كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لَطِيفٍ يُؤَرِّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ } : الْعَوْرَةُ كُلُّ شَيْءٍ لَا مَانِعَ دُونَهُ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أَيْ سَهْلَةُ الْمَدْخَلِ ، لَا مَانِعَ دُونَهَا ، فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِذْنِ ، وَهِيَ الْخَلْوَةُ فِي حَالِ الْعَوْرَةِ ، فَتَعَيَّنَ امْتِثَالُهُ ، وَتَعَذَّرَ نَسْخُهُ ، ثُمَّ رُفِعَ الْجُنَاحُ بَعْدَهُنَّ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ الْمَيْلُ بِالْعِتَابِ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى الْفَاعِلِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الْأَصْلِيَّةَ وَالْحَالَةَ الْأَهْلِيَّةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ } : أَيْ مُتَرَدِّدُونَ عَلَيْكُمْ فِي الْخِدْمَةِ ، وَمَا لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُ مِنْهُمْ ؛ فَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ ذَلِكَ ، وَزَالَ الْمَانِعُ ، { كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ حِينَ أَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ : إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ } .
وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ سُؤْرِهَا فِي مُبَاشَرَتِهَا النَّجَاسَةَ وَحَمْلِهَا أَبَدًا عَلَى الطَّهَارَةِ ، إلَّا أَنْ يَرَى فِي فَمِهَا أَذًى .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَقَوْلُهُ : { بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } يُرِيدُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَابَسَةِ ؛ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِئْذَانُ لَهُمْ عَلَيْكُمْ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ ، كَمَا ارْتَفَعَ الْجُنَاحُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ، مِنْهُمْ لَكُمْ ، وَمِنْكُمْ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ } الْمَعْنَى يُبَيِّنُ اللَّهُ الْآيَاتِ الدَّالَّهَ عَلَى الْمُعْجِزَةِ وَالتَّوْحِيدِ ، كَمَا يُبَيِّنُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مَا يَدُلُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ وَفَخِذُهُ مُنْكَشِفَةٌ وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ { وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَنَّهُ قَالَ : جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا وَفَخِذِي مُنْكَشِفَةٌ ، فَقَالَ : خَمِّرْ عَلَيْك ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ ، وَقَدْ غَطَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ عُثْمَانَ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكَشِفَةً مِنْ جِهَتِهِ الَّتِي جَلَسَ مِنْهَا } .
وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ } .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرْهَدًا لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَرِيضًا ، وَلَيْسَ الْفَخِذُ عَوْرَةً .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ قَوْلَهُ : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } ، فَكَانَ الطِّفْلُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْحُجْبَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَوْرَةِ ؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الطِّفْلَ إذَا ظَهَرَ عَلَى الْعَوْرَةِ ، وَهُوَ بِالْبُلُوغِ ، يَسْتَأْذِنُ ، وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } كَافِيًا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى طِفْلٌ بِصِفَتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ ، وَيَبْقَى غَيْرُهُ عَلَى الْحَجْرِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زِيَادَةَ بَيَانٍ ؛ لِإِبَانَةِ اللَّهِ فِي أَحْكَامِهِ وَإِيضَاحِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { الْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ } : جَمْعُ قَاعِدٍ بِغَيْرِ هَاءٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَاعِدَةِ مِنْ الْجُلُوسِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ .
وَهُنَّ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنْ الْحَيْضِ وَعَنْ الْوَلَدِ ، فَلَيْسَ فِيهِنَّ رَغْبَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ الْقَلْبُ فِي نِكَاحٍ ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ بِخِلَافِ الشَّبَابِ مِنْهُنَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : جِلْبَابَهُنَّ ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي بِهِ الرِّدَاءَ أَوْ الْمِقْنَعَةَ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ تَضَعُهُ عَنْهَا إذَا سَتَرَهَا مَا بَعْدَهُ مِنْ الثِّيَابِ .
وَالثَّانِي : تَضَعُ خِمَارَهَا ، وَذَلِكَ فِي بَيْتِهَا ، وَمِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مِنْ ثَوْبِ أَوْ جِدَارٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ يَعْنِي وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : غَيْرُ مُظْهِرَاتٍ لِمَا يُتَطَلَّعُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزْيِينِ لِلنَّظَرِ إلَيْهِنَّ ، وَإِنْ كُنَّ لَيْسَ بِمَحَلِّ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِنَّ لِانْصِرَافِ النُّفُوسِ عَنْهُنَّ ، وَلَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بِالتَّسَتُّرِ الْكَامِلِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِ الثِّيَابِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مِنْ التَّبَرُّجِ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُهَا ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { رُبَّ نِسَاءٍ كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ ، مَائِلَاتٍ مُمِيلَاتٍ ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا } .
وَإِنَّمَا جَعَلَهُنَّ كَاسِيَاتٍ ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ عَلَيْهِنَّ ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُنَّ بِعَارِيَّاتٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا رَقَّ يَكْشِفُهُنَّ ؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ إذَا دُعُوا إلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ ، وَيَقُولُونَ : الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ ، وَالْأَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ عِنْدَ الطَّعَامِ ، وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ أَهْلَ الزَّمَانَةِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَهَالِيِهِمْ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنُونَ فِي الْجِهَادِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلَّةِ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عِنْدَ الْأَعْمَى ، وَالْأَعْرَجِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ
بُيُوتِهِمْ إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ ، فَكَانُوا يَتَّقُونَهُ وَيَقُولُونَ : نَخْشَى أَلَّا تَكُونَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ طَيِّبَةً ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَحِلُّهُ لَهُمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ } .
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ ، وَالطَّعَامُ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ ، فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ .
الْخَامِسُ : مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ قَائِدُهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَتْ الْبُيُوتُ لَا أَبْوَابَ لَهَا وَالسُّتُورُ مُرْخَاةٌ ، وَالْبَيْتُ يُدْخَلُ ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَحَدٌ ، وَالْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا ، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوهَا .
السَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ مُبَايَعَةِ الزَّمْنَى ، وَمُعَامَلَتِهِمْ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ .
الثَّامِنُ : قَالَ الْحَسَنُ : قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } : نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ .
وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } يَعْنِي وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ، وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَيْرُ مُخَاطَبٍ غَلَبَ الْمُخَاطَبُ لِيَنْتَظِمَ الْكَلَامُ .
وَكَانَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَنْ ذُكِرَ : مِنْ الْأَعْمَى ، وَالْأَعْرَجِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَأَصْحَابِ الْبُيُوتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بُيُوتِكُمْ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : الْأَوَّلُ : يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ عِيَالِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي بَيْتِهِ .
الثَّانِي : مِنْ بُيُوتِ أَوْلَادِكُمْ ، وَنُسِبَتْ أَوْلَادُهُمْ إلَيْهِمْ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ حِينَ ذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ ، لِدُخُولِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُيُوتُ الَّتِي أَهْلُوهَا وَسَاكِنُوهَا خَدَمَةٌ لِأَصْحَابِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ } فَأَبَاحَ الْأَكْلَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِي الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا .
فَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا دُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزُوا إلَى الِادِّخَارِ ، وَلَا إلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ عَنْهُمْ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَنَى بِهِ وَكِيلَ الرَّجُلِ عَلَى ضَيْعَتِهِ ، وَخَازِنَهُ عَلَى مَالِهِ ؛ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْزِلَ الرَّجُلِ نَفْسِهِ ، يَأْكُلُ مِمَّا ادَّخَرَهُ فِيهِ ، وَهَذَا
قَوْلُ قَتَادَةَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَكْلَ السَّيِّدِ مِنْ مَنْزِلِ عَبْدِهِ وَمَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ؛ حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِهِ فِي وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالْأَصْدِقَاءُ أَكْثَرُ مِنْ الْآبَاءِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَنَّمِيِّينَ لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَإِنَّمَا قَالُوا : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَنْقِيحِ مَعَانِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَةِ : وَذَلِكَ يَكُونُ بِنَظْمِ التَّأْوِيلِ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى سَرْدٍ ، فَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِهِ .
أَمَّا إنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الزَّمْنَى مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ : إنَّ الْأَنْصَارَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَعْنَى : لَيْسَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَحَرَّجَ غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيَنْفِي الْحَرَجَ عَنْهُمْ فَهُوَ قَلْبٌ لِلْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قُلْ وَلَا رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فِي نَقْلٍ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَنْتَظِمُ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ أَصْحَابِ الزَّمَانَةِ وَعَمَّنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ ، وَلَكِنْ بَقِيَ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ بِالذِّكْرِ ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا } يَكْفِي فِي تَخْصِيصِهِمْ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُمْ بِضَرَارَتِهِمْ أَحَقُّ مِنْ الْأَصِحَّاءِ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمُشَارَكَةِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ ، لِأَجْلِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَادِ ، وَبَقَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ ، لَكِنْ قَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } قَدْ اقْتَضَاهُ وَأَفَادَهُ ، فَأَيُّ مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ ، فَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ جِدًّا .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } فَيَنْتَظِمُ مَعْنًى ، لَكِنْ ذِكْرُ الزَّمَانَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ وَلَا مُنْتَظِمٍ مَعَهُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فِي أَكْلِ الْأَصِحَّاءِ مَعَ الزَّمْنَى فَذَلِكَ مَدْخُولٌ بِمَا دَخَلَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، مِنْ أَنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فِي الزَّمْنَى عَنْ الزَّمْنَى فِيهِمْ .
وَأَمَّا السَّادِسُ فَحَسَنٌ جِدًّا ، وَكَذَلِكَ السَّابِعُ مِثْلُهُ لَوْ عَضَّدَتْهُ صِحَّةُ النَّقْلِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْمَشْيُ ، وَمَا يَتَعَذَّرُ مِنْ الْأَفْعَالِ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ ، وَعَنْ الْمَرِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إسْقَاطِهِ كَالصَّوْمِ ، وَشُرُوطِ الصَّلَاةِ ، وَأَرْكَانِهَا ، وَالْجِهَادِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مُبَيِّنًا : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ ، وَتَفْسِيرٌ مُفِيدٌ ، لَا يُفْتَقَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إلَى نَقْلٍ ، وَيُعَضِّدُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ ؛ فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْأَزْوَاجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْجُوبٍ عَنْهَا ، وَلَا مُحْرَزٍ مِنْهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ } .
وَأَمَّا مَا كَانَ مُحْرَزًا
عَنْهَا فَلَا سَبِيلَ لَهَا إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ زَوْجِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ ، لَكِنْ الزَّوْجَةُ أَبْسَطُ ، لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ النَّفَقَةِ ، وَلِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ خِدْمَةِ الْمَنْفَعَةِ .
وَأَمَّا بَيْتُ الِابْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَبَيْتِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ ، لَكِنْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ ، فَلَا يَتَبَسَّطُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ فِي هَتْكِ حِرْزٍ وَأَخْذِ مَالٍ ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ مُسْتَرْسِلًا فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ حِيَازَةٌ ، وَلَكِنْ بِالْمَعْرُوفِ دُونَ فَسَادٍ وَلَا اسْتِغْنَامٍ وَأَمَّا بَيْتُ الْأَبِ لِلِابْنِ فَمِثْلُهُ ، وَلَكِنْ تَبَسُّطُ الِابْنِ أَقَلُّ مِنْ تَبَسُّطِ الْأَبِ ، كَمَا كَانَ تَبَسُّطُ الزَّوْجِ أَقَلَّ مِنْ تَبَسُّطِ الزَّوْجَةِ .
وَأَمَّا بُيُوتُ سَائِرِ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
وَأَمَّا بَيْتٌ مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ فَهُوَ الْوَكِيلُ قَالَ النَّبِيُّ : { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } .
وَلَا بُدَّ لِلْخَازِنِ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَخْزُنُ إجْمَاعًا ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْخَزْنِ حَرُمَ الْأَكْلُ .
وَأَمَّا مَالُ الْعَبْدِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : ( بُيُوتِكُمْ ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْزِلُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ فَخَطَأٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ : ( بُيُوتِكُمْ ) ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ بَيْتَ الِابْنِ يَدْخُلُ فِيهِ ؛ فَبَيْتُ الْعَبْدِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِإِجْمَاعٍ .
وَأَمَّا بَيْتُ الصَّدِيقِ ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحْكَمَتْ الْأُخُوَّةُ جَرَى التَّبَسُّطُ عَادَةً ، وَفِي الْمَثَلِ : أَيُّهُمْ أَحَبُّ إلَيْك أَخُوكَ أَمْ صَدِيقُكَ ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقِي .
قَالَ لَنَا الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَوْقٍ قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ إمَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ : عَزِيزٌ مِنْ يَصْدُقُ فِي الصَّدَاقَةِ ،
فَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهِ كَالْمِرْآةِ وَمِنْ وَرَائِك كَالْمِقْرَاضِ ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا قُلْت : مَنْ لِي بِمَنْ يَثِقُ الْفُؤَادُ بِوُدِّهِ وَإِذَا تَرَحَّلَ لَمْ يَزِغْ عَنْ عَهْدِهِ يَا بُؤْسَ نَفْسِي مِنْ أَخٍ لِي بَاذِلٍ حُسْنَ الْوَفَاءِ بِقُرْبِهِ لَا بُعْدِهِ يُولِي الصَّفَاءَ بِنُطْقِهِ لَا خُلْقِهِ وَيَدُسُّ صَابًا فِي حَلَاوَةِ شَهْدِهِ فَلِسَانُهُ يُبْدِي جَوَاهِرَ عِقْدِهِ وَجَنَانُهُ تُغْلِي مَرَاجِلَ حِقْدِهِ لَاهُمَّ إنِّي لَا أُطِيقُ فِرَاسَةً بِك أَسْتَعِيذُ مِنْ الْحَسُودِ وَكَيْدِهِ
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي تَمَامِ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي كِنَانَةَ ؛ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُقِيمُ عَلَى الْجُوعِ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ ، وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ مَوْرُوثَةً [ عِنْدَهُمْ ] عَنْ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَعَ غَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا عَنْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْكُلُوا مَعَهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ : آكُلُ وَحْدِي .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِينَ يَخْلِطُونَ أَزْوِدَتَهُمْ ، فَلَا يَأْكُلُ حَتَّى يَأْتِيَ الْآخَرُ ، فَأُبِيحَ ذَلِكَ لَهُمْ .
وَهَذَا الْقَوْلُ تَضَمَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْآخَرِ ، وَلِلْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُمْ لَا يَنْضَبِطُ ، فَقَدْ يَأْكُلُ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَالْآخَرُ كَثِيرًا ، وَقَدْ يَأْكُلُ الْبَصِيرُ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ الْأَعْمَى ، فَنَفَى اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَبَاحَ لِلْجَمِيعِ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْمَعْهُودِ ، مَا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا إلَى الزِّيَادَةِ ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ } .
وَهَذَا هُوَ النِّهْدُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْقَوْمُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرًى مِنْهُمْ ، أَوْ كَانَ بِخَلْطِهِمْ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ طَعَامَ ضِيَافَةٍ أَوْ وَلِيمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ ؛ لَا سِيَّمَا وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ طَعَامَ الضِّيَافَةِ وَالْوَلِيمَةِ يَأْكُلُهُ الْحَاضِرُونَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ
عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَنَا فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي النِّهْدِ حَدِيثَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَمْعِ الْأَزْوَادِ ، وَكَانَ يُغَدِّيهِمْ كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً تَمْرَةً .
وَحَدِيثَ عُمَرَ فِي نَحْرِ الْإِبِلِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَادَ الْجَيْشِ ، وَبَرَّكَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ احْتَثَى كُلُّ أَحَدٍ فِي مِزْوَدِهِ وَوِعَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْوِيَةٍ ، حَتَّى فَرَغُوا ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْخُرُوجِ ، يُقَالُ : نَهَدَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ ، وَنَهَدَ الْقَوْمُ لِغَزْوِهِمْ ، وَنَهَدَ الْجَمَاعَةُ : إذَا أَخْرَجُوا طَعَامًا أَوْ مَالًا ، ثُمَّ جَمَعُوهُ ، وَأَكَلُوا أَوْ أَنْفَقُوا مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } فِي الْبُيُوتِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْبُيُوتُ كُلُّهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ، لِعُمُومِ الْقَوْلِ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : سَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
[ الثَّالِثُ : إذَا دَخَلْتُمْ الْمَسَاجِدَ فَسَلِّمُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ ضَيْفِكُمْ ] .
الرَّابِعُ : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَارِغَةً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، قُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فِي الْمُخْتَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } فَنَصَّ عَلَى بُيُوتِ الْغَيْرِ ، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بُيُوتِ الْغَيْرِ ، لِيَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ بَيْتٍ ، كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِنَفْسِهِ ، وَقَالَ : { عَلَى أَنْفُسِكُمْ } لِيَتَنَاوَلَ اللَّفْظُ سَلَامَ الْمَرْءِ عَلَى عَيْنِهِ ، وَلِيَأْخُذَ الْمَعْنَى سَلَامَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِغَيْرِهِ اسْتَأْذَنَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا لِنَفْسِهِ سَلَّمَ ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
وَهَذَا إذَا كَانَ فَارِغًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ أَهْلُهُ وَعِيَالُهُ وَخَدَمُهُ فَلْيَقُلْ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّحِيَّةِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فَلْيَقُلْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ } .
وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ عُمَرَ الْبَيْتَ الْفَارِغَ .
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ إذَا كَانَ الْبَيْتُ فَارِغًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّلَامُ
فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَلَكَ فَالْمَلَائِكَةُ لَا تُفَارِقُ الْعَبْدَ بِحَالٍ ، أَمَّا إنَّهُ إذَا دَخَلْت بَيْتَكَ يُسْتَحَبُّ لَك ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ بِأَنْ يَقُولَ : { مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ ، وَأَوْضَحْنَا مَجْرَاهُ ، وَمِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ سَلَامَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ وَالرَّدِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : كَانَ النِّسَاءُ يُسَلِّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ ، وَلَا يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ .
وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهَا خُلْطَةٌ وَتَعَرُّضٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُتَجَالَّةً ؛ إذْ الْخُلْطَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمُنْتَهَى .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَك أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ : وَالْمُرَادُ بِمَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ الْجُمُعَةُ ، وَالْعِيدَانِ ، وَالِاسْتِسْقَاءُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ الْخُلْطَةُ ؛ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ كُلُّ طَاعَةٍ لِلَّهِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْجِهَادُ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْر ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا كَانَتْ فِي حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ .
وَاَلَّذِي بَيَّنَ ذَلِكَ أَمْرَانِ صَحِيحَانِ : أَمَّا أَحَدُهُمَا : فَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَلَوَّذُونَ ، وَيَخْرُجُونَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ، وَيَتْرُكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِأَلَّا يَخْرُجَ [ أَحَدٌ ] حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ إيمَانُهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } فَأَيُّ إذْنٍ فِي الْحَدَثِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خِيَارٌ فِي مَنْعِهِ وَلَا إبْقَائِهِ ، وَقَدْ قَالَ : { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ } فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْحَرْبِ الَّتِي يُؤْثَرُ فِيهَا التَّفَرُّقُ أَمَّا إنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ
بِقُوَّةِ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَخْرُجُ إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ أَوْ بِإِذْنٍ قَائِمٍ مِنْ مَالِكِ الْجَمَاعَةِ وَمُقَدِّمِهَا ؛ وَبِذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ كَانَ لِغَرَضٍ ، فَمَا لَمْ يَتِمَّ الْغَرَضُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّفَرُّقِ أَصْلٌ ، وَإِذَا كَمُلَ الْغَرَضُ جَازَ التَّفَرُّقُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ } فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْمُسْتَأْذِنِ ، وَلَمْ يَرَ فِيهِ مَضَرَّةً عَلَى الْجَمَاعَةِ ، أَذِنَ بِنَظَرٍ ، أَوْ مَنَعَ بِنَظَرٍ .
