كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي

الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار لقصد التهويل.والأصل بما كنتم تقولون علي.
وضمن {تقولون} معنى تكذبون، فعلق به قوله {عَلَى اللَّهِ} ، فعلم أن هذا القول كذب على الله كقوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44]الآية، وبذلك يصح تنزيل فعل {تقولون} منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول لأن المراد به أنهم يكذبون، ويصح جعل غير الحق مفعولا لـ {تقولون} ، وغير الحق هو الباطل، ولا تكون نسبته إلى الله إلا كذبا.
وشمل {بمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ} الأقوال الثلاثة المتقدمة في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباًًـ إلى قوله ـ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وغيرها.
و {غَيْرَ الْحَقِّ} حال من"ما"الموصولة أو صفة لمفعول مطلق أو هو المفعول به لـ {تقولون} .
وقوله: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ} عطف على {كنتم تقولون} .أي وباستكباركم عن آياته.والاستكبار: الإعراض في قلة اكتراث، فبهذا المعنى يتعدى إلى الآيات، أو أريد من الآيات التأمل فيها فيكون الاستكبار على حقيقته، أي تستكبرون عن التدبر في الآيات وترون أنفسكم أعظم من صاحب تلك الآيات.
وجواب"لو"محذوف لقصد التهويل.والمعنى: لرأيت أمرا مفظعا.وحذف جواب"لو"في مثل هذا المقام شائع في القرآن.وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} في سورة البقرة[165].
[94] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
إن كان القول المقدر في جملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]قولا من قبل الله تعالى كان قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} عطفا على جملة {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93]أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب: أخرجوا أنفسكم، ويقال لهم: لقد جئتمونا فرادى.فالجملة في محل النصب بالقول المحذوف.وعلى احتمال أن يكون {غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} حقيقة، أي في حين النزع يكون فعل {جئتمونا} من التعبير بالماضي

عن المستقبل القريب، مثل: قد قامت الصلاة، فإنهم حينئذ قاربوا أن يرجعوا إلى محض تصرف الله فيهم.
وإن كان القول المقدر قول الملائكة فجملة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} عطف على جملة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 93]فانتقل الكلام من خطاب المعتبرين بحال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذ.
فعلى الوجه الأول يكون {جئتمونا} حقيقة في الماضي لأنهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله.و"قد"للتحقيق.
وعلى الوجه الثاني يكون الماضي معبرا به عن المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه، وتكون"قد"ترشيحا للاستعارة.
وإخبارهم بأنهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأن مجيئهم معلوم لهم ولكنه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا ينذرون به على لسان الرسول فينكرونه وهو الرجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله.وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنهم لا يصيرون إليه، على نحو قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39]، وقول الراجز:
قد يصبح الله إمام الساري
والضمير المنصوب في {جئتمونا} ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} .
و {فرادى} حال من الضمير المرفوع في {جئتمونا} أي منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به في الحياة الاولى من مال وولد وأنصار، والأظهر أن"فرادى"جمع فردان مثل سكارى لسكران.وليس فرادى المقصور مرادفا لفراد المعدول لأن فراد المعدول يدل على معنى فردا فردا، مثل ثلاث ورباع من أسماء العدد المعدولة.وأما فرادى المقصور فهو جمع فردان بمعنى المنفرد.ووجه جمعه هنا أن كل واحد منهم جاء منفردا عن ماله.
وقوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأول فهو في موضع المفعول المطلق.و"ما"المجرورة بالكاف مصدرية.فالتقدير: كخلقنا إياكم، أي جئتمونا معادين مخلوقين كما خلقناكم أول مرة، فهذا كقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ

الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ: 15]
والتخويل: التفضل بالعطاء.قيل: أصله إعطاء الخول ـ بفتحتين ـ وهو الخدم، أي إعطاء العبيد.ثم استعمل مجازا في إعطاء مطلق ما ينفع، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره.
و"ما"موصولة ومعنى تركهم إياه وراء ظهورهم بعدهم عنه تمثيلا لحال البعيد عن الشيء بمن بارحه سائرا، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته لأنه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ولذلك يمثل القاصد للشيء بأنه بين يديه، ويقال للأمر الذي يهيئه المرء لنفسه: قد قدمه.
{وتركتم} عطف على {جئتمونا} وهو يبين معنى {فرادى} إلا أن في الجملة الثانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لان كلا الخبرين مستعمل في التخطئة والتنديم، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود.فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل.وأبو البقاء جعل الجملة حالا من الواو في {جئتمونا} فيصير ترك ما خولوه هو محل التنكيل.
وكذلك القول في جملة {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} أنها معطوفة على {جِئْتُمُونَاـ وَتَرَكْتُمْ} لأن هذا الخبر أيضا مراد به التخطئة والتلهيف، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام عللوا أنفسهم بأن آلهتهم تشفع لهم عند الله.وقد روى بعضهم: "أن النضر بن الحارث قال ذلك"، ولعله قاله استسخارا أو جهلا، وأن الآية نزلت ردا عليه، أي أن في الآية ما هو رد عليه لا أنها نزلت لإبطال قوله لأن هذه الآيات متصل بعضها ببعض، وفي قوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} بيان أيضا وتقرير لقوله {فرادى} .
وقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} تهكم بهم لأنهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقب، أي يرى شيئا فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27]، بناء على أن نفي الوصف عن شيء يدل غالبا على وجود ذلك الشيء، فكان في هذا القول إيهام أن شفعاءهم موجودون سوى أنهم لم يحضروا، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدال على الحال دون الماضي ليشير إلى أن انتفاء رؤية الشفعاء حاصل إلى الآن، ففيه إيهام أن رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل، وذلك زيادة في التهكم.

وأضيف الشفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنه أريد شفعاء معهودون، وهم الآلهة التي عبدوها وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} .
والزعم: القول الباطل سواء كان عن تعمد الباطل كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60]أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا، وقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]،وقد تقدم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة.
وتقديم المجرور في قوله: {فِيكُمْ شُرَكَاءُ} للاهتمام الذي وجهه التعجيب من هذا المزعوم إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أن الخالق هو الله تعالى فهو المستحق للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة، يعني لو ادعوا للأصنام شيئا مغيبا لا يعرف أصل تكوينه لكان العجب أقل، لكن العجب كل العجب من ادعائهم لهم الشركة في أنفسهم، لأنهم لما عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقا لأجل الخالقية، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أن الأصنام شركاء لله في أنفس خلقه، أي في خلقهم، فلذلك علقت النفوس بالوصف الدال على الشركة.
وتقدم معنى الشفاعة عند قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} في سورة البقر[48].
وجملة {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} استئناف بياني لجملة: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} لأن المشركين حين يسمعون قوله: {مَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} يعتادهم الطمع في لقاء شفعائهم فيتشوفون لأن يعلموا سبيلهم، فقيل لهم: لقد تقطع بينكم تأييسا لهم بعد الإطماع التهكمي، والضمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم.
وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم ـ بفتح نون ـ {بَيْنَكُمْ} .فـ"بين"على هذه القراءة ظرف مكان دال على مكان الاجتماع والاتصال فيما يضاف هو إليه.وقرأ البقية ـ بضم نون ـ {بَيْنُكُمْ} على إخراج"بين"عن الظرفية فصار اسما متصرفا وأسند إليه التقطع على طريقة المجاز العقلي.
وحذف فاعل تقطع على قراءة الفتح لأن المقصود حصول التقطع، ففاعله اسم مبهم

مما يصلح للتقطع وهو الاتصال.فيقدر: لقد تقطع الحبل أو نحوه.قال تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166].وقد صار هذا التركيب كالمثل بهذا الإيجاز.وقد شاع في كلام العرب ذكر التقطع مستعارا للبعد وبطلان الاتصال تبعا لاستعارة الحبل للاتصال، كما قال امرؤ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
فمن ثم حسن حذف الفاعل في الآية على هذه القراءة لدلالة المقام عليه فصار كالمثل.وقدر الزمخشري المصدر المأخوذ من {تقطع} فاعلا، أي على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل، أي وقع التقطع بينكم.وقال التفتزاني: "الأولى أنه أسند إلى ضمير الأمر لتقرره في النفوس، أي تقطع الأمر بينكم".
وقريب من هذا ما يقال: إن"بينكم"صفة أقيمت مقام الموصوف الذي هو المسند إليه، أي أمر بينكم، وعلى هذا يكون الاستعمال من قبيل الضمير الذي لم يذكر معاده لكونه معلوما من الفعل كقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [صّ: 32]، لكن هذا لا يعهد في الضمير المستتر لأن الضمير المستتر ليس بموجود في الكلام وإنما دعا إلى تقديره وجود معاده الدال عليه.فأما والكلام خلي عن معاد وعن لفظ الضمير فالمتعين أن نجعله من حذف الفاعل كما قررته لك ابتداء، ولا يقال: إن {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ليس فيه لفظ ضمير إذ التاء علامة لإسناد الفعل إلى مؤنث لانا نقول: التحقيق أن التاء في الفعل المسند إلى الضمير هي الفاعل.
وعلى قراءة الرفع جعل {بينكم} فاعلا، أي أخرج عن الظرفية وجعل اسما للمكان الذي يجتمع فيه ما صدق الضمير المضاف إليه اسم المكان، أي انفصل المكان الذي كان محل اتصالكم فيكون كناية عن انفصال أصحاب المكان الذي كان محل اجتماع.والمكانية هنا مجازية مثل {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1].
وقوله: {وَضَلَّ عَنْكُمْ} عطف على {تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وهو من تمام التهكم والتأييس.ومعنى ضل: ضد اهتدى، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لما تقطع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم.و"ما"موصولية ما صدقها الشفعاء لاتحاد صلتها وصلة {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} ، أي الذين كنتم تزعمونهم شركاء، فحذف مفعولا الزعم لدلالة نظيره عليهما في قوله: {زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} ,وعبر عن الآلهة بـ"ما"الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها، وفسر ابن عطية وغيره ضل بمعنى غاب وتلف وذهب،

وجعلوا"ما"مصدرية، أي ذهب زعمكم أنها تشفع لكم.وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع.
[95ـ96] {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
استئناف ابتدائي انتقل به من تقرير التوحيد والبعث والرسالة وأفانين المواعظ والبراهين التي تخللت ذلك إلى الاستدلال والاعتبار بخلق الله تعالى وعجائب مصنوعاته المشاهدة، على انفراده تعالى بالإلهية المستلزم لانتفاء الإلهية عما لا تقدر على مثل هذا الصنع العجيب، فلا يحق لها أن تعبد ولا أن تشرك مع الله تعالى في العبادة إذ لا حق لها في الإلهية، فيكون ذلك إبطالا لشرك المشركين من العرب، وهو مع ذلك إبطال لمعتقد المعطلين من الدهريين منهم بطريق الأولى، وفي ذلك امتنان على المقصودين من الخطاب وهم المشركون بقرينة قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ، أي فتكفرون النعمة.وفيه علم ويقين للمؤمنين من المصدقين واستزادة لمعرفتهم بربهم وشكرهم.
وافتتاح الجملة بـ {إن} مع أنه لا ينكر أحد أن الله هو فاعل الأفعال المذكورة هنا، ولكن النظر والاعتبار في دلالة الزرع على قدرة الخالق على الإحياء بعد الموت كما قدر على إماتة الحي، لما كان نظرا دقيقا قد انصرف عنه المشركون فاجترأوا على إنكار البعث، كان حالهم كحال من أنكر أو شك في أن الله فالق الحب والنوى، فأكد الخبر بحرف"إن".
وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات هذا الوصف دوامه لأنه وصف ذاتي لله تعالى، وهو وصف الفعل أو وصف القدرة وتعلقاتها في مصطلح من لا يثبت صفات الأفعال،ولما كان المقصود الاكتفاء بدلالة فلق الحب والنوى على قدرة الله على إخراج الحي من الميت، والانتقال من ذلك إلى دلالته على إخراج الحي من الميت في البعث، لم يؤت في هذا الخبر بما يقتضي الحصر إذ ليس المقام مقام القصر.
والفلق: شق وصدع بعض أجزاء الشيء عن بعض، والمقصود الفلق الذي تنبثق منه وشائج النبت والشجر وأصولها، فهو محل العبرة من علم الله تعالى وقدرته وحكمته.
والحب اسم جمع لما يثمره النبت، واحده حبة.والنوى اسم جمع نواة، والنواة قلب التمرة.ويطلق على ما في الثمار من القلوب التي منها ينبت شجرها مثل العنب

والزيتون، وهو العجم بالتحريك اسم جمع عجمة.
وجملة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} في محل خبر ثان عن اسم"إن"تتنزل منزلة بيان المقصود من الجملة قبلها وهو الفلق الذي يخرج منه نبتا أو شجرا ناميا ذا حياة نباتية بعد أن كانت الحبة والنواة جسما صلبا لا حياة فيه ولا نماء.فلذلك رجح فصل هذه الجملة عن التي قبلها إلا أنها أعم منها لدلالتها على إخراج الحيوان منماء النطفة أو من البيض، فهي خبر آخر ولكنه بعمومه يبين الخبر الأول، فلذلك يحسن فصل الجملة، أو عدم عطف أحد الأخبار.
وعطف على {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} لأنه إخبار بضد مضمون {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} وصنع آخر عجيب دال على كمال القدرة وناف تصرف الطبيعة بالخلق، لأن الفعل الصادر من العالم المختار يكون على أحوال متضادة بخلاف الفعل المتولد عن سبب طبعي، وفي هذا الخبر تكملة بيان لما أجمله قوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ، لأن فلق الحب عن النبات والنوى عن الشجر يشمل أحوالا مجملة، منها حال إثمار النبات والشجر: حبا ييبس وهو في قصب نباته فلا تكون فيه حياة، ونوى في باطن الثمار يبسا لا حياة فيه كنوى الزيتون والتمر، ويزيد على ذلك البيان بإخراج البيض واللبن والمسك واللؤلؤ وحجر"البازهر"من بواطن الحيوان الحي، فظهر صدور الضدين عن القدرة الإلهية تمام الظهور.
وقد رجح عطف هذا الخبر لأنه كالتكملة لقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي يفعل الأمرين معا كقوله بعده: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} .وجعله في"الكشاف"عطفا على: {فَالِقُ الْحَبِّ} بناء على أن مضمون قوله: {مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} ليس فيه بيان لمضمون: {فَالِقُ الْحَبِّ} لأن فلق الحب ينشأ عنه إخراج الحي من الميت لا العكس، وهو خلاف الظاهر لأن علاقة وصف: {مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} بخبر {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أقوى من علاقته بخبر: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} .
وقد جيء بجملة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} فعلية للدلالة على أن ها الفعل يتجدد ويتكرر في كل آن، فهو مراد معلوم وليس على سبيل المصادفة والاتفاق.
وجيء في قوله: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} اسما للدلالة على الدوام والثبات، فحصل بمجموع ذلك أن كلا الفعلين متجدد وثابت، أي كثير وذاتي، وذلك لأن أحد الإخراجين ليس أولى بالحكم من قرينه فكان في الأسلوب شبه الاحتباك.

والإشارة بـ {ذلكم} لزيادة التمييز وللتعريض بغباوة المخاطبين المشركين لغفلتهم عن هذه الدلالة على أنه المنفرد بالإلهية، أي ذلكم الفاعل الأفعال العظيمة من الفلق وإخراج الحي من الميت والميت من الحي هو الذي يعرفه الخلق باسمه العظيم على أنه الإله الواحد، المقصور عليه وصف الإلهية فلا تعدلوا به في الإلهية غيره، ولذلك عقب بالتفريع بالفاء قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} .
والأفك ـ بفتح الهمزة ـ مصدر أفكه يأفكه، من باب ضرب، إذا صرفه عن مكان أو عن عمل، أي فكيف تصرفون عن توحيده.
و"أنى"بمعنى من أين.وهو استفهام تعجيبي إنكاري، أي لا يوجد موجب يصرفكم عن توحيده.وبني فعل {تؤفكون} للمجهول لعدم تعين صارفهم عن توحيد الله، وهو مجموع أشياء: وسوسة الشيطان، وتضليل قادتهم وكبرائهم، وهوى أنفسهم.
وجملة "ذلكم الله"مستأنفة مقصود منها الاعتبار، فتكون جملة {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} اعتراضا.
و {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} يجوز أن يكون خبرا رابعا عن اسم"إن"، ويجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة المخبر به عن اسم الإشارة، فيكون قوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} اعتراضا.
والإصباح ـ بكسر الهمزةـ في الأصل مصدر أصبح الأفق، إذا صار ذا صباح.وقد سمى به الصباح، وهو ضياء الفجر فيقابل الليل وهو المراد هنا.
وفلق الإصباح استعارة لظهور الضياء في ظلمة الليل، فشبه ذلك بفلق الظلمة عن الضياء، كما استعير لذلك أيضا السلخ في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يّس: 37].فإضافة {فالق} إلى {الإصباح} حقيقية وهي لأدنى ملابسة على سبيل المجاز.وسنبينه في الآية الآتية لأن اسم الفاعل له شائبة الاسمية فيضاف إضافة حقيقية، وله شائبة فعلية فيضاف إضافة لفظية.وهو هنا لما كان دالا على وصف في الماضي ضعف شبهه بالفعل لأنه إنما يشبه المضارع في الوزن وزمن الحال أو الاستقبال.وقد يعتبر فيه المفعولية على التوسع فحذف حرف الجر، أي فالق عن الإصباح فانتصب على نزع الخافض، ولذلك سموا الصبح فلقاـ بفتحتين ـ بزنة ما بمعنى المفعول كما قالوا مسكن، أي مسكون إليه فتكون الإضافة على هذا لفظية بالتأويل وليست إضافته من إضافة الوصف إلى معموله إذ ليس الإصباح مفعول الفلق والمعنى فالق عن الإصباح فيعلم أن المفلوق هو الليل ولذلك فسروه فالق ظلمة الإصباح أي الظلمة التي يعقبها الصبح وهي ظلمة

الغبش، فإن فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة وأدخل في المنة بالنعمة، لأن الظلمة عدم والنور وجود.والإيجاد هو مظهر القدرة ولا يكون العدم ومظهرا للقدرة إلا إذا تسلط على موجود وهو الإعدام، وفلق الإصباح نعمة أيضا على الناس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم.
{وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَناً} عطف على {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} .
وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل وجر {الليل} لمناسبة الوصفين في الاسمية والإضافة.وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف. {وجعل} بصيغة فعل المضي وبنصب {الليل} .
وعبر في جانب الليل بمادة الجعل لأن الظلمة عدم فتعلق القدرة فيها هو تعلقها بإزالة ما يمنع تلك الظلمة من الأنوار العارضة للأفق.والمعنى أن الله فلق الإصباح بقدرته نعمة منه على الموجودات ولم يجعل النور مستمرا في الأفق فجعله عارضا مجزءا أوقاتا لتعود الظلمة إلى الأفق رحمة منه بالموجودات ليسكنوا بعد النصب والعمل فيستجموا راحتهم.
والسكن ـ بالتحريك ـ على زنة مرادف اسم المفعول مثل الفلق على اعتباره مفعولا بالتوسع بحذف حرف الجر وهو ما يسكن إليه، أي تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب، والسكون فيه مجاز.وتسمى الزوجة سكنا والبيت سكنا قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل: 80]، فمعنى جعل الليل سكنا أنه جعل لتحصل فيه راحة النفس من تعب العمل.
وعطف {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} على {الليل} بالنصب رعيا لمحل الليل لأنه في محل المفعول لـ {جاعل} بناء على الإضافة اللفظية.والعطف على المحل شائع في مواضع من كلام العرب مثل رفع المعطوف على اسم"إن"، ونصب المعطوف على خبر ليس المجرور بالباء.
والحسبان في الأصل مصدر حسب ـ بفتح السين ـ كالغُفران، والشُكران، والكُفران، أي جعلها حسابا، أي علامة حساب للناس يحسبون بحركاتها أوقات الليل والنهار، والشهور، والفصول، والأعوام.وهذه منة على الناس وتذكير بمظهر العلم والقدرة، ولذلك جعل للشمس حسبان كما جعل للقمر، لأن كثيرا من الأمم يحسبون شهورهم

وأعوامهم بحساب سير الشمس بحلولها في البروج وبتمام دورتها فيها.والعرب يحسبون بسير القمر في منازله.وهو الذي جاء به الإسلام، وكان العرب في الجاهلية يجعلون الكبس لتحويل السنة إلى فصول متماثلة، فموقع المنة أعم من الاعتبار الشرعي في حساب الأشهر والأعوام بالقمري، وإنما استقام ذلك للناس بجعل الله حركات الشمس والقمر على نظام واحد لا يختلف، وذلك من أعظم دلائل علم الله وقدرته، وهذا بحسب ما يظهر للناس منه ولو اطلعوا على أسرار ذلك النظام البديع لكانت العبرة به أعظم.
والإخبار عنهما بالمصدر إسناد مجازي لأنه في معنى اسم الفاعل، أي حاسبين.والحاسب هم الناس بسبب الشمس والقمر.
والإشارة بـ {ذلك} إلى الجعل المأخوذ من {جاعل} .
والتقدير: وضع الأشياء على قدر معلوم كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
والعزيز: الغالب، القاهر، والله هو العزيز حقا لأنه لا تتعاصى عن قدرته الكائنات كلها.والعليم مبالغة في العلم، لأن وضع الأشياء على النظام البديع لا يصدر إلا عن عالم عظيم العلم.
[97] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
عطف على جملة {وَجَاعَلَ اللَّيْلِ سَكَناً} [الأنعام: 96]، وهذا تذكير بوحدانية الله، وبعظيم خلقة النجوم، وبالنعمة الحاصلة من نظام سيرها إذ كانت هداية للناس في ظلمات البر والبحر يهتدون بها.وقد كان ضبط حركات النجوم ومطالعها ومغاربها من أقدم العلوم البشرية ظهر بين الكلدانيين والمصريين القدماء.وذلك النظام هو الذي أرشد العلماء إلى تدوين علم الهيئة.
والمقصود الأول من هذا الخبر الاستدلال على وحدانية الله تعالى بالإلهية، فلذلك صيغ بصيغة القصر بطريق تعريف المسند والمسند إليه، لأن كون خلق النجوم من الله وكونها مما يهتدى بها لا ينكره المخاطبون ولكنهم لم يجروا على ما يقتضيه من إفراده بالعبادة.

والنجوم جمع نجم، وهو الكوكب، أي الجسم الكروي المضيء في الأفق ليلا الذي يبدو للعين صغيرا، فليس القمر بنجم.
و {جعل} هنا بمعنى خلق، فيتعدى إلى مفعول واحد و {لكم} .متعلق بـ {جعل} ، والضمير للبشر كلهم، فلام {لكم} للعلة.
وقوله: {لِتَهْتَدُوا بِهَا} علة ثانية لـ {جعل} فاللام للعلة أيضا، وقد دلت الأولى على قصد الامتنان، فلذلك دخلت على ما يدل على الضمير الدال على الذوات، كقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]،واللام الثانية دلت على حكمة الجعل وسبب الامتنان وهو ذلك النفع العظيم.ولما كان الاهتداء من جملة أحوال المخاطبين كان موقع قوله: {لتهتدوا} قريبا من موقع بدل الاشتمال بإعادة العامل، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} في سورة المائدة[114].
والمراد بالظلمات: الظلمة الشديدة، فصيغة الجمع مستعملة في القوة.وقد تقدم أن الشائع أن يقال: ظلمات، ولا يقال: ظلمة، عند قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} في سورة البقرة[17].
وإضافة {ظلمات} إلى {الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} على معنى"في"لأن الظلمات واقعة في هذين المكانين، أي لتهتدوا بها في السير في الظلمات.ومن ينفي الإضافة على معنى"في"يجعلها إضافة على معنى اللام لأدنى ملابسة كما في"الكوكب الخرقاء"1.والإضافة لأدنى ملابسة، إما مجاز لغوي مبنى على المشابهة، فهو استعارة على ما هو ظاهر كلام "المفتاح"في مبحث البلاغة والفصاحة إذ جعل في قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44]"إضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك"أهـ.فاستعمل فيه الإضافة التي هي على معنى لام الملك فهو استعارة تبعية؛ وإما مجاز عقلي على رأي التفتزاني في موضع آخر إذ قال في "كوكب الخرقاء": "حقيقة الإضافة اللامية الاختصاص الكامل، فالإضافة لأدنى ملابسة تكون مجازا حكميا".ولعل التفتزاني يرى الاختلاف في المجاز باختلاف قرب الإضافة لأدنى ملابسة من معنى الاختصاص وبعدها منه كما يظهر الفرق بين المثالين، على أن قولهم: لأدنى ملابسة،
ـــــــ
1 في قول الشاعر الذي لم يعرف اسمه :
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة
سُهيلٌ أذاعت غزلها في القرائب

يؤذن بالمجاز العقلي لأنه إسناد الحكم أو معناه إلى ملابس لما هو له.
وجملة {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} مستأنفة للتسجيل والتبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا.واللام للتعليل متعلق بـ {فصلنا} كقوله:
ويوم عقرت للعذاري مطيتي
أي فصلنا لأجل قوم يعلمون.
وتفصيل الآيات تقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} في هذه السورة[55].وجعل التفصيل لقوم يعلمون تعريضا بمن لم ينتفعوا من هذا التفصيل بأنهم قوم لا يعلمون.
والتعريف في {الآيات} للاستغراق فيشمل آية خلق النجوم وغيرها.
والعلم في كلام العرب إدراك الأشياء على ما هي عليه، قال السموأل أو عبد الملك الحارثي:
فليس سواء عالم وجهول
وقال النابغة:
وليس جاهل شيء مثل من علما
والذين يعلمون هم الذين انتفعوا بدلائل الآيات، وهم الذين آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].
[98] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98]
هذا تذكير بخلق الإنسان وكيف نشأ هذا العدد العظيم من نفس واحدة كما هو معلوم لهم، فالذي أنشأ الناس وخلقهم هو الحقيق بعبادتهم دون غيره مما أشركوا به، والنظر في خلقة الإنسان من الاستدلال بأعظم الآيات.قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات: 21]
والقصر الحاصل من تعريف المسند إليه والمسند تعريض بالمشركين، إذ أشركوا في عبادتهم مع خالقهم غير من خلقهم على نحو ما قررته في الآية قبل هذه.
والإنشاء: الإحداث والإيجاد.والضمير المنصوب مراد به البشر كلهم.والنفس

الواحدة هي آدم عليه السلام.
وقوله: {فمستقر} الفاء للتفريع عن {أنشأكم} ، وهو تفريع المشتمل عليه المقارن على المشتمل.
وقرأه الجمهور {مستقر} بفتح القاف ـ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وروح عن يعقوب بكسر القاف.فعلى قراءة فتح القاف يكون مصدرا ميميا، و {مستودع} كذلك، ورفعهما على أنه مبتدأ حذف خبره، تقديره: لكم أو منكم، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فأنتم مستقر ومستودع.والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به، أي فتفرع عن إنشائكم استقرار واستيداع، أي لكم.
وعلى قراءة ـ كسر القاف ـ يكون المستقر اسم فاعل.والمستودع اسم مفعول من استودعه بمعنى أودعه، أي فمستقر منكم أقررناه فهو مستقر، ومستودع منكم ودعناه فهو مستودع.والاستقرار هو القرار، فالسين والتاء فيه للتأكيد مثل استجاب.يقال: استقر في المكان بمعنى قر.وتقدم عند قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} في هذه السورة[67].
والاستيداع: طلب الترك، وأصله مشتق من الودع، وهو الترك على أن يسترجع المستودع.يقال: استودعه مالا إذا جعله عنده وديعة، فالاستيداع مؤذن بوضع موقت، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل.
وقد اختلف المفسرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتفاقهم على انهما متقابلان.فعن ابن مسعود: "المستقر الكون فوق الأرض، والمستودع الكون في القبر".وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيها لهم بأن حياة الناس في الدنيا يعقبها الوضع في القبور وأن ذلك الوضع استيداع موقت إلى البعث الذي هو الحياة الأولى ردا على الذين أنكروا البعث.
وعن ابن عباس: "المستقر في الرحم والمستودع في صلب الرجل"، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضا، وقاله مجاهد والضحاك وعطاء وإبراهيم النخعي، وفسر به الزجاج.قال الفخر: "ومما يدل على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى في رحم الأم زمانا طويلا".وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصدر أعرضنا عن التطويل بها.وقال الطبري: "إن الله لم يخصص معنى دون غيره"، ولا شك أن من بني آدم مستقرا في الرحم ومستودعا في الصلب، ومنهم من هو مستقر

على ظهر الأرض أو بطنها ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقر في القبر مستودع على ظهر الأرض، فكل مستقر أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أهـ.
وقال ابن عطية: "الذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه وليس بمستقر فيه لأنه ينتقل لا محالة ثم ينتقل إلى الرحم ثم ينتقل إلى الدنيا ثم ينتقل إلى القبر ثم ينتقل إلى الحشر ثم ينتقل إلى الجنة أو النار.وهو في كل رتبة بين هذين الظرفين مستقر بالإضافة إلى التي قبلها ومستودع بالإضافة إلى التي بعدها".اهـ.
والأظهر أن لا يقيد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء، لأن المقصود التذكير بالحياة الثانية، ولأن الأظهر أن الواو ليست للتقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودعها.وإيثار التعبير بهذين المصدرين ما كان إلا لإرادة توفير هذه الجملة.
وعلى قراءة ـ كسر القاف ـوهو اسم فاعل. {ومستودع} اسم مفعول، والمعنى هو هو.
وقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} تقرير لنظيره المتقدم مقصود به التذكير والإعذار.
وعدل عن"يعلمون"إلى {يفقهون} لأن دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة تحتاج إلى تدبر، فإن المخاطبين كانوا معرضين عنها فعبر عن علمها بأنه فقه، بخلاف دلالة النجوم على حكمة الاهتداء بها فهي دلالة متكررة، وتعريضا بأن المشركين لا يعلمون ولا يفقهون، فإن العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة، والفقه هو إدراك الأشياء الدقيقة.فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين وانتفى الانتفاع به للمشركين، ولذلك قال بعد هذا: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].
[99] {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ

وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
القول في صيغة القصر من قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ} الخ كالقول في نظيره السابق.و"مِن"في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ابتدائية لأن ماء المطر يتكون في طبقات الجو العليا الزمهريرية عند تصاعد البخار الأرضي إليها فيصير البخار كثيفا وهو السحاب ثم يستحيل ماء.فالسماء اسم لأعلى طبقات الجو حيث تتكون الأمطار.وتقدم في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} في سورة البقرة.وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله: {فأخرجنا} على طريقة الالتفات.
والباء للسببية جعل الله الماء سببا لخروج النبات، والضمير المجرور بالباء عائد إلى الماء.
والنبات اسم لما ينبت، وهو اسم مصدر نبت، سمي به النابت على طريقة المجاز الذي صار حقيقة شائعة فصار النبات اسما مشتركا مع المصدر.
و {شيء} مراد به صنف من النبات بقرينة إضافة {نبات} إليه.والمعنى: فأخرجنا بالماء ما ينبت من أصناف النبت.فإن النبت جنس له أنواع كثيرة؛ فمنه زرع وهو ما له ساق لينة كالقصب، ومنه شجر وهو ما له ساق غليظة كالنخل، والعنب؛ ومنه نجم وأب وهو ما ينبت لاصقا بالتراب، وهذا التعميم يشير إلى أنها مختلفة الصفات والثمرات والطبائع والخصوصيات والمذاق، وهي كلها نابتة من ماء السماء الذي هو واحد، وذلك آية على عظم القدرة، قال تعالى: {تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]وهو تنبيه للناس ليعتبروا بدقائق ما أودعه الله فيها من مختلف القوى التي سببت اختلاف أحوالها.
والفاء في قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} فاء التفريع.
وقوله: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} تفصيل لمضمون جملة {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} ، فالفاء للتفصيل، و"من"ابتدائية أة تبعيضية، والضمير المجرور بها عائد إلى النبات، أي فكان من النبت خضر ونخل وجنات وشجر، وهذا تقسيم الجنس إلى أنواعه.
والخضر: الشيء الذي لونه أخضر، يقال: أخضر وخضر كما يقال: أعور وعور، ويطلق الخضر اسما للنبت الرطب الذي ليس بشجر كالقصيل والقضب.وفي الحديث: "وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت

خاصرتاها"الحديث.وهذا هو المراد هنا لقوله في وصفه {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً} ، فإن الحب يخرج من النبت الرطب.
وجملة {نُخْرِجُ مِنْهُ} صفة لقوله: {خضرا} لأنه صار اسما، و"من"اتصالية أو ابتدائية، والضمير المجرور بها عائد إلى {خضرا} .
والحب: هو ثمر النبات، كالبر والشعير والزراريع كلها.
والمتراكب: الملتصق بعضه على بعض في السنبلة، مثل القمح وغيره، والتفاعل للمبالغة في ركوب بعضه بعضا.
وجملة {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} عطف على {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} .ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية، وقوله: {مِنَ النَّخْلِ} خبر مقدم و {قنوان} مبتدأ مؤخر.
والمقصود بالإخبار هنا التعجيب من خروج القنوان من الطلع وما فيه من بهجة، وبهذا يظهر وجه تغيير أسلوب هذه الجملة عن أساليب ما قبلها وما بعدها إذ لم تعطف أجزاؤها عطف المفردات، على أن موقع الجملة بين أخواتها يفيد ما أفادته أخواتها من العبرة والمنة.
والتعريف في {النخل} تعريف العهد الجنسي، وإنما جيء بالتعريف فيه للإشارة إلى أنه الجنس المألوف المعهود للعرب، فإن النخل شجرهم وثمره قوتهم وحوائطه منبسط نفوسهم، ولك أن تجعله حالا من {النخل} اعتدادا بالتعريف اللفظي كقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً} ، ويجوز أن يكون {مِنْ طَلْعِهَا} بدل بعض من {النخل} بإعادة حرف الجر الداخل على المبدل منه.
و {قنوان} بكسر القاف ـ جمع قنو ـ بكسر القاف ـأيضا على المشهور فيه عند العرب غير لغة قيس وأهل الحجاز فإنهم يضمون القاف.فقنوان بالكسر جمع تكسير.وهذه الصيغة نادرة، غير جمع فُعَل"بضم ففتح"وفُعْل"بضم فسكون"وفَعْل"بفتح فسكون"إذا كانا واويي العين وفعال.
والقنو: عرجون التمر، كالعنقود للعنب، ويسمى العذق ـ بكسر العين ـ ويسمى الكباسة ـ بكسر الكاف ـ.

