كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر
المؤلف : أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَاشَّ سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ
وَهُوَ كَتَمَهُ لِلْعَيْبِ فِي ذَلِكَ الْمَبِيعِ فَكُلُّ عَمَلٍ
كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَبِيعِ يَكُونُ إثْمُهُ عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي
فِي بَيَانِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ مَا يَرْدَعُ الْغَشَّاشِينَ ؛
لِأَنَّ الْغِشَّ مِنْ حَيِّزِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ ، وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئ إلَّا بِأَهْلِهِ } {
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ
مِنَّا وَالْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ } أَيْ صَاحِبُهُمَا فِي
النَّارِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ
وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ خِبٌّ } أَيْ مَاكِرٌ .
وَفِي أُخْرَى : { أَنَّ مِنْ
جُمْلَةِ أَهْلِ النَّارِ رَجُلًا لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إلَّا
وَهُوَ يُخَادِعُك فِي أَهْلِك وَمَالِكِ } .
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْجَوَابِ .
وَإِنَّمَا
بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ رَجَاءَ أَنْ يَسْمَعَهُ مَنْ فِي قَلْبِهِ
إيمَانٌ ، وَمَنْ يَخْشَى عِقَابَ اللَّهِ وَسَطْوَتَهُ ، وَمَنْ لَهُ
دِينٌ وَمُرُوءَةٌ ، وَمَنْ يَخْشَى عَلَى ذُرِّيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ
فَيَتَّقِي اللَّهَ وَيَرْجِعُ عَنْ سَائِرِ صُوَرِ الْغِشِّ الْمَذْكُورِ
فِي هَذَا السُّؤَالِ وَغَيْرِهَا ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا
فَانِيَةٌ وَأَنَّ الْحِسَابَ وَاقِعٌ عَلَى النَّقِيرِ وَالْفَتِيلِ
وَالْقِطْمِيرِ وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَنْفَعُ الذُّرِّيَّةَ ،
فَقَدْ جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا }
أَنَّهُ كَانَ الْجَدُّ السَّابِعُ لِأُمٍّ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ ذَيْنِك
الْيَتِيمَيْنِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ السَّيِّئ يُؤَثِّرُ فِي
الذُّرِّيَّةِ قَالَ تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا
اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ
الْآيَةَ خَشِيَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْ أَعْمَالِهِ السَّيِّئَةِ
وَانْكَفَّ عَنْهَا حَتَّى لَا يَحْصُلَ لَهُمْ نَظِيرُهَا ، وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ وَإِلَيْهِ
الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ
أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ
إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
قَالَ : فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
قُلْت
: خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :
الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ
الْكَاذِبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْمُسْبِلُ إزَارَهُ وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
أُشَيْمِطٌ
زَانٍ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللَّهُ بِضَاعَتَهُ
لَا يَشْتَرِي إلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَبِيعُ إلَّا بِيَمِينِهِ } ،
وَرَوَاهُ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ بِلَفْظِ : { لَا يُكَلِّمُهُمْ
اللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَرُوَاتُهُ
مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ ، وَالْأُشَيْمِطُ مُصَغَّرُ أَشْمَطَ
وَهُوَ مَنْ ابْيَضَّ شَعْرُ رَأْسِهِ كِبَرًا وَاخْتَلَطَ بِأَسْوَدِهِ ،
وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ غَدًا : شَيْخٌ زَانٍ ، وَرَجُلٌ اتَّخَذَ
الْأَيْمَانَ بِضَاعَتَهُ يَحْلِفُ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَفَقِيرٌ
مُخْتَالٌ } أَيْ مَنْ هُوَ مُتَكَبِّرٌ مُعْجَبٌ فَخُورٌ .
وَالشَّيْخَانِ
وَغَيْرُهُمَا : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى
فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ } .
وَفِي
رِوَايَةٍ : { يَقُولُ اللَّهُ لَهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا
مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا
سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا
وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَرَجُلٌ
بَايَعَ إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ
مِنْهَا مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ .
{ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ
أُعْطِيَ
بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى
يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ
تَعْمَلْ يَدَاك } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ :
{ أَرْبَعَةٌ يُبْغِضُهُمْ اللَّهُ : الْبَائِعُ الْحَلَّافُ ،
وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ ، وَالشَّيْخُ الزَّانِي ، وَالْإِمَامُ
الْجَائِرُ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ
وَالْأَرْبَعَةُ بِنَحْوِهِ { : إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً
وَيُبْغِضُ ثَلَاثَةً فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : قُلْتُ
فَمَنْ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُبْغِضُهُمْ اللَّهُ ؟ قَالَ :
الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
الْمُنْزَلِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ،
وَالْبَخِيلُ ، وَالْمَنَّانُ ، وَالتَّاجِرُ أَوْ الْبَائِعُ الْحَلَّافُ
} .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَرَّ أَعْرَابِيٌّ بِشَاةٍ فَقُلْتُ تَبِيعُهَا
بِثَلَاثِ دَرَاهِمَ ؟ قَالَ لَا وَاَللَّهِ ثُمَّ بَاعَهَا ، فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا
بَأْسَ بِهِ عَنْ وَاثِلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَيْنَا وَكُنَّا
تُجَّارًا وَكَانَ يَقُولُ : يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إيَّاكُمْ
وَالْكَذِبَ } .
وَالشَّيْخَانِ : { الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْكَسْبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد : { مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ } .
زَادَ ابْنُ مَاجَهْ { الْمُسْلِمُ وَقَالَ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ وَغَيْرُهُ : {
التَّاجِرُ الصَّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُ : { إنَّ أَطْيَبَ الْكَسْبِ كَسْبُ التُّجَّارِ الَّذِينَ
إذَا حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا ، وَإِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا ،
وَإِذَا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا ، وَإِذَا اشْتَرَوْا لَمْ يَذُمُّوا ،
وَإِذَا بَاعُوا لَمْ يَمْدَحُوا ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ لَمْ
يَمْطُلُوا ، وَإِذَا كَانَ لَهُمْ لَمْ يُعَسِّرُوا } .
وَالشَّيْخَانِ
وَغَيْرُهُمَا : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ،
فَإِنْ صَدَقَ الْبَيِّعَانِ وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا
، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ
بَيْعِهِمَا .
الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْكَسْبِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ
وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحُوهُ : { خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ
فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ ، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ ، فَقَالَ : إنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إلَّا مَنْ اتَّقَى وَبَرَّ وَصَدَقَ } .
وَأَحْمَدُ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { إنَّ التُّجَّارَ هُمْ
الْفُجَّارُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ اللَّهُ قَدْ
أَحَلَّ الْبَيْعَ ؟ قَالَ بَلَى ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ
فَيَأْثَمُونَ وَيُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ
هَذَا كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ مِمَّا ذُكِرَ
فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْمُصَرِّحَةِ بِشِدَّةِ الْوَعِيدِ فِي
ذَلِكَ ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ ذَكَرَهُ .
قَالَ تَعَالَى : {
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ } وَمَرَّ
الْكَلَامُ عَلَى الْمَكْرِ قَبْلَ كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِي بَحْثِ
الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي
الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ غَشَّنَا
فَلَيْسَ مِنَّا وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ } .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا مُخْتَصَرًا قَالَ { : الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ } .
وَفِي حَدِيثٍ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ : أَيْ مَكَّارٌ ، وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ } .
وَفِي آخَرَ : { الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاسِقُ خِبٌّ لَئِيمٌ } .
وَقَالَ
تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ } أَيْ مُجَازِيهِمْ بِمَا يُشْبِهُ الْخِدَاعَ عَلَى
خِدَاعِهِمْ لَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا كَمَا يُعْطَى
الْمُؤْمِنُونَ فَإِذَا مَضَوْا عَلَى الصِّرَاطِ أُطْفِئَ نُورُهُمْ
وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ .
وَفِي حَدِيثٍ : { أَهْلُ النَّارِ
خَمْسَةٌ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إلَّا
وَهُوَ مُخَادِعُك عَنْ أَهْلِك وَمَالِكِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا
كَبِيرَةً صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ أَحَادِيثِ
الْغِشِّ السَّابِقَةِ وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، إذْ كَوْنُ الْمَكْرِ
وَالْخَدِيعَةِ فِي النَّارِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا إلَّا أَنَّ
صَاحِبَهُمَا فِيهَا وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ .
الْكَبِيرَةُ
الثَّالِثَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بَخْسُ نَحْوِ الْكَيْلِ أَوْ
الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ ) قَالَ تَعَالَى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ }
أَيْ الَّذِينَ يَزِيدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِبَخْسِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ ، وَلِذَا فَسَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ {
الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ } أَيْ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ
{ يَسْتَوْفُونَ } حُقُوقَهُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَزْنَ هُنَا
اكْتِفَاءً عَنْهُ بِالْكَيْلِ .
إذْ كُلٌّ مِنْهُمْ يُسْتَعْمَلُ مَكَانَ الْآخَرِ غَالِبًا .
{
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ } أَيْ إذَا اكْتَالُوهُمْ أَوْ
وَزَنُوا لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ { يُخْسِرُونَ } أَيْ
يُنْقِصُونَ { أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ } الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ {
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } أَيْ هَوْلِهِ وَعَذَابِهِ {
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ
حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ يُحْشَرُونَ فَمِنْهُمْ الرَّاكِبُ
بِجَانِبٍ أَسْرَعَ مِنْ الْبَرْقِ ، وَمِنْهُمْ الْمَاشِي عَلَى
رِجْلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ الْمُنْكَبُّ وَالسَّاقِطُ عَلَى وَجْهِهِ
تَارَةً يَمْشِي وَتَارَةً يَزْحَفُ وَتَارَةً يَتَخَبَّطُ كَالْبَعِيرِ
الْهَائِمِ ، وَمِنْهُمْ الَّذِي يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ
بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ إلَى أَنْ يَقِفُوا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ
لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ إنْ خَيْرًا
فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ .
قَالَ السُّدِّيُّ : سَبَبُ نُزُولِ
هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو جُهَيْنَةَ
لَهُ مِكْيَالَانِ يَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا وَيَكْتَالُ بِالْآخَرِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ } وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ }
فَأَحْسَنُوا الْمِكْيَالَ بَعْدَ ذَلِكَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ
عَنْهُ
قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ : إنَّكُمْ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا
فِيهِ هَلَكَتْ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبْلَكُمْ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِيهِ مَتْرُوكًا وَبِأَنَّ الصَّحِيحَ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .
عَنْ
{ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا
مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسُ خِصَالٍ إذَا اُبْتُلِيتُمْ بِهِنَّ
وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي
قَوْمٍ قَطُّ فَيُعْلِنُوا بِهَا إلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ
وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ
مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ إلَّا أُخِذُوا
بِالسِّنِينَ ، أَيْ جَمْعُ سَنَةٍ وَهِيَ الْعَامُ الْمُقْحِطُ الَّذِي
لَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ فِيهِ شَيْئًا وَقَعَ مَطَرٌ أَوْ لَا وَشِدَّةُ
الْمُؤْنَةِ وَجَوْرُ السُّلْطَانِ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ
أَمْوَالِهِمْ إلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا
الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ
وَعَهْدَ رَسُولِهِ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ
غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ
أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
إلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ } .
وَمَالِكٌ مَوْقُوفًا
عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا : { مَا
ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ إلَّا أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ
الرُّعْبَ ، وَلَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا كَثُرَ فِيهِمْ
الْمَوْتُ ، وَمَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلَّا نَقَصَ
اللَّهُ عَنْهُمْ الرِّزْقَ ، وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا
فَشَا فِيهِمْ الدَّمُ وَلَا خَتَرَ : أَيْ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ
وَالْفَوْقِيَّةِ وَالرَّاءِ نَقَضَ وَأَخَلَّ قَوْمٌ
بِالْعَهْدِ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْعَدُوَّ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ
مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَشْبَهَ وَهُوَ وَغَيْرُهُ
بِمَعْنَاهُ مَرْفُوعًا { الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ
الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الْأَمَانَةَ ، قَالَ يُؤْتَى بِالْعَبْدِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقَالُ : أَدِّ
أَمَانَتَك فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتْ الدُّنْيَا ؟
قَالَ فَيُقَالُ انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ
إلَى الْهَاوِيَةِ وَتُمَثَّلُ لَهُ أَمَانَتُهُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ
دُفِعَتْ إلَيْهِ فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا
حَتَّى يُدْرِكَهَا فَيَحْمِلَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ حَتَّى إذَا ظَنَّ
أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ مَنْكِبِهِ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا
أَبَدَ الْآبِدِينَ ، ثُمَّ الصَّلَاةُ أَمَانَةٌ وَالْوُضُوءُ أَمَانَةٌ
وَالْوَزْنُ أَمَانَةٌ وَالْكَيْلُ أَمَانَةٌ وَأَشْيَاءُ عَدَّدَهَا
وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ قَالَ يَعْنِي زَاذَانَ : فَأَتَيْت
الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قُلْت أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ قَالَ كَذَا قَالَ كَذَا ؟ قَالَ : صَدَقَ ، أَمَا سَمِعْت
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } } .
تَنْبِيهٌ : عُدَّ هَذَا كَبِيرَةً
وَهُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ
أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، وَلِهَذَا اشْتَدَّ الْوَعِيدُ
عَلَيْهِ كَمَا عَلِمْته مِنْ الْآيَةِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثِ ،
وَأَيْضًا فَإِنَّمَا سُمِّيَ مُطَفِّفًا لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَأْخُذُ
إلَّا الشَّيْءَ الطَّفِيفَ وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ السَّرِقَةِ
وَالْخِيَانَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِنْبَاءِ عَنْ عَدَمِ الْأَنَفَةِ
وَالْمُرُوءَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمِنْ ثَمَّ عُوقِبَ بِالْوَيْلِ
الَّذِي هُوَ شِدَّةُ الْعَذَابِ أَوْ الْوَادِي فِي جَهَنَّمَ لَوْ
سُيِّرَتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا لَذَابَتْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ
نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ ، وَأَيْضًا فَقَدْ شَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى
عُقُوبَةَ قَوْمِ شُعَيْبٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ عَلَى بَخْسِهِمْ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ .
فَإِنْ
قُلْت : سَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ أَنَّ غَصْبَ مَا دُونَ رُبْعِ دِينَارٍ
لَا يَكُونُ كَبِيرَةً فَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَذَلِكَ .
قُلْت : ذَلِكَ مُشْكِلٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بَلْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ .
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ تَحْدِيدٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ انْتَهَى .
وَعَلَى
التَّنَزُّلِ فَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ مِمَّا يَدْعُو
قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ
الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَقَلِيلُهُ لَا يَدْعُو لِكَثِيرِهِ بِخِلَافِ
هَذَا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْمَكْرِ وَالْخِيَانَةِ
وَالْحِيلَةِ فَكَانَ قَلِيلُهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ فَتَعَيَّنَ
التَّنْفِيرُ عَنْهُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَبِيرَةٌ
أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِي شُرْبِ الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ
كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهَا مَفْسَدَةُ الْخَمْرِ لِمَا
تَقَرَّرَ أَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ ، فَلَا يُشْكِلُ عَلَى
هَذَا الْفَرْقِ إلْحَاقُ جَمَاعَةٍ السَّرِقَةَ بِالْغَصْبِ كَمَا
يَأْتِي فِيهَا ، لِأَنَّ السَّارِقَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْخَوْفِ فَهُوَ
غَيْرُ مُمَكَّنٍ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْقَلِيلَ
يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ بِخِلَافِ الْمُطَفِّفِ فَإِنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ
مَالِ الْغَيْرِ ، فَدِعَايَةُ الْقَلِيلِ فِيهِ إلَى الْكَثِيرِ أَسْهَلُ
وَأَظْهَرُ ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ
عَلَيْهِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ أَنَّ
جَمَاعَةً شَرَطُوا فِي الْغَصْبِ مَا مَرَّ ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا لَا
يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى مَا
ذَكَرْته ، وَبِمَا قَرَّرْته مِنْ الْفَرْقِ الظَّاهِرِ بَيْنَ هَذَا
وَالْغَصْبِ يَنْدَفِعُ جَزْمُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ
التَّطْفِيفَ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ صَغِيرَةٌ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ
الْمُنَازَعَةُ فِي الْغَصْبِ إنَّمَا هِيَ فِي التَّحْدِيدِ بِرَفْعِ
دِينَارٍ .
وَأَمَّا غَصْبُ الشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي يُسَامَحُ
بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً ،
وَكَذَلِكَ التَّطْفِيفُ
بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي يُسَامَحُ
بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً أَيْضًا فَهَذَا
غَيْرُ بَعِيدٍ ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا
فَرْقَ .
وَمِنْ ثَمَّ حَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ غَصْبَ
الْحَبَّةِ وَسَرِقَتَهَا كَبِيرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ
ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ ، وَيَأْتِي
لِذَلِكَ مَزِيدٌ فِي الْغَصْبِ فَرَاجِعْهُ .
قَالَ مَالِكُ بْنُ
دِينَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : دَخَلْت عَلَى جَارٍ لِي وَقَدْ نَزَلَ
بِهِ الْمَوْتُ فَجَعَلَ يَقُولُ جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ جَبَلَيْنِ مِنْ
نَارٍ .
قَالَ : قُلْت لَهُ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : يَا أَبَا يَحْيَى
كَانَ لِي مِكْيَالَانِ كُنْت أَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا وَأَكْتَالُ
بِالْآخَرِ .
قَالَ مَالِكٌ : فَقُمْتُ فَجَعَلْتُ أَضْرِبُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ .
فَقَالَ يَا أَبَا يَحْيَى كُلَّمَا ضَرَبْتَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ازْدَادَ الْأَمْرُ عِظَمًا وَشِدَّةً فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ .
وَقَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ : أَشْهَدُ عَلَى كُلِّ كَيَّالٍ أَوْ وَزَّانٍ
بِالنَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ .
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : دَخَلْتُ عَلَى مَرِيضٍ قَدْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ
فَجَلَعْتُ أُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ وَلِسَانُهُ لَا يَنْطِقُ بِهَا ،
فَلَمَّا أَفَاقَ قُلْت لَهُ يَا أَخِي مَالِي أُلَقِّنُكَ الشَّهَادَةَ
وَلِسَانُك لَا يَنْطِقُ بِهَا ؟ قَالَ يَا أَخِي لِسَانُ الْمِيزَانِ
عَلَى لِسَانِي يَمْنَعُنِي مِنْ النُّطْقِ بِهَا ، فَقُلْت لَهُ :
بِاَللَّهِ أَكُنْتَ تَزِنُ نَاقِصًا ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ ،
وَلَكِنِّي كُنْتَ أَقِفُ مُدَّةً لَا أَعْتَبِرُ صَنْجَةَ مِيزَانِي ،
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ صَنْجَةَ مِيزَانِهِ ،
فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَزِنُ نَاقِصًا .
وَقَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَمُرُّ بِالْبَائِعِ يَقُولُ اتَّقِ
اللَّهَ وَأَوْفِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ ، فَإِنَّ الْمُطَفِّفِينَ
يُوقَفُونَ حَتَّى إنَّ الْعَرَقَ لَيُلَجِّمُهُمْ إلَى أَنْصَافِ
آذَانِهِمْ .
وَكَالْكَيَّالِينَ وَالْوَزَّانِينَ فِيمَا مَرَّ التَّاجِرُ إذَا شَدَّ يَدَهُ فِي الذِّرَاعِ وَقْتَ
الْبَيْعِ وَأَرْخَاهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ ، وَهَذَا مِنْ تَطْفِيفِ فَسَقَةِ الْبَزَّازِينَ وَالتُّجَّارِ .
وَمَا
أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لِمَنْ يَبِيعُ
بِحَبَّةٍ يُنْقِصُهَا جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ،
وَيَشْتَرِي بِحَبَّةٍ يَزِيدُهَا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ يُذِيبُ جِبَالَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ ، وَذِكْرُ هَذِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ رِبًا كَمَا مَرَّ فِي بَابِهِ فَجَمِيعُ مَا مَرَّ فِي الرِّبَا مِنْ الْوَعِيدِ يَشْمَلُ فَاعِلَ ذَلِكَ فَاعْلَمْهُ )
(
الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
الِاسْتِدَانَةُ مَعَ نِيَّتِهِ عَدَمَ الْوَفَاءِ أَوْ عَدَمَ رَجَائِهِ
بِأَنْ لَمْ يُضْطَرَّ وَلَا كَانَ لَهُ جِهَةٌ ظَاهِرَةٌ يَفِي مِنْهَا
وَالدَّائِنُ جَاهِلٌ بِحَالِهِ ) .
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
: { مَنْ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَدَّاهُ
اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ اسْتَدَانَ دَيْنًا وَهُوَ
يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ فَمَاتَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ : ظَنَنْت أَنِّي لَا آخُذُ لِعَبْدٍ بِحَقِّهِ
فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَيُجْعَلُ فِي حَسَنَاتِ الْآخَرِ فَإِنْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْآخَرِ فَيُجْعَلُ
عَلَيْهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ
لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِي أَحَدِ رُوَاتِهِ
فِيهِ نَظَرٌ : { أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ
لَا يُوَفِّيَهُ لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
بِسَنَدٍ فِيهِ مَتْرُوكٌ : { وَأَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً
فَنَوَى أَنْ لَا يُعْطِيَهَا مِنْ صَدَاقِهَا شَيْئًا مَاتَ يَوْمَ
يَمُوتُ وَهُوَ زَانٍ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ بَيْعًا
يَنْوِي أَنْ لَا يُعْطِيَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا مَاتَ يَوْمَ يَمُوتُ
وَهُوَ خَائِنٌ وَالْخَائِنُ فِي النَّارِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ
قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
: { الدَّيْنُ دَيْنَانِ فَمَنْ مَاتَ وَهُوَ يَنْوِي قَضَاءَهُ فَأَنَا
وَلِيُّهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَنْوِي قَضَاءَهُ فَذَلِكَ الَّذِي
يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { أَيُّمَا
رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَا قَلَّ مِنْ الْمَهْرِ أَوْ كَثُرَ
لَيْسَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا حَقَّهَا خَدَعَهَا فَمَاتَ
وَلَمْ
يُؤَدِّ إلَيْهَا حَقَّهَا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَهُوَ زَانٍ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا لَا
يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ إلَى صَاحِبِهِ خَدَعَهُ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ
فَمَاتَ وَلَمْ يُؤَدِّ إلَيْهِ دَيْنَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ سَارِقٌ }
.
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ
وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمْ حَسَنٌ : { يَدْعُو اللَّهُ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَالُ : يَا ابْنَ
آدَمَ فِيمَ أَخَذْت هَذَا الدَّيْنَ ؟ وَفِيمَ ضَيَّعْتَ حُقُوقَ
النَّاسِ ؟ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي أَخَذْتُهُ فَلَمْ
آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ وَلَمْ أَلْبَسْ وَلَمْ أُضَيِّعْ .
وَلَكِنْ إمَّا حَرَقٌ وَإِمَّا سَرَقٌ وَإِمَّا وَضِيعَةٌ : أَيْ بَيْعٌ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ .
فَيَقُولُ
اللَّهُ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَحَقُّ مَنْ قَضَى عَنْكَ فَيَدْعُو
اللَّهُ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ ، فَتَرْجَحُ
حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ
رَحْمَتِهِ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ { عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ الْكُفْرِ وَالدَّيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَتَعْدِلُ الْكُفْرَ بِالدَّيْنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ } وَالطَّبَرَانِيُّ :
{ صَاحِبُ الدَّيْنِ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ يَشْكُو إلَى اللَّهِ
الْوَحْدَةَ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ أَعْظَمَ
الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَا عَبْدٌ بَعْدَ
الْكَبَائِرِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ لَهُ قَضَاءً } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ .
الْحَدِيثُ
الْآتِي بِطُولِهِ فِي الْغِيبَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِيهِ :
{ أَرْبَعَةٌ يُؤْذُونَ أَهْلَ النَّارِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الْأَذَى
يَسْعُونَ مَا بَيْنَ الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ
وَالثُّبُورِ ، يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ النَّارِ لِبَعْضٍ مَا بَالُ
هَؤُلَاءِ قَدْ آذَوْنَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ
الْأَذَى .
قَالَ
: فَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ تَابُوتٌ مِنْ جَمْرٍ ، وَرَجُلٌ يَجُرُّ
أَمْعَاءَهُ ، وَرَجُلٌ يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا ، وَرَجُلٌ
يَأْكُلُ لَحْمَهُ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ التَّابُوتِ : مَا بَالُ
الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى ؟ فَيَقُولُ إنَّ
الْأَبْعَدَ قَدْ مَاتَ وَفِي عُنُقِهِ أَمْوَالُ النَّاسِ لَا يَجِدُ
لَهَا قَضَاءً أَوْ وَفَاءً } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { تُوُفِّيَ رَجُلٌ
فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَنَّطْنَاهُ ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ ،
فَقُلْنَا تُصَلِّي عَلَيْهِ فَخَطَا خُطْوَةً ثُمَّ قَالَ : أَعَلَيْهِ
دَيْنٌ ؟ قُلْنَا دِينَارَانِ فَانْصَرَفَ فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو
قَتَادَةَ فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الدِّينَارَانِ عَلَيَّ .
فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ أَوْفَى
اللَّهُ حَقَّ الْغَرِيمِ وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ قَالَ نَعَمْ
فَصَلَّى عَلَيْهِ .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ مَا فَعَلَ
الدِّينَارَانِ ؟ قُلْت إنَّمَا مَاتَ أَمْسِ قَالَ فَعَادَ إلَيْهِ مِنْ
الْغَدِ فَقَالَ قَدْ قَضَيْتُهُمَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْآنَ كَمَا بَرِئَتْ جِلْدَتُهُ } .
وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْمَدِينِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ نُسِخَ .
فَرَوَى
مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُؤْتَى بِالْمَيِّتِ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ هَلْ تَرَكَ
لِدَيْنِهِ قَضَاءً ؟ فَإِنْ حَدَثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً يُصَلِّي
عَلَيْهِ وَإِلَّا قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ، فَلَمَّا فَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ ،
مَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ } .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ :
{ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى
مَدِينٍ فَقَالَ مَا يَنْفَعُكُمْ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى رَجُلٍ رُوحُهُ
مُرْتَهَنٌ فِي قَبْرِهِ لَا
تَصْعَدُ رُوحُهُ إلَى السَّمَاءِ فَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ دَيْنَهُ قُمْت فَصَلَّيْت عَلَيْهِ فَإِنَّ صَلَاتِي تَنْفَعُهُ } .
وَصَحَّ
: { نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ : أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ
مَقَامِهَا الْكَرِيمِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ } .
وَصَحَّ
عِنْدَ الْحَاكِمِ : { إنَّ صَاحِبَكُمْ حُبِسَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ
بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ
فَأَسْلِمُوهُ إلَى عَذَابِ اللَّهِ } .
وَصَحَّ : { إنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمَدِينِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَكْرَهُهُ
اللَّهُ ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
كَانَ يَقُولُ لِخَازِنِهِ : اذْهَبْ فَخُذْ لِي بِدَيْنٍ ، فَإِنِّي
أَكْرَهُ أَنْ أَبِيتَ لَيْلَةً إلَّا وَاَللَّهُ مَعِي إذْ سَمِعْتُهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَصَحَّ : { مَنْ حَمَلَ مِنْ أُمَّتِي دَيْنًا ثُمَّ جَهِدَ فِي قَضَائِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ فَأَنَا وَلِيُّهُ .
مَا
مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ دَيْنًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَضَاءَهُ
إلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا } رَوَتْهُ مَيْمُونَةُ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا لِيمَتْ عَلَى
إكْثَارِهَا مِنْ الدَّيْنِ ، وَلَمَّا لِيمَتْ عَائِشَةُ أَيْضًا عَلَى
الِاسْتِدَانَةِ .
وَلَهَا عَنْهَا مَنْدُوحَةٌ رَوَتْ : { مَا مِنْ
عَبْدٍ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي أَدَاءِ دَيْنِهِ إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ
اللَّهِ عَوْنٌ .
قَالَتْ فَأَنَا أَلْتَمِسُ الْعَوْنَ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى } رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ
انْقِطَاعًا .
وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ نَظَرٌ .
وَقَالَ : { كَانَ لَهُ مِنْ اللَّهِ عَوْنٌ وَسَبَّبَ لَهُ رِزْقًا } .
وَصَحَّ
أَيْضًا : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ
فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ ، وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
فَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ
وَالسَّيِّئَاتُ .
وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ
يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ
مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي
رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ مِمَّا قَالَ } .
وَجَاءَ
عِنْدَ الْبَزَّارِ وَابْنِ مَاجَهْ : { إنَّ مِمَّنْ يَقْضِي اللَّهُ
عَنْهُ دَيْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَاسْتَدَانَ لِيَقْوَى بِهِ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ .
وَمَنْ
مَاتَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ لَا يَجِدُ مَا يُكَفِّنُهُ وَيُوَارِيهِ بِهَا
إلَّا بِدَيْنٍ ، وَمَنْ خَافَ الْعُزُوبَةَ فَنَكَحَ خَشْيَةً عَلَى
دِينِهِ } .
وَصَحَّ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُتِلَ
رَجُلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ عَاشَ ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ عَاشَ ثُمَّ
قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ
} .
وَصَحَّ { لَا تُخِيفُوا أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ أَمْنِهَا قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الدَّيْنُ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ : { أَقِلَّ مِنْ الذُّنُوبِ يَهُنْ عَلَيْك الْمَوْتُ ، وَأَقِلَّ مِنْ الدَّيْنِ تَعِشْ حُرًّا } .
وَصَحَّ
عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا : { الدَّيْنُ
رَايَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَذِلَّ عَبْدًا
وَضَعَهُ فِي عُنُقِهِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ ذَيْنِك كَبِيرَتَيْنِ
هُوَ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ صَرِيحُ مَا فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ سَارِقًا .
وَالْحَدِيثَانِ يَشْمَلَانِ ذَيْنِك .
أَمَّا
الْأَوَّلُ : فَوَاضِحٌ وَأَمَّا الثَّانِي : فَكَذَلِكَ كَمَا أَشَارَ
إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { خَدَعَهُ حَتَّى
أَخَذَ مَالَهُ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَخَذَ دَيْنًا لَا يَرْجُو
لَهُ وَفَاءً مِنْ جِهَةِ ظَاهِرِهِ وَالدَّائِنُ جَاهِلٌ بِحَالِهِ
فَقَدْ خَدَعَ الْآخِذَ مِنْهُ حَتَّى أَعْطَاهُ مَالَهُ ، إذْ لَوْلَا
خَدِيعَتُهُ لَهُ لَمْ يُعْطِهِ لَهُ ، وَجَمِيعُ التَّغْلِيظَاتِ فِي
الدَّيْنِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا يَنْبَغِي
حَمْلُهَا عَلَى إحْدَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ
ذَكَرَتْهُمَا فِي التَّرْجَمَةِ أَوْ عَلَى مَا لَوْ اسْتَدَانَهُ
لِيَصْرِفَهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ
كَالْإِعَانَةِ وَالْقَضَاءِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا يَنْبَغِي
حَمْلُهُ عَلَى مَا لَوْ اسْتَدَانَهُ فِي طَاعَةٍ نَاوِيًا أَدَاءَهُ وَلَهُ وَجِهَةٌ ظَاهِرَةٌ يُؤَدِّي مِنْهَا أَوْ وَالدَّائِنُ عَالِمٌ بِحَالِهِ ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْته وَإِنْ لَمْ أَرَهُ تَجْتَمِعُ الْأَحَادِيثُ وَيَزُولُ مَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُهَا مِنْ التَّعَارُضِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ فِيهَا عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْته ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ .
( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : مَطْلُ الْغَنِيِّ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ) .
أَخْرَجَ
الشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ } : أَيْ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ
أُحِيلَ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَتَشْدِيدُ الْمُحَدِّثِينَ التَّاءَ خَطَأٌ { أَحَدُكُمْ عَلَيَّ مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } .
وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { لَيُّ الْوَاجِدِ }
: أَيْ مَطْلُ الْقَادِرِ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ { يُحِلُّ عِرْضَهُ
وَعُقُوبَتَهُ } : أَيْ يُبِيحُ أَنْ يُذْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْمَطْلِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ لَا غَيْرِهِمَا ، إذْ الْمَظْلُومُ
لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ ظَالِمَهُ إلَّا بِالنَّوْعِ الَّذِي
ظَلَمَهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَيُبِيحُ أَيْضًا عُقُوبَتَهُ
بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَغَيْرِهِمَا .
وَالْبَزَّارُ
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ فِيهِ مَنْ وُثِّقَ وَلَا
بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْغَنِيَّ
الظَّلُومَ ، وَالشَّيْخَ الْجَهُولَ ، وَالْعَائِلَ الْمُخْتَالَ } :
أَيْ الْفَقِيرَ الْمُتَكَبِّرَ .
وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ أَبُو دَاوُد
وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : { مَا قَدَّسَ اللَّهُ أُمَّةً لَا
يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا الْحَقَّ مِنْ قَوِيِّهَا غَيْرَ مُتَعْتَعٍ ، ثُمَّ
قَالَ : مَنْ انْصَرَفَ غَرِيمُهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ صَلَّتْ عَلَيْهِ
دَوَابُّ الْأَرْضِ وَنُونُ الْمَاءِ : أَيْ حُوتُهُ وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ
يُلَوِّي غَرِيمَهُ وَهُوَ يَجِدُ إلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ وَجُمُعَةٍ وَشَهْرٍ ظُلْمٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ
فِيهِ مِنْ اُخْتُلِفَ فِي تَوْثِيقِهِ وَأَحْمَدُ بِنَحْوِهِ بِسَنَدٍ
قَوِيٍّ جَيِّدٍ عَنْ خَوْلَةَ زَوْجَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْقُ تَمْرٍ فَأَمَرَ
أَنْصَارِيًّا
أَنْ يَقْضِيَهُ فَقَضَاهُ دُونَ تَمْرِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبِضَهُ
فَقَالَ أَتَرُدُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَمَنْ أَحَقُّ بِالْعَدْلِ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاكْتَحَلَتْ عَيْنَا
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُمُوعِهِ ، ثُمَّ
قَالَ صَدَقَ ، وَمَنْ أَحَقُّ بِالْعَدْلِ مِنِّي لَا قَدَّسَ اللَّهُ
أُمَّةً لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا وَلَا
يُتَعْتِعُهُ ، ثُمَّ قَالَ يَا خَوْلَةُ عُدِّيهِ وَاقْضِيهِ ، فَإِنَّهُ
لَيْسَ مِنْ غَرِيمٍ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ غَرِيمُهُ رَاضِيًا إلَّا
صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الْأَرْضِ وَنُونُ الْبِحَارِ ، وَلَيْسَ مِنْ
عَبْدٍ يُلَوِّي غَرِيمَهُ وَهُوَ يَجِدُ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إثْمًا } ، وَتَعْتَعَهُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ
وَمُهْمَلَتَيْنِ : أَقْلَقَهُ وَأَتْعَبَهُ بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ
إلَيْهِ وَمَطْلِهِ إيَّاهُ ، وَيُلَوِّي : يَمْطُلُ وَيُسَوِّفُ .
وَصَحَّ أَيْضًا .
{ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يُعْطَى الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ } .
وَرَوَاهُ
ابْنُ مَاجَهْ بِقِصَّةٍ ، وَهِيَ : { أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ لَهُ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ
إيَّاهُ وَاشْتَدَّ حَتَّى قَالَ أُحَرِّجُ عَلَيْك إلَّا قَضَيْتَنِي
فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ ، فَقَالُوا وَيْحَك تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ ؟
قَالَ إنِّي أَطْلُبُ حَقِّي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ؟ ثُمَّ
أَرْسَلَ إلَى خَوْلَةَ فَقَالَ لَهَا إنْ كَانَ عِنْدَك تَمْرٌ
فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ فَنَقْضِيَك ، فَقَالَتْ :
نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْرَضَتْهُ ،
فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ أَوْفَيْتَ أَوْفَى اللَّهُ
لَك فَقَالَ أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ إنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا
يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ } .
تَنْبِيهٌ : عُدَّ هَذَا كَبِيرَةً لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ ، إذْ الظُّلْمُ
وَحِلُّ
الْعِرْضِ وَالْعُقُوبَةِ مِنْ أَكْبَرِ الْوَعِيدِ ، بَلْ صَرَّحَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَزَعَمُوا فِيهِ الِاتِّفَاقَ بِأَنَّ مَنْ
امْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَمْرِ
الْحَاكِمِ لَهُ بِهِ ، لِلْحَاكِمِ أَنْ يُشَدِّدَ عَلَيْهِ فِي
الْعُقُوبَةِ فَيَنْخُسَهُ بِحَدِيدَةٍ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ أَوْ يَمُوتَ
كَمَا قِيلَ بِنَظَرِهِ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهٍ .
قَالَ
بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : إنَّهُ مَقِيسٌ عَلَى مَا هُنَا ، فَهُوَ قِيَاسُ
ضَعِيفٍ عَلَى ضَعِيفٍ لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ عَلَى ضَعِيفٍ
كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَبِهَذَا
يَتَبَيَّنُ الرَّدُّ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ فَهِمُوا مِمَّا
تَوَهَّمُوهُ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مُتَّفَقٍ
عَلَيْهِ أَنَّ مَا هُنَا مُعْتَمَدٌ حَيْثُ جُعِلَ أَصْلًا مَقِيسًا
عَلَيْهِ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ) قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } { قَالَ قَتَادَةُ : نَزَلَتْ فِي
رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ وُلِّيَ مَالَ ابْنِ أَخِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ
يَتِيمٌ فَأَكَلَهُ } .
وَقَوْلُهُ { ظُلْمًا } : أَيْ لِأَجْلِهِ أَوْ
حَالَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ ، وَخَرَجَ بِهِ أَكْلُهَا بِحَقٍّ كَأَكْلِ
الْوَالِي بِشُرُوطِهِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
قَالَ
تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ
فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ
فَحَسْبُ ، أَوْ بِأَنْ يَأْخُذَ قَرْضًا أَوْ بِقَدْرِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ
أَوْ إنْ اُضْطُرَّ فَإِنْ أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِلَّا فَهُوَ فِي حِلِّ
أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ ، الصَّحِيحُ مِنْهَا عِنْدَنَا أَنَّ الْوَلِيَّ
إذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالنَّظَرِ لَهُ فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ
يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ، فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا
وَشَغَلَهُ عَنْ كَسْبِهِ النَّظَرُ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ فَلَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْهُ وَلَوْ بِلَا قَاضٍ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
أُجْرَتِهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِي ذَلِكَ وَمِنْ مُؤْنَتِهِ اللَّائِقَةِ
بِهِ عُرْفًا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ
الْأَقَلِّ .
أَمَّا الْقَاضِي فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مُطْلَقًا .
وَأَمَّا
الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْأُمُّ الْوَصِيَّةُ فَلَهُمْ الْكِفَايَةُ إذْ
تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْوَلَدِ ، وَلَوْ تَضَجَّرَ الْأَبُ أَوْ
الْجَدُّ مِنْ النَّظَرِ فِي مَالِ وَلَدِهِ نَصَّبَ لَهُ الْقَاضِي
قَيِّمًا أَوْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَقَدَّرَ لَهُ أُجْرَةً مِنْ مَالِ
الْوَلَدِ حَيْثُ لَا مُتَبَرِّعَ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْقَاضِي
بِتَقْدِيرِ أُجْرَةٍ لَهُ وَلَوْ فَقِيرًا ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْلِطَ
طَعَامَهُ بِطَعَامِ الْيَتِيمِ ، وَأَنْ يُضَيِّفَ مِنْ الْمَخْلُوطِ
لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَأَنْ
يَكُونُ أَوْفَرَ عَلَيْهِ مِمَّا لَوْ أَكَلَ وَحْدَهُ ، وَأَنْ تَكُونَ
الضِّيَافَةُ مِمَّا زَادَ عَلَى
قَدْرِ مَا يَخُصُّ الْيَتِيمَ
كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَ { إنَّمَا } إلَخْ خَبَرُ ( إنَّ ) ، وَ { فِي
بُطُونِهِمْ } مُتَعَلِّقٌ بِيَأْكُلُونَ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ أَوْ
حَالٌ مِنْ نَارٍ : أَيْ نَارًا كَائِنَةً فِي بُطُونِهِمْ ، وَذُكِرَ
تَأْكِيدًا أَوْ مُبَالَغَةً عَلَى حَدِّ { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ }
{ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } وَأَفَادَ كَوْنُهُ ظَرْفًا
لِيَأْكُلُونَ أَنَّ بُطُونَهُمْ أَوْعِيَةُ النَّارِ ، إمَّا حَقِيقَةً
بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمْ نَارًا يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ
أَوْ مَجَازًا مِنْ إطْلَاقِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ
لِكَوْنِهِ يُفْضِي إلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ .
وَالْمُرَادُ سَائِرُ
أَنْوَاعِ الْإِتْلَافِ ، فَإِنَّ ضَرَرَ الْيَتِيمِ لَا يَخْتَلِفُ
بِكَوْنِ إتْلَافِ مَالِهِ بِأَكْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَخَصَّ الْأَكْلَ
بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَامَّةَ أَمْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
الْأَنْعَامُ ، وَهِيَ يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا ، أَوْ
لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ، وَالسَّعِيرُ
الْجَمْرُ الْمُتَّقِدُ مِنْ سَعَّرْت النَّارَ أَوْقَدْتهَا وَلِشِدَّةِ
الْوَعِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ
الْعِيدِ : أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ مُجَرَّبٌ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ .
وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ
تَحَرَّجَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعُوا مِنْ
مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } وَزَعْمُ أَنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ
لِتِلْكَ وَهْمٌ فَاحِشٌ لِأَنَّ تِلْكَ فِي مَنْعِ أَكْلِهَا ظُلْمًا
وَهَذَا لَا يُنْسَخُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ
الْمَمْنُوعَةَ الشَّدِيدَةَ الْوَعِيدِ وَالْعِقَابِ وَالْعَلَامَةَ
عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ وَتَأْبِيدِ الْعَذَابِ هِيَ الَّتِي عَلَى
وَجْهِ الظُّلْمِ وَإِلَّا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْبِرِّ .
فَالْآيَةُ
الْأُولَى فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِيَةُ فِي الشِّقِّ الثَّانِي
وَهَذَا ظَاهِرٌ جَلِيٌّ ، وَقَدْ جَمَعَ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِي
قَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا
بِاَلَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } : وَقَدْ
نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى تَأَكُّدِ حَقِّ الْأَيْتَامِ وَمَزِيدِ
الِاعْتِنَاءِ بِهِ بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } إذْ
الْمُرَادُ بِشَهَادَةِ السِّيَاقِ خِلَافًا لِمَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى
أَنَّهَا فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ
الْحَمْلِ لِمَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمٌ عَلَى أَنَّهُ يُحْسِنُ
إلَيْهِ حَتَّى فِي الْخِطَابِ ، فَلَا يُخَاطِبُهُ إلَّا بِنَحْوِ يَا
بُنَيَّ مِمَّا يُخَاطِبُ بِهِ أَوْلَادَهُ ، وَيَفْعَلُ مَعَهُ مِنْ
الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ وَالْقِيَامِ فِي مَالِهِ مَا
يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِمَالِهِ وَبِذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّ
الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أَيْ
الْجَزَاءِ .
كَمَا تَدِينُ تُدَانُ : أَيْ كَمَا تَفْعَلُ يُفْعَلُ مَعَك .
بَيْنَمَا
الْإِنْسَانُ آمِنٌ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَعَلَى أَوْلَادِ
غَيْرِهِ ، وَإِذَا بِالْمَوْتِ قَدْ حَلَّ بِهِ فَيَجْزِيهِ اللَّهُ
تَعَالَى فِي مَالِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَعِيَالِهِ وَسَائِرِ
تَعَلُّقَاتِهِ بِنَظِيرِ مَا فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ ، إنْ خَيْرًا
فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ .
فَلْيَخْشَ الْعَاقِلُ عَلَى
أَوْلَادِهِ وَمَالِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَشْيَةٌ عَلَى دِينِهِ ،
وَيَتَصَرَّفُ عَلَى الْأَيْتَامِ الَّذِينَ فِي حِجْرِهِ بِمَا يَجِبُ
أَنْ يَتَصَرَّفَ وَلِيُّ أَوْلَادِهِ لَوْ كَانُوا أَيْتَامًا عَلَيْهِمْ
فِي مَالِهِ .
وَجَاءَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى دَاوُد
صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ : يَا دَاوُد كُنْ
لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ ، وَكُنْ لِلْأَرْمَلَةِ كَالزَّوْجِ
الشَّفِيقِ } .
وَاعْلَمْ أَنَّك كَمَا تَزْرَعُ كَذَا تَحْصُدُ : أَيْ
كَمَا تَفْعَلُ يُفْعَلُ مَعَك ، إذْ لَا بُدَّ أَنْ تَمُوتَ وَيَبْقَى
لَك وَلَدٌ يَتِيمٌ وَامْرَأَةٌ أَرْمَلَةٌ .
وَجَاءَ فِي التَّشْدِيدِ
فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالظُّلْمِ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ
مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ تَحْذِيرًا لِلنَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْوَخِيمَةِ الْمُهْلِكَةِ .
مِنْهَا
: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك
ضَعِيفًا ، وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ، لَا
تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ ، وَلَا تَلِيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ أَيْ الْمُهْلِكَاتِ .
قَالُوا
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ
وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا
بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } الْحَدِيثَ .
وَالْبَزَّارُ
: { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ
بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ }
الْحَدِيثَ .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { أَرْبَعٌ حَقٌّ عَلَى
اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا :
مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَآكِلُ الرِّبَا ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ
حَقٍّ ، وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
: { إنَّ مِنْ جُمْلَةِ كِتَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الَّذِي أَرْسَلَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ :
وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ
حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ ،
وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } .
وَأَبُو يَعْلَى :
{ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ فِي قُبُورِهِمْ تُأَجَّجُ
أَفْوَاهُهُمْ نَارًا ، فَقِيلَ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَارًا } } .
وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ عِنْدَ مُسْلِمٍ : { فَإِذَا
أَنَا بِرِجَالٍ قَدْ وُكِّلَ بِهِمْ رِجَالٌ يَفُكُّونَ لِحَاهُمْ ،
وَآخَرُونَ يَجِيئُونَ بِالصُّخُورِ مِنْ النَّارِ فَيَقْذِفُونَهَا فِي
أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ .
فَقُلْت يَا
جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } .
وَفِي
تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رَأَيْت
لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ ،
وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ مَشَافِرَهُمْ ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي
أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ .
فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هُمْ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِمَا ذُكِرَ ،
وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَكْلِ قَلِيلِهِ
وَكَثِيرِهِ وَلَوْ حَبَّةً عَلَى مَا مَرَّ فِي بَخْسِ الْكَيْلِ
وَالْوَزْنِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَيَأْتِي عَنْهُمْ فِي
الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ بِنَظِيرِ مَا فَرَّقْت بِهِ بَيْنَ ذَيْنِك
وَالتَّطْفِيفِ كَمَا مَرَّ آنِفًا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ
التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ ، فَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ فِي الْقَلِيلِ
بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً لَجَرَّهُ ذَلِكَ إلَى الْكَثِيرِ إذْ لَا مَانِعَ
لَهُ لِأَنَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْكُلِّ فَتَعَيَّنَ الْحُكْمُ
بِالْكَبِيرَةِ عَلَى أَخْذِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِخِلَافِهِ فِي
ذَيْنِك فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ كَمَا بَسَطْته فِي
التَّنْظِيفِ قَرِيبًا فَرَاجِعْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ
قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَخْذَ التَّافِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ
صَغِيرَةٌ ، وَسَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ .
خَاتِمَةٌ
: فِي كَفَالَةِ الْيَتِيمِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَالسَّعْيِ عَلَى
الْأَرْمَلَةِ : أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ : { أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ
فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ
وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا } .
وَمُسْلِمٌ : { كَافِلُ
الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ
وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى } .
وَالْبَزَّارُ : {
مَنْ كَفَلَ يَتِيمًا لَهُ ذُو قَرَابَةٍ أَوْ لَا قَرَابَةَ لَهُ فَأَنَا
وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ وَضَمَّ إصْبَعَيْهِ .
وَمَنْ سَعَى
عَلَى ثَلَاثِ بَنَاتٍ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ ، وَكَانَ لَهُ كَأَجْرِ
الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَائِمًا قَائِمًا } .
وَابْنُ
مَاجَهْ : { مَنْ عَالَ ثَلَاثَةً مِنْ الْأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ
لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَكُنْت أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَانِ ، كَمَا
أَنَّ هَاتَيْنِ أُخْتَانِ ، وَأَلْصَقَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةَ
وَالْوُسْطَى } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ قَبَضَ
يَتِيمًا مِنْ بَيْنِ مُسْلِمِينَ إلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ أَلْبَتَّةَ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ
لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ : { حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ أَلْبَتَّةَ } .
وَابْنُ
مَاجَهْ : { خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ
يُحْسَنُ إلَيْهِ ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ
يَتِيمٌ يُسَاءُ إلَيْهِ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ : {
أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الْجَنَّةِ إلَّا أَنِّي أَرَى
امْرَأَةً تُبَادِرُنِي ، فَأَقُولُ مَا لَك وَمَنْ أَنْتِ ؟ تَقُولُ :
أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْت عَلَى أَيْتَامٍ لِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا وَاحِدًا وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ
بِالْمَتْرُوكِ : { وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَا يُعَذِّبُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ رَحِمَ الْيَتِيمَ وَلَانَ لَهُ فِي
الْكَلَامِ وَرَحِمَ يُتْمَهُ وَضَعْفَهُ ، وَلَمْ يَتَطَاوَلْ عَلَى
جَارِهِ بِفَضْلِ مَا آتَاهُ اللَّهُ } .
وَأَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ
: { مَنْ مَسَحَ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إلَّا لِلَّهِ
كَانَتْ لَهُ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ .
وَمَنْ أَحْسَنَ إلَى يَتِيمٍ أَوْ يَتِيمَةٍ عِنْدَهُ كُنْت أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ } الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَ
جَمَاعَةٌ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى احْتِمَالٍ : { إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ لِيَعْقُوبَ إنَّ سَبَبَ ذَهَابِ بَصَرِهِ وَانْحِنَاءِ
ظَهْرِهِ وَفِعْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ مَا فَعَلُوا أَنَّهُ أَتَاهُ
يَتِيمٌ مِسْكِينٌ صَائِمٌ جَائِعٌ وَقَدْ ذَبَحَ هُوَ وَأَهْلُهُ شَاةً
فَأَكَلُوهَا وَلَمْ يُطْعِمُوهُ ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ حُبَّهُ لِلْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ طَعَامًا وَيَدْعُوَ
الْمَسَاكِينَ فَفَعَلَ } .
وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ
وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { السَّاعِي عَلَى
الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَكَاَلَّذِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ } .
قَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ : كُنْتُ فِي بَدْءِ أَمْرِي سِكِّيرًا مُكِبًّا عَلَى
الْمَعَاصِي ، فَرَأَيْتُ يَوْمًا يَتِيمًا فَأَكْرَمْتُهُ كَمَا يُكْرَمُ
الْوَلَدُ بَلْ أَكْثَرَ ، ثُمَّ نِمْتُ فَرَأَيْتُ الزَّبَانِيَةَ
أَخَذُونِي أَخْذًا مُزْعِجًا إلَى جَهَنَّمَ وَإِذَا بِالْيَتِيمِ قَدْ
اعْتَرَضَنِي ، فَقَالَ دَعُوهُ حَتَّى أُرَاجِعَ رَبِّي فِيهِ فَأَبَوْا .
فَإِذَا
النِّدَاءُ خَلُّوا عَنْهُ فَقَدْ وَهَبْنَا لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ
بِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَبَالَغْتُ فِي إكْرَامِ
الْيَتَامَى مِنْ يَوْمَئِذٍ .
وَكَانَ لِبَعْضِ مَيَاسِيرِ
الْعَلَوِيِّينَ بَنَاتٌ مِنْ عَلَوِيَّةٍ فَمَاتَ وَاشْتَدَّ بِهِنَّ
الْفَقْرُ إلَى أَنْ رَحَلْنَ عَنْ وَطَنِهِنَّ خَوْفَ الشَّمَاتَةِ ،
فَدَخَلْنَ مَسْجِدَ بَلَدٍ مَهْجُورًا فَتَرَكَتْهُنَّ أُمُّهُنَّ فِيهِ
وَخَرَجَتْ تَحْتَالُ لَهُنَّ فِي الْقُوتِ
فَمَرَّتْ بِكَبِيرِ
الْبَلَدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَشَرَحَتْ لَهُ حَالَهَا فَلَمْ
يُصَدِّقْهَا وَقَالَ : لَا بُدَّ أَنْ تُقِيمِي عِنْدِي الْبَيِّنَةَ
بِذَلِكَ .
فَقَالَتْ أَنَا غَرِيبَةٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ، ثُمَّ
مَرَّتْ بِمَجُوسِيٍّ فَشَرَحَتْ لَهُ ذَلِكَ فَصَدَّقَ ، وَأَرْسَلَ
بَعْضَ نِسَائِهِ فَأَتَتْ بِهَا وَبِبَنَاتِهَا إلَى دَارِهِ فَبَالَغَ
فِي إكْرَامِهِنَّ ، فَلَمَّا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ رَأَى ذَلِكَ
الْمُسْلِمُ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْقُودٌ عَلَى رَأْسِهِ لِوَاءُ الْحَمْدِ
وَعِنْدَهُ قَصْرٌ عَظِيمٌ .
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هَذَا
الْقَصْرُ ؟ قَالَ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ، قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ مُوَحِّدٌ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقِمْ عِنْدِي الْبَيِّنَةَ
بِذَلِكَ فَتَحَيَّرَ ، فَقَصَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَبَرَ الْعَلَوِيَّةَ ، فَانْتَبَهَ الرَّجُلُ فِي غَايَةِ الْحُزْنِ
وَالْكَآبَةِ إذْ رَدَّهَا ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْفَحْصِ عَنْهَا حَتَّى
دُلَّ عَلَيْهَا بِدَارِ الْمَجُوسِيِّ فَطَلَبَهَا مِنْهُ فَأَبَى
وَقَالَ قَدْ لَحِقَنِي مِنْ بَرَكَاتِهِنَّ ، فَقَالَ خُذْ أَلْفَ
دِينَارٍ وَسَلِّمْهُنَّ إلَيَّ فَأَبَى ، فَأَرَادَ أَنْ يُكْرِهَهُ ،
فَقَالَ الَّذِي تُرِيدُهُ أَنَا أَحَقُّ بِهِ ، وَالْقَصْرُ الَّذِي
رَأَيْته فِي النَّوْمِ خُلِقَ لِي ، أَتَفْخَرُ عَلَيَّ بِإِسْلَامِك ،
فَوَاَللَّهِ مَا نَمُتْ أَنَا وَأَهْلُ دَارِي حَتَّى أَسْلَمْنَا
كُلُّنَا عَلَى يَدِ الْعَلَوِيَّةِ ، وَرَأَيْتُ مِثْلَ مَنَامِكَ .
وَقَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْعَلَوِيَّةُ
وَبَنَاتُهَا عِنْدَك ؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ :
الْقَصْرُ لَك وَلِأَهْلِ دَارِك فَانْصَرَفَ الْمُسْلِمُ وَبِهِ مِنْ
الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : إنْفَاقُ مَالٍ وَلَوْ فَلْسًا فِي مُحَرَّمٍ وَلَوْ صَغِيرَةً ) وَعَدِّي لِهَذِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ ، فَإِنَّهُمْ عَدُّوا ذَلِكَ سَفَهًا وَتَبْذِيرًا مُوجِبًا لِلْحَجْرِ ، وَصَرَّحُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ السَّفِيهَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ وَلَا يَلِي نَحْوَ نِكَاحِ ابْنَتِهِ ، وَمَنْعُ الشَّهَادَةِ مَعَ نَحْوِ الْوِلَايَةِ يُنْبِئُ عَنْ الْفِسْقِ ، وَمِنْ لَازِمِ كَوْنِ ذَلِكَ فِسْقًا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ فَظَهَرَ مَا ذَكَرْتُهُ ، وَيُوَجَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِأَنَّهُ لَا أَعَزُّ عِنْدَ النَّفْسِ مِنْ الْمَالِ ، فَإِذَا هَانَ عَلَيْهَا صَرْفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ دَلَّ عَلَى الِانْهِمَاكِ التَّامِّ فِي مَحَبَّةِ الْمَعَاصِي ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِانْهِمَاكَ يَنْشَأُ عَنْهُ مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ جِدًّا ، فَاتَّجَهَ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا .
الْكَبِيرَةُ الْعَاشِرَةُ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ ) : إيذَاءُ الْجَارِ وَلَوْ ذِمِّيًّا كَأَنْ يُشْرِفَ
عَلَى حُرَمِهِ أَوْ يَبْنِيَ مَا يُؤْذِيهِ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ لَهُ
شَرْعًا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يُؤْذِي
جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ
فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ } .
وَمُسْلِمٌ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ : { فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ } .
وَأَحْمَدُ
بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟
قَالُوا حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ
يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ .
قَالَ فَمَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟ قَالُوا حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
قَالَ : لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ } .
وَأَحْمَدُ
وَالشَّيْخَانِ : { وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ،
وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، قَالُوا مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :
الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } ، زَادَ أَحْمَدُ : { قَالُوا
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ شَرُّهُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ .
قِيلَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ مَنْ لَا
يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ : قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا
بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ شَرُّهُ } .
وَأَبُو يَعْلَى : { مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { إنَّ
الرَّجُلَ
لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، يَبِيتُ
حِينَ يَبِيتُ وَهُوَ آمِنٌ مِنْ شَرِّهِ ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي
نَفْسُهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ
لِجَارِهِ أَوْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
: { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَزَلْتُ فِي مَحَلَّةِ بَنِي فُلَانٍ ،
وَإِنَّ أَشَدَّهُمْ لِي أَذًى أَقْرَبُهُمْ لِي جِوَارًا ، فَبَعَثَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا
يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَقُومُونَ عَلَى بَابِهِ فَيَصِيحُونَ أَلَا
إنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ
جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { لَا
يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا
يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
وَأَحْمَدُ
بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ : { الْمُؤْمِنُ مَنْ
أَمِنَهُ النَّاسُ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ
وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : { إنَّ اللَّهَ قَسَمَ
بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ،
وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا
يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إلَّا مَنْ أَحَبَّ ، فَمَنْ أَعْطَاهُ
الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ
عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى
يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قُلْتُ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ غِشُّهُ
وَظُلْمُهُ ، وَلَا يَكْسِبُ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقُ مِنْهُ
فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا
يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلَّا كَانَ زَادَهُ إلَى النَّارِ .
إنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئ
بِالسَّيِّئِ وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئ بِالْحَسَنِ ، إنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ } .
وَأَبُو
الشَّيْخِ بْنِ حِبَّانَ : { مَنْ أَذَى جَارَهُ فَقَدْ أَذَانِي ، وَمَنْ
أَذَانِي فَقَدْ أَذَى اللَّهَ ، وَمَنْ حَارَبَ جَارَهُ فَقَدْ
حَارَبَنِي ، وَمَنْ حَارَبَنِي فَقَدْ حَارَبَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ نَكَارَةٌ .
{ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ : لَا يَصْحَبُنَا الْيَوْمَ مَنْ أَذَى جَارَهُ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَا بُلْت فِي أَصْلِ حَائِطِ جَارِي ، فَقَالَ لَا تَصْحَبُنَا الْيَوْمَ } .
وَالنَّسَائِيُّ
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَابْنِ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ :
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ
فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ } .
وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
: { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اطْرَحْ مَتَاعَك عَلَى الطَّرِيقِ فَطَرَحَهُ ،
فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ ، فَجَاءَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ النَّاسِ ، فَقَالَ : وَمَا لَقِيتُ مِنْهُمْ ؟
قَالَ يَلْعَنُونِي قَالَ : لَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ
قَالَ : إنِّي لَا أَعُودُ فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْفَعْ مَتَاعَكَ فَقَدْ
كُفِيتَ } .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ بِنَحْوِ إلَّا
أَنَّهُ قَالَ : { ضَعْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ
الطَّرِيقِ فَوَضَعَهُ ، فَكَانَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ مَا
شَأْنُكَ قَالَ جَارِي يُؤْذِينِي فَيَدْعُو عَلَيْهِ فَجَاءَ جَارُهُ
فَقَالَ : رُدَّ مَتَاعَكَ فَلَا أُؤْذِيك أَبَدًا } .
وَأَبُو دَاوُد
وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { جَاءَ رَجُلٌ يَشْكُو
جَارَهُ
فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاصْبِرْ ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ،
فَقَالَ اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَك فِي الطَّرِيقِ فَفَعَلَ ، فَجَعَلَ
النَّاسُ يَمُرُّونَ وَيَسْأَلُونَهُ وَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَ جَارِهِ
فَجَعَلُوا يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ ، وَبَعْضُهُمْ
يَدْعُو عَلَيْهِ فَجَاءَ إلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ ارْجِعْ فَإِنَّك لَنْ
تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { قَالَ رَجُلٌ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فُلَانَةَ تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا
وَصَدَقَتِهَا وَصِيَامِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا
بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَإِنَّ فُلَانَةَ تُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا
وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي
جِيرَانَهَا قَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ
أَيْضًا : { فُلَانَةُ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتُؤْذِي
جِيرَانَهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ .
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
فُلَانَةُ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَاتِ وَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ : أَيْ
بِالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثَوْرٍ وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنْ الْأَقِطِ ،
وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا قَالَ هِيَ فِي الْجَنَّةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
{ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ
الْجَارِ عَلَى جَارِهِ ؟ قَالَ : إنْ مَرِضَ عُدْتَهُ ، وَإِنْ مَاتَ
شَيَّعْتَهُ ، وَإِنْ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ ، وَإِنْ أَعْوَرَ
سَتَرْتَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي الشَّيْخِ : { وَإِنْ
اسْتَعَانَك أَعَنْته ، وَإِنْ احْتَاجَ أَعْطَيْتَهُ ، هَلْ تَفْقَهُونَ
مَا أَقُولُ لَكُمْ لَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ الْجَارِ إلَّا قَلِيلٌ مِمَّنْ
رَحِمَ اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْخَرَائِطِيِّ : { وَإِذَا
افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّيْتَهُ ،
وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْته ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْت
جِنَازَتَهُ ، وَلَا تَسْتَطِلْ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ فَتَحْجُبُ عَنْهُ
الرِّيحَ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا تُؤْذِهِ بِفَائِحِ قِدْرِك إلَّا أَنْ
تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا
، وَإِنْ اشْتَرَيْت فَاكِهَةً فَأَهْدِ لَهُ
مِنْهَا ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا ، وَلَا يَخْرُجُ
بِهَا وَلَدُك لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ } وَرَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيُّ
بِنَحْوِهِ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ .
: وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَثْرَةَ هَذِهِ الطُّرُقِ تُكْسِبُهُ قُوَّةً .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ } .
وَفِي
رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ { : لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ
جَائِعٌ } وَالطَّبَرَانِيُّ : { جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ اُكْسُنِي فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
اُكْسُنِي فَقَالَ أَمَا لَك جَارٌ لَهُ فَضْلُ ثَوْبَيْنِ ؟ قَالَ :
بَلَى غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَهُ فِي
الْجَنَّةِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٍ
بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ
أَغْلَقَ عَنِّي بَابَهُ ، وَمَنَعَنِي فَضْلَهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ مَوْصُولًا وَمَقْطُوعًا بِضَعْفٍ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ
فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ فَقُلْت أَنَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا .
فَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ
النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ،
وَأَحْسِنْ إلَى جَارِك تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا
تُحِبُّ لِنَفْسِك تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلَا تُكْثِرُ الضَّحِكَ فَإِنَّ
كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ
حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { خَيْرُ الْأَصْحَابِ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ } .
وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ : { إنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ كَانَ
لَهُ جَارُ سُوءٍ يُؤْذِيهِ فَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يَكْفِيَهُ اللَّهُ إيَّاهُ بِحَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } .
وَأَحْمَدُ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ { عَنْ رَجُلٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ أَهْلِي أُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا بِهِ قَائِمٌ وَإِذَا رَجُلٌ مُقْبِلٌ
عَلَيْهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ حَاجَةً فَجَلَسْتُ ، فَوَاَللَّهِ لَقَدْ
قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلْتُ
أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقُمْتُ إلَيْهِ
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ قَامَ بِكَ هَذَا الرَّجُلُ حَتَّى
جَعَلْتُ أَرْثِي لَك مِنْ طُولِ الْقِيَامِ .
قَالَ أَتَدْرِي مَنْ
هَذَا ؟ قُلْت لَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ
حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ، أَمَا إنَّكَ لَوْ سَلَّمْتَ
عَلَيْهِ لَرَدَّ عَلَيْك السَّلَامَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ { عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ :
أُوصِيكُمْ بِالْجَارِ حَتَّى أَكْثَرَ ، فَقُلْت إنَّهُ يُوَرِّثُهُ } .
وَأَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ : { إنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ ،
فَلَمَّا جَاءَ قَالَ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ ؟ قُلْنَا :
لَا .
قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى
ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } .
وَطُرُقُ هَذَا الْمَتْنِ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَأَحْمَدُ
بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ { مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ
الْجَارُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ }
.
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَرْبَعٌ مِنْ السَّعَادَةِ : الْمَرْأَةُ
الصَّالِحَةُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ .
وَأَرْبَعٌ مِنْ الشَّقَاءِ الْجَارُ السُّوءُ ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَدْفَعُ
بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ
الْبَلَاءَ ، ثُمَّ قَرَأَ : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ } } .
وَالْبَيْهَقِيُّ {
أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا
عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ؟ فَقَالَ : كُنْ مُحْسِنًا .
فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ ؟ قَالَ : سَلْ
جِيرَانَك ، فَإِنْ قَالُوا إنَّك مُحْسِنٌ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ ، أَوْ
قَالُوا إنَّك مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ .
فَإِنْ
قُلْت : إيذَاءُ الْمُسْلِمِ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ
الْجَارِ ؟ قُلْت : كَأَنَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ أَنَّ إيذَاءَ غَيْرِ
الْجَارِ لَا بُدَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَقْعٌ بِحَيْثُ لَا
يُحْتَمَلُ عَادَةً بِخِلَافِ إيذَاءِ الْجَارِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ
فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ عُرْفًا أَنَّهُ إيذَاءٌ .
وَوَجْهُ
الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ مِنْ تَأَكُّدِ حُرْمَةِ الْجَارِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي
رِعَايَةِ حُقُوقِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِيرَانَ ثَلَاثَةٌ :
قَرِيبٌ مُسْلِمٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ : حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ
الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ .
وَمُسْلِمٌ فَقَطْ فَلَهُ
الْحَقَّانِ الْأَوَّلَانِ ، وَذِمِّيٌّ فَلَهُ الْحَقُّ الْأَوَّلُ
فَيَتَعَيَّنُ صَوْنُهُ عَنْ إيذَائِهِ ، وَيَنْبَغِي الْإِحْسَانُ
إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْتِجُ خَيْرًا كَثِيرًا كَمَا فَعَلَ سَهْلٌ
التُّسْتَرِيُّ بِجَارِهِ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ انْفَتَحَ مِنْ
خَلَائِهِ مَحَلٌّ لِدَارِ سَهْلٍ يَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْقَذَرُ ،
فَأَقَامَ سَهْلٌ مُدَّةً يُنَحِّي
لَيْلًا مِمَّا يَجْتَمِعُ
مِنْهُ فِي بَيْتِهِ نَهَارًا فَلَمَّا مَرِضَ أَحْضَرَ الْمَجُوسِيَّ
وَأَخْبَرَهُ وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنَّهُمْ لَا
يَحْتَمِلُونَ ذَلِكَ فَيُخَاصِمُونَهُ ، فَعَجِبَ الْمَجُوسِيُّ مِنْ
صَبْرِهِ عَلَى هَذَا الْإِيذَاءِ الْعَظِيمِ قَالَ لَهُ تُعَامِلُنِي
بِذَلِكَ مُنْذُ هَذَا الزَّمَانِ الطَّوِيلِ وَأَنَا مُقِيمٌ عَلَى
كُفْرِي مُدَّ يَدَك لِأُسْلِمَ فَمَدَّ يَدَهُ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ مَاتَ
سَهْلٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَتَأَمَّلْ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ وَعَاقِبَتَهُ وَفَّقَنَا اللَّهُ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ آمِينَ .
(
الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : الْبِنَاءُ
فَوْقَ الْحَاجَةِ لِلْخُيَلَاءِ ) أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : " إذَا رَفَعَ الرَّجُلُ بِنَاءً فَوْقَ
سَبْعَةِ أَذْرُعٍ نُودِيَ يَا أَفْسَقَ الْفَاسِقِينَ إلَى أَيْنَ ؟ "
وَرُوِيَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ .
وَأَبُو دَاوُد
عَنْ { أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مَعَهُ فَرَأَى قُبَّةً
مُشْرِفَةً فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ هَذِهِ لِفُلَانٍ
رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَكَتَ وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِهِ حَتَّى إذَا
جَاءَ صَاحِبُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي النَّاسِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، صَنَعَ ذَلِكَ
مِرَارًا حَتَّى عَرَفَ الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَالْإِعْرَاضَ
عَنْهُ ، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ وَاَللَّهِ إنِّي
لَأُنْكِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالُوا
خَرَجَ فَرَأَى قُبَّتَكَ ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى قُبَّتِهِ
فَهَدَمَهَا حَتَّى سَوَّاهَا بِالْأَرْضِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرَهَا قَالَ مَا
فَعَلَتْ الْقُبَّةُ ؟ قَالُوا شَكَا إلَيْنَا صَاحِبُهَا إعْرَاضَكَ
عَنْهُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَهَدَمَهَا ، فَقَالَ : أَمَا إنَّ كُلَّ بِنَاءٍ
وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَا لَا } : أَيْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَابْنُ
مَاجَهْ : { مَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبَّةٍ عَلَى
بَابِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالُوا قُبَّةٌ
بَنَاهَا فُلَانٌ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ
مَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
فَبَلَغَ الْأَنْصَارِيَّ ذَلِكَ فَوَضَعَهَا فَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فَلَمْ يَرَهَا ، فَسَأَلَ عَنْهَا
فَأُخْبِرَ أَنَّهُ وَضَعَهَا لِمَا بَلَغَهُ عَنْهُ فَقَالَ يَرْحَمُهُ
اللَّهُ } وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِبِنْيَةِ قُبَّةٍ لِرَجُلٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ
فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالُوا : قُبَّةٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : كُلُّ بِنَاءٍ وَأَشَارَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى
رَأْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَهُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَلَهُ شَوَاهِدُ : { كُلُّ
بُنْيَانٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَا كَانَ هَكَذَا وَأَشَارَ
بِكَفِّهِ ، وَكُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ
بِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ، الثَّلَاثَةِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ :
{ إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا أَحْضَرَ لَهُ اللَّبِنَ
وَالطِّينَ حَتَّى يَبْنِيَ } وَفِي الْأَوْسَطِ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِعَبْدٍ هَوَانًا أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْبُنْيَانِ } .
وَفِي
الْكَبِيرِ مُرْسَلًا بِسَنَدٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ : { مَنْ بَنَى فَوْقَ
مَا يَكْفِيهِ كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَفِي
الْكَبِيرِ مُرْسَلًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { إنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بَنَى قُبَّةً ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهْدِمْهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا فَقَالَ
أَهْدِمُهَا } .
وَصَحَّ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَاكِمُ : { كُلُّ
مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ كُتِبَ
لَهُ صَدَقَةً ، وَمَا أَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ
خَلَفَهَا عَلَى اللَّهِ ، وَاَللَّهُ ضَامِنٌ إلَّا مَا كَانَ فِي
بُنْيَانٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ } .
وَصَحَّ : { يُؤْجَرُ الْمَرْءُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إلَّا التُّرَابَ أَوْ قَالَ فِي الْبِنَاءِ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ { النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا الْبِنَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ } .
وَأَبُو دَاوُد مُرْسَلًا : { إنَّ شَرَّ مَا ذَهَبَ فِيهِ مَالُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الْبُنْيَانُ } .
وَفِي
حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { إنَّ مِنْ
أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تَطَاوُلُ رِعَاءِ الشَّاءِ فِي الْبُنْيَانِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ } : أَيْ الْفُقَرَاءَ { رِعَاءَ الشَّاءِ } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ لَكِنْ صَرِيحُ مَا فِي
الْأَثَرِ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ
الْأَثَرَ
لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ ، وَمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ
ذَلِكَ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إذْ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ
فِيهِ ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي بَعْدَهُ مِنْهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشِيرٌ إلَى ذَلِكَ .
إذْ
غَضَبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمُ رَدِّهِ السَّلَامَ
وَعَدَمُ رِضَاهُ إلَّا بِالْهَدْمِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ،
لَكِنْ يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ مِنْ
أَنَّ ذَلِكَ إنْ قُصِدَ بِهِ الْخُيَلَاءُ أَوْ نَحْوُهُ وَكَذَا
التَّعْبِيرُ بِالْوَبَالِ وَالْهَوَانِ وَالشَّرِّ كُلُّهُ صَرِيحٌ أَوْ
كَالصَّرِيحِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ .
(
تَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
وَالنَّسَائِيُّ { عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ :
حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ
كَلِمَاتٍ ، قُلْت : مَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ :
لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ
لَعَنَ وَالِدَيْهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا ، لَعَنَ
اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ } ، وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَامَاتُ
حُدُودِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي اللِّوَاطِ ،
وَلَفْظُهُ : { مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الْأَرْضِ } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ صَرِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَبِهِ
صَرَّحَ جَمَاعَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ فِيهِ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ أَوْ إيذَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْإِيذَاءَ الشَّدِيدَ أَوْ
التَّسَبُّبَ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلِلْوَسَائِلِ حُكْمُ
الْمَقَاصِدِ ، فَشَمَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ
أَوْ الْأَجَانِبِ وَمَنْ تَسَبَّبَ إلَى ذَلِكَ كَأَنْ اتَّخَذَ فِي
أَرْضِ الْغَيْرِ مَمْشًى يَصِيرُ بِسُلُوكِهِ طَرِيقًا وَإِلَّا جَازَ
حَيْثُ لَا ضَرَرَ وَقَدْ وَقَعَ لِلْقَفَّالِ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ
كَانَ رَاكِبًا بِجَانِبِ مَلِكٍ وَبِالْجَانِبِ الْآخَرِ إمَامٌ
حَنَفِيٌّ فَضَاقَتْ الطَّرِيقُ فَسَلَكَ الْقَفَّالُ غَيْرَهَا ، فَقَالَ
الْحَنَفِيُّ لِلْمَلِكِ : سَلْ الشَّيْخَ أَيَجُوزُ سُلُوكُ أَرْضِ
الْغَيْرِ ؟ فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إذَا لَمْ تَصِرْ
بِهِ طَرِيقًا أَيْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا نَحْوُ زَرْعٍ يَضُرُّهُ
السُّلُوكُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
( إضْلَالُ الْأَعْمَى عَنْ
الطَّرِيقِ ) رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُعِنَ مَنْ أَضَلَّ أَعْمَى عَنْ الطَّرِيقِ } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ
وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرْته لِمَا مَرَّ أَنَّ اللَّعْنَ مِنْ
عَلَامَاتِ الْكَبِيرَةِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي
إيذَاءِ النَّاسِ الْإِيذَاءَ الْبَلِيغَ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً
، لِأَنَّ مَنْ يُضِلُّ الْأَعْمَى عَنْ الطَّرِيقِ يَتَسَبَّبُ إلَى
وُقُوعِهِ فِي مَضَارَّ وَمَخَاوِفَ كَثِيرَةٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَلَمْ
يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ إلَى ذَلِكَ كَبِيرَةً .
(
الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةَ وَالْخَامِسَةَ وَالسَّادِسَةَ عَشَرَ ، بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ ) : التَّصَرُّفُ فِي الطَّرِيقِ الْغَيْرِ النَّافِذِ
بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّارِعِ بِمَا يَضُرُّ
الْمَارَّةَ إضْرَارًا بَلِيغًا غَيْرُ سَائِغٍ شَرْعًا ، وَالتَّصَرُّفُ
فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ بِمَا لَا
يُحْتَمَلُ عَادَةً عِنْدَ مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ .
وَذِكْرِي
لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ وَإِنْ لَمْ
يُصَرِّحُوا بِهِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَذِيَّةِ النَّاسِ
الْأَذِيَّةَ الْبَالِغَةَ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى حُقُوقِهِمْ تَعَدِّيًا
وَظُلْمًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ
الْعَامَّيْنِ أَعْنِي الْأَذِيَّةَ وَالِاسْتِيلَاءَ الْمَذْكُورَيْنِ
يَشْمَلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ وَغَيْرَهَا فَذِكْرُهَا إنَّمَا هُوَ
تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِمْ كَمَا تَقَرَّرَ ،
وَالْأَدِلَّةُ الْآتِيَةُ فِي بَحْثَيْ الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ
وَغَيْرِهِمَا تَشْمَلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فَلَا يَغِبْ عَنْك
اسْتِحْضَارُهَا هُنَا ، وَسَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ خَبَرُ { مَنْ أَخَذَ
مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ شِبْرًا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ
مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } .
( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : امْتِنَاعُ الضَّامِنِ ضَمَانًا صَحِيحًا فِي عَقِيدَتِهِ مِنْ أَدَاءِ مَا ضَمِنَهُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَضَمِنَ بِإِذْنٍ أَمْ لَا وَذِكْرِي لِهَذِهِ فِي الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الضَّامِنَ يَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ أَيْضًا حَقِيقَةً فَهُوَ مَدِينٌ فَفِيهِ جَمِيعُ مَا مَرَّ فِي مَطْلِ الْغَنِيِّ ، لَكِنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ هَذَا بِالذِّكْرِ خَفَاؤُهُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ، لِظَنِّهِمْ أَنَّ تَبَرُّعَهُ بِالضَّمَانِ لَا يُوقِعُهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا لِأَنَّهُ وَإِنْ تَبَرَّعَ بِالضَّمَانِ يَصِيرُ مَدْيُونًا حَقِيقَةً حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا كَمَا اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ الْأَئِمَّةِ .
الْكَبِيرَةُ
الثَّامِنَةَ وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) :
خِيَانَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ أَوْ الْوَكِيلِ
لِمُوَكِّلِهِ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ
بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ خَانَ شَرِيكًا فِيمَا ائْتَمَنَهُ
عَلَيْهِ وَاسْتَرْعَاهُ لَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ } ، وَوَرَدَ : {
مَنْ خَانَ مَنْ ائْتَمَنَهُ فَأَنَا خَصْمُهُ } .
وَفِي الْحَدِيثِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا
خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةً مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ
مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا
ائْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .
وَرَوَى
أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { يَقُولُ اللَّهُ أَنَا ثَالِثُ
الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِذَا خَانَ
خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا } ، .
وَزَادَ رَزِينٌ : { وَجَاءَ الشَّيْطَانُ } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ
: { يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا } ،
وَهَذَا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ كِنَايَةٌ عَنْ إنْزَالِ الْبَرَكَةِ
وَالْحِفْظِ وَالنُّمُوِّ مَا دَامَا جَارِيَيْنِ عَلَى قَانُونِ
الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ ، وَعَنْ مَحْقِ الْبَرَكَةِ وَتَسْلِيطِ
الْآفَاتِ عَلَى الْمَالِ إذَا وَقَعَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا خِيَانَةٌ .
وَالْبَزَّارُ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ : { الْمُؤْمِنُ إذَا
حَدَّثَ صَدَقَ ، وَإِذَا عَاهَدَ لَمْ يَغْدِرْ ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ
لَمْ يَخُنْ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ
مِنْ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ بِخُصُوصِهِ لِأَنَّهُمْ
ذَكَرُوا مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يَشْمَلُهُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي
فِي مَوَاضِعَ .
وَسَيَأْتِي فِي الْوَدِيعَةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ .
(
الْكَبِيرَةُ الْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : الْإِقْرَارُ
لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ كَذِبًا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " الْإِضْرَارُ فِي
الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ " .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : الصَّحِيحُ وَقْفُهُ .
وَرَوَى
أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً وَإِذَا
أَوْصَى جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ
فَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ
بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو
هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } إلَى
قَوْلِهِ : { عَذَابٌ مُهِينٌ } } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أَوْ الْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ
يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا
النَّارُ ، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } إلَى قَوْلِهِ : { الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ } } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ
كَثِيرُونَ وَمِنْهُ مَا ذَكَرْته هُنَا ، وَسَيَأْتِي تَتْمِيمُهُ فِي
بَابِ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي أَشَارَ
إلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ .
تَرْكُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ أَوْ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْوَرَثَةِ مَنْ يُثْبِتُ بِقَوْلِهِ وَعَدِّي لِهَذَا كَبِيرَةً ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِقْرَارِ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِيهِ تَسَبُّبٌ ظَاهِرٌ إلَى ضَيَاعِ حَقِّ الْغَيْرِ وَضَيَاعُ حَقِّ الْغَيْرِ كَبِيرَةٌ ، فَكَذَا التَّسَبُّبُ إلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ ، وَسَيَأْتِي فِي عَاصِرِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ مَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ .
الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ الْإِقْرَارُ بِنَسَبٍ كَذِبًا أَوْ
جَحْدُهُ كَذَلِكَ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَفَرَ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ
دَقَّ أَوْ ادَّعَى نَسَبًا لَا يُعْرَفُ } .
وَعَمْرُو بْنِ شُعَيْبِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِيهِ
كَلَامٌ طَوِيلٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَوْثِيقِهِ وَعَلَى الِاحْتِجَاجِ
بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي
الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَثَّقَهُ
كَثِيرُونَ وَبَالَغُوا فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ .
عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
ادَّعَى نَسَبًا لَا يُعْرَفُ كَفَرَ بِاَللَّهِ ، وَمَنْ انْتَفَى مِنْ
نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ كَفَرَ بِاَللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ : { إنَّ
لِلَّهِ عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قِيلَ
وَمَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ مُتَبَرِّئٌ مِنْ
وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا ، وَمُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ ، وَرَجُلٌ
أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ }
وَالْمُرَادُ الْإِنْعَامُ بِالْعِتْقِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَنْ
تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ } .
تَنْبِيهٌ : ثَبَتَ بِهَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ جِدًّا مَا ذَكَرْته وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ
بِهِ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ ذَيْنِك كَبِيرَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا
مِرْيَةَ فِيهِ لِعِظَمِ ضَرَرِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَتَغْيِيرِ مَا شَرَعَهُ
اللَّهُ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ إذَا أُنْكِرَ كَذِبًا
صَارَ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا جُعِلَ وَلَدًا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْوَلَدِ ظَاهِرًا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى ، ثُمَّ رَأَيْت الْجَلَالَ الْبُلْقِينِيَّ عَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ ادِّعَاءَ الْأَبِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ وَاسْتَدَلَّ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { مَنْ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : اسْتِعْمَالُ الْعَارِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَعَارَهَا لَهَا أَوْ إعَارَتُهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا أَوْ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِمَنْعِهَا أَوْ اسْتِعْمَالِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِهَا وَتَصْرِيحِي بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كَبَائِرُ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْغَصْبِ وَالظُّلْمِ الْآتِيَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَبِيرَةٌ إجْمَاعًا إذْ فِيهِ ظُلْمٌ لِلْمَالِكِ ، وَاسْتِيلَاءٌ عَلَى حَقِّهِ وَمَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ تَشْمَلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ وَنَحْوَهَا .
الْكَبِيرَةُ
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : الْغَصْبُ ،
وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ظُلْمًا أَخْرَجَ
الشَّيْخَانِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ
شِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ : أَيْ قَدْرَهُ ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } .
قِيلَ أَرَادَ طَوْقَ التَّكْلِيفِ لَا طَوْقَ التَّقْلِيدِ ، وَهُوَ أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ يُخْسَفُ بِهِ الْأَرْضُ فَتَصِيرُ الْبُقْعَةُ فِي عُنُقِهِ كَالطَّوْقِ .
وَمِمَّا
يُصَرِّحُ بِهِ خَبَرُ الطَّبَرَانِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ الْآتِي
قَرِيبًا ، وَخَبَرُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { مَنْ أَخَذَ مِنْ
الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى
سَبْعِ أَرَضِينَ } .
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنْ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ إلَّا طَوَّقَهُ اللَّهُ إلَى سَبْعِ
أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ : { مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } .
وَأَحْمَدُ
وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَيُّمَا رَجُلٍ
ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ كَلَّفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ
يَحْفِرَ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ سَبْعَ أَرَضِينَ ثُمَّ يُطَوِّقَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ أَخَذَ أَرْضًا بِغَيْرِ حَقِّهَا كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إلَى الْمَحْشَرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
فِي الْكَبِيرِ : { مَنْ ظَلَمَ مِنْ الْأَرْضِ شِبْرًا كُلِّفَ أَنْ
يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءَ ، ثُمَّ يَحْمِلَهُ إلَى الْمَحْشَرِ
} .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ لَا يُقْبَلُ
مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : قُلْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ ظُلْمٍ أَظْلَمُ ، فَقَالَ : ذِرَاعٌ مِنْ
الْأَرْضِ يَنْتَقِصُهَا الْمَرْءُ
الْمُسْلِمُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ
فَلَيْسَ حَصَاةٌ مِنْ الْأَرْضِ يَأْخُذُهَا إلَّا طُوِّقَهَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إلَى قَعْرِ الْأَرْضِ ، وَلَا يَعْلَمُ قَعْرَهَا إلَّا
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهَا } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : {
أَعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللَّهِ ذِرَاعٌ فِي الْأَرْضِ تَجِدُونَ
الرَّجُلَيْنِ جَارَيْنِ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الدَّارِ فَيَقْتَطِعُ
أَحَدُهُمَا مِنْ حَظِّ صَاحِبِهِ ذِرَاعًا إذَا اقْتَطَعَهُ طُوِّقَهُ
مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ غَصَبَ رَجُلًا أَرْضًا ظُلْمًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ : { مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ
شِبْرًا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ
} .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا
أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } .
قَالَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ .
تَنْبِيهٌ : اعْتَبَرَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ فِي كَوْنِ الْغَصْبِ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ رُبْعَ دِينَارٍ .
وَحَكَى الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ .
وَعَنْ الْجُبَّائِيِّ أَنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْلُغَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ .
وَعَنْ الْجُبَّائِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ اشْتَرَطَ بُلُوغَهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ .
وَعَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا بُلُوغَهُ دِرْهَمًا .
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : إنْ كَانَ شَيْئًا تَافِهًا فَصَغِيرَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَهُ لَا غِنَى بِهِ عَنْهُ فَكَبِيرَةٌ .
قَالَ
الْأَذْرَعِيُّ : وَاشْتِرَاطُ رُبْعِ دِينَارٍ هُوَ مَا فِي إشْرَافِ
الْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَنُسَخِ الرَّافِعِيِّ الصَّحِيحَةِ وَوَقَعَ
فِي نُسَخٍ مِنْهُ وَفِي الرَّوْضَةِ أَنْ يَبْلُغَ دِينَارًا وَهُوَ
تَحْرِيفٌ مِنْ نَاقِلِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : كَوْنُ شَهَادَةِ الزُّورِ كَبِيرَةً كَمَا فِي
الْخَبَرِ
ظَاهِرٌ إنْ وَقَعَتْ فِي مَالٍ خَطِيرٍ ، فَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَالٍ
يَسِيرٍ كَزَبِيبَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ
الْكَبَائِرِ فَطْمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ، كَمَا جُعِلَ شُرْبُ
قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ
، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْبَطَ ذَلِكَ الْمَالُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي مَا سَبَقَ عَنْ الْهَرَوِيِّ .
وَقَالَ
فِي التَّوَسُّطِ : وَأَلْحَقَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ
أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ مِنْ
الْكَبَائِرِ ، كَأَخْذِهَا رِشْوَةً ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ
يَبْلُغَ ذَلِكَ رُبْعَ دِينَارٍ أَوْ لَا ، وَكَذَا أَطْلَقَ صَاحِبُ
الْعُدَّةِ أَكْلَ مَالِ الْيَتَامَى وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ وَجَرَى عَلَى
إطْلَاقِهِ فِيهَا وَفِي الْخِيَانَةِ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ
الشَّيْخَانِ .
وَفِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَذَلِكَ يُورِثُ ضَعْفَ التَّقْيِيدِ فِي الْمَغْصُوبِ بِرُبْعِ دِينَارٍ انْتَهَى .
وَقَالَ
أَيْضًا : وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعُدَّةِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ كَبِيرَةٌ ،
قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْعِ الْقَلِيلِ مِنْهَا
وَالْكَثِيرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ .
وَقِيَاسُ اعْتِبَارِ الْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ رُبْعَ دِينَارٍ أَنَّ مَنْعَ مَا دُونَ ذَلِكَ .
لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ ، وَلَكِنَّهُ تَحْدِيدٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ : لَا مُسْتَنَدَ لَهُ ظَاهِرٌ .
بَلْ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ غَصْبَ الْحَبَّةِ وَسَرِقَتَهَا كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
وَيُوَافِقُهُ
قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ
أَكَلَ مَالًا حَرَامًا ، وَلَوْ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ أَكْلٍ
فَسَقَ .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ
الْمُعْتَزِلَةِ : يَفْسُقُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَابْنُ الْجُبَّائِيِّ
بِدِرْهَمٍ فَصَاعِدًا انْتَهَى .
وَكَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ لَمْ يَعْتَدَّ بِمُقَابَلَةِ الْبَغَوِيِّ وَالْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا السَّابِقَةِ لِضَعْفِ
مَدْرَكِهَا وَلِأَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهَا كَمَا تَقَرَّرَ .
إذْ
الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي وَعِيدِ الْغَاصِبِ وَشَاهِدِ الزُّورِ
وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالرِّشْوَةِ وَالْمُطَفِّفِ وَالسَّارِقِ
وَمَانِعِ الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ فَتَتَنَاوَلَ قَلِيلَ ذَلِكَ
وَكَثِيرَهُ ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ إذْ
الْحُكْمُ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمُقْتَضِي لِلْكَبِيرَةِ عَلَى
أَحَدِ التَّعَارِيفِ السَّابِقَةِ إنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ ،
فَإِذَا صَحَّ وَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ
بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَجَبَ إجْرَاءُ ذَلِكَ عَلَى إطْلَاقِهِ
وَعَدَمُ تَقْيِيدِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ سَمْعِيٌّ أَيْضًا ،
وَحَيْثُ لَا دَلِيلَ لِذَلِكَ فَلَا مُسْتَنَدَ لِذَلِكَ التَّحْدِيدِ
كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، فَبَانَ أَنَّ الْوَجْهَ أَنَّ ذَلِكَ
الْقَيْدَ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا ضَعِيفٌ وَأَنَّ
الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِكَوْنِهَا
كَبَائِرَ وَأَنَّ فَاعِلَهَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ
بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنْهَا وَالْكَثِيرِ .
نَعَمْ الشَّيْءُ التَّافِهُ
جِدًّا الَّذِي تَقْضِي الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ بِهِ كَزَبِيبَةٍ
أَوْ عِنَبَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ غَصْبَهُ صَغِيرَةٌ ، لَكِنَّ
الْإِجْمَاعَ السَّابِقَ ذِكْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الَّذِي
إنْ لَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَمَلْنَاهُ عَلَى إجْمَاعِ
الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ
ذَلِكَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا ، لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ وَحُقُوقَهُمْ
وَإِنْ قَلَّتْ لَا يُسَامَحُ فِيهَا بِشَيْءٍ نَعَمْ غَصْبُ نَحْوِ
كَلْبِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ
وَهُوَ مُحْتَمَلٌ .
