعالى، في سورة النساء:[3] {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية، فقد تخفي الملازمة بين الشرط وجزائه فيبينها ما في الصحيح، عن عائشة أن عروة بن الزبير سألها عنها فقالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
هذا وإن القرآن كتاب جاء لهدي أمة والتشريع لها، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة، وقد يكون مخاطبا به قوم على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما، وقد يكون مخاطبا به جميع من يصلح لخطابه، وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية، والحكمة في ذلك أن يكون وعى الأمة لدينها سهلا عليها، وليمكن تواتر الدين، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط، وإلا فإن الله قادر أن يجعل القرآن أضعاف هذا المنزل وأن يطيل عمر النبي صلى الله عليه وسلم للتشريع أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى، ولذلك قال تعالى {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: من الآية3]، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية لأن ذلك يبطل مراد الله، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ولا إطلاق ما قصد منه التقييد؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد أو إلى إبطاله من أصله، وقد اغتر بعض الفرق بذلك. قال ابن سيرين في الخوارج: إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: من الآية57] فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في "نهج البلاغة".
وثمة فائدة أخرى عظيمة لأسباب النزول وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث

دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم، فنزوله على حوادث يقطع دعوى من ادعوا أنه أساطير الأولين.

المقدمة السادسة: في القراءات
لولا عناية كثير من المفسرين بذكر اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن حتى في كيفيات الأداء، لكنت بمعزل عن التكلم في ذلك لأن علم القراءات علم جليل مستقل قد خص بالتدوين والتأليف وقد أشبع فيه أصحابه وأسهبوا بما ليس عليه مزيد، ولكني رأيتني بمحل الاضطرار إلى أن ألقى عليكم جملا في هذا الغرض تعرفون بها مقدار تعلق اختلاف القراءات بالتفسير، ومراتب القراءات قوة وضعفا? كي لا تعجبوا من إعراضي عن ذكر كثير من القراءات في أثناء التفسير.
أرى أن للقراءات حالتين: إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة.
أما الحالة الأولى فهي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة، مثل {عَذَابِي} [لأعراف: من الآية156] بسكون الياء و {عَذَابِي} بفتحها، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: من الآية214] بفتح لام يقول وضمها.ونحو {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: من الآية254] برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض، ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقي ذلك عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة، وهذا غرض مهم جدا لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره في اختلاف معاني الآي، ولم أر من عرف لفن القراءات حقه من هذه الجهة، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية، فهي لذلك مادة كبرى لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرأوا القرآن قرأوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف: المدينة، ومكة، والكوفة، والبصرة، والشام، قيل واليمن والبحرين، وكان في هذه الأمصار

قراؤها من الصحابة قبل ورود مصحف عثمان إليهم فقرأ كل فريق بعربية قومه في وجوه الأداء، لا في زيادة الحروف ونقصها، ولا في اختلاف الإعراب دون مخالفته مصحف عثمان، ويحتمل أن يكون القارئ الواحد قد قرأ بوجهين ليرى صحتهما في العربية قصدا لحفظ اللغة مع حفظ القرآن الذي أنزل بها، ولذلك يجوز أن يكون كثير من اختلاف القراء في هذه الناحية اختيارا، وعليه يحمل ما يقع في كتابي الزمخشري وابن العربي من نقد بعض طرق القراء، على أن في بعض نقدهم نظرا، وقد كره مالك رحمه الله القراءة بالإمالة مع ثبوتها عن القراء، وهي مروية عن مقرئ المدينة نافع من رواية ورش عنه وانفرد بروايته أهل مصر، فدلت كراهته على أنه يرى أن القارئ بها ما قرأ إلا بمجرد الاختيار،
وفي تفسير القرطبي في سورة الشعراء عن أبي إسحاق الزجاج، يجوز أن يقرأ"طسين ميم" بفتح النون من "طسين" وضم الميم الأخيرة كما يقال هذا معد يكرب اه مع أنه لم يقرأ به أحد. قلت: ولا ضير في ذلك ما دامت كلمات القرآن وجمله محفوظة على نحو ما كتب في المصحف الذي أجمع عليه أصحاب رسوا الله إلا نفرا قليلا شذوا منهم، كان عبد الله بن مسعود منهم، فإن عثمان لما أمر بكتب المصحف على نحو ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثبته كتاب المصحف، رأى أن يحمل الناس على اتباعه وترك قراءات ما خالفه، وجمع جميع المصاحف المخالفة له وأحرقها ووافقه جمهور الصحابة على ما فعله. قال شمس الدين الأصفهاني في المقدمة الخامسة من تفسيره. كان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان ويتخذه إماما. وقلت: إنما كان فعل عثمان إتماما لما فعله أبو بكر من جمعه القرآن الذي كان يقرأ في حياة الرسول، وأن عثمان نسخه في مصاحف لتوزع على الأمصار، فصار المصحف الذي كتب لعثمان قريبا من المجمع عليه وعلى كل قراءة توافقه وصار ما خالفه متروكا بما يقارب الإجماع.
قال الأصفهاني في تفسيره كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي قراءة العامة التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل في العام الذي قبض فيه، ويقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله على جبريل اه وبقى الذين قرأوا قراءات مخالفة لمصحف عثمان يقرأون بما رووه لا ينهاهم أحد عن قراءتهم ولكن يعدوهم شذاذا ولكنهم لم يكتبوا قراءتهم في

مصاحف بعد أن أجمع الناس على مصحف عثمان،
قال البغوي في تفسير قوله تعالى {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29]
عن مجاهد وفي الكشاف والقرطبي- قرأ علي بن أبي طالب "وطلع منضود" بعين في موضع الحاء، وقرأ قارئ بين يديه وطلح منضود فقال: وما شأن الطلح? إنما هو "وطلع" وقرأ {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [قّ: 10] فقالوا أفلا نحولها? فقال إن آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول، أي لا تغير حروفها ولا تحول عن مكانها فهو قد منع من تغيير المصحف، ومع ذلك لم يترك القراءة التي رواها،
وممن نسبت إليهم قراءات مخالفة لمصحف عثمان، عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وسالم مولى أبي حذيفة، إلى أن ترك الناس ذلك تدريجا.
ذكر الفخر في تفسير قوله تعالى {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور: 15] من سورة النور أن سفيان قال: سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه بألسنتكم وكان أبوها يقرأ بقراءة ابن مسعود، ومع ذلك فقد شذت مصاحف بقيت مغفولا عنها بأيدي أصحابها، منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف في سورة الفتح أن الحارث بن سويد صاحب عبد الله بن مسعود كان له مصحف دفنه في مدة الحجاج، قال في الكشاف لأنه كان مخالفا للمصحف الإمام، وقد أفرط الزمخشري في توهين بعض القراءات لمخالفتها لما اصطلح عليه النجاة وذلك من إعراضه عن معرفة الأسانيد.
من أجل ذلك اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف أي مصحف عثمان وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها، قال أبو بكر ابن العربي: ومعنى ذلك عندي أن تواترها تبع لتواتر المصحف الذي وافقته وما دون ذلك فهو شاذ، يعني وأن تواتر المصحف ناشئ عن تواتر الألفاظ التي كتبت فيه.
قلت- وهذه الشروط الثلاثة، هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه، ألا ترى أن جمعا من أهل القراءات المتواترة قرأوا قوله تعالى {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظنِينٍ} [التكوير:24] بظاء مشالة أي بمتهم، وقد كتبت في المصاحف كلها بالضاد الساقطة.

على أن أبا علي الفارسي صنف كتاب الحجة للقراءات، وهو معتمد عند المفسرين وقد رأيت نسخة منه في مكاتب الآستانة. فالقراءات من هذه الجهة لا تفيد في علم التفسير والمراد بموافقة خط المصحف موافقة أحد المصاحف الأئمة التي وجه بها عثمان بن عفان إلى أمصار الإسلام إذ قد يكون اختلاف يسير نادر بين بعضها، مثل زيادة الواو في {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133] في مصحف الكوفة ومثل زيادة الفاء في قوله { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: من الآية30] في سورة الشورى {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] - أو {إِحْسَاناً} فذلك اختلاف ناشئ عن القراءة بالوجهين بين الحفاظ من زمن الصحابة الذين تلقوا القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه قد أثبته ناسخو المصحف في زمن عثمان فلا ينافي التواتر إذ لا تعارض، إذا كان المنقول عنه قد نطق بما نقله عنه الناقلون في زمانين أو أزمنة، أو كان قد أذن للناقلين أن يقرأوا بأحد اللفظين أو الألفاظ،
وقد انحصر توفر الشروط في الروايات العشر للقراء وهم، نافع بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي، وأبو عمرو المازني البصري وعبد الله بن عامر الدمشقي، وعاصم بن أبي النجود الكوفي، وحمزة بن حبيب الكوفي، والكسائي علي بن حمزة الكوفي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني، وخلف البزار بزاي فألف فراء مهملة الكوفي، وهذا العاشر ليست له رواية خاصة، وإنما اختار لنفسه قراءة تناسب قراءات أئمة الكوفة، فلم يخرج عن قراءات قراء الكوفة إلا قليلا، وبعض العلماء يجعل قراءة ابن محيصن واليزيدي والحسن، والأعمش، مرتبة دون العشر، وقد عد الجمهور ما سوى ذلك شاذا لأنه لم ينقل بتواتر حفاظ القرآن.
والذي قاله مالك والشافعي، أن ما دون العشر لا تجوز القراءة به ولا أخذ حكم منه لمخالفته المصحف الذي كتب فيه ما تواتر، فكان ما خالفه غير متواتر فلا يكون قرآنا، وقد تروي قراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد صحيحة في كتب الصحيح مثل صحيح البخاري ومسلم وأضرابهما إلا أنها لا يجوز لغير من سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بها لأنها غير متواترة النقل فلا يترك المتواتر للآحاد وإذا كان راويها قد بلغته قراءة أخرى متواترة تخالف ما رواه وتحقق لديه التواتر وجب عليه أن يقرأ بالمروية تواترا، وقد اصطلح المفسرون على أن يطلقوا عليها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها غير منتسبة إلى أحد من أئمة الرواية في القراءات، ويكثر ذكر هذا العنوان في تفسير محمد بن جرير الطبري وفي الكشاف

وفي المحرر الوجيز لعبد الحق ابن عطية، وسبقهم إليه أبو الفتح ابن جني، فلا تحسبوا أنهم أرادوا بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنها وحدها المأثورة عنه ولا ترجيحها على القراءات المشهورة لأن القراءات المشهورة قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد أقوى وهي متواترة على الجملة كما سنذكره، وما كان ينبغي إطلاق وصف قراءة النبي عليها لأنه يوهم من ليسوا من أهل الفهم الصحيح أن غيرها لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يرجع إلى تبجح أصحاب الرواية بمروياتهم.
وأما الحالة الثانية: فهي اختلاف القراء في حروف الكلمات مثل {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]
"ملك يوم الدين" و "ننشرها" و {نُنْشِزُهَا} [البقرة: من الآية259] و {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} بتشديد الذال أو {قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] بتخفيفه، وكذلك اختلاف الحركات الذي يختلف معه معنى الفعل كقوله {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] قرأ نافع بضم الصاد وقرأ حمزة بكسر الصاد، فالأولى بمعنى يصدون غيرهم عن الإيمان، والثانية بمعنى صدودهم في أنفسهم وكلا المعنيين حاصل منهم، وهي من هذه الجهة لها مزيد تعلق بالتفسير لأن ثبوت أحد اللفظين في قراءة قد يبين المراد من نظيره في القراءة الأخرى، أو يثير معنى غيره، ولأن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة نحو {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: من الآية222] بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء وضم الهاء مخففة، ونحو {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: من الآية43] و"لمستم النساء"، وقراءة {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِند الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19] مع قراءة "الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ" والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن، ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى؛ ولم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا، وإن كان قد يؤخذ من كلام أبي علي الفارسي في كتاب الحجة أنه يختار حمل معنى إحدى القراءتين على معنى الأخرى، ومثال هذا قوله في قراءة الجمهور قوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 24] في سورة الحديد، وقراءة نافع وابن عامر "فإن الله الغني الحميد"

بإسقاط هو أن من أثبت هو يحسن أن يعتبره ضمير فصل لا مبتدأ، لأنه لو كان مبتدأ لم يجز حذفه في قراءة نافع وابن عامر، قال أبو حيان1: وما ذهب إليه2 ليس بشيء لأنه بني ذلك على توافق القراءتين وليس كذلك، ألا ترى أنه قد يكون قراءتان في لفظ واحد لكل منهما توجيه يخالف الآخر، كقراءة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] بضم التاء أو سكونها.
وأنا أرى أن على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيرا لمعاني الآية غالبا فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن. وهذا يبين لنا أن اختلاف القراءات قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام ففي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ? قال أقرأنيها رسول الله، فقلت كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله "اقرأ يا هشام" فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله " كذلك أنزلت" ، ثم قال "اقرأ يا عمر" فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله "كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه" اه.
وفي الحديث إشكال، وللعلماء في معناه أقوال يرجع إلى اعتبارين: أحدهما اعتبار الحديث منسوخا والآخر اعتباره محكما.
فأما الذين اعتبروا الحديث منسوخا وهو رأي جماعة منهم أبو بكر الباقلائي وابن عبد البر وأبو بكر بن العربي والطبري والطحاوي، وينسب إلى ابن عيينة وابن وهب قالوا كان ذلك رخصة في صدر الإسلام أباح الله للعرب أن يقرأوا القرآن بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها، ثم نسخ ذلك بحمل الناس على لغة قريش لأنها التي بها نزل القرآن وزال العذر لكثرة الحفظ وتيسير الكتابة، وقال ابن العربي دامت الرخصة مدة حياة النبي
ـــــــ
1 "البحر" 8/226.
2 أي أبو علي.

عليه السلام، وظاهر كلامه أن ذلك نسخ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإما نسخ بإجماع الصحابة أو بوصاية من النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا على ذلك بقول عمر: إن القرآن نزل بلسان قريش، وبنهيه عبد الله بن مسعود أن يقرأ {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ عَتَّى حِينٍ} [الصافات:174]
وهي لغة هذيل في حتى، وبقول عثمان لكتاب المصاحف فإذا اختلفتم في حرف فاكتبوه بلغة قريش فإنما نزل بلسانهم، يريد أن لسان قريش هو الغالب على القرآن، أو أراد أنه نزل بما نطقوا به من لغتهم وما غلب على لغتهم من لغات القبائل إذ كان عكاظ بأرض قريش وكانت مكة مهبط القبائل كلها.
ولهم في تحديد معنى الرخصة بسبعة أحرف ثلاثة أقوال: الأول أن المراد بالأحرف الكلمات المترادفة للمعنى الواحد، أي أنزل بتخيير قارئه أن يقرأه باللفظ الذي يحضره من المرادفات تسهيلا عليهم حتى يحيطوا بالمعنى. وعلى هذا الجواب فقيل المراد بالسبعة حقيقة العدد وهو قول الجمهور فيكون تحديدا للرخصة بأن لا يتجاوز سبعة مرادفات أو سبع لهجات أي من سبع لغات؛ إذ لا يستقيم غير ذلك لأنه لا يتأتى في كلمة من القرآن أن يكون لها ستة مرادفات أصلا، ولا في كلمة أن يكون فيها سبع لهجات إلا كلمات قليلة مثل {أُفٍّ} [الاسراء: 23] – {وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] – و {أَرْجِهْ} [لأعراف: 111]
وقد اختلفوا في تعيين اللغات السبع، فقال أبو عبيدة وابن عطية وأبو حاتم والباقلاني هي من عموم لغات العرب وهم: قريش، وهذيل، وتيم الرباب، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر من هوازن، وبعضهم يعد قريشا، وبني دارم، والعليا من هوازن وهم سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عمرو بن العلاء أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم وهم بنو دارم. وبعضهم يعد خزاعة ويطرح تميما، وقال أبو علي الاهوازي، وابن عبد البر، وابن قتيبة هي لغات قبائل من مضر وهم قريش، وهذيل، وكنانة، وقيس، وضبة، وتيم الرباب، وأسد بن خزيمة، وكلها من مضر.
القول الثاني: لجماعة منهم عياض: أن العدد غير مراد به حقيقته، بل هو كناية عن التعدد والتوسع، وكذلك المرادفات ولو من لغة واحدة كقوله {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] وقرأ ابن مسعود "كالصوف المنفوش" ، وقرأ أبي {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] مروا فيه سعوا فيه، وقرأ ابن مسعود {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] أخرونا، أمهلونا، وأقرأ ابن مسعود رجلا {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 43,44] فقال الرجل طعام اليتيم، فأعاد له فلم يستطع أن يقول الأثيم فقال له ابن مسعود: أتستطيع أن

تقول طعام الفاجر? قال نعم، قال فاقرأ كذلك، وقد اختلف عمر وهشام بن حكيم ولغتهما واحدة.
القول الثالث: أن المراد التوسعة في نحو {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء: 148] أن يقرأ عليما حكيما ما لم يخرج عن المناسبة كذكره عقب آية عذاب أن يقول "وكان الله غفورا رحيما" أو عكسه وإلى هذا ذهب ابن عبد البر.
وأما الذين اعتبروا الحديث محكما غير منسوخ فقد ذهبوا في تأويله مذاهب: فقال جماعة منهم البيهقي وأبو الفضل الرازي أن المراد من الأحرف أنواع أغراض القرآن كالأمر والنهي، والحلال والحرام، أو أنواع كلامه كالخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز: أو أنواع دلالته كالعموم والخصوص، والظاهر والمؤول. ولا يخفى أن كل ذلك لا يناسب سياق الحديث على اختلاف رواياته من قصد التوسعة والرخصة. وقد تكلف هؤلاء حصر ما زعموه من الأغراض ونحوها في سبعة فذكروا كلاما لا يسلم من النقض.
وذهب جماعة منهم أبو عبيد وثعلب والأزهري وعزي لابن عباس أن المراد أنه أنزل مشتملا على سبع لغات من لغات العرب مبثوثة في آيات القرآن لكن لا على تخيير القارئ، وذهبوا في تعيينها إلى نحو ما ذهب إليه القائلون بالنسخ إلا أن الخلاف بين الفريقين في أن الأولين ذهبوا إلى تخيير القارئ في الكلمة الواحدة، وهؤلاء أرادوا أن القرآن مبثوثة فيه كلمات من تلك اللغات، لكن على وجه التعيين لا على وجه التخيير، وهذا كما قال أبو هريرة: ما سمعت السكين إلا في قوله تعالى: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} [يوسف: 31] ما كنا نقول إلا المدية1، وفي البخاري: إلا من النبي في قصة حكم سليمان بين المرأتين من قول سليمان ايتوني بالسكين أقطعه بينكما ، وهذا الجواب لا يلاقي مساق الحديث من التوسعة، ولا يستقيم من جهة العدد لأن المحققين ذكروا أن في القرآن كلمات كثيرة من لغات قبائل العرب، وأنهاها السيوطي نقلا عن أبي بكر الواسطي إلى خمسين لغة.
وذهب جماعة أن المراد من الأحرف لهجات العرب في كيفيات النطق كالفتح والإمالة، والمد والقصر، والهمز والتخفيف، على معنى أن ذلك رخصة للعرب مع المحافظة على كلمات القرآن، وهذا أحسن الأجوبة لمن تقدمنا، وهنالك أجوبة أخرى
ـــــــ
1 رواه ابن وهب عن مالك وهو في أحاديث ابن وهب عنه جامع العتبية.

