كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ ، وَهِيَ أَدَاءُ الطَّاعَةِ لَهُ بِصِفَةِ الْقُرْبَةِ ، وَذَلِكَ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ بِتَجْرِيدِ الْعَمَلِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا لِوَجْهِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِخْلَاصُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالنِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي التَّوْحِيدِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ؛ فَدَخَلَتْ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ دُخُولَ الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ خَرَجَتْ عَنْهُ طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ ، وَذَلِكَ يَعْتَرِضُ عَلَيْكُمْ فِي الْوُضُوءِ ؟ قُلْنَا : إزَالَةُ النَّجَاسَةِ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا إزَالَةُ الْعَيْنِ ، لَكِنْ بِمُزِيلٍ مَخْصُوصٍ ، فَقَدْ جَمَعَتْ عَقْلَ الْمَعْنَى وَضَرْبًا مِنْ التَّعَبُّدِ ، كَالْعِدَّةِ جَمَعَتْ بَيْنَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالتَّعَبُّدِ ، حَتَّى صَارَتْ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَالْيَائِسَةِ الَّتِي تُحَقِّقُ بَرَاءَةَ رَحِمِهِمَا قَطْعًا ، لَا سِيَّمَا وَمَا غَرَضٌ نَاجِزٌ ؛ وَهُوَ النَّظَافَةُ ؛ فَيَسْتَقِلُّ بِهِ ، وَلَيْسَ فِي الْوُضُوءِ [ غَرَضٌ نَاجِزٌ ] إلَّا مُجَرَّدُ التَّعَبُّدِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَكْمَلَ الْوُضُوءَ وَأَعْضَاؤُهُ تَجْرِي بِالْمَاءِ وَخَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ بَطَلَ وُضُوءُهُ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي كِتَابِ تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ .
سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : [ إنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ] : إنَّهَا مَدَنِيَّةٌ : وَفَضْلُهَا كَثِيرٌ ، وَتَحْتَوِي عَلَى عَظِيمٍ ؛ قَالَ إبْرَاهِيمُ التَّمِيمِيُّ : لَقَدْ أَدْرَكْت سَبْعِينَ شَيْخًا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا ، أَصْغَرُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْد ، وَسَمِعْته يَقْرَأُ : { إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ } ، حَتَّى إذَا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } بَكَى ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذِهِ لَإِحْكَامٌ شَدِيدٌ .
وَلَقَدْ رَوَى الْعُلَمَاءُ الْأَثْبَاتُ أَنَّ { هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ ؛ فَأَمْسَكَ ؛ فَقَالَ ؛ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَوَإِنَّا لَنَرَى مَا عَمِلْنَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت مَا تَكْرَهُ فَهُوَ مَثَاقِيلُ ذَرِّ الشَّرِّ ، وَيَدَّخِرُ لَكُمْ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الْخَيْرِ حَتَّى تُعْطَوْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ أَبُو إدْرِيسَ : إنَّ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبْتِ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } .
وَرَوَى الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ رَجُلًا إلَى رَجُلٍ يُعَلِّمُهُ حَتَّى إذَا بَلَغَ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } قَالَ : حَسْبِي .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهُ ، فَإِنَّهُ قَدْ فَقِهَ } .
وَرَوَى كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَتَيْنِ أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَلَا تَجِدُونَ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } قَالَ جُلَسَاؤُهُ : بَلَى .
قَالَ : فَإِنَّهُمَا قَدْ أَحْصَتَا مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَيْلُ
ثَلَاثَةٌ : لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ : { فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ ، فَقَالَ : مَا أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا فَسَّرْنَا بِهِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْبَلَاءِ كَمَا تَكُونُ فِي الْآخِرَةِ بِالْجَزَاءِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ سَرَدْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا سَرَدْنَا ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَمِنْ تَمَامِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ ، وَسَكَتَ عَنْ الْبِغَالِ ، وَالْجَوَابُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْبَغْلَ وَالْحِمَارَ لَا كَرَّ فِيهِمَا وَلَا فَرَّ .
فَلَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي الْخَيْلِ مِنْ الْأَجْرِ الدَّائِمِ وَالثَّوَابِ الْمُسْتَمِرِّ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ الْحُمُرِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ بَغْلٌ ، وَلَا دَخَلَ الْحِجَازَ مِنْهَا [ شَيْءٌ ] إلَّا بَغْلَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ الدُّلْدُلُ ] الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقَسُ ، فَأَفْتَاهُ فِي الْحَمِيرِ بِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَإِنَّ فِي الْحِمَارِ مَثَاقِيلَ ذَرٍّ كَثِيرَةً .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَجْهَ هَذَا الدَّلِيلِ وَنَوْعَهُ ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ وَتَحْقِيقُهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
سُورَةُ الْعَادِيَاتِ أَقْسَمَ اللَّهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } .
وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ ، فَقَالَ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
وَأَقْسَمَ بِخَيْلِهِ وَصَهِيلِهَا وَغُبَارِهَا وَقَدْحِ حَوَافِرِهَا الدَّارِّ مِنْ الْحَجَرِ ، فَقَالَ : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } الْآيَاتُ الْخَمْسُ .
وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } .
{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } وَهُوَ الْمَالُ .
وَقَدْ تَبَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ [ حَالُ الْمَالِ ] فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ ، وَالْفَائِدَةِ وَالْخَيْبَةِ .
سُورَةُ التَّكَاثُرِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ .
وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ } .
فَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ : كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ { أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ } .
وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مَلِيحٌ غَابَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ، فَجَهِلُوا وَجَهَّلُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ كُنَّا أَمْلَيْنَا فِيهَا مِائَةً وَثَمَانِينَ مَجْلِسًا ، وَذَكَرْنَا أُنْمُوذَجَهَا فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ ، فَهُوَ مَدْخَلٌ عَظِيمٌ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي النَّعِيمِ أَقْوَالًا كَثِيرَةً ، لُبَابُهَا خَمْسَةٌ : الْأُولَى : الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ .
الثَّانِي : السَّلَامَةُ .
الثَّالِثُ : لَذَّةُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ ؛ قَالَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .
الرَّابِعُ : الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الْخَامِسُ : شِبَعُ الْبَطْنِ ، وَشُرْبُ الْمَاءِ الْبَارِدِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَحْقِيقُ النَّعِيمِ مِنْ النِّعَمِ ، وَبِنَاءُ ( نَ عَ مَ ) لِلْمُوَافَقَةِ ، وَأَعْظَمُهَا مُوَافَقَةً مَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ كَادِحِ بْنِ رَحْمَةَ أَنَّهُ صِحَّةُ الْبَدَن وَطِيبُ النَّفْسِ ، وَقَدْ أَخَذَهُ الشَّاعِرُ ، فَقَالَ : إذَا الْقُوتُ يَأْتِي لَك وَالصِّحَّةُ وَالْأَمْنُ وَأَصْبَحْت أَخَا حُزْنٍ فَلَا فَارَقَك الْحُزْنُ وَقَدْ كَانَ هَذَا يَتَأَتَّى قَبْلَ الْيَوْمِ ، فَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّهُ عَسِيرُ التَّكْوِينِ ، وَقَلِيلُ الْوُجُودِ .
وَيَرَى [ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ] أَنَّ مَالِكًا أَخَذَهُ مِنْ حِكَمِ لُقْمَانَ ؛ فَفِيهَا أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ قَالَ لِابْنِهِ : لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ ، وَلَا نَعِيمٌ كَطِيبِ نَفْسٍ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } قَالَ الزُّبَيْرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ ، وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ؟ قَالَ : أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ } .
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ عَنْ أَيِّ النَّعِيمِ نُسْأَلُ ؟ فَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ ؛ وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ ، وَسُيُوفُنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا ؟ قَالَ : أَمَا إنَّهُ سَيَكُونُ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ ، نَزَلَتْ بَعْدَ شَرْعِ الْقِتَالِ .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَا : أَخْرَجَنَا الْجُوعُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَنَا أَخْرَجَنِي الْجُوعُ ؛ فَذَهَبُوا إلَى أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِشَعِيرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِلَ ، وَقَامَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً ، وَاسْتَعْذَبَ لَهُمْ مَاءً ، فَعُلِّقَ فِي نَخْلَةٍ ، ثُمَّ أُتُوا بِذَلِكَ الطَّعَامِ ، فَأَكَلُوا مِنْهُ ، وَشَرِبُوا
مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ } .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ مَشْهُورٌ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا ، وَهَذَا نَعِيمُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ ، وَأَصْلُهُ الَّذِي لَا تَنَعُّمَ فِيهِ جِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ ، { وَحَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ } ، هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ يَكُونُ النَّعِيمُ فِي الْخَادِمِ كَمَا حَدَّثَ الْهُجَيْعُ بْنُ قَيْسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : مَا يَكْفِي ابْنَ آدَمَ مِنْ الدُّنْيَا ؟ قَالَ : مَا أَشْبَعَ جَوْعَتَك ، وَسَتَرَ عَوْرَتَك ؛ فَمَنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ فَهُنَاكَ النَّعِيمُ ، فَهُنَاكَ النَّعِيمُ } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : أَلَمْ أَصِحَّ جِسْمَك ؟ أَلَمْ أَرْوِك مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ } .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : إنَّ { أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيْهَانِ قَالَ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ ، فَعَمَدَ نَحْوَهُ ، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ فَرَدَّ عُمَرُ عَلَيْهِ السَّلَامَ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قَالَ : وَأَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا سَأَلْت قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي .
قَالَ : أَخْرَجَنِي الْجُوعُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك .
فَجَلَسَا يَتَحَدَّثَانِ ، فَطَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمَدَ نَحْوَهُمَا حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمَا ، فَسَلَّمَ فَرَدَّا عَلَيْهِ السَّلَامَ فَقَالَ : مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ فَنَظَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ إلَّا يَكْرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ .
فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ : خَرَجَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَخَرَجْت بَعْدَهُ ، فَسَأَلْته مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتَ مَا أَخْرَجَك هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ فَقُلْت : أَنَا سَأَلْتُك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَنِي .
قَالَ : أَخْرَجَنِي الْجُوعُ .
قَالَ : فَقُلْت لَهُ : أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَك .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَنَا أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا .
قَالَ : ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعْلَمَانِ مِنْ أَحَدٍ نُضِيفُهُ الْيَوْمَ ؟ قَالَا : نَعَمْ ، أَبُو الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ حَرِيٌّ إنْ جِئْنَاهُ أَنْ نَجِدَ عِنْدَهُ فَضْلًا مِنْ تَمْرٍ يُعَالِجُ جِنَانَهُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ لَا يَبِيعَانِ مِنْهُ شَيْئًا .
قَالَ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ حَتَّى دَخَلُوا الْحَائِطَ ، فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَمِعَتْ أُمُّ الْهَيْثَمِ تَسْلِيمَهُ فَفَدَتْهُ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ ، وَأَخْرَجَتْ حِلْسًا لَهَا مِنْ شَعْرٍ ، فَطَرَحَتْهُ ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ ؟ قَالَتْ : ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ .
قَالَ : فَطَلَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِالْقِرْبَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّخْلِ أَسْنَدَهَا إلَى جِذْعٍ ، وَأَقْبَلَ يَفْدِي بِالْأَبِ وَالْأُمِّ ، فَلَمَّا رَأَى وُجُوهَهُمْ عَرَفَ الَّذِي بِهِمْ .
فَقَالَ لِأُمِّ الْهَيْثَمِ : هَلْ أَطْعَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَتْ : إنَّمَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّاعَةَ .
قَالَ : فَمَا عِنْدَك ؟ قَالَتْ : عِنْدِي حَبَّاتٌ مِنْ شَعِيرٍ .
قَالَ : كَرْكِرِيهَا وَاعْجِنِي ، وَاخْبِزِي ، إذْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْخَمِيرَ .
وَأَخَذَ شَفْرَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إيَّاكَ وَذَوَاتِ الدَّرِّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّمَا أُرِيدُ عَنَاقًا فِي الْغَنَمِ .
قَالَ : فَذَبَحَ ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ قَالَ : فَشَبِعُوا شِبْعَةً لَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهَا ، فَمَا مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا يَسِيرًا ، حَتَّى أُتِيَ بِأَسِيرٍ مِنْ الْيَمَنِ ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إلَيْهِ الْعَمَلَ وَتُرْبَةَ يَدِهَا ، وَتَسْأَلُهُ إيَّاهُ .
قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ أَعْطِيهِ أَبَا الْهَيْثَمِ ، فَقَدْ رَأَيْت مَا لَقِيَهُ هُوَ وَمِرْيَتُهُ يَوْمَ ضِفْنَاهُمْ .
