كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

مُقَدِّمَةُ الطَّبَرِيِّ شَيْخِ الدِّينِ فَجَاءَ فِيهِ بِالْعَجَبِ الْعُجَابِ ، وَنَثَرَ فِيهِ أَلْبَابَ الْأَلْبَابِ ، وَفَتَحَ فِيهِ لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ إلَى مَعَارِفِهِ الْبَابَ ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ غَرَفَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ إنَائِهِ ، وَمَا نَقَصَتْ قَطْرَةٌ مِنْ مَائِهِ ، وَأَعْظَمُ مَنْ انْتَقَى مِنْهُ الْأَحْكَامَ بَصِيرَةً : الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ ، فَاسْتَخْرَجَ دُرَرَهَا ، وَاسْتَحْلَبَ دِرَرَهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ غَيَّرَ أَسَانِيدَهَا لَقَدْ رَبَطَ مَعَاقِدَهَا ، وَلَمْ يَأْتِ بَعْدَهُمَا مَنْ يَلْحَقُ بِهِمَا .
وَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِبْصَارِ فِي اسْتِثَارَةِ الْعُلُومِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ حَسْبَ مَا مَهَّدَتْهُ لَنَا الْمَشْيَخَةُ الَّذِينَ لَقِينَا ، نَظَرْنَاهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَطْرَحِ ، ثُمَّ عَرَضْنَاهَا عَلَى مَا جَلَبَهُ الْعُلَمَاءُ ، وَسَبَرْنَاهَا بِعِيَارِ الْأَشْيَاخِ .
فَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ النَّظَرُ أَثْبَتْنَاهُ ، وَمَا تَعَارَضَ فِيهِ شَجَرْنَاهُ ، وَشَحَذْنَاهُ حَتَّى خَلُصَ نُضَارُهُ وَوَرِقَ عِرَارُهُ .
فَنَذْكُرُ الْآيَةَ ، ثُمَّ نَعْطِفُ عَلَى كَلِمَاتِهَا بَلْ حُرُوفِهَا ، فَنَأْخُذُ بِمَعْرِفَتِهَا مُفْرَدَةً ، ثُمَّ نُرَكِّبُهَا عَلَى أَخَوَاتِهَا مُضَافَةً ، وَنَحْفَظُ فِي ذَلِكَ قِسْمَ الْبَلَاغَةِ ، وَنَتَحَرَّزُ عَنْ الْمُنَاقَضَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَارَضَةِ ، وَنَحْتَاطُ عَلَى جَانِبِ اللُّغَةِ ، وَنُقَابِلُهَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ ، وَنَتَحَرَّى وَجْهَ الْجَمِيعِ ؛ إذْ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ، وَنُعَقِّبُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوَابِعَ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِهَا مِنْهَا ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ الْقَوْلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْبَابِ فَنُحِيلَ عَلَيْهِ فِي مَوْضُوعِهِ مُجَانِبِينَ لِلتَّقْصِيرِ وَالْإِكْثَارِ ، وَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَسْتَهْدِي ، فَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ .

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى [ قَوْله تَعَالَى ] : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَتْ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِآيَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ اسْتِفْتَاحٌ لِيُعْلَمَ بِهَا مُبْتَدَؤُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ آيَةٌ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ وَهَلْ تَكُونُ آيَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ؟ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْخِلَافِ مِنْ قِسْمِ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقِ إثْبَاتِهِ قُرْآنًا ، وَوَجْهُ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُ ، فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَأَشَرْنَا إلَى بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَوَدِدْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لَهُ فَفِيهَا إشْكَالٌ عَظِيمٌ .
وَنَرْجُو أَنَّ النَّاظِرَ فِي كَلَامِنَا فِيهَا سَيَمْحِي عَنْ قَلْبِهِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ سَدَلَ مِنْ إشْكَالٍ بِهِ .
فَائِدَةُ الْخِلَافِ : وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، فَتَدْخُلُ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فِي الْوُجُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ ، أَوْ فِي الِاسْتِحْبَابِ [ كَذَلِكَ ] .
وَيَكْفِيَك أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، وَالْقُرْآنُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، فَإِنَّ إنْكَارَ الْقُرْآنِ كُفْرٌ .
فَإِنْ قِيلَ : وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرْآنًا لَكَانَ مُدْخِلُهَا فِي الْقُرْآنِ كَافِرًا ؛ قُلْنَا : الِاخْتِلَافُ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ آيَةً ، وَيَمْنَعُ مِنْ تَكْفِيرِ مَنْ يَعُدُّهَا مِنْ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ

الْكُفْرَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ ؟ قُلْنَا : لَا تَجِبُ ، فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى { أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْرَأُ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَنَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ } .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ شَيْئًا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ .
قُلْنَا : وَهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلًا لَا يَلِيقُ بِالشَّافِعِيِّ لِعَظِيمِ فِقْهِهِ ، وَأَنَسٍ وَابْنِ مُغَفَّلٍ إنَّمَا قَالَا هَذَا رَدًّا عَلَى مَنْ يَرَى قِرَاءَةَ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ قِرَاءَتَهَا ، وَقَدْ تَوَلَّى الدَّارَقُطْنِيُّ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ صَحَّحَهُ .
قُلْنَا : لَسْنَا نُنْكِرُ الرِّوَايَةَ ، لَكِنَّ مَذْهَبَنَا يَتَرَجَّحُ بِأَنَّ أَحَادِيثَنَا ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَإِنَّهَا أَصَحُّ ، وَبِوَجْهٍ عَظِيمٍ وَهُوَ الْمَعْقُولُ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الشَّرِيعَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ انْقَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْأَزْمِنَةُ مِنْ لَدُنْ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى زَمَانِ مَالِكٍ ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ [ قَطُّ ] فِيهِ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ .
بَيْدَ أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَحَبُّوا قِرَاءَتَهَا فِي النَّفْلِ ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ الْوَارِدَةُ فِي قِرَاءَتِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : حَمِدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ تَعَالَى : مَجَّدَنِي عَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ : إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ الْعَبْدُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يَقُولُ اللَّهُ : فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .
} فَقَدْ تَوَلَّى سُبْحَانَهُ قِسْمَةَ الْقُرْآنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرَ تَمَامٍ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الْمُشْكِلَاتِ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى حَمِدَ نَفْسَهُ ، وَافْتَتَحَ بِحَمْدِهِ كِتَابَهُ ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، بَلْ نَهَاهُمْ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ ، فَقَالَ : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } وَمَنَعَ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ مَدْحَ بَعْضٍ لَهُ ، أَوْ يَرْكَنَ إلَيْهِ ، وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ ، وَقَالَ : { اُحْثُوا فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ } رَوَاهُ الْمِقْدَادُ وَغَيْرُهُ .
وَكَأَنَّ فِي مَدْحِ اللَّهِ لِنَفْسِهِ وَحَمْدِهِ لَهَا وُجُوهًا مِنْهَا ثَلَاثٌ أُمَّهَاتٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَحْمَدُهُ ، وَكَلَّفَنَا حَمْدَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَيْهِ إلَّا بِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مَعْنَاهُ : قُولُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، فَيَكُونُ فَائِدَةُ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ لَنَا ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِنَصْبِ الدَّالِ فِي الشَّاذِّ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَدْحَ النَّفْسِ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا يُدْخِلُ عَلَيْهَا مِنْ الْعُجْبِ بِهَا ، وَالتَّكَثُّرِ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِهَا ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الِاخْتِصَاصَ بِمَنْ يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ التَّكَثُّرُ ، وَهُوَ الْمَخْلُوقُ ، وَوَجَبَ ذَلِكَ لِلْخَالِقِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلُ الْحَمْدِ .
وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ ، وَالْفَائِدَةُ الْمَقْصُودَةُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدْنَا لَكُمْ ، { أَنَّهُ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ، أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ سَبْعًا ، ثَلَاثًا لِي وَثَلَاثًا لَك ، وَوَاحِدَةً بَيْنِي وَبَيْنَك ؛ فَأَمَّا الثَّلَاثُ الَّتِي لِي : فَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وَأَمَّا

الثَّلَاثُ الَّتِي لَك فَ { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَأَمَّا الْوَاحِدَةُ الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } } يَعْنِي : مِنْ الْعَبْدِ الْعِبَادَةَ ، وَمِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْعَوْنَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْرَؤُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهَا فَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ فِي الصَّلَاةِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَلِعُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يَقْرَؤُهَا إذَا أَسَرَّ خَاصَّةً قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : لَا يَقْرَأُ .
الثَّالِثُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : يَقْرَؤُهَا خَلْفَ الْإِمَامِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ ، كَأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا ، وَالْمَسْأَلَةُ عَظِيمَةُ الْخَطَرِ ، وَقَدْ أَمْضَيْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فِي دَلَائِلِهَا بِمَا فِيهِ غُنْيَةً .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا فِيمَا يُسِرُّ وَتَحْرِيمُهَا فِيمَا جَهَرَ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ لَهُ ، وَالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ عَنْهُ فِي مَقَامٍ بَعِيدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ السِّرِّ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِرَاءَتِهَا عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَحَالَةٍ ، وَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ حَالَةَ الْجَهْرِ بِوُجُوبِ فَرْضِ الْإِنْصَاتِ ، وَبَقِيَ الْعُمُومُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَهَذِهِ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي عَدَدِ آيَاتِهَا : لَا خِلَافَ أَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ ، فَإِذَا عَدَدْتَ فِيهَا { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } آيَةً اطَّرَدَ الْعَدَدُ ، وَإِذَا أَسْقَطْتهَا تَبَيَّنَ تَفْصِيلُ الْعَدَدِ فِيهَا .
قُلْنَا : إنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدَدِ فِي قَوْلِهِ : { أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ } هَلْ هُوَ خَاتِمَةُ آيَةٍ أَوْ نِصْفُ آيَةٍ ؟ وَيُرَكَّبُ هَذَا الْخِلَافُ فِي عَدِّ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } خَاتِمَةُ آيَةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ مُسْتَوْفًى ، فَإِنْ قِيلَ : فَلَيْسَ بِمُقَفًّى عَلَى نَحْوِ الْآيَاتِ [ قَبْلَهُ ] قُلْنَا : هَذَا غَيْرُ لَازِمٍ فِي تَعْدَادِ الْآيِ ، وَاعْتَبِرْهُ بِجَمِيعِ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ تَجِدْهُ صَحِيحًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قُلْنَا

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : التَّأْمِينُ خَلْفَ الْإِمَامِ : ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا قَالَ الْإِمَامُ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا : آمِينَ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
فَتَرْتِيبُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا ، وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا يَدُلُّ عَلَيْهَا : الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى : تَأْمِينُ الْإِمَامِ .
الثَّانِيَةُ : تَأْمِينُ مَنْ خَلْفَهُ .
الثَّالِثَةُ : تَأْمِينُ الْمَلَائِكَةِ .
الرَّابِعَةُ : مُوَافَقَةُ التَّأْمِينِ .
فَعَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعِ تَتَرَتَّبُ الْمَغْفِرَةُ .
وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنْ الثَّالِثَةِ اخْتِصَارًا لِاقْتِضَاءِ الرَّابِعَةِ لَهَا فَصَاحَةً ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْبَيَانِ لِلِاسْتِرْشَادِ وَالْإِرْشَادِ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ جَدَلِ أَهْلِ الْعِنَادِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ : ( آمِينَ ) ، فَقِيلَ : هُوَ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلٍ ، كَقَوْلِهِ : يَا مِينَ ، وَقِيلَ فِيهِ : أَمِينٌ عَلَى وَزْنِ يَمِينٍ ؛ الْأُولَى مَمْدُودَةٌ ، وَالثَّانِيَةُ مَقْصُورَةٌ ، وَكِلَاهُمَا لُغَةٌ ، وَالْقَصْرُ أَفْصَحُ وَأَخْصَرُ ، وَعَلَيْهَا مِنْ الْخَلْقِ الْأَكْثَرُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَعْنَى لَفْظِ آمِينَ : فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : إنَّهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَصِحُّ نَقْلُهُ وَلَا ثَبَتَ قَوْلُهُ .
الثَّانِي : قِيلَ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ ، وُضِعَتْ مَوْضِعَ الدُّعَاءِ اخْتِصَارًا .
الثَّالِثُ : قِيلَ مَعْنَاهُ كَذَلِكَ يَكُونُ ، وَالْأَوْسَطُ أَصَحُّ وَأَوْسَطُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذِهِ كَلِمَةٌ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا ، خَصَّنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا ، فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : " مَا حَسَدَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدُوكُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ : آمِينَ " .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : تَأْمِينُ الْمُصَلِّي : فِي تَأْمِينِ الْمُصَلِّي ، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا ، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ اتِّفَاقًا .
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ لِنَفْسِهِ إذَا أَكْمَلَ قِرَاءَتَهُ ، وَفِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا أَكْمَلَ الْقِرَاءَةَ إمَامُهُ يُؤَمِّنُ .
وَأَمَّا الْإِمَامُ فَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُؤَمِّنُ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَهُ إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ : إذَا بَلَغَ مَكَانَ التَّأْمِينِ ، كَقَوْلِهِمْ : أَنْجَدَ الرَّجُلُ إذَا بَلَغَ نَجْدًا ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُؤَمِّنُ .
قَالَ ابْنُ بُكَيْر : هُوَ بِالْخِيَارِ ، فَإِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : يُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ جَهْرًا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَبِيبٍ يَقُولَانِ : يُؤَمِّنُ سِرًّا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَأْمِينُ الْإِمَامِ جَهْرًا ؛ فَإِنَّ ابْنَ شِهَابٍ قَالَ : { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ آمِينَ } ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : { حَتَّى إنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً مِنْ قَوْلِ النَّاسِ آمِينَ } .
وَفِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ : { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ آمِينَ ، حَتَّى يُسْمَعَ مِنْ الصَّفِّ } ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ الْأَوْزَاعِيِّ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالَ : آمِينَ ، يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَضْلُ الْفَاتِحَةِ : لَيْسَ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا إلَّا حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ : { قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ .
} الثَّانِي : حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : { لَأُعَلِّمَنَّك سُورَةً مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا } .
وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فِي فَضْلِ سُورَةٍ إلَّا قَلِيلٌ سَنُشِيرُ إلَيْهِ ، وَبَاقِيهَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَيْهَا .

سُورَة الْبَقَرَةِ اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَعْظَمِ سُوَرِ الْقُرْآنِ ؛ سَمِعْتُ بَعْضَ أَشْيَاخِي يَقُولُ : فِيهَا أَلْفُ أَمْرٍ ، وَأَلْفُ نَهْيٍ ، وَأَلْفُ حُكْمٍ ، وَأَلْفُ خَبَرٍ ، وَلِعَظِيمِ فِقْهِهَا أَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ثَمَانِي سِنِينَ فِي تَعَلُّمِهَا ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مَشْرُوحًا فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ فِي أَعْوَامٍ ، وَلَيْسَ فِي فَضْلِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ إلَّا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَإِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَا يَدْخُلُهُ شَيْطَانٌ } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَعَدَمُ الْهُدَى وَضَعْفُ الْقُوَى وَكَلَبُ الزَّمَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَعْطِيلِهِمْ وَصَرْفِهِمْ عَنْ الْحَقِّ ، وَاَلَّذِي حَضَرَ الْآنَ مِنْ أَحْكَامِهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ تِسْعُونَ آيَةً : الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { يُؤْمِنُونَ } : قَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَمِنْهَا تُؤْخَذُ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَقِيقَةُ الْغَيْبِ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ : قَوْلُهُ : { بِالْغَيْبِ } .
وَحَقِيقَتُهُ مَا غَابَ عَنْ الْحَوَاسِّ مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ ، فَافْهَمُوهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : مَا ذَكَرْنَاهُ كَوُجُوبِ الْبَعْثِ ، وَوُجُودِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَالْحِسَابِ .
الثَّانِي : بِالْقَدَرِ .
الثَّالِثِ : بِاَللَّهِ تَعَالَى .
الرَّابِعِ : يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ لَا بِأَلْسِنَتِهِمْ الَّتِي يُشَاهِدُهَا النَّاسُ ، مَعْنَاهُ : لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ ، وَكُلُّهَا قَوِيَّةٌ إلَّا الثَّانِي وَالثَّالِثَ فَإِنَّهُ يُدْرَكُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ ، فَلَا يَكُونُ غَيْبًا حَقِيقَةً ، وَهَذَا الْأَوْسَطُ ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ عَلَى الْخُصُوصِ .

وَالْأَقْوَى هُوَ الْأَوَّلُ ؛ أَنَّهُ الْغَيْبُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَا تَهْتَدِي إلَيْهِ الْعُقُولُ ، وَالْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ الْغَائِبَةِ عَنْ الْخَلْقِ ، وَيَكُونُ مَوْضِعُ الْمَجْرُورِ عَلَى هَذَا رَفْعًا ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نَصْبًا ، كَقَوْلِك : مَرَرْت بِزَيْدٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُقَدَّرًا نَصْبًا ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : جَعَلْتُ قَلْبِي مَحَلًّا لِلْإِيمَانِ ، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ عَنْ الْخَلْقِ .
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَا بِحِمَى الذِّمَارِ ، وَلَا يُوجِبُ لَهُ الِاحْتِرَامَ ، إلَّا بِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الثَّلَاثِ ؛ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ عِصْمَةً .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ حَتَّى بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي مُتَنَاوَلِ الصَّلَاةِ حَتَّى خَصَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عَرَبِيٍّ يَرِدُ مَوْرِدَ التَّكْلِيفِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُجْمَلٌ مَوْقُوفٌ بَيَانُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحْدُودًا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ ؛ فَإِنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ اشْتِرَاكٌ ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ بَيَانِهِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مُجْمَلِهِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ ، وَلَوْ فَرَضْنَا عَدَمَهُ لَارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ ، وَذَلِكَ تَحَقَّقَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دُونِ هَذَا أَوْ مِثْلِهِ : " ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهَا عَهْدًا نَنْتَهِي إلَيْهِ : الْجَدُّ ، وَالْكَلَالَةُ ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا " .
فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ ، وَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ ، وَنَزَلَ سَحَرًا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَصَلَّى بِهِ وَعَلَّمَهُ ، ثُمَّ وَرَدَتْ الْآيَاتُ بِالْأَمْرِ بِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا ؛ فَكَانَتْ وَارِدَةً بِمَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ ، وَسَقَطَ مَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوْهُومِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ { وَيُقِيمُونَ } : فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : يُدِيمُونَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا ، مِنْ قَوْلِكَ :

شَيْءٌ قَائِمٌ ، أَيْ دَائِمٌ .
وَالثَّانِي : مَعْنَاهُ يُقِيمُونَهَا بِإِتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَاسْتِيفَاءِ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ : " مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ " .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي اشْتِقَاقِ النَّفَقَةِ : وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْلَافِ ، وَلِتَأْلِيفِ " نَفَقَ " فِي لِسَانِ الْعَرَبِ مَعَانٍ ، أَصَحُّهَا الْإِتْلَافُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا ، يُقَالُ نَفِقَ الزَّادُ يَنْفَقُ إذَا فَنِيَ ، وَأَنْفَقَهُ صَاحِبُهُ : أَفْنَاهُ ، وَأَنْفَقَ الْقَوْمُ : فَنِيَ زَادُهُمْ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ } الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي وَجْهِ هَذَا الْإِتْلَافِ : وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اتَّصَلَ بِالْمَدْحِ تَخَصَّصَ مِنْ إجْمَالِهِ جُمْلَةٌ .
وَبَعْدَ ذَلِكَ التَّخْصِيصِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ .
الثَّالِثِ : صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الرَّابِعِ : أَنَّهُ وَفَاءُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ الْعَارِضَةِ فِي الْمَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ .
الْخَامِسِ : أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ .
التَّوْجِيهُ : أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ : " إنَّهُ الزَّكَاةُ " فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ قُرِنَ بِالصَّلَاةِ ، وَالنَّفَقَةُ الْمُقْتَرِنَةُ [ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ] بِالصَّلَاةِ هِيَ الزَّكَاةُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِ فَلِأَنَّهُ أَفْضَلُ النَّفَقَةِ .
رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : عِنْدِي دِينَارٌ : قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك قَالَ : عِنْدِي آخَرُ ، قَالَ : أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَبَدَأَ بِالْأَهْلِ بَعْدَ النَّفْسِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرَابَةِ صَدَقَةً وَصِلَةً } وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِلَفْظِهَا الْمُخْتَصِّ بِهَا ، وَهُوَ الزَّكَاةُ ، فَإِذَا جَاءَتْ

بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ احْتَمَلَتْ الْفَرْضَ وَالتَّطَوُّعَ ، وَإِذَا جَاءَتْ بِلَفْظِ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ إلَّا التَّطَوُّعُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ فِي الْحُقُوقِ الْعَارِضَةِ فِي الْأَمْوَالِ مَا عَدَا الزَّكَاةَ فَنَظَرَ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ كَانَ فَرْضًا ، وَلَمَّا عَدَلَ عَنْ لَفْظِهَا كَانَ فَرْضًا سِوَاهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْسُوخٌ فَنَظَرَ إلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِهَذَا الْوَجْهِ فَرْضًا سِوَى الزَّكَاةِ ، وَجَاءَتْ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ فَنَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ ، كَمَا نَسَخَ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلَّ صَوْمٍ ، وَنَسَخَتْ الصَّلَاةُ كُلَّ صَلَاةٍ .
وَنَحْوُ هَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ التَّنْقِيحُ : إذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ الْمُنْصِفُ هَذِهِ التَّوْجِيهَاتِ تَحَقَّقَ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } : كُلُّ غَيْبٍ أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَائِنٌ ، وَقَوْلُهُ : { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } : عَامٌّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا .
وَقَوْلُهُ : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } عَامٌّ فِي كُلِّ نَفَقَةٍ ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ هَذَا الْكَلَامِ الْقَضَاءُ بِفَرْضِيَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا عَلِمْنَا الْفَرْضِيَّةَ فِي الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي مَدْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ خَاصَّةً كَيْفَمَا كَانَتْ صِفَتُهُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } .
الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ : الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانُ ، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ يَخْدَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ ، وَلَوْ عَرَفُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُخْدَعُ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ .
وَالْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ هَاهُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلْ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ وَقِيَامِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ .
اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي سَبَبِ عَدَمِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ سِوَاهُ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ هَلْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ أَمْ لَا ؟ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِمَصْلَحَةٍ وَتَأَلُّفِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ عَنْهُ .
وَقَدْ أَشَارَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ : { أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } .
الثَّالِثُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ يُسْتَتَابُ وَلَا يُقْتَلُ .
وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَتِبْهُمْ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْرِضًا عَنْهُمْ ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ ، فَهَذَا الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي

قَالَ : إنَّ اسْتِتَابَةَ الزِّنْدِيقِ جَائِزَةٌ قَالَ مَا لَمْ يَصِحَّ قَوْلًا وَاحِدًا .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِعِلْمِهِ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد بْنِ الصَّامِتِ ؛ لِأَنَّ الْمُجَذِّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثَ ، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ ، وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ الْحَارِثُ فَقَتَلَهُ ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً ، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
الْقَوْلُ الصَّحِيحُ : وَالصَّحِيحُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ تَأَلُّفًا وَمَخَافَةً مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّنْفِيرِ ، كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ .
وَهَذَا كَمَا كَانَ يُعْطِي الصَّدَقَةَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ ، أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْفَائِدَةِ الَّتِي سَنَّهَا إمْضَاءً لِقَضَايَاهُ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا } .
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَوْ حَلَفَ رَجُلٌ لَا يَبِيتُ عَلَى فِرَاشٍ ، وَلَا يَسْتَسْرِجُ سِرَاجًا ، فَبَاتَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا عُرْفًا .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النِّيَّةِ ، أَوْ السَّبَبِ ، أَوْ الْبِسَاطِ ، الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، فَإِنْ عَدِمَ ذَلِكَ فَالْعُرْفُ ، وَبَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ ، وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ اجْتَمَعَتْ فِيهِ فَائِدَتَانِ : إحْدَاهُمَا : تَأْسِيسُ الْقَاعِدَةِ .
وَالثَّانِيَةُ : عُمُومُ اللَّفْظِ ، فِي كُلِّ حُكْمٍ مَنْوِيٍّ .
وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّهُ إنْ حَلَفَ أَلَّا يَفْتَرِشَ فِرَاشًا وَقَصَدَ بِيَمِينِهِ الِاضْطِجَاعَ ، أَوْ حَلَفَ أَلَّا يَسْتَصْبِحَ ، وَنَوَى أَلَّا يَنْضَافَ إلَى نُورِ عَيْنَيْهِ نُورٌ يَعْضُدُهُ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِافْتِرَاشِ الْأَرْضِ ، وَالتَّنُّورِ بِالشَّمْسِ ، وَهَذَا حُكْمٌ جَارٍ عَلَى الْأَصْلِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .
لَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَخْبُوءَةً تَحْتَ أَسْتَارِ الْمَعْرِفَةِ حَتَّى هَتَكَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَضْلِهِ لَنَا ، وَقَدْ تَعَلَّقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا فِي أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ ، إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِالْحَظْرِ ، وَاغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَتَابَعَهُمْ عَلَيْهِ .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ بِمَا الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى الْحَظْرِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا كُلُّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَأْتِيَ دَلِيلُ الْحَظْرِ .
الثَّالِثِ : أَنْ لَا حُكْمَ لَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الدَّلِيلُ بِأَيِّ حُكْمٍ اُقْتُضِيَ فِيهَا .
وَاَلَّذِي يَقُولُ بِأَنَّ أَصْلَهَا إبَاحَةٌ أَوْ حَظْرٌ اخْتَلَفَ مَنْزَعُهُ فِي دَلِيلِ ذَلِكَ ؛ فَبَعْضُهُمْ تَعَلَّقَ فِيهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَلَّقَ بِالشَّرْعِ .
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ الشَّرْعُ قَالَ : الدَّلِيلُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فَهَذَا سِيَاقُ الْقَوْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَى الْآيَةِ .
فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْسَامِ الْمُقَدَّمَةِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لِلشَّرْعِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَدَلِيلِهَا مَدْخَلٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مُحَصِّلٌ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالَةِ ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى طَرِيقِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَتَصْرِيفِ الْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى التَّقْدِيرِ وَالْإِتْقَانِ بِالْعِلْمِ وَجَرَيَانِهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ .
وَعَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ عَلَى جَهَالَتِهِمْ بِهَا ، فَقَالَ : { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِاَلَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي

يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } .
فَخَلْقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَرْضَ ، وَإِرْسَاؤُهَا بِالْجِبَالِ ، وَوَضْعُ الْبَرَكَةِ فِيهَا ، وَتَقْدِيرُ الْأَقْوَاتِ بِأَنْوَاعِ الثَّمَرَاتِ وَأَصْنَافِ النَّبَاتِ إنَّمَا كَانَ لِبَنِي آدَمَ ؛ تَقْدِمَةً لِمَصَالِحِهِمْ ، وَأُهْبَةً لِسَدِّ مَفَاقِرِهِمْ ، فَكَانَ قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْقُدْرَةِ الْمُهَيِّئَةِ لَهَا لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ لِحَاجَةِ الْخَلْقِ ؛ وَالْبَارِئُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْهُ مُتَفَضِّلٌ بِهِ .
وَلَيْسَ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا يَقْتَضِي حُكْمَ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا جَوَازَ التَّصَرُّفِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أُبِيحَ جَمِيعُهُ جَمِيعَهُمْ جُمْلَةً مَنْثُورَةَ النِّظَامِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى قَطْعِ الْوَصَائِلِ وَالْأَرْحَامِ ، وَالتَّهَارُشِ فِي الْحُطَامِ .
وَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْمِلْكِ ، وَشَرَحَ لَهُمْ مَوْرِدَ الِاخْتِصَاصِ ، وَقَدْ اقْتَتَلُوا وَتَهَارَشُوا وَتَقَاطَعُوا ؛ فَكَيْفَ لَوْ شَمَلَهُمْ التَّسَلُّطُ وَعَمَّهُمْ الِاسْتِرْسَالُ ؛ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ إذَا سَمِعُوا هَذَا النِّدَاءَ أَنْ يَخِرُّوا سُجَّدًا ؛ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْحُرْمَةِ لِحَقِّ مَا ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ ، ثُمَّ يَتَوَكَّفُوا بَعْدَ ذَلِكَ سُؤَالَ وَجْهِ الِاخْتِصَاصِ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ .
وَنَظِيرُ هَذَا مِنْ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِتَفْهِيمِ الْحَقِّ مَا قَالَ حَكِيمٌ لِبَنِيهِ : قَدْ أَعْدَدْت لَكُمْ مَا عِنْدِي مِنْ كُرَاعٍ وَسِلَاحٍ وَمَتَاعٍ وَعَرَضٍ وَقَرْضٍ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِ كَيْفَ شَاءُوا حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ اخْتِصَاصِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { أَعْدَدْتُ

لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ ، فَلَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَيْهِ إلَّا بِتِبْيَانِ حَظِّهِ مِنْهُ وَتَعْيِينِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْبِشَارَةُ هِيَ : الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَحْبُوبِ ، وَالنِّذَارَةُ هِيَ : الْإِخْبَارُ بِالْمَكْرُوهِ ، وَذَلِكَ فِي الْبِشَارَةِ يَقْتَضِي أَوَّلَ مُخْبِرٍ بِالْمَحْبُوبِ ، وَيَقْتَضِي فِي النِّذَارَةِ كُلَّ مُخْبِرٍ .
وَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْمُكَلَّفِ : مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ .
فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مُخْبِرٍ لَهُ بِهِ يَكُونُ عَتِيقًا دُونَ الثَّانِي .
وَلَوْ قَالَ : مَنْ أَخْبَرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ ، فَهَلْ يَكُونُ الثَّانِي مِثْلَ الْأَوَّلِ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يَكُونُ حُرًّا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ .
وَعِنْدَ عُلَمَائِنَا لَا يَكُونُ بِهِ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا قَصَدَ خَبَرًا يَكُونُ بِشَارَةً ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ عُرْفًا ، فَوَجَبَ صَرْفُ اللَّفْظِ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فَاسْتَعْمَلَ الْبِشَارَةَ فِي الْمَكْرُوهِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرُهُمْ لِلْبُشْرَى ، فَقِيلَ لَهُمْ : بِشَارَتُكُمْ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِقَادِكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
فَخَرَجَ اللَّفْظُ عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ كَانَ نَظَرٌ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا }

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } الْعَهْدُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدِهِمَا : فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَالْآخَرُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ، فَأَمَّا الَّذِي فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْيَمِينُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْعَهْدُ الثَّانِي : فَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَيَلْزَمُ فِي الْحُكْمِ ، إمَّا عَلَى الْخُصُوصِ بَيْنَهُمَا ، وَإِمَّا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى الْخَلْقِ ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ حَلُّهُ ، وَلَا يَحِلُّ نَقْضُهُ ، وَلَا تَدْخُلُهُ كَفَّارَةٌ ، وَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ نَاكِثُهُ غَادِرًا ، يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، يُقَالُ : هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَيَقُولُ : الْعَهْدُ بِالْيَمِينِ ، لَمْ يَجُزْ حَلُّهُ ؛ لِأَجْلِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ } اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا سَلَامُ الْأَعَاجِمِ بِالتَّكَفِّي وَالِانْحِنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَإِمَّا وَضْعُهُ قِبْلَةً كَالسُّجُودِ لِلْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ الْأَقْوَى ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } .
وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَعْنَى التَّعْظِيمِ ؛ وَإِنَّمَا صَدَرَ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لِلْعِبَادَةِ ، وَاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : جَاءَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ أَنَّ إبْلِيسَ حَاوَلَ آدَمَ عَلَى أَكْلِهَا ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ، وَحَاوَلَ حَوَّاءَ ، فَخَدَعَهَا فَأَكَلَتْ فَلَمْ يُصِبْهَا مَكْرُوهٌ ، فَجَاءَتْ آدَمَ فَقَالَتْ لَهُ : إنَّ الَّذِي تَكْرَهُ مِنْ الْأَكْلِ قَدْ أَتَيْته فَمَا نَالَنِي مَكْرُوهٌ .
فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ آدَم اغْتَرَّ فَأَكَلَ ، فَحَلَّتْ بِهِمَا النِّقْمَةُ وَالْعُقُوبَةُ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } فَجَمَعَهُمَا فِي النَّهْيِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلْ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ حَتَّى وُجِدَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ أَوْ أَمَتَيْهِ : إنْ دَخَلْتُمَا عَلَيَّ الدَّارَ فَأَنْتُمَا طَالِقَتَانِ أَوْ حُرَّتَانِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُخُولِ إحْدَاهُمَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا تَطْلُقَانِ وَلَا تُعْتَقَانِ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الدَّارِ فِي الدُّخُولِ ، حَمْلًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، وَأَخْذًا بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ اللَّفْظِ .
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : تُعْتَقَانِ جَمِيعًا ، وَتَطْلُقَانِ جَمِيعًا بِوُجُودِ الدُّخُولِ مِنْ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْحِنْثِ حِنْثٌ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ أَحَدِهِمَا ، بَلْ بِأَكْلِ لُقْمَةٍ مِنْهُمَا حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْمَسَائِلِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : تُعْتَقُ وَتَطْلُقُ الَّتِي دَخَلَتْ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّ دُخُولَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي طَلَاقِهَا أَوْ عِتْقِهَا .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ وَضَعْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَوَضَعَتْ وَلَدًا ، وَبَقِيَ فِي بَطْنِهَا آخَرُ : إنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تَضَعَ الْآخَرَ .
وَقَالَ

مَرَّةً أُخْرَى : تَطْلُقُ بِوَضْعِ الْأَوَّلِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْيَمِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نِيَّةٌ وَبِسَاطٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْ بِسَاطٌ أَوْ نِيَّةٌ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ أَشْهَبَ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلَمَائِنَا اخْتِلَافَ حَالٍ لَا اخْتِلَافَ قَوْلٍ ؛ فَأَمَّا الْحُكْمُ بِطَلَاقِهِمَا أَوْ عِتْقِهِمَا مَعًا بِدُخُولِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَبَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ شَرْطًا إجْمَاعًا ، وَأَمَّا [ الْحُكْمُ ] بِالْحِنْثِ بِأَكْلِ بَعْضِ الرَّغِيفَيْنِ ؛ فَلِأَنَّهُ مَحْلُوفٌ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُ الْحِنْثِ حِنْثٌ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الِاجْتِنَابَ الَّذِي عَقَدَهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { هَذِهِ الشَّجَرَةَ } : اخْتَلَفَ النَّاسُ كَيْفَ أَكَلَ آدَمُ مِنْ الشَّجَرَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَكَلَ مِنْ جِنْسِ الشَّجَرَةِ لَا مِنْ عَيْنِهَا ، كَأَنَّ إبْلِيسَ غَرَّهُ بِالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ ، وَهِيَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عَصَى اللَّهَ بِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَاجْتَنِبُوهُ ؛ فَإِنَّ فِي اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ عَلَى وَجْهِهِ هَدْمَ الشَّرِيعَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ ، وَخُصُوصًا فِي كِتَابِ النَّوَاهِي عَنْ الدَّوَاهِي .
الثَّالِثِ : أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ .
الرَّابِعِ : أَنَّهُ أَكَلَ مُتَأَوِّلًا ؛ لِرَغْبَةِ الْخُلْدِ ، وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ مَا يَعُودُ عَلَى الْمُتَأَوِّلِ بِالْإِسْقَاطِ .
الْخَامِسِ : أَنَّهُ أَكَلَ نَاسِيًا .
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ أَكَلَهَا سَكْرَانَ : فَتَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي أَنَّ أَفْعَالَ السَّكْرَانِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ وَالْعُقُوبَاتِ ، وَأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي فِعْلٍ ؛ بَلْ يَلْزَمُهُ حُكْمُ كُلِّ فِعْلٍ ، كَمَا يَلْزَمُ الصَّاحِي ، كَمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ حُكْمَ الْخِلَافِ فِي الْمَعْصِيَةِ مَعَ السُّكْرِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَفْعَالِ السَّكْرَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدِهِمَا : أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا لَغْوٌ .
الثَّالِثِ : أَنَّ الْعُقُودَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَالنِّكَاحِ ، وَأَنَّ الْحِلَّ مُعْتَبَرٌ كَالطَّلَاقِ ، وَلِذَا إذَا أَكَلَ مِنْ جِنْسِهَا فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ فَأَكَلَ مِنْ جِنْسِهِ حَنِثَ .
وَتَحْقِيقُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا : لَا حِنْثَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : إنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ تَعْيِينَ الْمُشَارِ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ جِنْسِهِ ، وَإِنْ اقْتَضَى بِسَاطُ الْيَمِينِ أَوْ سَبَبُهَا أَوْ نِيَّتُهَا الْجِنْسَ حُمِلَ عَلَيْهِ ، وَحَنِثَ بِأَكْلِ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ حُمِلَتْ

قِصَّةُ آدَمَ ؛ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شَجَرَةٍ عُيِّنَتْ لَهُ ، وَأُرِيدَ بِهِ جِنْسُهَا ، فَحَمَلَ الْقَوْلَ عَلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي فَرْعٍ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ فَأَكَلَ خُبْزًا مِنْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ فِي الْكِتَابِ : إنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهَا هَكَذَا تُؤْكَلُ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ حِنْطَةً ، وَإِنَّمَا أَكَلَ خُبْزًا ، فَرَاعَى الِاسْمَ وَالصِّفَةَ .
وَلَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ : لَا آكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَحَنِثَ بِأَكْلِ الْخُبْزِ الْمَعْمُولِ مِنْهَا .
وَأَمَّا حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، فَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ هَاهُنَا فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ } فَقَرَنَ النَّهْيَ بِالْوَعِيدِ ؛ وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ .
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ لَا تَأْكُلْهَا فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ ، وَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْ الْخَالِدِينَ ؟ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ أَكَلَهَا نَاسِيًا فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ طَه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
التَّنْقِيحُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ آدَمَ أَكَلَهَا سَكْرَانَ فَفَاسِدٌ نَقْلًا وَعَقْلًا : أَمَّا النَّقْلُ فَلِأَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ بِحَالٍ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا الْكَرْمُ " ، فَكَيْفَ يُنْهَى عَنْهَا وَيُوقِعُهُ الشَّيْطَانُ فِيهَا ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ بِأَنَّهَا لَا غَوْلٌ فِيهَا ، فَكَيْفَ تُوصَفُ بِغَيْرِ صِفَتِهَا الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَنْهَا فِي الْقُرْآنِ .
وَأَمَّا الْعَقْلُ ؛ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهُونَ عَمَّا يُؤَدِّي إلَى الْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ وَاقْتِحَامِ الْجَرَائِمِ .
وَأَمَّا سَائِرُ التَّوْجِيهَاتِ فَمُحْتَمَلَةٌ ، وَأَظْهَرُهَا الثَّانِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ آدَم مِنْ الشَّجَرَةِ سُلِخَ عَنْ كِسْوَتِهِ ، وَخُلِعَ مِنْ وِلَايَتِهِ ، وَحُطَّ عَنْ مَرْتَبَتِهِ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى سَوْأَتِهِ مُنْكَشِفَةً قَطَعَ الْوَرَقَ مِنْ الثِّمَارِ وَسَتَرَهَا ، وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ .
وَفِي ذَلِكَ مَسْأَلَتَانِ : [ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بِأَيِّ شَيْءٍ سَتَرَهَا ؟ ] : فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ مُنْكَشِفًا ، مِنْهُمْ : الْقَدَرِيَّةُ ، وَبِهِ قَالَ أَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا اسْتِمْرَارًا عَلَى عَادَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّمَا سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِعَقْلِهِ فَإِنَّهُ بَنَاهَا عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ وَيَحْظُرُ وَيُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، وَهُوَ جَهْلٌ عَظِيمٌ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَقَدْ وَهِيَ أَقْضَى الْقُضَاةِ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَتَرَهَا مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، فَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ سَتَرَهَا عَادَةً .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَتَرَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ وَعَرَّفَهُ الْأَحْكَامَ فِيهَا ، وَأَسْجَلَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مِمَّنْ سَتَرَهَا ؟ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا أَهْلُهُ الَّذِينَ يَنْكَشِفُ عَلَيْهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ عَلَيْهِ .
؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَأَحْكَامِهَا [ وَمَحَلِّهَا ] ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آدَم سَتَرَهَا مِنْ زَوْجِهِ بِأَمْرٍ جَازِمٍ فِي شَرْعِهِ ، أَوْ بِأَمْرِ نَدْبٍ ، كَمَا هُوَ عِنْدَنَا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا رَأَى سَتْرَهَا إلَّا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى كَشْفِهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرْعِهِ

أَنَّهُ لَا يَكْشِفُهَا إلَّا لِلْحَاجَةِ .
وَيَجُوزُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، { وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَتْرِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، وَقَالَ : اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ } .
وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ آدَمَ لَمْ يَأْتِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ لَا بِمُجَرَّدِ عَقْلٍ ، إذْ قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ اقْتِضَاءِ الْعَقْلِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالرُّكُوعِ أَمْرٌ بِمَعْلُومٍ مُتَحَقِّقٍ سَابِقٍ لِلْفِعْلِ بِالْبَيَانِ ، وَخَصَّ الرُّكُوعَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَثْقَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الِانْحِنَاءُ لُغَةً ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، وَقَدْ كَانَ الرُّكُوعُ أَثْقَلَ شَيْءٍ عَلَى الْقَوْمِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَى أَلَّا أَخُرَّ إلَّا قَائِمًا ، فَمَنْ تَأَوَّلَهُ : عَلَى أَلَّا أَرْكَعَ ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ مِنْ قَلْبِهِ اطْمَأَنَّتْ بِذَلِكَ نَفْسُهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أُمِرُوا بِالزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ مِنْ الْأَدْيَانِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مِقْدَارَ الْجُزْءِ الَّذِي يَلْزَمُ بَذْلُهُ مِنْ الْمَالِ .
وَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ النَّمَاءِ ، يُقَالُ : زَكَاةُ الزَّرْعِ إذَا نَمَا ، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ الطَّهَارَةِ ، يُقَالُ : زَكَاةُ الرَّجُلِ ، إذَا تَطَهَّرَ عَنْ الدَّنَاءَاتِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : قِيلَ لَهُمْ قُولُوا حِطَّةٌ ، فَقَالُوا : سقماثاه أزه هَذَبًا ، مَعْنَاهُ حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ مَرْبُوطَةٍ ، اسْتِخْفَافًا مِنْهُمْ بِالدِّينِ وَمُعَانَدَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَقِّ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ : إنَّ هَذَا الذَّمَّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْأَقْوَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ .
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهِ نَظَرٌ ؛ وَسَبِيلُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنْ نَقُولَ : إنَّ الْأَقْوَالَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي الشَّرِيعَةِ لَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِلَفْظِهَا ، أَوْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا ، فَإِنْ كَانَ التَّعَبُّدُ وَقَعَ بِلَفْظِهَا فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا .
وَإِنْ وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِمَعْنَاهَا جَازَ تَبْدِيلُهَا بِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ ، وَلَكِنْ لَا تَبْدِيلَ إلَّا بِاجْتِهَادٍ .
وَمِنْ الْمُسْتَقِلِّ بِالْمَعْنَى الْمُسْتَوْفِي لِذَلِكَ الْعَالِمِ بِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ طِبْقُ الْمَعْنَى .
وَبَنُو إسْرَائِيلَ قِيلَ لَهُمْ قُولُوا : حِطَّةٌ ، أَيْ اللَّهُمَّ اُحْطُطْ عَنَّا ذُنُوبَنَا .
فَقَالُوا اسْتِخْفَافًا : حَبَّةٌ مَقْلُوَّةٌ فِي شَعْرَةٍ [ فَبَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطِي مَعْنَاهُ ] .
وَلَوْ بَدَّلُوهُ بِمَا لَا يُعْطَى مَعْنَاهُ جِدًّا لَمْ يَجُزْ ؛ فَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ الْمَمْنُوعُ الْمَذْمُومُ مِنْهُمْ .
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَقْلُ الْحَدِيثِ بِغَيْرِ لَفْظِهِ إذَا أَدَّى مَعْنَاهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ؛ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ جَوَازُهُ ؛ قَالَ : لَيْسَ كُلُّ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَنْقُلُهُ بِلَفْظِهِ ؛ حَسْبُكُمْ الْمَعْنَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَأَذْكُرُ لَكُمْ فِيهِ فَصْلًا بَدِيعًا ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي عَصْرِ

الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ ، وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى ، وَإِنْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ؛ فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَاهُ لِكُلِّ أَحَدٍ لَمَا كُنَّا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ الْأَخْذِ بِالْحَدِيثِ ؛ إذْ كُلُّ أَحَدٍ إلَى زَمَانِنَا هَذَا قَدْ بَدَّلَ مَا نَقَلَ ، وَجَعَلَ الْحَرْفَ بَدَلَ الْحَرْفِ فِيمَا رَوَاهُ ؛ فَيَكُونُ خُرُوجًا مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْجُمْلَةِ .
وَالصَّحَابَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ اجْتَمَعَ فِيهِمْ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ : أَحَدُهُمَا : الْفَصَاحَةُ وَالْبَلَاغَةُ ؛ إذْ جِبِلَّتُهُمْ عَرَبِيَّةٌ ، وَلُغَتُهُمْ سَلِيقَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ شَاهَدُوا قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلَهُ ، فَأَفَادَتْهُمْ الْمُشَاهَدَةُ عَقْلَ الْمَعْنَى جُمْلَةً ، وَاسْتِيفَاءَ الْمَقْصِدِ كُلِّهِ ؛ وَلَيْسَ مَنْ أَخْبَرَ كَمَنْ عَايَنَ .
أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ حَدِيثٍ : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَذَا ، وَلَا يَذْكُرُونَ لَفْظَهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ خَبَرًا صَحِيحًا وَنَقْلًا لَازِمًا ؛ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرِيبَ فِيهِ مُنْصِفٌ لِبَيَانِهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } هَذِهِ الْآيَةُ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ ، مُشْكِلَةٌ فِي النَّظَرِ ؛ لِتَعَلُّقِهَا بِالْأُصُولِ وَمِنْ الْفُرُوعِ بِالْكَلَامِ فِي الدَّمِ ، وَفِي كُلِّ فَصْلٍ إشْكَالٌ ، وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ ذَلِكَ : رُوِيَ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا مَنْ قَتَلَ رَجُلًا غِيلَةً بِسَبَبٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ؛ وَطَرَحَهُ بَيْنَ قَوْمٍ ، وَكَانَ قَرِيبُهُ ، فَادَّعَى بِهِ عَلَيْهِمْ ، تَرَافَعُوا إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ الْقَاتِلُ : قَتَلَ قَرِيبِي هَذَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ، وَقَدْ وَجَدْتُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، فَانْتَفُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَسَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِرَغْبَةٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي تَبْيِينِ الْحَقِّ لَهُمْ ؛ فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ تَعَالَى ؛ فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَأَخْذِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَيِّتُ فَيَحْيَا فَيُخْبِرُهُمْ بِقَاتِلِهِ ؛ فَسَأَلُوا عَنْ أَوْصَافِهَا وَشَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إلَى صِفَتِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ، فَطَلَبُوا تِلْكَ الْبَقَرَةَ فَلَمْ يَجِدُوهَا إلَّا عِنْدَ رَجُلٍ بَرٍّ بِأَبَوَيْهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا ؛ فَطَلَبَ مِنْهُمْ فِيهَا مِسْكَهَا مَمْلُوءًا ذَهَبًا ، فَبَذَلُوهُ فِيهَا ، فَاسْتَغْنَى ذَلِكَ الرَّجُلُ بَعْدَ فَقْرِهِ ، وَذَبَحُوهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا ، فَقَالَ : فُلَانٌ قَتَلَنِي ، لِقَاتِلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : كَثُرَ اسْتِرْسَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُمْ فِي كُلِّ طَرِيقٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } .
وَمَعْنَى هَذَا [ الْخَبَرِ ] الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِمَا يُخْبِرُونَ [ بِهِ ] عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَقِصَصِهِمْ لَا بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَهُمْ عَنْ غَيْرِهِمْ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْعَدَالَةِ وَالثُّبُوتِ إلَى مُنْتَهَى الْخَبَرِ ، وَمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ قَوْمِهِ ؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ .
وَإِذَا أَخْبَرُوا عَنْ شَرْعٍ لَمْ يَلْزَمْ قَوْلُهُ ؛ فَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ ، عَنْ { عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُمْسِكُ مُصْحَفًا قَدْ تَشَرَّمَتْ حَوَاشِيهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قُلْت : جُزْءٌ مِنْ التَّوْرَاةِ ؛ فَغَضِبَ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَخْبَرَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَنْ حُكْمٍ جَرَى فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ يَلْزَمُنَا حُكْمُهُ أَمْ لَا ؟ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ، وَالْمَسْأَلَةُ تُلَقَّبُ بِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ هَلْ هُوَ شَرْعٌ لَنَا حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ أَمْ لَا ؟ فِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا وَلِنَبِيِّنَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالشَّرِيعَةِ مَعَنَا ، وَبِهِ قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَقَوْمٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ وَنَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ بُكَيْر الْقَاضِي مِنْ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ وَمَنَازِعُهُ فِي كُتُبِهِ ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الثَّانِي : أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ بِشَرْعِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
الثَّالِثُ : أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الرَّابِعُ : أَنَّا تَعَبَّدْنَا بِشَرْعِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الْخَامِسُ : أَنَّا لَمْ نَتَعَبَّدْ بِشَرْعِ أَحَدٍ ، وَلَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِلَّةِ بَشَرٍ ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ .
وَمَا مِنْ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إلَّا وَقَدْ نَزَعَ فِيهِ بِآيَةٍ ، وَتَلَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَرْفًا ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّحِيحَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا لَنَا مِمَّا أَخْبَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِفَسَادِ الطُّرُقِ إلَيْهِمْ ؛ وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أُصُولِهِ كُلِّهَا ، وَسَتَرَاهَا مَوْرُودَةً بِالتَّبْيِينِ حَيْثُ تَصَفَّحْت الْمَسَائِلَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا أَوْ غَيْرِهِ .
وَنُكْتَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا عَنْ قَصَصِ النَّبِيِّينَ ، فَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الِازْدِجَارِ وَذِكْرِ الِاعْتِبَارِ فَفَائِدَتُهُ الْوَعْظُ ،

وَمَا كَانَ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الِامْتِثَالُ لَهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ ، وَبِهَذَا يَقَعُ الرَّدُّ عَلَى ابْنِ الْجُوَيْنِيِّ حَيْثُ قَالَ : إنَّ نَبِيَّنَا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا بَاحَثَهُمْ عَنْ حُكْمٍ ، وَلَا اسْتَفْهَمَهُمْ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لِفَسَادِ مَا عِنْدَهُمْ .
أَمَّا الَّذِي نَزَلَ بِهِ عَلَيْهِ الْمَلَكُ فَهُوَ الْحَقُّ الْمُفِيدُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا ضَرَبَ بَنُو إسْرَائِيلَ الْمَيِّتَ بِتِلْكَ الْقِطْعَةِ مِنْ الْبَقَرَةِ قَالَ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ ؛ فَتَعَيَّنَ قَتْلُهُ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقَسَامَةِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ بِهَذَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ مَقْبُولٌ وَيُقْسِمُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ هَذَا آيَةً وَمُعْجِزَةً عَلَى يَدِي مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ قُلْنَا : الْآيَةُ وَالْمُعْجِزَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي إحْيَاءِ الْمَيِّتِ ، فَلَمَّا صَارَ حَيًّا كَانَ كَلَامُهُ كَسَائِرِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ كُلِّهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ، وَهَذَا فَنٌّ دَقِيقٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَتَفَطَّنُ لَهُ إلَّا مَالِكٌ .
وَلَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ فِي ذِكْرِ الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا قَتَلَهُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَةِ .
قُلْنَا : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ وَجَبَ صِدْقُهُ ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْقَسَامَةِ مَعَهُ ، أَوْ صَدَّقَهُ جِبْرِيلُ فَقَتَلَهُ مُوسَى بِعِلْمِهِ ، كَمَا قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد ، بِالْمُجَذِّرِ بْنِ زِيَادٍ بِإِخْبَارِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ بِذَلِكَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كُبْرَى قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، وَفِي الْمُوَطَّإِ ، وَغَيْرِهِ ، { حَدِيثَ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ قَالَ فِيهِ : فَتَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } .
وَفِي مُسْلِمٍ : { يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَتَلَ

رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ مِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : نُسْخَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، قَالُوا : كَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدَّمِ ، وَهُوَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دِرْهَمٍ .
وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ الدِّيَةُ ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا الْجَوَابَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَنُشِيرُ إلَيْهِ الْآنَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي تَمْضِي وَتَرِدُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهَا ، وَقَدْ تَلَوْنَا أَحَادِيثَهَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ : لَا يُقْبَلُ فِي دِرْهَمٍ قَدْ قُلْتُمْ : إنَّ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ يُقْسَمُ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ قَوْلٌ لِأَحَدٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ حَالَةٌ مُحْتَمِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ وَيَجْعَلَهُ عِنْدَ دَارِ آخَرَ ؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ ، وَبَاقِي النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ مُسْتَطَرٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حَصْرِ الْحَيَوَانِ [ فِي الْمُعَيَّنِ ] بِالصِّفَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ : لَا يُحْصَرُ الْحَيَوَانُ بِصِفَةٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِحِلْيَةٍ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ : اذْبَحُوا بَقَرَةً بَادَرُوا إلَى أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَامْتَثَلُوا مَا طُلِبَ ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَمَا زَالُوا يَسْأَلُونَ وَيُوصَفُ لَهُمْ حَتَّى تَعَيَّنَتْ .
وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ ، وَدَلِيلٌ مَلِيحٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قَصَصِ هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا : الْجَرَادَةُ ، تَكْرُمُ عَلَيْهِ وَيَهْوَاهَا ، فَاخْتَصَمَ أَهْلُهَا مَعَ قَوْمٍ فَكَانَ صَغْوُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِأَهْلِ الْجَرَادَةِ ، فَعُوقِبَ ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوْ يَخْلُو بِإِحْدَى نِسَائِهِ أَعْطَاهَا خَاتَمَهُ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى صُورَتَهُ عَلَى شَيْطَانٍ ، فَجَاءَهَا فَأَخَذَ الْخَاتَمَ فَلَبِسَهُ ، وَدَانَتْ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَهُ ، وَجَاءَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَطْلُبُهُ ، فَقَالَتْ : أَلَمْ تَأْخُذْهُ ؟ فَعَلِمَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ ، وَعَلِمَتْ الشَّيَاطِينُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ لَهَا ؛ فَاغْتَنَمَتْ الْفُرْصَةَ فَوَضَعَتْ أَوْضَاعًا مِنْ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ وَفُنُونًا مِنْ النَّيْرَجَاتِ وَسَطَّرُوهَا فِي مَهَارِقَ ، وَقَالُوا : هَذَا مَا كَتَبَ آصَفُ بْنُ بَرْخِيَا كَاتِبُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ ، فَدَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ : وَعَادَ سُلَيْمَانُ إلَى حَالِهِ ، وَاسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، فَقَالَتْ الشَّيَاطِينُ لِلنَّاسِ : إنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَمْلِكُكُمْ بِأُمُورٍ أَكْثَرُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، فِيهَا عُلُومٌ غَرِيبَةٌ ؛ فَدُونَكُمْ فَاحْتَفِرُوا عَلَيْهَا ، فَفَعَلُوا وَاسْتَثَارُوهَا ، فَنَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ فَصَارَ فِي أَيْدِيهِمْ ،

وَتَنَاقَلَتْهُ الْكَفَرَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ عَنْهُمْ حَتَّى وَصَلَ ذَلِكَ إلَى يَهُودِ الْحِجَازِ ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَهُ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيُصَرِّفُونَهُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ ؛ وَكَانُوا بَيْنَ جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ وَأُمَّةٍ عَمْيَاءَ ؛ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ ، وَنَوَّرَ الْقُلُوبَ ، وَكَشَفَ قِنَاعَ الْأَلْبَابِ ، لَجَأَتْ الْيَهُودُ إلَى أَنْ تُعَلِّقَ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ ذَلِكَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَزْعُمُ أَنَّهُ مِمَّا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ قَدْ حَمَلَ قَوْمًا قَبْلَ الْبَعْثِ عَلَى أَنْ يَتَبَرَّءُوا مِنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا مِمَّا فِيهِ الْحَرَجُ فِي ذِكْرِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لَنَا أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْهُمْ فِي حَدِيثٍ يَعُودُ إلَيْهِمْ ، وَمَا كُنَّا لِنَذْكُرَ هَذَا لَوْلَا أَنَّ الدَّوَاوِينَ قَدْ شُحِنَتْ بِهِ .
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ صَغُوهُ صِحَّةَ الْحُكْمِ لِقَوْمِ الْجَرَادَةِ ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إجْمَاعًا فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ الْكَبَائِرِ بِاتِّفَاقٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ شَيْطَانًا تَصَوَّرَ فِي صُورَةِ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ ، فَأَخَذَ الْخَاتَمَ ، فَبَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَتَصَوَّرُ عَلَى صُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي " كِتَابِ النَّبِيِّ " .
وَأَمَّا دَفْنُهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُمْكِنُ أَلَّا يَعْلَمَ بِذَلِكَ وَتَبْقَى حَتَّى يُفْتَتَنَ بِهَا الْخَلْقُ بَعْدَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَهَا وَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ سِحْرًا ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا سِحْرٌ

فَحَقُّهَا أَنْ تُحْرَقَ أَوْ تُغْرَقَ ، وَلَا تَبْقَى عُرْضَةً لِلنَّقْلِ وَالْعَمَلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا } : قِيلَ : يَهُودُ زَمَانِ سُلَيْمَانَ ، وَقِيلَ يَهُودُ زَمَانِنَا ، وَاللَّفْظُ فِيهِمْ عَامٌّ ، وَلِجَمِيعِهِمْ مُحْتَمِلٌ ، وَقَدْ كَانَ الْكُلُّ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِهَذَا الْبَاطِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ } اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَرْفِ " مَا " : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ نَفْيٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَفْعُولٌ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ نَفْيٌ ، لَا فِي نِظَامِ الْكَلَامِ ، وَلَا فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى ، وَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْ كَوْنِهِ مَفْعُولًا سِيَاقُ الْكَلَامِ بِمُحَالٍ عَقْلًا ، وَلَا يَمْتَنِعُ شَرْعًا .
وَتَقْرِيرُهُ : وَاتَّبَعَ الْيَهُودُ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ مِنْ السِّحْرِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، أَيْ نَسَبَتْهُ إلَيْهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلَنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ مَا لَمْ يُلْقِهِ النَّبِيُّ ، يُحَاكِيهِ وَيُلَبِّسُ عَلَى السَّامِعِينَ بِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ .
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ قَطُّ وَلَا سَحَرَ ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِسِحْرِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ يُعَلِّمُونَهُ النَّاسَ ؛ وَمُعْتَقِدُ الْكُفْرِ كَافِرٌ ، وَقَائِلُهُ كَافِرٌ ، وَمُعَلِّمُهُ كَافِرٌ ، وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ، وَمَا كَانَ الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا : { إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ }

فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : كَيْفَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاطِلَ وَالْكُفْرَ ؟ قُلْنَا : كُلُّ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَوْ طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ أَوْ إيمَانٍ أَوْ كُفْرٍ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : { مَاذَا فُتِحَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْخَزَائِنِ ؟ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْفِتَنِ ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ ، رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نُزُولِ الْفِتَنِ عَلَى الْخَلْقِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ نَزَّلَ الْكُفْرَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، فَأَنَّى يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكُفْرِ وَيُعَلِّمُوهُ ؟ قُلْنَا : هَذَا الَّذِي أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ الْمَلِكَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِبَابِلَ عِلْجَانِ ، وَقَدْ بَلَغَ التَّغَافُلُ أَوْ الْغَفْلَةُ بِبَعْضِهِمْ حَتَّى قَالَ : إنَّمَا هُمَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ : { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } أَيْ فِي أَيَّامِهِمَا .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } يَعْنِي : الشَّيَاطِينَ .
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ : أَطَلَعَتْ الْحَمْرَاءُ ؟ قُلْت : طَلَعَتْ .
قَالَ : لَا مَرْحَبًا بِهَا وَلَا أَهْلًا ، وَأَرَاهُ لَعَنَهَا .
قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ ، نَجْمٌ مُسَخَّرٌ مُطِيعٌ تَلْعَنُهُ ؟ قَالَ : مَا قُلْت لَك إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجَّتْ مِنْ مَعَاصِي بَنِي آدَمَ فِي الْأَرْضِ ، فَقَالَتْ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ صَبْرُك عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ ؟ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَكَانَهُمْ ، وَيَحُلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ مَحَلَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ لَعَمِلُوا بِعَمَلِهِمْ ، وَقَدْ أَعْطَيْت بَنِي آدَمَ عَشْرًا مِنْ الشَّهَوَاتِ فَبِهَا يَعْصُونَنِي .
قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : رَبَّنَا لَوْ أَعْطَيْتَنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ ، وَابْتَلَيْتَنَا ، لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ ، وَمَا عَصَيْنَاك .
فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْهُمْ مَلَكَيْنِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ ، فَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ وَقَالَا : نَحْنُ نَنْزِلُ ؛ وَأَعْطِنَا الشَّهَوَاتِ ، وَكَلِّفْنَا الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ .
فَنَزَلَا بِبَابِلَ ، فَكَانَا يَحْكُمَانِ حَتَّى إذَا أَمْسَيَا عَرَجَا إلَى مَكَانِهِمَا ، فَفُتِنَا بِامْرَأَةٍ حَاكَمَتْ زَوْجَهَا

اسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ الزَّهْرَةُ وَبِالنَّبَطِيَّةِ بيرخت وَبِالْفَارِسِيَّةِ أقاهيد فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنَّهَا لَتُعْجِبُنِي .
قَالَ لَهُ الْآخَرُ : لَقَدْ أَرَدْت أَنْ أَقُولَ لَك ذَلِكَ ، فَهَلْ لَك فِي أَنْ تَعْرِضَ لَهَا ؟ قَالَ لَهُ الْآخَرُ : كَيْفَ بِعَذَابِ اللَّهِ .
قَالَ : إنَّا لَنَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ .
فَطَلَبَاهَا فِي نَفْسِهَا قَالَتْ : لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي ؛ فَقَضَيَا لَهَا وَقَصَدَاهَا وَأَرَادَا مُوَاقَعَتَهَا ، فَقَالَتْ لَهُمَا : لَا أُجِيبُكُمَا لِذَلِكَ حَتَّى تُعَلِّمَانِي كَلَامًا أَصْعَدُ بِهِ إلَى السَّمَاءِ ، وَأَنْزِلُ بِهِ مِنْهَا ؛ فَأَخْبَرَاهَا ، فَتَكَلَّمَتْ فَصَعِدَتْ إلَى السَّمَاءِ فَمَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَوْكَبًا ، فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا ، لَمْ يُطِيقَا فَأَيْقَنَا بِالْهَلَكَةِ ؛ فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا ، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ فَجَعَلَا يُكَلِّمَانِ النَّاسَ كَلَامَهُمَا ، وَهُوَ السِّحْرُ .
وَيُقَالُ : كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، فَلَمَّا وَقَعَا فِي الْخَطِيئَةِ اسْتَغْفَرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَإِنَّمَا سُقْنَا هَذَا الْخَبَرَ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ رَوَوْهُ وَدَوَّنُوهُ فَخَشِينَا أَنْ يَقَعَ لِمَنْ يَضِلُّ بِهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ، وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ كُلُّهُ فِي الْعَقْلِ لَوْ صَحَّ فِي النَّقْلِ ، وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَنْ تَقَعَ الْمَعْصِيَةُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَيُوجَدَ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا كُلِّفُوهُ ، وَتُخْلَقَ فِيهِمْ الشَّهَوَاتُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنْكِرُهُ إلَّا رَجُلَانِ : أَحَدُهُمَا : جَاهِلٌ لَا يَدْرِي الْجَائِزَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ ، وَالثَّانِي : مَنْ شَمَّ وَرْدَ الْفَلَاسِفَةِ ، فَرَآهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ رُوحَانِيُّونَ ، وَإِنَّهُمْ لَا تَرْكِيبَ فِيهِمْ ، وَإِنَّمَا هُمْ بَسَائِطُ ، وَشَهَوَاتُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنْ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ فِي الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَكَيْفِيَّتِهِمْ بِمَا لَمْ يُعَايِنُوهُ ، وَلَا نُقِلَ إلَيْهِمْ ، وَلَا دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ أَحَالُوا عَلَى الْبَسِيطِ أَنْ يَتَرَكَّبَ ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا جَائِزٌ ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِلَا خِلَافٍ أَنْ يَأْكُلَ الْبَسِيطُ وَيَشْرَبُ وَيَطَأُ ، وَلَا يُوجَدُ مِنْ الْمُرَكَّبِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَهَذَا الَّذِي اطَّرَدَ فِي الْبَسِيطِ مِنْ عَدَمِ الْغِذَاءِ ، وَفِي الْمُرَكَّبِ مِنْ وُجُودِ الْغِذَاءِ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ غَايَةُ الْقُدْرَةِ ، وَقَدْ مَكَّنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَمَهَّدْنَاهُ فِي الْأُصُولِ ، وَخَبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِهِمْ ، وَهِيَ مَا يَجُوزُ أَنْ تَتَغَيَّرَ فَيَكُونُ الْخَبَرُ عَنْهَا بِذَلِكَ أَيْضًا ، وَكُلُّ حَقٍّ صِدْقٌ لَا خِلَافَ فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهُ خَبَرٌ عَامٌّ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَهُ التَّخْصِيصُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا .
وَقَدْ رَوَى سُنَيْدٌ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ دُخِلَ إلَيْهِمَا فِي مَغَارِهِمَا وَكُلِّمَا ، وَتُعُلِّمَ مِنْهُمَا فِي زَمَنِ الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ التَّعَلُّمُ مِنْهُمَا إلَّا سَمَاعَ كَلَامِهِمَا ، وَهُمَا إذَا تَكَلَّمَا إنَّمَا يَقُولَانِ : إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَجْعَلْ مَا تَسْمَعُ مِنَّا سَبَبًا لِلْكُفْرِ ، كَمَا جَعَلَ السَّامِرِيُّ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ سَبَبًا لِاِتِّخَاذِ الْعِجْلِ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ .
وَفِي هَذَا مِنْ الْعِبْرَةِ : الْخَشْيَةُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْخَاتِمَةِ ، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِظَاهِرِ الْحَالَةِ ، وَالْخَوْفُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهَذَا بَلْعَامُ فِي الْآدَمِيِّينَ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، فَأَنْزِلُوا كُلَّ فَنٍّ فِي مَرْتَبَتِهِ ، وَتَحَقَّقُوا مِقْدَارَهُ فِي دَرَجَتِهِ حَسْبَمَا رَوَيْنَاهُ ، وَلَا تَذْهَلُوا عَنْ بَعْضٍ فَتَجْهَلُوا جَمِيعَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْقَوْلَ فِي السِّحْرِ وَحَقِيقَتِهِ وَمُنْتَهَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَشْفِي الْغَلِيلَ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَقْسَامِهِ فِعْلَ مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمِنْهُ مَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَيُسَمَّى التُّوَلَةُ ، وَكِلَاهُمَا كُفْرٌ ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ ، كُفْرٌ قَالَهُ مَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السِّحْرُ مَعْصِيَةٌ إنْ قَتَلَ بِهَا السَّاحِرُ قُتِلَ ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهَا أُدِّبَ عَلَى قَدْرِ الضَّرَرِ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ السِّحْرَ ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتُنْسَبُ إلَيْهِ فِيهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } مِنْ السِّحْرِ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ بِقَوْلِ السِّحْرِ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ ، وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ يَقُولَانِ : إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } يَعْنِي : بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ لَا بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ، وَيَقْضِي عَلَى الْخَلْقِ بِهَا ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ } هُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ نَفْعٌ لِمَا يَتَعَجَّلُونَ بِهِ مِنْ بُلُوغِ الْغَرَضِ ، وَحَقِيقَتُهُ مُضِرَّةٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ؛ وَحَقِيقَةُ الضَّرَرِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلُّ أَلَمٍ لَا نَفْعَ يُوَازِيهِ ، وَحَقِيقَةُ النَّفْعِ كُلُّ لَذَّةٍ لَا يَتَعَقَّبُهَا عِقَابٌ ، وَلَا تَلْحَقُ فِيهِ

