كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ : هَذِهِ نَازِلَةٌ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا قَدِيمًا ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا افْتَتَحَ الْفُتُوحَ عَلَى عُمَرَ اجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَاسْتَحَقَّ بِكِتَابِ اللَّهِ الْغَنِيمَةَ ، فَسَأَلُوهُ الْقِسْمَةَ ، فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْهَا ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ ، حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ .
فَمَا حَالَ الْحَوْلُ إلَّا وَقَدْ مَاتُوا .
وَقَالَ عُمَرُ : لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانَا مَا تَرَكْت قَرْيَةً اُفْتُتِحَتْ إلَّا قَسَمَتْهَا بَيْنَ أَهْلِهَا .
وَرَأَى الشَّافِعِيُّ الْقِسْمَةَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ ، وَرَأَى مَالِكٌ أَقْوَالًا أَمْثَلُهَا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فِيهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ قِسْمَةُ الْمَنْقُولِ وَإِبْقَاءُ الْعَقَارِ وَالْأَرْضِ سَهْلًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ ، إلَّا أَنْ يَجْتَهِدَ الْوَالِي فَيُنْفِذَ أَمْرًا ، فَيَمْضِي عَمَلُهُ فِيهِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَيْهِ .
وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ الْفَيْءِ ، وَجَعَلَهُ لِثَلَاثِ طَوَائِفَ : الْمُهَاجِرِينَ ، وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ مَعْلُومُونَ ، { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } فَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التَّابِعِينَ وَالْآتِينَ بَعْدَهُمْ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهَا .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ وَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك ، فَقَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ } .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
إخْوَانَهُمْ كُلُّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ .
وَهَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ فِي الْمُرَادِ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْمُرَادِ بِهَا ، فَقِيلَ : إنَّهُمْ الْيَهُودُ ، وَقِيلَ : هُمْ الْمُنَافِقُونَ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآيَاتِ مُبْتَدَأَةٌ بِذِكْرِهِمْ قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } إلَى قَوْلِهِ : { الظَّالِمِينَ } .
وَعَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْيَهُودَ بِالنَّصْرِ ، وَضَمِنَ لَهُمْ أَنَّ بَقَاءَهُ بِبَقَائِهِمْ وَخُرُوجَهُ بِخُرُوجِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَلَا وَفَّى بِهِ ، بَلْ أَسْلَمَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ، فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اُكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنْك إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } فَغَرَّ أَوَّلًا ، وَكَذَبَ آخِرًا .
الثَّانِي : أَنَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ وَاحِدَةً عَلَى مُعَادَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَكُنْ لِإِحْدَاهُمَا فِئَةٌ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ .
وَالشَّتَّى : هِيَ الْمُتَفَرِّقَةُ قَالَ الشَّاعِرُ : إلَى اللَّهِ أَشْكُو نِيَّةً شَقَّتْ الْعَصَا هِيَ الْيَوْمُ شَتَّى وَهِيَ بِالْأَمْسِ جُمَّعُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَنْعِ صَلَاةِ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى صُورَةِ التَّكْبِيرِ وَالْأَفْعَالِ ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي النِّيَّةِ .
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ [ ذَلِكَ ] فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَيَشْمَلُهُ هَذَا اللَّفْظُ ، وَيَنَالُهُ هَذَا الظَّاهِرُ .
وَهَذَا كَانَ يَكُونُ حَسَنًا ، بَيْدَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ، وَالصُّورَةُ فِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ وَاتِّفَاقِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، فَإِذَا خَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ فِي الطَّاعَاتِ ، وَأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْ اخْتِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْإِذَايَةِ لِلدِّينِ وَمُعَادَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } .
تَعَلَّقَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فِي الْقِصَاصِ لِأَجْلِ عُمُومِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ ، وَحَقَّقْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّعَلُّقِ بِمِثْلِ هَذَا الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ التَّعْمِيمِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا عَقَبَ الْآيَةَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } يَعْنِي وَأَصْحَابُ النَّارِ هُمْ الْهَالِكُونَ ؛ فَفِي هَذَا الْقَدْرِ انْتَفَتْ التَّسْوِيَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : خُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا ، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ هُنَالِكَ .
سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ فِيهَا سَبْع آيَات الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } .
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ فِي الْبُخَارِيِّ { أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ وَكَانَ عُثْمَانِيًّا قَالَ لِابْنِ عَطِيَّةَ وَكَانَ عَلَوِيًّا : قَدْ عَلِمْت مَا جَرَّأَ صَاحِبَك عَلَى الدِّمَاءِ ، سَمِعْته يَقُولُ : بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزُّبَيْرَ فَقَالَ : ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ وَتَجِدُونَ بِهَا امْرَأَةً أَعْطَاهَا حَاطِبٌ كِتَابًا ، فَأَتَيْنَا الرَّوْضَةَ ، فَقُلْنَا : الْكِتَابَ ؟ فَقَالَتْ : لَمْ يُعْطِنِي شَيْئًا ، فَقُلْنَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ .
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ حُجْزَتِهَا ، أَوْ قَالَ : مِنْ عِقَاصِهَا .
فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ إلَى حَاطِبٍ فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ ، فَوَاَللَّهِ مَا كَفَرْت وَمَا ازْدَدْت لِلْإِسْلَامِ إلَّا حُبًّا ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِك إلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ ، فَأَحْبَبْت أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا ، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنَّهُ قَدْ نَافَقَ .
فَقَالَ لَهُ : مَا يُدْرِيك ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } .
فَهَذَا الَّذِي جَرَّأَهُ وَنَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } الْآيَةَ ، إلَى : { غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } : قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَالْوِلَايَةَ وَأَنَّ مَآلَهُمَا إلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } يَعْنِي فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ قَلْبَ حَاطِبٍ كَانَ سَلِيمًا بِالتَّوْحِيدِ ، بِدَلِيلِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ صَدَقَ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي سَلَامَةِ فُؤَادِهِ وَخُلُوصِ اعْتِقَادِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ ، وَيُعَرِّفُ عَدُوَّهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ، وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ ، كَمَا فَعَلَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنْ الدِّينِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا [ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ ] فَهَلْ يُقْتَلُ بِهِ حَدًّا أَمْ لَا ؟ فَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ : يَجْتَهِدُ فِيهِ الْإِمَامُ .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : إذَا كَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ هَلْ يُقْتَلُ كَمَا قَالَ عُمَرُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَحْدَهُ ، وَيَبْقَى قَتْلُ غَيْرِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ، فَهَمَّ عُمَرُ بِهِ بِعِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا بِالْعِلَّةِ الَّتِي خَصَّصَهَا بِحَاطِبٍ .
قُلْنَا : إنَّمَا قَالَ عُمَرُ : إنَّهُ يُقْتَلُ لِعِلَّةِ أَنَّهُ مُنَافِقٌ ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَافِقٍ فَإِنَّمَا يُوجِبُ عُمَرُ قَتْلَ مَنْ نَافَقَ ، وَنَحْنُ لَا نَتَحَقَّقُ نِفَاقَ فَاعِلِ مِثْلِ هَذَا ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ نَافَقَ ، وَاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ بِذَلِكَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ مَعَ بَقَاءِ إيمَانِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْقِصَّةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : يَا حَاطِبُ ؛ أَنْتَ كَتَبْت الْكِتَابَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَقَرَّ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ ، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فَلَمْ يَكْذِبْ } ، وَصَارَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِالطَّلَاقِ ابْتِدَاءً ، وَقَالَ : أَرَدْت بِهِ كَذَا وَكَذَا لِلنِّيَّةِ الْبَعِيدَةِ الصِّدْقِ ، وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى فِيهِ النِّيَّةَ الْبَعِيدَةَ لَمْ يُقْبَلْ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الْجَارُودِ سَيِّدَ رَبِيعَةَ أَخَذَ دِرْبَاسًا وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُخَاطِبُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ ، فَصَلَبَهُ فَصَاحَ يَا
عُمَرَاهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَيْهِ ، فَلَمَّا جَاءَ أَخَذَ الْحَرْبَةَ فَعَلَا بِهَا لِحْيَتَهُ ، وَقَالَ : لَبَّيْكَ يَا دِرْبَاسُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ ؛ إنَّهُ كَاتَبَ الْعَدُوَّ ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمْ ، فَقَالَ : قَتَلْته عَلَى الْهَمِّ ، وَأَيُّنَا لَا يَهُمُّ .
فَلَمْ يَرَهُ عُمَرُ مُوجِبًا لِلْقَتْلِ ، وَلَكِنَّهُ أَنْفَذَ اجْتِهَادَ ابْنِ الْجَارُودِ فِيهِ ، لِمَا رَأَى مِنْ خُرُوجِ حَاطِبٍ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كُلِّهِ .
وَلَعَلَّ ابْنَ الْجَارُودِ إنَّمَا أَخَذَ بِالتَّكْرَارِ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ .
وَقَالَ أَصْبَغُ : الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ ، وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا أَنْ يَتَعَاهَدَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { أَتَى بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ ، فَصَاحَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؛ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخُلِّيَ سَبِيلُهُ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ ، وَمِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ تَوَدَّدَ حَاطِبٌ إلَى الْكُفَّارِ لِيَجْلُبَ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَعْقِدْ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ .
وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ يَشْكُو حَاطِبًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَبْت ؛ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ } .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي فِعْلِهِ ، وَهَذَا يُصَحِّحُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُمْ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } يَعْنِي فِي بَرَاءَتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ ، وَمُبَاعَدَتِهِمْ لَهُمْ ، وَمُنَابَذَتِهِمْ عَنْهُمْ ، وَأَنْتُمْ بِمُحَمَّدٍ أَحَقُّ بِهَذَا الْفِعْلِ مِنْ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ بِإِبْرَاهِيمَ { إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك } فَلَيْسَ فِيهِ أُسْوَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٍ " .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي بَقَاءِ حُكْمِهَا أَوْ نَسْخِهِ : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ؛ ثُمَّ نُسِخَ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ بَاقٍ ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ خُزَاعَةُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ .
الثَّانِي : مَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قُتَيْلَةَ أُمَّ أَسْمَاءَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِمْ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَادَنَ فِيهَا كُفَّارَ قُرَيْشٍ ، وَأَهْدَتْ إلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قُرْطًا ، فَكَرِهَتْ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهَا ، حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ } .
وَاَلَّذِي صَحَّ فِي رِوَايَةِ أَسْمَاءَ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ فِيهِ مِنْ قَبْلُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ } أَيْ تُعْطُوهُمْ قِسْطًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ [ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ ] ، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ مِنْ الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ وَاجِبٌ فِيمَنْ قَاتَلَ وَفِيمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ تُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخَنَاصِرُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الِابْنِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ ، وَهَذِهِ وَهْلَةٌ عَظِيمَةٌ ؛ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِ النَّهْيِ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ ، إنَّمَا يُعْطِيك الْإِبَاحَةَ خَاصَّةً .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ دَخَلَ عَلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَأَكْرَمَهُ ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ فِيهِ أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَى الْمُسْلِمِينَ رُدَّ إلَيْهِمْ ، وَمَنْ ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُرَدَّ ؛ وَتَمَّ الْعَهْدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ أَبَا بَصِيرٍ عُتْبَةَ بْنَ أُسَيْدِ بْنَ حَارِثَةَ الثَّقَفِيَّ حِينَ قَدِمَ ، وَقَدِمَ أَيْضًا نِسَاءٌ مُسْلِمَاتٌ مِنْهُنَّ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ ، وَغَيْرُهُمَا ، فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ رَدَّهُنَّ عَلَى الشَّرْطِ ، وَاسْتَدْعَوْا مِنْهُ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا الشَّرْطُ فِي الرِّجَالِ لَا فِي النِّسَاءِ } ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَبَضَ أَلْسِنَتَهُمْ عَنْ أَنْ يَقُولُوا : غَدَرَ مُحَمَّدٌ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ ، وَذَلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { فَامْتَحِنُوهُنَّ } : اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الِامْتِحَانِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْيَمِينُ رَوَاهُ أَبُو نَصْرٍ الْأَسَدِيُّ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُبَيْعَةَ وَكَانَ زَوْجُهَا صَيْفِيَّ بْنَ السَّائِبِ : بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَك مِنْ قَوْمِك ضَرْبٌ وَلَا كَرَاهِيَةٌ لِزَوْجِك ، وَلَا أَخْرَجَك إلَّا حِرْصٌ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَرَغْبَةٌ فِيهِ ، لَا تُرِيدِينَ غَيْرَهُ } .
الثَّانِي : وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُ النِّسَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ تُرِدْ النِّسَاءُ وَإِنْ دَخَلْنَ فِي عُمُومِ الشَّرْطِ ، وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لِرِقَّتِهِنَّ وَضَعْفِهِنَّ .
الثَّانِي : لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الْحُكْمُ بِعِلَّتَيْنِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ خُرُوجُ النِّسَاءِ مِنْ عَهْدِ الرَّدِّ كَانَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ لَا نَاسِخًا لِلْعَهْدِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْغَافِلِينَ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الَّذِي أَوْجَبَ فُرْقَةَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زَوْجِهَا [ هُوَ إسْلَامُهَا لَا ] هِجْرَتُهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهُوَ التَّلْخِيصُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُوَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ ، وَإِلَيْهِ إشَارَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ، بَلْ عِبَارَةٌ قَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .
وَالْعُمْدَةُ فِيهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ عَدَمُ الْحِلِّ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أُمْسِكَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ أَنْ تَرُدَّ عَلَى زَوْجِهَا مَا أَنْفَقَ ، وَذَلِكَ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنْ أَهْلِهِ لِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ الْمَالُ ، حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَيْهِمْ خُسْرَانٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ : الزَّوْجَةِ ، وَالْمَالِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَدِّ مَا أَنْفَقُوا إلَى الْأَزْوَاجِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْإِمَامَ يُنَفِّذُ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مَصْرِفٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ رَفَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ فِي نِكَاحِهَا بِشَرْطِ الصَّدَاقِ ، وَسَمَّى ذَلِكَ أَجْرًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ مَاءِ الْكَافِرِ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ ؛ وَالِاسْتِبْرَاءُ هَا هُنَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَهِيَ الْعِدَّةُ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
ثُمَّ قَالَ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يَعْنِي إذْ أَسْلَمْنَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ ؛ فَعَادَ جَوَازُ النِّكَاحِ إلَى حَالَةِ الْإِيمَانِ ضَرُورَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } : هَذَا بَيَانٌ لِامْتِنَاعِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَوَافِرِ .
وَهُوَ تَفْسِيرُهُ وَالْمُرَادُ بِهِ .
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ مُشْرِكَةٌ أَنْ يُطَلِّقَهَا .
وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَتَزَوَّجُونَ الْمُسْلِمَاتِ ، وَالْمُسْلِمُونَ يَتَزَوَّجُونَ الْمُشْرِكَاتِ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا .
وَكَانَ ذَلِكَ نَسْخَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْأَفْعَالِ بِالْأَقْوَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ، فَطَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَئِذٍ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أُمَيَّةَ ، وَابْنَةَ جَرْوَلٍ الْخُزَيْمِيِّ ؛ فَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ جَرْوَلٍ أَبُو جَهْمٍ .
فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِمُعَاوِيَةَ : طَلِّقْ قُرَيْبَةَ لِئَلَّا يَرَى عُمَرُ سَلَبَهُ فِي بَيْتِك ، فَأَبَى مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : كُلُّ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ مُرْتَدَّاتٍ [ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ ] إلَى الْكُفَّارِ يُقَالُ لِلْكُفَّارِ : هَاتُوا مَهْرَهَا وَيُقَالُ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا جَاءَ أَحَدٌ مِنْ الْكَافِرَاتِ مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً : رُدُّوا إلَى الْكُفَّارِ مَهْرَهَا وَكَانَ ذَلِكَ نَصْفًا وَعَدْلًا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ اللَّهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ الزَّمَانِ فِي تِلْكَ النَّازِلَةِ خَاصَّةً بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ أَمَّا عَقْدُ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَجَائِزٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ لِمُدَّةٍ وَمُطْلَقًا إلَيْهِمْ لِغَيْرِ مُدَّةٍ .
فَأَمَّا عَقْدُهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَسْلَمَ إلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا جَوَّزَهُ اللَّهُ لَهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ ، وَقَضَى فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَأَظْهَرَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَحَمِيدِ الْأَثَرِ فِي الْإِسْلَامِ مَا حَمَلَ الْكُفَّارَ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِهِ ، وَالشَّفَاعَةِ فِي حَطِّهِ ؛ فَفِي الصَّحِيحِ : { لَمَّا كَاتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى قَصْرِ الْمُدَّةِ ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ ، فَدَفَعَهُ إلَى الرَّجُلَيْنِ ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ ، فَقَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ أَحَدَهُمَا ، وَفَرَّ الْآخَرُ ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا ، فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَقَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك ، ثُمَّ أَنْجَانِي مِنْهُمْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ قَالَ : وَتَفَلَّتَ مِنْهُمْ أَبُو جُنْدُبِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ ، وَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ ، فَوَاَللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلَى الشَّامِ إلَّا اعْتَرَضُوهُمْ فَقَتَلُوهُمْ ، وَأَخَذُوا بِأَمْوَالِهِمْ .
فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْشُدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ إلَّا أَرْسَلَ
إلَيْهِمْ ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ .
فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ إلَى { حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } } ؛ فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِانْقِيَادِ إلَيْهِمْ عَنْ هَوَانٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ حِكْمَةٍ حَسُنَ مَآلُهَا ، كَمَا سُقْنَاهُ آنِفًا مِنْ الرِّوَايَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمَعْنَى إنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ يَرُدَّ الْكُفَّارُ صَدَاقَهَا إلَى زَوْجِهَا كَمَا أُمِرُوا فَرُدُّوا أَنْتُمْ إلَى زَوْجِهَا مِثْلَ مَا أَنْفَقَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَعَاقَبْتُمْ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُعَاقَبَةُ الْمُنَاقَلَةُ عَلَى تَصْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّيْئَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ عَقِيبَ ذَهَابِ عَيْنِهِ ، فَأَرَادَ : فَعَوَّضْتُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَهُمْ عِوَضًا ، أَوْ عَوَّضُوكُمْ مَكَانَ الذَّاهِبِ لَكُمْ عِوَضًا ، فَلْيَكُنْ مِنْ مِثْلِ الَّذِي خَرَجَ عَنْكُمْ أَوْ عَنْهُمْ عِوَضًا مِنْ الْفَائِتِ لَكُمْ أَوْ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي مَحَلِّ الْعَاقِبَةِ : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا مِنْ الْفَيْءِ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ .
الثَّانِي : مِنْ مَهْرٍ إنْ وَجَبَ لِلْكُفَّارِ فِي زَوْجِ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ اقْتِصَاصِ الرَّجُلِ مِنْ مَالِ خَصْمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ دُونَ أَذِيَّةٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُرَدُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ .
وَفِي كَيْفِيَّةِ رَدِّهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخْرَجُ الْمَهْرُ وَالْخُمُسُ ثُمَّ تَقَعُ الْقِسْمَةُ ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ إنْ صَحَّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الْخُمُسِ ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْسُوخٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا } الْآيَةَ .
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْتَحِنُ إلَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ : { إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك } الْآيَةَ } .
قَالَ مَعْمَرٌ : فَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ إلَّا امْرَأَةٍ يَمْلِكُهَا .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ : { مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ وَقَالَ : إنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ ، إنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَافَحَهُنَّ عَلَى ثَوْبِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صَافَحَهُنَّ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ كَلَّفَ امْرَأَةً وَقَفَتْ عَلَى الصَّفَا فَبَايَعَتْهُنَّ .
وَذَلِكَ ضَعِيفٌ ؛ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : تُبَايِعُونِي عَلَى أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا أَيُّهَا النِّسَاءُ ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُنَّ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إلَى اللَّهِ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ } ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْعَةَ الرَّجُلِ فِي الدِّينِ كَبَيْعَةِ
النِّسَاءِ إلَّا فِي الْمَسِيسِ بِالْيَدِ خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { شَهِدْت الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ ، فَقَرَأَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَك الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا } الْآيَةَ كُلَّهَا ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ : أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
لَا يَدْرِي الْحَسَنُ مَنْ هِيَ .
قَالَ : فَتَصَدَّقْنَ وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِمَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ } يَعْنِي بِالْوَأْدِ وَالِاسْتِتَارِ عَنْ الْعَمْدِ إذَا كَانَ عَنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ ؛ فَإِنَّ رَمْيَهُ كَقَتْلِهِ ، وَلَكِنَّهُ إنْ عَاشَ كَانَ إثْمُهَا أَخَفَّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } : قِيلَ فِي أَيْدِيهِنَّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا الْمَسْأَلَةُ .
الثَّانِي : أَكْلُ الْحَرَامِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { وَأَرْجُلِهِنَّ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ الْكَذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الثَّانِي : هُوَ إلْحَاقُ وَلَدٍ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ { وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ النِّيَاحَةُ .
الثَّانِي : أَلَّا يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ .
الثَّالِثُ : أَلَّا يَخْمُشْنَ وَجْهًا ، وَلَا يَشْقُقْنَ جَيْبًا ، وَلَا يَرْفَعْنَ صَوْتًا ، وَلَا يَرْمِينَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ نَقْعًا الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ الْمَعَانِي : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ { بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ } يَعْنِي الْمَسْأَلَةَ فَهُوَ تَجَاوُزٌ كَبِيرٌ ؛ فَإِنَّ أَصْلَهَا اللِّسَانُ وَآخِرَهَا أَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا فِي الْيَدِ .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَكْلُ الْحَرَامِ أَقْرَبُ ، وَكَأَنَّهُ عَكْسُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَتَنَاوَلُهُ بِيَدِهِ فَيَحْمِلُهُ إلَى لِسَانِهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ يَبْدَؤُهَا بِلِسَانِهِ وَيَحْمِلُهَا إلَى يَدِهِ ، وَيَرُدُّهَا إلَى لِسَانِهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْمَجَازِ حَسَنٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ } فَهُوَ نَصٌّ فِي إيجَابِ الطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ ، إمَّا لَفْظًا أَوْ مَعْنًى عَلَى اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِكَ ، وَأَمَّا [ مَعْنَى ] تَخْصِيصِ قَوْلِهِ : { فِي مَعْرُوفٍ } وَقُوَّةُ قَوْلِهِ : { لَا يَعْصِينَك } يُعْطِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ فِي وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَعْنَى عَلَى التَّأْكِيدِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ } لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ " اُحْكُمْ " لَكَفَى .
الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ الْمَعْرُوفَ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ ، وَأَلْزَمُ لَهُ ، وَأَنْفَى لِلْإِشْكَالِ فِيهِ .
وَفِي الْآثَارِ { : لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا بَايَعَ النِّسَاءَ عَلَى هَذَا قَالَ لَهُنَّ : فِيمَا أَطَقْتُنَّ فَيَقُلْنَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا } .
وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَقِيقَةِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّ الطَّاقَةَ مَشْرُوطَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ ، مَرْفُوعٌ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا نَافَ عَلَيْهَا ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ : { بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا : أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا ، وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ ، فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ عَلَى يَدِهَا وَقَالَتْ : أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا .
فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، فَانْطَلَقَتْ فَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا } ، فَيَكُونُ هَذَا تَفْسِيرَ قَوْلِهِ : { بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } ؛ وَذَلِكَ تَخْمِيشُ وُجُوهٍ ، وَشَقُّ جُيُوبٍ .
وَفِي الصَّحِيحِ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَمَشَ الْوُجُوهَ ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَازَ أَنْ تُسْتَثْنَى مَعْصِيَةٌ ، وَتَبْقَى عَلَى الْوَفَاءِ بِهَا ، وَيُقِرُّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْنَا : وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْكَافِي ، مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْهَلَهَا حَتَّى تَسِيرَ إلَى صَاحِبَتِهَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهَا ، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ سَرِيعًا عَنْهُ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ شَرَطَ أَلَّا يَخِرَّ إلَّا قَائِمًا ، فَقِيلَ فِي أَحَدِ تَأْوِيلَيْهِ : إنَّهُ لَا يَرْكَعُ ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى آمَنَ ، فَرَضِيَ بِالرُّكُوعِ .
وَقِيلَ : أَرَادَتْ أَنْ تَبْكِيَ مَعَهَا بِالْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ النَّوْحِ خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي صِفَةِ أَرْكَانِ الْبَيْعَةِ عَلَى أَلَّا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَى آخِرِ الْخِصَالِ السِّتِّ .
صَرَّحَ فِيهِنَّ بِأَرْكَانِ النَّهْيِ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَرْكَانَ الْأَمْرِ ؛ وَهِيَ الشَّهَادَةُ ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ ، وَالصِّيَامُ ، وَالْحَجُّ ، وَالِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ ؛ وَهِيَ سِتَّةٌ فِي الْأَمْرِ فِي الدِّينِ وَكِيدَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي قِصَّةِ جِبْرِيلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي اعْتِمَادِهِ الْإِعْلَامَ بِالْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ حُكْمَانِ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ دَائِمٌ ، وَالْأَمْرُ يَأْتِي فِي الْفَتَرَاتِ ؛ فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الدَّائِمِ أَوْكَدَ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَنَاهِيَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ كَثِيرٌ مَنْ يَرْتَكِبُهَا ، وَلَا يَحْجِزُهُنَّ عَنْهَا شَرَفُ الْحَسَبِ ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ { أَنَّ الْمَخْزُومِيَّةَ سَرَقَتْ ، فَأَهَمَّ قُرَيْشًا أَمْرُهَا ، وَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أُسَامَةُ ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
فَخَصَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ لِهَذَا ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : { آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ؛ آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالنَّقِيرِ ، وَالْمُزَفَّتِ } ، فَنَبَّهَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ دُونَ سَائِرِ الْمَعَاصِي ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ عَادَتَهُمْ .
وَإِذَا تَرَكَ الْمَرْءُ شَهْوَتَهُ مِنْ الْمَعَاصِي هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ سِوَاهَا مِمَّا لَا شَهْوَةَ لَهُ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُنَّ فِي الْبَيْعَةِ : أَلَّا يَسْرِقْنَ قَالَتْ هِنْدُ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي ؟ فَقَالَ : لَا ، إلَّا بِالْمَعْرُوفِ } ؛ فَخَشِيَتْ هِنْدُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى مَا يُعْطِيهَا أَبُو سُفْيَانَ فَتَضِيعَ أَوْ تَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَتَكُونَ سَارِقَةً نَاكِثَةً لِلْبَيْعَةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا ، أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْك فِيمَا أَخَذْت بِالْمَعْرُوفِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ اسْتِطَالَةٍ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ .
وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يَخْزُنُهُ عَنْهَا فِي حِجَابٍ ، وَلَا يَضْبِطُ عَلَيْهَا بِقُفْلٍ ، فَإِنَّهَا إذَا هَتَكَتْهُ الزَّوْجَةُ ، وَأَخَذَتْ مِنْهُ كَانَتْ سَارِقَةً ، تَعْصِي بِهَا ، وَتُقْطَعُ عَلَيْهِ يَدُهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ فِي صِفَةِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَنْقُولَةً وَهِيَ الْيَوْمَ مَكْتُوبَةٌ ؛ إذْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُكْتَبُ إلَّا الْقُرْآنُ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي السُّنَّةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُكَتِّبُ أَصْحَابَهُ وَلَا يَجْمَعُهُمْ لَهُ دِيوَانٌ حَافِظٌ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا : { اُكْتُبُوا لِي مَنْ يَلْفِظُ بِالْإِسْلَامِ لِأَمْرٍ عَرَضَ لَهُ } .
فَأَمَّا الْيَوْمَ فَيُكْتَبُ إسْلَامُ الْكَفَرَةِ ، كَمَا يُكْتَبُ سَائِرُ مَعَالِمِ الدِّينِ الْمُهِمَّةِ وَالتَّوَابِعِ مِنْهَا لِضَرُورَةِ حِفْظِهَا حِينَ فَسَدَ النَّاسُ وَخَفَّتْ أَمَانَتُهُمْ ، وَمَرَجَ أَمْرُهُمْ ، وَنُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : لِلَّهِ أَسْلَمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ أَهْلِ أَرْضِ كَذَا ، وَآمَنَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدَ لَهُ بِشَهَادَةِ الصِّدْقِ ، وَأَقَرَّ بِدَعْوَةِ الْحَقِّ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ .
وَالْتَزَمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِأَرْكَانِهَا وَأَوْصَافِهَا ، وَأَدَّى الزَّكَاةَ بِشُرُوطِهَا ، وَصَوْمَ رَمَضَانَ ، وَالْحَجَّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، إذَا اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ، وَيَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْ الْحَدَثِ ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَتَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا قُلْت : وَإِنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا قُلْت : وَإِنَّ الْعُزَيْرَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ صَابِئًا قُلْت : وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ الْكِرَامُ وَكُتَّابُهُ الْبَرَرَةُ الَّذِينَ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .
وَإِنْ كَانَ هِنْدِيًّا قُلْت : [ وَإِنَّ ] مَانِي بَاطِلٌ مَحْضٌ ، وَبُهْتَانٌ صِرْفٌ
، وَكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ مُزَوَّرٌ .
وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ الْكُفْرِ اعْتَمَدْته بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بِالذِّكْرِ .
وَتَقُولُ بَعْدَهُ : سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } .
تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبَّرَهُ تَكْبِيرًا .
وَالْتَزَمَ أَلَّا يَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَلَا يَسْرِقُ ، وَلَا يَزْنِي ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالزُّورِ ، وَيَكُونُ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَأَحَدِهِمْ ، وَلَا يُسْلِمُهُمْ وَلَا يُسْلِمُونَهُ ، وَلَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَظْلِمُونَهُ ، وَعَلِمَ أَنَّ لِلدِّينِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَسُنَنًا ، فَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ يَلْتَزِمَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهَا عَلَى نَعْتِهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَسَنَنٍ قَوِيمٍ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى مَا شَاءَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَشَهِدَ أَنَّهُ { مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } شَهِدَ عَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ فِي شَهْرِ كَذَا .
وَقَدْ أَدْرَكَ التَّقْصِيرَ جُمْلَةٌ مِنْ الْمُؤَرِّخِينَ ، وَكَتَبُوا مَعَالِمَ الْأَمْرِ دُونَ وَظَائِفِ النَّهْيِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ فِي بَيْعَتِهِ الْوَجْهَيْنِ ، أَوْ يُغَلِّبُ ذِكْرَ وَظَائِفِ النَّهْيِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ .
وَكَتَبُوا أَنَّهُ أَسْلَمَ طَوْعًا ، وَكَتَبُوا : وَكَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ ، وَكَتَبُوا أَنَّهُ اغْتَسَلَ وَصَلَّى .
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : وَكَانَ إسْلَامُهُ طَوْعًا فَبَاطِلٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا لَصَحَّ إسْلَامُهُ وَلَزِمَهُ ، وَقُتِلَ بِالرِّدَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ
: { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ؛ وَالْكُفَّارُ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ قَسْرًا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْتَخْرَجُ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ .
وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِ الْأَسْرَى أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِالْخَمْسَةِ الْأَوْجُهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِيهِمْ ؛ فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ حُكْمُ السَّيْفِ عَنْهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ : { عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلَاسِلِ } .
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ لَوْ جَنَى جِنَايَةً فَخَافَ مِنْ مُوجَبِهَا الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ فَأَسْلَمَ سَقَطَ عَنْهُ الضَّرْبُ وَالْقَتْلُ ، وَكَانَ إسْلَامُهُ كُرْهًا ، وَحُكِمَ بِصِحَّتِهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ الْمُسْقِطُ لِلْإِسْلَامِ إذَا كَانَ ظُلْمًا وَبَاطِلًا ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لِلذِّمِّيِّ [ ابْتِدَاءً ] مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا سَبَبٍ : أَسْلِمْ ، وَإِلَّا قَتَلْتُك ؛ فَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى دِينِهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا خَافَ مِنْهُ .
وَإِذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ أَنَّهُ أُكْرِهَ بِالْبَاطِلِ لَزِمَهُ إثْبَاتُ ذَلِكَ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الطَّوَاعِيَةِ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ فِي كُلِّ كَافِرٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كَانَ إسْلَامُهُ عَلَى يَدِ فُلَانٍ فَأَنَّى عَلَّقُوهَا ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ فِي كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي شُرُوطِهِمْ لِعِلَّةِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّجُلَ إذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ كَانَ لَهُ وَلَاؤُهُ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَنَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : اغْتَسَلَ وَصَلَّى ، فَلَيْسَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الْمَكْتُوبِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَلَا وُضُوءَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ وَقْتَ صَلَاةٍ فَيُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ فَيَفْعَلُهُمَا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَكْتُوبًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الصَّفِّ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى أَبُو مُوسَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّ سُورَةً كَانَتْ عَلَى قَدْرِهَا ، أَوَّلُهَا : سَبَّحَ لِلَّهِ ، كَانَ فِيهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } سَتُكْتَبُ شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِهِمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الدِّينِ .
أَمَّا قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } فَثَابِتٌ فِي الدِّينِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَلَوْنَاهُ آنِفًا فِيهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : [ فَتُكْتَبُ ] شَهَادَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَعْنًى ثَابِتٌ فِي الدِّينِ [ لَفْظًا وَمَعْنًى ] ؛ فَإِنَّ مَنْ الْتَزَمَ شَيْئًا لَزِمَهُ شَرْعًا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْمُلْتَزَمُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا النَّذْرُ ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : نَذْرِ تَقَرُّبٍ مُبْتَدَأً ؛ كَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ وَصَلَاةٌ وَصَدَقَةٌ ، وَنَحْوُهُ مِنْ الْقُرَبِ ؛ فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا .
وَنَذْرِ مُبَاحٍ ؛ وَهُوَ مَا عُلِّقَ بِشَرْطِ رَغْبَةٍ [ كَقَوْلِهِ : إنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ ، أَوْ عُلِّقَ بِشَرْطِ رَهْبَةٍ ] ، كَقَوْلِهِ : إنْ كَفَانِي اللَّهُ شَرَّ كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ ، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ : إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ .
وَعُمُومُ الْآيَةِ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّهَا بِمُطْلَقِهَا تَتَضَمَّنُ ذَمَّ مَنْ قَالَ مَا لَا يَفْعَلُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ ، مِنْ مُطْلَقٍ ، أَوْ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُهُ : إنَّ النَّذْرَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا الْقَصْدُ مِنْهُ الْقُرْبَةُ مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْبَةَ ،
وَإِنَّمَا قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ فِعْلٍ أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ .
قُلْنَا : الْقُرَبُ الشَّرْعِيَّةُ مُقْتَضَيَاتٌ وَكُلَفٌ وَإِنْ كَانَتْ قُرُبَاتٍ .
وَهَذَا تَكَلَّفَ فِي الْتِزَامِ هَذِهِ الْقُرْبَةِ مَشَقَّةً لِجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُنَنِ التَّكْلِيفِ ، وَلَا زَالَ عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنْ كَانَ الْمَقُولُ مِنْهُ وَعْدًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنُوطًا بِسَبَبٍ ؛ كَقَوْلِهِ : إنْ تَزَوَّجْتَ أَعَنْتُك بِدِينَارٍ ، أَوْ ابْتَعْت حَاجَةَ كَذَا أَعْطَيْتُك كَذَا ؛ فَهَذَا لَازِمٌ إجْمَاعًا مِنْ الْفُقَهَاءِ .
وَإِنْ كَانَ وَعْدًا مُجَرَّدًا فَقِيلَ : يَلْزَمُ بِمُطْلَقِهِ ؛ وَتَعَلَّقُوا بِسَبَبِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَ أَوْ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ .
وَهُوَ حَدِيثٌ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لَمَّا سَمِعَهَا قَالَ : لَا أَزَالُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَعْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا لِعُذْرٍ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : ( مَرْصُوصٌ ) ، أَيْ مُحْكَمٌ ثَابِتٌ ، كَأَنَّهُ عُقِدَ بِالرَّصَاصِ ، وَكَثِيرًا مَا تُعْقَدُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ الْقَدِيمَةُ ، عَايَنَتْ مِنْهَا بِمِحْرَابِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ كَذَلِكَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ .
وَيُقَالُ : حَدِيثٌ مَرْسُوسٌ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ سِيقَ سِيَاقَةً مُحْكَمَةً مُرَتَّبَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ أَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ إرَادَةُ الثَّوَابِ لِلْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي إحْكَامِ الصُّفُوفِ جَمَالٌ لِلصَّلَاةِ ، وَحِكَايَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ ، وَهَيْئَةٌ لِلْقِتَالِ ، وَمَنْفَعَةٌ فِي أَنْ تُحْمَلَ الصُّفُوفُ عَلَى الْعَدُوِّ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ الصَّفِّ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ ، أَوْ فِي رِسَالَةٍ يُرْسِلُهَا الْإِمَامُ ، وَمَنْفَعَةٍ تَظْهَرُ فِي الْمَقَامِ ، كَفُرْصَةٍ تُنْتَهَزُ وَلَا خِلَافَ فِيهَا ، أَوْ بِتَظَاهُرٍ عَلَى التَّبَرُّزِ لِلْمُبَارَزَةِ .
وَفِي الْخُرُوجِ عَنْ الصَّفِّ لِلْمُبَارَزَةِ خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ إرْهَابًا لِلْعَدُوِّ ، وَطَلَبًا لِلشَّهَادَةِ ، وَتَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَبْرُزُ أَحَدٌ طَالِبًا لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ رِيَاءً وَخُرُوجًا إلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُبَارَزَةُ إذَا طَلَبَهَا الْكَافِرُ ، كَمَا كَانَتْ فِي حُرُوبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَفِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ .
سُورَةُ الْجُمُعَةِ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْجُمُعَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا وَهَا هُنَا أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْجُمُعَةُ .
وَإِنَّمَا خُصَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنُونَ دُونَ الْكُفَّارِ ؛ تَشْرِيفًا [ لَهُمْ ] بِالْجُمُعَةِ ، وَتَخْصِيصًا دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الصَّحِيحِ { : نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ؛ فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْجُمُعَةُ خَاصَّةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَوْمُ الْإِسْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ .
رُوِيَ أَنَّ { جِبْرِيلَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِيَدِهِ مِرْآةٌ فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَقَالَ : يَا جِبْرِيلُ ؛ مَا هَذِهِ الْمِرْآةُ ؟ قَالَ : يَوْمُ الْجُمُعَةِ .
قَالَ : مَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي فِيهَا ؟ قَالَ : السَّاعَةُ وَفِيهَا تَقُومُ } .
كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْجُمُعَةُ فَرْضٌ ، لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا قُرْآنِيَّةٌ سُنِّيَّةٌ ، وَهِيَ ظُهْرُ الْيَوْمِ ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا يُحْكَى فِي ذَلِكَ ، لَا سِيَّمَا مَا يُؤْثَرُ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْعَرُوسُ عَنْهَا ؛ فَإِنَّ الْعَرُوسَ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَجْلِ الْعُرْسِ ، فَكَيْفَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ .
وَلَهَا شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ فِي الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ ، فَشُرُوطُ الْوُجُوبِ سَبْعَةٌ : الْعَقْلُ ، وَالذُّكُورِيَّةُ ، وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْبُلُوغُ ، وَالْقُدْرَةُ ، وَالْإِقَامَةُ ، وَالْقَرْيَةُ .
وَأَمَّا شُرُوطُ الْأَدَاءِ فَهِيَ : الْإِسْلَامُ ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ كَافِرٍ .
وَالْخُطْبَةُ ، وَالْإِمَامُ الْقَيِّمُ لِلصَّلَاةِ لَيْسَ الْأَمِيرُ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ كَلِمَةً بَدِيعَةً : إنَّ لِلَّهِ فَرَائِضَ فِي أَرْضِهِ لَا يُضَيِّعُهَا [ إنْ ] وَلِيَهَا وَالٍ أَوْ لَمْ يَلِهَا .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : مِنْ شُرُوطِ أَدَائِهَا الْمَسْجِدُ الْمُسْقَفُ .
وَلَا أَعْلَمُ وَجْهَهُ .
وَمِنْهَا الْعَدَدُ ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ .
وَإِنَّمَا حَدُّهُ جَمَاعَةٌ تَتَقَرَّى بِهِمْ بُقْعَةٌ ، وَمِنْ أَدَائِهَا الِاغْتِسَالُ ، وَتَحْسِينُ الشَّارَةِ ، وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ } : النِّدَاءُ هُوَ الْأَذَانُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جُمْلَةً مِنْهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
وَقَدْ { كَانَ الْأَذَانُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمُعَةِ كَسَائِرِ الْأَذَانِ فِي الصَّلَوَاتِ ؛ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ إذَا جَلَسَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَانًا ثَالِثًا عَلَى الزَّوْرَاءِ ، حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ بِالْمَدِينَةِ ، فَإِذَا سَمِعُوا أَقْبَلُوا ، حَتَّى إذَا جَلَسَ عُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَخْطُبُ عُثْمَانُ .
} وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ الْآذَانَ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ } ، وَسَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ ثَالِثًا ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الْإِقَامَةِ فَجَعَلَهُ ثَالِثَ الْإِقَامَةِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ } يَعْنِي الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ ؛ فَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ أَذَانٌ أَصْلِيٌّ ، فَجَعَلُوا الْمُؤَذِّنَيْنِ ثَلَاثَةً ، فَكَانَ وَهْمًا ، ثُمَّ جَمَعُوهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَ وَهْمًا عَلَى وَهْمٍ ، وَرَأَيْتهمْ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ يُؤَذِّنُونَ بَعْدَ أَذَانِ الْمَنَارِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ فِي جَمَاعَةٍ ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَنَا فِي الدُّوَلِ الْمَاضِيَةِ ؛ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { لِلصَّلَاةِ } ؛ يَعْنِي بِذَلِكَ الْجُمُعَةَ دُونَ غَيْرِهَا ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : كَوْنُ الصَّلَاةِ الْجُمُعَةَ هَاهُنَا مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ لَا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ .
وَعِنْدِي أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ بِنُكْتَةٍ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } ، وَذَلِكَ يُفِيدُهُ ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ الَّذِي يَخْتَصُّ
بِذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ نِدَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ ؛ فَأَمَّا غَيْرُهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِ بِهَا وَإِضَافَتِهِ إلَيْهَا مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : كَانَ اسْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْعَرَبِ الْأَوَّلِ عُرُوبَةً ، فَسَمَّاهَا الْجُمُعَةَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ ؛ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا إلَى كَعْبٍ قَالَ الشَّاعِرُ : لَا يُبْعِدُ اللَّهُ أَقْوَامًا هُمْ خَلَطُوا يَوْمَ الْعُرُوبَةِ أَصْرَامًا بِأَصْرَامٍ
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النِّيَّةُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّانِي أَنَّهُ الْعَمَلُ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وقَوْله تَعَالَى : { إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } .
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ .
وَيُحْتَمَلُ ظَاهِرُهُ رَابِعًا : وَهُوَ الْجَرْيُ وَالِاشْتِدَادُ ، وَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الصَّحَابَةُ الْأَعْلَمُونَ ، وَالْفُقَهَاءُ الْأَقْدَمُونَ ، وَقَرَأَهَا عُمَرُ : " فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ " فِرَارًا عَنْ ظَنِّ الْجَرْيِ وَالِاشْتِدَادِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ .
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ذَلِكَ .
وَقَالَ : لَوْ قَرَأْت فَاسْعَوْا لَسَعَيْت حَتَّى سَقَطَ رِدَائِي .
وَقَرَأَ ابْنُ شِهَابٍ : فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ سَالِكًا تِلْكَ السُّبُلَ ، وَهُوَ كُلُّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمْ ، لَا قِرَاءَةٌ قُرْآنٍ مُنَزَّلٍ ، وَجَائِزٌ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّفْسِيرِ فِي مَعْرِضِ التَّفْسِيرِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ النِّيَّةُ ؛ فَهُوَ أَوَّلُ السَّعْيِ وَمَقْصُودُهُ الْأَكْبَرُ فَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ السَّعْيُ عَلَى الْأَقْدَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا عِيسَى بْنَ جُبَيْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ يَمْشِي إلَى الْجُمُعَةِ رَاجِلًا .
وَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا اللَّهُ عَلَى النَّارِ .
فَذَلِكَ فَضْلٌ وَأَجْرٌ لَا شَرْطٌ .
} وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْعَمَلُ فَأَعْمَالُ الْجُمُعَةِ هِيَ : الِاغْتِسَالُ ، وَالتَّمَشُّطُ ، وَالِادِّهَانُ ، وَالتَّطَيُّبُ ، وَالتَّزَيُّنُ بِاللِّبَاسِ ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَحَادِيثُ بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ؛ وَظَاهِرُ الْآيَةِ وُجُوبُ الْجَمِيعِ ، لَكِنَّ أَدِلَّةَ الِاسْتِحْبَابِ
ظَهَرَتْ عَلَى أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ ، فَقَضَى بِهَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْخُطْبَةُ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الصَّلَاةُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ [ وَاجِبٌ ] الْجَمِيعُ أَوَّلُهُ الْخُطْبَةُ ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَقِبَ النِّدَاءِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْخُطْبَةِ ، وَبِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا ، إلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمَاجِشُونِ فَإِنَّهُ رَآهَا سُنَّةً .
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبَيْعَ ، وَلَوْلَا وُجُوبُهَا مَا حَرَّمَتْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُبَاحَ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الصَّلَاةُ فَالْخُطْبَةُ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ ذَاكِرًا لِلَّهِ [ بِفِعْلِهِ ] كَمَا يَكُونُ مُسَبِّحًا لِلَّهِ بِفِعْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } : وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا وَقَعَ ؛ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ يُفْسَخُ .
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ : يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ .
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْوَاضِحَةِ ، وَأَشْهَبُ ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ : الْبَيْعُ مَاضٍ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : يُفْسَخُ بَيْعُ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُفْسَخُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ بِالْفَسْخِ فِي تَفْصِيلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِي الْفِقْهِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فَسْخُهُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ { : مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ .
} الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ فَإِنْ كَانَ نِكَاحًا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ : لَا يُفْسَخُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لِأَنَّهُ نَادِرٌ ، وَيَقْرُبُ هَذَا مِنْ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ : يُفْسَخُ بَيْعُ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْبَيْعِ .
وَقَالُوا : إنَّ الشَّرِكَةَ وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ نَادِرٌ لَا يُفْسَخُ .
وَالصَّحِيحُ فَسْخُ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا مُنِعَ لِلِاشْتِغَالِ بِهِ ، فَكُلُّ أَمْرٍ يَشْغَلُ عَنْ الْجُمُعَةِ مِنْ الْعُقُودِ كُلِّهَا فَهُوَ حَرَامٌ شَرْعًا مَفْسُوخٌ رَدْعًا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَا تُفْتَقَرُ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ إلَى السُّلْطَانِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا تُفْتَقَرُ إلَى الْإِمَامِ ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآيَةُ لَا عَلَى السُّلْطَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ } يَخْتَصُّ بِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْقَرِيبِ الَّذِي يَسْمَعُ النِّدَاءَ ؛ فَأَمَّا الْبَعِيدُ الدَّارِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ يَأْتِي الْجُمُعَةَ مِنْ الدَّانِي وَالْقَاصِي اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخِلَافِيَّاتِ .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالُوا : إنَّ الْجُمُعَةَ تَلْزَمُ مَنْ كَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ ، لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْعَوَالِي كَانُوا يَأْتُونَهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ الصَّوْتَ إذَا كَانَ رَفِيعًا وَالنَّاسُ فِي هُدُوءٍ وَسُكُونٍ فَأَقْصَى سَمَاعِ الصَّوْتِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ ؛ وَهَذَا نَظَرٌ وَمُلَاحَظَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى : { نُودِيَ } ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ يَسْمَعَانِ النِّدَاءَ ، وَقَدْ قُلْتُمْ لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَيْهِمَا .
قُلْنَا : أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَلْزَمُهَا خِطَابُ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْجَمَاعَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا تَدْخُلُ فِي خِطَابِهَا .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَفِي صَحِيحِ الْمَذْهَبِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ أَثَّرَ بِصِفَتِهِ حَتَّى لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْفَاسِقُ ؛ لِأَنَّ نَقْصَهُ فِي فِعْلِهِ ، وَهَذَا نَقْصُهُ فِي ذَاتِهِ ؛ فَأَشْبَهَ نَقْصَ الْمَرْأَةِ وَمِنْ النُّكَتِ الْبَدِيعَةِ فِي سُقُوطِ الْجُمُعَةِ عَنْ الْعَبْدِ قَوْله تَعَالَى : { وَذَرُوا الْبَيْعَ } ؛ فَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ بِالْجُمُعَةِ مَنْ يَبِيعُ ، وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ لَا يَبِيعَانِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ تَحْتَ حَجْرِ السَّيِّدِ ، وَالصَّبِيَّ تَحْتَ حَجْرِ الصِّغَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِالنِّدَاءِ ، وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهَا تُصَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ { : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ ، وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ .
} وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { مَا كُنَّا نُقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ .
} وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ حَتَّى يَغْشَى ظِلُّ الْجِدَارِ الْغَرْبِيِّ طَنْفَسَةَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي كَانَتْ تُطْرَحُ لَهُ عِنْدَ الْجِدَارِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ .
وَحَدِيثُ سَلَمَةَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّبْكِيرِ بِالْجُمُعَةِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُبَكِّرُونَ إلَى الْجُمُعَةِ تَبْكِيرًا كَثِيرًا عِنْدَ الْغَدَاةِ وَقَبْلَهَا فَلَا يَتَنَاوَلُونَ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ .
وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ أَنَّ التَّبْكِيرَ إلَى الْجُمُعَةِ إنَّمَا يَكُونُ وَقْتَ الزَّوَالِ بِيَسِيرٍ .
وَتَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ } الْحَدِيثُ أَنَّهُ كُلَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَحَمَلَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سَاعَاتِ النَّهَارِ الزَّمَانِيَّةِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً الْمُسْتَوِيَةِ أَوْ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَسَبِ زِيَادَاتِ النَّهَارِ وَنُقْصَانِهِ .
وَهُوَ أَصَحُّ ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { مَا كَانُوا يُقِيلُونَ وَلَا يَتَغَدَّوْنَ إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ } يُرِيدُ لِكَثْرَةِ الْبُكُورِ إلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الرَّوَاحُ إلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ .
} وَفِي الْحَدِيثِ { : مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ بِالنِّفَاقِ .
} الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ أَوْجَبَ اللَّهُ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَثَبَتَ شَرْطُ الْوُضُوءِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الْآيَةُ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ .
} وَأَغْرَبَتْ طَائِفَةٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ .
} فَقَالَتْ : إنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِمَا رَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ .
} وَهَذَا نَصٌّ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ رَاحَ إلَى الْمَسْجِدِ فَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ غُفِرَ لَهُ } .
وَهَذَا نَصٌّ آخَرُ .
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ عُمَرُ يَخْطُبُ الْحَدِيثُ إلَى أَنْ قَالَ : مَا زِدْت عَلَى أَنْ تَوَضَّأْت .
فَقَالَ عُمَرُ : وَالْوُضُوءُ أَيْضًا ، وَقَدْ عَلِمْت { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ } .
فَأَمَرَ عُمَرُ بِالْغُسْلِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالرُّجُوعِ إلَيْهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى
الِاسْتِحْبَابِ ، فَلَمْ يُمْكِنْ ، وَقَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إلَى السُّنَّةِ ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرِ فُحُولِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ حَوَالَيْ عُمَرَ ، وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ لَا يُسْقِطُ الْجُمُعَةَ كَوْنُهَا فِي يَوْمِ عِيدٍ ، خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حِينَ قَالَ : إذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ سَقَطَ فَرْضُ الْجُمُعَةِ ؛ لِتَقَدُّمِ الْعِيدِ عَلَيْهَا ، وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِهِ عَنْهَا .
وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَذِنَ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لِأَهْلِ الْعَوَالِي أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ الْجُمُعَةِ ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إذَا خُولِفَ فِيهِ وَلَمْ يُجْمَعْ مَعَهُ عَلَيْهِ .
وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ مُتَوَجِّهٌ يَوْمَ الْعِيدِ كَتَوَجُّهِهِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاَللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، فَدَخَلَتْ عِيرٌ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَالْتَفَتُوا ، فَخَرَجُوا إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَنَزَلَتْ : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا } الْآيَةُ كُلُّهَا } .
الثَّانِيَةُ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ : { كَانَ النَّاسُ قَرِيبًا مِنْ السُّوقِ ، فَرَأَوْا التِّجَارَةَ ، فَخَرَجُوا إلَيْهَا ، وَتَرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ إذَا كَانَتْ لَهُمْ عُرْسٌ يَمُرُّونَ بِالْكِيرِ يَضْرِبُونَ بِهِ ، فَخَرَجَ إلَيْهِ نَاسٌ ، فَغَضِبَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ } .
الثَّالِثُ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ { : نَزَلَتْ مَعَ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ تِجَارَةٌ بِأَحْجَارِ الزَّيْتِ فَضَرَبُوا طَبْلَهُمْ ، يُعَرِّفُونَ بِإِقْبَالِهِمْ ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ وَنَزَلَتْ الْآيَةُ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ تَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ لَسَالَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَارًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَخْطُبُ قَائِمًا ، كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ .
وَخَطَبَ عُثْمَانُ قَائِمًا حَتَّى رَقَّ فَخَطَبَ قَاعِدًا .
وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ قَاعِدًا مُعَاوِيَةُ ، وَدَخَلَ كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا ، فَقَالَ : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْخَبِيثَ يَخْطُبُ قَاعِدًا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } إشَارَةً إلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرُبَاتِ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَلَكِنْ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَفِي الْإِطْلَاقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ مُعَاوِيَةَ إنَّمَا خَطَبَ قَاعِدًا لِسِنِّهِ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي قَعْدَتِهِ رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ الْخُطْبَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : إنَّهَا سُنَّةٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الشَّهَادَةُ تَكُونُ بِالْقَلْبِ ؛ وَتَكُونُ بِاللِّسَانِ ، وَتَكُونُ بِالْجَوَارِحِ ؛ فَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَلْبِ فَهُوَ الِاعْتِقَادُ [ أَوْ الْعِلْمُ ] عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ ، وَالْعِلْمُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ الِاعْتِقَادُ [ وَالْعِلْمُ ] كَمَا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ .
وَأَمَّا شَهَادَةُ اللِّسَانِ فَبِالْكَلَامِ ، وَهُوَ الرُّكْنُ الظَّاهِرُ مِنْ أَرْكَانِهَا ، وَعَلَيْهِ تُبْنَى الْأَحْكَامُ ، وَتَتَرَتَّبُ الْأَعْذَارُ وَالِاعْتِصَامُ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ .
} الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .
إنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ وَشَهِدَ ؛ فَهَذَا عِلْمُهُ .
وَشَهَادَتُهُ قَوْله تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } وَأَمْثَالُهُ .
وَقَدْ يُقَالُ : شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الشَّهَادَاتِ فِي ذَاتِ اللَّهِ ، يُقَالُ : وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَخَدَعُوا وَغَرُّوا ، وَاَللَّهُ خَادِعُهُمْ وَمَاكِرٌ بِهِمْ ، وَهُوَ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ فِي يَمِينِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا بِنِيَّةِ الْيَمِينِ .
وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَنَّهُ دُونَ النِّيَّةِ [ يَمِينٌ ] ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ ، وَلَا أَرَى الْمَسْأَلَةَ إلَّا هَكَذَا فِي أَصْلِهَا ، وَإِنَّمَا غَلِطَ هَذَا الْعَالِمُ أَوْ غَلِطَ فِي النَّقْلِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إذَا قَالَ [ الرَّجُلُ ] أَشْهَدُ : إنَّهُ يَمِينٌ إذَا أَرَادَ بِاَللَّهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } لَيْسَ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ : { نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ } وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْآيَةِ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، مِنْهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ { : كُنْت فِي غُزَاةٍ فَسَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ : لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَمِّي ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَجِئْته ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ .
فَحَلَفُوا مَا قَالُوا ؛ فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ فَجَلَسْت فِي الْبَيْتِ ، فَقَالَ عَمِّي : مَا أَرَدْت إلَّا إلَى أَنْ كَذَّبَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } فَبَعَثَ إلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك } .
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ابْنَ أُبَيٍّ حَلَفَ أَنَّهُ مَا قَالَ .
وَقَدْ قَالَ .
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِرَاجِعٍ إلَى قَوْله تَعَالَى : { نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ } فَاعْلَمُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هَذِهِ الْيَمِينُ كَانَتْ غَمُوسًا كَاذِبَةً مِنْ عَدِيمِ الْإِيمَانِ ؛ فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلنَّارِ ، أَمَّا عَدَمُ إيمَانِهِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } .
وَأَمَّا عَدَمُ الثَّوَابِ فِيهِمْ وَوُجُوبُ الْعِقَابِ لَهُمْ فَبِآيَاتِ الْوَعِيدِ الْوَارِدَةِ فِي الْكُفَّارِ .
وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ ، أَوْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ .
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ؛ اتَّقِ اللَّهَ ؛ إنَّمَا سَأَلَ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ .
قَالَ : سَأَتْلُو عَلَيْك بِذَلِكَ قُرْآنًا : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قَالَ : فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ ؟ قَالَ : إذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا .
قَالَ : فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالْبَعِيرُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِعُمُومِ الْآيَةِ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ خَاصَّةً دُونَ النَّفْلِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْوَعِيدَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ دُونَ النَّفْلِ .
وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالزَّكَاةِ فَصَحِيحٌ كُلُّهُ عُمُومًا وَتَقْدِيرًا بِالْمِائَتَيْنِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْحَجِّ فَفِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا : إنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي فَفِي الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَوْتِ قَبْلَ أَدَائِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَلَا تُخَرَّجُ الْآيَةُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ فَالْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَمْ يُؤَدِّهِ لَقِيَ مِنْ اللَّهِ مَا يَوَدُّ أَنَّهُ رَجَعَ لِيَأْتِيَ بِمَا تَرَكَ مِنْ
الْعِبَادَاتِ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْأَمْرِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَلَيْسَ لِكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ مَدْخَلٌ ، لِأَجْلِ أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْوَعِيدَ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا وَالْمُخْتَلَفِ عَلَيْهَا ؛ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ .
وَالصَّحِيحُ تَنَاوُلُهُ لِلْوَاجِبِ مِنْ الْإِنْفَاقِ كَيْفَ تَصَرَّفَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، لِأَجْلِ أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَحْقِيقُ الْوَعِيدِ .
سُورَةُ التَّغَابُنِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمِنْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَبْنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
الْمَعْنَى أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ ، وَأَخَذَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ ، فَوَقَعَ الْغَبْنُ ، لِأَجْلِ مُبَادَلَتِهِمْ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ ، عَلَى مَنْ أَخَذَ الْأَشَدَّ وَحَصَلَ عَلَى الْأَدْنَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقَعَ الْغَبْنُ فِيهَا ؟ قُلْنَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إنَّمَا هَذَا مَثَلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ مُنْقَسِمِينَ عَلَى دَارَيْنِ : دُنْيَا ، وَآخِرَةٍ ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ عَمَلٍ ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ ؛ وَهِيَ الدَّارُ الْمَطْلُوبَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ عَبَثًا ، وَعِنْدَهُ وَقَعَ الْبَيَانُ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } يَعْنِي عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ أَمْثَالِهِ مِمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ، مُقَدَّسٌ مِنْهُ ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ النَّجِدَيْنِ ، وَخَلَقَ لِلْقَلْبِ الْمَعْرِفَةَ وَالْحَوَاسَّ سُبُلًا لَهَا ، وَالْعَقْلُ وَالشَّهْوَةُ يَتَنَازَعَانِ لِلْعَلَائِقِ ، وَالْمَلَكُ يُعَضِّدُ الْعَقْلَ ، وَالشَّيْطَانُ يَحْمِلُ الشَّهْوَةَ ، وَالتَّوْفِيقُ قَرِينُ الْمَلَكِ ، وَالْخِذْلَانُ قَرِينُ الشَّيْطَانِ ، وَالْقَدَرُ مِنْ فَوْقِ [ ذَلِكَ ] يَحْمِلُ الْعَبْدَ إلَى مَا كُتِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ فَرَّقَ الْخَلْقَ فَرِيقَيْنِ فِي أَصْلِ الْمِقْدَارِ
وَكَتَبَهُمْ بِالْقَلَمِ الْأَوَّلِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَرِيقَيْنِ : فَرِيقٌ لِلْجَنَّةِ ، وَفَرِيقٌ لِلنَّارِ ، وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ؛ فَإِنْ سَبَقَ التَّوْفِيقُ حَصَلَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنْ سَبَقَ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ ، وَيَحْصُلُ لِلْمَخْذُولِ مَنْزِلُ الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ ، فَحَصَلَ التَّغَابُنُ .
وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ مِنْ نَشْرِ الْآثَارِ .
وَقَدْ جَاءَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْغَبْنُ فِي مُعَامَلَةِ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَ التَّغَابُنَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ : { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } ؛ وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي الدُّنْيَا ، فَكُلُّ مَنْ اطَّلَعَ عَلَى غَبْنٍ فِي مَبِيعٍ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَاخْتَارَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ { : إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ، وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا } .
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
نُكْتَتُهُ أَنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا ؛ إذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لِأَحَدٍ فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ ؛ إذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ ، حَتَّى إذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَوَجَبَ الرَّدُّ بِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ ، فَقَدَّرَ عُلَمَاؤُنَا الثُّلُثَ لِهَذَا الْحَدِّ ؛ إذْ رَأَوْهُ حَدًّا فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا .
وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا : ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الْجَائِزُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، أَوْ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الَّذِي لَا يُسْتَدْرَكُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ تَغَابُنَ الدُّنْيَا يُسْتَدْرَكُ بِوَجْهَيْنِ : إمَّا بِرَدٍّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِمَّا بِرِبْحٍ فِي بَيْعٍ آخَرَ وَسِلْعَةٍ أُخْرَى .
فَأَمَّا مَنْ خَسِرَ الْجَنَّةَ فَلَا دَرْكَ لَهُ أَبَدًا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْغَبْنَ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَلَا يَلْقَى أَحَدٌ رَبَّهُ إلَّا مَغْبُونًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِيفَاءُ لِلْعَمَلِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ اسْتِيفَاءُ
الثَّوَابِ .
وَفِي الْأَثَرِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَلْقَى اللَّهَ أَحَدٌ إلَّا نَادِمًا إنْ كَانَ مُسِيئًا إذْ لَمْ يُحْسِنْ .
وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا إذْ لَمْ يَزْدَدْ } .
وَالْقَوْلُ مُتَشَعِّبٌ ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَحْكَامِ هَذَا فَاعْلَمُوهُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
قَالَ الْقَاضِي : أَدْخَلَ عُلَمَاؤُنَا هَذِهِ الْآيَةَ فِي فُنُونِ الْأَحْكَامِ ، وَقَالُوا : إنَّ ذَلِكَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمَ لِمَا يَنْفُذُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ، وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَصَائِبِ لِعِلْمِ الْعَبْدِ بِالْمَقَادِيرِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ؛ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ سُبُلِ الْأَحْكَامِ ، لَكِنْ لِلْجَوَارِحِ فِي ذَلِكَ أَعْمَالٌ [ مِنْ دَمْعِ الْعَيْنِ ، وَالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ ] ، فَإِذَا هَدَأَ الْقَلْبُ جَرَى اللِّسَانُ بِالْحَقِّ .
وَرَكَدَتْ الْجَوَارِحُ عَنْ الْخَرْقِ ، وَلَوْ اسْتَرْسَلَ الدَّمْعُ لَمْ يَضُرَّ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لِذَلِكَ { : تَدْمَعُ الْعَيْنُ ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا ، وَإِنَّا بِك يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ .
} وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ النِّيَاحَةِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَكْرُوهَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا .
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
الْآيَةُ فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا الْعَدَاوَةَ وَمُقَابِلَتَهَا الْوِلَايَةَ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْوِلَايَةَ هِيَ الْقُرْبُ ، وَأَنَّ الْعَدَاوَةَ هِيَ الْبُعْدُ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ يَكُونَانِ حَقِيقَةً بِالْمَسَافَةِ ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ ، وَيَكُونَانِ بِالْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ ؛ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْإِلَهِ ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ يَجُوزُ عَلَى الْخَلْقِ .
وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هَاهُنَا بُعْدُ الْمَوَدَّةِ وَالْمَنْزِلَةِ ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَةَ قَرِيبٌ ، وَالْوَلَدَ قَرِيبٌ ، بِحُكْمِ الْمُخَالَطَةِ ، وَالصُّحْبَةِ ، وَلَكِنَّهُمَا قَدْ يَقْرُبَانِ بِالْأُلْفَةِ الْحَسَنَةِ وَالْعِشْرَةِ الْجَمِيلَةِ ، فَيَكُونَانِ وَلِيَّيْنِ ، وَقَدْ يَبْعُدَانِ بِالنَّفْرَةِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ ، فَيَكُونَانِ عَدُوَّيْنِ ، وَعَنْ هَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَمِنْهُ حَذَّرَ ، وَبِهِ أَنْذَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } قَالَ : هَؤُلَاءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدْعُوهُمْ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا النَّاسَ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَذَا يُبَيِّنُ وَجْهَ
الْعَدَاوَةِ ؛ فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَدُوًّا لِفِعْلِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فِعْلَ الْعَدُوِّ كَانَ عَدُوًّا ، وَلَا فِعْلَ أَقْبَحَ مِنْ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ فِي طَرِيقِ الْإِيمَانِ .
فَقَالَ لَهُ : أَتُؤْمِنُ وَتَذَرُ دِينَك وَدِينَ آبَائِك ، فَخَالَفَهُ فَآمَنَ .