قَالَ : فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ، فَقَالَ : خُذْ هَذَا الْغُلَامَ يُعِينُك عَلَى حَائِطِك ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا .
قَالَ : فَمَكَثَ الْغُلَامُ عِنْدَ أَبِي الْهَيْثَمِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا غُلَامُ ، لَقَدْ كُنْت مُسْتَقِلًّا وَأَنَا وَصَاحِبَتِي بِحَائِطِنَا ، اذْهَبْ ، فَلَا رَبَّ لَك إلَّا اللَّهُ .
قَالَ : فَخَرَجَ الْغُلَامُ إلَى الشَّامِ } .
وَرَوَى { عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ : قَالَ بَعَثَنِي بَنُو مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمْت عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدْته جَالِسًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَالَ : ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ : هَلْ مِنْ طَعَامٍ ؟ فَأَتَيْنَا بِجَفْنَةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَدَكِ ، وَأَقْبَلْنَا نَأْكُلُ مِنْهَا ، فَخَبَطْت بِيَدِي فِي نَوَاحِيهَا ، وَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، فَقَبَضَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى يَدِي الْيُمْنَى ، ثُمَّ قَالَ : يَا عِكْرَاشُ ؛ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ .
ثُمَّ أُتِينَا بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانُ الرُّطَبِ ؛ أَوْ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ شَكٌّ قَالَ : فَجَعَلْت آكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ، وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّبَقِ وَقَالَ : يَا عِكْرَاشُ ؛ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت ،
فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ لَوْنٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ أُتِينَا بِمَاءٍ ، فَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ، وَمَسَحَ بِبَلَلِ يَدَيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ ، وَقَالَ : يَا عِكْرَاشُ ؛ هَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ } .
وَقَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَوَسَّعَ فِي الطَّعَامِ وَيَتَلَذَّذَ ، وَيُسَمِّيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَحْمَدَهُ ، وَلَا يَصْرِفَ قُوَّتَهُ الْمُسْتَفَادَةَ بِذَلِكَ فِي مَعْصِيَتِهِ ، فَإِنْ سُئِلَ وَجَذَبَتْهُ سَعَادَتُهُ فَسَيُوَفَّقُ لِلْجَوَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
سُورَةُ الْعَصْرِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } : قَالَ مَالِكٌ : مَنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ رَجُلًا عَصْرًا لَمْ يُكَلِّمْهُ سَنَةً ، وَلَوْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَهُ الْعَصْرَ لَمْ يُكَلِّمْهُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ هُوَ الدَّهْرُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : بِنَاءُ ( ع ص ر ) يَنْطَلِقُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَعَانِي ، فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْعَصْرُ الدَّهْرُ .
الثَّانِي : اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ .
[ قَالَ الشَّاعِرُ : وَلَنْ يَلْبَثَ الْعَصْرَانِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ إذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا الثَّالِثُ الْعَصْرُ : الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ .
قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَمْطُلُهُ الْعَصْرَيْنِ حَتَّى يَمَلَّنِي وَيَرْضَى بِنِصْفِ الدَّيْنِ وَالْأَنْفُ رَاغِمٌ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْعَصْرَ مِثْلُ الدَّهْرِ ] ؛ قَالَ الشَّاعِرُ : سَبِيلُ الْهَوَى وَعْرٌ وَبَحْرُ الْهَوَى غَمْرٌ وَيَوْمُ الْهَوَى شَهْرٌ وَشَهْرُ الْهَوَى دَهْرٌ يُرِيدُ عَامًا .
الرَّابِعُ أَنَّ الْعَصْرَ [ سَاعَةٌ مِنْ ] سَاعَاتِ النَّهَارِ قَالَهُ مُطَرِّفٌ ، وَقَتَادَةُ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّمَا حَمَلَ مَالِكٌ يَمِينَ الْحَالِفِ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً عَصْرًا عَلَى السَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِيهِ ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي تَغْلِيظِ الْمَعْنَى فِي الْأَيْمَانِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُبَرُّ بِسَاعَةٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ ؛ وَبِهِ أَقُولُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ عَرَبِيًّا ، فَيُقَالُ لَهُ : مَا أَرَدْت ؟ فَإِذَا فَسَّرَهُ بِمَا يُحْتَمَلُ قُبِلَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلَّ ، وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يُفَسِّرُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الْفِيلِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ .
[ وَقَالَ قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ : وُلِدْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ ] .
وَقَدْ رَوَى النَّاسُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ أَنْ يُخْبِرَ بِسِنِّهِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ صَغِيرًا اسْتَحْقَرُوهُ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا اسْتَهْرَمُوهُ .
وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا لَا يُخْبِرُ بِسِنِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكْتُمُ سِنَّهُ ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُلَمَاءِ قُدْوَةً بِهِ ؛ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْبِرَ الْإِنْسَانُ بِسِنِّهِ ، كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا .
قِيلَ لِبَعْضِ الْقُضَاةِ : كَمْ سِنُّك ؟ قَالَ : سِنُّ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ حِينَ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ، وَكَانَتْ سِنُّهُ يَوْمَئِذٍ دُونَ الْعِشْرِينَ .
سُورَةُ قُرَيْشٍ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ } : فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ { إيلَافِ } وَهُوَ مَصْدَرُ أَلِفَ يَأْلَفُ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ ، وَقِيلَ : آلَفَ يُؤَالِفُ ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ ، وَإِيلَافِهِمْ هَذَا يَدُلُّ مِنْ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى الْبَيَانِ .
وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّورَةِ الْأُخْرَى ، وَقَدْ قُطِعَ عَنْهُ بِكَلَامٍ مُبْتَدَإٍ وَاسْتِئْنَافِ بَيَانٍ ، وَسَطْرٍ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ فَقَدْ تَبَيَّنَ ] وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَوَازُ الْوَقْفِ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ ، وَلَيْسَتْ الْمَوَاقِفُ الَّتِي تَنْزِعُ بِهَا الْقُرَّاءُ شَرْعًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْوِيًّا ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهِ تَعْلِيمَ الطَّلَبَةِ الْمَعَانِيَ ، فَإِذَا عَلِمُوهَا وَقَفُوا حَيْثُ شَاءُوا ؛ فَأَمَّا الْوَقْفُ عِنْدَ انْقِطَاعِ النَّفَسِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَلَا تَعُدَّ مَا قَبْلَهُ إذَا اعْتَرَاك ذَلِكَ ، وَلَكِنْ ابْدَأْ مِنْ حَيْثُ وَقَفَ بِك نَفَسُك ، [ هَذَا رَأْيِي فِيهِ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى مَا قَالُوهُ بِحَالٍ ، وَلَكِنِّي أَعْتَمِدُ الْوَقْفَ عَلَى ] التَّمَامِ ، كَرَاهِيَةَ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ ، وَأَطْرُقُ الْقَوْلَ مِنْ عِيٍّ .
