كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
الْعَبْدَرِيُّ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ ، وَكَانَ صَاحِبَ عَائِلَةٍ ،
وَفَقْرٍ ، وَكَانَ النَّاسُ فِي سَنَةٍ شَدِيدَةٍ ، وَغَلَاءٍ فَجَاءَ
لَيْلَةً بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ إلَى
بَيْتِهِ فَوَجَدَ أَوْلَادَهُ يَبْكُونَ ، فَقَالَ لِأُمِّهِمْ : مِمَّ
يَبْكُونَ ؟ فَقَالَتْ : مِنْ الْجُوعِ قَالَ فَتَرَكْتهمْ عَلَى تِلْكَ
الْحَالَةِ ، وَطَلَعْت عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ ، وَمَرَّغْت خَدِّي عَلَى
الْأَرْضِ ، وَقُلْت : يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ يَبْكُونَ إلَيَّ ، وَأَنَا
أَبْكِي إلَيْك أَعْطِنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ قَالَ فَإِذَا سَحَابَةٌ
قَدْ طَلَعَتْ فَجَاءَتْ فَعَمَّتْ الدَّارَ فَأَمْطَرَتْ فُولًا عَلَى
الدَّارِ ، وَحْدَهَا قَالَ فَنَزَلْت إلَى الْأَوْلَادِ ،
وَأَخْبَرْتُهُمْ فَطَلَعُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ بَقِيَ
عِنْدَهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهُ إلَى أَنْ دَخَلَ الْقَمْحُ الْجَدِيدُ .
،
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ بَقِيَ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى
أَكْلٍ ، وَلَا شُرْبٍ قَالَ .
وَلَوْ بَقِيت كَذَلِكَ لَمْ أَحْتَجْ
إلَى شَيْءٍ طُولَ حَيَاتِي لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْأَكْلِ مِنْ طَرِيقِ
الِامْتِثَالِ لِسُنَّةٍ لَا غَيْرٍ .
فَمَنْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى فَطُرُقُ الْفَتْحِ لَهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ ،
وَأَوَانٍ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا زَمَانٌ ، وَذَاكَ
زَمَانٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِي فِيهِمَا وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ ، وَلَا
يَزُولُ ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي نَجَاتِهِ
مِنْ النَّارِ ، وَجَوَازِهِ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَشُرْبِهِ مِنْ
الْحَوْضِ ، وَدُخُولِهِ الْجَنَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا
يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ ، وَفِي
ثَوْبٍ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ
الْإِيمَانُ بِسُوقٍ يُبَاعُ فِيهِ لَمَا سَاوَى إيمَانُ أَحَدِكُمْ
كُسَيْرَةً فَيَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا
يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ جَمِيعِ
أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ ،
وَيَقُولُ :
فَضْلُ اللَّهِ أَعْظَمُ ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ ، ثُمَّ إنَّ
الْإِيمَانَ الَّذِي أَعَدَّهُ لِنَجَاتِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ مَا
خَلَّصَهُ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ
بِهَا صُلْبَهُ ، وَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ فَلَوْ انْقَطَعَ
عَنْهُ السَّبَبُ أَيِسَ ، وَضَجِرَ ، وَشَكَا ، وَبَكَى .
فَإِذَا
لَمْ يَخْلُصْ إيمَانُهُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَكَيْفَ
يُخْلِصُهُ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَهْوَالِ فَفَضْلُ اللَّهِ
أَعْظَمُ ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ مِنْ
بَابِ أَوْلَى ، وَأَوْجَبُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ } لَكِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
يَبْتَلِي خَلْقَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ
وِفَاقًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ فَرِحًا مَسْرُورًا بِرَبِّهِ ، وَبِحُكْمِهِ ،
وَبِإِرَادَتِهِ مَاقِتًا لِأَحْوَالِ نَفْسِهِ ، وَرَأْيِهِ ،
وَتَدْبِيرِهِ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ بِمَنِّك إنَّك عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ،
وَآلِهِ ، وَصَحْبِهِ ، وَسَلَّمَ
فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمُرِيدِ
الْخَلْوَةَ ، وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ
بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ لِمَا يُخْشَى
عَلَيْهِ مِنْ الْقَوَاطِعِ الرَّدِيئَةِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
مِنْ حُصُولِ عَرْبَدَةٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِعْلِ نَشَّافٍ أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْمَهَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ فِيهَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ
.
، وَقَدْ قَالَ لُقْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَصِيَّتِهِ
لِوَلَدِهِ يَا بُنَيَّ عَلَيْك بِذَوِي التَّجَارِبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ
جَرَّبَ قَدْ دَخَلَ فِي الْمَخَاضَةِ ، وَعَرَفَهَا ، وَعَرَفَ مَوْضِعَ
السَّلَامَةِ فِيهَا ، وَمَوْضِعَ الْعَطَبِ فَعَلِمَ مَا يَتَجَنَّبُ
مِنْهَا ، وَمَا يَحْذَرُ ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ، وَمَا
يُسْتَعَانُ بِهِ
( فَصْلٌ ) : وَآكُد مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ ، وَالسُّكُونُ إلَيْهِ ، وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَقَدْ قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَعْرِفَتَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَا وَعَدَهُ اللَّهُ ، وَوَعَدَهُ النَّاسُ بِأَيِّهِمَا قَلْبُهُ أَوْثَقُ ، وَقَالَ : اتَّقِ الْأَغْنِيَاءَ فَإِنَّك مَتَى عَقَدْت قَلْبَك مَعَهُمْ ، وَطَمِعْت فِيهِمْ فَقَدْ اتَّخَذْتهمْ رَبًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَقَالَ : إذَا أَرَدْت أَنْ تَكُونَ فِي رَاحَةٍ فَكُلْ مَا أَصَبْت ، وَالْبَسْ مَا وَجَدْت ، وَارْضَ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْك ، وَقَالَ : مَنْ دَارَ حَوْلَ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يَدُورُ بِدَرَجَاتِهِ فِي الْجَنَّةِ لِيَأْكُلَهَا فِي الدُّنْيَا ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ : الْعِبَادَةُ حِرْفَةٌ ، وَحَوَانِيتُهَا الْخَلْوَةُ ، وَرَأْسُ مَالِهَا الِاجْتِهَادُ بِالسُّنَّةِ ، وَرِبْحُهَا الْجَنَّةُ ، وَقَالَ : الصَّبْرُ عَلَى الْخَلْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِخْلَاصِ ، وَقَالَ : اجْتَنِبْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنْ النَّاسِ : الْعُلَمَاءِ الْغَافِلِينَ ، وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْجَاهِلِينَ ، وَقَالَ : الزُّهْدُ ثَلَاثُهُ أَشْيَاءَ : الْقِلَّةُ ، وَالْخَلْوَةُ ، وَالْجُوعُ ، وَقَالَ : عَلَى قَدْرِ حُبِّك لِلَّهِ يُحِبُّك الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِك مِنْ اللَّهِ يَخَافُك الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ شُغْلِك بِاَللَّهِ يَشْتَغِلُ فِي أَمْرِك الْخَلْقُ ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ النَّيْسَابُورِيُّ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا ارْتَكَبَ كُلَّ خَطِيئَةٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَخَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا سَلِيمَ الْقَلْبِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ قِيلَ : يَا أَبَا حَفْصٍ هَلْ لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلِيلٍ قَالَ : بَلَى قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَاتِّبَاعُهُ مَحَبَّةُ أَصْحَابِهِ
لِأَجْلِهِ ،
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ السَّمَرْقَنْدِيُّ : كَمْ مِنْ
مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ ، وَكَمْ مِنْ مُغْتَرٍّ
بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِالسَّتْرِ عَلَيْهِ ،
وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفَقِيرُ
قُوَّتُهُ مَا وَجَدَ ، وَلِبَاسُهُ مَا سَتَرَ ، وَمَسْكَنُهُ حَيْثُ
نَزَلَ ، وَقَالَ : حَقِيقَةُ الْغِنَى أَنْ تَسْتَغْنِيَ عَمَّنْ هُوَ
مِثْلُك ، وَقَالَ : الَّذِي مَنَعَ الصَّادِقِينَ الشَّكْوَى إلَى غَيْرِ
اللَّهِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ ، وَكَتَبَ أَبُو الْأَبْيَضِ كِتَابًا
إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ : سَلَامٌ عَلَيْك ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ ،
وَبَرَكَاتُهُ ، وَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَمْ تُكَلَّفْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا نَفْسًا
وَاحِدَةً فَإِنْ أَنْتَ أَصْلَحْتهَا لَمْ يَضُرَّك فَسَادُ غَيْرِهَا ،
وَإِنْ أَنْتَ أَفْسَدْتهَا لَمْ يَنْفَعْك صَلَاحُ غَيْرِهَا ، وَاعْلَمْ
أَنَّك لَنْ تَسْلَمْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُبَالِي مِنْ أَكْلِهَا
مِنْ أَحْمَرَ ، وَأَسْوَدَ .
قَالَ شَقِيقُ بْنُ أَدْهَمَ
الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تُعْرَفُ تَقْوَى الرَّجُلِ فِي
ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : فِي أَخْذِهِ ، وَمَنْعِهِ ، وَكَلَامِهِ ، وَقَالَ
: دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ : أَوَّلِهَا :
ضَعْفُ النِّيَّةِ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ .
وَالثَّانِي - صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ رَهِينَةً بِشَهَوَاتِهِمْ .
وَالثَّالِثِ - غَلَبَةُ طُولِ الْأَمَلِ عَلَى قُرْبِ أَجَلِهِمْ .
وَالرَّابِعِ
- اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَنَبَذُوا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .
وَالْخَامِسِ - آثَرُوا رِضَى الْمَخْلُوقِينَ فِيمَا يَشْتَهُونَ عَلَى رِضَى خَالِقِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَ .
وَالسَّادِسِ - جَعَلُوا أَدِلَّاتِ السَّلَفِ دِينًا ، وَمَنَاقِبَ لِأَنْفُسِهِمْ .
،
وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ : الْزَمْ خِدْمَةَ مَوْلَاك تَأْتِيك
الدُّنْيَا رَاغِمَةً ، وَالْجَنَّةُ رَاغِبَةً ، وَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ دُخُولُ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ مُتَمَكِّنٍ
فِي الْعِلْمَيْنِ عِلْمِ الْحَالِ ، وَعِلْمِ السُّنَّةِ إنْ
أَمْكَنَهُ
ذَلِكَ ، وَلَا يَدْخُلُ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشَّيْخُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ .
إمَّا
أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ ، وَخَرْقِ الْعَادَاتِ مَا
يَمُدُّ بِهِ الْمُرِيدَ فِي خَلْوَتِهِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ
الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ الَّذِي لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ ،
وَالسَّلَامَةُ ، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَوْجُودَةٌ عَلَى يَدِهِ
مُتَيَسِّرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِزَاجَ الْمُرِيدِ ، وَقَدْرَ مَا
يَحْمِلُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ ، وَقَدْرَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْهَا ،
وَقَدْرَ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ ، وَمِنْ سَعَادَةِ الْمُرِيدِ إنْ وَجَدَ
مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ ، وَلَا ظُهُورِ خَرْقِ الْعَادَاتِ فَلَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِالتَّجْرِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ ، وَاطَّلَعَ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَالْمَصَالِحِ ،
وَمَا يَلِيقُ بِالْمُرِيدِ فِي خَلْوَتِهِ ، وَمَا يَقَعُ لَهُ مِنْ
جِهَةِ الْعَادَاتِ ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يَدْخُلَ بِنَفْسِهِ
خِيفَةً مِنْ مَوَاضِعِ الْعَطَبِ ، وَأَعْنِي بِدُخُولِ الْخَلْوَةِ
هُنَا مَا يَسْتَعْمِلُهُ الْمُرِيدُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ ، وَأَمَّا
لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ دُونَ مُجَاهَدَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى
شَيْخٍ يُسْلِكُهُ ، بَلْ لِسَانُ الْعِلْمِ قَائِمٌ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ
بِهِ فِي الْخَلَاءِ ، وَالْمَلَأِ لَا فَرْقَ إذْ ذَاكَ فِي حَقِّهِ مَعَ
أَنَّهُ إذَا اتَّبَعَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي
خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ فَهُوَ وَلِيُّ وَقْتِهِ لِأَجْلِ حَالِ
الزَّمَانِ فَمَا أَسْعَدَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذِهِ
الطَّرِيقَةُ هِيَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَعْنِي تَرْكَ دُخُولِ الْخَلْوَةِ عَلَى نِظَامٍ
مَعْلُومٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ، وَفِي
الْأَسْوَاقِ يَحْتَرِفُونَ ، وَفِي الْحَوَائِطِ يَعْمَلُونَ ،
وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْخَلَوَاتُ عَلَى يَدِ الْمُرَبِّينَ بَعْدَ
انْقِرَاضِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَمْرَةَ ، وَسَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ : إنَّمَا جُعِلَتْ
الْخَلْوَةُ لِلْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ
لِلْمُرِيدِينَ لَمَّا أَنْ كَثُرَتْ الْفِتَنُ وَالْمُخَالَفَاتُ
فَاحْتَاجَ الْمُرِيدُونَ إذْ ذَاكَ إلَى الْفِرَارِ لِأَجْلِ صَلَاحِ
دِينِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ ، وَخَوَاطِرِهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ السَّبِيلُ
إلَى ذَلِكَ إلَّا بِدُخُولِ الْخَلَوَاتِ وَالْفَلَوَاتِ ،
وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ الْمَعْهُودَةَ عِنْدَ
السَّالِكِينَ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا
، وَالدَّسَائِسِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى
يَدِ شَيْخٍ فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِحَالِ
الْمُرِيدِ ، وَمَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ مِنْ الْأَطْوَارِ ، وَمَا يَلِيقُ
بِحَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَهُ مَرَاتِبُ عَدِيدَةٌ
، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مِثْلُهُ ، وَأَلْخَصُ مِنْ ذَلِكَ مَا سَمِعْت
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُهُ : نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ
الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى
يُوجِبُ الْحِيرَةَ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ
السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ
الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى
لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ .
أَمَّا قَوْلُهُ نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ .
فَمِثَالُهُ
النَّظَرُ إلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا بِعَيْنِ التَّمَنِّي
وَالِاشْتِهَاءِ ، فَذَلِكَ يُوجِبُ الْحِرْصَ وَالْحَسَدَ وَالتَّقَاطُعَ
وَالتَّدَابُرَ ، وَهُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ،
وَكَذَلِكَ أَيْضًا النَّظَرُ إلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي ؛ لِأَنَّك إذَا
نَظَرْت إلَيْهِمْ فَإِنْ كُنْت عَلَى مَعْصِيَةٍ فَبِالنَّظَرِ لِمَنْ
يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا يَهُونُ عَلَيْك مَا أَنْتَ
فِيهِ
مِنْ الْمُخَالَفَةِ ، وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِك ذَنْبُك فَيَكُونُ ذَلِكَ
سَبَبًا إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ
الْهَلَاكِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ :
وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ .
فَمِثَالُهُ
الْمُبْتَدِي يَنْظُرُ إلَى أَهْلِ النِّهَايَاتِ فَيُرِيدُ أَنْ
يَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي تَعَبُّدِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً
فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ، وَمَنْ تَنَاهَى فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ
لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ لِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا هُمْ
يَأْخُذُونَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ
يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ
الْعِلْمِ وَالتَّعَبُّدِ أَوْفَرُ نَصِيبٍ ، وَتُسْتَغْرَقُ
أَوْقَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ ، وَلَمْ
يَتْعَبُوا فِيهِ لِرِفْقِهِمْ ، وَسِيَاسَتِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا
زَانَهُ ، وَمَا كَانَ الْخَرْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ } ، وَقَالَ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلِّمُوا ، وَارْفُقُوا } اللَّهُمَّ
إلَّا مَنْ نَدَرَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً
وَاحِدَةً فَذَلِكَ مَحْمُودٌ ، وَمَا نَدَرَ لَا يُحْكَمُ بِهِ .
نَعَمْ
إذَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ هَذَا الْحَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ التَّشَبُّثُ
بِمَا قَدْ ذُكِرَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ بَقِيَ مَعَ نَفْسِهِ
فَشَأْنُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ
كَيْفَ كَانَ كَسْبُهُمْ ، وَلِمَ اكْتَسَبُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِي طَرِيقِهِ ، وَحَيَّرَ مَنْ لَاذَ بِهِ .
هَذَا
هُوَ عَيْنُ الْحِيرَةِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ
وَالرِّفْعَةُ .
فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ يَنْظُرُ لِمَنْ
هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَا وَصَلَ
إلَيْهِ فَيَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ
يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فَيَجْتَهِدُ فِي التَّعَبُّدِ ،
وَيَزِيدُ فِي عَمَلِهِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالرِّفْقِ ،
وَالسِّيَاسَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِمَنْ نَظَرَ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا
الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ الشَّيْخُ إلَيْهِ قَالَ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كُتِبَ عِنْدَ
اللَّهِ شَاكِرًا صَابِرًا أَنْ يَنْظُرَ فِي الدِّينِ لِمَنْ هُوَ
أَعْلَى مِنْهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي الدُّنْيَا
لِمَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ فَيَحْمَدَ اللَّهَ الَّذِي فَضَّلَهُ
عَلَيْهِ } هَذَا هُوَ السُّمُوُّ ، وَالرِّفْعَةُ - اللَّهُمَّ مُنَّ
عَلَيْنَا بِذَلِكَ ، وَلَا تَجْعَلْ حَظَّنَا مِنْهُ الْكَلَامَ
بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى
لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ ،
وَلِأَتْبَاعِهِ .
فَمِثَالُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ
وَالْخَيْرِ ، وَأَقَامَهُ اللَّهُ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ
النِّهَايَاتِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى
اللَّهِ ، وَيَتُوبَ يُرِيدُ مِنْ حِينِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى
الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ سِيَاسَةٍ تَقَعُ لَهُ قَبْلَ
ذَلِكَ ، وَلَا تَدْرِيجٍ هَذَا هُوَ التَّعَبُ مَعَ نَفْسِهِ لَا شَكَّ
فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقِهِ ،
وَهُمْ لَا يُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَنْ تَبِعَهُ فِي التَّعَبِ
أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى مَقَامٍ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ
، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ
كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السَّبْقِ ، وَالْخَيْرِ اقْتَصَرَ خَيْرُهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِمْ مَنْ لَاذَ بِهِمْ ،
وَبِخِدْمَتِهِمْ أَعْنِي فِي الِاقْتِدَاءِ .
وَأَمَّا الْبَرَكَةُ
فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهَا غَالِبًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ { هُمْ
الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } - نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا
يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ - وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَنَظَرُ
الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ لَهُ ،
وَلِأَتْبَاعِهِ .
فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْمُتَمَكِّنُ
فِي طَرِيقِهِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّوْبَةَ ،
وَالرُّجُوعَ أَخَذَهُ بِاللُّطْفِ ،
وَالرَّحْمَةِ ، وَأَقْبَلَ
عَلَيْهِ ، وَسَاسَ بِرَأْيِهِ السَّدِيدِ ، وَتَدْبِيرِهِ الرَّشِيدِ
فَيَنْظُرُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ مَا يُصْلِحُهُ ،
وَمَا هُوَ الْعَوْنُ لَهُ عَلَى مَا أَرَادَ ، ثُمَّ يُرَقِّيهِ بَعْدَ
ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى قَدْ يَبْلُغَ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ إلَى
الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا بِحُسْنِ تَدْبِيرِ هَذَا السَّيِّدِ
وَسِيَاسَتِهِ إيَّاهُ .
وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْ
تَقَدَّمَ وَأَفْضَلُهُمْ ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ عَزَّ ، وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ الْفُرُوضَ أَوَّلًا مَرَّةً
وَاحِدَةً ، وَلَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا ، وَإِنَّمَا أَمَرَ
أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ لَا غَيْرٍ ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ ، وَاللُّطْفِ
بِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى { : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ } ، ثُمَّ لَمَّا أَنْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ
يَأْمُرْهُ بِالْقِتَالِ ثُمَّ لَمَّا أَنْ كَثُرَ الْمُؤْمِنُونَ ،
وَظَهَرَتْ الْكَلِمَةُ نَزَلَتْ الْفُرُوضُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَمَّا
أَنْ تَقَرَّرَ لَهُمْ الدِّينُ ، وَتَقَوَّى أَهْلُ الْإِسْلَامِ
فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْجِهَادِ بِاللِّسَانِ قَبْلَ
الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { : اُدْعُ إلَى سَبِيلِ
رَبِّك بِالْحِكْمَةِ ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِينَ مِنْ
الْكُفَّارِ فَقَالَ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } فَلَمَّا أَنْ
تَقَوَّى الْأَمْرُ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقِتَالِ
مُطْلَقًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً }
، ثُمَّ إنَّ الْفُرُوضَ لَمْ تَتِمَّ إلَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ
تَعَالَى فِيهَا { : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي } فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَالِمُ بِعِبَادِهِ ،
وَبِمَا يُصْلِحُهُمْ فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمْ ، وَمُخَاطَبَتُهُمْ
أَوَّلًا بِالْقِتَالِ ، وَبِجُمْلَةِ الْفُرُوضِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ،
وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ لَأَمَرَ بِذَلِكَ أَوَّلًا { : أَلَا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِي
أَشَارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَيْهِ أَخِيرًا مَضَى عَلَى هَذَا
الْأُسْلُوبِ فَانْتَفَعَ بِنَفْسِهِ ، وَاسْتَرَاحَ ، وَانْتَفَعَ
النَّاسُ بِهِ ، وَوَجَدُوا الرَّاحَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ ،
وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : خَاطِبُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ
} فَلَيْسَ مَنْ دَخَلَ فِي التَّعَبُّدِ ، وَتَمَرَّنَ فِيهِ ،
وَكَثُرَتْ الْمُجَاهَدَةُ لَدَيْهِ كَمَنْ ابْتَدَأَ الدُّخُولَ ،
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
السَّوْدَاءِ حِينَ سَأَلَهَا : أَيْنَ اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ : فِي
السَّمَاءِ .
فَقَالَ لِصَاحِبِهَا : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا
مُؤْمِنَةٌ فَقَنَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهَا
بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ مَوْجُودٌ ، وَذَلِكَ يَنْفِي مَا
كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الْآلِهَةُ فِي
الْأَرْضِ فَإِلَهُ السَّمَاءِ ، وَإِلَهُ الْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْمَوْجُودُ لَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
حَلَّ فِي السَّمَاءِ تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ
عُلُوًّا كَبِيرًا إذْ إنَّ السَّمَاءَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ ، وَلَا يَحِلُّ
الصَّانِعُ فِي صَنْعَتِهِ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الَّذِي كَانَتْ هِجْرَتُهُ قَدِيمَةً ، وَتَمَكَّنَ مِنْ الْعِلْمِ ،
وَمِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ حِينَ سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ فَقَالَ مُعَاذٌ : أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا فَقَالَ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ فَمَا
حَقِيقَةُ إيمَانِك ؟ فَلَمْ يَكْتَفِ مِنْ مُعَاذٍ بِاللَّفْظِ
الْأَوَّلِ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ إيمَانِهِ ، وَقَنَعَ مِنْ
السَّوْدَاءِ بِمَا قَدْ ذَكَرَتْ
لِأَجْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعِلْمِ ، وَأَنْوَاعِ التَّعَبُّدِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
:
( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ فِي زَمَانِهِ
أَوْ بَلَدِهِ مَشَايِخُ يَرْجُو بَرَكَتَهُمْ ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ
يَسْكُنْ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى
حَالِهِ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَنْ حَصَلَ
لَهُ بِالِاجْتِمَاعِ بِهِ مِنْهُمْ عِلْمٌ أَوْ إنَابَةٌ أَوْ رُجُوعٌ
فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ
تَدْعُو إلَى الْعَوْدَةِ إذْ إنَّ خُطَاهُ تَبْقَى لِغَيْرِ فَائِدَةٍ .
سَمِعْت
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَعِيبُ هَذَا ، وَيَقُولُ : لَا يَنْبَغِي
لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَرَدَّدَ إلَّا لِمَوْضِعٍ تَحْصُلُ لَهُ فِيهِ
فَائِدَةٌ أَوْ فَوَائِدُ ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ بَهِيمَةِ السَّانِيَةِ
لَا تَزَالُ تَمْشِي طُولَ يَوْمِهَا ، وَهِيَ لَمْ تَبْرَحْ مِنْ
مَوْضِعِهَا ذَلِكَ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِمَنْ لَمْ
يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ إذْ إنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِوَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلِ - أَنْ يَكُونَ الْمَزُورُ مِنْ الْأَكَابِرِ ، وَالْفُضَلَاءِ
لَكِنَّ أَصْحَابَهُ مَعْلُومُونَ مَعْرُوفُونَ فَخَيْرُهُ مَقْصُورٌ
عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُرِيدُ زِيَادَةً
عِنْدَ زِيَارَتِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ نَصِيبٌ
فَتَرْكُ ذَلِكَ بِهِ أَوْلَى ، وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ خَيْرِهِ مَقْصُورًا
عَلَى نَفْسِهِ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَفْصِلُ
فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرِيدُ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ لِمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ
وَاغْتِنَامُ بَرَكَتِهِمْ بِهِ أَوْلَى مَا لَمْ يُعَارِضْهُ أَمْرٌ
شَرْعِيٌّ مِنْ ارْتِكَابِ بِدْعَةٍ أَوْ رُؤْيَتِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ
الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِطَالَةُ
أَوْقَاتِهِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ ، وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ
زِيَارَتُهُمْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي زِيَارَةِ
طَالِبِ الْعِلْمِ لَهُمْ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا
الْمَعْنَى لَا تَنْضَبِطُ ، وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ مِنْهُمْ مَنْ
يَكُونُ خَيْرُهُ عَامًّا لِسَائِرِ النَّاسِ .