والطلع: وعاء عرجون التمر الذي يبدو في أول خروجه يكون كشكل الاترجة العظيمة مغلقا على العرجون، ثم ينفتح كصورة نعلين فيخرج منه العنقود مجتمعا، ويسمى حينئذ الإغريض، ثم يصير قنوا.
و {دانية} قريبة.والمراد قريبة التناول كقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23].والقنوان الدانية بعض قنوان النخل خصت بالذكر هنا إدماجا للمنة في خلال التذكير بإتقان الصنعة فإن المنة بالقنوان الدانية أتم، والدانية هي التي تكون نخلتها قصيرة لم تتجاوز طول قامة المتناول، ولا حاجة لذكر البعيدة التناول لأن الذكرى قد حصلت بالدانية وزادت بالمنة التامة.
و {جنات} بالنصب عطف على {خضرا} .وما نسب إلى أبي بكر عن عاصم من رفع {جنات} لم يصح.
وقوله: {مِنْ أَعْنَابٍ} تمييز مجرور بـ {من} البيانية لأن الجنات للأعناب بمنزلة المقادير كما يقال جريب تمرا، وبهذا الاعتبار عدي فعل الإخراج إلى الجنات دون الاعناب، فلم يقل وأعنابا في جنات.والأعناب جمع عنب وهو جمع عنبة، وهو في الأصل ثمر شجر الكرم.ويطلق على شجرة الكرم عنب على تقدير مضاف، أي شجرة عنب، وشاع ذلك فتنوسي المضاف.قال الراغب: "العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه"اهـ.ولا يعرف إطلاق المفرد على شجرة الكرم، فلم أر في كلامهم إطلاق العنبة بالإفراد على شجرة الكرم ولكن يطلق بالجمع، يقال: عنب، مراد به الكرم، كما في قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} [عبس: 28,27]، ويقال: أعناب كذلك، كما هنا، وظاهر كلام الراغب أنه يقال: عنبة لشجرة الكرم، فإنه قال: "العنب يقال لثمرة الكرم وللكرم نفسه الواحدة عنبة".
{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} ـبالنصب ـ عطف على {جنات} والتعريف فيهما الجنس كالتعريف في قوله: {وَمِنَ النَّخْلِ} .والمراد بالزيتون والرمان شجرهما.وهما في الأصل اسمان للثمرتين ثم أطلقا على شجرتيهما كما تقدم في الأعناب.وهاتان الشجرتان وإن لم تكونا مثل النخل في الأهمية عند العرب إلا أنهما لعزة وجودهما في بلاد العرب ولتنافس العرب في التفكه بثمرهما والإعجاب باقتنائهما ذكرا في مقام التذكير بعجيب صنع الله تعالى ومنته.وكانت شجرة الزيتون موجودة بالشام وفي سينا، وشجرة الرمان موجودة بالطائف.
وقوله: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} حال ومعطوف عليه، والواو للتقسيم بقرينة أن الشيء

الواحد لا يكون مشتبها وغير متشابه، أي بعضه مشتبه وبعضه غير متشابه.وهما حالان من"الزيتون والرمان"معا، وإنما أفرد ولم يجمع اعتبارا بإفراد اللفظ.والتشابه والاشتباه مترادفان كالتساوي والاستواء، وهما مشتقان من الشبه.والجمع بينهما في الآية للتفنن كراهية إعادة اللفظ، ولأن اسم الفاعل من التشابه أسعد بالوقف لما فيه من مد الصوت بخلاف {مشتبه} .وهذا من بديع الفصاحة.
والتشابه: التماثل في حالة مع الاختلاف في غيرها من الأحوال، أي بعض شجره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا، أو بعض ثمره يشبه بعضا وبعضه لا يشبه بعضا، فالتشابه مما تقارب لونه أو طعمه أو شكله مما يتطلبه الناس من أحواله على اختلاف أميالهم، وعد التشابه ما اختلف بعضه عن البعض الآخر فيما يتطلبه الناس من الصفات على اختلاف شهواتهم، فمن أعواد الشجر غليظ ودقيق، ومن ألوان ورقه قاتم وداكن، ومن ألوان ثمره مختلف ومن طعمه كذلك، وهذا كقوله تعالى: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4].والمقصود من التقييد بهذه الحال التنبيه على أنها مخلوقة بالقصد والاختيار لا بالصدفة.
ويجوز أن تجعل هذه الحال من جميع ما تقدم من قوله: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً} ، فإن جميع ذلك مشتبه وغير متشابه.وجعله الزمخشري حالا من {الزيتون} لأنه المعطوف عليه وقدر لـ {الرمان} حالا أخرى تدل عليها الأولى، بتقدير: والرمان كذلك.وإنما دعاه إلى ذلك أنه لا يرى تعدد صاحب الحال الواحدة ولا التنازع في الحال ونظره بإفراد الخبر بعد مبتدأ ومعطوف في قول الازرق بن طرفة الباهلي، جوابا لبعض بني قشير وقد اختصما في بئر فقال القشيري: "أنت لص ابن لص":
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطوي رماني
ولا ضير في هذا الإعراب من جهة المعنى لأن التنبيه إلى ما في بعض النبات من دلائل الاختيار يوجه العقول إلى ما في مماثله من أمثالها.
وجملة {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} بيان للجمل التي قبلها المقصود منها الوصول إلى معرفة صنع الله تعالى وقدرته، والضمير المضاف إليه في {ثمره} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {مشتبها} من تخصيص أو تعميم.
والمأمور به هو نظر الاستبصار والاعتبار بأطواره.

والثمر: الجنى الذي يخرجه الشجر.وهوـ بفتح الثاء والميم ـ في قراءة الأكثر، جمع ثَمَرة بفتح الثاء والميم وقرأه حمزة والكسائي وخلف ـبضم الثاء والميم ـوهو جمع تكسير، كما جمعت: خشبة على خشب، وناقة على نوق.
واليَنْع: الطِّيبُ والنضج.يقال: ينع بفتح النون يينع بفتح النون وكسرها ويقال: أَيْنَعَ يُونِع يَنْعَا بفتح التحتية بعدها نون ساكنة.
و {إذا} ظرف لحدوث الفعل، فهي بمعنى الوقت الذي يبتدئ فيه مضمون الجملة المضاف إليها، أي حين ابتداء أثماره.وقوله: {وينعه} لم يقيد بإذا أينع لأنه إذا ينع فقد تم تطوره وحان قطافه فلم تبق للنظر فيه عبرة لأنه قد انتهت أطواره.
وجملة {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ} علة للأمر بالنظر.وموقع"إن"فيه موقع لام التعليل، كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
والإشارة بـ {ذلكم} إلى المذكور كله من قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ـإلى قوله ـ وَيَنْعِهِ} فتوحيد اسم الإشارة بتأويل المذكور، كما تقدم في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة[68].
{ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وصف للآيات.واللام للتعليل، والمعلل هو ما في مدلول الآيات من مضمن معنى الدلالة والنفع.وقد صرح في هذا بأن الآيات إنما تنفع المؤمنين تصريحا بأنهم المقصود في الآيتين الأخريين بقوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97]وقوله: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 98]، وإتماما للتعريض بأن غير العالمين وغير الفاقهين هم غير المؤمنين يعني المشركين.
[100] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ}
عطف على الجمل قبله عطف القصة على القصة، فالضمير المرفوع في {جعلوا} عائد إلى {قومك} من قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66].
وهذا انتقال إلى ذكر شرك آخر من شرك العرب وهو جعلهم الجن شركاء لله في عبادتهم كما جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك.وقد كان دين العرب في الجاهلية خليطا

من عبادة الأصنام ومن الصابئية عبادة الكواكب وعبادة الشياطين، ومجوسية الفرس، وأشياء من اليهودية، والنصرانية، فإن العرب لجهلهم حينئذ كانوا يتلقون من الأمم المجاورة لهم والتي يرحلون إليها عقائد شتى متقاربا بعضها ومتباعدا بعض، فيأخذونه بدون تأمل ولا تمحيص لفقد العلم فيهم، فإن العلم الصحيح هو الذائد عن العقول من أن تعشش فيها الأوهام والمعتقدات الباطلة، فالعرب كان أصل دينهم في الجاهلية عبادة الأصنام وسرت إليهم معها عقائد من اعتقاد سلطة الجن والشياطين ونحو ذلك.
فكان العرب يثبتون الجن وينسبون إليهم تصرفات، فلأجل ذلك كانوا يتقون الجن وينتسبون إليها ويتخذون لها المعاذات والرقي ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسمية الله على بعض الذبائح.وكانوا يعتقدون أن الكاهن تأتيه الجن بالخبر من السماء، وأن الشاعر له شيطان يوحي إليه الشعر، ثم إذا أخذوا في تعليل هذه التصرفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهية الله تعالى تعللوا لذلك بأن للجن صلة بالله تعالى فلذلك قالوا: الملائكة بنات الله من أمهات سروات الجن، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158] وقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 149ـ152].ومن أجل ذلك جعل كثير من قبائل العرب شيئا من عبادتهم للملائكة وللجن.قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41,40].
والذين زعموا أن الملائكة بنات الله هم قريش وجهينة وبنو سلمة وخزاعة وبنو مليح.وكان بعض العرب مجوسا عبدوا الشيطان وزعموا أنه إله الشر وأن الله إله الخير، وجعلوا الملائكة جند الله والجن جند الشيطان.وزعموا أن الله خلق الشيطان من نفسه ثم فوض إليه تدبير الشر فصار إله الشر.وهم قد انتزعوا ذلك من الديانة المزدكية القائلة بإلهين إله للخير وهو يزدان.وإله للشر وهو أهرمن وهو الشيطان.
فقوله: {الجن} مفعول أول {جعلوا} و {شركاء} مفعوله الثاني، لأن الجن المقصود من السياق لا مطلق الشركاء، لأن جعل الشركاء لله قد تقرر من قبل.و {لله} متعلق بـ {شركاء} .وقدم المفعول الثاني على الأول لأنه محل تعجيب وإنكار فصار لذلك أهم وذكره أسبق.
وتقديم المجرور على المفعول في قوله: {لِلَّهِ شُرَكَاءَ} للاهتمام والتعجيب من خطل

عقولهم إذ يجعلون لله شركاء من مخلوقاته لأن المشركين يعترفون بأن الله هو خالق الجن، فهذا التقديم جرى على خلاف مقتضى الظاهر لأجل ما اقتضى خلافه.وكلام"الكشاف"يجعل تقديم المجرور في الآية للاهتمام باعتقادهم الشريك لله اهتماما في مقامه وهو الاستفظاع والإنكار التوبيخي.وتبعه في "المفتاح"إذ قال في تقديم بعض المعمولات على بعض: "للعناية بتقديمه لكونه نصب عينك كما تجدك إذا قال لك أحد: عرفت شركاء لله، يقف شعرك وتقول: لله شركاء.وعليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} "أهـ.فيكون تقديم المجرور جاريا على مقتضى الظاهر.
والجن ـ بكسر الجيم ـاسم لموجودات من المجردات التي لا أجسام لها ذات طبع ناري، ولها آثار خاصة في بعض تصرفات تؤثر في بعض الموجودات ما لا تؤثره القوى العظيمة.وهي من جنس الشياطين لا يدرى أمد وجود أفرادها ولا كيفية بقاء نوعها.وقد أثبتها القرآن على الإجمال، وكان للعرب أحاديث في تخيلها.فهم يتخيلونها قادرة على التشكل بأشكال الموجودات كلها ويزعمون أنها إذا مست الإنسان آذته وقتلته.وأنها تختطف بعض الناس في الفيافي، وأن لها زجلا وأصواتا في الفيافي، ويزعمون أن الصدى هو من الجن، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 71]، وأنها قد تقول الشعر، وأنها تظهر للكهان والشعراء.
وجملة {وخلقهم} في موضع الحال والواو للحال.والضمير المنصوب في {خلقهم} يحتمل أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {جعلوا} ، أي وخلق المشركين، وموقع هذه الحال التعجيب من أن يجعلوا لله شركاء وهو خالقهم، من قبيل {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]،وعلى هذا تكون ضمائر الجمع متناسقة والتعجيب على هذا الوجهة من جعلهم ذلك مع أن الله خالقهم في نفس الأمر فكيف لا ينظرون في أن مقتضى الخلق أن يفرد بالإلهية إذ لا وجه لدعواها لمن لا يخلق كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]فالتعجيب على هذا من جهلهم وسوء نظرهم.ويجوز أن يكون ضمير {وخلقهم} عائدا إلى الجن لصحة ذلك الضمير لهم باعتبار أن لهم عقلا، وموقع الحال التعجيب من ضلال المشركين أن يشركوا الله في العبادة بعض مخلوقاته مع علمهم بأنهم مخلوقون لله تعالى، فإن المشركين قالوا: "إن الله خالق الجن"،كما تقدم، وأنه لا خالق إلا هو، فالتعجيب من مخالفتهم لمقتضى علمهم.فالتقدير: وخلقهم كما في علمهم، أي وخلقهم بلا نزاع.وهذا الوجه أظهر.

وجملة {وخرقوا} عطف على جملة {وجعلوا} والضمير عائد على المشركين.
وقرأ الجمهور {وخَرَقُوا} بتخفيف الراءـ، وقرأه نافع، وأبو جعفر ـ بتشديد الراءـ.
والخرق: أصله القطع والشق.وقال الراغب: "هو القطع والشق على سبيل الفساد من غير تدبر"ومنه قوله تعالى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71].وهو ضد الخلق، فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق، والخرق بغير تقدير.ولم يقيده غيره من أئمة اللغة.وأيا ما كان فقد استعمل الخرق مجازا في الكذب كما استعمل فيه افترى واختلق من الفري والخلق.وفي"الكشاف": "سئل الحسن عن قوله تعالى: {وخرقوا} فقال: "كلمة عربية كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول بعضهم: "قد خرقها والله".وقراءة نافع تفيد المبالغة في الفعل لأن التفعيل يدل على قوة حصول الفعل.فمعنى {خرقوا} كذبوا على الله على سبيل الخرق، أي نسبوا إليه بنين وبنات كذبا، فأما نسبتهم البنين إلى الله فقد حكاها عنهم القرآن هنا.والمراد أن المشركين نسبوا إليه بنين وبنات.وليس المراد اليهود في قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30]، ولا النصارى في قولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِْ} [توبة: 30].كما فسر به جميع المفسرين، لان ذلك لا يناسب السياق ويشوش عود الضمائر ويخرم نظم الكلام.فالوجه أن المراد أن بعض المشركين نسبوا لله البنين وهم الذين تلقنوا شيئا من المجوسية لأنهم لما جعلوا الشيطان متولدا عن الله تعالى إذ قالوا إن الله لما خلق العالم تفكر في مملكته واستعظمها فحصل له عجب تولد عنه الشيطان، وربما قالوا أيضا: إن الله شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان، فقد لزمهم أن الشيطان متولد عن الله تعالى عما يقولون، فلزمهم نسبة الابن إلى الله تعالى.
ولعل بعضهم كان يقول بأن الجن أبناء الله والملائكة بنات الله، أو أن في الملائكة ذكورا وإناثا، ولقد ينجر لهم هذا الاعتقاد من اليهود فإنهم جعلوا الملائكة أبناء الله.فقد جاء في أول الإصحاح السادس من سفر التكوين: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا وإذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم".وأما نسبتهم البنات إلى الله فهي مشهورة في العرب إذ جعلوا الملائكة إناثا، وقالوا: هن بنات الله.
ـــــــ
1 في المطبوعة : "عيسى ابن الله"وهوخطأ,والمثبت هو الموافق لرسم المصحف .

وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق بـ {خرقوا} ، أي اختلقوا اختلاقا عن جهل وضلالة، لأنه اختلاق لا يلتئم مع العقل والعلم فقد رموا بقولهم عن عمى وجهالة.فالمراد بالعلم هنا العلم بمعناه الصحيح، وهو حكم الذهن المطابق للواقع عن ضرورة أو برهان.
والباء للملابسة، أي ملابسا تخريقهم غير العلم فهو متلبس بالجهل بدءا وغاية، فهم قد اختلقوا بلا داع ولا دليل ولم يجدوا لما اختلقوه ترويجا، وقد لزمهم به لازم الخطل وفساد القول وعدم التئامه، فهذا موقع باء الملابسة في الآية الذي لا يفيد مفاده غيره.
وجملة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} مستأنفة تنزيها عن جميع ما حكي عنهم.فـ {سبحان} مصدر منصوب على أنه بدل من فعله.وأصل الكلام أسبح الله سبحانا.فلما عوض عن فعله صار"سبحان الله"بإضافته إلى مفعوله الأصلي، وقد تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} في سورة البقرة[32].
ومعنى {تعالى} ارتفع، وهو تفاعل من العلو.والتفاعل فيه للمبالغة في الاتصاف.والعلو هنا مجاز، أي كونه لا ينقصه ما وصفوه به، أي لا يوصف بذلك لان الاتصاف بمثل ذلك نقص وهو لا يلحقه النقص فشبه التحاشي عن النقائص بالارتفاع، لان الشيء المرتفع لا تلتصق به الأوساخ التي شأنها أن تكون مطروحة على الأرض، فكما شبه النقص بالسفالة شبه الكمال بالعلو، فمعنى"تعالى عن ذلك"أنه لا يتطرق إليه ذلك.
وقوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} متعلق بـ {تعالى} ، فـ"عن"للمجاوزة.وقد دخلت على اسم الموصول، أي عن الذي يصفونه.
والوصف: الخبر عن أحوال الشيء وأوصافه وما يتميز به، فهو إخبار مبين مفصل للأحوال حتى كأن المخبر يصف الشيء وينعته.
واختير في الآية فعل {يصفون} لأن ما نسبوه إلى الله يرجع إلى توصيفه بالشركاء والأبناء، أي تباعد عن الاتصاف به.وأما كونهم وصفوه به فذلك أمر واقع.
[101] {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى، وهي تفيد مع ذلك

تقوية التنزيه في قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]فتتنزل منزلة التعليل لمضمون ذلك التنزيه بمضمونها أيضا، وبهذا الوجه رجح فصلها على عطفها فإن ما يصفونه هو قولهم: إن له ولدا وبنات، لأن ذلك التنزيه يتضمن نفي الشيء المنزه عنه وإبطاله، فعلل الإبطال بأنه خالق أعظم المخلوقات دلالة على القدرة فإذا كنتم تدعون بنوة الجن والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجن ولا الملائكة فلماذا لم تدعوا البنوة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها.فهذا الإبطال بمنزلة النقض في علم الجدل والمناظرة.
وقوله: {بديع} خبر لمبتدأ ملتزم الحذف في مثله، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عندما يتقدم الحديث عن شيء ثم يعقب بخبر عنه مفرد، كما تقدم في مواضع.وتقدم الكلام على {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عند قوله تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة البقرة[117,116].
والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبداع السماوات والأرض لأن خلق المحل يقتضي خلق الحال فيه، فالمشركون يقولون بأن الملائكة في السماء وأن الجن في الأرض والفيافي، فيلزمهم حدوث الملائكة والجن وإلا لوجد الحال قبل وجود المحل، وإذا ثبت الحدود ثبت انتفاء البنوة لله تعالى، لأن ابن الإله لا يكون إلا إلها فيلزم قدمه، كيف وقد ثبت حدوثه، ولذلك عقب قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة: 116]بقوله: {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} في سورة البقرة[116]، وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} في أول هذه السورة[1].
وجملة {أَنَّى يَكُونُ} تتنزل منزلة التعليل لمضمون التنزيه من الإبطال، وإنما لم تعطف على التي قبلها لاختلاف طريق الإبطال لأن الجملة الأولى أبطلت دعواهم من جهة فساد الشبهة فكانت بمنزلة النقض في المناظرة.وهذه الجملة أبطلت الدعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنها من جهة خطأ الدليل، لأن قولهم بأن الملائكة بنات الله والجن أبناء الله يتضمن دليلا محذوفا على البنوة وهو أنهم مخلوقات شريفة، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدعوى وهو انتفاء الزوجة التي هي أصل الولادة، فهذا الإبطال الثاني بمنزلة المعارضة في المناظرة.و {أنى} بمعنى من أين وبمعنى كيف.

والواو في {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} واو الحال لأن هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال.
والصاحبة: الزوجة لأنها تصاحب الزوج في معظم أحواله.وقد جعل انتفاء الزوجة مسلما لأنهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولد، وهذا مبني على المحاجة العرفية بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة.
وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عطف على جملة {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} باعتبار ظاهرها وهو التوصيف بصفات العظمة والقدرة، فبعد أن أخبر بأنه تعالى مبدع السماوات والأرض أخبر أنه خالق كل شيء، أي كل موجود فيشمل ذوات السماوات والأرض، وشمل ما فيهما، والملائكة من جملة ما تحويه السماوات، والجن من جملة ما تحويه الأرض عندهم، فهو خالق هذين الجنسين، والخالق لا يكون أبا كما علمت.ففي هذه الجملة إبطال الولد أيضا، وهذا إبطال ثالث بطريق الكلية بعد أن أبطل إبطالا جزئيا، والمعنى أن الموجودات كلها متساوية في وصف المخلوقية، ولو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين.
وجملة {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لإتمام تعليم المخاطبين بعض صفات الكمال الثابتة لله تعالى، فهي جملة معطوفة على جملة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} باعتبار ما فيها من التوصيف لا باعتبار الرد.ولكون هذه الجملة الأخيرة بمنزلة التذييل عدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ} دون أن يقول "به"لأن التذييلات يقصد فيها أن تكون مستقلة الدلالة بنفسها لأنها تشبه الأمثال في كونها كلاما جامعا لمعان كثيرة.
[102] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}
وقوع اسم الإشارة بعد إجراء الصفات والأخبار المتقدمة، للتنبيه على أن المشار إليه حقيق بالأخبار والأوصاف التي ترد بعد اسم الإشارة، كما تقدم عند قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95]قبل هذا، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
والمشار إليه هو الموصوف بالصفات المضمنه بالأخبار المتقدمة، ولذلك استغني عن اتباع اسم الإشارة ببيان أو بدل، والمعنى: ذلكم المبدع للسماوات والأرض والخالق

كل شيء والعليم بكل شيء هو الله، أي هو الذي تعلمونه.وقوله: {ربكم} صفة لاسم الجلالة.وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} حال من {ربكم} أو صفة.وقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} صفة لـ {ربكم} أو لاسم الجلالة، وإنما لم نجعله خبرا لأن الإخبار قد تقدم بنظائره في قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} .
وجملة {فاعبدوه} مفرعة على قوله: {رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وقد جعل الأمر بعبادته مفرعا على وصفه بالربوبية والوحدانية لأن الربوبية مقتضية استحقاق العبادة، والانفراد بالربوبية يقتضي تخصيصه بالعبادة، وقد فهم هذا التخصيص من التفريع.
ووجه أمرهم بعبادته أن المشركين كانوا معرضين عن عبادة الله تعالى بحيث لا يتوجهون بأعمال البر في اعتقادهم إلا إلى الأصنام فهم يزورونها ويقربون إليها القرابين وينذرون لها النذور ويستعينون بها ويستنجدون بنصرتها، وما كانوا يذكرون الله إلا في موسم الحج، على أنهم قد خلطوه بالتقرب إلى الأصنام إذ جعلوا فوق الكعبة"هُبَل"، وجعلوا فوق الصفا والمروة"أسافا ونائلة".وكان كثير منهم يهل"لمناة"في منتهى الحج، فكانوا معرضين عن عبادة الله تعالى، فلذلك أمروا بها صريحا، وأمروا بالاقتصار عليها بطريق الإيماء بالتفريع.
وجملة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يجوز أن تكون معطوفة على الصفات المتقدمة فتكون جملة {فاعبدوه} معترضة، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {فاعبدوه} بناء على جواز عطف الخبر على الإنشاء والعكس"وهو الحق"، على وجه تكميل التعليل للأمر بعبادته دون غيره، بأنه متكفل بالأشياء كلها من الخلق والرزق والإنعام وكل ما يطلب المرء حفظه له، فالوجه عبادته ولا وجه لعبادة غيره، فإن اسم الوكيل جامع لمعنى الحفظ والرقابة، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173].
[103] {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
جملة ابتدائية لإفادة عظمته تعالى وسعة علمه، فلعظمته جل عن أن يحيط به شيء من أبصار المخلوقين، وذلك تعريض بانتفاء الإلهية عن الأصنام التي هي أجسام محدودة محصورة متحيزة، فكونها مدركة بالأبصار من سمات المحدثات لا يليق بالإلهية ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار، وكذلك الكواكب التي عبدها بعض العرب، وأما الجن

والملائكة وقد عبدوهما فإنهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكل الناس ولا في كل الأوقات إلا أن المشركين يزعمون أن الجن تبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها.قال شمر بن الحارث الضبي:
أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
ويتوهمون أن الملائكة يظهرون لبعض الناس، يتلقون ذلك عن اليهود.
والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب.ويطلق مجازا على شعور الحاسة بالمحسوس أو العقل بالمعقول يقال: أدرك بصري وأدرك عقلي تشبيها لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيه المعقول بالمحسوس، ويقال: أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله، ولا يقال: أدرك فلان بدون تقييد، واصطلح المتأخرون من المتكلمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكا، وجعلوا الإدراك جنسا في تعريف التصور والتصديق، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدراكة.
وأما قوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} فيجوز أن يكون إسناد الإدراك إلى اسم الله مشاكلة لما قبله من قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} .ويجوز أن يكون الإدراك فيه مستعارا للتصرف لان الإدراك معناه النوال.
والأبصار جمع بصر، وهو اسم للقوة التي بها النظر المنتشرة في إنسان العين الذي في وسط الحدقة وبه إدراك المبصرات.والمعنى: لا تحيط به أبصار المبصرين لان المدرك في الحقيقة هو المبصر لا الجارحة، وإنما الجارحة وسيلة للإدراك لأنها توصل الصورة إلى الحس المشترك في الدماغ.والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصية الإله الحق عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم، فإن الله لا يرى وأصنامهم ترى، وتلك الخصوصية مناسبة لعظمته تعالى، فإن عدم إحاطة الأبصار بالشيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار، فعموم النكرة في سياق النفي يدل على انتفاء أن يدركه شيء من أبصار المبصرين في الدنيا كما هو السياق.
ولا دلالة في هذه الآية على انتفاء أن يكون الله يرى في الآخرة، كما تمسك به نفاة الرؤية، وهم المعتزلة لان للأمور الآخرة أحوالا لا تجري على متعارفنا، وأحرى أن لا دلالة فيها على جواز رؤيته تعالى في الآخرة.ومن حاول ذلك فقد تكلف ما لا يتم كما صنع الفخر في"تفسيره".

والخلاف في رؤية الله في الآخرة شائع بين طوائف المتكلمين؛ فأثبته جمهور أهل السنة لكثرة ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة مع اتفاقهم على أنها رؤية تخالف الرؤية المتعارفة.وعن مالك ـرحمه الله ـ "لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير الكفار بالحجاب في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]".وعنه أيضا: "لم ير الله في الدنيا لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي".وأما المعتزلة فقد أحالوا رؤية الله في الآخرة لاستلزامها الانحياز في الجهة.وقد اتفقنا جميعا على التنزيه عن المقابلة والجهة، كما اتفقنا على جواز الانكشاف العلمي التام للمؤمنين في الآخرة لحقيقة الحق تعالى، وعلى امتناع ارتسام صورة المرئي في العين أو اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي تعالى لان أحوال الأبصار في الآخرة غير الأحوال المتعارفة في الدنيا.وقد تكلم أصحابنا بأدلة الجواز وبأدلة الوقوع، وهذا مما يجب الإيمان به مجملا على التحقيق.وأدلة المعتزلة وأجوبتنا عليها مذكورة في كتب الكلام وليست من غرض التفسير ومرجعها جميعا إلى إعمال الظاهر أو تأويله.
ثم اختلف أئمتنا هل حصلت رؤية الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فنفي ذلك جمع من الصحابة منهم عائشة وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهم وتمسكوا بعموم هذه الآية كما ورد في حديث البخاري عن عكرمة عن عائشة.وأثبتها الجمهور، ونقل عن أبي بن كعب وابن عباس ـرضي الله عنهماـ، وعليه يكون العموم مخصوصا.وقد تعرض لها عياض في"الشفاء".وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بجواب اختلف الرواة في لفظه، فحجب الله بذلك الاختلاف حقيقة الأمر إتماما لمراده ولطفا بعباده.
وقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} معطوف على جملة {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فإسناد الإدراك إلى ضمير اسمه تعالى إما لان فعل {يدرك} استعير لمعنى ينال، أي لا تخرج عن تصرفه كما يقال: لحقه فأدركه، فالمعنى يقدر على الابصار، أي على المبصرين، وإما لاستعارة فعل {يدرك} لمعنى يعلم يعلم لمشاكلة قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أي لا تعلمه الأبصار.وذلك كناية عن العلم بالخفيات لأن الأبصار هي العدسات الدقيقة التي هي واسطة إحساس الرؤية أو هي نفس الإحساس وهو أخفى.وجمعه باعتبار المدركين.
وفي قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} محسن الطباق.
وجملة {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} معطوفة على جملة {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فهي صفة

أخرى.أو هي تذييل للاحتراس دفعا لتوهم أن من لا تدركه الأبصار لا يعلم أحوال من لا يدركونه.
واللطيف: وصف مشتق من اللطف أو من اللطافة.يقال: لطف بفتح الطاء بمعنى رفق، وأكرم، واحتفى.ويتعدى بالباء وباللام باعتبار ملاحظة معنى رفق أو معنى أحسن.ولذلك سميت الطرفة والتحفة التي يكرم بها المرء لطفا"بالتحريك"، وجمعها ألطاف.فالوصف من هذا لاطف ولطيف؛ فيكون اللطيف اسم فاعل بمعنى المبالغة يدل على حذف فعل من فاعله، ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100].ويقال لَطُف ـ بضم الطاء ـأي دق وخف ضد ثقل وكثف.
واللطيف: صفة مشبهة أو اسم فاعل.فإن اعتبرت وصفا جاريا على لطف بضم الطاء فهي صفة مشبهة تدل على صفة من صفات ذات الله تعالى، وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته، فيكون اختيارها للتعبير عن هذا الوصف في جانب الله تعالى هو منتهى الصراحة والرشاقة في الكلمة لأنها أقرب مادة في اللغة العربية تقرب معنى وصفه تعالى بحسب ما وضعت له اللغة من متعارف الناس، فيقرب أن تكون من المتشابه، وعليه فتكون أعم من مدلول جملة {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} فتتنزل من الجملة التي قبلها منزلة التذييل أو منزلة الاستدلال على الجزئية بالكلية فيزيد الوصف قبله تمكنا.وعلى هذا المعنى حملها الزمخشري في"الكشاف"لأنه أنسب بهذا المقام وهو من معاني الكلمة المشهورة في كلام العرب، واستحسنه الفخر وجوزه الراغب والبيضاوي، وهو الذي ينبغي التفسير به في كل موضع اقترن فيه وصف اللطيف بوصف الخبير كالذي هنا والذي في سورة الملك.
وإن اعتبر اللطيف اسم فاعل من لطَف ـ بفتح الطاء ـ فهو من أمثلة المبالغة يدل على وصفه تعالى بالرفق والإحسان إلى مخلوقاته وإتقان صنعه في ذلك وكثرة فعله ذلك، فيدل على صفة من صفات الأفعال.وعلى هذا المعنى حمله سائر المفسرين والمبينين لمعنى اسمه اللطيف في عداد الأسماء الحسنى.وهذا المعنى هو المناسب في كل موضع جاء فيه وصفه تعالى به مفردا معدى باللام أو بالباء نحو {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]، وقوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19].وبه فسر الزمحشري قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} فلله دره، فإذا حمل على هذا المحمل هنا كان وصفا مستقلا عما قبله لزيادة تقرير استحقاقه تعالى للإفراد بالعبادة دون غيره.

و"خبير"صفة مشبهة من خبر ـ بضم الباء ـ في الماضي، خبرا بضم الخاء وسكون الباء بمعنى علم وعرف، فالخبير الموصوف بالعلم بالأمور التي شأنها أن يخبر عنها علما موافقا للواقع.
ووقوع الخبير بعد اللطيف على المحمل الأول وقوع صفة أخرى هي أعم من مضمون {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ، فيكمل التذييل بذلك ويكون التذييل مشتملا على محسن النشر بعد اللف؛ وعلى المحمل الثاني موقعه موقع الاحتراس لمعنى اللطيف، أي هو الرفيق المحسن الخبير بمواقع الرفق والإحسان وبمستحقيه.
[104] {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} هذا انتقال من محاجة المشركين، وإثبات الوحدانية لله بالربوبية من قوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ـإلى قوله ـ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 95ـ103].فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام مقول لفعل أمر بالقول في أول الجملة، حذف على الشائع من حذف القول للقرينة في قوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنه كالتوقيف والشرح والفذلكة للكلام السابق فيقدر: قل يا محمد قد جاءكم بصائر.
وبصائر جمع بصيرة؛ والبصيرة: العقل الذي تظهر به المعاني والحقائق، كما أن البصر إدراك العين الذي تتجلى به الاجسام، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها.وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم، شبه بمجيء شيء كان غائبا، تنويها بشأن ما حصل عندهم بأنه كالشيء الغائب المتوقع مجيئه كقوله تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الاسراء: 81].وخلو فعل"جاء"عن علامة التأنيث مع أن فاعله جمع مؤنث لأن الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقا أو جمع مؤنث يجوز اقترانه بتاء التأنيث وخلوه عنها.
و"من"ابتدائية تتعلق بـ"جاء"أو صفة لـ {بصائر} ، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السير من جانبه تعالى، وهو منزه عن المكان والزمان، فالابتداء مجاز لغوي، أو هو مجاز بالحذف بتقدير: من إرادة ربكم.والمقصود التنويه بهذه التعاليم والذكريات التي بها البصائر، والحث على العمل بها، لأنها مسداة إليهم ممن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ،

مع ما في ذكر الرب وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر.
ولذلك فرع عليه قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} ، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضلال بعد هذه البصائر، ولا فائدة لغيركم فيها"فمن أبصر فلنفسه أبصر"، أي من علم الحق فقد علم علما ينفع نفسه، {وَمَنْ عَمِيَ} أي ضل عن الحق فقد ضل ضلالا وزره على نفسه.
فاستعير الإبصار في قوله: {أبصر} للعلم بالحق والعمل به لأن المهتدي بهذا الهدي الوارد من الله بمنزلة الذي نور له الطريق بالبدر أو غيره، فأبصره وسار فيه، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون {أبصر} تمثيلا موجزا ضمن فيه تشبيه هيئة المرشد إلى الحق إذا عمل بما أرشد به، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره.
واستعير العمى في قوله: {عمي} للمكابرة والاستمرار على الضلال بعد حصول ما شأنه أن يقلعه لأن المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهدي هاد خريت.ويجوز اعتبار التمثيلية فيه أيضا كاعتبارها في ضده السابق.
واستعمل اللام في الأول استعارة للنفع لدلالتها على الملك وإنما يملك الشيء النافع المدخر للنوائب، واستعيرت"على"في الثاني للضر والتبعة لان الشيء الضار ثقيل على صاحبه يكلفه تعبا وهو كالحمل الموضوع على ظهره، وهذا معروف في الكلام البليغ.قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت: 46]، وقال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الاسراء: 15]، وقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} ، ولأجل ذلك سمي الإثم وزرا كما تقدم في قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]،وقد جاء اللام في موضع"على"في بعض الآيات، كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء: 7].
وفي الآية محسن جناس الاشتقاق بين"البصائرو"أبصر"، وملاحظة مناسبة في الإبصار والبصائر.وفيها محسن المطابقة بين قوله: {أبصر} و {عمي} ، وبين "اللام"و"على".
ويتعلق قوله: {لنفسه} بمحذوف دل عليه فعل الشرط.وتقديره: فمن أبصر فلنفسه أبصر.واقترن الجواب بالفاء نظرا لصدره إذ كان اسما مجرورا وهو غير صالح لأن يلي أداة الشرط.