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ قَالَ مَالِكٌ : الشِّتَاءُ نِصْفُ السَّنَةِ ، وَالصَّيْفُ نِصْفُهَا .
وَلَمْ أَزَلْ أَرَى رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَنْ مَعَهُ لَا يَخْلَعُونَ عَمَائِمَهُمْ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا ، وَهُوَ يَوْمُ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ ، وَهُوَ يَوْمُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ عَدَدِ الرُّومِ أَوْ الْفُرْسِ ، وَأَرَادَ بِطُلُوعِ الثُّرَيَّا أَنْ يَخْرُجَ السُّعَاةُ وَتَسِيرَ النَّاسُ بِمَوَاشِيهِمْ إلَى مِيَاهِهِمْ .
وَأَنَّ طُلُوعَ الثُّرَيَّا قُبُلُ الصَّيْفِ وَدُبُرُ الشِّتَاءِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ عَنْهُ .
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ وَحْدَهُ : إذَا سَقَطَتْ الْهَقْعَةُ نَقَصَ اللَّيْلُ ، فَلَمَّا جَعَلَ طُلُوعَ الثُّرَيَّا أَوَّلَ الصَّيْفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَطْرُ السَّنَةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الشِّتَاءَ مِنْ بَعْدِ ذَهَابِ الصَّيْفِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .
وَقَدْ سُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَمَّنْ حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ امْرَأً حَتَّى يَدْخُلَ الشِّتَاءُ .
فَقَالَ : لَا يُكَلِّمُهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ هَاتُورَ .
وَلَوْ قَالَ : حَتَّى يَدْخُلَ الصَّيْفُ لَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى يَمْضِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ ؛ فَهُوَ سَهْوٌ ؛ إنَّمَا هُوَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ بَشَنْسَ ؛ لِأَنَّك إذَا حَسَبْت الْمَنَازِلَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَ لَيْلَةً كُلَّ مَنْزِلَةٍ ، عَلِمْت أَنَّ مَا بَيْنَ تِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ هَاتُورَ لَا تَنْقَضِي مَنَازِلُهُ إلَّا بِتِسْعَ عَشْرَةَ مِنْ بَشَنْسَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ قَوْمٌ : الزَّمَانُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : شِتَاءٌ [ وَرَبِيعٌ ، وَصَيْفٌ ، وَخَرِيفٌ .
وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ شِتَاءٌ ] وَصَيْفٌ ، وَقَيْظٌ ، وَخَرِيفٌ .
وَاَلَّذِي قَالَ مَالِكٌ أَصَحُّ لِأَجْلِ قِسْمَةِ اللَّهِ الزَّمَانَ قِسْمَيْنِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمَا ثَالِثًا .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَمَّا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ بِرِحْلَتَيْنِ : [ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ؛ رِحْلَةُ الشِّتَاءِ ] إلَى الْيَمَنِ ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ حَامِيَةٌ ، وَرِحْلَةُ الصَّيْفِ إلَى الشَّامِ ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ بَارِدَةٌ ، وَقِيلَ بِتَنَقُّلِهَا بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ إلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ تَصَرُّفِ الرَّجُلِ فِي الزَّمَانَيْنِ بَيْنَ مَحَلَّيْنِ يَكُونُ حَالُهُمَا فِي كُلِّ زَمَانٍ أَنْعَمَ مِنْ الْآخَرِ ، كَالْجُلُوسِ فِي الْمَجْلِسِ الْبَحْرِيِّ فِي الصَّيْفِ ، وَفِي الْقِبْلِيِّ فِي الشِّتَاءِ ، وَفِي اتِّخَاذِ البادهنجات وَالْخَيْشِ لِلتَّبْرِيدِ ، وَاللِّبَدِ وَالْيَانُوسَةِ لِلدِّفْءِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الْمَاعُونِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ ، وَقَدْ يَكُونَ بِقَصْدٍ ، وَقَدْ يَكُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ ؛ فَإِنْ كَانَ بِقَصْدٍ فَاسْمُهُ الْعَمْدُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَاسْمُهُ السَّهْوُ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَكْلِيفٌ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّ تَكْلِيفَ السَّاهِي مُحَالٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ كَيْفَ يُخَاطَبُ ؟ فَإِنْ قَالَ : فَكَيْفَ ذَمَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ الذَّمَّ ؛ أَوْ كَلَّفَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْلِيفُ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنْ يَعْقِدَ نِيَّتَهُ عَلَى تَرْكِهَا ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ الذَّمُّ إذَا جَاءَ الْوَقْتُ .
وَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ غَافِلًا أَوْ لِمَنْ يَكُونُ التَّرْكُ لَهَا عَادَتَهُ ، فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الذَّمُّ دَائِمًا ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنْ السَّهْوِ مُحَالٌ فَلَا تَكْلِيفَ .
وَقَدْ سَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ وَالصَّحَابَةُ ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ فَذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَتَدَبَّرُهَا وَلَا يَعْقِلُ قِرَاءَتَهَا ، وَإِنَّمَا هَمُّهُ فِي إعْدَادِهَا وَهَذَا رَجُلٌ يَأْكُلُ الْقُشُورَ وَيَرْمِي اللُّبَّ ، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ إلَّا لِفِكْرَتِهِ فِي أَعْظَمَ مِنْهَا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ مَنْ يُقْبِلُ عَلَى وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ إذَا قَالَ لَهُ : اُذْكُرْ كَذَا [ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ ] حَتَّى يُضِلَّ الرَّجُلَ أَنْ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُرَاءُونَ بِصَلَاتِهِمْ ؛ يُرِي الْمُنَافِقُ النَّاسَ أَنَّهُ يُصَلِّي طَاعَةً وَهُوَ يُصَلِّي تَقِيَّةً ، وَالْفَاسِقُ أَنَّهُ يُصَلِّي عِبَادَةً وَهُوَ يُصَلِّي لِيُقَالَ إنَّهُ يُصَلِّي .