نَدَامَةٌ .
وَالضَّرَرُ وَعَدَمُ الْمَنْفَعَةِ فِي السِّحْرِ مُتَحَقِّقٌ

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا اُنْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } كَانَتْ الْيَهُودُ تَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ : يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، رَاعِنَا ، تُوهِمُ أَنَّهَا تُرِيدُ الدُّعَاءَ ، مِنْ الْمُرَاعَاةِ ، وَهِيَ تَقْصِدُ بِهِ فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : رَاعِنَا ، مِنْ الرَّعْيِ ، فَسَمِعَتْهُمْ الْيَهُودُ ، فَقَالُوا : يَا رَاعِنَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ ، لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ الْيَهُودُ فِي اللَّفْظِ وَيَقْصِدُوا الْمَعْنَى الْفَاسِدَ مِنْهُ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَجَنُّبِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ الَّتِي فِيهَا التَّعَرُّضُ لِلتَّنْقِيصِ وَالْغَضِّ ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَهْمُ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : بِأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَا : إنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمِلٌ لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ قَوْلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ ، فَوَجَبَ فِيهِ الْحَدُّ كَالتَّصْرِيحِ .
وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغَ مِنْ التَّصْرِيحِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ عِنَادٌ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيمَنْ نَزَلَتْ ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ بُخْتُ نَصَّرَ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ مَانِعُو بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ النَّصَارَى اتَّخَذُوهُ كِظَامَةً .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ كُلُّ مَسْجِدٍ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ؛ فَتَخْصِيصُهُ بِبَعْضِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مُحَالٌ ، فَإِنْ كَانَ فَأَمْثَلُهَا الثَّالِثَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَائِدَةُ الْآيَةِ : فَائِدَةُ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْظِيمُ أَمْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ وَأَعْظَمَهَا أَجْرًا كَانَ مَنْعُهَا أَعْظَمَ إثْمًا ، وَإِخْرَابُ الْمَسَاجِدِ تَعْطِيلٌ لَهَا وَقَطْعٌ بِالْمُسْلِمِينَ فِي إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ وَتَأْلِيفِ كَلِمَتِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنَّ قَوْله تَعَالَى : { مَسَاجِدَ اللَّهِ } يَقْتَضِي أَنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ، الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَذَلِكَ حُكْمُهَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؛ عَلَى أَنَّ الْبُقْعَةَ إذَا عُيِّنَتْ لِلصَّلَاةِ خَرَجَتْ عَنْ جُمْلَةِ الْأَمْلَاكِ الْمُخْتَصَّةِ بِرَبِّهَا ، فَصَارَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْفَعَتِهَا وَمَسْجِدِيَّتِهَا ، فَلَوْ بَنَى الرَّجُلُ فِي دَارِهٍ مَسْجِدًا وَحَجَزَهُ عَنْ النَّاسِ ، وَاخْتَصَّ بِهِ لِنَفْسِهِ لَبَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَسْجِدِيَّةِ ، وَلَوْ أَبَاحَهُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ لَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ الْعَامَّةِ ، وَخَرَجَ عَنْ اخْتِصَاصِ الْأَمْلَاكِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إلَّا خَائِفِينَ } يَعْنِي إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، وَحَصَلَتْ تَحْتَ سُلْطَانِهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْكَافِرُ حِينَئِذٍ مِنْ دُخُولِهَا يَعْنِي إنْ دَخَلُوهَا فَعَلَى خَوْفٍ مِنْ إخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ مِنْهَا وَأَذِيَّتِهِمْ عَلَى دُخُولِهَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِحَالٍ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ عَادَ فَصَلَّى إلَى الْكَعْبَةِ ؛ فَاعْتَرَضَتْ عَلَيْهِ الْيَهُودُ ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ كَرَامَةً وَعَلَيْهِمْ حُجَّةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ لِيُصَلُّوا حَيْثُ شَاءُوا مِنْ النَّوَاحِي ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ ، يَتَوَجَّهُ الْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ إلَى حَيْثُ شَاءَ فِيهَا رَاكِبًا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ صَلَّى الْفَرِيضَةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ قَالَهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ ، آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَلِّ إلَى قِبْلَتِنَا قَالَهُ قَتَادَةُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ .
السَّابِعُ : أَنَّ مَعْنَاهَا أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَسْتَقْبِلُونَهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ السَّبْعَةُ لِقَائِلِيهَا تَحْتَمِلُ الْآيَةُ جَمِيعَهَا .
فَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ }

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، فَسَنَدٌ صَحِيحٌ ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي النَّظَرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ كَانَ يُحْرِمُ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ يُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ بَقِيَّةَ الصَّلَاةِ } ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَقَدْ أُسْنِدَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُونَ قَدْ رَوَوْهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : تُجْزِئُهُ ، بَيْدَ أَنَّ مَالِكًا رَأَى عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا .
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، فَلَا يَنْتَصِبُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي تَرْكِهَا ، كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالْوَقْتِ .
وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ تُبِيحُ الضَّرُورَةُ تَرْكَهَا فِي الْمُسَايَفَةِ ، وَتُبِيحُهَا أَيْضًا الرُّخْصَةُ حَالَةَ السَّفَرِ ، فَكَانَتْ حَالَةَ عُذْرٍ أَشْبَهَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الطَّاهِرَ لَا يُبِيحُ تَرْكَهُ إلَى الْمَاءِ النَّجِسِ ضَرُورَةٌ فَلَا يُبِيحُهُ خَطَأٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أَيْ : ذَلِكَ لَهُ مِلْكٌ وَخَلْقٌ لِجَوَازِ الصَّلَاةِ إلَيْهِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ تَشْرِيفًا وَتَخْصِيصًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } قِيلَ : مَعْنَاهُ فَثَمَّ اللَّهُ ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ عَنْهُ تَعَالَى ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ ، وَيَكُونُ الْوَجْهُ اسْمًا لِلتَّوَجُّهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عِبَادَةً ، وَفَرَضَ فِيهَا الْخُشُوعَ اسْتِكْمَالًا لِلْعِبَادَةِ ، وَأَلْزَمَ الْجَوَارِحَ السُّكُونَ ، وَاللِّسَانَ الصَّمْتَ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَصْبَ الْبَدَنِ إلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَنْفَى لِلْحَرَكَاتِ ، وَأَقْعَدَ لِلْخَوَاطِرِ ، وَعُيِّنَتْ لَهُ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَشْرِيفًا لَهُ .
وَقِيلَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قِبَلَ وَجْهِك ، مَعْنَاهُ أَنَّك قَصَدْت التَّوَجُّهَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ عُيِّنَ لَك هَذَا الصَّوْبُ ، فَهُنَالِكَ تَجِدُ ثَوَابَك ، وَتَحْمَدُ إيَابَك .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَنْزِيلِ الْآيَةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ : لَا يَخْفَى أَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَتَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بِكُلِّ حَالٍ ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ جَوَازَ التَّوَجُّهِ إلَى جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي وَقْتٍ ، وَإِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فِي الْفَرْضِ وَالْحَضَرِ فِيهَا أَيْضًا ، وَبَقِيَتْ عَلَى النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ " النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " .

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُك لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } الْآيَةُ فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ابْتَلَى مَعْنَاهُ اخْتَبَرَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرَ لِيَعْلَمَ مِنْ الِامْتِثَالِ أَوْ التَّقْصِيرِ مُشَاهَدَةً مَا عَلِمَ غَيْبًا ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ عَلَى الْمَعْلُومَاتِ ، وَعِلْمُهُ لَا يَخْتَلِفُ ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ تَعَلُّقًا وَاحِدًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِكَلِمَاتٍ } هِيَ : جَمْعُ كَلِمَةٍ ، وَيَرْجِعُ تَحْقِيقُهَا إلَى كَلَامِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ ، لَكِنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِهَا عَنْ الْوَظَائِفِ الَّتِي كَلَّفَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلَمَّا كَانَ تَكْلِيفُهَا بِالْكَلَامِ سُمِّيَتْ بِهِ ، كَمَا يُسَمَّى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلِمَةً ؛ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ الْكَلِمَةِ ، وَهِيَ : كُنْ ، وَتَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ أَحَدُ قِسْمِي الْمَجَازِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَا تِلْكَ الْكَلِمَاتُ ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، لُبَابُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ ، فَأَكْمَلَهَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَا قَامَ أَحَدٌ بِوَظَائِفِ الدِّينِ مِثْلُهُ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَبْلَهُ ؛ فَقَدْ قَامَ بِهَا بَعْدَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، وَخُصُوصًا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْفِطْرَةُ الَّتِي أَوْعَزَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا إلَيْهِ ، وَرَتَّبَهَا عَلَيْهِ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ

وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ } .
وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْحَدِيثَ ، وَقَالَ : { الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ } ، وَزَادَ : { الْخِتَانُ } ، وَذَكَرَ { الِانْتِضَاحُ } بَدَلَ { انْتِقَاصُ الْمَاءِ } .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا : { مِنْ الْفِطْرَةِ } يَعْنِي مِنْ السُّنَّةِ ، وَأَنَا أَقُولُ : إنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ اُبْتُلِيَ بِهَا فَرْضًا ، وَهِيَ لَنَا سُنَّةٌ ، وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اُبْتُلِيَ بِهَا تَكْلِيفًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ فِي جَمِيعِهَا أَوْ انْقِسَامِ الْحَالِ فِيهَا .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْمِلَّةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَرَاتِبِهَا ؛ فَأَمَّا قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ فَمُخَالَفَةٌ لِلْأَعَاجِمِ فَإِنَّهُمْ يَقُصُّونَ لِحَاهُمْ ، وَيُوَفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ ، أَوْ يُوَفِّرُونَهُمَا مَعًا ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْجَمَالِ وَالنَّظَافَةِ .
وَأَمَّا السِّوَاكُ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فَلِتَنْظِيفِ الْفَمِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْقَلَحِ .
وَأَمَّا قَصُّ الْأَظْفَارِ فَلِتَنْزِيهِ الطَّعَامِ عَمَّا يَلْتَئِمُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهَا وَالْأَقْذَارِ .
وَأَمَّا غَسْلُ الْبَرَاجِمِ فَلِمَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْأَوْسَاخِ فِي غُضُونِهَا .
وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ تَنْظِيفًا عَمَّا يَتَلَبَّدُ مِنْ الْوَسَخِ فِيهِمَا عَلَى شَعْرِهِمَا وَمِمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ الرَّمَصِ فِيهِمَا ، وَالِاسْتِنْجَاءُ لِتَنْظِيفِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَتَطْبِيبِهِ عَنْ الْأَذَى وَالْأَدْوَاءِ .
وَأَمَّا الْخِتَانُ فَلِنَظَافَةِ الْقُلْفَةِ عَمَّا يَجْتَمِعُ مِنْ أَذَى الْبَوْلِ فِيهَا ، وَلَمْ يَخْتَتِنْ أَحَدٌ قَبْلَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً } .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ، فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِمَا قُرِنَ بِهِ مِنْ إخْوَتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ،

وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّهُ فَرْضٌ ؛ لِأَنَّهُ تُكْشَفُ لَهُ الْعَوْرَةُ وَلَا يُبَاحُ الْحَرَامُ إلَّا لِلْوَاجِبِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلَمَّا أَتَمَّ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْوَظَائِفَ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } .
سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : وَإِبْرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى بِمَالِهِ لِلضِّيفَانِ ، وَبِبَدَنِهِ لِلنِّيرَانِ ، وَبِقَلْبِهِ لِلرَّحْمَنِ .

الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } هَذَا تَنْبِيهٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى فَضْلِهِ ، وَتَعْدِيدٌ لِنِعَمِهِ الَّتِي مِنْهَا جَعَلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْعَرَبِ عُمُومًا وَلِقُرَيْشٍ خُصُوصًا مَثَابَةً لِلنَّاسِ أَيْ مَعَادًا فِي كُلِّ عَامٍ لَا يَخْلُو مِنْهُمْ ، يُقَالُ : ثَابَ إلَى كَذَا أَيْ : رَجَعَ وَعَادَ إلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَاءَهُ عَادَ إلَيْهِ .
قُلْنَا : لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْجُمْلَةِ ، وَلَمْ يَعْدَمْ قَاصِدًا مِنْ النَّاسِ ؛ وَكَذَلِكَ جَعَلَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْنًا يَلْقَى الرَّجُلُ فِيهِ قَاتِلَ وَلِيِّهِ فَلَا يُرَوِّعُهُ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } وَكَذَلِكَ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وَهَذَا لِمَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَكَّبَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ وَتَفْضِيلِ الْمَوْضِعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَرْضِ الْمُشَابِهَةِ لَهُ فِي الصِّفَةِ ، بِهَذِهِ الْخِصِّيصَى الْمُعَظَّمَةِ .
وَقَدْ سَمِعْت أَنَّ الْكَلْبَ الْخَارِجَ مِنْ الْحَرَمِ لَا يُرَوِّعُ الصَّيْدَ بِهَا ، وَهَذَا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا ؛ وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ وَرَدَ بِالْبَيْتِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَرَمُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِيهِ كَانَتْ وَعَلَيْهِ دَامَتْ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْأَمْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ مُعَظِّمًا لَهُ وَقَصَدَهُ مُحْتَسِبًا فِيهِ لِمَنْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ .
وَيَعْضُدُهُ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } .
الثَّانِي : مَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ

فِيمَنْ أَنَابَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِهَا لِحَقٍّ يَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ حَدٍّ يُقَامُ عَلَيْهِ ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ ، وَلَا يُقْتَصُّ فِيهِ مِنْ الْقَاتِلِ ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُحْصَنِ وَالسَّارِقِ ؛ قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسَيَأْتِي عَلَيْهِ الْكَلَامُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَمْنٌ مِنْ الْقِتَالِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ الْقَوْلُ الثَّانِي ، وَهَذَا إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مِنَّتِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، حَيْثُ قَرَّرَ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ تَعْظِيمَ هَذَا الْبَيْتِ ، وَتَأْمِينَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ ؛ إجَابَةً لِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ بِهِ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ ، فَتَوَقَّعَ عَلَيْهِمْ الِاسْتِطَالَةَ ، فَدَعَا أَنْ يَكُونَ أَمْنًا لَهُمْ فَاسْتُجِيبَ دُعَاؤُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَهُ : إنَّهُ أَمْنٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَبَّهَ بِجَعْلِهِ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا عَلَى حُجَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَالْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ لَا تُقَامُ بِهِ حُجَّةٌ .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْحَدِّ فِيهِ فَقَوْلٌ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ ، وَبِهِ اعْتَصَمَ الْحَرَمُ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ وَأَمْرٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ أَحْرَى أَلَا يَقْتَضِيهِ الْفَرْعُ .
وَأَمَّا الْأَمْنُ عَنْ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ [ فَقَوْلٌ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ ] بَعْدَ ذَلِكَ وَيَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّحْلِيلِ لِلْقِتَالِ ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَحْلِيلٌ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَا يَكُونُ لِعَدَمِ النُّبُوَّةِ إلَى

يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ امْتِنَاعِ تَحْلِيلِ الْقِتَالِ شَرْعًا لَا عَنْ مَنْعِ وُجُودِهِ حِسًّا .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ : هُوَ مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ ، مِنْ قَامَ ، كَمَضْرَبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْضًا ، مِنْ ضَرَبَ ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ ؛ وَالتَّقْدِيرُ : " وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَنَاسِكِ إبْرَاهِيمَ فِي الْحَجِّ عِبَادَةً وَقُدْوَةً " .
وَالْأَكْثَرُ حَمَلَهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي بَعْضِهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ : فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي جَعَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ رِجْلَهُ حِينَ غَسَلَتْ زَوْجُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَأْسَهُ .
وَقَدْ رَأَيْت بِمَكَّةَ صُنْدُوقًا فِيهِ حَجَرٌ ، عَلَيْهِ أَثَرُ قَدَمٍ قَدْ انْمَحَى وَاخْلَوْلَقَ ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ : هَذَا أَثَرُ قَدَمِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي دَعَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ رَبَّهُ تَعَالَى حِينَ اسْتَوْدَعَ ذُرِّيَّتَهُ .
فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ قَالَ : مَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا مُصَلًّى : مَدْعَى أَيْ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ .
وَمَنْ خَصَّصَهُ قَالَ : مَعْنَاهُ مَوْضِعًا لِلصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ ثَبَتَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ : وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } .
الْحَدِيثَ ، { فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَهُ مَشَى إلَى الْمَقَامِ الْمَعْرُوفِ الْيَوْمَ ، وَقَرَأَ : { وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ } ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ الْمَقَامُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَأَنَّهَا الْمُتَضَمِّنَةُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا مُطْلَقِ الدُّعَاءِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَرَّفَ وَقْتَ

الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَهُوَ عَقِبَ الطَّوَافِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ أَوْضَحَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَاجِبَتَانِ ، فَمَنْ تَرَكَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْيَهُودُ ، عَابُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ رُجُوعَهُمْ إلَى الْكَعْبَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَوَّلًا أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، حَتَّى إذَا دَانَى الْيَهُودَ فِي قِبْلَتِهِمْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى إجَابَتِهِمْ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى تَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى الدِّينِ ، فَقَابَلَتْ الْيَهُودُ هَذِهِ النِّعْمَةَ بِالْكُفْرَانِ ، فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجِهَاتِ كُلَّهَا لَهُ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَجْهُهُ ، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِ ، فَحَيْثُمَا أُمِرَ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ ؛ وَصَحَّ ذَلِكَ فِيهِ .
وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَبْلُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } الْوَسَطُ فِي اللُّغَةِ : الْخِيَارُ ، وَهُوَ الْعَدْلُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنْ وَسَطِ الشَّيْءِ .
، وَلَيْسَ لِلْوَسَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مُلْتَقَى الطَّرَفَيْنِ هَهُنَا دُخُولٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ آخِرُ الْأُمَمِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخِيَارَ الْعَدْلَ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فَأَنْبَأَنَا رَبُّنَا تَعَالَى بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ تَفْضِيلِهِ لَنَا بِاسْمِ الْعَدَالَةِ ، وَتَوْلِيَتِهِ خُطَّةَ الشَّهَادَةِ عَلَى جَمِيعِ الْخَلِيقَةِ ، فَجَعَلَنَا أَوَّلًا مَكَانًا ، وَإِنْ كُنَّا آخِرًا زَمَانًا ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ } .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إلَّا الْعُدُولُ ، وَلَا يَنْفُذُ عَلَى الْغَيْرِ قَوْلُ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، وَذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ وَهُوَ يُصَلِّي إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَتَصْدِيقِكُمْ لِنَبِيِّكُمْ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَالْأُصُولِيُّونَ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاتُكُمْ ، زَادَ أَشْهَبُ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : قَالَ مَالِكٌ : " أَقَامَ النَّاسُ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ؛ ثُمَّ أُمِرُوا بِالْبَيْتِ ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ أَيْ : فِي صَلَاتِكُمْ إلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ " .
قَالَ : وَإِنِّي لَأَذْكُرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ : إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِنْ الْإِيمَانِ فَلِمَ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ تَارِكَهَا غَيْرُ كَافِرٍ .
وَهَذَا تَنَاقُضٌ ، فَحَقِّقُوا وَجْهَ التَّقَصِّي عَنْهُ .
فَالْجَوَابُ : إنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ لَمْ يَبْعُدْ ذَلِكَ تَسْمِيَةً ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ } وَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى تَارِكُهَا كَافِرًا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ } .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا الْأُصُولِيُّونَ : فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ تَسْمِيَةُ الصَّلَاةِ إيمَانًا وَتَرْكُهَا كُفْرًا مَجَازًا .
الثَّانِي : أَنْ يُرْجَعَ ذَلِكَ إلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَوْ اعْتِقَادِ نَفْيِ وُجُوبِهَا ؛

وَهَذَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ بَلْ يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّهَا تُسَمَّى إيمَانًا ، وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَعَهْدِ الْإِسْلَامِ .
وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَالْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ قَالَتْ : لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْجَنَّةِ ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا : لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ ، وَعُلَمَاؤُنَا الْفُقَهَاءُ قَالُوا : هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَتَارِكُهَا فِي الْمَشِيئَةِ ، قَضَتْ بِذَلِكَ آيُ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْهُنَّ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ } .
فَقَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَظَائِرُهُمَا عَلَى كُلِّ مُتَشَابِهٍ جَاءَ مُعَارِضًا فِي الظَّاهِرِ لَهُمَا ؛ وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تُسَمَّى الصَّلَاةُ إيمَانًا فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ ، وَيُحْكَمُ لِتَارِكِهَا بِالْمَغْفِرَةِ تَخْفِيفًا وَرَحْمَةً .
وَيُحْمَلُ مَا جَاءَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ ؛ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ } وَنَحْوُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : عَلَى التَّغْلِيظِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ فِعْلَ الْكَافِرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ دَمَهُ ، كَمَا أَبَاحَهُ فِي الْكَافِرِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } الشَّطْرُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الشَّيْءِ ، وَيُقَالُ عَلَى الْقَصْدِ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُعَايِنًا لِلْبَيْتِ ، وَمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ .
وَذَكَرَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَيْتُ ، كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } الْكَعْبَةَ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَاطَبَنَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، وَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُجَاوِرُهُ أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَرِّفَ أَنَّ مَنْ بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ النَّاحِيَةَ لَا عَيْنَ الْبَيْتِ ، فَإِنَّهُ يَعْسُرُ [ نَظَرُهُ وَ ] قَصْدُهُ ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا إلَّا لِلْمُعَايِنِ ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ الْمُعَايِنُ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَإِذَا بِهِ قَدْ زَهَقَ عَنْهُ ، فَاسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ ؛ وَأَضْيَقُ مَا تَكُونُ الْقِبْلَةُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْقِبْلَةِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ فَرْضُ الْغَائِبِ عَنْ الْكَعْبَةِ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ ؟ أَوْ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : [ فَرْضُهُ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ ] ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْجِهَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ ، إذْ قَالَ : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ الَّذِي يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَضْعَافُ عَرْضِ الْبَيْتِ ، وَيَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ الصَّفَّ الطَّوِيلَ إذَا بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ أَوْ طَالَ وَعَرُضَ

أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَكَانَ مُمْكِنًا أَنْ يُقَابِلَ [ جَمِيعَ ] الْبَيْتِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } وَهِيَ مُشْكِلَةٌ ، لُبَابُ الْكَلَامِ فِيهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَنَّ الْوِجْهَةَ هِيَ هَيْئَةُ التَّوَجُّهِ كَالْقِعْدَةِ بِكَسْرِ الْقَافِ : هَيْئَةُ الْقُعُودِ ، وَالْجِلْسَةِ : هَيْئَةُ الْجُلُوسِ ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ ؛ الْمَعْنَى لِأَهْلِ كُلِّ مِلَّةٍ حَالَةٌ فِي التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى لِكُلٍّ وِجْهَةٌ فِي الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَفِي الصَّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ ، أَيْ لِأَهْلِ كُلِّ جِهَةٍ مِنْ الْآفَاقِ وِجْهَةٌ مِمَّنْ بِمَكَّةَ وَمِمَّنْ بَعُدَ ، لَيْسَ بَعْضُهَا مُقَدَّمًا عَلَى الْبَعْضِ فِي الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَلَّى جَمِيعَهَا وَشَرَعَ جُمْلَتَهَا ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَارِضَةً فِي الظَّاهِرِ وَالْمُعَايَنَةِ ، فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْقَصْدِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ .
وَقُرِئَ : هُوَ مُوَلَّاهَا ، يَعْنِي الْمُصَلِّيَ ؛ التَّقْدِيرُ : الْمُصَلِّي هُوَ مُوَجَّهٌ نَحْوَهَا ، وَكَذَلِكَ قَبْلُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ هُوَ مُوَلِّيهَا ؛ إنَّ الْمَعْنَى أَيْضًا أَنَّ الْمُصَلِّيَ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَهَا ؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ ، وَأَشْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْخَبَرِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } مَعْنَاهُ ، افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ ، مِنْ السَّبْقِ ، وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْأَوَّلِيَّةِ ، وَذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَالِاسْتِعْجَالِ إلَى الطَّاعَاتِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَفِي التَّفْضِيلِ اخْتِلَافٌ ؛ وَأَعْظَمُ مُهِمٍّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِهِ الصَّلَاةُ ؛ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : أَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ؛ لِظَاهِرِ هَذِهِ وَغَيْرِهَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : آخِرُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَفَصَّلَ الْقَوْلَ ؛ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَأَوَّلُ الْوَقْتِ فِيهِمَا أَفْضَلُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ .
وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ أَفْضَلُ لِلْفَذِّ ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُؤَخَّرُ " عَلَى مَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالْمَشْهُورُ فِي الْعِشَاءِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا لَيْلَةً حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا ، ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَخَّرْتُهَا هَكَذَا .
} وَأَمَّا الظُّهْرُ فَإِنَّهَا تَأْتِي النَّاسَ عَلَى غَفْلَةٍ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلًا حَتَّى يَتَأَهَّبُوا وَيَجْتَمِعُوا .
وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ .
وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا ؛ فَإِنَّ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ مُقَدَّرٌ مَعْلُومٌ ، وَفَضْلَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَجْهُولٌ ، وَتَحْصِيلُ الْمَعْلُومِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الصُّبْحُ فَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصُّبْحِ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الصُّبْحَ فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا

يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ } .
وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [ فِي الصُّبْحِ أَيْضًا ] : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَآهُمْ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَدْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ } .
وَالصُّبْحُ كَانُوا أَوْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ } ؛ مَعْنَاهُ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ أَوْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ كَانَ يُغَلِّسُ بِهَا .
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ اُقْتُدِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَوْ اُمْتُثِلَ أَمْرُهُ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُعَادِلُ الْمُبَادَرَةَ إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ شَيْءٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ } .
قَالَ : رِضْوَانُ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ عَفْوِهِ ؛ فَإِنَّ رِضْوَانَهُ لَلْمُحْسِنِينَ ، وَعَفْوَهُ لَلْمُقَصِّرِينَ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ } .
وَلَعَلَّهُ فِي السَّفَرِ إذَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُهُ ، إذْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَبْرِدُوا حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ } .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } وَفِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } تَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ فِي أَنَّ الشَّهِيدَ لَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ ، وَالشَّهِيدُ حَيٌّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَكَمَا أَنَّ الشَّهِيدَ فِي حُكْمِ الْحَيِّ فَلَا يُغَسَّلُ ، فَكَذَلِكَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ تَطْهِيرٌ ، وَقَدْ طُهِّرَ بِالْقَتْلِ ، فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ شَفَاعَةٌ وَقَدْ أَغْنَتْهُ عَنْهَا الشَّهَادَةُ ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الطَّهَارَةَ إذَا سَقَطَتْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا سَقَطَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُهَا ، وَسُقُوطُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَشْرُوطِ .
وَمَا رُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِمْ ، لَا يَصِحُّ فِيهِ طَرِيقُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا سِوَاهُ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ : سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَقَالَ : كَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ أَمْسَكُوا عَنْهُمَا ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } يَعْنِي مِنْ مَعَالِمِ اللَّهِ فِي الْحَجِّ ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ ، وَمِنْهُ إشْعَارُ الْهَدْيِ أَيْ إعْلَامُهُ بِالْجَرْحِ وَمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي : مَا حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَشْعَرَ بِهِ إبْرَاهِيمُ ، أَيْ أَعْلَمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ } الْجُنَاحُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَيْلِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَ ، وَلَكِنَّهُ خُصَّ بِالْمَيْلِ إلَى الْإِثْمِ ، ثُمَّ عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْإِثْمِ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْهَمِّ وَالْأَذَى ، وَجَاءَ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَهِيَ مُعَارَضَةُ الْآيَةِ ، وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ { عُرْوَةَ قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } الْآيَةُ فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِئْسَ مَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي ، إنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَهَا لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ، إنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ عِنْدَ الْمُشَلَّلِ ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا } ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَذَكَرْت ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ : إنَّ هَذَا الْعِلْمُ ، أَيْ مَا سَمِعْت بِهِ .
تَحْقِيقُ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَفْهِيمُهُ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : لَا جُنَاحَ عَلَيْك أَنْ تَفْعَلَ ، إبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ ، وَقَوْلَهُ : ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك أَلَا تَفْعَلَ ) إبَاحَةٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ ؛ فَلَمَّا سَمِعَ عُرْوَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } قَالَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الطَّوَافِ جَائِزٌ ، ثُمَّ رَأَى الشَّرِيعَةَ مُطْبِقَةً عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ ، فَطَلَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَيْسَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ

عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الطَّوَافِ ؛ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ لَوْ كَانَ : ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ ) .
فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ ؛ فَأَعْلَمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الطَّائِفَ قَصْدًا بَاطِلًا .
فَأَدَّتْ الْآيَةُ إبَاحَةَ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا ، وَسَلَّ سَخِيمَةَ الْحَرَجِ الَّتِي كَانَتْ فِي صُدُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } أَيْ مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ وَمَشْرُوعَاتِهِ ، لَا مِنْ مَوَاضِعِ الْكُفْرِ ، وَمَوْضُوعَاتِهِ ؛ فَمَنْ جَاءَ الْبَيْتَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الطَّوَافِ بِهِمَا .
وَهْمٌ وَتَنْبِيهٌ : [ قَالَ الْفَرَّاءُ ] : مَعْنَى قَوْلِهِ : ( لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) مَعْنَاهُ أَنْ يَطُوفَ ، وَحَرْفُ " لَا " زَائِدَةٌ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ " لَا " زَائِدَةً .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَا لُغَوِيٌّ وَلَا فَقِيهٌ يُعَادِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ قَرَرَتْهَا غَيْرَ زَائِدَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَتْ مَعْنَاهَا ، فَلَا رَأْيَ لِلْفَرَّاءِ وَلَا غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ : فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ رُكْنٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ بِرُكْنٍ .
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُكْنٌ ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ : يُجْزِئُ تَارِكَهُ الدَّمُ .
وَمُعَوَّلُ مَنْ نَفَى وُجُوبَهُ وَرُكْنِيَّتَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا } .
صَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَيَعْضُدُهُ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ شِعَارٌ لَا يَخْلُو عَنْهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ ، فَكَانَ رُكْنًا كَالطَّوَافِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ رَفْعِ الْحَرَجِ أَوْ تَرْكِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ يَنْفِي رُكْنِيَّةَ السَّعْيِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ تَرْكِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا بِفِعْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُهُ .
وَالتَّطَوُّعُ هُوَ مَا يَأْتِيهِ الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا إلَى أَيِّ مَعْنَى يَعُودُ رَفْعُ الْجُنَاحِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ } إشَارَةً إلَى السَّعْيِ وَاجِبٌ ، فَمَنْ تَطَوَّعَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشْكُرُ ذَلِكَ لَهُ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } اسْتَدَلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ .
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ .
قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ : قَالَ عُرْوَةُ : الْآيَةَ { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَأَمْثَالِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ .
وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ : إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا

إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَنْ الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَنْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْمُوَفِّيَةُ ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ لِي كَثِيرٌ مِنْ أَشْيَاخِي : إنَّ الْكَافِرَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ لَعْنُهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ لَا تُعْلَمُ ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي إطْلَاقِ اللَّعْنَةِ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعْنُ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا } ؛ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِمَآلِهِمَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ لَعْنِهِ لِظَاهِرِ حَالِهِ ، كَجَوَازِ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اللَّهُمَّ إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي ، قَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْت بِشَاعِرٍ فَالْعَنْهُ ، اللَّهُمَّ وَاهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي } فَلَعَنَهُ .
وَقَدْ كَانَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ وَالْإِيمَانِ مَآلُهُ ، وَانْتَصَفَ بِقَوْلِهِ : { عَدَدَ مَا هَجَانِي } .
وَلَمْ يَزِدْ لَيُعَلِّمَ الْعَدْلَ وَالْإِنْصَافَ وَالِانْتِصَافَ ، وَأَضَافَ الْهَجْوَ إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي بَابِ الْجَزَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ بِالْوَصْفِ لَهُ بِذَلِكَ ، كَمَا يُضَافُ إلَيْهِ الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ وَالْكَيْدُ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ ذِمِّيًّا يَجُوزُ إصْغَارُهُ فَكَذَلِكَ لَعْنُهُ .

( تَرْكِيبٌ ) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَأَمَّا الْعَاصِي الْمُعَيَّنُ ، فَلَا يَجُوزُ لَعْنُهُ اتِّفَاقًا ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيءَ إلَيْهِ بِشَارِبِ خَمْرٍ مِرَارًا ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ : مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَكُونُوا أَعْوَانًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ } ؛ فَجَعَلَ لَهُ حُرْمَةَ الْأُخُوَّةِ ، وَهَذَا يُوجِبُ الشَّفَقَةَ ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا لَعْنُ الْعَاصِي مُطْلَقًا ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَيَجُوزُ إجْمَاعًا ، لِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ : إنَّ مَعْنَاهُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } .
وَاَلَّذِي عِنْدِي صِحَّةُ لَعْنِهِ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ وَافَى كَافِرًا بِظَاهِرِ الْحَالِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْكَفَرَةِ مِنْ لَعْنَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ حَالَةٌ أُخْرَى ، وَبَيَانٌ لِحُكْمٍ آخَرَ وَحَالَةٍ وَاقِعَةٍ تَعْضُدُ جَوَازَ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ لِجَوَازِ اللَّعْنِ فِي الدُّنْيَا ، فَيَكُونُ لِلْآيَتَيْنِ مَعْنَيَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ لَعْنَةِ اللَّهِ لِمَنْ كَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْكُفْرِ ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوَافَاتَهُ مُؤْمِنًا ؟ قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ ، وَلَكِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ لَهُ حُكْمُهُ بِجَوَازِ لَعْنِهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَخْذًا بِظَاهِرِ حَالِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَآلِهِ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا } : وَهِيَ كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ تَتَضَمَّنُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ ؛ فَتُثْبِتُ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَقَدْ حَصَرَتْ هَاهُنَا الْمُحَرَّمَ لَا سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَتْ عَقِبَ الْمُحَلَّلِ ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } .
فَأَدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، ثُمَّ عَقَّبَهَا بِالْمُحَرَّمِ بِكَلِمَةِ " إنَّمَا " الْحَاصِرَةِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْإِيعَابَ لِلْقِسْمَيْنِ ؛ فَلَا مُحَرَّمَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ ، وَأَكَّدَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } إلَى آخِرِهَا فَاسْتَوَى الْبَيَانُ أَوَّلًا وَآخِرًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْمَيْتَةَ } .
وَهِيَ الْإِطْلَاقُ عُرْفًا ، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ حُكْمًا مَا مَاتَ مِنْ الْحَيَوَانِ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ بِذَكَاةٍ ، أَوْ مَقْتُولًا بِغَيْرِ ذَكَاةٍ ، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَسْتَبِيحُهُ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَجَادَلُوا فِيهِ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي شَعْرِهَا وَصُوفِهَا وَقَرْنِهَا : وَيَأْتِي فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ وَخُصُوصِهَا : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَالْمَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالدَّمَانِ الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ } .
ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ : فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي الْجَرَادِ وَالسَّمَكِ ، وَأَجَازَ أَكْلَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ وَلَا ذَكَاةٍ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ فِي السَّمَكِ وَأَجَازَهُ فِي الْجَرَادِ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَمَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ .
وَلَكِنَّهُ وَرَدَ فِي السَّمَكِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ جِدًّا : فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ يَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ ، فَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَيْتَةٌ ، ثُمَّ قَالَ : بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اُضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا .
قَالَ : فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا

حَتَّى سَمِنَّا ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ : فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا ؟ قَالَ : فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ ، فَأَكَلَهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
فَهَذَا الْحَدِيثُ يُخَصِّصُ بِصِحَّةِ سَنَدِهِ عُمُومَ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ .
وَيَعْضُدُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } .
فَصَيْدُهُ مَا صِيدَ وَتُكَلِّفُ أَخْذُهُ ، وَطَعَامُهُ مَا طَفَا عَلَيْهِ ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ فِي السَّمَكِ خَاصَّةً ، وَرَأَى أَكْلَ مَيْتَتِهِ ، وَمَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْجَرَادِ إلَّا بِذَكَاةٍ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ يَجْرِي عَلَى حَالِهِ حَتَّى يُخَصِّصَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، أَوْ الْآيَةُ الظَّاهِرَةُ ، وَقَدْ وُجِدَ كِلَاهُمَا فِي السَّمَكِ ، وَلَيْسَ فِي الْجَرَادِ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ مَيْتَتِهِ .
أَمَّا أَكْلُ الْجَرَادِ فَجَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَفِيهِ أَخْبَارٌ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى : { غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ } .
وَرَوَى سَلْمَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هُوَ أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ ، لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ } ، وَلَمْ يَصِحَّ .
بَيْدَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ أَكَلَتْهُ ، وَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذَكَاةٍ عَلَى مَا يَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ كَعْبُ : إنَّهُ نَتْرَةُ حُوتٍ .
قُلْنَا : لَا يَنْبَنِي عَلَى قَوْل كَعْبٍ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّا يَلْزَمُنَا تَصْدِيقُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَنَا

تَكْذِيبُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالدَّمَ } : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجِسٌ لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَقَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَاهُنَا مُطْلَقًا ، وَعَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مُقَيَّدًا بِالْمَسْفُوحِ ، وَحَمَلَ الْعُلَمَاءُ هَاهُنَا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ إجْمَاعًا .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا فِي ذَلِكَ إلَى مَا يُعْزَى إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الدَّمِ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعُمُومِ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مَخْصُوصٌ فِي الْكَبِدِ وَالطِّحَالِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُخَصَّصْ ، وَأَنَّ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ لَحْمٌ ، يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْعِيَانُ الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ بَيَانٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى بُرْهَانٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ } .
اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ [ لَحْمَ ] الْخِنْزِيرِ حَرَامٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ .
وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ اللَّحْمِ أَنَّهُ حَيَوَانٌ يُذْبَحُ لِلْقَصْدِ إلَى لَحْمِهِ ، وَقَدْ شَغَفَتْ الْمُبْتَدَعَةُ بِأَنْ تَقُولَ : فَمَا بَالُ شَحْمِهِ ، بِأَيِّ شَيْءٍ حُرِّمَ ؟ وَهُمْ أَعَاجِمُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَنْ قَالَ لَحْمًا فَقَدْ قَالَ شَحْمًا ، وَمَنْ قَالَ شَحْمًا فَلَمْ يَقُلْ لَحْمًا ؛ إذْ كُلُّ شَحْمٍ لَحْمٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ لَحْمٍ شَحْمًا مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِ اللَّفْظِ ؛ وَهُوَ لَحْمٌ مِنْ جِهَةِ حَقِيقَةِ اللَّحْمِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ كُلَّ حَمْدٍ شُكْرٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ شُكْرٍ حَمْدًا مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ النِّعَمِ ، وَهُوَ حَمْدٌ مِنْ جِهَةِ ذِكْرِ فَضَائِلِ الْمُنْعِمِ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَتِهِ : فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ نَجِسٌ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ طَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الطَّهَارَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْحَيَاةُ .
وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَبَيَّنَّاهُ طَرْدًا وَعَكْسًا ، وَحَقَّقْنَا مَا فِيهِ مِنْ الْإِحَالَةِ [ وَالْمُلَاءَمَةِ ] وَالْمُنَاسَبَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ وَمَنْ لَا يَرَاهُ بِمَا لَا مَطْعَن فِيهِ ، وَهَذَا يُشِيرُ بِك إلَيْهِ ، فَأَمَّا شَعْرُهُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } وَمَوْضِعُهَا سُورَةُ الْأَنْعَامِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ } .
وَتَصْرِيفُهُ اُفْتُعِلَ مِنْ الضَّرَرِ ، كَقَوْلِهِ : اُفْتُتِنَ مِنْ الْفِتْنَةِ ، أَيْ : أَدْرَكَهُ ضَرَرٌ ، وَوُجِدَ بِهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي حَقِيقَةِ الضَّرَرِ وَالْمُضْطَرِّ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
بَيَانُهُ : أَنَّ الضَّرَرَ هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ يُوَازِيهِ أَوْ يُرْبِي عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَقِيضُ النَّفْعِ ، وَهُوَ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ شُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ وَالْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِالضَّرَرِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ الْمُوَازِي لَهُ أَوْ الْمُرْبِي عَلَيْهِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالشَّيْءِ الْمُلْجَأُ إلَيْهِ ، الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ اسْمُ الْمُكْرَهِ إلَّا لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الشَّيْءِ ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ فِعْلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ ، كَالْمُرْتَعِشِ وَالْمَحْمُومِ ، لَا يُسَمَّى مُضْطَرًّا وَلَا مُلْجَأً ، وَأَشَرْنَا إلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُضْطَرُّ ، وَقَدْ يَكُونُ [ الْمُضْطَرُّ ] الْمُحْتَاجُ ، وَلَكِنَّ الْمُلْجَأَ مُضْطَرٌّ حَقِيقَةً ، وَالْمُحْتَاجُ مُضْطَرٌّ مَجَازًا .
وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ : إنَّ الْمُضْطَرَّ هُوَ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ غَيْرُهُ فِعْلًا ، وَهَذَا تَنَازُعٌ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ وَمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ هُوَ اللُّغَةُ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَالْمُرَادُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ } : أَيْ خَافَ التَّلَفَ ، فَسَمَّاهُ مُضْطَرًّا ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّنَاوُلِ .
وَيَرِدُ الْمُضْطَرُّ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُكْتَسِبُ الضَّرَرِ ، وَالثَّانِي مُكْتَسِبُ دَفْعِهِ ، كَالْإِعْجَامِ يَرِدُ بِمَعْنَى الْإِفْهَامِ وَبِمَعْنَى نَفْيِهِ ، فَالسُّلْطَانُ يَضْطَرُّهُ أَيْ يُلْجِئُهُ لِلضَّرَرِ ، وَالْمُضْطَرُّ يَبِيعُ مَنْزِلَهُ ، أَيْ يَدْفَعُ الضَّرَرَ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ بَيْعِ مَالِهِ .
وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ

مُضْطَرٌّ بِمَا أَدْرَكَهُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ ، مُضْطَرٌّ بِدَفْعِهِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ ؛ وَهُوَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَشْرُوطٌ ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي مَأْمُورٌ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : هَذَا الضَّرَرُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ يَلْحَقُ إمَّا بِإِكْرَاهٍ مِنْ ظَالِمٍ ، أَوْ بِجُوعٍ فِي مَخْمَصَةٍ ، أَوْ بِفَقْرٍ لَا يَجِدُ فِيهِ غَيْرَهُ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ يَرْتَفِعُ عَنْ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَيَكُونُ مُبَاحًا ، فَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَيُبِيحُ ذَلِكَ كُلَّهُ إلَى آخِرِ الْإِكْرَاهِ .
وَأَمَّا الْمَخْمَصَةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نَادِرَةً فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَضَلَّعَ قَالَهُ مَالِكٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يَأْكُلُ عَلَى قَدْرِ سَدِّ الرَّمَقِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ ضَرُورَةٌ فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ بِيَدِهِ ، وَأَمْلَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَأَقْرَأَهُ وَقَرَأَهُ عُمُرَهُ كُلَّهُ : " يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ " .
وَدَلِيلُهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا ، وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إلَى حَالَةِ وُجُودِهِ حَتَّى يَجِدَ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ضَعِيفٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى خَمْرٍ ، فَإِنْ كَانَ بِإِكْرَاهٍ شَرِبَ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ لِجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَلَا يَشْرَبُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ ، وَقَالَ : لَا تَزِيدُهُ الْخَمْرُ إلَّا عَطَشًا ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ مُطْلَقًا ، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ بِشَرْطِ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَيْتَةِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ : إنْ رَدَّتْ الْخَمْرُ عَنْهُ جُوعًا أَوْ عَطَشًا شَرِبَهَا .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخِنْزِيرِ : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا فِي الْخَمْرِ : إنَّهَا رِجْسٌ ، فَتَدْخُلُ فِي إبَاحَةِ ضَرُورَةِ الْخِنْزِيرِ ؛ فَالْمَعْنَى الْجَلِيُّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ تَرْوِيَ وَلَوْ سَاعَةً وَتَرُدَّ الْجُوعَ وَلَوْ مُدَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا غَصَّ بِلُقْمَةٍ فَهَلْ يُجِيزُهَا [ بِخَمْرٍ ] أَمْ لَا ؟ قِيلَ : لَا يُسِيغُهَا بِالْخَمْرِ مَخَافَةَ أَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُسِيغُهَا ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ دَخَلَ النَّارَ ، إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَعْيَانًا مَخْصُوصَةً فِي أَوْقَاتٍ مُطْلَقَةٍ ، ثُمَّ دَخَلَ التَّخْصِيصُ بِالدَّلِيلِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَانِ ، وَتَطَرَّقَ التَّخْصِيصُ بِالنَّصِّ إلَى بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } ؛ فَرَفَعَتْ الضَّرُورَةُ التَّحْرِيمَ ، وَدَخَلَ التَّخْصِيصُ أَيْضًا بِحَالِ الضَّرُورَةِ إلَى حَالِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَمْلًا عَلَى هَذَا بِالدَّلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ ، فَأَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ كَالْمَيْتَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَنْ يَقُولُ : إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَا يَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ ذَكَرَ أَنَّهَا لَا

تَزِيدُهُ إلَّا عَطَشًا ، وَلَا تَدْفَعُ عَنْهُ شِبَعًا ؛ فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ كَانَتْ حَرَامًا ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَبَاحَتْهَا الضَّرُورَةُ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَأَمَّا الْغَاصُّ بِلُقْمَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَنَا فَإِنْ شَهِدْنَاهُ فَلَا يَخْفَى بِقَرَائِنِ الْحَالِ صُورَةُ الْغُصَّةِ مِنْ غَيْرِهَا ، فَيُصَدَّقُ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَدَدْنَاهُ ظَاهِرًا وَسَلِمَ مِنْ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِنًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ } .
فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ نُخْبَتُهَا اثْنَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْبَاغِيَ فِي اللُّغَةِ ، وَهُوَ الطَّالِبُ لِخَيْرٍ كَانَ أَوْ لِشَرٍّ ، إلَّا أَنَّهُ خُصَّ هَاهُنَا بِطَالِبٍ الشَّرِّ ، وَمِنْ طَالِبِ الشَّرِّ الْخَارِجُ عَلَى الْإِمَامِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ .
وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } .
وَالْعَادِي ، وَهُوَ : الْمُجَاوِزُ مَا يَجُوزُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ ، وَخُصَّ هَاهُنَا بِقَاطِعِ السَّبِيلِ ، وَقَدْ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ الثَّانِي : أَنَّ الْبَاغِيَ آكِلُ الْمَيْتَةِ فَوْقَ الْحَاجَةِ ، وَالْعَادِي آكِلُهَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ : مِنْهُمْ قَتَادَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَادِيَ بَاغٍ ، فَلَمَّا أَفْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالذِّكْرِ تَعَيَّنَ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْآخَرِ ، لِئَلَّا يَكُونَ تَكْرَارًا يَخْرُجُ عَنْ الْفَصَاحَةِ الْوَاجِبَةِ لِلْقُرْآنِ .
وَالْأَصَحُّ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ طَالِبٍ شَرًّا ، وَلَا مُتَجَاوِزٍ حَدًّا ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : " غَيْرُ طَالِبٍ شَرًّا " فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ كُلُّ خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ ، وَقَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ .
وَأَمَّا " غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ حَدًّا " فَمَعْنَاهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ حَدَّ الضَّرُورَةِ إلَى حَدِّ الِاخْتِيَارِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الشِّبَعِ ، كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ ، وَلَكِنْ مَعَ النُّدُورِ لَا مَعَ التَّمَادِي ؛ { فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ أَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا مِمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّهُ مَيْتَةٌ حَتَّى أَخْبَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ حَلَالٌ } ؛ لَكِنَّ وَجْهَ الْحُجَّةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَخْبَرُوهُ بِحَالِهِمْ جَوَّزَ لَهُمْ أَكْلَهُمْ شِبَعًا وَتَضَلُّعًا مَعَ اعْتِقَادِهِمْ لِضَرُورَتِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَسْتَبِيحُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ رُخَصَ السَّفَرِ ؛ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُبَاحُ لَهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَلِكَ عَوْنًا ، وَالْعَاصِي لَا يَحِلُّ أَنْ يُعَانَ ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْلَ فَلْيَتُبْ وَيَأْكُلْ ، وَعَجَبًا مِمَّنْ يُبِيحُ ذَلِكَ لَهُ مَعَ التَّمَادِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُهُ ؛ فَإِنْ قَالَهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَدَمًا وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ وَخَمْرًا وَصَيْدًا حَرَمِيًّا أَوْ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَهَذِهِ صُورَتَانِ : الْأُولَى : الْحَلَالُ يَجِدُهَا ، وَالثَّانِي الْحَرَامُ ؛ فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخَمْرًا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ حَلَالًا بِيَقِينٍ ، وَالْخَمْرُ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّظَرِ ؛ وَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَبَعِيرًا ضَالًّا أَكَلَ الْمَيْتَةَ قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ .
فَإِنْ وَجَدَ مَيْتَةً وَكَنْزًا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ أَكَلَ الْكَنْزَ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ .
فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ تَحْتَ حِرْزٍ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ؛ وَلَوْ وَجَدَ مَيْتَةً وَخِنْزِيرًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، فَإِنْ وَجَدَ لَحْمَ بَنِي آدَمَ وَالْمَيْتَةَ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ؛ فَإِنَّهَا حَلَالٌ فِي حَالٍ ، وَالْخِنْزِيرُ وَابْنُ آدَمَ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ ، وَلَا يَأْكُلُ ابْنَ آدَمَ وَلَوْ مَاتَ قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَأْكُلُ لَحْمَ ابْنِ آدَمَ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا وَجَدَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ، وَمَيْتَةً ؛ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّيْدَ .
وَالضَّابِطُ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ قَدَّمَ الْمَيْتَةَ ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ حَيَّةً وَالْخِنْزِيرُ لَا يَحِلُّ ، وَالتَّحْرِيمُ الْمُخَفَّفُ أَوْلَى أَنْ يُقْتَحَمَ مِنْ التَّحْرِيمِ الْمُثْقَلِ ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهُ أَوْ أَجْنَبِيَّةً وَطِئَ الْأَجْنَبِيَّةَ ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ ، وَإِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَخَمْرًا فَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَإِذَا وَجَدَ مَيْتَةً وَمَالَ الْغَيْرِ ، فَإِنْ أَمِنَ الضَّرَرَ فِي بَدَنِهِ أَكَلَ مَالَ الْغَيْرِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ، وَأَمِنَهُ إذَا كَانَ مَالُ الْغَيْرِ فِي الثِّمَارِ أَكْثَرَ مِنْ أَمْنِهِ إذَا كَانَ فِي الْجَرِينِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمَيْتَةِ وَالْآدَمِيِّ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَلَّا يَأْكُلَ الْآدَمِيَّ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِ وَيُحْيِيهِ .
وَإِذَا وَجَدَ

الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَمَيْتَةً أَكَلَ الصَّيْدَ ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ مُؤَقَّتٌ ، فَهُوَ أَخَفُّ وَتُقْبَلُ الْفِدْيَةُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ، وَلَا فِدْيَةَ لِآكِلِ الْمَيْتَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا احْتَاجَ إلَى التَّدَاوِي بِالْمَيْتَةِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَحْتَاجَ إلَى اسْتِعْمَالِهَا قَائِمَةً بِعَيْنِهَا ، أَوْ يَسْتَعْمِلَهَا مُحْرَقَةً ؛ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ بِالْإِحْرَاقِ ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا وَالصَّلَاةُ ، وَخَفَّفَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرْقَ تَطْهِيرٌ لِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ .
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فِي الْمَرْتَكِ يُصْنَعُ مِنْ عِظَامِ الْمَيْتَةِ إذَا جَعَلَهُ فِي جُرْحِهِ لَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ بِعَيْنِهَا فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ : لَا يَتَدَاوَى بِهَا بِحَالٍ وَلَا بِالْخِنْزِيرِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مِنْهُ عِوَضًا حَلَالًا ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْمَجَاعَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ عِوَضٌ ، حَتَّى لَوْ وَجَدَ مِنْهَا فِي الْمَجَاعَةِ عِوَضًا لَمْ يَأْكُلْهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا ؛ لِوُجُودِ الْعِوَضِ ، وَلَوْ أُحْرِقَتْ لَبَقِيَتْ نَجِسَةً ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ النَّجِسَةَ لَا تَطْهُرُ إلَّا بِالْمَاءِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ مُطَهِّرًا لِلْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ أَيُتَدَاوَى بِهَا ؟ قَالَ : لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ } .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَقَدْ كَانَ الشَّعْبِيُّ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْهُ يَقُولُ : فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَيَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ } .
وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يَثْبُتُ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَلَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَإِذَا وَقَعَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَنَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ الْمَالِ إلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسَرَاهُمْ ، وَإِنْ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ ، وَكَذَا إذَا مَنَعَ الْوَالِي الزَّكَاةَ ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ ؟ مَسْأَلَةٌ فِيهَا نَظَرٌ ، أَصَحُّهَا عِنْدِي وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالْمَسَاكِينُ } : يَعْنِي : الَّذِينَ لَا يَسْأَلُونَ ، وَالسَّائِلِينَ يَعْنِي الَّذِينَ كَشَفُوا وُجُوهَهُمْ ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَفِي الرِّقَابِ } : هُمْ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ قُرْبَةً قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ : أَنَّهُمْ الْمُكَاتَبُونَ يُعَانُونَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ ، وَذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ عَامٌّ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَآتَى الزَّكَاةَ } .
قِيلَ الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الْمَالِ فِي أَوَّلِهَا التَّطَوُّعُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا قَدَّرْنَاهُ ، وَبِالزَّكَاةِ هَاهُنَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ هَاهُنَا تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } ؛ فَبَيَّنَ الْمَالَ الْمُؤْتَى وَوَجْهَ الْإِيتَاءِ فِيهِ ، وَهُوَ الزَّكَاةُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُمَا فَائِدَتَانِ : الْإِيتَاءُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِهِ ، فَتَارَةً يَكُونُ نَدْبًا ، وَتَارَةً يَكُونُ فَرْضًا ؛ وَالْإِيتَاءُ الثَّانِي هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَهَا الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ لَا يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ بِعَبْدٍ إلَّا حُرًّا ، وَبِوَضِيعٍ إلَّا شَرِيفًا ، وَبِامْرَأَةٍ إلَّا رَجُلًا ذَكَرًا ، وَيَقُولُونَ : الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ، فَرَدَّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ إلَى الْقِصَاصِ ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَقَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْعَدْلِ بَوْنٌ عَظِيمٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَى { كُتِبَ } : فُرِضَ وَأُلْزِمَ ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَالْقِصَاصُ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِخِيرَةِ الْوَلِيِّ ؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ كُتِبَ وَفُرِضَ إذَا أَرَدْتُمْ [ اسْتِيفَاءَ ] الْقِصَاصِ فَقَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ، كَمَا يُقَالُ كُتِبَ عَلَيْك إذَا أَرَدْت التَّنَفُّلَ الْوُضُوءُ ؛ وَإِذَا أَرَدْت الصِّيَامَ النِّيَّةُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ؛ فَقِيلَ : هُوَ كَلَامٌ عَامٌّ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ سَائِرُهُمْ : لَا يَتِمُّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ؛ وَإِنَّمَا يَنْقَضِي عِنْدَ قَوْله تَعَالَى : { الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } وَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ ، وَتَتْمِيمٌ لِمَعْنَاهُ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
فَائِدَةٌ : وَرَدَ عَلَيْنَا بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَقِيهٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْرَفُ بِالزَّوْزَنِيِّ زَائِرًا لِلْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَحَضَرْنَا فِي حَرَمِ الصَّخْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ طَهَّرَهَا اللَّهُ مَعَهُ ، وَشَهِدَ عُلَمَاءُ الْبَلَدِ ، فَسُئِلَ عَلَى الْعَادَةِ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، فَقَالَ : يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا ؛ فَطُولِبَ بِالدَّلِيلِ ، فَقَالَ : الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ قَتِيلٍ .
فَانْتَدَبَ مَعَهُ لِلْكَلَامِ فَقِيهُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا وَإِمَامُهُمْ عَطَاءٌ الْمَقْدِسِيُّ ، وَقَالَ : مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } فَشَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ؛ فَإِنَّ الْكُفْرَ حَطَّ مَنْزِلَتَهُ وَوَضَعَ مَرْتَبَتَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا ، وَجَعَلَ بَيَانَهَا عِنْدَ تَمَامِهَا ، فَقَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } فَإِذَا نَقَصَ الْعَبْدُ عَنْ الْحُرِّ بِالرِّقِّ ، وَهُوَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَأَحْرَى وَأَوْلَى أَنْ يَنْقُصَ عَنْهُ الْكَافِرُ .
الثَّالِثُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } ؛ وَلَا مُؤَاخَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ؛ فَدَلَّ عَلَى

عَدَمِ دُخُولِهِ فِي هَذَا الْقَوْلِ .
فَقَالَ الزَّوْزَنِيُّ : بَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ ، وَمَا اعْتَرَضْت بِهِ لَا يَلْزَمُنِي مِنْهُ شَيْءٌ .
أَمَّا قَوْلُك : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمُجَازَاةِ فَكَذَلِكَ أَقُولُ .
وَأَمَّا دَعْوَاك أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ فِي الْقِصَاصِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَغَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُرْمَةِ الَّتِي تَكْفِي فِي الْقِصَاصِ ، وَهِيَ حُرْمَةُ الدَّمِ الثَّابِتَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَالْمُسْلِمَ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَكِلَاهُمَا قَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَالَ الذِّمِّيِّ قَدْ سَاوَى مَالَ الْمُسْلِمِ ؛ فَدَلَّ عَلَى مُسَاوَاتِهِ لِدَمِهِ ؛ إذْ الْمَالُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِحُرْمَةِ مَالِكِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ آخِرَ الْآيَةِ بِأَوَّلِهَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ عَامٌّ وَآخِرُهَا خَاصٌّ ، وَخُصُوصُ آخِرِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ أَوَّلِهَا ؛ بَلْ يَجْرِي كُلٌّ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ .
وَأَمَّا قَوْلُك : إنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ ، فَلَا أُسَلِّمُ بِهِ ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِهِ عِنْدِي قِصَاصًا ، فَتَعَلَّقْت بِدَعْوَى لَا تَصِحُّ لَك .
وَأَمَّا قَوْلُك : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ يَعْنِي الْمُسْلِمَ ، فَكَذَلِكَ أَقُولُ ، وَلَكِنَّ هَذَا خُصُوصٌ فِي الْعَفْوِ ؛ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ عُمُومِ وُرُودِ الْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ ؛ فَعُمُومُ إحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خُصُوصِ الْأُخْرَى ، وَلَا خُصُوصَ هَذِهِ يُنَاقِضُ عُمُومَ تِلْكَ .
وَجَرَتْ فِي ذَلِكَ مُنَاظَرَةٌ عَظِيمَةٌ حَصَّلْنَا مِنْهَا فَوَائِدَ جَمَّةً أَثْبَتْنَاهَا فِي " نُزْهَةِ النَّاظِرِ " ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ يَكْفِي هُنَا مِنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } تَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا التَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ نَظِيرَ الْحُرِّ وَمُسَاوِيهِ وَهُوَ الْحُرُّ ، وَبَيَّنَ الْعَبْدَ وَمُسَاوِيهِ ، وَهُوَ الْعَبْدُ ، وَيَعْضُدُهُ مَا نَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ طَرْفِ الْحُرِّ وَطَرْفِ الْعَبْدِ ، وَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ مِنْهُمَا فِي الْأَطْرَافِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ فِي الْأَنْفُسِ ، وَلَقَدْ بَلَغَتْ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ أَنْ قَالُوا : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ } وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ .
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } الْوَلِيُّ هَاهُنَا السَّيِّدُ ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : جَعَلَهُ إلَى الْإِمَامِ ، قِيلَ : إنَّمَا يَكُونُ لِلْإِمَامِ إذَا ثَبَتَ لِلْمُسْلِمِينَ مِيرَاثًا ، فَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ نِيَابَةً عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ ، وَنِيَابَتُهُ هَاهُنَا عَنْ السَّيِّدِ مُحَالٌ فَلَا يُقَادُ بِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى } [ فَلَمْ يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى ] .
قُلْنَا : ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ ، وَلَوْ تَرَكْنَا هَذَا التَّقْسِيمَ لَقُلْنَا : لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا قَتَلَ الرَّجُلُ زَوْجَهُ لِمَ لَمْ تَقُولُوا : يَنْتَصِبُ النِّكَاحُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ الزَّوْجِ كَمَا انْتَصَبَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ فَرْعُهُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ النَّسَبِ ؛ إذْ النِّكَاحُ ضَرْبٌ مِنْ الرِّقِّ ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْتَصِبَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ .
قُلْنَا : النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ لَهَا عَلَيْهِ كَمَا يَنْعَقِدُ لَهُ عَلَيْهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا ، وَيَحِلُّ لَهَا مِنْهُ مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا ، وَتُطَالِبُهُ مِنْ الْوَطْءِ بِمَا يُطَالِبُهَا ، وَلَكِنْ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلُ الْقَوَامِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ ، أَيْ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقٍ وَنَفَقَةٍ ، فَلَوْ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَأَوْرَثَهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقُولُوا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَتَلَ امْرَأَتَهُ فَقَتَلَهُ وَلِيُّهَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ شَيْءٌ زَائِدٌ .
وَلَوْ قَتَلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ ، وَأُخِذَ مِنْ مَالِهَا نِصْفُ الْعَقْلِ .
قُلْنَا : هُوَ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَحْجُوجٌ بِالْعُمُومِيَّاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْقِصَاصِ دُونَ اعْتِبَارِ شَيْءٍ مِنْ الدِّيَةِ فِيهِمَا .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ الْحُرَّةَ تُقْتَلُ بِالْحُرَّةِ ، كَمَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْأَمَةُ تُقْتَلُ بِالْأَمَةِ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْقِصَاصُ أَيْضًا يَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } وَهَذَا بَيِّنٌ ،

وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .

وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لِأَنَّ الْآيَةَ بِعُمُومِهَا تَقْتَضِي الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ وَالْبَعْضَ بِالْبَعْضِ وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُؤْخَذُ طَرْفُ الْحُرِّ بِطَرْفِ الْعَبْدِ ، وَتُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ ، فَيَقُولُ : شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّلَامَةِ وَالْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : يُؤْخَذُ طَرْفُ الْعَبْدِ بِطَرْفِ الْحُرِّ ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرْفُ الْحُرِّ بِطَرْفِ الْعَبْدِ ، وَهَذَا يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ ، وَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِي النَّفْسِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : الْقِصَاصُ جَارٍ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرْفِ وَالنَّفْسِ ، وَالتَّمْهِيدُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْآيَةِ يُبْطِلُهُ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ فِي الْقَتْلَى ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي هُوَ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ يُدْخِلُهُ تَحْتَ ذُلِّ الرِّقِّ ، وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِ أَيْدِي الْمَالِكِينَ تَسْلِيطًا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُطَاوَلَةِ ، وَيَصُدُّهُ عَنْ تَعَاطِي الْمُصَاوَلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَدَاوَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْإِتْلَافِ ، كَدُخُولِ الْكَافِرِ تَحْتَ ذُلِّ الْعَهْدِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ الَّتِي هِيَ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ ، فَإِنَّ مَذَلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ تُرْهِقُهُ كَمَذَلَّةِ الْكُفْرِ الْمُرْهِقَةِ لِلذِّمِّيِّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ هَلْ يُقْتَلُ الْأَبُ بِوَلَدِهِ مَعَ عُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ ؟ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ بِهِ إذَا تَبَيَّنَ قَصْدُهُ إلَى قَتْلِهِ بِأَنْ أَضْجَعَهُ وَذَبَحَهُ ، فَإِنْ رَمَاهُ بِالسِّلَاحِ أَدَبًا وَحَنَقًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ ، وَيُقْتَلُ الْأَجْنَبِيُّ بِمِثْلِ هَذَا ، وَخَالَفَهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالُوا : لَا يُقْتَلُ بِهِ .
سَمِعْت شَيْخَنَا فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يَقُولُ فِي النَّظَرِ : لَا يُقْتَلُ الْأَبُ بِابْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ وُجُودِهِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ سَبَبَ عَدَمِهِ ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِمَا إذَا زَنَى بِابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ وَكَانَ سَبَبَ وُجُودِهَا ، وَتَكُونُ هِيَ سَبَبَ عَدَمِهِ ؛ ثُمَّ أَيُّ فِقْهٍ تَحْتَ هَذَا ؟ وَلِمَ لَا يَكُونُ سَبَبَ عَدَمِهِ إذَا عَصَى اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ أُثِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، وَمُتَعَلِّقُهُمْ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِالدِّيَةِ مُغَلَّظَةً فِي قَاتِلِ ابْنِهِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ الْمَسْأَلَةَ مُسَجَّلَةً ، وَقَالُوا : لَا يُقْتَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ ، وَأَخَذَهَا مَالِكٌ مُحْكَمَةً مُفَصَّلَةً ، فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ ، وَهَذِهِ حَالَةٌ مُحْتَمَلَةٌ لِقَصْدِ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ ، وَشَفَقَةُ الْأُبُوَّةِ شُبْهَةٌ مُنْتَصِبَةٌ شَاهِدَةٌ بِعَدَمِ الْقَصْدِ [ إلَى الْقَتْلِ ] تُسْقِطُ الْقَوَدَ ، فَإِذَا أَضْجَعَهُ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ قَصْدِهِ فَالْتَحَقَ بِأَصْلِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ [ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ] : احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي قَوْلِهِ : لَا تُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ ، لَا سِيَّمَا ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } الْجَوَابُ : أَنَّ مُرَاعَاةَ الْقَاعِدَةِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ ، وَلَوْ عَلِمَ الْجَمَاعَةُ أَنَّهُمْ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا لَمْ يُقْتَلُوا لَتَعَاوَنَ الْأَعْدَاءُ عَلَى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ بِالِاشْتِرَاكِ فِي قَتْلِهِمْ ، وَبَلَغُوا الْأَمَلَ مِنْ التَّشَفِّي مِنْهُمْ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِصَاصِ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ بِمَنْ قَتَلَ مِنْ لَمْ يَقْتُلْ ، وَتَقْتُلَ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ مِائَةً افْتِخَارًا ، وَاسْتِظْهَارًا بِالْجَاهِ وَالْمَقْدِرَةِ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُسَاوَاةِ وَالْعَدْلِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَ .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : أَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ بَيَانًا لِلْمُقَابَلَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ أَنَّ النَّفْسَ تُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ ، وَالْأَطْرَافَ بِالْأَطْرَافِ ، رَدًّا عَلَى مَنْ تَبْلُغُ بِهِ الْحَمِيَّةُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَ جَانٍ عَنْ طَرْفِ مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ ، وَالشَّرِيعَةُ تُبْطِلُ الْحَمِيَّةَ وَتَعْضُدُ الْحِمَايَةَ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } إلَى آخِرِهَا : قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا قَوْلٌ مُشْكِلٌ تَبَلَّدَتْ فِيهِ أَلْبَابُ الْعُلَمَاءِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُقْتَضَاهُ .
فَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : مُوجِبُ الْعَمْدِ الْقَوَدُ خَاصَّةً ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الدِّيَةِ إلَّا بِرِضًا مِنْ الْقَاتِلِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ أَنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إنْ شَاءَ قَتَلَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَكَاخْتِلَافِهِمْ اخْتَلَفَ مَنْ مَضَى مِنْ السَّلَفِ قَبْلَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " الْعَفْوُ أَنْ تُقْبَلَ الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ ، فَيُتْبَعَ بِمَعْرُوفٍ وَتُؤَدَّى إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ " يَعْنِي يُحْسِنُ فِي الطَّلَبِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ ، وَلَا تَعْنِيفٍ ، وَيُحْسِنُ فِي الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَلَا تَسْوِيفٍ .
وَنَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالسُّدِّيِّ زَادَ قَتَادَةُ : بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ بَعِيرًا يَعْنِي فِي إبِلِ الدِّيَةِ ، فَمِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وَكَأَنَّهُ يَعْنِي فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لَا يُزَادُ عَلَى الدِّيَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرْعِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَفْسِيرُهُ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا مِنْ الْعَقْلِ فَلْيَتْبَعْهُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ فَعَلَى هَذَا الْخِطَابُ لِلْوَلِيِّ ، قِيلَ لَهُ : إنْ أَعْطَاك أَخُوك الْقَاتِلُ الدِّيَةَ الْمَعْرُوفَةَ فَاقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَاتَّبِعْهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تَفْسِيرُهُ إذَا أَسْقَطَ الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ ، وَعَيَّنَ لَهُ مِنْ الْوَاجِبِينَ لَهُ الدِّيَةُ فَاتَّبِعْهُ عَلَى ذَلِكَ أَيُّهَا الْجَانِي عَلَى هَذَا الْمَعْرُوفِ ، وَأَدِّ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ .
وَهَذَا يَدُورُ عَلَى حَرْفٍ ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِ الْعَفْوِ ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ خَمْسَةُ مَوَارِدَ : الْأَوَّلُ : الْعَطَاءُ ، يُقَالُ : جَادَ بِالْمَالِ عَفْوًا صَفْوًا ، أَيْ مَبْذُولًا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .
الثَّانِي :

الْإِسْقَاطُ ، وَنَحْوُهُ : { وَاعْفُ عَنَّا } { وَعَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ } .
الثَّالِثُ : الْكَثْرَةُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى عَفَوْا } أَيْ كَثُرُوا ، وَيُقَالُ : عَفَا الزَّرْعُ ، أَيْ طَالَ .
الرَّابِعُ : الذَّهَابُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : عَفَتْ الدِّيَارُ .
الْخَامِسُ : الطَّلَبُ ، يُقَالُ : عَفَّيْتُهُ وَأَعْفَيْتُهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : مَا أَكَلَتْ الْعَافِيَةُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : تَطُوفُ الْعُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ كَطَوْفِ النَّصَارَى بِبَيْتِ الْوَثَنِ وَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ وَجَبَ عَرْضُهَا عَلَى مَسَاقِ الْآيَةِ ، وَمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ ؛ فَاَلَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ مِنْهَا الْعَطَاءُ أَوْ الْإِسْقَاطُ ؛ فَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْإِسْقَاطَ ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَهُ الْقِصَاصُ ، وَإِذَا ذُكِرَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ كَانَ فِي الْإِسْقَاطِ أَظْهَرُ .
وَرَجَّحَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الْعَطَاءَ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ وُصِلَ بِكَلِمَةِ " عَنْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاعْفُ عَنَّا } وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ } ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْعَطَاءِ كَانَتْ صِلَتَهُ لَهُ ؛ فَتَرَجَّحَ ذَلِكَ بِهَذَا ؛ وَبِوَجْهٍ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ تَأْوِيلَ مَالِكٍ هُوَ اخْتِيَارُ خَبَرِ الْقُرْآنِ ، وَمَنْ تَابَعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ وَبِوَجْهٍ ثَالِثٍ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ فِي الْجَزَاءِ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ ، وَالْجَزَاءُ عَائِدٌ إلَى الْوَلِيِّ ، فَلْيَعُدْ إلَيْهِ الشَّرْطُ ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَنْ ، مَنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { شَيْءٌ } فَنَكَّرَ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْقِصَاصَ لَمَا نَكَّرَهُ ، لِأَنَّهُ مُعَرَّفٌ ؛ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّنْكِيرُ فِي جَانِبِ الدِّيَةِ وَمَا دُونَهُ .
وَيَنْفَصِلُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْ تَرْجِيحِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مَعْنَى عَفَا أَسْقَطَ ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ "

تَرَكَ " وَكَلِمَةُ " لَهُ " تَتَّصِلُ بِتَرَكَ ، كَمَا تَتَّصِلُ بِأَخَذَ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا ، وَأَمَّا الْجَزَاءُ فَقَدْ يَعُودُ عَلَى مَنْ لَا يَعُودُ عَلَيْهِ الشَّرْطُ ، فَتَقُولُ : مَنْ دَخَلَ مِنْ عَبِيدِي الدَّارَ فَصَاحِبُهُ حُرٌّ ، وَإِنْ دَخَلَ عَمْرٌو الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ ، وَأَمَّا فَصْلُ النَّكِرَةِ فَغَيْرُ لَازِمٍ ؛ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ يَكُونُ نَكِرَةً وَهُوَ إذَا عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَتَبَعَّضَ الْقِصَاصُ فَيَعُودُ الْبَعْضُ مُنَكَّرًا .
وَهَذَا كَمَا تَرَوْنَ تَعَارُضٌ عَظِيمٌ ، وَإِشْكَالٌ بَيِّنٌ ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ظَاهِرٌ ، إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ أَشْهَبَ أَظْهَرُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْأَثَرُ ، وَالْآخَرُ النَّظَرُ ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ؛ إمَّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ كَيْفِيَّةَ الرِّوَايَاتِ وَاسْتِيفَاءَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ .
وَلُبَابُهُ هَاهُنَا أَنَّ الْحَرْفَ الْأَوَّلَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : { فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ } .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : { فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ } .
وَفِي الْحَرْفِ الثَّانِي سِتُّ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى : { إمَّا أَنْ يَعْقِلَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ } .
الثَّانِيَةُ : { أَنْ يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ } .
الثَّالِثَةُ : { إمَّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ } .
الرَّابِعَةُ : { إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ } .
الْخَامِسَةُ : { إمَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يُقْتَلَ } .
السَّادِسَةُ : { إمَّا أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُقَادَ } .
وَإِذَا نَزَلَتْ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَلَى الْأُولَى جَاءَ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ تَنْزِيلًا : الْأَوَّلُ : { فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ؛ إمَّا أَنْ يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ } ، وَيَكُونَ مَعْنَاهُ : إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ، وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ مَعَ صَاحِبِهِ عَلَى مُفَادَاةٍ مَعْلُومَةٍ .

التَّنْزِيلُ الثَّانِي : فِي قَوْلِهِ : { يَعْقِلَ أَوْ يُقَادَ } ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ : إمَّا أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَوْ يَأْخُذَ الْقَوَدَ .
التَّنْزِيلُ الثَّالِثُ : فِي قَوْلِهِ : { يَفْدِيَ أَوْ يَقْتُلَ مِثْلَهُ } .
التَّنْزِيلُ الرَّابِعُ : فِي قَوْلِهِ : { إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ } ، يَكُونُ مَعْنَاهُ إمَّا أَنْ يُعْطِيَ الدِّيَةَ لَهُ أَوْ يُقَادَ : يُمَكَّنُ مِنْ الْقَوَدِ ، وَكَذَا أَهْلُ الْقَتِيلِ ؛ لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعِبَارَةِ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ مَجَازًا فِي الْإِخْبَارِ بِهِ عَنْ وَلِيِّهِ .
التَّنْزِيلُ الْخَامِسُ : فِي قَوْلِهِ : { إمَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتُلَ } ، وَهِيَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ مُتْقَنَةٌ مَضْبُوطَةٌ مَفْهُومَةٌ جَلِيَّةٌ ، وَتَكُونُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ إنْ كَانَ جَرِيحًا حَقِيقَةً ، أَوْ يُعَبَّرُ عَنْ وَلِيِّهِ بِهِ مَجَازًا ؛ لِأَنَّهُ سُلْطَانُ الْأَمْرِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } .
التَّنْزِيلُ السَّادِسُ : فِي قَوْلِهِ : { يُقْتَلَ أَوْ يُقَادَ } ، تَقْدِيرُهُ إمَّا أَنْ يُقَادَ بِهِ الْقَاتِلُ بِرِضَاهُ أَوْ يُقْتَلَ ، وَكَذَلِكَ تَتَنَزَّلُ التَّقْدِيرَاتُ السِّتَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ : لَهُ قَتِيلٌ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ : مَنْ قُتِلَ عِبَارَةً عَنْ فِعْلِهِ فِي حَالِ جُرْحِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، أَوْ يُعَبِّرُ عَنْ وَلِيِّهِ بِهِ ، فَهَذَا وَجْهُ الِادِّكَارِ مِنْ الْأَثَرِ بِالنَّظَرِ .
وَأَمَّا طَرِيقُ الْمَعْنَى وَالنَّظَرِ ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ أَوْ الْقَاتِلَ إذَا وَقَعَ الْعَفْوُ مِنْهُمَا بِالدِّيَةِ ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاتِلِ قَبُولُهُ دُونَ اعْتِبَارِ رِضَا الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ بَقَاءَ نَفْسِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ ، كَمَا لَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ بَقَاءَ نَفْسِهِ فِي الْمَخْمَصَةِ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ لَلَزِمَهُ ، يُؤَكِّدُهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إبْقَاءُ نَفْسِهِ بِمَالِ الْغَيْرِ إذَا وَجَدَهُ فِي الْمَخْمَصَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ إبْقَاءُ نَفْسِهِ بِمَالِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ الطَّبَرِيُّ : فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } دَلِيلٌ عَلَى عُمُومِ الْوُجُوبِ مِمَّنْ وَقَعَ ، يُرِيدُ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ الدِّيَةَ وَجَبَ قَبُولُهَا عَلَى الْآخَرِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ جَانٍ ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَمِرُّ فَعَقَّبَهُ بَعْدَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ إنْ عَرَضَهَا الْجَانِي اُسْتُحِبَّ قَبُولُهَا ، وَإِنْ عَرَضَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَلِيُّهُ وَجَبَ عَلَى الْجَانِي قَبُولُهَا ، وَلَمَّا رَجَعَ إلَيْهِ اسْتَغْنَيْنَا عَنْ الِاعْتِنَاءِ بِهِ ، وَفِي الْآيَةِ فُصُولٌ وَأَقْوَالٌ لَمْ نَتَفَرَّغْ لَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } : الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَفَا عَمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِمَنْ أَسْلَمَ الْآنَ ، وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ وَحُدَّتْ الْحُدُودُ ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا بَعْدَ بَيَانِهَا فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، بِالْقَتْلِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } : وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَبَدِيعُ الْإِشَارَةِ فِيهِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْمُشْكَلَيْنِ " الْمَحْفُوظِ الْمَعْنَى : ثَبَتَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَدْخُلُهُ نَسْخٌ وَلَا يَلْحَقُهُ تَبْدِيلٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ الْفُرُوضَ عَلَى قِسْمَيْنِ : فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ ، وَفَرْضٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِرَادَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ ؛ أَوْ سَفَرٍ فَإِنَّهُ غَرَرٌ أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ [ إذْ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا ] .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَمَتَى حَضَرَ السَّبَبُ كَنَّتْ بِهِ الْعَرَبُ عَنْ الْمُسَبَّبِ قَالَ شَاعِرُهُمْ : وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْوَصِيَّةُ } : هِيَ الْقَوْلُ الْمُبَيِّنُ لِمَا يَسْتَأْنِفُ عَمَلَهُ وَالْقِيَامَ بِهِ ، وَهِيَ هَاهُنَا مَخْصُوصَةٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِطْلَاقِ وَالْعُرْفِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا ، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْت : لِفُلَانٍ كَذَا ، وَلِفُلَانٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي حُكْمِهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } .
وَقَالَ آخَرُونَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهَا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ جَمِيعُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : نُسِخَ بَعْضُهَا ، وَهِيَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ؛ وَالصَّحِيحُ نَسْخُهَا ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَيَانُهُ أَوْ الْخُرُوجُ بِأَدَاءٍ عَنْهُ ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ اللَّفْظُ بِظَاهِرِهِ ، وَذِكْرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ الْحَقِّ الَّذِي يَقْتَضِي الْحَثَّ ، وَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدْبَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ تَرَكَ خَيْرًا } : يَعْنِي مَالًا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ ، بَلْ يُوصِي مِنْ الْقَلِيلِ قَلِيلًا ، وَمِنْ الْكَثِيرِ كَثِيرًا ، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ .
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، لُبَابُهُ : مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ ، فَنَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَجَعَلَ لِلْوَالِدَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ ، وَفَرَضَ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجَةِ فَرْضَيْهِمَا ؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَعْدَلَ لِأَحَدٍ عَنْهُ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الْقَرَابَةِ وَارِثًا دَخَلَ مَدْخَلَ الْأَبَوَيْنِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا قِيلَ لَهُ : إنْ قَطْعَك مِنْ الْمِيرَاثِ الْوَاجِبِ إخْرَاجٌ لَك عَنْ الْوَصِيَّةِ الْوَاجِبَةِ ، وَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ لِسَائِرِ الْقَرَابَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِالْمَعْرُوفِ } : يَعْنِي : بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا وَكْسَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْمَيِّتِ وَنَظَرِ الْمُوصِي ، ثُمَّ تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيرَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ : { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } ؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِقْدَارًا شَرْعِيًّا مُبَيَّنًا حُكْمُهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ } .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا ابْنُ يُوسُفَ مِنْ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ الْقَاضِي الْحِيرِيُّ بِشَاغُورَ قِرَاءَةً عَلَيْهِ : أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، سَمِعْت طَلْحَةَ بْنِ عُمَرَ الْمَكِّيِّ ، سَمِعْت عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ ، سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : { حَقًّا } : يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا ، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا ، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَلَى الْمُتَّقِينَ } : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي ، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } : يَعْنِي : سَمِعَهُ مِنْ الْمُوصِي ، أَوْ سَمِعَهُ مِمَّنْ ثَبَتَ بِهِ عِنْدَهُ ، وَذَلِكَ عَدْلَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } : الْمَعْنَى : أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ خَرَجَ عَنْ اللَّوْمِ وَتَوَجَّهَ عَلَى الْوَارِثِ أَوْ الْوَلِيِّ .
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ إذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ خَرَجَ عَنْ ذِمَّتِهِ وَصَارَ الْوَلِيُّ مَطْلُوبًا بِهِ ، لَهُ الْأَجْرُ فِي قَضَائِهِ ، وَعَلَيْهِ الْوِزْرُ فِي تَأْخِيرِهِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَدَائِهِ ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ ، ثُمَّ وَصَّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُهُ عَنْ ذِمَّتِهِ تَفْرِيطُ الْوَلِيِّ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا } : الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ خَافَ } لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، قِيلَ لَهُمْ : إنْ خِفْتُمْ مِنْ مُوصٍ مَيْلًا فِي الْوَصِيَّةِ ، وَعُدُولًا عَنْ الْحَقِّ ، وَوُقُوعًا فِي إثْمٍ ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا بِالْمَعْرُوفِ ، فَبَادِرُوا إلَى السَّعْيِ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ ؛ فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ سَقَطَ الْإِثْمُ عَلَى الْمُصْلِحِ ؛ لِأَنَّ إصْلَاحَ الْفَسَادِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، فَإِذَا قَامَ بِهِ أَحَدُهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا أَثِمَ الْكُلُّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِالظَّنِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَنَّ قَصْدَ الْفَسَادِ وَجَبَ السَّعْيُ فِي الصَّلَاحِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْفَسَادُ لَمْ يَكُنْ صُلْحٌ ، إنَّمَا يَكُونُ حُكْمٌ بِالدَّفْعِ وَإِبْطَالٌ لِلْفَسَادِ وَحَسْمٌ لَهُ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً :

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } : وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { الصِّيَامُ } : وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنْ الْإِمْسَاكِ الْمُطْلَقِ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ هَكَذَا خَاصَّةً لَكَانَ فِيهِ كَلَامٌ فِي الْعُمُومِ وَالْإِجْمَالِ ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } كَانَ تَفْسِيرًا لَهُ وَتَمْثِيلًا بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَقِيلَ : هُمْ النَّصَارَى .
وَقِيلَ : هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ الصَّوْمُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا بِإِمْسَاكِ اللِّسَانِ عَنْ الْكَلَامِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِنَا ؛ فَصَارَ ظَاهِرُ الْقَوْلِ رَاجِعًا إلَى النَّصَارَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْأَدْنَوْنَ إلَيْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ الصَّوْمَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَ إذَا نَامَ الرَّجُلُ لَمْ يُفْطِرْ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِصَوْمِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { كَمَا كُتِبَ } وَجْهُ التَّشْبِيهِ فِيهِ مُحْتَمِلٌ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الزَّمَانُ ، وَالْقَدْرُ ، وَالْوَصْفُ ، وَمُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِهَا ، وَمُحْتَمِلٌ لِاثْنَيْنِ مِنْهَا ؛ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الزَّمَانِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَصُومُونَ رَمَضَانَ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ عَلَيْهِمْ الزَّمَانُ فَكَانَ يَأْتِي فِي الْحَرِّ يَوْمًا طَوِيلًا ، وَفِي الْبَرْدِ يَوْمًا قَصِيرًا ؛ فَارْتَأَوْا بِرَأْيِهِمْ أَنْ يَرُدُّوهُ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ .
وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْعَدَدِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، رُوِيَ فِي " الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ النَّاسَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَغْرَقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ ؛ فَقَالَ : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ } ، فَكَانَ هُوَ الْفَرِيضَةَ ، حَتَّى نَزَلَ رَمَضَانُ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، وَلَمْ يَكْتُبْ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، كَمَا فُرِضَ عَلَى النَّصَارَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، ثُمَّ غَيَّرُوهُ لِأَسْبَابٍ مَرْوِيَّةٍ .
وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْوَصْفِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ } وَقَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا يَصُومُونَ عَنْ الْكَلَامِ كُلِّهِ ، وَفِي شَرْعِنَا الْأَمْرُ بِالصِّيَامِ عَنْ قَوْلِ الزُّورِ مُتَأَكَّدٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي غَيْرِ الصِّيَامِ .
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ التَّشْبِيهُ فِي الْفَرْضِيَّةِ خَاصَّةً ؛ وَسَائِرُهُ مُحْتَمِلٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلَهُ .
الثَّانِي : لَعَلَّكُمْ تَضْعُفُونَ فَتَتَّقُونَ ؛ فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَلَّ الْأَكْلُ ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ ، وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ الشَّهْوَةُ قَلَّتْ الْمَعَاصِي .
الثَّالِثُ : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مَا فَعَلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ .
رُوِيَ أَنَّ النَّصَارَى بَدَّلَتْهُ إلَى الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ ، وَزَادَتْ فِيهِ كَفَّارَةُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ ؛ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ ، وَمُرَادَةٌ بِالْآيَةِ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ [ حَقِيقَةٌ ، وَالثَّانِي مَجَازٌ حَسَنٌ ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَعْصِيَةٌ ] ، وَالثَّالِثُ كُفْرٌ .
وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى مَعْنَى الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إنَّمَا يُحْتَاطُ لَهَا إذَا وَجَبَتْ ، وَقَبْلَ أَلَا تَجِبَ لَا احْتِيَاطَ شَرْعًا ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِدْعَةً وَمَكْرُوهًا .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ : { لَا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِيَوْمٍ وَلَا بِيَوْمَيْنِ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : أَتَلَقَّى رَمَضَانَ بِالْعِبَادَةِ } .
وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَدَمُ الزِّيَادَةِ فَقَالَ : { إذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا يَصُمْ أَحَدٌ حَتَّى يَدْخُلَ رَمَضَانُ } .
وَقَدْ شَنَّعَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ بِأَنْ يَقُولُوا نُشَيِّعُ رَمَضَانَ ؛ وَلَا تُتَلَقَّى الْعِبَادَةُ وَلَا تُشَيَّعُ ، إنَّمَا تُحْفَظُ فِي نَفْسِهَا وَتُحْرَسُ مِنْ زِيَادَةٍ فِيهَا أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهَا .
وَلِذَلِكَ كَرِهَ عُلَمَاءُ الدَّيْنِ أَنْ تُصَامَ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ الَّتِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ } مُتَّصِلَةً بِرَمَضَانَ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ ، وَرَأَوْا أَنَّ صَوْمَهَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ إلَى شَعْبَانَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ

مِنْهَا حَاصِلٌ بِتَضْعِيفِ الْحَسَنَةِ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا مَتَى فُعِلَتْ ؛ بَلْ صَوْمُهَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَفِي شَعْبَانَ أَفْضَلُ ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ صَوْمَهَا مَخْصُوصٌ بِثَانِي يَوْمِ الْعِيدِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ سَالِكٌ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ ، دَاخِلٌ فِي وَعِيدِ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ : { لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } الْحَدِيثَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَمَضَانُ ، لَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَقَدْ أَبْعَدَ ؛ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي الْوِصَالَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِيهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ اقْتَضَى وِصَالًا غَيْرَ مَحْدُودٍ لَمَا تَحَصَّلَ لِأَحَدٍ تَقْدِيرُهُ ، لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْعُرْفِ ، أَيْ أَنْ تَصُومُوا الْأَيَّامَ وَتُفْطِرُوا مِنْهَا زَمَنًا مَخْصُوصًا ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ مُتَعَيِّنًا إمَّا بِالْعُرْفِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَيَكُونُ الْخِطَابُ نَصًّا ، وَإِمَّا بِبَيَانٍ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ مُجْمَلًا ، حَتَّى بَيَّنَهُ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } : لِلْمَرِيضِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَلَّا يُطِيقَ الصَّوْمَ بِحَالٍ ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرُ وَاجِبًا .
الثَّانِي أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ بِضَرَرٍ وَمَشَقَّةٍ ؛ فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ ، وَلَا يَصُومُ إلَّا جَاهِلٌ .
وَقَدْ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ ، أَنْبَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُسْلِمٍ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ اللَّيْثِيُّ الْحَارِثِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا الْحِيرِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ رَبِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ النَّسَوِيُّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانَ صُهَيْبُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ : اعْتَلَلْت بِنَيْسَابُورَ عِلَّةً خَفِيفَةً ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَعَادَنِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ لِي : أَفْطَرْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، فَقُلْت : نَعَمْ فَقَالَ : خَشِيتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنْ قَبُولِ الرُّخْصَةِ قُلْت : أَنْبَأَنَا عَبْدَانُ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : قُلْت لِعَطَاءٍ : مِنْ أَيِّ الْمَرَضِ أُفْطِرُ ؟ قَالَ : مِنْ أَيِّ مَرَضٍ كَانَ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا } قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَلَمْ يَكُنْ هَكَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ إِسْحَاقَ ، وَهُوَ الثَّالِثُ .
الثَّالِثُ : الْمُسَافِرُ : وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِانْكِشَافِ وَالْخُرُوجِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ؛ وَهُوَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجٍ يَتَكَلَّفُ فِيهِ مُؤْنَةً ، وَيَفْصِلُ فِيهِ بُعْدٌ فِي الْمَسَافَةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ نَصٌّ ، وَلَكِنْ وَرَدَ فِيهِ تَنْبِيهٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّحِيحِ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا } .
وَفِي تَقْدِيرِهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ .
وَالْعُمْدَةُ فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ

تَثْبُتُ فِي الذِّمِّيَّةِ بِيَقِينٍ ، فَلَا بَرَاءَةَ لَهَا إلَّا بِيَقِينٍ مُسْقِطٍ ؛ وَقَدْرُ السَّفَرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ سَفَرًا ظَاهِرًا ، فَيَسْقُطُ الْأَصْلُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَبَحْثُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَتِنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالسَّفَرِ عَلِمَتْ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِفَضْلِ عِلْمِهَا بِلِسَانِهَا ، وَجَرْيِ عَادَتِهَا فِي أَعْمَالِهَا ؛ فَلَمَّا جَاءَ الْأَمْرُ اقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَبْنَى الْخِلَافِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : أَقَلُّ السَّفَرِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ } .
وَفِي حَدِيثٍ : { وَسَفَرُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَفِي آخَرَ وَذَكَرَ تَمَامَهُ ؛ فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ السَّفَرَ يَتَحَقَّقُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ : يَوْمٍ يَتَحَمَّلُ فِيهِ عَنْ أَهْلِهِ ، وَيَوْمٍ يَنْزِلُ فِيهِ فِي مُسْتَقَرِّهِ ، وَالْيَوْمِ الْأَوْسَطِ هُوَ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ السَّيْرُ الْمُجَرَّدُ ، بِتَحَمُّلٍ لَا عَنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ ، وَنُزُولٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ .
وَقُلْنَا لَهُ : إذَا كَانَ السَّفَرُ مُتَحَقِّقًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا سَرَدْت فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِثْلُهُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّحَمُّلِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ السَّفَرِ عَلَى الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ ، ثُمَّ التَّحْدِيدُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا ، أَوْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا مَرَاحِلُ لَا تُدْرَكُ بِتَحْقِيقٍ أَبَدًا ، وَإِنَّمَا هِيَ ظُنُونٌ ؛ فَرَجُلٌ احْتَاطَ وَزَادَ ، وَرَجُلٌ تَرَخَّصَ ، وَرَجُلٌ تَقَصَّرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا الْقَوْلُ مِنْ لَطِيفِ الْفَصَاحَةِ ، لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ : فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ .
وَقَدْ عُزِيَ إلَى قَوْمٍ : إنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ قَضَاهُ ، صَامَهُ أَوْ أَفْطَرَهُ ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ إلَّا ضُعَفَاءُ الْأَعَاجِمِ ؛ فَإِنَّ جَزَالَةَ الْقَوْلِ وَقُوَّةَ الْفَصَاحَةِ تَقْتَضِي " فَأَفْطَرَ " وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ } قَوْلًا وَفِعْلًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } : يُعْطِي بِظَاهِرِهِ قَضَاءَ الصَّوْمِ مُتَفَرِّقًا ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ ، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّتَابُعُ فِي الشَّهْرِ لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا ، وَقَدْ عُدِمَ التَّعْيِينُ فِي الْقَضَاءِ فَجَازَ بِكُلِّ حَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } : يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِزَمَانٍ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِيَ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مُسْتَرْسِلٌ عَلَى الْأَزْمِنَةِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : إنْ كَانَ لَيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ قَضَاءَهُ إلَّا فِي شَعْبَانَ لِلشُّغْلِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَكَانَتْ تَصُومُ بِصِيَامِهِ ؛ إذْ كَانَ صَوْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا كَانَ فِي شَعْبَانَ " .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } : وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ قِرَاءَاتٌ وَتَأْوِيلَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ وَهِيَ بَيْضَةُ الْعُقْرِ .
قُرِئَ يُطِيقُونَهُ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ ، وَقُرِئَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْيَاءِ وَتَشْدِيدِهِمَا ، وَقُرِئَ كَذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الثَّانِيَةِ ، لَكِنَّ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ ، وَقُرِئَ يَطُوقُونَهُ ، وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى ، وَمَا وَرَاءَهَا وَإِنْ رُوِيَ وَأُسْنِدَ فَهِيَ شَوَاذٌّ ، وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا أَصْلٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ بَيَانًا شَافِيًا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ كَذَلِكَ ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَلَمَةَ ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمَا .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا لَزِمَهُ الصَّوْمُ ، وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا وَلَزِمَهُ الصَّوْمُ ، وَأَرَادَ تَرْكَهُ ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } مُطْلَقًا .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَرَّرَهُ ، وَلَوْلَا تَجْدِيدُ الْفَرْضِ فِيهِ وَتَحْدِيدُهُ وَتَأْكِيدُهُ مَا كَانَ لِتَكْرَارِ ذَلِكَ فَائِدَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ عَنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْ زَادَ عَلَى طَعَامِ مِسْكِينٍ ، وَقِيلَ : مَنْ صَامَ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } مَعْنَاهُ الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ ، وَخَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ النَّفْلِ ، وَالصَّدَقَةَ النَّفَلَ خَيْرٌ مِنْ الصَّوْمِ النَّفْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ الْفَرْضَ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ بَدَلُهُ ، وَهُوَ فَرْضٌ ؛ لِأَنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ .
قُلْنَا قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } مُرْتَبِطٌ بِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالتَّأْوِيلَاتِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْفَرْضَ وَتَطَوُّعِهِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ مِنْ إطْعَامِكُمْ الْبَدَلَ لَهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَطَوُّعِكُمْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَصَوْمُكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الزَّائِدِ عَلَيْهِ ، فَرُبَّمَا رَغَّبَ فِي تَكْثِيرِ الْإِطْعَامِ ، وَتَرْكِ الصِّيَامِ ، فَأَعْلَمَ أَنَّ الصَّوْمَ خَيْرٌ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُقَالُ : الْفَرْضُ خَيْرٌ مِنْ التَّطَوُّعِ ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ ، وَحُكْمُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي أَصْلِ التَّخْيِيرِ ، ثُمَّ يَتَفَاضَلَا فِيهِ ؟ قُلْنَا : الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ، فَصَارَ فِيهِ وَصْفٌ مِنْ النَّفْلِ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : تَقْدِيمُهُ أَوْ فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ الْإِطْعَامِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : الصَّوْمُ خَيْرٌ مِنْ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْفِطْرُ أَفْضَلُ ، وَلِعُلَمَائِنَا مِثْلُهُ ، وَلَهُمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ : إنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ ؛ وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ } .
وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْغَزْوِ أَفْضَلُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ ، فَأَفْطِرُوا } " .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ؛ وَأَمَّا فِطْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : { إنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِطْرَك ، فَأَفْطَرَ } .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَلَهُ الْفِطْرُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ، مِنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَذَلِكَ حَسَنٌ ، وَمَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَذَلِكَ حَسَنٌ } .
فَأَمَّا عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ الْعَدُوِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِحْبَابِ الْفِطْرِ اخْتِلَافٌ ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَبِهِ أَقُولُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ طَلْحَةَ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ ، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ : أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ فَقَالَ : خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ .
قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ وَذَكَرَ شَهْرَ رَمَضَانَ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ } .
الْحَدِيثَ ، فَجَاءَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْمَفْرُوضِ وَبَيَانًا لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : يَعْنِي : هِلَالَ رَمَضَانَ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ [ الشَّهْرُ ] شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ ، فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا الصَّوْمَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ ، وَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ } .
فَفَرَضَ عَلَيْنَا عِنْدَ غُمَّةِ الْهِلَالِ إكْمَالُ عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَإِكْمَالَ عِدَّةِ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا عِنْدَ غُمَّةِ هِلَالِ شَوَّالٍ ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْعِبَادَةِ بِيَقِينٍ ، وَيَخْرُجَ عَنْهَا بِيَقِينٍ .
وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَرَّحًا بِهِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ } .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { احْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } : مَحْمُولٌ عَلَى الْعَادَةِ بِمُشَاهَدَةِ الشَّهْرِ ، وَهِيَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ } .
وَقَدْ زَلَّ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ : يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ بِتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ ، حَتَّى يَدُلَّ مَا يَجْتَمِعُ حِسَابُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحْوٌ لَرُئِيَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ } .
مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فَأَكْمِلُوا الْمِقْدَارَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا صَوْمَ ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَقَدْ زَلَّ أَيْضًا بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَحَكَى عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُعَوَّلُ عَلَى الْحِسَابِ وَهِيَ عَثْرَةٌ لَا لَعًا لَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ } فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ ، وَهُوَ مُقِيمٌ ، ثُمَّ سَافَرَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ فِي بَقِيَّتِهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ .
الثَّانِي : مَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا شَهِدَ وَلْيُفْطِرْ مَا سَافَرَ وَقَدْ سَقَطَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَلَى الثَّانِي ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ : فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْ مِنْهُ مَا لَمْ يَشْهَدْ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ، فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا صَامَ فِي الْمِصْرِ ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَزِمَهُ إكْمَالُ الصَّوْمِ ، فَلَوْ أَفْطَرَ قَالَ مَالِكٌ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ عُذْرٌ طَرَأَ ، فَكَانَ كَالْمَرَضِ يَطْرَأُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ طَرَأَ بَعْدَ لُزُومِ الْعِبَادَةِ ، وَيُخَالِفُ الْمَرَضَ وَالْحَيْضَ ، لِأَنَّ الْمَرَضَ يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِ الصَّوْمَ ، وَالسَّفَرُ لَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصُومُهُ مَنْ رَآهُ ، فَأَمَّا مَنْ أُخْبِرَ بِهِ فَيَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ قَدْ تَكُونُ لَمْحَةً ، فَلَوْ وَقَفَ صَوْمُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَتِهِ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِهِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَرَاهُ وَقْتَ طُلُوعِهِ ، وَإِنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَيَمْتَدُّ أَمَدُهُ يُعْلَمُ بِخَبَرِ الْمُؤَذِّنِ ، فَكَيْفَ الْهِلَالُ الَّذِي يَخْفَى أَمْرُهُ وَيَقْصُرُ أَمَدُهُ ، .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْهُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُجْزِي فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَالصَّلَاةِ قَالَهُ أَبُو ثَوْرٍ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ قَالَهُ مَالِكٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى أَوَّلَهُ مَجْرَى الْإِخْبَارِ وَأَجْرَى آخِرَهُ مَجْرَى الشَّهَادَةِ ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَاطُ لِدُخُولِهَا كَمَا يَحْتَاطُ لِخُرُوجِهَا ، وَالِاحْتِيَاطُ لِدُخُولِهَا أَلَّا تَلْزَمَ إلَّا بِيَقِينٍ .
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَاسْتَظْهَرَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ ، فَقَالَ : أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : يَا بِلَالُ ؛ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا } .
خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ ، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ } ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا تَارَةً وَتَارَةً مُسْنَدًا ؛ وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْدَحُ عِنْدَنَا فِي الْإِخْبَارِ ، وَبِهِ قَالَ النَّظَّامُ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ يُسْنِدُهُ تَارَةً وَيُرْسِلُهُ تَارَةً أُخْرَى ، وَيُسْنِدُهُ رَجُلٌ وَيُرْسِلُهُ آخَرُ

.
وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ رَآهُ غَيْرُهُ قَبْلَهُ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَزِيَادَةٌ عَلَى السَّبَبِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا جَائِزًا لَبَطَلَ كُلُّ خَبَرٍ بِتَقْدِيرِ الزِّيَادَةِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : نُؤَيِّدُهُ بِالْأَدِلَّةِ ، قُلْنَا : لَا دَلِيلَ ، إنَّمَا الصَّحِيحُ فِيهِ قَبُولُ الْخَبَرِ مِنْ الْعَدْلِ وَلُزُومُ الْعَمَلِ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا أَخْبَرَ مُخْبِرٌ عَنْ رُؤْيَةِ بَلَدٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقْرُبَ أَوْ يَبْعُدَ ؛ فَإِنْ قَرُبَ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ ، وَإِنْ بَعُدَ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ كُرَيْبٍ ، { أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَعَثَتْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ قَالَ : فَقَدِمْت الشَّامَ فَقَضَيْت حَاجَتَهَا ، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَأَنَا بِالشَّامِ ، فَرَأَيْت الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ قَدِمْت الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ ، فَسَأَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ : مَتَى رَأَيْته ؟ فَقُلْت : لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : أَنْتَ رَأَيْته ؟ قُلْت : نَعَمْ ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ قَالَ : لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ ، فَقُلْت لَهُ : أَوَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ ؟ قَالَ : لَا ؛ هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا ، فَقِيلَ : رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ ، وَقِيلَ : رَدَّهُ ؛ لِأَنَّ الْأَقْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَطَالِعِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُرَيْبًا لَمْ يَشْهَدْ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ حُكْمٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةٍ ؛ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالشَّهَادَةِ يُجْزَى فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ ؛ وَنَظِيرُ مَا لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَهَلَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِأَغْمَاتَ ، وَأَهَلَّ بِإِشْبِيلِيَّةَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ، فَيَكُونُ لِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ سُهَيْلًا يُكْشَفُ مِنْ أَغْمَاتَ وَلَا يُكْشَفُ مِنْ إشْبِيلِيَّةَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } : مَعْنَاهُ عِدَّةُ الْهِلَالِ ، كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ تُكَبِّرُوا إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ ، وَلَا يَزَالُ التَّكْبِيرُ مَشْرُوعًا حَتَّى تُصَلَّى صَلَاةُ الْعِيدِ ، وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ ، وَيُكَبِّرُ فِي الْعِيدِ } ، فَأَمَّا تَكْبِيرُهُ إذَا رَأَى الْهِلَالَ فَلَمْ يَثْبُتْ ، أَمَّا إنَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ بَلَاغًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ : أَحَدُهُمَا : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ أَعْرَضَ عَنْهُ } .
الثَّانِي : { أَنَّهُ كَانَ إذَا رَآهُ قَالَ : هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، آمَنْت بِاَلَّذِي خَلَقَك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا } .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَقَدْ لُكْته فَمَا وَجَدْت لَهُ طَعْمًا .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ زَوْجِ الْحُرَّةِ [ أَنْبَأَنَا النَّجِيُّ ] ، أَنْبَأَنَا ابْنُ مَحْبُوبٍ ، أَنْبَأَنَا ابْنُ سَوْرَةَ ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ ، أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُفْيَانَ الْمَدَنِيُّ ، أَنْبَأَنَا بِلَالُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ : اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ } .
قَالَ ابْنُ سَوْرَةَ : حَسَنٌ غَرِيبٌ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ أَثْبَتُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ .
وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْعِيدِ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ مَا وَجَدْت فِيهَا شِفَاءً عِنْدَ أَحَدٍ ، وَمِقْدَارُ الَّذِي تَحَصَّلَ بَعْدَ الْبَحْثِ أَنَّ لِلتَّكْبِيرِ ثَلَاثَ أَحْوَالٍ : حَالٌ فِي وَقْتِ الْبُرُوزِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَحَالَ الصَّلَاةِ ، وَحَالٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا

تَكْبِيرُ الْبُرُوزِ ، فَأَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَزْدِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَمْلِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُبَيْشٍ ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَطَاءٍ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى } .
وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْجَبَّانَةَ } ، يُرِيدُ حِينَ يَبْرُزُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي التَّكْبِيرِ فِي الْفِطْرِ أَشَدَّ مِنْهُمْ فِي الْأَضْحَى .
وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا ، وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَارًا عَنْ السَّلَفِ .
فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ ، فَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ ، وَأَبُو الْأَسْوَدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ ، وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ } .
وَأَمَّا أَخْبَارُ السَّلَفِ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُكَبِّرُ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً ، سِتًّا فِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23