وَلَمَّا ذَكَرَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ
بَعْضَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي غَصْبِ الْأَرْضِ قَالَ : هَلْ
يُلْحَقُ بِالْأَرْضِ غَيْرُهَا إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فِي
التَّحْرِيمِ ، فَكَمَا اسْتَوَيَا فِي التَّحْرِيمِ اسْتَوَيَا فِي
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ أَوْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْغَصْبَ فِي الْأَرْضِ
يَعْظُمُ ضَرَرُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهَا ، هَذَا
مَوْضِعُ نَظَرٍ ،
وَقَدْ يُحْتَجُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ : { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا { رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ
أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ }
فَقَدْ تَوَعَّدَ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي غَصْبِ حَقِّهِ مِنْ
الْأُجْرَةِ انْتَهَى .
وَهَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ نَظَرًا لِلدَّلِيلِ
وَإِلَّا فَالْأَصْحَابُ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِ
الْغَصْبِ كَبِيرَةً بَيْنَ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ .
عَلَى
أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَلَالَ لَمْ يَرَ الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ
الَّذِي ذَكَرْته قُبَيْلَ التَّنْبِيهِ إذْ هُوَ مُصَرِّحٌ فِي الْعَصَا
بِمَا يُفِيدُ الْوَعِيدَ ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى الْحَدِيثِ الَّذِي
ذَكَرَهُ فِي الْأُجْرَةِ أَفَادَ أَنَّ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ جَاءَ فِي
غَيْرِ الْأَرْضِ أَيْضًا .
( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ
وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : تَأْخِيرُ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ
أَوْ مَنْعُهُ مِنْهَا بَعْدَ فَرَاغِ عَمَلِهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْت
خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ
حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ أُسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى
مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ
وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَعْطُوا
الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ } .
تَنْبِيهٌ : مَا
ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ مِمَّا مَرَّ
فِي الْغَصْبِ وَمَطْلِ الْغَنِيِّ ، وَلِوُرُودِ هَذَا الْوَعِيدِ
الشَّدِيدِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ أَفْرَدْته بِالذِّكْرِ ، ثُمَّ رَأَيْتَ
بَعْضَهُمْ عَدَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ كَمَا
فَعَلْتُ .
مَرَّ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ مَنْعَ فَضْلِ الْمَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ .
الْبِنَاءُ بِعَرَفَةَ أَوْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ مِنًى عِنْدَ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ وَذِكْرُ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ غَصْبِ الْأَرْضِ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَمَا مَرَّ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، فَيَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِيمَنْ فَعَلَ هَذَا مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ .
مَنْعُ النَّاسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ
لَهُمْ عَلَى الْعُمُومِ أَوْ الْخُصُوصِ كَالْأَرْضِ الْمَيْتَةِ الَّتِي
يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ إحْيَاؤُهَا ، وَكَالشَّوَارِعِ وَالْمَسَاجِدِ
وَالرُّبُطِ وَالْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ أَوْ الظَّاهِرَةِ فَمَنْعُ
وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ عَنْ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ مِنْ الْوَجْهِ الْجَائِزِ
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْغَصْبِ ، فَهُوَ
كَمَا لَوْ مُنِعَ الْإِنْسَانُ مِنْ مِلْكِهِ إذْ اسْتِحْقَاقُهُ
لِلِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَاسْتِحْقَاقِهِ لِلِانْتِفَاعِ
بِمِلْكِهِ .
فَكَمَا أَنَّ مَنْعَ الْمِلْكِ كَبِيرَةٌ فَكَذَا مَنْعُ هَذَا .
إكْرَاءُ شَيْءٍ مِنْ الشَّارِعِ وَأَخْذُ أُجْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ حَرِيمَ مِلْكِهِ أَوْ دُكَّانَهُ وَعَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالُوا إنَّهُ فِسْقٌ وَضَلَالٌ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِيمَا يَفْعَلُهُ وُكَلَاءُ بَيْتِ الْمَالِ فِي الشَّوَارِعِ مِنْ نَحْوِ أَخْذِ أَجْرِهِ مِنْ الْجَالِسِينَ فِيهَا : لَا أَدْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ يَلْقَى اللَّهَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ .
الِاسْتِيلَاءُ
عَلَى مَاءٍ مُبَاحٍ وَمَنْعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ } .
الْحَدِيثَ ، وَقَدْ مَرَّ وَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ
: هَذَا هُوَ صَرِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلِذَا جَزَمَ كَثِيرُونَ
بِعَدِّ ذَلِكَ كَبِيرَةً ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَنْعٍ
يُؤَدِّي إلَى تَضَرُّرٍ شَدِيدٍ ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْمَنْعِ
وَالتَّضَرُّرِ الْخَفِيفِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ كَبِيرَةً .
( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : مُخَالَفَةُ شَرْطِ الْوَاقِفِ ) وَذِكْرِي لِهَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ ، لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، وَهُوَ كَبِيرَةٌ .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي اللُّقَطَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَرَائِطِ تَعْرِيفِهَا ، وَتَمَلُّكِهَا ، وَكَتْمِهَا مِنْ رَبِّهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ ، وَكَوْنُ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ
وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : تَرْكُ الْإِشْهَادِ عِنْدَ
أَخْذِ اللَّقِيطِ ) وَكَوْنُ هَذِهِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ
الزَّرْكَشِيُّ ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرْته فِي الْبَابِ
الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ
لِأَنَّهَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ هَذَا لِعِظَمِ مَفَاسِدِهَا ، وَإِنْ
كَانَ فِي هَذِهِ مَفْسَدَةٌ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ
رُبَّمَا أَدَّاهُ إلَى ادِّعَاءِ رِقِّهِ ، فَإِذَا كَانَ مَا يُؤَدِّي
إلَى مَفْسَدَةٍ هِيَ ادِّعَاءُ الرِّقِّ كَبِيرَةً لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي
إلَى كَبِيرَةٍ وَهِيَ ادِّعَاءُ رِقِّ الْحُرِّ وَلَوْ بِطَرِيقِ
الْأَصَالَةِ وَالدَّار كَمَا فِي اللَّقِيطِ فَإِنَّ الْحُكْمَ
بِحُرِّيَّتِهِ إنَّمَا هُوَ كَذَلِكَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ
حُكْمُ الْمَقَاصِدِ فَأَوْلَى مَا ذَكَرْته مِمَّا سَبَقَ فَإِنَّهُ
بِنَفْسِهِ مَفْسَدَةٌ أَيُّ مَفْسَدَةٍ ، أَوْ يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَةٍ
أَعْظَمَ أَوْ أَقْرَبَ وُقُوعًا مِنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ .
فَبِهَذَا
يَتَّضِحُ لَك عَدِّي لِكَثِيرٍ مِمَّا سَبَقَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ
لَمْ يَذْكُرُوهُ ، أَوْ ذَكَرُوا مَا قَدْ يُوهِمُ خِلَافَهُ ،
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ
الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ
وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ )
قَالَ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ
غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أَيْ فِي
شَأْنِ الْمَوَارِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْأَحْسَنُ
بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أَيْ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ مِنْ
الْمَوَارِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَفِيهِ مَا مَرَّ : {
يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا } أَيْ أَبَدًا إنْ اسْتَحَلَّ
وَإِلَّا فَالْمُرَادُ بِالْخُلُودِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ { وَلَهُ
عَذَابٌ مُهِينٌ } أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ
الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى
عَقَّبَهُ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَذَا قِيلَ وَفِيهِ قُصُورٌ ،
عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ خَرَّجَ النَّسَائِيُّ عَنْهُ { عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْإِضْرَارُ فِي
الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ } ثُمَّ تَلَا : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
} { فَقَدْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ
الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَسِيَاقُ الْآيَةِ
شَاهِدٌ لِذَلِكَ ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا
وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ } .
قَالَ ابْنُ
عَادِلٍ فِي تَفْسِيرِهِ : اعْلَمْ أَنَّ الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ
يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ : مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ،
أَوْ يُقِرَّ بِكُلِّ مَالِهِ أَوْ بَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ ، أَوْ يُقِرَّ
عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ دَفْعًا لِلْمِيرَاثِ عَنْ
الْوَرَثَةِ ، أَوْ يُقِرَّ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى
فُلَانٍ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ ، أَوْ يَبِيعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ رَخِيصٍ ،
وَيَشْتَرِي شَيْئًا بِثَمَنٍ غَالٍ كُلُّ ذَلِكَ لِغَرَضِ أَنْ لَا
يَصِلَ الْمَالُ
إلَى الْوَرَثَةِ ، أَوْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ لَا
لِوَجْهِ اللَّهِ لَكِنْ لِغَرَضِ تَنْقِيصِ الْوَرَثَةِ فَهَذَا هُوَ
الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ عَمَلَ
أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً وَحَافَ فِي وَصِيَّتِهِ خُتِمَ لَهُ
بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ
عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ
فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ } .
{
وَقَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ : مَنْ قَطَعَ
مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ } .
وَيَدُلُّ
عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ : { تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ } قَالَ ، ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْوَصِيَّةِ : { وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ : وَأَيْضًا
فَمُخَالَفَةُ أَمْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ الْمَوْتِ تَدُلُّ
عَلَى الْخَسَارَةِ الشَّدِيدَةِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ
انْتَهَى .
وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الزَّرْكَشِيُّ ، فَإِنَّ
بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ : رَأَيْت بِخَطِّ الزَّرْكَشِيّ مَا
لَفْظُهُ وَسَاقَ مَا ذَكَرْته عَنْ ابْنِ عَادِلٍ جَمِيعَهُ إلَّا
قَلِيلًا مِنْهُ ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْ الزَّرْكَشِيّ فَإِنَّ مَا
أَطْلَقَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَأْتِي عَلَى
قَوَاعِدِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ فَضْلًا
عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
نَعَمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْرُمُ
عَلَيْهِ ذَلِكَ إنْ قَصَدَ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ ، وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ
أَوْصَى لَهُ يَسْتَوْلِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ظُلْمًا
وَعُدْوَانًا ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُعَدَّ وَصِيَّتُهُ
حِينَئِذٍ كَبِيرَةً لِأَنَّ فِيهِ أَبْلَغَ الْإِضْرَارِ بِالْوَرَثَةِ
سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَصْدُقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ،
وَيَتُوبُ فِيهَا الْفَاجِرُ ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ
ظَاهِرٌ عَلَى قَسْوَةِ قَلْبِهِ وَفَسَادِ لُبِّهِ ، وَغَايَةِ
جُرْأَتِهِ
، فَلِذَلِكَ يُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ كَمَا
مَرَّ فِي الْحَدِيثِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ الْإِقْرَارِ
ظَاهِرٌ وَقَدْ قَدَّمْت الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ ،
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ يُقَيِّدُهُ الَّذِي
ذَكَرَهُ .
يَأْتِي فِيهِ مَا قَدَّمْته فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ .
وَمِنْ
الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُوصِيَ عَلَى نَحْوِ أَطْفَالِهِ
مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَالَهُمْ أَوْ يَكُونُ
سَبَبًا لِضَيَاعِهِ لِكَوْنِهِ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ ، وَمَا ذَكَرْته مِنْ الْحَدِيثَيْنِ فَالْأَوَّلُ رَوَاهُ
ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى خَانَ فِي وَصِيَّتِهِ
فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ الْعَمَلِ فَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً
فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ
الْجَنَّةَ } .
وَالثَّانِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا بِلَفْظِ :
{ مَنْ فَرَّ بِمِيرَاثِ وَارِثِهِ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ
الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } : وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ خَبَرُ أَبِي
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أَوْ الْمَرْأَةَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا
الْمَوْتُ فَيَضُرَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ ثُمَّ
قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ }
حَتَّى بَلَغَ { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } } .
تَتِمَّةٌ : يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِالْوَصِيَّةِ بِالْعَدْلِ .
أَمَّا
الثَّانِي فَلِمَا ذُكِرَ ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ
وَغَيْرِهِمَا : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ
يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { ثَلَاثَ لَيَالٍ
إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } ، .
قَالَ
ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " مَا مَضَتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ
مُنْذُ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّةٌ مَكْتُوبَةٌ ، وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ مَاتَ
عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ وَمَاتَ عَلَى تُقًى
وَشَهَادَةٍ وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
: { تَرْكُ الْوَصِيَّةِ عَارٌ فِي الدُّنْيَا وَنَارٌ وَشَنَارٌ فِي
الْآخِرَةِ } ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ
تَرْكَ الْوَصِيَّةِ كَبِيرَةٌ .
وَحِينَئِذٍ فَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ
عَلِمَ أَنَّ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ
الظَّلَمَةِ عَلَى مَالِهِ وَأَخْذِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ .
وَرَوَى أَبُو
دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ
فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ
عِنْدَ مَوْتِهِ بِمِائَةٍ } .
( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ
بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : الْخِيَانَةُ فِي الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ
وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ أَوْ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ) {
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ
الْحَجَبِيِّ الدَّارِيِّ ، كَانَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ ،
فَلَمَّا دَخَلَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ أَغْلَقَ
بَابَ الْكَعْبَةِ وَامْتَنَعَ مِنْ إعْطَاءِ مِفْتَاحِهَا ، زَاعِمًا
أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا مَنَعَهُ ، فَلَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ
وَأَخَذَهُ مِنْهُ وَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَصَلَّى فِيهَا .
فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلَهُ الْعَبَّاسُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِفْتَاحَ لِيَجْتَمِعَ لَهُ
السِّدَانَةُ مَعَ السِّقَايَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ ، فَأَمَرَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَى
عُثْمَانَ وَيَعْتَذِرَ إلَيْهِ .
فَقَالَ لَهُ أَكْرَهْت وَآذَيْت
ثُمَّ جِئْت تَرْفُقُ فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِك
قُرْآنًا وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ فَأَسْلَمَ وَكَانَ الْمِفْتَاحُ
مَعَهُ ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَعَهُ إلَى أَخِيهِ شَيْبَةَ ، فَالسِّدَانَةُ
فِي أَوْلَادِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا
مِنْكُمْ إلَّا ظَالِمٌ } وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ جَمِيعُ
الْأَمَانَاتِ .
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ :
وَمِمَّنْ قَالَ إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ الْبَرَاءُ بْنُ
عَازِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالُوا : الْأَمَانَةُ
فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ وَالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْوَدَائِعِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُرَخِّصْ اللَّهُ لِمُعْسِرٍ وَلَا لِمُوسِرٍ أَنْ يَمْسِكَ الْأَمَانَةَ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْجَ الْإِنْسَانِ وَقَالَ هَذِهِ أَمَانَةٌ
خَبَّأْتهَا عِنْدَك فَاحْفَظْهَا إلَّا بِحَقِّهَا .
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : مُعَامَلَةُ الْإِنْسَانِ أَمَانَةٌ مَعَ رَبِّهِ بِفِعْلِ
الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ ، وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي
كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ أَمَانَةٌ .
فَأَمَانَةُ
اللِّسَانِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَلَا نَمِيمَةٍ
وَلَا بِدْعَةٍ وَلَا فُحْشٍ وَلَا نَحْوِهَا .
وَالْعَيْنِ أَنْ لَا يَنْظُرَ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ .
وَالْأُذُنِ أَنْ لَا يُصْغِيَ بِهَا إلَى سَمَاعِ مُحَرَّمٍ ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ .
وَأَمَّا
مَعَ النَّاسِ بِنَحْوِ رَدِّ الْوَدَائِعِ ، وَتَرْكِ التَّطْفِيفِ فِي
كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ ، وَبِعَدْلِ الْأُمَرَاءِ فِي
الرَّعِيَّةِ ، وَالْعُلَمَاءِ فِي الْعَامَّةِ بِأَنْ يَحْمِلُوهُمْ
عَلَى الطَّاعَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالِاعْتِقَادَاتِ
الصَّحِيحَةِ ، وَيَنْهَوْهُمْ عَنْ الْمَعَاصِي وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ ،
كَالتَّعَصُّبَاتِ الْبَاطِلَةِ ، وَالْمَرْأَةِ فِي حَقِّ زَوْجِهَا
بِأَنْ لَا تَخُونَهُ فِي فِرَاشِهِ أَوْ مَالِهِ وَالْقِنِّ فِي حَقِّ
سَيِّدِهِ بِأَنْ لَا يُقَصِّرَ فِي خِدْمَتِهِ ، وَلَا يَخُونَهُ فِي
مَالِهِ .
وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ } .
وَأَمَّا مَعَ النَّفْسِ بِأَنْ لَا يَخْتَارَ لَهَا
إلَّا الْأَنْفَعَ وَالْأَصْلَحَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَأَنْ
يَجْتَهِدَ فِي مُخَالَفَةِ شَهَوَاتِهَا وَإِرَادَاتِهَا فَإِنَّهَا
السُّمُّ النَّاقِعُ الْمُهْلِكُ لِمَنْ أَطَاعَهَا فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ .
{ قَالَ أَنَسٌ : قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَالَ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا
أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } .
وَقَالَ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَصَرَهُمْ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا يَمِيلُونَ إلَى
أَبِي لُبَابَةَ لِكَوْنِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِيهِمْ .
فَقَالُوا
لَهُ : هَلْ تَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ ؟ فَأَشَارَ
بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ : أَيْ إنَّهُ الذَّبْحُ فَلَا تَفْعَلُوا ،
فَكَانَتْ تِلْكَ مِنْهُ خِيَانَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ .
قَالَ
فَمَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى عَلِمْت أَنِّي قَدْ
خُنْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ وَرَبَطَ
نَفْسَهُ ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يَحِلَّهَا أَحَدٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ لَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى
أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ فَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : {
وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } عَطْفٌ عَلَى النَّهْيِ أَيْ وَلَا
تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْأَمَانَاتُ الْأَعْمَالُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْعِبَادَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : أَمَّا خِيَانَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَعْصِيَتُهُمَا .
وَأَمَّا
خِيَانَةُ الْأَمَانَاتِ فَكُلُّ أَحَدٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا كَلَّفَهُ
اللَّهُ بِهِ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُوقِفُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَيْسَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَسَائِلُهُ عَنْ ذَلِكَ هَلْ حَفِظَ
أَمَانَةَ اللَّهِ فِيهِ أَوْ ضَيَّعَهَا ؟ فَلْيَسْتَعِدَّ الْإِنْسَانُ
بِمَاذَا يُجِبْ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ إذَا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ لَا مَسَاغَ لِلْجَحْدِ وَلَا لِلْإِنْكَارِ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ ، وَلْيَتَأَمَّلْ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } أَيْ لَا يُرْشِدُ كَيْدَ مَنْ خَانَ
أَمَانَتَهُ بَلْ يَحْرِمُهُ هِدَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَيَفْضَحُهُ
عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْعُقْبَى ، فَالْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ
فِي كُلِّ شَيْءٍ ، لَكِنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ ،
إذْ مَنْ خَانَك فِي فَلْسٍ لَيْسَ كَمَنْ خَانَك فِي أَهْلِك .
وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْرَ الْأَمَانَةِ تَعْظِيمًا بَلِيغًا ، وَأَكَّدَهُ تَأْكِيدًا شَدِيدًا .
فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } أَيْ التَّكَالِيفَ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا
عِبَادَهُ
مِنْ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي { عَلَى
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } أَيْ آدَم صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
} أَيْ لِنَفْسِهِ بِقَبُولِهِ تِلْكَ التَّكْلِيفَاتِ الشَّاقَّةِ جِدًّا
{ جَهُولًا } أَيْ بِمَشَقَّتِهَا الَّتِي لَا تَتَنَاهَى .
وَرُوِيَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الدُّنْيَا كَالْبُسْتَانِ ، وَزَيَّنَهَا
بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ : بِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَدْلِ الْأُمَرَاءِ ،
وَعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ ، وَنَصِيحَةِ الْمُسْتَشَارِ ، وَأَدَاءِ
الْأَمَانَةِ .
فَقَرَنَ إبْلِيسُ مَعَ الْعِلْمِ الْكِتْمَانَ ،
وَمَعَ الْعَدْلِ الْجَوْرَ ، وَمَعَ الْعِبَادَةِ الرِّيَاءَ ، وَمَعَ
النَّصِيحَةِ الْغِشَّ ، وَمَعَ الْأَمَانَةِ الْخِيَانَةَ : وَفِي
الْحَدِيثِ : { يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ
الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } .
وَفِيهِ أَيْضًا : { أَوَّلُ مَا
يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ الْأَمَانَةُ ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلَاةُ ،
وَرُبَّ مُصَلٍّ وَلَا خَيْرَ فِيهِ } وَذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ النَّارِ { رَجُلًا لَازَمَهُ
طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إلَّا خَانَهُ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى
وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { تَقَبَّلُوا لِي سِتًّا أَتَقَبَّلْ
لَكُمْ الْجَنَّةَ ، إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ ، وَإِذَا
وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ } .
وَأَحْمَدُ
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : {
اضْمَنُوا لِي سِتًّا أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ ، اُصْدُقُوا إذَا
حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إذَا
اُؤْتُمِنْتُمْ } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ : {
اُكْفُلُوا لِي سِتًّا أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ : الصَّلَاةَ
وَالزَّكَاةَ وَالْأَمَانَةَ وَالْفَرْجَ وَالْبَطْنَ وَاللِّسَانَ } .
وَمُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ عَنْ { حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَمَانَةَ
نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ
، أَيْ بِفَتْحِ الْجِيمِ
وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ أَصْلُهَا ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا
مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ
رَفْعِ الْأَمَانَةِ فَقَالَ : يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ
الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا فِي قَلْبِهِ مِثْلُ
الْوَكْتِ : أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَوْقِيَّةٍ : الْأَثَرُ
الْيَسِيرُ ، ثُمَّ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ
مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ : أَيْ بِفَتْحٍ
فَسُكُونٍ لِلْجِيمِ تَنَفُّطُ الْيَدِ مِنْ الْعَمَلِ وَغَيْرِهِ ،
كَجَمْرٍ دَحْرَجْته عَلَى رِجْلِك فَنَفَطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِزًا : أَيْ
بِالزَّايِ مُرْتَفِعًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طَهُورَ لَهُ } الْحَدِيثَ .
وَالْبَزَّارُ
عَنْ { عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَطَلَعَ عَلَيْنَا
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَلْيَنِهِ ؟ فَقَالَ
: أَلْيَنُهُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَشَدُّهُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ الْأَمَانَةُ
، إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا صَلَاةَ وَلَا
زَكَاةَ } الْحَدِيثَ .
وَالشَّيْخَانِ : { وَخَيْرُكُمْ قَرْنِي ،
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ
يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ،
يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ ،
وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { آيَةُ
الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ،
وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } ، زَادَ مُسْلِمٌ : { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى
وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } .
وَالشَّيْخَانِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ
فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ
مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا
اُؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ
غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .
وَأَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ { : كَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْجُوعِ
فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْخِيَانَةِ
فَإِنَّهَا بِئْسَ الْبِطَانَةُ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَّا قَالَ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا
دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ .
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً فَقَدْ حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ .
وَقِيلَ
وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا
، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا ، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ، وَأَطَاعَ
الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ ، وَعَقَّ أُمَّهُ ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ ، وَجَفَا
أَبَاهُ ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَكَانَ زَعِيمُ
الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ ،
وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ وَشُهِدَ بِالزُّورِ وَلُبِسَ الْحَرِيرُ
وَاُتُّخِذَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ
الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ ،
أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيَرْتَقِبُوا
عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا وَمَسْخًا وَخَسْفًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعَ
كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ .
} .
وَالْبَزَّارُ :
{ ثَلَاثٌ مُتَعَلِّقَاتٌ بِالْعَرْشِ : الرَّحِمُ تَقُولُ اللَّهُمَّ
إنِّي بِك فَلَا أُقْطَعُ ، وَالْأَمَانَةُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي
بِك فَلَا أُخَانُ ، وَالنِّعْمَةُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي بِك فَلَا
أُكْفَرُ } .
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : " الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا
إلَّا الْأَمَانَةَ قَالَ : يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُ أَدِّ أَمَانَتَك
، فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتْ الدُّنْيَا ؟ فَيُقَالُ
انْطَلَقُوا بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ ، وَتُمَثَّلُ لَهُ الْأَمَانَةُ
كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ إلَيْهِ فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا
فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا فَيَحْمِلُهَا عَلَى
مَنْكِبِهِ ، حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ مَنْكِبِهِ
فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ ، ثُمَّ قَالَ :
الصَّلَاةُ أَمَانَةٌ وَالْوُضُوءُ أَمَانَةٌ وَالْوَزْنُ أَمَانَةٌ
وَالْكَيْلُ أَمَانَةٌ ، وَأَشْيَاءُ عَدَّدَهَا وَأَشَدُّ ذَلِكَ
الْوَدَائِعُ " .
قَالَ زَاذَانُ : فَأَتَيْت زَيْدَ بْنَ عَامِرٍ فَقُلْت أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ؟ قَالَ : كَذَا وَكَذَا .
قَالَ : صَدَقَ .
أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ،
وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ .
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ } ( قُرْآنٌ كَرِيمٌ ) .
كِتَابُ النِّكَاحِ (
الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
التَّبَتُّلُ : أَيْ تَرْكُ التَّزَوُّجِ ) وَعَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ
صَرِيحُ كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ
مِنْ إمَارَاتِ الْكَبِيرَةِ : اللَّعْنَ ، وَذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ فِي
بَابٍ عَقَدَهُ لِمَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { وَلَعَنَ اللَّهُ الْمُتَبَتِّلِينَ مِنْ
الرِّجَالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا نَتَزَوَّجُ ، وَالْمُتَبَتِّلَاتِ
اللَّاتِي يَقُلْنَ ذَلِكَ } ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَأْتِي عَلَى
قَوَاعِدِنَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَنَا عَلَى الْأَصَحِّ وُجُوبُ
النِّكَاحِ إلَّا بِالنَّذْرِ ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ
فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ كَأَنْ ظَنَّ مِنْ نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي
الزِّنَا وَنَحْوِهِ إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ فَلَا يُعَدُّ فِي عَدِّ
التَّبَتُّلِ لَهُ كَبِيرَةً عَلَى هَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى
الْمَهْرِ وَالْمُؤَنِ وَيَخْشَى ، بَلْ يَظُنُّ مِنْ نَفْسِهِ الزِّنَا
أَوْ نَحْوِهِ إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ فَتَرْكُ التَّزَوُّجِ حِينَئِذٍ
فِيهِ مَفَاسِدُ فَلَا يُعَدُّ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
(
الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالثَّالِثَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ وَالرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ
: نَظَرُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ مَعَ خَوْفِ فِتْنَةٍ ، وَلَمْسُهَا
كَذَلِكَ ، وَكَذَا الْخَلْوَةُ بِهَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا
مَحْرَمٌ لِأَحَدِهِمَا يَحْتَشِمُهُ ، وَلَوْ امْرَأَةٌ كَذَلِكَ وَلَا
زَوْجَ لِتِلْكَ الْأَجْنَبِيَّةِ ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ
مِنْ الزِّنَا مُدْرِكُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ؛ الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا
النَّظَرُ ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ ، وَاللِّسَانُ
زِنَاهُ الْكَلَامُ ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ ، وَالرِّجْلُ
زِنَاهَا الْخُطَا ، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ
الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : {
وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ ، وَالرِّجْلَانِ
تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ ، وَالْفَمُ يَزْنِي فَزِنَاهُ
الْقُبَلُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالْفَرْجُ يَزْنِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ }
- أَيْ بِنَحْوِ إبْرَةٍ أَوْ مِسَلَّةٍ وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ
وَفَتْحِ ثَالِثِهِ - { مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ
امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكُمْ
وَالْخَلْوَةَ بِالنِّسَاءِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَلَا
رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا دَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا ، وَلَأَنْ
يَزْحَمُ رَجُلًا خِنْزِيرٌ مُتَلَطِّخٌ بِطِينٍ أَوْ حَمَأَةٍ - أَيْ
طِينٍ أَسْوَدَ مُنْتِنٍ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْحَمَ مَنْكِبُهُ
امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ أَوْ لَيَكْشِفَنَّ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ : { يَا عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ
وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا ، أَيْ مَالِكٌ طَرَفَيْهَا السَّالِكُ فِي
جَمِيعِ
نَوَاحِيهَا تَشْبِيهًا بِذِي الْقَرْنَيْنِ ، فَإِنَّهُ قِيلَ إنَّمَا
سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَطْعِهِ الْأَرْضَ وَبُلُوغِهِ قَرْنَيْ الشَّمْسِ
شَرْقًا وَغَرْبًا .
فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ : {
النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ
مَخَافَتِي أَبْدَلْته إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ } .
وَأَحْمَدُ
: { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ
بَصَرَهُ إلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا فِي
قَلْبِهِ } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : إنَّمَا أَرَادَ إنْ صَحَّ -
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ
فَيَصْرِفُ بَصَرَهُ عَنْهَا تَوَرُّعًا .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : {
كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ
مَحَارِمِ اللَّهِ وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَيْنًا
خَرَجَ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَجْهُولًا : { ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى
أَعْيُنُهُمْ النَّارَ عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ
بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ كَفَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ
} .
وَصَحَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ
انْقِطَاعًا : { اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمْ
الْجَنَّةَ : اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ ،
وَأَدُّوا إذَا ائْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا
أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ
عَنْ جَرِيرٍ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : { اصْرِفْ بَصَرَك } .
وَصَحَّ : { مَا مِنْ صَبَاحٍ إلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ : وَيْلٌ لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ ، وَوَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ
الرِّجَالِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
: { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا
يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ } .
وَالشَّيْخَانِ : { إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ .
فَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْت الْحَمْوَ ؟
- أَيْ بِوَاوٍ وَهَمْزَةٍ أَوْ تَرْكِهِمَا : أَبُو الزَّوْجِ أَوْ
الزَّوْجَةِ وَمَنْ أَدْلَى بِهِ وَقِيلَ الْأَوَّلُ فَقَطْ وَهُوَ
الْمُرَادُ هُنَا ، وَقِيلَ الثَّانِي فَقَطْ - قَالَ : الْحَمْوُ
الْمَوْتُ } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يَعْنِي فَلْيَمُتْ وَلَا
يَفْعَلَنَّ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ هَذَا دَأْبُهُ فِي أَبِي الزَّوْجِ
وَهُوَ مَحْرَمٌ فَكَيْفَ بِالْغَرِيبِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ ،
لَكِنَّ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ
مُقَدَّمَاتِ الزِّنَا لَيْسَتْ كَبَائِرَ ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ
بِحَمْلِ هَذَا عَلَى مَا إذَا انْتَفَتْ الشَّهْوَةُ ، وَخَوْفُ
الْفِتْنَةِ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى مَا إذَا وُجِدَتَا فَمِنْ ثَمَّ
قَيَّدْت بِهِمَا الْأَوَّلَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ نَوْعُ اتِّجَاهٍ ،
وَأَمَّا إطْلَاقُ الْكَبِيرَةِ وَلَوْ مَعَ انْتِفَاءِ ذَيْنِك فَبَعِيدٌ
جِدًّا .
( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ
وَالسَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : فِعْلُ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ مَعَ الْأَمْرَدِ الْجَمِيلِ مَعَ الشَّهْوَةِ وَخَوْفِ
الْفِتْنَةِ ) وَعَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ بِنَاءً
عَلَى طَرِيقَةِ الْعَادِّينَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ
الْفِتْنَةَ بِالْأَمْرَدِ أَقْرَبُ وَأَقْبَحُ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا
يَأْتِي مِنْ عَدِّ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ كَبِيرَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ
فَكَذَا مُقَدَّمَاتُهُمَا .
ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ قَالَ :
أَقَرَّ الشَّيْخَانِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى أَشْيَاءَ عَدَّهَا
صَغَائِرَ : مِنْهَا النَّظَرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ
مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ وَأَمْرَدَ ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ
وَغَيْرُهُ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَهُ بِشَهْوَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَسَقَ
وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَكَذَا لَوْ عَاوَدَهُ عَبَثًا لَا لِشَهْوَةٍ
فِيهِ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ
بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ إذَا غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ
فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ تُخْرِجُ مِنْ الْعَدَالَةِ نَعَمْ لَوْ
ظَنَّ الْفِتْنَةَ ثُمَّ اقْتَحَمَ النَّظَرَ فَيَظْهَرُ كَوْنُهُ
كَبِيرَةً .
انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرَهُ آخِرًا مُوَافِقٌ لِمَا
بَحَثْته وَجَمَعْت بِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ،
وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ غَيْرُ كَبِيرَةٍ فَتَأَمَّلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
مُهِمٌّ ، وَإِنَّمَا قَيَّدْت هُنَا وَفِيمَا مَرَّ بِالشَّهْوَةِ
وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ لِيَقْرُبَ عَدُّ تِلْكَ السِّتَّةِ مِنْ
الْكَبَائِرِ كَمَا مَرَّ لَا لِكَوْنِ الْحُرْمَةِ مُقَيَّدَةٌ بِذَلِكَ
، فَإِنَّ الْأَصَحَّ حُرْمَةُ هَذِهِ كُلِّهَا مَعَ الْمَرْأَةِ
وَالْأَمْرَدِ وَلَوْ بِلَا شَهْوَةٍ وَإِنْ أَمِنَ الْفِتْنَةَ حَسْمًا
لِمَادَّةِ الْفَسَادِ مَا أَمْكَنَ ، إذْ لَوْ جَازَ نَحْوُ النَّظَرِ
وَلَوْ مَعَ الْأَمْنِ لَجَرَّ إلَى الْفَاحِشَةِ ، وَأَدَّى إلَى
الْفَسَادِ ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْإِعْرَاضَ
عَنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ وَسَدِّ بَابِ الْفِتْنَةِ وَمَا يُؤَدِّي
إلَيْهَا مُطْلَقًا ، وَمِنْ ثَمَّ حَرَّمَ أَئِمَّتُنَا النَّظَرَ
لِقُلَامَةِ
ظُفُرِ الْمَرْأَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَلَوْ مَعَ يَدِهَا بِنَاءً عَلَى
الْأَصَحِّ مِنْ حُرْمَةِ نَظَرِ الْيَدَيْنِ وَالْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا
عَوْرَةٌ فِي النَّظَرِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَوْ أَمَةً عَلَى الْأَصَحِّ
وَإِنْ كَانَا لَيْسَا عَوْرَةً مِنْ الْحُرَّةِ فِي الصَّلَاةِ ،
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ سَائِرُ مَا انْفَصَلَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ
الْبَعْضِ رُبَّمَا جَرَّ إلَى رُؤْيَةِ الْكُلِّ فَكَانَ اللَّائِقُ
حُرْمَةَ نَظَرِهِ مُطْلَقًا أَيْضًا ، وَكَمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى
الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَرَى شَيْئًا
مِنْهُ وَلَوْ بِلَا شَهْوَةٍ وَلَا خَوْفِ فِتْنَةٍ ، نَعَمْ إنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ بِنَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ نَظَرَ
كُلٌّ إلَى مَا عَدَا مَا بَيْنَ سُرَّةِ الْآخَرِ وَرُكْبَتَهُ وَحَلَّتْ
الْخَلْوَةُ لِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الْفَسَادِ حِينَئِذٍ ، وَكَذَا لَوْ
كَانَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا بِأَنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ ذَكَرِهِ
وَلَا بَقِيَتْ فِيهِ شَهْوَةٌ وَمَيْلٌ لِلنِّسَاءِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ
عَبْدُهَا وَهِيَ وَهُوَ ثِقَتَانِ عَدْلَانِ وَلَا يَكْفِي كَوْنُهُمَا
عَفِيفَيْنِ عَنْ الزِّنَا فَقَطْ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ صِفَةِ
الْعَدَالَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ الشَّيْخُ الْفَانِي
وَالْمَرِيضُ وَالْعِنِّينُ وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ كَذَلِكَ
فَيَحْرُمُ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ نَظَرُهَا وَعَلَيْهَا نَظَرُهُ
مُطْلَقًا كَالْفَحْلِ وَعَلَى وَلِيِّ الْمُرَاهِقِ وَالْمُرَاهِقَةِ
مَنْعُهُمَا مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْبَالِغُ وَالْبَالِغَةُ .
وَعَلَى
النِّسَاءِ الِاحْتِجَابُ مِنْهُ ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَنْ
تَحْتَجِبَ مِنْ الذِّمِّيَّةِ لِئَلَّا تَصِفَهَا إلَى فَاسِقٍ أَوْ
كَافِرٍ تُفْتَتَنُ بِهِ ، وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ الْفَاسِقَةُ بِزِنًا
أَوْ سِحَاقٍ فَيَجِبُ عَلَى الْعَفِيفَةِ الِاحْتِجَابُ مِنْهَا لِئَلَّا
تَجُرَّهَا إلَى مِثْلِ قَبَائِحِهَا ، وَإِذَا اضْطَرَّتْ الْمَرْأَةُ
إلَى مُدَاوَاةٍ أَوْ شَهَادَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ جَازَ نَظَرُهَا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ
الْمَبْسُوطَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَقَدْ قَدَّمْت
عَنْ
الْأَذْرَعِيِّ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ مَا يُصَرِّحُ بِمَا
ذَكَرَتْهُ فِي تِلْكَ السِّتِّ حَيْثُ قَالَ أَقَرَّ الشَّيْخَانِ
صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى عِدَّةِ أَشْيَاءَ مِنْ الصَّغَائِرِ ، وَفِيهَا
نَظَرٌ : مِنْهَا النَّظَرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ
أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ أَمْرَدَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ أَطْلَقَ
الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ
لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَكَذَا لَوْ عَاوَدَهُ
عَبَثًا لَا لِشَهْوَةٍ فِيهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْمُخْتَارُ
أَنَّهُ لَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ إذَا غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ
فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَبِيرَةً تُخْرِجُ عَنْ الْعَدَالَةِ .
نَعَمْ لَوْ ظَنَّ الْفِتْنَةَ ثُمَّ اقْتَحَمَ النَّظَرَ فَيَظْهَرُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً .
انْتَهَى .
وَرَأَيْت
بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَشَارَ لِمَا ذَكَرْته أَيْضًا حَيْثُ قَالَ :
وَالنَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى الْمَرْأَةِ وَالْأَمْرَدِ زِنًا لِمَا صَحَّ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ زِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ ، وَزِنَا
الْيَدِ الْبَطْشُ ، وَزِنَا الرِّجْلِ الْخُطَا وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى
وَتَشْتَهِي } .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ بَالَغَ الصَّالِحُونَ فِي
الْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُرْدِ وَعَنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَعَنْ
مُخَالَطَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ :
لَا تُجَالِسُوا أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا
كَصُوَرِ الْعَذَارَى وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ
بَعْضُ التَّابِعِينَ : مَا أَنَا بِأَخْوَفَ عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ
مِنْ سَبُعٍ ضَارٍ مِنْ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ يَقْعُدُ إلَيْهِ وَكَانَ
يَقُولُ : لَا يَبِيتَنَّ رَجُلٌ مَعَ أَمْرَدَ فِي مَكَان وَاحِدٍ ،
وَحَرَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْخَلْوَةَ مَعَ الْأَمْرَدِ فِي بَيْتٍ
أَوْ حَانُوتٍ أَوْ حَمَّامٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا خَلَا رَجُلٌ
بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } ، وَفِي الْمُرْدِ
مَنْ يَفُوقُ النِّسَاءَ بِحُسْنِهِ
فَالْفِتْنَةُ بِهِ أَعْظَمُ
وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يُمْكِنُ فِي
حَقِّ النِّسَاءِ وَيَسْهُلُ فِي حَقِّهِ مِنْ طُرُقِ الرِّيبَةِ
وَالشَّرِّ مَا لَا يَسْهُلُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَهُوَ بِالتَّحْرِيمِ
أَوْلَى .
وَأَقَاوِيلُ السَّلَفِ فِي التَّنْفِيرِ مِنْهُمْ
وَالتَّحْذِيرِ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ
وَسَمُّوهُمْ الْأَنْتَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَقْذَرُونَ شَرْعًا ،
وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ نَظَرُ الْمَنْسُوبِ إلَى الصَّلَاحِ
وَغَيْرِهِ .
وَدَخَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْحَمَّامَ فَدَخَلَ
عَلَيْهِ صَبِيٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ : أَخْرِجُوهُ عَنِّي فَإِنِّي
أَرَى مَعَ كُلِّ امْرَأَةٍ شَيْطَانًا وَمَعَ كُلِّ أَمْرَدَ سَبْعَةَ
عَشَرَ شَيْطَانًا .
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَعَهُ
صَبِيٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ لَهُ : مَنْ هَذَا مِنْك ؟ فَقَالَ
ابْنُ أُخْتِي .
قَالَ : لَا تَجِيءَ بِهِ إلَيْنَا مَرَّةً أُخْرَى ،
وَلَا تَمْشِ مَعَهُ بِطَرِيقٍ لِئَلَّا يَظُنُّ بِك مَنْ لَا يَعْرِفُك
وَيَعْرِفُهُ سُوءًا .
وَرُوِيَ لَكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ كَمَا عَبَّرَ
بِهِ بَعْضُهُمْ بَلْ وَاهٍ كَمَا عَبَّرَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
الْعَسْقَلَانِيُّ : { أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ
أَمْرَدُ حَسَنٌ فَأَجْلَسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ
ظَهْرِهِ وَقَالَ : إنَّمَا كَانَتْ فِتْنَةُ دَاوُد مِنْ النَّظَرِ } .
وَكَانَ يُقَالُ النَّظَرُ بَرِيدُ الزِّنَا .
وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ أَنَّهُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ .
(
الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : الْغِيبَةُ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهَا رِضًا وَتَقْرِيرًا )
.
قَالَ - تَعَالَى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ
قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ
مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ
الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ
الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ } وَالسُّخْرِيَةُ : النَّظَرُ إلَى الْمَسْخُورِ مِنْهُ بِعَيْنِ
النَّقْصِ : أَيْ لَا تَحْتَقِرْ غَيْرَك عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرًا مِنْك وَأَفْضَلَ وَأَقْرَبَ .
{ رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ وَلَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } .
وَقَدْ
احْتَقَرَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ - فَبَاءَ بِالْخَسَارِ الْأَبَدِيِّ وَفَازَ آدَم بِالْعِزِّ
الْأَبَدِيِّ ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِعَسَى يَصِيرُ : أَيْ لَا تَحْتَقِرْ غَيْرَك فَإِنَّهُ
رُبَّمَا صَارَ عَزِيزًا وَصِرْت ذَلِيلًا فَيَنْتَقِمُ مِنْك : لَا
تُهِينُ الْفَقِيرَ عَلَّك أَنْ تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ
رَفَعَهُ { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } : أَيْ لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ
عَلَى بَعْضٍ ، وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ وَغَيْرِهِ ، وَالْهَمْزُ
بِالْقَوْلِ فَقَطْ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْهَمْزَ بِالْعَيْنِ وَالشَّدْقِ وَالْيَدِ ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ .
قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : وَبَلَغَنِي عَنْ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ : اللُّمَزَةُ
الَّذِي يَعِيبُك فِي وَجْهِك ، وَالْهُمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك
بِالْغَيْبِ .
وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ مُجَاهِدٌ : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } الْهُمَزَةُ : الطَّعَّانُ فِي النَّاسِ
، وَاللُّمَزَةُ : الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاس وَالنَّبْزُ : الطَّرْحُ .
وَاللَّقَبُ
: مَا أَشَعَرَ بِرِفْعَةِ الْمُسَمَّى أَوْ ضِعَتِهِ : أَيْ لَا
تَتَرَامَوْا بِهَا وَهُوَ هُنَا أَنْ يُدْعَى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ مَا
سُمِّيَ بِهِ أَوْ بِنَحْوِ يَا مُنَافِقُ أَوْ يَا فَاسِقُ وَقَدْ تَابَ
مِنْ فِسْقِهِ أَقْوَالٌ أَوَّلَهَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ .
وَقُدِّمَتْ
السُّخْرِيَةُ ؛ لِأَنَّهَا أَبْلُغُ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَذِيَّةِ
لِاسْتِدْعَائِهَا تَنْقِيصَ ، الْمَرْءِ فِي حَضْرَتِهِ .
ثُمَّ
اللَّمْزُ ؛ لِأَنَّهُ الْعَيْبُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ ، وَهَذَا دُونَ
الْأَوَّلِ ثُمَّ النَّبْزُ وَهَذَا نِدَاؤُهُ بِلَقَبِهِ وَهُوَ دُونَ
الثَّانِي إذْ لَا يَلْزَمُ مُطَابَقَةُ مَعْنَاهُ لِلَقَبِهِ فَقَدْ
يُلَقَّبُ الْحَسَنُ بِالْقَبِيحِ وَعَكْسِهِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى
قَالَ لَا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِرُوا إخْوَانَكُمْ بِحَيْثُ لَا
تَلْتَفِتُوا إلَيْهِمْ أَصْلًا ، وَأَيْضًا فَلَا تَعِيبُوهُمْ طَلَبًا
لِحَطِّ دَرَجَتِهِمْ ، وَأَيْضًا فَلَا تُسَمُّوهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَهُ
؛ وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { أَنْفُسَكُمْ } عَلَى دَقِيقَةٍ
يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا ، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ
بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ الْوَاحِدِ إذْ اشْتَكَى بَعْضُهُ اشْتَكَى
كُلُّهُ .
فَمَنْ عَابَ غَيْرَهُ فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَابَ
نَفْسَهُ نَظَرًا لِذَلِكَ ، وَأَيْضًا فَتَعْيِيبُهُ لِلْغَيْرِ
تَسَبُّبٌ إلَى تَعْيِيبِ الْغَيْرِ لَهُ فَكَأَنَّهُ الَّذِي عَابَ
نَفْسَهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ الْخَبَرِ الْآتِي : { لَا يَسُبَّنَّ
أَحَدُكُمْ أَبَاهُ ، قَالُوا : وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَاهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ }
وَعَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ }
وَغَايَرَ بَيْنَ صِيغَتَيْ تَلْمِزُوا وَتَنَابَزُوا ؛ لِأَنَّ
الْمَلْمُوزَ قَدْ لَا يَقْدِرُ فِي الْحَالِ عَلَى عَيْبٍ يَلْمِزُ بِهِ
لَامِزَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِ حَتَّى يَظْفَرَ
بِبَعْضِ عُيُوبِهِ بِخِلَافِ النَّبْزِ ، فَإِنَّ مَنْ لُقِّبَ بِمَا
يَكْرَهُ قَادِرٌ عَلَى تَلْقِيبِ الْآخَرِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ حَالًا
فَوَقَعَ التَّفَاعُلُ
، وَمَعْنَى { بِئْسَ الِاسْمُ } إلَخْ :
أَنَّ مَنْ فَعَلَ إحْدَى الثَّلَاثَةِ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْفِسْقِ وَهُوَ
غَايَةُ النَّقْصِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَامِلًا بِالْإِيمَانِ .
وَضَمَّ
تَعَالَى إلَى هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ قَوْلَهُ : { وَمَنْ لَمْ
يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } لِلْإِشَارَةِ إلَى عَظَمَةِ
إثْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ ، ثُمَّ عَقَّبَ تَعَالَى
بِأَمْرِهِ بِاجْتِنَابِ الظَّنِّ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إثْمٌ وَهُوَ مَا تَخَيَّلْت وُقُوعَهُ مِنْ غَيْرِك مِنْ غَيْرِ
مُسْتَنِدٍ يَقِينِيٍّ لَك عَلَيْهِ وَقَدْ صَمَّمَ عَلَيْهِ قَلْبُك أَوْ
تَكَلَّمَ بِهِ لِسَانُك مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ ، وَمِنْ ثَمَّ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ
فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } .
فَالْعَاقِلُ إذَا وَقَفَ
أَمْرُهُ عَلَى الْيَقِينِ قَلَّمَا يَتَيَقَّنُ فِي أَحَدٍ عَيْبًا
يَلْمِزُهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا
وَعَكْسُهُ فَلَا يَنْبَغِي حِينَئِذٍ التَّعْوِيلُ عَلَى الظَّنِّ ،
وَبَعْضُ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ بَلْ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ
كَظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى
الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَلْزَمُهُمْ الْأَخْذُ بِهَا .
وَمِنْهُ
مَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { ظُنُّوا بِالْمُؤْمِنِ خَيْرًا } ، وَمَا هُوَ مُبَاحٌ ، وَقَدْ
يَكُونُ هُوَ الْحَزْمَ وَالرَّأْيَ ، وَهُوَ مَحْمَلُ خَبَرِ : { إنَّ
مِنْ الْحَزْمِ سُوءَ الظَّنِّ } أَيْ بِأَنْ يُقَدَّرَ الْمُتَوَهَّمُ
وَاقِعًا كَمَطْلِ مُعَامِلِهِ الَّذِي يَجْهَلُ حَتَّى يُسْلِمَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ أَذًى مِنْ غَيْرِهِ أَوْ خَدِيعَةٌ ،
فَنَتِيجَةُ هَذَا الظَّنِّ لَيْسَ إلْحَاقُ النَّقْصِ بِالْغَيْرِ بَلْ
الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ النَّفْسِ وَآثَارِهَا عَلَى أَنْ يَلْحَقَهَا
سُوءٌ .
وَالتَّجَسُّسُ : التَّتَبُّعُ ، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ
وَالْمُرَادُ تَتَبُّعُ عُيُوبِ النَّاسِ ، وَالتَّحَسُّسُ
بِالْمُهْمَلَةِ الْإِحْسَاسُ وَالْإِدْرَاكُ ، وَمِنْهُ الْحَوَاسُّ
الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ ، وَقُرِئَ شَاذًّا
بِالْمُهْمَلَةِ فَقِيلَ مُتَّحِدَانِ وَمَعْنَاهُمَا طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ .
وَقِيلَ مُخْتَلِفَانِ فَالْأَوَّلُ تَتَبُّعُ الظَّوَاهِرِ ، وَالثَّانِي تَتَبُّعُ الْبَوَاطِنِ .
وَقِيلَ
: الْأَوَّلُ الشَّرُّ وَالثَّانِي الْخَيْرُ وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَبِفَرْضِ
صِحَّتِهِ هُوَ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ أَنْ تَفْحَصَ
عَنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِك .
وَالثَّانِي أَنْ تَفْحَصَ عَنْهُ
بِنَفْسِك ؛ وَعَلَى كُلٍّ فَفِي الْآيَةِ النَّهْيُ الْأَكِيدُ عَنْ
الْبَحْثِ عَنْ أُمُورِ النَّاسِ الْمَسْتُورَةِ وَتَتَبُّعِ
عَوْرَاتِهِمْ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا
تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ } .
وَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ
بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضْ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ : لَا تَغْتَابُوا
الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّ مَنْ يَتَّبِعْ
عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ
اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ } .
وَقِيلَ
لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ لَك فِي الْوَلِيدِ بْنِ
عُقْبَةَ وَلِحْيَتُهُ تَقْطُرُ خَمْرًا ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نُهِينَا
عَنْ التَّجَسُّسِ فَإِنْ يُظْهِرْ لَنَا شَيْئًا أَخَذْنَاهُ بِهِ .
وَقَوْلُهُ
: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ
مِنْكُمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا
يَكْرَهُهُ ، وَأَلْحَقَ بِهِ مَا عَلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي الْآيَةِ
السَّابِقَةِ فِي التَّكَلُّمِ فِي حَضْرَتِهِ بِذَلِكَ بَلْ هُوَ
أَبْلَغُ فِي الْأَذِيَّةِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ
، قَالَ : ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ ، قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ
فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ
اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَطُرُقُهُ
كَثِيرَةٌ
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا مَعَ أَنَّهَا صِدْقٌ الْمُبَالَغَةُ
فِي حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ ، وَالْإِشَارَةُ إلَى عَظِيمِ تَأَكُّدِ
حُرْمَتِهِ وَحُقُوقِهِ ، وَزَادَ تَعَالَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا
وَتَحْقِيقًا بِتَشْبِيهِ عِرْضِهِ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ مَعَ
الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِالْأَخِ ،
فَقَالَ - عَزَّ قَائِلًا - : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ
يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ مِنْ قَرْضِ عِرْضِهِ ، كَمَا يَتَأَلَّمُ بَدَنُهُ
مِنْ قَطْعِ لَحْمِهِ لِأَكْلِهِ بَلْ أَبْلُغُ ؛ لِأَنَّ عِرْضَ
الْعَاقِلِ عِنْدَهُ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ .
وَكَمَا
أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنْ الْعَاقِلِ أَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ لَا
يَحْسُنُ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ
آلَمْ ، وَوَجْهُ الْآكَدِيَّةِ فِي لَحْمِ أَخِيهِ أَنَّ الْأَخَ لَا
يُمْكِنُهُ مَضْغُ لَحْمِ أَخِيهِ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ بِخِلَافِ
الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ لَحْمَ عَدُوِّهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ
مِنْهُ فِي ذَلِكَ ، وَانْدَفَعَ بِمَيِّتًا الْحَالُ مِنْ لَحْمٍ أَوْ
أَخِيهِ مَا قَدْ يُقَالُ إنَّمَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ فِي الْوَجْهِ ؛
لِأَنَّهَا الَّتِي تُؤْلِمُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِهَا فِي الْغِيبَةِ
فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُغْتَابِ عَلَيْهَا ، وَوَجْهُ انْدِفَاعِ
هَذَا أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْأَخِ ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُؤْلِمُ أَيْضًا
، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ
الِاطِّلَاعُ لَتَأَلَّمَ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَوْ أَحَسَّ
بِأَكْلِ لَحْمِهِ لَآلَمَهُ فَكَذَا الْغِيبَةُ تَحْرُمُ فِي الْغَيْبَةِ
؛ لِأَنَّ الْمُغْتَابَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَتَأَلَّمَ وَأَيْضًا
فَفِي الْعِرْضِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى .
فَلَوْ فُرِضَ
أَنَّ الْغِيبَةَ وَقَعَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَابُ الْعِلْمَ
بِهَا حَرُمَتْ أَيْضًا رِعَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفَطْمًا
لِلنَّاسِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْضِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ
اللَّهُمَّ إلَّا لِلْأَسْبَابِ
الْآتِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ
ضَرُورَةٍ فَتُبَاحُ حِينَئِذٍ ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا أَشَارَتْ
الْآيَةُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِذِكْرِ " مَيْتًا " ، إذْ لَحْمُ
الْمَيِّتِ إنَّمَا يَحِلُّ لِلضَّرُورَةِ إلْحَاقُهُ حَتَّى لَوْ وَجَدَ
الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً أُخْرَى مَعَ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَحِلَّ
لَهُ مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ
الْآدَمِيِّ .
وقَوْله تَعَالَى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } تَقْدِيرُهُ
فَقَدْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ الْأَكْلَ أَوْ اللَّحْمَ فَلَا تَفْعَلُوا مَا
هُوَ شَبِيهٌ بِهِ ، وَإِلَى هَذَا يُؤَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ لَمَّا
قِيلَ لَهُمْ : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا } قَالُوا لَا ، قِيلَ : { فَكَرِهْتُمُوهُ } أَيْ فَكَمَا
كَرِهْتُمْ هَذَا فَاجْتَنِبُوا ذِكْرَهُ بِالسُّوءِ .
لَا يُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَكْلَ ذَلِكَ إذَا هَمَزَهُ أَيُحِبُّ لِلْإِنْكَارِ
فَكَرِهْتُمُوهُ إذًا فَاكْرَهُوا هَذَا كَذَلِكَ ، وَقِيلَ الْمَعْطُوفُ
عَلَيْهِ فَكَرِهْتُمُوهُ مَحْذُوفٌ أَيْ عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ
فَكَرِهْتُمُوهُ أَيْ يُعْرَضُ عَلَيْكُمْ فَتَكْرَهُونَهُ ، وَيَصِحُّ
أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ فَكَرِهْتُمُوهُ لِلْمَيِّتِ وَكَأَنَّهُ صِفَةٌ
لَهُ ، فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي التَّحْذِيرِ أَيْ
: أَنَّ الْمَيْتَةَ ، وَإِنْ أُكِلَتْ فِي النُّدْرَةِ لَكِنَّهَا إذَا
أَنْتَنَتْ كَرِهَهَا كُلُّ أَحَدٍ وَيَفِرُّ مِنْهَا بِحَيْثُ يَبْعُدُ
عَنْ مَحَلِّهَا ، وَلَا يَسْتَطِيعُ دُخُولُهُ فَكَيْفَ يَقْرَبُهُ
بِحَيْثُ يَأْكُلُهُ .
فَكَذَا حَالُ الْغِيبَةِ يَنْبَغِي
الْمُبَاعَدَةُ عَنْهَا كَنَهْيٍ عَنْ الْمَيْتَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ ؛
فَتَأَمَّلْ مَا أَفَادَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا
وَأَمْعِنْ فِكْرَك فِيهِ تَغْنَمْ وَتَسْلَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى
بِحَقَائِقِ تَنْزِيلِهِ أَعْلَمُ ؛ وَتَأَمَّلْ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى
خَتَمَ كُلًّا مِنْ الْآيَتَيْنِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ رَحْمَةً
بِعِبَادِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ لَمَّا بُدِئَتْ الْأُولَى
بِالنَّهْيِ خُتِمَتْ بِالنَّفْيِ { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ }
لِتَقَارُبِهِمَا ، وَلَمَّا بُدِئَتْ الثَّانِيَةُ بِالْإِثْبَاتِ
بِالْأَمْرِ فِي
اجْتَنِبُوا خُتِمَتْ بِهِ فِي إنَّ اللَّهَ إلَخْ وَكَأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ فِي الْأُولَى فَقَطْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } أَنَّ مَا فِيهَا أَفْحَشُ ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ فِي الْحَضْرَةِ بِالسُّخْرِيَةِ أَوْ اللَّمْزِ أَوْ النَّبْزِ بِخِلَافِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ إذْ كُلٌّ مِنْ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ يَقْتَضِي الْإِخْفَاءَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ غَالِبًا .
وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى
بَعْضِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى آدَابٍ
وَأَحْكَامٍ وَحِكَمٍ وَتَشْدِيدَاتٍ وَتَهْدِيدَاتٍ لَا يُحْصِيهَا إلَّا
مُنْزِلُهَا ، فَلْنَذْكُرْ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي
الْغِيبَةِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ
يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا هَلْ
بَلَّغْت } .
وَمُسْلِمٌ : { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ : { مِنْ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ } .
وَهُوَ
فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُد إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مِنْ
الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ
حَقٍّ } الْحَدِيثَ .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { الرِّبَا سَبْعُونَ
حُوبًا - أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ إثْمًا - وَأَيْسَرُهَا كَنِكَاحِ
الرَّجُلِ أُمَّهُ وَأَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { أَتَدْرُونَ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ
: فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا } } .
وَأَبُو دَاوُد : { إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَابْنُ
أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَطَبَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَمْرَ
الرِّبَا وَعَظَّمَ شَأْنَهُ وَقَالَ : إنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ
الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ ، وَإِنَّ أَرْبَى
الرِّبَا
عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ :
{ الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلُ إتْيَانِ
الرَّجُلِ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي
عِرْضِ أَخِيهِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ بَابًا
أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِنْ الرِّبَا مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي
الْإِسْلَامِ ، وَدِرْهَمُ رِبًا أَشَدُّ مِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ
زَنْيَةً ، وَأَشَدُّ الرِّبَا وَأَرْبَى الرِّبَا وَأَخْبَثُ الرِّبَا
انْتِهَاكُ عِرْضِ الْمُسْلِمِ وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ } .
وَأَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْبَيْهَقِيُّ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قُلْت لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا
- قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ : لَقَدْ قُلْت
كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ أَيْ
لَأَنْتَنَتْهُ وَغَيَّرَتْ رِيحَهُ قَالَتْ : وَحَكَيْت لَهُ إنْسَانًا
فَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْت إنْسَانًا وَإِنَّ لِي كَذَا
وَكَذَا } .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ سُمَيَّةَ عَنْهَا وَسُمَيَّةُ لَمْ
تُنْسَبْ أَنَّهُ اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ
زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبِ : أَعْطِيهَا بَعِيرًا .
فَقَالَتْ :
أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ
وَبَعْضَ صَفَرٍ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْهَا قَالَتْ : {
قُلْت لِامْرَأَةٍ مَرَّةً وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ هَذِهِ لَطَوِيلَةُ الذَّيْلِ ، فَقَالَ :
الْفِظِي الْفِظِي أَيْ ارْمِي مَا فِي فِيكِ - فَلَفَظَتْ بُضْعَةً -
أَيْ قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالطَّيَالِسِيُّ
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النَّاسَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَقَالَ : لَا يُفْطِرَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ
حَتَّى
آذَنَ لَهُ ، فَصَامَ النَّاسُ حَتَّى إذَا أَمْسَوْا فَجَعَلَ الرَّجُلُ
يَجِيءُ فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ظَلَلْت صَائِمًا فَأْذَنْ
لِي فَأُفْطِرُ فَيَأْذَنُ لَهُ وَالرَّجُلُ حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَاتَانِ مِنْ أَهْلِك ظَلَّتَا صَائِمَتَيْنِ
وَإِنَّهُمَا يَسْتَحْيِيَانِ أَنْ يَأْتِيَاك فَأْذَنْ لَهُمَا
فَلْيُفْطِرَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ
عَاوَدَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّهُمَا لَمْ يَصُومَا ،
وَكَيْفَ صَامَ مَنْ ظَلَّ هَذَا الْيَوْمَ يَأْكُلُ لَحْمَ النَّاسِ
اذْهَبْ فَمُرْهُمَا إنْ كَانَتَا صَائِمَتَيْنِ فَلْتَتَقَيَّآ فَرَجَعَ
إلَيْهِمَا فَأَخْبَرَهُمَا فَاسْتِقَاءَتَا فَقَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ
عَلَقَةً مِنْ دَمٍ ، فَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ
بَقِيَتَا فِي بُطُونِهِمَا لَأَكَلَتْهُمَا النَّارُ } .
وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ
رِوَايَةِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ
: فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا { قِيئِي فَقَاءَتْ قَيْحًا وَدَمًا وَصَدِيدًا
وَلَحْمًا حَتَّى مَلَأَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ .
ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى قِيئِي فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلَأَتْ الْقَدَحَ .
ثُمَّ
قَالَ : إنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا
وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ، جَلَسَتْ
إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَتَا تَأْكُلَانِ مِنْ لُحُومِ
النَّاسِ } .
وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْجَزَ
أَوْ قَالُوا مَا أَضْعَفَ فُلَانًا .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْتَبْتُمْ صَاحِبَكُمْ وَأَكَلْتُمْ لَحْمَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا فِي قِيَامِهِ
عَجْزًا
، فَقَالُوا مَا أَعْجَزَ فُلَانًا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَكَلْتُمْ أَخَاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوهُ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ
بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { ذَكَرُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالُوا لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُطْعَمَ وَلَا يَرْحَلُ
حَتَّى يُرَحَّلَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : اغْتَبْتُمُوهُ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا
حَدَّثَنَا بِمَا فِيهِ } .
وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ
وَاللَّفْظُ لَهُ وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَجُلٌ ، فَوَقَعَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِهِ
، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلَّلْ .
فَقَالَ : وَمِمَّ أَتَخَلَّلُ ؟ مَا أَكَلْت لَحْمًا .
قَالَ : إنَّك أَكَلْت لَحْمَ أَخِيك } .
وَابْنُ
أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ وَأَبُو نُعَيْمٍ : {
أَرْبَعَةٌ يُؤْذُونَ أَهْلَ النَّارِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الْأَذَى
يَسْعَوْنَ مَا بَيْنَ الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ
وَالثُّبُورِ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ النَّارِ لِبَعْضٍ مَا بَالُ
هَؤُلَاءِ قَدْ آذَوْنَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى .
قَالَ :
فَرَجُلٌ مُغْلَقٌ عَلَيْهِ تَابُوتٌ مِنْ جَمْرٍ ، وَرَجُلٌ يَجُرُّ
أَمْعَاءَهُ ، وَرَجُلٌ يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا ، وَرَجُلٌ
يَأْكُلُ لَحْمَهُ .
فَيُقَالُ لِصَاحِبِ التَّابُوتِ : مَا بَالُ
الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى ، فَيَقُولُ :
إنَّ الْأَبْعَدَ قَدْ مَاتَ وَفِي عُنُقِهِ أَمْوَالُ النَّاسِ .
ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ : مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى .
فَيَقُولُ : إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ لَا يُبَالِي أَيْنَ أَصَابَ الْبَوْلَ مِنْهُ .
ثُمَّ
يُقَالُ لِلَّذِي يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا : مَا بَالُ الْأَبْعَدِ
قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى ؟ فَيَقُولُ : إنَّ
الْأَبْعَدَ كَانَ يَنْظُرُ إلَى كَلِمَةٍ فَيَسْتَلِذُّهَا كَمَا
يَسْتَلِذُّ الرَّفَثَ .
ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَأْكُلُ لَحْمَهُ
: مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى .
فَيَقُولُ : إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ بِالْغِيبَةِ وَيَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ } .
وَأَبُو
يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ : { مَنْ أَكَلَ لَحْمَ
أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا قُرِّبَ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فَيُقَالُ لَهُ : كُلْهُ مَيِّتًا كَمَا أَكَلْته حَيًّا } .
فَيَأْكُلُهُ
وَيَكْلَحُ أَيْ يَعْبَسُ وَيَقْبِضُ وَجْهَهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ
وَيَضِجُّ أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : "
وَيَصِيحُ " وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ وَالْأُولَى أَبْلُغُ
لِإِشْعَارِهَا بِزِيَادَةِ الْفَزَعِ وَالْقَلِقِ .
وَأَبُو الشَّيْخِ
وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا
عَلَيْهِ " أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ فَقَالَ لِبَعْضِ
أَصْحَابِهِ : لَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْلَأَ
بَطْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ " .
وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ يَقُولُ : أَتَيْت امْرَأَةً حَرَامًا ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ
يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : { فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ
؟ قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجَمَ فَرُجِمَ ، فَسَمِعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ
الْأَنْصَارِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ .
اُنْظُرْ إلَى هَذَا
الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَدَعْ نَفْسَهُ حَتَّى رُجِمَ
رَجْمَ الْكَلْبِ ، قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَمَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ
شَائِلٍ بِرِجْلَيْهِ فَقَالَ أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ؟ فَقَالَا نَحْنُ
بِالنُّقَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ لَهُمَا كُلَا مِنْ جِيفَةِ
هَذَا الْحِمَارِ ، فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَنْ
يَأْكُلُ
مِنْ هَذَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا الرَّجُلِ آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ
هَذِهِ الْجِيفَةِ ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ فِي
أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ
صَحِيحٍ إلَّا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا
قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَرَأَى رَجُلًا
أَحْمَرَ أَزْرَقَ جِدًّا قَالَ مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا
عَاقِرُ النَّاقَةِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت
بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ
وَصُدُورَهُمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ
مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا : { لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِرِجَالٍ تُقْرَضُ
جُلُودُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا
جِبْرِيلُ ؟ قَالَ الَّذِينَ يَتَزَيَّنُونَ لِلزِّينَةِ ، قَالَ ثُمَّ
مَرَرْت بِجُبٍّ مُنْتِنِ الرِّيحِ فَسَمِعْت فِيهِ أَصْوَاتًا شَدِيدَةً
فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ نِسَاءٌ كُنَّ يَتَزَيَّنَّ
لِلزِّينَةِ وَيَفْعَلْنَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ .
ثُمَّ مَرَرْت
عَلَى نِسَاءٍ وَرِجَالٍ مُعَلَّقِينَ بِثَدْيِهِنَّ فَقُلْت مَنْ
هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْهَمَّازُونَ
وَاللَّمَّازُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } } وَمَرَّ آنِفًا مَعْنَاهُمَا .
وَأَحْمَدُ
بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ
يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا
وَالطَّبَرَانِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا ، قِيلَ وَكَيْفَ
؟ قَالَ الرَّجُلُ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ
صَاحِبُهُ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَهُوَ الْأَشْبَهُ .
وَأَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي وَرَجُلٌ عَلَى يَسَارِهِ
فَإِذَا نَحْنُ بِقَبْرَيْنِ أَمَامَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا
يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَبَكَى فَأَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِجَرِيدَةٍ
فَاسْتَبَقْنَا فَسَبَقْته فَأَتَيْته بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصْفَيْنِ
فَأَلْقَى عَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً وَعَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً ،
قَالَ إنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَتَا رَطْبَتَيْنِ ، وَمَا
يُعَذَّبَانِ إلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ } .
وَأَحْمَدُ
بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَاصِمًا أَحَدَ الْقُرَّاءِ
السَّبْعَةِ قَبِلَهُ جَمَاعَةٌ وَرَدَّهُ آخَرُونَ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ :
{ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى قَبْرٍ
يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ فَقَالَ : إنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ
النَّاسِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَوَضَعَهَا عَلَى الْقَبْرِ
وَقَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ مَا دَامَتْ هَذِهِ رَطْبَةً } .
وَابْنُ
جَرِيرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَتَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيعَ الْغَرْقَدِ
فَوَقَفَ عَلَى قَبْرَيْنِ ثَرَيَيْنِ فَقَالَ أَدَفَنْتُمْ فُلَانًا
وَفُلَانَةَ أَوْ قَالَ فُلَانًا وَفُلَانًا قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، قَالَ لَقَدْ أُقْعِدَ فُلَانٌ الْآنَ فَضُرِبَ ، ثُمَّ قَالَ :
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ضُرِبَ ضَرْبَةً مَا بَقِيَ مِنْهُ
عُضْوٌ إلَّا انْقَطَعَ وَلَقَدْ تَطَايَرَ قَبْرُهُ نَارًا وَلَقَدْ
صَرَخَ صَرْخَةً سَمِعَهَا الْخَلَائِقُ إلَّا الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ ، وَلَوْلَا
تَمْرِيجٌ فِي قُلُوبِكُمْ وَتَزَيُّدُكُمْ
فِي الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ ، ثُمَّ قَالَ الْآنَ يُضْرَبُ
هَذَا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَنْبُهُمَا ؟ قَالَ أَمَّا
فُلَانٌ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا
فُلَانٌ أَوْ قَالَ فُلَانَةُ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ
} .
وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ أَحْمَدُ لَكِنْ بِلَفْظٍ
آخَرَ يَأْتِي فِي النَّمِيمَةِ وَزَادَ فِيهِ : { قَالُوا يَا نَبِيَّ
اللَّهِ حَتَّى مَتَى هُمَا يُعَذَّبَانِ ؟ قَالَ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ
إلَّا اللَّهُ تَعَالَى } .
وَطُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ
مَشْهُورَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا .
وَقَدَّمْت مِنْهَا طَرَفًا أَوَائِلَ
كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَبِتَأَمُّلِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْقِصَّةَ
مُتَعَدِّدَةٌ ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا يُوهِمُهُ ظَوَاهِرُهَا مِنْ
التَّعَارُضِ .
ثُمَّ رَأَيْت الْحَافِظَ الْمُنْذَرِيَّ أَشَارَ
لِبَعْضِ ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُ الطُّرُقِ أَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي
النَّمِيمَةِ وَالْبَوْلِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتَّفَقَ مُرُورُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ
أَحَدُهُمَا بِالنَّمِيمَةِ وَالْآخَرُ فِي الْبَوْلِ ، وَمَرَّةً أُخْرَى
بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا فِي الْغِيبَةِ وَالْآخَرُ فِي
الْبَوْلِ .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ يَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ } .
وَمُسْلِمٌ
وَغَيْرُهُ : { أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ : قَالُوا الْمُفْلِسُ
فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إنَّ
الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ
وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ،
وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى
هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ
حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيُؤْتَى كِتَابُهُ مَنْشُورًا فَيَقُولُ يَا
رَبِّ فَأَيْنَ حَسَنَاتُ كَذَا وَكَذَا عَمِلْتهَا لَيْسَتْ فِي صَحِيفَتِي ، فَيَقُولُ لَهُ : مُحِيَتْ بِاغْتِيَابِك النَّاسَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { مَنْ ذَكَرَ امْرَأً بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ
لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ
بِنَفَادِ مَا قَالَ فِيهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { أَيُّمَا رَجُلٍ
أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ
يَشِينُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ
يُذِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَادِ
مَا قَالَ فِيهِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا
لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ
مِمَّا قَالَ } زَادَ الطَّبَرَانِيُّ .
" وَلَيْسَ بِخَارِجٍ "
وَرَدْغَةُ الْخَبَالِ بِرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُعْجَمَتَيْنِ سَاكِنَةٍ
فَمَفْتُوحَةٍ : عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ ، كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا
مَرْفُوعًا .
وَأَحْمَدُ : { خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ :
الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَهْتُ
مُؤْمِنٍ ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ
بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
وَجَمَاعَةٌ : { مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ
حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَبُو
الشَّيْخِ : { مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ
عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ } } .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَمَى
عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِيهِ مِنْ النَّارِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ :
{ مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ فَاسْتَطَاعَ نُصْرَتَهُ فَنَصَرَهُ
نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ
لَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } .
وَأَبُو
دَاوُد وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا : { مَا مِنْ امْرِئٍ
مُسْلِمٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ
حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي
مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ
وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ
يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ } .
قَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ
عَذَابَ الْقَبْرِ ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ : ثُلُثٌ مِنْ الْغِيبَةِ ،
وَثُلُثٌ مِنْ الْبَوْلِ ، وَثُلُثٌ مِنْ النَّمِيمَةِ .
وَقَالَ
الْحَسَنُ : وَاَللَّهِ لَلْغِيبَةُ أَسْرَعُ فَسَادًا فِي دِينِ
الْمَرْءِ مِنْ الْأَكَلَةِ فِي الْجَسَدِ ، وَكَانَ يَقُولُ : ابْنُ
آدَمَ إنَّك لَنْ تَبْلُغَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا تَعِيبَ
النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيك ، وَحَتَّى تَبْدَأَ بِصَلَاحِ ذَلِكَ
الْعَيْبِ فَتُصْلِحَهُ مِنْ نَفْسِك ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ
شَغْلُك فِي خَاصَّةِ نَفْسِك .
وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ مَنْ كَانَ هَكَذَا .
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : أَدْرَكْنَا السَّلَفَ الصَّالِحَ وَهُمْ لَا يَرَوْنَ
الْعِبَادَةَ فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنْ فِي الْكَفِّ
عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا أَرَدْت أَنْ تَذْكُرَ عُيُوبَ صَاحِبِك فَاذْكُرْ عُيُوبَك .
وَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ : يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ
وَلَا يُبْصِرُ الْجِذْعَ فِي عَيْنِ نَفْسِهِ ، وَسَمِعَ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَجُلًا يَغْتَابُ آخَرَ فَقَالَ :
إيَّاكَ وَالْغِيبَةَ ، فَإِنَّهَا إدَامُ كِلَابِ النَّاسِ .
وَقَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ
شِفَاءٌ ، وَإِيَّاكُمْ وَذِكْرَ النَّاسِ فَإِنَّهُ دَاءٌ .
تَنْبِيهَاتٌ
: مِنْهَا : عَدُّ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَبِيرَةٌ هُوَ مَا جَرَى
عَلَيْهِ كَثِيرُونَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ السُّكُوتَ عَلَيْهَا -
رِضًا بِهَا - كَبِيرَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي أَنَّ تَرْكَ
إنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْكَبَائِرِ
، وَالْغِيبَةُ مِنْ عَظَائِمِ الْمُنْكَرَاتِ كَمَا يَأْتِي فَظَهَرَ مَا
ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ ، ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ صَرَّحَ بِهِ
حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا السُّكُوتُ عَلَى الْغِيبَةِ - رِضًا بِهَا -
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ
حُكْمَهَا ، نَعَمْ لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهَا فَيَلْزَمُهُ عِنْدَ
التَّمَكُّنِ مُفَارَقَةُ الْمُغْتَابِ ، وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ
فَقَالَ : وَالْأَشْبَهُ أَنَّ السُّكُوتَ عَلَى الْغِيبَةِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا كَبِيرَةٌ .
انْتَهَى .
وَأَمَّا
تَقْرِيرُ الشَّيْخَيْنِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ
صَغِيرَةٌ وَكَذَا السُّكُوتُ عَلَيْهَا فَاعْتَرَضُوهُ .
قَالَ
الْأَذْرَعِيُّ : إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ
ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ
وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَيُوَافِقُهُ
كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ
، وَقَدْ غُلِّظَ أَمْرُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمَنْ
تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ فِيهَا عَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ
وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ غَيْرَ
الْغَزَالِيِّ وَصَاحِبَ الْعُدَّةِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّ
تَرْكَ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَقَضِيَّتُهُ
أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ
هِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ لَا سِيَّمَا غِيبَةُ الْأَوْلِيَاءِ
وَأَهْلِ الْكَرَامَاتِ ، وَأَقَلُّ الدَّرَجَاتِ أَنَّهُ إنْ لَمْ
يَثْبُتْ إجْمَاعٌ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ غِيبَةٍ وَغِيبَةٍ ، فَإِنَّ
مَرَاتِبَهَا وَمَفَاسِدَهَا وَالتَّأَذِّي بِهَا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا بِحَسَبِ خِفَّتِهَا ، وَثِقَلِهَا وَإِيذَائِهَا ، وَقَدْ
قَالُوا إنَّهَا ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي
دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ خُلُقِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ
وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ أَوْ
عِمَامَتِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَشْيِهِ أَوْ حَرَكَتِهِ وَبَشَاشَتِهِ
وَخَلَاعَتِهِ
وَعُبُوسَتِهِ وَطَلَاقَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ .
فَأَمَّا الْبَدَنُ : فَكَقَوْلِهِ أَعْمَى أَعْرَجُ أَعْمَشُ أَقْرَعُ قَصِيرٌ طَوِيلٌ أَسْوَدُ أَصْفَرُ .
وَأَمَّا
الدِّينُ فَكَقَوْلِك فَاسِقٌ سَارِقٌ خَائِنٌ ظَالِمٌ مُتَهَاوَنٌ
بِالصَّلَاةِ مُتَسَاهِلٌ فِي النَّجَاسَاتِ لَيْسَ بَارًّا بِوَالِدِيهِ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيذَاءَ
وَالتَّأَذِّي يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بِاخْتِلَافِ الْغِيبَةِ
بِهَذِهِ الْأُمُورِ ، فَيَقْرُبُ أَنْ يُقَالَ ذِكْرُ الْأَعْرَجِ
وَالْأَعْمَشِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَسْوَدِ وَعَيْبِ الْعِمَامَةِ
وَالْمَلْبُوسِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصَّغَائِرِ
لِخِفَّةِ التَّأَذِّي بِالْوَصْفِ بِهَا بِخِلَافِ الْوَصْفِ بِالْفِسْقِ
وَالْفُجُورِ وَالظُّلْمِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالتَّهَاوُنِ
بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمِ الْمَعَاصِي ، وَيَجُوزُ
أَنْ لَا يُفْصَلَ سَدًّا لِلْبَابِ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَيُقَالُ
لِلْغِيبَةِ حَلَاوَةٌ كَحَلَاوَةِ التَّمْرِ وَضَرَاوَةٌ كَضَرَاوَةِ
الْخَمْرِ ، عَافَانَا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِنْهَا
وَقَضَى عَنَّا حُقُوقَ أَرْبَابِهَا فَلَا يُحْصِيهِمْ غَيْرُهُ -
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْكَلَامَ حَيْثُ لَا
سَبَبَ يُبِيحُهَا أَوْ يُوجِبُهَا بَلْ تَفَكُّهًا أَوْ إيذَاءً
بِالْمُغْتَابِ .
انْتَهَى كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ .
وَتَبِعَهُ
تِلْمِيذُهُ فِي الْخَادِمِ فَقَالَ : الصَّوَابُ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا
نَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفُ بِأَدَبِ
الْقَضَاءِ مِنْ الْقَدِيمِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي
شَهْرِكُمْ هَذَا } وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ
الْإسْفَرايِينِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ فِي الْفَصْلِ الْمَعْقُودِ
لِلْكَبَائِرِ ، وَكَذَا الْجِيلِيُّ فِي شَرَحَ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُ
مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَكَذَا الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ
مَعْدُودٌ مِنْ
الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ
الذُّنُوبِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا صَغِيرَةٌ وَلَمْ يُقَفْ عَلَى
هَذَا النَّصِّ .
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مِنْ
الْكَبَائِرِ وَلَا يَعُدُّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةً ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ فِي حَالِ كَوْنِهِ
مَيِّتًا ، وَقَدْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ قَبْلَ هَذَا بِأَنَّ
الْوَقِيعَةَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ مِنْ
الْكَبَائِرِ وَفَسَّرُوا الْوَقِيعَةَ بِالْغِيبَةِ .
وَالْقُرْآنُ
وَالْأَحَادِيثُ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً
مُطْلَقًا ، وَفِي الصَّحِيحِ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ } .
وَأَخْرَجَ
الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ
حَقٍّ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ
كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا }
.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِأَدَبِ
الْعِبَادَةِ قَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْغِيبَةَ مُوَدِّعًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ وَقَرَنَ تَحْرِيمَهَا إلَى
تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ، ثُمَّ زَادَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ
تَأْكِيدًا بِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ كَحُرْمَةِ الْبَلَدِ
الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ .
وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ
فِي تَفْسِيرِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ
يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَمْ أَرَ مَنْ
صَرَّحَ بِكَوْنِهَا صَغِيرَةً إلَّا صَاحِبَ الْعُدَّةِ وَالْغَزَالِيَّ
، وَالْعَجَبُ مِنْ سُكُوتِ الرَّافِعِيِّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ نَقَلَ
قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقِيعَةَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْكَبَائِرِ
، وَكَذَا قَوْلُهُ هُنَا إنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْغِيبَةِ صَغِيرَةٌ ،
وَقَدْ نُقِلَ فِيمَا قَبْلُ أَنَّ السُّكُوتَ عَلَى
تَرْكِ الْمُنْكَرِ كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
وَمَالُ
الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ إلَى أَنَّهَا صَغِيرَةٌ وَاسْتَدَلَّ لَهُ
بَعْدَ أَنْ نَقَلَ بَعْضَ مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ وَرَدَّهُ ،
وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ : وَأَمَّا الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ
الشَّرِيفِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا
مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ يَعْنِي إذَا قُلْنَا
الْغِيبَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِذَلِكَ وَصَاحِبُ
الْعُدَّةِ يَرَاهَا مِنْ الصَّغَائِرِ ، قَالَ : وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا
مِنْ الصَّغَائِرِ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ
الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ
وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَقَدْ غَلُظَ
أَمْرُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ
فِيهَا عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ
صَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ غَيْرَ الْغَزَالِيِّ وَصَاحِبَ
الْعُدَّةِ .
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ
عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ
السُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ هِيَ مِنْ
أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ
خِلَافُ مَا قَالَهُ فَلَيْسَتْ الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ
وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ مِنْ الْغِيبَةِ بَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي سَبِّ
الْمُسْلِمِ وَالِاسْتِطَالَةِ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ
آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ } .
وَالْغِيبَةُ هِيَ أَنْ تَذْكُرَ
الْإِنْسَانَ بِمَا لَا يَرْضَى اسْتِمَاعُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ،
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَقِيعَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ
بِنَقْصٍ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي سَبِّ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ
: { أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ } الْحَدِيثَ السَّابِقَ .
وَجَعْلُ
الْغِيبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
إنَّمَا شَبَّهَهَا بِكَرَاهِيَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ فَقَالَ : {
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } قَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ
يُجِيبُوا بِأَنْ يَقُولُوا لَا أَحَدَ يُحِبُّ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُمْ
اللَّهُ تَعَالَى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ
فَلَمْ أَرَ فِيهَا ذِكْرًا لِلْغِيبَةِ وَلَا وَعِيدًا بِعَذَابٍ ،
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت
بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ
وَصُدُورَهُمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ }
انْتَهَى .
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالتَّنْفِيرِ عَنْهَا وَالزَّجْرِ عَلَيْهَا .
انْتَهَى كَلَامُ الْجَلَالِ وَقَدْ اسْتَرْوَحَ فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
أَمَّا
قَوْلُهُ : وَاَلَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُ مَا قَالَهُ فَلَيْسَتْ
الْوَقِيعَةُ إلَخْ ، فَيُرَدُّ بِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ دَاخِلَةً فِي
سَبِّ الْمُسْلِمِ فَلِمَ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ مَعَ ذِكْرِ سَبِّ
الْمُسْلِمِ .
فَمَا أَوْرَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَلَى مَنْ أَفْرَدَهَا
عَنْ الْغِيبَةِ فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً وَالْغِيبَةُ صَغِيرَةٌ يُرَدُّ
نَظِيرُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْجَلَالُ لِأَنَّ الْوَقِيعَةَ إذَا
أُرِيدَ بِهَا السَّبُّ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْعُلَمَاءِ
وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ ، فَكَيْفَ يَسُوغُ التَّخْصِيصُ بِهَا فَالْحَقُّ
أَنَّ إفْرَادَ الْوَقِيعَةِ بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً مُشْكِلٌ مُطْلَقًا .
أَمَّا
عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْغِيبَةَ صَغِيرَةٌ وَيُرِيدُ بِالْوَقِيعَةِ
الْغِيبَةَ فَوَاضِحٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ شَرَفَ ذَيْنِك اقْتَضَى
التَّغْلِيظَ فِي أَمْرِهِمَا ؛ لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْهُ .
وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْغِيبَةَ
كَبِيرَةٌ
أَوْ يُفَسِّرُ الْوَقِيعَةَ بِالسَّبِّ فَلَا فَائِدَةَ لِإِفْرَادِ
الْوَقِيعَةِ بِالذِّكْرِ إلَّا مُجَرَّدَ الِاعْتِنَاءِ وَالتَّأْكِيدِ
فِي تَغْلِيظِهَا عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ عَنْ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُمْ
فَسَّرُوا الْوَقِيعَةَ بِالْغِيبَةِ ، وَبِهِ يَزِيدُ إيضَاحُ رَدِّ مَا
قَالَهُ الْجَلَالُ .
وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ فِي كَوْنِ الْغِيبَةِ مِنْ
الْكَبَائِرِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَيُرَدُّ بِمَا
قَدَّمْته فِي مَعْنَاهَا الْمُفِيدِ لِغَايَةِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ
فِي أَمْرِ الْغِيبَةِ وَلِكَوْنِهَا كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ أَكْلَ لَحْمِ
الْمَيْتَةِ كَبِيرَةٌ فَكَذَا مَا شُبِّهَ بِهِ بَلْ هُوَ أَبْلَغُ فِي
الْمَفْسَدَةِ مِنْهُ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ كَمَا مَرَّ
عَنْهُ : وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ كَبِيرَةً وَلَا
يَعُدُّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ
أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ إلَى آخِرِ مَا مَرَّ عَنْهُ .
وَأَمَّا
قَوْلُهُ أَعْنِي الْجَلَالَ إنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَحَادِيثِ
وَعِيدٌ عَلَى الْغِيبَةِ بِعَذَابٍ ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي
ذَكَرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً بَلْ عَلَى تَحْرِيمِهَا
وَالزَّجْرِ عَنْهَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعَجَبِ .
أَمَّا الثَّانِي
فَوَاضِحٌ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَقَدْ مَرَّ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا مَا قُرِنَ
بِهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ
فَوَاضِحٌ أَيْضًا إذْ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي قَدَّمْتهَا
فِيهَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا أَعْظَمَ الْعَذَابِ وَأَشَدَّ النَّكَالِ ،
فَقَدْ صَحَّ فِيهَا أَنَّهَا أَرْبَى الرِّبَا وَأَنَّهَا لَوْ مُزِجَتْ
بِمَاءِ الْبَحْرِ أَنْتَنَتْهُ وَغَيَّرَتْ رِيحَهُ ، وَأَنَّ أَهْلَهَا
يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ فِي النَّارِ ، وَأَنَّ لَهُمْ رَائِحَةً
مُنْتِنَةً فِيهَا وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ ، وَبَعْضُ
هَذِهِ كَافِيَةٌ فِي الْكَبِيرَةِ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ ، هَذَا مَا
فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ .
وَأَمَّا مَا مَرَّ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ أَعْظَمَ وَأَشَدُّ ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ
عَلَيْهِ
الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ
لَكِنَّهَا تَخْتَلِفُ عِظَمًا وَضِدَّهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ
مَفْسَدَتِهَا كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْأَذْرَعِيِّ ، وَظَهَرَ أَيْضًا
أَنَّهَا الدَّاءُ الْعُضَالُ وَالسُّمُّ الَّذِي فِي الْأَلْسُنِ أَحْلَى
مِنْ الزُّلَالِ وَقَدْ جَعَلَهَا مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ
عَدِيلَةَ غَصْبِ الْمَالِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِقَوْلِهِ : { كُلُّ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } .
وَالْغَصْبُ
وَالْقَتْلُ كَبِيرَتَانِ إجْمَاعًا فَكَذَا ثَلْمُ الْعَرْضِ ، وَفِي
الْحَدِيثِ السَّابِقِ { فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ
اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ تَلَا : { وَاَلَّذِينَ
يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } } وَأَخْرَجَ
الْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا : { الْغِيبَةُ أَشَدُّ
مِنْ الزِّنَا } .
قَالَ فِي الْخَادِمِ وَهَلْ تُعْطَى غِيبَةُ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ حُكْمَ غِيبَةِ الْمُكَلَّفِ ؟ لَمْ أَرَ مَنْ
تَعَرَّضَ لَهَا إلَّا ابْنَ الْقُشَيْرِيِّ فِي الْمُرْشِدِ فَقَالَ :
وَقَدْ أَوْجَبَ الِاعْتِذَارَ إلَى مَنْ اغْتَابَهُ وَهَذَا
الِاعْتِذَارُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ الْمُسَاءُ إلَيْهِ مِمَّنْ
يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ مَوْضِعَ الْإِسَاءَةِ ، فَأَمَّا الطِّفْلُ
وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَجِبُ الِاعْتِذَارُ إلَيْهِ وَهَذَا مَحَلُّ
التَّأَمُّلِ ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ يَبْقَى حَقُّ ذَلِكَ الْمُسَاءِ
إلَيْهِ وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ سَقَطَ حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى لِتَحَقُّقِ النَّدَمِ .
انْتَهَى كَلَامُ الْخَادِمِ .
وَمَا
أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ
الِاعْتِذَارِ حِلُّ غَيْبَتِهِمَا ظَاهِرٌ جَلِيٌّ إذْ لَا وَجْهَ
لِلتَّلَازُمِ ، فَالْوَجْهُ حُرْمَةُ غِيبَتِهِمَا ، وَأَمَّا
التَّوْبَةُ مِنْهَا فَتَتَوَقَّفُ عَلَى أَرْكَانِهَا الْآتِيَةِ حَتَّى
الِاعْتِذَارِ لَكِنَّهُ إنْ فَاتَ بِنَحْوِ مَوْتٍ وَوُجِدَتْ شُرُوطُ
التَّوْبَةِ الْبَاقِيَةِ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَقِيَ حَقُّ
الْآدَمِيِّ كَمَا
يَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَبْحَثِ التَّوْبَةِ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهَا
: الْأَصْلُ فِي الْغِيبَةِ الْحُرْمَةُ وَقَدْ تَجِبُ أَوْ تُبَاحُ
لِغَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهَا ،
وَتَنْحَصِرُ فِي صِحَّتِهِ أَبْوَابٌ : الْأَوَّلُ : الْمُتَظَلِّمُ
فَلِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَشْكُوَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى
إزَالَةِ ظُلْمِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ .
الثَّانِي : الِاسْتِعَانَةُ
عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِذِكْرِهِ لِمَنْ يَظُنُّ قُدْرَتَهُ عَلَى
إزَالَتِهِ بِنَحْوِ فُلَانٍ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ بِقَصْدِ
التَّوَصُّلِ إلَى إزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا كَانَ غِيبَةً
مُحَرَّمَةً مَا لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ مُجَاهِرًا لِمَا يَأْتِي .
الثَّالِثُ
: الِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ لِمُفْتٍ ظَلَمَنِي بِكَذَا فُلَانٌ ،
فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَمَا طَرِيقِي فِي خَلَاصِي مِنْهُ أَوْ تَحْصِيلِ
حَقِّي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُبْهِمَهُ فَيَقُولَ مَا
تَقُولُ فِي شَخْصٍ أَوْ زَوْجٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا ؛ لِحُصُولِ
الْغَرَضِ بِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ مَعَ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مِنْ تَعْيِينِهِ مَعْنًى لَا
يُدْرِكُهُ مَعَ إبْهَامِهِ فَكَانَ فِي التَّعْيِينِ نَوْعُ مَصْلَحَةٍ
وَلِمَا يَأْتِي فِي خَبَرِ هِنْدٍ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا .
الرَّابِعُ : تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ
وَنَصِيحَتُهُمْ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنِّفِينَ
وَالْمُتَصَدِّينَ لِإِفْتَاءٍ أَوْ إقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ
أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ ، وَهُمْ دُعَاةٌ إلَيْهَا وَلَوْ
سِرًّا فَيَجُوزُ إجْمَاعًا بَلْ يَجِبُ وَكَأَنْ يُشِيرَ وَإِنْ لَمْ
يُسْتَشَرْ عَلَى مُرِيدِ تَزَوُّجٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ لِغَيْرِهِ فِي
أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ ، وَقَدْ عَلِمَ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ
قَبِيحًا مُنَفِّرًا كَفِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَوْ طَمَعٍ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ كَفَقْرٍ فِي الزَّوْجِ لِمَا يَأْتِي فِي مُعَاوِيَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِتَرْكِ تَزْوِيجِهِ أَوْ مُخَالَطَتِهِ ، ثُمَّ إنْ
اكْتَفَى بِنَحْوِ لَا يَصْلُحُ لَك لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَإِنْ
تَوَقَّفَ عَلَى ذِكْرِ عَيْبٍ ذَكَرَهُ ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ
عَلَيْهِ
أَوْ عَيْبَيْنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فَلَا يَجُوزُ
تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ .
نَعَمْ
الشَّرْطُ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ بَذْلَ النَّصِيحَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ -
تَعَالَى - دُونَ حَظٍّ آخَرَ ، وَكَثِيرًا مَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ
عَنْ ذَلِكَ فَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى
التَّكَلُّمِ بِهِ حِينَئِذٍ لَا نُصْحًا وَيُزَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ نُصْحٌ
وَخَيْرٌ .
وَمِنْ هَذَا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ ذِي وِلَايَةٍ قَادِحًا
فِيهَا كَفِسْقٍ أَوْ تَغَفُّلٍ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ
قُدْرَةٌ عَلَى عَزْلِهِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى نُصْحِهِ
وَحَثِّهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ .
الْخَامِسُ : أَنْ يَتَجَاهَرَ
بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمَكَّاسِينَ وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ
ظَاهِرًا وَذَوِي الْوِلَايَاتِ الْبَاطِلَةِ ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُمْ
بِمَا تَجَاهَرُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بِعَيْبٍ
آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا مَرَّ .
قَالَ
الْأَذْرَعِيُّ : وَفِي أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ مِمَّا يُبَاحُ مِنْ
الْغِيبَةِ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ
كَالْمُجَاهَرَةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ
الْمَكْسِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا
تَجَاهَرَ بِهِ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ .
انْتَهَى .
وَهُوَ مُتَابِعٌ فِي ذَلِكَ لَلْغَزَالِيِّ وَفِي الْجَوَازِ لَا لِغَرَضِ شَرْعِيٍّ وَإِطْلَاقُ كَثِيرِينَ يَأْبَاهُ انْتَهَى .
وَسَيَأْتِي كَلَامُ الْقَفَّالِ فِي ذَلِكَ بِمَا فِيهِ .
السَّادِسُ
: التَّعْرِيفُ بِنَحْوِ لَقَبٍ كَالْأَعْوَرِ وَالْأَعْمَشِ وَالْأَصَمِّ
وَالْأَقْرَعِ فَيَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِهِ
تَعْرِيفَهُ بِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ لَا التَّنْقِيصِ
وَالْأَوْلَى بِغَيْرِهِ إنْ سَهُلَ ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ
السِّتَّةِ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَيَدُلُّ لَهَا مِنْ السُّنَّةِ
أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ كَاَلَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو
الْعَشِيرَةِ }
، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي جَوَازِ غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ .
وَرَوَى
الْبُخَارِيُّ خَبَرَ : { مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ
مِنْ دِينِنَا شَيْئًا } ، قَالَ اللَّيْثُ : كَانَا مُنَافِقَيْنِ هُمَا
مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ وَعُيَيْنَةُ
بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ .
قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أَبَا جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ
خَطَبَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ، وَأَمَّا أَبُو
الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : { وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَضَرَّابٌ
لِلنِّسَاءِ } ، وَبِهِ يُرَدُّ تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ
عَنْ كَثْرَةِ أَسْفَارِهِ .
وَلَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ اللَّعِينُ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ
شِدَّةٌ { لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى
يَنْفَضُّوا } .
وَقَالَ : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } { أَتَى زَيْدُ بْنُ
أَرَقْمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، فَأَرْسَلَ إلَى ابْنِ أُبَيٍّ
فَاجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ فَقَالُوا كَذَبَ زَيْدٌ
يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ
عَلَيْهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَهُ فِي سُورَةِ
الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ دَعَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ
هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلَّا مَا أَخَذْت
مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، قَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ
بِالْمَعْرُوفِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمِنْهَا :
عُلِمَ مِنْ
خَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ مَعَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ
الْغِيبَةَ أَنْ تَذْكُرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى مَا يَأْتِي
مُعِينًا لِلسَّامِعِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ
بِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ ، وَالتَّعْبِيرُ
بِالْأَخِ فِي الْخَبَرِ كَالْآيَةِ لِلْعَطْفِ وَالتَّذْكِيرِ
بِالسَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ
الْمُسْلِمِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ حُرْمَةً ،
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ فِي بَدَنِهِ كَأَحْوَلَ أَوْ
قَصِيرٍ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ ضِدَّهَا ، أَوْ فِي نَسَبِهِ كَأَبُوهُ
هِنْدِيٍّ أَوْ إسْكَافٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يَكْرَهُهُ كَيْفَ كَانَ
، أَوْ خُلُقِهِ كَسَيْءِ الْخُلُقِ عَاجِزٍ ضَعِيفٍ .
أَوْ فِعْلِهِ
الدِّينِيِّ كَكَذَّابٍ أَوْ مُتَهَاوَنٍ بِالصَّلَاةِ أَوْ لَا
يُحْسِنُهَا ، أَوْ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ ، أَوْ لَا يُعْطِي الزَّكَاةَ
أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا .
أَوْ الدُّنْيَوِيِّ
كَقَلِيلِ الْأَدَبِ ، أَوْ لَا يَرَى لِأَحَدٍ حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ ،
أَوْ كَثِيرِ الْأَكْلِ أَوْ النَّوْمِ .
أَوْ ثَوْبِهِ كَطَوِيلِ الذَّيْلِ قَصِيرِهِ وَسَخِهِ .
أَوْ
دَارِهِ كَقَلِيلَةِ الْمَرَافِقِ أَوْ دَابَّتِهِ كَجَمُوحٍ ، أَوْ
وَلَدِهِ كَقَلِيلِ التَّرْبِيَةِ ، أَوْ زَوْجَتِهِ كَكَثِيرَةِ
الْخُرُوجِ أَوْ عَجُوزٍ أَوْ تَحْكُمُ عَلَيْهِ أَوْ قَلِيلَةِ
النَّظَافَةِ ، أَوْ خَادِمِهِ كَآبِقٍ .
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ .
وَقَالَ قَوْمٌ لَا غِيبَةَ فِي الدِّينِ ؛ لِأَنَّهُ ذَمُّ مَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلِأَنَّهُ
{ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ كَثْرَةُ عِبَادَةِ
امْرَأَةٍ وَأَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا فَقَالَ هِيَ فِي النَّارِ } ،
وَعَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا بَخِيلَةٌ فَقَالَ : " فَمَا خَيْرُهَا إذًا " .
قَالَ
الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَذْكُرُونَ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ
بِالسُّؤَالِ ، وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ التَّنْقِيصَ ، وَلَا يُحْتَاجُ
إلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ
غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ فَهُوَ مُغْتَابٌ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا
ذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِّ الْغِيبَةِ ،
وَمَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِمَنْ قَالَ عَنْ امْرَأَةٍ إنَّهَا قَصِيرَةٌ ، وَعَنْ رَجُلٍ مَا
أَعْجَزَهُ إنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ ، قَالَ الْحَسَنُ وَذِكْرُ الْغَيْرِ
غِيبَةٌ أَوْ بُهْتَانٌ أَوْ إفْكٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
- تَعَالَى - .
فَالْغِيبَةُ أَنْ تَقُولَ مَا فِيهِ ، وَالْبُهْتَانُ مَا لَيْسَ فِيهِ ، وَالْإِفْكُ أَنْ تَقُولَ مَا بَلَغَك .
وَمِنْهَا
: مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْغِيبَةِ بَيْنَ أَنْ
تَكُونَ فِي غَيْبَةِ الْمُغْتَابِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ .
وَفِي
الْخَادِمِ وَمِنْ الْمُهِمِّ ضَابِطُ الْغِيبَةِ هَلْ هِيَ ذِكْرُ
الْمَسَاوِئِ فِي الْغِيبَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهَا ، أَوْ لَا
فَرْقَ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالْحُضُورِ ، وَقَدْ دَارَ هَذَا السُّؤَالُ
بَيْنَ جَمَاعَةٍ ، ثُمَّ رَأَيْت أَبَا فُورَكٍ ذَكَرَ فِي مُشْكِلِ
الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ ضَابِطًا حَسَنًا فَقَالَ :
الْغِيبَةُ ذِكْرُ الْغَيْرِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ .
وَكَذَا قَالَ سُلَيْمُ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيرِ الْغِيبَةِ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ مِنْ خُلُقِهِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ .
انْتَهَى .
وَفِي
الْمُحْكَمِ : لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ وَرَائِهِ ، وَوَجَدْت بِخَطِّ
الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ رَوَى
بِسَنَدِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
مَا كَرِهْت أَنْ تُوَاجِهَ بِهِ أَخَاك فَهُوَ غِيبَةٌ } ، وَخَصَّصَهَا
الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تُذَمُّ شَرْعًا
بِخِلَافِ نَحْوِ الزِّنَا فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ
النَّاسُ } غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ السِّتْرُ حَيْثُ لَا غَرَضَ ،
وَإِلَّا كَتَجْرِيحِهِ أَوْ إخْبَارِ مُخَالِطِهِ فَيَلْزَمُ بَيَانُهُ .
انْتَهَى .
وَمَا
ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَازِ فِي الْأَوَّلِ لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ
لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ وَقَالَ
أَحْمَدُ : مُنْكَرٌ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : لَيْسَ بِشَيْءٍ
فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى فَاجِرٍ مُعْلِنٍ بِفُجُورِهِ أَوْ يَأْتِي
بِشَهَادَةٍ أَوْ لِمَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ
حَالِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ انْتَهَى .
وَهَذَا الَّذِي حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ ، وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَأَوْرَدَهُ
بِلَفْظِ : { لَيْسَ لِلْفَاسِقِ غِيبَةٌ } وَيَقْضِي عَلَيْهِ عُمُومُ
خَبَرِ مُسْلِمٍ فِيهِ حَدُّ الْغِيبَةِ بِأَنَّهَا ذِكْرُك أَخَاك مَا
يَكْرَهُ
وَحَدَّهَا فِي الْإِحْيَاءِ بِمَا مَرَّ عَنْهُ ، وَقَدْ
أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا ذِكْرُهُ بِمَا يَكْرَهُ ، وَبِهِ
جَاءَ الْحَدِيثُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ .
وَمِمَّا
يُبِيحُ الْغِيبَةَ : أَنْ يَكُونَ مُتَجَاهِرًا بِالْفِسْقِ بِحَيْثُ لَا
يَسْتَنْكِفُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ كَالْمُخَنَّثِ وَالْمَكَّاسِ
وَمُصَادِرِ النَّاسِ فَلَا إثْمَ بِذِكْرِ مَا يَتَظَاهَرُ بِهِ
لِلْخَبَرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ : { مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا
غِيبَةَ لَهُ } .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ
الْإِيمَاءُ إلَى الْإِنْسَانِ بِالتَّنْقِيصِ لَهُ يَقُومُ مَقَامَ
الْقَوْلِ فِيهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَمَّا أَشَارَتْ إلَى
الْمَرْأَةِ أَنَّهَا قَصِيرَةٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { قَدْ اغْتَبْتِيهَا قُومِي فَتَحَلَّلِيهَا } انْتَهَى
كَلَامُ الْخَادِمِ مُلَخَّصًا .
وَأُخِذَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا مَرَّ
عَنْ الْقَفَّالِ مِنْ قَوْلِ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ
الْقَفَّالُ لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ ، وَالْحَدِيثُ
الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ، وَلَوْ صَحَّ لَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى
حَالَةِ الْحَاجَةِ .
وَقَالَ فِي التَّوَسُّطِ : وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَيْ فِي كَلَامِ الْقَفَّالِ لَا أَصْلَ لَهُ يُرْجَعُ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ غِيبَةِ الْكَافِرِ .
فَقَالَ
: هِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَحْذُورَةٌ لِثَلَاثِ عِلَلٍ : الْإِيذَاءُ
وَتَنْقِيصُ خَلْقِ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ
الْعِبَادِ ، وَتَضْيِيعُ الْوَقْتِ بِمَا لَا يُعْنِي .
قَالَ : وَالْأُولَى تَقْتَضِي التَّحْرِيمُ ، وَالثَّانِيَةُ الْكَرَاهَةُ ، وَالثَّالِثَةُ خِلَافُ الْأَوْلَى .
وَأَمَّا
الذِّمِّيُّ فَكَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ
الْإِيذَاءِ ، ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَصَمَ عِرْضَهُ وَدَمَهُ وَمَالَهُ .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَالْأُولَى هِيَ الصَّوَابُ .
وَقَدْ
رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سَمَّعَ يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا فَلَهُ النَّارُ } ، وَمَعْنَى سَمَّعَهُ أَسْمَعَهُ بِمَا
يُؤْذِيهِ ، وَلَا كَلَامَ بَعْدَ هَذَا أَيْ لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ عَلَى
الْحُرْمَةِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَيْسَ
بِمُحَرَّمٍ عَلَى الْأُولَى وَيُكْرَهُ عَلَى الثَّانِيَةِ
وَالثَّالِثَةِ ، وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَإِنْ كَفَرَ فَكَالْحَرْبِيِّ
وَإِلَّا فَكَالْمُسْلِمِ ، وَأَمَّا ذِكْرُهُ بِبِدْعَتِهِ فَلَيْسَ
مَكْرُوهًا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ } فِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ أَخَاك مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ
سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ ، أَوْ مَنْ أَخْرَجَتْهُ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا
إلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ لَا غِيبَةَ لَهُ .
انْتَهَى .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَهَذَا قَدْ يُنَازِعُ فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ .
ا هـ وَالْمُنَازَعَةُ وَاضِحَةٌ .
فَالْوَجْهُ بَلْ الصَّوَابُ تَحْرِيمُ غِيبَةِ الذِّمِّيِّ كَمَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا .
وَمِنْهَا
: قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ حَدِّهِمْ السَّابِقِ لِلْغِيبَةِ أَنَّهَا
تَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا
الْإِيذَاءُ بِتَفْهِيمِ الْغَيْرِ نُقْصَانَ الْمُغْتَابِ ، وَهَذَا
مَوْجُودٌ حَيْثُ أَفْهَمْت الْغَيْرَ مَا يَكْرَهُهُ الْمُغْتَابُ وَلَوْ
بِالتَّعْرِيضِ أَوْ الْفِعْلِ أَوْ
الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ أَوْ الْغَمْزِ أَوْ الرَّمْزِ أَوْ الْكِتَابَةِ .
قَالَ
النَّوَوِيُّ بِلَا خَوْفٍ وَكَذَا سَائِرُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى
فَهْمِ الْمَقْصُودِ كَأَنْ يَمْشِيَ مِشْيَتَهُ فَهُوَ غِيبَةٌ بَلْ هُوَ
أَعْظَمُ مِنْ الْغِيبَةِ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ
فِي التَّصْوِيرِ وَالتَّفْهِيمِ وَأَنْكَى لِلْقَلْبِ .
وَذِكْرُ
الْمُصَنِّفِ شَخْصًا مُعَيَّنًا وَرَدُّ كَلَامِهِ غِيبَةً إلَّا أَنْ
يَقْتَرِنَ بِهِ أَحَدُ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ الْمُبِيحَةِ لَهَا
وَقَدْ مَرَّتْ ، وَكَذَا مِنْهَا قَوْلُك فَعَلَ كَذَا بَعْضُ مَنْ مَرَّ
بِنَا الْيَوْمَ إذَا فَهِمَ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ مُعَيَّنًا وَلَوْ
بِقَرِينَةٍ خَفِيَّةٍ وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ
وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قُلْت : يُنَافِيهِ قَوْلُهُمْ تَحْرُمُ الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ أَيْضًا فَلَا عِبْرَةَ بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِ .
قُلْت
: الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ هِيَ أَنْ تَظُنَّ بِهِ السُّوءَ ، وَتُصَمِّمَ
عَلَيْهِ بِقَلْبِك مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي ذَلِكَ إلَى
مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ
مُرَادُهُمْ بِالْغِيبَةِ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ
مِنْ مُبْهَمٍ لِمُخَاطِبِك ، وَلَكِنَّهُ مُعَيَّنٌ عِنْدَك فَلَيْسَ
فِيهِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ وَالتَّصْمِيمُ فَافْتَرَقَا ، ثُمَّ رَأَيْت
مَا سَأَذْكُرُهُ عَنْ الْإِحْيَاءِ الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ
صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِمْ
عَلَيْهِ ؛ وَمِنْ أَخْبَثِ أَنْوَاعِ الْغِيبَةِ غِيبَةُ مَنْ يُفْهِمُ
الْمَقْصُودَ بِطَرِيقَةِ الصَّالِحِينَ إظْهَارًا لِلتَّعَفُّفِ عَنْهَا
، وَلَا يَدْرِي بِجَهْلِهِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَاحِشَتَيْ الرِّيَاءِ
وَالْغِيبَةِ ، كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمُرَائِينَ أَنَّهُ يُذْكَرُ
عِنْدَهُ إنْسَانٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا ابْتَلَانَا
بِقِلَّةِ الْحَيَاءِ أَوْ بِالدُّخُولِ عَلَى السَّلَاطِينِ ، وَلَيْسَ
قَصْدُهُ بِدُعَائِهِ إلَّا أَنْ يُفْهِمَ عَيْبَ الْغَيْرِ .
وَقَدْ
يَزِيدُ خُبْثُهُ فَيُقَدِّمُ مَدْحَهُ حَتَّى يُظْهِرَ تَنَصُّلَهُ مِنْ
الْغِيبَةِ فَيَقُولُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ أَوْ الْعِلْمِ
لَكِنَّهُ فَتَرَ وَابْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِينَا بِهِ كُلُّنَا وَهُوَ
قِلَّةُ الصَّبْرِ فَيَذْكُرُ نَفْسَهُ ، وَمَقْصُودُهُ ذَمُّ غَيْرِهِ
وَالتَّمَدُّحُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّالِحِينَ فِي ذَمِّ نُفُوسِهِمْ ،
فَيَجْمَعُ بَيْنَ ثَلَاثِ فَوَاحِشَ : الْغِيبَةُ وَالرِّيَاءُ
وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بَلْ أَرْبَعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ بِجَهْلِهِ
أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنْ
الْغِيبَةِ وَمَنْشَأُ ذَلِكَ الْجَهْلِ ، فَإِنَّ مَنْ تَعَبَّدَ عَلَى
جَهْلٍ لَعِبَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَضَحِكَ عَلَيْهِ وَسَخِرَ بِهِ ،
فَأَحْبَطَ عَمَلَهُ وَضَيَّعَ تَعَبَهُ وَأَرْدَاهُ إلَى دَرَجَاتِ
الْبَوَارِ وَالضَّلَالِ ؛ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ سَاءَنِي مَا
وَقَعَ لِصَدِيقِنَا مِنْ كَذَا ،
فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُثَبِّتَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ .
وَمَا
دَرَى الْجَاهِلُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى خُبْثِ ضَمِيرِهِ ،
وَأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِمَقْتِ اللَّهِ أَعْظَمَ مِمَّا
يَتَعَرَّضُ الْجُهَّالُ إذَا جَاهَرُوا ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِصْغَاءُ
لِلْمُغْتَابِ عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ ؛ لِيَزْدَادَ نَشَاطُهُ فِي
الْغِيبَةِ ، وَمَا دَرَى الْجَاهِلُ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْغِيبَةِ
غِيبَةٌ ، بَلْ السَّاكِتُ عَلَيْهَا شَرِيكُ الْمُغْتَابِ كَمَا فِي
خَبَرٍ : { الْمُسْتَمِعُ أَحَدُ الْمُغْتَابِينَ } ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ
الشَّرِكَةِ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ وَلَوْ بِأَنْ يَخُوضَ فِي
كَلَامٍ آخَرَ فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ ، وَيَلْزَمُهُ مُفَارَقَةُ
الْمَجْلِسِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَقُولَ
بِلِسَانِهِ اُسْكُتْ وَقَلْبُهُ مُشْتَهٍ لِاسْتِمْرَارِهِ ، وَلَا أَنْ
يُشِيرَ بِنَحْوِ يَدِهِ وَلَوْ عَظُمَ الْإِنْكَارُ بِلِسَانِهِ
لَأَفَادَ ، وَمَرَّ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ
أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نَصْرَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَمَرَّتْ أَخْبَارٌ أُخَرُ بِنَحْوِ
ذَلِكَ .
وَفِي حَدِيثٍ : { مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَمِنْهَا : الْبَوَاعِثُ عَلَى الْغِيبَةِ كَثِيرَةٌ .
إمَّا
تَشَفِّي الْغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِئِ مَنْ أَغْضَبَك ، وَقَدْ لَا
يَشْفِيهِ ذَلِكَ فَيُحْقَنُ الْغَضَبُ فِي بَاطِنِهِ وَيَصِيرُ حِقْدًا
ثَابِتًا فَيَكُونُ سَبَبًا دَائِمًا لِذِكْرِ الْمَسَاوِئِ ، وَالْحِقْدُ
وَالْغَضَبُ مِنْ الْبَوَاعِثِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْغِيبَةِ .
وَإِمَّا
مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ وَمُجَامَلَتُهُمْ بِالِاسْتِرْسَالِ مَعَهُمْ
فِيمَا هُمْ فِيهِ أَوْ إبْدَاءِ نَظِيرِ مَا أَبْدُوهُ خَشْيَةَ أَنَّهُ
لَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ اسْتَثْقَلُوهُ وَنَفَرُوا عَنْهُ ، وَيَظُنُّ
بِجَهْلِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمُجَامَلَةِ فِي الصُّحْبَةِ بَلْ قَدْ
يَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ إظْهَارًا لِلْمُسَاهَمَةِ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ ، فَيَخُوضُ مَعَهُمْ فِي ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ وَالْعُيُوبِ
فَيَهْلِكُ .
وَإِمَّا أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ
يُرِيدُ تَنْقِيصَهُ أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ كَبِيرٍ
فَيَسْبِقُهُ بِذِكْرِ مَسَاوِئِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَبِيرِ ؛
لِيُسْقِطَهُ مِنْ عَيْنِهِ ، وَرُبَّمَا رَوَّجَ كَذَبَهُ بِأَنْ
يَبْدَأَ بِذِكْرِ الصِّدْقِ مِنْ عُيُوبِهِ ثُمَّ يَتَدَرَّجُ لِلْغَيْرِ
؛ لِيَسْتَشْهِدَ بِصِدْقِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي الْكُلِّ .
وَإِمَّا
أَنْ يُنْسَبَ لِقَبِيحٍ فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ بِأَنَّ فَاعِلَهُ هُوَ
فُلَانٌ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّبَرُّؤُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ عَنْ
نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ فَاعِلِهِ ، وَقَدْ يُمَهِّدُ عُذْرَهُ
بِأَنَّ فُلَانًا شَرِيكَهُ فِيهِ وَهُوَ قَبِيحٌ أَيْضًا ، وَإِمَّا
التَّصَنُّعُ وَإِرَادَةُ رِفْعَةِ نَفْسِهِ وَخَفْضِ غَيْرِهِ كَفُلَانٍ
جَاهِلٍ أَوْ فَهْمُهُ رَكِيكٌ تَدْرِيجًا إلَى إظْهَارِ فَضْلِ نَفْسِهِ
بِسَلَامَتِهِ عَنْ تِلْكَ النَّقَائِصِ .
وَإِمَّا الْحَسَدُ
لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ ، فَيُرِيدُ أَنْ
يُثْنِيَهُمْ عَنْهُ بِالْقَدَحِ فِيهِ حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ نِعْمَةُ
ثَنَاءِ النَّاسِ وَمَحَبَّتُهُمْ ، وَإِمَّا اللَّعِبُ وَالْهَزْلُ
فَيَذْكُرُ عَنْ غَيْرِهِ مَا يَضْحَكُ النَّاسُ بِهِ .
وَإِمَّا السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَهُوَ فِي حَضْرَتِهِ تَحْقِيرًا لَهُ ، هَذِهِ هِيَ
الْأَسْبَابُ الْعَامَّةُ .
وَبَقِيَ
أَسْبَابٌ خَاصَّةٌ هِيَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ كَأَنْ يَتَعَجَّبَ ذُو دِينٍ
مِنْ مُنْكَرٍ فَيَقُولُ : مَا أَعْجَبَ مَا رَأَيْت مِنْ فُلَانٍ ،
فَهُوَ وَإِنْ صَدَقَ فِي تَعَجُّبِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ لَكِنْ كَانَ
حَقُّهُ أَنْ لَا يُعَيِّنَ فُلَانًا بِذَكَرِ اسْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ
بِهِ مُغْتَابًا آثِمًا مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي ، وَمِنْ ذَلِكَ عَجِيبٌ
مِنْ فُلَانٍ كَيْفَ يُحِبُّ أَمَتَهُ وَهِيَ قَبِيحَةٌ ، وَكَيْفَ
يَقْرَأُ عَلَى فُلَانٍ الْجَاهِلِ ، وَكَأَنْ يَغْتَمَّ مِمَّا
اُبْتُلِيَ بِهِ ، فَيَقُولُ مِسْكِينٌ فُلَانٌ سَاءَنِي بَلْوَاهُ
بِكَذَا .
فَهُوَ وَإِنْ صَدَقَ فِي اغْتِمَامِهِ لَهُ ، لَكِنْ كَانَ
مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَذْكُرَ اسْمَهُ فَغَمُّهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ ،
وَلَكِنَّهُ سَاقَهُ إلَى شَرٍّ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ
مُمْكِنٌ دُونَ ذِكْرِ اسْمِهِ فَهَيَّجَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى ذِكْرِ
اسْمِهِ ؛ لِيُبْطِلَ بِهِ ثَوَابَ اغْتِمَامِهِ وَتَرَحُّمِهِ ، وَكَأَنْ
يَغْضَبَ لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ مُقَارَفَةِ غَيْرِهِ لِمُنْكَرٍ فَيَظْهَرُ
غَضَبُهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ
عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُظْهِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ
أَوْ يَسْتُرَ اسْمَهُ وَلَا يَذْكُرَهُ بِالسُّوءِ .
فَهَذِهِ
الثَّلَاثَةُ مِمَّا يَغْمُضُ دَرْكُهَا عَنْ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ
الْعَوَامّ ، لِظَنِّهِمْ أَنَّ التَّعَجُّبَ وَالرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ
إذَا كَانَ لِلَّهِ كَانَ عُذْرًا فِي ذِكْرِ الِاسْمِ وَهُوَ خَطَأٌ ،
بَلْ الْمُرَخِّصُ فِي الْغِيبَةِ الْأَعْذَارُ السَّابِقَةُ فَقَطْ ،
وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْهَا هُنَا .
وَمِنْهَا :
يَتَعَيَّنُ عَلَيْك مَعْرِفَةُ عِلَاجِ الْغِيبَةِ ، وَهُوَ إمَّا
إجْمَالِيٌّ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّك قَدْ تَعَرَّضَتْ بِهَا لِسَخَطِ
اللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوبَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ
وَالْأَخْبَارُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا ، وَأَيْضًا فَهِيَ تُحْبِطُ
حَسَنَاتِك لِمَا مَرَّ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ فِي الْمُفْلِسِ مِنْ أَنَّهُ
تُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ إلَى أَنْ تَفْنَى ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ
مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ سَيِّئَاتُهُ
كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ أَهْلِ
الْأَعْرَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ ، فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ
الْغِيبَةُ سَبَبًا لِفِنَاءِ حَسَنَاتِك وَزِيَادَةِ سَيِّئَاتِك
فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ : { أَنَّ
الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ تَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ
الرَّاعِي الشَّجَرَةَ } .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ : بَلَغَنِي أَنَّك تَغْتَابُنِي .
فَقَالَ مَا بَلَغَ قَدْرُك عِنْدِي أَنِّي أُحَكِّمُك فِي حَسَنَاتِي .
وَمَنْ
آمَنَ بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ فَطَمَ نَفْسَهُ عَنْ الْغِيبَةِ فَطْمًا
كُلِّيًّا ، خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا فِي
الْأَخْبَارِ .
وَمِمَّا يَنْفَعُك أَيْضًا أَنَّك تَتَدَبَّرُ فِي
عُيُوبِك ، وَتَجْتَهِدُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا ؛ لِتَدْخُلَ تَحْتَ
مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ
اللَّهِ فَلْيَسَعْهُ بَيْتُهُ وَلْيَبْكِ عَلَى خَطِيئَتِهِ وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا لِيَغْنَمَ
، أَوْ لِيَسْكُتْ عَنْ شَرٍّ فَيَسْلَمَ } .
وَتَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ
تَذُمَّ غَيْرَك بِمَا أَنْتَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ ، فَإِنْ
كَانَ أَمْرًا خِلْقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ ، إذْ مَنْ
ذَمَّ صَنْعَةً ذَمَّ صَانِعَهَا .
قَالَ رَجُلٌ لِحَكِيمٍ يَا قَبِيحَ الْوَجْهِ .
فَقَالَ مَا كَانَ خَلْقُ وَجْهِي إلَيَّ فَأُحْسِنُهُ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَك عَيْبًا وَهُوَ بَعِيدٌ فَاشْكُرْ اللَّهَ
إذْ تَفَضَّلَ عَلَيْك بِالنَّزَاهَةِ عَنْ الْعُيُوبِ فَلَا تَسْمُ نَفْسُك بِتَعْظِيمِهَا .
وَيَنْفَعُك
أَيْضًا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ تَأَذِّي غَيْرِك بِالْغِيبَةِ كَتَأَذِّيك
بِهَا ، فَكَيْفَ تَرْضَى لِغَيْرِك مَا تَتَأَذَّى بِهِ .