فَالْحَاصِلُ
مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرِيدَ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ ،
وَفِي ارْتِبَاطِهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي
أُمُورِهِ ، وَيَحْذَرُ مِنْ تَقَضِّي أَوْقَاتِهِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ .
قَالَ
سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ عُمْرُك نَفَسٌ وَاحِدٌ
فَاحْرِصْ أَنْ يَكُونَ لَك لَا عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ فِيمَا مَضَى
هُوَ بَابُ نَدْبِ الْأَطْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْفِكْرُ فِيمَا
يَأْتِي ادِّعَاءُ النُّفُوسِ تَحْصِيلَ الْأَعْمَالِ ، وَهُوَ لَا
يَعْرِفُ مَا يَبْرُزُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَكْنُونِ ، وَالتَّقْدِيرَاتِ
الْمُغَيَّبَاتِ عَنَّا ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ
: ( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ نَظَرًا إلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَإِلَى لُطْفِهِ بِهِ ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرِيدَ يُصْبِحُ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ فَيَنْهَضُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَيَذْكُرُ مَا قُدِّرَ لَهُ ، ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ فَيَفْهَمُ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَنْ يَعْتَقِدُهُ فَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي مَسَائِلَ مِنْ الْخَيْرِ ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَإِنْ فُتِحَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْرَادِ اللَّيْلِ أَوْ أَوْرَادِ الصَّوْمِ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ فَإِنْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِالشُّكْرِ زَادَتْ أَوْ تَمَادَتْ ، وَإِنْ رَأَى ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَا شَيْءَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَهَذَا يُخَافُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } ، وَالْكُفْرُ عَامٌّ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ { : إنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ : بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ : أَيَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ : يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ } ، وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : بَابُ كُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ فَلَا يُقَيِّدُهَا بِالشُّكْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّهَا فَتَذْهَبُ عَنْهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ جَهْدَهُ ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّ الصِّدِّيقِينَ لَا يَكُونُونَ فِي يَوْمِهِمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ بِالْأَمْسِ ، بَلْ يَزْدَادُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي - تَرَقِّيًا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كُلُّ يَوْمٍ لَا أَتَّخِذُ فِيهِ بِرًّا أَوْ قَالَتْ : لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا لَا
بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ
؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا جَاءَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي فَلَا بُدَّ لَهُ
فِيهِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَتَوَابِعِهَا ، وَمَا يَتَلَقَّاهُ
مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ،
وَالتَّحْذِيرِ فَيَتَّبِعُ ذَلِكَ ، وَيَعْمَلُ عَلَى خَلَاصِ مُهْجَتِهِ
فِي يَوْمِهِ ، وَذَلِكَ تَرَقٍّ لَا شَكَّ فِيهِ .
أَلَا تَرَى إلَى
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي
أَخْرَجَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ { : إنَّ أَخَوَيْنِ
مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا فَأَثْنَى
الصَّحَابَةُ عَلَى الْأَوَّلِ فَسَأَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
عَنْ الثَّانِي - فَقَالُوا : لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ
إنَّمَا مَثَلُ الصَّلَاةِ كَمَثَلِ نَهْرٍ غَمْرٍ عَذْبٍ بِبَابِ
أَحَدِكُمْ يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَهَلْ
تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا قَالُوا : لَا ، فَقَالَ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ
صَلَاتُهُ } ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إنَّ الدَّوَامَ عَلَى
الْحَالِ زِيَادَةٌ فِيهِ فَإِذَا أَصْبَحَ الْمُرِيدُ ، وَامْتَثَلَ مَا
كَلَّفَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حَقِّهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى حِينِ
أَجَلِهِ فَحِينَئِذٍ تُطْوَى صَحِيفَةُ عَمَلِهِ فَلَا زِيَادَةَ
بَعْدَهَا فَإِنْ حَصَلَ لِلْمُرِيدِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، وَإِلَّا فَالطَّرِيقُ حَاصِلٌ لَهُ ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكْفُرَ هَذِهِ النِّعَمَ
بِتَرْكِ النَّظَرِ إلَى مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِهَا ، وَأَحْسَنَ إلَيْهِ
فِيهَا
: ( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ
عَارِفًا بِالْخَوَاطِرِ حَسَنِهَا ، وَسَيِّئِهَا فَإِمَّا أَنْ
يُمَيِّزَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ يَكُونَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ عَارِفٍ
بِهَا إذْ إنَّ الْخَوَاطِرَ ، وَالْهَوَاجِسَ ، وَالْهَوَاتِفَ لَا
تَنْحَصِرُ أَعْدَادُهَا ، وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا ،
وَتَشَعُّبِهَا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَا يَقَعُ مِنْهَا ،
وَتَلَبَّسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ وَقَفَ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ
ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ وَيَذْهَبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ زَمَانِهِ
بِغَيْرِ عَمَلٍ ؛ لِأَنَّ اللَّعِينَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الْمُرِيدِ مِنْ جِهَةِ التَّرْكِ أَتَاهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا
تَنْحَصِرُ فَإِذَا كَانَ مُمَيِّزًا لِلْخَوَاطِرِ ، وَغَيْرِهَا
انْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الْكُبْرَى .
وَالْخَوَاطِرُ أَرْبَعَةٌ : رَبَّانِيٌّ ، وَمَلَكِيٌّ ، وَنَفْسَانِيٌّ ، وَشَيْطَانِيٌّ .
سَمِعْت
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الرَّبَّانِيُّ
أَوَّلُهَا ، وَهُوَ مِثْلُ لَمْحَةِ الْبَرْقِ لَا يَثْبُتُ ،
وَالنَّفْسَانِيُّ يَعْقُبُهُ مِثْلُ الْمُصَلِّي مَعَ السَّابِقِ فَمَا
يَمُرُّ ذَاكَ إلَّا وَقَدْ اسْتَقَرَّ هَذَا فِي مَحَلِّهِ وَحَدَّثَ
وَسَوَّلَ وَشَهَّى ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْخُلْفُ
عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَمَا
ذَاكَ إلَّا لِسُرْعَةِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ
قَلَّ أَنْ تَقَعَ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ فَبِالْمُصَادَفَةِ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِهِمْ ، وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ
الْمُمَيِّزُونَ لِلْخَاطِرِ الْأَوَّلِ فَقَلَّ أَنْ يُخْبِرُوا بِشَيْءٍ
إلَّا وَيَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ قَالَ تَعَالَى { : وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } ،
وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِالشُّيُوخِ وَالْمُرِيدِينَ ،
بَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ لَكِنَّ التَّمْيِيزَ
يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَخْتَصُّ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذِهِ
الْخَوَاطِرِ فَلَا بُدَّ لَهَا أَنْ
يَزِنَهَا عَلَى لِسَانِ
الْعِلْمِ فَمَا وَافَقَ أَمْضَاهُ ، وَإِلَّا تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّ
التَّكْلِيفَ لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ
وَالتَّأْنِيسِ ، وَأَمَّا الْخَاطِرُ الْمَلَكِيُّ فَهُوَ كُلُّ خَاطِرٍ
يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ أَوْ خَيْرٍ مَا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ الْوُصُولِ
إلَى مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ يُتَوَقَّعُ مَعَهُ تَرْكٌ أَوْ بِطَالَةُ
وَقْتٍ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ الْمَلَكِيِّ فِي شَيْءٍ .
وَأَمَّا
الْخَاطِرُ الرَّابِعُ - وَهُوَ أَرْذَلُهَا ، وَهُوَ الْخَاطِرُ
الشَّيْطَانِيُّ فَهُوَ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ أَصْلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ الْخَيْرُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرِّ ، وَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ
الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ وَالشَّيْطَانِيِّ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا
يُرِيدُ إلَّا الْوُقُوعَ فِي الْمُخَالَفَةِ كَيْفَ كَانَتْ ، وَمِنْ
حَيْثُ كَانَتْ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ تَرَكَهَا ،
وَأَتَى إلَى مَعْصِيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ
إذْ مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ الْمُخَالَفَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَائِنَةً
مَا كَانَتْ ، وَالْخَاطِرُ النَّفْسَانِيُّ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ
أَمْرًا وَاحِدًا لَا يُفَارِقُهُ فَإِنْ أَنْتَ رَدَدْتَهُ عَلَيْهِ
أَلَحَّ بِهِ عَلَيْك ، وَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ ، وَيُمَنِّيك
بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَهُ ، وَيَعِدُك بِالْغُرُورِ ،
وَأَنَّك إذَا نِلْت مَا أَلْقَتْهُ إلَيْك تَفْعَلُ أَنْتَ مَا تُحِبُّ
أَنْ تُوقِعَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى
التَّشْمِيرِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ حِينَ نُزُولِهَا بِهِ
، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيهَا فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عَارِفًا بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ تَحْتَ نَظَرِ شَيْخٍ يَرْجِعُ
إلَيْهِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ مَعَهُ فِيهَا
، وَإِلَّا فَلِسَانُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ قَائِمٌ ، وَهُوَ الْمَرْجُوعُ
إلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ ، وَهُوَ طَرِيقُ السَّلَامَةِ الَّتِي لَا
شَكَّ فِيهَا ، وَالْعَطَبُ فِي غَيْرِهَا مَوْجُودٌ غَالِبًا إلَّا
لِمَنْ عَرَفَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ،
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ
: جَامِعٌ لِبَعْضِ آدَابِ السُّلُوكِ ، وَلِبَعْضِ الْآثَارِ عَنْ
السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَمَعَ
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْخَلَوَاتِ إذْ إنَّهُ
بِسَبَبِهَا يُدْرِكُ الْمُكَلَّفُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ ،
وَمِنْ النِّعَمِ ، وَمِنْ تُحَفِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ،
وَيَتَبَيَّنُ لَهُ بِهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِمَّا مَضَى عَلَيْهِ
سَلَفُهُ .
أَلَا تَرَى إلَى بَرَكَةِ هَذِهِ الْحِكَمِ الَّتِي
يُنْطِقُهُمْ اللَّهُ بِهَا ؟ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي قُوَّتِهِمْ ،
وَلَا مِنْ قُدْرَتِهِمْ إلَّا بِبَرَكَةِ تَوَجُّهِهِمْ ، وَإِقْبَالِ
الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَأَعْظَمُ مَا
يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْتِزَامُ الْخَلَوَاتِ كَمَا
تَقَدَّمَ .
فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى مَا
نَقَلَهُ الْإِمَام الْحَافِظُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ
الْأَصْفَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لَهُ
عَنْ أَبِي حَازِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَنَفَعَ بِهِ ، وَأَعَادَ
عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ : قَدْ رَضِيت مِنْ أَحَدِكُمْ
أَنْ يَتَّقِيَ عَلَى دِينِهِ كَمَا يَتَّقِي عَلَى دُنْيَاهُ ، وَقَالَ :
شَيْئَانِ هُمَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا عَمِلْت بِهِمَا
أَتَكَفَّلُ لَك بِالْجَنَّةِ ، وَلَا أُطَوِّلُ عَلَيْك قِيلَ : وَمَا
هُمَا ؟ قَالَ : تَحْمِلُ مَا تَكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ ،
وَتَتْرُكُ مَا تُحِبُّ إذَا كَرِهَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَيْضًا :
قَاتِلْ هَوَاك أَشَدَّ مَا تُقَاتِلُ عَدُوَّك ، وَقَالَ رَجُلٌ لَهُ :
إنَّك مُشَدِّدٌ فَقَالَ : مَا لِي لَا أُشَدِّدُ ، وَقَدْ صَدَّنِي
أَرْبَعَةَ عَشَرَ عَدُوًّا أَمَّا أَرْبَعَةٌ فَشَيْطَانٌ يَفْتِنُنِي ،
وَمُؤْمِنٌ يَحْسُدُنِي ، وَكَافِرٌ يُقَاتِلُنِي ، وَمُنَافِقٌ
يَبْغُضُنِي ، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ فَالْجُوعُ ، وَالْعَطَشُ ،
وَالْعُرْيُ ، وَالْحَرُّ ، وَالْبَرْدُ ، وَالْهَرَمُ ، وَالْمَرَضُ ،
وَالْفَقْرُ ، وَالْمَوْتُ ، وَالنَّارُ ، وَلَا أُطِيقُهُنَّ إلَّا
بِسِلَاحٍ ، وَلَا أَجِدُ لَهُنَّ سِلَاحًا أَقْوَى مِنْ التَّقْوَى ،
وَقِيلَ لَهُ : مَا مَالُكَ ؟ فَقَالَ :
ثِقَتِي بِاَللَّهِ ،
وَإِيَاسِي مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَقَالَ : مَا رَأَيْت يَقِينًا
لَا شَكَّ فِيهِ أَشْبَهَ بِشَكٍّ لَا يَقِينَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ تَحْنُ
عَلَيْهِ .
وَقَالَ : يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ
حِفْظًا لِلِسَانِهِ مِنْهُ لِمَوْضِعِ قَدَمَيْهِ ، وَقَالَ : أَفْضَلُ
خَصْلَةٍ تُرْجَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ خَوْفًا
عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَرْجَاهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ :
إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُبْتَدِي خَمْسُ خِصَالٍ ، وَإِلَّا فَلَا
تَرْجُهُ : عَقْلٌ حَسَنٌ ، وَاتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ ، وَصُحْبَةُ
الْأَكَابِرِ ، وَمِنْ أَيْنَ يَأْكُلُ ، وَحِفْظُ لِسَانِهِ ،
وَصِيَانَتُهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ
أَيْضًا ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : إذَا رَأَيْت الْعَالِمَ لَا
يَتَوَرَّعُ فِي عِلْمِهِ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَأْخُذَ عَنْهُ شَيْئًا ،
وَكَانَ يَقُولُ : وَضَعُوا مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الدُّنْيَا
فَلَمْ تَنْفَتِحْ ، وَوَضَعُوا عَلَيْهَا مَفَاتِيحَ الْآخِرَةِ
فَانْفَتَحَتْ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِلْجُنَيْدِ : مَنْ أَصْحَبُ ؟ قَالَ
: مَنْ تَقْدِرُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْك ،
وَسُئِلَ مَرَّةً أُخْرَى مَنْ أَصْحَبُ ؟ قَالَ : مَنْ يَقْدِرُ أَنْ
يَنْسَى مَا لَهُ ، وَيَقْضِي مَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ : قَدْ مَشَى
رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ ، وَمَاتَ عَلَى الْعَطَشِ أَفْضَلُ
مِنْهُمْ يَقِينًا ، وَقَالَ : مَنْ عَرَفَ اللَّهَ لَا يُسَرُّ إلَّا
بِهِ ، وَقَالَ : لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ أَلْفَ
سَنَةٍ ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ مَا فَاتَهُ أَكْثَرَ
مِمَّا نَالَهُ ، وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ
اللَّهِ بِقَلْبِهِ ، وَأَكْرَمَهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ .
وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مِنْ عَلَامَاتِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ مُتَابَعَتُهُ حَبِيبَ اللَّهِ فِي
أَخْلَاقِهِ ، وَأَفْعَالِهِ ، وَأَوَامِرِهِ ، وَسُنَّتِهِ ، وَقَالَ :
مَنْ نَظَرَ إلَى سُلْطَانِ اللَّهِ ذَهَبَ سُلْطَانُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ
النُّفُوسَ كُلَّهَا فَقِيرَةٌ عِنْدَ هَيْبَتِهِ ، وَقَالَ رُوَيْمٌ :
لَا تَزَالُ
الصُّوفِيَّةُ بِخَيْرٍ مَا تَنَافَرُوا فَإِذَا
اصْطَلَحُوا هَلَكُوا ، وَقَالَ ابْنُ حُنَيْفٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْت
لِرُوَيْمٍ : أَوْصِنِي فَقَالَ : أَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْأَمْرِ بَذْلُ
الرُّوحِ فَإِنْ أَمْكَنَك الدُّخُولُ فِيهِ مَعَ هَذَا ، وَإِلَّا فَلَا
تَشْتَغِلْ بِتُرَّهَاتِ الصُّوفِيَّةِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ
لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ نَوْبِيًّا ،
وَكَانَ لِبَنِي فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُ : مَا بَلَغَ بِك مَا نَرَى فَقَالَ
: تَقْوَى اللَّهِ ، وَطُولُ الصَّمْتِ ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي .
وَمِنْ
كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ لِلْقَاضِي أَبِي
الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا أَحْبَبْت أَنْ أَعِيشَ
يَوْمًا : الظَّمَأُ لِلَّهِ بِالْهَوَاجِرِ ، وَالسُّجُودُ فِي جَوْفِ
اللَّيْلِ ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ خِيَارَ الْكَلَامِ
كَمَا تُنْتَقَى أَطَايِبُ الثَّمَرِ .
وَرُوِيَ عَنْ بِلَالِ بْنِ
سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : زَاهِدُكُمْ رَاغِبٌ ، وَمُجْتَهِدُكُمْ مُقَصِّرٌ
، وَعَالِمُكُمْ جَاهِلٌ ، وَجَاهِلُكُمْ مُغْتَرٌّ ، وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ : جَاهِدْ نَفْسَك بِأَصْنَافِ الرِّيَاضَةِ ،
وَالرِّيَاضَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْقُوتِ مِنْ الطَّعَامِ ،
وَالْغَمْضِ مِنْ الْمَنَامِ ، وَالْحَاجَةِ مِنْ الْكَلَامِ ، وَحَمْلِ
الْأَذَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ قِلَّةِ
الطَّعَامِ مَوْتُ الشَّهَوَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمَنَامِ صَفْوُ
الْإِرَادَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْكَلَامِ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ ،
وَمِنْ احْتِمَالِ الْأَذَى الْبُلُوغُ إلَى الْغَايَاتِ فَلَيْسَ عَلَى
الْعَبْدِ شَيْءٌ أَشَدَّ مِنْ الْحِلْمِ عِنْدَ الْجَفَاءِ ، وَالصَّبْرِ
عِنْدَ الْأَذَى .
، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
: طُوبَى لِمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ ، وَبَكَى عَلَى
خَطِيئَتِهِ ، وَقَالَ الْفَرَبْرِيُّ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ
عَلَى بَابِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُوَّةٍ
، وَهُوَ يَبْكِي ، وَلِحْيَتُهُ تَرْجُفُ فَقَالَ : عَلَيْكُمْ
بِالْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ
بِالصَّلَاةِ ، وَيْحَكُمْ لَيْسَ هَذَا
زَمَانَ حَدِيثٍ إنَّمَا هُوَ زَمَانُ بُكَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَاسْتِكَانَةٍ
وَدُعَاءٍ كَدُعَاءِ الْغَرِيقِ إنَّمَا هَذَا زَمَانٌ احْفَظْ فِيهِ
لِسَانَك ، وَاخْفِ مَكَانَك ، وَعَالِجْ قَلْبَك ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ
وَدَعْ مَا تُنْكِرُ .
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ أَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ
تَعَالَى حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعِي عَلَى خَدِّي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ
أَتَصَدَّقَ بِجَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ ، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فَقَدَ
زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَوَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مُضْطَجِعًا عَلَى قَبْرٍ ، وَهُوَ يَبْكِي
فَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا يَا بُنَيَّ ؟ فَقَالَ : أَخْبَرْتنِي أَنَّ
جِبْرِيلَ أَخْبَرَك أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَفَازَةً لَا
يُطْفِئُ حَرَّهَا إلَّا الدُّمُوعُ فَقَالَ : ابْكِ يَا بُنَيَّ .
وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَأَنْ أَدْمَعَ
دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ
بِأَلْفِ دِينَارٍ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : إنَّ
لِلذُّنُوبِ ضَعْفًا فِي الْقُوَّةِ ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَإِنَّ
لِلْحَسَنَاتِ قُوَّةً فِي الْبَدَنِ ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ .
وَقِيلَ
لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ دَعَوْت اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ فَقَالَ : تَرْكُ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ ، وَأَنْشَدُوا
خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ فَصِرْت حَيًّا ، وَعُلِّمْت الْفَصِيحَ مِنْ
الْخِطَابِ وَعُدْت إلَى التُّرَابِ فَظَلْت فِيهِ كَأَنِّي مَا بَرِحْت
مِنْ التُّرَابِ خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ، وَأَرْجِعُ
بِالذُّنُوبِ إلَى التُّرَابِ ، وَلَقِيَ حَكِيمٌ حَكِيمًا فَقَالَ لَهُ :
إنِّي لَأُحِبُّك فِي اللَّهِ فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت مِنِّي مَا أَعْلَمُ
مِنْ نَفْسِي لَأَبْغَضْتنِي فِي اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ -
لَوْ أَعْلَمُ مِنْك مَا تَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِك لَكَانَ لِي فِيمَا
أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي شُغْلٌ عَنْ بُغْضِك ، وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ
خَيْثَمَ إذَا قِيلَ لَهُ : كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ : أَصْبَحْنَا
ضَعْفَى مُذْنِبِينَ نَأْكُلُ
أَرْزَاقَنَا ، وَنَنْتَظِرُ
آجَالَنَا ، وَقِيلَ : لِلْمُغِيرَةِ كَيْفَ أَصْبَحْت يَا أَبَا
مُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ : أَصْبَحْنَا مُعْتَرِفِينَ بِالنِّعَمِ مُقِرِّينَ
بِالذُّنُوبِ يَتَحَبَّبُ إلَيْنَا رَبُّنَا ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنَّا ،
وَنَتَبَاغَضُ إلَيْهِ ، وَنَحْنُ إلَيْهِ فُقَرَاءُ ، وَقَدْ قِيلَ
لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مِنْ أَيْنَ
عَيْشُك فَقَالَ : نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا فَلَا
دِينُنَا يَبْقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ وَقِيلَ : لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ فَقَالَ : أَصْبَحْت طَوِيلًا
أَمَلِي قَصِيرًا أَجَلِي سَيِّئًا عَمَلِي .
كَلَامُ الْبَاجِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا ، وَقَالَ
بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ سَمِعْت مَنْصُورًا يَقُولُ :
لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَ : إنِّي جَاعِلٌ لِبَصَرِك طَبَقًا
فَإِذَا عَرَضَ لَك أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ
فَأَطْبِقْهُ ، وَإِنِّي جَاعِلٌ لِفِيك طَبَقًا فَإِذَا عَرَضَ لَك
أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْطِقَ بِهِ فَأَطْبِقْهُ ، وَإِنِّي
جَاعِلٌ لِفَرْجِك سِتْرًا فَلَا تَكْشِفْهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَك ،
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : الْأَصْحَابُ ثَلَاثَةٌ صَاحِبُك ، وَصَاحِبُ
صَاحِبِك ، وَعَدُوُّ عَدُوِّك ، وَالْأَعْدَاءُ ثَلَاثَةٌ ، عَدُوُّك ،
وَعَدُوُّ صَاحِبِك ، وَصَاحِبُ عَدُوِّك .
وَمِنْ كِتَابِ الْبَاجِيِّ
أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ
قَالَ : إنَّمَا يُدْخِلُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مَنْ يَرْجُوهَا ،
وَإِنَّمَا يُجَنِّبُ اللَّهُ النَّارَ مَنْ يَخْشَاهَا ، وَإِنَّمَا
يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ يَرْحَمُ ، وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا
بُنَيَّ خَفْ اللَّهَ خَوْفًا لَا تَيْأَسْ فِيهِ مِنْ رَحْمَتِهِ ،
وَارْجُهُ رَجَاءً لَا تَأْمَنْ فِيهِ مِنْ عِقَابِهِ فَقَالَ : يَا
أَبَتَاهُ ، وَكَيْفَ ، وَإِنَّمَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ فَقَالَ يَا
بُنَيَّ : إنَّ الْمُؤْمِنَ لَوْ شُقَّ قَلْبُهُ لَوُجِدَ فِيهِ نُورُ
رَجَاءٍ ، وَنُورُ خَوْفٍ لَوْ وُزِنَا لَمْ يَمِلْ أَحَدُهُمَا
بِصَاحِبِهِ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ لُقْمَانُ
لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ
كَيْفَ يَأْمَنُ النَّارَ مَنْ هُوَ
وَارِدُهَا ، وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَى الدُّنْيَا مَنْ هُوَ
مُفَارِقُهَا ، وَكَيْفَ يَغْفُلُ مَنْ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ ؟ يَا بُنَيَّ
لَا شَكَّ فِي الْمَوْتِ فَإِنَّك كَمَا تَنَامُ كَذَلِكَ تَمُوتُ ، وَلَا
شَكَّ فِي الْبَعْثِ فَإِنَّك كَمَا تَسْتَيْقِظُ كَذَلِكَ تُبْعَثُ يَا
بُنَيَّ إنَّ الْإِنْسَانَ لَثَلَاثَةٌ ، فَمِنْهُ لِلَّهِ ، وَمِنْهُ
لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ
لِلَّهِ فَرُوحُهُ ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَعَمَلُهُ خَيْرًا
كَانَ أَوْ شَرًّا ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ
فَجَسَدُهُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَا أَمِنَ أَحَدٌ عَلَى
دِينِهِ إلَّا سُلِبَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْثَرُ مَا
يُسْلَبُ النَّاسُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَقَالَ إبْلِيسُ
لَعَنَهُ اللَّهُ : إذَا ظَفِرْت مِنْ ابْنِ آدَمَ بِثَلَاثٍ لَمْ
أَطْلُبْهُ بِغَيْرِهَا إذَا أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ ، وَاسْتَكْثَرَ
عَمَلَهُ ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ
: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ : إنَّك تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى ،
وَأَنْتَ إنْ كُنْت لَمْ تُخْطِئْ خَطِيئَةً مَشَيْت عَلَى الْمَاءِ
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : مَا أَخْطَأْت خَطِيئَةً قَطُّ فَقَالَ لَهُ
عِيسَى : فَامْشِ عَلَى الْمَاءِ فَمَشَى ذَاهِبًا ، وَرَاجِعًا حَتَّى
إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْبَحْرِ ، وَإِذَا هُوَ قَدْ غَرِقَ فَدَعَا
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَبَّهُ فَأَخْرَجَ الرَّجُلَ فَقَالَ لَهُ :
مَالَك ذَهَبْت وَرَجَعْت ثُمَّ غَرِقْت أَلَيْسَ زَعَمْت أَنَّك لَمْ
تُخْطِئْ خَطِيئَةً قَطُّ ؟ قَالَ : مَا أَخْطَأْت خَطِيئَةً قَطُّ إلَّا
أَنِّي وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنِّي مِثْلُك ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ
: أَمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَوْمًا مَرَّةً فَلَمَّا
انْصَرَفَ قَالَ : مَا زَالَ بِي الشَّيْطَانُ آنِفًا حَتَّى رَأَيْت
أَنَّ لِي فَضْلًا عَلَى مَنْ خَلْفِي لَا أَؤُمُّ أَبَدًا ؟ .