ضعيفة لا ينبغي للعالم التعريج عليها وقد أنهى بعضهم جملة الأجوبة إلى خمسة وثلاثين جوابا.
وعندي أنه إن كان حديث عمر وهشام بن حكيم قد حسن إفصاح راويه عن مقصد عمر فيما حدث به بأن لا يكون مرويا بالمعنى مع إخلال بالمقصود أنه يحتمل أن يرجع إلى ترتيب آي السور بأن يكون هشام قرأ سورة الفرقان على غير الترتيب الذي قرأ به عمر فتكون تلك رخصة لهم في أن يحفظوا سور القرآن بدون تعيين ترتيب الآيات من السورة، وقد ذكر الباقلاني احتمال أن يكون ترتيب السور من اجتهاد الصحابة كما يأتي في المقدمة الثامنة. فعلى رأينا هذا تكون هذه رخصة. ثم لم يزل الناس يتوخون بقراءتهم موافقة قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان ترتيب المصحف في زمن أبي بكر على نحو العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع الصحابة في عهد أبي بكر على ذلك لعلمهم بزوال موجب الرخصة.
ومن الناس من يظن المراد بالسبع في الحديث ما يطابق القراءات السبع التي اشتهرت بين أهل فن القراءات، وذلك غلط ولم يقله أحد من أهل العلم، وأجمع العلماء على خلافه كما قال أبو شامة: فإن انحصار القراءات في سبع لم يدل عليه دليل، ولكنه أمر حصل إما بدون قصد أو بقصد التيمن بعدد السبعة أو بقصد إيهام أن هذه السبعة هي المرادة من الحديث تنويها بشأنها بين العامة، ونقل السيوطي عن أبي العباس ابن عمار أنه قال: لقد فعل جاعل عدد القراءات سبعا ما لا ينبغي، وأشكل به الأمر على العامة إذ أوهمهم أن هذه السبعة هي المرادة في الحديث، وليت جامعها نقص عن السبعة أو زاد عليها.
قال السيوطي: وقد صنف ابن جبير المكي وهو قبل ابن مجاهد كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة أئمة من كل مصر إماما، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان إلى الأمصار كانت إلى خمسة أمصار.
قال ابن العربي في العواصم: أول من جمع القراءات في سبع ابن مجاهد غير أنه عد قراءة يعقوب سابعا ثم عوضها بقراءة الكسائي، قال السيوطي وذلك على رأس الثلاثمائة: وقد اتفق الأئمة على أن قراءة يعقوب من القراءات الصحيحة مثل بقية السبعة، وكذلك قراءة أبي جعفر وشيبة، وإذ قد كان الاختلاف بين القراء سابقا على تدوين المصحف الإمام في زمن عثمان وكان هو الداعي لجمع المسلمين على مصحف واحد

تعين أن الاختلاف لم يكن ناشئا عن الاجتهاد في قراءة ألفاظ المصحف فيما عدا اللهجات.
وأما صحة السند الذي تروى به القراءة لتكون مقبولة فهو شرط لا محيد عنه إذ قد تكون القراءة موافقة لرسم المصحف وموافقة لوجوه العربية لكنها لا تكون مروية بسند صحيح، كما ذكر في المزهر أن حماد بن الزبرقان قرأ {إِلا عَنْ موعدَة وعدها أباه} [التوبة: 114] بالباء الموحدة وإنما هي إياه بتحتية، وقرأ {بل الذين كفروا في غرة} [ص: 2] بغين معجمة وراء مهملة وإنما هي "عزة" بعين مهملة وزاي، وقرأ {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه} [عبس:37] بعين مهملة، وإنما هي "يغنيه" بغين معجمة، ذلك أنه لم يقرأ القرآن على أحد وإنما حفظه من المصحف.
مراتب القراءات الصحيحة والترجيح بينها
قال أبو بكر بن العربي في كتاب العواصم: اتفق الأئمة على أن القراءات التي لا تخالف الألفاظ التي كتبت في مصحف عثمان هي متواترة وإن اختلفت في وجوه الأداء وكيفيات النطق ومعنى ذلك أن تواترها تبع لتواتر صورة كتابة المصحف، وما كان نطقه صالحا لرسم المصحف، واختلف فيه فهو مقبول، وما هو بمتواتر لأن وجود الاختلاف فيه مناف لدعوى التواتر، فخرج بذلك ما كان من القراءات مخالفا لمصحف عثمان، مثل ما نقل من قراءة ابن مسعود، ولما قرأ المسلمون بهذه القراءات من عصر الصحابة ولم يغير عليهم، فقد صارت متواترة على التخيير، وإن كانت أسانيدها المعينة آحادا، وليس المراد ما يتوهمه بعض القراء من أن القراءات كلها بما فيها من طرائق أصحابها ورواياتهم متواترة وكيف وقد ذكروا أسانيدهم فيها فكانت أسانيد أحاد، وأقواها سندا ما كان له راويان عن الصحابة مثل قراءة نافع بن أبي نعيم وقد جزم ابن العربي، وابن عبد السلام التونسي، وأبو العباس ابن إدريس فقيه بجاية من المالكية، والأبياري من الشافعية بأنها غير متواترة، وهو الحق لآن تلك الأسانيد لا تقتضي إلا أن فلانا قرأ كذا وأن فلانا قرأ بخلافه، وأما اللفظ المقروء فغير محتاج إلى تلك الأسانيد لأنه ثبت بالتواتر كما علمت آنفا، وإن اختلفت كيفيات النطق بحروفه فضلا عن كيفيات أدائه.
وقال إمام الحرمين في البرهان: هي متواترة ورده عليه الأبياري، وقال المازري في شرحه: هي متواترة عند القراء وليست متواترة عند عموم الأمة، وهذا توسط بين إمام الحرمين والأبياري، ووافق إمام الحرمين ابن سلامة الأنصاري من المالكية. وهذه مسألة

مهمة جرى فيها حوار بين الشيخين ابن عرفة التونسي وابن لب الأندلسي ذكرها الونشريسي في المعيار.
وتنتهي أسانيد القراءات العشر إلى ثمانية من الصحابة وهم: عمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله من مسعود، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد ابن ثابت، وأبو موسى الأشعري، فبعضها ينتهي إلى جميع الثمانية وبعضها إلى بعضهم وتفصيل ذلك في علم القرآن.
وأما وجوه الإعراب في القرآن فأكثرها متواتر إلا ما ساغ فيه إعرابان مع اتحاد المعاني نحو {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [صّ: 3] بنصب حين ورفعه، ونحو {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] بنصب "يقول" ورفعه، ألا ترى أن الأمة أجمعت على رفع اسم الجلالة في قوله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] وقرأه بعض المعتزلة بنصب اسم الجلالة لئلا يثبتوا لله كلاما، وقرأ بعض الرافضة {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51] بصيغة التثنية، وفسروها بأبي بكر وعمر حاشاهما، وقاتلهم الله.
وأما ما خالف الوجوه الصحيحة في العربية ففيه نظر قوي لأنا لا ثقة لنا بانحصار فصيح كلام العرب فيما صار إلى نحاة البصرة والكوفة، وبهذا نبطل كثيرا مما زيفه الزمخشري من القراءات المتواترة بعلة أنها جرت على وجوه ضعيفة في العربية لا سيما ما كان منه في قراءة مشهورة كقراءة عبد الله بن عامر قوله تعالى {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] ببناء "زين" للمفعول وبرفع {قَتْلَ} ، ونصب {أَوْلادِهِمْ} وخفض {شُرَكَاؤُهُمْ} ولو سلمنا أن ذلك وجه مرجوح، فهو لا يعدو أن يكون من الاختلاف في كيفية النطق التي لا تناكد التواتر كما قدمناه آنفا على ما في اختلاف الإعرابين من إفادة معنى غير الذي يفيده الآخر، لأن لإضافة المصدر إلى المفعول خصائص غير التي لإضافته إلى فاعله، ولأن لبناء الفعل للمجهول نكتا غير التي لبنائه للفاعل، على أن أبا علي الفارسي ألف كتابا سماه الحجة احتج فيه للقراءات المأثورة احتجاجا من جانب العربية.
ثم إن القراءات العشر الصحيحة المتواترة، قد تتفاوت بما يشتمل عليه بعضها من خصوصيات البلاغة أو الفصاحة أو كثرة المعاني أو الشهرة، وهو تمايز متقارب، وقل أن يكسب إحدى القراءات في تلك الآية رجحانا، على أن كثيرا من العلماء كان لا يرى مانعا من ترجيح قراءة على غيرها،ومن هؤلاء الإمام محمد بن جرير الطبري، والعلامة

الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه،
وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن: أذاك صحيح أم لا? فأجاب: أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب، وأصح في النقل، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا أي بالأندلس فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع، وقد تؤول ذلك فيما روى عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.
وفي كتاب الصلاة الأول من العتبية: سئل مالك عن النبر في القرآن فقال: إني لأكرهه وما يعجبني ذلك، قال ابن رشد في البيان يعنى بالنبر ههنا إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل فكره ذلك واستحب فيه التسهيل على رواية ورش، لما جاء من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لغته الهمز أي إظهار الهمز في الكلمات المهموزة بل كان ينطق بالهمزة مسهلة إلى أحرف علة من جنس حركتها، مثل {ياجوج وماجوج} [الكهف:94]بالألف دون الهمز، ومثل الذيب في {الذئب} [يوسف:13] ومثل مومن في {مؤمن} [البقرة: 221]. ثم قال: ولهذا المعنى كان العمل جاريا في قرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام بالجامع في الصلاة إلا برواية ورش، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ زمن قريب، اه،
وهذا خلف بن هشام البزار راوي حمزة، قد اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين، ومنهم شيخة حمزة بن حبيب وميزها قراءة خاصة فعدت عاشرة القراءات العشر وما هي إلا اختيار من قراءات الكوفيين، ولم يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم إلا في قراءة قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الانبياء: 95] قرأها بالألف بعد الراء مثل حفص والجمهور.
فإن قلت هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز?
قلت: حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال، وهو لا يقبل التفاوت، ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة، أو تتعلق بزيادة الفصاحة، أو بالتفنن مثل {أَمْ تَسْأَلُهُمْ

خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم، فتروي تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها عليها بسبب أن المتميزة هي البالغة غاية البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة، ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز. وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا. تنبيه أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبيا وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى، وما يتبعه من البلاد. والسودان.
وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان.وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

المقدمة السابعة: قصص القرآن
امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] فعلمنا من قوله {أَحْسَنَ} ، أن القصص القرآنية لم تسق مساق الإحماض1 وتجديد النشاط، وما يحصل من استغراب مبلغ تلك الحوادث من خير أو شر؛ لأن غرض القرآن أسمى وأعلى من هذا، ولو كان من هذا لساوى كثيرا من قصص الأخبار الحسنة الصادقة فما كان جديرا بالتفضيل على كل جنس القصص.
والقصة: الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها، فليس ما في القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة في زمن نزوله قصصا مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم. وجمع القصة قصص بكسر القاف، وأما القصص بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص، وهو مصدر سمي به المفعول، يقال قص على فلان إذا أخبره بخبر.
وأبصر أهل العلم أن ليس الغرض من سوقها قاصرا على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب الخير أو الشر، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص في عناية الله بهم أو التشويه بأصحابها فيما لقوه من غضب الله عليهم كما تقف عنده أفهام القانعين بظواهر الأشياء وأوائلها، بل الغرض من ذلك أسمى وأجل. إن في تلك القصص لعبرا جمة وفوائد للأمة؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها ويعرض عما عداه ليكون تعرضه للقصص منزها عن قصد التفكه بها. من أجل ذلك كله لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها، لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع، هو ذكر وموعظة لأهل الدين فهو بالخطابة أشبه. وللقرآن أسلوب
ـــــــ
1 من أحمض القوم: أفاضوا فيما يؤنسهم.

خاص هو الأسلوب المعبر عنه بالتذكير وبالذكر في آيات يأتي تفسيرها؛ فكان أسلوبه قاضيا للوطرين وكان أجل من أسلوب القصاصين في سوق القصص لمجرد معرفتها لأن سوقها في مناسباتها يكسبها صفتين: صفة البرهان وصفة التبيان ونجد من مميزات قصص القرآن نسج نظمها على أسلوب الإيجاز ليكون شبهها بالتذكير أقوى من شبهها بالقصص، مثال ذلك قوله تعالى في سورة القلم {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها لأن ذلك محز حكايتها ولم تحك أثناء قوله {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] وقوله {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:22]
ومن مميزاتها طي ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله تعالى في سورة يوسف {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} فقد طوي ذكر حضور سيدها وطرقه الباب وإسراعهما إليه لفتحه، فإسراع يوسف ليقطع عليها ما توسمه فيها من المكر به لتري سيدها أنه أراد بها سوءا. وإسراعها هي لضد ذلك لتكون البادئة بالحكاية فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من شكاية. فدل على ذلك ما بعده من قوله {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} [يوسف: 25] الآيات،
ومنها أن القصص بثت بأسلوب بديع إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي جاء به القرآن من تشريع وتفريع فتوفرت من ذلك عشر فوائد:
الفائدة الأولى : أن قصارى علم أهل الكتاب في ذلك العصر كان معرفة أخبار الأنبياء وأيامهم وأخبار من جاورهم من الأمم، فكان اشتمال القرآن على تلك القصص التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم من أهل الكتاب تحديا عظيما لأهل الكتاب، وتعجيزا لهم بقطع حجتهم على المسلمين، قال تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] فكان حملة القرآن بذلك أحقاء بأن يوصفوا بالعلم الذي وصفت به أحبار اليهود، وبذلك انقطعت صفة الأمية عن المسلمين في نظر اليهود، وانقطعت ألسنة المعرضين بهم بأنهم أمة جاهلية، وهذه فائدة لم يبينها من سلفنا من المفسرين.
الفائدة الثانية: أن من أدب الشريعة معرفة تاريخ سلفها في التشريع من الأنبياء بشرائعهم فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلا لهامة التشريع الإسلامي

بذكر تاريخ المشرعين، قال تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] الآية. وهذه فائدة من فتوحات الله لنا أيضا. وقد رأيت من أسلوب القرآن في هذا الغرض أنه لا يتعرض إلا إلى حال أصحاب القصة في رسوخ الإيمان وضعفه وفيما لذلك من أثر عناية إلهية أو خذلان. وفي هذا الأسلوب لا تجد في ذكر أصحاب هذه القصص بيان أنسابهم أو بلدانهم إذ العبرة فيما وراء ذلك من ضلالهم أو إيمانهم. وكذلك مواضع العبرة في قدرة الله تعالى في قصة أهل الكهف {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} إلى قوله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} الآيات. فلم يذكر أنهم من أي قوم وفي أي عصر. وكذلك قوله فيها {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] فلم يذكر أية مدينة هي لأن موضع العبرة هو انبعاثهم ووصول رسولهم إلى مدينة إلى قوله {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف: 21]
الفائدة الثالثة : ما فيها من فائدة التاريخ من معرفة ترتيب المسببات على أسبابها في الخير والشر والتعمير والتخريب لتقتدي الأمة وتحذر، قال تعالى {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52] وما فيها من فائدة ظهور المثل العليا في الفضيلة وزكاء النفوس أو ضد ذلك.
الفائدة الرابعة: ما فيها من موعظة المشركين بما لحق الأمم التي عاندت رسلها، وعصت أوامر ربها حتى يرعووا عن غلوائهم، ويتعظوا بمصارع نظرائهم وآبائهم، وكيف يورث الأرض أولياءه وعباده الصالحين قال تعالى {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [لأعراف: 176] وقال {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] وقال {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الانبياء:105] وهذا في القصص التي يذكر فيها ما لقيه المكذبون للرسل كقصص قوم نوح وعاد وثمود وأهل الرس وأصحاب الأيكة.
الفائدة الخامسة : أن في حكاية القصص سلوك أسلوب التوصيف والمحاورة وذلك أسلوب لم يكن معهودا للعرب فكان مجيئه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية شديد التأثير في نفوس أهل اللسان، وهو من إعجاز القرآن؛ إذ لا ينكرون أنه أسلوب بديع ولا يستطيعون الإتيان بمثله إذ لم يعتادوه، انظر إلى حكاية أحوال الناس في الجنة والنار والأعراف في سورة الأعراف، وقد تقدم التنبيه عليه في المقدمة الخامسة

فكان من مكملات عجز العرب عن المعارضة.
الفائدة السادسة: أن العرب بتوغل الأمية والجهل فيهم أصبحوا لا تهتدي عقولهم إلا بما يقع تحت الحس، أو ما ينتزع منه ففقدوا فائدة الاتعاظ بأحوال الأمم الماضية وجهلوا معظمها وجهلوا أحوال البعض الذي علموا أسماءه فأعقبهم ذلك إعراضا عن السعي لإصلاح أحوالهم بتطهيرها مما كان سبب هلاك من قبلهم، فكان في ذكر قصص الأمم توسيع لعلم المسلمين بإحاطتهم بوجود الأمم ومعظم أحوالها، قال مشيرا إلى غفلتهم قبل الإسلام {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [ابراهيم: 45].
الفائدة السابعة: تعويد المسلمين على معرفة سعة العالم وعظمة الأمم والاعتراف لها بمزاياها حتى تدفع عنهم وصمة الغرور كما وعظهم قوله تعالى عن قوم عاد {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] فإذا علمت الأمة جوامع الخيرات وملائمات حياة الناس تطلبت كل ما ينقصها مما يتوقف عليه كمال حياتها وعظمتها.
الفائدة الثامنة : أن ينشئ في المسلمين همة السعي إلى سيادة العالم كما ساده أمم من قبلهم ليخرجوا من الخمول الذي كان عليه العرب إذ رضوا من العزة باغتيال بعضهم بعضا فكان منتهى السيد منهم أن يغنم صريمة، ومنتهى أمل العامي أن يرعى غنيمة، وتقاصرت هممهم عن تطلب السيادة حتى آل بهم الحال إلى أن فقدوا عزتهم فأصبح كالأتباع للفرس والروم، فالعراق كله واليمن كله وبلاد البحرين تبع لسيادة الفرس. والشام ومشارفه تبع لسيادة الروم. وبقي الحجاز ونجد لا غنية لهم عن الاعتزاز بملوك العجم والروم في رحلاتهم وتجارتهم.
الفائدة التاسعة: معرفة أن قوة الله تعالى فوق كل قوة، وأن الله ينصر من ينصره، وأنهم إن أخذوا بوسيلتي البقاء: من الاستعداد والاعتماد؛ سلموا من تسلط غيرهم عليهم. وذكر العواقب الصالحة لأهل الخير، وكيف ينصرهم الله تعالى كما في قوله {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الانبياء:88,87]
الفائدة العاشرة: أنها يحصل منها بالتبع فوائد في تاريخ التشريع والحضارة وذلك يفتق أذهان المسلمين للإلمام بفوائد المدنية كقوله تعالى {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] في قراءة من قرأ {دِينِ} بكسر