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الرَّجُلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا رَعَفَ أَوْ أَحْدَثَ يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ ، وَيُشِيرُ إلَى الْإِمَامِ فَيُشِيرُ لَهُ الْإِمَامُ بِيَدِهِ أَنْ اُخْرُجْ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَامَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَادٌ : مَنْ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ فَلْيَخْرُجْ دُونَ إذْنٍ .
وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ ، حَتَّى إنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَعَفَ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، إذْ لَا إذْنَ فِيهِ ، وَلَا خِيرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ صَاحِبُهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ ، فَيَخْرُجُ إذَا شَاءَ ، وَيَجْلِسُ إذَا شَاءَ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ } فِيهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَفْعُولِ ، كَمَا يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ ، تَقُولُ : أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ عَمْرُو ، عَلَى الْأَوَّلِ ، كَمَا تَقُولُ : كَرِهْت ضَرْبَ زَيْدٍ عَمْرًا ، عَلَى الثَّانِي .
وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ هَذَا الْمِقْدَارَ ، فَعَقَدَ فَصْلًا فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ فِيهِ : فَاهْتَبِلُوا بِالدُّعَاءِ ، وَابْتَهِلُوا بِرَفْعِ أَيْدِيكُمْ إلَى السَّمَاءِ ، وَتَضَرَّعُوا إلَى مَالِكِ أَزِمَّةِ الْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } وَأَرَادَ لَوْلَا سُؤَالُكُمْ إيَّاهُ ، وَطَلَبُكُمْ مِنْهُ ، وَرَأَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى فَاعِلٍ .
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى الْمَفْعُولِ .
وَالْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ : مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ إلَيْكُمْ ، وَتَبْيِينِ الْأَدِلَّةِ لَكُمْ ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ عَذَابُكُمْ لِزَامًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضَافَةِ هَاهُنَا إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بَيْنَكُمْ ، فَإِنَّ إجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ ، وَلَيْسَتْ إجَابَتُكُمْ وَاجِبَةً .
يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إجَابَةُ الْخَلْقِ بِقَرَائِنَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُوبِ إجَابَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ فِي
سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ احْذَرُوا أَنْ تَتَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ ، وَلَيْسَ دُعَاؤُهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي عَاهَدْت رَبِّي عَهْدًا ، قُلْت : اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَيْهِ وَرَحْمَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
الْمَعْنَى الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُسَوُّوا بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَكُمْ فِي الدَّعْوَةِ ، كُلُّ أَحَدٍ يُدْعَى بِاسْمِهِ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُدْعَى بِخُطَّتِهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ غَفِيرًا : إنَّ الْخَلِيفَةَ يُدْعَى بِهَا ، وَالْأَمِيرَ وَالْمُعَلِّمَ ، وَيُوَفَّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَظُّهُ مِنْ الْخُطَّةِ ، فَيُدْعَى بِهَا قَصْدَ الْكَرَامَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } بِهَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ ، وَالْوُجُوبُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَوَجُّهِ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ ، فَالْأَمْرُ مُقْتَضٍ ، وَاللَّوْمُ وَالذَّمُّ خَاتَمٌ ، وَذِكْرُ الْعِقَابِ بِالثَّأْرِ مُكَبَّرٌ ، يُعَدُّ بِهِ الْفِعْلُ فِي جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ ، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ هُنَالِكَ .
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَيَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمُخَالَفَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ حَرَامًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالْفِعْلُ نَدْبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةً ، وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَدِلَّةِ ، وَيَنْسَاقُ بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ وَالْأَسْبَابِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي قَوْلِهِ : { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْكُفْرُ .
الثَّانِي : الْعُقُوبَةُ .
الثَّالِثُ : بَلِيَّةٌ يَظْهَرُ بِهَا مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَحِيحَةٌ كُلُّهَا ، وَلَكِنَّ مُتَعَلِّقَاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ ، فَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ ، وَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ هِيَ مَعْصِيَةٌ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُلْحِدِينَ ، وَرَتَّبْنَا مَنَازِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَمَسَاقَهُ وَمُتَعَلَّقَهُ بِدَلِيلِهِ .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْدِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَيْوَةَ ، حَدَّثَنَا جُرْهُمِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ : سَمِعْت الزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ يَقُولُ : سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ ؟ قَالَ : مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ .
قَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ .
قَالَ : لَا تَفْعَلْ ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ .
قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا ؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا .
قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّارِ ، إلَّا وَاحِدَةً .
قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي } .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْعِصْمَةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمُتَابَعَةِ فِي الْأُلْفَةِ ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
سُورَةُ الْفُرْقَانِ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهِ الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا ، وَعَيَّرُوهُ بِالْمَشْيِ فِي السُّوقِ ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } ، فَلَا تَرْتَبْ بِذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ بِهِ ، فَإِنَّهَا شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا ، وَحُجَّةٌ قَاهِرٌ لَك خَارُهَا .
وَهَذَا إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ عِنَادُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْجِزَةُ ، وَوَضَحَتْ فِي صِدْقِهِ الدَّلَالَةُ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ ، حَتَّى سَأَلُوهُ آيَاتٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَأَلْفُ آيَةٍ كَآيَةٍ عِنْدَ الْمُكَذِّبِ بِهَا ، وَأَوْقَعَهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جَهْلُهُمْ حِينَ رَأَوْا الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ الْأَسْوَاقِ أَنْكَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ، وَاعْتَقَدُوهُ مَلِكًا يَتَصَرَّفُ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَالْأَمْرِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةِ الْعَامَّةِ ، وَكَانَ أَيْضًا يَدْخُلُ الْخَلَصَةَ بِمَكَّةَ ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ قَالُوا : هَذَا مَلِكٌ يَطْلُبُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا ، فَمَا لَهُ يُخَالِفُ سِيرَةَ الْمُلُوكِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِحَاجَتِهِ ، أَوْ لِتَذْكِرَةِ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرْجِعَ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا كَثُرَ الْبَاطِلُ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَظَهَرَتْ فِيهَا الْمَنَاكِرُ ، كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا دُخُولَهَا لِأَرْبَابِ الْفَضْلِ ، وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ ، تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا .
وَفِي الْآثَارِ : { مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ } إنْبَاءً بِأَنَّهُ وَحْدَهُ عِنْدَ صَخَبِ الْخَلْقِ وَرَغْبِهِمْ فِي الْمَالِ ، أَقْبَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، لَمْ يَقْصِدْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ سِوَاهُ ، لِيَعْمُرَهَا بِالطَّاعَةِ إنْ غُمِرَتْ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَلِيُحَلِّيَهَا بِالذِّكْرِ إنْ عُطِّلَتْ بِالْغَفْلَةِ ، وَلِيُعَلِّمَ الْجَهَلَةَ ، وَيُذَكِّرَ النَّاسِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فَضَرُورَةُ الْخَلْقِ ، لَا عَارَ وَلَا دَرَكَ فِيهَا .
وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ فَسَمِعْت مَشْيَخَةَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : لَا يَدْخُلُ إلَّا سُوقَ الْكُتُبِ وَالسِّلَاحِ .
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ سُوقٍ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَهَدْمٌ لِلْحِشْمَةِ .
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ ، لَكِنْ رَوَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا وَصْفَ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } .
يَعْنِي سَتْرًا لِلْخَلْقِ ، يَقُومُ مَقَامَ اللِّبَاسِ فِي سَتْرِ الْبَدَنِ ، وَيُرْبَى عَلَيْهِ بِعُمُومِهِ وَسَعَتِهِ .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْغَفَلَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عُرْيَانًا فِي الظَّلَّامِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِبَاسٌ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي بَيْتِهِ إذَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ .
وَالسِّتْرُ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا ، لَيْسَتْ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي هَذَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا قَوْلَهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً } فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ { مَاءً طَهُورًا } فَوَصَفَ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ ؟ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِمَعْنَى طَاهِرٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } يَعْنِي طَاهِرًا ، إذَا لَا تَكْلِيفَ فِي الْجَنَّةِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَلِيلَيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فُجُورُ إلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ هِيفٍ خُصُورُهَا عِذَابِ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُطَهِّرُ .
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : رَجُلٌ نَئُومٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنِيمٌ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } .
وَقَالَ : { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } ، فَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ { طَهُورًا } يُفِيدُ التَّطْهِيرَ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } .
وَأَرَادُوا مُطَهَّرَةً بِالتَّيَمُّمِ ، وَلَمْ يُرِدْ طَاهِرَةً بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ طَاهِرَةً .
وَقَالَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ } ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الطَّهُورِ الْمُطَهَّرَ لَمَا كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ .
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَنَّ وَصْفَ " طَهُورٍ " مُخْتَصٌّ بِالْمَاءِ ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ ، وَهِيَ
طَاهِرَةٌ ، فَكَانَ اقْتِصَارُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ أَدَلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهَّرُ .
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِوَصْفِ اللَّهِ لِشَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ، وَالْجَنَّةُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّفَةِ ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ وَصْفَ شَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ عَنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ ، وَعَنْ خَسَائِسِ الصِّفَاتِ ، كَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ ، فَإِذَا شَرِبُوا هَذَا الشَّرَابَ طَهَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَحْضِ الذُّنُوبِ ، وَأَوْضَارِ الِاعْتِقَادَاتِ الذَّمِيمَةِ ، فَجَاءُوا اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ بِصِفَةِ التَّسْلِيمِ .
وَقِيلَ لَهُمْ حِينَئِذٍ : { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } ، كَمَا حَكَمَ فِي الدُّنْيَا بِزَوَالِ حُكْمِ الْحَدَثِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، وَهَذِهِ حِكْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَتِلْكَ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فِي الْأُخْرَى .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ : رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ، وَهُوَ لَا يُطَهِّرُ ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الرِّيقِ بِالطَّهُورِيَّةِ ، أَرَادَ أَنَّهُ لِعُذُوبَتِهِ ، وَتَعَلُّقِهِ بِالْقُلُوبِ ، وَطِيبِهِ فِي النُّفُوسِ ، وَسُكُونِ غَلِيلِ الْحُبِّ بِرَشْفِهِ ، كَأَنَّهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَجَازَاتِ الشِّعْرِيَّةِ ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَجَاوَزُونَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَدَّ الصِّدْقِ إلَى الْكَذِبِ ، وَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْقَوْلِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَرُبَّمَا وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ : لَوْ لَمْ تُلَامِسْ صَفْحَةُ الْأَرْضِ رِجْلَهَا لَمَا كُنْت أَدْرِي عِلَّةً لِلتَّيَمُّمِ وَهَذَا كُفْرٌ صُرَاحٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ : هَذَا مُنْتَهَى لُبَابِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ ، إلَّا أَنِّي تَأَمَّلْتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهَا مَطْلَعًا شَرِيفًا ، وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " فَعُولٍ " لِلْمُبَالَغَةِ ، إلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْقَاصِرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : نَئُومُ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ فَوَصَفَهُ الْأَوَّلُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الضَّرْبِ ، وَهُوَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى ، وَوَصَفَهَا الثَّانِي بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّوْمِ ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ طَهُورِيَّةُ الْمَاءِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُسْنِ نَظَافَةً ، وَمِنْ الشَّرْعِ طَهَارَةً ، كَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ } .
وَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ " فَعُولٍ " لِوَجْهٍ آخَرَ ، لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَهُوَ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ آلَةِ الْفِعْلِ لَا عَنْ الْفِعْلِ ، كَقَوْلِنَا : وَقُودٌ وَسَحُورٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ " فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَطَبِ وَعَنْ الطَّعَامِ الْمُتَسَحَّرِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَكُونُ بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْضًا خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ الَّتِي يُتَطَهَّرُ بِهَا .
فَإِذْ ضَمَمْت الْفَاءَ فِي الْوُقُودِ وَالسُّحُورِ وَالطُّهُورِ عَادَ إلَى الْفِعْلِ ، وَكَانَ خَبَرًا عَنْهُ ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْفَعُولِ بِفَتْحِ الْفَاءِ يَكُونُ بِنَاءً لِلْمُبَالَغَةِ ، وَيَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ ، وَهَذَا الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلَكِنْ قَصُرَتْ أَشْدَاقُهَا عَنْ لَوْكِهِ ، وَبَعْدَ هَذَا يَقِفُ الْبَيَانُ بِهِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ ، أَوْ عَنْ الْآلَةِ عَلَى الدَّلِيلِ ، مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } .
وَيُحْتَمَلُ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ الْآلَةِ ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِعُلَمَائِنَا .
لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } نَصًّا فِي أَنَّ فِعْلَهُ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْخِلَافَ فِيهَا مَا صَارَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : حِينَ قَالُوا : إنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ الَّذِي كَانَ فِي الْأَعْضَاءِ انْتَقَلَ إلَى الْمَاءِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا حِينَئِذٍ : إنَّ وَصْفَ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عَلَى رَسْمِ بِنَاءِ الْمُبَالَغَةِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَإِنَّمَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْآلَةَ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضٌ ، هَلْ يُؤَدَّى بِهَا فَرْضٌ آخَرُ أَمْ لَا ؟ فَمَنَعَ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قِيَاسًا عَلَى الرَّقَبَةِ ، إنَّهُ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضُ عِتْقٍ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي أَدَاءِ فَرْضٍ آخَرَ ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ الْقَوْلِ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ إذَا أَتَى عَلَى الرِّقِّ أَتْلَفَهُ ، فَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ بِعِتْقٍ آخَرَ .
وَنَظِيرُهُ مِنْ الْمَاءِ مَا تَلِفَ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ آخَرُ لِتَلَفِ عَيْنِهِ حِسًّا ، كَمَا تَلِفَ الرِّقُّ فِي الرَّقَبَةِ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ حُكْمًا ، وَهَذَا نَفِيسٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ ، فَأَفَقْت } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْفَاضِلَ عَنْ الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ طَاهِرٌ ، لَا عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، كَمَا تَوَهَّمَهُ عُلَمَاؤُنَا ، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَكَانَ الْمَاءُ مَعْلُومًا بِصِفَةِ طَعْمِهِ وَرِيحِهِ وَلَوْنِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ فِي طَهُورِيَّتِهِ ، فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إلَى غَيْرِهِ بِتَغَيُّرِ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَصْفُ الطَّهُورِيَّةِ .
وَالْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يُوَافِقُهُ فِي صِفَتَيْهِ جَمِيعًا : وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ لَمْ يَسْلُبْهُ وَصْفًا مِنْهُمَا ، لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِيهِمَا ، وَهُوَ التُّرَابُ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي يُوَافِقُ الْمَاءَ فِي إحْدَى صِفَتَيْهِ ، وَهِيَ الطَّهَارَةُ ، وَلَا يُوَافِقُهُ فِي صِفَتِهِ الْأُخْرَى ، وَهِيَ التَّطْهِيرُ ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ سَلَبَهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ ، دُونَ مَا وَافَقَهُ ، وَهِيَ الطَّهَارَةُ ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَسَائِرِ الطِّهَارَاتِ .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مُخَالَفَتُهُ فِي الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا : وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ سَلَبَهُ الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا ، لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا ، وَهُوَ النَّجَسُ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْفُرُوعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ أَفْسَدَتْهُ كُلَّهُ ، كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا ، إذَا تَحَقَّقَتْ عُمُومُ النَّجَاسَةِ فِيهِ .
وَوَجْهُ تَحَقُّقِهَا عِنْدَهُ أَنْ تَقَعَ مَثَلًا نُقْطَةُ بَوْلٍ فِي بِرْكَةِ مَاءٍ ، فَإِنْ كَانَتْ الْبِرْكَةُ يَتَحَرَّكُ طَرَفَاهَا بِتَحْرِيكِ أَحَدِهِمَا فَالْكُلُّ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَا تُحَرِّكُ الْآخَرَ لَمْ يُنَجَّسْ وَالْمِصْرِيُّونَ ، كَابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ ، يَقُولُونَ : إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ .
وَفِي الْمَجْمُوعَةِ نَحْوُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَرَوَاهُ عَنْ الْوَلِيدِ
بْنِ كَثِيرٍ ، حُسْنَ ظَنٍّ بِهِ ، وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ .
وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ .
وَقَدْ رَامَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى إمَامَتِهِ أَنْ يُصَحِّحَ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ، وَاغْتَصَّ بِجُرَيْعَةِ الذَّقَنِ فِيهَا ، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ ، حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
كَمَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا أَيْضًا فِي مَذْهَبِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَا يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ الْجِيَفِ وَالنَّتِنِ ، وَمَا يُنْجِي النَّاسُ ، فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ } .
وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا قَدَمَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ ، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ فَاوَضْت الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا ، فَقَالَ : إنَّ أَخْلَصَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ ، إذْ لَا حَدِيثَ فِي الْبَابِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } ، وَهُوَ مَا دَامَ بِصِفَاتِهِ ، فَإِذَا تَغَيَّرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا خَرَجَ عَنْ الِاسْمِ بِخُرُوجِهِ عَنْ الصِّفَةِ " وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ الْبُخَارِيُّ إمَامُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي الْبَابِ خَبَرًا صَحِيحًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَالَ : " بَابُ إذَا تَغَيَّرَ وَصْفُ الْمَاءِ " وَأَدْخَلَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } .
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّمَ بِحَالِهِ ، وَعَلَيْهِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ الرَّائِحَةُ عَنْ صِفَةِ الدَّمَوِيَّةِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا
تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِرِيحِ جِيفَةٍ عَلَى طَرَفَيْهِ وَسَاحِلِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ ، وَلَوْ تَغَيَّرَ بِهَا وَقَدْ وَقَعَتْ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَنْجِيسَهُ لَهُ لِلْمُخَالَطَةِ ، وَالْأُولَى مُجَاوَرَةٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : ثُمَّ تَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ ، وَهِيَ الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِقَرَارِهِ كَزِرْنِيخٍ أَوْ جِيرٍ يَجْرِي عَلَيْهِ ، أَوْ تَغَيَّرَ بِطُحْلُبٍ أَوْ بِوَرَقِ شَجَرٍ يَنْبُتُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ ، لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ يَعْنِي إذَا وَجَدَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ اسْتَعْمَلَهُ ؛ لِأَنَّ مَا يُغْلَبُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّوَقِّي مِنْهُ ، فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا .
وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُوعَ عَنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ ، وَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا الِاحْتِرَازُ مِنْهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي عَدَالَتِهِ ، وَلَمَّا كَانَتْ الْكَبَائِرُ يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا قَدَحَتْ فِي الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مُمْكِنًا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الْيَسِيرُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَالِالْتِفَاتِ بِالرَّأْسِ وَحْدَهُ وَالْمُرَاوَحَةِ بَيْنَ الْأَقْدَامِ ، وَتَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ ، وَتَقْلِيبِ الْيَدِ ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ .
وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ كُلِّهِ ، فَعَلَيْهِ خَرَجَ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَنْ تَغَيُّرِهِ بِمَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ، وَامْتَنَّ بِإِنْزَالِهِ مِنْ السَّمَاءِ لِيُطَهِّرَنَا بِهِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ : { حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ } ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ غَيْرُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إبْطَالِ فَائِدَةِ الِامْتِنَانِ .
وَالثَّانِي : لِأَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ ، فَلَا يُزِيلُ النَّجَسَ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ : إنَّ كُلَّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَدْفَعُهَا عَنْ غَيْرِهِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيْتِ الْكَثِيرِ لَمْ يُنَجَّسْ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ .
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ } .
وَقَوْلُهُ : { إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْمَائِعَ ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ سُئِلَ عَنْهُ ، فَخَصَّ أَحَدَ صِنْفَيْهِ بِالْجَوَازِ ، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى الْمَنْعِ .
وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ تَفْهَمُونَهَا ، فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ كِتَابٍ ، وَلَيْسَتْ النَّجَاسَةُ مَعْنًى مَحْسُوسًا ، حَتَّى يُقَالَ : كُلَّمَا أَزَالَهَا فَقَدْ قَامَ بِهِ الْفَرْضُ ، وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمَاءَ ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ ، إذْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ لَأَسْقَطَهُ ، وَالْفَرْعُ إذَا عَادَ إلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ
بِالْإِسْقَاطِ سَقَطَ فِي نَفْسِهِ .
وَقَدْ كَانَ تَاجُ السُّنَّةِ ذُو الْعِزِّ بْنُ الْمُرْتَضَى الدَّبُوسِيُّ يُسَمِّيهِ فَرْخَ زِنَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمَاءَ إذَا فَضَلَتْ لِلْجُنُبِ مِنْهُ فَضْلَةٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ بِهَا ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ { مَيْمُونَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَجْنَبْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْت مِنْ جَفْنَةٍ ، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا .
فَقُلْت : إنِّي قَدْ اغْتَسَلْت مِنْهُ .
فَقَالَ : إنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ } أَوْ : { إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ } .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا عَلَى أَصْلِهِ فَوَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ فَسَدَ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ } .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ ، وَلَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ حَقِيقَتَهُ ، وَأَنَّ الْإِنَاءَ يُغْسَلُ عِبَادَةً ، لَا لِنَجَاسَةٍ بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْغَسْلَ مَعْدُودٌ بِسَبْعٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلًا ، وَلَوْ كَانَ لِنَجَاسَةٍ لَمَا كَانَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلٌ ، كَالْبَوْلِ ، عَكْسُهُ الْوُضُوءُ لَمَّا كَانَ عِبَادَةً دَخَلَ التُّرَابُ مَعَ الْمَاءِ .
وَرَأَى مَالِكٌ طَرْحَ الْمَاءِ تَقَذُّرًا لَا تَنَجُّسًا ، أَوْ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْخِلَافِ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَأْكُلُ الْأَقْذَارَ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَيَكُونُ مِنْ الطَّوَّافِينَ أَوْ الطَّوَّافَاتِ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا وَلَغَتْ السِّبَاعُ فِي الْمَاءِ : كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَ مَالِكٍ طَاهِرُ الْعَيْنِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَلَكِنْ تَحَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ أَسْآرَ السِّبَاعِ مَكْرُوهَةٌ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ ، مِنْ أَنَّهَا تُصِيبُ النَّجَاسَاتِ ، وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّوَّافِينَ وَلَا مِنْ الطَّوَّافَاتِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَسْآرُ السِّبَاعِ نَجِسَةٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حِيَاضٍ تَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَفِي رِوَايَةٍ : وَالْكِلَابُ فَقَالَ : لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا ، وَلَنَا مَا بَقِيَ غَيْرَ شَرَابٍ وَطَهُورٍ } .
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ وَعَمْرًا وَقَفَا عَلَى حَوْضٍ ، فَقَالَ عَمْرٌو : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَك السِّبَاعُ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ ، لَا تُخْبِرْنَا ، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ كَثِيرًا ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا لَكَانَ لِلْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَعَ نِسْوَةٍ ، فَقَالَ : لَوْ أَنِّي سَقَيْتُكُنَّ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ لَكَرِهْتُنَّ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَاَللَّهِ سَقَيْت مِنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ .
وَهَذَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَاءَهَا كَانَ كَثِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَحَائِضُ النِّسَاءِ ، وَعَذِرَاتُ النَّاسِ ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ : سَأَلْت قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا ، قُلْت : مَا أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْمَاءُ فِيهَا ؟ قَالَ : إلَى الْعَانَةِ .
قُلْت : فَإِذَا نَقَصَ مَاؤُهَا ؟ قَالَ : إلَى الْعَوْرَةِ قَالَ أَبُو دَاوُد : فَقَدَّرْتهَا بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ .
وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إلَيْهَا : هَلْ
غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ : لَا .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَرَأَيْت مَاءَهَا مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ جِدًّا .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَغَيَّرَ مَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ السَّبَخَةِ ، فَمَاؤُهَا يَكُونُ قَرَارَهَا .
وَبُضَاعَةُ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَلَهَا يَقُولُ أَبُو أُسَيْدَ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ : نَحْنُ حَمَيْنَا عَنْ بُضَاعَةَ كُلِّهَا وَنَحْنُ بَنَيْنَا مَعْرِضًا هُوَ مُشْرِفُ فَأَصْبَحَ مَعْمُورًا طَوِيلًا قَذَالُهُ وَتَخْرَبُ آطَامٌ بِهَا وَتَقَصَّفُ
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ أَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ كَوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } .
فَمَنَعَ مِنْ وُرُودِ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ ، وَأَمَرَ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي الْبَابِ ، وَلَوْلَا وُرُودُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لَمَا طَهُرَتْ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ : { صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } .
رُوِيَ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ ، فَبَايَعَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَامَ فَفَشَجَ يَعْنِي فَرَّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَعَجَّلَ النَّاسُ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُزْرِمُوهُ ثُمَّ دَعَا بِهِ ، فَقَالَ أَلَسْت بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ؟ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ بُلْت فِي مَسْجِدِنَا ؟ قَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا ظَنَنْت إلَّا أَنَّهُ صَعِيدٌ مِنْ الصُّعُدَاتِ ، فَبُلْت فِيهِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِحَفْرِ مَوْضِعِ بَوْلِهِ ، وَطَرْحِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ } .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : رَأَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدَّلْوَ يَكْفِي لِبَوْلِ الرَّجُلِ فِي إزَالَةِ عَيْنِهِ وَطَهَارَةِ مَوْضِعِهِ ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ ؛ لِأَنَّ الدَّلْوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَعَلَّقَ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَجَعَلَهُ تَقْدِيرًا ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ سَاقِطٌ ، إذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ لَعَلَّقَهُ عَلَى مَعْلُومٍ ، كَمَا عُلِمَ الصَّاعُ وَالْوَسْقُ ، حَتَّى كَانَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ شَرْعًا ، الْمُقَدَّرُ بِهِ صَحِيحًا .
وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا زَالَتْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } تَوَقَّفَ جَمَاعَةٌ فِي مَاءِ الْبَحْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ ، حَتَّى رَوَوْا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو مَعًا أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ نَارٍ ، وَلِأَنَّهُ طَبَقُ جَهَنَّمَ .
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ حُكْمَهُ حِينَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا يُنْسَبُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُمَا قَالَا : لَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عَلَى نَارٍ ، وَالنَّارَ عَلَى مَاءٍ ، وَالْمَاءَ عَلَى نَارٍ حَتَّى عَدَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ ، وَسَبْعَةَ أَنْوَارٍ .
وَأَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي الْبَحْرِ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ ، فَقَالَ : إنَّمَا هُمَا بَحْرَانِ ، فَلَا يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا بَدَأْت .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَارِمِيِّ قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ الْحِيتَانِ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَعَنْ مَاءِ الْبَحْرِ ، فَلَمْ يَرَيَا بِذَلِكَ بَأْسًا .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّك قَدِيرًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي النَّسَبِ : وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَرْجِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ .
فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا ، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا ، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَصِهْرًا } أَمَّا النَّسَبُ فَهُوَ مَا بَيْنَ الْوَطْأَيْنِ مَوْجُودًا ، وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ مَا بَيْنَ وَشَائِجِ الْوَاطِئَيْنِ مَعًا ، الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَهُمْ الْأَحْمَاءُ وَالْأَخْتَانُ .
وَالصِّهْرُ يَجْمَعُهُمَا لَفْظًا وَاشْتِقَاقًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا ، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَا بِبِنْتٍ أُمًّا ، وَلَا بِأُمٍّ بِنْتًا ، وَمَا يُحَرَّمُ مِنْ الْحَلَالِ لَا يُحَرَّمُ مِنْ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا ، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا ، فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا وَلَا يُسَاوِيهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الزِّنَا يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ ، وَهَذَا كِتَابُهُ الْمُوَطَّأُ الَّذِي كَتَبَهُ بِخَطِّهِ ، وَأَمْلَاهُ عَلَى طَلَبَتِهِ ، وَقَرَأَهُ مِنْ صَبْوَتِهِ إلَى مَشْيَخَتِهِ لَمْ يُغَيِّرْ فِيهِ ذَلِكَ ، وَلَا قَالَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ .
وَاكْتُبُوا عَنِّي هَكَذَا .
وَابْنُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ بِالزِّنَا قُرِئَ ضِدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْمُوَطَّأِ ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِلْبَاطِنِ ، وَلَا الْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَلْفٍ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ وَاحِدٍ ، وَآحَادٍ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي التَّوَكُّلِ : وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ الْوَكَالَةِ ، أَيْ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ ، وَهُوَ إظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَصْلُ هَذَا عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِيجَادِ سِوَاهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مُرَادٌ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِيَدِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مَا أَرَادَ ، جَعَلَ لَهُ أَصْلَ التَّوَكُّلِ ، وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ ، وَبِهِ يَصِحُّ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّوَكُّلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا مِنْ سُكُونِ الْقَلْبِ ، وَزَوَالِ الِانْزِعَاجِ وَالِاضْطِرَابِ ، أَحْوَالٌ تَلْحَقُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كَمَالِهِ ، وَلِهَذِهِ الْأَحْوَالِ أَقْسَامٌ ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ اسْمٌ : الْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَا فِي يَدِهِ ، لَا يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ، وَاسْمُهُ الْقَنَاعَةُ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكْتَسِبَ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ التَّوَكُّلَ عِنْدَنَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ ، كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا تَزِيدُ عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا تَدَّخِرُ لِغَدٍ .
قُلْنَا : إنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالْغُدُوِّ ، وَالرَّوَاحُ الِاعْتِمَالُ فِي الطَّلَبِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : تَغْدُو فِي الطَّاعَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُك رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُك وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } .
قُلْنَا : إنَّمَا أَرَادَ بِالْغُدُوِّ الِاغْتِدَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ،
فَأَمَّا الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهُوَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الْعَادَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ لَهُ .
وَعَلَى هَذَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ ، وَهَذَا حَالَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْخَلْقِ ، وَبَعْدَ هَذَا مَقَامَاتٌ فِي التَّفْوِيضِ وَالِاسْتِسْلَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ الْخِلْفَةِ : وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ جَعَلَ أَحَدَهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ ، يَتَضَادَّانِ ، وَيَتَعَارَضَانِ وَضْعًا وَوَقْتًا ، وَبِذَلِكَ نُمَيِّزُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا مَضَى وَاحِدٌ جَاءَ آخَرُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : بِهَا الْعِيسُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمٍ الثَّالِثُ : مَعْنَى خِلْفَةٍ : مَا فَاتَ فِي هَذَا خَلَفَهُ فِي هَذَا .
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا مِنْ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ ، فَيُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ } .
سَمِعْت ذَا الشَّهِيدَ الْأَكْبَرَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ حَيًّا ، وَبِذَلِكَ كَمَالُهُ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ آفَةَ النَّوْمِ ، وَضَرُورَةَ الْحَدَثِ ، وَنُقْصَانَ الْخِلْقَةِ ، إذْ الْكَمَالُ لِلْأَوَّلِ الْخَالِقِ ، فَمَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ مِنْ دَفْعِ النَّوْمِ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَالسَّهَرِ فِي الطَّاعَةِ فَلْيَفْعَلْ .
وَمِنْ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ أَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ سِتِّينَ سَنَةً يَنَامُ لَيْلَهَا ، فَيَذْهَبُ النِّصْفُ مِنْ عُمْرِهِ لَغْوًا ، وَيَنَامُ نَحْوَ سُدُسِ النَّهَارِ رَاحَةً ، فَيَذْهَبُ ثُلُثَاهُ ، وَيَبْقَى لَهُ مِنْ الْعُمْرِ عِشْرُونَ سَنَةً .
وَمِنْ الْجَهَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْ يُتْلِفَ الرَّجُلُ ثُلُثَيْ عُمْرِهِ فِي لَذَّةٍ فَانِيَةٍ ، وَلَا يُتْلِفُ عُمْرَهُ بِسَهَرِهِ فِي لَذَّةٍ بَاقِيَةٍ عِنْدَ الْغَنِيِّ الْوَفِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِعَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } : فَيَعْمَلُ وَيَشْكُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ فِي دَلَالَةِ التَّضَادِّ عَلَى الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ ، وَفِي دَلَالَةِ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الَّذِي يُعْدَمُ فَيَعْقُبُهُ غَيْرُهُ ، وَعَلَى الْفُسْحَةِ فِي قَضَاءِ الْفَائِتِ مِنْ الْعَمَلِ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ مِنْ الثَّوَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَتَفَاضَلُ بِأَنْفُسِهَا ، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ وَالْأَعْرَاضَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ مُتَمَاثِلَةٌ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالصِّفَاتِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَفْضَلُ ، اللَّيْلُ أَمْ النَّهَارُ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ فَضِيلَةَ النَّهَارِ عَلَيْهِ ، وَفِي الصَّوْمِ غُنْيَةً فِي الدَّلَالَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { هَوْنًا } الْهَوْنُ : هُوَ الرِّفْقُ وَالسُّكُونُ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ ، لَا بِالْمَرِحِ وَالْكِبْرِ ، وَالرِّيَاءِ وَالْمَكْرِ ، وَفِي مَعْنَاهُ قُلْت : تَوَاضَعْت فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ وَحُزْت نِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ مِنْ عِظَمِ الْمَكْرِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي الْإِيضَاعِ } .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا .
وَالْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ الصَّمْتِ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ .
وَقَدْ قِيلَ : مَعْنَاهُ يَمْشُونَ رِفْقًا مِنْ ضَعْفِ الْبَدَنِ ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ ، وَأَنْحَلَتْهُمْ الْخَشْيَةُ ، حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ الْفِرَاخُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } اُخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْكُفَّارُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ السُّفَهَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { سَلَامًا } فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى حَسَنٍ وَسَدَادٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَوْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ .
قَالَ سِيبَوَيْهِ : لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ : [ تَسَلُّمُنَا مِنْكُمْ ] وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَمِ فِي دِينِهِمْ التَّسْلِيمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ .
وَفِي الإسرائليات : إنَّ عِيسَى مَرَّ بِهِ خِنْزِيرٌ فَقَالَ
لَهُ : اذْهَبْ بِسَلَامٍ حِينَ لَمْ يَقُلْ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ السَّلَامُ .
فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ .
فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ : { قَالُوا سَلَامًا } الْمَصْدَرَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ .
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك .
وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : سَلِمْت مِنِّي ، فَأَسْلَمُ مِنْك .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { لَمْ يُسْرِفُوا } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : لَمْ يُنْفِقُوا كَثِيرًا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ .
الثَّالِثُ : لَمْ يَتَمَتَّعُوا لِلنَّعِيمِ ، إذَا أَكَلُوا لِلْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَلَبِسُوا لِلسُّتْرَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صِحَاحٌ ، فَالنَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ ، فَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لِلَّذَّةِ جَائِزٌ ، وَلِلتَّقْوَى وَالسَّتْرِ أَفْضَلُ ، فَمَدَحَ اللَّهُ مَنْ أَتَى الْأَفْضَلَ ، وَإِنْ كَانَ مَا تَحْتَهُ مُبَاحًا .
وَإِذَا أَكْثَرَ رُبَّمَا افْتَقَرَ ، فَالتَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْلَى ، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ وَلِكَعْبٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَمْ يَقْتُرُوا } فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : لَمْ يَمْنَعُوا وَاجِبًا .
الثَّانِي : لَمْ يَمْنَعُوا عَنْ طَاعَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَوَامًا } يَعْنِي عَدْلًا ؛ وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ الْوَاجِبَ ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحَلَالِ فِي غَيْرِ دَوَامٍ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يَشْهَدُونَ الزُّورَ } فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الشِّرْكُ .
الثَّانِي : الْكَذِبُ .
الثَّالِثُ : أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
الرَّابِعُ : الْغِنَاءُ .
الْخَامِسُ : لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى بِالزُّورِ ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي يُشْتَمُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجْلِسٌ يُشْتَمُ فِيهِ النَّبِيُّ فَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الشِّرْكُ ؛ لِأَنَّ شَتْمَ النَّبِيِّ شِرْكٌ ، وَالْجُلُوسُ مَعَ مَنْ يَشْتُمُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا قَتْلٍ لَهُ شِرْكٌ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْكَذِبُ فَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلَى الْكَذِبِ يَرْجِعُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ فِصْحَ النَّصَارَى وَسَبْتَ الْيَهُودِ يُذْكَرُ فِيهِ الْكُفْرُ ؛ فَمُشَاهَدَتُهُ كُفْرٌ ، إلَّا لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ ، أَوْ عَلَى جَهْلٍ مِنْ الْمُشَاهِدِ لَهُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْغِنَاءُ فَلَيْسَ يَنْتَهِي إلَى هَذَا الْحَدِّ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقُلْنَا : إنَّ مِنْهُ مُبَاحًا وَمِنْهُ مَحْظُورًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ قِمَارٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى الْكُفْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } قَدْ بَيَّنَّا اللَّغْوَ ، وَأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَضَرَّةٌ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَقَدْ تَأَكَّدَ أَمْرُهُ فِي التَّحْرِيمِ ؛ وَذَلِكَ بِحَسْبِ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فِي اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ ، وَيَتَرَكَّبُ اللَّغْوُ عَلَى الزُّورِ ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنَى زَائِدٌ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِلَا كَلَامٍ .
ثُمَّ قَالَ : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ } يَعْنِي الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَكَرَّمُوا عَنْهُ ، حَتَّى قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ : إنَّهُ ذِكْرُ الرَّفَثِ ، وَيَكُونُ لَغْوًا مُجَرَّدًا إذَا كَانَ فِي الْحَلَالِ ، وَيَكُونُ زُورًا مُحَرَّمًا إذَا كَانَ فِي الْحَرَامِ ، وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدٌ إلَى ذِكْرِ الْفَرْجِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ جَازَ ذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا : { نِكْتَهَا } ؟ لَا تَكْنِي ، لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَعْنِي الَّذِينَ إذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ قَرَءُوهُ بِقُلُوبِهِمْ قِرَاءَةَ فَهْمٍ وَتَثَبُّتٍ ، وَلَمْ يَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ ؛ فَإِنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَثَبُّتٍ صَمَمٌ وَعَمًى عَنْ مُعَايَنَةِ وَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يُصَلِّي يَقْرَأُ سَجْدَةً فَسَجَدَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ إلَّا لِلْقَارِئِ وَحْدَهُ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَهَا مَالِكٌ ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَلَا الْقُرْآنَ ، وَقَرَأَ السَّجْدَةَ ؛ فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَسَ مَعَهُ جَلَسَ إلَيْهِ لِيَسْمَعَهُ فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ السَّمَاعَ مَعَهُ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إذَا كَانَ فِي صَلَاةٍ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ الَّذِي لَا يُصَلِّي مَعَهُ .
وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْهُ .
وَقِيلَ : مَعْنَى الْآيَةِ فِي الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ اعْتِبَارَ الْإِيمَانِ ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } مَعْنَاهُ أَنَّ النُّفُوسَ تَتَمَنَّى ، وَالْعُيُونَ تَمْتَدُّ إلَى مَا تَرَى مِنْ الْأَزْوَاجِ وَالذُّرِّيَّةِ ، حَتَّى إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ اجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيُّهُ مِنْ جَمَالٍ وَعِفَّةٍ وَنَظَرٍ وَحَوْطَةٍ ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ ذُرِّيَّتُهُ مُحَافِظِينَ عَلَى الطَّاعَةِ ، مُعَاوِنِينَ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى زَوْجِ أَحَدٍ ، وَلَا إلَى وَلَدِهِ ، فَتَسْكُنُ عَيْنُهُ عَنْ الْمُلَاحَظَةِ ، وَتَزُولُ نَفْسُهُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهَا ؛ فَذَلِكَ حِينَ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النَّفْسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا } مَعْنَاهُ قُدْوَةٌ .
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ " .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ " .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا بِمَنْ قَبْلَهُمْ فَاقْتَدَى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ .
وَكَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ يَقُولُ : الْإِمَامَةُ بِالدُّعَاءِ ، لَا بِالدَّعْوَى يَعْنِي بِتَوْفِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَيْسِيرِهِ وَهِبَتِهِ ، لَا بِمَا يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ ، وَيَرَى فِيهَا مَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ .
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : خَرَجَ مَعَ مُوسَى رَجُلَانِ مِنْ التُّجَّارِ إلَى الْبَحْرِ ، فَلَمَّا أَتَيَا إلَيْهِ قَالَا لَهُ : بِمَ أَمَرَك اللَّهُ ؟ قَالَ : أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَجِفُّ .
فَقَالَا لَهُ : افْعَلْ مَا أَمَرَك بِهِ رَبُّك ، فَلَنْ يُخْلِفَك .
ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ .
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِلْبَحْرِ : انْفَلِقْ .
قَالَ : لَقَدْ اسْتَكْبَرْت يَا مُوسَى ، مَا انْفَرَقْت لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَم ، فَأَنْفَلِقَ لَك .
فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ .
فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ الْبَحْرُ طَرِيقًا يَابِسًا .
فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى ، وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ ، انْصَبَّ عَلَيْهِمْ الْبَحْرُ ، وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ .
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى : مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ .
فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مَالِكٌ : دَعَا مُوسَى فِرْعَوْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّ السَّحَرَةَ آمَنُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَذْكُرُ مِنْ أَخْبَارِ الإسرائليات مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ ، أَوْ وَافَقَ السُّنَّةَ أَوْ الْحِكْمَةَ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ ؛ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَوَّلَ فِي جَامِعِ الْمُوَطَّأِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } : قَالَ مَالِكٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا ؛ وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ ، إذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَهُوَ الثَّنَاءُ الصَّالِحُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { وَأَلْقَيْت عَلَيْك مَحَبَّةً مِنِّي } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَ مِنْ وَلَدِهِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ مِنْ بَعْدِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ؛ فَقُبِلَتْ الدَّعْوَةُ وَلَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ إلَى مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَقِيلَ : إنَّ الْمَطْلُوبَ اتِّفَاقُ الْمِلَلِ كُلِّهَا عَلَيْهِ [ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ] ، فَلَا أُمَّةٌ إلَّا تَقُولُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ ، وَتَدَّعِيهِ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ وِلَايَةَ الْأُمَمِ كُلِّهَا إلَّا وِلَايَتَنَا ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُيُوخِ الزُّهْدِ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، أَوْ عِلْمٌ عَلَّمَهُ ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْخَمْسَةُ صَحِيحٌ أَثَرُهَا ؛ وَمَسْأَلَةُ الرِّبَاطِ حَسَنٌ سَنَدُهَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ الشِّرْكِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ : يَا بَنِيَّ ؛ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ .
قَالَ اللَّهُ : { إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وَقَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ لَدِيغٌ ، أَحْرَقَتْهُ الْمَخَاوِفُ ، وَلَدَغَتْهُ الْخَشْيَةُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مِنْ الشِّرْكِ ؛ فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهَا .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْقَلْبُ سَلِيمًا إذَا كَانَ حَقُودًا حَسُودًا ، مُعْجَبًا مُتَكَبِّرًا ، وَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِرَحْمَتِهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : فِي نُزُولِهَا خَبَرٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأُمَمِ ، وَوَعْظٌ مِنْ اللَّهِ لَنَا فِي مُجَانَبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِهِ ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : قَالَ نَافِعٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } قَالَ : يَعْنِي بِهِ السَّوْطَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ ؛ وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ مَالِكٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ مُوسَى : { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِاَلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْت نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ } .
وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَسُلَّ عَلَيْهِ سَيْفًا ، وَلَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ ؛ وَإِنَّمَا وَكَزَهُ ، فَكَانَتْ مَيْتَتُهُ فِي وَكْزَتِهِ .
وَالْبَطْشُ يَكُونُ بِالْيَدِ ، وَأَقَلُّهُ الْوَكْزُ وَالدَّفْعُ ، وَيَلِيهِ السَّوْطُ وَالْعَصَا ، وَيَلِيهِ الْحَدِيدُ ؛ وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ إلَّا بِحَقٍّ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي نُزُولِهَا : وَذَاكَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَحَرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعِدَ الصَّفَا ، ثُمَّ نَادَى : يَا صَبَاحَاهُ وَكَانَتْ دَعْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا دَعَاهَا الرَّجُلُ اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ عَشِيرَتُهُ ، فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهَا ، فَعَمَّ وَخَصَّ ، فَقَالَ : { أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا .
قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } .
قَالَ : { يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ : يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ لُؤَيٍّ : يَا آلَ قُصَيٍّ ، يَا آلَ عَبْدِ شَمْسٍ ؛ يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ ، يَا آلَ هَاشِمٍ ؛ يَا آلَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، يَا صَفِيَّةُ أُمَّ الزُّبَيْرِ ؛ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ؛ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا .
يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، يَا صَفِيَّةُ ، يَا فَاطِمَةُ ؛ سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلِيَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُتَّقُونَ ، فَإِنْ تَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَرَابَتِكُمْ فَذَلِكَ ، وَإِيَّايَ لَا يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ ، وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى أَعْنَاقِكُمْ ؛ فَأَصُدُّ بِوَجْهِي عَنْكُمْ ، فَتَقُولُونَ : يَا مُحَمَّدُ ، فَأَقُولُ : هَكَذَا وَصَرَفَ وَجْهَهُ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ ؛ غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا } .
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : أَلِهَذَا جَمَعْتنَا ، تَبًّا لَك سَائِرَ الْيَوْمِ .
فَنَزَلَتْ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ الْمَسَدُ : ] .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ آلَ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ ، وَإِنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ ، قَالَ : وَكَانَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ يَعْنِي بَعْدَ قَوْلِهِ " إلَيَّ " وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُد فِي جَمْعِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ شُعْبَةَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ ، فَقَالَ : { آلُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ ، إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : { لَا يَتَّكِلُ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ؛ لَا أَحِلُّ إلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَلَا أُحَرِّمُ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ، اعْمَلَا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَالشُّعَرَاءُ } الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنْ الْكَلَامِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُتَضَمَّنَاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَظِيمَ الْمَوْقِعِ حَتَّى قَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ : وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي كَانَ يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ : { إنَّهُ لَأَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ النَّبْلِ } .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، أَنْبَأَنَا الْبَرْمَكِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَيْوَةَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْغَنَوِيُّ ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زَحْرِ بْنِ حِصْنٍ عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ : { سَمِعْت جَدِّي خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ : هَاجَرْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ ، فَسَمِعْت الْعَبَّاسَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَك .
فَقَالَ : قُلْ ، لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ مُمْتَدِحًا : مِنْ قَبْلِهَا طِبْت فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ ثُمَّ هَبَطْت الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلَى رَحِمٍ إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ حَتَّى اسْتَوَى
بَيْنَك الْمُهَيْمِنُ مِنْ خِنْدِفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطْقُ وَأَنْتَ لَمَّا بُعِثْت أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِك الْأُفُقُ فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النُّورِ وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ } : يَعْنِي الْجَاهِلُونَ ، مِنْ الْغَيِّ ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِي الْعَقِيدَةِ ، فَيَكُونُ شِرْكًا ، وَيُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ .
وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ سَفَاهَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } : يَعْنِي يَمْشُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَحْصِيلٍ ، وَضَرَبَ الْأَوْدِيَةَ فِي السَّيْرِ مَثَلًا لِصُنُوفِ الْكَلَامِ فِي الشِّعْرِ ، لِجَرَيَانِ تِلْكَ سَيْلًا ، وَسَيْرِ هَؤُلَاءِ قَوْلًا ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ : فَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } : يَعْنِي مَا يَذْكُرُونَهُ فِي شِعْرِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالتَّفَاخُرِ ، وَالْغَزَلِ وَالشَّجَاعَةِ ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي صِفَةِ السَّيْفِ : تَظَلُّ تَحْفِرُ عَنْهُ إنْ ضَرَبْت بِهِ بَعْدَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْهَادِي فَهَذَا تَجَاوُزُ بَارِدٍ وَتَحَامُقُ جَاهِلٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رُوِيَ أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ، وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ، وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ } وَقَالُوا : هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } يَعْنِي ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ ، وَانْتَصَرُوا فِي رَدِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ هِجَائِهِمْ ، } .
كَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ : وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُك الْعَبْدُ وَمَا وَلَدَتْ أَفْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْكُمْ كَرِيمًا وَلَا يَقْرُبْ عَجَائِزَك الْمَجْدُ وَلَسْت كَعَبَّاسٍ وَلَا كَابْنِ أُمِّهِ وَلَكِنْ هَجِينٌ لَيْسَ يُورَى لَهُ زَنْدٌ وَإِنَّ امْرَأً كَانَتْ سُمَيَّةُ أُمَّهُ وَسَمْرَاءُ مَغْلُوبٌ إذَا بَلَغَ الْجَهْدُ وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَدْ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ .
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ : خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ عُمَرُ : يَا بْنَ رَوَاحَةَ ؛ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ الشِّعْرَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مِنْ الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ مِنْ الْبَاطِلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ ؛ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ ، وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ .
رُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ نَضْلَةَ
كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَلِيلَهَا بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ يَسُوءُنِي ذَلِكَ .
فَقَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَا فَعَلْت شَيْئًا مِمَّا قُلْت ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً مِنْ الْقَوْلِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَمَّا عُذْرُك فَقَدْ دَرَأَ عَنْك الْحَدَّ ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَقَدْ كَشَفَ الْخَلِيفَةُ الْعَدْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَقِيقَةَ أَحْوَالِ الشُّعَرَاءِ ، وَكَشَفَ سَرَائِرَهُمْ ، وَانْتَحَى مَعَايِبَهُمْ فِي أَشْعَارِهِمْ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَدَتْ إلَيْهِ الشُّعَرَاءُ ، كَمَا كَانَتْ تَفِدُ إلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ ، حَتَّى قَدِمَ عُدَيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ ، فَقَالَ : يَأَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ هَذَا زَمَانُك إنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إنْ كُنْت لَاقِيَهُ أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ وَحْشُ الْمَكَانَةِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَلَدِي نَائِي الْمَحَلَّةِ عَنْ دَارِي وَعَنْ وَطَنِي فَقَالَ : نَعَمْ ، أَبَا حَزْرَةَ وَنُعْمَى عَيْنٍ .
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنَّ الشُّعَرَاءَ بِبَابِك ، وَأَقْوَالُهُمْ بَاقِيَةٌ ، وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ .
فَقَالَ عُمَرُ : مَا لِي
وَلِلشُّعَرَاءِ ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى ، وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ .
قَالَ : وَمَنْ مَدَحَهُ ؟ قَالَ : عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ .
قَالَ : نَعَمْ ، فَأَنْشَدَهُ : رَأَيْتُك يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا نَشَرْت كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلِمَا سَنَنْت لَنَا فِيهِ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا عَنْ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا قَدْ تَكَلَّمَا تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إلَهِنَا وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا قَالَ : صَدَقْت ، فَمَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ابْنُ عَمِّك عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ .
قَالَ : لَا قَرَّبَ اللَّهُ قَرَابَتَهُ ، وَلَا حَيَّا وَجْهَهُ ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلُ : أَلَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ بَانُوا بِمَيْتَتِي شَمَمْت الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَيْك وَالْفَمِ وَلَيْتَ طَهُورِي كَانَ رِيقَك كُلَّهُ وَلَيْتَ حَنُوطِي مِنْ مُشَاشِك وَالدَّمِ وَيَا لَيْتَ سَلْمَى فِي الْقُبُورِ ضَجِيعَتِي هُنَالِكَ أَوْ فِي جَنَّةٍ أَوْ جَهَنَّمِ فَلَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا ؛ وَاَللَّهِ لَا دَخَلَ عَلَيَّ أَبَدًا .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ .
قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ : أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ يُوَافِي لَدَى الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحُهَا فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ إذَا قِيلَ قَدْ سَوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُهَا أَظَلُّ نَهَارِي لَا أَرَاهَا وَيَلْتَقِي مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا اُعْزُبْ بِهِ ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا .
فَمَنْ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : كُثَيِّرُ عَزَّةَ .
قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ : رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَاَلَّذِينَ عَهِدْتهمْ يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ الْعَذَابِ قُعُودَا لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْت كَلَامَهَا خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا اُعْزُبْ بِهِ .
فَمَنْ
بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : الْأَحْوَصُ الْأَنْصَارِيُّ .
قَالَ : أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارِيَةً لَهُ حَتَّى هَرَبَتْ مِنْهُ قَالَ : اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتَّبِعُ اُعْزُبْ بِهِ .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ الْفَرَزْدَقُ .
قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ يَفْخَرُ بِالزِّنَا : هُمَا دَلَّيَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ فِي الْأَرْضِ قَالَتَا أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ فَقُلْت ارْفَعُوا الْأَمْرَاسَ لَا يَشْعُرُوا بِنَا وَوَلَّيْت فِي أَعْقَابِ لَيْلٍ أُبَادِرُهْ اُعْزُبْ بِهِ .
فَوَاَللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : الْأَخْطَلُ التَّغْلِبِيُّ .
قَالَ : هُوَ الْقَائِلُ : فَلَسْت بِصَائِمٍ رَمَضَانَ عُمْرِي وَلَسْت بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِيّ وَلَسْت بِزَاجِرٍ عِيسًا رَكُوبًا إلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ وَلَسْت بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ يَدْعُو قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ اُعْزُبْ بِهِ ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئَ بِسَاطِي .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيُّ قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ : لَوْلَا مُرَاقَبَةُ الْعُيُونِ أَرَيْتنَا مُقَلَ الْمَهَا وَسَوَالِفَ الْآرَامِ ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ طَرَقَتْك صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهَذَا ، فَأْذَنْ لَهُ فَخَرَجْت إلَيْهِ ، فَقُلْت : اُدْخُلْ أَبَا حَزْرَةَ ، فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ : إنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ وَسِعَ الْبَرِيَّةَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ إنِّي لَأَرْجُو مِنْك خَيْرًا عَاجِلًا وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ
الْعَاجِلِ فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ يَا جَرِيرُ ، وَلَا تَقُلْ إلَّا حَقًّا ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ : كَمْ بِالْيَمَامَةِ مِنْ شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ مِمَّنْ يَعُدُّك تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ كَالْفَرْخِ فِي الْعُشِّ لَمْ يَدْرُجْ وَلَمْ يَطِرْ إنَّا لَنَرْجُو إذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا مِنْ الْخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنْ الْمَطَرِ أَتَى الْخِلَافَةَ إذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ النَّطْرُونِيُّ الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَّيْت حَاجَتَهَا فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ فَقَالَ : يَا جَرِيرُ لَقَدْ وُلِّيت هَذَا الْأَمْرَ ، وَمَا أَمْلِكُ إلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ ، وَمِائَةٌ أَخَذَتْهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ ، يَا غُلَامُ ، أَعْطِهِ الْمِائَةَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّهَا لَأَحَبُّ مَالٍ كَسَبْتُهُ إلَيَّ .
ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاءُ : مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ : مَا يَسُوءُكُمْ ، خَرَجْت مِنْ عِنْدِ أَمِيرٍ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ ، وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ ، وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : رَأَيْت رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنْ الْجِنِّ رَاقِيَا وَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَفَدَ إلَيْهِ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ : حَكَيْت لَنَا الْفَارُوقَ لَمَّا وَلِيتَنَا وَعُثْمَانَ وَالصِّدِّيقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ وَسَوَّيْت بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فَاسْتَوَوْا فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّوْنِ مُظْلِمُ أَتَاك أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الْفَلَاةِ عَثَمْثَمُ لِتَجْبُرَ مِنَّا جَانِبًا دَعْدَعَتْ بِهِ صُرُوفُ اللَّيَالِيِ وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ : هَوِّنْ عَلَيْك أَبَا لَيْلَى ، فَالشِّعْرُ أَدْنَى وَسَائِلُكَ عِنْدَنَا ، أَمَّا صَفْوَةُ مَالِنَا فَلِآلِ الزُّبَيْرِ ، وَأَمَّا عَفْوَتُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ وَتَمِيمًا شَغَلَاهَا عَنْك ، وَلَكِنْ لَك فِي مَالِ اللَّهِ سَهْمَانِ
: سَهْمٌ بِرُؤْيَتِك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمٌ بِشَرِكَتِك أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ ، وَدَخَلَ دَارَ الْمَغْنَمِ فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا ، وَجَمَلًا رَحِيلًا ، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا ، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ ، وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا .
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : وَيْحَ أَبِي لَيْلَى ، لَقَدْ بَلَغَ بِهِ الْجَهْدُ ، فَقَالَ النَّابِغَةُ : أَشْهَدُ ، لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَا وَلِيَتْ ؟ ؟ قُرَيْشٌ فَعَدَلَتْ ، وَلَا اُسْتُرْحِمَتْ فَرُحِمَتْ ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ ، وَوَعَدَتْ فَأَنْجَزَتْ ، فَأَنَا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطُ الْقَاصِفِينَ } .
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : فَكَأَنَّ الْفَارِطَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ إلَى الْمَاءِ يُصْلِحُ الرِّشَاءَ وَالدِّلَاءَ .
وَالْقَاصِفُ : الَّذِي يَتَقَدَّمُ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهِ : أَمَّا الِاسْتِعَارَاتُ وَالتَّشْبِيهَاتُ فَمَأْذُونٌ فِيهَا وَإِنْ اسْتَغْرَقَتْ الْحَدَّ ، وَتَجَاوَزَتْ الْمُعْتَادَ ، فَبِذَلِكَ يَضْرِبُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرُّؤْيَا الْمَثَلَ ، وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا إلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مِنْ الِاسْتِعَارَاتِ وَالتَّشْبِيهَاتِ بِكُلِّ بَدِيعٍ .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ وَلَا يُنْكِرُ ، حَتَّى فِي تَشْبِيهِ رِيقَهَا بِالرَّاحِ .
وَقَدْ كَانَتْ حَرُمَتْ قَبْلَ إنْشَادِهِ لِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهَا لَمْ يَمْنَعْ عِنْدَهُمْ طِيبَهَا ؛ بَلْ تَرَكُوهَا عَلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالِاسْتِحْسَانِ لَهَا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأُجُورِهِمْ ، وَمِنْ النَّاسِ قَلِيلٌ مَنْ يَتْرُكُهَا اسْتِقْذَارًا لَهَا ، وَإِنَّهَا
لَأَهْلٌ لِذَلِكَ عِنْدِي ، وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ النَّاسِ فِي تَلَذُّذِهِمْ بِهَا وَاسْتِطَابَتِهِمْ لَهَا ، و وَاَللَّهِ مَا هِيَ إلَّا قَذِرَةٌ بَشِعَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَاَللَّهُ يَعْصِمُ مِنْ الْمَعَاصِي بِعِزَّتِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ الشِّعْرُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ قَوْلَهُ وَزَمَانَهُ ، فَذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا مَعْبُودَ إلَّا إيَّاهُ .