وَيُرْوَى
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانَتْ
الدُّنْيَا هَمَّ رَجُلٍ قَطُّ إلَّا لَزِمَ قَلْبَهُ أَرْبَعُ خِصَالٍ :
فَقْرٌ
لَا يُدْرِكُ عَنَاهُ ، وَهَمٌّ لَا يَنْقَضِي مَدَاهُ ،
وَشُغْلٌ لَا يَنْفَدُ لَأْوَاهُ ، وَأَمَلٌ لَا يَنْقَطِعُ مُنْتَهَاهُ ،
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ قِيلَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ : كَيْفَ حَالُك ؟
قَالَ : حَالُ مَنْ يَفْنَى بِبَقَائِهِ ، وَيَسْقَمُ بِسَلَامَتِهِ ،
وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنْ كَانَ
شَيْءٌ فَوْقَ الْحَيَاةِ فَالصِّحَّةُ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ
الْمَوْتِ فَالْمَرَضُ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْحَيَاةَ
فَالْغِنَى ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْمَوْتَ فَالْفَقْرُ
انْتَهَى كَلَامُ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ سَجْدَةٍ ، وَكَانَ يُسَمَّى السَّجَّادَ .
،
وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ : وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ
بِالتُّقَى طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ عَلِيلٌ وَقَالَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنْ تَدْعُوَ
لَهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَيُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ ،
وَيَعْظُمَ قَدْرُهُ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ فَلْيُطِعْ اللَّهَ فِيمَا
أَمَرَهُ بِهِ ، وَنَهَاهُ عَنْهُ ، وَلْيَلْزَمْ الْمِنْهَاجَ الْأَوَّلَ
، وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هَبْ لِي مِنْ
قَلْبِك الْخُشُوعَ ، وَمِنْ عَيْنَيْك الدُّمُوعَ ، ثُمَّ اُدْعُنِي
أَسْتَجِبْ لَك فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِّ إذَا دَعَانِ
.
وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا : وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ لِخَادِمِهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ مَعِي
فِي قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ فَكَيْفَ أَكْتَسِبُ الذُّنُوبَ
إنَّمَا يَعْمَلُ الذُّنُوبَ جَاهِلٌ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى أَحَدًا
فَيَقُولُ : لَيْسَ يَرَانِي أَحَدٌ أَذْهَبُ لِأُذْنِبَ أَمَّا أَنَا
فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي ذَلِكَ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ دَاخِلَ قَمِيصِي
مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَالِي
وَلِهَذَا الْخَلْقِ كُنْت فِي صُلْبِ أَبِي وَحْدِي
ثُمَّ صِرْت فِي بَطْنِ أُمِّي وَحْدِي ، ثُمَّ دَخَلْتُ الدُّنْيَا وَحْدِي ، ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحِي وَحْدِي ، وَأَدْخُلُ قَبْرِي وَحْدِي ، وَيَأْتِينِي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَيَسْأَلَانِي وَحْدِي ، فَإِنْ صِرْت إلَى خَيْرٍ كُنْت وَحْدِي ، وَإِنْ صِرْت إلَى شَرٍّ كُنْت وَحْدِي ، ثُمَّ أَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدِي فَإِنْ بُعِثْت إلَى الْجَنَّةِ بُعِثْت وَحْدِي ، وَإِنْ بُعِثْت إلَى النَّارِ بُعِثْت وَحْدِي فَمَالِي وَلِلنَّاسِ ، ثُمَّ فَكَّرَ سَاعَةً ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الرَّعْدَةُ حَتَّى خَشَى أَنْ يَسْقُطَ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : أَصْلُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ ، وَهَذِهِ الْفَرَائِضُ فِي حَرْفَيْنِ مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ افْعَلْ فَفِعْلُهُ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ، وَمَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا تَفْعَلْ فَتَرْكُهُ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَهَى عَنْهُ .
وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ
يَتَفَقَّدَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِإِخْوَانِهِ ، وَلَا يُوَاظِبَ عَلَى
الْخَلْوَةِ ، وَيَتْرُكَ التَّبَرُّكَ بِهِمْ ، وَبِسَمَاعِ
فَوَائِدِهِمْ مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى نَفْسِهِ جَهْدَهُ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ آدَابِ الصُّحْبَةِ : لَهُ الصُّحْبَةُ
عَلَى وُجُوهٍ لِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا آدَابٌ ، وَلَوَازِمُ .
فَالصُّحْبَةُ
مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ
، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ ، وَمُرَاقَبَةِ
الْأَسْرَارِ أَنْ يَخْتَلِجَ فِيهَا مَا لَا يَرْضَاهُ ، وَالرِّضَا
بِقَضَائِهِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ ، وَالرَّحْمَةِ ،
وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَمَا يَنْحُو نَحْوَهُ مِنْ هَذِهِ
الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ ، وَاجْتِنَابِ
الْبِدَعِ ، وَتَعْظِيمِ أَصْحَابِهِ ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، وَأَزْوَاجِهِ
، وَذُرِّيَّتِهِ ، وَمُجَانَبَةِ مُخَالَفَتِهِ فِيمَا دَقَّ وَجَلَّ ،
وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ
بَيْتِهِ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ ، وَتَقْدِيمِ مَنْ قَدَّمُوهُ ،
وَحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِمْ ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ ،
وَالسُّنَنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ } وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنِّي
تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ
بَيْتِي } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
بِالْخِدْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ لَهُمْ ، وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا
يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَعَنْ مَشَايِخِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { : مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ
آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ السُّلْطَانِ
بِالطَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِمُخَالَفَةِ
سُنَّةٍ فَإِذَا أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا فَلَا
سَمْعَ لَهُ وَلَا
طَاعَةَ ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ لِيُصْلِحَهُ اللَّهُ
وَيُصْلِحَ عَنْ يَدَيْهِ ، وَالنَّصِيحَةُ لَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ ،
وَالصَّلَاةُ ، وَالْجِهَادُ مَعَهُ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الدِّينُ
النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ ،
وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ،
وَعَامَّتِهِمْ } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ بِبِرِّهِمَا
بِالنَّفْسِ ، وَالْمَالِ ، وَخِدْمَتِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا ،
وَإِنْجَازِ وَعْدِهِمَا ، وَالدُّعَاءِ لَهُمَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ
مَا دَامَا فِي الْحَيَاةِ ، وَحِفْظِ عَهْدِهِمَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ،
وَإِنْجَازِ عَادَاتِهِمَا ، وَإِكْرَامِ أَصْدِقَائِهِمَا فَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { :
إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ }
، وَعَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ { : بَيْنَا نَحْنُ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَهُ
رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ
عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبِرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ
وَفَاتِهِمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ،
وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِثْبَاتُ عَهْدِهِمَا ، وَإِكْرَامُ
صَدِيقِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا } ،
وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ بِالْمُدَارَاةِ ، وَحُسْنِ
الْخُلُقِ ، وَسَعَةِ الصَّدْرِ ، وَتَمَامِ الشَّفَقَةِ ، وَتَعْلِيمِ
الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ ، وَالْأَدَبِ ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى
الطَّاعَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ } الْآيَةَ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ : رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ
بِالْإِفْضَالِ عَلَيْهِ } ، وَالصَّفْحِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ ، وَالْغَضِّ
عَنْ مَسَاوِيهِمْ مَا لَمْ تَكُنْ إثْمًا أَوْ مَعْصِيَةً ،
وَالصُّحْبَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ بِدَوَامِ
الْبِشْرِ ، وَبَذْلِ
الْمَعْرُوفِ ، وَنَشْرِ الْمَحَاسِنِ ، وَسَتْرِ الْقَبَائِحِ ،
وَاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ بِرِّهِمْ إلَيْك ، وَاسْتِصْغَارِ مَا مِنْك
إلَيْهِمْ ، وَتَعَهُّدِهِمْ بِالنَّفْسِ ، وَالْمَالِ ، وَمُجَانَبَةِ
الْحِقْدِ ، وَالْحَسَدِ ، وَالْبَغْيِ ، وَالْأَذَى ، وَمَا يَكْرَهُونَ
مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَتَرْكِ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ .
،
وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْعُلَمَاءِ بِمُلَازَمَةِ إكْرَامِهِمْ ، وَقَبُولِ
قَوْلِهِمْ ، وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَالنَّوَازِلِ
، وَتَعْظِيمِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ مَحَلِّهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ
خُلَفَاءَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوَارِثِيهِ
فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ
{ : الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ
الضَّيْفِ بِحُسْنِ الْبِشْرِ ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ ، وَطِيبِ
الْحَدِيثِ ، وَإِظْهَارِ السُّرُورِ ، وَالْكَوْنِ عِنْدَ أَمْرِهِ ،
وَنَهْيِهِ ، وَرُؤْيَةِ فَضْلِهِ ، وَاعْتِقَادِ الْمِنَّةِ لَهُ حَيْثُ
أَكْرَمَهُ بِدُخُولِ مَنْزِلِهِ ، وَتَنَاوُلِ طَعَامِهِ ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : مَنْ دَعَانَا فَأَبَيْنَا فَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْنَا
فَإِذَا نَحْنُ أَتَيْنَا رَجَعَ الْفَضْلُ إلَيْنَا
فَصْلٌ فِي آدَابِ صُحْبَةِ الْأَعْضَاءِ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ الْجَوَارِحِ آدَابًا تَخْتَصُّ بِهَا .
فَآدَابُ
الْبَصَرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَخِيهِ نَظَرَ مَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ
يَعْرِفُهَا هُوَ مِنْك ، وَمَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ
إلَى مَحَاسِنِهِ ، وَإِلَى أَحْسَن شَيْءٍ يَبْدُو مِنْهُ ، وَأَنْ لَا
يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ فِي وَقْتِ إقْبَالِهِ عَلَيْهِ ، وَكَلَامِهِ
مَعَهُ ، وَآدَابُ السَّمْعِ أَنْ يَسْتَمِعَ إلَى حَدِيثِهِ سَمَاعَ
مُشْتَهٍ لِمَا يَسْمَعُهُ مُتَلَذِّذٍ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَلَّمَك
لَا تَصْرِفْ بَصَرَك عَنْهُ ، وَلَا تَقْطَعْ حَدِيثَهُ بِسَبَبٍ مِنْ
الْأَسْبَابِ فَإِنْ اضْطَرَّك الْوَقْتُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
اسْتَعْذَرْتَهُ فِيهِ ، وَأَظْهَرْت لَهُ عُذْرَك ، وَآدَابُ اللِّسَانِ
أَنْ تُكُلِّمَ إخْوَانَك بِمَا يُحِبُّونَ فَتَخْتَارَ وَقْتَ
نَشَاطِهِمْ لِسَمَاعِ مَا تُكَلِّمُهُمْ بِهِ ، وَتَبْذُلَ لَهُمْ
نَصِيحَتَك ، وَتَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ ، وَتُسْقِطَ
مِنْ كَلَامِك مَا تَعْلَمُ أَنَّ أَخَاك يَكْرَهُهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ
لَفْظٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَلَا تَرْفَعْ عَلَيْهِ صَوْتَك ، وَلَا
تُخَاطِبْهُ بِمَا لَا يَفْهَمُ عَنْك ، وَتُكَلِّمُهُ بِمِقْدَارِ
فَهْمِهِ ، وَآدَابُ الْيَدَيْنِ أَنْ يَكُونَا مَبْسُوطَتَيْنِ
لِإِخْوَانِهِ بِالْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ لَا يَقْبِضُهُمَا عَنْهُمْ ،
وَعَنْ الْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ ، وَآدَابُ الرِّجْلَيْنِ أَنْ يُمَاشِي
إخْوَانَهُ فَلَا يَتَقَدَّمُهُمْ ، بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَهُمْ فَإِنْ
قَرَّبُوهُ تَقَرَّبَ إلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ مِنْ رَغَبَاتِهِمْ
، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ حُقُوقِ
إخْوَانِهِ مُعَوِّلًا عَلَى الثِّقَةِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ
عِيَاضٍ قَالَ : تَرْكُ حُقُوقِ الْإِخْوَانِ مَذَلَّةٌ .
( فَصْلٌ )
اعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ هَذِهِ الْآدَابَ
الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ آدَابُ الظَّوَاهِرِ ، وَهِيَ عُنْوَانٌ
عَلَى آدَابِ السَّرَائِرِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ فِي
الْأَثَرِ { عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى
رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ } .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمُرَاعَاةُ الْبَاطِنِ أَوْجَبُ مِنْ مُرَاعَاةِ
الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لِلْخَلْقِ ، وَالْبَاطِنَ لِلْخَالِقِ ،
وَمَا كَانَ لِلْخَالِقِ فَهُوَ أَوْجَبُ فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
فَهُوَ الْكَمَالُ ، وَالسَّعَادَةُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِمَا ، وَصِفَةُ
إخْلَاصِ الْبَاطِنِ التَّحَقُّقُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَوْلَى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ ،
وَالِاتِّصَافُ بِالصَّبْرِ ، وَسَلَامَةُ الصَّدْرِ ، وَحُسْنُ ظَنِّهِ
بِرَبِّهِ ، وَحُسْنُ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ ،
وَالِاهْتِمَامُ بِأُمُورِهِمْ فَإِذَا فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
قَوِيَ الرَّجَاءُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ
فَصْلٌ ) :
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِخْوَانُ أَرْبَعَةٌ : أَخٌ كَالدَّوَاءِ ، وَأَخٌ
كَالْغِذَاءِ ، وَأَخٌ كَالدَّاءِ ، وَأَخٌ كَالدِّفْلَى .
فَالْأَوَّلُ مَعْدُومٌ ، وَالثَّانِي مَفْقُودٌ ، وَالثَّالِثُ مَوْجُودٌ ، وَالرَّابِعُ مَشْهُودٌ .
أَمَّا
الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ كَالدَّوَاءِ فَهُوَ مِثْلُ الْمَشَايِخِ
الَّذِينَ أَهَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِتَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ ،
وَكَالصُّلَحَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ فَهُمْ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ ،
وَمُجَالَسَتُهُمْ تَشْفِي الْأَسْقَامَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَقَدْ
كَانَ الْمُرِيدُونَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ يَدْخُلُونَ إلَى
خَلَوَاتِهِمْ فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ عَجْزٌ أَوْ كَسَلٌ خَرَجُوا إلَى
مَجْلِسِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ فَتَنْتَعِشُ قُوَاهُمْ
بِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ ، وَيَمُدُّهُمْ بِهِمَّتِهِ
فَيَتَغَذَّوْنَ بِذَلِكَ ، وَيَرْجِعُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ أَنْشَطَ
مَا كَانُوا أَوَّلًا فَهُمْ دَوَاءٌ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَأَنْتَ
تَرَى تَعَذُّرَ هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ .
وَأَمَّا
الَّذِي هُوَ كَالْغِذَاءِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَخِ فِي اللَّهِ تَعَالَى
الْمُشْفِقِ الْوَدُودِ الْحَنُونِ الَّذِي يُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُك ،
وَيَسُرُّهُ مَا يَسُرُّك ، وَيُجَوِّعُ نَفْسَهُ لِجُوعِك ، وَيَتَعَرَّى
لِعُرْيِك ، وَيُكَابِدُ مَا نَزَلَ بِك أَكْثَرَ مِنْ مُكَابَدَةِ مَا
نَزَلَ بِهِ ، وَأَنْتَ تَرَى فَقْدَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكِنَّ
بَيْنَ الْفَقْدِ وَالْعَدَمِ فَرْقٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا
يُوجَدُ أَلْبَتَّةَ ، وَالْمَفْقُودَ قَدْ يُوجَدُ فِي مَوْضِعٍ مَا .
سَمِعْت
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مَرَاتِبُ
الْإِخْوَانِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا : فَالْأَوَّلُ - أَنْ يَكُونَ
أَخُوك عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك ، وَهُوَ أَعْلَاهُمْ .
وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَخِيك الشَّقِيقِ ، وَهُوَ أَوْسَطُهُمْ .
وَالثَّالِثُ
- أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك ، وَهُوَ أَقَلُّ الْإِخْوَانِ
مَرْتَبَةً فَإِنْ عَجَزْت عَنْ ذَلِكَ فَلَا أُخُوَّةَ إذْ ذَاكَ أَعْنِي
الْأُخُوَّةَ الْخَاصَّةَ
بِالْفُقَرَاءِ ، وَأَمَّا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ فَهِيَ حَاصِلَةٌ .
فَأَمَّا
الْأَخُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ
مَعَ شَيْخِهِ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ مَعَ أَبِيهِ حَدِيثٌ فِي
شَيْءٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَنْتَ وَمَالُك
لِأَبِيك } فَحَالُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إذْ إنَّ
الْمُرِيدَ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي كُلِّ مَا
يُحَاوِلُهُ إلَّا بِرِضَا شَيْخِهِ وَإِذْنِهِ ، وَأَمَّا الَّذِي
عِنْدَك كَأَخِيك الشَّقِيقِ فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ إخْوَانِهِ ،
وَهُوَ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ
يُقَاسِمُ أَخَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَإِنْ أَخَذَ الْأَخُ
دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَخُ
مِثْلَهُ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ إخْوَانِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ
إنْ لَبِسَ ثَوْبًا كَسَا أَخَاهُ مِثْلَهُ ، وَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا
أَطْعَمَ أَخَاهُ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
الْمَرْتَبَةُ
الثَّالِثَةُ : وَهِيَ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ فِي الْأُخُوَّةِ ، وَهِيَ
أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك أَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ
عَلَيْك أَنْ تَقُومَ بِضَرُورَتِهِ مِنْ غِذَائِهِ ، وَكِسْوَتِهِ ،
وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فِي صَلَاحِ دِينِهِ ،
وَدُنْيَاهُ ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مَعَ أَخِيهِ إذْ إنَّهُ لَا
يَشْبَعُ الْمُكَلَّفُ ، وَعَبْدُهُ جَائِعٌ ، وَلَا يَلْبَسُ ،
وَعَبْدُهُ عُرْيَانٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ
مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : { رَأَيْت أَبَا
ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ
فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي سَابَبْت رَجُلًا فَشَكَانِي
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعَيَّرْته بِأُمِّهِ ،
ثُمَّ قَالَ : إنَّ إخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ
أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا
يَأْكُلُ ، وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا
يَغْلِبُهُمْ
فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ } فَإِنْ
تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فَيَنْبَغِي أَوْ
يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ الْأُخُوَّةَ لِعَجْزِهِ عَنْ
الْقِيَامِ بِحَقِّهَا إذْ إنَّهُ قَدْ يَشْبَعُ ، وَأَخُوهُ جَائِعٌ ،
وَقَدْ يَلْبَسُ ، وَأَخُوهُ عُرْيَانٌ فَيُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا
لَهُ لِمَنْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَتَتَعَمَّرُ الذِّمَّةُ بِالْحُقُوقِ
لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ فِي
هَذَا الزَّمَانِ فَإِذَا أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ
طَلَبُوا مِنْهُ الْأُخُوَّةَ فَإِنْ أَجَابَهُمْ لِمَا طَلَبُوهُ ،
وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ
بَعْدَ الْأُخُوَّةِ مَعَهُ ، وَلَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ غَالِبًا بَعْدَ
ذَلِكَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ حَالُهُ أَبَاتَ جَائِعًا أَمْ لَا
أَوْ هُوَ عُرْيَانٌ أَمْ لَا ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ
يَتَفَقَّدُهُ لَكِنْ بِالرُّؤْيَةِ وَالسُّؤَالِ لَيْسَ إلَّا دُونَ
إعَانَةٍ وَمُشَارَكَةٍ فَشَغَلُوا ذِمَّتَهُمْ بِشَيْءٍ كَانُوا فِي
غِنًى عَنْ تَرَتُّبِهِ فِيهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا
لَمْ يَقْدِرْ السَّيِّدُ عَلَى نَفَقَتِهِ ، وَكِسْوَتِهِ أَمَرَهُ
الشَّرْعُ بِبَيْعِهِ فَالْبَيْعُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ مُقَابِلُهُ فِي
حَقِّ الْأَخِ فَإِنَّك إذَا عَجَزْت عَنْ الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ
نَزَّلْت أَخَاك مَنْزِلَةَ بَيْعِ الْعَبْدِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا
تَقَدَّمَ .
يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ آخَى بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَقُولُ لِأَخِيهِ
مِنْ الْمُهَاجِرِينَ : عِنْدِي مِنْ الْمَالِ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ
نِصْفُهُ وَلِي نِصْفُهُ ، وَلِي مِنْ الزَّوْجَاتِ كَذَا وَكَذَا
فَاخْتَرْ مِنْهُنَّ مَا تُرِيدُ أَنْزِلْ لَك عَنْهُ ، وَكَانَ
الْمُهَاجِرِيُّ يَسْأَلُ عَنْ السُّوقِ ، وَعَنْ الْحِيطَانِ يَعْمَلُ
فِيهَا فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ،
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَاءَ لِزِيَارَةِ أَخِيهِ فَقِيلَ لَهُ :
إنَّهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ ،
وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ
لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا لِلْمُخَالَفَةِ فَتَأَوَّهَ ، وَقَالَ :
أَخِي يَقَعُ ، وَأَنَا بِالْحَيَاةِ فَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ ، وَدَخَلَ
خَلْوَتَهُ ، وَعَزَمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا إلَّا بِأَخِيهِ فَجَاءَ
أَخُوهُ إلَى بَيْتِهِ فَأُخْبِرَ بِمَجِيئِهِ إلَيْهِ ، وَسُؤَالِهِ عَنْ
حَالِهِ فَجَاءَ مُسْتَغْفِرًا تَائِبًا إلَى بَيْتِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ
فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ دَخَلَ الْخَلْوَةَ فَقَالَ : أَخْبِرُوهُ بِأَنِّي
قَدْ تُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَرَجَعْت إلَيْهِ فَمَا خَرَجَ
إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ قَضَاءُ حَاجَتِهِ فِيهِ فَيَنْبَغِي
أَنْ تَكُونَ الْمُؤَاخَاةُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَإِنْ رَأَيْت
أَخَاك قَدْ غَرِقَ فَتَأْخُذُ بِيَدِهِ ، وَتُنْجِيهِ مِنْ الْمَهَالِكِ
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَك قُدْرَةٌ فَلَا تَدَّعِيهَا إذْ إنَّ مَنْ ادَّعَى
مَا لَيْسَ فِيهِ فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ .
وَأَمَّا
الْقِسْمُ الثَّالِثُ - مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ لِلْإِمَامِ
الشَّيْخِ الصَّقَلِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ ،
وَالثَّالِثُ - مَوْجُودٌ فَلَا شَكَّ أَنَّك إذَا خَالَطْت كَثِيرًا مِنْ
النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ عَاشَرْتهمْ بِمُلَابَسَةِ مَا تَجِدُ
مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْأَذِيَّةَ الْبَالِغَةَ إمَّا فِي دِينِك أَوْ
دُنْيَاك أَوْ عِرْضِك ، وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ
فَإِنْ أَنْتَ خَالَطْته ، وَجَدْت مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ،
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - الَّذِي قَالَ : عَنْهُ إنَّهُ مَشْهُودٌ
فَلَا شَكَّ فِي مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّك إذَا تَكَلَّمْت مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي صَلَاحِ دِينِهِ
فِي شَيْءٍ مَا قَابَلَك بِانْزِعَاجٍ ، وَخُلُقٍ سَيِّئٍ ، وَأَقَلُّ
جَوَابِهِ أَنْ يَقُولَ لَك : مَا حَقَّرْت فِي النَّاسِ إلَّا أَنَا
حَتَّى تَأْمُرَنِي ، وَتَنْهَانِي أَوْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْك بِبَذَاءَةِ
لِسَانِهِ ، وَيَنْظُرُ لَك عَوْرَاتٍ يُظْهِرُهَا أَوْ حَسَنَاتٍ
يُخْفِيهَا أَوْ يَرُدُّهَا سَيِّئَاتٍ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَرَارَةِ
بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى كَمَا هِيَ الدِّفْلَى إذَا تَنَاوَلْت مِنْهَا
شَيْئًا ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْعَدَمِ
إذْ قِيلَ : إنَّهَا سُمٌّ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْك أَنْ تَفِرَّ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدَيْهِ ، وَبَالَغَ فِي الْفَحْصِ عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيَا سَعَادَتُهُ إنْ ظَفِرَ بِأَحَدِهِمَا كَمَا قِيلَ : وَإِذَا صَفَا لَك مِنْ زَمَانِك وَاحِدٌ فَهُوَ الْمُرَادُ وَأَيْنَ ذَاكَ الْوَاحِدُ فَإِنْ عَدِمَهُمَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخَلْوَةُ وَالِاعْتِزَالُ إنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ إذْ إنَّ الِاجْتِمَاعَ بِالنَّاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُهُ الْمُرِيدُ لِلزِّيَادَةِ لَا لِلنَّقْصِ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ إلَّا النَّقْصُ فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ جَهْدَهُ ، وَيَسْتَعِينُ بِرَبِّهِ مَعَ سَلَامَةِ صَدْرِهِ لَهُمْ ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِمْ عُمُومًا ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
( فَصْلٌ ) : مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ بَعْضُهُ بِاللَّفْظِ ، وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى .
وَيَنْبَغِي
لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِلْخَلْقِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ
وَالشَّفَقَةِ ، وَالتَّوَدُّدِ ، وَذَلِكَ يَقَعُ مِنْهُ عَلَى وُجُوهٍ :
فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ فَسَبِيلُ الْعِلْمِ بِفَقْرِهِمْ
، وَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِمْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ السَّلَامَةِ
لَهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى حِزْبِ الْفَائِزِينَ ، وَإِذَا احْتَمَلَ
الْأَذَى مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ الرَّحْمَةُ لَهُمْ ، وَإِذَا جَازَى عَلَى
السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ
الْمَحْمُودَةِ ، وَإِذَا رَاعَى حَقَّ كُلِّ ذِي حَقٍّ ، وَإِنْ صَغُرَ
فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّاكِرِينَ ، وَإِذَا تَنَاسَى
الشَّرَّ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْ دَنَسِ هَوَاجِسِ
النُّفُوسِ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا عَامَلَهُمْ
بِالسَّخَاءِ فَسَبِيلُهُ الْبُعْدُ مِنْ صِفَةِ الْبُخْلِ ،
وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْفَضْلِ ، وَالْيَقِينِ بِالْخَلَفِ ،
وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَطْلُبَ الْخَلَفَ الْفَانِي إذْ إنَّ كُلَّ مَا
جَاءَهُ مِنْ الدُّنْيَا فَهُوَ ذَاهِبٌ فَانٍ ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ
بِرَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ عَدَمُ الْفَرَاغِ
وَالِاشْتِغَالُ بِوَظَائِفِ التَّكْلِيفِ ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ
بِرُؤْيَةِ الْحُسْنِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَالتَّعَامِي عَنْ
الْقَبِيحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَسَبِيلُهُ الْغَيْرَةُ فِي مُشَاهَدَةِ
الْمَحَاسِنِ ، وَالِاشْتِغَالُ عَنْ الْقَبَائِحِ بِعُيُوبِ النَّفْسِ
مَعَ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ، وَإِذَا تَوَاضَعَ
لِلَّهِ فَسَبِيلُهُ إجْلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِظْهَارُ
الْعُبُودِيَّةِ .
وَإِذَا تَوَاضَعَ لِلْخَلْقِ فَيَكُونُ ذَلِكَ
مِنْهُ دُونَ تَمَاوُتٍ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِاعْتِقَادِ الْأَثَرَةِ
لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَإِذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي بَعْضِ
الْمَوَاضِعِ فَسَبِيلُهُ احْتِقَارُ النَّفْسِ ، وَرُؤْيَةُ عُيُوبِهَا ،
وَحُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِذَا تَرَكَ الْعُجْبَ ، وَهُوَ
أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا حَسَنًا فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ
بِأَنَّهُ
لَا فَاعِلَ لِلْأَشْيَاءِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا ،
وَإِذَا أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يُرِيدَ بِصَالِحِ
عَمَلِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَسَبِيلُهُ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ مِنْ
حَبْطِ الْأَعْمَالِ مَخَافَةَ تَوَقُّعِ الرِّيَاءِ فَيُقَدِّرُ
الْخَلْقَ فِي حِزْبِ الْعَدَمِ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ شَيْئًا
.
وَإِذَا اسْتَشْعَرَ اطِّلَاعَ الْحَقِّ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ تَرْكُ
الْفَرَاغِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَقْتٌ إلَّا وَهُوَ
مَشْغُولٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الرِّبْحُ
أَوْ جَبْرُ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ فَسَبِيلُهُ
عِمَارَةُ الْوَقْتِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، وَإِذَا أَحَبَّ
الْمَسَاكِينَ ، وَخَدَمَهُمْ ، وَأَمَاطَ الْأَذَى عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَ
السُّرُورَ عَلَيْهِمْ بِإِرْفَادِهِمْ ، وَالْعَوْنِ لَهُمْ ،
وَإِظْهَارِ الْبِشْرِ ، وَاحْتِمَالِ الْجَفَاءِ ، وَالِاخْتِلَاطِ
بِهِمْ ، وَالتَّلَطُّفِ فِي نُصْحِ مَنْ زَلَّ مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ
طَلَبُ حَطِّ الْأَوْزَارِ ، وَالظَّفَرُ بِمَحَبَّةِ الْمَلِكِ
الْغَفَّارِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْمِزَاحَ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ
الِاهْتِمَامُ بِسَالِفِ الذُّنُوبِ ، وَإِذَا رَاعَى الْفَرْضَ بِطَلَبِ
أَدَائِهِ كَمَا وَجَبَ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ .
وَإِذَا أَحْسَنَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ يَجُوزُ
الْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ الْإِنْصَافِ بِالْمَحَامِدِ ،
وَإِذَا تَرَكَ الشَّهَوَاتِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِعَاقِبَتِهَا
وَمَآلِهَا ، وَطَلَبُ الرُّقِيِّ عَنْ الْأَرْضِيَّاتِ ، وَإِذَا قَلَّلَ
الطَّعَامَ بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِهِ ضَرَرٌ فَسَبِيلُهُ
التَّحَقُّقُ لِلْعِبَادَةِ ، وَالتَّهَيُّؤُ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى ، وَإِذَا لَبِسَ الدُّونَ مِنْ الثِّيَابِ مَعَ مُجَانَبَةِ
الشُّهْرَةِ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الضَّرُورَةِ فَسَبِيلُهُ خَوْفُ
الْحِسَابِ ، وَإِذَا تَرَكَ التَّنَعُّمَ بِمَلَاذِ الطَّيِّبَاتِ ،
فَسَبِيلُهُ التَّشَبُّهُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَإِذَا تَرَكَ
الْهَمْزَ
وَالِاحْتِقَارَ بِالْخَلْقِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّبَرِّي مِنْ صِفَةِ
الْجَاهِلِينَ ، وَإِذَا تَرَكَ الْفَرَحَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فَسَبِيلُهُ الْجَهْلُ بِالْعَاقِبَةِ ، وَعَدَمُ
الْمُبَالَاةِ بِالدُّنْيَا ، وَإِذَا تَرَكَ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَ
فَسَبِيلُهُ شَغْلُ الْوَقْتِ بِالْخِدْمَةِ ، وَالْإِيمَان بِالْقَدَرِ .
وَإِذَا
وَاصَلَ الْأَحْزَانَ خَوْفًا مِنْ السَّابِقَةِ ، وَالْخَاتِمَةِ
فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِانْكِسَارِ
الْقَلْبِ ، وَجَمْعِ الْهَمِّ ، وَإِذَا جَمَعَ هُمُومَهُ عَلَيْهِ
فَسَبِيلُهُ الْفِرَارُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَلْبِ فِي شِعَابِ
الْغَفْلَةِ ، وَإِذَا فَوَّضَ أُمُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرْحِ
نَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ دُونَ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ
اسْتِعْمَالُ الْأَدَبِ مَعَ جَلَالِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِذَا تَوَكَّلَ
عَلَى اللَّهِ لِثِقَتِهِ بِالْمَضْمُونِ فَسَبِيلُهُ شُغْلُ الْوَقْتِ
بِالتَّكْلِيفِ ، وَإِذَا تَرَكَ رُؤْيَةَ الْأَسْبَابِ حَتَّى اسْتَوَى
عِنْدَهُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا فَسَبِيلُهُ إفْرَادُ الْحَقِّ
بِالْخَلْقِ ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ ، وَالْجَلِيِّ
كَالْخُبْزِ لَا يُشْبِعُ ، وَالْمَاءِ لَا يَرْوِي ، وَالثَّوْبِ لَا
يُدْفِئُ ، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْعَادِيَّةُ كُلُّهَا ، وَإِذَا
تَرَكَ التَّمَلُّقَ لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ
بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ التَّمَلُّقِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُوَ
التَّوَاضُعُ ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُمْ ، وَإِذَا افْتَقَرَ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فَسَبِيلُهُ إظْهَارُ صِفَةِ
الْعُبُودِيَّةِ ، وَإِذَا غَابَ عَنْ الْخَلْقِ بِبَاطِنِهِ ، وَلَمْ
يَسْعَ إلَيْهِمْ بِظَاهِرِهِ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ الْأُنْسِ
بِالْمَخْلُوقِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْإِقْبَالَ عَلَى أَحَادِيثِ
الْعَامَّةِ ، وَتَرَكَ التَّشَوُّفَ لَهَا بِصَوْنِ قَلْبِهِ عَنْهَا ،
وَعِمَارَتِهِ بِذِكْرِ الْحَقِّ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ الْمِحْنَةِ ،
وَإِطْفَاءُ نَارِ الْفِتْنَةِ ، وَخَوْفُ خُسْرَانِ الْآخِرَةِ .
وَإِذَا كَانَتْ نَفْسُ الْمُرِيدِ مُتَطَلِّعَةً
لِأَحَادِيثِ
النَّاسِ لَمْ يُفْلِحْ أَبَدًا ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اسْتِفْتَاحَ
بَابِ الْخَيْرِ كُلِّهِ ، وَسَدَّ بَابِ الشَّرِّ كُلِّهِ فِي نَفْسِ
أَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ إذْ هِيَ مِعْيَارُ الْقَلْبِ ، وَبِهَا
تَتَبَيَّنُ الزِّيَادَةُ ، وَالنَّقْصُ ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ
إلَّا بِبَذْلِ الْجَهْدِ ، وَجَمْعِ النَّفْسِ ، وَمَحْضِ الصِّدْقِ ،
وَشِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَمُوَاصَلَةِ الْحُزْنِ حَتَّى إذَا اسْتَطَعْت
أَنْ تَمُوتَ حِينَ تَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ فَمُتْ فَسَبِيلُ ذَلِكَ
كُلِّهِ قُرْبُك مِنْ اللَّهِ ، وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَنْزِلَةَ
قُرْبِك عِنْدَهُ فَمُلَازَمَةُ الْجَدِّ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ
الْحَقِّ فِيك مَوْضِعٌ ، وَسَبِيلُهُ مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ ، وَإِجْلَالُ
الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِذَا أَرَدْت عِزَّةَ النَّفْسِ ، وَصِيَانَتَهَا
عَنْ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ دَقَّتْ الْحَاجَةُ أَوْ جَلَّتْ
فَسَبِيلُهُ طَلَبُ كُلِّ حَاجَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَدَبًا مَعَ
الرُّبُوبِيَّةِ وَمِنْ آكَدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُرِيدُ فِي
ذَلِكَ أَنْ لَا يُنْزِلَ نَفْسَهُ فِي صُورَةِ مُرْشِدٍ وَلَا مُوصٍ ،
وَلَا مُتَكَلِّمٍ بِالْحِكْمَةِ ، وَلَا بِالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ ،
وَلَكِنْ لِيُشْغِلَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَاغِلٌ بِسَبَبِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ
، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ :
دَوَاءُ الْقُلُوبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
بِالتَّدَبُّرِ ، وَخَلَاءُ الْبَاطِنِ ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ ،
وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ .
وَقَالَ
: أَيْضًا التَّاجِرُ بِرَأْسِ مَالِ غَيْرِهِ مُفْلِسٌ ، وَمِنْ كَلَامِ
يُمْنِ بْنِ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَا هَذَا هَلَّا حَجَرَك عَقْلُك
عَنْ أَنْ تَبُوحَ بِسِرِّك إلَى أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ أَوْ أَنْ
تَشْكُوَ حَالَك فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إلَيْهِمْ أَوْ تَتَكَلَّمَ بِمَا
لَا يَعْنِيك أَوْ تُجِيبَ إلَى أَمْرٍ لَا تَتَحَقَّقُ رُشْدَهُ ، وَلَا
تَأْمَنُ ضَرَرَهُ يَا هَذَا اجْعَلْ رَبَّك مَوْضِعَ شَكْوَاكَ ،
وَقَلْبَك خِزَانَةَ سِرِّك ، وَالْزَمْ مُرَاقَبَةَ مَوْلَاك فِي كُلِّ
حَالٍ يَرِدُ عَلَيْك فَإِنْ رَأَيْت خَيْرًا فَاحْمَدْ اللَّهَ ، وَإِنْ
رَأَيْت
شَرًّا فَافْتَقِرْ فِيهِ إلَيْهِ ، وَانْظُرْ إلَى الْخَلْقِ هَيَاكِلَ مُصَرَّفَةً ، وَأَسْبَابًا مُسَخَّرَةً ، وَلَا تَشْكُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ ، وَحَسْبُك مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا ، وَتَرَى الْفَضْلَ كُلَّهُ مِنْ مَوْلَاك فَاشْكُرْهُ بِكُلِّيَّتِك فَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ حَقِيقَةً ، وَشُكْرُ سِوَاهُ مَجَازٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
( فَصْلٌ ) : فَإِنْ كَانَ الْمُرِيدُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْأَوْلَادِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهِمَّهُ شَأْنُهُمْ ، وَلْيَنْظُرْ إلَى مَا سَبَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقَدَرِ ، وَيَعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ لَا يَضِيقُ عَنْ رِزْقِهِمْ ، وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهُمْ لَنْ يَفُوتَهُمْ ، وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِمْ لَنْ يَفُوتُوهُ ، وَأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ فِي حَقِّهِمْ سِيَّانِ إذْ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا ، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ كَانُوا لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ فَلَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ مَعَهُمْ إلَّا خَيْرًا ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ ، وَلْيَقُلْ : قَدْ اسْتَوْدَعْتُهُمْ لِمَنْ لَا تَخِيبُ لَدَيْهِ الْوَدَائِعُ فَلْيَطْرَحْ الْهَمَّ فِيهِمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً إنْ عَقَلَ وَلْيَظُنَّ بِمَوْلَاهُ خَيْرًا وَالسَّلَامُ .
( فَصْلٌ ) : فَإِنْ اُبْتُلِيَ الْمُرِيدُ
عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ وَخِلْطَتِهِمْ بِالْأَذِيَّةِ
وَالْجَفَاءِ مِنْهُمْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي
أَمْرِهِمْ ، وَيَرْجِعَ إلَى حَالِهِ وَيُفَتِّشَ خَبَايَا نَفْسِهِ فِي
الَّذِي قِيلَ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا ، فَإِنْ وَجَدَهُ فِي
نَفْسِهِ عَلِمَ إذْ ذَاكَ أَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ إنَّمَا هُوَ
نَذِيرٌ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ لِيَتُوبَ ، أَوْ يُوقِعَ بِهِ
النَّكَالَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ
وَالرُّجُوعِ ، وَيَرَى الْإِحْسَانَ وَالْفَضْلَ لِمَنْ قَالَ فِيهِ مَا
قَالَ .
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا قِيلَ عَنْهُ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى
ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدِهَا : أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ
بِالدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُبْتَلًى فَلْيَقُلْ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي
الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ الِابْتِلَاءِ فِي الْبَدَنِ سِيَّمَا إذَا
انْضَافَ إلَى ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي
الِابْتِلَاءِ .
هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ
يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنْ
يَشْكُرَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى سَلَامَتِهِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ .
الثَّانِي
: وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ
فِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَلَّمَهُ مِمَّا وَقَعَ أَخُوهُ فِيهِ ،
إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَكَانَ بَلَاءً بَيِّنًا إذْ
الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ السَّلَامَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ
بِمَنِّهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
وَمِنْ كِتَابِ يُمْنِ بْنِ
رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ سَاءَهُ الذَّمُّ وَأَعْجَبَهُ الْمَدْحُ
فَذَلِكَ ذَكَرُ الصُّورَةِ خُنْثَى الْعَزِيمَةِ .
وَقَالَ لَوْ قَالَ
لِي قَائِلٌ : إنَّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِحَظِّهِ مِنْ الْفَقْرِ لَمْ
يَجِدْ طَعْمَ الْإِيمَانِ لَمَا خَالَفْتُهُ ، وَلَوْ أَخْبَرَنِي
مُخْبِرٌ أَنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعَافِيَةِ فِي الْخُمُولِ ،
وَالْغِنَى عَنْ النَّاسِ لَصَدَّقْتُهُ .
وَقَالَ : حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ فِي مَوَاطِنِ الِامْتِحَانِ حِيلَةٌ حَسَنَةٌ فِي التَّخَلُّصِ ، وَإِنْ أَبْطَأَ .
وَقَالَ
: مَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ نَصَبٍ وَتَعَبٍ
لَمْ يُنْكِرْ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْهَا مَا دَامَ فِيهَا ، وَأَخَذَ مِنْ
الرَّاحَةِ بِحَظِّهِ ، وَمَنْ تَوَهَّمَهَا مَنْزِلَ رَاحَةٍ لَمْ
يُقَدِّرْ الرَّاحَةَ قَدْرَهَا إذْ أَتَتْهُ ، وَكَانَ تَعَبُهُ فِيهَا
مُضَاعَفًا .
وَقَالَ : تَقْدِيمُ صِدْقِ اللُّجْأِ إلَى اللَّهِ -
عَزَّ وَجَلَّ - فِي مَبَادِئِ الْحَاجَاتِ عُنْوَانٌ عَلَى نَجَاحِ
غَايَاتِهَا ، وَقَالَ : افْتَكِرْ فِي الْمَوْتِ تَهُنْ عَلَيْكَ
الْمَصَائِبُ .
وَقَالَ : مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ النَّفْسِ
يَعْنِي فِي شَهَوَاتِهَا وَمَلْذُوذَاتِهَا ، وَلَا أَجْرَأَ مِنْ
اللِّسَانِ ، وَلَا أَشَدَّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقَلْبِ ، وَلَا أَعْدَمَ
مِنْ الْإِخْوَانِ ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ
الْأَمَلِ
قَالَ : الصَّمْتُ وَغَضُّ الْبَصَرِ مِفْتَاحَانِ
لِأَبْوَابِ الْقُلُوبِ ، وَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ
مَنْزِلَةٌ عِنْدَ النَّاسِ تَرَبَّعَ فِي بُحْبُوحَةِ الْعَافِيَةِ .
وَقَالَ
: لَيْسَ إلَّا دُنْيَا وَآخِرَةٌ فَإِنْ أَرَدْتَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا
رُمْتَ مُحَالًا وَذَهَبَتَا عَنْكَ مَعًا فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ .
وَقَالَ : الضَّرُورَاتُ تَدْعُو إلَى شَرٍّ كَثِيرٍ ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ .
وَقَالَ
يَحْسُنُ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ مُرَقَّعًا وَنَعْلُهُ
بَالِيًا وَمَسْكَنُهُ خَلَقًا فَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ تَذْكِرَةٍ ،
وَأَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى الْغِنَى ، وَأَحَثُّ بَاعِثٍ عَلَى تَرْكِ
الطُّمَأْنِينَةِ إلَى الدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجَدِيدَ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَلَّتْ عِبْرَتُهُ ، وَكَانَ حُبُّ الْعَاجِلَةِ
أَغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ .
وَقَالَ : اطْمَعْ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ -
عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتَ مِنْ التَّفْرِيطِ وَلَا
تَأْمَنْ مَكْرَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتَ مِنْ الِاجْتِهَادِ
وَإِيَّاكَ وَالْيَأْسَ مِنْ مَوْلَاكَ فَإِنَّهُ قَطْعٌ لِلسَّبَبِ
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، وَاحْذَرْ الْأَمَانِيَّ فَإِنَّهَا اغْتِرَارٌ
بِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ عَلِمَ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ مَا
يَئِسَ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَوْ عَلِمَ كُنْهَ عِقَابِ اللَّهِ لَمَاتَ
خَوْفًا وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاضِي لَا يَرْجِعُ ، وَالْمُقَدَّرُ لَا يَتَبَدَّلُ ، فَاطِّرَاحُ الْهَمِّ سَعَادَةٌ مُعَجَّلَةٌ .
وَقَالَ
خَمْسٌ يُؤْلِمُكَ غَمُّهَا فِي الدُّنْيَا ، وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ
أَشَدُّ إيلَامًا إلَّا أَنْ يَنَالَكَ عَفْوُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فَاسْتَقْلِلْ مِنْهَا ، أَوْ اسْتَكْثِرْ : الْمِزَاحُ وَكَثْرَةُ
الْكَلَامِ ، وَالتَّعَرُّفُ بِالنَّاسِ ، وَإِفْشَاءُ سِرِّكَ إلَيْهِمْ
وَالشَّكْوَى بِحَالِكَ إلَى الْخَلْقِ .
وَقَالَ : لَقَدْ رَابَنِي
مَا أَرَاهُ مِنْ كَدِّ الْخَلْقِ لِلدُّنْيَا وَقِصَرِ هِمَّتِهِمْ
عَلَيْهَا فِي إيمَانِهِمْ ، وَلَقَدْ رَابَنِي مَا أَرَاهُ مِنْ
مُكَالَبَتِهِمْ عَلَيْهَا وَفَرْطِ جُنُوحِهِمْ إلَيْهَا فِي عُقُولِهِمْ
، وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ وَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَالِ إنَّكَ
إنْ
نَطَقْتَ لَهُمْ بِالْحَقِيقَةِ سَخِرُوا مِنْكَ ، وَإِنْ سَكَتَّ
عَنْهُمْ اتَّهَمُوكَ ، وَإِنْ مَازَحْتَهُمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا
أَهْلَكُوكَ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوكَ فَلَا رَاحَةَ
مَعَهُمْ وَلَا سَلَامَةَ دُونَهُمْ حَسْبِي اللَّهُ ، ثُمَّ حَسْبِي
اللَّهُ مِنْهُمْ .
وَقَالَ : رَجُلَانِ أَكْرَهُ رُؤْيَتَهُمَا ،
وَأُحِبُّ الْفِرَارَ مِنْهُمَا لِيَأْسِي مِنْ فَلَاحِهِمَا غَالِبًا :
طَالِبُ كِيمْيَاءَ ، وَطَالِبُ مُلْكٍ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَنْ تَسَامَى إلَى رُتَبٍ لَا يَقْتَضِيهَا حَالُهُ وَلَا حِلْيَتُهُ ،
وَآثَرَ هَوَاهُ وَأُمْنِيَتَهُ عَاشَ دَهْرَهُ فِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ
وَلَمْ يَبْلُغْ الْغَايَةَ الَّتِي يَسْعَى إلَيْهَا ، وَمَنْ تَقَاعَدَ
عَنْ الرُّتَبِ الَّتِي يُمْكِنُهُ بُلُوغُهَا عَاشَ مَهِينًا مَلُومًا ،
وَمَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَتَنَاوَلَ مِنْهَا مَا كَانَ لَهُ
صَالِحًا اسْتَحَقَّ اسْمَ النُّبْلِ وَكَانَ عَيْشُهُ هَنِيئًا
وَقَلْبُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - خَاشِعًا .
وَقَالَ : أَنَا لَا أُصَدِّقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : مُكَالَمَةُ الْجَاهِلِ سَجْنٌ لِلْعَقْلِ .
وَقَالَ الرَّاحَةُ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ : فَقِيرٍ صَالِحٍ ، أَوْ غَنِيٍّ عَاقِلٍ ، أَوْ أَحْمَق مَبْخُوتٍ .