الدال، أي في شرع فرعون يومئذ، فعلمنا أن شريعة القبط كانت تخول استرقاق السارق. وقوله {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] يدل على أن شريعتهم ما كانت تسوغ أخذ البدل في الاسترقاق، وأن الحر لا يملك إلا بوجه معتبر. ونعلم من قوله {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36] – {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53] أن نظام مصر في زمن موسى إرسال المؤذنين والبريح بالإعلام بالأمور المهمة. ونعلم من قوله {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] أنهم كانوا يعلمون وجود الأجباب في الطرقات وهي آبار قصيرة يقصدها المسافرون للاستقاء منها. وقول يعقوب {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] أن بادية الشام إلى مصر كانت توجد بها الذئاب المفترسة وقد انقطعت منها اليوم.
وفيما ذكرنا ما يدفع عنكم هاجسا رأيته خطر لكثير من أهل اليقين والمتشككين وهو أن يقال: لماذا لم يقع الاستغناء بالقصة الواحدة في حصول المقصود منها. وما فائدة تكرار القصة في سور كثيرة? وربما تطرق هذا الهاجس ببعضهم إلى مناهج الإلحاد في القرآن. والذي يكشف لسائر المتحيرين حيرتهم على اختلاف نواياهم وتفاوت مداركهم أن القرآن- كما قلنا هو بالخطب والمواعظ أشبه منه بالتآليف. وفوائد القصص تجتلبها المناسبات وتذكر القصة كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه، فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى. كما لا يقال للخطيب في قوم، ثم دعته المناسبات إلى أن وقف خطيبا في مثل مقامه الأول فخطب بمعان تضمنتها خطبته السابقة إنه أعاد الخطبة، بل إنه أعاد معانيها ولم يعد ألفاظ خطبته. وهذا مقام تظهر فيه مقدرة الخطباء فيحصل من ذكرها هذا المقصد الخطابي. ثم تحصل معه مقاصد أخرى:
أحدها : رسوخها في الأذهان بتكريرها.
الثاني : ظهور البلاغة، فإن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يثقل على البليغ فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق مع تفنن في المعاني باختلاف طرق أدائها من مجاز أو استعارات أو كناية. وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه الفصاحة وسعة اللغة باستعمال المترادفات مثل: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ} [الكهف: 36]. {وَلَئِنْ رُجِعْتُ} [فصلت: 50]. وتفنن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية ونحو ذلك كان ذلك من الحدود القصوى في البلاغة،

فذلك وجه من وجوه الإعجاز.
الثالث : أن يسمع اللاحقون من المؤمنين في وقت نزول القرآن ذكر القصة التي كانت فاتتهم مماثلتها قبل إسلامهم أو في مدة مغيبهم، فإن تلقي القرآن عند نزوله أوقع في النفوس من تطلبه من حافظيه.
الرابع : أن جمع المؤمنين جميع القرآن حفظا كان نادرا بل تجد البعض يحفظ بعض السور فيكون الذي حفظ إحدى السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالما بتلك القصة. كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت فيها تلك القصة.
الخامس : أن تلك القصص تختلف حكاية القصة الواحدة منها بأساليب مختلفة ويذكر في بعض حكاية القصة الواحدة ما لم يذكر في بعضها الآخر وذلك لأسباب:
منها تجنب التطويل في الحكاية الواحدة فيقتصر على موضع العبرة منها في موضع وبذكر آخر في موضع آخر فيحصل من متفرق مواضعها في القرآن كمال القصة أو كمال المقصود منها، وفي بعضها ما هو شرح لبعض.
ومنها أن يكون بعض القصة المذكور في موضع مناسبا للحالة المقصودة من سامعيها، ومن أجل ذلك تجد ذكرا لبعض القصة في موضع وتجد ذكرا لبعض آخر منها في موضع آخر لأن فيما يذكر منها مناسبة للسياق الذي سيقت له، فإنها تارة تساق إلى المشركين، وتارة إلى أهل الكتاب، وتارة تساق إلى المؤمنين، وتارة إلى كليهما، وقد تساق للطائفة من هؤلاء في حالة خاصة، ثم تساق إليها في حالة أخرى. وبذلك تتفاوت بالإطناب والإيجاز على حسب المقامات، ألا ترى قصة بعث موسى كيف بسطت في سورة طه، وسورة الشعراء. وكيف أوجزت في آيتين في سورة الفرقان[36,35] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}
ومنها أنه قد يقصد تارة التنبيه على خطأ المخاطبين فيما ينقلونه من تلك القصة، وتارة لا يقصد ذلك.
فهذه تحقيقات سمحت بها القريحة، وربما كانت بعض معانيها في كلام السابقين غير صريحة.

المقدمة الثامنة: في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها
هذا غرض له مزيد اتصال بالقرآن. وله اتصال متين بالتفسير؛ لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع كثيرة من فواتح السور، ومناسبة بعضها لبعض فيغني المفسر عن إعادته.
معلوم لك أن موضوع علم التفسير هو القرآن لتبيان معانيه وما يشتمل عليه من إرشاد وهدى وآداب وإصلاح حال الأمة في جماعتها وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها: بفهم دلالته اللغوية والبلاغية. فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله تعالى كلاما عربيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل على أن يبلغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحي به إليه للعمل به ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرأوه منه في صلواتهم وجعل قراءته عبادة.
وجعله كذلك آية على صدق الرسول في دعواه الرسالة عن الله إلى الخلق كافة بأن تحدى منكريه والمترددين فيه من العرب وهم المخاطبون به الأولون بأنهم لا يستطيعون معارضته، ودعاهم إليها فلم يفعلوا. دعاهم أول الأمر إلى الإتيان بعشر سور مثله فقال {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14,13]. ثم استنزلهم إلى أهون من ذلك عليهم فقال {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: من الآية39,38] ثم جاء بأصرح من ذلك وأنذرهم بأنهم ليسوا بآتين بذلك فقال في سورة البقرة {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} الآية. وقال {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20] {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن

عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" وفي هذا الحديث معان جليلة ليس هذا مقام بيانها وقد شرحتها في تعليقي على صحيح البخاري المسمى "النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح".
فالقرآن اسم للكلام الموحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جملة المكتوب في المصاحف المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة، أولاها الفاتحة وأخراها سورة الناس. صار هذا الاسم علم على هذا الوحي. وهو على وزن فعلان وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل غفران، وشكران وبهتان، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان وحسان وعدنان، واسم قرآن صالح للاعتبارين لأنه مشتق من القراءة لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] الآية. وقال تعالى {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الاسراء:106] فهمزة قرآن أصلية ووزنه فعلان ولذلك اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ قرآن مهموزا حيثما وقع في التنزيل ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته. وقيل هو قرآن بوزن فعال، من القرن بين الأشياء أي الجمع بينها لأنه قرنت سوره بعضها ببعض وكذلك آياته وحروفه وسمى كتاب الله قرآنا كما سمى الإنجيل الإنجيل، وليس مأخوذا من قرأت، ولهذا يهمز قرأت ولا يهمز القرآن فتكون قراءة ابن كثير جارية على أنه اسم أخر لكتاب الله على هذا الوجه. ومن الناس من زعم أن قرآن جمع قرينه أي اسم جمع، إذ لا يجمع مثل قرينه على وزن فعال في التكثير فإن الجموع الواردة على وزن فعال محصورة ليس هذا منها، والقرينة العلامة، قالوا لأن آياته يصدق بعضها بعضا فهي قرائن على الصدق.
فاسم القرآن هو الاسم الذي جعل علما على الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يسبق أن أطلق على غيره قبله، وهو أشهر أسمائه وأكثرها ورودا في آياته وأشهرها دورانا على ألسنة السلف.
وله أسماء أخرى هي في الأصل أوصاف أو أجناس أنهاها في الإتقان إلى نيف وعشرين. والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة: التنزيل، والكتاب، والفرقان، والذكر، والوحي، وكلام الله.
فأما الفرقان فهو في الأصل اسم لما يفرق به بين الحق والباطل وهو مصدر، وقد

وصف يوم بدر بيوم الفرقان وأطلق على القرآن في قوله تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] وقد جعل هذا الاسم علما على القرآن بالغلبة مثل التوراة على الكتاب الذي جاء به موسى والإنجيل على الوحي الذي أنزل على عيسى قال تعالى {نزل عَلَيْكَ الْكِتَابَ} 1 إلى قوله {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 4,3] فوصفه أولا بالكتاب وهو اسم الجنس العام ثم عبر عنه باسم الفرقان عقب ذكر التوراة والإنجيل وهما علمان ليعلم أن الفرقان علم على الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل، فإن القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل كقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ} [الفتح: 29] الآيات من سورة الفتح2 [29] فلما وصفهم القرآن قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال.
وأما إن افتقدت ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرأة من اللبس وبعيدة عن تطرق الشبهة، وحسبك قوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] فإنك لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى بله ما في الإنجيل. وهذا من مقتضيات كون القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] وسيأتي بيان هذا في أول آل عمران.
وأما التنزيل فهو مصدر نزل، أطلق على المنزل باعتبار أن ألفاظ القرآن أنزلت من السماء قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:2,3] وقال: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2]
ـــــــ
1 في المطبوعة {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 7] وهو سبق قلم من المصنف.
2 في المطبوعة: "محمد".

وأما الكتاب فأصله اسم جنس مطلق ومعهود. وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا قال تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ} [البقرة: 2] وقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] وإنما سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة فأشبه التوراة لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم، ولأن الله أمر رسوله أن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم. وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف قال تعالى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: 92] وقال {وَهَذَا ذِكْرٌ1 مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [الانبياء:50]
وغير ذلك، ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه؛ من أول ما ابتدئ نزوله، ومن أولهم عبد الله ابن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت،ومعاوية بن أبي سفيان. وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف.
وأما الذكر فقال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] أي لتبينه للناس، وذلك أنه تذكير بما يجب على الناس اعتقاده والعمل به.
وأما الوحي فقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الانبياء: 45] ووجه هذه التسمية أنه ألقي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك وذلك الإلقاء يسمى وحيا لأنه يترجم عن مراد الله تعالى فهو كالكلام المترجم عن مراد الإنسان، ولأنه لم يكن تأليف تراكيبه من فعل البشر.
وأما كلام الله فقال تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]
واعلم أن أبا بكر رضي الله عنه لما أمر بجمع القرآن وكتابته كتبوه على الورق فقال للصحابة: التمسوا اسما، فقال بعضهم سموه إنجيلا فكرهوا ذلك من أجل النصارى، وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه من أجل أن اليهود يسمون التوراة السفر. فقال عبد الله ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه مصحفا يعني أنه رأى كتابا غير الإنجيل.
ـــــــ
1 في المطبوعة "كتاب".

آيات القرآن
الآية: هي مقدار من القرآن مركب ولو تقديرا أو إلحاقا، فقولي ولو تقديرا لإدخال قوله تعالى {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] إذ التقدير هما مدها متان، ونحو {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1] إذ التقدير أقسم بالفجر. وقولي أو إلحاقا: لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة فقد عد أكثرها في المصاحف آيات ما عدا: آلر، وآلمر، وطس، وذلك أمر توقيفي وسنة متبعة ولا يظهر فرق بينها وبين غيرها. وتسمية هذه الأجزاء آيات هو من مبتكرات القرآن، قال تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] وقال {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]. وإنما سميت آية لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جعلت دليلا على أن القرآن منزل من عند الله وليس من تأليف البشر إذ قد تحدى النبي به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان العربي فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره. فلذا لا يحق لجمل التوراة والإنجيل أن تسمى آيات إذ ليست فيها هذه الخصوصية في اللغة العبرانية والآرامية. وأما ما ورد في حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من قول الراوي فوضع الذي نشر التوراة يده على آية الرجم فذلك تعبير غلب على لسان الراوي على وجه المشاكلة التقديرية تشبيها بجمل القرآن، إذ لم يجد لها اسما يعبر به عنها.
وتحديد مقادير الآيات مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تختلف الرواية في بعض الآيات وهو محمول على التخيير في حد تلك الآيات التي تختلف فيها الرواية في تعيين منتهاها ومبتدإ ما بعدها. فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على علم من تحديد الآيات. قلت وفي الحديث الصحيح أن فاتحة الكتاب السبع المثاني أي السبع الآيات. وفي الحديث "من قرأ العشر الخواتم من آخر آل عمران" الحديث. وهي الآيات التي أولها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] إلى آخر السورة.
وكان المسلمون في عصر النبوة وما بعده يقدرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عددا من الآيات كما ورد في حديث سحور النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.
قال أبو بكر ابن العربي وتحديد الآية من معضلات القرآن، فمن آياته طويل

وقصير، ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام ، وقال الزمخشري الآيات علم توقيفي.
وأنا أقول لا يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعا لانتهاء نزولها وأمارته وقوع الفاصلة.
والذي استخلصته أن الفواصل هي الكلمات التي تتماثل في أواخر حروفها أو تتقارب، مع تماثل أو تقارب صيغ النطق بها وتكرر في السورة تكررا يؤذن بأن تماثلها أو تقاربها مقصود من النظم في آيات كثيرة متماثلة، تكثر وتقل، وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام المسجوع. والعبرة فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون وهي أكثر شبها بالتزام ما لا يلزم في القوافي. وأكثرها جار على أسلوب الأسجاع.
والذي استخلصته أيضا أن تلك الفواصل كلها منتهى آيات ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتم فيه الغرض المسوق إليه، وأنه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلا نادرا كقوله تعالى {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [صّ:1] فهذا المقدار عد آية وهو لم ينته بفاصلة، ومثله نادر. فإن فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعده ألف مد بعدها حرف، مثل: شقاق، مناص، كذاب، عجاب.
وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو. أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة، وبعد ذلك حرف، مثل {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [صّ:68]
{إِذْ يَسْتَمِعُونَ} [الاسراء: 47] {نَذِيرٌ مُبِينٌ} [لأعراف: 184] {مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2].
فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام تكون الآية غير منتهية ولو طالت، كقوله تعالى {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [صّ: 24] إلى قوله {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ صّ: 24] فهذه الجمل كلها عدت آية واحدة.
واعلم أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز لأنها ترجع إلى محسنات الكلام وهي من جانب فصاحة الكلام فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل لتقع في الأسماع فتتأثر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل، كما تتأثر بالقوافي في الشعر وبالأسجاع في الكلام المسجوع. فإن قوله تعالى {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] آية {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ

أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [غافر:73] {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر: 74] إلى آخر الآيات. فقوله {فِي الْحَمِيمِ} [غافر: 72] متصل بقوله {يُسْحَبُونَ} [غافر: 71] وقوله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة: 23] متصل بقوله {تُشْرِكُونَ} [غافر: 73] وينبغي الوقف عند نهاية كل آية منها.
وقوله تعالى {وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54] آية.وقوله {مِنْ دُونِهِ} ابتداء الآية بعدها في سورة هود [54].
ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه فإن ذلك إضاعة لجهود الشعراء، وتغطية على محاسن الشعر، وإلحاق للشعر بالنثر. وأن إلفاء السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة. ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق فيكون مضيعا لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته. والعلة بأنه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام، فضول، فإن البيان وظيفة ملقي درس لا وظيفة منشد الشعر، ولو كان هو الشاعر نفسه.
وفي "الإتقان" عن أبي عمرو قال بعضهم: الوقف على رؤوس الآي سنة. وفيه عن البيهقي في شعب الإيمان: الفضل الوقف على رؤوس الآيات وان تعلقت بما بعدها اتباعا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وفي سنن أبي داود عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1] ثم يقف. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]
ثم يقف { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ثم يقف.
على أن وراء هذا وجوب اتباع المأثور من تحديد الآي كما قال ابن العربي والزمخشري ولكن ذلك لا يصدنا عن محاولة ضوابط تنفع الناظر وإن شذ عنها ما شذ.
ألا ترى أن بعض الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور قد عد بعضها آيات مثل. {آلم}. {آلمص}. {كهيعص}. {عسق}. {طسم}. {يس}. {حم}. {طه} . ولم تعد ألر. ألمر. طس~. ص~. ق~. ن~. آيات.
وآيات القرآن متفاوتة في مقادير كلماتها فبعضها أطول من بعض ولذلك فتقدير الزمان بها في قولهم: مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية مثلا، تقدير تقريبي، وتفاوت الآيات في الطول تابع لما يقتضيه مقام البلاغة من مواقع كلمات الفواصل على حسب ما قبلها من الكلام.
وأطول آية قوله تعالى {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] إلى قوله

{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} في سورة الفتح،[25] وقوله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} إلى قوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103]
ودونهما قوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 23].
وأقصر آية في عدد الكلمات قوله تعالى {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64]. في سورة الرحمان وفي عدد الحروف المقطعة قوله {طه} .[طه:1]
وأما وقوف القرآن فقد لا تساير نهايات الآيات، ولا ارتباط لها بنهايات الآيات فقد يكون في آية واحدة عدة وقوف كما في قوله تعالى {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} وقف وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وقف {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} وقف ومنتهى الآية في سورة فصلت.[47] وسيأتي الكلام على الوقوف في آخر هذا المبحث.
فأما ما اختلف السلف فيه من عدد الآيات القرآن بناء على الاختلاف في نهاية بعضها، فقد يكون بعض ذلك عن اختلاف في الرواية كما قدمنا آنفا، وقد يكون بعضه عن اختلاف الاجتهاد.
قال أبو عمرو الداني في كتاب العدد: أجمعوا على أن عدد آيات القرآن يبلغ ستة آلاف آية، واختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من لم يزد، ومنهم من قال ومائتين وأربع آيات، وقيل وأربع عشرة، وقيل وتسع عشرة، وقيل وخمسا وعشرين، وقيل وستا وثلاثين، وقيل وستمائة وست عشرة.
قال المازري في شرح البرهان: قال مكي بن أبي طالب قد أجمع أهل العدد من أهل الكوفة والبصرة والمدينة والشام على ترك عد البسملة آية في أول كل سورة، وإنما اختلفوا في عدها وتركها في سورة الحمد لا غير، فعدها آية الكوفي والمكي ولم يعدها آية البصري ولا الشامي ولا المدني. وفي الإتقان كلام في الضابط الأول من الضوابط غير محرر وهو آيل إلى ما قاله المازري، ورأيت في عد بعض السور أن المصحف المدني عد آيها أكثر مما في الكوفي، ولو عنوا عد البسملة لكان الكوفي أكثر.
وكان لأهل المدينة عددان، يعرف أحدهما بالأول ويعرف الآخر بالأخير، ومعنى ذلك أن الذين تصدوا لعد الآي بالمدينة من أئمة القراء هم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع،