وإنما نسج نظم الآية على هذا النسج للإيذان بأن {لنفسه} مقدم في التقدير على متعلقه المحذوف.والتقدير: فلنفسه أبصر، ولولا قصد الإيذان بهذا التقديم لقال: فمن أبصر أبصر لنفسه، كما قال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الاسراء: 7]والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره، لأنهم كانوا يحسبون أنهم يغيظون النبي صلى الله عليه وسلم بإعراضهم عن دعوته إياهم إلى الهدى، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبي صلى الله عليه وسلم وقد أومأ إلى هذا صاحب"الكشاف"، بخلاف آية {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} [الاسراء: 7]، فإنهم حكت كلاما خوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهمون أن إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضر الله.
والكلام على قوله: {وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} نظير الكلام على قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} .وعدي فعل {عمي} بحرف"على"لأن العمى لما كان مجازا كان ضرا يقع على صاحبه.
وجملة {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} تكميل لما تضمنه قوله: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} ، أي فلا ينالني من ذلك شيء فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود علي ضركم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنب ضركم فلا تحسبوا أنكم حتى تمكرون بي بالإعراض عن ا لهدى والاستمرار في الضلال.
والحفيظ: الحارس ومن يجعل إليه نظر غيره وحفظه، وهو بمنزلة الوكيل إلا أن الوكيل يكون مجعولا له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ، والحفيظ أعم لأنه يكون من جانبه ومن جانب مواليه.وهذا قريب من معنى قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]
والإتيان بالجملة الاسمية هنا دقيق، لان الحفيظ وصف لا يفيد غيره مفاده، فلا يقوم مقامه فعل حفظ، فالحفيظ صفة مشبهة يقدر لها فعل منقول إلى فعل بضم العين لم ينطق به مثل الرحيم.
ولا يفيد تقديم المسند إليه في الجملة الاسميه اختصاصا خلافا لما يوهمه ظاهر تفسير الزمخشري وإن كان العلامة التفتزاني مال إليه، وسكت عنه السيد الجرجاني وهو وقوف مع الظاهر.وتقديم {عليكم} على {بحفيظ} للاهتمام ولرعاية الفاصلة.
[105] {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}

جملة معترضة تذييلا لما قبلها.والواو اعتراضية فهو متصل بجملة {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104]التي هي من خطاب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير"قل"كما تقدم، والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى التصريف المأخوذ من قوله: {نُصَرِّفُ الْآياتِ} .أي ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات.وتقدم نظيره غير مرة وأولها قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143].
والقول في تصريف الآيات تقدم في قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} في هذه السورة.
وقوله: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} معطوف على {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ} وقد تقدم بيان معنى هذا العطف في نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} من هذه السورة[55].ولكن ما هنا يخالف ما تقدم مخالفة ما فإن قول المشركين للرسول عليه الصلاة والسلام {درست} لا يناسب أن يكون علة لتصريف الآيات، فتعين أن تكون اللام مستعارة لمعنى العاقبة والصيرورة كالتي في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} بالقصص: 8].المعنى فكان لهم عدوا.وكذلك هنا، أي نصرف الآيات مثل هذا التصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدراسة والتعليم فيقولوا: درست.والمعنى: أنا نصرف الآيات ونبينها تبيينا من شأنه أن يصدر من العالم الذي درس العلم فيقول المشركون درست هذا وتلقيته من العلماء والكتب، لإعراضهم عن النظر الصحيح الموصل إلى أن صدور مثل هذا التبيين من رجل يعلمونه أميا لا يكون إلا من قبل وحي من الله إليه، وهذا كقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]وهم قد قالوا ذلك من قبل ويقولونه ويزيدون بمقدار زيادة تصريف الآيات، فشبه ترتب قولهم على التصريف بترتب العلة الغائية، واستعير لهذا المعنى الحرف الموضوع للعلة على وجه الاستعارة التبعية، ولذلك سمى بعض النحويين مثل هذه اللام لام الصيرورة، وليس مرادهم أن الصيرورة معنى من معاني اللام ولكنه إفصاح عن حاصل المعنى.
والدراسة: القراءة بتمهل للحفظ أو للفهم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} في سورة آل عمران[79].وفعله من باب نصر.يقال: درس الكتاب، أي تعلم.وقد تقدم في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، وقال: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169].وسمي بيت تعلم اليهود المدراس، وسمي

البيت الذي يسكنه التلامذة ويتعلمون فيه المدرسة.والمعنى يقولون: تعلمت، طعنا في أمية الرسول عليه الصلاة والسلام لئلا يلزمهم أن ما جاء به من ا لعلم وحي من الله تعالى.
وقرأ الجمهور {دَرَسْتَ} بدون ألف وبفتح التاءـ.وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو"دَارَسْتَ"ـ على صيغة المفاعلة وبفتح التاء ـأي يقولون: قرأت وقرئ عليك، أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم في عملهم.وقرأه ابن عامر ويعقوب"دَرَسَتْ"ـ بصيغة الماضي وتاء التأنيث ـأي الآيات، أي تكررت.
وأما اللام في قوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فهي لام التعليل الحقيقية.
وضمير {نبينه} عائد إلى القرآن لأنه ما صدق {الآيات} ، ولأنه معلوم من السياق.
والقوم هم الذين اهتدوا وآمنوا كما تقدم في قوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97]، والكلام تعريض كما تقدم.
والمعنى أن هذا التصريف حصل منه هدى للموفقين ومكابرة للمخاذيل، كقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
[106ـ107] {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}
استئناف في خطاب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم، فابتداؤه بالأمر باتباع ما أوحي إليه يتنزل منزلة المقدمة للأمر بالإعراض عن المشركين، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام، لأن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه؛ فالمقصود من الأمر الدوام على اتباعه.والمعنى: أعرض عن المشركين اتباعا لما أنزل إليك من ربك.والمراد بما أوحي إليه القرآن.
والاتباع في الأصل اقتفاء أثر الماشي، ثم استعمل في العمل بمثل عمل الغير، كما في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100].ثم استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار، ويتعدى فعله إلى ذات المتبع فيقال: اتبعت فلانا بهذه

المعاني الثلاثة وهو على حذف مضاف في جميع ذلك لأن الاتباع لا يتعلق بالذات.
وإطلاق الاتباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنه جاء بالأمر والنهي وأمر الناس باتباعه، واستعمل أيضا في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل، لأن من يتبع أحدا يلازمه.ومنه سمي الرئي من الجن في خرافات العرب تابعة، ومنه سمى من لازم الصحابي وروى عنه تابعيا.
فيجوز أن يكون الاتباع في الآية مرادا به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم، فالاتباع المأمور به اتباع في شيء مخصوص، وهذا مأمور به غير مرة، فالأمر بالفعل مستمر في الأمر بالدوام عليه.
ويجوز أن يكون أمرا بملازمة الدعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التوحيد والإيمان وأن لا يعتريه في ذلك لين ولا هوادة حتى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إياه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرص على إيمانهم واعتقاد أن محاولة إيمانهم لا جدو لها.فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطابا للمشركين، أو أمرا بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك، فيكون الكلام شدا لساعد النبي صلى الله عليه وسلم في مقامات دعوته إلى الله، وهذا هو المناسب لقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108]كما سنبينه.وقد تقدم شيء من هذا آنفا عند قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50].وليس المراد من الأمر بالاتباع الأمر باتباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقا، لأنه لا مناسبة له بهذا السياق، وفي الإتيان بلفظ {ربك} دون اسم الجلالة تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وتلطف معه.
وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} معترضة، والمقصود منها إدماج التذكير بالوحدانية لزيادة تقرها وإغاظة المشركين.
والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم، فإن الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدعوة لأي صنف من الناس، وكل آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم، ألا ترى كل آية من هذه الآيات قد تلتها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشرك كقوله تعالى في سورة النساء[63] {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} وقد تقدم.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} عطف على جملة {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} .

وهذا تلطف مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة لما يلقاه من الكدر من استمرارهم على الشرك وقلة إغناء آيات القرآن ونذره في قلوبهم، فذكره الله بأن الله قادر على أن يحول قلوبهم فتقبل الإسلام بتكوين آخر ولكن الله أراد أن يحصل الإيمان ممن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ليميز الله الخبيث من الطيب وتظهر مراتب النفوس في ميادين التلقي، فأراد الله أن تختلف النفوس في الخير والشر اختلافا ناشئا عن اختلاف كيفيات الخلقة والخلق والنشأة والقبول، وعن مراتب اتصال العباد بخالقهم ورجائهم منه.فالمشركون بلغوا إلى حضيض الشرك بأسباب ووسائل متسلسلة مترتبة خلقية، وخلقية، واجتماعية، تهيأت في أزمنة وأحوال هيأتها لهم، فلما بعث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتا على تفاوت صلابة عقولهم في الضلال وعراقتهم فيه، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه، ولم يجعل الله إيمان الناس حاصلا بخوارق العادات ولا بتبديل خلق العقول، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم ولا لأمثالهم من العصاة، ولذلك رد الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148]الآية.وفي قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]في سورة الزخرف1، لأن هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذرا لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عداد الذين لم يشأ الله أن يرشدهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب"لو"على الطريقة المعروفة.والتقدير: ولو شاء الله عدم إشراكهم ما أشركوا.وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} في هذه السورة[35].
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تذكير وتسلية ليزيح عنه كرب إعراضهم عن الإسلام لأن ما يحصل له من الكدر لإعراض قومه عن الإسلام يجعل في نفسه انكسارا كأنه انكسار من عهد إليه بعمل فلم يتسن له ما يريده من حسن القيام، فذكره الله تعالى بأنه قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة وأنه لم يبعثه مكرها لهم ليأتي بهم مسلمين، وإنما بعثه مبلغا
ـــــــ
1في المطبوعة: "فصلت" وهو خطأ.

لرسالته فمن آمن فلنفسه ومن كفر فعليها.
والحفيظ: القيم الرقيب، أي لم نجعلك رقيبا على تحصيل إيمانهم فلا يهمنك إعراضهم عنك وعدم تحصيل ما دعوتهم إليه إذ لا تبعة عليك في ذلك، فالخبر مسوق مساق التذكير والتسلية، لا مساق الإفادة لان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن الله ما جعله حفيظا على تحصيل إسلامهم إذ لا يجهل الرسول ما كلف به.
وكذلك قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} تهوين على نفس الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة التذكير لينتفي عنه الغم الحاصل له من عدم إيمانهم.
فإن أريد ما أنت بوكيل منا عليهم كان تتميما لقوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ1 عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ؛ وإن أريد ما أنت بوكيل منهم على تحصيل نفعهم كان استيعابا لنفي أسباب التبعة عنه في عدم إيمانهم، يقول: ما أنت بوكيل عليهم وكلوك لتحصيل منافعهم كإيفاء الوكيل بما وكله عليه موكله، أي فلا تبعة عليك منهم ولا تقصير لانتفاء سببي التقصير إذ ليس مقامك مقام حفيظ ولا وكيل.فالخبر أيضا مستعمل في التذكير بلازمه لا في حقيقته من إفادة المخبر به، وعلى كلا المعنيين لا بد من تقدير مضاف في قوله: {عليهم} ، أي على نفعهم.
والجمع بين الحفيظ والوكيل هنا في خبرين يؤيد ما قلناه آنفا في قوله تعالى: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104].من الفرق بين الوكيل والحفيظ فاذكره.
[108] {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
عطف على قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]يزيد معنى الإعراض المأمور به بيانا، ويحقق ما قلناه أن ليس المقصود من الإعراض ترك الدعوة بل المقصود الإغضاء عن سبابهم وبذيء أقوالهم مع الدوام على متابعة الدعوة بالقرآن، فإن النهي عن سب أصنامهم يؤذن بالاسترسال على دعوتهم وإبطال معتقداتهم مع تجنب المسلمين سب ما يدعونهم من دون الله.
والسب: كلام يدل على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرة، بالباطل أو بالحق، وهو مرادف الشتم.وليس من السب النسبة إلى خطإ في الرأي أو العمل، ولا
ـــــــ
1 في المطبوعة: "أرسلناك".

النسبة إلى ضلال في الدين إن كان صدر من مخالف في الدين.
والمخاطب بهذا النهي المسلمون لا الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول لم يكن فحاشا ولا سبابا لأن خلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأنه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الذي ينزله، وإنما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربما تجاوزوا الحد ففرطت منهم فرطات سبوا فيها أصنام المشركين.
روى الطبري عن قتادة قال: "كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم".وهذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفقه بنظم الآية.وأما ما روى الطبري عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: 98]قال المشركون: "لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك ، فنزلت هذه الآية في ذلك"، فهو ضعيف لأن علي بن أبي طلحة ضعيف وله منكرات ولم يلق ابن عباس.ومن البعيد أن يكون ذلك المراد من النهي في هذه الآية، لأن ذلك واقع في القرآن فلا يناسب أن ينهى عنه بلفظ {ولا تسبوا} وكان أن يقال: ولا تجهروا بسب الذين يدعون من دون الله مثلا.كما قال في الآية الأخرى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الاسراء: 110].وكذا ما رواه عن السدي أنه لما قربت وفاة أبي طالب قالت قريش: "ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنا فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته"،فانطلق نفر من سادتهم إلى أبي طالب وقالوا: "أنت سيدنا، وخاطبوه بما راموا، فدعا أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "هؤلاء قومك وبنو عمك يريدون أن تدعهم وآلهتهم ويدعوك وإلهك، وقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك".ولم يقل السدي أن ذلك سبب نزول هذه الآية ولكنه جعله تفسيرا للآية، ويرد عليه ما أوردناه على ما روي عن علي بن أبي طلحة.
قال الفخر: "ههنا إشكالان هما: أن الناس اتفقوا على أن سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة فكيف يصح أن يقال: إن سبب نزول هذه الآية كذا، وأن الكفار كانوا مقرين بالله تعالى وكانوا يقولون: عبدنا الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله فكيف يعقل إقدام الكفار على شتم الله تعالى"أهـ.
وأقول: يدفع الإشكال الأول أن سبب النزول ليس يلزم أن يكون مقارنا للنزول فإن السبب قد يتقدم زمانه ثم يشار إليه في الآية النازلة فتكون الآية جوابا عن أقوالهم.وقد أجاب الفخر بمثل هذا عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111]

الآية.ويدفع الإشكال الثاني أن المشركين قالوا لئن لم تنته عن سب آلهتنا لنهجون إلهك، ومعناه أنهم ينكرون أن الله هو إلهه ولذلك أنكروا الرحمن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60]فهم ينكرون أن الله أمره بذم آلهتهم لأنهم يزعمون أن آلهتهم مقربون عند الله، وإنما يزعمون أن شيطانا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسب الأصنام، ألا ترى إلى قول امرأة منهم لما فتر الوحي في ابتداء البعثة: ما أرى شيطانه إلا ودعه، وكان ذلك سبب نزول سورة الضحى.
وجواب الفخر عنه: "بأن بعضهم كان لا يثبت وجود الله وهم الدهريون، أو أن المراد أنهم يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام فأجرى الله شتم الرسول مجرى شتم الله كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]"أهـ.فإن في هذا التأويل بعدا لا داعي إليه.
والوجه في تفسير الآية أنه ليس المراد بالسب المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم مما يدل على انتفاء إلهيتها، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} في سورة الأعراف[179].وأما ما عداه من نحو قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فليس من الشتم ولا من السب لأن ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصديا للشتم، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذم والتعبير لآلهة المشركين، كما روي في"السيرة"أن عروة بن مسعود الثقفي جاء رسولا من أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فكان من جملة ما قاله: "وأيم الله لكأني بهؤلاء"يعني المسلمين"قد انكشفوا عنك"، وكان أبو بكر الصديق حاضرا، فقال له أبو بكر: "امصص بظر اللات"إلى آخر الخبر.
ووجه النهي عن سب أصنامهم هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى، فذلك هو الذي يتميز به الحق عن الباطل، وينهض به المحق ولا يستطيعه المبطل، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل فيظهر بمظهر التساوي بينهما.وربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق، فيلوح للناس أنه تغلب على المحق.على أن سب آلهتهم لما كان يحمي غيظهم ويزيد تصلبهم قد عاد منافيا لمراد الله من الدعوة، فقد قال لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ"وجادلهم بالتي هي أحسن"، وقال لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ"فقولا له قولا لينا"، فصار السب عائقا عن المقصود

من البعثة، فتمحض هذا السب للمفسدة ولم يكن مشوبا بمصلحة.وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إقضاؤه إلى مفسدة لأن تغيير المنكر مصلحة بالذات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعرض.وذلك مجال تتردد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوة وضعفا، وتحققا واحتمالا.وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلها.
وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ.قال القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أنه إن سب المسلمون أصنامه أو أمور شريعته أن يسب هو الإسلام أو النبي عليه الصلاة والسلام أن الله عز وجل لم يحل للمسلم أن يسب صلبانهم ولا كنائسهم لأنه بمنزلة البعث على المعصية اه.أي على زيادة الكفر.ولسيس من السب إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة ولكن السب أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذمة من سب الله تعالى أو سب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يعد سبا وإن تجاوزوا ذلك عد سبا، ويعبر عنها الفقهاء بقولهم: "ما به كفر وغير ما به كفر".
وقد احتج علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكية، وهو الملقب بمسألة سد الذرائع.قال ابن العربي: "منع الله في كتابه أحدا أن يفعل فعلا جائزا يؤدي إلى محظور ولأجل هذا تعلق علماؤنا بهذه الآية في سد الذرائع وهو كل عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصل به إلى محظور".وقال في تفسير سورة الأعراف[163] عند قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} : قال علماؤنا: هذه الآية أصل إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك ـ رضي الله عنه ـ وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشافعي وأبي حنيفة ـ رضي الله عنهماـ مع تبحرهما في الشريعة، وهو كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور"أهـ.وفسر المازري في باب بيوع الآجال من "شرحه للتلقين"سد الذريعة بأنه منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز"أهـ,والمراد: سد ذرائع الفساد، كما أفصح عنه القرافي في "تنقيح الفصول"وفي "الفرق الثامن والخمسين"فقال: "الذريعة: الوسيلة إلى الشيء.ومعنى سد الذرائع حسم مادة وسائل الفساد.وأجمعت الأمة على أن الذرائع ثلاثة أقسام: أحدها: معتبر إجماعا كحفر الآبار في

طرق المسلمين وإلقاء السم في أطعمتهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ.وثانيها: ملغى إجماعا كزراعة العنب فإنها لا تمنع لخشية الخمر، وكالشركة في سكنى الدور خشية الزنا.وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال، فاعتبر مالك ـرضي الله عنه ـ الذريعة فيها وخالفه غيره"أهـ.وعنى بالمخالف الشافعي وأبا حنيفة ـ رضي الله عنهماـ.
وهذه القاعدة تندرج تحت قاعدة الوسائل والمقاصد، فهذه القاعدة شعبة من قاعدة إعطاء الوسيلة حكم المقصد خاصة بوسائل حصول المفسدة.ولا يختلف الفقهاء في اعتبار معنى سد الذرائع في القسم الذي حكى القرافي الإجماع على اعتبار سد الذريعة فيه.وليس لهذه القاعدة عنوان في أصول الحنفية والشافعية، ولا تعرضوا لها بإثبات ولا نفي، ولم يذكرها الغزالي في"المستصفى"في عداد الأصول الموهومة في خاتمة القطب الثاني في أدلة الأحكام.
و {عَدْواً} بفتح العين وسكون الدال وتخفيف الواوـ في قراءة الجمهور، وهو مصدر بمعنى العدوان والظلم، وهو منصوب على المفعولية المطلقة لـ"يسبوا"لأن العدو هنا صفة للسب، فصح أن يحل محله في المفعولية المطلقة بيانا لنوعه.وقرأ يعقوب {عدوا} بضم العين والدال وتشديد الواوـ وهو مصدر كالعدو.
ووصف سبهم بأنه عدو تعريض بأن سب المسلمين أصنام المشركين ليس من الاعتداء، وجعل ذلك السب عدوا سواء كان مرادا به الله أم كان مرادا به من يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به لأن الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء به هو في نفس الأمر الله تعالى فصادفوا الاعتداء على جلاله.
وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال من ضمير {يسبوا} ، أي عن جهالة، فهم لجهلهم بالله لا يزعهم وازع عن سبه، ويسبونه غير عالمين بأنهم يسبون الله لأنهم يسبون من أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بما جاء به فيصادف سبهم سب الله تعالى لأنه الذي أمره بما جاء به.
ويجوز أن يكون {بِغَيْرِ عِلْمٍ} صفة لـ {عَدْوا} كاشفة، لأن ذلك العدو لا يكون إلا عن غير علم بعظم الجرم الذي اقترفوه، أو عن علم بذلك لكن حالة إقدامهم عليه تشبه حالة عدم العلم بوخامة عاقبته.
وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} معناه كتزييننا لهؤلاء سوء عملهم زينا لكل أمة

عملهم، فالمشار إليه هو ما حكاه الله عنهم بقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ـإلى قوله ـ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100ـ108].فإن اجتراءهم على هذه الجرائم وعماهم عن النظر في سوء عواقبها نشأ عن تزيينها في نفوسهم وحسبانهم أنها طرائق نفع لهم ونجاة وفوز في الدنيا بعناية أصنامهم.فعلى هذه السنة وبمماثل هذا التزيين زين الله أعمال الأمم الخالية مع الرسل الذين بعثوا فيهم فكانوا يشاكسونهم ويعصون نصحهم ويجترئون على ربهم الذي بعثهم إليهم، فلما شبه بالمشار إليه تزيينا علم السامع أن ما وقعت إليه افشارة هو من قبيل التزيين.وقد جرى اسم الإشارة هنا على غير الطريقة التي في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]ونظائره، لأن ما بعده يتعلق بأحوال غير المتحدث عنهم بل بأحوال أعم من أحوالهم.وفي هذا الكلام تعريض بالتوعد بأن سيحل بمشركي العرب من العذاب مثل ما حل بأولئك في الدنيا.
وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنه خلقهم بعقول يحسن لديها مثل ذلك الفعل، على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107].وذلك هو القانون في نظائره.
والتزيين تفعيل من الزين، وهو الحسن، أو من الزينة، وهي ما يتحسن به الشيء.فالتزيين جعل الشيء ذا زينة أو إظهاره زينا أو نسبته إلى الزين.وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزين وإن لم يكن كذلك، فالتفعيل فيه للنسبة مثل التفسيق.وفي قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]بمعنى جعله زينا، فالتفعيل للجعل لأنه حسن في ذاته.
ولما في قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} من التعريض بالوعيد بعذاب الأمم عقب الكلام بـ {ثم} المفيدة الترتيب الرتبي في قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، لأن ما تضمنته الجملة المعطوفة بـ {ثم} أعظم مما تضمنته المعطوف عليها، لأن الوعيد الذي عطفت جملته بـ {ثم} أشد وأنكى فإن عذاب الدنيا زائل غير مؤيد.والمعنى وأعظم من ذلك أنهم إلى الله مرجعهم فيحاسبهم.والعدول عن اسم الجلالة إلى لفظ {ربهم} لقصد تهويل الوعيد وتعليل استحقاقه بأنهم يرجعون إلى مالكهم الذي خلقهم فكفروا نعمه وأشركوا به فكانوا كالعبيد الآبقين يطوفون ما يطوفون ثم يقعون في يد مالكهم.
والإنباء: الإعلام، وهو توقيفهم على سوء أعمالهم.وقد استعمل هنا في لازم

معناه، وهو التوبيخ والعقاب، لأن العقاب هو العاقبة المقصودة من إعلام المجرم بجرمه.والفاء للتفريع عن المرجع مؤذنة بسرعة العقاب إثر الرجوع إليه.
[109] {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}
عطفت جملة {وأقسموا} على جملة {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]الآية.والضمير عائد إلى القوم في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66]مثل الضمائر التي جاءت بعد تلك الآية ومعنى {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} آية غير القرآن.وهذا إشارة إلى شيء من تعللاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدامغة لهم، كانوا قد تعللوا به في بعض توركهم على الإسلام.فروى الطبري وغيره عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، يزيد بعضهم على بعض: "أن قريشا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية مثل آية موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه العيون، أو مثل آية صالح، أو مثل آية عيسى ـ عليهم السلام ـ، وأنهم قالوا لما سمعوا قوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]أقسموا أنهم إن جاءتهم آية كما سألوا أو كما توعدوا ليوقنن أجمعون، وأن رسول الله عليه ـالصلاة والسلام ـ سأل الله أن يأتيهم بآية كما سألوا، حرصا على أن يؤمنوا.فهذه الآية نازلة في ذلك المعنى لأن هذه السورة جمعت كثيرا من أحوالهم ومحاجاتهم.
والكلام على قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} هو نحو الكلام على قوله في سورة العقود[53] {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} .والأيمان تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} في سورة البقرة[225].
وجملة {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} إلخ مبينة لجملة {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} .واللام في {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} موطئة للقسم، لأنها تدل على أن الشرط قد جعل شرطا في القسم فتدل على قسم محذوف غالبا، وقد جاءت هنا مع قعل القسم لأنها صارت ملازمة للشرط الواقع جوابا للقسم فلم تنفك عنه مع وجود فعل القسم.واللام في {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} لام القسم، أي لام جوابه.
والمرا بالآية ما اقترحوه على الرسول صلى الله عليه وسلم يعنون بها خارق عادة تدل على أن الله

أجاب مقترحهم ليصدق رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فلذلك نكرت {آية} ، يعني: أية آية كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم.ومجيء الآية مستعار لظهورها لأن الشيء الظاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء.وتقدم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في سورة البقرة[39].
ومعنى كون الآيات عند الله أن الآيات من آثار قدرة الله وإرادته، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته، فهو قادر عليها، فلأجل ذلك شبهت بالأمور المدخرة عنده، وأنه إذا شاء إبرزها للناس، فكلمة {عند} هنا مجاز.استعمل اسم المكان الشديد القرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازا مرسلا، لأن الاستئثار من لوازم حالة المكان الشديد القرب عرفا، كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام: 59].
والحصر بـ {إنما} رد على المشركين ظنهم بأن الآيات في مقدور النبي صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئا فجعلوا عدم إجابة النبي صلى الله عليه وسلم اقتراحهم آية أمارة على انتفاء نبوءته، فأمره الله أن يجيب بأن الآيات عند الله لا عند الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ، والله أعلم بما يظهره من الآيات.
وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} قرأ الأكثر"أنها"ـ بفتح همزة ـ"أن".وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم في إحدى روايتين عن ابي بكر بكسر همزة"إن".
وقرأ الجمهور {لا يُؤْمِنُونَ} بياء الغيبة ـ.وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف ـ بتاء الخطاب ـ، وعليه فالخطاب للمشركين.
وهذه الجملة عقبة حيرة للمفسرين في الإبانة عن معناها ونظمها ولنأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها، ثم نعقبه بأقوال المفسرين.فالذي يلوح لي أن الجملة يجوز أن تكون الواو فيها واو العطف وأن تكون واو الحال.فأما وجه كونها واو العطف فأن تكون معطوفة على جملة {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} كلام مستقل، وهي كلام مستقل وجهه الله إلى المؤمنين، وليست من القول المأمور به النبي عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} .
والمخاطب بـ {يشعركم} الأظهر أنه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنون،

وذلك على قراءة الجمهور قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} بياء الغيبة ـ.والمخاطب بـ {يشعركم} المشركون على قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف {لا تُؤْمِنُونَ} بتاء الخطاب ـ، وتكون جملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} .
{وإما} استفهامية مستعملة في التشكيك والإيقاظ، لئلا يغرهم قسم المشركين ولا تروج عليهم ترهاتهم، فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التوبيخ ولا التغليظ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليظهم، إذ لم يثبت أن المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين أو أن يجابوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم، وكيف والمسلمون يقرأون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} وهي في سورة يونس[يونس: 97,96]وهي نازلة قبل سورة الأنعام، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدين وتلونهم في اختلاق المعاذير.والمقصود من الكلام تحقيق ذلك عند المسلمين، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام لأن الاستفهام من شأنه أن يهئ نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام فيتأهب لوعي ما يرد بعده.
والإشعار: الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفى ويدق.يقال: شعر فلان بكذا، أي علمه وتفطن له، فالفعل يقتضي متعلقا به بعد مفعوله ويتعين أن قوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} هو المتعلق به، فهو على تقدير باء الجر.والتقدير: بأنها إذا جاءت لا يؤمنون، فحذف الجار مع"أن"المفتوحة حذف مطرد.
وهمزة"أن"مفتوحة في قراءة الجمهور.والمعنى أمشعر يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، أي بعدم إيمانهم.
فهذا بيان المعنى والتركيب، وإنما العقدة في وجود حرف النفي من قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} لأن {مَا يُشْعِرُكُمْ} بمعنى قولهم: ما يدريكم، ومعتاد الكلام في نظير هذا التركيب أن يجعل متعلق فعل الدراية فيه هو الشيء الذي شأنه أن يظن المخاطب وقوعه، والشيء الذي يظن وقوعه في مثل هذا المقام هو أنهم يؤمنون لأنه الذي يقتضيه قسمهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ} فلما جعل متعلق الشعور نفي إيمانهم كان متعلقا غريبا بحسب العرف في استعمال نظير هذا التركيب.
والذي يقتضيه النظر في خصائص الكلام البليغ وفروقه أن لا يقاس قوله: {وَمَا

يُشْعِرُكُمْ} على ما شاع من قول العرب {مَا يُدْرِيكَ} ، لأن تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتى جرى مجرى المثل باستعمال خاص لا يكادون يخالفونه كما هي سنة الأمثال أن لا تغير عما استعملت فيه، وهو أن يكون اسم "ما"فيه استفهاما إنكاريا، وأن يكون متعلق يدريك هو الأمر الذي ينكره المتكلم على المخاطب.فلو قسنا استعمال {مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} على استعمال"ما يدريكم"لكان وجود حرف النفي منافيا للمقصود، وذلك مثار تردد علماء التفسير والعربية في محمل "لا"في هذه الآية.فأما حين نتطلب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب"ما يدريكم"وإلى إيثار تركيب {مَا يُشْعِرُكُمْ} فإننا نعلم أن ذلك العدول لمراعاة خصوصية في المعدول إليه بأنه تركيب ليس متبعا فيه طريق مخصوص في الاستعمال، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظم في استعمال الأدوات والأفعال ومفاعيلها ومتعلقاتها1.
فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التنبيه والتشكيك في الظن، ونحمل فعل {يشعركم} على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العلم، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباته سواء في الفرض الذي اقتضاه الاستفهام، فكان المتكلم بالخيار بين أن يقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأن يقول: إنها إذا جاءت يؤمنون.وإنما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنه الطرف الراجح الذي ينبغي اعتماده في هذا الظن.
هذا وجه الفرق بين التركيبين.وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا ينبغي لصاحب علم المعاني غض النظر عنها، وكثيرا ما بين عبد القاهر اصنافا منها فليلحق هذا الفرق بأمثاله.
ـــــــ
1 اعلم أن قولهم ما يدريك له ثلاثة استعمالات.أحدها: أن يكون به"الرد"على المخاطب في ظن يظنه فيقال له ما يدرريك أنه كذا فيجعل متعلق فعل الدراية هو الظن الذي يريد المتكلم رده على المخاطب وهذا الاستعمال يجري فيه تركيب ما يدريك وما أدراك وما تصرف منهما مجرى المثل فلا يغير عن استعماله,ويكون الاستفهام فيه انكاريا,ويلزم أن يكون متعلق الدراية على نحو ظن المخاطب من إثبات أو نفي نحو ما يدريك أنه يفعل وما يدريك أنه لا يفعل.
ثانيها: أن يرد بعد فعل الدراية حرف الرجاء نحو: ما يدريك لعله يزكى,إذا كان المخاطب غافلا عن ظنه وهو الاستعمال اذي على مثله خرج الخليل قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} بناء على ترادف فعل يشعركم وفعل يدريكم.ثالثها: نحو وما أدراك ما القارعة,مما وقع بعده"ما"الاستفهامية لقصد التهويل.