وَحَقِيقَةُ الرِّيَاءِ طَلَبُ مَا فِي الدُّنْيَا بِالْعِبَادَاتِ ، وَأَصْلُهُ طَلَبُ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ؛ فَأَوَّلُهَا تَحْسِينُ السَّمْتِ ؛ وَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الْجَاهَ وَالثَّنَاءَ .
ثَانِيهِمَا الرِّيَاءُ بِالثِّيَابِ الْقِصَارِ وَالْخَشِنَةِ ، لِيَأْخُذَ بِذَلِكَ هَيْئَةَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا .
ثَالِثُهُمَا الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ بِإِظْهَارِ التَّسَخُّطِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَإِظْهَارِ الْوَعْظِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى مَا يَفُوتُ مِنْ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ .
رَابِعُهُمَا الرِّيَاءُ بِإِظْهَارِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ، أَوْ بِتَحْسِينِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ ، وَذَلِكَ يَطُولُ ؛ وَهَذَا دَلِيلُهُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ الْكَلِمَةِ : الْمَاعُونَ : مَفْعُولٌ مِنْ أَعَانَ يُعِينُ ، وَالْعَوْنُ هُوَ الْإِمْدَادُ بِالْقُوَّةِ وَالْآلَةِ وَالْأَسْبَابِ الْمُيَسِّرَةِ لِلْأَمْرِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ مَالِكٌ : هِيَ الزَّكَاةُ ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمُنَافِقُ يَمْنَعُهَا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قَالَ : إنَّ الْمُنَافِقَ إذَا صَلَّى صَلَّى لَا لِلَّهِ ، بَلْ رِيَاءً ، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا ؛ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ : الزَّكَاةَ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : لَوْ خُفِّفَتْ لَهُمْ الصَّلَاةُ كَمَا خُفِّفَتْ لَهُمْ الزَّكَاةُ مَا صَلَّوْهَا .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : الْمَاعُونُ الْمَالُ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ .
الرَّابِعُ هُوَ الْقِدْرُ وَالدَّلْوُ وَالْفَأْسُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الْخَامِسُ هُوَ الْمَاءُ وَالْكَلَأُ .
السَّادِسُ هُوَ الْمَاءُ وَحْدَهُ ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ : يَمُجُّ صَبِيرُهُ الْمَاعُونَ صَبًّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَاعُونَ مِنْ الْعَوْنِ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهِ عَوْنًا ، وَأَعْظَمُهُ الزَّكَاةُ إلَى الْمِحْلَابِ ، وَعَلَى قَدْرِ الْمَاعُونِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ يَكُونُ الذَّمُّ فِي مَنْعِهِ ، إلَّا أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْعِ الْوَاجِبِ ، وَالْعَارِيَّةُ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ ؛ بَلْ إنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ الْوَيْلَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَنَعَ الْوَاجِبَ ، فَاعْلَمُوهُ وَتَحَقَّقُوهُ .
سُورَةُ الْكَوْثَرِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ قَوْلُهُ : { إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَائْتُونِي مُسْلِمِينَ } بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا ، وَاسْتَوْفَيْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ مِنْ التَّلْخِيصِ وَالْإِنْصَافِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَصَلِّ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ اُعْبُدْ .
الثَّانِي : صَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ .
الثَّالِثِ : صَلِّ يَوْمَ الْعِيدِ .
الرَّابِعِ : صَلِّ الصُّبْحَ بِجَمْعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { وَانْحَرْ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا اجْعَلْ يَدَك عَلَى نَحْرِك إذَا صَلَّيْت .
الثَّانِي : انْحَرْ الْبُدْنَ وَالضَّحَايَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِهَذِهِ الْآيَةِ : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الْعِبَادَةُ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا أَصْلُ الصَّلَاةِ لُغَةً وَحَقِيقَةً عَلَى كُلِّ مَعْنَى ، وَبِكُلِّ اشْتِقَاقٍ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاعْبُدْ رَبَّك وَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ ، وَانْحَرْ لَهُ وَلَا تَنْحَرْ لِسِوَاهُ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَنْصَابِ حَسْبَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَقُرَيْشٌ فِي جَاهِلِيَّتِهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَلِأَنَّهَا رُكْنُ الْعِبَادَاتِ ، وَقَاعِدَةُ الْإِسْلَامِ ، وَأَعْظَمُ دَعَائِمِ الدِّينِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالنَّحْرِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَا صَلَاةَ فِيهِ قَبْلَ النَّحْرِ غَيْرَهَا ، فَخَصَّصَهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَوَاتِ لِاقْتِرَانِهَا بِالنَّحْرِ ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ : مَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا .
وَاَلَّذِي يَقَعُ فِي نَفْسِي أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ صَلَاةُ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ وَالنَّحْرُ بَعْدَهَا .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ سَمِعْنَا فِيهِ أَشْيَاءَ ، وَرَوَيْنَا مَحَاسِنَ : قَالَ عَلِيٌّ : قَوْلُهُ : فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ .
قَالَ : ضَعْ يَدَك الْيُمْنَى عَلَى سَاعِدِك [ الْيُسْرَى ] ثُمَّ ضَعْهُمَا عَلَى نَحْرِك قَالَهُ [ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَالَهُ ] أَبُو الْجَوْزَاءِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : قَوْلُهُ : { وَانْحَرْ } يَوْمَ النَّحْرِ .
وَقَالَ الْحَكَمُ : قَوْلُهُ : { لِرَبِّك وَانْحَرْ }
صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالنَّحْرِ .
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الصَّلَاةُ الصَّلَاةُ ، النَّحْرُ النَّحْرُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : الصَّلَاةُ رَكْعَتَانِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى ثُمَّ اذْبَحْ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَوْقِفُهُمْ بِجَمْعِ صَلَاتِهِمْ ، وَالنَّحْرُ النَّحْرُ .
قَالَ مُجَاهِدٌ : النَّحْرُ لَنَا وَالذَّبْحُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : إنْ شَاءَ ذَبَحَ ، وَإِنْ شَاءَ نَحَرَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ أَيْضًا : فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ : إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ فَانْحَرْ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ : إنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ فَلَا تَكُنْ صَلَاتُك وَلَا نَحْرُك إلَّا لِلَّهِ .
وَرَوَى أَبُو مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْآيَةِ { يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ أَتَاهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : انْحَرْ وَارْجِعْ .
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ خُطْبَةَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْبُدْنِ فَنَحَرَهَا ؛ فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ : { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } } .
قَالَ قَتَادَةُ : صَلَاةُ الْأَضْحَى وَالنَّحْرُ نَحْرُ الْبُدْنِ .
فَهَذِهِ أَقْوَالُ أَقْرَانِ مَالِكٍ وَمُتَقَدِّمِيهِ فِيهَا كَثِيرٌ .
وَقَدْ تَرَكْنَا أَمْثَالَهَا .
وَاَلَّذِي أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ الْأَقْرَانِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالنَّحْرِ ، وَلَا يَقْرُنَانِ إلَّا يَوْمَ النَّحْرِ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْقُرْآنِ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ مَا لَمْ يَعْتَضِدْ بِدَلِيلٍ مِنْ غَيْرِهِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ : اُعْبُدْ رَبَّك وَانْحَرْ لَهُ ، وَلَا يَكُنْ عَمَلُك إلَّا لِمَنْ خَصَّك بِالْكَوْثَرِ ، وَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْعَمَلِ يُوَازِي هَذِهِ الْخَصِيصَةَ مِنْ الْكَوْثَرِ ، وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاك اللَّهُ إيَّاهُ ، أَوْ النَّهْرُ الَّذِي طِينَتُهُ مِسْكٌ ، وَعَدَدُ آنِيَتِهِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ ، أَمَّا أَنْ يُوَازِيَ هَذَا صَلَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ وَذَبْحَ كَبْشٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ فَذَلِكَ بَعِيدٌ فِي التَّقْدِيرِ
وَالتَّدْبِيرِ وَمُوَازَنَةِ الثَّوَابِ لِلْعِبَادِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ نَفْرُغَ عَلَى قَالَبِ الْقَوْلَيْنِ وَنَنْسِجَ عَلَى مِنْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ ، فَنَقُولَ : أَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّحْرُ يَوْمَ الضُّحَى فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَسَبَبُهُ فِي سُورَةِ " وَالصَّافَّاتِ " وَغَيْرِهَا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قِصَّةُ إبْرَاهِيمَ فِي وَلَدِهِ إسْمَاعِيلَ ، وَمَا بَيَّنَّهُ اللَّهُ فِيهِ لِلْأُمَّةِ ، وَجَعَلَهُ لَهُمْ قُدْوَةً ، وَشَرَعَ تِلْكَ الْمِلَّةَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَابْنُ حَبِيبٍ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ اشْتَرَاهَا وَجَبَتْ .
وَهُوَ الثَّانِي .
الثَّالِثِ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ .
الرَّابِعِ أَنَّهَا سُنَّةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ ، وَهُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَنَا .
وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : الْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ هِيَ ؟ فَقَالَ : ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَحَّى الْمُسْلِمُونَ ، كَمَا قَالَ : أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْتَرَ الْمُسْلِمُونَ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَهَا بِقَوْلِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } ، وَبِقَوْلِهِ : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } .
وَقَدْ تَقَرَّبَ بِدَمٍ وَاجِبٍ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، فَلْيَتَقَرَّبْ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ بِدَمٍ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أُلْزِمَ الْمِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : { عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } .
وَالْعَتِيرَةُ هِيَ الرَّجَبِيَّةُ .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ حِينَ ذَبَحَ الْجَذَعَةَ فِي الْأُضْحِيَّةِ : تَجْزِيَك ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } .
وَلَا يُقَالُ تَجْزِي إلَّا فِي الْوَاجِبِ .
قُلْنَا : أَمَّا قَوْلُهُ : { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } فَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَلِاحْتِمَالِهِ تَسْقُطُ الْحُجَّةُ مِنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ } فَمِلَّةُ
أَبِينَا إبْرَاهِيمَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَرَائِضَ وَفَضَائِلَ وَسُنَنٍ ، وَلَا بُدَّ فِي تَعْيِينِ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا مِنْ دَلِيلٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { تَجْزِيك وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ تَجْزِيَك فِي السُّنَّةِ كَمَا يُقَالُ فِي الْفَرْضِ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ شَرْعُهُ ، وَفِيهِ شَرْطُهُ ، وَمِنْهُ إجْزَاؤُهُ أَوْ رَدُّهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } فَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ مَالِكٍ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَحْلِقَنَّ شَعْرًا ، وَلَا يَقْلِمَنَّ ظُفْرًا حَتَّى يَنْحَرَ ضَحِيَّتَهُ } .
فَعَلَّقَ الْأُضْحِيَّةَ بِالْإِرَادَةِ ، وَالْوَاجِبُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا ؛ بَلْ هُوَ فَرْضٌ أَرَادَ الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يُرِدْ .
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيّ ، وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُمِرْت بِيَوْمِ الْأَضْحَى ، عِيدٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ .
قَالَ رَجُلٌ : أَرَأَيْت إنْ لَمْ أَجِدْ إلَّا مَنِيحَةَ أَهْلِي أُضَحِّي بِهَا ؟ قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ تَأْخُذُ مِنْ شَعْرِك وَأَظَافِرِك ، وَتَقُصُّ شَارِبَك ، وَتَحْلِقُ عَانَتَك ؛ فَذَلِكَ تَمَامُ أُضْحِيَّتِك } .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَرَبِيُّ : أَنْبَأَنَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْبَغْدَادِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدَ ، قَالَ : لَقَدْ رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُمَا يُضَحِّيَانِ عَنْ أَهْلِهِمَا خَشْيَةَ أَنْ يُسْتَنَّ بِهِمَا .
قَالَ : فَلَمَّا جِئْت بِلَادَكُمْ هَذِهِ حَمَلَنِي أَهْلِي عَلَى الْجَفَاءِ بَعْدَ مَا عَلِمْت السُّنَّةَ ، فَقَدْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَهَذَا مُحَقَّقٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهَذَا
الْقَدْرُ يَكْفِي مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : إنَّ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ النَّحْرِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : { أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ؛ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ نُسُكَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ ، لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } .
وَأَصْحَابُهُ يُنْكِرُونَهُ ، وَحَبَّذَا الْمُوَافَقَةُ ؛ وَبَقِيَّةُ مَسَائِلِ الْأَضَاحِيّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَأَمَّا [ إنْ قُلْنَا ] إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَانْحَرْ } ضَعْ يَدَك عَلَى نَحْرِك ، فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ لَا تُوضَعُ فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاعْتِمَادِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْفَرْضِ ، وَلَا يُسْتَحَبُّ فِي النَّفْلِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا فِي الْفَرِيضَةِ ، وَيَفْعَلُهَا فِي النَّافِلَةِ ، اسْتِعَانَةً ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَرَخُّصٍ .
الثَّالِثِ يَفْعَلُهَا فِي الْفَرِيضَةِ وَفِي النَّافِلَةِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ وَائِلِ بْنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ { رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى } الْحَدِيثَ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ ، { عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ } .
قَالَ أَبُو حَازِمٍ : لَا أَعْلَمُهُ يَنْمِي ذَلِكَ إلَّا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
سُورَةُ النَّصْرِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] قَوْله تَعَالَى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ نَفْسَهُ ، فَقَالَ : لِمَ يَدْخُلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : إنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ .
فَدَعَانِي ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَنِي مَعَهُمْ ، فَمَا رَأَيْت أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إلَّا لِيُرِيَهُمْ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ ، وَنَسْتَغْفِرَهُ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ، وَفَتَحَ عَلَيْنَا .
وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ ، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا .
فَقَالَ لِي : كَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ؟ قُلْت : لَا .
قَالَ : فَمَا تَقُولُ ؟ قُلْت : هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ بِهِ ؛ قَالَ لَهُ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فِي ذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِك ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا .
فَقَالَ : لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلَّا مَا تَقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَتْ : { مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً بَعْدَ إذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلَّا يُكْثِرَ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } .
وَعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } .
{ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي .
قَالَ : قُلْ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، رَبِّي إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي
ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك ، وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَاذَا يُغْفَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : { رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت ، وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَأَنَا أَقُولُ : كُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي مُضَاعَفٌ ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ بَرِيءٌ .
وَلَكِنْ كَانَ يَسْتَقْصِرُ نَفْسَهُ لِعَظِيمِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَيَرَى قُصُورَهُ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّ ذَلِكَ ذُنُوبًا ؛ فَأَمَّا أَنَا فَإِنَّمَا ذُنُوبِي بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ ، وَالتَّرْكِ التَّامِّ ، وَالْمُخَالَفَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ بِالتَّوْبَةِ وَيَمُنُّ بِالْعِصْمَةِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ، لَا رَبَّ سِوَاهُ .
سُورَةُ تَبَّتْ [ وَفِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ ] .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [ عَنْهُ ] قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ } وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا وَهَتَفَ : يَا صَبَاحَاهُ فَقَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ ، فَقَالَ : أَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ، أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ ، وَأَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ أَوْ مُمْسِيكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا .
قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ .
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : أَلِهَذَا جَمَعْتنَا ؟ تَبًّا لَك ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } .
إلَى آخِرِهَا } .
هَكَذَا قَرَأَهَا الْأَعْمَشُ عَلَيْنَا يَوْمَئِذٍ ، زَادَ الْحُمَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ : { فَلَمَّا سَمِعَتْ امْرَأَتُهُ مَا نَزَلَ فِي زَوْجِهَا وَفِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَرَ إلَّا أَبَا بَكْرٍ .
فَقَالَتْ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَيْنَ صَاحِبُك ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ يَهْجُونِي ، فَوَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَشَاعِرَةٌ : مُذَمَّمًا عَصَيْنَا وَأَمْرُهُ أَبَيْنَا وَدِينُهُ قَلَيْنَا ثُمَّ انْصَرَفَتْ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْك ؟ قَالَ : مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي } .
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنَّمَا تُسَمِّي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَمَّمًا ، ثُمَّ
يَسُبُّونَهُ ، فَكَانَ يَقُولُ : أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ يَسُبُّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } : اسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى ، وَاسْمُ امْرَأَتِهِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ ، أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ، فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَكْنِيَةِ الْمُشْرِكِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ طَه فِي قَوْلِهِ : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا } " يَعْنِي كَنِّيَاهُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ .
وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ إنَّمَا كَنَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِمَعَانٍ أَرْبَعَةٍ : الْأَوَّلِ أَنَّهُ [ لَمَّا ] كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى ، فَلَمْ يُضِفْ اللَّهُ الْعُبُودِيَّةَ إلَى صَنَمٍ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ تَكْنِيَتُهُ أَشْهُرُ مِنْهُ بِاسْمِهِ ؛ فَصَرَّحَ بِهِ .
الثَّالِثِ أَنَّ الِاسْمَ أَشْرَفُ مِنْ الْكُنْيَةِ ، فَحَطَّهُ اللَّهُ عَنْ الْأَشْرَفِ إلَى الْأَنْقَصِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْخِيَارِ عَنْهُ ، وَلِذَلِكَ دَعَا اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ بِأَسْمَائِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ .
وَيَدُلُّك عَلَى شَرَفِ الِاسْمِ [ عَلَى الْكُنْيَةِ ] أَنَّ اللَّهَ يُسَمِّي وَلَا يُكَنِّي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِظُهُورِهِ وَبَيَانِهِ وَاسْتِحَالَةِ نِسْبَةِ الْكُنْيَةِ إلَيْهِ لِتَقَدُّسِهِ عَنْهَا .
الرَّابِعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُحَقِّقَ نَسَبَهُ بِأَنْ يُدْخِلَهُ النَّارَ ، فَيَكُونَ أَبًا لَهَا ، تَحْقِيقًا لِلنَّسَبِ ، وَإِمْضَاءً لِلْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ الَّتِي اخْتَارَ لِنَفْسِهِ [ لِذَلِكَ ] .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَهْلَهُ إنَّمَا كَانُوا سَمَّوْهُ أَبَا لَهَبٍ لِتَلَهُّبِ وَجْهِهِ وَحُسْنِهِ ؛ فَصَرَفَهُمْ اللَّهُ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لَهُ : أَبُو نُورٍ ، وَأَبُو الضِّيَاءِ ، الَّذِي هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَأَجْرَى عَلَى أَلْسِنَتهمْ أَنْ يُضِيفُوهُ إلَى اللَّهَبِ الَّذِي هُوَ مَخْصُوصٌ بِالْمَكْرُوهِ وَالْمَذْمُومِ ، وَهُوَ النَّارُ ، ثُمَّ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِيهِ بِأَنْ جَعَلَهَا مَقَرَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَرَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قِرَاءَتَانِ : إحْدَاهُمَا قَوْلُهُ : " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ .
وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ " .
وَالثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبَّ .
وَهُمَا شَاذَّتَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ رَوَاهُمَا عَنْ الْعَدْلِ ، وَلَكِنَّهُ كَمَا بَيَّنَّا لَا يُقْرَأُ إلَّا بِمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ .
سُورَةُ الْإِخْلَاصِ [ وَقِيلَ ] التَّوْحِيدُ .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَقْطُوعًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا أَنَّهُ قَالَ : { أَتَى رَهْطٌ مِنْ يَهُودَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ .
فَمَنْ خَلَقَهُ ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَقَعَ لَوْنُهُ ، ثُمَّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبِّهِ ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَكَّنَهُ ، فَقَالَ : خَفِّضْ عَلَيْك يَا مُحَمَّدُ ، وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } السُّورَةَ } .
وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ بَاطِلَةٌ هَذَا أَمْثَلُهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي فَضْلِهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } ، فَهَذَا فَضْلُهَا ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ ، فَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ قَوْمُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا ، فَقَالَ لَهُ : حُبُّك إيَّاهَا أَدْخَلَك الْجَنَّةَ } .
فَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَكْرَارُ سُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ .
وَقَدْ رَأَيْت عَلَى بَابِ الْأَسْبَاطِ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ إمَامًا مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ إمَامًا كَانَ فِيهِ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ فِي رَمَضَانَ بِالْأَتْرَاكِ ، فَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، حَتَّى يُتِمَّ التَّرَاوِيحَ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ وَرَغْبَةً فِي فَضْلِهَا .
وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ ، حَسْبَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمَسَائِلِ .
سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ [ فِيهِمَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ ] : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلَ إلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا عَائِشَةُ ، أَشْعَرْت أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْته فِيهِ ؟ أَتَانِي مَلَكَانِ ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي ، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلِيَّ قَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلِي : مَا شَأْنُ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : مَطْبُوبٌ .
قَالَ : وَمَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ : لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ .
فَقَالَ : فَبِمَاذَا ؟ قَالَ : فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ ، فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ .
فَجَاءَ الْبِئْرَ وَاسْتَخْرَجَهُ } .
انْتَهَى الصَّحِيحُ زَادَ غَيْرُهُ : { فَوَجَدَ فِيهَا إحْدَى عَشْرَ عُقْدَةً ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ إحْدَى عَشْرَ آيَةً ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، حَتَّى انْحَلَّتْ الْعُقَدُ ، وَقَامَ كَأَنَّمَا أَنْشَطُ مِنْ عِقَالٍ } .
أَفَادَنِيهَا شَيْخُنَا الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ عَلِيِّ بْنُ بَدْرَانَ الصُّوفِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ } : رُوِيَ أَنَّهُ الذَّكَرُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ اللَّيْلُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ الْقَمَرُ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَوَجْهُ أَنَّهُ الذَّكَرُ أَوْ اللَّيْلُ لَا يَخْفَى .
وَوَجْهُ أَنَّهُ الْقَمَرُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ وَعِبَادَتِهِ وَاعْتِقَادِ الطَّبَائِعِيِّينَ أَنَّهُ يَفْعَلُ الْفَاكِهَةَ أَوْ تَنْفَعِلُ عَنْهُ ، أَوْ لِأَنَّهُ إذَا طَلَعَ بِاللَّيْلِ انْتَشَرَتْ عَنْهُ الْحَشَرَاتُ بِالْإذَايَاتِ ، وَهَذَا يَضْعُفُ لِأَجْلِ انْتِشَارِهَا بِاللَّيْلِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِشَارِهَا بِالْقَمَرِ .
وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُغْنِي عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُنَّ ، فَذَكَرَ السُّورَتَيْنِ : الْفَلَقَ ، وَالنَّاسَ } صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَفِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا } .
قُلْت لِلزُّهْرِيِّ : كَيْفَ يَنْفُثُ ؟ قَالَ : يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : هُمَا مِنْ الْقُرْآنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ أَتَيْنَا عَلَى مَا شَرَطْنَا فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ حَسَبَ الْإِمْكَانِ عَلَى حَالِ الزَّمَانِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى عَوَارِضَ لَا تُعَارِضُ مَا بَيْنَ مَعَاشٍ [ يُرَاشُ ] ، وَمُسَاوَرَةِ عَدُوٍّ أَوْ هَرَاشٍ ، وَسَمَاعٍ لِلْحَدِيثِ لَيْسَ لَهُ دِفَاعٌ ، وَطَالِبٍ لَا بُدَّ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ فِي الْمَطَالِبِ ، إلَى هِمَمٍ لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَقْطَارِ قَاصِرَةٍ ، وَأَفْهَامٍ مُتَقَاصِرَةٍ ، وَتَقَاعُدٍ عَنْ الِاطِّلَاعِ إلَى بَقَاءِ الِاسْتِبْصَارِ ، وَاقْتِنَاعٍ بِالْقِشْرِ عَنْ اللُّبَابِ ، وَإِقْصَارٍ وَاجْتِزَاءٍ بِالنُّفَايَةِ عَنْ النُّقَاوَةِ ، وَزُهْدٍ فِي طَرِيقِ الْحَقَائِقِ ، بِيَدِ أَنَّهُ لَمْ يَسَعْنَا وَالْحَالَةَ هَذِهِ إلَّا نَشْرُ مَا جَمَعْنَاهُ ، وَنَثْرُ مَا وَعَيْنَاهُ ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ وَلَا تَبْلُغُهُ إحَاطَتُهُمْ .
وَكَمُلَ الْقَوْلُ الْمُوجَزُ فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَحْكَامِ ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ، مِنْ عَرِيضِ بَيَانِهِ ، وَطَوِيلِ تِبْيَانِهِ ، وَكَثِيرِ بُرْهَانِهِ ، وَبَقِيَ الْقَوْلُ فِي عِلْمِ التَّذْكِيرِ وَهُوَ بَحْرٌ لَيْسَ لِمَدِّهِ حَدٌّ ، وَمَجْمُوعٍ لَا يَحْصُرُهُ الْعَدُّ ، وَقَدْ كُنَّا أَمْلَيْنَا عَلَيْكُمْ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا لَوْ قُيِّضَ لَهُ تَحْصِيلٌ لَكَانَتْ لَهُ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَلَمَّا ذَهَبَ [ بِهِ ] الْمِقْدَارُ ، فَسَيَعْلَمُ
الْغَافِلُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارُ .
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنْ الْحَمَدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
[ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : انْتَهَى الْقَوْلُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ ] .