وأبو نصاح شيبة بن نصاح، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي، وإسماعيل بن جعفر بن كثير الأنصاري، وقد اتفق هؤلاء الأربعة على عدد وهو المسمى بالعدد الأول، ثم خالفهم إسماعيل ابن جعفر بعدد انفرد به وهو الذي يقال له العدد الثاني، وقد رأيت هذا ينسب إلى أيوب ابن المتوكل البصري المتوفي سنة 200.
ولأهل مكة عدد واحد، وربما اتفقوا في عدد آي السورة المعينة، وربما اختلفوا، وقد يوجد اختلاف تارة في مصاحف الكوفة والبصرة والشام، كما نجد في تفسير المهدوي وفي كتب علوم القرآن، ولذلك تجد المفسرين يقولون في بعض السور عدد آيتها في المصحف الفلاني كذا. وقد كان عدد آي السور معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: وروي محمد بن السائب عن ابن عباس أنه لما نزلت آخر آية وهي قوله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآية قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ضعها في رأس ثمانين ومائتين من سورة البقرة، واستمر العمل بعد الآي في عصر الصحابة، ففي صحيح البخاري عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام [140] {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140] الآية.
ترتيب الآي
وأما ترتيب الآي بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم حسب نزول الوحي، ومن المعلوم أن القرآن نزل منجما آيات فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة، كما سيأتي قريبا، وذلك الترتيب مما يدخل في وجوه إعجازه من بداعة أسلوبه كما سيأتي في المقدمة العاشرة، فلذلك كان ترتيب آيات السورة الواحدة على ما بلغتنا عليه متعينا بحيث لو غير عنه إلى ترتيب آخر لنزل على حد الإعجاز الذي امتاز به، فلم تختلف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في ترتيب آي السور على نحو ما هو في المصحف الذي بأيدي المسلمين اليوم، وهو ما استقرت عليه رواية الحفاظ من الصحابة عن العرضات الأخيرة التي كان يقرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر سني حياته الشريفة، وحسبك أن زيد بن ثابت حين كتب المصحف لأبي بكر لم يخالف في ترتيب آي القرآن.
وعلى ترتيب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الجهرية وفي عديد المناسبات حفظ القرآن كل من حفظه كلا أو بعضا، وليس لهم معتمد في ذلك إلا ما عرفوا به من قوة الحوافظ، ولم يكونوا يعتمدون على الكتابة، وإنما كان كتاب الوحي يكتبون ما أنزل من

القرآن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بتوقيف إلهي. ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع إليها المسلمون عندما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع.
ولما جمع القرآن في عهد أبي بكر لم يؤثر عنهم أنهم فرددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ولا أثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم، قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الآية.
واتساق الحروف واتساق الآيات واتساق السور كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها تناسب في الغرض. أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتصل، ومما يدل عليه وجود حروف العطف المفيدة الاتصال مثل الفاء ولكن وبل1 ومثل أدوات الاستثناء، على أن وجود ذلك لا يعين اتصال ما بعده بما قبله في النزول، فإنه قد اتفق على أن قوله تعالى {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} نزل بعد نزول ما قبله وما بعده من قوله {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} إلى قوله {وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] قال بدر الدين الزركشي بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا تطلب للآي الكريمة مناسبة والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم.
على أنه يندر أن يكون موقع الآية عقب التي قبلها لأجل نزولها عقب التي قبلها من سورة هي بصدد النزول فيؤمر النبي بأن يقرأها عقب التي قبلها، وهذا كقوله تعالى {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] عقب قوله {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] ، فقد روى أن جبريل لبث أياما لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بوحي، فلما نزل بالآيات السابقة عاتبه النبي، فأمر الله جبريل أن يقول {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} فكانت وحيا نزل به جبريل، فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها، وكذلك آية {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] عقب قوله تعالى { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} إلى قوله {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
ـــــــ
1 دون الواو لأنها تعطف الجمل والقصص, وكذلك ثم لأنها قد تعطف الجمل.

في سورة البقرة: [25] إذ كان ردا على المشركين في قولهم: أما يستحي محمد أن يمثل بالذباب وبالعنكبوت? فلما ضرب لهم الأمثال بقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] تخلص إلى الرد عليهم فيما أنكروه من الأمثال. على أنه لا يعدم مناسبة ما، وقد لا تكون له مناسبة ولكنه اقتضاه سبب في ذلك المكان كقوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فهذه الآيات نزلت في سورة القيامة في خلال توبيخ المشركين على إنكارهم البعث ووصف يوم الحشر وأهواله، وليست لها مناسبة بذلك ولكن سبب نزولها حصل في خلال ذلك. روى البخاري عن ابن عباس قال كان رسول الله إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه يريد أن يحفظه فأنزل الله الآية التي في: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] اه، فذلك يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بالآيات التي نزلت في أول السورة.
على أنه قد لا يكون في موقع الآية من التي قبلها ظهور مناسبة فلا يوجب ذلك حيرة للمفسر؛ لأنه قد يكون سبب وضعها في موضعها أنها قد نزلت على سبب وكان حدوث سبب نزولها في مدة نزول السورة التي وضعت فيها فقرئت تلك الآية عقب آخر آية انتهى إليها النزول، وهذا كقوله تعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} إلى قوله {مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239,238] بين تشريعات أحكام كثيرة في شؤون الأزواج والأمهات، وقد ذكرنا ذلك عند هذه الآية في التفسير.
وقد تكون الآية ألحقت بالسورة بعد تمام نزولها بأن أمر الرسول بوضعها عقب آية معينة كما تقدم آنفا عن ابن عباس في آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] وكذلك ما روى في صحيح مسلم عن ابن مسعود أن أول سورة الحديد نزل بمكة، ولم يختلف المفسرون في أن قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحديد: 10] إلى آخر السورة نزل بالمدينة فلا يكون ذلك إلا لمناسبة بينها وبين آي تلك السورة والتشابه في أسلوب النظم، وإنما تأخر نزول تلك الآية عن نزول أخواتها من سورتها لحكمة اقتضت تأخرها ترجع غالبا إلى حدوث سبب النزول كما سيأتي قريبا.
ولما كان تعيين الآيات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في موضع معين غير مروي إلا في عدد قليل، كان حقا على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا وإلا فليعرض عنه ولا يكن من المتكلفين.

إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها. فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طريق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة، فكانت آيات القرآن مستقلا بعضها عن بعض، لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد أو تقويم معوج، كقوله {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ - إلى قوله - قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} [آل عمران: 73,72] فقوله {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} جملة معترضة.
وقوف القرآن
الوقف هو قطع الصوت عن الكلمة حصة يتنفس في مثلها المتنفس عادة، والوقف عند انتهاء جملة من جمل القرآن قد يكون أصلا لمعنى الكلام فقد يختلف المعنى باختلاف الوقف مثل قوله تعالى {وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير} [آل عمران:146] فإذا وقف عند كلمة {قتل} كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتلهم قومهم وأعداؤهم. ومع الأنبياء أصحابهم فما تزلزلوا لقتل أنبيائهم فكان المقصود تأييس المشركين من وهن المسلمين على فرض قتل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوته. على نحو قوله تعالى في خطاب المسلمين وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم الآية، وإذا وصل قوله {قتل} عند قوله {كثير} كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله تعالى {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} إلى قوله {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170,169]
وكذلك قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] الآية، فإذا وقف عند قوله {إِلَّا اللَّهُ} كان المعنى أن المتشابه الكلام الذي لا يصل فهم الناس إلى تأويله وأن علمه مما اختص الله به مثل اختصاصه بعلم الساعة وسائر الأمور الخمسة وكان ما بعده ابتداء كلام يفيد أن الراسخين يفوضون فهمه إلى الله

تعالى، وإذا وصل قوله {إِلاَّ اللَّهُ} بما بعده كان المعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه في حال أنهم يقولون آمنا به.
وكذلك قوله تعالى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فإنه لو وقف على قوله {ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} وابتدأ بقوله {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}وقع قوله {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] معطوفا على {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فيصير قوله {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . خبرا عن {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} ولكنه لا يستقيم المعنى إذ كيف يكون لللاء لم يحضن حمل حتى يكون أجلهن أن يضعن حملهن.
وعلى جميع التقادير لا تجد في القرآن مكانا يجب الوقف فيه ولا يحرم الوقف فيه كما قال ابن الجزري في أرجوزته، ولكن الوقف ينقسم إلى أكيد حسن ودونه وكل ذلك تقسيم بحسب المعنى. وبعضهم استحسن أن يكون الوقف عند نهاية الكلام وأن يكون ما يتطلب المعنى الوقف عليه قبل تمام المعنى سكتا وهو قطع الصوت حصة أقل من حصة قطعه عند الوقف، فإن اللغة العربية واضحة وسياق الكلام حارس من الفهم المخطئ، فنحو قوله تعالى {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: 1] لو وقف القاري على قوله {الرَّسُولَ} لا يخطر ببال العارف باللغة أن قوله {وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} تحذير من الإيمان بالله، وكيف يخطر ذلك وهو موصوف بقوله {رَبِّكُمْ} فهل يحذر أحد من الإيمان بربه.
وكذلك قوله تعالى {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] فإن كلمة {بَنَاهَا} هي منتهى الآية والوقف عند {أَمِ السَّمَاءُ} ولكن لو وصل القارئ لم يخطر ببال السامع أن يكون {بَنَاهَا} من جملة {أَمِ السَّمَاءُ} لأن معادل همزة الاستفهام لا يكون إلا مفردا.
على أن التعدد في الوقف قد يحصل به ما يحصل بتعدد وجوه القراءات من تعدد المعنى مع اتحاد الكلمات. فقوله تعالى {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} [الانسان:16] فإذا وقف على {قَوَارِيرَا} الأول كان { قَوَارِيرَا} الثاني تأكيدا لرفع احتمال المجاز في لفظ {قَوَارِيرَا} ، واذا وقف على {قَوَارِيرَا} الثاني كان المعنى الترتيب والتصنيف، كما يقال: قرأ الكتاب بابا بابا، وحضروا صفا صفا. وكان قوله {مِنْ فِضَّةٍ} عائدا إلى قوله {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ}

ولما كان القرآن مرادا منه فهم معانيه وإعجاز الجاحدين به وكان قد نزل بين أهل اللسان كان فهم معانيه مفروغا من حصوله عند جميعهم. فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم بل خاصة بلغائهم من خطباء وشعراء، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسنات الكلام من فن البديع، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأزجاع النثر، وهي مراده في نظم القرآن لا محالة كما قد مناه عند الكلام على آيات القرآن فكان عدم الوقف عليها تفريطا في الغرض المقصود منها
لم يشتد اعتناء السلف بتحديد أوقافه لظهور أمرها، وما ذكر عن ابن النحاس من الاحتجاج لوجوب ضبط أوقاف القرآن بكلام لعبد الله بن عمر ليس واضحا في الغرض المحتج به فانظره في الإتقان للسيوطي.
فكان الاعتبار بفواصله التي هي مقاطع آياته عندهم أهم لأن عجز قادتهم وأولي البلاغة والرأي منهم تقوم به الحجة عليهم وعلى دهمائهم، فلما كثر الداخلون في الإسلام من دهماء العرب ومن عموم بقية الأمم، توجه اعتناء أهل القرآن إلى ضبط وقوفه تيسيرا لفهمه على قارئيه، فظهر الاعتناء بالوقوف وروعي فيها ما يراعى في تفسير الآيات فكان ضبط الوقوف مقدمة لما يفاد من المعاني عند واضع الوقف.
وأشهر من تصدى لضبط الوقوف أبو محمد بن الانباري، وأبو جعفر بن النحاس، وللنكزاوي أو النكزوي كتاب في الوقف ذكره في الإتقان، واشتهر بالمغرب من المتأخرين محمد بن أبي جمعه الهبطي المتوفي سنة 930.
سور القرآن
السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية لا يتغيران، مسماة باسم مخصوص، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة، ناشئ عن أسباب النزول، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة. وكونها تشتمل على ثلاث آيات مأخوذة من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال جاء الحارث بن خزيمة هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة بالآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله. فقال عمر وأنا أشهد لقد سمعتهما منه، ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة إلخ،

فدل على أن عمر ما قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقل مقدار سوره.
وتسمية القطعة المعينة من عدة آيات القرآن سورة من مصطلحات القرآن، وشاعت تلك التسمية عند العرب حتى المشركين منهم. فالتحدي للعرب بقوله تعالى {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13] وقوله {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] لا يكون إلا تحديا باسم معلوم المسمى والمقدار عندهم وقت التحدي، فإن آيات التحدي نزلت بعد السور الأول، وقد جاء في القرآن تسمية سورة النور باسم سورة في قوله تعالى {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} [النور: 1] أي هذه سورة،وقد زادته السنة بيانا. ولم تكن أجزاء التوراة والإنجيل والزبور مسماة سورا عند العرب في الجاهلية ولا في الإسلام. ووجه تسمية الجزء المعين من القرآن سورة قيل مأخوذة من السور بضم السين وتسكين الواو وهو الجدار المحيط بالمدينة أو بمحله قوم زادوه هاء تأنيث في آخره مراعاة لمعنى القطعة من الكلام، كما سموا الكلام الذي يقوله القائل خطبة أو رسالة أو مقامة. وقيل مأخوذة من السور بهمزة بعد السين وهو البقية مما يشرب الشارب بمناسبة أن السور جزء مما يشرب، ثم خففوا الهمزة بعد الضمة فصارت واوا، قال ابن عطية: وترك الهمز في سورة هو لغة قريش ومن جاورها من هذيل وكنانة وهوازن وسعد بن بكر، وأما الهمز فهو لغة تميم، وليست إحدى اللغتين بدالة على أن أصل الكلمة من المهموز أو المعتل، لأن للعرب في تخفيف المهموز وهمز المخفف من حروف العلة طريقتين، كما قالوا أجوه وإعاء وإشاح، في وجوه ووعاء ووشاح، وكما قالوا الذئب بالهمز والذيب بالياء. قال الفراء: ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس مهموزا كما قالوا رثأت الميت ولبأت بالحج وحلأت السويق بالهمز.
وجمع سورة سور بتحريك الواو كغرف، ونقل في شرح القاموس عن الكراع1 أنها تجمع على سور بسكون الواو.
وتسوير القرآن من السنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان القرآن يومئذ مقسما إلى مائة وأربع عشرة سورة بأسمائها، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن مسعود فإنه لم يثبت المعوذتين في سور القرآن، وكان يقول "إنما هما تعوذ أمر الله رسوله بأن يقوله وليس هو
ـــــــ
1 هو علي بن حسن الهنائي – بضم الهاء- نسبة هناءة – بوزن ثمامة- اسم جد قبيلة من قبائل الأزد, والكراع بضم الكاف وتخفيف الراء لقب لعلى هذا, كان يلقب كراع النمل.

من القرآن، وأثبت القنوت الذي يقال في صلاة الصبح، على أنه سورة من القرآن سماها سورة الخلع والخنع. وجعل سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة. وكل ذلك استنادا لما فهمه من نزول القرآن. ولم يحفظ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا ولا اختلفوا في عدد سوره، وأنها مائة وأربع عشرة سورة، روى أصحاب السنن عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت الآية يقول: "ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا" ، وكانت السور معلومة المقادير منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة عنه في قراءة الصلاة وفي عرض القرآن، فترتيب الآيات في السور هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عزا ابن عطية إلى مكي بن أبي طالب وجزم به السيوطي في الإتقان، وبذلك يكون مجموع السورة من الآيات أيضا توقيفيا، ولذلك نجد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة سورة كذا وسورة كذا من طوال وقصار، ومن ذلك حديث صلاة الكسوف، وفي الصحيح أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجه امرأة فقال له النبي: "هل عندك ماتصدقها?" قال: "لا"، فقال: "ما معك من القرآن?" قال: سورة كذا وسورة كذا لسور سماها، فقال "قد زوجتكها بما معك من القرآن" وسيأتي مزيد شرح لهذا الغرض عند الكلام على أسماء السور.
وفائدة التسوير ما قاله صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] إن الجنس إذا انطوت تحته أنواع كان أحسن وأنبل من أن يكون ببانا1 واحدا، وأن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا.
وأما ترتيب السور بعضها إثر بعض، فقال أبو بكر الباقلاني: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبها كذلك، ويحتمل أن يكون ذلك من اجتهاد الصحابة، وقال الداني: كان جبريل يوقف رسول الله على موضع الآية وعلى موضع السورة. وفي المستدرك عن زيد بن ثابت أنه قال: كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع قال البيهقي: تأويله أنهم كانوا يؤلفون آيات السور. ونقل ابن عطية عن الباقلاني الجزم بأن ترتيب السور بعضها إثر بعض هو من وضع زيد بن ثابت بمشاركة عثمان، قال ابن عطية: وظاهر الأثر أن السبع الطوال والحواميم والمفصل كانت مرتبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من السور ما
ـــــــ
1 ببانا بموحدتين ثانيتهما مشددة ونون. قال السيد: هو الشيء, وكأن الكلمة يمانية.

لم يرتب فذلك هو الذي رتب وقت كتابة المصحف.
أقول: لا شك أن طوائف من سور القرآن كانت مرتبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ترتيبها في المصحف الذي بأيدينا اليوم الذي هو نسخة من المصحف الإمام الذي جمع وكتب في خلافة أبي بكر الصديق ووزعت على الأمصار نسخ منه في خلافة عثمان ذي النورين فلا شك في أن سور المفصل كانت هي آخر القرآن ولذلك كانت سنة قراءة السورة في الصلوات المفروضة أن يكون في بعض الصلوات من طوال المفصل وفي بعضها من وسط المفصل وفي بعضها من قصار المفصل. وأن طائفة السور الطولي الأوائل في المصحف كانت مرتبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أول القرآن. والاحتمال فيما عدا ذلك.
وأقول: لا شك في أن زيد بن ثابت وعثمان بن عفان وهما من أكبر حفاظ القرآن من الصحابة، توخيا ما استطاعا ترتيب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للسور، وترتيب قراءة الحفاظ التي لا تخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زيد بن ثابت من أكبر حفاظ القرآن وقد لازم النبي صلى الله عليه وسلم مدة حياته بالمدينة، ولم يتردد في ترتيب سور القرآن على نحو ما كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم حين نسخ المصاحف في زمن عثمان. ذلك أن القرآن حين جمع في خلافة أبي بكر لم يجمع في مصحف مرتب وإنما جعلوا لكل سورة صحيفة مفردة ولذلك عبروا عنها بالصحف، وفي موطأ ابن وهب عن مالك أن ابن عمر قال "جمع أبو بكر القرآن في قراطيس". وكانت تلك الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين، بسبب أنها كانت وصية أبيها على تركته، فلما أراد عثمان جمع القرآن في مصحف واحد أرسل إلى حفصة فأرسلت بها إليه ولما نسخت في مصحف واحد أرجع الصحف إليها، قال في فتح الباري: وهذا وقع في رواية عمارة ابن غزية أن زيد بن ثابت قال: أمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده والأصح أن القرآن جمع في زمن أبي بكر في مصحف واحد.
وقد يوجد في آي من القرآن ما يقتضي سبق سورة على أخرى مثل قوله في سورة النحل {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: 118] يشير إلى قوله {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] فدلت على أن سورة الأنعام نزلت قبل سورة النحل، وكذلك هي مرتبة في المصحف، وقد ثبت أن آخر آية نزلت آية في سورة البقرة أو في سورة النساء أو في براءة، وثلاثتها في الترتيب مقدمة