وإن أبيت إلا قياس {مَا يُشْعِرُكُمْ} على"ما يدريكم"سواء، كما سلكه المفسرون فاجعل الغالب في استعمال"ما يدريك"هو مقتضى الظاهر في استعمال {مَا يُشْعِرُكُمْ} واجعل تعليق المنفي بالفعل جريا على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة ذلك الإيماء ويسهل الخطب.وأما وجه كون الواو في قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} واو الحال فتكون"ما"نكرة موصوفة بجملة {يشعركم} .ومعناها شيء موصوف بأنه يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون.وهذا الشيء هو ما سبق نزوله من القرآن، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97,96]، وكذلك ما جربوه من تلون المشركين في التفصي من ترك دين آبائهم، فتكون الجملة حالا، أي والحال أن القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيمانهم، قال تعالى: {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12].وإني لأعجب كيف غاب عن المفسرين هذا الوجه من جعل "ما"نكرة موصوفة في حين أنهم تطرقوا إلى ما هو أغرب من ذلك.
فإذا جعل الخطاب في قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} خطابا للمشركين، كان الاستفهام للإنكار والتوبيخ ومتعلق فعل {يشعركم} محذوفا دل عليه قوله: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} .والتقدير: وما يشعركم أننا نأتيكم بآية كما تريدون.
ولا نحتاج إلى تكلفات تكلفها المفسرون، ففي الكشاف: أن المؤمنين طمعوا في إيمان المشركين إذا جاءتهم آية وتمنوا مجيئها فقال الله تعالى: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، أي أنكم لا تدرون أني أعلم أنهم لا يؤمنون.وهو بناء على جعل {مَا يُشْعِرُكُمْ} مساويا في الاستعمال لقولهم: {مَا يُدْرِيكَ} .
وروى سيبويه عن الخليل: أن قوله تعالى: {أنها} معناه لعلها، أي لعل آية إذا جاءت لا يؤمنون بها.وقال: تأتى"أن"بمعنى لعل، يريد ان في لعل لغة تقول: لأن، بإبدال العين همزة وإبدال اللام الاخيرة نونا، وأنهم قد يحذفون اللام الاولى تخفيفا كما يحذفونها في قولهم: علك أن تفعل، فتصير"أن"أي "لعل".وتبعه الزمخشري وبعض أهل اللغة، وأنشدوا أبياتا.
وعن الفراء، والكسائي، وأبي علي الفارسي: أن"لا"زائدة، كما ادعوا زيادتها في قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الانبياء: 95].
وذكر ابن عطية: "أن أبا علي الفارسي جعل {أنها} تعليلا لقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} أي لا

يأتيهم بها لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، أي على أن يكون {عند} كناية عن منعهم من الإجابة لما طلبوه.
وعلى قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب، وخلف، وأبي بكر، في إحدى روايتين عنه {إنها} بكسر الهمزةـ يكون استئنافا.وحذف متعلق {يشعركم} لظهوره من قوله: {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} .والتقدير: وما يشعركم بإيمانهم إنهم لا يؤمنون إذا جاءت آية.
وعلى قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف ـ بتاء المخاطب ـ.فتوجيه قراءة خلف الذي قرأ"إنها"ـ بكسر الهمزة ـ، أن تكون جملة {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ} الخ خطابا موجها إلى المشركين.وأما على قراءة ابن عامر وحمزة اللذين قرآ {أنها} بفتح الهمزة ـ بأن يجعل ضمير الخطاب في قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} موجها إلى المشركين على طريقة الالتفات على اعتبار الوقف على {يشعركم} .
[110] {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]فتكون بيانا لقوله: {لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]أي بأن نعطل أبصارهم عن تلك الآية وعقولهم عن الاهتداء بها فلا يبصرون ما تحتوى عليه الآية من الدلائل ولا تفقه قلوبهم وجه الدلالة فيتعطل تصديقهم بها، وذلك بأن يحرمهم الله من إصلاح إدراكهم، وذلك أنهم قد خلقت عقولهم نابية عن العلم الصحيح بما هيأ لها ذلك من انسلالها من أصول المشركين، ومن نشأتها بين أهل الضلال وتلقي ضلالتهم، كما بينته آنفا.فعبر عن ذلك الحال المخالف للفطرة السليمة بأنه تقليب لعقولهم وأبصارهم، ولأنها كانت مقلوبة عن المعروف عند أهل العقول السليمة، وليس داعي الشرك فيها تقليبا عن حالة كانت صالحة لأنها لم تكن كذلك حينا، ولكنه تقليب لأنها جاءت على خلاف ما الشأن أن تجيء عليه.
وضمير {به} عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} [الأنعام: 109]فإنهم عنوا آية غير القرآن.
والكاف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} لتشبيه حالة انتفاء إيمانهم بعد أن تجيئهم آية مما اقترحوا.والمعنى ونقلب أيديهم وأبصارهم فلا يؤمنون بالآية التي تجيئهم مثلما لم يؤمنوا بالقرآن من قبل، فتقليب أفئدتهم وأبصارهم على هذا المعنى يحصل في

الدنيا، وهو الخذلان.
ويجوز أن تكون جملة {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} مستأنفة والواو للاستئناف، أو أن تكون معطوفة على جملة {لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109].والمعنى: ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم، أي في نار جهنم، كناية عن تقليب أجسادهم كلها.وخص من أجسادهم أفئدتهم وأبصارهم لأنها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات، كقوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، أي سحروا الناس بما تخيله لهم أعينهم.
والكاف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا} على هذا الوجه للتعليل كقوله: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].
وأقول: هذا الوجه يناكده قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} إذ ليس ثمة مرتان على هذا الوجه الثاني، فيتعين تأويل {أَوَّلَ مَرَّةٍ} بأنها الحياة الاولى في الدنيا.
والتقليب مصدر قلب الدال على شدة قلب الشيء عن حاله الأصلية.والقلب يكون بمعنى جعل المقابل للنظر من الشيء غير مقابل، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42]، وقولهم: قلب ظهر المجن، وقريب منه قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]؛ ويكون بمعنى تغيير حالة الشيء إلى ضدها لأنه يشبه قلب ذات الشيء.
والكاف في قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ} الظاهر أنها للتشبيه في محل حال من ضمير {لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]، و"ما"مصدرية.والمعنى: لا يؤمنون مثل انتفاء إيمانهم أول مرة.والضمير المجرور بالباء عائد إلى القرآن لأنه معلوم من السياق كما في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66]، أي أن المكابرة سجيتهم فكما لم يؤمنوا في الماضي بآية القرآن وفيه أعظم دليل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لا يؤمنون في المستقبل بآية أخرى إذا جاءتهم.وعلى هذا الوجه يكون قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} معترضا بالعطف بين الحال وصاحبها.ويجوز أن يجعل التشبيه للتقليب فيكون حالا من الضمير في {نقلب} ، أي نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن فطرة الأفئدة والأبصار كما قلبناها فلم يؤمنوا به أول مرة إذ جمحوا عن الإيمان أول ما دعاهم الرسول عليه الصلاة والسلام، ويصير هذا التشبيه في قوة البيان للتقليب المجعول حالا من انتفاء إيمانهم بأن سبب صدورهم عن الإيمان لا يزال قائما لأن الله حرمهم إصلاح قلوبهم.
وجوز بعض المفسرين أن تكون الكاف للتعليل على القول بأنه من معانيها، وخرج

عليه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].فالمعنى: نقلب أفئدتهم لأنهم عصوا وكابروا فلم يؤمنوا بالقرآن أول ما تحداهم، فنجعل أفئدتهم وأبصارهم مستمرة الانقلاب عن شأن العقول والأبصار، فهو جزاء لهم على عدم الاهتمام بالنظر في أمر الله تعالى وبعثة رسوله، واستخفافهم بالمبادرة إلى التكذيب قبل التأمل الصادق.
وتقديم الأفئدة على الأبصار لأن الأفئدة بمعنى العقول، وهي محل الدواعي والصوارف، فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجه الحواس إلى الأشياء وتأمل منها.والظاهر أن وجه الجمع بين الأفئده والأبصار وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار لأن الأفئدة تختص بإدراك الآيات العقلية المحضة، مثل آية الأمية وآية الإعجاز.ولما لم تكفهم الآيات العقلية ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنها مقلبة عن الفطرة وسألوا آيات مرئية مبصرة، كأن يرقى في السماء وينزل عليهم كتابا في قرطاس، وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنهم لو جاءتهم آية مبصرة لما آمنوا لأن أبصارهم مقلبة أيضا مثل تقليب عقولهم.
وذكر {أول} مع أنه مضاف إلى {مرة} إضافة الصفة إلى الموصوف لأن أصل"أول"اسم تفضيل.واسم التفضيل إذا أضيف إلى النكرة تعين فيه الإفراد والتذكير، كما تقول: خديجة أول النساء إيمانا ولا تقول أولى النساء.
والمراد بالمرة مرة من مرتي مجيء الآيات، فالمرة الأولى هي مجيء القرآن، والمرة الثانية هي مجيء الآية المقترحة، وهي مرة مفروضة.
{ونذرهم} عطف على {نقلب} .فحقق أن معنى {نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} نتركها على انقلابها الذي خلقت عليه، فكانت مملوءة طغيانا ومكابرة للحق، وكانت تصرف أبصارهم عن النظر والاستدلال، ولذلك أضاف الطغيان إلى ضميرهم للدلالة على تأصله فيهم ونشأتهم عليه وأنهم حرموا لين الأفئدة الذي تنشأ عنه الخشية والذكرى.
والطغيان والعمه تقدما عند قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة[15].
والظرفية من قوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ} مجازية للدلالة على إحاطة الطغيان بهم، أي بقلوبهم.وجملة {ونذرهم} معطوفة على {نقلب} .وجملة {يعمهون} حال من الضمير المنصوب في قوله: {ونذرهم} .وفيه تنبيه على أن العمه ناشئ عن الطغيان.

المجلد السابع
تابع سورة الأنعام...
بسم الله الرحمن الرحيم
[111] {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}.
جملة {وَلَوْ أَنَّنَا} معطوفة على جملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] باعتبار كون جملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} عطفا على جملة {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109]، فتكون ثلاثتها ردا على مضمون جملة {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ} [الأنعام: 109] آية إلخ، وبيانا لجملة {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109].
روي عن ابن عباس: أن المستهزئين، الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن حنظلة، من أهل مكة. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة فقالوا: أرنا الملائكة يشهدون لك أو ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم: أحق ما تقول، وقيل: إن المشركين قالوا: لا نؤمن لك حتى يحشر قصي فيخبرنا بصدقك أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا" فنزل قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} للرد عليهم. وحكى الله عنهم {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} إلى قوله {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 90-92] في سورة الإسراء. وذكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم، لأنهم اقترحوا ذلك.
وقوله {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} يشير إلى مجموع ما سألوه وغيره. والحشر: الجمع، ومنه {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل: 17]. وضمن معنى البعث والإرسال فعدي بعلى كما قال تعالى {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الإسراء: 5]. {وَكُلُّ شَيْءٍ} يعم الموجودات كلها. لكن المقام يخصصه بكل شيء مما سألوه، أو من جنس خوارق العادات والآيات، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى، في ريح عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الاحقاف: 25] والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى}.
وقوله {قُبُلاً} قرأه نافع، وابن عامر، وأبو جعفر بكسر القاف وفتح الباء، وهو

بمعنى المقابلة والمواجهة، أي حشرنا كل شيء من ذلك عيانا. وقرأه الباقون بضم القاف والباء وهو لغة في قبل بمعنى المواجهة والمعاينة؛ وتأولها بعض المفسرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال، وغير مناسبة للمعنى.
و {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} هو أشد من {لا يُؤْمِنُونَ} تقوية لنفي إيمانهم، مع ذلك كله، لأنهم معاندون مكابرون غير طالبين للحق، لأنهم لو طلبوا الحق بإنصاف لكفتهم معجزة القرآن، إن لم يكفهم وضوح الحق فيما يدعو إليه الرسول عليه الصلاة والسلام. فالمعنى: الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن، فكيف إذا لم يكن ذلك. والمقصود انتفاء إيمانهم أبدا.
{وَلَوْ} هذه هي المسماة {وَلَوْ} الصهيبية، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالى {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} في سورة الأنفال [23].
وقوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء من عموم الأحوال التي تضمنها عموم نفي إيمانهم، فالتقدير: إلا بمشيئة الله، أي حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعا، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أراد الله ذلك بفتح مكة وما بعده. ففي قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} تعريض بوعد المسلمين بذلك، وحذفت الباء مع "أَن".
ووقع إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار: لأن اسم الجلالة يومئ إلى مقام الإطلاق وهو مقام {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، ويومئ إلى أن ذلك جرى على حسب الحكمة لأن اسم الجلالة يتضمن جميع صفات الكمال.
والاستدراك بقوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} راجع إلى قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} المقتضي أنهم يؤمنون إذا شاء الله إيمانهم: ذلك أنهم ما سألوا الآيات إلا لتوجيه بقائهم على دينهم، فإنهم كانوا مصممين على نبذ دعوة الإيمان، وإنما يتعللون بالعلل بطلب الآيات استهزاء، فكان إيمانهم في نظرهم من قبيل المحال، فبين الله لهم أنه إذا شاء إيمانهم آمنوا. فالجهل على هذا المعنى: هو ضد العلم. وفي هذا زيادة تنبيه إلى ما أشار إليه قوله {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} من أن ذلك سيكون، وقد حصل إيمان كثير منهم بعد هذه الآية. وإسناد الجهل إلى أكثرهم يدل على أن منهم عقلاء يحسبون ذلك.
ويجوز أن يكون الاستدراك راجعا إلى ما تضمنه الشرط وجوابه: من انتفاء إيمانهم

مع إظهار الآيات لهم، أي لا يؤمنون، ويزيدهم ذلك جهلا على جهلهم، فيكون المراد بالجهل ضد الحلم، لأنهم مستهزئون، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنهم يرجى إيمانهم، لو ظهرت لهم الآيات، وبهذا التفسير يظهر موقع الاستدراك.
فضمير {يَجْهَلُونَ} عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضمائر التي قبله.
[112] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.
اعتراض قصد منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والواو واو الاعتراض، لأن الجملة بمنزلة الفذلكة، وتكون للرسول صلى الله عليه وسلم تسلية بعد ذكر ما يحزنه من أحوال كفار قومه، وتصلبهم في نبذ دعوته، فأنبأه الله: بأن هؤلاء أعداؤه، وأن عداوة أمثالهم لمثله سنة من سنن الله تعالى في ابتلاء أنبيائه كلهم، فما منهم أحد إلا كان له أعداء، فلم تكن عداوة هؤلاء للنبي عليه الصلاة والسلام بدعا من شأن الرسل. فمعنى الكلام: ألست نبيا وقد جعلنا لكل نبي عدوا إلى آخره.
والإشارة بقوله {وَكَذَلِكَ} إلى الجعل المأخوذ من فعل {جَعَلْنَا} كما تقدم في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]. فالكاف في محل نصب على أنه مفعول مطلق لفعل {جَعَلْنَا}.
وقوله {عَدُوّاً} مفعول {جَعَلْنَا} الأول، وقوله {لِكُلِّ نَبِيٍّ} المجرور مفعول ثان ل {جَعَلْنَا} وتقديمه على المفعول الأول للاهتمام به، لأنه الغرض المقصود من السياق، إذ المقصود الإعلام بأن هذه سنة الله في أنبيائه كلهم، فيحصل بذلك التأسي والقدوة والتسلية؛ ولأن في تقديمه تنبيها من أول السمع على أنه خبر، وأنه ليس متعلقا بقوله {عَدُوّاً} كيلا يخال السامع أن قوله {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ} مفعول لأنه يحول الكلام إلى قصد الإخبار عن أحوال الشياطين، أو عن تعيين العدو للأنبياء من هو، وذلك ينافي بلاغة الكلام.
و {شَيَاطِينَ} بدل من {عَدُوّاً} وإنما صيغ التركيب هكذا: لأن المقصود الأول الإخبار بأن المشركين أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أعرب {شَيَاطِينَ} مفعولا ل {جَعَلَ} و {لِكُلِّ نَبِيٍّ} ظرفا لغوا متعلقا بـ {عَدُوّاً} فقد أفسد المعنى.

والعدو: اسم يقع على الواحد والمتعدد، قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92].
والشيطان أصله نوع من الموجودات المجردة الخفية، وهو نوع من جنس الجن، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] ويطلق الشيطان على المضلل الذي يفعل الخبائث من الناس على وجه المجاز. ومنه شياطين العرب لجماعة من خباثهم، منهم: ناشب الأعور، وابنه سعد بن ناشب الشاعر، وهذا على معنى التشبيه، وشاع ذلك في كلامهم.
والإنس: الإنسان وهو مشتق من التأنس والإلف، لأن البشر يألف بالبشر ويأنس به، فسماه إنسا وإنسانا.
و"شياطين الإنس" استعارة للناس الذين يفعلون فعل الشياطين: من مكر وخديعة. وإضافة شياطين إلى الإنس إضافة مجازية على تقدير "من" التبعيضية مجازا، بناء على الاستعارة التي تقتضي كون هؤلاء الإنس شياطين، فهم شياطين، وهم بعض الإنس، أي أن الإنس: لهم أفراد متعارفة، وأفراد غير متعارفة يطلق عليهم اسم الشياطين، فهي بهذا الاعتبار من إضافة الأخص من وجه إلى الأعم من وجه، وشياطين الجن حقيقة، والإضافة حقيقية، لأن الجن منهم شياطين، ومنهم غير شياطين، ومنهم صالحون، وعداوة شياطين الجن للأنبياء ظاهرة، وما جاءت الأنبياء إلا للتحذير من فعل الشياطين، وقد قال الله تعالى لآدم: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117].
وجملة {يُوحِي} في موضع الحال، يتقيد بها الجعل المأخوذ من {جَعَلْنَا} فهذا الوحي من تمام المجعول.
والوحي: الكلام الخفي، كالوسوسة، وأريد به ما يشمل إلقاء الوسوسة في النفس من حديث يزور في صورة الكلام.والبعض الموحي: هو شياطين الجن، يلقون خواطر المقدرة على تعليم الشر إلى شياطين الإنس، فيكونون زعماء لأهل الشر والفساد.
والزخرف: الزينة، وسمي الذهب زخرفا لأنه يتزين به حليا، وإضافة الزخرف إلى القول من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي القول الزخرف: أي المزخرف، وهو من الوصف بالجامد الذي في معنى المشتق، إذ كان بمعنى الزين. وأفهم وصف القول

بالزخرف أنه محتاج إلى التحسين والزخرفة، وإنما يحتاج القول إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حد ذاته، وذلك أنه كان يفضي إلى ضر يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضر، خشية أن ينفر عنه من يسوله لهم، فذلك التزيين ترويج يستهوون به النفوس، كما تموه للصبيان اللعب بالألوان والتذهيب.
وانتصب {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} على النيابة عن المفعول المطلق من فعل {يُوحِي} لأن إضافة الزخرف إلى القول، الذي هو من نوع الوحي، تجعل {زُخْرُفَ} نائبا عن المصدر المبين لنوع الوحي.
والغرور: الخداع والإطماع بالنفع لقصد الإضرار، وقد تقدم عند قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في سورة آل عمران [196]. وانتصب {غُرُوراً} على المفعول لأجله لفعل {يُوحِي} ، أي يوحون زخرف القول ليغروهم.
والقول في معنى المشيئة من قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} كالقول في {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] والجملة معترضة بين المفعول لأجله وبين المعطوف عليه.
والضمير المنصوب في قوله {فَعَلُوهُ} عائد إلى الوحي. المأخوذ من {يُوحِي} أو إلى الإشراك المتقدم في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] أو إلى العداوة المأخوذة من قوله: {لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً}
والضمير المرفوع عائد إلى {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ}، أو إلى المشركين، أو إلى العدو، وفرع عليه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتركهم وافتراءهم، وهو ترك إعراض عن الاهتمام بغرورهم، والنكد منه، لا إعراض عن وعظهم ودعوتهم، كما تقدم في قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} والواو بمعنى مع.
{وَمَا يَفْتَرُونَ} موصول منصوب على المفعول معه. وما يفترونه هو أكاذيبهم الباطلة من زعمهم إلهية الأصنام، وما يتبع ذلك من المعتقدات الباطلة.
[113] {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}.
عطف قوله: {وَلِتَصْغَى} على {غُرُوراً} لأن {غُرُوراً} في معنى

ليغروهم. واللام لام كي وما بعدها في تأويل مصدر، أي ولصغي، أي ميل قلوبهم إلى وحيهم. فتقوم عليهم الحجة. ومعنى {تَصْغَى} تميل، يقال: صغى يصغى صغيا، ويصغو صغوا بالياء وبالواو ووردت الآية على اعتباره بالياء لأنه رسم في المصحف بصورة الياء. وحقيقته الميل الحسي؛ يقال: صغى، أي مال، وأصغى أمال. وفي حديث الهرة: أنه أصغى إليها الإناء، ومنه أطلق: أصغى بمعنى استمع، لأن أصله أمال سمعه أو أذنه، ثم حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال. وهو هنا مجاز في الإتباع وقبول القول.
والذين لا يؤمنون بالآخرة هم المشركون وخص من صفات المشركين عدم إيمانهم بالآخرة، فعرفوا بهذه الصلة للإيماء إلى بعض آثار وحي الشياطين لهم. وهذا الوصف أكبر ما أضر بهم، إذ كانوا بسببه لا يتوخون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلب الخير، بل يتبعون أهواءهم وما يزين لهم من شهواتهم، معرضين عما في خلال ذلك من المفاسد والكفر، إذ لا يترقبون جزاء عن الخير والشر، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشياطين، ولا تصغى إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين.
وعطف {وَلِيَرْضَوْهُ} على {وَلِتَصْغَى} وإن كان الصغي يقتضي الرضى ويسببه، فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء وأن لا تكرر لام التعليل، فخولف مقتضى الظاهر، للدلالة على استقلاله بالتعليل، فعطف بالواو وأعيدت اللام لتأكيد الاستقلال، فيدل على أن صغي أفئدتهم إليه ما كان يكفي لعملهم به إلا لأنهم رضوه.
وعطف {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} على {وَلِيَرْضَوْهُ} كعطف {وَلِيَرْضَوْهُ} على {وَلِتَصْغَى}.
والاقتراف افتعال من قرف إذا كسب سيئة، قال تعالى بعد هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120] فذكر هنالك لـ {يَكْسِبُونَ} مفعولا لأن الكسب يعم الخير والشر، ولم يذكر هنا لـ {يَقْتَرِفُونَ} مفعولا لأنه لا يكون إلا اكتساب الشر، ولم يقل: سيجزون بما كانوا يكسبون لقصد تأكيد معنى الإثم. يقال: قرف واقترف وقارف. وصيغة الافتعال وصيغة المفاعلة فيه للمبالغة، وهذه المادة تؤذن بأمر ذميم. وحكوا أنه يقال: قرف فلان لعياله، أي كسب، ولا أحسبه صحيحا.
وجيء في صلة الموصول بالجملة الاسمية في قوله {مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} للدلالة على تمكنهم في ذلك الاقتراف وثباتهم فيه.

[114] {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السياق كما في قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] أي يقولون، وقوله المتقدم آنفا {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104] بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين. وتكذيبهم وتعنتهم في طلب الآيات الخوارق، إذ جعلوها حكما بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام، وافترائهم عليه. وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وتركهم وما يفترون، وأعلمه بأنه ما كلفه أن يكون وكيلا لإيمانهم، وبأنهم سيرجعون إلى ربهم فينبئهم بما كانوا يعملون، بعد ذلك كله لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطابا كالجواب عن أقوالهم وتوركاتهم، فيفرع عليها أنه لا يطلب حاكما بينه وبينهم غير الله تعالى الذي إليه مرجعهم، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكرا، فتقدير القول متعين لأن الكلام لا يناسب إلا أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام.
والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقترحاتهم، فهو من عطف التلقين بالفاء، كما جاء بالواو في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر[64] {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} فكأن المشركين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات، فأجابهم بأنه لا يضع دين الله للتحاكم، ولذلك وقع الإنكار أن يحكم غير الله تعالى، مع أن حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصلا بالحق، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم. ومن موجبات التقديم كون المقدم يتضمن جوابا لرد طلب طلبه المخاطب، كما أشار إليه صاحب الكشاف في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام: 164] في هذه السورة. والهمزة للاستفهام الإنكاري: أي ظننتم ذلك فقد ظننتم منكرا.
وتقديم {أَفَغَيْرَ اللَّهِ} على {أَبْتَغِي} لأن المفعول هو محل الإنكار. فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري، كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في هذه السورة [14].
والحكم: الحاكم المتخصص بالحكم الذي لا ينقض حكمه، فهو أخص من

الحاكم، ولذلك كان من أسمائه تعالى: الحكم، ولم يكن منها: الحاكم. وانتصب {حَكَماً} على الحال.
والمعنى: لا أطلب حكما بيني وبينكم غير الله الذي حكم حكمه عليكم بأنكم أعداء مقترفون.
وتقدم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} في سورة آل عمران [83].
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} من تمام القول المأمور به. والواو للحال أي لا أعدل عن التحاكم إليه. وقد فصل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبروه فتعلموا منه صدقي، وأن القرآن من عند الله. وقد صيغت جملة الحال على الاسمية المعرفة الجزأين لتفيد القصر مع إفادة أصل الخبر. فالمعنى: والحال أنه أنزل إليكم الكتاب ولم ينزله غيره، ونكتة ذلك أن في القرآن دلالة على أنه من عند الله بما فيه من الإعجاز، وبأمية المنزل عليه. وأن فيه دلالة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام تبعا لثبوت كونه منزلا من عند الله، فإنه قد أخبر أنه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وفي تضاعيف حجج القرآن وأخباره دلالة على صدق من جاء به، فحصل بصوغ جملة الحال على صيغة القصر الدلالة على الأمرين: أنه من عند الله، والحكم للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق.
والمراد بالكتاب القرآن، والتعريف للعهد الحضوري، والضمير في {إِلَيْكُمُ} خطاب للمشركين، فإن القرآن أنزل إلى الناس كلهم للاهتداء به، فكما قال الله: {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174] وفي قوله: {إِلَيْكُمُ} هنا تسجيل عليهم بأنه قد بلغهم فلا يستطيعون تجاهلا.
والمفصل المبين: وقد تقدم ذكر التفصيل عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في هذه السورة [55].
وجملة {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ} معطوفة على القول المحذوف، فتكون استئنافا مثله، أو معطوفة على جملة {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي} أو على جملة {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} فهو عطف تلقين عطف به الكلام المنسوب إلى الله على الكلام

المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعضيدا لما اشتمل عليه الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كون القرآن حقا، وأنه من عند الله.
والمراد بالذين آتاهم الله الكتاب: أحبار اليهود، لأن الكتاب هو التوراة المعروف عند عامة العرب، وخاصة أهل مكة، لتردد اليهود عليها في التجارة. ولتردد أهل مكة على منازل اليهود بيثرب وقراها. ولكون المقصود بهذا الحكم أحبار اليهود خاصة قال: {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} ولم يقل: أهل الكتاب.
ومعنى علم الذين أوتوا الكتاب بأن القرآن منزل من الله: أنهم يجدونه مصدقا لما في كتابهم، وهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرس كتابهم على أحد منهم، إذ لو درسه لشاع أمره بينهم، ولأعلنوا ذلك بين الناس حين ظهور دعوته، وهم أحرص على ذلك، ولم يدعوه. وعلمهم بذلك لا يقتضي إسلامهم لأن العناد والحسد يصدانهم عن ذلك. وقيل: المراد بالذين آتاهم الله الكتاب: من أسلموا من أحبار اليهود، مثل عبد الله بن سلام، ومخيريق، فيكون الموصول في قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} لعهد. وعن عطاء: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}. هم رؤساء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فيكون الكتاب هو القرآن.
وضمير {أَنَّهُ} عائد إلى الكتاب الذي في قوله {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} وهو القرآن.
والباء في قوله {بِالْحَقِّ} للملابسة، أي ملابسا للحق، وهي ملابسة الدال للمدلول، لأن معانيه، وأخباره، ووعده، ووعيده، وكل ما اشتمل عليه، حق.
وقرأ الجمهور {مُنَزَّلٌ} بتخفيف الزاي. وقرأ ابن عامر وحفص بالتشديد والمعنى متقارب أو متحد، كما تقدم في قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} في أول سورة آل عمران [3].
والخطاب في قوله {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون التفريع على قوله: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي فلا تكن من الممترين في أنهم يعلمون ذلك، والمقصود تأكيد الخبر كقول القائل بعد الخبر: هذا ما لا شك فيه، فالامتراء المنفي هو الامتراء في أن أهل الكتاب يعلمون ذلك، لأن غريبا اجتماع علمهم وكفرهم به، ويجوز أن يكون خطابا لغير معين، ليعم كل من يحتاج إلى

مثل هذا الخطاب، أي فلا تكونن أيها السامع من الممترين، أي الشاكين في كون القرآن من عند الله، فيكون التفريع على قوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} أي فهذا أمر قد اتضح، فلا تكن من الممترين فيه. ويحتمل أن يكون المخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام، والمقصود من الكلام المشركون الممترون، على طريقة التعريض، كما يقال: إياك أعني واسمعي يا جارة. ومنه قوله تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، والتفريع فيه كما في الوجه الثاني.
وعلى كل الوجوه كان حذف متعلق الامتراء لظهوره من المقام تعويلا على القرينة، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثلاثة غير متعارضة، صح أن يكون جميعها مقصودا من الآية، لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصل إليه منها. وهذا فيما أرى من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع، ويجيء مثله في آيات كثيرة، وهو من خصائص القرآن.
[115] {وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
هذه الجملة معطوفة على جملة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام: 114] لأن تلك الجملة مقول قول مقدر، إذ التقدير: قل أفغير الله أبتغي حكما باعتبار ما في تلك الجملة من قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: 114] فلما وصف الكتاب بأنه منزل من الله، ووصف بوضوح الدلالة بقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام: 114] ثم بشهادة علماء أهل الكتاب بأنه من عند الله بقوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 114]، أعلم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأن هذا الكتاب تام الدلالة، ناهض الحجة، على كل فريق: من مؤمن وكافر، صادق وعده ووعيده، عادل أمره ونهيه. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة: {وجَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} وما بينهما اعتراض، كما سنبينه.
والمراد بالتمام معنى مجازي: إما بمعنى بلوغ الشيء إلى أحسن ما يبلغه مما يراد منه، فإن التمام حقيقته كون الشيء وافرا أجزاءه، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه، فيستعار لوفرة الصفات التي تراد من نوعه؛ وإما بمعنى التحقق فقد يطلق التمام على حصول المنتظر وتحققه، يقال: تم ما اخبر به فلان، ويقال: أتم وعدهن أي حققه، ومنه

قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] أي عمل بهن دون تقصير ولا ترخص، وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] أي ظهر وعده لهم بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] الآية، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8] أي محقق دينه ومثبته، لأنه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازا أيضا.
وقوله {كَلِمَاتٍ رَبُّكَ} قرأه الجمهور بصيغة الجمع وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: كلمة بالإفراد فقيل: المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن، وهو قول جمهور المفسرين ونقل عن قتادة، وهو الأظهر، المناسب لجعل الجملة معطوفة على جملة: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 114]. فأما على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنه كتاب من عند الله، فهو من كلامه وقوله، والكلمة والكلام يترادفان، ويقول العرب: كلمة زهير، يعنون قصيدته، وقد أطلق في القرآن الكلمات على الكتب السماوية في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] أي كتبه. وأما على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات، أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر، ونهي، وتبشير، وإنذار، ومواعظ، وإخبار، واحتجاج، وإرشاد، وغير ذلك. ومعنى تمامها أن كل غرض جاء في القرآن فقد جاء وافيا بما يتطلبه القاصد منه. واستبعد ابن عطية أن يكون المراد من {كَلِمَاتٍ رَبُّكَ} بالجمع أو الإفراد القرآن واستظهر أن المراد منها: قول الله، أي نفذ قوله وحكمه. وقريب منه ما أثر عن ابن عباس أنه قال: كلمات الله وعده. وقيل: كلمات الله: أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وفسر به في الكشاف، وهو قريب من كلام ابن عطية، لكن السياق يشهد بأن تفسير الكلمات بالقرآن أظهر.
وانتصب {صِدْقاً وَعَدْلاً} على الحال، عند أبي علي الفارسي، بتأويل المصدر باسم الفاعل، أي صادقة وعادلة، فهو حال من {كَلِمَاتٍ} وهو المناسب لكون التمام بمعنى التحقق. وجعلهما الطبري منصوبين على التمييز، أي تمييز النسبة، أي تمت من جهة الصدق والعدل، فكأنه قال: تم صدقها وعدلها، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشيء أحسن ما يطلب من نوعه. وقال ابن عطية: هذا غير صواب. وقلت: لا وجه لعدم تصويبه.
والصدق: المطابقة للواقع في الإخبار، وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد، والنفوذ

في الأمر والنهي، فيشمل الصدق كلما ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شؤون الله وشؤون الخلائق. ويطلق الصدق مجازا على كون الشيء كاملا في خصائص نوعه.
والعدل: إعطاء من يستحق ما يستحق، ودفع الاعتداء والظلم على المظلوم، وتدبير أمور الناس بما فيه صلاحهم. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} في سورة النساء [58]. فيشمل العدل كل ما في كلمات الله: من تدبير شؤون الخلائق في الدنيا والآخرة.
فعلى التفسير الأول للكلمات أو الكلمة، يكون المعنى: أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب: في وضوح الدلالة، وبلاغة العبارة، وأنه الصادق في أخباره، العادل في أحكامه، لا يعثر في أخباره على ما يخالف الواقع، ولا في أحكامه على ما يخالف الحق؛ فذلك ضرب من التحدي والاحتجاج على أحقية القرآن. وعلى التفسيرين الثاني والثالث، يكون المعنى: نفذ ما قاله الله، وما وعد وأوعد، وما أمر ونهى، صادقا ذلك كله، أي غير متخلف، وعادلا، أي غير جائر. وهذا تهديد للمشركين بأن سيحق عليهم الوعيد، الذي توعدهم به، فيكون كقوله تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] أي تم ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها، وقوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6] أي حقت كلمات وعيده.
ومعنى: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} نفي جنس من يبدل كلمات الله، أي من يبطل ما أراده في كلماته.
والتبديل تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} من سورة البقرة [61]، وتقدم هناك بيان أنه لا يوجد له فعل مجرد، وأن أصل مادته هو التبديل.
والتبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر، فيكون في الذوات كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [ابراهيم: 48] وقال النابغة:
عهدت بها حيا كراما فبدلت ... خناظيل آجال النعاج الجوافل
ويكون في الصفات كقوله تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55].
ويستعمل مجازا في إبطال الشيء ونقضه، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}.

[الفتح: 15] أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه، وهو قوله {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15] وذلك أن النقض يستلزم الإتيان بشيء ضد الشيء المنقوض، فكان ذلك اللزوم هو علاقة المجاوز وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} في سورة البقرة [181]. وقد استعمل في قوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التمام من قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ونفي المبدل كناية عن نفي التبديل.
فإن كان المراد بالكلمات القرآن، كما تقدم، فمعنى انتفاء المبدل لكلماته: انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه، بأن يظهر أن فيه ما ليس بتمام، فإن جاء أحد بما ينقضه كذبا وزورا فليس ذلك ينقض، وإنما هو مكابرة في صورة النقض، بالنسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه، وانتفاء ما يبطل معانيه وحقائق حكمته، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكم به. وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النهي عن أن يخالفه المسلمون. وبذلك يكون التبديل مستعملا في حقيقته ومجازه وكنايته.
ويجوز أن تكون جملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} عطفا على جملة: {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الأنعام: 112] وما بينهما اعتراضا، فالكلمات مراد بها ما سنه الله وقدره: من جعل أعداء لكل نبي يزخرفون القول في التضليل، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويتبعوهم، ويقترفوا السيئات، وأن المراد بالتمام التحقق، ويكون قوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} نفي أن يقدر أحد أن يغير سنة الله وما قضاه وقدره، كقوله: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] فتكون هذه الآية في معنى قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34]ففيها تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام، وتطمين له وللمؤمنين بحلول النصر الموعود به في إبانه.
وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تذييل لجملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: وهو المطلع على الأقوال، العليم بما في الضمائر، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته، فالسميع العالم بأصوات المخلوقات، التي منها ما توحي به شياطين الإنس والجن، بعضهم إلى بعض، فلا يفوته منها شيء؛ والعالم أيضا بمن يريد أن يبدل كلمات الله، على المعاني المتقدمة، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه: من تبييت الكيد والإبطال له.