وَقَالَ
: يَا هَذَا إنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنْ النَّاسِ مَرَّةً فَالْعَجَبُ
مِنْكَ أَلْفَ مَرَّةٍ فَقَدْ بَانَ لَكَ بِالتَّجْرِبَةِ
الْمُسْتَبِينَةِ وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ مُكَالَمَةَ النَّاسِ
غُنْمُهَا نَدَامَةٌ وَالصَّمْتَ عَنْهُمْ سَلَامَةٌ ، ثُمَّ لَا
يَصْرِفُكَ ذَلِكَ عَنْ الْهَذَرِ مَعَهُمْ ، وَالْخَوْضِ فِي
أَحَادِيثِهِمْ وَكُلُّهُمْ مَقْهُورُونَ لِطِبَاعِ أَنْفُسِهِمْ
سَامِعُونَ مِنْ حَالِهِمْ مُبْصِرُونَ بِعُيُونِ رُءُوسِهِمْ إلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فَمَا يُصْغِي إلَيْكَ مِنْهُمْ
غَالِبًا إلَّا مُتَّهَمٌ ، أَوْ مُكَذِّبٌ ، أَوْ غَيْرُ مُحَصِّلٍ
فَاصْحَبْهُمْ بِصَمْتٍ وَلَا يَكُونُ كَلَامُكَ لَهُمْ إلَّا جَوَابًا
بِمَا لَا دَرَكَ فِيهِ عَلَيْكَ فِي دِينٍ ، أَوْ دُنْيَا فَإِنْ أَنْتَ
صَبَرْتَ عَلَى أَذَاهُمْ كُفِيتَهُمْ وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْتَصِرَ
لِنَفْسِكَ فَتُوكَلَ إلَيْهَا ، وَسَلِّمْ الْأَمْرَ إلَى مَوْلَاكَ
وَافْتَقِرْ إلَيْهِ تَجِدْهُ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ
: الِالْتِفَاتُ إلَى النَّاسِ تَعَبٌ فِي الْعَاجِلِ وَنَدَامَةٌ فِي
الْآجِلِ ؛ لِأَنَّ عَامَّتَهُمْ مَا بَيْنَ جَافٍ مُتَعَسِّفٍ ، أَوْ
بَطِرٍ مُتَكَلِّفٍ فَلَيْسَ التَّأْثِيرُ بِالْأَوَّلِ بِأَسْوَأِ مِنْ
الِاغْتِرَارِ بِالثَّانِي فَالرَّأْيُ أَنْ يُعَدَّا جَمِيعًا فِي حِزْبِ
الْعَدَمِ حَتَّى لَا تَأْثِيرَ لِلِاضْطِرَارِ إلَيْهِمْ وَلَا
لِلْجَفَاءِ مَعَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيهِمْ ،
وَاعْتِقَادِ الرَّحْمَةِ وَالصِّلَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَاَلَّذِي
يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْإِقْبَالُ
عَلَى مَا يَعْنِيكَ ، وَالصَّبْرُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَإِنَّكَ إذَا
وَافَقْتَ الشَّرِيعَةَ وَلَاحَظْتَ الْحَقِيقَةَ لَمْ تُبَالِ بِمَنْ
خَالَفَ رَأْيَكَ مِنْ الْخَلِيقَةِ .
وَقَالَ مَنْ تَفَكَّرَ فِيمَنْ سَلَفَ وَنَظَرَ فِي الْمَعَادِ هَانَ عَلَيْهِ جَفَاءُ الْخَلْقِ وَلَمْ يَغْتَرَّ بِلُطْفِهِمْ .
وَقَالَ
رَحِمَهُ اللَّهُ : الْزَمْ الصَّمْتَ عِنْدَ مُحَاضَرَةِ مَنْ تَكْرَهُهُ
وَتَكَلَّمْ مَعَ مَنْ لَكَ فِي كَلَامِهِ فَائِدَةٌ .
وَقَالَ مَنْ
عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ خَافَ وَحَزِنَ وَلَمْ
يَفْتُرْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا ضَمِنَ لِعِبَادِهِ
أَرْزَاقَهُمْ لَمْ يَشْغَلْهُ طَلَبُ الْمَضْمُونِ عَمَّا كُلِّفَ ،
وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا مَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ كَفَاهُ
تَوَكَّلَ بِالْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا لَا
فَاعِلَ لِلْمَوْجُودَاتِ إلَّا هُوَ اقْتَصَرَ فِي كُلِّ مُرَامٍ إلَيْهِ
، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا رَقِيبًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتَحَى
مِنْهُ حَقَّ الْحَيَاءِ .
وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى الدُّنْيَا
بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فَرَأَى تَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا وَانْزِعَاجِهِمْ
عَنْهَا لَمْ يَطْمَئِنَّ إلَيْهَا ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْآخِرَةِ
بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فَتَخَيَّلَ نَعِيمَهَا وَعَذَابَهَا وَأَيْقَنَ
أَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهَا عَمِلَ لَهَا .
وَقَالَ الْزَمْ الْفَضْلَ
وَاتْرُكْ الْفُضُولَ وَاغْتَنِمْ وَقْتَكَ تَفُزْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، فَبِمُلَازَمَةِ الْفَضْلِ تَنَالُ الشَّرَفَ وَبِتَرْكِ
الْفُضُولِ تَنَالُ السَّلَامَةَ وَبِاغْتِنَامِ الْوَقْتِ
تَنَالُ الرِّبْحَ وَفِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَجْمُوعُ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَقَالَ : لَيْسَ إلَّا عَيْشُ الدُّنْيَا ، أَوْ عَيْشُ الْآخِرَةِ وَلَنْ يَجْتَمِعَا .
فَالْأَوَّلُ مَادَّتُهُ الْأَرْضِيَّاتُ ، وَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ .
وَالثَّانِي
مَادَّتُهُ الْعُلْوِيَّاتُ ، وَهُوَ عَيْشُ الرُّوحِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ
الْمَبْدَأَ ، وَالْغَايَةَ فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ : يَا هَذَا الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ نَجَاةٌ وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ غَيْرِ اللَّهِ .
وَقَالَ : مَا أَحَقَّكَ بِالنُّوحِ عَلَى نَفْسِكَ .
مَا أَوْلَاكَ بِإِلْقَاءِ التُّرَابِ عَلَى رَأْسِكَ .
مَا أَغْفَلَكَ عَمَّا حَلَّ بِكَ .
أَنَسِيتَ عَظَائِمَكَ .
أَمْ أَمِنْتَ عِقَابَ رَبِّكَ بَادِرْ يَا مِسْكِينُ وَاحْذَرْ سَدَّ الْبَابِ وَقَطْعَ الْأَسْبَابِ .
وَاسْتَنْزِلْ بِكَفِّ الضَّرَاعَةِ رَحْمَةَ مَوْلَاكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ .
وَقَالَ
: إذَا سَافَرْت فَالْتَزِمْ فِي الطَّرِيقِ مَعَ أَهْلِ الرُّفْقَةِ
الصَّمْتَ وَلَا تَتَكَلَّمْ مَعَهُمْ إلَّا جَوَابًا يَسِيرًا مِنْ
الْقَوْلِ لَفْظَةً أَوْ نَحْوَهَا .
فَإِنْ سُئِلْتَ مِنْ أَيْنَ ؟ فَقُلْ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا شُغْلَكَ ؟ فَقُلْ أَبْتَغِي فَضْلَ اللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا اسْمُكَ ؟ فَقُلْ عَبْدُ اللَّهِ .
فَإِنْ تَصَامَمْتَ لَهُمْ فَحَسَنٌ ، وَإِذَا دَخَلْتَ بَلَدًا فَلَا تَصْحَبُهُ فِيهِ أَحَدًا صُحْبَةً تُوجِبُ عَلَيْكَ حَقًّا .
وَاحْسِمْ التَّعَارُفَ أَلْبَتَّةَ .
وَافْتَقِرْ
إلَى اللَّهِ فِي حَوَائِجِكَ فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُكَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ زَمَانَ صُحْبَةٍ وَلَا مُصَادَقَةٍ ،
وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانُ الْوَحْشَةِ وَالْغُرْبَةِ وَالْفِرَارِ مِنْ
النَّاسِ مَبْلَغَ الْوُسْعِ .
وَقَالَ : خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِلْفَتَى : بَطَرُ الْغَنِيِّ وَمَذَلَّةُ الْفَقِيرُ .
فَإِذَا غُنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا .
وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدَّهْرِ .
وَقَالَ
رَحِمَهُ اللَّهُ : الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ، وَالْبَلَاءُ لَفْظٌ
مُشْتَرَكٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ التَّعَبِ ، وَالْمَشَقَّاتِ
كَفُرْقَةِ الْأَحْبَابِ وَذَهَابِ الْمَالِ وَأَذَى النَّاسِ ،
وَالْأَسْقَامِ ،
وَالْجُوعِ ، وَالْعَطَشِ ، وَالْقُمَّلِ
وَالذُّبَابِ ، وَالْعَقَارِبِ ، وَالْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ وَفَقْدِ
الْوَطَنِ ، وَالْبَرْدِ ، وَالْحَرِّ ، وَالْعُرْيِ وَالشَّهَوَاتِ :
كَشَهْوَةِ الْبَطْنِ ، وَالْفَرْجِ إلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ
يَنْحَصِرُ فَمَا وَقَعَ مِنْهُ فَلَا تُنْكِرْ وُقُوعَهُ فِي مَحِلِّهِ
وَلَا تَسْتَغْرِبْهُ ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَغْرَبُ فِيهَا الْمَسَرَّاتُ
؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارٍ لَهَا وَلَا تُقَابِلْ شَيْئًا مِنْ
الْبَلَاءِ إلَّا بِالصَّبْرِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَيْهَا مَتَى
وَقَعَ مِنْهَا شَيْءٌ وَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - فِي
زِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ ، وَالْإِمْدَادِ بِالْمَعْرِفَةِ .
وَقَالَ : مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَمْسِهِ وَغَدِهِ غَنِمَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ يَوْمِهِ .
وَقَالَ بِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَاللُّجُوءُ إلَيْهِ عُنْوَانُ النَّجَاحِ .
وَالْقُرْآنُ حَبْلُ الْعِصْمَةِ .
وَالسُّنَّةُ طَرِيقُ السَّلَامَةِ .
وَالْفِكْرَةُ مِفْتَاحُ الرُّشْدِ .
وَالْهِمَمُ مُثِيرَاتُ الْعَزْمِ وَالتَّبَصُّرُ ثَمَرَةُ الصِّدْقِ وَالظَّفَرُ نَتِيجَةُ الصَّبْرِ .
وَالِاسْتِغَاثَةُ دَرَجُ الْوُصُولِ .
وَالتَّضَرُّعُ أَمَارَةُ التَّخَلُّصِ .
وَالسَّحَرُ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ .
وَالْإِلْحَاحُ مُقَدِّمَةُ الْمَحَبَّةِ .
وَالتَّوَاضُعُ سُلَّمُ الشَّرَفِ .
وَالسَّخَاءُ خُلُقُ الْإِيمَانِ .
وَالزُّهْدُ شِعَارُ التَّقْوَى .
وَالتَّوَكُّلُ حِرْفَةُ الْمَعْرِفَةِ .
وَالتَّفْوِيضُ عَلَمُ السَّعَادَةِ .
وَالْخَوْفُ أَثَرُ الْجَدِّ .
وَالرَّجَاءُ إفَادَةُ الْجُهْدِ ، وَرَحْمَةُ الْخُلُقِ دَلِيلُ الطَّهَارَةِ .
وَاحْتِمَالُ الْأَذَى عَيْنُ الْفُتُوَّةِ ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ خُلُقُ النُّبُوَّةِ .
وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالْحُضُورِ عَيْشُ الرُّوحِ وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى قَتْلُ النَّفْسِ .
وَذِكْرُ اللَّهِ رَأْسُ مَالِ الْعَابِدِينَ .
مَنْ تَرَكَ الشَّهَوَاتِ قَرَعَ الْبَابَ ، وَمَنْ تَرَكَ الْحُظُوظَ رَفَعَ الْحِجَابَ .
قِيَامُ اللَّيْلِ بُسْتَانُ الْعَارِفِينَ .
الْأَحْوَالُ مَبْلَغُ الْقَوْمِ .
مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى الْكِلَابِ فَهُوَ أَحَدُ
الْفَرَاعِنَةِ السَّلْوُ عَنْ الْمَتْرُوكِ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَطْلُوبِ .
مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَهِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَهْوَنُ ، وَمَنْ صَحِبَ التَّسْوِيفَ أَدَّاهُ إلَى الْفَوْتِ .
وَمَنْ فَاتَهُ مَوْلَاهُ غَرِقَ فِي بَحْرِ الْيَأْسِ ، الدُّنْيَا سَلَامَتُهَا غَرَرٌ .
وَلَذَّاتُهَا قَذَرٌ .
قَالَ
الشَّاعِرُ فَخَيْرُ لِبَاسِهَا نَفَثَاتُ دُودٍ وَخَيْرُ شَرَابِهَا
قَيْءُ الذُّبَابِ وَأَشْهَى مَا يَنَالُ الْمَرْءُ فِيهَا مُبَالٍ فِي
مُبَالٍ مُسْتَطَابِ ، وَعَنْ قُرْبٍ يَعُودُ الْكُلُّ تُرْبًا بِلَا
شَكٍّ يَكُونُ وَلَا ارْتِيَابِ وَقَالَ : كُنْتُ قَدْ رَأَيْتُ فِي
كُتُبِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ
يَأْمَنَهَا فَطَلَبْتُهَا فِي حِفْظِي فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا سِوَى
وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ ، وَإِنْ أَبْدَتْ الْوُدَّ وَأَظْهَرَتْ
النُّصْحَ .
وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي السُّلْطَانُ وَإِنْ أَبْدَى التَّقْرِيبَ وَالْمُصَافَاةَ .
وَأَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ جَمًّا وَافِرًا .
وَأَنْ يَكُونَ الرَّابِعُ الزَّمَانَ وَإِنْ كَانَ مُطَاوِعًا مُسَالِمًا .
فَرُبَّ مَخْدُوعٍ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَخَانَتْهُ ، أَوْثَقُ مَا كَانَ بِهَا وَأَسْلَمَتْهُ أَمْيَلُ مَا كَانَ إلَيْهَا .
وَقَالَ : الرَّاحَةُ كُلُّهَا فِي الرِّضَا بِاخْتِيَارِ الْحَقِّ لَكَ وَالتَّعَبُ كُلُّهُ فِي اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ .
وَمُدَافَعَةُ الْأَيَّامِ شِيمَةُ الْكِرَامِ .
وَاغْتِنَامُ الْوَقْتِ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ وَاطِّرَاحِ الْأَمَلِ سَعَادَةٌ .
وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ .
وَقَالَ
: يَا هَذَا إذَا رَأَيْتَ إنْسَانًا لَمْ تُلْزِمْكَ الضَّرُورَةُ
إلَيْهِ فَفِرَّ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ ، أَوْ أَشَدَّ ، وَإِنْ
قُدِّرَ اجْتِمَاعُكَ مَعَهُ مُفَاجَأَةً فَاقْتَصِرْ فِي الْكَلَامِ
مَعَهُ وَاعْتَذِرْ لَهُ بِشُغْلٍ وَاتْرُكْهُ بِسَلَامٍ أَمَا تَذْكُرُ
أَنَّ تَعَبَكَ فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إنَّمَا جَاءَكَ مِنْ
مَعْرِفَةِ النَّاسِ .
( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ
تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مَضْبُوطَةً لِكُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا عَمَلٌ يَخُصُّهُ
مِنْ الْأَوْرَادِ فَلَا يَقْتَصِرُ فِي الْوَرْدِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، بَلْ كُلُّ أَفْعَالِ الْمُرِيدِ وِرْدٌ .
قَدْ
كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقُولُونَ جَوَابًا لِمَنْ
طَلَبَ الِاجْتِمَاعَ بِأَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ وَيَكُونُ نَائِمًا هُوَ
فِي وِرْدِ النَّوْمِ .
فَالنَّوْمُ وَمَا شَاكَلَهُ هُوَ مِنْ
جُمْلَةِ الْأَوْرَادِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ وَقْتُ النَّوْمِ مَعْلُومًا
كَمَا أَنَّ وَقْتَ وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ يَكُونُ مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ
اجْتِمَاعُهُ بِإِخْوَانِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا .
وَكَذَلِكَ
الْحَدِيثُ مَعَ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا كُلُّ ذَلِكَ
وِرْدٌ مِنْ الْأَوْرَادِ إذْ إنَّ أَوْقَاتَهُ مُسْتَغْرَقَةٌ فِي
طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَأْتِي إلَى شَيْءٍ مِمَّا أُبِيحَ
لَهُ فِعْلُهُ ، أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ إلَّا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى
اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَرْدِ أَعْنِي
التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا عَلَى جَادَّةِ
الِاجْتِهَادِ ، وَالْفَرَاغِ مِنْ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ
الْعَوَائِقِ ، وَالْعَوَارِضِ ، أَوْ مِنْ حَالٍ يَرِدُ يَكُونُ سَبَبًا
لِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِي حَقِّ
الْمُرِيدِ ، بَلْ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ
بُكَاءٌ أَوْ تَضَرُّعٌ أَوْ خَشْيَةٌ يَسْتَمِرُّ فِي ذَلِكَ وَلَا
يَقْطَعُهُ ؛ إذْ إنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ فَإِذَا حَصَلَتْ لِلْمُرِيدِ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى
فَرِيسَتِهِ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا وَيَغْتَنِمْهَا لِئَلَّا
تَنْفَلِتَ مِنْهُ فَقَلَّ أَنْ يَجِدَهَا وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
إذَا لَذَّتْ لَكَ الْقِرَاءَةُ فَلَا تَرْكَعْ وَلَا تَسْجُدْ ، وَإِذَا
لَذَّ لَكَ الرُّكُوعُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَسْجُدْ ، وَإِذَا لَذَّ
لَكَ السُّجُودُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَرْكَعْ ،
الْأَمْرُ الَّذِي يُفْتَحُ عَلَيْكَ فِيهِ فَالْزَمْهُ .
أَرَأَيْتَ إنْسَانًا يَطْلُبُ شَيْئًا فَإِذَا وَجَدَهُ تَرَكَهُ .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلُ وَلَا يُقْتَصَرُ فِي هَذَا عَلَى
الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ أَرَادَهُ
فَلَوْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ
فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ أَيْضًا ، بَلْ هَذَا آكَدُ لِاجْتِمَاعِ
بَرَكَةِ الْإِخْوَانِ ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ
وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَلْوَةُ فِيهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى
كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ الْخَيْرُ
الْمُتَعَدِّي حِسًّا لِاسْتِمْدَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ،
وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ
وَأَنْفَاسُهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمَلَأِ مَضْبُوطَةً بِالِاتِّبَاعِ فِي
كُلِّ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي أَوْرَادِهِ عَلَى
الْقَلِيلِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ
بِسَوَاءٍ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ شُغْلٌ ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِقِ
فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهَا لِيَسَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّمِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى عَمَلِ السِّرِّ لِمَا تَقَدَّمَ
أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ الْجَهْرَ بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ وَمَا
هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَأَكَّدُ تَحْصِيلُهُ عَلَى مَا
يَنْبَغِي .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ ، أَوْ مَعَ
غَيْرِهِ .
فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ عَمَلُ السِّرِّ
مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ أَعْنِي مِنْ
الْأَهْلِ وَمَا شَابَهَهُمْ .
فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
فِيهِمْ مَنْ يَرْجُو أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ
كَذَلِكَ فَإِظْهَارُهُ أَوْلَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا
يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ مَعَهُمْ ، ثُمَّ الْأَمْرُ فِي
ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ إذْ إنَّ مِنْ الْأَهْلِ ،
أَوْ
الْإِخْوَانِ مَنْ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ يُوَاظِبُ
عَلَيْهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ بَادَرَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ ، أَوْ
شَيْءٍ مِنْهُ .
وَهَذَا فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرُ لِمَا وَرَدَ { : لَأَنْ
يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ
النَّعَمِ } فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ
مِنْهُ فَالسِّرُّ أَوْلَى بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ الْخَلْوَةَ عَنْ أَهْلِهِ كَانَ بِهِ أَوْلَى .
فَالْمُرِيدُ
بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى ، بَلْ أَوْجَبُ ؛ لِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا
يَزَالُ فِي عَمَلِ السِّرِّ فِي غَالِبِ أَوْقَاتِهِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ
آثَارُ ذَلِكَ وَبَرَكَتُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى عَمَلِ سِرٍّ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ
الْحَفَظَةُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ
الْحَفَظَةُ وَنَاشَدُوهُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ
سُرُورًا بِحَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ يُظْهِرُهَا لَهُمْ لِيُسَرُّوا
بِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَفَظَةَ يَفْرَحُونَ بِحَسَنَةِ الْعَبْدِ حِينَ
يَعْمَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِ الْعَبْدِ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
حِينَ يَرَى ثَوَابَهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ رُسُلَ الْمَلِكَ لَا
يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ إلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
يُحِبُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَهُ لِكَرَاهِيَةِ
الْمَلِكَ لَهُ .
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرُهُ
مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِهَا ، وَهِيَ
أَكْبَرُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا .
لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ { : لَنْ
يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُقَرَّبُونَ بِأَحَبَّ مِنْ أَدَاءِ مَا
افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ } الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ .
وَالْحَفَظَةُ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُبُونَهُ .
فَيَتَعَيَّنُ
أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى الْأَوْرَادِ الَّتِي هِيَ مِنْ
أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَهِيَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ إذْ
إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَلَّى لِخَلْقِهِ
وَظَهَرَ
بِآيَاتِهِ وَبَطَنَ بِذَاتِهِ فَهُوَ الظَّاهِرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ
مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ الْبَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَا يُقَالُ أَيْنَ وَلَا
كَيْفَ وَلَا مَتَى ؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَمَنْ كَانَ فِي حَالِ التَّجَلِّي فَهُوَ مُسْتَغْرِقُ الْأَوْقَاتِ
حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ
النَّعِيمِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ شَيْئًا مِنْ النِّعَمِ أَعْلَى مِنْهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَلَا يُعَكَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَفَظَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا
نَوَى الْحَسَنَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ عَطِرَةٌ ، وَإِذَا
نَوَى السَّيِّئَةَ خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ ؛ لِأَنَّ
هَذَا قَدْ نَوَى بِقَلْبِهِ مَا نَوَاهُ فَهُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ
الْقَلْبِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الرَّائِحَةُ الصَّادِرَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ
مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ
وَلَا مِنْ حِيلَتِهِ ، بَلْ هُوَ فَيْضٌ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى وَتَفَضُّلٌ مِنْهُ وَامْتِنَانٌ عَلَى مَنْ خَصَّهُ
وَاخْتَارَهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ فَيَنْبَغِي
لِلْمُرِيدِ إنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سَنِيَّةٌ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى
تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى كَرِيمٌ مَنَّانٌ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
فِيهَا الْبَرَكَةُ الشَّامِلَةُ فَخَيْرُهُمْ وَمَقَامُهُمْ الْخَاصُّ
بِهِمْ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ -
تَعَالَى - وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ الْمُرِيدُ
إيَاسَهُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى حَالِهِمْ السَّنِيِّ وَلَا يَنْظُرُ فِي
ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِحِيلَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَاجْتِهَادِهِ ؛
لِأَنَّهُ مَهْمَا نَظَرَ إلَى ذَلِكَ قَطَعَ بِهِ ، بَلْ يَنْظُرُ إلَى
فَضْلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَنِعَمِهِ الْمُتَرَادِفَةِ
عَلَيْهِ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ بَهِيمِيَّ الطَّبْعِ لَا يَرَى النِّعَمَ إلَّا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالسَّعَةِ فِي
الرِّزْقِ
؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ حَالِ الْمُرِيدِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ
حَالِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَرَمِهِ
وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ يُعْطِي لِكُلِّ قَاصِدٍ مَا
قَصَدَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرِيدَ غَنِيمَتُهُ مَا فَاتَهُ
مِنْ الدُّنْيَا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ الْمُرِيدُ لَا يَحْتَاجُ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ
فَقُلْتُ لَهُ أَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ
وَاللِّبَاسِ فَقَالَ نَعَمْ لَكِنَّ طَعَامَ الْمُرِيدِ الْجُوعُ
وَكِسْوَتَهُ الْعُرْيُ فَهُوَ يَجِدُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحِلُّ
فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ .
وَالْمَقْصُودُ
، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَدْ طَرَحُوا أُمُورَ الدُّنْيَا خَلْفَ
ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَأَسْنَدُوا
أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا بِالْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ فَأَنْعَمَ
عَلَيْهِمْ وَقَرَّبَهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَحَمَاهُمْ وَتَجَلَّى لَهُمْ
بِصِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى -
أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .
وَمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا إنَّمَا ذَلِكَ فِي حَالِ بِدَايَتِهِ ، ثُمَّ
يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّرَقِّي فِي الزِّيَادَةِ
قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَسْتَغْرِقَ ، أَوْقَاتَهُ فِي أَنْوَاعِ
الْعِبَادَاتِ ، وَهُوَ لَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَشَقَّةً وَلَا تَعَبًا فِي
الْغَالِبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمُرِيدَ فِي بِدَايَةِ
أَمْرِهِ يَمْشِي عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ
وَأَمَّا نِهَايَتُهُ فَلَا حَدَّ لَهَا ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا :
أَكْلُهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى
وَكَلَامُهُمْ ضَرُورَةٌ فَلَا يَنَامُ الْمُرِيدُ إلَّا غَلَبَةً ،
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ فِي السَّنَةِ الَّتِي
أَخَذَتْهُ ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْ
الْإِشْرَاقِ فَعَرَكَ
عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ .
وَمِنْ
كَانَ نَوْمُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَهَيَّأَ
لِحَالَةِ النَّوْمِ وَلَا لِلْأَذْكَارِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ إذْ
حَالُ الْمُرِيدِ لَا يَنْضَبِطُ بِقَانُونٍ مَعْلُومٍ لِكَثْرَةِ
اجْتِهَادِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ قَلَّ أَنْ
تَنْحَصِرَ .