ثُمَّ قَعَدَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ لَهُ : أَتُهَاجِرُ وَتَتْرُكُ أَهْلَك وَمَالَك ؛ فَخَالَفَهُ فَهَاجَرَ ؛ فَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَتُجَاهِدُ فَتَقْتُلُ نَفْسَك وَتُنْكَحُ نِسَاؤُك ، وَيُقْسَمُ مَالُك ، فَخَالَفَهُ فَجَاهَدَ فَقُتِلَ ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ } .
وَقُعُودُ الشَّيْطَانِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَكُونُ بِالْوَسْوَسَةِ .
وَالثَّانِي : بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ وَالْوَلَدَ وَالصَّاحِبَ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } .
فِي حِكْمَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : مَنْ اتَّخَذَ أَهْلًا وَمَالًا وَوَلَدًا كَانَ لِلدُّنْيَا عَبْدًا .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالُ الْعَبْدِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ ، تَعِسَ فَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَفَشَ } ، وَلَا دَنَاءَةَ أَعْظَمَ مِنْ عِبَادَةِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ، وَلَا هِمَّةَ أَخَسَّ مِنْ هِمَّةٍ تَرْتَفِعُ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ وَلَدُهُ وَزَوْجُهُ عَدُوًّا كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا وَلَدُهَا وَزَوْجُهَا عَدُوًّا بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ .
وَعُمُومُ قَوْلِهِ : { مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } يُدْخِلُ فِيهِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى كَدُخُولِهِمَا فِي كُلِّ آيَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { فَاحْذَرُوهُمْ } ؛ مَعْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ .
وَالْحَذَرُ عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ : إمَّا لِضَرَرٍ فِي الْبَدَنِ ، وَإِمَّا لِضَرَرٍ فِي الدِّينِ .
وَضَرَرُ الْبَدَنِ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا ، وَضَرَرُ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ .
فَحَذَّرَ اللَّهُ الْعَبْدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْذَرَهُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَمَنَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ مِنْ الْهِجْرَةِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَئِنْ رَجَعْت لَأَقْتُلَنَّهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَئِنْ رَجَعْت لَا يَنَالُونَ مِنِّي خَيْرًا أَبَدًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا إذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللَّهُ ، إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ، نَظَرْت إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْت حَدِيثِي وَرَفَعْتهمَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْفِتْنَةُ مَا بَيَّنَّاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَهِيَ الِابْتِلَاءُ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَى الْعَبْدَ بِالْمَالِ وَالْأَهْلِ لِيَنْظُرَ أَيُطِيعُهُ أَمْ يَعْصِيهِ ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ وَتَقَدَّمَ فِي حُكْمِهِ ؛ فَإِنْ مَالَ الْعَبْدُ إلَيْهِمَا خَسِرَ ، وَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْعُزُوفِ عَنْهُمَا ، وَأَنَابَ إلَى إيثَارِ جَانِبِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِمَا فَاَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، وَهِيَ الْجَنَّةُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَدْ فُتِنَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ وَخَلَّى ابْنُ عَفَّانَ شَرًّا طَوِيلًا
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { وَاَللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يَعْنِي الْجَنَّةَ ؛ فَهِيَ الْغَايَةُ ، وَلَا أَجْرَ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ .
وَعِنْدِي مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُونَ : لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ ، فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى ؟ وَقَدْ أَعْطَيْتنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك ؟ فَيَقُولُ : أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا : يَا رَبَّنَا ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي ، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا .
} وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الرِّضَا غَايَةُ الْآمَالِ ، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ : امْتَحَنَ اللَّهُ بِهِ خَلْقَهُ فَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ فِي قَبْضَتِهِ فَهَجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ نَارِهِ وَوَصْلُهُ أَطْيَبُ مِنْ جَنَّتِهِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي التَّقْوَى : قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ التَّقْوَى فِيمَا تَقَدَّمَ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } : يَقُولُ مُطِيعِينَ قَالَ : فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا حَقُّ تُقَاتِهِ مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
وَلَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَبْلُغُوا حَقَّ تُقَاتِهِ مَا بَلَغُوا .
قَالَ : فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَعْلَمَ خَلْقُهُ قُدْرَتَهُ .
ثُمَّ نَسَخَهَا وَهَوَّنَ عَلَى خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمْ مَقَالًا .
فَلَوْ قُلْت لِرَجُلٍ : اتَّقِ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ رَأَى أَنَّك كَلَّفْتَهُ شَطَطًا مِنْ أَمْرِهِ .
فَإِذَا قُلْت : اتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْت رَأَى أَنَّك لَمْ تُكَلِّفْهُ شَطَطًا ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } .
نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي النَّحْلِ : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ ، وَهَا هُنَا ، فِيمَا تَقَدَّمَ وَبَيَّنَّا حِكْمَةَ رَبْطِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِطَاعَةِ ، وَإِطْلَاقِ النَّهْيِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَهَا هُنَا قَدْ قَرَنَ النَّهْيَ بِالِاسْتِطَاعَةِ أَيْضًا ، فَقَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
وَعُمُومُ التَّقْوَى يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ ، وَمِنْ النَّهْيِ مَا يَقِفُ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ ، وَهُوَ إذًا تَعَلَّقَ بِأَمْرٍ مَفْعُولٍ .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُفَسِّرِينَ رَوَوْا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } لَمَّا نَزَلَتْ قَامَ قَوْمٌ حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَقْدَامُهُمْ ، وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَنُسِخَ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ قِسْمُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا اصْغَوْا إلَى مَا يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي السَّمَاعِ .
الثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ اقْبَلُوا مَا تَسْمَعُونَ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ فَائِدَتُهُ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيْ الْمَجَازِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ : { أَطِيعُوا } وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الطَّاعَةِ ، وَأَنَّهَا الِانْقِيَادُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ { وَأَنْفِقُوا } : قِيلَ : هُوَ الزَّكَاةُ .
وَقِيلَ : هُوَ النَّفَقَةُ فِي النَّفْلِ ، وَقِيلَ : نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَإِنَّمَا أَوْقَعَ قَائِلُ ذَلِكَ فِيهِ قَوْلَهُ : { لِأَنْفُسِكُمْ } وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَقَةَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ عَلَى الصَّدَقَةِ هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ؛ وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِنْ خَيْرٍ فَلِنَفْسِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ ؛ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لَهُ رَجُلٌ : عِنْدِي دِينَارٌ .
قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك .
قَالَ : عِنْدِي آخَرُ .
قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك .
قَالَ : عِنْدِي آخَرُ .
قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِك .
قَالَ : عِنْدِي آخَرُ .
قَالَ : تَصَدَّقْ بِهِ } .
فَبَدَأَ بِالنَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ ، وَجَعَلَ الصَّدَقَةَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } : تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ
سُورَةُ الطَّلَاقِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ، فَلَمَّا أَتَتْ أَهْلَهَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
وَقِيلَ لَهُ : رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ ، وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِك فِي الْجَنَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ عَمْرٍو ، وَطُفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ .
وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَمْثَلُ .
وَالْأَصَحُّ فِيهِ أَنَّهَا بَيَانٌ لِشَرْعٍ مُبْتَدَإٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَهُ ، وَقَوْلُهُ : { طَلَّقْتُمْ } خَبَرٌ عَنْهُ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ ، وَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ [ وَذَلِكَ ] لُغَةٌ فَصِيحَةٌ .
كَمَا قَالَ : { حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } : تَقْدِيرُهُ يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لَهُمْ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ .
وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّ الْخِطَابَ لَهُ وَحْدَهُ لَفْظًا ، وَالْمَعْنَى لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ .
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ لَاطَفَهُ بِقَوْلِهِ : يَأَيُّهَا النَّبِيُّ .
وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَهُ قَالَ : يَأَيُّهَا الرَّسُولُ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ : { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } كَقَوْلِهِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ } ؛ فَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى تَقْدِمَتِهِمْ وَتَكْرِمَتِهِمْ ، ثُمَّ افْتَتَحَ فَقَالَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ } الْآيَةُ .
قَالَ الْقَاضِي : الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهَا : يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْت أَنْتَ وَالْمُخْبَرُونَ الَّذِينَ أَخْبَرْتُهُمْ بِذَلِكَ النِّسَاءَ فَلْيَكُنْ طَلَاقُهُنَّ كَذَا ؛ وَسَاغَ هَذَا لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ يَقْضِي مُنَبَّأً .
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ صَحِيحٌ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لِعِدَّتِهِنَّ } يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ اللَّاتِي دَخَلَ بِهِنَّ مِنْ الْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ خَرَجْنَ بِقَوْلِهِ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { لِعِدَّتِهِنَّ } .
قِيلَ : الْمَعْنَى فِي عِدَّتِهِنَّ ، وَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى فِي ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا لَيْتَنِي قَدَّمْت لِحَيَاتِي } أَيْ فِي حَيَاتِي .
وَهَذَا فَاسِدٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الَّتِي تُعْتَبَرُ .
وَاللَّامُ عَلَى أَصْلِهَا ، كَمَا تَقُولُ : افْعَلْ كَذَا لِكَذَا ، وَيَكُونُ مَقْصُودُ الطَّلَاقِ وَالِاعْتِدَادِ مَآلَهُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { يَا لَيْتَنِي قَدَّمْت لِحَيَاتِي } يَعْنِي حَيَاةَ الْقِيَامَةِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ الدَّائِمَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ مَا هَذِهِ الْعِدَّةُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : هُوَ زَمَانُ الطُّهْرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ زَمَانُ الْحَيْضِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا الطُّهْرُ قَرَأَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا ، رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ { : أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَحِيضَ ، ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ؛ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } .
وَهَذَا بَالِغٌ قَاطِعٌ ، لِأَجْلِ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ ، فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : طَلَاقُ السُّنَّةِ مَا جَمَعَ سَبْعَةَ شُرُوطٍ ؛ وَهِيَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً ، وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ ، طَاهِرًا لَمْ يَمَسَّهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ ، وَلَا تَقَدَّمَهُ طَلَاقٌ فِي حَيْضٍ ، وَلَا تَبِعَهُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ يَتْلُوهُ ، وَخَلَا عَنْ الْعِوَضِ ؛ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ السَّبْعَةُ مُسْتَقْرَآتٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَمَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ لَمْ يَكُنْ بِدْعَةً .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ طَلْقَةً .
يُقَالُ ذَلِكَ لِفِقْهٍ يَتَحَصَّلُ ؛ وَهُوَ : أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا فِي الطَّلَاقِ تُعْتَبَرُ بِالزَّمَانِ وَالْعَدَدِ .
وَفَارَقَ مَالِكٌ أَبَا حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَالِكًا قَالَ : يُطَلِّقُهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ ، وَلَا يَتْبَعُهُ طَلَاقٌ فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا يَكُونُ الطُّهْرُ تَالِيًا لِحَيْضٍ وَقَعَ فِي الطَّلَاقِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَحِيضَ ، ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ؛ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ .
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ طَلَاقٍ ، كَانَ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ .
وَإِنَّمَا رَاعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الزَّمَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْعَدَدَ ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، وَهَذَا يَدْفَعُ الثَّلَاثَ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ { : أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا ؟ قَالَ لَهُ : حَرُمَتْ عَلَيْك ، وَبَانَتْ مِنْك بِمَعْصِيَةٍ } .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةَ سَوَاءٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ : وَلَوْلَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } .
وَهَذَا يُبْطِلُ دُخُولَ الثَّلَاثِ تَحْتَ الْآيَةِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ نَمَطٌ بَدِيعٌ لَهُمْ .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْآيَةِ كَمَا قَالُوا ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فَسَّرَهَا كَمَا قُلْنَا وَبَيَانُهُ التَّامُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَكُتُبِ الْمَسَائِلِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ : إنَّهُ يَجُوزُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ جَامَعَ فِيهِ فَيَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِنَصِّهِ وَمَعْنَاهُ ، أَمَّا نَصُّهُ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ .
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ فَالطُّهْرُ الْمُجَامَعُ فِيهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَبِالْحَيْضِ التَّالِي لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } : مَعْنَاهُ احْفَظُوهَا ؛ تَقْدِيرُهُ احْفَظُوا الْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ ، حَتَّى إذَا انْفَصَلَ الْمَشْرُوطُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ قُرُوءٍ فِي قَوْلِهِ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ بِالْأَطْهَارِ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضِ .
وَيُؤَكِّدُهُ وَيُفَسِّرُهُ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ .
وَقُبُلُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ لُغَةً وَحَقِيقَةً ، بِخِلَافِ اسْتِقْبَالِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مَنْ الْمُخَاطَبُ بِأَمْرِ الْإِحْصَاءِ ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُمْ الْأَزْوَاجُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الزَّوْجَاتُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأَزْوَاجُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا مِنْ { طَلَّقْتُمْ } { وَأَحْصُوا } وَ { لَا تُخْرِجُوهُنَّ } عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إلَى الْأَزْوَاجِ ، وَلَكِنَّ الزَّوْجَاتِ دَاخِلَةٌ فِيهِ بِالْإِلْحَاقِ بِالزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يُحْصِي لِيُرَاجِعَ ، وَيُنْفِقَ أَوْ يَقْطَعَ ، وَلِيُسْكِنَ أَوْ يُخْرِجَ ، وَلِيُلْحِقَ نَسَبَهُ أَوْ يَقْطَعَ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ ، وَتَنْفَرِدُ الْمَرْأَةُ دُونَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِحْصَاءِ لِلْعِدَّةِ لِلْفَتْوَى عَلَيْهَا وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فِيهَا ؛ وَهَذِهِ فَوَائِدُ الْإِحْصَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِيمَا لَا يَتِمُّ الْإِحْصَاءُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْعِدَّةِ ، وَمَحِلِّهَا ، وَأَنْوَاعِهَا : فَأَمَّا أَسْبَابُهَا فَأَرْبَعَةٌ : وَهِيَ الطَّلَاقُ ، وَالْفَسْخُ ، وَالْوَفَاةُ ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ .
[ وَالْمِلْكُ ] وَالْوَفَاةُ مَذْكُورَانِ فِي الْقُرْآنِ ، وَالْفَسْخُ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ ، أَوْ هُوَ هُوَ .
وَالِاسْتِبْرَاءُ مَذْكُورٌ فِي
السُّنَّةِ ، وَلَيْسَ بِعِدَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَسُمِّيَتْ مُدَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ عِدَّةً لِأَنَّهَا مُدَّةٌ ذَاتُ عَدَدٍ تُعْتَبَرُ بِحِلٍّ وَتَحْرِيمٍ .
وَأَمَّا مَحِلُّهَا فَهِيَ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ .
وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَهِيَ أَرْبَعَةٌ : ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ .
وَوَضْعُ الْحَمْلِ ، كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ .
وَسَنَةٌ كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ ، فَهَذِهِ جُمْلَتُهَا ، وَفِيهَا تَفَاصِيلُ عَظِيمَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ وَتَعَارُضِهَا ، وَاخْتِلَافُ أَحْوَالِ النِّسَاءِ ، وَالتَّدَخُّلُ الطَّارِئُ عَلَيْهَا ، وَالْعَوَارِضُ اللَّاحِقَةُ لَهَا ، بَيَانُهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَمَحْصُولُهَا اللَّائِقُ بِهَذَا الْفَنِّ الَّذِي تَصَدَّيْنَا لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الْمُعْتَادَةُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي مُتَأَخِّرٌ حَيْضُهَا لِعُذْرٍ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الصَّغِيرَةُ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْآيِسَةُ .
فَأَمَّا الْمُعْتَادَةُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ ؛ وَتَحِلُّ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَطْهَارَ هِيَ الْأَقْرَاءُ ، وَقَدْ كَمُلَتْ ثَلَاثَةً .
وَأَمَّا مَنْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا لِمَرَضٍ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَأَصْبَغُ : تَعْتَدُّ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ ثَلَاثَةً .
وَقَالَ أَشْهَبُ : هِيَ كَالْمُرْضِعِ بَعْدَ الْفِطَامِ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالسَّنَةِ ، وَقَدْ طَلَّقَ حِبَّانُ بْنُ مُنْقِذٍ امْرَأَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ فَمَكَثَتْ سَنَةً لَا تَحِيضُ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ ، ثُمَّ مَرِضَ حِبَّانُ ، فَخَافَ أَنْ تَرِثَهُ إنْ مَاتَ فَخَاصَمَهَا إلَى عُثْمَانَ ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ ، فَقَالَا : نَرَى أَنْ تَرِثَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ ، وَلَا مِنْ الصِّغَارِ ؛ فَمَاتَ حِبَّانُ ، فَوَرِثَتْهُ ، وَاعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ .
وَلَوْ تَأَخَّرَ الْحَيْضُ لِغَيْرِ مَرَضٍ وَلَا رَضَاعٍ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ سَنَةً لَا حَيْضَ فِيهَا : تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً ؛ فَتَحِلُّ مَا لَمْ تَرْتَبْ بِحَمْلٍ ، فَإِنْ ارْتَابَتْ
بِحَمْلٍ أَقَامَتْ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ أَوْ خَمْسَةً أَوَسَبْعَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُلَمَائِنَا .
وَمَشْهُورُهَا خَمْسَةُ أَعْوَامٍ ؛ فَإِنْ تَجَاوَزَتْهَا حَلَّتْ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا تَحِلُّ أَبَدًا حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهَا الرِّيبَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَبْقَى الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا خَمْسَةَ أَعْوَامٍ جَازَ أَنْ يَبْقَى عَشْرَةً وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ .
وَأَمَّا الَّتِي جُهِلَ حَيْضُهَا بِالِاسْتِحَاضَةِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : تَعْتَدُّ سَنَةً ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : تَعْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ تِسْعَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ : عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْقَرَوِيِّينَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
وَأَمَّا الْمُرْتَابَةُ فَقَاسَهَا قَوْمٌ عَلَيْهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَبْقَى أَبَدًا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ .
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَيْفَمَا كَانَتْ حُرَّةً ، أَوْ أَمَةً ؛ مُسْلِمَةً ، أَوْ كِتَابِيَّةً فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : إنْ كَانَتْ أَمَةً فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ .
وَقَالَ آخَرُونَ : شَهْرَانِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ تَدُلُّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَالثَّانِيَةَ تَعَبُّدٌ ؛ فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ قُرْأَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرَّةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ مُجَرَّدًا .
وَأَمَّا الْأَشْهُرُ فَإِنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِأَجْلِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ الَّتِي يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الْوَلَدَ ، وَهَذَا تَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ .
وَيُعَارِضُهُ أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ عِنْدَهُمْ شَهْرَانِ ، وَخَمْسُ لَيَالٍ ، وَأَجَلُ الْإِيلَاءِ شَهْرَانِ ، وَأَجَلُ الْعُنَّةِ نِصْفُ عَامٍ .
وَالْأَحْكَامُ مُتَعَارِضَةٌ .
وَأَمَّا الْآيِسَةُ فَهِيَ مِثْلُهَا ، وَإِذَا أَشْكَلَ حَالُ الْيَائِسَةِ كَالصَّغِيرَةِ
لِقُرْبِ السِّنِينَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِالدَّمِ إلَّا أَنْ تَرْتَابَ مَعَ الْأَشْهُرِ فَتَذْهَبَ بِنَفْسِهَا إلَى زَوَالِ الرِّيبَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْلُهُ { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ السُّكْنَى فَرْضًا وَاجِبًا وَحَقًّا لَازِمًا هُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُمْسِكَهُ عَنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسْقِطَهُ عَنْ الزَّوْجِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَسِيرَةٌ عَلَى أَكْثَرِ الْمَذَاهِبِ .
قَالَ مَالِكٌ : لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ السُّكْنَى ، كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا أَوْ ثَلَاثًا .
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا سُكْنَى إلَّا لِلرَّجْعِيَّةِ .
[ وَقَالَ الضَّحَّاكُ : لَهَا أَنْ تَتْرُكَ السُّكْنَى ، فَجَعَلَهُ حَقًّا لَهَا ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ] لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } .
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا وُجُوبَهُ لِغَيْرِهَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَذَكَرْنَا التَّحْقِيقَ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الضَّحَّاكِ فَيَرُدُّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } وَهَذَا نَصٌّ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : { مِنْ بُيُوتِهِنَّ } إضَافَةُ إسْكَانٍ ، وَلَيْسَتْ إضَافَةَ تَمْلِيكٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ .
وَقَوْلُهُ : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ } يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى الْأَزْوَاجِ ، وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ : { وَلَا يَخْرُجْنَ } أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ذَكَرَ اللَّهُ الْإِخْرَاجَ وَالْخُرُوجَ عَامًّا مُطْلَقًا ، وَلَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِخَالَتِهِ فِي الْخُرُوجِ فِي جِذَاذِ نَخْلِهَا } .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَعًا ، { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَكَانَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ : لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَفِي مُسْلِمٍ : { قَالَتْ فَاطِمَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ قَالَ : اُخْرُجِي } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ : كَانَ فِي مَكَان وَحِشٍ ، فَخِيفَ عَلَيْهَا .
وَقَالَ مَرْوَانُ : حَيْثُ عِيبَ عَلَيْهِ نَقْلُ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ طَلَّقَهَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنُ الْعَاصِ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ فَاطِمَةَ إنْ كَانَ بِك الشَّرُّ فَحَسْبُك مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الشَّرِّ .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : لَا نَدَعُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا تَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ .
فَأَنْكَرَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ؛ لَكِنَّ عُمَرُ رَدَّهُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ ، وَرَدَّتْهُ عَائِشَةُ بِعِلَّةِ تَوَحُّشِ مَكَانِهَا ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يُخَصِّصْ عُمُومَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ : بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } ؛ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجُ إنَّمَا هُوَ فِي الرَّجْعِيَّةِ ، وَصَدَقَتْ .