والعليم أعم، أي: العليم بأحوال الخلق، والعليم بمواقع كلماته، ومحال تمامهان والمنظم بحكمته لتمامها، والموقت لآجال وقوعها.
فذكر هاتين الصفتين هنا: وعيد لمن شملته آيات الذم السابقة، ووعد لمن أمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم، وبالتحاكم معهم إلى الله، والذين يعلمون أن الله أنزل كتابه بالحق.
[116] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}.
أعقب ذكر عناد المشركين، وعداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وولايتهم للشياطين، ورضاهم بما توسوس لهم شياطين الجن والإنس، واقترافهم السيئات طاعة لأوليائهم، وما طمأن به قلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه لقي سنة الأنبياء قبله من آثار عداوة شياطين الإنس والجن، بذكر ما يهون على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ما يرونه من كثرة المشركين وعزتهم، ومن قلة المسلمين وضعفهم، مع تحذيرهم من الثقة بقولهم، والإرشاد إلى مخالفتهم في سائر أحوالهم، وعدم الإصغاء إلى رأيهم، لأنهم يضلون عن سبيل الله، وأمرهم بأن يلزموا ما يرشدهم الله إليه. فجملة: {وَإِنْ تُطِعْ} متصلة بجملة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] وبجملة: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام: 114] وما بعدها إلى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود به المسلمون مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
وجيء مع فعل الشرط بحرف "إن" الذي الأصل فيه أن يكون في الشرط النادر الوقوع، أو الممتنع إذا كان ذكره على سبيل الفرض كما يفرض المحال، والظاهر أن المشركين لما أيسوا من ارتداد المسلمين، كما أنبأ بذلك قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] الآية، جعلوا يلقون على المسلمين الشبه والشكوك في أحكام دينهم، كما أشار إليه قوله تعالى عقب هذا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام121]وقد روى الطبري عن ابن عباس، وعكرمة: أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها يريدون أكل الشاة إذا ماتت حتف أنفها دون ذبح قال الله قتلها فتزعم أن ما

قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء وفي سنن الترمذي، عن ابن عباس: قال: أتى أناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله فأنزل الله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] الآية. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. فمن هذا ونحوه حذر الله المسلمين من هؤلاء، وثبتهم على أنهم على الحق، وإن كانوا قليلا. كما تقدم في قوله {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
والطاعة: اسم للطوع الذي هو مصدر طاع يطوع، بمعنى انقاد وفعل ما يؤمر به عن رضى دون ممانعة، فالطاعة ضد الكره. ويقال: طاع وأطاع، وتستعمل مجازا في قبول القول، ومنه ما جاء في الحديث:"فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم"، ومنه قوله تعالى: {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] أي يقبل قوله، وإلا فإن المشفوع إليه أرفع من الشفيع فليس المعنى أنه يمتثل إليه. والطاعة هنا مستعملة في هذا المعنى المجازي وهو قبول القول.
و {أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} هم أكثر سكان الأرض. والأرض: يطلق على جميع الكرة الأرضية التي يعيش على وجهها الإنسان والحيوان والنبات، وهي الدنيا كلها. ويطلق الأرض على جزء من الكرة الأرضية معهود بين المخاطبين وهو إطلاق شائع كما في قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} [الإسراء: 104] يعني الأرض المقدسة، وقوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] أي الأرض التي حاربوا الله فيها. والأظهر أن المراد في الآية المعنى المشهور وهو جميع الكرة الأرضية كما هو غالب استعمالها في القرآن. وقيل: أريد بها مكة لأنها الأرض المعهودة للرسول عليه الصلاة والسلام. وأيا ما كان فأكثر من في الأرض ضالون مضلون: أما الكرة الأرضية فلأن جمهرة سكانها أهل عقائد ضالة، وقوانين غير عادلة.
فأهل العقائد الفاسدة: في أمر الإلهية: كالمجوس، والمشركين، وعبدة الأوثان، وعبدة الكواكب، والقائلين بتعدد الإله؛ وفي أمر النبوة: كاليهود والنصارى؛ وأهل القوانين الجائرة من الجميع. وكلهم إذا أطيع إنما يدعو إلى دينه ونحلته، فهو مضل عن سبيل الله، وهم متفاوتون في هذا الضلال كثرة وقلة، واتباع شرائعهم لا يخلو من ضلال وإن كان في بعضها بعض من الصواب. والقليل من الناس من هم أهل هدى، وهم يومئذ

المسلمون، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام من الموحدين الصالحين في مشارق الأرض ومغاربها الطالبين للحق.
وسبب هذه الأكثرية: أن الحق والهدى يحتاج إلى عقول سليمة، ونفوس فاضلة، وتأمل في الصالح والضار، وتقديم الحق على الهوى، والرشد على الشهوة، ومحبة الخير للناس؛ وهذه صفات إذا اختل واحد منها تطرق الضلال إلى النفس بمقدار ما انثلم من هذه الصفات. واجتماعها في النفوس لا يكون إلا عن اعتدال تام في العقل والنفس، وذلك بتكوين الله وتعليمه، وهي حالة الرسل والأنبياء، أو بإلهام إلهي كما كان أهل الحق من حكماء اليونان وغيرهم من أصحاب المكاشفات وأصحاب الحكمة الإشراقية وقد يسمونها الذوق. أو عن اقتداء بمرشد معصوم كما كان عليه أصحاب الرسل والأنبياء وخيرة أممهم؛ فلا جرم كان أكثر من في الأرض ضالين وكان المهتدون قلة، فمن اتبعهم أضلوه.
والآية لم تقتض أن أكثر أهل الأرض مضلون، لأن معظم أهل الأرض غير متصدين لإضلال الناس، بل هم في ضلالهم قانعون بأنفسهم، مقبلون على شأنهم؛ وإنما اقتضت أن أكثرهم، إن قبل المسلم قولهم، لم يقولوا له إلا ما هو تضليل، لأنهم لا يلقون عليه إلا ضلالهم. فالآية تقتضي أن أكثر أهل الأرض ضالون بطريق الالتزام لأن المهتدي لا يضل متبعه وكل إناء يرشح بما فيه. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في آية [100] سورة العقود: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ}.
واعلم أن هذا لا يشمل أهل الخطأ في الاجتهاد من المسلمين، لأن المجتهد في مسائل الخلاف يتطلب مصادفة الصواب باجتهاده، بتتبع الأدلة الشرعية ولا يزال يبحث عن معارض اجتهاده، وإذا استبان له الخطأ رجع عن رأيه، فليس في طاعته ضلال عن سبيل الله لأن من سبيل الله طرق النظر والجدل في التفقه في الدين.
وقوله: {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تمثيل لحال الداعي إلى الكفر والفساد من يقبل قوله، بحال من يضل مستهديه إلى الطريق، فينعت له طريقا غير الطريق الموصلة، وهو تمثيل قابل لتوزيع التشبيه: بأن يشبه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، وإضافة السبيل إلى اسم الله قرينة على الاستعارة، وسبيل الله هو أدلة الحق، أو هو الحق نفسه.
ثم بين الله سبب ضلالهم وإضلالهم: بأنهم ما يعتقدون ويدينون إلا عقائد ضالة،

وأديانا سخيفة، ظنوها حقا لأنهم لم يستفرغوا مقدرة عقولهم في ترسم أدلة الحق فقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}.
والاتباع: مجاز في قبول الفكر لما يقال وما يخطر للفكر: من الآراء والأدلة وتقلد ذلك. فهذا أتم معنى الاتباع، على أن الاتباع يطلق على عمل المرء برأيه كأنه يتبعه.
والظن، في اصطلاح القرآن، هو الاعتقاد المخطئ عن غير دليل، الذي يحسبه صاحبه حقا وصحيحا، قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وليس هو الظن الذي اصطلح عليه فقهاؤنا في الأمور التشريعية، فإنهم أرادوا به العلم الراجح في النظر، مع احتمال الخطأ احتمالا مرجوحا، لتعسر اليقين في الأدلة التكليفية، لأن اليقين فيها: إن كان اليقين المراد للحكماء، فهو متوقف على الدليل المنتهي إلى الضرورة أو البرهان، وهما لا يجريان إلا في أصول مسائل التوحيد، وإن كان بمعنى الإيقان بأن الله أمر أو نهى، فذلك نادر في معظم مسائل التشريع، عدا ما علم من الدين بالضرورة أو حصل لصاحبه بالحس، وهو خاص بما تلقاه بعض الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو حصل بالتواتر، وهو عزيز الحصول بعد عصر الصحابة والتابعين، كما علم من أصول الفقه.
وجملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} استئناف بياني، نشأ عن قوله: {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فبين سبب ضلالهم: أنهم اتبعوا الشبهة، من غير تأمل في مفاسدها، فالمراد بالظن ظن أسلافهم، كما أشعر به ظاهر قوله {يُتْبِعُونَ}.
وجملة {وإن هم إلا يخرصون} عطف على جملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}. ووجود حرف العطف يمنع أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة التي قبلها، أو تفسيرا لها، فتعين أن المراد بهذه الجملة غير المراد بجملة: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}.
وقد ترددت آراء المفسرين في محمل قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ؛ فقيل: يخرصون يكذبون فيما ادعوا أن ما اتبعوه يقين، وقيل: الظن ظنهم أن آباءهم على الحق. والخرص: تقديرهم أنفسهم على الحق.
والوجه: أن محمل الجملة الأولى على ما تلقوه من أسلافهم، كما أشعر به قوله {يُتْبِعُونَ}، وأن محمل الجملة الثانية على ما يستنبطونه من الزيادات على ما ترك لهم

أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلة مفحمة، كقولهم: كيف نأكل ما قتلناه وقتله الكلب والصقر، ولا نأكل ما قتله الله كما تقدم آنفا، كما أشعر به فعل: {يَخْرُصُونَ} من معنى التقدير والتأمل.
والخرص: الظن الناشئ عن وجدان في النفس مستند إلى تقريب، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه، وهو يرادف: الحزر، والتخمين، ومنه خرص النخل والكرم، اي تقدير ما فيه من الثمرة بحسب ما يجده الناظر فيما تعوده. وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة لأنها ظنون لا دليل عليها غير ما حسن لظانيها. ومن المفسرين وأهل اللغة من فسر الخرص بالكذب، وهو تفسير قاصر، نظر أصحابه إلى حاصل ما يفيده السياق في نحو هذه الآية، ونحو قوله {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذريات:10]؛ وليس السياق لوصف أكثر من في الأرض بأنهم كاذبون، بل لوصمهم بأنهم يأخذون الاعتقاد من الدلائل الوهمية، فالخرص ما كان غير علم، قال تعالى {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف20]، ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ يكذبون أصرح من لفظ {يَخْرُصُونَ}.
واعلم أن السياق اقتضى ذم الاستدلال بالخرص، لأنه حزر وتخمين لا ينضبط، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر. فأخذ به مالك، والشافعي، ومحمله على الرخصة تيسيرا على أرباب النخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة، فتؤخذ الزكاة منهم على ما يقدره الخرص. وكذلك في قسمة الثمار بين الشركاء، وكذلك في العرية يشتريها المعري ممن أعراه، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخا.
[117] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
تعليل لقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام: 116] لأن مضمونه التحذير من نزغاتهم وتوقع التضليل منهم وهو يقتضي أن المسلمين يريدون الاهتداء، فليجتنبوا الضالين، وليهتدوا بالله الذي يهديهم. وكذلك شأن "إن" إذا جاءت في خبر لا يحتاج لرد الشك أو الإنكار: أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالذي قبله، بحيث تغني غناء فاء التفريع، وتفيد التعليل. ولما اشتملت الآيات المتقدمة على بيان ضلال الضالين، وهدى المهتدين، كان قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} تذييلا

لجميع تلك الأغراض.
وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ} لتشريف المضاف إليه، وإظهار أن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام هو الهدى، وأن الذين أخبر عنهم بأنهم مضلون لا حظ لهم في الهدى لأنهم لم يتخذوا الله ربا لهم. وقد قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم".
و {أَعْلَمُ} اسم تفضيل للدلالة على أن الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالين، ولا أحد من المهتدين، وأن غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلين، ويفوته علم كثير من الفريقين، وتخفى عليه دخيلة بعض الفريقين.
والضمير في قوله {هُوَ أَعْلَمُ} ضمير الفصل، لإفادة قصر المسند على المسند إليه، فالأعلمية بالضالين والمهتدين مقصورة على الله تعالى، لا يشاركه فيها غيره، ووجه هذا القصر أن الناس لا يشكون في أن علمهم بالضالين والمهتدين علم قاصر، لأن كل أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من الناس،وكلهم يعلم قصور علمه، ويتحقق أن ثمة من هو أعلم من العالم منهم، لكن المشركين يحسبون أن الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلمية المطلقة.
و {مَنْ} موصولة، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء، كما دل عليه وجود الباء في قوله {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} لأن أفعل التفضيل لا ينصب بنفسه مفعولا به لضعف شبهه بالفعل، بل إنما يتعدى إلى المفعول بالباء أو باللام أو بإلى، ونصبه المفعول نادر، وحقه هنا أن يعدى بالباء، فحذفت الباء إيجاز حذف، تعويلا على القرينة. وإنما حذف الحرف من الجملة الأولى، وأظهر في الثانية، دون العكس، مع أن شأن القرينة أن تتقدم، لأن أفعل التفضيل يضاف إلى جمع يكون المفضل واحدا منهم، نحو: هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء، فلما كان المنصوبان فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب، يلتبس المفعول بالمضاف إليه، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى، لأن الصلة فيها دالة على أن المراد أن الله أعلم بهم، فلا يتوهم أن يكون المعنى: الله أعلم الضالين عن سبيله، أي أعلم عالم منهم، إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال: فلان أعلم الجاهلين، لأنه كلام متناقض، فإن الضلال جهالة، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم، وذلك من أنواع القرينة الحالية، بخلاف ما لو قال: وهو أعلم المهتدين، فقد يتوهم السامع أن المراد أن

أن الله أعلم المهتدين، أي أقوى المهتدين علما، لأن الاهتداء من العلم. هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله: {هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} من حرف الجر الذي يتعدى به {أَعْلَمُ}.
[118] {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ}
هذا تخلص من محاجة المشركين وبيان ضلالهم، المذيل بقوله {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:117] انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين، وإبطال شرائع شرعها المضلون، تبيينا يزيل التشابه والاختلاط. ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين، بأضدادها التي كان شرعها المشركون وسلفهم.
وما تشعر به الفاء من التفريع يقضي باتصال هذه الجملة بالتي قبلها، ووجه ذلك: أن قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] تضمن إبطال ما ألقاه المشركون من الشبهة على المسلمين: في تحريم الميتة، إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصقر حلال أكله وأن ما قتل الله حرام وأن ذلك مما شمله قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، فلما نهى الله عن اتباعهم، وسمى شرائعهم خرصا، فرع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه، أي عند قتله، أي ما نحو أو ذبح وذكر اسم الله عليه، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، ومنه الميتة، فإن الميتة لا يذكر اسم الله عليها، ولذلك عقبت هذه الآية بآية : {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121], فتبين أن الفاء للتفريع على معلوم من المراد من الآية السابقة.
والأمر في قوله: {فَكُلُوا} للإباحة. ولما لم يكن يخطر ببال أحد أن ما ذكر اسم الله عليه يحرم أكله، لأن هذا لم يكن معروفا عند المسلمين، ولا عند المشركين، علم أن المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج، ولكن بيان ما هو المباح، وتمييزه عن ضده من الميتة وما ذبح على النصب. والخطاب للمسلمين.
وقوله: {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} دل على أن الموصول صادق عن الذبيحة، لأن العرب كانوا يذكرون عند الذبح أو النحر اسم المقصود بتلك الذكاة، يجهرون بذكر اسمه، ولذلك قيل فيه: أهل به لغير الله، أي أعلن. والمعنى كلوا المذكى ولا تأكلوا الميتة، فما

ذكر اسم الله عليه كناية عن المذبوح لأن التسمية إنما تكون عند الذبح.
وتعليق فعل الإباحة بما ذكر اسم الله عليه أفهم أن غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون، وهذا الغير يساوي معناه ما ذكر اسم غير الله عليه، لأن عادتهم أن يذبحوا ذبيحة إلا ذكروا عليها اسم الله، إن كانت هديا في الحج، أو ذبيحة للكعبة، وإن كانت قربانا للأصنام أو للجن ذكروا عليها اسم المتقرب إليه. فصار قوله {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} مفيدا النهي عن أكل ما ذكر اسم غير الله عليه، والنهي عما لم يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله، لأن ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلا لقصد تجنب ذكره.
وعلم من ذلك أيضا النهي عن أكل الميتة ونحوها، مما لم تقصد ذكاته، لأن ذكر اسم الله أو اسم غيره إنما يكون عند إرادة ذبح الحيوان. كما هو معروف لديهم، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكي دون الميتة، بناء على عرف المسلمين لأن النهي موجه إليهم. ومما يؤيد ذلك: ما في الكشاف، أن الفقهاء تأولوا قوله الآتي: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} بأنه أراد به الميتة، وبناء على فهم أن يكون قد ذكر اسم الله عليه عند ذكاته دون ما ذكر عليه اسم غير الله، أخذا من مقام الإباحة والاقتصار فيه على هذا دون غيره، وليس في الآية صيغة قصر، ولا مفهوم مخالفة، ولكن بعضها من دلالة صريح اللفظ، وبعضها من سياقه، وهذه الدلالة الأخيرة من مستتبعات التراكيب المستفادة بالعقل التي لا توصف بحقيقة ولا مجاز. وبهذا يعلم أن لا علاقة للآية بحكم نسيان التسمية عند الذبح، فإن تلك مسألة أخرى لها أدلتها وليس من شأن التشريع القرآني التعرض للأحوال النادرة.
و"على" للاستعلاء المجازي، تدل على شدة اتصال فعل الذكر بذات الذبيحة، بمعنى أن يذكر اسم الله عليها عند مباشرة الذبح لا قبله أو بعده.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} تقييد للاقتصار المفهوم: من فعل الإباحة، وتعليق المجرور به، وهو تحريض على التزام ذلك، وعدم التساهل فيه، حتى جعل من علامات كون فاعله مؤمنا، وذلك حيث كان شعار أهل الشرك ذكر اسم غير الله على معظم الذبائح.
فأما ترك التسمية: فإن كان لقصد تجنب ذكر اسم الله فهو مساو لذكر اسم غير الله، وإن كان لسهو فحكمه يعرف من أدلة غير هذه الآية، منها قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا

إِنْ نَسِينَا} [البقرة: 286] وأدلة أخرى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
[119] {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}.
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.
عطف على قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] والخطاب للمسلمين.
و{مَا} للاستفهام، وهو مستعمل في معنى النفي: أي لا يثبت لكم عدم الأكل مما ذكر اسم الله عليه، أي كلوا مما ذكر اسم الله عليه. واللام للاختصاص، وهي ظرف مستقر خبر عن "ما"، أي ما استقر لكم.
و {أَلَّا تَأْكُلُوا} مجرور بـ"في" محذوفة، مع "أن"، وهي متعلقة بما في الخبر من معنى الاستقرار. وتقدم بيان مثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة البقرة [246].
ولم يفصح أحد من المفسرين عن وجه عطف هذا على ما قبله، ولا عن الداعي إلى هذا الخطاب، سوى ما نقله الخفاجي في حاشية التفسير عمن لقبه علم الهدى ولعله عنى به الشريف المرتضى: أن سبب نزول هذه الآية أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات، تقشفا وتزهدا آ ه، ولعله يريد تزهدا عن أكل اللحم، فيكون قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} استطرادا بمناسبة قوله قبله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]، وهذا يقتضي أن الاستفهام مستعمل في اللوم، ولا أحسب ما قاله هذا الملقب بعلم الهدى صحيحا ولا سند له أصلا. قال الطبري: ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمة كف عن أكل ما أحل الله من الذبائح.
والوجه عندي أن سبب نزول هذه الآية ما تقدم آنفا من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، لما حرم الله أكل الميتة: "أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله" يعنون الميتة، فوقع في أنفس بعض المسلمين شيء، فأنزل الله {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ

عَلَيْهِ} أي فأنبأهم الله بإبطال قياس المشركين المموه بأن الميتة أولى بالأكل مما قتله الذابح بيده، فأبدى الله للناس الفرق بين الميتة والمذكى، بأن المذكى ذكر اسم الله عليه، والميتة لا يذكر اسم الله عليها، وهو فارق مؤثر. وأعرض عن محاجة المشركين لأن الخطاب مسوق إلى المسلمين لإبطال محاجة المشركين فآل إلى الرد على المشركين بطريق التعريض. وهو من قبيل قوله في الرد على المشركين، في قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275]، إذ قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] كما تقدم هنالك، فينقلب معنى الاستفهام في قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا} إلى معنى لا يسول لكم المشركون أكل الميتة، لأنكم تأكلون ما ذكر اسم الله عليه، هذا ما قالوه وهو تأويل بعيد عن موقع الآية.
وقوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} جملة في موضع الحال مبينة لما قبلها، أي لا يصدكم شيء من كل ما أحل الله لكم، لأن الله قد فصل لكم ما حرم عليكم فلا تعدوه إلى غيره. فظاهر هذا أن الله قد بين لهم، من قبل، ما حرمه عليهم من المأكولات، فلعل ذلك كان بوحي غير القرآن، ولا يصح أن يكون المراد ما في آخر هذه السورة من قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] الآية، لأن هذه السورة نزلت جملة واحدة على الصحيح، كما تقدم في ديباجة تفسيرها، فذلك يناكد أن يكون المتأخر في التلاوة متقدما نزوله، ولا أن يكون المراد ما في سورة المائدة [3] من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} لأن سورة المائدة مدنية بالاتفاق، وسورة الأنعام هذه مكية بالاتفاق.
وقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} استثناء من عائد الموصول، وهو الضمير المنصوب بـ {حَرَّمَ} , المحذوف لكثرة الاستعمال، و {مَا} موصولة، أي إلا الذي اضطررتم إليه، فإن المحرمات أنواع استثني منها ما يضطر إليه من أفرادها فيصير حلالا، فهو استثناء متصل من غير احتياج إلى جعل {مَا} في قوله: {مَا اضْطُرِرْتُمْ} مصدرية.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وعاصم، وأبو جعفر، وخلف: {وَقَدْ فَصَّلَ} ببناء الفعل للفاعل. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بالبناء للمجهول. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر: {مَا حَرَّمَ} بالبناء للفاعل، وقرأه الباقون: بالبناء للمجهول. والمعنى في القراءات فيهما واحد.
والاضطرار تقدم بيانه في سورة المائدة.
{وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}

تحذير من التشبه بالمشركين في تحريم بعض الأنعام على بعض أصناف الناس. وهو عطف على جملة: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، ويجوز أن يكون الواو للحال، فيكون الكلام تعريضا بالحذر من أن يكونوا من جملة من يضلهم أهل الأهواء بغير علم.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب: {لَيُضِلُّونَ} بفتح الياء على أنهم ضالون في أنفسهم، وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بضم الياء على معنى أنهم يضللون الناس، والمعنى واحد، لأن الضال من شأنه أن يضل غيره، ولأن المضل لا يكون في الغالب إلا ضالا، إلا إذا قصد التغرير بغيره. والمقصود التحذير منهم وذلك حاصل على القراءتين.
والباء في {بِأَهْوَائِهِمْ} للسببية على القراءتين. والباء في {بِغَيْرِ عِلْمٍ} للملابسة، أي يضلون منقادين للهوى، ملابسين لعدم العلم. والمراد بالعلم: الجزم المطابق للواقع عن دليل، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]. ومن هؤلاء قادة المشركين في القديم، مثل عمرو بن لحي، أول من سن لهم عبادة الأصنام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، ومن بعده مثل الذين قالوا: ما قتل الله أولى بأن نأكله مما قتلنا بأيدينا.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} تذييل، وفيه إعلام للرسول صلى الله عليه وسلم بتوعد الله هؤلاء الضالين المضلين، فالإخبار بعلم الله بهم كناية عن أخذه إياهم بالعقوبة وأنه لا يفلتهم، لأن كونه عالما بهم لا يحتاج إلى الإخبار به. وهو وعيد لهم أيضا، لأنهم يسمعون القرآن ويقرأ عليهم حين الدعوة. وذكر المعتدين، عقب ذكر الضالين، قرينة على أنهم المراد وإلا لم يكن لانتظام الكلام مناسبة، فكأنه قال: إن ربك هو أعلم بهم وهم معتدون، وسماهم الله معتدين. والاعتداء: الظلم، لأنهم تقلدوا الضلال من دون حجة ولا نظر، فكانوا معتدين على أنفسهم، ومعتدين على كل من دعوه إلى موافقتهم. وقد أشار هذا إلى أن كل من تكلم في الدين بما لا يعلمه، أو دعا الناس إلى شيء لا يعلم أنه حق أو باطل، فهو معتد ظالم لنفسه وللناس، وكذلك كل من أفتى وليس هو بكفء للإفتاء.
[120] {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا

يَقْتَرِفُونَ}
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ}
جملة معترضة، والواو اعتراضية، والمعنى: إن أردتم الزهد والتقرب إلى الله فتقربوا إليه بترك الإثم، لا بترك المباح. وهذا في معنى قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 177] الآية.
وتقدم القول على فعل "ذر" عند قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} في هذه السورة [70]. والإثم تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} في سورة البقرة [219].
والتعريف في الإثم: تعريف الاستغراق، لأنه في المعنى تعريف للظاهر وللباطن منه، والمقصود من هذين الوصفين تعميم أفراد الإثم لانحصارها في هذين الوصفين، كما يقال: المشرق والمغرب والبر والبحر، لقصد استغراق الجهات.
وظاهر الإثم ما يراه الناس، وباطنه ما لا يطلع عليه الناس ويقع في السر، وقد استوعب هذا الأمر ترك جميع المعاصي. وقد كان كثير من العرب يراءون الناس بعمل الخير، فإذا خلوا ارتكبوا الآثام، وفي بعضهم جاء قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204, 206].
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}.
تعليل للأمر بترك الإثم، وإنذار وإعذار للمأمورين، ولذلك أكد الخبر ب"إِنَّ"، وهي في مثل هذا المقام، أي مقام تعقيب الأمر أو الإخبار تفيد معنى التعليل، وتغنى عن الفاء، ومثالها المشهور قول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
وإظهار لفظ الإثم في مقام إضماره إذ لم يقل: إن الذين يكسبونه لزيادة التنديد بالإثم، وليستقر في ذهن السامع أكمل استقرار، ولتكون الجملة مستقلة فتسير مسير الأمثال والحكم. وحرف السين، الموضوع للخبر المستقبل، مستعمل هنا في تحقق الوقوع

واستمراره.
ولما جاء في المذنبين فعل يكسبون المتعدي إلى الإثم، جاء في صلة جزائهم بفعل {يَقْتَرِفُونَ} ، لأن الاقتراف إذا أطلق فالمراد به اكتساب الإثم كما تقدم آنفا في قوله تعالى: {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113].
[121] {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}
جملة: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} معطوفة على جملة: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118].
و"ما" في قوله: {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} موصولة، وما صدق الموصول هنا: ذكي، بقرينة السابق الذي ما صدقه ذلك بقرينة المقام. ولما كانت الآية السابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسم الله عليه، وأفهمت النهي عما لم يذكر اسم الله عليه، وهو الميتة، وتم الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقة بينها وبين ما ذكي وذكر اسم الله عليه، ففي هذه الآية أفيد النهي والتحذير من أكل ما ذكر اسم غير الله عليه. فمعنى: {لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}: أنه ترك ذكر اسم الله عليه قصدا وتجنبا لذكره عليه، ولا يكون ذلك إلا لقصد أن لا يكون الذبح لله، وهو يساوي كونه لغير الله، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله، كما تقدم بيانه عند قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118]. ومما يرشح أن هذا هو المقصود قوله هنا: {إِنَّهُ لَفِسْقٌ} وقوله في الآية الآتية: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، فعلم أن الموصوف بالفسق هنا: هو الذي وصف به هنالك، وقيد هنالك بأنه أهل لغير الله به، وبقرينة تعقيبه بقوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} لأن الشرك إنما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكى، ولا يكون بترك التسمية.
وربما كان المشركون في تحيلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التسمية، بحيث لا يسمون الله ولا يسمون للأصنام، فيكون المقصود من الآية: تحذير المسلمين من هذا الترك المقصود به التمويه، وأن يسمى على الذبائح غير أسماء آلهتهم.
فإن اعتددنا بالمقصد والسياق، كان اسم الموصول مرادا به شيء معين، لم يذكر اسم الله عليه، فكان حكمها قاصرا على ذلك المعين، ولا تتعلق بها مسألة وجوب التسمية

في الذكاة، ولا كونها شرطا أو غير شرط بله حكم نسيانها. وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنزول، واعتددنا بالموصول صادقا على كل ما لم يذكر اسم الله عليه، كانت الآية من العام الوارد على سبب خاص، فلا يخص بصورة السبب، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التسمية على الذبيحة.
وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال أحدها: أن المسلم إن نسي التسمية على الذبح تؤكل ذبيحته، وإن تعمد ترك التسمية استخفافا أو تجنبا لها لم تؤكل وهذا مثل ما يفعله بعض الزنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الذين يزعمون أن الجن تمتلكهم، فيتفادون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجن ولا يسمون اسم الله عليها، لأنهم يزعمون أن الجن تنفر من اسم الله تعالى خيفة منه، وهذا متفش بينهم في تونس ومصر فهذه ذبيحة لا تؤكل. ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النسيان، إعمالا لقاعدة رفع حكم النسيان عن الناس، وإن تعمد ترك التسمية لا لقصد استخفاف أو تجنب ولكنه تثاقل عنها، فقال مالك، في المشهور، وأبو حنيفة، وجماعة، وهو رواية عن أحمد: لا تؤكل. ولا شك أن الجهل كالنسيان. ولعلهم استدلوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللفظ دون معونة السياق.
الثاني: قال الشافعي، وجماعة، ومالك، في رواية عنه: تؤكل، وعندي أن دليل هذا القول أن التسمية تكملة للقربة، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة، ولا يبلغ حكم التسمية أن يكون مفسدا للإباحة. وفي الكشاف أنهم تأولوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنه الميتة خاصة، وبما ذكر غير اسم الله عليه. وفي أحكام القرآن لابن العربي، عن إمام الحرمين: ذكر الله إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة. وظاهر أن العامد آثم وأن المستخف أشد إثما. وأما تعمد ترك التسمية لأجل إرضاء غير الله فحكمه حكم من سمى لغير الله تعالى. وقيل: إن ترك التسمية عمدا يكره أكلها، قاله أبو الحسن بن القصار، وأبو بكر الأبهري من المالكية، ولا يعد هذا خلافا، ولكنه بيان لقول مالك في إحدى الروايتين. وقال أشهب، والطبري: تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا، إذا لم يتركها مستخفا. وقال عبد الله بن عمر، وابن سيرين، ونافع، وأحمد بن حنبل، وداود: لا تؤكل إذا لم يسم عليها عمدا أو نسيانا، أخذا بظاهر الآية، دون تأمل في المقصد والسياق.
وأرجح الأقوال: هو قول الشافعي. والرواية الأخرى عن مالك، إن تعمد ترك التسمية تؤكل، وأن الآية لم يقصد منها إلا تحريم ما أهل به لغير الله بالقرائن الكثيرة التي

ذكرناها آنفا، وقد يكون تارك التسمية عمدا آثما، إلا أن إثمه لا يبطل ذكاته كالصلاة في الأرض المغصوبة عند غير أحمد.
وجملة: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} معطوفة على جملة {وَلا تَأْكُلُوا} عطف الخبر على الإنشاء، على رأي المحققين في جوازه، وهو الحق، لا سيما إذا كان العطف بالواو، وقد أجاز عطف الخبر على الإنشاء بالواو بعض من منعه بغير الواو، وهو قول أبي علي الفارسي، واحتج بهذه الآية كما في مغني اللبيب. وقد جعلها الرازي وجماعة: حالا {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، بناء على منع عطف الخبر على الإنشاء.
والضمير في قوله {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} يعود على {مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}. والإخبار عنه بالمصدر وهو {لَفِسْقٌ} مبالغة في وصف الفعل، وهو ذكر اسم غير الله، بالفسق حتى تجاوز الفسق صفة الفعل أن صار صفة المفعول فهو من المصدر المراد به اسم المفعول: كالخلق بمعنى المخلوق، وهذا نظير جعله فسقا في قوله بعد {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]. والتأكيد بإن: لزيادة التقرير، وجعل في الكشاف الضمير عائدا إلى الأكل المأخوذ من {وَلا تَأْكُلُوا}، أي: وإن أكله لفسق.
وقوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} عطف على: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} ، أي: واحذروا جدل أولياء الشياطين في ذلك، والمراد بأولياء الشياطين: المشركون، وهم المشار إليهم بقوله، فيما مر: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112] وقد تقدم بيانه.
والمجادلة المنازعة بالقول للإقناع بالرأي، وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] في سورة النساء. والمراد هنا المجادلة في إبطال أحكام الإسلام وتحبيب الكفر وشعائره، مثل قولهم: كيف نأكل ما نقتل بأيدينا ولا نأكل ما قتله الله.
وقوله {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} حذف متعلق {أَطَعْتُمُوهُمْ} لدلالة المقام عليه، أي: إن أطعتموهم فيما يجادلونكم فيه، وهو الطعن في الإسلام، والشك في صحة أحكامه. وجملة: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} جواب الشرط. وتأكيد الخبر بإن لتحقيق التحاقهم بالمشركين إذا أطاعوا الشياطين، وإن لم يدعوا لله شركاء، لأن تخطئة أحكام الإسلام تساوي الشرك، فلذلك احتيج إلى التأكيد، أو أراد: إنكم لصائرون إلى الشرك، فإن الشياطين تستدرجكم بالمجادلة حتى يبلغوا بكم إلى الشرك، فيكون اسم الفاعل مرادا به

الاستقبال. وليس المعنى: إن أطعتموهم في الإشراك بالله فأشركتم بالله إنكم لمشركون، لأنه لو كان كذلك لم يكن لتأكيد الخبر سبب، بل ولا للإخبار بأنهم مشركون فائدة.
وجملة: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} جواب الشرط، ولم يقترن بالفاء لأن الشرط إذا كان مضافا يحسن في جوابه التجريد عن الفاء، قاله أبو البقاء العكبري، وتبعه البيضاوي، لأن تأثير الشرط الماضي في جزائه ضعيف، فكما جاز رفع الجزاء وهو مضارع، إذا كان شرطه ماضيا، كذلك جاز كونه جملة اسمية غير مقترنة بالفاء. على أن كثيرا من محققي النحويين يجيز حذف فاء الجواب في غير الضرورة، فقد أجازه المبرد وابن مالك في شرحه على مشكل الجامع الصحيح، وجعل منه قوله صلى الله عليه وسلم: إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة على رواية إن بكسر الهمزة دون رواية فتح الهمزة.
[122] {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
الواو في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} عاطفة لجملة الاستفهام على جملة: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] لتضمن قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أن المجادلة، المذكورة من قبل، مجادلة في الدين: بتحسين أحوال أهل الشرك وتقبيح أحكام الإسلام التي منها: تحريم الميتة، وتحريم ما ذكر اسم غير الله عليه. فلما حذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشياطين ومجادلتهم بقوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] أعقب ذلك بتفظيع حال المشركين، ووصف حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشرك، فجاء بتمثيلين للحالتين، ونفى مساواة إحداهما للأخرى: تنبيها على سوء أحوال أهل الشرك وحسن حال أهل الإسلام.
والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تماثل الحالتين: فالحالة الأولى حالة الذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين، وهي المشبهة بحال من كان ميتا مودعا في ظلمات فصار حيا في نور واضح، وسار في الطريق الموصلة للمطلوب بين الناس. والحالة الثانية حالة المشرك وهي المشبهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها، لأنه في ظلمات.
وفي الكلام إيجاز حذف، في ثلاثة مواضع، استغناء بالمذكور عن المحذوف: فقوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} معناه: أحال من كان ميتا، أو صفة من كان ميتا. وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} يدل على أن المشبه به حال من كان ميتا في

ظلمات. وقوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} تقديره: كمن مثله مثل ميت فما صدق "مَن" ميت بدليل مقابلته بميت في الحالة المشبهة، فيعلم أن جزء الهيئة المشبهة هو الميت لأن المشبه والمشبه به سواء في الحالة الأصلية وهي حالة كون الفريقين مشركين. ولفظ مثل بمعنى حالة. ونفي المشابهة هنا معناه نفي المساواة، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلا لا يلتبس، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16] وقوله {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] والكاف في قوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} كاف التشبيه، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري.
والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسلم وتخلص من الشرك بحال من كان ميتا فأحيي، وتمثيل حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره. فتضمنت جملة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى، وجملة: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} الخ تمثيل الحالة الثانية، فهما حالتان مشبهتان، وحالتان مشبه بهما، وحصل بذكر كاف التشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أن معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بقي في الشرك. كما حصل من مجموع الجملتين: أن في نظم الكلام تشبيهين مركبين.
ولكن وجود كاف التشبيه في قوله: {كَمَنْ مَثَلُهُ} مع عدم التصريح بذكر المشبهين في التركيبين أثارا شبهة: في اعتبار هذين التشبيهين أهو من قبيل التشبيه التمثيلي، أم من قبيل الاستعارة التمثيلية؛ فنحا القطب الرازي في شرح الكشاف القبيل الأول، ونحا التفتزاني القبيل الثاني. والأظهر ما نحاه التفتزاني: أنهما استعارتان تمثيليتان، وأما كاف التشبيه فهو متوجه إلى المشابهة المنفية في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين، فمورد كاف التشبيه غير مورد تمثيل الحالين. وبين الاعتبارين بون خفي.
والمراد: بـ {الظُّلُمَاتِ} ظلمة القبر لمناسبته للميت، وبقرينة ظاهر {فِي} من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج.
ولقد جاء التشبيه بديعا: إذ جعل حال المسلم، بعد أن صار إلى الإسلام، بحال من كان عديم الخير، عديم الإفادة كالميت، فإن الشرك يحول دون التمييز بين الحق والباطل، ويصرف صاحبه عن السعي إلى ما فيه خيره ونجاته، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغير حاله فصار يميز بين الحق والباطل، ويعلم الصالح من الفاسد، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصلاح، ويتنكب عن سبيل

الفساد، فصار في نور يمشي به في الناس. وقد تبين بهذا التمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادهم.
والباء في قوله: {يَمْشِي بِهِ} باء السببية. والناس المصرح به في الهيئة المشبهة بها هم الأحياء الذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني. والناس المقدر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين. وقد جاء المركب التمثيلي تاما صالحا لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة، ولاعتبار تشبيه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، كما قد علمته وذلك أعلى التمثيل.
وجملة: {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} حال من الضمير المجرور بإضافة "مثل"، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنور بنور ما دام في حالة الإشراك.
وجملة: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استئناف بياني، لأن التمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السامع سؤالا، أن يقول: كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضلالات، وكيف لم يشعروا بالبون بين حالهم وحال الذين أسلموا؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم، فكيف لما دعاهم الإسلام إلى الحق ونصب لهم الأدلة والبراهين بقوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهم أهل عقول وفطنة فكان حقيقا بأن يبين له السبب في دوامهم على الضلال، وهو أن ما عملوه كان تزينه لهم الشياطين، هذا التزيين العجيب، الذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالا مزينا أوضح منه وأعجب فلا يشبه ضلالهم إلا بنفسه على حد قولهم: والسفاهة كاسمها.
واسم الإشارة في قوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ} مشار به إلى التزيين المأخوذ من فعل {زُيِّنَ} أي مثل ذلك التزيين للكافرين العجيب كيدا ودقة زين لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
وحذف فاعل التزيين فبني الفعل للمجهول: لأن المقصود وقوع التزيين لا معرفة من أوقعه. والمزين شياطينهم وأولياؤهم، كقوله: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]، ولأن الشياطين من الإنس هم المباشرون للتزيين، وشياطين الجن هم المسؤولون المزينون. والمراد بالكافرين المشركون الذين الكلام عليهم في الآيات السابقة إلى قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:

121].
[123] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}.
عطف على جملة: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] فلها حكم الاستئناف البياني لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وصرفهم الحيل لصد الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشار إليه بقوله {وَكَذَلِكَ} أولياء الشياطين بتأويل {كَذَلِكَ} المذكور.
والمعنى: ومثل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكة جعلنا في كل قرية مضت أكابر يصدون عن الخير، فشبه أكابر المجرمين من أهل مكة في الشرك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمم الأخرى، أي أن أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاص بأعداء هذا الدين، فإنه سنة المجرمين مع الرسل الأولين.
فالجعل: بمعنى الخلق ووضع السنن الكونية، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشر في كل مجتمع، وبخاصة القرى.
وفي هذا تنبيه على أن أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى، لأنهم لبساطة طباعهم من الفطرة السليمة، فإذا سمعوا الخير تقبلوه، بخلاف أهل القرى، فإنهم لتشبثهم بعوائدهم وما ألفوه، ينفرون من كل ما يغيره عليهم، ولهذا قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] فجعل النفاق في الأعراب نفاقا مجردا، والنفاق في أهل المدينة نفاقا ماردا.
وقد يكون الجعل بمعنى التصيير، وهو تصيير خلق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى، ثم إن تصارع الخير والشر يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشر والفساد، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشر وكثروا. ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة التي وصفها أفلاطون في كتابه، والتي كادت أن تحقق صفاتها في مدينة أثينة في زمن جمهوريتها، ولكنها ما تحققت بحق إلا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وزمان الخلفاء الراشدين فيها.