على سور كثيرة. فالمصاحف الأولى التي كتبها الصحابة لأنفسهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة في ترتيب وضع السور.
وممن كان له مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، وروي أن أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة. قال في الإتقان: إن من الصحابة من رتب مصحفه على ترتيب النزول أي بحسب ما بلغ إليه علمه وكذلك كان مصحف علي رضي الله عنه وكان أوله {اقْرَأْ بِاسْمِ} [العلق: 1] ، ثم المدثر، ثم المزمل، ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني. ومنهم من رتب على حسب الطول والقصر وكذلك كان مصحف أبي وابن مسعود فكانا ابتدأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، وعلى هذه الطريقة أمر عثمان رضي الله عنه بترتيب المصحف المدعو بالإمام.
أخرج الترمذي وأبو داود عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال، فقال عثمان كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتهما في السبع الطوال. وهو صريح في أنهم جعلوا علامة الفصل بين السور كتابة البسملة ولذلك لم يكتبوها بين سورة الأنفال وسورة براءة لأنهم لم يجزموا بأن براءة سورة مستقلة، ولكنه كان الراجح عندهم فلم يقدموا على الجزم بالفصل بينهما تحريا.
وفي باب تأليف القرآن من صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه ذكر النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأهن في كل ركعة فسئل علقمة عنها فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرها من الحواميم حم الدخان و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] ، على أن الجمهور جزموا بأن كثيرا من السور كان مرتبا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم اعلم ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري في باب تأليف القرآن أنها لا ترى القراءة على ترتيب المصحف أمرا لازما فقد سألها رجل من العراق أن تريه مصحفها ليؤلف عليه مصحفه فقالت وما يضرك أية آية قرأت قبل، إنما نزل أول ما

نزل منه سورة فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام وفي صحيح مسلم عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالبقرة ثم بالنساء ثم بآل عمران في ركعة. قال عياض في الإكمال "هو دليل لكون ترتيب السورة وقع باجتهاد الصحابة حين كتبوا المصحف وهو قول مالك رحمه الله وجمهور العلماء" وفي حديث صلاة الكسوف أن النبي قرأ فيها بسورتين طويلتين ولما كانت جهرية فإن قراءته تينك السورتين لا يخفى على أحد ممن صلى معه، ولذلك فالظاهر أن تقديم سورة آل عمران على سورة النساء في المصحف الإمام ما كان إلا اتباعا لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قرأها النبي كذلك إما لأن سورة آل عمران سبقت في النزول سورة النساء التي هي من آخر ما أنزل، أو لرعى المناسبة بين سورة البقرة وسورة آل عمران في الافتتاح بكلمة آلم، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهما وصفا واحدا ففي حديث أبي أمامة أن النبي قال: "اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران" وذكر فضلهما يوم القيامة أو لما في صحيح مسلم أيضا عن حديث النواس ابن سمعان أن النبي قال: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما ثلاثة أمثال " الحديث.
ووقع في تفسير شمس الدين محمود الأصفهاني الشافعي1، في المقدمة الخامسة من أوائله "لا خلاف في أن القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه، وأما في محله ووضعه وترتيبه فعند المحققين من أهل السنة كذلك؛ إذ الدواعي تتوفر على نقله على وجه التواتر، وما قيل التواتر شرط في ثبوته بحسب أصله وليس شرطا في محله ووضعه وترتيبه فضعيف لأنه لو لم يشترط التواتر في المحل جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن وما لم يتواتر يجوز سقوطه وهو يعنى بالقرآن ألفاظ آياته ومحلها دون ترتيب السور.
قال ابن بطال2"لا نعلم أحدا قال بوجوب القراءة على ترتيب السور في المصحف بل يجوز أن تقرأ الكهف قبل البقرة، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن
ـــــــ
1 هو محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني الشافعي المتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة, جمع في تفسيره "الكشاف" و "مفاتيح الغيب", وهو مخطوط بالمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة بتونس.
2 هو علي بن خلف بن بطال القرطبي ثم البلنسي المالكي المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة,له شرح على "صحيح البخاري"

قراءة القرآن منكسا، فالمراد منه أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها. قلت أو يحمل النهي على الكراهة.
واعلم أن معنى الطولى والقصرى في السور مراعى فيه عدد الآيات لا عدد الكلمات والحروف. وأن الاختلاف بينهم في تعيين المكي والمدني من سور القرآن خلاف ليس بكثير. وأن ترتيب المصحف تخللت فيه السور المكية والمدنية. وأما ترتيب نزول السور المكية ونزول السور المدنية ففيه ثلاث روايات، إحداها رواية مجاهد عن ابن عباس، والثانية رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، والثالثة لجابر بن زيد ولا يكون إلا عن ابن عباس، وهي التي اعتمدها الجعبري في منظومته التي سماها تقريب المأمول في ترتيب النزول وذكرها السيوطي في الإتقان وهي التي جرينا عليها في تفسيرنا هذا.
وأما أسماء السور فقد جعلت لها من عهد نزول الوحي، والمقصود من تسميتها تيسير المراجعة والمذاكرة، وقد دل حديث ابن عباس الذي ذكر آنفا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا نزلت الآية "ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا"، فسورة البقرة مثلا كانت بالسورة التي تذكر فيها البقرة. وفائدة التسمية أن تكون بما يميز السورة عن غيرها. وأصل أسماء السور أن تكون بالوصف كقولهم السورة التي يذكر فيها كذا، ثم شاع فحذفوا الموصول وعوضوا عنه الإضافة فقالوا سورة ذكر البقرة مثلا، ثم حذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه فقالوا سورة البقرة. أو أنهم لم يقدروا مضافا- وأضافوا السورة لما يذكر فيها لأدنى ملابسة. وقد ثبت في صحيح البخاري قول عائشة رضي الله عنها لما نزلت الآيات من آخر البقرة الحديث وفيه عن ابن مسعود قال قرأ رسول الله النجم. وعن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم. وما روى من حديث عن أنس مرفوعا "لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذلك القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله" فقال أحمد بن حنبل هو حديث منكر، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، ولكن ابن حجر أثبت صحته. ويذكر عن ابن عمر أنه كان يقول مثل ذلك ولا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره البيهقي في شعب الإيمان، وكان الحجاج بن يوسف يمنع من يقول سورة كذا ويقول قل السورة التي يذكر فيها كذا، والذين صححوا حديث أنس تأولوه وتأولوا قول ابن عمر بأن ذلك كان في مكة حين كان المسلمون إذ قالوا: سورة الفيل وسورة العنكبوت مثلا هزأ بهم المشركون، وقد روى أن هذا سبب نزول قوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95] فلما هاجر

المسلمون إلى المدينة زال سبب النهي فنسخ، وقد علم الناس كلهم معنى التسمية. ولم يشتهر هذا المنع ولهذا ترجم البخاري في كتاب فضائل القرآن بقوله باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا وأخرج فيه أحاديث تدل على أنهم قالوا سورة البقرة، سورة الفتح، سورة النساء، سورة الفرقان، سورة براءة، وبعضها من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فللقائل أن يقول سورة البقرة أو التي يذكر فيها البقرة، وأن يقول سورة والنجم وسورة النجم، وقرأت النجم وقرأت والنجم، كما جاءت هذه الإطلاقات في حديث السجود في سورة النجم عن ابن عباس.
والظاهر أن الصحابة سموا بما حفظوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أخذوا لها أشهر الأسماء التي كان الناس يعرفونها بها ولو كانت التسمية غير مأثورة، فقد سمى ابن مسعود القنوت سورة الخلع والخنع كما مر، فتعين أن تكون التسمية من وضعه، وقد اشتهرت تسمية بعض السور في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وسمعها وأقرها وذلك يكفي في تصحيح التسمية.
واعلم أن أسماء السور إما أن تكون بأوصافها مثل الفاتحة وسورة الحمد، وإما أن تكون بالإضافة لشيء اختصت بذكره نحو سورة لقمان وسورة يوسف وسورة البقرة، وإما بالإضافة لما كان ذكره فيها أوفى نحو سورة هود وسورة إبراهيم، وإما بالإضافة لكلمات تقع في السورة نحو سورة براءة، وسورة حم عسق، وسورة حم السجدة كما سماها بعض السلف، وسورة فاطر. وقد سموا مجموع السور المفتتحة بكلمة حم آل حم وربما سموا السورتين بوصف واحد فقد سموا سورة الكافرون وسورة الإخلاص المقشقشتين.
واعلم أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف أسماء السور بل اكتفوا بإثبات البسملة في مبدأ كل سورة علامة على الفصل بين السورتين، وإنما فعلوا ذلك كراهة أن يكتبوا في أثناء القرآن ما ليس بآية قرآنية، فاختاروا البسملة لأنها مناسبة للافتتاح مع كونها آية من القرآن وفي الإتقان أن سورة البينة سميت في مصحف أبى سورة أهل الكتاب، وهذا يؤذن بأنه كان يسمى السور في مصحفه. وكتبت أسماء السور في المصاحف باطراد في عصر التابعين ولم ينكر عليهم. قال المازري في شرح البرهان عن القاضي أبي بكر الباقلاني: إن أسماء السور لما كتبت المصاحف كتبت بخط آخر لتتميز عن القرآن، وإن البسملة كانت مكتوبة في أوائل السور بخط لا يتميز عن الخط الذي كتب به القرآن.
وأما ترتيب آيات السورة فإن التنجيم في النزول من المعلوم كما تقدم آنفا، وذلك في آياته وسوره فربما نزلت السورة جميعا دفعة واحدة كما نزلت سورة الفاتحة وسورة

المرسلات من السور القصيرة، وربما نزلت نزولا متتابعا كسورة الأنعام، وفي صحيح البخاري عن البراء ابن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وربما نزلت السورة مفرقة ونزلت السورتان مفرقتان في أوقات متداخلة، روى الترمذي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، أي في أوقات متقاربة فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب الوحي فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة كذا. ولذلك فقد تكون السورة بعضها مكيا وبعضها مدنيا. وكذلك تنهية كل سورة كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت نهايات السور معلومة، كما يشير إليه حديث "من قرأ الآيات الخواتم من سورة آل عمران" وقول زيد بن ثابت فقدت آخر سورة براءة. وقد توفي رسول الله والقرآن مسور سورا معينة، كما دل عليه حديث اختلاف عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام في آيات من سورة الفرقان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في المقدمة الخامسة. وقال عبد الله بن مسعود في سور بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء "هن من العتاق الأول وهن من تلادي".
وقد جمع من الصحابة القرآن كله في حياة رسول الله زيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وأبي بن كعب، وأبو الدرداء، وعبد الله بن عمر، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وسعد بن عبيد، ومجمع بن جارية، وأبو موسى الأشعري، وحفظ كثير من الصحابة أكثر القرآن على تفاوت بينهم.
وفي حديث غزوة حنين لما انكشف المسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: " اصرخ يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة" فلعل الأنصار كانوا قد عكفوا على حفظ ما نزل من سورة البقرة لأنها أول السور النازلة بالمدينة، وفي أحكام القرآن لابن العربي عن ابن وهب عن مالك كان شعارهم يوم حنين يا أصحاب سورة البقرة.
وقد ذكر النحويون في الوقف على تاء التأنيث هاء أن رجلا نادى: يا أهل سورة البقرة بإثبات التاء في الوقف وهي لغة، فأجابه مجيب ما أحفظ منها ولا آية محاكاة للغته.

المقدمة التاسعة: في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن، تعتبر مرادة بها
إن العرب أمة جبلت على ذكاء القرائح وفطنة الأفهام، فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم، وبخاصة كلام بلغائهم، ولذلك كان الإيجاز عمود بلاغتهم لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين كما يقال لمحة دالة. لأجل ذلك كثر في كلامهم: المجاز، والاستعارة، والتمثيل، والكناية، والتعريض، والاشتراك والتسامح في الاستعمال كالمبالغة، والاستطراد ومستتبعات التراكيب، والأمثال، والتلميح، والتمليح، واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية، واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار، ونحو ذلك. وملاك ذلك كله توفير المعاني، وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها ليسهل اعتلاقها بالأذهان؛ وإذ قد كان القرآن وحيا من العلام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه كما سيأتي في المقدمة العاشرة، فقد نسج نظمه نسجا بالغا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظا ومعنى بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم. فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب، فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته ولم يسعهم إلا الإذعان، سواء في ذلك من آمن منهم مثل لبيد ابن ربيعة وكعب ابن زهير والنابغة الجعدي، ومن استمر على كفره عنادا مثل الوليد بن المغيرة. فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي بودعها البلغاء في كلامهم. وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقا بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الآلفاظ، في أقل ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى، فمعتاد البلغاء إيداع المتكلم معنى يدعوه إليه غرض كلامه وترك غيره والقرآن ينبغي أن يودع من المعاني كل ما يحتاج السامعون إلى علمه وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودا وكان ما هو أدنى منه مرادا معه لا مرادا دونه سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال

والظهور أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض ولو أن تبلغ حد التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح. أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر، مثل قوله تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} [النساء: 157] أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقينا بل فهموه خطأ، ومثل قوله {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] ففي كل من كلمة ذكر وربه معنيان، ومثل قوله {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] ففي لفظ رب معنيان. وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرا للمعاني مع إيجاز اللفظ وهذا من وجوه الإعجاز. ومثاله قوله تعالى {إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري: أباه، بالباء الموحدة، فنشأ احتمال فيمن هو الواعد. ولما كان القرآن نازلا من المحيط علمه بكل شيء، كان ما تسمح تراكيبه الجارية على فصيح استعمال الكلام البليغ باحتماله من المعاني المألوفة للعرب في أمثال تلك التراكيب، مظنونا بأنه مراد لمنزله، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توفيقية. وقد جعل الله القرآن كتاب الأمة كلها وفيه هديها، ودعاهم إلى تدبره وبذل الجهد في استخراج معانيه في غير ما أية كقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقوله {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقوله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] وغير ذلك. على أن القرآن هو الحجة العامة بين علماء الإسلام لا يختلفون في كونه حجة شريعتهم وإن اختلفوا في حجية ما عداه من الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة الخلاف في شروط تصحيح الخبر، ولتفاوتهم في مقدار ما يبلغهم من الأخبار مع تفرق العصور والأقطار، فلا مرجع لهم عند الاختلاف يرجعون إليه أقوى من القرآن ودلالته.
ويدل لتأصيلنا هذا ما وقع إلينا من تفسيرات مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم لآيات، فنرى منها ما نوقن بأنه ليس هو المعنى الأسبق من التركيب؛ ولكنا بالتأمل نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أراد بتفسيره إلا إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن، مثال ذلك ما رواه أبو سعيد بن المعلى قال: دعاني رسول الله وأنا في الصلاة فلم أجبه فلما فرغت أقبلت إليه فقال " ما منعك أن تجيبني?" فقلت: يا رسول الله كنت أصلي، فقال: "ألم يقل الله تعالى {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [لأنفال: 24] فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال، كقوله تعالى: {الَّذِينَ

اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] ، وأن المراد من الدعوة الهداية كقوله {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] وقد تعلق فعل دعاكم بقوله {لِمَا يُحْيِيكُمْ} [لأنفال: 24] أي لما فيه صلاحكم، غير أن لفظ الاستجابة لما كان صالحا للحمل على المعنى الحقيقي أيضا وهو إجابة النداء حمل النبي صلى الله عليه وسلم الآية على ذلك في المقام الصالح له، بقطع النظر عن المتعلق وهو قوله {لِمَا يُحْيِيكُمْ} وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا" ، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الانبياء: 104] إنما هو تشبيه الخلق الثاني بالخلق الأول لدفع استبعاد البعث، كقوله تعالى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ:15]
وقوله {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] فذلك مورد التشبيه، غير أن التشبيه لما كان صالحا للحمل على تمام المشابهة أعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك مراد منه، بأن يكون التشبيه بالخلق الأول شاملا للتجرد من الثياب والنعال.
وكذلك قوله تعالى {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب لما قال له: لا تصل على عبد الله ابن أبى بن سلول فأنه منافق وقد نهاك الله عن أن تستغفر للمنافقين، فقال النبي "خيرني ربي وسأزيد على السبعين" فحمل قوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] على التخيير مع أن ظاهره أنه مستعمل في التسوية، وحمل اسم العدد على دلالته الصريحة دون كونه كناية عن الكثرة كما هو قرينه السياق لما كان الأمر واسم العدد صالحين لما حملهما عليه فكان الحمل تأويلا ناشئا عن الاحتياط. ومن هذا قول النبي لأم كلثوم بنت عقبة بن معيط حين جاءت مسلمة مهاجرة إلى المدينة وأبت أن ترجع إلى المشركين فقرأ النبي قوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95] فاستعمله في معنى مجازي هو غير المعنى الحقيقي الذي سيق إليه، وما أرى سجود النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع سجود التلاوة من القرآن إلا راجعا إلى هذا الأصل فإن كان فهما منه رجع إلى ما شرحنا تأصيله، وإن كان وحيا كان أقوى حجة في إرادة الله من ألفاظ كتابة ما تحتمله ألفاظه مما لا ينافى أغراضه.
وكذلك لما ورد عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من الأئمة مثل ما روى أن عمرو بن العاص أصبح جنبا في غزوة في يوم بارد فتيمم وقال: الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] مع أن مورد الآية أصله في النهى عن أن يقتل الناس بعضهم بعضا.