وَهَكَذَا هُوَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي الْمَبْتُوتَةِ ثَبَتَ مِنْ الْآيَةِ الْأُخْرَى ؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجَاءَ مِنْ هَذَا أَنَّ لُزُومَ الْبَيْتِ لِلْمُعْتَدَّةِ شَرْعٌ لَازِمٌ ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ لِلْحَدَثِ وَالْبَذَاءِ وَالْحَاجَةِ إلَى الْمَعَاشِ وَخَوْفِ الْعَوْرَةِ مِنْ السَّكَنِ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِي صِفَةِ الْخُرُوجِ : أَمَّا الْخُرُوجُ لِخَوْفِ الْبَذَاءِ وَالتَّوَحُّشِ وَالْحَاجَةِ إلَى الْمَعَاشِ ؛ فَيَكُونُ
انْتِقَالًا مَحْضًا .
وَأَمَّا الْخُرُوجُ لِلتَّصَرُّفِ لِلْحَاجَاتِ فَيَكُونُ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ؛ إذْ لَا سَبِيلَ لَهَا إلَى الْبَيْتِ عَنْ مَنْزِلِهَا ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ بِالْإِسْفَارِ وَتَرْجِعُ قَبْلَ الْإِغْطَاشِ وَتُمَكَّنُ فَحْمَةُ اللَّيْلِ ؛ قَالَ مَالِكٌ : وَلَا تَفْعَلُ ذَلِكَ دَائِمًا .
وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهَا فِيهِ إنْ احْتَاجَتْ إلَيْهِ ، إنَّمَا يَكُونُ خُرُوجُهَا ، فِي الْعِدَّةِ كَخُرُوجِهَا فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فَرْعُ النِّكَاحِ ، لَكِنَّ النِّكَاحَ يَقِفُ الْخُرُوجُ فِيهِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ ، وَيَقِفُ فِي الْعِدَّةِ عَلَى إذْنِ اللَّهِ ؛ وَإِذْنُ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ الْعُذْرِ الْمُوجِبِ لَهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } وَكَانَ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا كَانَتْ السُّكْنَى حَقًّا عَلَيْهِنَّ لِلَّهِ ، وَكَانَتْ النَّفَقَةُ حَقًّا عَلَى الْأَزْوَاجِ ، فَسَقَطَتْ بِتَرْكِهِنَّ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ أَحْكَامِ الرَّجْعَةِ ، وَالسُّكْنَى مِنْ حُقُوقِ الْعِدَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الزِّنَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْبَذَاءُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ .
وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْبَيْتِ ؛ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عُمَرَ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْخُرُوجُ لِلزِّنَا فَلَا وَجْهَ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخُرُوجَ هُوَ خُرُوجُ الْقَتْلِ وَالْإِعْدَامِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَثْنًى فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْبَذَاءُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَوَهْمٌ ؛ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ وَنَحْوَهَا مِنْ الْمَعَاصِي لَا تُبِيحُ الْإِخْرَاجَ وَلَا الْخُرُوجَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ صَحِيحٌ .
وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ شَرْعًا إلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ تَعَدِّيًا .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ السُّكْنَى ، وَحَرَّمَ الْخُرُوجَ وَالْإِخْرَاجَ تَحْرِيمًا عَامًّا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا بَيَّنَّاهُ ، وَرَتَّبْنَا عَلَيْهِ إيضَاحَ الْخُرُوجِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الْجَائِزِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } : قَالَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ : أَرَادَ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا الرَّغْبَةَ فِي الرَّجْعَةِ ، وَمَعْنَى الْقَوْلِ : التَّحْرِيضُ عَلَى طَلَاقِ الْوَاحِدَةِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الثَّلَاث ؛ فَإِنَّهُ إذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا أَضَرَّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ النَّدَمِ عَلَى الْفِرَاقِ ، وَالرَّغْبَةِ فِي الِارْتِجَاعِ ، وَلَا يَجِدُ عِنْدَ إرَادَةِ الرَّجْعَةِ سَبِيلًا .
وَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فِيهِ الْأَمْرُ بِالطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ [ فِيهِ لِئَلَّا يَضُرَّ بِالْمَرْأَةِ فِي تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فِيهِ ] النَّهْيُ عَنْ طَلَاقِ الثَّلَاثِ ، لِئَلَّا تَفُوتَ الرَّجْعَةُ عِنْدَمَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ الرَّغْبَةِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } : فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يَعْنِي قَارَبْنَ بُلُوغَ أَجَلِهِنَّ يَعْنِي الْأَجَلَ الْمُقَدَّرَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَالْعِبَارَةُ عَنْ مُقَارَبَةِ الْبُلُوغِ [ بِالْبُلُوغِ ] سَائِغٌ لُغَةً وَمَعْلُومٌ شَرْعًا .
وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْت يَعْنِي قَارَبْت الصُّبْحَ ، وَلَوْ كَانَ لَا يُنَادِي حَتَّى يَرَى [ وَكِيلُهُ ] الصُّبْحَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُعْلِمُهُ هُوَ ، فَيَرْقَى عَلَى السَّطْحِ بَعْدَ ذَلِكَ يُؤَذِّنُ لَكَانَ النَّاسُ يَأْكُلُونَ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ : أَصْبَحْت أَيْ قَارَبْت ، فَيُنَادِي فَيُمْسِكُ النَّاسُ عَنْ الْأَكْلِ فِي وَقْتٍ يَنْعَقِدُ لَهُمْ فِيهِ الصَّوْمُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، أَوْ مَعَهُ .
وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ : وَتَشْكُو بِعَيْنٍ مَا أَكَلَّ رِكَابُهَا وَقِيلَ الْمُنَادِي أَصْبَحَ الْقَوْمُ أَدْلِجْ يَعْنِي قَارَبَ الْقَوْمُ الصَّبَاحَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } يَعْنِي بِالرَّجْعَةِ ، أَوْ فَارِقُوهُنَّ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَعْنَاهُ أَوْ اُتْرُكُوهُنَّ عَلَى حُكْمِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ؛ فَيَقَعُ الْفِرَاقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْمَاضِي لِتَرْكِ الْإِمْسَاكِ بِالرَّجْعَةِ ؛ إذْ قَدْ وَقَعَ الْفِرَاقُ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا لَهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالتَّمَسُّكِ بِالتَّصْرِيحِ بِالرَّجْعَةِ الْمُنَاقِضِ لِلتَّصْرِيحِ بِالطَّلَاقِ ، وَسُمِّيَ التَّمَادِي عَلَى حُكْمِ الْفِرَاقِ وَتَرْكِ التَّمَسُّكِ بِالتَّصْرِيحِ بِالرَّجْعَةِ فِرَاقًا مَجَازًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { بِمَعْرُوفٍ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا بِمَعْلُومٍ مِنْ الْإِشْهَادِ .
الثَّانِي : الْقَصْدُ إلَى الْخَلَاصِ مِنْ
النِّكَاحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوَصْلَةِ مَعَ عَدَمِ الْأُلْفَةِ لَا بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ ، حَسْبَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ كَانُوا يُطَلِّقُونَ الْمَرْأَةَ حَتَّى إذَا أَشْرَفْت عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَشْهَدَ بِرَجْعَتِهَا حَتَّى إذَا مَرَّ لِذَلِكَ مُدَّةٌ طَلَّقَهَا هَكَذَا ، كُلَّمَا رَدَّهَا طَلَّقَهَا ، فَإِذَا أَشْرَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ، لَا رَغْبَةً ؛ لَكِنْ إضْرَارًا وَإِذَايَةً ، فَنُهُوا أَنْ يُمْسِكُوا أَوْ يُفَارِقُوا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } .
وَقَوْلِهِ : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { فَإِذَا بَلَغْنَ } : يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذَا ادَّعَتْ ذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، تَمَامُهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ عِنْدَنَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَوْلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ التَّابِعُونَ قَدِيمًا ، بَيْدَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَكُونُ بِالْفِعْلِ ، حَتَّى تَقْتَرِنَ بِهِ النِّيَّةُ ، فَيَقْصِدَ بِالْوَطْءِ أَوْ الْقُبْلَةِ الرَّجْعَةَ وَبِالْمُبَاشَرَةِ كُلَّهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ : الْوَطْءُ مُجَرَّدًا رَجْعَةٌ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ ، هُوَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هَلْ الرَّجْعِيَّةُ مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ أَمْ لَا ؟ فَعِنْدَنَا أَنَّهَا مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
وَطْؤُهَا مُبَاحٌ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ طَلَاقٌ لَا يَقْطَعُ النِّكَاحَ ؛ فَلَمْ يُحَرِّمْ الْوَطْءَ ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِقُدُومِ زَيْدٍ لَمْ يَقَعْ ، هَذَا طَلَاقٌ وَاقِعٌ فَيَجِبُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْعَقْدِ ، لَا سِيَّمَا وَهِيَ جَارِيَةٌ [ بِهِ ] إلَى بَيْنُونَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْعِصْمَةِ ؛ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ الرَّدِّ ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ مَعَهُ الرَّدُّ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَلَا مُعْتَمَدَ لَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَنَا كُلُّ ذَلِكَ ؛ فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ؛ إذْ الْإِمْسَاكُ يَكُونُ بِهِمَا عَادَةً ، وَيَكُونُ شَرْعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ خِيَارَ الْمُعْتَقَةِ يَكُونُ إمْسَاكُهَا بِالْقَوْلِ بِأَنْ تَقُولَ : اخْتَرْت ، وَبِالْفِعْلِ بِأَنْ تُمَكِّنَ مِنْ وَطْئِهَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } وَالرَّدُّ يَكُونُ تَارَةً بِالْقَوْلِ ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ .
وَمِنْ عَجِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أَمْسَكْتهَا ، هَلْ يَكُونُ رَجْعَةً أَمْ لَا ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُظَفَّرٍ الطَّبَرِيُّ : لَا يَكُونُ رَجْعَةً ؛ لِأَنَّ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ لَا تَكُونُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ ، وَهُمَا قَوْلُهُ : رَاجَعْت ، أَوْ رَدَدْت ، كَمَا يَكُونُ النِّكَاحُ بِلَفْظَيْنِ وَهُمَا قَوْلُهُ : زَوَّجْت ، أَوْ نَكَحْت ، وَهَذَا مِنْ رَكِيكِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَحَكُّمٌ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَقِفَ عَلَى [ لَفْظَيْنِ لَكَانَ وُقُوفُهُ عَلَى ] لَفْظَيْ الْقُرْآنِ ، وَهُمَا رَدَدْت وَأَمْسَكْت اللَّذَانِ جَاءَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَهَا هُنَا أَوْلَى مِنْ
لَفْظِ رَاجَعْت الَّذِي لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ ، بَيْدَ أَنَّهُ جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، كَمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ ثَالِثٌ فِي النِّكَاحِ ، وَهُوَ فِي شَأْنِ الْمَوْهُوبَةِ ؛ إذْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبْ فَقَدْ مَلَكْتهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ؛ فَذَكَرَ النِّكَاحَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا كَمَا تَقَدَّمَ : إنَّ الرَّجْعَةَ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعَ النِّيَّةِ ، فَلَوْ خَلَا ذَلِكَ فِي نِيَّةٍ ، أَوْ كَانَتْ نِيَّةٌ دُونَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مَا حُكْمُهُ ؟ قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : إذَا عَرَى الْقَوْلُ أَوْ الْفِعْلُ عَنْ النِّيَّةِ فَلَيْسَا بِرَجْعَةٍ .
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْوَطْءَ الْعَارِيَ مِنْ نِيَّةٍ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ ، وَالْقَوْلَ الْعَارِيَ عَنْ النِّيَّةِ جَعَلَهُ رَجْعَةً ؛ إذَا قَالَ : رَاجَعْتُك وَكُنْت هَازِلًا ، فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ بِأَنَّ النِّكَاحَ بِالْهَزْلِ لَا يَلْزَمُ فَلَا يَكُونُ رَجْعَةً ؛ فَإِنْ كَانَتْ رَجْعَةً بِالنِّيَّةِ دُونَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَحَمَلَهُ الْقَرَوِيُّونَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ إنَّهُ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ دُونَ قَوْلٍ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ أَسْرَعُ فِي الثُّبُوتِ مِنْ النِّكَاحِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْلُهُ : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } : وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : إنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى الْإِشْهَادِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَخُصُوصًا حِلُّ الظِّهَارِ بِالْكَفَّارَةِ .
وَرَكَّبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : كُنْت رَاجَعْت أَمْسِ ، وَأَنَا أُشْهِدُ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّهُ إشْهَادٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالرَّجْعَةِ ؛ وَمِنْ شَرْطِ الرَّجْعَةِ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا ، فَلَا تَصِحُّ دُونَهُ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الرَّجْعَةِ تَعَبُّدٌ ، وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ فِيهَا وَلَا فِي النِّكَاحِ .
بَلْ نَقُولُ : إنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّوَثُّقِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْإِقْرَارِ ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْإِنْشَاءِ ، وَبَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ وَهِيَ فَرْعٌ غَرِيبٌ : إذَا رَاجَعَهَا بَعْدَ أَنْ ارْتَدَّتْ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ .
وَقَالَ الْمُزَنِيّ : تَصِحُّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ زَوْجَةٍ مُسْلِمَةٍ أَوْ مُرْتَدَّةٍ ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَصِحُّ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً بِالْإِحْرَامِ وَالْحَيْضِ ، كَذَلِكَ الرِّدَّةُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ فَرْجٍ مُحَرَّمٍ ، فَلَمْ تَجُزْ مَعَ الرِّدَّةِ ، كَالنِّكَاحِ ؛ وَالْمُحَرَّمَةُ وَالْحَائِضُ لَيْسَتَا بِمُحَرَّمَتَيْنِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِمَا لِزَوْجِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَوْ قَالَ بَعْدَ الْعِدَّةِ ، كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَتْهُ جَازَ ، وَلَوْ أَنْكَرَتْ حَلَفَتْ ، وَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ الْخِلَافِ مَشْرُوحٌ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِإِعْمَالِ الْإِقْرَارِ فِي الرَّجْعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } : وَهَذَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { ذَوَيْ } مُذَكَّرٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا عَدَا الْأَمْوَالَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } : يَعْنِي لَا تُضَيِّعُوهَا وَلَا تُغَيِّرُوهَا ، وَأْتُوا بِهَا عَلَى وَجْهِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ } : وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ مَعْنَاهَا إذَا ارْتَبْتُمْ .
وَحُرُوفُ الْمَعَانِي يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَجْهِ الَّذِي رَجَعَتْ فِيهِ إنْ بِمَعْنَى إذَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ { أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا عِدَّةَ الْحَائِضِ بِالْأَقْرَاءِ فَمَا حُكْمُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ } .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَهُوَ الثَّانِي : إنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِدَّةَ الْحَائِضِ بِالْأَقْرَاءِ ، فَمَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا ، وَهِيَ تَقْرُبُ مِنْ حَدِّ الِاحْتِمَالِ [ فَوَاجِبٌ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَمِنْ ارْتَفَعَتْ عَنْ حَدِّ الِاحْتِمَالِ ] وَجَبَ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ بِالْإِجْمَاعِ ، لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا رِيبَةَ فِيهَا .
الثَّالِثُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي دَمَ حَيْضٍ هُوَ أَوْ دَمَ عِلَّةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ : أَمَّا وَضْعُ حُرُوفِ الْمَعَانِي إبْدَالًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ .
وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُرُوفِ الْخَفْضِ ؛ وَإِنَّمَا الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِدَّةِ مَوْضُوعٌ لِأَجْلِ الرِّيبَةِ ؛ إذْ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ، وَتَرْتَابُ لِشُغْلِهِ بِالْمَاءِ ؛ فَوُضِعَتْ الْعِدَّةُ لِأَجْلِ هَذِهِ الرِّيبَةِ ،
وَلَحِقَهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَبُّدِ .
وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ حَرْفَ " إنْ " يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْوَاجِبِ ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْمُمْكِنِ ، وَعَلَى هَذَا خُرِّجَ قَوْلُهُ : " وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ " .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ وَاللُّغَوِيِّينَ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيٍّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } يَقُولُ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ : إنَّ تَفْسِيرَهَا : إنْ لَمْ تَدْرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِي أَمْرِهَا فَهَذِهِ سَبِيلُهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } يَعْنِي الصَّغِيرَةَ ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا بِالْأَشْهُرِ ؛ لِتَعَذُّرِ الْأَقْرَاءِ فِيهَا عَادَةً ؛ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى الْعَادَاتِ ، فَهِيَ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ فِي زَمَنِ احْتِمَالِهِ عِنْدَ النِّسَاءِ انْتَقَلَتْ إلَى الدَّمِ ، لِوُجُودِ الْأَصْلِ .
فَإِذَا وُجِدَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْقَ لِلْبَدَلِ حُكْمٌ ، كَمَا أَنَّ الْمُسِنَّةَ إذَا اعْتَدَّتْ بِالدَّمِ ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَادَتْ إلَى الْأَشْهُرِ .
رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ اعْتَدَّتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ رَفَعَتْهَا حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ اسْتَبَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَلِكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ حَلَّتْ ، وَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّرَبُّصِ سَنَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : تَبْقَى إلَى سِنِّ الْيَأْسِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَعْتَدُّ سَنَةً ؛ وَإِنْ كَانَتْ مُسِنَّةً وَانْقَطَعَ حَيْضُهَا وَقَالَ النِّسَاءُ : إنَّ مِثْلَهَا لَا تَحِيضُ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ إنَّهَا تَبْقَى إلَى سِنِّ الْيَأْسِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ إذَا كَانَتْ مُرْتَابَةً بِحَمْلٍ ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَشْهَبُ لَا تَحِلُّ أَبَدًا حَتَّى تَيْأَسَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُنْكِحَ وَلَدَهُ الصِّغَارَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِدَّةَ مَنْ لَمْ يَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، وَلَا تَكُونُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا نِكَاحٌ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ ، وَهُوَ بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } : هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا ، وَإِلَيْهَا رَجَعَ عَقِبَ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَذَلِكَ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَحَدِيثِ سُبَيْعَةَ فِي السُّنَّةِ ؛ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ قَدْ حَصَلَتْ يَقِينًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا وَضَعَتْ الْحَامِلُ مَا وَضَعَتْ مِنْ عَلَقَةٍ أَوْ مُضْغَةٍ حَلَّتْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَحِلُّ إلَّا بِمَا يَكُونُ وَلَدًا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِ اللَّهِ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي فِيهَا يُخْلَقُ الْوَلَدُ فَوُضِعَتْ اخْتِبَارًا لِشَغْلِ الرَّحِمِ مِنْ فَرَاغِهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَائْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } : قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : يَخْرُجُ عَنْهَا إذَا طَلَّقَهَا ، وَيَتْرُكُهَا فِي الْمَنْزِلِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } فَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَا قَالَ : أَسْكِنُوهُنَّ .
وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ قَالَ : قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } يَعْنِي الْمُطَلَّقَاتِ اللَّاتِي قَدْ بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ ، فَلَا رَجْعَةَ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ ، وَلَيْسَتْ حَامِلًا ؛ فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ ؛ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنْهُ ، لَا يَتَوَارَثَانِ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا .
وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَالْمَسْكَنُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا .
فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبِنْ مِنْهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نِسَاؤُهُمْ يَتَوَارَثْنَ ، وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ مَا كُنَّ فِي عِدَّتِهِنَّ ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالسُّكْنَى لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ مَعَ نَفَقَتِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ ، كُنَّ حَوَامِلَ أَوْ غَيْرَ حَوَامِلَ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالسُّكْنَى لِلَّاتِي بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ؛ فَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ لِلْحَوَامِلِ اللَّائِي قَدْ بِنَّ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَسْطِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقِهِ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ السُّكْنَى أَطْلَقَهَا لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ ، فَلَمَّا ذَكَرَ النَّفَقَةَ قَيَّدَهَا
بِالْحَمْلِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ لَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ مَهَّدْنَا سُبُلَهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَمَعْنًى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَهَذَا مَأْخَذُهَا مِنْ الْقُرْآنِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ } رَاجِعٌ إلَى مَا قَبْلَهُ ، وَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ .
قُلْنَا : لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَمَا قَالَ : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } ؛ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ يُنْفَقُ عَلَيْهَا حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ ، فَلَمَّا خَصَّهَا بِذِكْرِ النَّفَقَةِ حَامِلًا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا الْبَائِنُ الَّتِي لَا يُنْفَقُ عَلَيْهَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَأَحْكَامَهَا حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى : { ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمًا يَعُمُّ الْمُطَلَّقَاتِ كُلَّهُنَّ مِنْ تَعْدِيدِ الْأَشْهُرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ [ مِنْ الْأَحْكَامِ ] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُطَلَّقَةٍ ؛ فَرَجَعَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ إلَى كُلِّ مُطَلَّقَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الرَّضَاعِ ، وَوَضَّحْنَا أَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً عَلَى الْأُمِّ ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهَا تَارَةً .
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : رَضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى الزَّوْجَةِ مَا دَامَتْ الزَّوْجِيَّةُ ، إلَّا لِشَرَفِهَا أَوْ مَرَضِهَا فَعَلَى الْأَبِ حِينَئِذٍ رَضَاعُهُ فِي مَالِهِ .
الثَّانِي : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ [ وَالشَّافِعِيُّ ] : لَا يَجِبُ عَلَى الْأُمِّ بِحَالٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يَجِبُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ حَالٍ .
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا عَلَيْهَا أَوْ لَهَا ، لَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْضِي بِأَنَّهُ عَلَيْهَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ، وَمَا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فَهُوَ كَالشَّرْطِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ يُقْضَى بِهِ فِي الْأَحْكَامِ [ وَالْعَادَةُ ] إذَا كَانَتْ شَرِيفَةً أَلَّا تُرْضِعَ فَلَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ .
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا يَلْزَمُهَا إرْضَاعُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ قَابِلٍ ثَدْيَ غَيْرِهَا ، فَيَلْزَمُهَا حِينَئِذٍ الْإِرْضَاعُ ؛ أَوْ تَكُونَ مُخْتَارَةً لِذَلِكَ فَتُرْضِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ بِالْأُجْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } .
وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَائْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فَالْمَعْرُوفُ أَنْ تُرْضِعَ مَا دَامَتْ زَوْجَةً إلَّا أَنْ تَكُونَ شَرِيفَةً ، وَأَلَّا تُرْضِعَ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ إلَّا بِأَجْرٍ .