وقد نبه إلى هذا المعنى قوله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الاسراء:16] على قراءة تشديد ميم: {أَمَرْنَا}. والأظهر في نظم الآية: أن: {جَعَلْنَا} بمعنى خلقنا وأوجدنا، وهو يتعدى إلى مفعول واحد كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] فمفعوله: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}.
وقوله: {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} ظرف لغو متعلق ب {جَعَلْنَا} وإنما قدم على المفعول مع أنه دونه في التعلق بالفعل، لأن كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهم في هذا الخبر، ليعلم أهل مكة أن حالهم جرى على سنن أهل القرى المرسل إليها.
وفي قوله: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} إيجاز لأنه أغنى عن أن يقول جعلنا مجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة. وقوله: {لِيَمْكُرُوا} متعلق بـ {جَعَلْنَا} أي ليحصل المكر، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أن مكرهم ليس بعظيم الشأن.
ويحتمل أن يكون {جَعَلْنَا} بمعنى صيرنا فيتعدى إلى مفعولين هما: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} على أن {مُجْرِمِيهَا} المفعول الأول، و {أَكَابِرَ} مفعول ثان، أي جعلنا مجرميها أكابر. وقدم المفعول الثاني للاهتمام به لغرابة شأنه، لأن مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب، إذ ليسوا بأهل للسؤدد، كما قال طفيل الغنوي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... تولت فبالأشرار تنقاد
وتقديم قوله: {فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأول. وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم، وتفاقم ضره، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك القرية، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأن بقاءهم على الشرك صيرهم مجرمين بين من أسلم منهم.
ولعل كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السامعون كليهما، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114].
واللام في {لِيَمْكُرُوا} لام التعليل، فإن من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصالح والفاسد، أن يعمل الصالح للصلاح، وأن يعمل الفاسد للفساد، والمكر من جملة الفساد، ولام التعليل لا تقتضي الحصر، فلله تعالى في إيجاد أمثالهم حكم جمة،

منها هذه الحكمة، فيظهر بذلك شرف الحق والصلاح ويسطع نوره، ويظهر اندحاض الباطل بين يديه بعد الصراع الطويل؛ ويجوز أن تكون اللام المسماة لام العاقبة، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8].
ودخلت مكة في عموم: {كُلِّ قَرْيَةٍ} وهي المقصود الأول، لأنها القرية الحاضرة التي مكر فيها، فالمقصود الخصوص. والمعنى: وكذلك جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كل قرية مثلهم، وإنما عمم الخبر لقصد تذكير المشركين في مكة بما حل بالقرى من قبلها، مثل قرية الحجر وسبا والرس، كقوله: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [لأعراف: 101]، ولقصد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ليس ببدع من الرسل في تكذيب قومه إياه ومكرهم به ووعده بالنصر.
وقوله: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} أكابر جمع أكبر. وأكبر اسم لعظيم القوم وسيدهم، يقال: ورثوا المجد أكبر أكبر. فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزيادة في الكبر لا في السن ولا في الجسم، فصار بمنزلة الاسم غير المشتق، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وصف به الجمع ولو كان معتبرا بمنزلة الاسم المشتق لكان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير. وجمع على أكابر، يقال: ملوك أكابر، فوزن أكابر في الجمع فعال مثل أفاضل جمع أفضل، وأيام وأشائم جمع أيمن وأشأم للطير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة.
واعلم أن اصطلاح النحاة في موازين الجموع في باب التكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصلية والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصرف في باب المجرد والمزيد. فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة.
وفي قوله {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} إيجاز لأن المعنى جعلنا في كل قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلما كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين.
والمكر: إيقاع الضر بالغير خفية وتحيلا، وهو من الخداع ومن المذام، ولا يغتفر إلا في الحرب، ويغتفر في السياسة إذا لم يكن اتقاء الضر إلا به وأما إسناده إلى الله في قوله تعالى: {وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] فهو من المشاكلة لأن قبله {وَمَكَرُوا} [آل عمران: 54]، أي مكروا بأهل الله ورسله. والمراد بالمكر هنا تحيل زعماء

المشركين على الناس في صرفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن متابعة الإسلام، قال مجاهد: كانوا جلسوا على كل عقبة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حذف متعلق: {لِيَمْكُرُوا} لظهوره، أي ليمكروا بالنبي عليه الصلاة والسلام ظنا منهم بأن صد الناس عن متابعته يضره ويحزنه، وأنه لا يعلم بذلك، ولعل هذا العمل منهم كان لما كثر المسلمون في آخر مدة إقامتهم بمكة قبيل الهجرة إلى المدينة، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ} ، فالواو للحال، أي هم في مكرهم ذلك إنما يضرون أنفسهم، فأطلق المكر على مآله وهو الضر، على سبيل المجاز المرسل، فإن غاية المكر ومآله إضرار الممكور به، فلما كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار.
وجيء بصيغة القصر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلحقه أذى ولا ضر من صدهم الناس عن اتباعه ويلحق الضر الماكرين، في الدنيا: بعذاب القتل والأسر، وفي الآخرة: بعذاب النار، إن لم يؤمنوا. فالضر انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي، وهو قصر قلب.
وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} جملة حال ثانية، فهم في حالة مكرهم بالنبي متصفون بأنهم ما يمكرون إلا بأنفسهم وبأنهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم، والشعور: العلم.
[124] {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}
{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}
عطف على جملة: {جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام: 123] لأن هذا حديث عن شيء من أحوال أكابر مجرمي مكة، وهم المقصود من التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا}. ومكة هي المقصود من عموم كل قرية كما تقدم، فالضمير المنصوب في قوله: {جَاءَتْهُمْ} عائد إلى {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام: 123]، باعتبار الخاص المقصود من العموم، إذ ليس قول: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} بمنسوب إلى جميع أكابر المجرمين من جميع القرى.

والمعنى: إذا جاءتهم آية من آيات القرآن، أي تليت عليهم آية فيها دعوتهم إلى الإيمان. فعبر بالمجيء عن الإعلام بالآية أو تلاوتها تشبيها للإعلام بمجيء الداعي أو المرسل. والمراد أنهم غير مقتنعين بمعجزة القرآن، وأنهم يطلبون معجزات عينية مثل معجزة موسى ومعجزة عيسى، وهذا في معنى قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] لجهلهم بالحكمة الإلهية في تصريف المعجزات بما يناسب حال المرسل إليهم، كما حكى الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50، 51]؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي الحديث.
وأطلق على إظهار المعجزة لديهم بالإيتاء في حكاية كلامهم إذ قيل: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} لأن المعجزة لما كانت لإقناعهم بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أشبهت الشيء المعطى لهم.
ومعنى: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} مثل ما آتى الله الرسل من المعجزات التي أظهروها لأقوامهم. فمرادهم الرسل الذين بلغتهم أخبارهم. وقيل: قائل ذلك فريق من كبراء المشركين بمكة، قال الله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] روي أن الوليد ابن المغيرة، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوءة لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا وولدا؛ وأن أبا جهل قال: زاحمنا يعني بني مخزوم بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين، وعلى هذا يكون المراد حتى يأتينا وحي كما يأتي الرسل.
أو يكون المراد برسل الله جميع الرسل، فعدلوا عن أن يقولوا مثل ما أوتي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم لا يؤمنون بأنه يأتيه وحي. ومعنى {نُؤْتَى} على هذا الوجه نعطى مثل ما أعطي الرسل، وهو الوحي. أو أرادوا برسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم فعبروا عنه بصيغة الجمع تعريضا، كما يقال: إن ناسا يقولون كذا، والمراد شخص معين، ومنه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] ونحوه، ويكون إطلاقهم عليه: {رُسُلُ اللَّهِ} تهكما به صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم في قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وقوله: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27].

{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}
اعتراض للرد على قولهم: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} على كلا الاحتمالين في تفسير قولهم ذلك.
فعلى الوجه الأول، في معنى قولهم: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} يكون قوله {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ردا بأن الله أعلم بالمعجزات اللائقة بالقوم المرسل إليهم؛ فتكون {حَيْثُ} مجازا في المكان الاعتباري للمعجزة، وهم القوم الذين يظهرها أحد منهم، جعلوا كأنهم مكان لظهور المعجزة. والرسالات مطلقة على المعجزات لأنها شبيهة برسالة يرسلها الله إلى الناس، وقريب من هذا قول علماء الكلام: وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أن المعجزة قائمة مقام قول الله "صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني"، بأمارة أني أخرق العادة دليلا على تصديقه.
وعلى الوجه الثاني، في معنى قولهم: {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} ، يكون قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ردا عليهم بأن الرسالة لا تعطى بسؤال سائلها، مع التعريض بأن أمثالهم ليسوا بأهل لها، فما صدق {حَيْثُ} الشخص الذي اصطفاه الله لرسالته.
و {حَيْثُ} هنا اسم دال على المكان مستعارة للمبعوث بالرسالة، بناء على تشبيه الرسالة بالوديعة الموضوعة بمكان أمانة، على طريقة الاستعارة المكنية. وإثبات المكان تخييل، وهو استعارة أخرى مصرحة بتشبيه الرسل بمكان إقامة الرسالة. وليست {حَيْثُ} هنا ظرفا بل هي اسم للمكان مجرد عن الظرفية، لأن {حَيْثُ} ظرف متصرف، على رأي المحققين من النحاة، فهي هنا في محل نصب بنزع الخافض وهو الباء، لأن {أَعْلَمُ} اسم تفضيل لا ينصب المفعول، وذلك كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] كما تقدم آنفا.
وجملة { يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} صفة لـ {حَيْثُ} إذا كانت {حَيْثُ} مجردة عن الظرفية، ويتعين أن يكون رابط جملة الصفة بالموصوف محذوفا، والتقدير: حيث يجعل فيه رسالاته.
وقد أفادت الآية: أن الرسالة ليست مما ينال بالأماني ولا بالتشهي، ولكن الله يعلم من يصلح لها ومن لا يصلح، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله، فإن النفوس

متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطاقة على الاضطلاع بحمله، فلا تصلح للرسالة إلا نفس خلقت قريبة من النفوس الملكية، بعيدة عن رذائل الحيوانية، سليمة من الأدواء القلبية.
فالآية دالة على أن الرسول يخلق خلقة مناسبة لمراد الله من إرساله، والله حين خلقه عالم بأنه سيرسله، وقد يخلق الله نفوسا صالحة للرسالة ولا تكون حكمة في إرسال أربابها، فالاستعداد مهيئ لاصطفاء الله تعالى، وليس موجبا له، وذلك معنى قول بعض المتكلمين: إن الاستعداد الذاتي ليس بموجب للرسالة خلافا للفلاسفة، ولعل مراد الفلاسفة لا يبعد عن مراد المتكلمين. وقد أشار ابن سينا في الإشارات إلى شيء من هذا في النمط التاسع.
وفي قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} بيان لعظيم مقدار النبي صلى الله عليه وسلم، وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النبوءة وانعدام استعدادهم، كما قيل في المثل ليس بعشك فادرجي.
وقرأ الجمهور: {رِسَالاته} بالجمع وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم بالإفراد ولما كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد.
{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ}
استئناف ناشئ عن قوله: {لِيَمْكُرُوا فِيهَا} وهو وعيد لهم على مكرهم وقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}.
فالمراد بالذين أجرموا أكابر المجرمين من المشركين بمكة بقرينة قوله: {بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} فإن صفة المكر أثبتت لأكابر المجرمين في الآية السابقة، وذكرهم بـ {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: سيصيبهم صغار، وإنما خولف مقتضى الظاهر للإتيان بالموصول حتى يومئ إلى علة بناء الخبر على الصلة، أي إنما أصابهم صغار وعذاب لإجرامهم.
والصغار بفتح الصاد الذل، وهو مشتق من الصغر، وهو القماءة ونقصان الشيء عن مقدار أمثاله.
وقد جعل الله عقابهم ذلا وعذابا: ليناسب كبرهم وعتوهم وعصيانهم الله تعالى. والصغار والعذاب يحصلان لهم في الدنيا بالهزيمة وزوال السيادة وعذاب القتل والأسر

والخوف، قال تعالى {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] وقد حصل الأمران يوم بدر ويوم أحد، فهلكت سادة المشركين؛ وفي الآخرة بإهانتهم بين أهل المحشر، وعذابهم في جهنم.
ومعنى {عِنْدَ اللَّهِ} أنه صغار مقدر عند الله، فهو صغار ثابت محقق، لأن الشيء الذي يجعله الله تعالى يحصل أثره عند الناس كلهم، لأنه تكوين لا يفارق صاحبه، كما ورد في الحديث: "إن الله إذا أحب عبدا أمر جبريل فأحبه ثم أمر الملائكة فأحبوه ثم يوضع له القبول عند أهل الأرض"، فلا حاجة إلى تقدير "مِنْ" في قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} ، ولا إلى جعل العندية بمعنى الحصول في الآخرة كما درج عليه كثير من المفسرين.
والباء في: {بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} سببية. و"ما" مصدرية: أي بسبب مكرهم، أي فعلهم المكر، أو موصولة: أي بسبب الذي كانوا يمكرونه، على أن المراد بالمكر الاسم، فيقدر عائد منصوب هو مفعول به محذوف.
[125] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}
الفاء مرتبة الجملة التي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] وما ترتب عليه من التفاريع والاعتراض. وهذا التفريع إبطال لتعللاتهم بعلة {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124]. وأن الله منعهم ما علقوا إيمانهم على حصوله، فتفرع على ذلك بيان السبب المؤثر بالحقيقة إيمان المؤمن وكفر الكافر، وهو: هداية الله المؤمن، وإضلاله الكافر، فذلك حقيقة التأثير، دون الأسباب الظاهرة، فيعرف من ذلك أن أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا، حتى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96, 97] وكما قال {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].
والهدى إنما يتعلق بالأمور النافعة: لأن حقيقته إصابة الطريق الموصل للمكان المقصود، ومجازه رشاد العقل، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلقه هنا لظهور أنه الهدى

للإسلام، مع قرينة قوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125]، وأما قوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] فهو تهكم. والضلال إنما يكون في أحوال مضرة لأن حقيقته خطأ الطريق المطلوب، فلذلك كان مشعرا بالضر وإن لم يذكر متعلقه، فهو هنا الاتصاف بالكفر لأن فيه إضاعة خير الإسلام، فهو كالضلال عن المطلوب، وإن كان الضال غير طالب للإسلام، لكنه بحيث لو استقبل من أمره ما استدبر لطلبه.
والشرح حقيقته شق اللحم، والشريحة القطعة من اللحم تشق حتى ترقق ليقع شيها. واستعمل الشرح في كلامهم مجازا في البيان والكشف، واستعمل أيضا مجازا في انجلاء الأمر، ويقين النفس به، وسكون البال للأمر، بحيث لا يتردد فيه ولا يغتم منه، وهو أظهر التفسيرين في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
والصدر مراد به الباطن، مجازا في الفهم والعقل بعلاقة الحلول، فمعنى {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} يجعل لنفسه وعقله استعدادا وقبولا لتحصيل الإسلام، ويوطنه لذلك حتى يسكن إليه ويرضى به، فلذلك يشبه بالشرح والحاصل للنفس يسمى انشراحا، يقال: لم تنشرح نفسي لكذا، وانشرحت لكذا, وإذا حل نور التوفيق في القلب كان القلب كالمتسع، لأن الأنوار توسع مناظر الأشياء. روى الطبري وغيره، عن ابن مسعود: أن ناسا قالوا: يا رسول الله كيف يشرح الله صدره للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل فيه النور فينفسح قالوا وهل لذلك من علامة يعرف بها قال الإنابة إلى دار الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الفوت".
ومعنى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} من يرد دوام ضلاله بالكفر، أو من يرد أن يضله عن الاهتداء إلى الإسلام، فالمراد ضلال مستقبل، إما بمعنى دوام الضلال الماضي، وإما بمعنى ضلال عن قبول الإسلام، وليس المراد أن يضله بكفره القديم، لأن ذلك قد مضى وتقرر.
والضيق بتشديد الياء بوزن فيعل مبالغة في وصف الشيء بالضيق، يقال ضاق ضيقا بكسر الضاد وضيقا بفتحها والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقبس الفتح، ويقال بتخفيف الياء بوزن فعل، وذلك مثل ميت وميت، وهما وإن اختلفت زنتهما، وكانت زنة فيعل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فعل، فإن الاستعمال سوى بينهما على الأصح. والأظهر أن أصل ضيق: بالتخفيف وصف بالمصدر، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف. وقرىء بهما في هذه الآية، فقرأها

الجمهور: بتشديد الياء. وابن كثير: بتخفيفها. وقد استعير الضيق لضد ما استعير له الشرح فأريد به الذي لا يستعد لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه، بحيث يكون مضطرب البال إذا عرض عليه الإسلام، وهذا كقوله تعالى: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} وتقدم في سورة النساء [90].
والحرج بكسر الراء صفة مشبهة من قولهم: حرج الشيء حرجا، من باب فرح، بمعنى ضاق ضيقا شديدا، فهو كقولهم: دنف، وقمن، وفرق، وحذر، وكذلك قرأه نافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو جعفر، وأما الباقون فقرأوه بفتح الراء على صيغة المصدر، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة، فهو كقولهم: رجل دنف بفتح النون وفرد بفتح الراء.
وإتباع الضيق بالحرج: لتأكيد معنى الضيق، لأن في الحرج من معنى شدة الضيق ما ليس في ضيق. والمعنى يجعل صدره غير متسع لقبول الإسلام، بقرينة مقابلته بقوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}. وزاد حالة المضلل عن الإسلام تبيينا بالتمثيل، فقال: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}.
قرأه الجمهور: {يَصَّعَّدُ} بتشديد الصاد وتشديد العين على أنه يتفعل من الصعود، أي بتكلف الصعود، فقلبت تاء التفعل صادا لأن التاء شبيهة بحروف الإطباق، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلبا مطردا ثم تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التخفيف بالإدغام، فتدغم في أحد أحرف الإطباق، كما هنا، فإنه أريد تخفيف أحد الحروف الثلاثة المتحركة المتوالية من {يَصَّعَّدُ}، فسكنت التاء ثم أدغمت في الصاد إدغام المقارب للتخفيف. وقرأه ابن كثير: {يَصَّعَّدُ} بسكون الصاد وفتح العين، مخففا. وقرأه أبو بكر، عن عاصم: {يصاعد} بتشديد الصاد بعدها ألف وأصله يتصاعد.
وجملة: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} في موضع الحال من ضمير: {صَدْرَهُ} أو من صدره، مثل حال المشرك حين يدعى إلى الإسلام أو حين يخلو بنفسه، فيتأمل في دعوة الإسلام، بحال الصاعد، فإن الصاعد يضيق تنفسه في الصعود، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيلة، لأن الصعود في السماء غير واقع.
والسماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف، ويجوز أن يكون السماء أطلق على الجو الذي يعلو الأرض. قال أبو علي الفارسي: لا يكون السماء المظلة للأرض، ولكن كما

قال سيبويه1 القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعدا أراد ابو علي الاستظهار بكلام سيبوية على أن اسم السماء يقال للفضاء الذاهب في ارتفاع وليست عبارة سيبوية تفسيرا للآية.
وحرف {فِي} يجوز أن يكون بمعنى "إلى"، ويجوز أن يكون بمعنى الظرفية: إما بمعنى كأنه بلغ السماء وأخذ يصعد في منازلها، فتكون هيئة تخييلية، وإما على تأويل السماء بمعنى الجو.
وجملة: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} تذييل للتي قبلها، فلذلك فصلت.
والرجس: الخبث والفساد، ويطلق على الخبث المعنوي والنفسي. والمراد هنا خبث النفس وهو رجس الشرك، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] أي مرضا في قلوبهم زائدا على مرض قلوبهم السابق، أي أرسخت المرض في قلوبهم، وتقدم في سورة المائدة [90]: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فالرجس يعم سائر الخباثات النفسية، الشاملة لضيق الصدر وحرجه، وبهذا العموم كان تذييلا، فليس خاصا بضيق الصدر حتى يكون من وضع المظهر موضع المضمر.
وقوله: {كَذَلِكَ} نائب عن المفعول المطلق المراد به التشبيه والمعنى: يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون جعلا كهذا الضيق والحرج الشديد الذي جعله في صدور الذين لا يؤمنون.
و {عَلَى} في قوله: {عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} تفيد تمكن الرجس من الكافرين، فالعلاوة مجاز في التمكن، مثل: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] والمراد تمكنه من قلوبهم وظهور آثاره عليهم. وجيء بالمضارع في {يَجْعَلُ} لإفادة التجدد في المستقبل، أي هذه سنة الله في كل من ينصرف عن الإيمان، ويعرض عنه.
و {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} موصول يومئ إلى علة الخبر، أي يجعل الله الرجس متمكنا منهم لأنهم يعرضون عن تلقيه بإنصاف، فيجعل الله قلوبهم متزائدة بالقساوة. والموصول
ـــــــ
1 في باب ما تقلب فيه الواو ياء من "كتاب" سيبويه, أي أطلق سيبويه في كلامه السماء على الارتفاع.

يعم كل من يعرض عن الإيمان، فيشمل المشركين المخبر عنهم، ويشمل غيرهم من كل من يدعى إلى الإسلام فيعرض عنه، مثل يهود المدينة والمنافقين وغيرهم.وبهذا العموم صارت الجملة تذييلا، وصار الإتيان بالموصول جاريا على مقتضى الظاهر، وليس هو من الإظهار في مقام الإضمار.
[126] {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}
عطف على جملة: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] إلى آخرها، لأن هذا تمثيل لحال هدي القرآن بالصراط المستقيم الذي لا يجهد متبعه، فهذا ضد لحال التمثيل في قوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. وتمثيل الإسلام بالصراط المستقيم يتضمن تمثيل المسلم بالسالك صراطا مستقيما، فيفيد توضيحا لقوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125]. وعطفت هذه الجملة مع أنها بمنزلة بيان الجملة التي قبلها لتكون بالعطف مقصودة بالإخبارز وهو اقبال على النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب.
والإشارة بـ {هَذَا} إلى حاضر في الذهن وهو دين الاسلام. والمناسبة قوله {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} والصراط حقيقته الطريق، وهو هنا مستعار للعمل الموصل إلى رضى الله تعالى. وإضافته إلى الرب لتعظيم شأن المضاف، فيعلم أنه خير صراط. وإضافة الرب إلى ضمير الرسول تشريف للمضاف إليه، وترضية للرسول صلى الله عليه وسلم بما في هذا السنن من بقاء بعض الناس غير متبعين دينه.
والمستقيم حقيقته السالم من العوج، وهو مستعار للصواب لسلامته من الخطأ، أي سنن الله الموافق للحكمة والذي لا يتخلف ولا يعطله شيء. ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الحس وهو القرآن، لأنه مسموع كقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]، فيكون الصراط المستقيم مستعارا لما يبلغ إلى المقصود النافع، كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. ومستقيما حال من "صراط" مؤكدة لمعنى إضافته إلى الله.
وجملة: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ} استئناف وفذلكة لما تقدم. والمراد بالآيات آيات القرآن. ومن رشاقة لفظ {الْآياتِ} هنا أن فيه تورية بآيات الطريق التي يهتدي بها السائر.
واللام في: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} للعلة، أي فصلنا الآيات لأجلهم لأنهم الذين ينتفعون بتفصيلها. والمراد بالقوم المسلمون، لأنهم الذين أفادتهم الآيات وتذكروا بها.

[127] {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
الضمير في: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} عائد إلى {قَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 127].
والجملة إما مستأنفة استئنافا بيانيا: لأن الثناء عليهم بأنهم فصلت لهم الآيات ويتذكرون بها يثير سؤال من يسأل عن أثر تبيين الآيات لهم وتذكرهم بها، فقيل: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ}.
وإما صفة: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 127]. وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكرون لا لغيرهم.
والدار: مكان الحلول والإقامة، ترادف أو تقارب المحل من الحلول، وهو مؤنث تقديرا فيصغر على دويرة. والدار مشتقة من فعل دار يدور لكثرة دوران أهلها، ويقال لها: دارة، ولكن المشهور في الدارة أنها الأرض الواسعة بين جبال.
والسلام: الأمان، والمراد به هنا الأمان الكامل الذي لا يعتري صاحبه شيء مما يخاف من الموجودات جواهرها وأعراضها، فيجوز أن يراد بدار السلام الجنة سميت دار السلام لأن السلامة الحق فيها. لأنها قرار أمن من كل مكروه للنفس، فتمحضت للنعيم الملائم، وقيل: السلام، اسم من أسماء الله تعالى، أي دار الله تعظيما لها كما يقال للكعبة: بيت الله، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه، كقول النابغة:
كم قد أحل بدار الفقر بعد غنى ... عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار
و {عِنْدَ} مستعارة للقرب الاعتباري، أريد به تشريف الرتبة كما دل عليه قوله عقبه: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} ، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأن الشيء النفيس يجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم، وأنه وعد كالشيء المحفوظ المدخر، كما يقال: إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقا للوعد. والعدول عن إضافة {عِنْدَ} لضمير المتكلم إلى إضافته للاسم الظاهر: لقصد تشريفهم بأن هذه عطية من هو مولاهم، فهي مناسبة لفضله وبره بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدم آنفا في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 124].
وعطف على جملة: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} جملة: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} تعميما لولاية الله

إياهم في جميع شؤونهم، لأنها من تمام المنة. والولي يطلق بمعنى الناصر وبمعنى الموالي.
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يجوز أن يتعلق بما في معنى الخبر في قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ}، من مفهوم الفعل، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون، فتكون الباء سببية، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام، أو الباء للعوض: أي لهم ذلك جزاء بأعمالهم، وتكون جملة: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} معترضة بين الخبر ومتعلقه، ويجوز أن يكون: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} متعلقا ب}وليهم{: أي وهو ناصرهم، والباء للسببية: أي بسبب أعمالهم تولاهم، أو الباء للملابسة، ويكون: {بما كانوا يعملون} مرادا به جزاء أعمالهم، على حذف مضاف دل عليه السياق.
وتعريف المسند بالإضافة في قوله: {وَلِيُّهُمْ} أفاد الإعلام بأن الله ولي القوم المتذكرين، ليعلموا عظم هذه المنة فيشكروها، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم. وذلك أن تعريف المسند بالإضافة يخالف طريقه تعريفه بغير الإضافة، من طرق التعريف، لأن التعريف بالإضافة أضعف مراتب التعريف، حتى أنه قد يقرب من التنكير على ما ذكره على ما ذكره المحققون: من أن أصل وضع الإضافة على اعتبار تعريف العهد، فلا يقال: غلام زيد، إلا لغلام معهود بين المتكلم والمخاطب بتلك النسبة، ولكن الإضافة قد تخرج عن ذلك في الاستعمال فتجيء بمنزلة النكرة المخصوصة بالوصف، فتقول: أتاني غلام زيد بكتاب منه، وأنت تريد غلاما له غير معين عند المخاطب، فيصير المعرف بالإضافة حينئذ كالمعرف بلام الجنس، أي يفيد تعريفا يميز الجنس من بين سائر الأجناس، فالتعريف بالإضافة يأتي لما يأتي له التعريف باللام. ولهذا لم يكن في قوله: {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} قصر ولا إفادة حكم معلوم على شيء معلوم. ومما يزيدك يقينا بهذا قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فإن عطف: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} على قوله: {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أفاد أن المراد بالأول إفادة ولاية الله للذين آمنوا لا الأعلام بأن من عرف بأنه مولى الذين آمنوا هو الله.
[128] {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.

لما ذكر ثواب القوم الذين يتذكرون بالآيات، وهو ثواب دار السلام، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الذين لا يتذكرون، وهو جزاء الآخرة أيضا، فجملة: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} الخ معطوفة على جملة: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]. والمعنى: وللآخرين النار مثواهم خالدين فيها. وقد صور هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر، ثم أفضي إلى غاية ذلك الحساب، وهو خلودهم في النار.
وانتصب: {وَيَوْمَ} على المفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكر على طريقة نظائره في القرآن، أو انتصب على الظرفية لفعل القول المقدر.
والضمير المنصوب بـ {نَحْشُرُهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الأنعام: 124] المذكور في قوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} ، أو إلى {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] في قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}. وهؤلاء هم مقابل الذين يتذكرون. فإن جماعة المسلمين يعتبرون مخاطبين لأنهم فريق واحد مع الرسول عليه الصلاة والسلام ويعتبر المشركون فريقا مبائنا لهم بعيدا عنهم بضمير الغيبة، فالمراد المشركون الذين ماتوا على الشرك واكد ب {جَمِيعاً} ليعم كل المشركين، وسادتهم. وشياطينهم، وسائر علقهم.
ويجوز أن يعود الضمير إلى الشياطين وأوليائهم في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] الخ.
وقرأ الجمهور: {نَحْشُرُهُمْ} بنون العظمة على الالتفات. وقرأه حفص عن عاصم، وروح عن يعقوب بياء الغيبة. ولما أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعين أن النداء في قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} من قبل الله تعالى. فتعين لذلك إضمار قول صادر من المتكلم، أي نقول: يا معشر الجن، لأن النداء لا يكون إلا قولا.
وجملة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ} الخ مقول قول محذوف يدل عليه أسلوب الكلام. والتقدي: نقول أو قائلين.
والمعشر: الجماعة الذين أمرهم وشأنهم واحد، بحيث تجمعهم صفة أو عمل، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وهو يجمع على معاشر أيضا وهو بمعناه، وهو مشتق من المعاشرة والمخالطة. والأكثر أن يضاف المعشر إلى اسم يبين الصفة التي اجتمع مسماه فيها، وهي هنا كونهم جنا، ولذلك إذا عطفت على ما يضاف إليه كان على

تقدير تثنية معشرا وجمعه: فالتثنية نحو: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} [الرحمن: 33] الآية، أي يا معشر الجن ويا معشر الإنس، والجمع نحو قولك: يا معاشر العرب والعجم والبربر.
والجن تقدم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} في هذه السورة [100]. والمراد بالجن الشياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجن. والإنس تقدم عند قوله: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} في هذه السورة [112].
والاستكثار: شدة الإكثار. فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل الاستلام والاستخداع والاستكبار، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتخذ كثير، يقال: استكثر من النعم أو من المال، أي أكثر من جمعها، واستكثر الأمير من الجند، ولا يتعدى بنفسه تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الذي بمعنى عد الشيء كثيرا، كقوله: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].
وقوله: {اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ} على حذف مضاف، وتقديره: من إضلال الإنس، أو من إغوائهم، فمعنى {استكثرتم من الإنس} أكثرتم من اتخاذهم، أي من جعلهم أتباعا لكم، أي تجاوزتم الحد في استهوائهم واستغوائهم، فطوعتهم منهم كثيرا جدا.
والكلام توبيخ للجن وإنكار، أي كان أكثر الإنس طوعا لكم. والجن يشمل الشياطين، وهم يغوون الناس ويطوعونهم: بالوسوسة، والتخييل، والإرهاب والمس، ونحو ذلك، حتى توهم الناس مقدرتهم وأنهم محتاجون إليهم، فتوسلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شؤونهم، حتى أصبح المسافر إذا نزل واديا قال: أعوذ بسيد هذا الوادي. أو برب هذا الوادي، يعني به كبير الجن، أو قال:يا رب الوادي إني أستجير بك يعني سيد الجن. وكان العرب يعتقدون أن الفيافي والأودية المتسعة بين الجبال معمورة بالجن، ويتخيلون أصوات الرياح زجل الجن. قال الأعشى:
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة ... للجن بالليل في حافاتها زجل
وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الذين اتبعوهم، وأطاعوهم، وأفرطوا في مرضاتهم، ولم يسمعوا من يدعوهم إلى نبذ متابعتهم، كما يدل عليه قوله الآتي: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فإنه تدرج في التوبيخ وقطع المعذرة.