سُورَةُ النَّمْلِ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } .
وَأَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، إنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد } قُلْنَا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَرَادَ بِالْإِرْثِ هَاهُنَا نُزُولَهُ مَنْزِلَتَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ ، وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا وَأُنْثَى ، فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ ، وَلَوْ كَانَتْ وِرَاثَةَ مَالٍ لَانْقَسَمَتْ عَلَى الْعَدَدِ ، فَخَصَّهُ بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ ، وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي مَنْطِقِ الطَّيْرِ ، وَهُوَ صَوْتٌ تَتَفَاهَمُ بِهِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ ، بِخِلَافِ مَنْطِقِنَا ، فَإِنَّهُ عَلَى صِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ ، نَفْهَمُ بِهِ مَعَانِيَهَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَفِي الْمُوَاضَعَاتِ غَرَائِبُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْتَ الْبُوقِ تُفْهَمُ مِنْهُ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ حَلٍّ وَتَرْحَالٍ ، وَنُزُولٍ وَانْتِقَالٍ ، وَبَسْطٍ وَرَبْطٍ ، وَتَفْرِيقٍ وَجَمْعٍ ، وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ ، بِحَسْبِ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ .
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُنَا مُمَوَّسٌ الدُّرَيْدِيُّ يَقْرَأُ مَعَنَا بِبَغْدَادَ ، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ كَلَامُهُمْ حُرُوفُ الشَّفَتَيْنِ ، لَيْسَ لِحُرُوفِ الْحَلْقِ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ .
فَجَعَلَ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ مُعْجِزَةَ فَهْمِ كَلَامِ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّيْرَ لِأَجْلِ سَوْقِ قِصَّةِ الْهُدْهُدِ بَعْدَهَا .
أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّمْلِ مَعَهَا ، وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّيْرِ .
وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا لَهَا أَفْهَامٌ وَعُقُولٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْحَمَامُ أَعْقَلُ الطَّيْرِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِيِّينَ : اُنْظُرُوا إلَى النَّمْلَةِ كَيْفَ تُقَسِّمُ كُلَّ حَبَّةٍ تَدَّخِرُهَا نِصْفَيْنِ لِئَلَّا يَنْبُتَ الْحَبُّ ، إلَّا حَبَّ الْكُزْبَرَةِ فَإِنَّهَا تُقَسِّمُ الْحَبَّةَ مِنْهُ عَلَى أَرْبَعٍ ؛ لِأَنَّهَا إذَا قُسِّمَتْ بِنِصْفَيْنِ تَنْبُتُ ، وَإِذَا قُسِّمَتْ بِأَرْبَعَةِ أَنْصَافٍ لَمْ تَنْبُتْ .
وَهَذِهِ مِنْ غَوَامِضِ الْعُلُومِ عِنْدَنَا ، وَأَدْرَكَتْهَا النَّمْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهَا .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمُظَفَّرِ شَاهْ نُورٍ الْإسْفَرايِينِيّ : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُدْرِكَ الْبَهَائِمُ حُدُوثَ الْعَالَمِ ، وَخَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَوَحْدَانِيَّةَ الْإِلَهِ ، وَلَكِنَّا لَا نَفْهَمُ عَنْهُمْ ، وَلَا تَفْهَمُ عَنَّا ، أَمَّا أَنَّا نَطْلُبُهَا وَهِيَ تَفِرُّ مِنَّا فَبِحُكْمِ الْجِنْسِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ النَّبِيَّ مَرَّ عَلَى قَصْرٍ بِالْعِرَاقِ ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ : خَرَجْنَا مِنْ قُرَى إصْطَخْرِ إلَى الْقَصْرِ فَقُلْنَاهُ فَمَنْ سَالَ عَنْ الْقَصْرِ فَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ وَعَلَى الْقَصْرِ نَسْرٌ ، فَنَادَاهُ سُلَيْمَانُ ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : مُذْ كَمْ أَنْتَ هَاهُنَا ؟ قَالَ : مُذْ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ .
وَوَجَدْت الْقَصْرَ عَلَى هَيْئَتِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : قَرَأْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرِ النَّجِيبِ بْنِ الْأَسْعَدِ قَالَ : أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَتُّوحٍ الرُّصَافِيُّ ، أَنْبَأَنَا الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرِّفَاعِيُّ ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِأَصْبَهَانَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْإِفْرِيقِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد يَرْكَبُ الرِّيحَ مِنْ إصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَعَشَّى بِإِصْطَخْرِ .
فَقَالَ : إنَّ ابْنَ حَبِيبٍ أَدْرَكَ مَالِكًا ، وَمَا أَرَاهُ وَلَا هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مَقْطُوعًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يُوزَعُونَ } يَعْنِي يَمْنَعُونَ وَيَدْفَعُونَ ، وَيَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى يُلْهَمُونَ مِنْ قَوْلِهِ : { أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك } أَيْ أَلْهِمْنِي .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُولَى ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ رُدَّنِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ قَالَ : قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : قَالَ عُثْمَانُ : مَا يَزَعُ النَّاسَ السُّلْطَانُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُهُمْ الْقُرْآنُ .
قَالَ مَالِكٌ : يَعْنِي يَكُفُّهُمْ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلُهُ ، وَزَادَ ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أَيْ يُكَفُّونَ .
وَقَدْ جَهِلَ قَوْمٌ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ السُّلْطَانِ تَرْدَعُ النَّاسَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْدَعُهُمْ حُدُودُ الْقُرْآنِ .
وَهَذَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ لِخَلْقِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا وَضَعَ الْحُدُودَ إلَّا مَصْلَحَةً عَامَّةً كَافَّةً قَائِمَةً بِقِوَامِ الْحَقِّ ، لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَانَ مَعَهَا ، وَلَا يَصْلُحُ سِوَاهَا ، وَلَكِنَّ الظَّلَمَةَ خَاسُوا بِهَا ، وَقَصَّرُوا عَنْهَا ، وَأَتَوْا مَا أَتَوْا بِغَيْرِ نِيَّةٍ مِنْهَا ، وَلَمْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَا ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعْ الْخَلْقُ بِهَا .
وَلَوْ حَكَمُوا بِالْعَدْلِ ؛ وَأَخْلِصُوا النِّيَّةَ ، لَاسْتَقَامَتْ الْأُمُورُ ، وَصَلُحَ الْجُمْهُورُ ؛ وَقَدْ شَاهَدْتُمْ مِنَّا إقَامَةَ الْعَدْلِ وَالْقَضَاءَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ ، وَالْكَفَّ لِلنَّاسِ بِالْقِسْطِ ، وَانْتَشَرَتْ الْأَمَنَةُ ، وَعَظُمَتْ الْمَنَعَةُ ، وَاتَّصَلَتْ فِي الْبَيْضَةِ الْهُدْنَةُ ، حَتَّى غَلَبَ قَضَاءُ اللَّهِ بِفَسَادِ الْحَسَدَةِ ، وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَأَيْت بَعْضَ الْبَصْرِيِّينَ قَدْ قَالَ : إنَّ النَّمْلَةَ كَانَ لَهَا جَنَاحَانِ ، فَصَارَتْ فِي جُمْلَةِ الطَّيْرِ ، وَلِذَلِكَ فَهِمَ مَنْطِقَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ؛ وَهَذَا نُقْصَانٌ عَظِيمٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ الطَّيْرِ خُصُوصًا دُونَ سَائِرِ الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ ، وَمَا لَا يَعْقِلُ .
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْهَمُ كَلَامَ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ ، وَيُخْلَقُ لَهُ فِيهِ الْقَوْلُ مِنْ النَّبَاتِ ؛ فَكَانَ كُلُّ نَبَاتٍ يَقُولُ لَهُ : أَنَا شَجَرَةُ كَذَا ، أَنْفَعُ مِنْ كَذَا ، وَأَضُرُّ مِنْ كَذَا ، وَفَائِدَتِي كَذَا ، فَمَا ظَنُّك بِالْحَيَوَانِ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فَانْظُرْ إلَى فَهْمِهَا بِأَنَّ جُنْدَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُؤْذِي نَمْلَةً مَعَ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ ، وَالْعِلْمِ بِهِ ، تَقِيَّةً لِسُلَيْمَانَ ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ التَّقِيَّ وَالْفَاجِرَ ، وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ ؛ إذْ كَانَ فِيهِمْ الشَّيَاطِينُ .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ جَيْشِ مُحَمَّدٍ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } .
وَهَذَا مِنْ فَضَائِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَفِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ مِنْ كِتَابِ " أَنْوَارِ الْفَجْرِ " .
وَقَدْ انْتَهَى الْجَهْلُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا : إنَّ مَعْنَاهُ : وَالنَّمْلُ لَا يَشْعُرُونَ ، فَخَرَجَ مِنْ خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ إلَى خِطَابِ الْغَائِبِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ إلَّا إبْطَالَ الْمُعْجِزَةِ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّقْوِيمِ .
كَمَا انْتَهَى الْإِفْرَاطُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا : إنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّمْلَةِ لَهُ أَنْ قَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ أَرَى لَك مُلْكًا عَظِيمًا ، فَمَا أَعْظَمُ جُنْدِك ؟ قَالَ لَهَا : تَسْخِيرُ الرِّيحِ .
قَالَتْ لَهُ : إنَّ اللَّهَ أَعْلَمَك أَنَّ كُلَّ مَا أَنْتَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا رِيحٌ .
وَمَا أَحْسَنُ الِاقْتِصَادَ ، وَأَضْبَطُ السَّدَادَ لِلْأُمُورِ وَالِانْتِقَادَ ،
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِك فِي عِبَادِك الصَّالِحِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي التَّبَسُّمِ : وَهُوَ أَوَّلُ الضَّحِكِ ، وَآخِرُهُ بُدُوُّ النَّوَاجِذِ ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الْقَهْقَهَةِ ، وَجُلُّ ضَحِكِ الْأَنْبِيَاءِ التَّبَسُّمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مِنْ الضَّحِكِ مَكْرُوهٌ ، لِقَوْلِهِ : { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَانَ لَا يَضْحَكُ ؛ اهْتِمَامًا بِنَفْسِهِ وَفَسَادِ حَالِهِ فِي اعْتِقَادِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا طَائِعًا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَضْحَكُ ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْكُفَّارِ : { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا } لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ النِّفَاقِ يَعْنِي ضَحِكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَا أَمْرٌ بِالضَّحِكِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رِفَاعَةُ طَلَّقَهَا فَبَتَّ طَلَاقَهَا ، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ الْهُدْبَةُ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَخَالِدٌ جَالِسَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ ، فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي : يَا أَبَا بَكْرٍ ، اُنْظُرْ مَا تَجْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ .
ثُمَّ قَالَ : لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ .
} الْحَدِيثَ .
{ وَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ
قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ ؛ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ ، فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ .
فَقَالَ : أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، فَقَالَ : عَجِبْت مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي ، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَك تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ بِالطَّائِفِ قَالَ : إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَفْتَحَهَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاغْدُوَا عَلَى الْقِتَالِ .
قَالَ : فَغَدَوْا ، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَكَثُرَتْ الْجِرَاحَاتُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ : فَسَكَتُوا .
قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَكْت ، وَأَهْلَكْت ، وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ .
قَالَ : اعْتِقْ رَقَبَةً .
قَالَ : لَيْسَ لِي مَالٌ .
قَالَ : فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ .
قَالَ : فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قَالَ : لَا أَجِدُ .
قَالَ : فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ بِعَرَقِ تَمْرٍ .
وَالْعَرَقُ : الْمِكْتَلُ .
فَقَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ تَصَدَّقْ بِهَذَا قَالَ : أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي ، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا .
فَضَحِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ .
قَالَ : فَأَنْتُمْ إذًا } .
وَلَمَّا سَأَلَهُ النَّاسُ الْمَطَرَ فَأُمْطِرُوا ، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصَّحْوَ ضَحِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ قِيلَ : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ سُلَيْمَانُ ؟ قُلْنَا :
فِيهِ أَقْوَالٌ : أَصَحُّهَا أَنَّهُ ضَحِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْجَيْشِ وَعَظِيمِ الطَّاعَةِ ، حَتَّى لَا يَكُونَ اعْتِدَاءً .
وَلِذَلِكَ قَالَ : { أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } وَهُوَ حَقِيقَةُ الشُّكْرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ تَفَقُّدِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تُظِلُّ سُلَيْمَانُ مِنْ الشَّمْسِ حَتَّى تَصِيرَ عَلَيْهِ صَافَّاتٍ ، كَالْغَمَامَةِ ، فَطَارَ الْهُدْهُدُ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَأَصَابَتْ الشَّمْسُ سُلَيْمَانَ ، فَتَفَقَّدَهُ حِينَئِذٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ الْمَاءَ ، فَكَانَ يَنْزِلُ بِجَيْشِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ : اُنْظُرْ بُعْدَ الْمَاءِ مِنْ قُرْبِهِ ، فَيُشِيرُ لَهُ إلَى بِقْعَةٍ ، فَيَأْمُرُ الْجِنَّ فَتَسْلُخُ الْأَرْضَ سَلْخَ الْأَدِيمِ ، حَتَّى تَبْلُغَ الْمَاءَ ، فَيَسْتَقِي وَيَسْقِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ سُلَيْمَانُ : مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ .
وَلَمْ يَقُلْ : مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ ، قَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّهِيدُ : قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ وَشَيْخُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ : إنَّمَا قَالَ : [ مَالِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ] ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ ؟ إذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَمَلِ .
فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا ، فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ ، فَقَالَ : مَالِي ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ إذَا فَقَدُوا آمَالَهُمْ تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ .
هَذَا فِي الْآدَابِ ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ ، وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ مِنْ سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ ، فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ ؟ وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ قَالَ : " لَوْ
أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ ، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ ، الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ هَذَا : قِفْ يَا وَقَّافٍ .
كَيْفَ يَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَلَا يَرَى الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدِيهَةً : إذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَشِيَ الْبَصَرُ .
وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التِّنِّيسِيُّ الْوَاعِظُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى : إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَسَلَّهُ مِنْ ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ حَتَّى إذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ كَانُوا مُكَلَّفِينَ ؛ إذْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ إلَّا مَنْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْفِعْلَ ، وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَهْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ سُلَيْمَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَمَارَاتِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلطَّيْرِ عَقْلٌ ، وَلَا كَانَ لِلْبَهَائِمِ عِلْمٌ ، وَلَا أُوتِيَ سُلَيْمَانُ عِلْمَ مَنْطِقِ الطَّيْرِ .
وَقَاتَلَهُمْ اللَّهُ ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْخَلْقِ فَضْلًا عَنْ الْخَالِقِ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ الْهُدْهُدُ صَغِيرَ الْجُرْمِ ، وَوُعِدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِعَظِيمِ الْجُرْمِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ ، أَمَّا إنَّهُ يُرْفَقُ بِالْمَحْدُودِ فِي الزَّمَانِ وَالصِّفَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَحْكَامِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ ، وَالْمُتَعَلِّمُ لِلْعَالِمِ : عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَك ، إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آدَابِ الْعِلْمِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هِيَ بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ مَلِكَةُ سَبَأٍ ، وَأُمُّهَا جِنِّيَّةٌ بِنْتُ أَرْبَعِينَ مَلِكًا .
وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ .
وَيَقُولُونَ : إنَّ الْجِنَّ لَا يَأْكُلُونَ ، وَلَا يَلِدُونَ وَكَذَبُوا لَعَنَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ .
ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ مَعَ الْإِنْسِ جَائِزٌ عَقْلًا .
فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِلَّا بَقَيْنَا عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ .
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَأٍ : هُوَ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلَادٍ ، وَكَانَ لَهُمْ خَبَرٌ فَسَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ } ، أَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ الْقَبِيلَةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ .
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ ، قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ ، فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي .
فَلَمَّا خَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ سَأَلَ عَنِّي مَا فَعَلَ الْقَطِيفِيُّ ؟ فَأَخْبَرَ بِأَنِّي قَدْ سِرْت .
قَالَ : فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي ، فَأَتَيْته ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : اُدْعُ الْقَوْمَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ لَك .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سَبَأٍ مَا أَنْزَلَ .
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا سَبَأٌ ؟ أَرْضٌ أَوْ امْرَأَةٌ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ ؟ فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ .
وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ ، وَحِمْيَرُ ، وَكِنْدَةُ ، وَمِذْحَجُ ، وَأَنْمَارٌ .
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَمَا أَنْمَارُ ؟ قَالَ : الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبُجَيْلَةُ } .
وَرُوِيَ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ آخَرُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا مَاتَ وَلَّى قَوْمُهُ بِنْتَهُ : لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ إمَامِ الدِّينِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً ؛ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ ؛ وَلَعَلَّهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا [ إنَّمَا ] تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ ، وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَنْشُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ ، إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالنِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَسَبِيلِ التَّحْكِيمِ أَوْ الِاسْتِبَانَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } .
وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ ، وَلَمْ يَصِحَّ ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ .
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِي مَعَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ طَرَارٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ، فَمَاحَلَ وَنَصَرَ ابْنُ طَرَارٍ لِمَا يُنْسَبُ إلَى ابْنِ جَرِيرٍ ، عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ التَّجَادُلُ عَلَى الْمَذَاهِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا بِهَا اسْتِخْرَاجًا لِلْأَدِلَّةِ وَتَمَرُّنًا فِي الِاسْتِنْبَاطِ لِلْمَعَانِي ؛ فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَحْكُمَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْأَحْكَامِ تَنْفِيذُ الْقَاضِي لَهَا ، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهَا ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ مِنْ الْمَرْأَةِ ، كَإِمْكَانِهِ مِنْ الرَّجُلِ .
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ
، وَنَقَضَ كَلَامَهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا حِفْظُ الثُّغُورِ ، وَتَدْبِيرُ الْأُمُورِ ، وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ ، وَقَبْضُ الْخَرَاجِ ، وَرَدُّهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ ، وَذَلِكَ يَتَأَتَّى مِنْ الْمَرْأَةِ كَتَأَتِّيه مِنْ الرَّجُلِ .
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ : هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ .
فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَصْلُ الشَّرْعِ .
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّقْضِ ، يُرِيدُ : وَالنَّقْضُ لَا يُعَلَّلُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إلَى الْمَجَالِسِ ، وَلَا تُخَالِطَ الرِّجَالَ ، وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِيرِ ، لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا وَكَلَامُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً بَرْزَةً لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ ، وَتَكُونُ مَنْظَرَةً لَهُمْ ، وَلَمْ يُفْلِحْ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا ، وَلَا مَنْ اعْتَقَدَهُ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ } لَمْ يُعَاقِبْهُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَذَرَ لَهُ ، وَلَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ ، وَلِذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .
وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ ذَلِكَ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ، كَمَا فَعَلَ سُلَيْمَانُ ؟ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ [ الْهُدْهُدُ ] : { إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } لَمْ يَسْتَفِزَّهُ الطَّمَعُ ، وَلَا اسْتَجَرَّهُ حُبُّ الزِّيَادَةِ فِي الْمِلْكِ إلَى أَنْ يَعْرِضَ لَهُ ، حَتَّى قَالَ : { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، حِينَئِذٍ غَاظَهُ مَا سَمِعَ ، وَطَلَبَ الِانْتِهَاءَ إلَى مَا أَخْبَرَ ، وَتَحْصِيلَ عِلْمِ مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى يُغَيِّرَهُ بِالْحَقِّ ، وَيَرُدَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ عَنْ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ ، وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينَهَا ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا ؟ قُلْت : أَنَا يَعْنِي الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَقَالَ : مَا هُوَ ؟ قُلْت : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ } .
فَقَالَ : " لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيءَ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ " فَخَرَجْت ، فَوَجَدْت مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ ، فَجِئْت بِهِ ، فَشَهِدَ .
وَكَانَ هَذَا تَثَبُّتًا مِنْ عُمَرَ احْتَجَّ بِهِ لِنَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ فَتَوَقَّفَ فِيمَا قَالَ لِأَجْلِ قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَوْ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : سَنَنْظُرُ فِي أَمْرِك
لَاجْتَزَأَ بِهِ ، وَلَكِنَّ الْهُدْهُدَ لَمَّا صَرَّحَ لَهُ بِفَخْرِ الْعِلْمِ ، { فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } صَرَّحَ لَهُ سُلَيْمَانُ بِأَنَّهُ سَيَنْظُرُ ، أَصَدَقَ أَمْ كَذَبَ فَكَانَ ذَلِكَ كُفُؤًا لِمَا قَالَهُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { كِتَابٌ كَرِيمٌ } فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لِخَتْمِهِ ، وَكَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ .
الثَّانِي : لِحُسْنِ مَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةٍ وَإِصَابَةِ مَعْنًى .
الثَّالِثُ : كَرَامَةُ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكٌ .
الرَّابِعُ : كَرَامَةُ رَسُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَائِرٌ ؛ وَمَا عُهِدَتْ الرُّسُلُ مِنْهَا .
الْخَامِسُ : لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ .
السَّادِسُ : لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا الْجُلَّةُ .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ : لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنِّي أَقِرُّ لَك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَا اسْتَطَعْت ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا لَك بِذَلِكَ .
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحَدٌ قَبْلَ سُلَيْمَانَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْوَصْفُ الْكَرِيمُ فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .
وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ ، وَبِالْأَثِيرِ ، وَبِالْمَبْرُورِ ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا : الْعَزِيزَ ؛ وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً ، وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً .
فَأَمَّا الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ فَقَدْ اتَّصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا ؛ فَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } .
فَهَذِهِ عِزَّتُهُ ، وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ إلَّا لَهُ ؛ فَاجْتَنِبُوهَا فِي كُتُبِكُمْ ، وَاجْعَلُوا بَدَلَهَا الْعَالِيَ ، تَوْقِيَةً لِحَقِّ الْوِلَايَةِ ، وَحِيَاطَةً لِلدِّيَانَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِإِجْمَاعٍ ؛ وَلِذَلِكَ إنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لَمْ يَكْفُرْ ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا .
وَلَا يَكْفُرُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ مَا يُجْمِعُ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ } .
فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُشَاوَرَةِ إمَّا اسْتِعَانَةً بِالْآرَاءِ ، وَإِمَّا مُدَارَاةً لِلْأَوْلِيَاءِ .
وَيُقَالُ : إنَّهَا أَوَّلُ مَنْ جَاءَ أَنَّهُ شَاوَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَشُورَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْفُضَلَاءَ بِقَوْلِهِ : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يُرْوَى أَنَّهَا قَالَتْ : إنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا قَبِلَهَا .
وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ ، وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ .
وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّةَ .
وَإِنَّمَا جَعَلَتْ بِلْقِيسُ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ أَوْ رَدَّهَا عَلَامَةً عَلَى مَا فِي نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا فِي كِتَابِهِ : { أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .
وَهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ فِدْيَةٌ ، وَلَا تُؤْخَذُ عَنْهُ هَدِيَّةٌ .
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْبَابِ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ بِسَبِيلٍ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ رِشْوَةٌ ، وَبَيْعُ الْحَقِّ بِالْمَالِ هُوَ الرِّشْوَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ .
وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلتَّحَبُّبِ وَالتَّوَاصُلِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مُشْرِكٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُشْرِكٍ ، فَفِي الْحَدِيثِ : { نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ } .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { لَقَدْ هَمَمْت أَلَّا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ } .
وَالصَّحِيحُ مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت } .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي الصَّيْدِ : هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
فَنَاوَلْته الْعَضُدَ } .
{ وَقَدْ اسْتَسْقَى فِي دَارِ أَنَسٍ فَحُلِبَتْ لَهُ شَاةٌ وَشِيبٌ وَشَرِبَهُ } .
{ وَأَهْدَى أَبُو طَلْحَةَ لَهُ وَرِكَ أَرْنَبٍ وَفَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ } .
{ وَأَهْدَتْ أُمُّ حَفِيدٍ إلَيْهِ أَقِطًا وَسَمْنًا وَضَبًّا ، فَأَكَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَقِطِ وَالسَّمْنِ ، وَتَرَكَ الضَّبَّ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ : { هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } .
وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُكَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَا الْفَائِدَةُ فِي طَلَبِ عَرْشِهَا ؟ : قِيلَ : فِيهِ أَرْبَعُ فَوَائِدَ : الْفَائِدَةُ الْأُولَى : أَحَبَّ أَنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ الْهُدْهُدِ .
الثَّانِيَةُ : أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ ، فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ مَالُهَا .
الثَّالِثَةُ : أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ عَقْلَهَا فِي مَعْرِفَتِهَا بِهِ .
الرَّابِعَةُ : أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ ؛ لِأَخْذِهِ مِنْ ثِقَاتِهَا دُونَ جَيْشٍ وَلَا حَرْبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ وَهِيَ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْإِرْسَالِ إلَيْهَا إظْهَارَ نُبُوَّتِهِ ، وَيَرْجِعُ إلَيْهَا مُلْكُهَا بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ بِهِ عِنْدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُك } فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ لَا تُسَاوِي سَمَاعَهَا ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يَعْلَمُهُ .
وَلَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيك بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُك } قَالَ : كَانَتْ بِالْيَمَنِ ، وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالشَّامِ ، أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّ هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ بِالْعَرْشِ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تُعْدَمَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ .
وَإِمَّا أَنْ يُعْدَمَ الْعَرْشُ بِالْيَمَنِ ، وَيُوجَدُ بِالشَّامِ ، وَالْكُلُّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ هَيِّنٌ ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمَّا صَانَ اللَّهُ بِالْقِصَاصِ فِي أُهُبِهَا الدِّمَاءَ ، وَعَلَيْهَا تَسَلَّطَ عَلَمُ الْأَعْدَاءِ ، شَرَعَ الْقَسَامَةَ بِالتُّهْمَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَاعْتَبَرَ فِيهَا التُّهْمَةَ ، وَقَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي الدِّمَاءِ وَالِاعْتِدَاءِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْتَبَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ فِي الْقَسَامَةِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَجْلِ طَلَبِ الْيَهُودِ ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ أَتَوْا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا ، فَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ : قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا .
قَالُوا : مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ .
وَقَالَ عُمَرُ حِينَ قَدَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْيَهُودَ : أَنْتُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ : أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا .
فَأَبَوْا ، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ : أَتَحْلِفُونَ قَالُوا : نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودَ } ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
سُورَةُ الْقَصَصِ فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ : الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { فَارِغًا } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الثَّانِي : فَارِغًا مِنْ وَحْيِنَا يَعْنِي بِسَبَبِهِ .
الثَّالِثُ : فَارِغًا مِنْ الْعَقْلِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ؛ يُرِيدُ امْتَلَأَ وَلَهًا ، يُرْوَى أَنَّهَا لَمَّا رَمَتْهُ فِي الْبَحْرِ جَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا : لَوْ حَبَسْتِهِ فَذُبِحَ فَتَوَلَّيْت دَفْنَهُ ، وَعَرَفْت مَوْضِعَهُ ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ قَتَلْتِهِ أَنْتِ .
وَسَمِعَتْ ذَلِكَ ، فَفَرَغَ فُؤَادُهَا مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ الْوَحْيِ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ رَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا بِالصَّبْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَعْظَمِ آيِ الْقُرْآنِ فَصَاحَةً ؛ إذْ فِيهَا أَمْرَانِ وَنَهْيَانِ وَخَبَرَانِ وَبِشَارَتَانِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي اللَّقِيطِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { فَاسْتَغَاثَهُ } طَلَبَ غَوْثَهُ وَنُصْرَتَهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا : { فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } وَإِنَّمَا أَغَاثَهُ ؛ لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ دَيْنٌ فِي الْمِلَلِ كُلِّهَا ، وَفَرْضٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَصْرُ الْمَظْلُومِ } .
وَفِيهِ أَيْضًا : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا } .
فَنَصْرُهُ ظَالِمًا كَفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ ؛ وَإِنَّمَا دَفْعَهُ فَكَانَتْ فِيهِ نَفْسُهُ ، وَذَلِكَ قَتْلُ خَطَأٍ ، وَلَكِنَّهُ فِي وَقْتٍ لَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِقَتْلٍ وَلَا قِتَالٍ ، فَلِذَلِكَ عَدَّهُ ذَنْبًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلِينَ فِي بَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { مَا خَطْبُكُمَا } إنَّمَا سَأَلَهُمَا شَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِمَا وَرِقَّةً ؛ وَلَمْ تَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْ فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ حَجَبَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } يَعْنِي لِضَعْفِنَا لَا نَسْقِي إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الرِّعَاءِ مِنْ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ .
وَقِيلَ : كَانَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ الْبِئْرِ ، فَإِذَا كَمُلَ سَقْيُ الرِّعَاءِ رَدُّوا عَلَى الْبِئْرِ حَجَرَهَا ، فَإِنْ وُجِدَ فِي الْحَوْضِ بَقِيَّةٌ كَانَ ذَلِكَ سَقْيَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ عَطِشَتْ غَنَمُهُمَا ؛ فَرَقَّ لَهُمَا مُوسَى ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ عَشَرَةٌ ، وَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ رَدَّهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمَا لِأَبِيهِمَا : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } وَهِيَ :
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ : يَا بُنَيَّةُ ، هَذِهِ قُوَّتُهُ ، فَمَا أَمَانَتُهُ ؟ قَالَتْ : إنَّكَ لَمَّا أَرْسَلْتنِي إلَيْهِ قَالَ لِي : كُونِي وَرَائِي لِئَلَّا يَصِفَك الثَّوْبُ مِنْ الرِّيحِ ، وَأَنَا عِبْرَانِيٌّ ، لَا أَنْظُرُ إلَى أَدْبَارِ النِّسَاءِ ، وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا وَيَسَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { اسْتَأْجِرْهُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْنَهُمْ وَعِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، وَهِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلِيقَةِ ، وَمَصْلَحَةِ الْخُلْطَةِ بَيْنَ النَّاسِ خِلَافًا لِلْأَصَمِّ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ حَيْثُ وَرَدَ فِي مَوَاضِعِهِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاَللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } .
اعْلَمُوا ، عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الِاجْتِهَادَ ، وَحِفْظَ سَبِيلَ الِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ ، مَعَ أَنَّ مَالِكًا قَدْ ذَكَرَهَا ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَآثَارٌ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهَا ، وَنَحْنُ نَحْلُبُ دَرَّهَا ، وَنَنْظِمُ دُرَرَهَا ، وَنَشُدُّ مِئْزَرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك } فِيهِ عَرْضُ الْمَوْلَى وَلِيَّتَهُ عَلَى الزَّوْجِ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ : عَرَضَ صَالِحُ مَدْيَنَ ابْنَتَهُ عَلَى صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَعَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَرَضَتْ الْمَوْهُوبَةُ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ { تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : فَلَقِيت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، فَعَرَضْت عَلَيْهِ حَفْصَةَ ، فَقُلْت : إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ .
فَقَالَ : سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي ، فَلَبِثْت لَيَالِيَ ، ثُمَّ لَقِيَنِي ، فَقَالَ : قَدْ بَدَا لِي أَلَّا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا .
قَالَ عُمَرُ : فَلَقِيت أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، فَقُلْت : إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ .
فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمْ يُرْجِعْ إلَيَّ شَيْئًا ، فَكُنْت عَلَيْهِ أَوْجَدُ
مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ ، فَلَبِثْت لَيَالِيَ ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتهَا إيَّاهُ ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : لَعَلَّك وَجَدْت عَلِيَّ حِينَ عَرَضْت عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أُرْجِعْ إلَيْك شَيْئًا ، فَقُلْت : نَعَمْ .
فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُرْجِعَ إلَيْك فِيمَا عَرَضْت عَلَيَّ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لَأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَوْ تَرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَبِلْتهَا } .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَوْهُوبَةِ فَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ { : إنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ جِئْت أَهَبُ لَك نَفْسِي ، فَرَأْيَك .
فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا .
فَقَالَ : هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ : اذْهَبْ إلَى أَهْلِك فَانْظُرْ لَعَلَّك تَجِدُ شَيْئًا .
فَذَهَبَ وَرَجَعَ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا وَجَدْت شَيْئًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُنْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ .
فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ .
وَلَكِنَّ هَذَا إزَارِي قَالَ سَهْلٌ : مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِك ؟ إنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ لَبِسْته لَمْ يَكُنْ عَلَيْك مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ، ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ : مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا ، لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا .
قَالَ : تَقْرَأُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " زَوَّجْتُكهَا " .
وَفِي أُخْرَى : " أَنْكَحْتُكهَا " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " أَمْكَنَّاكَهَا " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " وَلَكِنْ اُشْقُقْ بُرْدَتِي هَذِهِ ، أَعْطِهَا النِّصْفَ وَخُذْ النِّصْفَ " .
فَمِنْ الْحُسْنِ عَرْضُ الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ وَالْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ اقْتِدَاءً بِهَذَا السَّلَفِ الصَّالِحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ } عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ عَلَى لَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِكُلِّ لَفْظٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً فِي شَيْءٍ ، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ حُجَّةً فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا أَنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَقَعَ ، وَامْتِنَاعُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ النِّكَاحِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَلَا يَقْتَضِيهِ بِظَاهِرِهَا ، وَلَا يُنْظَرُ مِنْهَا ؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : { قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَرُوِيَ { أَمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْبُخَارِيِّ .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَدْ رَامَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَجْعَلُوا انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِهِ تَعَبُّدًا ، كَانْعِقَادِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَيَأْبَوْنَ مَا بَيْنَ الْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْأَمْرَ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ابْتِدَاؤُهُ بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ فِي قَوْلِهِ : { أُنْكِحُك } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي الْعَقْدِ ، الْمُلْتَزِمُ لِلصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ ، الْقَيِّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَصَاحِبُ الدَّرَجَةِ عَلَيْهَا فِي حَقِّ النِّكَاحِ .
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } .
فَبَدَأَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ زَيْنَبَ ؛ وَهُوَ شَرْعُنَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرْضٌ لَا عَقْدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدًا لَعَيَّنَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ إذَا قَالَ لَهُ : بِعْتُك أَحَدَ عَبْدِي هَذَيْنِ بِثَمَنِ كَذَا فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْخِيَارِ يَلْصَقُ بِالنِّكَاحِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : أَيَّتَهُمَا تُرِيدُ ؟ قَالَ : الصُّغْرَى .
ثُمَّ قَالَ مُوسَى : لَا ، حَتَّى تُبْرِئَهَا مِمَّا فِي نَفْسِك ، يُرِيدُ حِينَ قَالَتْ : { إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } ، فَامْتَلَأَتْ نَفْسُ صَالِحَ مَدْيَنَ غَيْرَةً ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُرَاجَعَةٌ فِي الْقَوْلِ وَمُؤَانَسَةٌ ، فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْتِ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَمَّا قُوَّتُهُ فَرَفْعُهُ الْحَجَرَ مِنْ فَمِ الْبِئْرِ وَحْدَهُ ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ إلَّا عَشْرَةُ رِجَالٍ ، وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَحِينَ مَشَيْت قَالَ لِي : كُونِي وَرَائِي ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَحِينَئِذٍ سَكَنَتْ نَفْسُهُ ، وَتَمَكَّنَ أُنْسُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك } هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ إيجَابًا أَمْ لَا ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الِاسْتِدْعَاءِ ، هَلْ يَكُونُ قَبُولًا ؟ كَمَا إذَا قَالَ : بِعْنِي ثَوْبَك هَذَا .
فَقَالَ : بِعْتُك ، هَلْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ أَمْ لَا ؟ حَتَّى يَقُولَ الْآخَرُ قَبِلْت ، عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَنْعَقِدُ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الِاسْتِدْعَاءِ لِحُصُولِ الْغَرَضِ مِنْ الرِّضَا بِهِ ، عَلَى أَصْلِنَا ؛ فَإِنَّ الرِّضَا بِالْقَلْبِ هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ كَمَا وَقَعَ اللَّفْظُ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : أُرِيدُ أَنْ تُنْكِحَنِي ، أَوْ أُنْكِحَك ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إيجَابًا حَاصِلًا ؛ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : نَعَمْ ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ .
وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك } فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَك } وَهَذَا انْعِقَادُ عَزْمٍ ، وَتَمَامُ قَوْلٍ ، وَحُصُولُ مَطْلُوبٍ ، وَنُفُوذُ عَقْدٍ .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَنِي النَّجَّارِ ؛ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ فَقَالُوا : لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ ، إلَّا إلَى اللَّهِ } .
فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ ، وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمِلْكِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُمْ : إنَّهُ زَوَّجَ الصُّغْرَى .
يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ سُئِلْت أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْ : خَيْرَهُمَا وَأَوْفَاهُمَا .
وَإِنْ سُئِلْت أَيُّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ فَقُلْ الصُّغْرَى وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ خَلْفَهُ ، وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : عَادَةُ النَّاسِ تَزْوِيجُ الْكُبْرَى قَبْلَ الصُّغْرَى ؛ لِأَنَّهَا سَبَقَتْهَا إلَى الْحَاجَةِ إلَى الرِّجَالِ ، وَمِنْ الْبِرِّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا .
وَاَلَّذِي أَوْجَبَ تَقْدِيمَ الصُّغْرَى فِي قِصَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَعَلَّهُ آنَسَ مِنْ الْكُبْرَى رِفْقًا بِهِ ، وَلِينَ عَرِيكَةٍ فِي خِدْمَتِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا سَبَقَتْ الصُّغْرَى إلَى خِدْمَتِهِ ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ أَحَنَّ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا ، لِأَنَّهُ رَآهَا فِي رِسَالَتِهِ ، وَمَاشَاهَا فِي إقْبَالِهِ إلَى أَبِيهَا مَعَهَا ، فَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْكُبْرَى رُبَّمَا أَظْهَرَ لَهُ الِاخْتِيَارَ ، وَهُوَ يُضْمِرُ غَيْرَهُ ، لَكِنْ عَرَضَ عَلَيْهِ شَرْطَهُ لِيُبْرِئَهَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } .
فَذَكَرَ لَهُ لَفْظَ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي جَعْلِ الْمَنَافِعِ صَدَاقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمَا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ .
وَقَالَ أَصْبَغُ : إنْ نُقِدَ مَعَهُ شَيْءٌ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَدْ فَهُوَ أَشَدُّ ، فَإِنْ تَرَكَ مَضَى عَلَى كُلِّ حَالٍ ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْن الْمَوَّازِ وَأَشْهَبُ ، وَعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : صَالِحُ مَدْيَنَ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَتَهُ فِي غَنَمِهِ ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُ فُلَانَةَ خِدْمَةَ فُلَانٍ ، وَلَكِنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا عِوَضٌ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ لِصَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَجَعَلَهُ صَدَاقًا لِابْنَتِهِ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ بِجُعْلٍ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ يَحْيَى : لَا يَجُوزُ ، وَلَا كِرَاءَ لَهُ ، وَلَا أُجْرَةَ مِثْلِهِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْإِسْلَامُ بِخِلَافِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جُعْلٌ ، إنَّمَا فِيهِ إجَارَةٌ ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافُهُ ؛ بَلْ فِيهِ جَوَازُهُ فِي قِصَّةِ الْمَوْهُوبَةِ ، وَهُوَ يُجَوِّزُ النِّكَاحَ بِعَدَدٍ مُطْلَقٍ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ ؛ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى تَعْلِيمِ عِشْرِينَ سُورَةٍ .
وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ : { عَلِّمْهَا عِشْرِينَ سُورَةً ، وَهِيَ امْرَأَتُك } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ صَدَاقًا .
وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ .
وَنَزَعَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهُ مَالٌ كُلُّهُ .
وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ مَالٌ ، بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا بِالْمَالِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ مَالًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ فِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَالصَّدَاقُ بِالْمَنَافِعِ إنَّمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَفِي الْحَدِيثِ ؛ فَمَنَافِعُ الْأَحْرَارِ وَمَنَافِعُ الْعَبِيدِ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ الْأَصْلُ ، وَيُحْمَلُ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلٍ سَاقِطٍ ؟ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً فَفِي قَوْلِهِ : { عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي } ذِكْرٌ لِلْخِدْمَةِ مُطْلَقًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ جَائِزٌ ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْرُوفِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ لِمَنَافِعِهِ فِيمَا يُصْرَفُ فِيهِ مِثْلُهُ ، وَالْعُرْفُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ ، وَيَقْضِي بِهِ ؛ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
وَيُعْضَدُ هَذَا بِظَاهِرِ قِصَّةِ مُوسَى فَإِنَّهُ ذِكْرُ إجَارَةٍ مُطْلَقَةٍ ، عَلَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ ذَكَرُوا أَنَّهُ عَيَّنَ لَهُ رَعِيَّةَ الْغَنَمِ ، وَلَمْ يَرْوُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ ، وَلَكِنْ قَالُوا : إنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ إلَّا رَعِيَّةَ الْغَنَمِ ، فَكَانَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ قَائِمًا مَقَامَ تَعْيِينِ الْخِدْمَةِ فِيهِ .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَنَا ؛ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ يَرَى أَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ حَتَّى يُسَمَّى .
وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَكْفِي مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ ، وَمَا قَامَ مِنْ دَلِيلِ الْعُرْفِ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِي الْخِدْمَةِ ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَدَلِيلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ قَبْلُ ، وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ كَانَ آجَرَهُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً ، أَوْ مُسَمَّاةً بِعِدَّةٍ ، أَوْ مُعَيَّنَةً .
فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً جَازَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّهَا لَا تَجُوزُ لِجَهَالَتِهَا .
وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْعُرْفِ ، وَأَنَّهُ يُعْطِي عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُ قُوَّتُهُ .
وَزَادَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْرَ قُوَّتِهِ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ قَدْ عَلِمَ
قَدْرَ قُوَّةِ مُوسَى بِرَفْعِ الْحَجَرِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا .
وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً مُعَيَّنَةً فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِعُلَمَائِنَا .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْتَرِطَ الْخَلْفَ إنْ مَاتَتْ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا ، قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَقَدْ اسْتَأْجَرَ صَالِحُ مَدْيَنَ مُوسَى عَلَى غَنَمِهِ ، وَقَدْ رَآهَا وَلَمْ يَشْرِطْ خَلْفًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا الَّذِي [ كَانَ ] جَرَى مِنْ صَالِحِ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا لِصَدَاقِ الْمَرْأَةِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ فَإِنَّهَا تَشْتَرِطُ صَدَاقَ بَنَاتِهَا ، وَتَقُولُ : لِي كَذَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِي قُلْنَا : هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ هُوَ حُلْوَانُ وَزِيَادَةٌ عَلَى الْمَهْرِ ، وَهُوَ حَرَامٌ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ .
فَأَمَّا إذَا شَرَطَ الْوَلِيُّ شَيْئًا لِنَفْسِهِ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يُخْرِجُهُ الزَّوْجُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ .
وَالْآخَرُ : لَا يَجُوزُ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي فِيهِ التَّقْسِيمُ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا جَازَ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا بِيَدِهَا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْعِوَضُ عَنْهُ ، كَمَا يَأْخُذُهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ .
وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا كَانَ الْعَقْدُ بِيَدِهِ ، فَكَأَنَّهُ عِوَضٌ فِي النِّكَاحِ لِغَيْرِ الزَّوْجَةِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَسْخٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ ، وَثَبَتَ بَعْدَهُ عَلَى مَشْهُورِ الرِّوَايَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَمْ يَكُنْ اشْتِرَاطُ صَالِحِ مَدْيَنَ عَلَى مُوسَى مَهْرًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ ، وَتَرَكَ الْمَهْرَ مُفَوَّضًا .
وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ .
قُلْنَا : كَانَتْ بِكْرًا ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يُظَنُّ بِالْفُضَلَاءِ ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمْ يُنْقَلْ مَا كَانَتْ أُجْرَةُ مُوسَى ، وَلَكِنْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ أَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ جَعَلَ لِمُوسَى كُلَّ سَخْلَةٍ تُوضَعُ خِلَافَ لَوْنِ أُمِّهَا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى : أَلْقِ عَصَاك بَيْنَهُنَّ يَلِدْنَ خِلَافَ شَبَهِهِنَّ كُلِّهِنَّ .
وَاَلَّذِي رَوَى عُتْبَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ السُّلَمِيُّ وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْأَجَلَيْنِ أَوْفَى مُوسَى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْفَاهُمَا وَأَبَرُّهُمَا } .
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا عَنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ .
" .
فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ مِنْ قَالِبِ لَوْنِ ذَلِكَ الْعَامِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا وَرَدَتْ الْحَوْضَ وَقَفَ مُوسَى بِإِزَاءِ الْحَوْضِ فَلَمْ تَمُرَّ بِهِ شَاةٌ إلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا بِعَصَا ، فَوَضَعَتْ قَوَالِبَ أَلْوَانٍ كُلِّهَا اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ ، كُلُّ شَاةٍ لَيْسَ مِنْهُنَّ فَشُوشٌ وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا كَمِيشَةٌ وَلَا ثَعُولٌ " .
الْفَشُوشُ : الَّتِي إذَا مَشَتْ سَالَ لَبَنُهَا .
وَالضَّبُوبُ الَّتِي ضَرْعُهَا مِثْلُ الْمَوْزَتَيْنِ .
وَالْكَمِيشَةُ : الصَّغِيرَةُ الضَّرْعِ الَّتِي لَا يَضْبِطُهَا الْحَالِبُ .
وَالْقَالِبُ لَوْنُ صِنْفٍ وَاحِدٌ كُلُّهُ .
وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَكَانَ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ الْوَحْيُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ ، وَذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ ، أَوْ بِأَنْ يُكَلِّمَهُ الْمَلَكُ كَهَيْئَةِ الرَّجُلِ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ هَدَاهُ فِي طَرِيقِهِ لِمَدْيَنَ حِينَ ضَلَّ وَخَافَ ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ نَبِيًّا ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُكَلِّمُهُ الْمَلَكُ وَيُخْبِرُهُ بِأَمْرٍ مُشْكِلٍ يَكُونُ نَبِيًّا وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَخْبَارٌ
كَثِيرَةٌ .
الثَّانِيَةُ : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الْإِجَارَة بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ ، فَإِنَّ وِلَادَةَ الْغَنَمِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ، وَإِنَّ مِنْ الْبِلَادِ الْخِصْبَةِ مَا يُعْلَمُ وِلَادَةُ الْغَنَمِ فِيهَا قَطْعًا ، وَعِدَّتُهَا ، وَسَلَامَةُ سِخَالِهَا ؛ مِنْهَا دِيَارُ مِصْرَ وَغَيْرُهَا ، بَيْدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْغَرَرِ } ، وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا فِي بِلَادِ الْخِصْبِ لَيْسَ بِغَرَرٍ ، لِاطِّرَادِ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَيْسَ كَمَا ظَنَنْت ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَهَى عَنْ الْغَرَرِ نَهَى عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ .
وَالْمَضَامِينُ : مَا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَالْمَلَاقِيحُ : مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ ، أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : مَلْقُوحَةٌ فِي بَطْنِ نَابٍ حَامِلٍ عَلَى أَنَّ مَعْمَرَ بْنَ الْأَشَدِّ أَجَازَ الْإِجَارَةَ عَلَى الْغَنَمِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ : يَنْسِجُ الثَّوْبَ بِنَصِيبٍ مِنْهُ .
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَقَرَأْت بِبَابِ جَيْرُونَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الرَّئِيسِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ فُضَيْلٍ الدِّمَشْقِيِّ ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيُّ ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : آجَرَ مُوسَى نَفْسَهُ بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَعِفَّةِ فَرْجِهِ .
فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : لَك مِنْهَا يَعْنِي مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ قَالِبُ لَوْنٍ وَاحِدٌ غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ ، لَيْسَ فِيهَا عَزُورٌ ، وَلَا فَشُوشٌ ، وَلَا كَمُوشٌ ،
وَلَا ضَبُوبٌ ، وَلَا ثَعُولٌ } .
الْعَزَوَّرُ : الَّتِي يَعْسُرُ حَلْبُهَا .
وَالثَّعُولُ : الَّتِي لَهَا زِيَادَةُ حَلَمَةٍ ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهَا .
وَقَدْ كَانَ مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ غُلَامٌ يَخْدِمُهُ ، بِشِبَعِ بَطْنِهِ .
وَجَوَّزَ ذَلِكَ مَالِكٌ ، وَأَبَاهُ غَيْرُهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ قَالَ لِبِنْتِ صَالِحِ مَدْيَنَ فِي الْغَنَمِ حِصَّةٌ ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ ، صَدَاقًا لَهَا بِمَا كَانَ لَهَا مِنْ الْحِصَّةِ فِيهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا احْتِرَازٌ مِنْ مَعْنَى بِوُقُوعٍ فِي آخَرَ ؛ فَإِنَّ الْغَنَمَ إذَا كَانَتْ بَيْنَ صَالِحِ مَدْيَنَ وَبَيْنَ ابْنَتِهِ ، وَأَخَذَهَا مُوسَى مُسْتَأْجِرًا عَلَيْهَا ، فَفِي ذَلِكَ جَمَعَ سِلْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِغَيْرِ عَاقِدٍ وَاحِدٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ ، وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ مَنْعُهُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ بِالثَّمَنِ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَى جَمْعِ السِّلْعَتَيْنِ ، لَا سِيَّمَا وَيُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ سِلْعَتِهِ ، وَيَقَعَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى الْقِيمَةِ ، فَيَكُونَ مَعْرُوفًا لَا غَرَرَ فِيهِ ، فَلَا يُمْنَعُ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : فِي هَذَا اجْتِمَاعُ إجَارَةٍ وَنِكَاحٍ : وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ فِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ : يُكْرَهُ ابْتِدَاءً ؛ فَإِنْ وَقَعَ مَضَى .
الثَّانِي : قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَشْهُورِ : لَا يَجُوزُ ، وَيُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَبَعْدَهُ .
الثَّالِثُ : أَجَازَهُ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُحَمَّدٌ : قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : إنْ بَقِيَ بَعْدَ الْمَبِيعِ ، يَعْنِي مِنْ الْقِيمَةِ ، رُبْعُ دِينَارٍ يُقَابِلُ الْبُضْعَ جَازَ النِّكَاحُ ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَاتِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآيَةُ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ ، أَوْ بَيْنَ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ ، وَهُوَ شَبَهُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلَيْنِ يَجْمَعَانِ سِلْعَتَهُمَا ، وَإِذَا كَانَتَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَ ، وَالْعَاقِدُ هُنَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ إلَى الْوَلِيِّ ، لَا حَظَّ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ ، لِأَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ تَوَلَّاهُ .
وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَفْتَقِرُ النِّكَاحُ إلَى وَلِيٍّ ، وَعَجَبًا لَهُ ، مَتَى رَأَى امْرَأَةً قَطُّ عَقَدَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا ، وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي الْآثَارِ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ ؛ قَالَ مَالِكٌ .
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ .
وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ فَلَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ إلَّا بِرِضَاهَا ؛ لِأَنَّهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّكْلِيفِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهَا ، وَلَا رِضَاءَ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ : { الْأَيِّمُ وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا } .
فَقَوْلُهُ : " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا " دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي كَوْنِ الْمَرْأَةِ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا كَوْنَهَا أَيِّمًا ؛ وَذَلِكَ لِاخْتِيَارِهَا مَقَاصِدَ فِي النِّكَاحِ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِكُلِّ فَائِدَةٍ وَلَطِيفَةٍ .
وَاحْتِجَاجُ مَالِكٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّلُ عَلَى الإسرائليات ، وَفِيهَا أَنَّهُمَا كَانَتَا بِكْرَيْنِ ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَنَاتِ تَرْكُ النِّكَاحِ ، حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُنَّ مُتَزَوِّجَاتٌ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ النِّسَاءِ النِّكَاحُ ، وَمَتَى اجْتَمَعَ أَصْلٌ وَظَاهِرٌ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَكَذَلِكَ يُقَالُ : إنَّ أَبَاهَا لَمَّا قَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ، فَأَشَارَ إلَيْهِمَا ، كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِئْمَارِ أَوْ مِثْلَهُ ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا بِضَمِيرِ الْحَاضِرِ إسْمَاعٌ لَهَا .
وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ ، وَهِيَ الِاكْتِفَاءُ
بِصَمْتِ الْبِكْرِ ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرٌ ، وَفِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي شَرْعِ مُوسَى ، وَبِهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَتَبَيَّنُ لَك وَجْهُ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ ، وَمَا يَعْرِضُ عَلَى الْأَدِلَّةِ مِنْ الشَّبَهِ ، فَيُقَابَلُ كُلُّ فَنٍّ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ ، وَيُرَجَّحُ الْأَظْهَرُ وَيُقْضَى بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهَا ؛ هَلْ هِيَ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ وَالْحَسَبِ ، أَوْ فِي بَعْضِهَا ؟ وَحَقَّقْنَا جَوَازَ نِكَاحِ الْمَوَالِي لِلْعَرَبِيَّاتِ وَلِلْقُرَشِيَّاتِ ، وَأَنَّ الْمُعَوِّلَ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقَدْ جَاءَ مُوسَى إلَى صَالِحِ مَدْيَنَ غَرِيبًا طَرِيدًا ، وَحِيدًا جَائِعًا عُرْيَانًا ، فَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ لَمَّا تَحَقَّقَ مِنْ دِينِهِ ، وَرَأَى مِنْ حَالِهِ ، وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ .
وَلَا خِلَافَ فِي إنْكَاحِ الْأَبِ ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي إنْكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، إلَّا أَنْ يَطْرَحَهَا الْأَبُ فِي عَارٍ يَلْحَقُ الْقَبِيلَ ، فَفِيهِ خِلَافٌ ، وَتَفْصِيلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ ؛ هَلْ دَخَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ عَقَدَ ؟ أَمْ حِينَ سَافَرَ ؟ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِينَ عَقَدَ فَمَاذَا نَقَدَ ؟ وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يَنْقُدَ وَلَوْ رُبْعَ دِينَارٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ مَضَى ، لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا : تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّدَاقُ رَعْيَهُ الْغَنَمَ فَقَدْ نَقَدَ الشُّرُوعَ فِي الْخِدْمَةِ .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِينَ سَافَرَ أَوْ أَكْمَلَ الْمُدَّةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَطُولُ الِانْتِظَارِ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ مَدَى الْعُمْرِ ، بِغَيْرِ شَرْطٍ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ بِشَرْطٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، مِثْلِ التَّأَهُّبِ لِلْبِنَاءِ ، أَوْ انْتِظَارِ صَلَاحِيَّةِ الزَّوْجَةِ لِلدُّخُولِ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً .
نَصَّ عَلَيْهَا عُلَمَاؤُنَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْحَالِ .
وَمَا كَانَ صَالِحُ مَدْيَنَ يَحْبِسُهُ عَنْ الدُّخُولِ يَوْمًا ، وَقَدْ عَقَدَهُ عَلَيْهَا حَالًا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } فَنَصَّ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مُدَّةً مِنْ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ عَلَى رَعْيِهِ الْغَنَمَ وَالْحَيَوَانَ ، فَتَغَيَّرَ فِي الْآمَادِ الطَّوِيلَةِ ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ الْمَوَّازِ الْعِشْرِينَ سَنَةً فِي الْعَقْدِ طُولًا ، وَلَا رَأَى فِي الْمُدَوَّنَةِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ طُولًا .
وَمَنَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْعَشْرِ سِنِينَ ، وَهُوَ أَصَحُّ لِسُرْعَةِ التَّغَيُّرِ فِي الْغَالِبِ إلَى الْأَبَدَانِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ .
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي ثَمَانِيَ سِنِينَ ، وَبَلَغَهَا بِالطَّوْعِ الَّذِي لَا يُلْزَمُ عَشْرًا ، وَهُوَ الْعَدْلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : لَمَّا ذَكَرَ الشَّرْطَ ، وَأَعْقَبَهُ بِالتَّطَوُّعِ فِي الْعَشْرِ ؛ خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُكْمِهِ ، وَلَمْ يَلْحَقْ الْآخَرُ بِالْأَوَّلِ ، وَلَا اشْتَرَكَ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ ؛ وَلِذَلِكَ يُكْتَبُ فِي الْعُقُودِ الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ يُقَالُ : وَتَطَوَّعَ بِكَذَا ، فَيَجْرِي الشَّرْطُ عَلَى سَبِيلِهِ ، وَالتَّطَوُّعُ عَلَى حُكْمِهِ .
وَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : يُقَالُ فِي الْعَقْدِ : وَتَطَوَّعَ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْدِ .
وَهَذَا إفْرَاطٌ يَخْرُجُ بِقَائِلِهِ إلَى التَّفْرِيطِ فَإِنَّهُ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : عَقَدَ مَعَهُ كَذَا ، وَشَرَطَ كَذَا ، وَتَطَوَّعَ بِكَذَا ، فَقَدْ انْفَصَلَ الْوَاجِبُ مِنْ التَّطَوُّعِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّطَوُّعَ أَخْرَجَهُ عَنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْدِ حَشْوٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَتَكْرَارٌ لَا مَعْنَى لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ } الْمَعْنَى لَيْسَ لَك إنْ وَفَّيْت أَحَدَ الْأَجَلَيْنِ أَنْ تَتَعَدَّى عَلَيَّ بِالْمُطَالَبَةِ بِالزَّائِدِ عَلَيْهِ .
فَلَوْ قَصَّرَ فِي الْعَامَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ قَصَّرَ فِي الثَّمَانِي لَكَانَ عَلَيْهِ عُدْوَانٌ ، وَهُوَ أَنْ يُعْدِيَ عَلَيْهِ .
وَكَيْفِيَّةُ الْعُدْوَانِ نُبَيِّنُهُ بِأَنْ نَقُولَ : اخْتَلَفَ إذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى عَمَلِ حَائِطٍ مَثَلًا يُتِمُّهُ فَلَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مُقَاطَعَةً ، فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ بِالنَّقْدِ فَيَنْقُدَهُ ، وَيَلْزَمَهُ تَمَامُهُ .
وَأَكْثَرُ بِنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمُقَاطَعَةِ ، إذَا سَمَّى لَهُ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : اسْتَأْجَرْتُك عَلَى بُنْيَانِ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا ، أَوْ نِصْفًا ، أَوْ شَهْرَيْنِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ وَقَالَ : تَبْنِي هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ ، فَكُلَّمَا بَنَى أَخَذَ ، أَوْ تَبْنِي هَذَا الْبَابَ ، أَوْ هَذَا الْحَائِطَ ، فَهُوَ مِثْلُهُ .