فَإِنْ قَبِلَ غَيْرَهَا لَمْ يَلْزَمْهَا ، وَإِنْ شَاءَتْ إرْضَاعَهُ فَهِيَ أَوْلَى بِمَا يَأْخُذُهُ غَيْرُهَا .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ } : الْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ رَضَاعِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَغَيْرُهَا تُرْضِعُ يَعْنِي إنْ قَبِلَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ كَمَا تَقَدَّمَ لَزِمَهَا وَلَمْ يَنْفَعْهَا تَعَاسُرُهَا مَعَ الْأَبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } : هَذَا يُفِيدُ أَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ مُقَدَّرَةً شَرْعًا ، وَإِنَّمَا تَتَقَدَّرُ عَادَةً بِحَسَبِ الْحَالَةِ مِنْ الْمُنْفِقِ وَالْحَالَةُ مِنْ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ ، فَتُقَدَّرُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ .
وَقَدْ فَرَضَ عُمَرُ لِلْمَنْفُوسِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي الْعَامِ بِالْحِجَازِ ، وَالْقُوتُ بِهَا مَحْبُوبٌ ، وَالْمِيرَةُ عَنْهُ بَعِيدَةٌ ، وَيَنْظُرُ الْمُفْتِي إلَى قَدْرِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى حَالَةِ الْمُنْفِقِ ؛ فَإِنْ احْتَمَلَتْ الْحَالَةُ الْحَاجَةَ أَمْضَاهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَصُرَتْ حَالَتُهُ عَنْ حَالَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ رَدَّهَا إلَى قَدْرِ احْتِمَالِ حَالِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا } ؛ فَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ مَا يَكْفِيهِ ، وَيَفْضُلُ عَنْهُ فَضْلٌ أَخَذَهُ وَلَدُهُ ، وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ ؛ وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِهِ أَوَّلًا ، لَكِنْ لَا يَرْتَفِعُ لَهُ ؛ بَلْ يُقَدَّرُ لَهُ الْوَسَطُ ، حَتَّى إذَا اسْتَوْفَاهُ عَادَ الْفَضْلُ إلَى سِوَاهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ { : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } ؛ فَأَحَالَهَا عَلَى الْكِفَايَةِ حِينَ عَلِمَ السَّعَةَ مِنْ حَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِطَلَبِهَا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي تَقْدِيرِ الْإِنْفَاقِ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ ، وَإِنَّمَا أَحَالَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَادَةِ ، وَهِيَ دَلِيلٌ أُصُولِيٌّ بَنَى اللَّهُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ ، وَرَبَطَ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ ؛ وَقَدْ أَحَالَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَادَةِ فِيهِ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَقَالَ : { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } .
وَقَالَ : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَقَدَّرْنَا
لِلْكَبِيرِ نَفَقَةً لِشِبَعِهِ وَكِسْوَتِهِ وَمُلَاءَتِهِ .
وَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَلِأُمِّهِ أَجْرُهَا بِالْمِثْلِ إذَا شَطَّتْ عَلَى الْأَبِ ، وَالْمُفْتُونَ مِنَّا يُقَدِّرُونَهَا بِالطَّعَامِ وَالْإِدَامِ ، وَلَيْسَ لَهَا تَقْدِيرٌ إلَّا بِالْمِثْلِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَا مِنْ الطَّعَامِ .
وَأَمَّا إذَا أَكَلَ فَيُفْرَضُ لَهُ قَدْرُ مَأْكَلِهِ وَمَلْبَسِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَالِ .
كَمَا قَدَّمْنَا .
وَفَرَضَ عُمَرُ لِلْمَنْفُوسِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَفَرَضَ لَهُ عُثْمَانُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ حَالِ السِّنِينَ ، أَوْ بِحَسَبِ حَالِ الْقَدْرَ فِي التَّسْعِيرِ لِثَمَنِ الْقُوتِ وَالْمَلْبَسِ .
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ لَا يَفْرِضُ لِلْمَوْلُودِ حَتَّى يُطْعَمَ ، ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى : لَا تُعَجِّلُوا أَوْلَادَكُمْ عَنْ الْفِطَامِ ، فَإِنَّا نَفْرِضُ لِكُلِّ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ الْمُزَنِيّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي وَجَدَّتِي أَنَّهَا كَانَتْ تَرِدُ عَلَى عُثْمَانَ فَفَقَدَهَا ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ : مَالِي لَا أَرَى فُلَانَةَ ؟ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَدَتْ اللَّيْلَةَ ، فَبَعَثَ إلَيْهَا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَشُقَيْقَةً أَنْبِجَانِيَّةً ثُمَّ قَالَ : هَذَا عَطَاءُ ابْنِك ، وَهَذِهِ كِسْوَتُهُ ، فَإِذَا مَرَّتْ لَهُ سَنَةٌ رَفَعْنَاهُ إلَى مِائَةٍ .
وَقَدْ أَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَنْبُوذٍ ، فَفَرَضَ لَهُ مِائَةً .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذَا الْفَرْضُ قَبْلَ الْفِطَامِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ مُسْتَحَبًّا ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ وَاجِبًا لِمَا تَجَدَّدَ مِنْ حَاجَتِهِ وَعَرَضَ مِنْ مُؤْنَتِهِ ، وَبِهِ أَقُولُ ؛ وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ بِحَالِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ ، وَبِحَالِهِ عِنْدَ الْفِطَامِ .
وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ عُمَرَ أَخَذَ الْمُدَّ بِيَدٍ وَالْقِسْطَ بِيَدٍ ، وَقَالَ : إنِّي فَرَضْت لِكُلِّ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مُدَّيْ حِنْطَةٍ
وَقِسْطَيْ خَلٍّ ، وَقِسْطَيْ زَيْتٍ .
زَادَ غَيْرُهُ ، وَقَالَ : إنَّا قَدْ أَجَزْنَا لَكُمْ أَعْطِيَاتِكُمْ وَأَرْزَاقَكُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ .
فَمَنْ انْتَقَصَهَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ كَذَا وَكَذَا ، وَدَعَا عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : كَمْ سُنَّةٍ رَاشِدَةٍ مَهْدِيَّةٍ قَدْ سَنَّهَا عُمَرُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ وَالْمُدُّ ] وَالْقِسْطُ كَيْلَانِ شَامِيَّانِ فِي الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ ، وَقَدْ دُرِسَا بِعُرْفٍ آخَرَ ؛ فَأَمَّا الْمُدُّ فَدُرِسَ إلَى الْكِيلَجَةِ ، وَأَمَّا الْقِسْطُ فَدُرِسَ إلَى الْكَيْلِ ، وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ عِنْدَنَا رُبْعَانِ فِي الطَّعَامِ ، وَثُمُنَانِ فِي الْإِدَامِ ، وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَبِقَدْرِ الْعَادَةِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ ، وَجُبَّةٌ فِي الشِّتَاءِ وَكِسَاءٌ وَإِزَارٌ وَحَصِيرٌ .
وَهَذَا الْأَصْلُ ، وَيَتَزَيَّدُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْعَادَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ دُونَ الْأُمِّ ، خِلَافًا لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ ؛ إذْ يَقُولُ : إنَّهَا عَلَى الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ ، وَبَيَانُهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِيَّاتِ ، وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا أَرَادَ أَنَّهَا عَلَى الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَقُولُ لَك الْمَرْأَةُ أَنْفِقْ عَلَيَّ وَإِلَّا طَلِّقْنِي ، وَيَقُولُ الْعَبْدُ : أَنْفِقْ عَلَيَّ وَاسْتَعْمِلْنِي ، وَيَقُولُ لَك ابْنُك : أَنْفِقْ عَلَيَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ فَقَدْ تَعَاضَدَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَتَوَارَدَا فِي مَشْرَعَةٍ وَاحِدَةٍ } .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
سُورَة التَّحْرِيمِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِك وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا { الْمَوْهُوبَةُ الَّتِي جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي .
فَلَمْ يَقْبَلْهَا } رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَارِيَةَ أُمِّ إبْرَاهِيمَ ، خَلَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ ، وَقَدْ خَرَجَتْ لِزِيَارَةِ أَبِيهَا ، فَلَمَّا عَادَتْ وَعَلِمَتْ عَتَبَتْ عَلَيْهِ ، فَحَرَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ إرْضَاءً لِحَفْصَةَ ، وَأَمَرَهَا أَلَّا تُخْبِرَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ ، فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ لِمُصَافَاةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا ؛ فَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ ، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ شَهْرًا ، وَكَانَ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُحَرِّمَهُنَّ شَهْرًا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَرَاجَعَ حَفْصَةُ ، وَاسْتَحَلَّ مَارِيَةَ ، وَعَادَ إلَى نِسَائِهِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَجَمَاعَةٌ .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةَ بِيَمِينٍ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ : حَرَّمَهَا بِيَمِينٍ .
وَقَالَ غَيْرُهُمْ : إنَّهُ حَرَّمَهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَاللَّفْظُ لِلْجُعْفِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا فَتَوَاصَيْت أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتِنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ : أَكَلْت مَغَافِيرَ ، إنِّي أَجِدُ مِنْك رِيحَ
مَغَافِيرَ .
قَالَ : لَا .
وَلَكِنِّي شَرِبْت عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ .
وَقَدْ حَلَفْت لَا تُخْبِرِي أَحَدًا يَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِهِ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ حَفْصَةَ ، وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ الْقِصَّةِ ، وَكَذَلِكَ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ .
وَالْأَكْثَرُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عِنْدَ زَيْنَبَ ، وَأَنَّ اللَّتَيْنِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ سَوْدَةَ .
وَرَوَى أَسْبَاطٌ عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ ، وَكُلُّهُ جَهْلٌ وَتَسَوُّرٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمَوْهُوبَةِ فَهُوَ ضَعِيفٌ فِي السَّنَدِ ، وَضَعِيفٌ فِي الْمَعْنَى ؛ أَمَّا ضَعْفُهُ فِي السَّنَدِ فَلِعَدَمِ عَدَالَةِ رُوَاتِهِ ، وَأَمَّا ضَعْفُهُ فِي مَعْنَاهُ فَلِأَنَّ رَدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَوْهُوبَةِ لَيْسَ تَحْرِيمًا لَهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ رَدَّ مَا وُهِبَ لَهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ التَّحْرِيمِ بَعْدَ التَّحْلِيلِ .
وَأَمَّا مَنْ رَوَى أَنَّهُ حَرَّمَ مَارِيَةَ فَهُوَ أَمْثَلُ فِي السَّنَدِ ، وَأَقْرَبُ إلَى الْمَعْنَى ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُدَوَّنْ فِي صَحِيحٍ ، وَلَا عُدِّلَ نَاقِلُهُ ، كَمَا أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ؛ قَالَ { : حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ ، فَقَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ؛ وَاَللَّهِ لَا أَتَيْتُك .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِك } } .
وَرَوَى مِثْلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ ، قَالَ : رَاجَعَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي شَيْءٍ ، فَاقْشَعَرَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ : مَا كَانَ النِّسَاءُ هَكَذَا .
قَالَتْ : بَلَى ، وَقَدْ كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعْنَهُ .
فَاحْتَزَمَ ثَوْبَهُ ، فَخَرَجَ إلَى حَفْصَةَ ، فَقَالَ لَهَا : أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَكْرَهُ مَا فَعَلْت .
فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ : رَغْمَ أَنْفِ حَفْصَةَ .
وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَسَلِ ، وَأَنَّهُ شَرِبَهُ عِنْدَ زَيْنَبَ ، وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ فِيهِ ، وَجَرَى مَا جَرَى ، فَحَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَهُ ، وَأَسَرَّ ذَلِكَ ، وَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الْجَمِيعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { لِمَ تُحَرِّمُ } إنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ وَلَمْ يَحْلِفْ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَمِينٍ عِنْدَنَا فِي الْمَعْنَى ، وَلَا يُحَرِّمُ شَيْئًا قَوْلُ الرَّجُلِ : هَذَا حَرَامٌ عَلَيَّ ، حَاشَا الزَّوْجَةَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ دُونَ الْمَلْبُوسِ ، وَكَانَتْ يَمِينًا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ .
[ وَقَالَ زُفَرُ : هُوَ يَمِينٌ فِي الْكُلِّ ، حَتَّى فِي الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ .
وَعَوَّلَ الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْعَسَلَ ، فَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ] .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فَسَمَّاهُ يَمِينًا ؛ وَعَوَّلَ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ التَّحْرِيمُ ، فَإِذَا وُجِدَ مَلْفُوظًا بِهِ تَضَمَّنَ مَعْنَاهُ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
وَقَوْلُهُ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } فَذَمَّ اللَّهُ الْمُحَرِّمَ لِلْحَلَالِ ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَهَذَا يَنْقُضُ مَذْهَبَ الْمُخَالِفِينَ : زُفَرَ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَنْقُضُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ إخْرَاجُهُ اللِّبَاسَ مِنْهُ ، وَلَا جَوَابَ لَهُ عَنْهُ ، وَخَفِيَ عَنْ الْقَوْمِ سَبَبُ الْآيَةِ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَ عَسَلًا .
وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ ؛ وَقِيلَ لَهُ : لِمَ تُحَرِّمُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ مَعْنَى النَّهْيِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فَكَانَ كَالْمَالِ فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ ؛ بَلْ التَّحْرِيمُ مَعْنًى يُرَكَّبُ عَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ اللَّفْظُ لَمْ يُوجَدْ الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمِلْكِ
فَإِنَّهُ لَمْ يُرَكَّبْ عَلَى لَفْظِ الْبَيْعِ ، بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى لَفْظِهِ ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابِ تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ ، وَالْإِنْصَافِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إذَا حَرَّمَ الزَّوْجَةَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا ، وَجَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِ الْمَسَائِلِ ، وَأَوْضَحْنَاهَا بِمَا مَقْصُودُهُ أَنْ نَقُولَ : يَجْمَعُهَا ثَلَاثَةُ مَقَامَاتٍ : الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : فِي جَمِيعِ الْأَقْوَالِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا يَمِينٌ تُكَفَّرُ ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، وَعَائِشَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
الثَّانِي قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : تَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ ، وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ؛ قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ .
الرَّابِعُ أَنَّهَا ظِهَارٌ ؛ قَالَهُ عُثْمَانُ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
الْخَامِسُ أَنَّهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ ؛ قَالَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ .
السَّادِسُ أَنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ [ وَمَالِكٌ ] .
السَّابِعُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ الظِّهَارَ كَانَ مَا نَوَى ، وَإِلَّا كَانَتْ يَمِينًا وَكَانَ الرَّجُلُ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ .
الثَّامِنُ أَنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الظِّهَارِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ طَلَاقًا ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
التَّاسِعُ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ : يَكُونُ طَلَاقًا ، فَإِنْ ارْتَجَعَهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ وَطْؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ .
الْعَاشِرُ هِيَ ثَلَاثٌ قَبْلُ وَبَعْدُ ، لَكِنَّهُ يَنْوِي فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي الْوَاحِدَةِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ ثَلَاثٌ ، وَلَا يَنْوِي بِحَالٍّ ، وَلَا فِي مَحِلٍّ ؛ قَالَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمَبْسُوطِ .
الثَّانِيَ عَشَرَ هِيَ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَاحِدَةٌ ، وَفِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا ثَلَاثٌ ؛ قَالَهُ أَبُو مُصْعَبٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّهُ إنْ نَوَى الظِّهَارَ ، وَهُوَ أَنْ
يَنْوِيَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَتَحْرِيمِ أُمِّهِ كَانَ ظِهَارًا ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا وَجَبَتْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ .
الْخَامِسَ عَشَرَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا ؛ قَالَهُ مَسْرُوقُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَرَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ عَلَيْهِ عِتْقَ رَقَبَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا ظِهَارًا .
وَلَسْت أَعْلَمُ لَهُ وَجْهًا ، وَلَا يَتَعَدَّدُ فِي الْمَقَالَاتِ عِنْدِي .
الْمَقَامُ الثَّانِي فِي التَّوْجِيهِ : أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا يَمِينٌ فَقَالَ : سَمَّاهَا اللَّهُ يَمِينًا فِي قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } إلَى قَوْله تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } ؛ فَسَمَّاهَا اللَّهُ يَمِينًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ عَلَى شُرْبِ الْعَسَلِ ، وَهَذِهِ يَمِينٌ كَمَا قَدَّمْنَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : تَجِبُ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ فَبَنَاهُ عَلَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِيهَا وَلَمْ تَكُنْ يَمِينًا ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى الْيَمِين عِنْدَهُ التَّحْرِيمُ ، فَوَقَعَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَعْنَى ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، فَبَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِهِ ، وَالرَّجْعِيَّةُ مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ ، وَهَذَا يَلْزَمُ مَالِكًا لِقَوْلِهِ : إنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرِّمَةُ الْوَطْءِ .
وَكَذَلِكَ وَجْهُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ ثَلَاثٌ ، فَحَمَلَهُ عَلَى أَكْبَرِ مَعْنَاهُ ؛ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ ظِهَارٌ فَبَنَاهُ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَلُّ دَرَجَاتِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ تَحْرِيمٌ لَا يَرْفَعُ النِّكَاحَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فَعَوَّلَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُحَرِّمُ الْمُطَلَّقَةَ ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ يُحَرِّمُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك نَفَذَ وَسَقَطَتْ الرَّجْعَةُ ، وَحُرِّمَتْ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ حَرَامٌ [ عَلَيَّ ] فَإِنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا مَعْنَوِيًّا ، وَكَأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ إنْفَاذِ الطَّلَاقِ وَإِسْقَاطِ الرَّجْعَةِ .
وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك ؛ فَإِنَّ الرَّجْعَةَ حُكْمُ اللَّهِ ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ إلَّا بِمَا أَسْقَطَهُ اللَّهُ مِنْ الْعِوَضِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ ، أَوْ الثَّلَاثِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ وَالْغَايَةِ لَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهَا تَكُونُ عَارِيَّةً عَنْ النِّيَّةِ يَمِينًا فَقَدْ تَقَدَّمَ بُطْلَانُهُ .
وَأَمَّا نَفْيُ الظِّهَارِ فِيهِ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَخْتَصُّ بِمَعْنًى ، فَاخْتَصَّ بِلَفْظٍ ، وَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لِمَنْ يَرَى مُرَاعَاةَ الْأَلْفَاظِ ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نَعْتَبِرُ الْمَعَانِيَ خَاصَّةً ، إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ تَعَبُّدًا .
وَأَمَّا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ احْتَاطَ بِأَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا ؛ فَلَمَّا ارْتَجَعَهَا احْتَاطَ بِأَنْ أَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةَ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ ظِهَارٌ وَطَلَاقٌ فِي مَعْنَى لَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَلَا وَجْهَ لِلِاحْتِيَاطِ فِيمَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ فِي الدَّلِيلِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَنْوِي فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلِأَنَّ الْوَاحِدَةَ تُبِينُهَا وَتُحَرِّمُهَا شَرْعًا إجْمَاعًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ : إنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي قَبْلَ الدُّخُولِ
فِي التَّحْرِيمِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَيَكْفِي أَخْذًا بِالْأَقَلِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ مُخْتَلَفٌ فِي اقْتِضَائِهِ التَّحْرِيمَ فِي الْعِدَّةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا ثَلَاثٌ فِيهِمَا فَلِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْحُكْمِ الْأَعْظَمِ فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالثَّلَاثِ لَنَفَذَتْ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا نُفُوذَهَا فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا .
وَمِنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِثْلَهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثَ عَشَرَ فَيَرْجِعُ إلَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِي التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَسَادُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : لَا شَيْءَ فِيهَا فَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ كَذِبٌ فِي تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَاقْتَحَمَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِي الشَّرْعِ مُرَتَّبًا عَلَى أَسْبَابِهِ ؛ فَأَمَّا إرْسَالُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الطَّلَاقَ لَكَانَ أَقَلَّهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ ، إلَّا أَنْ يُعَدِّدَهُ ، كَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ التَّحْرِيمَ يَكُونُ أَقَلَّهُ ، إلَّا أَنْ يُقَيِّدَهُ بِالْأَكْثَرِ ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، فَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْمُرَادِ .
وَقَدْ أَحْكَمْنَا الْأَسْئِلَةَ وَالْأَجْوِبَةَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالتَّفْرِيعِ .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي تَصْوِيرِهَا ، وَأَخَّرْنَاهُ فِي الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ لِمَا يَجِبُ مِنْ تَقْدِيمِ مَعْنَى الْآيَةِ ، وَاسْتَقْدَمْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالتَّفْرِيعِ ؛ لِيَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ مِنْهَا .
وَعَدَدُ صُوَرِهَا عَشْرَةٌ : الْأُولَى : قَوْلُهُ : حَرَامٌ .
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : عَلَيَّ حَرَامٌ .
الثَّالِثَةُ : أَنْتِ حَرَامٌ .
الرَّابِعَةُ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ .
الْخَامِسَةُ : الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ .
السَّادِسَةُ : مَا أَنْقَلِبُ إلَيْهِ حَرَامٌ .
السَّابِعَةُ : مَا أَعِيشُ فِيهِ حَرَامٌ .
الثَّامِنَةُ : مَا أَمْلِكُهُ حَرَامٌ عَلَيَّ .
التَّاسِعَةُ :
الْحَلَالُ حَرَامٌ .
الْعَاشِرَةُ أَنْ يُضِيفَ التَّحْرِيمَ إلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا .
فَأَمَّا الْأُولَى ، وَالثَّانِيَةُ ، وَالتَّاسِعَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُطْلَقٌ لَا ذِكْرَ لِلزَّوْجَةِ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ : مَا أَنْقَلِبُ إلَيْهِ حَرَامٌ فَهُوَ مَا يَلْزَمُهُ فِي قَوْلِهِ : الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَةُ ، إلَّا أَنْ يُحَاشِيَهَا .
وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي وَجْهِ الْمُحَاشَاةِ ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : إنْ حَاشَاهَا بِقَلْبِهِ خَرَجَتْ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا يُحَاشِيهَا إلَّا بِلَفْظِهِ ، كَمَا دَخَلَتْ فِي لَفْظِهِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْمُحَاشَاةِ بِالْقَلْبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ يَخْتَصُّ بِالنِّيَّةِ .