ومن ذلك أن عمر لما فتحت العراق وسأله جيش الفتح قسمة أرض السواد بينهم قال: إن قسمتها بينكم لم يجد المسلمون الذين يأتون بعدكم من البلاد المفتوحة مثل ما وجدتم فأرى أن أجعلها خراجا على أهل الأرض يقسم على المسلمين كل موسم فإن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وهذه الآية نزلت في فيء قريظة والنضير، والمراد بالذين جاءوا من بعد المذكورين هم المسلمون الذين أسلموا بعد الفتح المذكور.
وكذلك استنباط عمر ابتداء التاريخ بيوم الهجرة، من قوله تعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] فإن المعنى الأصلي أنه أسس من أول أيام تأسيسه، واللفظ صالح لأن يحمل على أنه أسس من أول يوم من الأيام أي أحق الأيام أن يكون أول أيام الإسلام فتكون الأولية نسبية.
وقد استدل فقهاؤنا على مشروعية الجعالة ومشروعية الكفالة في الإسلام، بقوله تعالى في قصة يوسف {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] كما تقدم في المقدمة الثالثة، مع أنه حكاية قصة مضت في أمة خلت ليست في سياق تقرير ولا إنكار، ولا هي من شريعة سماوية، إلا أن القرآن ذكرها ولم يعقبها بإنكار.
ومن هذا القبيل استدلال الشافعي على حجية الإجماع وتحريم خرقه بقوله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] مع أن سياق الآية في أحوال المشركين، فالمراد مشاقة خاصة واتباع غير سبيل خاص ولكن الشافعي جعل حجية الإجماع من كمال الآية.
وإن القراءات المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضي إلى اختلاف المعاني لمما يرجع إلى هذا الأصل.
ثم إن معاني التركيب المحتمل معنيين فصاعدا قد يكون بينهما العموم والخصوص فهذا النوع لا تردد في حمل التركيب على جميع ما يحتمله، ما لم يكن عن بعض تلك المحامل صارف لفظي أو معنوي، مثل حمل الجهاد في قوله تعالى {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [في سورة العنكبوت6] على معني مجاهدة النفس في إقامة شرائع الإسلام، ومقاتلة الأعداء في الذب عن حوزة الإسلام. وقد يكون بينها التغاير، بحيث يكون تعيين التركيب للبعض منافيا لتعيينه للآخر بحسب إرادة المتكلم عرفا، ولكن صلوحية التركيب لها على البدلية مع عدم ما يعين إرادة أحدها تحمل السامع على الأخذ بالجميع

إيفاء بما عسى أن يكون مراد المتكلم، فالحمل على الجميع نظير ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك على معانيه احتياطا. وقد يكون ثاني المعنيين متولدا من المعنى الأول، وهذا لا شبهة في الحمل عليه لأنه من مستتبعات التراكيب، مثل الكناية والتعريض والتهكم مع معانيها الصريحة، ومن هذا القبيل ما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله?، فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم قال: فما رئيت أنه دعاني إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس? فقلت: لا، فقال: فما تقول? قلت: هو أجل رسول الله أعلمه له، قال {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.
وإنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها وتتدبرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي. وقد تتكاثر عليك فلا تك من كثرتها في حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا بذلك.
فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته، من اشتراك وحقيقة ومجاز، وصريح وكناية، وبديع، ووصل، ووقف، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق، يجب حمل الكلام على جميعها كالوصل والوقف في قوله تعالى {لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] إذا وقف على {لا رَيْبَ} أو على { فِيهِ} . وقوله تعالى {وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير} [آل عمران:146] باختلاف المعنى إذا وقف على قوله {قتل}، أو على قوله معه {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . وكقوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} [آل عمران: 7] باختلاف المعنى عند الوقف على اسم الجلالة أو على قوله في العلم، وكقوله تعالى {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] باختلاف ارتباط النداء من قوله {يَا إِبْرَاهِيمُ} بالتوبيخ بقوله {أَرَاغِبٌ أَنْتَ} أو بالوعيد في قوله {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ}
وقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتابا مخاطبا به كل الأمم في جميع العصور، لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية، لأسباب يلوح لي

منها: أن تلك اللغة أوفر اللغات مادة، وأقلها حروفا، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرفا في الدلالة على أغراض المتكلم، وأوفرها ألفاظا، وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني، في أقل ما يسمح به نظم تلك اللغة، فكان قوام أساليبه جاريا على أسلوب الإيجاز؛ فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب.
ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة.
واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا. بله إرادة المعاني المكني عنها مع المعاني المصرح بها، وإرادة المعاني المستتبعات بفتح الباء من التراكيب المستتبعة بكسر الباء.
وهذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان. وبقي المبحثان الأولان وهما استعمال المشترك في معنييه أو معانيه، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، محل تردد بين المتصدين لاستخراج معاني القرآن تفسيرا وتشريعا، سببه أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن أو واقع بندرة، فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملا من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، ويعدون ذلك خطبا عظيما.
من أجل ذلك اختلف علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافا ينبي عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال. وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري1 يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم وليس بدلالة اللغة. وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة، كدلالة المجاز والاستعارة.
والحق أن المشترك يصح إطلاقه على عدة من معانيه جميعا أو بعضا إطلاقا لغويا، فقال قوم: هو من قبيل الحقيقة، ونسب إلى الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجمهور المعتزلة.
ـــــــ
1 محمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي المتوفى سنة 439هـ له كتاب "المعتمد في أصول الفقه".

وقال قوم: هو المجاز، وجزم ابن الحاجب بأنه مراد الباقلاني من قوله في كتاب التقريب والإرشاد إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة، ففهم ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز وهذا لا يستقيم لأن القرينة التي هي من علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي وهي لا تتصور في موضوعنا؛ إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة وإلا لانتقضت حقيقة المشترك فارتفع الموضوع من أصله. وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق اللفظ على معناه المجازي وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه، فإن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وقرينة المشترك معينة للمعاني المرادة كلا أو بعضا.
وثمة قول آخر لا ينبغي الالتفات إليه وإنما نذكره استيعابا لآراء الناظرين في هذه المسألة، وهو صحة إطلاق المشترك على معانيه في النفي وعدم صحة ذلك في الإيجاب، ونسب هذا القول إلى برهان علي المرغيناني الفقيه الحنفي صاحب كتاب الهداية في الفقه، ومثاره في ما أحسب اشتباه دلالة اللفظ المشترك على معانيه بدلالة النكرة الكلية على أفرادها حيث تفيد العموم إذا وقعت في سياق النفي ولا تفيده في سياق الإثبات.
والذي يجب اعتماده أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني سواء في ذلك اللفظ المفرد المشترك، والتركيب المشترك بين مختلف الاستعمالات، سواء كانت المعاني حقيقية أو مجازية، محضة أو مختلفة. مثال استعمال اللفظ المفرد في حقيقته ومجازه قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] فالسجود له معنى حقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض ومعنى مجازي وهو التعظيم، وقد استعمل فعل يسجد هنا في معنييه المذكورين لا محالة. وقوله تعالى {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: 2] فبسط الأيدي حقيقة في مدها للضرب والسلب، وبسط الألسنة مجاز في عدم إمساكها عن القول البذيء وقد استعمل هنا في كلا معنييه. ومثال استعمال المركب المشترك في معنييه قوله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] فمركب ويل له يستعمل خبرا ويستعمل دعاء، وقد حمله المفسرون هنا على كلا المعنيين.
وعلى هذا القانون يكون طريق الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون، أو ترجيح بعضها على بعض، وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل فلذلك كان الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن، يجعل غير ذلك المعنى

ملغى. ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ، معاني في تفسير الآية. فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا معنيين فصاعدا فذلك على هذا القانون. وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالا على إبطاله، ولكن قد يكون ذلك لترجح غيره، وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة، فإن التفاسير اليوم موجودة بين يدي أهل العلم لا يعوزهم استقراؤها ولا تمييز محاملها متى جروا على هذا القانون.

المقدمة العاشرة: في إعجاز القرآن
لم أر غرضا تناضلت له سهام الأفهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى.واقتنعت بما بلغته من صبابة نزرا. مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل. وموردها للمعلول والناهل. ومغلي سبائها للنديم والواغل، ولقد سبق أن ألف علم البلاغة مشتملا على نماذج من وجوه إعجازه. والتفرقة بين حقيقته ومجازه. إلا أنه باحث عن كل خصائص الكلام العربي البليغ ليكون معيارا للنقد أو آلة للصنع. ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله.
قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب المفتاح "واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كل شاهد بناؤها. واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها- إلى أن قال ثم إذا كنت ممن ملك الذوق وتصفحت كلام رب العزة. أطلعتك على ما يوردك موارد العزة. وكشفت عن وجه إعجازه القناع" اه.
فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أن ألم بك أيها المتأمل إلمامة ليست كخطرة طيف. ولا هي كإقامة المنتجع في المربع حتى يظله الصيف.وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزا وتتبصر منها نواحي إعجازه وما أنا بمستقص دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور، فذلك له مصنفاته وكل صغير وكبير مستطر. ثم ترى منها بلاغة القرآن ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر، وفتح عقول، وفتح ممالك، وفتح أدب غض ارتقى به الأدب العربي مرتقى لم يبلغه أدب أمة من قبل. وكنت أرى الباحثين ممن تقدمني يخلطون هذين الغرضين خلطا، وربما أهملوا معظم الفن الثاني، وربما ألموا به إلماما وخلطوه بقسم الإعجاز وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولا

ونكتا أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني، والرماني، وعبد القاهر، والخطابي، وعياض، والسكاكي، فكونوا منها بالمرصاد، وافلوا عنها كما يفلي عن النار الرماد. وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغا حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار، فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته وما فاقت به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية لئلا يكون المفسر حين يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسر.
فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير، فمن مقل مثل معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف. ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي.
ثم إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام وهو كونه المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكونه المعجزة الباقية، وهو المعجزة التي تحدى بها الرسول معانديه تحديا صريحا. قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] ولقد تصدى للاستدلال على هذا أبو بكر الباقلاني في كتاب له سماه أو سمي إعجاز القرآن وأطال، وخلاصة القول فيه أن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بنيت على معجزة القرآن وإن كان قد أيد بعد ذلك بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات وأحوال ومع ناس خاصة ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا، فأما القرآن فهو معجزة عامة، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة، وإن كان يعلم وجه إعجازه من عجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله فيغني ذلك عن نظر مجدد، فكذلك عجز أهل كل عصر من العصور التالية عن النظر في حال عجز أهل العصر الأول، ودليل ذلك متواتر من نص

القرآن في عدة آيات تتحدى العرب بأن يأتوا بسورة مثله، وبعشر سور مثله مما هو معلوم، ناهيك أن القرآن نادى بأنه معجز لهم، نحو قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] الآية فإنه سهل وسجل: سهل عليهم أن يأتوا بمثل سورة من سوره، وسجل عليهم أنهم لا يفعلون ذلك أبدا، فكان كما سجل، فالتحدي متواتر وعجز المتحدين أيضا متواتر بشهادة التاريخ إذ طالت مدتهم في الكفر ولم يقيموا الدليل على أنهم غير عاجزين، وما استطاعوا الإتيان بسورة مثله ثم عدلوا إلى المقاومة بالقوة.
قال الله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24]
وقال {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14,13] فعجز جميع المتحدين عن الإتيان بمثل القرآن أمر متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توفر دواعيهم عليها.
وقد اختلف العلماء في تعليل عجزهم عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأن الله صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي، لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع العرب. ويعرف هذا القول بالصرفة كما في المواقف للعضد والمقاصد للتفتزاني ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء وهي مرة من الصرف وصيغ بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص فصارت كالعلم بالغلبة ولم ينسبوا هذا القول إلا إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض في الشفاء وإلى النظام والشريف المرتضى وأبي إسحاق الاسفرائيني فيما حكاه عنهم عضد الدين في المواقف، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب الفصل ص7 جز3 ص184 جز وقد عزاه صاحب المقاصد في شرحه إلى كثير من المعتزلة.
وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق واقتصر عليه أيمة الأشعرية وإمام الحرمين وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في المواقف، فالتعليل لعجز المتحدين به بأنه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغا تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله،

وهو الذي نعتمده ونسير عليه في هذه المقدمة العاشرة.
وقد بدا لي دليل قوي على هذا وهو بقاء الآيات التي نسخ حكمها وبقيت متلوة من القرآن ومكتوبة في المصاحف فإنها لما نسخ حكمها لم يبق وجه لبقاء تلاوتها وكتبها في المصاحف إلا ما في مقدار مجموعها من البلاغة بحيث يلتئم منها مقدار ثلاث آيات متحدي بالإتيان بمثلها مثال ذلك آية الوصية في سورة العقود.
وإنما وقع التحدي بسورة أي وإن كانت قصيرة دون أن يتحداهم بعدد من الآيات لأن من أفانين البلاغة ما مرجعه إلى مجموع نظم الكلام وصوغه بسبب الغرض الذي سيق فيه من فواتح الكلام وخواتمه، وانتقال الأغراض، والرجوع إلى الغرض، وفنون الفصل، والإيجاز والإطناب، والاستطراد والاعتراض، وقد جعل شرف الدين الطيبي1 هذا هو الوجه لإيقاع التحدي بسورة دون أن يجعل بعدد من الآيات.
وإذ قد كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها، فنرى ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات:
الجهة الأولى : بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة، بحيث يكثر فيه ذلك كثرة لا يدانيها شيء من كلام البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.
الجهة الثانية : ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام مما لم يكن معهودا في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.
الجهة الثالثة: ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة، وهذه الجهة أغفلها المتكلمون في إعجاز القرآن من علمائنا مثل أبي بكر الباقلاني والقاضي عياض.
وقد عد كثير من العلماء من وجوه إعجاز القرآن ما يعد جهة رابعة هي ما انطوى
ـــــــ
1 اسمه على الأصح الحسين, وقيل: الحسن بن محمد الطيبي-بكسرالطاء وسكون الياء –الشافعي المتوفى سنة 743هـ.

عليه من الأخبار عن المغيبات مما دل على أنه منزل من علام الغيوب، وقد يدخل في هذه الجهة ما عده عياض في الشفاء وجها رابعا من وجوه إعجاز القرآن وهو ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، فهذا معجز للعرب الأميين خاصة وليس معجزا لأهل الكتاب؛ وخاص ثبوت إعجازه بأهل الإنصاف من الناظرين في نشأة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله، وليس معجزا للمكابرين فقد قالوا {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
فأعجاز القرآن من الجهتين الأولى والثانية متوجه إلى العرب، إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم مباشرة، ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم. ثم هو بذلك دليل على صدق المنزل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار، ولمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ. فإعجازه للعرب الحاضرين دليل تفصيلي، وإعجازه لغيرهم دليل إجمالي.
ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كل من تعلم لغتهم ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور، وهذا معنى قول السكاكي في المفتاح مخاطبا للناظر في كتابه متوسلا بذلك أي بمعرفة الخصائص البلاغية التي هو بصدد الكلام عليها إلى أن تتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل.
والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور، وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين: إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك.
وهو من الجهة الرابعة عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث معجز لأهل عصر نزوله إعجازا تفصيليا، ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن، وتعين صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها.
هذا ملاك الإعجاز بحسب ما انتهى إليه استقراؤنا إجمالا، ولنأخذ في شيء من تفصيل ذلك وتمثيله.

فأما الجهة الأولى فمرجعها إلى ما يسمى بالطرف الأعلى من البلاغة والفصاحة، وهو المصطلح على تسميته حد الإعجاز، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة والفصاحة، وقد وصف أئمة البلاغة والأدب هذين الأمرين بما دون له علما المعاني والبيان، وتصدوا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عد في أقصى درجاتها. وقد تصدى أمثال أبي بكر الباقلاني وأبي هلال العسكري وعبد القاهر والسكاكي وابن الأثير، إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن وبين ما بلغ في بليغ كلام العرب من بعض فنون البلاغة بما فيه مقنع للمتأمل، ومثل للمتمثل. وليس من حظ الواصف إعجاز القرآن وصفا جماليا كصنعنا ههنا أن يصف هذه الجهة وصفا مفصلا لكثرة أفانينها، فحسبنا أن نحيل في تحصيل كلياتها وقواعدها على الكتب المجعولة لذلك مثل دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والقسم الثالث فما بعده من المفتاح، ونحو ذلك، وأن نحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي القرآن على التفاسير المؤلفة في ذلك وعمدتها كتاب الكشاف للعلامة الزمخشري، وما سنستنبطه ونبتكره في تفسيرنا هذا إن شاء الله، غير أني ذاكر هنا أصولا لنواحي إعجازه من هذه الجهة وبخاصة ما لم يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره.
وحسبنا هنا الدليل الإجمالي وهو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته، اعترافا بالحق وربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح، مع أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا، وترغيبا وزجرا، قد خصوا من بين الأمم بقوة الذهن وشدة الحافظة وفصاحة اللسان وتبيان المعاني، فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني، ولا يجمح بهم عسير من المقامات.
قال عياض في الشفاء: فلم يزل يقرعهم النبي صلى الله عليه وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء بالافتراء، وقولهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24]
{سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: من الآية2] و {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} [الفرقان: من الآية4] و {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]. وقد قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فما فعلوا ولا قدروا، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم. ولما سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90]الآية قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما هو بكلام بشر. وذكر

أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: من الآية94] فسجد وقال: سجدت لفصاحته، وكان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة اصدع في إبانتها عن الدعوة والجهر بها والشجاعة فيها، وكلمة {بِمَا تُؤْمَرُ} في إيجازها وجمعها1. وسمع آخر رجلا يقرأ {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف: 80] فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وكون النبي صلى الله عليه وسلم تحدى به وأن العرب عجزوا عن معارضته مما علم بالضرورة إجمالا وتصدى أهل علم البلاغة لتفصيله.
قال السكاكي في المفتاح: واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، أو كالملاحة. ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا. وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين المعاني والبيان نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتجلى عليك، أما نفس وجه الإعجاز فلا ا هـ.
قال التفتزاني يعني أن كل ما ندركه بعقولنا ففي غالب الأمر نتمكن من التعبير عنه، والإعجاز ليس كذلك لأنا نعلم قطعا من كلام الله أنه بحيث لا تمكن للبشر معارضته والإتيان بمثله ولا يماثله شيء من كلام فصحاء العرب مع أن كلماته كلمات كلامهم، وكذا هيئات تراكيبه، كما أنا نجد كلاما نعلم قطعا أنه مستقيم الوزن دون آخر، وكما أنا ندرك من أحد كون كل عضو منه كما ينبغي وآخر كذلك أو دون ذلك، لكن فيه شيء نسميه الملاحة ولا نعرف أنه ما هو، وليس مدرك الإعجاز عند المصنف سوى الذوق وهو قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ووجوه محاسنه الخفية، فإن كان حاصلا بالفطرة فذاك وإن أريد اكتسابه فلا طريق إليه سوى الاعتناء بعلمي المعاني والبيان وطول ممارستهما والاشتغال بهما، وإن جمع بين الذوق الفطري وطول خدمة العلمين فلا غاية وراءه، فوجه الإعجاز أمر من جنس البلاغة والفصاحة لا كما ذهب إليه النظام وجمع من المعنزلة أن إعجازه بالصرفة بمعنى أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب قدرتهم عليها، ولا كما ذهب إليه جماعة من أن إعجازه بمخالفة أسلوبه لأساليب كلامهم من الأشعار والخطب والرسائل لا سيما في المقاطع مثل يؤمنون وينفقون ويعلمون قال السيد لا سيما في مطالع السور ومقاطع الآي أو بسلامته من التناقض قال السيد مع طوله
ـــــــ
1 ما بين الهلالين كلام للمصنف.

جدا أو باشتماله على الإخبار بالمغيبات والكل فاسد.اه
وقال السيد: الجرجاني فهذه أقوال خمسة في وجه الإعجاز لا سادس لها.
وقال السيد أراد المصنف أن الإعجاز نفسه وإن لم يمكن وصفه وكشفه بحيث يدرك به لكن الأمور المؤدية إلى كون الكلام معجزا أعنى وجوه البلاغة قد تحتجب فربما تيسر كشفها ليتقوى بذلك ذوق البليغ على مشاهدة الإعجاز.
يريد السيد بهذا الكلام إبطال التدافع بين قول صاحب المفتاح: يدرك ولا يمكن وصفه إذ نفى الإمكان، وبين قوله نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها، فاثبت تيسر وصف وجوه الإعجاز، بأن الإعجاز نفسه لا يمكن كشف القناع عنه، وأما وجوه البلاغة فيمكن كشف القناع عنها.
واعلم أنه لا شك في أن خصوصيات الكلام البليغ ودقائقه مراده لله تعالى في كون القرآن معجزا وملحوظة للمتحدين به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبين. وان إشارات كثيرة في القرآن تلفت الأذهان لذلك ويحضرني الآن من ذلك أمور: أحدها ما رواه مسلم والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى: قسمت الصلاة أي سورة الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قال الله تعالى أثنى علي عبدي. وإذ قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: مجدني عبدي وقال مرة: فوض إلي عبدي فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام. وحسن التقسيم من المحسنات البديعية. مع ما تضمنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال: هذا بيني وبين عبدي إذ كان ذلك مزيجا من القسمين الذي قبله والذي بعده.
وفي القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية والتجنيس من المحسنات، ومنه قوله تعالى {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26].
وفيه التنبيه على محسن المطابقة كقوله {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير}

[الحج: من الآية4].
والتنبيه على ما فيه من تمثيل كقوله تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وقوله {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [ابراهيم: 25].
ولذا فنحن نحاول تفصيل شيء مما أحاط به علمنا من وجوه الإعجاز:
نرى من أفانين الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها. وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة وكان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.
وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصي والقدر العلي في باب البلاغة، وبه فاق امرؤ القيس ونبهت سمعته، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} وقوله {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الاسراء: 24] وقوله {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يّس: 37] وقوله تعالى {ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] وقوله {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة: 138] إلى غير ذلك من وجوه البديع.
ورأيت من محاسن التشبيه عندهم كمال الشبه، ورأيت وسيلة ذلك الاحتراس وأحسنه ما وقع في القرآن كقوله تعالى {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] احتراس عن كراهة الطعام {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد: 15] احتراس عن أن تتخلله أقذاء من بقايا نحله.
وانظر التمثيلية في قوله تعالى {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 266] الآية. ففيه إتمام جهات كمال تحسين التشبيه لإظهار أن الحسرة على تلفها أشد. وكذا قوله تعالى {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35] إلى قوله {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] فقد ذكر من الصفات، والأحوال ما فيه مزيد وضوح المقصود من شدة الضياء، وما فيه تحسين المشبه وتزيينه بتحسين شبهه، وأين من الآيتين قول كعب.

شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
إن نظم القرآن مبني على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة، فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي كله، ولها دلالتها البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء ولا يصل شيء من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها.
ولها دلالتها المطوية وهي دلالة ما يذكر على ما يقدر اعتمادا على القرينة، وهذه الدلالة قليلة في كلام البلغاء وكثرت في القرآن مثل تقدير القول وتقدير الموصوف وتقدير الصفة.
ولها دلالة مواقع جمله بحسب ما قبلها وما بعدها، ككون الجملة في موقع العلة لكلام قبلها، أو في موقع الاستدراك، أو في موقع جواب سؤال، أو في موقع تعريض أو نحوه. وهذه الدلالة لا تتأتى في كلام العرب لقصر أغراضه في قصائدهم وخطبهم بخلاف القرآن، فإنه لما كان من قبيل التذكير والتلاوة سمحت أغراضه بالإطالة، وبتلك الإطالة تأتى تعدد مواقع الجمل والأغراض.
مثال ذلك قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:22] بعد قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] فإن قوله {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الجاثية: 22] إلى آخره مفيد بتراكيبه فوائد من التعليم والتذكير، وهو لوقوعه عقب قوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] واقع موقع الدليل على أنه لا يستوي من عمل السيئات مع من عمل الصالحات في نعيم الآخرة.
وإن للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله. وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً} إلى قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} إلى قوله: {وَكَأْساً دِهَاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} [النبأ 21,35] فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز. ثم كان قوله {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} ما يحتمل لضمير فيها من قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} أن يعود إلى {كَأْساً دِهَاقاً}

وتكون في للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج، وان يعود إلى {مَفَازاً} بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون في للظرفية الحقيقية أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة {مَفَازاً}. ولم يؤخر {كَأْساً دِهَاقاً} ولم يعقب بجملة {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} الخ.
ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظم الكلام على خصوصيات بلاغية هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام وخاصة في إعجاز القرآن، فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسر عن دواعيها وما يقتضيها فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلفة أو مغصوبة، ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية، في حال أن مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية، مثال ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ثم قوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تطلب مقتضه ويأتي بمقتضيات عامة مثل أن يقول: التنبيه للاهتمام بالخبر، ولكن إذا قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين والمؤمنين جميعا علمنا أن اختلاف حرف التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين والمؤمنين جميعا، فالأولون لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون بالإسلام فكأن الله يقول قد عرفنا دخائلكم، وثاني الفريقين وهم المؤمنون نبهوا لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءكم هم أيضا عدو لكم لأنهم حزب الشيطان والشيطان عدو الله وعدو الله عدو لكم واجتلاب حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون فيها فيرعوون عن النفاق، وتنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقا ليسوا من حزب الله فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم فيحذروهم.
ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمى في عرف علماء البلاغة بالنكت البلاغية فإن بلغاءهم كان تنافسهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت، وبذلك تفاضل بلغاؤهم، فلما سمعوا القرآن انثالت على كل من سمعه من بلغائهم من النكت التي تفطن

لها ما لم يجد من قدرته قبلا بمثله. وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان فعلم ألا مبلغ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله، هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه. ووراء ذلك نكت لا يتفطن إليها كل واحد، وأحسب أنهم تآمروا وتدارسوا بينهم في نواديهم أمر تحدي الرسول إياهم بمعارضة القرآن وتواصفوا ما اشتملت عليه بعض آياته العالقة بحوافظهم وأسماعهم من النكت والخصائص وأوقف بعضهم على ما لاح له من تلك الخصائص، وفكروا وقدروا وتدبروا فعلموا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثلها إن انفردوا أو اجتمعوا، ولذلك سجل القرآن عليهم عجزهم في الحالتين فقال تارة: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وقال لهم مرة: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الاسراء: 88] فحالة اجتماعهم وتظاهرهم لم تكن مغفولا عنها بينهم ضرورة أنهم متحدون بها.
وهذه الناحية من هذه الجهة من الإعجاز هي أقوى نواحي إعجاز القرآن وهي التي يتحقق بها إعجاز أقصر سورة منه. وفي هذه الجهة ناحية أخرى وهي ناحية فصاحة اللفظ وانسجام النظم وذلك بسلامة الكلام في أجزائه ومجموعه مما يجر الثقل إلى لسان الناطق به، ولغة العرب لغة فصيحة وأهلها مشهورون بفصاحة الألسن. قال فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب: إن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي، والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى وكما أن الإنسان الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه بالنظافة، كذلك الكلام، ورب كلمة حكيمة لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها..
وكان مما يعرض لشعرائهم وخطبائهم ألفاظ ولهجات لها بعض الثقل على اللسان، فأما ما يعرض للألفاظ فهو ما يسمى في علم الفصاحة بتنافر حروف الكلمة أو تنافر حروف الكلمات عند اجتماعها مثل: مستشزرات والكنهبل في معلقة امريء القيس، وسفنجة والخفيدد في معلقة طرفة، وقول القائل وليس قرب قبر حرب قبر.
وقد سلم القرآن من هذا كله مع تفننه في مختلف الأغراض وما تقتضيه من تكاثر الألفاظ، وبعض العلماء أورد قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يّس: 60] وقوله: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48] وتصدى للجواب، والصواب أن ذلك غير وارد كما قاله المحققون لعدم بلوغه حد الثقل، ولأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلفه فيها

غيره مقدم على مراعاة خفة لفظه.
فقد اتفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة، فإن العرب لم يعيبوا معلقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة. قال أبو العباس المبرد: وقد يضطر الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه.
وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلي فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل المذكورة في المقدمة السادسة وهو مما فسر به حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفها وتجنب المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]
ومما أعده في هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني المقصودة، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد في كلمات القرآن كلمة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها مثل إيثار كلمة حرد في قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25] إذ كان جميع معاني الحرد صالحا للإرادة في ذلك الغرض، أو مجازات أو استعارات أو نحوها مما تنصب عليه القرائن في الكلام، فإن اقتضى الحال تصرفا في معنى اللفظ كان التصرف بطريق التضمين وهو كثير في القرآن مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] فجاء فعل {أَتَوْا} مضمنا معنى مروا فعدي بحرف على؛ لأن الإتيان تعدى إلى اسم القرية والمقصود منه الاعتبار بمآل أهلها، فإنه يقال أتى أرض بني فلان ومر على حي كذا. وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ بل هي معدودة من دقائقه ونفائسه التي تقل نظائرها في كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن الوفاء بجميعها.
وأما الجهة الثانية وهى ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في أساليب الكلام البليغ وهذه جهة مغفولة من علم البلاغة، فاعلم أن أدب العرب نوعان شعر ونثر، والنثر خطابة وأسجاع كهان، وأصحاب هذه الأنواع وإن تنافسوا في ابتكار المعاني وتفاوتوا في تراكيب أدائها في الشعر فهم بالنسبة إلى الأسلوب قد التزموا في أسلوبي الشعر والخطابة

طريقة واحدة تشابهت فنونها فكادوا لا يعدون ما ألفوه من ذلك حتى إنك لتجد الشاعر يحذو حذو الشاعر في فواتح القصائد وفي كثير من تراكيبها، فكم من قصائد افتتحت بقولهم بانت سعاد للنابغة وكعب بن زهير، وكم من شعر افتتح ب:
ياخليلي اربعا واستخبرا
وكم من شعر افتتح ب:
يا أيها الراكب المزجي مطيته
وقال امرؤ القيس في معلقته:
وقوفا بها صحبي على مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتحمل
فقال طرفة في معلقته بيتا مماثلا له سوى أن كلمة القافية منه "وتجلد".
وكذلك القول في خطبهم تكاد تكون لهجة واحدة وأسلوبا واحدا فيما بلغنا من خطب سحبان وقس بن ساعدة. وكذلك أسجاع الكهان وهي قد اختصت بقصر الفقرات وغرابة الكلمات. إنما كان الشعر الغالب على كلامهم، وكانت الخطابة بحالة ندور لندرة مقاماتها. قال عمر كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه فانحصر تسابق جياد البلاغة في ميدان الكلام المنظوم، فلما جاء القرآن ولم يكن شعرا ولا سجع كهان، وكان من أسلوب النثر أقرب إلى الخطابة، ابتكر للقول أساليب كثيرة بعضها تتنوع بتنوع المقاصد، ومقاصدها بتنوع أسلوب الإنشاء، فيها أفانين كثيرة فيجد فيه المطلع على لسان العرب بغيته ورغبته، ولهذا قال الوليد ابن المغيرة لما استمع إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم "والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا سجعه، وقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه، ومقبوضه ما هو بشاعر".
وكذلك وصفه أنيس بن جنادة الغفاري الشاعر أخو أبي ذر حين انطلق إلى مكة ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي بخبره إلى أخيه فقال "لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على إقراء الشعر1 فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان واحد بعدى أنه شعر" ثم أسلم. وورد مثل هذه الصفة عن عتبة بن ربيعة والنضر بن الحرث، والظاهر أن المشركين لما لم يجدوا بدا من إلحاق القرآن بصنف من أصناف كلامهم ألحقوه بأشبه
ـــــــ
1 الأقراء جمع قرء وهو الطريق.

الكلام به فقالوا إنه شعر تقريبا للدهماء بما عهده القوم من الكلام الجدير بالاعتبار من حيث ما فيه من دقائق المعاني وأحكام الانتظام والنفوذ إلى العقول، فإنه مع بلوغه أقصى حد في فصاحة العربية ومع طول أغراضه وتفنن معانيه وكونه نثرا لا شعرا ترى أسلوبه يجري على الألسنة سلسا سهلا لا تفاوت في فصاحة تراكيبه، وترى حفظه أسرع من حفظ الشعر. وقد اختار العرب الشعر لتخليد أغراضهم وآدابهم لأن ما يقتضيه من الوزن يلجئ إلى التدريب على ألفاظ متوازنة فيكسبها ذلك التوازن تلاؤما، فتكون سلسلة على الألسن، فلذلك انحصر تسابق جياد البلاغة في الكلام المنظوم، وفحول الشعراء مع ذلك متفاوتون في سلالة الكلام مع تسامحهم في أمور كثيرة اغتفرها الناس لهم وهي المسماة بالضرورات. بحيث لو كان لواحد من البشر أن يتكلف فصاحة لما يقوله من كلام ويعاود تنقيحه وتغيير نظمه بإبدال الكلمات أو بالتقديم لما حقه التأخير، أو التأخير لما حقه التقدير، أو حذف أو زيادة، لقضى زمنا مديدا في تأليف ما يقدر بسورة من متوسط سور القرآن، ولما سلم مع ذلك من جمل يتعثر فيها اللسان. ولم يدع مع تلك الفصاحة داع إلى ارتكاب ضرورة أو تقصير في بعض ما تقتضيه البلاغة، فبنى نظمه على فواصل وقرائن متقاربة فلم تفته سلاسة الشعر ولم ترزح تحت قيود الميزان، فجاء القرآن كلاما منثورا ولكنه فاق في فصاحته وسلاسته على الألسنة وتوافق كلماته وتراكيبه في السلامة من أقل تنافر وتعثر على الألسنة. فكان كونه من النثر داخلا في إعجازه، وقد اشتمل القرآن على أنواع أساليب الكلام العربي وابتكر أساليب لم يكونوا يعرفونها وإن لذلك التنويع حكمتين داخلتين في الإعجاز: أولاهما ظهور أنه من عند الله؛ إذ قد تعارف الأدباء في كل عصر أن يظهر نبوغ نوابغهم على أساليب مختلفة كل يجيد أسلوبا أو أسلوبين. والثانية أن يكون في ذلك زيادة التحدي للمتحدين به بحيث لا يستطيع أحد أن يقول إن هذا الأسلوب لم تسبق لي معالجته ولو جاءنا بأسلوب آخر لعارضته.
نرى من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما: مقصد الموعظة ومقصد التشريع، فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه وهو في هذا النوع يشبه خطبهم، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكاما كثيرة في التشريع والآداب وغيرها، وقد قال في الكلام على بعضه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] هذا من حيث ما لمعانيه من العموم والإيماء إلى العلل والمقاصد وغيرها.

ومن أساليبه ما أسميه بالتفنن وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذييل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرير الكلم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه، ومن أبدع أمثلة ذلك قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:17,20] بحيث كان أكثر أساليب القرآن من الأساليب البديعة العزيز مثلها في شعر العرب وفي نثر بلغائهم من الخطباء وأصحاب بدائه الأجوبة. وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المنتقل منه والمنتقل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه بانتقاله إلا عند حصوله. وذلك التفنن مما يعين على استماع السامعين ويدفع سآمة الإطالة عنهم، فأن من أغراض القرآن استكثار أزمان قراءته كما قال تعالى {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: من الآية20] فقوله {مَا تَيَسَّرَ} يقتضي الاستكثار بقدر التيسر، وفي تناسب أقواله وتفنن أغراضه مجلبة لذلك التيسير وعون على التكثير،
نقل عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه سراج المريدين ارتباط آي القرآن بعضها مع بعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسعة منتظمة المباني، علم عظيم ونقل الزركشي عن عز الدين بن عبد السلام المناسبة علم حسن ويشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض.
وقال شمس الدين محمود الأصفهاني في تفسيره نقلا عن الفخر الرازي أنه قال إن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه هو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك.
إن بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدي بها تلك التراكيب. فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من

التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني، فإن السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني، وان لم يكنه عنه، مثاله قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [النازعات:16] فإن الوقف على قوله {مُوسَى} يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبين حديث موسى، فإذا جاء بعده {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} الخ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة موسى من قرينة من قرائن الكلام لأنه على سجعة الألف مثل قوله {طُوىً} ، {طَغَى} [النازعات: من الآية17] ، {تَزَكَّى} [النازعات: 18] الخ.
وقد بينت عند تفسير قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أنك إن وقفت على كلمة {رَيْبَ} كان من قبيل إيجاز الحذف أي لا ريب في أنه الكتاب فكانت جملة {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ابتداء كلام وكان مفاد حرف في استنزال طائر المعاندين أي ان لم يكن كله هدى فإن فيه هدى. وإن وصلت {فِيهِ} كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدا أن هذا الكتاب كله هدى.
ومن أساليب القرآن العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل ونحوه، ومما عدل فيه عن تكرير الصيغة قوله تعالى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فجاء بلفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان فلم يقل قلبا كما تجنبا لتعدد صيغة المثنى.
ومن ذلك قوله تعالى {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: من الآية139] فروعي معنى ما الموصولة مرة فأتى بضمير جماعة المؤنث وهو خالصة، وروعي لفظ ما الموصولة فأتي بمحرم مذكرا مفردا.
إن المقام قد يقتضي شيئين متساويين أو أشياء متساوية فيكون البليغ مخيرا في أحدهما وله ذكرهما تفننا وقد وقع في القرآن كثير من هذا:
من ذلك قوله {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً} بواو العطف في سورة البقرة[35] وقوله في الأعراف [19] {فَكُلا} بفاء التفريع وكلاهما مطابق للمقام فإنه أمر ثان وهو أمر مفرع على الإسكان فيجوز أن يحكي بكل من الاعتبارين، ومنه قوله في سورة البقرة [58] {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا} وفي سورة الأعراف[161]: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا} فعبر مرة

بـ {ادْخُلُوا} ومرة بـ {اسْكُنُوا} وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع. وهذا التخالف بين الشيئين يقصد لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب، فلا تكون إعادتها مجرد تذكير.
قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى {قَالَ1 رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الانبياء: 4] "ليس بواجب ان يجاء بالآكد في كل موضع ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتنانا".
ومنها اتساع أدب اللغة في القرآن. لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر، فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني، وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ، وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي الملح والمديح. ولهم من غير الشعر الخطب، والأمثال، والمحاورات: فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء، وإنما يبقي في السامعين التأثر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي. وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها، وأما المحاورات فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الأهمية بحيث تنقل وتسير، ومنها محاورات نواد وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتديات وهي التي أشار إليها لبيد بقوله:
وكثيرة غرباؤها مجهولة ... ترجى نوافلها ويخشى ذامها
غلب تشذر بالذحول كأنها ... جن البدي رواسيا أقدامها
أنكرت باطلها ويؤت بحقها ... عندي ولم يفخر علي كرامها
وتلك مثل مجامعهم عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض؛ إذ لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات مسجوعة مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد. فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد صالح لكل العقول، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها
ـــــــ
1 في المطبوعة:{إِنَّ} بدل {قَالَ} وهو خطأ.

معط لكل فن ما يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة: فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال أي الكلم الجوامع والقصص والتوصيف والرواية.
وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير في القبائل، مع كون مادته ولحمته هي الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه، وذلك تأثير روحاني وليس بلفظي ولا معنوي.
وقد رأيت المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب، وخاصة الجناس كقوله {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .
والطباق كقوله {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4]
وقد ألف ابن أبي الإصبع كتابا في بديع القرآن. وصار لمجيئه نثرا أدبا جديدا غضا ومتناولا لكل الطبقات. وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسحر وبالشعر {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]
مبتكرات القرآن
هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.
فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة وقد نبه عليه العلماء المتقدمون. وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوب الخطابة بعض المخالفة، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته، وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام.
وأعد من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية، فلم يأت بعموميات شأنها التخصيص غير مخصوصة، ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة. مثاله قوله تعالى {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} وقوله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] فبين أن الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى، وقوله {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 3,2].