وَإِمَّا
تَفْصِيلِيٌّ بِأَنْ تَنْظُرَ فِي بَاعِثِهَا فَتَقْطَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ
، إذْ عِلَاجُ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا ، وَإِذَا
اسْتَحْضَرْت الْبَوَاعِثَ عَلَيْهَا السَّابِقَةَ ظَهَرَ لَك السَّعْيُ
فِي قَطْعِهَا كَأَنْ تَسْتَحْضِرَ فِي الْغَضَبِ أَنَّك إنْ أَمْضَيْت
غَضَبَك فِيهِ بِغِيبَةٍ أَمْضَى اللَّهُ غَضَبَهُ فِيك لِاسْتِخْفَافِك
بِنَهْيِهِ ، وَجُرْأَتِك عَلَى وَعِيدِهِ .
وَفِي حَدِيثٍ : { إنَّ لِجَهَنَّمَ بَابًا لَا يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَفِي
الْمُرَافَقَةِ : إنَّك إذَا أَرْضَيْت الْمَخَالِيقَ بِغَضَبِ اللَّهِ
عَاجَلَك بِعُقُوبَتِهِ ، إذْ لَا أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِي
الْحَسَدِ : أَنَّك جَمَعَتْ بَيْنَ خَسَارِ الدُّنْيَا بِحَسَدِك لَهُ
عَلَى نِعْمَتِهِ وَكَوْنِك مُعَذَّبًا بِالْحَسَدِ ، وَالْآخِرَةِ ؛
لِأَنَّك نَصْرَتَهُ بِإِهْدَاءِ حَسَنَاتِك إلَيْهِ ، أَوْ طَرْحِ
سَيِّئَاتِهِ عَلَيْك ، فَصِرْت صَدِيقَهُ وَعَدُوَّ نَفْسِك فَجَمَعْت
إلَى خُبْثِ حَسَدِك جَهْلَ حَمَاقَتِك ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْك
سَبَبَ انْتِشَارِ فَضْلِهِ كَمَا قِيلَ : وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ
فَضِيلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ .
وَفِي قَصْدِ
الْمُبَاهَاةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَنَّك بِمَا ذَكَرْته فِيهِ
أَبْطَلْت فَضْلَك عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَنْتَ لَسْت عَلَى ثِقَةٍ مِنْ
اعْتِقَادِ النَّاسِ فِيك ، بَلْ رُبَّمَا مَقَتُوك إذَا عَرَفُوك
بِثَلْبِ الْأَعْرَاضِ وَقُبْحِ الْأَغْرَاضِ ، فَقَدْ بِعْت مَا عِنْدَ
اللَّهِ يَقِينًا بِمَا عِنْدَ الْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ وَهْمًا ، وَفِي
الِاسْتِهْزَاءِ أَنَّك إذَا أَخْزَيْت غَيْرَك عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ
أَخْزَيْت نَفْسَك عِنْدَ اللَّهِ ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا وَعِلَاجُ
بَقِيَّةِ الْبَوَاعِثِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَرَّرَ فَلَا حَاجَةَ
لِلْإِطَالَةِ بِهِ .
وَمِنْهَا : قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْغِيبَةَ بِالْقَلْبِ حَرَامٌ ،
وَبَيَانُ مَعْنَاهُ ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْإِحْيَاءِ بَيَانُ تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ بِالْقَلْبِ .
اعْلَمْ
أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ حَرَامٌ مِثْلُ سُوءِ الْقَوْلِ ، وَلَسْت أَعْنِي
بِهِ إلَّا عَقْدَ الْقَلْبِ وَحُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِالسُّوءِ ،
فَأَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ،
بَلْ الشَّكُّ أَيْضًا مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَلَكِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ
أَنْ تَظُنَّ ، وَالظَّنُّ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرْكَنُ إلَيْهِ النَّفْسُ ،
وَيَمِيلُ إلَيْهِ الْقَلْبُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا
كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } وَسَبَبُ
تَحْرِيمِهِ أَنَّ أَسْبَابَ الْقُلُوبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا عَلَّامُ
الْغُيُوبِ ، فَلَيْسَ لَك أَنْ تَعْقِدَ فِي غَيْرِك سُوءًا إلَّا إذَا
انْكَشَفَ لَك بِعِبَارَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ .
فَعِنْدَ
ذَلِكَ لَا يُمْكِنُك أَلَّا تَعْتَقِدَ مَا عَلِمْته وَشَاهَدْته وَمَا
لَمْ تُشَاهِدْهُ بِعَيْنِك وَلَمْ تَسْمَعْهُ بِأُذُنِك ثُمَّ وَقَعَ فِي
قَلْبِك ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِيهِ إلَيْك ، فَيَنْبَغِي أَنْ
تُكَذِّبَهُ فَإِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَوَّلَ سُورَةِ تِلْكَ الْآيَةِ : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الْآيَةَ .
وَلَا
تَغْتَرَّ بِمَخِيلَةِ فَسَادٍ إذَا احْتَمَلَ خِلَافَهَا ؛ لِأَنَّ
الْفَاسِقَ يَجُوزُ أَنْ يَصْدُقَ فِي خَبَرِهِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَك
تَصْدِيقُهُ ؛ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَحُدَّ أَئِمَّتُنَا بِرَائِحَةِ
الْخَمْرِ لِإِمْكَانِ أَنَّهَا مِنْ غَيْرِهَا .
وَتَأَمَّلْ خَبَرَ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنْ الْمُسْلِمِ دَمَهُ وَمَالَهُ ، وَأَنْ تَظُنَّ بِهِ السُّوءَ } .
فَعُلِمَ
مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَك ظَنُّ السُّوءِ بِهِ إلَّا مَا يَسُوغُ
لَك أَخْذُ مَالِهِ مِنْ يَقِينِ مُشَاهَدَةٍ أَوْ بَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ ،
وَإِلَّا فَبَالِغْ فِي دَفْعِ الظَّنِّ عَنْك مَا أَمْكَنَك لِاحْتِمَالِ
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَأَمَارَةُ سُوءِ الظَّنِّ الْمُحَقَّقَةِ لَهُ
أَنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبُك عَلَيْهِ عَمَّا كَانَ فَتَنْفِرَ عَنْهُ
وَتَسْتَثْقِلَهُ وَتَفْتُرَ عَنْ مُرَاعَاتِهِ .
وَفِي الْخَبَرِ : {
ثَلَاثٌ فِي الْمُؤْمِنِ وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ ، فَمَخْرَجُهُ مِنْ
سُوءِ الظَّنِّ أَنْ لَا يُحَقِّقَهُ } .
أَيْ لَا يُحَقِّقُ مُقْتَضَاهُ فِي
نَفْسِهِ
بِعَقْدِ الْقَلْبِ بِتَغْيِيرِهِ إلَى النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَلَا
بِفِعْلِ الْجَوَارِحِ بِإِعْمَالِهَا بِمُوجِبِهِ ، وَالشَّيْطَانُ قَدْ
يُقَرِّرُ عَلَى الْقَلْبِ بِأَدْنَى مُخْيَلَةٍ مَسَاءَةَ النَّاسِ ،
وَيُلْقِي إلَيْهِ أَنَّ هَذَا مِنْ مَزِيدِ فِطْنَتِك وَسُرْعَةِ
تَنَبُّهِك ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى
التَّحْقِيقِ نَاظِرٌ بِنُورِ الشَّيْطَانِ وَظُلْمَتِهِ ، وَإِذَا
أَخْبَرَك عَدْلٌ فَمِلْت إلَى تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ كُنْت
جَانِيًا عَلَى أَحَدِهِمَا بِاعْتِقَادِ السُّوءِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ
أَوْ الْكَذِبِ فِي الْمُخْبِرِ .
فَعَلَيْك أَنْ تَبْحَثَ هَلْ ثَمَّ
تُهْمَةٌ فِي الْمُخْبِرِ بِنَحْوِ عَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ
وَجَدْتهَا فَتَوَقَّفَ وَابْقَ الْمُخْبِرِ عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ
عِنْدَك مِنْ عَدَمِ ظَنِّ السُّوءِ ، وَلَا تُصْغِ لِمَنْ دَأْبُهُ
الْكَلَامُ فِي النَّاسِ مُطْلَقًا .
وَيَنْبَغِي لَك إذَا وَرَدَ
عَلَيْك خَاطِرُ سُوءٍ بِمُسْلِمٍ أَنْ تُبَادِرَ بِالدُّعَاءِ لَهُ
بِالْخَيْرِ ؛ لِتَغِيظَ الشَّيْطَانَ ، وَتَقْطَعَ عَنْهُ إلْقَاءَهُ
إلَيْك ذَلِكَ مِنْ دُعَائِك لَهُ .
وَإِذَا عَرَفْت هَفْوَةَ مُسْلِمٍ
أَنْ تَنْصَحَهُ سِرًّا قَاصِدًا تَخْلِيصَهُ مِنْ الْإِثْمِ مُظْهِرًا
لِحُزْنِك عَلَى مَا أَصَابَهُ كَمَا تَحْزَنُ لَوْ أَصَابَك لِتَجْمَعَ
بَيْنَ أَجْرِ الْوَعْظِ وَأَجْرِ الْهَمِّ وَالْإِعَانَةِ لَهُ عَلَى
دِينِهِ .
وَمِنْ ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ التَّجَسُّسُ فَإِنَّ
الْقَلْبَ لَا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ بَلْ يَطْلُبُ الْيَقِينَ
فَيَتَجَسَّسُ ، وَمَرَّ النَّهْيُ عَنْ التَّجَسُّسِ ، وَهُوَ أَنْ لَا
يَتْرُكَ الْخَلْقَ تَحْتَ سَرِيرَتِهِمْ فَيُتَوَصَّلُ إلَى الِاطِّلَاعِ
عَلَى مَا لَوْ دَامَ سِتْرُهُ عَنْك كَانَ أَسْلَمَ لِقَلْبِك وَدِينِك ،
وَجَمَعَ مَعَ الْغِيبَةِ سُوءَ الظَّنِّ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ التَّلَازُمِ غَالِبًا .
وَمِنْهَا : يَجِبُ عَلَى
الْمُغْتَابِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا فَيُقْلِعَ
وَيَنْدَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِيُخْرِجَ
مِنْ حَقِّهِ ثُمَّ يَسْتَحِلَّ الْمُغْتَابَ خَوْفًا أَيْضًا لِيَحِلَّهُ
فَيَخْرُجَ عَنْ مَظْلِمَتِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَكْفِيهِ
الِاسْتِغْفَارُ عَنْ الِاسْتِحْلَالِ ، وَاحْتَجَّ بِخَبَرِ : {
كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ : كَفَّارَةُ ذَلِكَ أَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ وَتَدْعُوَ لَهُ بِالْخَيْرِ .
وَالْأَصَحُّ
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ ، وَزَعْمُ أَنَّ الْعِرْضَ لَا
عِوَضَ لَهُ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَالِ
مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ وَجَبَ فِي الْعِرْضِ حَدُّ الْقَذْفِ .
قِيلَ
بَلْ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِحْلَالِ مِنْ
الْمَظَالِمِ قَبْلَ يَوْمٍ لَا دِرْهَمٌ فِيهِ وَلَا دِينَارٌ ،
وَإِنَّمَا هِيَ حَسَنَاتُ الظَّالِمِ تُؤْخَذُ لِلْمَظْلُومِ ،
وَسَيِّئَاتُ الْمَظْلُومِ تُطْرَحُ عَلَى الظَّالِمِ فَتَعَيَّنَ
الِاسْتِحْلَالُ ، نَعَمْ الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ يَنْبَغِي أَنْ
يُكْثِرَ لَهُمَا مِنْ الِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ .
وَيُنْدَبُ
لِمَنْ سُئِلَ فِي التَّحَلُّلِ وَهُوَ الْعَفْوُ أَنْ يُحَلِّلَ وَلَا
يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَفَضْلٌ ، وَكَانَ جَمْعٌ
مِنْ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّحْلِيلِ ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ
خَبَرُ : { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ كَانَ
إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ : إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى
النَّاسِ } ، وَمَعْنَاهُ لَا أَطْلُبُ مَظْلِمَةً مِنْهُ وَلَا
أُخَاصِمُهُ فِي الْقِيَامَةِ ؛ لِأَنَّ الْغِيبَةَ تَصِيرُ حَلَالًا ؛
لِأَنَّ فِيهَا حَقًّا لِلَّهِ ، وَلِأَنَّهُ عَفْوٌ ، وَإِبَاحَةٌ
لِلشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْحَقُّ
فِي الدُّنْيَا .
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَنْ أَبَاحَ
الْقَذْفَ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ حَدِّهِ وَمَظْلِمَتِهِ لَا فِي
الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثِ
بَسْطٌ فِي مَبْحَثِ التَّوْبَةِ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ .
( الْكَبِيرَةُ الْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ الْمَكْرُوهَةِ ) .
قَالَ
تَعَالَى : { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ
الظَّالِمُونَ } تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ
وَاحِدٍ مَعَ عَدِّ الْغِيبَةِ أَيْضًا وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
بَعْضِ أَقْسَامِهَا كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ ، وَكَأَنَّهُمْ
اقْتَدُوا بِأُسْلُوبِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِيهَا
كُلٌّ مِنْ التَّنَابُزِ وَالْغِيبَةِ ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ
بَيْنَهُمَا نَوْعَ تَغَايُرٍ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ سَبَبَ إفْرَادِ
التَّنَابُزِ بِالذِّكْرِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَفْرَادِ الْغِيبَةِ
الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ أَفْحَشِ أَنْوَاعِهَا ، فَقَصَدَ
بِإِفْرَادِهِ تَقْبِيحَ شَأْنِهِ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ .
وَفِي
أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ تَلْقِيبِ
الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُهُ سَوَاءٌ كَانَ صِفَةً لَهُ أَوْ لِأَبِيهِ
أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَكْرَهُ .
( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُسْلِمِ ) .
قَالَ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ
قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ
عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى
تَفْسِيرِهَا قَرِيبًا ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ
ذَلِكَ .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ
بِالنَّاسِ يُفْتَحُ لِأَحَدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ
فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ هَلُمَّ فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ فَإِذَا
جَاءَهُ أُغْلِقَ دُونَهُ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ آخَرُ فَيُقَالُ
لَهُ هَلُمَّ هَلُمَّ فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ فَإِذَا جَاءَهُ
أُغْلِقَ دُونَهُ ، فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ
مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ فَمَا يَأْتِيهِ مِنْ
الْإِيَاسِ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ
صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلَّا أَحْصَاهَا } الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ
، وَالْكَبِيرَةُ الضَّحِكُ بِحَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ .
وَقَالَ
الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ وَسَخِرَ بِهِ
فَهُوَ فَاسِقٌ .
وَالسُّخْرِيَةُ الِاسْتِحْقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ ،
وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَوْمَ يَضْحَكُ مِنْهُ ،
وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُحَاكَاةِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ
الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ أَوْ الضَّحِكِ عَلَى كَلَامِهِ إذَا
تَخَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلَطَ أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ أَوْ قَبِيحِ
صُورَتِهِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ
مَعَ ذِكْرِهِ لِلْغِيبَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهَا
كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِيهَا ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ
اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ
ذَكَرَ الْغِيبَةِ ، وَتَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ
عَنْهُ نَظِيرُ مَا تَقَرَّرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : النَّمِيمَةُ ) .
قَالَ
تَعَالَى : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أَيْ دَعِيٍّ ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ
ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ ،
فَعَدَمُ كَتْمِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ وَلَدُ زِنَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } قِيلَ اللُّمَزَةُ النَّمَّامُ .
وَقَالَ
تَعَالَى : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } قِيلَ كَانَتْ نَمَّامَةٌ حَمَّالَةٌ
لِلْحَدِيثِ إفْسَادًا بَيْنَ النَّاسِ ، وَسُمِّيَتْ النَّمِيمَةُ
حَطَبًا ؛ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا أَنَّ
الْحَطَبَ يَنْشُرُ النَّارَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَانَتَاهُمَا
فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } أَيْ ؛ لِأَنَّ
امْرَأَةَ نُوحٍ كَانَتْ تَقُولُ عَنْهُ مَجْنُونٌ ، وَامْرَأَةَ لُوطٍ
كَانَتْ تُخْبِرُ قَوْمَهَا بِضِيفَانِهِ حَتَّى يَقْصِدُوهُمْ لِتِلْكَ
الْفَاحِشَةِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي اخْتَرِعُوهَا حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ
بِذَلِكَ الْعَذَابِ الْفَظِيعِ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " قَتَّاتٌ " وَهُوَ النَّمَّامُ .
وَقِيلَ : النَّمَّامُ الَّذِي يَكُونُ مَعَ جَمْعٍ يَتَحَدَّثُونَ حَدِيثًا فَيَنِمُّ عَلَيْهِمْ .
وَالْقَتَّاتُ : الَّذِي يَسْتَمِعُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ثُمَّ يَنِمُّ .
وَالشَّيْخَانِ
وَالْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ : { مَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ
وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ - أَيْ أَمْرٍ شَاقٍّ عَلَيْهِمَا لَوْ
فَعَلَاهُ بَلْ إنَّهُ كَبِيرٌ أَيْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ - أَمَّا
أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ
لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ } .
الْحَدِيثُ .
وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ طُرُقُهُ فِي مَوَاضِعَ ، وَأَنَّ ثُلُثَ عَذَابِ الْقَبْرِ
مِنْ الْغِيبَةِ وَثُلُثَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ ، وَثُلُثَهُ مِنْ
الْبَوْلِ .
وَأَحْمَدُ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، فَكَانَ
النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ ، فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ النِّعَالِ وَقَرَ
ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ، فَجَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ لِئَلَّا
يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ ، فَلَمَّا مَرَّ بِبَقِيعِ
الْغَرْقَدِ إذْ بِقَبْرَيْنِ قَدْ دَفَنُوا فِيهِمَا رَجُلَيْنِ ،
فَوَقَفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ دَفَنْتُمْ
الْيَوْمَ هَاهُنَا ؟ قَالُوا فُلَانٌ وَفُلَانٌ .
قَالُوا يَا نَبِيَّ
اللَّهِ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا
يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي
بِالنَّمِيمَةِ ، وَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا ثُمَّ جَعَلَهَا
عَلَى الْقَبْرَيْنِ .
قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ لِيُخَفَّفَ عَنْهُمَا .
قَالُوا
يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَتَّى مَتَى يُعَذَّبَانِ ؟ قَالَ : غَيْبٌ لَا
يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَوْلَا تَمَزُّعُ قُلُوبِكُمْ
وَتَزَيُّدُكُمْ فِي الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { النَّمِيمَةُ وَالشَّتِيمَةُ وَالْحَمِيَّةُ فِي النَّارِ } .
وَفِي لَفْظٍ : { النَّمِيمَةُ وَالْحِقْدُ فِي النَّارِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ } .
وَأَبُو
يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَتْرُوكَانِ مُتَّهَمَانِ بِالْوَضْعِ :
{ أَلَا أَنَّ الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ ، وَالنَّمِيمَةَ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْنَا بِقَبْرَيْنِ
فَقَامَ فَقُمْنَا مَعَهُ فَجَعَلَ لَوْنُهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَ
كُمُّ قَمِيصِهِ فَقُلْنَا مَالَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ أَمَا
تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ ، فَقُلْنَا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ هَذَانِ رَجُلَانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا
فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ أَيْ فِي ظَنِّهِمَا لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ
لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَهُوَ
مَجْمَعٌ عَلَيْهِ
قُلْنَا فِيمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ كَانَ أَحَدُهُمَا
لَا يَتَنَزَّهُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ
بِلِسَانِهِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ ، فَدَعَا
بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ
وَاحِدَةً قُلْنَا وَهَلْ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ يُخَفَّفُ
عَنْهُمَا مَا دَامَتَا رَطْبَتَيْنِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَيْسَ
مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ ،
ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله
تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا } } .
وَأَحْمَدُ : { خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا
رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ
بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ
لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ
أَبِي الدُّنْيَا : { الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ } .
وَأَبُو
الشَّيْخِ : { الْهَمَّازُونَ وَاللَّمَّازُونَ وَالْمَشَّاءُونَ
بِالنَّمِيمَةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ يَحْشُرُهُمْ اللَّهُ
فِي وُجُوهِ الْكِلَابِ } .
وَعَنْ .
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مِنْ
أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا } .
الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَفِي
رِوَايَةٍ : { إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا
الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ ،
وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَى اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ
الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ
الْعَيْبَ } .
وَفِي أُخْرَى : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟
قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : شِرَارُكُمْ
الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ ،
أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِّ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ
وَيُبْغِضُونَهُ .
قَالَ
: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الَّذِينَ لَا يُقِيلُونَ عَثْرَةً ، وَلَا
يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً ، وَلَا يَغْفِرُونَ ذَنْبًا .
قَالَ : أَفَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
قَالَ : مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ } ، رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَلَّا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ
الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا بَلَى ، قَالَ :
إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَإِنَّ إفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ
الْحَالِقَةُ } .
وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ
الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } .
وَفِي خَبَرٍ : { أَيُّمَا
رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ
يَشِينُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ
يُذِيبَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ
بِنَفَاذِ مَا قَالَ } .
وَرَوَى كَعْبٌ : أَنَّهُ أَصَابَ بَنِي
إسْرَائِيلَ قَحْطٌ ، فَاسْتَسْقَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ
عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - مَرَّاتٍ فَمَا أُجِيبَ ، فَأَوْحَى
اللَّهُ - تَعَالَى - إلَيْهِ أَنِّي لَا أَسْتَجِيبُ لَك وَلَا لِمَنْ
مَعَك وَفِيكُمْ نَمَّامٌ قَدْ أَصَرَّ عَلَى النَّمِيمَةِ .
فَقَالَ
مُوسَى يَا رَبِّ مَنْ هُوَ حَتَّى نُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِنَا ؟ فَقَالَ
يَا مُوسَى : أَنْهَاكُمْ عَنْ النَّمِيمَةِ وَأَكُونُ نَمَّامًا
فَتَابُوا بِأَجْمَعِهِمْ فَسُقُوا .
وَزَارَ بَعْضَ السَّلَفِ أَخُوهُ فَنَمَّ لَهُ عَنْ صَدِيقِهِ .
فَقَالَ
لَهُ يَا أَخِي أَطَلْت الْغَيْبَةَ وَجِئْتَنِي بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ :
بَغَّضْت إلَيَّ أَخِي ، وَشَغَلْت قَلْبِي بِسَبَبِهِ ، وَاتَّهَمْت
نَفْسَك الْأَمِينَةَ .
وَقِيلَ مَنْ أَخْبَرَك بِشَتْمِ غَيْرِك لَك
فَهُوَ الشَّاتِمُ لَك ، وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَنَمَّ لَهُ عَنْ شَخْصٍ فَقَالَ اذْهَبْ بِنَا
إلَيْهِ فَذَهَبَ مَعَهُ وَهُوَ
يَرَى أَنَّهُ يَنْتَصِرُ
لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ قَالَ يَا أَخِي إنْ كَانَ مَا
قُلْت فِي حَقًّا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي ، وَإِنْ كَانَ مَا قُلْت فِي
بَاطِلًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك .
وَيُقَالُ : عَمَلُ النَّمَّامِ
أَضَرُّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ، فَإِنَّ عَمَلَ الشَّيْطَانِ
بِالْوَسْوَسَةِ ، وَعَمَلَ النَّمَّامِ بِالْمُوَاجَهَةِ ، وَنُودِيَ
عَلَى عَبْدٍ يُرَادُ بَيْعُهُ لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ إلَّا أَنَّهُ نَمَّامٌ
، فَاشْتَرَاهُ مَنْ اسْتَخَفَّ بِهَذَا الْعَيْبِ فَلَمْ يَمْكُثْ
عِنْدَهُ أَيَّامًا حَتَّى نَمَّ لِزَوْجَتِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ
التَّزَوُّجَ أَوْ التَّسَرِّيَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْمُوسَى
وَتَحْلِقَ بِهَا شَعَرَاتٍ مِنْ حَلْقِهِ لِيَسْحَرَهُ لَهَا فِيهِنَّ ،
فَصَدَّقَتْهُ وَعَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ فَجَاءَ إلَيْهِ وَنَمَّ لَهُ
عَنْهَا أَنَّهَا اتَّخَذَتْ لَهَا خِدْنًا أَحَبَّتْهُ وَتُرِيدُ ذَبْحَك
اللَّيْلَةَ فَتَنَاوَمْ لِتَرَى ذَلِكَ فَصَدَّقَهُ فَتَنَاوَمَ
فَجَاءَتْ لِتَحْلِقَ فَقَالَ صَدَقَ الْغُلَامُ ، فَلَمَّا هَوَتْ إلَى
حَلْقِهِ أَخَذَ الْمُوسَى مِنْهَا وَذَبَحَهَا بِهِ ، فَجَاءَ أَهْلُهَا
فَرَأَوْهَا مَقْتُولَةً فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَ
الْفَرِيقَيْنِ بِشُؤْمِ ذَلِكَ النَّمَّامِ .
وَلَقَدْ أَشَارَ
اللَّهُ تَعَالَى إلَى قُبْحِ تَصْدِيقِ النَّمَّامِ وَعَظِيمِ الشَّرِّ
الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ قَائِلًا - : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
} أَوْ فَتَثَبَّتُوا { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ
بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ .
تَنْبِيهَاتٌ : مِنْهَا : عَدُّ
النَّمِيمَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَبِهِ
صَرَّحَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ السَّابِقُ بِقَوْلِهِ : " بَلَى إنَّهُ
كَبِيرٌ " كَمَا مَرَّ فِيهِ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ :
أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ
أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - .
انْتَهَى .
وَخَبَرُ : { مَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ } ، أَجَابُوا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا فِي كَبِيرٍ
تَرْكُهُ
وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، أَوْ لَيْسَ كَبِيرًا فِي اعْتِقَادِكُمْ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
عَظِيمٌ } .
أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ ،
وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقِ : "
بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ " كَمَا تَقَرَّرَ .
وَمِنْهَا : عَرَّفُوا
النَّمِيمَةَ بِأَنَّهَا نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ
عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ .
وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ
هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ وَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَلْ هِيَ كَشْفُ مَا
يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ أَكْرَهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ إلَيْهِ
أَوْ ثَالِثٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَشْفُهُ بِقَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ
رَمْزٍ أَوْ إيمَاءٍ ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَنْقُولِ كَوْنُهُ فِعْلًا أَوْ
قَوْلًا عَيْبًا أَوْ نَقْصًا فِي الْمَقُولِ عَنْهُ أَوْ غَيْرِهِ ،
فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ ، وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا
يُكْرَهُ كَشْفُهُ ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي السُّكُوتُ عَنْ حِكَايَةِ
كُلِّ شَيْءٍ شُوهِدَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ إلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ
نَفْعٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ ، كَمَا لَوْ رَأَى مَنْ يَتَنَاوَلُ
مَالَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى
مَنْ يُخْفِي مَالَ نَفْسِهِ فَذَكَرَهُ فَهُوَ نَمِيمَةٌ وَإِفْشَاءٌ
لِلسِّرِّ ، فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا أَوْ عَيْبًا فِي
الْمَحْكِيِّ عَنْهُ فَهُوَ غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ انْتَهَى .
وَمَا
ذَكَرَهُ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ نَمِيمَةً أَنَّهُ كَبِيرَةٌ فِي سَائِرِ
الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَفِيهِ بِإِطْلَاقِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ؛
لِأَنَّ مَا فَسَّرُوا بِهِ النَّمِيمَةَ لَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ
كَوْنِهِ كَبِيرَةً مَا فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ
مِنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى .
وَالْحُكْمُ عَلَى
مَا هُوَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ وَلَيْسَ فِي
مَعْنَاهُ بَلْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ
عَمَّنْ يَكْرَهُ كَشْفُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ
وَلَا هُوَ عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ ، فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ فِي هَذَا
أَنَّهُ
وَإِنْ سَلَّمَ لَلْغَزَالِيِّ تَسْمِيَتَهُ نَمِيمَةً لَا يَكُونُ
كَبِيرَةً ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ نَفْسُهُ شَرَطَ فِي كَوْنِهِ غِيبَةً
كَوْنَهُ عَيْبًا وَنَقْصًا حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ
نَقْصًا إلَخْ ، فَإِذَنْ لَمْ تُوجَدْ الْغِيبَةُ إلَّا مَعَ كَوْنِهِ
نَقْصًا ، فَالنَّمِيمَةُ الْأَقْبَحُ مِنْ الْغِيبَةِ ، يَنْبَغِي أَلَّا
تُوجَدَ بِوَصْفِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً إلَّا إذَا كَانَ فِيمَا يَنُمُّ
بِهِ مَفْسَدَةٌ تُقَارِبُ مَفْسَدَةَ الْإِفْسَادِ الَّتِي صَرَّحُوا
بِهَا .
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ
، وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ وَلَا يَتَعَرَّضُونَ
لِمَا فِيهِ مِمَّا نَبَّهْت عَلَيْهِ .
نَعَمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ
الْغِيبَةَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي
النَّمِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ كَمَفْسَدَةِ
الْغِيبَةِ وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إلَى مَفْسَدَةِ الْإِفْسَادِ بَيْنَ
النَّاسِ .
وَمِنْهَا : الْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ مِنْهُ إرَادَةُ
السُّوءِ بِالْمَحْكِيِّ عَنْهُ أَوْ الْحَبُّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ ، أَوْ
الْفَرَحُ بِالْخَوْضِ فِي الْفُضُولِ ، وَعِلَاجُهَا بِنَحْوِ مَا مَرَّ
فِي الْغِيبَةِ ، ثُمَّ عَلَى مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ النَّمِيمَةُ
كَفُلَانٍ قَالَ فِيك أَوْ عَمَلَ فِي حَقِّك كَذَا سِتَّةُ أُمُورٍ أَنْ
لَا يُصَدِّقَهُ ؛ لِأَنَّ النَّمَّامَ فَاسِقٌ إجْمَاعًا .
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } الْآيَةَ .
وَأَنْ
يَنْهَاهُ عَنْ الْعَوْدِ لِمِثْلِ هَذَا الْقَبِيحِ دِينًا وَدُنْيَا ،
وَأَنْ يُبْغِضَهُ فِي اللَّهِ إنْ لَمْ يُظْهِرْ لَهُ التَّوْبَةَ ،
وَأَنْ لَا يَظُنَّ بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ سُوءًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَحَقَّقْ أَنَّ مَا نُقِلَ إلَيْهِ عَنْهُ صُدِرَ مِنْهُ ، وَأَنْ لَا
يَحْمِلَهُ مَا حُكِيَ لَهُ عَلَى التَّجَسُّسِ وَالْبَحْثِ حَتَّى
يَتَحَقَّقَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ
الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا } وَأَنْ لَا
يَرْضَى لِنَفْسِهِ مَا نَهَى النَّمَّامَ عَنْهُ فَلَا يَحْكِي
نَمِيمَتَهُ ، فَيَقُولُ : قَدْ حَكَى لِي فُلَانٌ كَذَا فَإِنَّهُ
يَكُونُ بِهِ نَمَّامًا