والمراد بأوليائهم أولياء الجن: أي الموالون لهم، والمنقطعون إلى التعلق بأحوالهم. وأولياء الشياطين هم المشركون الذين وافوا المحشر على الشرك وقيل: أريد به الكفارة والعصاة من المسلمين، وهذا باطل لأن العاصي وإن كان قد أطاع الشياطين فليس وليا لها {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] ولأن الله تعالى قال في آخر الآية: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] - وقال: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}.
و {مِنَ الْأِنْسِ} بيان للأولياء. وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأن الناس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية.
ومعنى: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} انتفع وحصل شهوته وملائمه أي استمتع الجن بالإنس، وانتفع الإنس بالجن، فكل بعض مراد به أحد الفريقين لأنه بعض مجوع الفريقين. وإنما قالوا: استمتع بعضنا ببعض، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتوبيخ، لأنهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجن ودفع التوبيخ عنهم، بأن الجن لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس، بل نال كل من الفريقين انتفاعا بصاحبه، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنهم أرادوا مشاطرة الجناية إقرار بالحق، وإخلاصا لأوليائهم، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجن المغوين يعرض بتوبيخ المغوين بفتح الواو. فأقروا واعتذروا بأن ما فعلوه لم يكن تمردا على الله، ولا استخفاف بأمره، ولكنه كان لإرضاء الشهوات من الجانبين، وهي المراد بالاستمتاع.
ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء. وكون كلامهم دخيلا في المخاطبة، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جمل المحاورة في السؤال والجواب، بل عطفت على جملة القول المقدر لأنها قول آخر عرض في ذلك اليوم.
وجيء في حكاية قولهم بفعل {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ} مع أنه مستقبل من أجل قوله: {نَحْشُرُهُمْ} تنبيها على تحقيق وقوعه، فيعلم من ذلك التنبيه على تحقيق الخبر كلهن وأنه واقع لا محالة، إذ لا يكون بعضه محققا وبعضه دون ذلك.
واستماع الإنس بالجن هو انتفاعهم في العاجل: بتيسير شهواتهم، وفتح أبواب اللذات والأهواء لهم، وسلامتهم من بطشتهم. واستماع الجن بالإنس: هو انتفاع الجن بتكثير أتباعهم من أهل الضلالة، وأعانتهم على إضلال الناس، والوقوف في وجه دعاة الخير، وقطع سبيل الصلاح، فكا من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه مما فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره.

وقوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} استسلام لله, أي: انقضى زمن الإمهال, وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا للوقوع في قبضتك فسدت الآن دوننا المسالك, فلا نجد وفرا, في الكلام تحسر وندامة. عند ظهور عدم إغناء الأولياء عنهم شيئا, وانقضاء زون طغنيانهم وعنوهم, ومحين حين أن يلقوا جزاء أعمالهم كقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39].
وقد أفادت الآية: أن الجن المخاطبين قد أفحموا, فلم يجدوا جوابا, فتركوا أولياءهم يناضلونعنهم, وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذ {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166].
وجملة: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} فصلت عن التي قبلها على طريقة القول في المجادلة كما تقدم عند قوله تعالى: قالوا {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة [30].
وضمير الخطاب في قوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} موجه إلى الإنس فإنهم المقصود من الآية كما في قوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ: 41,42] وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119].
ومجيء القول بصيغة الماضي: للتنبيه على تحقيق وقوعه وهو مسنقبل بقرينة قوله: {يَحْشُرُهُمْ} كما تقدم, وإسناد إلى اتلغائب نظر لما وقع في كلام الأولياء: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ} إلخ.
والمثوى: اسم مكان من ثوى بالمكان إذا أقام به إقامة سكنى أم إطالة مكث, وقد بين الثواء بالخلود بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا}.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} هو من تمام ما يقال لهم في الحشر لا محال, لأنه منصوب على الحال من ضمير مثواكم, فلا بد أن يتعلق بما قبله.
وأما قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فظاهر النظم أنه من تمام ما يقال لهم. لأن الأصل في الاستثناء أن يكون إخراجنا مما قبله من الكلام. ويجوز أن يكون من مخاطبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقع اعتراضا بين ما قصه عليه من حال المشركين وأوليائهم يوم الحشر، وبين قوله له: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ويكون الوقف على قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا}.

والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} على التأويلين استثناء إما من عموم الأزمنة التي دل عليها قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} إذ الخلود هو إقامة الأبد والأبد يعم الأزمان كلها، ف"ما" ظرفية مصدرية فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مصدر، أي إلا وقت مشيئة الله إزالة خلودكم، وإما من عموم الخالدين الذي في ضمير {خَالِدِينَ} أي إلا فريقا شاء الله أن لا يخلدوا في النار.
وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسرين، من حيث ما تقرر في الكتاب والسنة وإجماع الأمة أن المشركين لا يغفر لهم وأنهم مخلدون في النار بدون استثناء فريق ولا زمان.
وقد أحصيت لهم عشرة تأويلات، بعضها لا يتم، وبعضها بعيد إذا جعل قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر، ولا يستقيم منها إلا واحد، إذا جعل الاستثناء معترضا بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا الاعتراض خطابا للمشركين الأحياء الذين يسمعون التهديد، إعذارا لهم أن يساموا، فتكون "ما" مصدرية غير ظرفية: أي إلا مشيئة الله عدم خلودهم، أي حال مشيئته، وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم، ويكون هذا بيانا وتحقيقا للمنقول عن ابن عباس: استثنى الله قوما سبق في علمه أنهم يسلمون. وعنه أيضا: هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه باجتماع أهل العلم على أن المشركين لا يغفر لهم.
ولك أن تجعل "ما" على هذا الوجه موصولة، فإنها قد تستعمل للعاقل بكثرة. وإذا جعل قوله: {خَالِدِينَ} من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية: أن الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولا حالة، وإنما هو كناية، يقصد منه أن هذا الخلود قدره الله تعالى، مختارا لا مكروه له عليه، إظهار لتمام القدرة ومحض الإدارة، كأنه يقول: لو شئت لأبطلت ذلك. وقد يعضد هذا بأن الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنة في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108,106], فانظر كيف عقب قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} في عقاب أهل الشقاوة بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وكيف عقب قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} في نعيم أهل السعادة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ

مَجْذُوذٍ} [هود: 108] فأبطل ظاهر الاستثناء بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} فهذا معنى الكناية بالاستثناء, ثم المصير بعد ذلك إلى الأدلة الدالة على أن خلود المشركين غير مخصوص بزمن ولا بحال. ويكون هذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تذييل، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} من بقية المقول لأولياء الجن في الحشر كان قوله: {إن ربك حكيم عليم} جملة معترضة بين الجمل المقولة، لبيان أن ما رتبه الله على الشرك من الخلود رتبه بحكمته وعلمه، وإن كان قوله: {خَالِدِينَ} الخ كلوا مستقلا معترضا كان قله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تذييلا للاعتراض، وتأكيدا للمقصود من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطا بالموافاة على الشرك. وجعل النجاة من ذلك منوطة بالإيمان.
والحكيم: هو الذي يضع الأشياء في مناسباتها، والأسباب لمسبباتها. والعليم: الذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقة للثواب والعقاب.
[129] {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
هو من تمام الاعتراض، أو من تمام التذييل، على ما تقدم من الاحتمالين. الواو للحال: اعتراضية، كما تقدمن أو للعطف على قوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128].
والإشارة إلى التولية المأخوذة من: {نُوَلِّي} ، وجاء اسم الإشارة بالتذكير لأن تأنيث التولية لفظي لا حقيقي، فيجوز في إشارته ما جاز في فعله الرافع للظاهر، والمعنى: وكما ولينا ما بين هؤلاء المشركين وبين أوليائهم نولي بين الظالمين كلهم بعضهم مع بعض.
والتولية يجيء من الولاء ومن الولاية، لأن كليهما يقال في فعله المتعدي: ولى، بمعنى جعل وليا، فهو من باب أعطى يتعدى إلى مفعولين، كذا فسروه، وظاهر كلامهم أنه يقال: وليت ضبة تميما إذا حالفت بينهم، وذلك أنه يقال: تولت ضبة تميما بمعنى حالفتهم، فإذا عدي الفعل بالتضعيف قيل: وليت ضبة تميما. فهو من قبيل قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] أي نلزمه ما ألزم نفسه فيكون معنى: {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} نجعل بعضهم أولياء بعض. ويكون ناظرا إلى قوله: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ} [الأنعام: 128]. وجعل الفريقين ظالمين لأن الذي يتولى قوما يصير منهم. فإذا جعل الله فريقا أولياء

للظالمين فقد جعلهم ظالمين بالأخارة، قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] وقال: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
ويقال: ولى، بمعنى جعل واليا، فيتعدى إلى مفعولين من باب أعطى أيضا، يقال: ولى عمر أبا عبيدة الشام، كما يقال: أولاه، لأنه يقال ولي أبو عبيدة الشام، ولذلك قال المفسرون: يجز أن يكون معنى: {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} نجعل بعضهم ولاة على بعض، أي نسلط بعضهم على بعض، والمعنى أنه جعل الجن وهم ظالمون مسلطين على المشركين، والمشركون ظالمون، فكل يظلم بمقدار سلطانه. والمراد: بـ {الظَّالِمِينَ} في الآية المشركون، كما هو مقتضى التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ}.
وقد تشمل الآية بطريق الإشارة كل ظالم، فتدل على أن الله سلط على الظالم من يظلمه، وقد تأولها على ذلك عبد الله بن الزبير أيام دعوته بمكة فإنه لما بلغه أن عبد الملك بن مروان قتل عمرا بن سعيد الأشدق بعد أن خرج عمرو عليه، صعد المنبر فقال: ألا إن ابن الزرقاء يعني عبد الملك بن مروان لأن مروان كان يلقب بالأزرق وبالزرقاء لأنه أزرق العينين قد قتل لطيم الشيطان1 {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. ومن أجل ذلك قيل: إن لم يقلع الظالم عن ظلمه سلط عليه ظالم آخر. قال الفخر: إن أراد الرعية أن يتخلصوا من أمير ظالم فليتركوا الظلم. وقد قيل:
وما ظالم إلا سيبلى بظالم
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الباء للسببية، أي جزاء على استمرار شركهم.
والمقصود من الآية الاعتبار والموعظة، والتحذير من الاغترار بولاية الظالمين، وتوخى الأتباع صلاح المتبوعين، وبيان سنة من سنين الله في العالمين.
[130] {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}.
ـــــــ
1 كلمة ينبز بها عمرو بن سعيد لاعوجاج في شدقه فلقبوه الأشدق, وقالوا: لطمه الشيطان.

هذا من جملة المقاولة التي تجري يوم الحشر، وفصلت الجملة لأنها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقوا بها الخلود، إبطالا لمعذرتهم، وإعلانا بأنهم محقوقون بما جزوا به، فأعاد نداءهم كما ينادي المندد عليه الموبخ فيزداد روعا.
والهمزة في {أَلَمْ يَأْتِيكُمْ} للاستفهام التقريري. وإنما جعل السؤال عن نفي إتيان الرسل إليهم لأن المقرر إذا كان حاله في ملابسة المقرر عليه حال من يظن به أن يجيب بالنفي. يؤتى بتقريره داخلا على نفي الأمر الذي المراد إقراره بإثباته. حتى إذا أقر بإثباته كان إقراره أقطع لعذره في المؤاخذة به. كما يقال للجاني: ألست الفاعل كذا وكذا، وألست القائل كذا. وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكن المسؤول المقرر من اليقين في المقرر عليه. فيؤتى بالاستفهام داخلا على نفي الشيء المقرر عليه، حتى إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم، ومنه قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [لأعراف: 172]، ولما كان حال هؤلاء الجن والإنس في التمرد على الله، ونبذ العمل الصالح ظهريا، والإعراض عن الإيمان، حال من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، جيء في تقريرهم على بعثة الرسل بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرسل إليهم، حتى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرسل مساغا، واعترفوا بمجيئهم، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب.
والرسل: ظاهره أنه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشرع، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم: من اعتقاد وعمل، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] وهم رسل الحواريين بعد عيسى.
فوصف الرسل بقوله: {مِنْكُمْ} لزيادة إقامة الحجة، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم، فيجوز أن يكون "من" اتصالية مثل التي في قولهم: لست منك ولست مني، وليست للتبعيض، فليست مثل التي في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] وذلك أن رسل الله لا يكونون إلا من الإنس، لأن مقام الرسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلا في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر، وجنس الجن أحط من البشر لأنهم خلقوا من نار.
وتكون "من" تبعيضية، ويكون المراد بضمير: {مِنْكُمْ} خصوص الإنس على طريقة التغليب، أو عود الضمير إلى بعض المذكور قلبه كما في قوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ

وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح. فأما مؤاخذة الجن بمخالفة الرسل فقد يخلق الله في الجن إلهاما بوجوب الاستماع إلى دعوة الرسل والعمل بها، كما يدل عليه قوله تعالى في سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] الآية، وقال في سورة الأحقاف [31,30]: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذلك أن الظواهر تقتضي ن الجن لهم اتصال بهذا العالم. واطلاع على أحوال أهله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [لأعراف: 27] لا ترونهم. فضعف قول من قال بوجود رسل من الجن إلى جنسهم، ونسب إلى الضحاك، ولذلك فقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجن، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت به أن الله أرسل رسلا من الجن إلى جنسهم، ويجوز أن يكون رسل الجن طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يدعون إليه ويبلغون ذلك إلى أقوامهم، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف، فمؤاخذة الجن على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأن أدلة الوحدانية عقلية لا تحتاج إلا إلى ما يحرك النظر، فلما خلق الله للجن علما بما تجيء به رسل الله من الدعاء إلى النظر في التوحيد فقد توجهت عيهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانية الله تعالى فاستحقوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرسل دعوتهم إليهم.
ومن حسن عبارات أئمتنا أنهم يقولون: الإيمان واجب على من بلغته الدعوة، دون أن يقولوا: على من وجهت إليه الدعوة. وطرق بلوغ الدعوة عديدة، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غيره من الرسل، بعث إلى الجن لانتفاء الحكمة من ذلك، ولعدم المناسبة بين الجنسين، وتعذر تخالطهما، وعن الكلبي أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن، وقاله ابن حزم، واختاره أبو عمر ابن عبد البر، وحكى الاتفاق عليه: فيكون من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا لقدره. والخوض في هذا ينبغي للعالم أن يربأ بنفسه عنه لأنه خوض في أحوال عالم لا يدخل تحت مدركاتنا فإن الله أنبأنا بأن العوالم كلها خاضعة لسلطانه. حقيق عليها طاعته، إذا كانت مدركة صالحة للتكليف.
والمقصود من الآية التي نتكلم عليها إعلام المشركين بأنهم مأمورون بالتوحيد

والإسلام وأن أولياءهم من شياطين الإنس والجن غير مفلتين من المؤاخذة على نبذ الإسلام، بله أتباعهم ودهمائهم. فذكر الجن مع الإنس في قوله {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} يوم القيامة لتبكيت المشركين وتحسيرهم على ما فرط منهم في الدنيا من عبادة الجن أو الالتجاء إليهم، على حد قوله تعالى: {ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} [الفرقان: 17] وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]
والقص كالقصص: الإخبار، ومنه لقصة للخبر، والمعنى: يخبرونكم الأخبار الدالة على وحدانية الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده، فسمى ذلك قصا لأن أكثرهم أخبار عن صفات الله تعالى وعن الرسل وأممهم وما حلبهم وعن الجزاء بالنعيم أو العذاب. فالمراد من الآيات آيات القرآن والأقوال التي تتلى فيفهمها الجن بإلهام، كما تقدم آنفا، وفهمها الإنس ممن يعرف العربية مباشرة ومن لا يعرف العربية بالترجمة.
والإنذار: الإخبار بم يخيف ويكره، وهو ضد البشارة، وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} [البقرة: 119] في سورة البقرة، وهو يتعدى إلى مفعول بنفسه وهو الملقى إليه الخبر، ويتعدى إلى الشيء المخبر عنه: بالباء، وبنفسه، يقال: أنذرته بكذا وأنذرته كذا، قال تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} [الشورى: 7] ولما كان اللقاء يوم الحشر يتضمن خيرا لأهل الخير وشرا لأهل الشر، وكان هؤلاء المخاطبون قد تمحضوا للشر، جعل إخبار الرسل إياهم بلقاء ذلك اليوم إنذارا لأنه الطرف الذي تحقق فيهم من جملة إخبار الرسل إياهم ما في ذلك اليوم وشره. ووصف اليوم باسم الإشارة في قوله: {يَوْمِكُمْ هَذَا} لتهويل أمر ذلك بما يشاهد فيه، بحيث لا تحيط العبارة بوصفه، فيعدل عنها إلى الإشارة كقوله: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]
ومعنى قولهم: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} الإقرار بما تضمنه الاستفهام من إتيان الرسل إليهم، وذلك دليل على أن دخول حرف النفي في جملة الاستفهام ليس المقصود منه إلا قطع المعذرة وأنه أمر لا يسع المسؤول نفيه، فلذلك أجملوا الجواب: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130]، أي أقررنا بإتيان الرسل إلينا.
واستعملت الشهادة في معنى الإقرار لأن أصل الشهادة الإخبار عن أمر تحققه المخبر وبينه، ومنه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ}

[آل عمران: 18] وشهد عليه. أخبر عنه خبر المتثبت المتحقق، فلذلك قالوا: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي أقررنا بإتيان الرسل إلينا. ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشرك في قوله: {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] لاختلاف المخبر عنه في الآيتين. وفصلت جملة: {قَالُوا} لأنها جارية في طريقة المحاورة.
وجملة {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} معطوفة على جملة: {قَالُوا شَهِدْنَا} باعتبار كون الأولى خبرا عن تبين الحقيقة لهم. وعلمهم حينئذ أنهم عصوا الرسل ومن أرسلهم. وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك. فعلموا وعلم السامع لخبرهم أنهم ما وقعوا في هذه الربقة إلا لأنهم غرتهم الحياة الدنيا. ولولا ذلك الغرور لما كان عملهم مما يرضاه العاقل لنفسه.
والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم: من اللهو. والتفاخر، والكبير، والعناد، والاستخفاف بالحقائق. والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل. والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم، وتحذير السامعين من دوام التورط في مثله، فأن حالهم سواء.
وجملة: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} معطوفة على جملة: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم، وتخطئة رأيهم في الدنيا، وسوء نظرهم في الآيات، وإعراضهم عن التدبر في العواقب، وقد رتب هذا الخبر على الخبر الذي قبله، وهو اغترارهم بالحياة الدنيا، لأن ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا كافرين بالله، فأما الإنس فلأنهم أشركوا به وعبدوا الجن، وأما الجن فلأنهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء لله تعالى، فكلا الفريقين من هؤلاء كافر، وهذا مثل ما أخبر الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} [الملك: 10, 11] فانظر كيف فرع على قولهم أنهم اعترفوا بذنبهم، مع أن قولهم هو عين الاعتراف، فلا يفرع الشيء عن نفسه، ولكن أريد من الخبر التعجيب من حالهم، والتسميع بهم، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التمحيص والإلجاء، فلا تنافي أنهم أنكروا الكفر في أول أمر الحساب، إذ قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]. قال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: إني أجد أشياء تختلف علي قال الله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء: 42]، وقال: {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:

23]، فقد كتموا. فقال ابن عباس: إن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فقال المشركون: تعالوا نقل: ما كنا مشركين، فختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم.
[131] {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}.
استئناف ابتدائي، تهديد وموعظة، وعبرة بتفريط أهل الضلالة في فائدة دعوة الرسل، وتنبيه لجدوى إرسال الرسل إلى الأمم ليعيد المشركون نظرا في أمرهم، ما داموا في هذه الدار، قبل يوم الحشر، ويعلموا أن عاقبة الإعراض عن دعوة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ خسرى، فيتداركوا أمرهم خشية الفوات، وإنذار باقتراب نزول العذاب بهم، وإيقاظ للمشركين بأن حالهم كحال المتحدث عنهم إذا ماتوا على شركهم.
والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى مذكور في الكلام السابق، وهو أقرب مذكور، كما هو شأن الإشارة إلى غير محسوس، فالمشار إليه هو المذكور قبل، أو هو إتيان الرسل الذي جرى الكلام عليه في حكاية تقرير المشركين في يوم الحشر عن إتيان رسلهم إليهم، وهو المصدر المأخوذ من قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فإنه لما حكى ذلك القول للناس السامعين، صار ذلك القول المحكي كالحاضر، فصح أن يشار إلى شيء يؤخذ منه. واسم الإشارة إما مبتدأ أو خبر لمحذوف تقديره: ذلك الأمر أو الأمر ذلك، كما يدل عليه ضمير الشأن المقدر بعد "أن".
و {أَنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، كما هو استعمالها عند التخفيف، وذلك لأن هذا الخبر له شأن يجدر أن يعرف. والجملة خبر {أَنْ} ، وحذفت لام التعليل الداخلة على {أَنْ}: لأن حذف جار {أَنْ} كثير شائع، والتقدير: ذلك الأمر، أو الأمر ذلك، لأنه أي الشأن لم يكن ربك مهلك القرى.
وجملة: {لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} هو شأن عظيم من شؤون الله تعالى، وهو شأن عدله ورحمته، ورضاه لعباده الخير والصلاح، وكراهيته سوء أعمالهم، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدم إليهم بالإنذار والتنبيه.
وفي الكلام إيجاز إذ علم منه: أن الله يهلك القرى المسترسل أهلها على الشرك إذا أعرضوا عن دعوة الرسل، وأنه لا يهلكهم إلا بعد أن يرسل إليهم رسلا منذرين، وأنه أراد حمل تبعة هلاكهم عليهم، حتى لا يبقي في نفوسهم أن يقولوا: لولا حمنا ربنا فأنبأنا

وأعذر إلينا، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} أي محمد صلى الله عليه وسلم أو قبل القرآن {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134] فاقتصر من هذا المعنى على معنى أن علة الإرسال هي عدم إهلاك القرى على غفلة، فدل على المعنى المحذوف.
والإهلاك: إعدام ذات الموجود وإماتة الحي. قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها، وإحياؤها إعادة عمرانها بالسكان والبناء، قال تعالى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ "أي القرية" اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] وإهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكانها. لأن الإهلاك تعلق بذات القرى، فلا حاجة إلى التمجز في إطلاق القرى على أهل القرى كما {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] لصحة الحقيقة هنا، ولأنه يمنع منه قوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131], ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] فجعل إهلاكها تدميرها، وإلى قوله: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان: 40].
والباء في: {بِظُلْمٍ} للسببية، والظلم: الشرك، أي مهلكهم بسبب شرك يقع فيا فيهلكها ويهلك أهلها الذين أوقعوه، ولذلك لم يقل: بظلم أهلها، لأنه أريد أن وجود الظلم فيها سبب هلاكها، وهلاك أهلها بالأحرى لأنهم المقصود بالهلاك.
وجملة: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} حال من {الْقَرْيَةَ} وصرح هنا بـ {أَهْلُهَا} تنبيها على أن هلاك القرى من جراء أفعال سكانها {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52].
[132] {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
احتراس على قوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131] للتنبيه على أن الصالحين من أهل القرى الغالب على أهلها الشرك والظلم لا يحرمون جزاء صلاحهم.
والتنوين في: {وَلِكُلٍّ} عوض عن المضاف إليه: أي ولكلهم، أي كل أهل القرى المهلكة درجات، يعني أن أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة. فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم. والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة، بعد أن عذبوا في الدنيا. فالله قد

ينجي المؤمنين من أهل القرى قبل نزول العذاب. وترفع درجة نالوها في الدنيا، وهي درجة إظهار عناية الله بهم، وترفع درجتهم في الآخرة، والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثم يصيرون إلى عذاب الآخرة. وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثم يصيرون إلى النعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] روى البخاري، ومسلم. عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم". وفي حديث عائشة رضي الله عنهاعند البيهقي في الشعب مرفوعا "أن الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون، قبضوا معهم ثم بعثوا على نياتهم وأعمالهم"، صححه ابن حبان. وفي صحيح البخاري، من حديث زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم ياجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين أي عقد إصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعقد بضم العين وفتح القاف قيل: أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث".
والدرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى، في سلم أو أبناء، وإن قصد بها النزول إلى محل منخفض من جب أو نحوه فهي دركات، ولذلك قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] ولما كان لفظ "كل" مرادا به جميع أهل القرية، وأتى بلفظ {الدَّرَجَاتُ} كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لتطمئن نفوس المسلمين من أهل مكة بأنهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها، ففيه إيماء إلى أن الله منجيهم من العذاب: في الدنيا بالهجرة، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين، ففي هذه الآية إيذان بأنهم سيخرجون من القرية التي حق على أهلها العذاب، فإن الله أصاب أهل مكة بالجوع من لقرية التي حق على أهلها العذاب، فإن الله أصاب أهل مكة بالجوع والخوف ثم بالغزو بعد أن أنجى رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وقد علم من الدرجات أن أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نذارة المشركين. و
في قوله {مِمَّا عَمِلُوا} تعليلية، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعماله.
وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور: {يَعْمَلُونَ} بياء الغيبة فيعود الضمير إلى أهل القرى، والمقصود

مشركو مكة، فهو للتسلية والتطمين لئلا يستبطئ وعد الله بالنصر، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب: واسمعي يا جارة. وقرأه ابن عامر بتاء المخاطب، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم، ترشيحا للتعبير بالدرجات حسبما قدمناه، ليكون سلا لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظلم، وكلتا القراءتين مراد لله تعالى فيما أحسب.
[133] {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}.
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}.
عطفت جملة: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} على جملة: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} إخبارا عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد، وفي الجملة الثانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7]، وكناية عن رحمته إذ أمهل المشركين ولم يعجل لهم العذاب، كما قال: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} في سورة الكهف [58].
وقوله: {وَرَبُّكَ} إظهار، في مقام الإضمار، ومقتضى الظاهر أن يقال: وهو الغني ذو الرحمة، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الرب من دلالة على العناية بصلاح المربوب، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتيسر مسرى الأمثال والحكم، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم.
والغني: هو الذي لا يحتاج إلى غيره، والغني الحقيقي هو الله تعالى لأنه لا يحتاج إلى غيره بحال، وفد قال علماء الكلام: إن صفة الغني الثابتة لله تعالى يشمل معناها وجوب الوجود، لأن افتقار الممكن إلى الموجد المختار، الذي يرجح طرف وجده على طرف عدمه، هو أشد الافتقار، وأحسب أن معنى الغني صفة الوجود في متعارف اللغة. إلا أن يكون ذلك اصطلاحا للمتكلمين خاصا بمعنى الغني المطلق. ومما يدل على ما قلته أن من أسمائه تعالى المغني، ولم يعتبر في معناه أنه موجود الموجودات. وتقدم الكلام على معنى الغني عند قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً} في سورة النساء [135].

وتعريف المسند باللام مقتض تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر الغني على الله، وهو قصر ادعائي باعتبار أن غني غير الله تعالى لما كان غني ناقصا نزل منزلة العدم، أي ربك الغني لا غيره، وغناه تعالى حقيقي. وذكر وصف الغني هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه، وهو: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} فهو من تقديم الدليل بين يدي الدعوى، تذكيرا بتقريب حصول الجزم بالدعوى.
و {ذُو الرَّحْمَةِ} خبر ثان. وعدل عن أن يوصف بوصف الرحيم إلى وصفه بأنه: {ذُو الرَّحْمَةِ}: لأن الغني وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلا بلوازم ذلك الوصف، وهي جوده عليهم، لأنه لا ينقص شيئا من غناه، بخلاف صفة الرحمة فإن تعلقها ينفع الخلائق، فأوثرت بكلمة {ذُو} لأن {ذُو} كلمة يتوصل بها إلى الوصف بالأجناس، ومعناها صاحب، وهي تشعر بقوة أو وفرة ما تضاف إليه، فلا يقال ذو إنصاف إلا لمن كان قوي الإنصاف، ولا يقال ذو مال لمن عنده مال قليل، والمقصود من الوصف بذي الرحمة، هنا، تمهيد لمعنى الإمهال الذي في قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}، أي فلا يقولن أحد لماذا لم يذهب هؤلاء المكذبين، أي أنه لرحمته أمهلهم إعذارا لهم.
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}.
استئناف لتهديد المشركين الذين كانوا يكذبون الإنذار بعذاب الإهلاك، فيقولون: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة 28] وذلك ما يؤذن به قوله عقبه: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
فالخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين فيكون تهديدا صريحا.
والمعنى: إن يشأ الله يعجل بإفنائكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ممن يؤمن به كما قال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]: أي فما إمهاله إياكم إلا لأنه الغني ذو الرحمة. وجملة الشرط وجوابه خبر ثالث عن المبتدأ. ومفعول: {يَشَأْ} محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة.
والإذهاب مجاز غب الإعدام كقوله: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون18].
والاستخلاف: جعل الخلف عن الشيء، والخلف: العوض عن شيء فائت، فالسين

والتاء فيه للتأكيد، و {مَا} موصولة عامة، أي: ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته، وهذا تعريض بالاستئصال لأن ظاهر الضمير يفيد العموم.
والتشبيه في قوله: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى، لا في كون المنشئات مخرجة من بقايا المعدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرية من أنجاهم الله في السفينة مع نوح عليه السلام، فيكون الكلام تعريضا بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب.
وكاف التشبيه في محل نصب نيابة عن المفعول المطلق، لأنها وصف لمحذوف تقديره: استخلافا كما أنشأكم، فإن الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف. و {مِنْ} ابتدائية. ومعنى الذرية واشتقاقها تقدم عند قوله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة [124].
ووصف {قَوْمٍ} بـ {آخَرِينَ} للدلالة على المغايرة، أي قوم ليسوا من قبائل العرب، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشئ أقواما من أقوام يخالفونهم في اللغة والعوائد والمواطن، وهذا كناية عن تباعد العصور، وتسلسل المنشآت لأن الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلا في أزمنة بعيدة، فشتان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطبين، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة.
[134] {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [الأنعام: 133] فإن المشيئة تشتمل على الحالين: حال ترك إهلاكهم، وحال إيقاعه، فأفادت هذه الجملة أن مشيئة الله تعلقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب، ولك أن تجعل الجملة استئنافا بيانيا: جوابا عن أن يقول سائل من المشركين، متوركا بالوعيد: إذا كنا قد أمهلنا وأخر عنا الاستئصال فقد أفلتنا من الوعيد، ولعله يلقاه أقوام بعدنا، فورد قوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} مورد الجواب عن هذا السؤال الناشئ عن الكلام السابق بتحقيق أن ما أوعد به المشركون واقع لا محالة وإن تأخر.
والتأكد بـ {إِنَّ} مناسب لمقام المتردد الطالب، وزيادة التأكد بلام الابتداء لأنهم متوغلون في إنكار تحقق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخاهم به، فإنهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ

أَلِيمٍ} [لأنفال: 32] إفحاما للرسول صلى الله عليه وسلم وإظهارا لتخلف وعيده.
وبناء {تُوعَدُونَ} للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وعد يعد، أو مضارع أوعد، يوعد والمتبادر هو الأول. ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين، ولو بني للمعلوم لتعين فيه أحد الأمرين: بأن يقال: إن ما نعدكم، أو إن ما نوعدكم، وهذا من بديع التوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كل فريق من السامعين ما يليق بحاله، ومعلوم أن وعيد المشركين يستلزم وعدا للمؤمنين، والمقصود الأهم هو وعيد المشركين، فلذلك عقب الكلام بقوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} فذلك كالترشيح لأحد المحتملين من الكلام الموجه.
والإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعود به المنتظر وقوعه بالشخص الغائب المنتظر إتيانه. كما تقدم في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} في هذه السورة.
وحقيقة المعجز هو الذي يجعل طالب شيء عاجزا عن نواله، أي غير قادرين، ويستعمل مجازا في معنى الإفلات من تناول طالبه كما قال إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزني بقعة من بقاعها
أي فلا تفلت مني بقعة منها لا يطل إليها العدو الذي يطالبني. فالمعنى: وما أنتم بمعجزي أي: بمفلتين من وعيدي، أو بخارجين عن قدرتي، وهو صالح للاحتمالين.
ومجيء الجملة اسمية في قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} لإفادة الثبات والدوام، في نسبة المسند للمسند إليه، وهي نسبة نفيه عن المسند إليه، لأن الخصوصيات التي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النفي إذ النفي إنما هو كيفية للنسبة. والخصوصيات مقتضيات أحوال التركيب، وليس يختلف النفي عن الإثبات إلا في اعتبار القيود الزائدة على أصل التركيب، فإن النفي يعتبر متوجها إليها خاصة وهي قيود مفاهيم المخالفة، وإلا لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفيا، مثل إفادة التجدد في لمسند الفعلي في قول جؤية بن النضر:
لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ... لكن يمر عليها وهو منطق
إذ لا فرق في إفادة التجدد بين هذا المصراع، وبين أن تقول: ألف الدرهم صرتنا. وكذلك قوله تعالى {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فإن الأول يفيد

أن نفي حلهن حكم متجدد لا ينسخ، فهما اعتباران. وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} في سورة البقرة [276].
[135] {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}.
استئناف ابتدائي بعد قوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام: 134] فإن المقصود الأول منه هو وعيد المشركين، كما مر، فأعقبه بما تمحض لوعيدهم: وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتهديد، ليملي لهم في ضلالهم إملاء يشعر، في متعارف التخاطب، بأن المأمور به مما يزيد المأمور استحقاقا للعقوبة، واقتربا منها. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ينادهم ويهددهم. وأمر أن يبتدئ خطابهم بالنداء للاهتمام بما سيقال لهم، لأن النداء يسترعي إسماع المنادين، وكان المنادي عنوان القوم لما يشعر به من أنه قد رق لحالهم حين توعدهم بقوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] لأن الشأن أنه يحب لقومه ما يحب لنفسه.
والنداء: للقوم المعاندين بقرينة المقام، الدال على أن الأمر للتهديد، وأن عملهم مخالف لعمله، لقوله: {اعْمَلُوا} مع قوله {إِنِّي عَامِلٌ}
فالأمر في قوله: {اعْمَلُوا} للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنصح بحيث يغير ناصحهم نصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبون أن يفعلوا، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائه بالمأمور بأن يفعل ما كان ينهي عنه، فكأن ذلك المنهي صار واجبا، وهذا تهكم.
والمكانة: المكان، جاء على التأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام، والدارة اسما الدار، والماءة للماء الذي ينزل حوله، يقال: أهل الماء وأهل الماءة. والمكانة هنا مستعارة للحالة التي تلبس بها المرء، تشبه الحالة في إحاطتها وتلبس صاحبها بها بالمكان الذي يحوي الشيء، كما تقدم إطلاق الدار آنفا في قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} [الأنعام: 127]، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأن أحوال المرء تظهر في مكانه ومقره، فلذلك يقال: يا فلان على مكانتك أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.