وَكَذَلِكَ كَانَتْ إجَارَةُ مُوسَى مُقَاطَعَةً ، فَلَهَا حُكْمُ الْمُقَاطَعَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ يَأْتِي فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
تَحْرِيرُهُ أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْإِجَارَةِ إمَّا يَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ ، أَوْ بِصِفَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَضْبِطُ ؛ فَإِنْ كَانَ بِالزَّمَانِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ ، لَازِمٌ فِي مُدَّتِهِ .
وَإِنْ كَانَ بِالْعَمَلِ فَإِنَّهُ يُضْبَطُ بِصِفَتِهِ ، وَيَلْزَمُ الْأَجِيرَ تَمَامُ الْمُدَّةِ ، أَوْ تَمَامُ الصِّفَةِ .
وَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ إذَا كَانَ هَكَذَا إلَّا بِتَمَامِ الْعَمَلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } اكْتَفَى الصَّالِحَانِ بِاَللَّهِ فِي الْإِشْهَادِ ، وَلَمْ يُشْهِدَا أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ يَنْعَقِدُ دُونَ شُهُودٍ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعْلَانُ وَالتَّصْرِيحُ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَا يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِهِ الْإِشْهَادُ كَالْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْإِعْلَانَ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ : { فَرْقُ مَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ الدُّفُّ } .
وَرُبَّمَا نَزَعَ نَازِعٌ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْبَيْعِ لَازِمٌ وَاجِبٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَقَدْ أَخْبَرْنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا الرَّفَّاءُ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، وَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ الْعَبَّاسِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا آدَم ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ .
قَالَ : أَتَيْتنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ ، قَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا .
قَالَ : أَتَيْتنِي بِالْكَفِيلِ ، قَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا .
قَالَ : صَدَقْت .
فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ ، فَقَضَى حَاجَتَهُ ، وَالْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهُ ، لِئَلَّا يَقْدَمَ عَلَيْهِ الْأَجَلُ الَّذِي أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا ، وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا .
ثُمَّ جَاءَ بِهَا إلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي تَسَلَّفْت مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا ، فَقُلْت لَهُ : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْت لَهُ : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا .
فَرَضِيَ بِذَلِكَ ، وَإِنِّي جَهَدْت أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إلَيْهِ بِاَلَّذِي لَهُ ، فَلَمْ أَقْدِرْ ؛ وَإِنِّي قَدْ اسْتَوْدَعْتُكَهَا .
وَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلَى بَلَدِهِ .
فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا
نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ ، وَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا زِلْت أَجْهَدُ فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَك بِمَالِك ، فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْت فِيهِ .
قَالَ : هَلْ كُنْت بَعَثْت إلَيَّ بِشَيْءِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأَخْبَرْتُك ، أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُك فِيهِ .
قَالَ : بَلَى ، وَاَللَّهِ ، قَدْ أَدَّى اللَّهُ عَنْك الَّذِي بَعَثْت بِهِ ، فَانْصَرَفَ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } .
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَذْهَبَ بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ ، لِمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ فَضْلِ الْقَوَامِيَّةِ ، وَزِيَادَةِ الدَّرَجَةِ ، إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ لَهَا أَمْرًا فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَحَنَّ إلَى وَطَنِهِ ، وَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ ، وَيَقُولُ : لَمَّا طَالَتْ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتْ التُّهْمَةُ ، وَبَلِيَتْ الْقِصَّةُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ : أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا ، فَكَانَ الْيَهُودُ يَلْقَوْنَهُمْ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُمْ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا ، فَكَانُوا إذَا سَمِعُوا مَا غَيَّرَهُ الْيَهُودُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ مِنْ نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتِهِ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَذَكَرُوا الْحَقَّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ إذَا سَمِعُوا الْبَاطِلَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يَهُودًا وَلَا نَصَارَى ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ بِمَكَّةَ قَصَدُوهُ ، فَعُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ ، فَأَسْلَمُوا ؛ فَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ لَهُمْ : أُفٍّ لَكُمْ مِنْ قَوْمٍ اتَّبَعْتُمْ غُلَامًا كَرِهَهُ قَوْمُهُ ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } يُرِيدُ لَنَا حَقُّنَا ، وَلَكُمْ بَاطِلُكُمْ ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ هَذَا بِسَلَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ اذْهَبْ بِسَلَامٍ أَيْ تَارِكْنِي وَأُتَارِكُك .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تِبْيَانِ الْحَالِ لِلتَّحِيَّةِ بِالسَّلَامِ ، وَاخْتِصَاصِهَا بِالْمُسْلِمِينَ ، وَخُرُوجِ الْكُفَّارِ عَنْهَا ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاك اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَى النَّصِيبِ : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا تَنْسَ حَظَّك مِنْ الدُّنْيَا أَيْ لَا تَغْفُلْ أَنْ تَعْمَلَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : " اُحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيشُ أَبَدًا ، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِك كَأَنَّك تَمُوتُ غَدًا " .
الثَّانِي : أَمْسِكْ مَا يَبْلُغُك ، فَذَلِكَ حَظُّ الدُّنْيَا .
وَأَنْفِقْ الْفَضْلَ ، فَذَلِكَ حَظُّ الْآخِرَةِ .
الثَّالِثُ : لَا تَغْفُلْ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْك .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك } ذُكِرَ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ ، جِمَاعُهَا اسْتَعْمِلْ نِعَمَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ وَقَالَ مَالِكٌ : مَعْنَاهَا تَعِيشُ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ غَيْرَ مُضَيَّقٍ عَلَيْك فِي رَأْيٍ .
قَالَ الْقَاضِي : أَرَى مَالِكًا أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَرَى مِنْ الْغَالِينَ فِي الْعِبَادَةِ التَّقَشُّفَ وَالتَّقَصُّفَ وَالْبَأْسَاءَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ ، وَيَسْتَعْمِلُ الشِّوَاءَ ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ : أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ عَيْشِهِ ، وَيُقَدِّمَ مَا سِوَى ذَلِكَ لِآخِرَتِهِ .
وَأَبْدَعُ مَا فِيهِ عِنْدِي قَوْلُ قَتَادَةَ : وَلَا تَنْسَ الْحَلَالَ ، فَهُوَ نَصِيبُك مِنْ الدُّنْيَا ، وَيَا مَا أَحْسَنَ هَذَا ،
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاك لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا ، وَيَحِقُّ أَنْ نُعِيدَهُ لِعِظَمِهِ ، وَقَدْ نَادَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ اقْتَحَمَ هَذَا ، وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلَانِيَةً ، كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ } .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ { : اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } .
وَلَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي ذَلِكَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ : عَلَيْهِ الرَّجْمُ .
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنَّ الْعَرَبَ تَأْنَفُ مِنْ الْعَارِ وَشُهْرَتِهِ أَنَفًا لَا تَأْنَفُهُ مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي تَمْضِي فِي الْأَحْكَامِ ، فَأَرَى أَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقَ أَبُو الْحَسَنِ .
فَكَتَبَ إلَى خَالِدٍ أَنْ أَحْرِقْهُ بِالنَّارِ ، فَفَعَلَ .
فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا أَرَى خَالِدًا أَحْرَقَهُ إلَّا بَعْدَ قَتْلِهِ ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ كَمَا زَعَمَ ابْنُ وَهْبٍ ، كَانَ عَلِيٌّ يَرَى الْحَرْقَ بِالنَّارِ عُقُوبَةً ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ الْبَرْقَانِيُّ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ : رَأَيْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ ، وَأَيُّوبَ ، وَعَمَّارًا الرَّهِينِيُّ ، اجْتَمَعُوا فَتَنَاكَرُوا الَّذِينَ حَرَقَهُمْ عَلِيٌّ ، فَحَدَّثَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
لَمَّا بَلَغَهُ قَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا مَا أَحْرَقْتُهُمْ ؟ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } ، وَلَقَتَلْتُهُمْ " ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
فَقَالَ عَمَّارٌ : لَمْ يَكُنْ حَرَقَهُمْ ، وَلَكِنَّهُ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِرَ ، وَخَرَقَ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ دَخَنَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَاتُوا .
فَقَالَ عَمَّارٌ : قَالَ الشَّاعِرُ : لِتَرْمِ بِي الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ إذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ إذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا هُنَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْر مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ : عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَجَدَ فِي ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْمُهُ الْفُجَاءَةُ ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ فِيهِمْ قَوْلًا ، فَقَالَ عَلَيَّ : إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ ، إلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً ، صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ ؛ أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ .
فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى خَالِدِ بْن الْوَلِيدِ أَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ ، فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ خَالِدُ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ بِسَبْعَةٍ أُخِذُوا فِي لِوَاطٍ ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ ، فَوُجِدُوا أَرْبَعَةً قَدْ أُحْصِنُوا ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ الْحَرَمِ ، ثُمَّ رُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ ، حَتَّى مَاتُوا ، وَجَلَدَ الثَّلَاثَةَ حَتَّى مَاتُوا بِالْحَدِّ .
قَالَ : وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ .
وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى هَذَا ، وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ
، وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا ، وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ اللِّوَاطِ ، فَقَالَ : يُصْعَدُ بِهِ فِي الْجَبَلِ ، ثُمَّ يُرْدَى مِنْهُ ، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { اُتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْك مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا دَامَ فِيهَا .
وَالثَّانِي : مَا دَامَ فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ : الْمَعْنَى فِيهَا أَيْضًا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُصَلِّي أَنْ يَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، كَمَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ، كَمَا قَالَ : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
وَكَمَا لَا يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ بِتَرْكِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ عَنْ الْإِيمَانِ كَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْمُصَلِّي عَنْ الصَّلَاةِ بِأَنَّ صَلَاتَهُ قَصَرَتْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ .
وَقَالَ مَشْيَخَةُ الصُّوفِيَّةِ : الصَّلَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا كَانَتْ نَاهِيَةً ، فَإِنْ لَمْ تَنْهَهُ فَهِيَ صُورَةُ صَلَاةٍ لَا مَعْنَاهَا ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدِي مَوْلَاهُ وَمُنَاجَاتَهُ لَهُ إنْ لَمْ تَدُمْ عَلَيْهِ بَرَكَتُهَا ، وَتَظْهَرْ عَلَى جَوَارِحِهِ رَهْبَتُهَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ أُخْرَى ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ رَبِّهِ مُعْرِضٌ ، وَفِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ غَافِلٌ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْفَحْشَاءُ : الدُّنْيَا ، فَتَنْهَاهُ الصَّلَاةُ عَنْهَا ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ حَظٌّ فِي قَلْبِهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } .
وَقِيلَ : الْفَحْشَاءُ الْمَعَاصِي ، وَهُوَ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ ، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَلَمْ تَتَمَرَّنْ جَوَارِحُهُ
بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، حَتَّى يَأْنَسَ بِالصَّلَاةِ وَأَفْعَالِهَا أُنْسًا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ اقْتِرَافِ الْخَطَايَا ، وَإِلَّا فَهِيَ قَاصِرَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمُنْكَرُ : وَهُوَ كُلُّ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ وَغَيْرُهُ ، وَنَهَى عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : ذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ ، أَضَافَ الْمَصْدَرَ إلَى الْفَاعِلِ .
الثَّانِي : ذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
الثَّالِثُ : ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي غَيْرِهَا ، يَعْنِي لِأَنَّهَا عِبَادَتَانِ .
الرَّابِعُ : ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ .
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ قَتَادَةُ : وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ ، فَإِنَّهُ رَفَعَ الْجِدَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ مَخْصُوصَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ بِاللِّسَانِ يُقَاتِلُ بِهِ فِي اللَّهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْفِ وَاللِّسَانِ ، حَتَّى قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ لِلَّهِ ، وَتَبَيَّنَ الْعِنَادُ ، وَبَلَغَتْ الْقُدْرَةُ غَايَتَهَا عَشْرَةَ أَعْوَامٍ مُتَّصِلَةٍ ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَ ، وَمَنْ امْتَنَعَ بَقِيَ الْجِدَالُ فِي حَقِّهِ ؛ وَلَكِنْ بِمَا يَحْسُنُ مِنْ الْأَدِلَّةِ ، وَيَجْمُلُ مِنْ الْكَلَامِ ، بِأَنْ يَكُونَ مِنْك لِلْخَصْمِ تَمْكِينٌ ، وَفِي خِطَابِك لَهُ لِينٌ ، وَأَنْ تَسْتَعْمِلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَظْهَرَهَا ، وَأَنْوَرَهَا ، وَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ الْمُجَادِلُ أَعَادَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ وَكَرَّرَهَا ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ مَعَ الْكَافِرِ حِينَ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ : { رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
فَقَالَ لَهُ الْكَافِرُ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ، فَحَسُنَ الْجِدَالُ ، وَنَقَلَ إلَى أَبَيْنَ مِنْهُ بِالِاسْتِدْلَالِ .
وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ .
وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَقٍّ إلَى حَقٍّ أَظْهَرَ مِنْهُ ، وَمِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ أَبْيَنَ مِنْهُ وَأَنْوَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَهْلُ الْحَرْبِ .
الثَّانِي : مَانِعُو الْجِزْيَةِ .
الثَّالِثُ : مَنْ بَقِيَ عَلَى الْمُعَانَدَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ .
الرَّابِعُ : الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي جِدَالِهِمْ ، بِأَنْ خَلَطُوا فِي إبْطَالِهِمْ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا
صَحِيحَةٌ مُرَدَّدَةٌ ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَادَلَاتٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، وَمَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَهِيَ أَثْبَتُ فِي الْمَعْنَى .
وَقَدْ قَالَ لِلْيَهُودِ : { إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } .
فَمَا أَجَابُوا جَوَابًا .
وَقَالَ لَهُمْ : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } .
أَيْ : إنْ كُنْتُمْ أَبْعَدْتُمْ وَلَدًا بِغَيْرِ أَبٍ فَخُذُوا وَلَدًا دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ .
وَقَالَ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } .
وَقَالَ : { وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } .
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي حُصَيْنٍ : { يَا حُصَيْنُ ؛ كَمْ إلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ ، قَالَ : إنِّي أَعْبُدُ سَبْعَةً ، وَاحِدًا فِي السَّمَاءِ ، وَسِتًّا فِي الْأَرْضِ : قَالَ : فَأَيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك ، قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ .
قَالَ : يَا حُصَيْنُ ، أَمَا إنَّك إنْ أَسْلَمْت عَلَّمْتُك } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
سُورَةُ الرُّومِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَنَزَلَتْ : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ : { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } .
قَالَ : فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ .
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : غُلِبَتْ الرُّومُ وَغَلَبَتْ ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { أَمَا إنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ } .
فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ ، فَقَالُوا : اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَك أَجَلًا ؛ فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا ، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا .
فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : { أَلَا أَخْفَضْت } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { أَلَا أَحْبَطْت } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " { أَلَا جَعَلْته إلَى دُونٍ ، أَرَاهُ الْعَشَرَةَ } .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَالْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ ؛ ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ ؛ فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ } إلَى قَوْلِهِ : { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } قَالَ سُفْيَانُ : سَمِعْت أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ نِيَارِ بْنِ مَكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } وَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
قَاهِرِينَ لِلرُّومِ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ ، وَلَا إيمَانٍ بِبَعْثٍ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } .
قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ : فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، زَعَمَ صَاحِبُك أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ؛ أَفَلَا نُرَاهِنُك عَلَى ذَلِكَ ، قَالَ : بَلَى .
وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ .
فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ ، وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ : كَمْ تَجْعَلُ ؟ الْبِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إلَى تِسْعِ سِنِينَ .
فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَسَطًا قَالَ : فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ قَالَ : فَمَضَتْ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا ؛ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فِي بِضْعِ سِنِينَ .
قَالَ : وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ ؛ فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ حِسَانٌ غُرَابٌ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُرَاهَنَةِ : وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْغَرَرِ وَالْقِمَارِ ؛ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْهُ ، وَلَمْ يَبْقَ لِلرِّهَانِ جَوَازٌ إلَّا فِي الْخَيْلِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } الْبِضْعُ فِيهِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ ، فَيُقَالُ : بِضْعَ عَشْرَةَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ ، وَبِضْعَةَ عَشَرَ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ .
الثَّانِي : الْبِضْعُ سَبْعَةٌ ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ .
الثَّالِثُ : الْبِضْعُ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى التِّسْعِ .
الرَّابِعُ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ مَا بَيْنَ نِصْفِ الْعِقْدَيْنِ ، يُرِيدُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إلَى الْأَرْبَعَةِ .
الْخَامِسُ : هُوَ مَا بَيْنَ خَمْسٍ إلَى سَبْعٍ ؛ قَالَهُ يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ .
وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا قَالَ أَكْثَرُهُمْ : وَلَا يُقَالُ بِضْعٌ وَمِائَةٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى التِّسْعِينَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ ، وَبِذَلِكَ يَقْضِي فِي الْإِقْرَارِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي فُرُوعِ الْأَحْكَامِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا مَعَ نُظَرَائِهَا مِنْ آيَاتِ الصَّلَاةِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بَيَّنَّا الرِّبَا وَمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَشَرَحْنَا حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ ، وَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَهُنَا مُحَلَّلٌ ، وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ قِسْمَانِ ؛ مِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الرَّجُلُ يَهَبُ هِبَةً يَطْلُبُ أَفْضَلَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ يَخْدُمُهُ وَيُعِينُهُ ، فَيَجْعَلُ الْمَخْدُومُ لَهُ بَعْضَ الرِّبْحِ جَزَاءَ خِدْمَتِهِ ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَ الشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : الرَّجُلُ يَصِلُ قَرَابَتَهُ ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ كَوْنَهُ غَنِيًّا ، لَا صِلَةً لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا مَنْ يَصِلُ قَرَابَتَهُ لِيَكُونَ غَنِيًّا فَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ مُتَنَوِّعَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لِيَتَظَاهَرَ بِهِ دُنْيَا فَلَيْسَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَابَةِ وَبَيْنَهُمَا مِنْ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ ، فَإِنَّهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ الرَّجُلَ بِخِدْمَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ لِلدُّنْيَا لَا لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْبِي لَيْسَ لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَرْبُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، وَصَرِيحُ الْآيَةِ فِيمَنْ يَهَبُ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْمُكَافَأَةِ ، وَذَلِكَ لَهُ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا " .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْهِبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ أَوْ لِجَلْبِ الْمَوَدَّةِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } .
وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ الْهِبَةَ لَا يَطْلُبُ إلَّا الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا ، وَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْمَوَدَّةُ تَبَعًا لِلْهِبَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثَابَ عَلَى لَقْحَةٍ } ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى صَاحِبِهَا حِينَ طَلَبَ الثَّوَابَ ، إنَّمَا أَنْكَرَ سَخَطَهُ لِلثَّوَابِ ، وَكَانَ زَائِدًا عَلَى الْقِيمَةِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا إذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ زَائِدًا عَلَى مُكَافَأَتِهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ قَائِمَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ ، فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ ، أَوْ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ، كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ فَوَاتِ الْهِبَةِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِيمَةُ اتِّفَاقًا .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } أَيْ لَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
سُورَةُ لُقْمَانَ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { لَهْوَ الْحَدِيثِ } هُوَ الْغِنَاءُ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ : فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ ، وَلَا شِرَاؤُهُنَّ ، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ ، وَلَا أَثْمَانُهُنَّ ؛ وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } } الْآيَةَ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ ؟ أَدْخِلُوهُمْ فِي رِيَاضِ الْمِسْكِ .
ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ : أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي وَشُكْرِي ، وَثَنَائِي عَلَيْهِمْ ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
وَمِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْبَاطِلُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الطَّبْلُ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ ، كَانَ يَجْلِسُ بِمَكَّةَ ، فَإِذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ : إنَّ مُحَمَّدًا قَالَ كَذَا وَكَذَا ضَحِكَ مِنْهُ ،