وَأَمَّا إضَافَةُ التَّحْرِيمِ إلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا فَشَأْنُهُ شَأْنُهُ فِيمَا إذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٌ .
قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُطَلِّقُ فِي جَمِيعِهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي ذِكْرِ [ الرَّأْسِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ فِي ذِكْرِ ] الْيَدِ وَنَحْوِهَا ؛ وَذَلِكَ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إذَا حَرَّمَ الْأَمَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ تَحْرِيمٌ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ، وَسَاعَدَهُ سِوَاهُ ، فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِالْآيَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا ، وَإِنْ تَعَلَّقُوا بِأَنَّ الظِّهَارَ عِنْدَنَا يَصِحُّ فِيهَا فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الظِّهَارَ حُكْمٌ مُخْتَصٌّ لَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا صَحَّ ظِهَارُهُ فِي الْأَمَةِ لِأَنَّهَا مِنْ النِّسَاءِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ ، وَأَوْضَحْنَا أَيْضًا أَنَّ الْأَمَةَ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ ، فَلَا يَلْحَقُهَا التَّحْرِيمُ كَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ ، وَمَا لَهُمْ مِنْ شُبْهَةٍ قَدْ تَقَصَّيْنَا عَنْهَا فِي مَسَائِلِ الْإِنْصَافِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُوا } : قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ : مَعْنَاهُ اصْرِفُوا ، وَتَحْقِيقُهَا اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا وِقَايَةً .
وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَأْوِيلِهَا .
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَاهُ قُوا أَنْفُسَكُمْ ، وَأَهْلِيكُمْ فَلْيَقُوا أَنْفُسَهُمْ .
الثَّانِي : قُوا أَنْفُسَكُمْ وَمُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ .
الثَّالِثُ : قُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ إيَّاهُمْ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْفِقْهُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْعَطْفُ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ ، كَقَوْلِهِ : عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا وَكَقَوْلِهِ : وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا فَعَلَى الرَّجُلُ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ بِالطَّاعَةِ ، وَيُصْلِحَ أَهْلَهُ إصْلَاحَ الرَّاعِي لِلرَّعِيَّةِ ؛ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ } .
وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ : يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } ؛ خَرَّجَهُ
جَمَاعَةٌ .
وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد ، وَخُرِّجَ أَيْضًا عَنْ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا } .
وَكَذَلِكَ يُخْبِرُ أَهْلَهُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ ، وَوُجُوبِ الصِّيَامِ ، وَوُجُوبِ الْفِطْرِ إذَا وَجَبَ ، مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَوْتَرَ يَقُولُ : قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ } .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ رَشَّ وَجْهَهَا بِالْمَاءِ .
رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ رَشَّتْ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ الْمَاءِ } .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ } .
وَيَدْخُلُ هَذَا فِي عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَكَمَا يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ فِي مَصْلَحَتِهِمْ فَكَذَلِكَ يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُهُمْ أَدَبًا خَفِيفًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ .
وَلَيْسَ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي شَرْطِهَا الْمُحْدَثِ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْمُتَصَدِّرُونَ وَيَقُولُونَ : وَلَا يَضْرِبُهَا فِي نَفْسِهَا ، فَإِنْ فَعَلَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا ؛ فَيَظُنُّ الْمُتَصَدِّرُونَ مِنْ الْمُفْتِينَ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَدَبَهَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، إنَّمَا يَجِبُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ ضَرْبُهَا ابْتِدَاءً ، أَوْ عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ ، وَهُوَ الضَّرَرُ .
فَأَمَّا مَا يُصْلِحُ الزَّوْجَ وَيُصْلِحُ الْمَرْأَةَ فَلَيْسَ ضَرَرًا ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى حَدِّ الضَّرَرِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَبَيَّنَّا حَدَّهُ الَّذِي يُخْرِجُ عَنْ الْحُدُودِ وَالْآدَابِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
وَالتَّقْرِيبُ فِيهِ الْآنَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَفْعَ مَعَهُ يُوَازِيهِ أَوْ يَرْبَى عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ وِقَايَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ إقَامَةُ الرَّجُلِ حَدَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ .
سُورَة الْمُلْكِ [ فِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ ] قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ السَّفَرِ وَأَقْسَامُ الْمَشْيِ فِي الْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا قَوْله تَعَالَى : { وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ .
سُورَةُ الْقَلَمِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ ، وَهِيَ الدَّوَاةُ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ن وَالْقَلَمِ } ؛ ثُمَّ قَالَ : اُكْتُبْ .
قَالَ : وَمَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ : مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ ، أَوْ أَجَلٍ ، أَوْ رِزْقٍ ، أَوْ أَثَرٍ ؛ فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ ، وَلَا يَنْطِقُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ الْجَبَّارُ : مَا خَلَقْت خَلْقًا أَعْجَبَ إلَيَّ مِنْك ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْت ، وَلَأُنْقِصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْت ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ } الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ الْأَوَّلَ ، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ فِي الذِّكْرِ ، وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ ، ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ الثَّانِيَ لِيُعَلِّمَ بِهِ مَنْ فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا نَحْوَ عَشْرَةِ أَقْوَالٍ ، كُلُّهَا دَعَاوَى عَلَى اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى ، أَمْثَلُهَا قَوْلُهُمْ : وَدُّوا لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ .
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ .
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْإِدْهَانُ هُوَ التَّلْبِيسُ ، مَعْنَاهُ : وَدُّوا لَوْ تَلْبِسُ إلَيْهِمْ فِي عَمَلِهِمْ وَعَقْدِهِمْ فَيَمِيلُونَ إلَيْك .
وَحَقِيقَةُ الْإِدْهَانِ إظْهَارُ الْمُقَارَبَةِ مَعَ الِاعْتِقَادِ لِلْعَدَاوَةِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمُقَارَبَةُ بِاللِّينِ فَهِيَ مُدَاهَنَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ فَهِيَ مُدَارَاةٌ أَيْ مُدَافَعَةٌ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ { اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ : ائْذَنُوا لَهُ ، بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ هُوَ ، أَوْ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ؛ فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ ، فَقُلْت لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قُلْت مَا قُلْت ، ثُمَّ أَلَنْت لَهُ فِي الْقَوْلِ ، فَقَالَ لِي : يَا عَائِشَةُ ؛ إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ } .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَثَلُ الْمُدَاهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا فِي سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا ، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، فَأَرَادَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا أَنْ يَسْتَقُوا الْمَاءَ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَمَنَعُوهُمْ ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَقُوا الْمَاءَ فِي أَسْفَلِ السَّفِينَةِ ، فَإِنْ مَنَعُوهُمْ نَجَوْا ، وَإِنْ تَرَكُوهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا } .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : يَعْنِي مُكَذِّبُونَ ، وَحَقِيقَتُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ أَيْ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُقَارِبُونَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ إضْمَارِ الْخِلَافِ فِي الْبَاطِنِ ، يَقُولُونَ : اللَّهُ ، اللَّهُ .
ثُمَّ يَقُولُونَ : مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا ،
وَنَوْءِ كَذَا ، وَلَا يُنَزِّلُ الْمَطَرَ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِنَجْمٍ وَلَا مُقْتَرِنٍ بِنَوْءٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } فَسَاقَهُ عَلَى الْعَطْفِ ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ جَوَابُ التَّمَنِّي لَقَالَ فَيُدْهِنُوا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا لَوْ فَعَلْت فَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِك عَطْفًا ، لَا جَزَاءً عَلَيْهِ ، وَلَا مُكَافَأَةً لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ وَتَنْظِيرٌ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } : ذَكَرَ فِيهِ أَهْلُ التَّفْسِيرِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سِمَةٌ سَوْدَاءُ تَكُونُ عَلَى أَنْفِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } .
وَقِيلَ : يُضْرَبُ بِالنَّارِ عَلَى أَنْفِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي وَسْمًا يَكُونُ عَلَامَةً [ عَلَيْهِ ] .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ؛ فَهَذِهِ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ .
وَقَالَ : { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إنْ لَبِثْتُمْ إلَّا عَشْرًا } وَهَذِهِ عَلَامَةٌ أُخْرَى ظَاهِرَةٌ ، فَأَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَامَةً ثَالِثَةً وَهِيَ الْوَسْمُ عَلَى الْخُرْطُومِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَجْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { سَنَسِمُهُ } : كَانَ الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ لِذَوِي الْمَعْصِيَةِ قَدِيمًا عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَهْمَلُوا رَجْمَ الزَّانِي وَاعْتَاضُوا عَنْهُ بِالضَّرْبِ وَتَحْمِيمِ الْوَجْهِ ، وَهَذَا وَضْعٌ بَاطِلٌ .
وَمِنْ الْوَسْمِ الصَّحِيحِ فِي الْوَجْهِ مَا رَأَى الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْوِيدِ وَجْهِ شَاهِدِ الزُّورِ عَلَامَةً عَلَى قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ ، وَتَشْدِيدًا لِمَنْ يَتَعَاطَاهَا لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُرْجَى تَجَنُّبُهُ بِمَا يُرْجَى مِنْ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ وَشُهْرَتِهِ .
وَقَدْ كَانَ عَزِيزًا بِقَوْلِ الْحَقِّ ، وَقَدْ صَارَ مَهِينًا بِالْمَعْصِيَةِ ؛ وَأَعْظَمُ الْإِهَانَةِ إهَانَةُ الْوَجْهِ ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ الِاسْتِهَانَةُ بِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْأَبَدِ ، وَالتَّحْرِيمِ لَهُ عَلَى النَّارِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ .
سُورَة الْمَعَارِجِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْفَصِيلَةُ فِي اللُّغَةِ عِنْدَهُمْ أَقْرَبُ مِنْ الْقَبِيلَةِ ، وَأَصْلُ الْفَصِيلَةِ الْقِطْعَةُ مِنْ اللَّحْمِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْفَصِيلَةَ مِنْ فَصَلَ ، أَيْ قَطَعَ ، أَيْ مَفْصُولَةٌ كَالْأَكِيلَةِ مِنْ أَكَلَ ، وَالْأَخِيذَةِ مِنْ أَخَذَ ؛ وَكُلُّ شَيْءٍ فَصَلْتَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فَصِيلَةٌ ؛ فَهَذَا حَقِيقَةٌ فِيهِ يَشْهَدُ لَهُ الِاشْتِقَاقُ .
وَأَدْنَى الْفَصِيلَةِ الْأَبَوَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } .
وَقَالَ : { وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } ؛ فَهَذَا هُوَ أَدْنَى الْأَدْنَى ، وَلِهَذَا التَّحْقِيقِ تَفَطَّنَ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ وَحَبْرُ الْمِلَّةِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَشْهَبُ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ } قَالَ : هِيَ أُمُّهُ ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ ، ثُمَّ صَرَّحَ بِالْأَصْلِ ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : هِيَ عَشِيرَتُهُ ، وَالْعَشِيرَةُ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا فَصِيلَةً فَإِنَّ الْفَصِيلَةَ الدَّانِيَةَ هِيَ الْأُمُّ ، وَهِيَ أَيْضًا الْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمَئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ } فَذَكَرَ لِلْقَرَابَةِ مَعْنَيَيْنِ ، وَخَتَمَهَا بِالْفَصِيلَةِ الْمُخْتَصَّةِ مِنْهُمْ ، وَهِيَ الْأُمُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا حَبَسَ عَلَى فَصِيلَتِهِ أَوْ أَوْصَى لَهَا فَمَنْ رَاعَى الْعُمُومَ حَمَلَهُ عَلَى الْعَشِيرَةِ ، وَمَنْ ادَّعَى الْخُصُوصَ حَمَلَهُ عَلَى الْأُمِّ ، وَالْأُولَى أَكْثَرُ فِي النُّطْقِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَاللَّيْثُ : هِيَ الْمَوَاقِيتُ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : هِيَ النَّوَافِلُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ إنَّهُ النَّفَلُ فَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ فَإِنَّهُ لَا فَرْضَ لِمَنْ لَا نَفْلَ لَهُ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تُكْمَلُ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ لِلْعَبْدِ مِنْ تَطَوُّعِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ } .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ صَلَّى كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ : فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ دَائِمُونَ } قَالَ : هُمْ الَّذِينَ إذَا صَلُّوا لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَلَا خَلْفَ ، وَيَنْظُرُ إلَى قَوْلِهِ : { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } ؛ فَإِنَّ الْمُلْتَفِتَ سَاهٍ عَنْ صَلَاتِهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ ، فَكَانَ عَلَيْهَا دَائِمًا وَلَهَا مُرَاعِيًا ؛ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، وَعَلَى مَوَاقِيتِهَا ، عَلَى فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } وَهِيَ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ .
سُورَة نُوحٍ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } يَعْنِي لَا تَخْشَوْنَ لِلَّهِ عِقَابًا .
وَعَبَّرَ عَنْ الْعِقَابِ بِالْوَقَارِ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَظَّمَهُ فَقَدْ عَرَفَهُ ، وَعَنْ الْخَشْيَةِ بِالرَّجَاءِ ؛ لِأَنَّهَا نَظِيرَتُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } يَعْنِي فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَكُلِّ صِفَةٍ وَنَعْتٍ تَكُونُ لَهُمْ ، وَكَذَلِكَ تَدْبِيرُهُ فِي النَّشْأَةِ مِنْ تُرَابٍ إلَى نُطْفَةٍ إلَى عَلَقَةٍ ، إلَى مُضْغَةٍ ، إلَى لَحْمٍ وَدَمٍ ، وَخَلْقٍ سَوِيٍّ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ : مَا لَكُمْ لَا تُؤَمِّلُونَ تَوْقِيرَكُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ وَنِعْمَتِهِ .
أَدْخَلَهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي الْأَحْكَامِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَمَّا قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ } حِينَ اسْتَنْفَدَ مَا فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَمَا فِي أَرْحَامِ النِّسَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ بِقَوْلِهِ : { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } فَأَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ ، وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ .
وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ ، سَرِيعَ الْحِسَابِ ، هَازِمَ الْأَحْزَابِ ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ دَعَا نُوحٌ عَلَى الْكَافِرِينَ أَجْمَعِينَ ، وَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ تَحَزَّبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّبَ عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَأَمَّا كَافِرٌ مُعَيَّنٌ لَمْ تُعْلَمْ خَاتِمَتُهُ فَلَا يُدْعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ عِنْدَنَا مَجْهُولٌ ، وَرُبَّمَا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ مَعْلُومَ الْخَاتِمَةِ لِلسَّعَادَةِ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ عَلَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَأَصْحَابِهِ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمْ ، وَمَا كُشِفَ لَهُ مِنْ الْغِطَاء عَنْ حَالِهِمْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنْ قِيلَ : لِمَ جَعَلَ نُوحٌ دَعْوَتَهُ عَلَى قَوْمِهِ سَبَبًا لِتَوَقُّفِهِ عَنْ طَلَبِ الشَّفَاعَةِ لِلْخَلْقِ مِنْ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ .
قُلْنَا : قَالَ النَّاسُ : فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ تِلْكَ الدَّعْوَةَ نَشَأَتْ عَنْ غَضَبٍ وَقَسْوَةٍ ؛ وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ عَنْ رِضًا وَرِقَّةٍ ، فَخَافَ أَنْ يُعَاتَبَ بِهَا ، فَيُقَالُ : دَعَوْت عَلَى الْكُفَّارِ بِالْأَمْسِ وَتَشْفَعُ لَهُمْ الْيَوْمَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ دَعَا غَضَبًا بِغَيْرِ نَصٍّ وَلَا إذْنٍ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ ؛ فَخَافَ الدَّرْكَ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ مُوسَى : إنِّي قَتَلْت نَفْسًا لَمْ
أُومَرْ بِقَتْلِهَا .
وَبِهَذَا أَقُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَتَمَامُهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إلَّا تَبَارًا } .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : مَعْنَاهُ مَسْجِدِي ؛ فَجَعَلَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ سَبَبًا لِلدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ ، تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ .
وَفَضْلُ الْمَسَاجِدِ كَثِيرٌ ، قَدْ أَثْبَتْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ وَشَرْحِهِ .
سُورَةُ الْجِنِّ [ فِيهَا آيَتَانِ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا } إلَى : { هَرَبًا } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ الْجِنِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُمْ أَحَدُ خَلْقِ الْأَرْضِ ، أُنْزِلَ أَبُوهُمْ إبْلِيسُ إلَيْهَا ، كَمَا أُنْزِلَ أَبُونَا آدَم ، هَذَا مَرْضِيٌّ عَنْهُ ، وَهَذَا مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجَانَّ مَسْخُ الْجِنِّ ، كَمَا مُسِخَتْ الْقِرَدَةُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ .
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْمُخْتَزِنِ : إنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْجِنِّ .
وَلَسْت أَرْضَاهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَلَا رَآهُمْ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ ، فَقَالُوا : مَا حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا حَدَثٌ ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، تَتْبَعُونَ مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ؛ فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدًا إلَى سُوقِ عِكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ ، فَقَالُوا : هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ .
قَالَ : فَهُنَاكَ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا قَوْمَنَا ؛ { إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ : { قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ } وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَوْلُ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ : { لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } ؛ قَالَ : لَمَّا رَأَوْهُ وَأَصْحَابَهُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ قَالَ : فَتَعَجَّبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ ، قَالُوا لِقَوْمِهِمْ : { لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } .
صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ لِلتِّرْمِذِيِّ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
عَامِدِينَ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ ، فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ ، فَقَالُوا : مَا لَكُمْ ؟ فَقَالُوا : حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ .
قَالُوا : مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إلَّا حَدَثٌ ، فَانْطَلَقُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ .
قَالَ : فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلَةَ ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى سُوقِ عِكَاظٍ ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ .
فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ سَمِعُوا لَهُ ، فَقَالُوا : هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : يَا قَوْمَنَا { إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ : { قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ } .
وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ } .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ : { قُلْت لِابْنِ مَسْعُودٍ : هَلْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ ؟ قَالَ : مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ ؛ وَلَكِنْ افْتَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ ، فَقُلْنَا : اُغْتِيلَ ، اُسْتُطِيرَ ، مَا فُعِلَ بِهِ ؟ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ ، حَتَّى إذَا أَصْبَحْنَا أَوْ كَانَ فِي وَجْهِ الصُّبْحِ إذَا نَحْنُ بِهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ .
قَالَ : فَذَكَرُوا لَهُ الَّذِي كَانُوا فِيهِ قَالَ : فَقَالَ : أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ ، فَأَتَيْتهمْ فَقَرَأْت عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَانْطَلَقَ فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ .
} وَابْنُ مَسْعُودٍ أَعْرَفُ بِالْأَمْرِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لِأَنَّهُ شَاهَدَهُ ، وَابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ ؛ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَالَ الشَّعْبِيُّ فِي رِوَايَتِهِ : { وَسَأَلُوهُ الزَّادَ ، وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ ، فَقَالَ : كُلُّ عَظْمٍ يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا كَانَ لَحْمًا ، وَكُلُّ بَعْرَةٍ أَوْ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِ فَإِنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ .
} وَقَدْ أَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ كَفَرَةِ الْأَطِبَّاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ الْجِنَّ وَقَالُوا إنَّهُمْ بَسَائِطُ وَلَا يَصِحُّ طَعَامُهُمْ ؛ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءً [ عَلَيْهِ ] .
وَقَدْ مَهَّدْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَبَيَّنَّا جَوَازَ وُجُودِهِمْ عَقْلًا لِعُمُومِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَأَوْضَحْنَا وُجُوبَ وُجُودِهِمْ شَرْعًا بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَهُمْ مِنْ تَيَسُّرِ التَّصَوُّرِ فِي الْهَيْئَاتِ مَا خَلَقَ لَنَا مِنْ تَيَسُّرِ التَّصَوُّرِ فِي الْحَرَكَاتِ ؛ فَنَحْنُ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شِئْنَا ذَهَبْنَا ، وَهُمْ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءُوا تَيَسَّرَتْ لَهُمْ ، وَوُجِدُوا عَلَيْهَا ، وَلَا نَرَاهُمْ فِي هَيْئَاتِهِمْ ، إنَّمَا يَتَصَوَّرُونَ فِي خَلْقِ الْحَيَوَانَاتِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ بَسَائِطُ ، فَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بَسِيطٌ ، بَلْ الْكُلُّ مُرَكَّبٌ مُزْدَوِجٌ ، إنَّمَا الْوَاحِدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ؛ وَغَيْرُهُ مُرَكَّبٌ لَيْسَ بِوَاحِدٍ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ حَالُهُ ؛ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَرَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُوَرِهِمْ ، كَمَا يَرَى الْمَلَائِكَةَ ؛ وَأَكْثَرُ مَا يَتَصَوَّرُونَ لَنَا فِي صُوَرِ الْحَيَّاتِ ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ { أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ ؛ قَالَ : فَوَجَدْته يُصَلِّي ، فَجَلَسْت أَنْتَظِرُهُ حَتَّى تُقْضَى صَلَاتُهُ ، فَسَمِعْت تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ ، فَالْتَفَتّ فَإِذَا حَيَّةٌ ، فَوَثَبْت لِأَقْتُلَهَا ، فَأَشَارَ إلَيَّ أَنْ
أَجْلِسَ ، فَجَلَسْت ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ ، فَقَالَ : أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ : كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ .
قَالَ : فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَنْدَقِ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ ، فَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذْ عَلَيْك سِلَاحَك ؛ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك قُرَيْظَةَ .
فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً ، فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ ، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ ، فَقَالَتْ لَهُ : كُفَّ عَلَيْك رُمْحَك ، وَادْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي ، فَدَخَلَ ، فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الْفِرَاشِ ، فَأَهْوَى إلَيْهَا بِالرُّمْحِ ، فَانْتَظَمَهَا ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فَمَا نَدْرِي أَيَّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا : الْحَيَّةُ أَمْ الْفَتَى .
قَالَ : فَجِئْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ، قُلْنَا : اُدْعُ اللَّهَ يُحْيِيهِ لَنَا .
فَقَالَ : اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثًا ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِهَذِهِ الْبُيُوتِ عَوَامِرَ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَحَرِّجُوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا ، فَإِنْ ذَهَبَ وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ } .
أَوْ قَالَ : { اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ } .
وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ أَبِي السَّائِبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ أَسْلَمُوا ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا
مِنْ هَذِهِ الْعَوَامِرِ فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا ، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ } .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْحَيَّاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ ، فَقَالَ : إذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ فَقُولُوا : نَشَدْتُكُمْ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نُوحٌ نَشَدْتُكُمْ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ أَلَّا تُؤْذُونَا ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُنَّ .
} الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فِي التَّقْدِيمِ إلَى الْحَيَّاتِ يَقُولُ يَا عَبْدَ اللَّهِ ؛ إنْ كُنْت تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُنْت مُسْلِمًا فَلَا تُؤْذِنَا وَلَا تَشْعَفْنَا ، وَلَا تُرَوِّعْنَا ، وَلَا تَبْدُوَنَّ لَنَا ، فَإِنَّك إنْ تَبْدُ بَعْدَ ثَلَاثٍ قَتَلْتُك .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : يُحَرِّجُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَلَّا يَبْدُوَ لَنَا ، وَلَا يَخْرُجُ .
وَقَالَ أَيْضًا عَنْهُ : أُحَرِّجُ عَلَيْك بِأَسْمَاءِ اللَّهِ أَلَّا تَبْدُوَ لَنَا .
قَالَ الْقَاضِي : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي غَارٍ ، وَهُوَ يَقْرَأُ : { وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا } وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا ، حَتَّى خَرَجَتْ حَيَّةٌ مِنْ غَارٍ ، فَبَادَرْنَاهَا ، فَدَخَلَتْ جُحْرًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وُقِيَتْ شَرَّكُمْ ، وَوُقِيتُمْ شَرَّهَا ؛ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْذَارٍ وَلَا تَحْرِيجٍ } لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ .
وَأَمَرَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ وَلَا تَحْرِيجٍ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْذَارِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فِي الْحَضَرِ ، لَا لِمَنْ يَكُونُ فِي الْقَفْرِ ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْمَدِينَةِ ، لِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ : إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا أَسْلَمُوا .
وَهَذَا لَفْظٌ مُخْتَصٌّ بِهَا ،
فَتَخْتَصُّ بِحُكْمِهَا .
قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْبُيُوتِ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّلْ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ مَخْصُوصًا بِهَا ، وَإِنَّمَا عَلَّلَ بِالْإِسْلَامِ ، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي غَيْرِهَا ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ مُخْبِرًا عَنْ الْجِنِّ الَّذِينَ لَقِيَ ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ ، وَهَذَا بَيِّنٌ يُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ : وَنَهَى عَنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ ، وَهَذَا عَامٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إنْذَارِهِمْ وَالتَّحْرِيجِ [ عَلَيْهِمْ ] : هَلْ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ، أَمْ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَالْقَوْلُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ ، لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِمُفْرَدٍ فِي نَكِرَةٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعُمُومُ فِي الْمُفْرَدَاتِ إذَا اتَّصَلَتْ بِالنَّفْيِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَفِيمَا سَبَقَ هَاهُنَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثِ حَالَاتٍ لَكَانَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا لَهُنَّ وَتَعْرِيضًا لِمَضَرَّتِهِنَّ ، وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ تُنْذَرُ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ عَلَيْهَا الْإِنْذَارُ ثَلَاثًا ، فَإِنْ فَرَّتْ وَإِلَّا أُعِيدَ لَهَا الْإِنْذَارُ ، فَإِنْ فَرَّتْ وَغَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ أَوْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ : كَيْفَ يُنْذَرُ بِالْقَوْلِ وَيُحَرَّجُ بِالْعَهْدِ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ الْأَقْوَالَ ، وَلَا تَفْهَمُ الْمَقَاصِدَ وَالْأَغْرَاضَ ؟ قُلْنَا : الْحَيَّاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ حَيَّةٌ عَلَى أَصْلِهَا ، فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا الْعَدَاوَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي مُعَاضَدَةِ إبْلِيسَ عَلَى آدَمَ ، وَإِلَى هَذَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ .
فَهَذَا الْقِسْمُ
يُقْتَلُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ إنْذَارٍ وَلَا إمْهَالٍ وَعَلَامَتُهُ الْبَتْرُ وَالطُّفَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُقْتُلُوا الْأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ } ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْهَيْئَةِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ حَيَّةً أَصْلِيَّةً ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ جِنِّيًّا [ تَصَوَّرَ ] بِصُورَتِهَا ، فَلَا يَصِحُّ الْإِقْدَامُ بِالْقَتْلِ عَلَى الْمُحْتَمِلِ ، لِئَلَّا يُصَادِفَ مَنْهِيًّا عَنْهُ حَسْبَمَا يُرْوَى لِلْعَرُوسِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَتَلَ الْحَيَّةَ ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا هُوَ أَمْ الْحَيَّةُ .
وَيَكْشِفُ هَذَا الْخَفَاءَ الْإِنْذَارُ ، فَإِنْ صَرُمَ كَانَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَّاتِ الْأَصْلِيَّاتِ ، إذْ لَمْ يُؤْذَنْ لِلْجِنِّ فِي التَّصَوُّرِ عَلَى الْبَتْرِ وَالطُّفَى ، وَلَوْ تَصَوَّرَتْ فِي هَذَا كَتَصَوُّرِهَا فِي غَيْرِهِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِطْلَاقِ بِالْقَتْلِ فِي ذَيْنِ وَالْإِنْذَارِ فِي سِوَاهُمَا مَعْنًى .
وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْبَلِيدُ وَالْمُرْتَابُ بِعَدَمِ فَهْمِهِنَّ ، فَيُقَالُ : إيهٍ اُنْظُرْ إلَى التَّقْسِيمِ ، إنْ كُنْت تُرِيدُ التَّسْلِيمَ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حَيَّةً جِنِّيَّةً أَوْ أَصْلِيَّةً ، فَإِنْ كَانَتْ جِنِّيَّةً فَهِيَ أَفْهَمُ مِنْك ، وَإِنْ كَانَتْ أَصْلِيَّةً فَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَذِنَ فِي الْخِطَابِ ، وَلَوْ كَانَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ لَكَانَ أَمْرًا بِالتَّلَاعُبِ .
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ .
فَإِنْ شَكَّ فِي النُّبُوَّةِ ، أَوْ فِي خَلْقِ الْجِنِّ ، أَوْ فِي صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلْيَنْظُرْ فِي الْمُقْسِطِ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ يُعَايِنُ الشِّفَاءَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا يَحْتَاجُ الْإِنْذَارُ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْجَانِّ وَالْحَيَوَانِ ، فَإِنْ كَفَّ فَهُوَ جِنٌّ مُؤْمِنٌ ، وَإِلَّا كَانَ كَافِرًا أَوْ حَيَوَانًا .
قُلْنَا : أَمَّا الْحَيَوَانُ فَقَدْ جُعِلَتْ لَهُ عَلَامَةٌ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ خُصَّ بِالْإِنْذَارِ ؛
وَالْحَيَوَانُ يَفْهَمُ بِالْإِنْذَارِ كَمَا يَفْهَمُ بِالزَّجْرِ ؛ وَلِهَذَا تُؤَدَّبُ الْبَهِيمَةُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْأَرْضُ كُلُّهَا لِلَّهِ مُلْكًا وَخَلْقًا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } .
وَالْمَسَاجِدُ لِلَّهِ رِفْعَةً وَتَشْرِيفًا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَالْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ تَخْصِيصًا وَتَعْظِيمًا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } .
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ : " وَالْقَائِمِينَ " فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدًا [ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا ] وَطَهُورًا } وَاصْطَفَى مِنْهَا مَوَاضِعَ ثَلَاثًا بِصِفَةِ الْمَسْجِدِيَّةِ ، وَهِيَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى وَهُوَ مَسْجِدُ إيلِيَاءَ ، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَاصْطَفَى مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي قَوْلٍ ، وَمَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَيُّهَا أَفْضَلُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ ؛ هَلْ هُوَ عَلَى تَفْضِيلِ الْمُفَضَّلِ أَوْ احْتِمَالِهِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُفَضَّلٌ بِتَفْضِيلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُحْتَمِلٌ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ تَأْوِيلٍ تَضَمَّنَ فِيهِ مِقْدَارًا يَجُوزُ تَقْدِيرُهُ عَلَى خِلَافِهِ ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ لَا بَأْسَ بِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ؛ فَإِنَّ صَلَاةً
فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي } ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ نَصًّا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمَسَاجِدُ وَإِنْ كَانَتْ لِلَّهِ مُلْكًا وَتَشْرِيفًا فَإِنَّهَا قَدْ نُسِبَتْ إلَى غَيْرِهِ تَعْرِيفًا ، فَيُقَالُ : مَسْجِدُ فُلَانٍ .
وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَيْفَاءِ وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ } وَتَكُونُ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بِحُكْمِ الْمَحَلِّيَّةِ ، كَأَنَّهَا فِي قِبْلَتِهِمْ ، وَقَدْ تَكُونُ بِتَحْبِيسِهِمْ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ مُلْكًا ، ثُمَّ يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ ، فَيَرُدَّهَا إلَيْهِ ، وَيُعَيِّنُهَا لِعِبَادَتِهِ ، فَيَنْفُذُ ذَلِكَ بِحُكْمِهِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي تَحْبِيسِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَقَابِرِ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَحْبِيسِ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا تَعَيَّنَتْ لِلَّهِ أَصْلًا ، وَعُيِّنَتْ لَهُ عَقْدًا ، فَصَارَتْ عَتِيقَةً عَنْ التَّمَلُّكِ ، مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْخَلِيقَةِ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الْأَبْوَابِ لَهَا ، وَوَضْعُ الْإِغْلَاقِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ الصِّيَانَةِ لَهَا ؛ فَهَذِهِ الْكَعْبَةُ بِأَبْوَابِهَا ، وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا الْمَسَاجِدَ الْكَرِيمَةَ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ مُدْرَجًا ، وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُد مُسْنَدًا : { كَانَتْ الْكِلَابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ ، وَتَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَلَا يَرُشُّونَ ذَلِكَ } ؛ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ بَابٌ ، ثُمَّ اُتُّخِذَ لَهُ الْبَابُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ الْبَابِ لَهُ شَرْعًا ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ تَقْصِيرِ النَّفَقَةِ وَاخْتِصَارِ الْحَالَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَعَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ لَا يُذْكَرُ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِلْأَمْوَالِ فِيهَا ، وَيَجُوزُ وَضْعُ الصَّدَقَاتِ فِيهَا عَلَى رَسْمِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ أَكَلَ ، وَيَجُوزُ حَبْسُ الْغَرِيمِ فِيهَا ، وَرَبْطُ الْأَسِيرِ ، وَالنَّوْمُ فِيهَا ، وَسُكْنَى الْمَرِيضِ فِيهَا ، وَفَتْحُ الْبَابِ لِلْجَارِ ، وَإِنْشَاءُ الشِّعْرِ فِيهَا إذَا عَرِيَ عَنْ الْبَاطِلِ ، وَلَا نُبَالِي أَنْ يَكُونَ غَزَلًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } هَذَا تَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ فِي دَعْوَاهُمْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهُوَ لِلَّهِ اصْطَفَاهُ لَهُمْ ، وَاخْتَصَّهُمْ بِهِ ، وَوَضَعَهُ مَسْكَنًا لَهُمْ .
وَأَحْيَاهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ عَلَى يَدِ أَبِيهِمْ ، وَعَمَرَهُ مِنْ الْخَرَابِ بِسَلَفِهِمْ ، وَحِينَ بَلَغَتْ الْحَالَةُ إلَيْهِمْ كَفَرُوا هَذِهِ النِّعْمَةَ ، وَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ غَيْرَهُ ، فَنَبَّهَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَوْعَزَ عَلَى لِسَانِهِ إلَيْهِمْ بِهِ ، وَأَمَرَهُمْ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ فِيهِ ، وَإِخْلَاصِ الدَّعْوَةِ لِلَّهِ بِمَعَالِمِهِ .
سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ [ فِيهَا تِسْعِ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } فِيهَا مَعَ الَّتِي تَلِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } هُوَ الْمُلْتَفُّ ، بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الْفَاعِلِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ لُفِّفَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ زُمِّلَ بِهِ ؛ وَمِنْهُ قِيلَ لِلِفَافَةِ الرَّاوِيَةُ وَالْقِرْبَةِ زِمَالٌ .
وَفِي الْحَدِيثِ فِي قَتْلَى أُحُدٍ : { زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمْ وَدِمَائِهِمْ } أَيْ لَفِّفُوهُمْ ، يُقَالُ تَزَمَّلَ يَتَزَمَّلُ ؛ فَإِذَا أُدْغِمَتْ التَّاءُ قُلْت : ازَّمَّلَ بِتَشْدِيدَيْنِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، قِيلَ لَهُ : يَا مَنْ تَلَفَّفَ فِي ثِيَابِهِ أَوْ فِي قَطِيفَتِهِ قُمْ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا مَنْ تَزَمَّلَ بِالنُّبُوَّةِ .
رَوَى عِكْرِمَةُ أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ يَا مَنْ تَزَمَّلَ ، أَيْ زَمَلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ .
[ فَأَمَّا الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لَا سِيَّمَا وَفِيهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ ؛ وَإِذَا تَعَاضَدَتْ الْحَقِيقَةُ وَالظَّاهِرُ لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ : إنَّك زَمَلْت هَذَا الْأَمْرَ فَقُمْ بِهِ ] ؛ وَإِنَّمَا يَسُوغُ هَذَا التَّفْسِيرُ لَوْ كَانَتْ الْمِيمُ مَفْتُوحَةً مُشَدَّدَةً بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ، وَأَمَّا وَهُوَ بِلَفْظِ الْفَاعِلِ فَهُوَ بَاطِلٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ زُمِّلَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ صَحِيحٌ فِي الْمَجَازِ ، لَكِنَّهُ كَمَا قَدَّمْنَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَيَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ حَدِيثٌ يُؤْثَرُ لَمْ يَصِحَّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ زَادَكُمْ صَلَاةً إلَى صَلَاتِكُمْ هَذِهِ وَهِيَ الْوِتْرُ ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ .
}
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَوَّلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُهُ : { قُمْ } هُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى وَلَكِنَّهُ عَلَى أَصْلِ الْأَفْعَالِ الْقَاصِرَةِ فِي تَعَدِّيهِ إلَى الظُّرُوفِ ، فَأَمَّا ظَرْفُ الزَّمَانِ فَسَائِغٌ فِيهِ ، وَارِدٌ كَثِيرًا بِهِ يُقَالُ : قَامَ اللَّيْلَ ، وَصَامَ النَّهَارَ ، فَيَصِحُّ وَيُفِيدُ .
وَأَمَّا ظَرْفُ الْمَكَانِ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ ، لَا تَقُولُ : قُمْت الدَّارَ حَتَّى تَقُولَ وَسَطَ الدَّارِ وَخَارِجَ الدَّارِ .
وَقَدْ قِيلَ قُمْ هَاهُنَا بِمَعْنَى صَلِّ ؛ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُ ، وَاسْتُعِيرَ لَهُ عُرْفًا فِيهِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ { اللَّيْلَ } فَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ .
وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَقُّ .
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ وَقِيلَ : خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَانَ فَرْضًا .
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ : { قَالَ سَعْدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ : فَانْطَلَقْت إلَى عَائِشَةَ .
فَقُلْت : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؛ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَتْ أَلَسْت تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْت : بَلَى .
قَالَتْ : فَإِنَّ خُلُقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ .
قَالَ : فَهَمَمْت أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلُ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ .
ثُمَّ قُلْت : أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَتْ : أَلَسْت تَقْرَأُ : { يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ، قُلْت : بَلَى .
قَالَتْ : فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَتِهِ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ سَعَةً لِلْإِنْسَانِ وَمَجَالًا لِلْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } ، وَكَمَا أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْآدَمِيِّ أَصْلٌ خِلْقِيٌّ ، فَكَذَلِكَ الزَّمَانُ لِلسِّيَاحَةِ وَجْهٌ خِلْقِيٌّ أَيْضًا ، لَكِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنْ يَقْدُمَ لِلدَّارِ الْأُخْرَى ، وَيَعْتَمِدَ فِيهِ قَبْلَ الْعَمَلِ مَا هُوَ بِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى ، وَلَوْ عُمْرُهُ كُلُّهُ بِالشُّكْرِ وَالذِّكْرِ وَرُزِقَ عَلَى ذَلِكَ قُدْرَةَ مَا كَانَ قَضَاءً لِحَقِّ النِّعْمَةِ ، فَوَضَعَهُ اللَّهُ أَوْقَاتًا لِلْعِبَادَةِ ، وَأَوْقَاتًا لِلْعَادَةِ .
فَالنَّهَارُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مِنْ الصُّبْحِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، مَحِلٌّ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَهُوَ فُسْحَةٌ لِلْفَرِيضَةِ ، فَإِنْ أُدِّيَتْ كَانَتْ فِيهِ مَحِلًّا لِلذِّكْرِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ [ حِسًّا ] ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ إلَى وَظِيفَتِهِ الْآدَمِيَّةِ حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْسُ ، فَيَكُونَ هُنَالِكَ عِبَادَةً نَفْلِيَّةً يَمْتَدُّ وَقْتُهَا إلَى أَنْ تَجِدَ الْفِصَالُ حَرَّ الشَّمْسِ فِي الْأَرْضِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ } .
وَهُوَ أَيْضًا خِلْفَةٌ لِمَنْ نَامَ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّاهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ وَهُوَ مَغْمُورٌ بِحَالِ الْمَعَاشِ .
} [ قَالَ الْإِمَامُ ] : كُنَّا بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة مُرَابِطِينَ أَيَّامًا ، وَكَانَ فِي أَصْحَابِنَا رَجُلٌ حَدَّادٌ ، وَكَانَ يُصَلِّي مَعَنَا الصُّبْحَ ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ يَحْضُرَ حَلْقَةَ الذِّكْرِ ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى حِرْفَتِهِ ، حَتَّى إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالظُّهْرِ رَمَى بِالْمِرْزَبَّةِ فِي
أَثْنَاءِ الْعَمَلِ وَتَرَكَهُ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الطَّهَارَةِ ، وَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى وَأَقَامَ فِي صَلَاةٍ أَوْ ذِكْرٍ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ إلَى مَنْزِلِهِ فِي مَعَاشِهِ ، حَتَّى إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ جَاءَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ عَادَ إلَى فِطْرِهِ ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعُ أَوْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ مِنْ الْعِلْمِ ، حَتَّى إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ .
وَهُوَ مَحَلٌّ لِلْقَائِلَةِ ، وَهِيَ نَوْمُ النَّهَارِ الْمُعَيَّنِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ الْعِلْمِ .
فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ حَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ ، فَإِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ حَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ زَالَ النَّهَارُ بِوَظَائِفِهِ وَنَوَافِلِهِ .
ثُمَّ يَدْخُلُ اللَّيْلُ فَتَكُونُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا وَقْتًا لِلتَّطَوُّعِ ، يُقَالُ إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ } وَإِنَّهُ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ : { إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } ثُمَّ يَغِيبُ الشَّفَقُ فَتَدْخُلُ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثِهِ ، وَهُوَ مَحَلُّ النَّوْمِ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ [ الْآخِرَةَ ] إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ فَهُوَ وَقْتٌ لِقِيَامِ اللَّيْلِ .
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ .
فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ، حَتَّى إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَهُوَ أَيْضًا وَقْتٌ لِلْقِيَامِ } ، لِقَوْلِهِ : { إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا } الْحَدِيثَ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ { إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي
فَأَغْفِرَ لَهُ } ؟ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا } هُوَ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } : هُوَ إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ ، وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ انْتَظَمَ الْحَدِيثُ وَالْقُرْآنُ فَإِنَّهُمَا يَنْظُرَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ ، حَتَّى إذَا بَقِيَ سُدُسُ اللَّيْلِ كَانَ مَحَلًّا لِلنَّوْمِ ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ عَلَى سُنَنِ دَاوُد فِي صَوْمِهِ وَقِيَامِهِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إنَّ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، ثُمَّ يَطْلُعُ الْفَجْرُ فَتَعُودُ الْحَالَةُ الْأُولَى هَكَذَا أَبَدًا ، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَتَدْبِيرُ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ .
}
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ : { إلَّا قَلِيلًا } : اسْتَثْنَى مِنْ اللَّيْلِ كُلِّهِ " قَلِيلًا " وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى وَجْهِ كَلَامِهِ فِيهِ ، وَهُوَ إحَالَةُ التَّكْلِيفِ عَلَى مَجْهُولٍ يُدْرَكُ عِلْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ ؛ إذْ لَوْ قَالَ : إلَّا ثُلُثَهُ ، أَوْ رُبْعَهُ ، أَوْ سُدُسَهُ ، لَكَانَ بَيَانًا نَصًّا ، فَلَمَّا قَالَ : { إلَّا قَلِيلًا } وَكَانَ مُجْمَلًا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ أَدِلَّةِ التَّكْلِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَهِيَ مِنْ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ : { نِصْفَهُ } .
ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ أَنَّ قَوْلَهُ : { نِصْفَهُ } دَلِيلٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ مِنْ الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ اسْتِثْنَاءَ شَيْءٍ فَبَقِيَ مِثْلُهُ ، وَالْمَطْلُوبُ اسْتِثْنَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ فَبَقِيَ أَقَلُّ مِنْهَا تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْجَمِيعِ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : { نِصْفَهُ } بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : { اللَّيْلَ } ؛ كَأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يَسِيرًا ، وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحِ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ حَتَّى إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ ، { اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا } ذَكَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ وَآخِرَهُ .
وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ : { نِصْفَهُ } بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ : { قَلِيلًا } كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : قُمْ اللَّيْلَ إلَّا نِصْفَهُ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهِ ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ ، وَيَكُونُ أَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنْ مُتَنَاوِلِ الْجُمْلَةِ ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ ، لَا سِيَّمَا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَفِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِحَبْلٍ مُعَلَّقٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَسَأَلَ عَنْهُ ، فَقِيلَ لَهُ : فُلَانَةُ