ومفعول {اعْمَلُوا} محذوف لأن الفعل نزل منزلة اللازم، أي اعملوا عملكم المألوف الذي هو دأبكم. وهو الإعراض والتكذيب بالحق.
و {عَلَى} مستعملة في التمكن على وجه الاستعارة التبعية، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة، لأن العلاوة تناسب المكان، فهي ترشيح للاستعارة، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه. والمعنى: ألزموا حالكم فلا مطمع لي في اتباعكم.
وقرأ الجمهور: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} بالإفراد. وقرأه أبو بكر عن عاصم: {مَكَانَتِكُمْ} جمع مكانة. والجمع باعتبار جمع المضاف إليه.
وجملة: {إِنِّي عَامِلٌ} تعليل لمفاد التسوية من الأمر في قوله: {اعْمَلُوا} أي لا يضرني تصميمكم على ما أنتم عليه، لكني مستمر على عملي، أي أني غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدعاء إلى الله. وحذف متعلق: {إِنِّي عَامِلٌ} للتعميم مع الاختصار، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر.
ورتب على عملهم وعمله الإنذار بالوعيد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} بفاء التفريع للدلالة على أن هذا الوعيد متفرع على ذلك التهديد.
وحرف التنفيس مراد منه تأكيد الوقوع لأن حرفي التنفيس يؤكدان المستقبل كما تؤكد "قد" الماضي، ولذلك قال سيبويه في الكلام على "لن": إنها لنفي سيفعل، فأخذ منه الزمخشري إفادتها تأكيد النفي. وهذا صريح في التهديد، لأن إخبارهم بأنهم سيعلمون يفيد أنه يعلم وقوع ذلك لا محالة، وتصميمه على أنه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدل على أنه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم، ولولا ذلك لعمل عملهم، لأن العاقل لا يرضى الضر لنفسه، فدل قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} على أن علمهم يقع في المستقبل، وأما هو فعالهم من الآن، ففيه كناية عن وثوقه بأنه محق، وأنهم مبطلون، وسيجيء نظير هذه الآية في قصة شعيب من سورة هود.
وقوله: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} استفهام، وهو يعلق فعل العلم عن العمل، فلا يعطي مفعولين استغناء بمفاد الاستفهام؛ إذ التقدير: تعلمون أحدنا تكون له عاقبة الدار. وموضع: {مَنْ} رفع على الابتداء، وجلة: {تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} خبره.
والعاقبة، في اللغة: آخر الأمر، وأثر عمل العامل، فعاقبه كل شيء هي ما ينجلي عن الشيء ويظهر في آخره من أثر ونتيجة، وتأنيثه على تأويل الحالة فلا يقال: عاقب

الأمر، ولكن عاقبة وعقبى.
وقد خصص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحسنة، قال الراغب: العاقبة والعقبى يختصان بالثواب نحو {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [لأعراف: 128]، وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] وقل من نبه على هذا، وهو من تدقيقه. وشواهده في القرآن كثيرة.
والدار الموضع الذي يحل به الناس من أرض أو بناء، وتقدم آنفا عند قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} [الأنعام: 127]، وتعريف الدار هنا تعريف الجنس. فيجوز أن يكون لفظ {الدَّارِ} مطلقا، على المعنى الحقيقي، فإضافة {عَاقِبَةَ} إلى {الدَّارِ} إضافة حقيقية، أي حسن الأخارة الحاصل في الدار، وهي الفوز بالدار، والفلج في النزاع عليها، تشبيها بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمراعي، وبذلك يكون قوله: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} استعارة تمثيلية مكنية، شبهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم، مع حالة المشركين، بحالة الغالب على امتلاك دار عدوه، وطوي المركب الدال على الهيئة المشبه بها، ورمز إليه بذكر ما هو من روادفه، وهو {عَاقِبَةُ الدَّارِ} ، فإن التمثيلية تكون مصرحة، وتكون مكنية، وإن لم يقسموها إليهما، لكنه تقسيم لا محيص منه. ويجوز أن تكون {الدَّارِ} مستعارة للحالة التي استقر فيها أحد، تشبيها للحال بالمكان في الاحتواء، فتكون إضافة عاقبة إلى الدار إضافة بيانية، أي العاقبة الحسنى التي هي حاله، فيكون الكلام استعارة مصرحة.
ومن محاسنها هنا: أنها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} فصار المعنى: اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار. وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أن عاقبة تلك الدار، أي بلد مكة، أن تكون للمسلمين، كقوله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الانبياء: 105] وقد فسر قوله: {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} بغير هذا المعنى.
وقرأ الجمهور: {مَنْ تَكُونُ} بتاء فوقية وقرأه حمزة، والكسائي، بتحتية، لأن تأنيث عاقبة غير حقيقي، فلما وقع فالعلا فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التأنيث وبدونها.
وجملة: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} تذييل للوعيد يتنزل منزلة التعليل، أي لأنه لا يفلح الظالمون، ستكون عقبى الدار للمسلمين، لا لكم، لأنكم ظالمون.

والتعريف في {الظَّالِمُونَ} للاستغراق، فيشمل هؤلاء الظالمين ابتداء. والضمير المجعول اسم "إن" ضمير الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنه أمر عظيم.
[136] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
عطف على نظائره مما حكيت فيه أقوالهم وأعمالهم: من قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام91] وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] وقوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124] وما تخلل ذلك فهو إبطال لأقوالهم، ورد لمذاهبهم، وتمثيلات ونظائر، فضمير الجماعة يعود على المشركين الذين هم غرض الكلام من أول السورة من قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. وهذا ابتداء بيان تشريعاتهم الباطلة، وأولها ما جعلوه حقا عليهم في أموالهم للأصنام: مما يشبه الصدقات الواجبة، وإنما كانوا يوجبونها على أنفسهم بالالتزام مثل النذور، أو بتعين من الذين يشرعون لهم كما سيأتي.
والجعل هنا معناه الصرف والتقسيم، كما في قول عمر في قضية: ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم المختصم فيها العباس وعلي رضي الله عنهم فيجعله رسول الله مجعل مال الله أي يضعه ويصرفه، وحقيقة معنى الجعل هو التصيير، فكما جاء صير لمعان مجازية، كذلك جاء "جعل"، فمعنى {جَعَلُوا لِلَّهِ} : صرفوا ووضعوا لله، أي عينوا له نصيبا، لأن في التعيين تصييرا تقديرنا ونقلا. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي طلحة: "أرى أن تجعلها في الأقربين" أي أن تصرفها إليهم، و {جَعَلَ} هذا يتعدى إلى مفعول واحد، وهذه التعدية هي أكثر أحوال تعديته، حتى أن تعديته إلى مفعولين إنما لما في الحقيقة مفعول وحال منه.
ومعنى: {ذَرَأَ} أنشأ شيئا وكثره. فأطلق على الإنماء لأن إنشاء شيء تكثير وإنماء. و {مِمَّا ذَرَأَ} متعلق: بـ {جَعَلَ}. و {مِنْ} تبعيضية، فهو في معنى المفعول، و {مَا} موصولة، والإتيان بالموصول لأجل دلالة صلته على تسفيه آرائهم، إذ ملكوا الله بعض ملكه، لأن ما ذرأه هو ملكه، وهو حقيق به بلا جعل منهم.

واختيار فعل: {ذَرَأَ} هنا لأنه الذي يدل على المعنى المراد، إذ المقصود بيان شرائعهم الفاسدة في نتائج أموالهم، ثم سيبين شرعهم في أصول أموالهم في قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] الآية.
و {مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ} بيان {مَا} موصولة. والحرث مراد به الزرع والشجر، وهو في الأصل من إطلاق المصدر على اسم المفعول، ثم شاع ذلك الإطلاق حتى صار الحرث حقيقة عرفية في الجنات والمزارع، قال تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 22].
والنصيب: الحظ والقسم وتقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] في سورة البقرة، والتقدير: جعلوا لله نصيبا ولغيره نصيبا آخر، وفهم من السياق أن النصيب الآخر لآلهتهم. وقد أفصح عنه في التفريع بقوله {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}.
والإشارتان إلى النصيب المعين لله والنصيب المعين للشركاء، واسما الإشارة مشار بكل واحد منهما إلى أحد النصيبين على الإجمال إذ لا غرض في المقام في تعيين ما جعلوه لله وما جعلوه لشركائهم.
والزعم: الاعتقاد الفاسد، أو القريب من الخطأ، كما تقدم عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} في سورة النساء [60]، وهو مثلث الزاي، والمشهور فيه بفتح الزاي، ومثله الزعم بالراء مثلث الراء.
وقرأ الجمهور بفتح الزاي وقرأه الكسائي بضم الزاي ويتعلق قولهم: {بِزَعْمِهِمْ} بـ {قَالُوا} وجعل قوله: {بِزَعْمِهِمْ} مواليا لبعض مقول القول ليكون متصلا بما جعلوه لله فيرتب التعجيب من حكمهم بأن ما كان لله يصل إلى شركائهم، أي ما اكتفوا بزعمهم الباطل حتى نكلوا عنه وأشركوا شركاءهم فيما جعلوه لله بزعمهم.
والباء الداخلة على {زَعْمِهِمْ} إما بمعنى {مِنْ} أي، قالوا ذلك بألسنتهم، وأعلنوا به قولا ناشئا عن الزعم، أي الاعتقاد الباطل، وإما للسببية، أي قالوا ذلك بسبب أنهم زعموا. ومحل الزعم هو ما اقتضته القسمة بين الله وين الآلهة، وإلا فإن القول بأنه ملك لله قول حق، لكنهم لما قالوه على معنى تعيين حق الله في ذلك النصيب دون نصيب آخر، كان قولهم زعما باطلا.

والشركاء هنا جمع شريك، أي شريك الله سبحانه في الإلهية، ولما شاع ذلك عندهم صار كالعلم بالغلبة، فلذلك استغنى عن الإضافة إلى ما فيه المعنى المشتق منه أعني الشركة ثم لأجل غلبته في هذا المعنى صار بمنزلة اللقب، فلذلك أضافوه إلى ضميرهم، فقالوا: لشركائنا، إضافة معنوية لا لفظية، أي للشركاء الذين يعرفون بنا. قال ابن عباس وأصحابه: كان المشركون يجعلون لله من حروثهم يعني زرعهم وشجرهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا فما كان للأصنام أنفقوه عليها وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكن ولا يأكلون منه البتة.
وكانوا يجعلون البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي للأصنام. وذكر ابن إسحاق: أن خولان كان لهم صنم اسمه عم أنس يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي سموه له تركوه للصنم وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، ومنهم بطن يقال لهم الأديم قال: وفيهم نزل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} الآية.
وقوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136]. قال ابن عباس وقتادة: كانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى الذي لشركائهم أقروه وقالوا: إن الله غني عنه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الذي لله ردوه، وإذا هلك ما لأصنامهم بقحط أخذوا بدله مما لله، ولا يفعلون ذلك فيما لله، وإذا انفجر من سقي ما جعلوه لله فساح إلى ما للذي للأصنام تركوه وإذا انفجر من سقي ما للأصنام فدخل في زرع الذي لله سدوه. وكانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوه لله فأنفقوه على أنفسهم وأقروا ما جعلوه لشركائهم للشركاء، وإذا هلك الذي جعلوه لله قالوا: ليس لآلهتنا بد من نفقة وأخذوا الذي جعلوه لله فأنفقوه عليها، وإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لآلهتهم قالوا: لو شاء الله أزكى الذي له فلا يردون على ما جعلوه لله شيئا مما لآلهتهم، فقوله: {فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} مبالغة في صونه من أن يعطي لما لله لأنه إذا كان لا يصل فهو لا يترك إذا وصل بالأولى.
وعدي {يَصِلُ} إلى اسم الجلالة وإلى اسم شركائهم. والمراد لا يصل إلى النصيب المجعول لله أو إلى لشركائهم لأنهم لما جعلوا نصيبا لله ونصيبا لشركائهم فقد استشعروا ذلك النصيب محوزا لمن جعل إليه وفي حرزه فكأنه وصل إلى ذاته.
وجملة: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} استئناف لإنشاء ذم شرائعهم. وساء هنا بمعنى بئس:

و {مَا} هي فاعل {سَاءَ} وهي موصولة وصلتها {يَحْكُمُونَ} ، وحذف العائد المنصوب، وحذف المخصوص بالذم لدلالة: {جَعَلُوا} عليه، أي: ساء ما يحكمون جعلهم، وسماه حكما تهكما، لأنهم نصبوا أنفسهم لتعيين الحقوق، ففصلوا بحكمهم حق الله من حق الأصنام، ثم أباحوا أن تأخذ الأصنام حق الله ولا يأخذ الله حق الأصنام، فكان حكما باطلا كقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50].
[137] {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}
عطف على الجملة: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} [الأنعام: 136]، والتقدير: جعلوا وزين لهم شركاؤهم قتل أولادهم فقتلوا أولادهم، فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة، وهي راجعة إلى تصرفهم في ذرياتهم بعد أن ذكر تصرفاتهم في نتائج أموالهم. ولقد أعظم الله هذا التزيين العجيب في الفساد الذي حسن أقبح الأشياء وهو قتلهم أحب الناس إليهم وهم أبناؤهم، فشبه بنفس التزيين للدلالة على أنه لو شاء أحد أن يمثله بشيء في الفظاعة والشناعة لم يسعه إلا أن يشبهه بنفسه لأنه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهر منه في بابه، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه، على حد قولهم والسفاهة كاسمها. والتقدير: وزين شركاء المشركين لكثير فيهم تزيينا مثل ذلك التزيين الذي زينوه لهم، وهو هو نفسه، وقد تقدم تفصيل ذلك عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
ومعنى التزيين التحسين، وتقدم عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في هذه السورة [108]. ومعنى تزيين ذلك هنا أنهم خيلوا لهم فوائد وقربا في هذا القتل، بأن يلقوا إليهم مضرة الاستجداء والعار في النساء، وأن النساء لا يرجى منهن نفع للقبيلة. وأنهن يجبن الآباء عند لقاء العدو، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن، فيأتونهم من المعاني التي تروج عندهم، فإن العرب كانوا مفرطين في الغيرة، والجموح من الغلب والعار كما قال النابغة:
حذارا على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
وإنما قال: {لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لأن قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل،

وكان في ربيعة ومضر، وهما جمهرة العرب. وليس كل الآباء من هاتين القبيلتين يفعله.
وأسند التزيين إلى الشركاء: إما لإرادة الشياطين الشركاء، فالتزيين تزيين الشياطين بالوسوسة، فيكون الإسناد حقيقة عقلية، وإما لأن التزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم، أو بشرع وضعه لهم من وضع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقا في أموالهم مثل عمرو بن لحي، فيكون إسناد التزيين إلى الشركاء مجازا عقليا لأن الأصنام سبب ذلك بواسطة أو بواسطتين، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101].
والمعني بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الوأد، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمة التراب، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر، كما قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الاسراء: 31]، وخشية أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها، أو مخافة السباء. وذكر في الروض الأنف عن النقاش في تفسيره: أنهم كانوا يئدون من البنات من كانت زرقاء أو برشاء، أو شيماء، أو رسحاء، تشاؤما بهن_وهذا من خور أوهامهم_ وأن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8, 9]. وقيل: كانوا يفعلون ذلك من شدة الغيرة خشية أن يأتين ما يتعير منه أهلهن.
وقد ذكر المبرد في الكامل، عن أبي عبيدة: أن تميما منعت النعمان بن المنذر الإتاوة فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر فاستاق النعم وسبى الذراري، فوفدت إليه بنو تميم فأنابوا وسألوه النساء فقال النعمان: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه وإن اختارت صاحبها أي الذي صارت إليه بالسبي تركت عليه فكلهن اختارت أباها إلا ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج، فنذر قيس أن لا تولد له ابنة إلا قتلها فهذا شيء يعتل به من وأدوا، يقولون: فعلناه أنفة، وقد أكذب الله ذلك في القرآن، أي بقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً} [الأنعام: 140].
وذكر البخاري، أن أسماء بنت أبي بكر، قالت: كان زيد بن عمرو بن نفيل يحيي الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها. والمعروف أنهم كانوا يئدون البنت وقت ولادتها قبل أن تراها أمها، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58, 59]. وكان ضعضعة بن معاوية من

مجاشع، وهو جد الفرزدق، يفدي الموءودة، يفعل مثل فعل زيد بن عمرو بن نفيل. وقد افتخر الفرزدق بذلك في شعره في قوله:
ومنا الذي منع الوائدات ... وأحياء الوئيد فلم توءد
وقد أدرك جده الإسلام فاسلم. ولا يعرف في تاريخ العرب في الجاهلية قتل أولادهم غير هذا الوأد إلا ما ورد من نذر عبد المطلب الذي سنذكره، ولا ندري هل كان مثل ذلك يقع في الجاهلية قبل عبد المطلب أو أنه هو الذي ابتكر ذلك ولم يتابع عليه. ولا شك أن الوأد طريقة سنها أئمة الشرك لقومهم، إذ لم يكونوا يصدرون إلا عن رأيهم، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلة التخلص من عوائق غزوهم أعداءهم، ومن معرة الفاقة والسباء، وربما كان سدنة الأصنام يحرضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذ رأوا من بعضهم تثاقلا، كما أشار إليه الكشاف إذ قال: والمعنى أن شركاءهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد أو النحر. وقال ابن عطية: والشركاء على هذه القراءة هم الذين يتناولون وأد بنات الغير فهم القاتلون.
وفي قصة عبد المطلب ما يشهد لذلك فإنه نذر إن رزقه الله عشرة أولاد ذكور، ثم بلغوا معه أن تمنعوه من عدوه، لينحرن أحدهم عند الكعبة، فلما بلغ بنوه عشرة بهذا المبلغ دعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه واستقسم بالأزلام عند هبل الصنم وكان هبل في جوف الكعبة، فخرج الزلم على ابنه عبد الله فأخذه ليذبحه بين إساف و نائلة فقالت له قريش: لا تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان له فداء فديناه، وأشاروا عليه باستفتاء عرافة بخبير فركبوا إليها فسألوها وقصوا عليها الخبر فقالت: قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وكذلك فعلوا فخرج القدح علي عبد الله فلم يزل عبد المطلب يزيد عشرا من الإبل ويضرب عليها بالقداح ويخرج القدح علي عبد الله حتى بلغت الإبل مائة فضرب عليها فخرج القدح على الإبل فنحرها. ولعل سدنة الأصنام كانوا يخلطون أمر الموءودة بقصد التقرب إلى أصنام بعض القبائل كما كانت سنة موروثة في الكنعانيين من نبط الشام يقربون صبيانهم إلى الصنم ملوك، فتكون إضافة القتل إلى الشركاء مستعملة في حقيقتها ومجازها.
وقرأ الجمهور: {زُيِّنَ} بفتح الزاي ونصب: {قَتْلَ} على المفعولية لـ {زُيِّنَ} ، ورفع {شُرَكَاؤُهُمْ} على أنه فاعل: {زُيِّنَ} ، وجر {أَوْلادِهِمْ} بإضافة قتل إليه من إضافة

المصدر إلى مفعوله. وقرأ ابن عامر: {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ببناء فعل {زَيَّنَ} للنائب، ورفع {قَتْلَ} على أنه نائب فاعل، ونصب {أولادهم} على أنه مفعول {قَتْلَ} ، وجر {شُرَكَاؤُهُمْ} على إضافة {قَتْلَ} إليه من إضافة المصدر إلى فاعله، وكذلك رسمت كلمة {شُرَكَاؤُهُمْ} في المصحف العثماني الذي ببلاد الشام، وذلك دليل على أن الذين رسموا تلك الكلمة راعوا قراءة {شُرَكَاؤُهُمْ} بالكسر وهم من أهل الفصاحة والتثبت في سند قراءات القرآن، إذ كتب كلمة شركائهم بصورة الياء بعد الألف، وذلك يدل على أن الهمزة مكسورة، والمعنى، على هذه القراءة: أن مزينا زين لكثير من المشركين أن يقتل شركاؤهم أولادهم، فإسناد القتل إلى الشركاء على طريقة المجاز العقلي إما لأن الشركاء سبب القتل إذا كان القتل قربانا للأصنام، وإما لأن الذين شرعوا لهم القتل هم القائمون بديانة الشرك مثل عمرو بن لحي ومن بعده، وإذا كان المراد بالقتل الوأد، فالشركاء سبب وإن كان الوأد قربانا للأصنام وإن لم يكن قربانا لهم وهو المعروف فالشركاء سبب السبب، لأنه من شرائع الشرك.
وهذه القراءة ليس فيها ما يناكد فصاحة الكلام لأن الإعراب يبين معاني الكلمات وموقعها، وإعرابها مختلف من رفع ونصب وجر بحيث لا لبس فيه، وكلماتها ظاهر إعرابها عليها، فلا يعد ترتيب كلماتها على هذا الوصف من التعقيد المخل بالفصاحة، مثل التعقيد الذي في قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
لأنه ضم إلى خلل ترتيب الكلام أنه خلل في أركان الجملة وما حف به من تعدد الضمائر المتشابهة وليس في الآية مما يخالف متعارف الاستعمال إلا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، والخطب فيه سهل: لأن المفعول ليس أجنبيا عن المضاف والمضاف إليه، وجاء الزمخشري في ذلك بالتهويل، والضجيج والعويل، كيف يفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وزاد طنبور الإنكار نغمة. فقال: والذي حمله على ذلك أنه رأي في بعض المصاحف: {شُرَكَاؤُهُمْ} مكتوبا بالياء،وهذا جري على عادة الزمخشري في توهين القراءات المتواترة، إذا خالفت ما دون عليه علم النحو، لتوهمه أن القراءات اختيارات وأقيسة من القراء، وإنما هي روايات صحيحة متواترة وفي الإعراب دلالة على المقصود لا تناكد الفصاحة.
ومدونات النحو ما قصد بها إلا ضبط قواعد العربية الغالبة ليجري عليها الناشئون في

اللغة العربية، وليست حاصرة لاستعمال فصحاء العرب، والقراء حجة على النحاة دون العكس، وقواعد النحو لا تمنع إلا قياس المولدين على ما ورد نادرا في الكلام الفصيح، والندرة لا تنافي الفصاحة، وهل يظن بمثل ابن عامر أنه يقرأ متابعة لصورة حروف التهجي في الكتابة. ومثل هذا لا يروج على المبتدئين في علم العربية، وهلا كان رسم المصحف على ذلك الشكل هاديا للزمخشري أن يتفطن إلى سبب ذلك الرسم. أما ابن عطية فقال: هي قراءة ضعيفة في استعمال العرب يريد أن ذلك الفصل نادر، وهذا لا يثبت ضعف القراءة لأن الندور لا ينافي الفصاحة.
وبعد ابن عطية هذه القراءة بعدم مناسبتها للتعليل بقوله: {لِيُرْدُوهُمْ} وتبعيد ابن عطية لها توهم: إذ لا منافاة بين لأن يزينوا لهم قتل أولادهم وبين التعليل فإن التعليل يستعمل في العاقبة مجازا مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. ومن العجيب قول الطبري: والقراءة التي لا أستجيز غيرها بفتح الزاي ونصب: {الْقَتْلَ} وخفض: {أَوْلادِهِمْ} ورفع: {شُرَكَاؤُهُمْ}. وذلك على عادته في نصب نفسه حكما في الترجيح بين القراءات.
واللام في: {لِيُرْدُوهُمْ} لام العاقبة إن كان المراد بالشركاء الأصنام، أي زينوا لهم ذلك قصدا لنفعهم، فانكشف عن أضرار جهلوها. وإن كان المراد بالشركاء الجن، أي الشياطين فاللام للتعليل: لأن الإيقاع في الشر من طبيعة الوسواس لأنه يستحسن الشر وينساق إليه انسياق العقرب للسع من غير قصد إلى كون ما يدعونهم إليه مرديا وملبسا فإنهم أولياؤهم لا يقصدون إضرارهم ولكنهم لما دعوهم إلى أشياء هي في نفس الأمر مضار كان تزيينهم معللا بالإرداء والإلباس وإن لم يفقهوه بخلاف من دعا لسبب فتبين خلافه، والضمير للشركاء. والتعليل للتزيين.
والإرداء: الإيقاع في الردى، والردى: الموت، ويستعمل في الضر الشديد مجازا أو استعارة وذلك المراد هنا.
ولبس عليه أوقعه في البس، وهو الخلط والاشتباه، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} في سورة البقرة [42]، وفي قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} في هذه السورة [9]. أي أن يخلطوا عليهم دينهم فيوهموهم الضلال رشدا وأنه مراد الله منهم، فهم يتقربون إلى الله وإلى أصنام لتقربهم إلى الله، ولا يفرقون بين ما يرضاه الله وما لا يرضاه، ويخيلون إليهم أن وأد البنات مصلحة. ومن أقوالهم: "دفن البناه

من المكرماه" "البناه". و"المكرماه". بالهاء ساكنة في آخرهما. وأصلها تاء جمع المؤنث فغيرت لتخفيف المثل وهكذا شأن الشبه والأدلة الموهومة التي لا تستند إلى دليل. فمعنى: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أنهم يحدثون لهم دينا مختلطا من أصناف الباطل، كما يقال: وسه الجبة، أي اجعلها واسعة، وقيل: المراد ليدخلوا عليهم اللبس في الدين الذي كانوا عليه وهو دين إسماعيل عليه السلام، أي الحنيفية، فيجعلوا فيه أشياء من الباطل تختلط مع الحق.
والقول في معنى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} كالقول في قوله آنفا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] وضمير الرفع في: فعلوه يعود إلى المشركين، أي: لو شاء الله لعصمهم من تزيين شركائهم، أو يعود إلى الشركاء، أي: لو شاء الله لصدهم عن إغواء أتباعهم، وضمير النصب يعود إلى القتل أو إلى التزيين على التوزيع، على الوجهين في ضمير الرفع.
والمراد: بـ {مَا يَفْتَرُونَ} ما يفترونه على الله بنسبة أنه أمرهم بما اقترفوه، وكان افتراؤهم اتباعا لافتراء شركائهم، فسماه افتراء لأنهم تقلدوه عن غير نظر ولا استدلال، فكأنهم شاركوا الذين افتروه من الشياطين، أو سدنة الأصنام، وقادة دين الشرك، وقد كانوا يموهون على الناس أن هذا مما أمر الله به كما دل عليه قوله في الآية بعد هذه: افتراء عليه وقوله في آخر السورة: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150].
[138] {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
عطف على جملة: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل، وهو راجع إلى تحجير التصرف على أنفسهم في بعض أموالهم، وتعيين مصارفه، وفي هذا العطف إيماء إلى أن ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في معنى زين لهم شركاؤهم.
والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلمين عند صدور ذلك القول: وذلك أن يقول أحدهم هذه الأصنام مصرفها كذا، وهذه مصرفها كذا، فالإشارة من محكي

قولهم حين يشرعون في بيان أحكام دينهم، كما يقول القاسم: هذا لفلان، وهذا للآخر. وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأن الغرض التعجيب من فساد شرعهم، كما تقدم في قوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136} وقد صنفوا ذلك ثلاثة أصناف:
صنف محجر على مالكه انتفاعه به، وإنما ينتفع به من يعينه المالك. والذي يؤخذ مما روي عن جابر بن زيد وغيره: أنهم كانوا يعينون من أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئا يحجرون على أنفسهم الانتفاع به، ويعينونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام، وخدمتها، فتنحر أو تذبح عندما يرى من عينت له ذلك، فتكون لحاجة الناس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم، وكذلك الزرع والثمار تدفع إلى من عينت له، يصرفها حيث يتعين. ومن هذا الصنف أشياء معينة بالاسم، لها حكم منضبط مثل البحيرة:فإنها لا تنحر ولا تؤكل إلا إذا ماتت حتف أنفها، فيحل أكلها للرجال دون النساء، وإذا كان لها در لا يشربه إلا سدنة الأصنام وضيوفهم، وكذلك السائبة ينتفع بدرها أبناء السبيل والسدنة، فإذا ماتت فأكلها كالبحيرة، وكذلك الحامي، كما تقدم في سورة المائدة.
فمعنى {لا يَطْعَمُهَا} لا يأكل لحمها، أي يحرم أكل لحمها. ونون الجماعة في {نَشَاءُ} مراد بها القائلون، أي يقولون لا يطعهما إلا من نشاء أي من نعين أن يطعمها، قال في الكشاف: يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء.
والحرث أصله شق الأرض بآلة حديدية ليزرع فيها أو يغرس، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:22] فسماه حرثا في وقت جذاذ الثمار.
والحجر: اسم للمحجر الممنوع، مثل ذبح للمذبوح، فمنع الأنعام منع أكل لحومها، ومنع الحرث منع أكل الحب والتمر والثمار، ولذلك قال: {لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ}.
وقوله: {بِزَعْمِهِمْ} معترض بين {لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} وبين: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها}. والباء في: {بِزَعْمِهِمْ} بمعنى "عن"، أو للملابسة، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل، لأنهم لما قالوا: {لا يَطْعَمُهَا} لم يريدوا أنهم منعوا الناس أكلها إلا من شاءوه، لأن ذلك من فعلهم وليس من زعمهم. وإنما أرادوا بالنفي نفي الإباحة، أي لا يحل أن

يطعمها إلا من نشاء، فالمعنى: اعتقدوها حراما لغير من عينوه، حتى أنفسهم، وما هي بحرام، فهذا موقع قوله: {بِزَعْمِهِمْ} وتقدم القول على الباء من قوله: {بِزَعْمِهِمْ} آنفا عند قوله تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136].
والصنف الثاني: أنعام حرمت ظهورها، أي حرم ركوبها، منها الحامي: لا يركبه أحد، وله ضابط متبع كما تقدم في سورة المائدة، ومنها أنعام يحرمون ظهورها، بالنذر، يقول أحدهم: إذا فعلت الناقة كذا من نسل أو مواصلة بين عدة من إناث، وإذا فعل الفحل كذا وكذا، حرم ظهره. وهذا أشار إليه أبو نواس في قوله مادحا الأمين:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام
فقوله: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} معطوف على: {أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} فهو كخبر عن اسم الإشارة. وعلم أنه عطف صنف لوروده بعد استيفاء الأوصاف التي أجريت على خبر اسم الإشارة والمعطوف عليه عقبه. والتقدير: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام حرمت ظهورها. وبني فعل: {حُرِّمَتْ} للمجهول: لظهور الفاعل، أي حرم الله ظهورها بقرينة قوله: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ}.
والصنف الثالث: أنعام لا يذكرون اسم الله عليها، أي لا يذكرون اسم الله عند نحرها أو ذبحها، يزعمون أن ما أهدي للجن أو للأصنام يذكر عليه اسم ما قرب له، ويزعمون أن الله أمر بذلك لتكون خالصة القربان لما عينت له، فلأجل هذا الزعم قال تعالى: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} إذ لا يعقل أن ينسب إلى الله تحريم ذكر اسمه على ما يقرب لغيره لولا أنهم يزعمون أن ذلك من القربان الذي يرضى الله تعالى، لأنه لشركائه، كما كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وعن جماعة من المفسرين، منهم أبو وائل1؛ الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها كانت لهم سنة في بعض الأنعام أن لا يحج عليها، فكانت تركب في كل وجه إلا الحج، وأنها المراد بقوله: {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} لأن الحج لا يخلو من ذكر الله حين الكون على الراحلة من تلبية وتكبير، فيكون: {لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}
ـــــــ
1 الأظهر أنه شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي من أصحاب ابن مسعود توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز, يحتمل أنه عبد الله بن بحير – بموحدة مفتوحة فحاء مهملة مكسورة – المراد الصناعي القاص, وثقه ابن معين
.

كناية عن منع الحج عليها، والظاهر ن هذه هي الحامي والبحيرة والسائبة، لأنهم لما جعلوا نفعها للأصنام لم يجيزوا أن تستعمل في غير خدمة الأصنام.
وقوله: {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} معطوف على قوله: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} وهو عطف صنف على صنف، بقرينة استيفاء أوصاف المعطوف عليه، كما تقدم في نظيره.
وانتصب: {افْتِرَاءً عَلَيْهِ} على المفعولية المطلقة لـ {قَالُوا} ، أي قالوا ذلك قول افتراء، لأن الافتراء بعض أنواع القول، فصح أن ينتصب على المفعول المطلق المبين لنوع القول، والافتراء الكذب الذي لا شبهة لقائله فيه وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} في سورة آل عمران [94]، وعند قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103]. وإنما كان قولهم افتراء: نهم استندوا فيه لشيء ليس وأردوا لهم من جانب الله، بل هو من ضلال كبرائهم.
وجملة: {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} استئناف بياني، لأن الافتراء على الخالق أمر شنيع عند جميع الخلق، فالإخبار به يثير سؤال من يسأل عما سيلقونه من جزاء افترائهم، فأجيب بأن الله سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقد أبهم الجزاء للتهويل لتذهب النفوس كل مذهب ممكن في أنواع الجزاء على الإثم، والباء بمعنى "عن"، أو للبدلية والعوض.
[139] {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
عطف على قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138]. وأعيد فعل: {وَقَالُوا} لاختلاف غرض المقول.
والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها، كما تقدم، أو إلى الأنعام المذكورة قبل. ولا يتعلق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء التي حرموها لأن المقصود التعجيب من فساد شرعهم كما تقدم آنفا، وهذا خبر عن دينهم في أجنة الأنعام التي حجروها أو حرموا ظهورها، فكانوا يقولون في لجنة البحيرة والسائبة: إذا خرجت أحياء يحل أكلها للذكور دون النساء، وإذا خرجت ميتة حل أكلها للذكور والنساء، فالمراد بما في البطون أجنة لا محالة لقوله: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة

والسائبة: يشربها الرجال دون النساء، فظن بعض المفسرين أن المراد بما في بطون الأنعام ألبانها، وروي عن ابن عباس، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عباس أن ما في البطون يشمل الألبان لأنها تابعة للأجنة وناشئة عن ولادتها.
والخالصة: السائغة، أي المباحة، أي لا شائبة حرج فيها، أي في أكلها، ويقابله قوله: {وَمُحَرَّمٌ}.
وتأنيث {خَالِصَةً} لأن المراد بما الموصولة {الأَجِنَّة} فروعي معنى "ما" وروعي لفظ "ما" في تذكير {مُحَرَّمٌ}.
والمحرم: الممنوع، أي ممنوع أكله، فإسناد الخلوص والتحريم إلى الذوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء.
والأزواج جمع زوج، وهو وصف للشيء الثاني لغيره، فكل واحد من شيئين اثنين هو زوج، ولذلك سمي حليل المرأة زوجا وسميت المرأة حليلة الرجل زوجا، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة [35].
وظاهر الآية أن المراد أنه محرم على النساء المتزوجات لأنهم سموهن أزواجا، وأضافوهن إلى ضميرهم، فتعين أنهن النساء المتزوجات بهم كما يقال: امرأة فلان. وإذا حملناه على الظاهر وهو الأولى عندي كان ذلك دالا على أنهم كانوا يتشاءمون بأكل الزوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءهم: مثل العقم، أو سوء المعاشرة مع أزواج، والنشوز، أو الفراق، أو غير ذلك من أوهام أهل الجاهلية وتكاذيبهم، أو لأنه نتاج أنعام مقدسة، فلا تحل للنساء، لأن المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنجاسة والخباثة، لأجل الحيض ونحو ذلك، فقد كانت بنو إسرائيل يمنعون النساء دخول المساجد، وكان العرب لا يؤاكلون الحائض، وقالت كبشة بنت معد يكرب تعير قومها:
ولا تشربوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم
وقال جمهور المفسرين: أطلق الأزواج على النساء مطلقا، أي فهو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد، فيشمل المرأة الأيم ولا يشمل البنات، وقال بعضهم: أريد به البنات أي بمجاز الأول فلعلهم كانوا يتشاءمون بأكل البنات منه أن يصيبهن عسر التزوج، أو ما يتعيرون منه، أو نحو ذلك. وكانت الأحوال الشائعة بينهم دالة على المراد.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68