ومنها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف وقد أومأ إليها في الكشاف إيماء.
ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة، وفي تمثيل الأحوال، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب إذ كان فن القصص مفقودا من أدب العربية إلا نادرا، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحية التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر بها، فلما جاء القرآن بالأوصاف بهت به العرب كما في سورة الأعراف [44] من وصف أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} إلخ وفي سورة الحديد {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} الآيات.
ومما يتبع هذا أن القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت فيها، فهو إذا حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية، وإذا حكى أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب المعبر مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم بل يحكي حاصل كلامهم، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية.
ومن هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في الكلام من الفصاحة مثل تغيير شاول إلى طالوت، وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى آزر.
وكذلك التمثيل فقد كان في أدب العرب الأمثال وهي حكاية أحوال مرموز لها بتلك الجمل البليغة التي قيلت فيها أو قيلت لها المسماة بالأمثال، فكانت تلك الجمل مشيرة إلى تلك الأحوال، إلا أنها لما تداولتها الألسن في الاستعمال وطال عليها الأمد نسيت الأحوال التي وردت فيها ولم يبق للأذهان عند النطق بها إلا الشعور بمغازيها التي تقال لأجلها.
أما القرآن فقد أوضح الأمثال وأبدع تركيبها كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18]وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} إلى قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ

نُورٍ} [النور:39]وقوله {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14].
لم يلتزم القرآن أسلوبا واحدا، واختلفت سوره وتفننت، فتكاد تكون لكل سورة لهجة خاصة، فإن بعضها بني على فواصل وبعضها ليس كذلك. وكذلك فواتحها منها ما افتتح بالاحتفال كالحمد، و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، و {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] ، وهي قريب مما نعبر عنه في صناعة الإنشاء بالمقدمات. ومنها ما افتتح بالهجوم على الغرض من أول الأمر نحو {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] و {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]
ومن أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز وهو متنافسهم وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم، وقد جاء القرآن بأبدعه إذ كان مع ما فيه من الإيجاز المبين في علم المعاني فيه إيجاز عظيم آخر وهو صلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معان متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه، وبعضها وإن كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر فتحريك الأذهان إليه وإخطاره بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به للامتثال أو الانتهاء. وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة التاسعة. ولولا إيجاز القرآن لكان أداء ما يتضمنه من المعاني في أضعاف مقدار القرآن. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزيد عن تبصره، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].
إنك تجد في كثير من تراكيب القرآن حذفا ولكنك لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه من لفظ أو سياق، زيادة على جمعه المعاني الكثيرة في الكلام القليل، قال في الكشاف في سورة المدثر الحذف والاختصار هو نهج التنزيل قال بعض بطارقة الروم لعمر بن الخطاب لما سمع قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] الآية، جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين، ومن ذلك قوله {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] مقابلا أوجز كلام عرف عندهم وهو القتل أنفى للقتل، ومن ذلك قوله تعالى {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] ولقد بسط السكاكي في المفتاح آخر قسم البيان نموذجا مما اشتملت عليه هذه الآية من البلاغة والفصاحة،

وتصدى أبو بكر الباقلاني في كتابه المسمى إعجاز القرآن إلى بيان ما في سورة النمل من الخصائص فارجع إليهما.
وأعد من أنواع إيجازه إيجاز الحذف مع عدم الالتباس، وكثر ذلك في حذف القول، ومن أبدع الحذف قوله تعالى {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] أي يتذاكرون شأن المجرمين فيقول من علموا شأنهم سألناهم هم فقلنا ما سلككم في سقر. قال في الكشاف قوله {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين، أي أن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين اه.
ومنه حذف المضاف كثيرا كقوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] وحذف الجمل التي يدل الكلام على تقديرها نحو قوله تعالى {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63] إذ التقدير: فضرب فانفلق. ومن ذلك الإخبار عن أمر خاص بخبر يعمه وغيره لتحصل فوائد: فائدة الحكم العام، وفائدة الحكم الخاص، وفائدة أن هذا المحكوم عليه بالحكم الخاص هو من جنس ذلك المحكوم عليه بالحكم العام.
وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب، مثال ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} [الطلاق: 11] فإبدال {رَسُولاً} من {ذِكْراً} يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول، وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم، وأن وصفه بقوله {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} يفيد أن الآيات ذكر. ونظير هذا قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} [البينة:2] الآية وليس المقام بسامح لإيراد عديد من هذا. ولعله يأتي في أثناء التفسير.
ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين، وهو يرجع إلى إيجاز الحذف، والتضمين أن يضمن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان.
ومن هذا الباب ما اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى الأمثال، وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في كلام بلغاء العرب، وهو الذي لأجله عدت قصيدة زهير في المعلقات فجاء في القرآن ما يفوق ذلك كقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}

[الاسراء: من الآية84] وقوله {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] وقوله {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96]
وسلك القرآن مسلك الإطناب لأغراض من البلاغة ومن أهم مقامات الإطناب مقام توصيف الأحوال التي يراد بتفصيل وصفها إدخال الروع في قلب السامع وهذه طريقة عربية في مثل هذا كقول ابن زيابة:
نبئت عمرا غارزا رأسه ... في سنة يوعد أخواله
فمن آيات القرآن في مثله تعالى {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29,26] وقوله {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} وقوله {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [ابراهيم: 43]
ومن أساليب القرآن المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها أنه يرد فيه استعمال اللفظ المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإدارة ما يصلح منها، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما، وبذلك تكثر معاني الكلام مع الإيجاز وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر ودالة على أنه منزل من لدن العليم بكل شيء والقدير عليه. وقد نبهنا على ذلك وحققناه في المقدمة التاسعة.
ومن أساليبه الإتيان بالألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف حروفها أو اختلاف حركات حروفها وهو من أسباب اختلاف كثير من القراءات مثل {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19] قرئ {عند} بالنون دون ألف وقرئ {عِبَادُ} بالموحدة وألف بعدها، ومثل {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] بضم الصاد وكسرها. وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة السادسة.
واعلم أن مما يندرج تحت جهة الأسلوب ما سماه أئمة نقد الأدب بالجزالة، وما سموه بالرقة وبينوا لكل منهما مقاماته وهما راجعتان إلى معاني الكلام، ولا تخلو سورة من القرآن من تكرر هذين الأسلوبين، وكل منهما بالغ غايته في موقعه، فبينما تسمعه يقول {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]
ويقول {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ

الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] إذ تسمعه يقول {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] قال عياض في الشفا: إن عتبة بن ربيعة لما سمع هذه الآية أمسك بيده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ناشدتك الله والرحم إلا ما كففت.
عادات القرآن
يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه. وقد تعرض بعض السلف لشيء منها، فعن ابن عباس: كل كاس في القرآن فالمراد بها الخمر. وذكر ذلك الطبري عن الضحاك أيضا.
وفي صحيح البخاري في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة: ما سمى الله مطرا في القرآن إلا عذابا، وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28]. وعن ابن عباس أن كل ما جاء من {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فالمقصود به أهل مكة المشركون.
وقال الجاحظ في البيان وفي القرآن معان لا تكاد تفترق، مثل الصلاة والزكاة، والجوع والخوف، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس قلت: والنفع والضر، والسماء والأرض.
وذكر صاحب الكشاف وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة. ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد والاعتراض لمناسبة التضاد، ورأيت منه قليلا في شعر العرب كقول لبيد:
فاقطع لبانا من تعرض وصله ... فلشر واصل خل صرامها
واحب المجامل بالجزيل وصرمه ... باق إذا ظلعت وزاغ قوامها
وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] الآية: جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره. وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} من سورة العقود: [109] عادة هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وأحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع.
وقد استقريت بجهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها، ومنها أن كلمة هؤلاء إذا لم يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يراد بها

المشركون من أهل مكة كقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف: من الآية29] وقوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات، وفي الإتقان للسيوطي شيء من ذلك.
وقد استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ قال دون حروف عطف، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى، انظر قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} إلى قوله: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33].
وأما الجهة الثالثة من جهات الإعجاز وهي ما أودعه من المعاني الحكمية والإشارات العلمية فاعلموا أن العرب لم يكن لهم علم سوى الشعر وما تضمنه من الأخبار: قال عمر بن الخطاب كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه.
إن العلم نوعان علم اصطلاحي وعلم حقيقي، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الإعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء، وهذا قد يتغير بتغير العصور ويختلف باختلاف الأمم والأقطار، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.
وأما العلم الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك الحقائق النافعة عاجلا وآجلا، وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه. وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب، لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات المختلفة ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن، ولم يقل إلا صدقا كما أشار إليه فخر الدين الرازي.
وقد اشتمل القرآن على النوعين، فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرا فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم، وقد أشار إلى هذا القرآن بقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157] وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49] ونحو

هذا من محاجة أهل الكتاب. ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في الشفاء ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه كخبر موسى مع الخضر، ويوسف وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان الخ كلامه، وإن كان هو قد ساقه في غير مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به صلى الله عليه وسلم مع ثبوت الأمية، ومن حيث محاجته إياهم بذلك. فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملا على التاريخ إلا بإرشادات نادرة، كقولهم درع عادية، ورمح يزنية، وقول شاعرهم
أحلام عاد وأجسام مطهرة
وقول آخر
تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
ولكنهم لا يأبهون بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة، فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلا كقوله {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الاحقاف: 21] وكقوله {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ولهذا يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم، وإنما ذكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود وقوم تبع، كما أشرنا إليه في المقدمة السابعة في قصص القرآن.
وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين: قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50] ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألفوه.

قال ابن عرفة عند قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} في سورة آل عمران:[27] كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام أقول: وكذلك قوله تعالى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} [الانبياء: 30].
فمن طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال، قال في الشفاء ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد للعرب، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجة العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يّس: 81]
ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} [يّس: 70] وقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] وقال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]
وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي قال في الموافقات: إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأول إلا على ما هو متعارف عند العرب ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن. وقد بينت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة.
وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه: الأولى أن قوله "ما مثله آمن عليه البشر"

اقتضى أن كل نبي جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه فيؤمنون على مثل تلك المعجزة. ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه، كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا، الثانية أن قوله وإنما كان الذي أوتيت وحيا اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا، كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا لا محالة، وقد تحقق ذلك لأن المعني بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول. ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع الأنبياء كلهم، وقد أغفل بيان وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي البليغ.
وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: من الآية82]
وإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر: إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى {مَا كُنَتَ تَعْلَمُها أنْتَ ولا قومُك مِنْ قَبْلِ هَذا} [هود: 49] وإعجازه لعامة الناس أن تجيء تلك العلوم من رجل نشأ أميا في قوم أميين، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا، ولا قبل لهم بأن يدعوا أنهم علموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين، ولأنه جاء بنسخ دين اليهودية والنصرانية، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم فلو كان قد تعلم منهم لأعلنوا ذلك وسجلوا عليه أنه عقهم حق التعليم.
وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من دلائل كون القرآن منزلا من عند الله، وإن كان ذلك

ليس له مزيد تعلق بنظم القرآن ودلالة فصاحته وبلاغته على المعاني العليا، ولا هو كثير في القرآن، وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله. وقد جاء كثير من آيات القرآن بذلك منها قوله: {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] الآية روى الترمذي في تفسيرها عن ابن عباس قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم لأنهم أهل كتاب فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى: {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1-4] فخرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة، فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على ذلك? قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان، فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس وأسلم عند ذلك كثير من قريش. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55] وقوله : {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] فما حدث بعد ذلك من المراكب منبأ به في هذه الآية. وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1]
نزلت قبل فتح مكة بعامين. وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27] وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدي به في قوله تعالى في شأن القرآن {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} إلى قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24,23] فسجل أنهم لا يفعلون ذلك أبدا وكذلك كان، كما بيناه آنفا في الجهة الثالثة.
وكأنك بعد ما قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديرا على الحكم فيما اختلف فيه أئمة علم الكلام من إعجاز القرآن للعرب هل كان بما بلغه من منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وما احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تقف بها عدة، ويزيدها النظر مع طول الزمان جدة، فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات القرآن تتحملها بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا لعلام الغيوب وهو مذهب المحققين، أة كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن الإتيان بمثله وأنه لولا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه مما يدخل تحت مقدور البشر، ونسب هذا إلى الحسن الأشعري وهو منقول في شرح التفتزاني على المفتاح عن النظام وطائفة من المعتزلة، ويسمى مذهب أهل الصرفة، وهو الذي قال به ابن حزم في كتابه في الملل والنحل.
والأول هو الوجه الذي اعتمده أبو بكر الباقلاني في كتابه

إعجاز القرآن، وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به، وعلى اعتباره دون ائمة العرب علم البلاغة، وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على التفصيل دون الاجمال، فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفاتحةسورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة: أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب، والسبع المثاني، وأم القرآن، أو أم الكتاب، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة.
فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولوجه فصيغتها تقتضي أن موصوفها شيء يزيل حاجزا، وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب، والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8]
وكذلك الطاغية في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5]
في قول ابن عباس أي بطغيانهم. والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق. وإنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول بالمصدر الآتي على وزن فاعلة لآن الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر، وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء؛ إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على الفتح، فالأصل فاتح الكتاب، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية أي إلى معاملة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف، مثل الغائبة في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]
ومثل العافية والعاقبة قال التفتزاني في شرح الكشاف: ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل،يعني

لأنهم يقولون فاتحة وخاتمة دائما لا في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة، وذلك كقولهم فلان خاتمة العلماء، وكقول الحريري في المقامة الأولى أدتني خاتمة المطاف، وهدتني فاتحة الألطاف. وأيا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة الأسماء الجنسية، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة.
ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في الصحيح واستفاض أن أول ما أنزل سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه. فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته.
وإضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى {الضَّالِّينَ} [الفاتحة:2-7] بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي سورة ذكر كذا، وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك ويوم الأحد وعلم الفقه، ونراها قبيحة لو قال قائل: إنسان زيد، وذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة وبين ما هو قبيح فكان حقا أن أبين وجهه: وذلك ان إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني، فهنالك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار، ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك، عوضا أن يقولوا: الشجر الذي هو الأراك،ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا: يوم هو الأحد. وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان؛ فأما إذا كان المتضايفين غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال: إنسان زيد. ولهذا جعل قول الناس شهر رمضان علما على الشهر المعروف بناءا على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر،فتعين أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لولا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر.
ويصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم: مسجد الجامع، وعشاء الآخرة، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب

فتكون الإضافة بيانية، ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف،كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا، ثم يضيفونه فيقولون: باب جامع الصلاة. وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة، كما نقول: خطبة التأليف، وديباجة التقليد.
وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن، وفي الحديث قصة، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" أي منقوصة مخدوجة.
وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة: أحدها أنها مبدوه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء لقرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود.
الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع: الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والأوامر والنواهي من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والوعد والوعيد من قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ} إلى آخرها، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ}إلى قوله {يَوْمِ الدِّينِ} حمد وثناء، وقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلى قوله {الْمُسْتَقِيمَ} من نوع الأوامر والنواهي، وقوله {صِرَاطَ الَّذِينَ} إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى.

الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص، إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة،وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام ف {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و {رَبِّ الْعَالَمِينَ} يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها، و {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين، و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يشمل أحوال القيامة، و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} يجمع معنى الديانة والشريعة، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال. قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه حل الرموز ومفاتيح الكنوز: الطريقة إلى الله لها ظاهر أي عمل ظاهر أي بدني وباطن أي عمل قلبي فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة، والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف. ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} شريعة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقيقة، اه. و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب، و {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة، وقوله {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة-تصريحا وتضمنا-علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية. ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكير لما في مطاويها.
وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد ابن المعلى1 أن رسول الله قال "{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني
ـــــــ
1 هو الحارث بن نفيع "مصغرا" الزرقي –بضم ففتح – الأنصاري المتوفى سنة 74هـ وتمام الحديث=

والقرآن العظيم الذي أوتيته" ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال هي ثمان آيات، وإلا الحسين1 الجعفي فقال هي ست آيات، وقال بعض الناس تسع آيات ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عد البسملة أدمج آيتين.
وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون، أو مثنى مخفف مثنى، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثني كمعنى مخفف معني ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في شرح الكشاف وكل ذلك مشتق من التثنية وهي ضم ثان إلى أول.
ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في الكشاف. قيل وهو مأثور عن عمر بن الخطاب، وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة، ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في الصحيح وقيل العكس.
وقيل لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثني في مطلق المكرر نحو {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وقولهم لبيك وسعديك، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر: 23] أي مكرر القصص والأغراض. وقيل سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرر النزول لا يعتبر قائله، وقد اتفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة.
وهذه السورة وضعت في أول السور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا وذلك شأن الديباجة من
ـــــــ
= عن أبي سعيد بن المعاى قال: "كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: " ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [لأنفال: من الآية24] ثم قال ألا أعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد, ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الخ.
1 ستأتي ترجمته قريبا.

براعة الاستهلال.
وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور، وقال كثير إنها أول سورة نزلت، والصحيح أنه نزل قبلها {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وسورة المدثر ثم الفاتحة، وقيل نزل قبلها أيضا {نْ وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] وسورة المزمل، وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة، بخلاف سورة القلم ، وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور. وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب وأمر بأن تكون أول القرآن.
قلت: ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب.
وأغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن.
وهي سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري، قال هي ثمان آيات، ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي1 قال هي ست آيات، ونسب إلى بعضهم غير معين أنها تسع آيات، وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل، قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فأقول حمدني عبدي، فإذا قال العبد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقول الله أثنى علي عبدي، وإذا قال العبد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال الله مجدني عبدي، وإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، قال الله هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل اه. فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} جزء آية، والحسن البصري عد البسملة آية وعد {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية.
ـــــــ
1 هو حسين بن علي بن الوليد الجعفي مولاهم الكوفي المتوفى سنة 200هـ أحد أعلام المحدثين روي عن الأعمش وروى عنه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه, ويحيى بن معين.

[1-7] {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
الكلام على البسملة
[1] {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
البسملة اسم لكلمة باسم الله، صيغ هذا الاسم على مادة مؤلفة من حروف الكلمتين باسم والله على طريقة تسمى النحت، وهو صوغ فعل مضي على زنة فعلل مؤلفة مادته من حروف جملة أو حروف مركب إضافي، مما ينطق به الناس اختصارا عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة. وقد استعمل العرب النحت في النسب إلى الجملة أو المراكب إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس عبشمي خشية الالتباس بالنسب إلى عبد أو إلى شمس، وفي النسبة إلى عبد الدار عبدري كذلك والى حضرموت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة أي النسب إلى المضاف من الأسماء: وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسما بمنزلة جعفري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف اه، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية. قال الراعي:
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
أي لم يتركوا قول لا إله إلا الله. وقال عمر بن أبي ربيعة
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... ألا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
أي قالت بسم الله فرقا منه، فأصل بسمل قال: بسم الله، ثم أطلقه المولدون على قول: بسم الله الرحمن الرحيم، اكتفاء واعتمادا على الشهرة وإن كان هذا المنحوت خليا من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمان الرحيم، فشاع قولهم: بسمل، في معنى قال: بسم الله الرحمن الرحيم، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هلل مصدر هو الهيللة وهو مصدر قياسي لفعلل.
واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68