لَكِنْ يُحَافَظُ عَلَى السُّنَّةِ وَيَشُدُّ يَدَهُ
عَلَيْهَا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُعْجِبُهُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَى
فِرَاشِهِ دَخَلَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى
الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَقُومُ
فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ
إنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ خَوْفَ نَارِكَ مَنَعَنِي الْكَرَى فَيَقُومُ
حَتَّى يُصْبِحَ فَكَانَ يُعْجِبُهُ مِنْهُ مُحَافَظَتُهُ عَلَى
السُّنَّةِ حَتَّى فِي الْفِرَاشِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا
يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّوْمُ فَإِذَا كَانَ الْمُرِيدُ عَلَى هَذَا
الْحَالِ أَعْنِي مُحَافَظَتَهُ عَلَى السُّنَّةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ
فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ
- تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ إنَّهُ الْكَرِيمُ
الْوَهَّابُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
فَصْلٌ فِي قُدُومِ الْمُرِيدِ
مِنْ السَّفَرِ وَدُخُولِهِ الرِّبَاطَ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا عَلَى الْمُرِيدِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ
وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
فَيَشُدُّ عَلَى ذَلِكَ يَدَهُ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ ، أَوْ
يَغْتَرَّ بِمَا قَدْ أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَفْعَالٍ لَمْ
تَكُنْ لِمَنْ مَضَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي
الِاتِّبَاعِ وَعَكْسَهُ فِي الِابْتِدَاعِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ
أَكْثَرُ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمَا فَاقُوا
عَلَى غَيْرِهِمْ إلَّا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ اُخْتُصُّوا بِثَلَاثَةِ
أَسْمَاءٍ فُقَرَاءَ وَمُرِيدِينَ وَصُوفِيَّةٍ فَالْفَقِيرُ مَنْ
افْتَقَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَكَنَ
بِقَلْبِهِ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَوَاطِرُ تَلْدَغُهُ فَهُوَ لَا
يَلْتَفِتُ إلَيْهَا وَيَفْتَقِرُ إلَى رَبِّهِ وَيُعَوِّلُ عَلَيْهِ ،
وَالْمُرِيدُ مَنْ أَرَادَ رَبَّهُ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ وَكَانَ
غَايَةَ طَلَبِهِ وَمُنَاهُ وَسَلِمَ مِنْ لَدَغَاتِ الْخَوَاطِرِ
وَمُجَاهَدَتِهَا لِإِرَادَتِهِ لِرَبِّهِ وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ
.
وَالصُّوفِيُّ مِنْ صَفَا بَاطِنُهُ وَجَمَعَ سِرَّهُ عَلَى رَبِّهِ
وَشَاهَدَ عَيَانًا جَمِيلَ صُنْعِهِ فَأَسْنَدَ الْأُمُورَ كُلَّهَا
إلَيْهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَرَّبَهُمْ اللَّهُ وَاجْتَبَاهُمْ وَخَلَعَ
عَلَيْهِمْ خِلَعَ إحْسَانِهِ وَلِحَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ ارْتَضَاهُمْ ،
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهَذَا مَقَامٌ خَاصٌّ بِهِمْ
وَالثَّوْبُ النَّظِيفُ أَقَلُّ شَيْءٍ يُدَنِّسُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ
حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ حِينَ قَدَّمَ رِجْلَهُ
الْيُسْرَى فَغُشِيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ شِعَارُهَا
الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا
مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ رَأَوْهُ أَمْرًا عَظِيمًا فَأَقْلَعُوا
عَنْهُ فِي وَقْتِهِمْ وَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى -
وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذَنْبٍ تَقَدَّمَ
فَعُجِّلَتْ لَهُمْ عُقُوبَتُهُ فَتَضَرَّعُوا إلَى اللَّهِ وَابْتَهَلُوا إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْهُمْ .
وَإِذَا
كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ لَا
يُسَامِحَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الِاتِّبَاعَ ، وَلَوْ
قَالَهُ مَنْ قَالَهُ .
فَلْيَحْذَرْ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي
قَرَّرَهَا بَعْضُ النَّاسِ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَنْحَاءٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّهَا وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ
تَرَكَهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ أَهْلِ الشَّرْقِ .
وَذَهَبَ
بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا سِيَّانِ
لَا عَتْبَ عَلَى تَارِكِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهَا .
وَذَهَبَتْ
الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ الْمُتَّبِعُونَ
لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ الْأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ
فَعَلَهُ ، أَوْ اسْتَحْسَنَهُ ، وَقَالَ لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهِ
لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي
أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مِنْ أَعْجَبِ
الْأَشْيَاءِ صُوفِيٌّ سُنِّيٌّ يَعْنِي بِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَيْسَ
لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ تَرْجِعُ إلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَهَبَ
إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ إذَا وَرَدَ الْبَلَدَ وَقَصَدَ
دُخُولَ الرِّبَاطِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعَجَمِ
الْخَانْقَاهْ فَالرِّبَاطُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّبْطِ ؛ لِأَنَّ سَاكِنَهُ
مُرَابِطٌ فِيهِ وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ
يُحِبُّونَ رُؤْيَةَ الْقَيْدِ فِي النَّوْمِ وَيَكْرَهُونَ الْغِلَّ
فَهَذَا مِنْهُ .
وَلَهُمْ فِيمَا أَحْدَثُوهُ اصْطِلَاحٌ لَا
يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّجَ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَثُرَ وُقُوعُهُ
وَالْقَوْلُ بِهِ وَالْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ تَرَكَ شَيْئًا
مِنْهُ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ تَعَيَّنَ الْكَلَامُ فِيهِ
عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ دُخُولَ
الرِّبَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ
يُشَمِّرُ كُمَّيْهِ وَيَبْتَدِئُ فِي
ذَلِكَ بِالْيَمِينِ وَهَذَا إذَا أَرَادَ دُخُولَ الرِّبَاطِ ، أَوْ
يَتَنَاوَلُ شَيْئًا طَاهِرًا وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ
الْخَلَاءَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئ بِتَشْمِيرِ كُمِّهِ الْأَيْسَرِ
وَيُبَالِغُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيُسَمُّونَهَا آدَابًا .
حَتَّى
أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَوَغَّلَ فِي هَذَا الشَّأْنِ
أَنَّهُ خَدَمَ شَيْخَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي
بَعْضِ الْأَيَّامِ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَشَمَّرَ كُمَّهُ
الْأَيْمَنَ قَبْلَ الْأَيْسَرِ فَقَالَ لَهُ شَيْخُهُ أَيْنَ تُرِيدُ
فَاسْتَفَاقَ لِخَطَئِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، فَقَالَ يَا سَيِّدِي إلَى
بَغْدَادَ فَسَافَرَ إلَيْهَا .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكَ إلَى تَبْدِيلِ الْخَاطِرِ الْمُعَجَّلِ بِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ
وَاحِدَةٍ كَيْفَ وَقَعَ بِهَا هَذَا فِي أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَعَبُ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَتَرْكُ جَمْعِ الْخَاطِرِ
فِي الْحَضَرِ وَبَرَكَتِهِ .
وَالثَّانِي : إخْبَارُ شَيْخِهِ بِمَا لَيْسَ فِي بَاطِنِهِ ، وَطَائِفَةُ الصُّوفِيَّةِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
ثُمَّ
إذَا شَمَّرَ أَكْمَامَهُ يَشُدُّ وَسَطَهُ بِشَيْءٍ وَيَأْخُذُ
الْعُكَّازَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، وَالْإِبْرِيقَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى
وَيَجْعَلُ السَّجَّادَةَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مَطْوِيَّةً وَهَذَا
فِيهِ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ مِنْ الْبِدَعِ
الَّتِي أُحْدِثَتْ فَكَيْفَ يَتَّخِذُهَا الْفَقِيرُ ، وَقَدْ كَانَ
كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَحُولُ بَيْنَ
وُجُوهِهِمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلٌ لَا حَصِيرٌ وَلَا غَيْرُهُ وَمَا
ذَاكَ إلَّا لِاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَكَوْا إلَيْهِ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ
أَلَمِ السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُشْكِهِمْ وَمَعْنَى ذَلِكَ
أَنَّهُ لَمْ يُزِلْ شَكْوَاهُمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ { :
مَسْحُ الْحَصْبَاءِ مَسْحَةً وَاحِدَةً وَتَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ
النَّعَمِ } وَلَا يَرِدْ عَلَى هَذَا حَدِيثُ
الْخُمْرَةِ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى شِدَّةِ الْأَلَمِ الَّذِي يُوجَدُ فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَلَمِ الَّذِي تَحْمِلُهُ الْبَشَرَةُ
فَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ .
وَالْخُمْرَةُ هِيَ شَيْءٌ مَضْفُورٌ مِنْ
الْخُوصِ قَدْرُ مَا يَضَعُ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ
إذَا سَجَدَ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَسْجُدُ وَلَا يَحُولُ بَيْنَ وَجْهِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ
شَيْءٌ لِاتِّبَاعِهِ السُّنَّةَ وَتَوَاضُعِهِ .
وَهَذِهِ
الطَّائِفَةُ أَوْلَى النَّاسِ بِالِاتِّبَاعِ وَالتَّوَاضُعِ ، وَهُوَ
الْآنَ دَاخِلٌ إلَى الرِّبَاطِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ لَا يَدْخُلُهُ
فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ هُوَ مُتَحَفِّظٌ عَلَى دِينِهِ فَلَا حَاجَةَ
تَدْعُو إلَى السَّجَّادَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ اُنْتُحِلَتْ
وَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا ، وَالْعَوَائِدُ كُلُّهَا مَطْرُوحَةٌ ؛
لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَضْلًا
عَنْ الْمُرِيدِ .
ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ إذَا دَخَلَ الرِّبَاطَ أَنْ
لَا يُسَلِّمَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَاعْتَلُّوا
لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ - تَعَالَى - إلَّا
وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ -
تَعَالَى - فَإِذَا سَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ ، أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
فَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ اسْمِ
اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، أَوْ يَتْرُكُ
رَدَّ السَّلَامِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ فَأَمَرُوهُ بِتَرْكِ السَّلَامِ
لِأَجْلِ هَذَا وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ إذْ إنَّ
السُّنَّةَ مَضَتْ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عَرَفَ
، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذِكْرِ تَعْلِيلِهِمْ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّ
الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ
ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ مَوْضِعِ
الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى
- هُنَاكَ عِنْدَ الِارْتِيَاعِ وَمَا يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ
لِقَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ السَّلَامُ لَا بَعْدَ جُلُوسِهِ وَاسْتِئْنَاسِهِ .
ثُمَّ
يَأْمُرُونَهُ عِنْدَ إرَادَةِ دُخُولِهِ الرِّبَاطَ أَنْ يَقْعُدَ عِنْدَ
الْبَابِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ مَنْ فِي الرِّبَاطِ مِنْ الشُّبَّانِ
أَوْ بَعْضُهُمْ فَيُؤْذُونَهُ بِالشَّتْمِ وَيُقِلُّونَ الْأَدَبَ
عَلَيْهِ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَتَهُ وَيَكْسِرُونَ الْإِبْرِيقَ الَّذِي
مَعَهُ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى
يَيْأَسُوا مِنْ غَضَبِهِ وَيُعَلِّلُونَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِأَنْ
يَقِفُوا عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ وَحَمْلِهِ لِلْأَذَى إذْ إنَّ هَذِهِ
الطَّائِفَةَ لَا تَنْتَصِرُ لِنَفْسِهَا وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ كَظْمًا
لِلْغَيْظِ وَعَفْوًا عَنْ النَّاسِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ
بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا انْزَعَجَ
لِذَلِكَ وَغَضِبَ لَا يُدْخِلُونَهُ الرِّبَاطَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إذْ
ذَاكَ عَلَى أَذِيَّتِهِمْ لِأَجْلِ مَا يَرْجُو مِنْ حَاجَتِهِ ، وَإِنْ
كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ
ضِدَّهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ، وَالْحَالَةِ هَذِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ
إلَيْهِ الْخَادِمُ فَيَأْخُذُ السَّجَّادَةَ عَنْ كَتِفِهِ ، وَهُوَ
سَاكِتٌ لَا يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخِرِ وَيَدْخُل الْخَادِمُ
وَالْوَارِدُ يَتْبَعُهُ حَتَّى إذَا حَصَلَ فِي وَسَطِ الرِّبَاطِ وَقَفَ
الْوَارِدُ يَنْظُرُ أَيْنَ يَفْرِشُ الْخَادِمُ السَّجَّادَةَ فَيَعْرِفُ
مَوْضِعَهَا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي
السَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ إنَّمَا هُوَ التَّأْنِيسُ بِالْبَشَاشَةِ
وَمَا شَابَهَهَا مِنْ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ وَالتَّوَدُّدِ نَقِيضُ
مَا عَامَلُوهُ بِهِ وَأَمَّا كَسْرُ الْإِبْرِيقِ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ
إضَاعَةُ مَالٍ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ شَتْمُهُ فَوَضَعُوا
الشَّتْمَ وَخَرْقَ الْحُرْمَةِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ مَوْضِعَ
الْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالضِّيَافَةِ ، ثُمَّ سَرَى هَذَا
الْأَمْرُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ
قُلُوبُ النَّاسِ بِهِمْ مُتَعَلِّقَةٌ لِحُسْنِ ظَنِّهِمْ بِهِمْ
وَلِكَوْنِهِمْ مَنْسُوبِينَ إلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا
وَتَرْكِهَا ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ
وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ لَا يُخَالِفُونَ وَلَا يَبْتَدِعُونَ
فَإِذَا صَدْرَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا اقْتَدَى بِهِمْ غَيْرُهُمْ
فِي فِعْلِهِ فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ
يَقْعُدُ الرَّجُلُ وَأَوْلَادُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَشْتُمُ
صَاحِبَهُ وَيَشْتُمُونَ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ وَيَلْعَنُونَ
أَنْفُسَهُمْ ، وَالْوَالِدَانِ يَنْظُرَانِ إلَيْهِمْ ، وَقَدْ وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ { : الْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَعَّانًا } وَمِنْ كِتَابِ
السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ : لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ
وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا
تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ
لَكُمْ } .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ الْعَبْدَ إذَا
لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ
أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ، ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ
فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ، ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا
فَإِذْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي لَعَنَ إنْ كَانَ
أَهْلًا لِذَلِكَ وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا } وَمِنْهُ عَنْ
سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِغَضَبِ
اللَّهِ وَلَا بِالنَّارِ } .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ
: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ {
: لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ } وَمِنْ
الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { : إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ
وَالِدَيْهِ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ
وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ
: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ
أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ } وَهُمْ الْيَوْم قَدْ جَاوَزُوا الْحَدَّ فِي
ذَلِكَ يَشْتُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُون أَجْنَبِيٍّ بَيْنَهُمْ
يَكْفِهِمْ قَدْ كَفَوْا الْأَجْنَبِيَّ أَمْرَهُمْ وَلَا يَهْتَمُّونَ
لِذَلِكَ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا
نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْقُبْحِ الْمُجْمَعِ عَلَى
مَنْعِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْخَرُ مِنْهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ :
إنَّ هَذَا بَسْطٌ لَا حَقِيقَةٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ السَّرَيَانُ
مِنْ الْخَاصَّةِ إلَى الْعَامَّةِ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ إكْرَامُ الضَّيْفِ بِتَيْسِيرِ مَا حَضَرَ ،
وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَكْسُ هَذَا
الْأَمْرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ .
ثُمَّ إنَّ الْخَادِمَ إذَا فَرَشَ
السَّجَّادَةَ يَجْعَلُ فَتْحَهَا إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ
وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إذَا جَاءَ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يَجْلِسَ
مَعَهُ فَيُجْلِسُهُ لِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ
عَلَيْهِ فِي فَرْشِهَا لَهُ إذْ ذَاكَ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهٍ آخَرَ ،
وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي جِهَةِ الْيَسَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
فَتْحُهَا لِتِلْكَ الْجِهَةِ تَفَاؤُلًا بِالْفَتْحِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ
التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ التَّفَاؤُلَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا
هُوَ مَا كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَمَا ذَكَرُوهُ كُلَّهُ يَحْتَاجُ
إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالسَّجَّادَةُ مَكْرُوهَةٌ فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً إلَّا مِنْ
ضَرُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَفَاصِيلُهَا فَمِنْ بَابِ أَوْلَى
وَأَحْرَى ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَطْوِي طَرْفَهَا مِنْ جِهَةِ
الْقِبْلَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ فَإِذَا عَلِمَ الْوَارِدُ
مَوْضِعَ السَّجَّادَةِ ذَهَبَ إلَى مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَانَتْ
لَهُ حَاجَةٌ ، أَوْ لَمْ تَكُنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ
فَيَأْخُذُ الْإِبْرِيقَ فَيَدْخُلُ بِهِ إلَى الْخَلَاءِ ، ثُمَّ
يَخْرُجُ إلَى مَوْضِعِ
الْوُضُوءِ ، وَالْإِبْرِيقُ بِيَدِهِ
فَيَضَعُهُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ وَيَجْعَلُ بُزْبُوزَهُ
إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَيَمْلَؤُهُ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ
يَضَعُونَ الْإِبْرِيقَ فِيهِ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
وَهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذِهِ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ
مِثْلُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا الْمُخَاطَبُ بِهَا
الْمُكَلَّفُونَ ، وَالْإِبْرِيقُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابٌ وَلَا
أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ ، وَالْتِزَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
فِيهِ ضِيقٌ وَحَرَجٌ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
: مَا تَرَكْتُهُ لَكُمْ فَهُوَ عَفْوٌ } ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ
كَذَلِكَ فَلَا حَرَجَ فِي وَضْعِ الْإِبْرِيقِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ
كَانَتْ وَكَذَلِكَ فِي بَسْطِ السَّجَّادَةِ وَغَيْرِهَا فَمَا وَافَقَ
السُّنَّةَ امْتَثَلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَمَا لَمْ يَرِدُ
فِيهِ شَيْءٌ فَقَدْ وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَا نُضَيِّقُ عَلَى
أَنْفُسِنَا بِاصْطِلَاحِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ
فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ مَشَى بِتُؤَدَةٍ إلَى مَوْضِعِ السَّجَّادَةِ ،
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا وَلَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ لَا
بِسَلَامٍ وَلَا غَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ إلَى السَّجَّادَةِ قَدَّمَ
رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى طَيَّةِ السَّجَّادَةِ ، ثُمَّ
قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَوَضَعَهَا إلَى جَانِبِهَا عَلَى الطَّرَفِ
الْمَطْوِيِّ كَمَا هُوَ ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي
وَسَطِ السَّجَّادَةِ ، ثُمَّ الرِّجْلَ الْيُسْرَى ، ثُمَّ يُزِيلُ
تِلْكَ الطَّيَّةَ بِيَدِهِ أَوْ بِقَدَمِهِ وَيُسَمُّونَ هَذِهِ
الطَّيَّةَ قُفْلَ السَّجَّادَةِ حَتَّى لَا يَفْتَحَ ذَلِكَ غَيْرُهُ
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُحْدِثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ
فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَتَعَيَّنَ إطْرَاحُهَا وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ
بِهَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ بِهَذَا الْوُضُوءِ
فِيهَا مَا فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوُضُوءَ إنْ كَانَ لِأَجْلِ دُخُولِ
الرِّبَاطِ لَيْسَ إلَّا فَلَا شَكَّ
أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ
الصَّلَاةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ
تَوَضَّأَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، أَوْ دُخُولِ السُّوقِ فَلَا يُؤَدِّي
بِهِ عِبَادَةً يُشْتَرَطُ الْوُضُوءُ فِيهَا ، وَإِنْ تَوَضَّأَ
لِدُخُولِ الرِّبَاطِ وَلِلْحَدَثِ فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إذَا أَشْرَكَ فِي النِّيَّةِ هَلْ يَجْزِيهِ أَمْ
لَا ؟ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ هَذَا الْفِعْلَ
كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُ ، وَأَنَّهُمْ لَا
يَتْرُكُونَهُ يَدْخُلُ الرِّبَاطَ إلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ
خَرَجَ الْوُضُوءُ بِهَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَلْ
الشَّائِبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ ، وَالْمُرِيدُ لَا يُسَامِحُ
نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَتَوَضَّأَ بَعْدَ ذَلِكَ لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَيَتُوبَ مِنْ
عَمَلٍ عَمِلَهُ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا سَلَّمَ
مِنْ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْ الذِّكْرِ أَتَى إلَيْهِ
بَعْضُ أَهْلِ الرِّبَاطِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَبَسَطُوا لَهُ الْأُنْسَ
وَيَقُومُ هُوَ إلَيْهِمْ وَيُعَانِقُهُمْ وَهَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ
سَلَامِهِمْ عَلَيْهِ وَبَسْطِهِمْ لَهُ هُوَ السُّنَّةُ عِنْد اللِّقَاءِ
فَأَخْرَجُوهُ عَنْ مَوْضِعِهِ الْمَشْرُوعِ إلَى مَوْضِعٍ غَيْرِ
مَشْرُوعٍ فِيهِ .
وَأَمَّا قِيَامُهُ لَهُمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ
فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ قِيَامُ
الْحَاضِرِ لِلْغَائِبِ حِينَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا
الْمُعَانَقَةُ فَفِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَمَذْهَبُ
مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرَاهَتُهَا ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُكَلِّمُونَ
عِنْدَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ الَّذِي لَا يَخْلُو
فِي الْغَالِبِ مِنْ التَّنْمِيقِ وَالتَّزْكِيَةِ وَتَرْفِيعِ بَعْضِهِمْ
لِبَعْضٍ بِأَشْيَاءَ الْغَالِبُ عَدَمُ بَعْضِهَا إلَّا مَنْ وَفَّقَ
اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .
وَاحْتَجُّوا عَلَى
اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ وَاسْتِحْسَانِهَا وَأَمْرِ
الْفُقَرَاءِ بِهَا بِأَنَّ مَشَايِخَهُمْ قَدْ قَرَّرُوا لَهُمْ
ذَلِكَ
لِيَكُونَ تَحَفُّظُهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً وَدَلَالَةً عَلَى
تَحَفُّظِهِمْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ مِمَّا يَقَعُ فِيهَا فَتَكُونُ آدَابُ
الظَّاهِرِ دَلَالَةً عَلَى حُصُولِ آدَابِ الْبَاطِنِ وَهَذِهِ
الطَّائِفَةُ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِمَشَايِخِهِمْ ، وَقَدْ أَمَرُوهُمْ
بِذَلِكَ فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِ ، بَلْ هُمْ فِي عَبَاءَةٍ
وَخَيْرٍ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ
أَجَازَ الْعُلَمَاءُ مِثْلَ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ ذَرِيعَةً إلَى
نَسْخِ الشَّرِيعَةِ بِالْآرَاءِ وَغَيْرِهَا فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ
شَيْءٌ ، أَوْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا جَعَلَهُ أَصْلًا مَعْمُولًا بِهِ
وَيُرْجَعُ إلَيْهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا
الدِّينُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ حَفِظَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ
الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ .
وَلَا حَاجَةَ فِي كَوْنِ
الْفُقَرَاءِ يُحْسِنُونَ ظَنَّهُمْ بِمَشَايِخِهِمْ ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ
الظَّنِّ بِهِمْ لَهُ مَجَالٌ مُتَّسِعٌ مَا دَامُوا عَلَى الِاتِّبَاعِ
لِلسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
فَحِينَئِذٍ يُرْجَعُ إلَيْهِمْ وَيُسْكَنُ إلَى قَوْلِهِمْ ، وَأَمَّا
غَيْرُ ذَلِكَ فَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى وَأَرْجَى وَأَنْجَحُ بَلْ
أَوْجَبُ مَعَ سَلَامَةِ الصَّدْرِ لِمَنْ قَالَ مَا قَالَ إذْ إنَّهُ
لَمْ يَقْصِدْ إلَّا خَيْرًا ، وَلَكِنَّ الْمُرِيدَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
أَنْ يَكُونَ مِيزَانُ الشَّرْعِ فِي يَدِهِ فَإِنَّ مَنْ وَفَّى
وَاعْتَدَلَ فَهُوَ غَنِيمَةٌ ، وَمَنْ نَقَصَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو
إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ ؛ إذْ إنَّهُ
لَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي الْغَلَطِ .
وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ الْوُرُودِ عَلَى الْحَوْضِ
{ : فَيُقَالُ إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ : فَسُحْقًا
فَسُحْقًا فَسُحْقًا } أَيْ فَبُعْدًا فَبُعْدًا فَبُعْدًا .
وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الْعَبَدُ بِسَبَبِ التَّبْدِيلِ ، وَلَفْظُ
التَّبْدِيلِ يَقَع عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَإِذَا كَانَ
الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ
هَذَا
الِاحْتِمَالِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ وَاتِّبَاعُ
السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمَا الْأَصْلُ عِنْدَهُ فَلَا
يُعَرَّجُ عَلَى غَيْرِهِمَا ، وَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ .
وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْمُرِيدَ يُعْرَفُ حِينَ
دُخُولِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمُرِيدَ مُحَافِظٌ عَلَى السُّنَّةِ
إذَا اسْتَأْذَنَ وَوَقَفَ بِالْبَابِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ ، ثُمَّ
دَخَلَ وَقَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَأَخَّرَ الْيُسْرَى ، ثُمَّ
سَلَّمَ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ عُلِمَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِامْتِثَالِهِ
هَذِهِ السُّنَنِ الثَّلَاثِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ جَاءَهُ مُرِيدٌ لِزِيَارَتِهِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَيْئًا
لِلْأَكْلِ فَتَنَاوَلَ الْمُرِيدُ لُقْمَةً بِالْيَسَارِ فَقَالَ لَهُ
الْمَزُورُ مَنْ شَيْخُكَ يَا بُنَيَّ ؟ فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي
النَّاحِيَةُ الْيُمْنَى تُوجِعُنِي ، فَقَالَ لَهُ : كُلْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْكَ وَعَمَّنْ رَبَّاكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ ؛
لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ بِنَاحِيَةِ
الْيَمِينِ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ خَالَفَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَرَضَ لَهُ
بِقَوْلِهِ مَنْ شَيْخُكَ لِيُنَبِّهَهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ
مِنْ مُخَالَفَةٍ لِلسُّنَّةِ فَكَانَ فِي الْمُرِيدِ مِنْ الْيَقِظَةِ
وَالْحُضُورِ مَا فَهِمَ بِهِ مُرَادَهُ فَأَجَابَهُ فَهَكَذَا تَكُونُ
الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ وَفَّقَنَا اللَّهُ
لِذَلِكَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي لِبَاسِ الْعَالِمِ
وَتَصَرُّفِهِ مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَتِهِ لَكِنَّ الْمُرِيدَ
يَكُونُ أَشَدَّ حِرْصًا عَلَى الِاتِّبَاعِ لِانْقِطَاعِهِ إلَى اللَّهِ
وَتَبَتُّلِهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي تِلْكَ الثِّيَابِ
الْمَذْكُورَةِ مِنْ السَّرَفِ فَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُهَا أَعْنِي مِنْ
الْوُسْعِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ، وَإِنْ
كَانَ ثَوْبُ الْمُرِيدِ قَصِيرًا فِي الْغَالِبِ لَكِنَّهُ احْتَوَى
عَلَى شَيْئَيْنِ قَبِيحَيْنِ : مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَوُجُودِ
السَّرَفِ فِيهِ أَعْنِي فِي الْوُسْعِ الْخَارِقِ الَّذِي يَفْعَلُهُ
بَعْضُهُمْ
( فَصْلٌ ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَةَ
الصُّوفِيَّةَ نَظِيفَةٌ وَأَقَلُّ شَيْءٍ يُدَنِّسُ النَّظِيفَ لَا
جَرَمَ أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ التَّدْلِيسُ وَالتَّخْلِيطُ وَظَهَرَ .
وَسَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طَرِيقَةٍ ادَّعَاهَا الْإِنْسَانُ فَضَحَتْهُ فِيهَا
شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَإِنَّهُ لَا
يُفْتَضَحُ فِيهَا غَالِبًا ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : وَأَحَدُهُمَا :
أَنَّ طَرِيقَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالسَّتْرِ وَالْعَفْوِ
وَالتَّصَفُّحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْعُيُونِ ، وَكُلُّ
مَنْ ادَّعَى شَيْئًا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ سَتَرُوا عَلَيْهِ وَجَرُّوا
عَلَيْهِ أَذْيَالَ الْفُتُوَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ كَثِيرًا
مِمَّنْ تَغَيَّرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَا يَقَعُ مِنْهُ أَنْ
يَقُولَ لَكَ : حَسَدْتَنِي وَيَقُومُ فِي حَمِيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنْ
النَّاسِ فَتَتَدَاعَى الْفِتَنُ وَتَكْثُرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْحُظُوظِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُمْ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ
سَكَتَ مَنْ سَكَتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالِاتِّبَاعِ فَظَنَّ مَنْ
لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِحَالِهِمْ السَّيِّئِ أَنَّ سُكُوتَهُمْ رِضَاءٌ
مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَوْهُ ، أَوْ سَمِعُوهُ أَلَا تَرَى
أَنَّهُمْ إذَا وَجَدُوا مَنْ يُقْبَلُ الْحَقُّ مِنْهُمْ أَلْقَوْا
إلَيْهِ مَا يُخْلِصُونَ بِهِ مُهْجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَمَرَاتِ
وَسَارُوا بِهِ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَا لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ ، بَلْ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَرَحًا مِنْهُمْ بِهِدَايَةِ شَارِدٍ عَنْ بَابِ
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُضْطَرٌّ إلَى مَنْ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ .
وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ يَهْدِيَ
اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ }
فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ السَّبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بَادَرَ
إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ ضِدَّهُ تَغَافَلَ وَتَنَاسَى لِأَجْلِ مَا
تَقَدَّمَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّعِينَ بِمَكِيدَتِهِ
وَشَيْطَنَتِهِ يَتْبَعُ السُّنَنَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يُرِيدُ
بِذَلِكَ أَنْ يُبَدِّلَ مَكَانَ كُلِّ سُنَّةٍ ضِدَّهَا .
أَلَا
تَرَى
أَنَّهُ لَمَّا أَنْ وَجَدَ الْمُرِيدَ أَكْثَرَ لِبَاسِهِ عَلَى مَا
يَنْبَغِي مِنْ الْقِصَرِ وَغَيْرِهِ أَدْخَلَ عَلَيْهِ دَسِيسَةً قَلَّ
مَنْ يَشْعُرُ بِهَا ، وَهِيَ وُسْعِ الثَّوْبِ الْخَارِجِ عَنْ
الْعَادَةِ وَفِيهِ شَيْئَانِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُمَا إضَاعَةُ
الْمَالِ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهِمَا
وَقَنَعَ بِذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَدَسَّ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ
وَبَدَّلَ مَا هُوَ أَكْبَرَ مِنْ هَذَا وَأَكْثَرَ لِكَثِيرٍ مِنْ
الْعَرَبِ فِي طُولِ ثِيَابِهِمْ حَتَّى صَارَتْ إذَا مَشَوْا تَنْجَرُّ
عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ مُتَأَكِّدٌ
فِعْلُهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَبَدَّلَ لِلنِّسَاءِ ضِدَّ ذَلِكَ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَزَادَ فِي ثِيَابِ بَعْضِ مَنْ نُسِبَ إلَى
الْعِلْمِ قَرِيبًا مِمَّا سَبَقَ فِي ثِيَابِ الْعَرَبِ .
فَالْحَاصِلُ
أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَتْبَاعِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي
ضِدِّهِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ يَسْتَيْقِظُ لِمَا أَلْقَاهُ إلَيْهِ
مِنْ هَذِهِ الدَّسَائِسِ ، بَلْ تَلَقَّوْهَا بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا
لِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ مِنْ التَّعْلِيلِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ
مِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ تَعْلِيلَ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ
وَتَحْسِينَهُ لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى الْقَبُولِ مِنْهُ ،
وَالْحِرْصِ عَلَى فِعْلِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
عَلَى مَا حَصَلَ مِنْ الْغَفَلَاتِ عَمَّنْ لَا يَغْفُلُ عَنَّا وَلَا
يَنْسَانَا وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ
الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ وَأَهْلِ الْإِرَادَةِ وَهَذَا بَابٌ
مُتَّسِعٌ مُتَشَعِّبٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ مَفَاسِدُهُ ، أَوْ
يَتَعَيَّنَ مَا يَقَعُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ لَكِنْ نُشِيرُ إلَى شَيْءٍ
مِنْهُ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي الدِّينَ
وَالصَّلَاحَ ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوُصُولِ وَيَأْتِي بِحِكَايَاتِ
مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيُطَرِّزُ بِهَا كَلَامَهُ ، وَهُوَ
مَعَ ذَلِكَ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ ، وَأَنَّ عِنْدَهُ
مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا .
وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ
ذَلِكَ الْأَمْرِ حَاصِلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى
تَصْنِيفِ الْحِكَايَاتِ وَالْمَرَائِي الَّتِي يَخْتَلِقُهَا مِنْ
تِلْقَاءِ نَفْسِهِ سِيَّمَا ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا
اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ تَجَرُّئِهِ وَدَعْوَاهُ رُؤْيَا
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ ، وَأَنَّهُ
أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَهُ وَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ ، بَلْ بَعْضُهُمْ
يَدَّعِي رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهُوَ فِي
الْيَقَظَةِ وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ
الْأَمْرُ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ عَزِيزٍ وُجُودُهَا فِي هَذَا
الزَّمَانِ ، بَلْ عَدِمَتْ غَالِبًا مَعَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ مَنْ
يَقَعُ لَهُ هَذَا مِنْ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ حَفِظَهُمْ اللَّهُ -
تَعَالَى - فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ
عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ الْعَيْنُ
الْفَانِيَةُ لَا تَرَى الْعَيْنَ الْبَاقِيَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ وَالرَّائِي فِي دَارِ
الْفَنَاءِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَحِلُّ هَذَا الْإِشْكَالَ ، وَيَقُولُ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ
صَحِيحٌ وَلَكِنْ يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى -
يُوقِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ { :
أَوْلِيَائِي
لَمْ أَزْوِ عَنْكُمْ الدُّنْيَا لِهَوَانِكُمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ
زَوَيْتُهَا عَنْكُمْ لِتَسْتَوْفُوا الْيَوْمَ نَصِيبَكُمْ عِنْدِي
اذْهَبُوا فَاخْتَرِقُوا الصُّفُوفَ فَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكُمْ مِنْ
أَجْلِي ، أَوْ زَارَكُمْ مِنْ أَجْلِي ، أَوْ أَطْعَمَكُمْ لُقْمَةً مِنْ
أَجْلِي فَخُذُوا بِيَدِهِ وَأَدْخِلُوهُ الْجَنَّةَ فَيَأْتُونَ إلَى
الْمَحْشَرِ وَهُمْ يَجُرُّونَ أَذْيَالَ الْفَخْرِ فَيَقُولُ أَهْلُ
الْمَحْشَرِ : يَا رَبَّنَا مَا بَالُ هَؤُلَاءِ دُونَنَا ؟ فَيَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنْتُمْ مُتُّمْ فِي الدُّنْيَا مَرَّةً
وَاحِدَةً وَهَؤُلَاءِ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَمُوتُ فِي الْيَوْمِ
سَبْعِينَ مَرَّةً } أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ
: مَنْ مَاتَ رَأَى الْحَقَّ وَمَنْ لَمْ يَمُتْ لَمْ يَرَ الْحَقَّ
فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ إذَا مَاتَ مَوْتَةً وَاحِدَةً رَأَى الْحَقَّ
فَمَا بَالُكَ بِسَبْعِينَ مَرَّةً فِي كُلِّ يَوْمٍ { فَلَا تَعْلَمُ
نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فَذَهَبَ
الْإِشْكَالُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَظَهَرَ الصَّوَابُ وَاَللَّهُ
الْمُؤَمَّلُ فِي الثَّوَابِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ
بِالْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ ، وَهُوَ عَرِيٌّ عَنْهَا
بِالِاتِّصَافِ بِضِدِّهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ
الْمَشَايِخِ وَلَقْيَهُمْ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ
وَلَا رَآهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ بَعْضِ الشُّيُوخِ
وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِمْ ، وَهُوَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ وَلَا هُوَ
عَلَى طَرِيقِهِمْ ، بَلْ رَأَى بَعْضَ مَنْ صَحِبَ الشُّيُوخَ وَحَكَى
عَنْهُمْ فَحَكَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ
الْخَضِرِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ
لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ مِنْهُ حَتَّى لَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ
يُنْسَبُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا : إنَّ الْخَضِرَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ
يَوْمٍ وَيَقِفُ عَلَى بَابِهِ أَوْ دُكَّانِهِ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُ ،
وَهُوَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي ، وَذَلِكَ كُلُّهُ تَقَوُّلٌ وَافْتِعَالٌ
لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يُنْكَرُ إذَا وَقَعَ
مِنْ أَهْلِهِ فِي
مَحِلِّهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا أَرَادَ
أَنْ يُلْقِي شَيْئًا مِمَّا يَخْطِرُ لَهُ قَدَّمَ قَبْلَهُ
الِاسْتِشْهَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَيَقُولُ : قَالَ
اللَّهُ - تَعَالَى - { : وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا
عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } ، ثُمَّ يَحْلِفُ عِنْدَ ذَلِكَ
أَنَّهُ رَأَى وَرَأَى ، وَأَنَّهُ خُوطِبَ فِي سِرِّهِ ، وَالْغَالِبُ
أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ
بِأَهْلِ الْحَقِّ ، وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ إذَا
مَوَّهَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّمْوِيهِ انْقَادُوا لَهُ
وَقَالُوا بِهِ وَاتَّبَعُوهُ وَنَزَّلُوهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي
يَدَّعِيهَا أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ
وَكَرَمِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ الرَّدِيئَةُ لَا تَنْحَصِرُ ، وَفِيمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ بِهِ كِفَايَةٌ وَمُقْنَعٌ .
هَذَا حَالُ الْمُسْتَتِرِينَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا
غَيْرُهُمْ فَقَدْ خَرَقُوا السِّيَاجَ وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ ،
بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُهُمْ ، أَوْ يَمِيلُ إلَيْهِمْ مَعَ مَا
هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِثْلُ مَا يَفْعَلُ
بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا
وَتَرْكَ الْمُبَالَاةِ بِهَا حَتَّى إنَّهُ لَيَجْلِسَ مَكْشُوفَ
الْعَوْرَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ
النَّارَ عَلَى زَعْمِهِ وَلَا يَحْتَرِقُ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ ،
وَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ بِدْعَةً وَمُنْكَرًا إذْ إنَّ مِنْ
شَرْطِ الْمُعْجِزَةِ إظْهَارُهَا وَالتَّحَدِّي بِهَا وَمِنْ شَرْطِ
الْكَرَامَةِ عَكْسُ ذَلِكَ فَإِذَا أَظْهَرَهَا لِلنَّاسِ فَقَدْ
خَرَجَتْ عَنْ بَابِ الْكَرَامَةِ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَقَعَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ دَاعِيَةٌ إلَى إظْهَارِهَا .
مِثْلُ
مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي مَرْكَبٍ مَوْسُوقَةٍ
قَمْحًا فَهَاجَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْقَمْحُ لِبَعْضِ
الظَّلَمَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ فِي وَقْتِهِ فَسَمِعَ
النَّوَاتِيَّةَ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا الْقَمْحَ مَكِيلٌ
عَلَيْنَا فَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ أَخَذَنَا
الظَّالِمُ بِهِ
فَالرَّأْيُ أَنْ نَرْمِيَ الرُّكَّابَ فِي الْبَحْرِ وَيَبْقَى الْقَمْحُ
فَلَمَّا أَنْ سَمِعَهُمْ قَالَ لَهُمْ ارْمُوا الْقَمْحَ فِي الْبَحْرِ
وَأَنَّا الضَّامِنُ لَهُ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَرَمَوْا الْقَمْحَ
حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَلِيلُ فَسَكَنَ الْبَحْرُ فَلَمَّا أَنْ
وَصَلُوا إلَى الْبَلَدِ طَالَبُوهُ بِمَا الْتَزَمَهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَأْتُوا بِالْكَيَّالِينَ فَجَاءُوا بِهِمْ فَقَالَ : اكْتَالُوا مَا
بَقِيَ مِنْ الْقَمْحِ فَاكْتَالُوهُ فَوَفَّى مَا عَلَيْهِمْ أَعْنِي مَا
كَانَ عَلَى النَّوَاتِيَّةِ مَسْطُورًا ، ثُمَّ رَدَّ رَأْسَهُ إلَى
أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَهُمْ : وَاَللَّهِ مَا عَمِلْتُهَا إلَّا حَقْنًا
لِدِمَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ .
فَمَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فَهُوَ
الَّذِي يُظْهِرُونَهُ لِلضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ أَنَّ لِدُخُولِ
النَّارِ أَدْوِيَةً تُسْتَعْمَلُ حَتَّى لَا تَعْدُوَ عَلَى مَنْ
دَخَلَهَا مِمَّنْ اسْتَعْمَلَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةَ لَكِنْ لَوْ حَضَرَ
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَدَخَلَا مَعًا لَاحْتَرَقَ صَاحِبُ
الْبِدْعَةِ وَالزَّعْبَلَةِ وَخَرَجَ الْمُحِقُّ سَالِمًا ، وَقَدْ
وَقَعَ ذَلِكَ فِي حِكَايَاتٍ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا .
مِنْهَا
الْحِكَايَةُ الْمُسْنَدَةُ فِي مِصْبَاحِ الظَّلَامِ لِلشَّيْخِ
الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَمَا جَرَى لِلسُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ فِي دُخُولِهِمَا
النَّارَ فَخَرَجَ السُّنِّيُّ وَلَمْ يَحْتَرِقْ وَبَقِيَ الْبِدْعِيُّ
حُمَمَةً ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ
يُدْخِلُ أَصْحَابَهُ النَّارَ وَلَا يَحْتَرِقُونَ فَقَالَ لِي سَيِّدِي
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهِ لَوْلَا
أَنِّي أَخَافُ مِنْ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَنْ يَطْرُدَنِي لَأَخَذْتُ
الشَّيْخَ نَفْسَهُ وَدَخَلْتُ وَأَنَا وَإِيَّاهُ النَّارَ حَتَّى
نَنْظُرَ مَنْ يَحْتَرِقُ فِينَا .
وَقَدْ كَانَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ
مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ رَجُلٌ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ وَخَرْقَ الْعَادَةِ
وَكَانَ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْفُقَرَاءُ وَالْأَضْيَافُ يَعْمَلُ
لَهُمْ فَطِيرًا وَيَفِتُّهُ فِي قَصْعَةٍ وَيُؤْتَى بِهَا إلَيْهِ
فَيَنْصِبُ
يَدَهُ عَلَيْهَا فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ
عَسَلُ نَحْلٍ فَيَلِتُّ بِهِ وَيُطْعِمُهُ مَنْ هُنَاكَ حَتَّى
يَكْفِيَهُمْ ، ثُمَّ يُرْسِلُ يَدَهُ فَيَنْقَطِعُ فَسَمِعَ بِهِ بَعْضُ
الْأَكَابِرِ فِي وَقْتِهِ فَجَاءَ إلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ عِنْدَهُ
قَالَ لَهُ : نُرِيدُ أَنْ تُطْعِمَنَا مِنْ الْبَسِيسَةِ الَّتِي
تُطْعِمُ النَّاسَ مِنْهَا فَقَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِالْفَطِيرِ عَلَى
الْعَادَةِ فَأُحْضِرَ فَمَدَّ يَدَهُ لِيَسِيلَ الْعَسَلُ عَلَى
الْعَادَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ فَقَالَ لَهُ : وَأَيْنَ مَا
تَدَّعِيهِ ؟ فَقَالَ : انْقَطَعَ الْآنَ فَقَالَ لَوْ كَانَ حَقًّا مَا
انْقَطَعَ ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ إذَا حَضَرَهُ الْحَقُّ زَهَقَ ، ثُمَّ
عَزَّرَهُ وَوَبَّخَهُ بِالْكَلَامِ وَقَالَ لَهُ : كُنْتَ تُطْعِمُ
الْمُسْلِمِينَ أَبْوَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَخْرَجَهُ عَنْ ذَلِكَ
الْحَالِ وَتَوَّبَهُ عَنْهُ .
وَمِنْهُمْ مِنْ يُظْهِرُ الْكَرَامَةَ
بِإِمْسَاكِ الثَّعَابِينِ وَالْأُنْسِ بِهَا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ
مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَالتَّمْوِيهِ عَلَى الْأُمَّةِ
بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ إذْ إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ
النَّاسِ لِمَعِيشَتِهِمْ فَكَيْفَ يُعَدُّ كَرَامَةً ؟ وَمِنْ ذَلِكَ
أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ أَكْلِهِمْ الثَّعَابِينَ بِالْحَيَاةِ
بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَيْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا ؛
لِأَنَّ أَكْلَهَا لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدِ تَذْكِيَتِهَا عِنْدَ مَنْ
يَرَى أَكْلَهَا وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَذْكِيَةٍ بَلْ
يُؤَدَّبُونَ كُلَّ أَكْلَةٍ مِنْ أَكَلَاتِهِمْ تَأْدِيبًا بَلِيغًا
رَادِعًا ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ فَهُوَ مِنْ
صَنْعَةِ النَّارِ نَجِيَّاتِ وَالسِّيمِيَاءِ وَمَا شَاكَلَهَا وَلَيْسَ
مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ فِي شَيْءٍ .
وَكُنْتُ أَعْهَدُ مِثْلَ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ تُفْعَلُ عَلَى أَبْوَابِهَا
وَيَتَضَاحَكُ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي لَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ
وَيَسْتَغْنُونَ بِسَبَبِهَا وَهُمْ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فِي بَعْضِ
الْأَمَاكِنِ يَعُدُّونَهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ ويَعْتَقِدُونَهُمْ
بِسَبَبِهَا وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ اسْتَنَّتْ سَنَةً سَيِّئَةً
وَهُمْ
الَّذِينَ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ ، وَذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ
وَارْتِكَابٌ لِلْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ مِثْلُ التَّدَاوِي وَغَيْرِهِ فَجَائِزٌ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَفْعَلُ عَكْسَ ذَلِكَ فَلَا يَأْخُذُونَ شَيْئًا مِنْ شُعُورِ
أَبْدَانِهِمْ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ ،
وَذَلِكَ قَبِيحٌ شَنِيعٌ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ الرُّهْبَانِ
وَفِيهِ الْمُثْلَةُ وَالِاسْتِقْذَارُ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ .
وَمِنْهُمْ مِنْ يَلْبَسُ اللِّيفَ ، وَالْأَشْيَاءَ الَّتِي
لَا تَسْتُرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِثْلَ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْمُثْلَةِ وَالشُّهْرَةِ ، وَالْبِدْعَةِ وَكَشْفِ
الْعَوْرَةِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ إنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُ
الْعَوْرَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَأَشْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَأَقْبَحُ
مَا اتَّخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ لُبْسِ الْحَدِيدِ فَيَتَّخِذُ
سِوَارَيْنِ فِي يَدَيْهِ كَمَا تَتَّخِذُهُمَا الْمَرْأَةُ مِنْ
الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ .
وَبَعْضُهُمْ يَحْمِلُ فِي عُنُقِهِ طَوْقًا
مِنْ حَدِيدٍ كَالْغُلِّ ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ وَيُعَلِّقُونَ فِي
آذَانِهِمْ حِلَقًا مِنْ حَدِيدٍ .
وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ عَلَى
ذَكَرِهِ طَوْقًا مِنْ حَدِيدِ الْقُفْلِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُيُوخَهُمْ
حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ يَفْعَلُونَهُ بِهِمْ
وَيَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يُلْبِسُوهُ لِمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ وَيَقُولُونَ
: إنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَعَاصِي حَتَّى لَا تُرْتَكَبَ
وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَشَنَاعَتِهِ وَقُبْحِهِ ، وَأَنَّهُ
لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
ثُمَّ مَعَ
ادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَعَاصِي يَأْتُونَ
بِنَقِيضِ مَا زَعَمُوا ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِمْ شُبَّانًا لَهُمْ صُوَرٌ
حِسَانٌ وَهُمْ مُقِيمُونَ مَعَهُمْ مَسَاءً وَصَبَاحًا وَيَخْلُو
بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ دُونَ نَكِيرٍ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ .
وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ حَدِيدًا كَالْعَمُودِ
يَمْشِي
بِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْحَدِيدَ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ ، وَقَدْ
وَرَدَ { : مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } فَيَقَعُونَ فِي
هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ ، وَالْجَهْلُ بِالْجَهْلِ
كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَأَشَدُّ
مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ
وَالصَّوَابِ ، وَأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ الْمُثْلَى وَمِنْهُمْ قَوْمٌ
تَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَعَابُوا عَلَى فَاعِلِهَا ، ثُمَّ
إنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي أَشْيَاءَ رَذِلَةٍ نَهَى صَاحِبُ الشَّرْعِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَنْهَا ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ
كَأَنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْوِلَايَةِ .
فَمِنْ ذَلِكَ اتِّخَاذُ
بَعْضِهِمْ الْأَعْلَامَ عَلَى رَأْسِهِ ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى مَا يَزْعُمُ أَمْ لَا
فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالْوَلِيُّ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَوْ قَدَرَ
أَنْ يَدْفِنَ نَفْسَهُ ، أَوْ يَكُونَ أَرْضًا يُمْشَى عَلَيْهِ لَفَعَلَ
حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَ النَّاسِ بِالسَّوَاءِ فَكَيْفَ يَنْشُرُ
الْأَعْلَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الشُّهْرَةِ وَالدَّعْوَى
وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى
قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَمِيمٍ
الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَ
النَّاسَ وَيُذَكِّرَهُمْ فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ
أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ الظُّهُورَ
فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ فِي شَيْءٍ ، بَلْ هُوَ عَكْسُ حَالِهِمْ
.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ
فَكَيْفَ بِانْجِرَارِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي وَقَعَتْ بِسَبَبِ
الْإِعْلَامِ إذْ إنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ رِجَالًا وَشُبَّانًا فَإِذَا
أَشْرَفُوا عَلَى بَلَدٍ ذَكَرُوا اللَّهَ - تَعَالَى - جَهْرًا
يَرْفَعُونَ بِذَلِكَ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا يَقْصِدُونَ بِهِ الذِّكْرَ
لَيْسَ إلَّا ، بَلْ الْإِعْلَامَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ ، وَمَنْ
قَارَبَهَا بِوُرُودِ الشَّيْخِ وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى
يَخْرُجُوا
إلَى تَلَقِّيهِمْ فَإِذَا سَمِعُوا ذِكْرَهُمْ خَرَجُوا إلَيْهِمْ
رِجَالًا وَنِسَاءً وَاخْتَلَطُوا بِهِمْ فَصَارُوا مُجْتَمِعِينَ
رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ
الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ
الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ
وَمَعَ ذَلِكَ فَتَكُونُ إذَا خَرَجَتْ خَرَجَتْ عَلَى الصِّفَةِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مِنْ السِّتْرِ ، وَالْمَشْيِ مَعَ الْجُدْرَانِ
لَا تَتَكَلَّمُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهُنَّ إذَا خَرَجْنَ
لِلِقَائِهِمْ خَرَجْنَ مُنْكَشِفَاتٍ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ تَسَتَّرَ
بَعْضُهُنَّ فَبَعْضُ تَسَتُّرٍ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ
بِالزَّغَالِيطِ وَيُسْمَعُ لَهُنَّ إذْ ذَاكَ ضَجِيجٌ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ
بِمَرْأًى مِنْ الشَّيْخِ وَعِلْمِهِ بِهِمْ فَمَا أَقْبَحَ هَذَا
وَأَبْعَدَهُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ أَهْلِ الدِّينِ
وَالصَّلَاحِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إلَى
اللَّهِ - تَعَالَى - ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ .
وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ
فِعْلًا قَبِيحًا فِيهِ إضَاعَةُ الْمَالِ ، وَهُوَ وَقُودُ الشَّمْعِ
نَهَارًا حِين يَلْتَقُونَهُ وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الْقُرْبَةَ إلَى
اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ، التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ
- تَعَالَى - لَا يَكُونُ إلَّا بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ لَا
بِالْوُقُوعِ فِي نَوَاهِيهِ ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الْبُعْدِ وَالْقِلَا ،
أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَنِّهِ .
ثُمَّ
مَعَ ذَلِكَ يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالْجَمْعِ
الَّذِي مَعَهُ وَمَفَاسِدِهِ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَمِنْ ذَلِكَ
أَنَّهُ يَضُرُّ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَكَلُّفِهِ لَهُمْ
أَشْيَاءَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ تَلِيقُ بِهِمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ
وَبَعْضُهُمْ يَعِيبُ عَلَى مَنْ أَتَى بِطَعَامٍ لَا يَخْتَارُونَهُ
وَلَيْتَ هَذِهِ الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَكِنَّهُمْ
يُقَسِّطُونَ مَا يُنْفِقُونَهُ فِي تِلْكَ الضِّيَافَةِ عَلَى الرُّءُوسِ
مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَمُضْطَرٍّ
وَمُحْتَاجٍ ، وَأَكْثَرُهُمْ
يَتَدَايَنُونَ بِسَبَبِهَا وَبَعْضُهُمْ يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ يُعْطِيهِ
وَعَمَّنْ يُدَايِنُهُ فَيَهْرُبُ قَبْلَ وُصُولِ الشَّيْخِ إلَى
الْبَلَدِ فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى بَيْتِهِ ، وَهُوَ غَائِبٌ
فَيَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ دَجَاجٍ أَوْ دَاجِنٍ ، وَبَعْضُ مَنْ
يَعْجِزُ عَنْ الْهُرُوبِ يُمْتَحَن مَعَ كُبَرَاءِ أَهْلِ الْبَلَدِ
بِمَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا قُدْرَةَ لَهُ بِهِ وَتَفَاصِيلُ
أَحْوَالِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَطُولُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ
، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ التَّكَلُّفِ لَهُمْ إلَّا عَلَفُ دَوَابِّهِمْ
لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ مَا فِيهِ } .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ
يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا التَّكَلُّفِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَضَافُوا
إلَيْهِ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْهَدَايَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ
بِالْفُتُوحِ لِلشَّيْخِ وَلِأَصْحَابِهِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ
سِيَّمَا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ فَهَذِهِ
الْوَظَائِفُ أَعْنِي الضِّيَافَةَ ، وَالْعَلَفَ ، وَالْفُتُوحَ
لِلشَّيْخِ وَجَمَاعَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا حَتْمًا ، ثُمَّ
إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَخْذِ لِلشَّيْخِ وَحْدَهُ
حَتَّى يَأْخُذُوا لِخَادِمِ السَّجَّادَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
السَّجَّادَةَ فِي نَفْسِهَا بِدْعَةٌ فَكَيْفَ يُتَّخَذُ لَهَا خَادِمٌ ،
ثُمَّ يَأْخُذُونَ لِخَادِمِ الْإِبْرِيقِ ، ثُمَّ لِخَادِمِ السِّمَاطِ ،
ثُمَّ لِخَادِمِ الْعُكَّازِ ، ثُمَّ لِخَادِمِ الدَّابَّةِ أَوْ
الْفَرَسِ ثُمَّ الْمُزَمِّرُونَ الَّذِينَ مَعَهُ .
ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ يَرْقُصُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا .
ثُمَّ
إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَتَّى آخَى
بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا
اسْتِخْفَاءٍ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا
الْفِعْلِ الْقَبِيحِ حَتَّى يَقْعُدَ بَعْضُ النِّسَاءِ يُلْبِسْنَ
بَعْضَ الرِّجَالِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الشَّيْخِ ،
وَقَدْ آخَتْهُ فَلَا تُحْتَجَبُ عَنْهُ ؛ إذْ إنَّهَا
صَارَتْ مِنْ
ذَوِي الْمَحَارِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَكُتُبُ الْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ ،
بَلْ افْتِعَالٌ مِنْهُمْ وَتَقَوُّلٌ بَاطِلٌ فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ
مِنْهُمْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الدِّينِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ
مِنْهُمْ فَقَدْ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ
وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَالضَّلَالِ .
فَإِذَا
عُلِمَ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِهِمْ فَأَيُّ فَرْقٍ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى
الْخَلْقِ بِأَخْذِ الْمَالِ وَالْأَذِيَّةِ ، بَلْ قَدْ يُوجَدُ بَعْضُ
الْوُلَاةِ يَتَحَاشَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَيُنَزِّهُ
مَنْصِبَهُ عَنْهَا فَلَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْ إقْطَاعِهِ مَعَ أَنَّ
الْوَالِيَ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفُقَرَاءِ الْمُتَّبِعِينَ
فَصَارَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إذْ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ
اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَمْرِ مَنْ انْتَسَبَ
إلَى الْفُقَرَاءِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْوَالِي فِي هَذَا الْفِعْلِ
الْحَسَنِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا شَيْئًا قَبِيحًا ، وَهُوَ
اسْتِهْتَارٌ فِي الدِّينِ وَزَنْدَقَةٌ فَيَقُولُونَ : الْمَالُ مَالُ
اللَّهِ وَنَحْنُ عَبِيدُ اللَّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
صَاحِبِ الْمَالِ لِأَنَّا شُرَكَاؤُهُ فِيهِ وَهَذَا مِنْهُمْ حِلٌّ
وَنَقْضٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ
وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ .
قَالَ
اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : وَيَأْبَى اللَّهُ
إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } فَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
مَصُونَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ فِيهَا وَالنَّقْصِ مِنْهَا فَلَا تَزَالُ
عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ .
ثُمَّ
الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ مِنْهُمْ ، وَالْهِدَايَةَ
لِطَرِيقِ الْقَوْمِ كَيْفَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ
تَحْتِ يَدِهِ بِالْمَشْيَخَةِ ؟ وَلَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ فَرَائِضِ
الْوُضُوءِ ، أَوْ سُنَنِهِ ، أَوْ فَضَائِلِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْغُسْلِ
، أَوْ فِي
التَّيَمُّمِ ، أَوْ فِي الصَّلَاةِ لَجَهِلَ ذَلِكَ
غَالِبًا ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا صَلَّى الْمُكَلَّفُ
، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ الْمَفْرُوضَ مِنْ الْمَسْنُونِ فَلَا تَصِحُّ
صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ لَمَا
عَلِمَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ حُكْمِ السَّهْوِ إذَا طَرَأَ
عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ لَمَا عَلِمَهُ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ
فِي أَمْرِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ دِينِهِ
وَصَلَاحِهِ فَمَا بَالُكَ بِهِ فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ
الشَّرِيعَةِ فَبَعِيدٌ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِ
اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الشَّيْخِ فِي جَهْلِهِ
بِمَبَادِئ أَمْرِ دِينِهِ فَكَيْف بِمَنْ يَصْحَبُهُ أَمْ كَيْفَ بِمَنْ
يُجِيزُهُ ؟ إذْ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ
لَا يُبَاشِرُ الْعُلَمَاءَ إذْ لَوْ بَاشَرَهُمْ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ
مَا هُمْ فِيهِ فَكَيْفَ يَصْحَبُهُمْ أَوْ يَتْبَعُهُمْ ؟ عَلَى أَنَّ
هَذِهِ الْإِجَازَةَ ، وَالْحَالَةَ هَذِهِ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الدِّينِ
وَمَعَ كَوْنِهَا لَا أَصْلَ لَهَا فَالْإِجَازَةُ الَّتِي يُعْطُونَهَا
شَبِيهَةٌ بِالظُّلْمِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا فِي
الْغَالِبِ لِمَنْ سَأَلَهَا حَتَّى يُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءً
جَزِيلًا بِحَسَبِ حَالِهِمَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِشُكْرَانِ الدُّخُولِ
فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ فَيُعْطِي الشَّيْخُ مَا يَلِيقُ بِهِ وَلِخُدَّامِ
الشَّيْخِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ مَا يَلِيقُ بِدَرَجَاتِهِمْ
وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ أَصْحَابُ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ وَلَا بُدَّ
مِنْ لَيْلَةٍ يَطْلُبُونَهَا مِنْهُ لِلسَّمَاعِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ
حَالِهِ وَيَخْتَلِطُونَ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ مَعَ هَذَا الْحَالِ
لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى كَتْبِ الْإِجَازَاتِ لِمَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ
وَلِمَنْ لَهُ ثُبُوتٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ الْكُهُولِ ، بَلْ يُعْطُونَهَا
لِلشُّبَّانِ الْمُرْدَانِ وَلَهُمْ صُوَرٌ حِسَانٌ فَيَتَسَلَّطُونَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى الْكَشْفِ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ وَالْأَمَاكِنِ بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ الْإِجَازَاتِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ .
هَذَا حَالُهُمْ مَعَ مَنْ سَأَلَ الْإِجَازَةَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا
مَنْ لَمْ يَسْأَلْهَا فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَجَاهَةٌ ، أَوْ جِدَةٌ ، أَوْ أَحَدُهُمَا وَيَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِ
أَنَّهُ يَمِيلُ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
عَارِيًّا عَنْ الْوَجَاهَةِ وَالْجِدَةِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ
مُتَشَوِّفٌ لِلْإِجَازَةِ كَالْأَوَّلِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ
فَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ الْحِيَلَ فِي رَبْطِهِ عَلَيْهِمْ وَسُكُونِهِ
إلَى قَوْلِهِمْ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ فَإِذَا ظَفَرُوا مِنْهُ بِذَلِكَ
كَلَّفُوهُ التَّكَالِيفَ الَّتِي تَضُرُّ بِحَالِهِ وَحَالِ عِيَالِهِ
غَالِبًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ مَنْ هَذَا
حَالُهُ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ إلَّا أَنَّ الظَّلَمَةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ وَهَؤُلَاءِ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ بِالْحِيَلِ ،
وَالْخَدِيعَةِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا
وَجَاهَةَ فَإِنَّهُمْ يَسْتَخْدِمُونَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ
لِيَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ تَكَلُّفِ النَّاسِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ ،
وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَلَى الْغَنِيِّ مِنْهُمْ
وَالْفَقِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مَا يُرْضِيهِمْ كَالْأَوَّلِ
وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَمَسُّ أَخْلَاقَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ ؛ إذْ
إنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ الْمُنَاصَحَةَ بَيْنَهُمْ وَالشُّفْعَةَ
وَرَحْمَةَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ
بَلَائِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
( فَصْلٌ ) : ثُمَّ الْعَجَبُ
مِنْ ادِّعَائِهِمْ الْمَشْيَخَةَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبَادِئَ
أَمْرِ دِينِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ بِالِانْتِمَاءِ إلَى
الْمَشْيَخَةِ .
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ
الطَّرِيقِ : إنَّ الْفَقِيرَ لَا يَكُونُ فَقِيرًا يَكُونُ قَلْبُهُ
كَأَنَّهُ فِي كَفِّهِ يَعْنِي مِنْ قُوَّةِ مُعَايَنَتِهِ لَهُ ،
وَنَظَرُهُ لَا يَكُونُ فَيَعْرِفُ الزِّيَادَةَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ
بَدِيهَةً .
هَذَا حَالُ الْفَقِيرِ الْمُنْفَرِدِ بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يَصِلَ إلَى اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ بِهِ .
وَأَمَّا
الشَّيْخُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَهِيَ أَنْ
تَكُونَ قُلُوبُ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهَا فِي كَفِّهِ وَكَذَلِكَ
أَحْوَالُهُمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَيَعْلَمُ مَا
يَزِيدُ فِيهَا وَمَا يَنْقُصُ مِنْهَا فَيُرَبِّيهِمْ عَلَى مَا
يَتَحَقَّقُ مِنْ حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى ذَلِكَ
بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْ جُلَسَائِهِ ، بَلْ الشَّخْصُ نَفْسُهُ
قَدْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَلَهُمْ فِي
مَعْرِفَةِ هَذَا أُمُورٌ وَتَصَرُّفٌ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ ، فَإِنْ
كَانَ الشَّيْخُ عَاجِزًا عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ أَعْنِي أَنَّهُ لَا
يَعْرِفُ مَا زَادَ فِي حَالِ أَصْحَابِهِ وَمَا نَقَصَ فِي غَيْبَتِهِ
فَلَا يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ وَلَا الْهِدَايَةَ ، بَلْ إخْوَانٌ
مُجْتَمِعُونَ يَتَذَاكَرُونَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ وَمَنَاقِبِ أَهْلِ
الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ وَبَرَكَةَ
اجْتِمَاعِهِمْ تَعُودُ عَلَيْهِمْ دُون أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ
حَالًا ، أَوْ مَقَالًا هَذَا حَالُ الْقَوْمِ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ
مِنْهُمْ وَالصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ وَالرُّكُونِ إلَى مَوْلَاهُمْ فِي
دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا وَالْتِزَامِ الْوُقُوفِ بِبَابِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَعَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ
وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا وَلَا
مَقَالًا ، بَلْ يَقُولُ أَكْثَرُهُمْ إلَى الْآنَ مَا أَحْسَنَ أَنْ
أَتُوبَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ يَظُنُّونَ بِي خَيْرًا وَمَا بِي مِنْ
خَيْرٍ وَلَكِنَّنِي عَمْدٌ ظَلُومٌ كَمَا
تَدْرِي سَتَرْتَ
عُيُوبِي كُلَّهَا عَنْ عُيُونِهِمْ وَأَلْبَسْتَنِي ثَوْبًا جَمِيلًا
مِنْ السَّتْرِ فَصَارُوا يُحِبُّونِي وَلَسْتُ أَنَا الَّذِي أَحَبُّوا
وَلَكِنْ شَبَّهُونِي بِالْغَيْرِ فَلَا تَفْضَحْنِي فِي الْقِيَامَةِ
بَيْنَهُمْ وَلَا تُخْزِنِي يَا رَبِّ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ .
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لِوَلَدِهِ
لَمَّا أَنْ رَأَى مِنْهُ شَيْئًا لَا يُعْجِبُهُ يَا بُنَيَّ أَمَا
تَعْرِفُ قَدْرَكَ فَقَالَ : وَمَا قَدْرِي فَقَالَ لَهُ : أُمُّكَ
اشْتَرَيْتُهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَبُوكَ لَا أَكْثَرَ
اللَّهُ مِثْلَهُ فِي الْإِسْلَامِ .
هَذَا مَقَالُهُمْ مَعَ وُجُودِ
الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ مِنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ هُوَ عَلَى
الْعَكْسِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ وَتُنْصَبُ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْأَعْلَامُ وَالرَّايَاتُ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ .
وَبَعْضُهُمْ يَدَّعِي الْوَلَهُ وَيَرْتَكِبُ بِسَبَبِ
ذَلِكَ مُحَرَّمَاتٍ فَيَرْكَبُ عَلَى جَرِيدَةٍ قَدْ صَوَّرَ لَهَا
وَجْهًا وَعَيْنَيْنِ وَأَنْفًا وَفَمًا وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ شَيْئًا
كَأَنَّهُ سَوْطٌ وَيَرْكَبُ تِلْكَ الْجَرِيدَةِ وَيُمْسِكُهَا بِسَيْرٍ
أَوْ خَيْطٍ كَأَنَّهُ لِجَامٌ لَهَا وَيَضْرِبُهَا وَيَجْرِي .
وَبَعْضُهُمْ
يُعَلِّقُ فِيهَا جَرَسًا فَإِذَا مَشَى يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ
فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ وَالشُّبَّانُ غَالِبًا ،
وَقَدْ يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَخْتَفِي مِنْهُ أَحَدٌ
كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِمْ وَيَعِيبُونَ عَلَى مَنْ
اسْتَتَرَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ هَذَا مُولَهٌ .
وَهَذَا أَشَدُّ
قُبْحًا مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ وَحْدَهُ فَيَجِدُ
السَّبِيلَ إلَى مَا تُسَوِّلُهُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ الرَّذَائِلِ
بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ .
فَكَيْفَ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ
مَعَ ارْتِكَابِ نَهْيِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ : ( مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ حَتَّى
يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا ) وَلَا
فَرْقَ بَيْنَ مَنْ صَوَّرَهَا ، أَوْ اسْتَعْمَلَهَا ، أَوْ رَضِيَ بِهَا
.
وَمَا
الْعَجَبُ مِنْ هَذَا ، بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ
تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ مَنْ
هَذَا حَالُهُ وَيُصَوِّبُ فِعْلَهُ بِأَنْ يَقُولَ : هَذَا وَلِيٌّ
لِلَّهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَخْرِيبُ هَذِهِ
الطَّائِفَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَمْ يُعَارِضْهُمْ فِيهِ أَمْرٌ
وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ النَّهْيُ الصَّرِيحُ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَرِيدَةِ صُورَةٌ لَاحْتَمَلَ
التَّخْرِيبَ وَغَيْرَهُ .
هَذَا إنْ كَانَتْ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ
عَلَيْهِ مَحْفُوظَةً وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ
الشَّرْعِيَّةِ ، وَهُوَ يُظْهِرُ الْوَلَهَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَهَذَا
مُحْتَمَلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ دَعَتْ إلَى الدُّخُولِ فِي هَذَا
الِاحْتِمَالِ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى
الْمُكَلَّفِ إذْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ مَحْفُوظُونَ فِي
ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ مَوْجُودُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَا
تَخْلُو مِنْهُمْ الْأَرْضُ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ بِإِخْبَارِ
صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
(
فَصْلٌ ) : ثُمَّ إنَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَكْتَفُوا بِهَذِهِ
الْمَفَاسِدِ حَتَّى ضَمُّوا إلَيْهَا مَفْسَدَةً أُخْرَى ، وَهِيَ أَخْذُ
بَعْضِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ
رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ شَابٍّ لِيَكُونُوا مِنْ خَوَاصِّهِ
وَأَتْبَاعِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يَحْلِقُونَ شَعْرَ رَأْسِ مَنْ يَتُوبُ
عَلَى أَيْدِيهِمْ حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَهَذَا جَهْلٌ
مِنْهُمْ بِالْعَهْدِ وَمَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ وَحَلْقُ شَعْرِ
الرَّأْسِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْبِدَعِ ، وَقَدْ كَانَ
فِي عَهْدِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ
الْبِدَعِ وَعَلَامَةً عَلَيْهِمْ .
هَذَا إذَا كَانَ الْحَلْقُ
لِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي الطَّرِيقِ وَأَمَّا حَلْقُهُ لِكَثْرَةِ
الدَّوَابِّ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ .
{
فَصْلٌ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
تَعْلِيقِ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ : أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي ،
وَمَا كَانَ مُرَادُهُ إلَّا أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِالْأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِظْهَارِهَا وَإِشَاعَتِهَا ، وَإِظْهَارُ
السُّبْحَةِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ ، بَلْ
لِلشُّهْرَةِ وَالْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَقَرِيبٌ
مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ
فَيَتَّخِذَ السُّبْحَةَ فِي يَدِهِ كَاِتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ السِّوَارَ
فِي يَدِهَا وَيُلَازِمُهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَدَّثُ مَعَ
النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا وَيَرْفَعُ يَدَهُ
وَيُحَرِّكُهَا فِي ذِرَاعِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ
ظَاهِرَةً لِلنَّاسِ يَنْقُلُهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ يَعُدُّ
مَا يَذْكُرُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ فِي الْقِيلِ
وَالْقَالِ وَمَا جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا لِسَانٌ وَاحِدٌ فَعَدُّهُ عَلَى
السُّبْحَةِ عَلَى هَذَا بَاطِلٌ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ آخَرُ
حَتَّى يَكُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ يَذْكُرُ وَاللِّسَانُ الْآخَرُ
يَتَكَلَّمُ بِهِ فِيمَا يَخْتَارُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ
اتِّخَاذُهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ
وَالْبِدْعَةِ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ عَلَى السُّبْحَةِ
حَقِيقَةً وَيَحْصُرُ مَا يُحَصِّلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا يَعُدُّ
مَا اجْتَرَحَهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ
تُحَاسَبُوا } فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى
مُحَاسَبَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ
بِاعْتِقَادِهِ وَجَوَارِحِهِ وَيَعْرِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى السُّنَّةِ
الْمُطَهَّرَةِ فَمَا وَافَقَ مِنْ ذَلِكَ حَمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَبَقِيَ خَائِفًا وَجِلًا خَشْيَةً
مِنْ
دَسَائِسَ وَقَعَتْ لَهُ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا وَمَا لَمْ يُوَافِقْ
احْتَسَبَ الْمُصِيبَةَ فِي ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
بِالتَّوْبَةِ ، وَالْإِقْلَاعِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ التَّوْبَةِ تَمْحُو
الْحَوْبَةَ وَيَنْجَبِرُ بِذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْخَلَلِ .
وَهَذِهِ
الطَّائِفَةُ أَصْلُ عَمَلِهَا لِلتَّحَفُّظِ مِنْ السَّيِّئَاتِ
وَالْهَوَاجِسِ وَالْخَوَاطِرِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي كَسْبِ
الْحَسَنَاتِ .
وَقَدْ قَالُوا : إنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ أَوْجَبُ
مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ
النَّاسِ } .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ بَكَى أَرْبَعِينَ
سَنَةً فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ فَقَالَ : اسْتَضَافَنِي أَخٌ لِي
فَقَدَّمْتُ لَهُ سَمَكًا فَأَكَلَ ، ثُمَّ أَخَذْتُ تُرَابًا مِنْ
حَائِطِ جَارٍ لِي فَغَسَلَ بِهِ يَدَيْهِ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ
التُّرَابِ الَّذِي أَخَذْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَحُكِيَ
عَنْ آخَرَ مِثْلُهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : طَلَعَ لِي طُلُوعٌ
فَرَقَيْتُهُ فَاسْتَرَحْتُ مِنْهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ لِعَدَمِ
رِضَائِي بِمَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِي ، أَوْ كَمَا قَالَ وَأَحْوَالُهُمْ
فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَإِذَا كَانَ هَذَا
حَالَهُمْ فِي مِثْلِ مَا وَصَفْنَاهُ عَنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ
يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ وَأَيُّ أَثْقَالٍ ، ثُمَّ يَحْصُرُ الْحَسَنَاتِ
وَلَا يُفَكِّرُ فِي ضِدِّهَا ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَحْتَجُّ بِأَنَّهَا مُحَرِّكَةٌ
وَمُذَكِّرَةٌ فَوَا سَوْأَتَاهُ إنْ لَمْ يَكُنْ التَّحْرِيكُ
وَالتَّذْكِيرُ مِنْ الْقَلْبِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الرَّبِّ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { :
إنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ عَمَلَ الْجَهْرِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا }
هَذَا ، وَهُوَ عَمَلٌ فَمَا بَالُكَ بِإِظْهَارِ شَيْءٍ لَيْسَ بِعَمَلٍ
، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ عَمَلٍ وَمَا زَالَ النَّاسُ
يُخْفُونَ أَعْمَالَهُمْ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ الْعَظِيمِ مِنْهُمْ
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ
خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ دُخُولِهِ
الدَّسَائِسَ عَلَيْهِمْ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا
لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ
ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الشُّهْرَةِ مَا فِيهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
التَّاجِرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمُحَاوَلَةِ مَا
يَتَّجِرُ فِيهِ فَلَا يَتْرُكُ مَا لَهُ فِيهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا
وَيَأْخُذُ مَالَهُ فِيهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَذَا مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ
الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَكَيْفَ بِهِ مَعَ وُجُودِهَا ،
ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَحْرِمُ نَفْسَهُ فَضْلَ الذِّكْرِ وَعَوْدَ
بَرَكَتِهِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ فَلَوْ كَانَ يُسَبِّحُ
وَيَعُدُّ عَلَى أَنَامِلِهِ لَكَانَ نُورُ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَبَرَكَتُهُ
فِي أَنَامِلِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَرَأَى نُورًا فِي
طَاقٍ فَقَالَ مَا هَذَا النُّورُ الَّذِي فِي الطَّاقِ ؟ فَقَالَتْ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ سُبْحَتِي الَّتِي كُنْتُ أُسَبِّحُ عَلَيْهَا
جَعَلْتُهَا هُنَاكَ ، أَوْ كَمَا قَالَتْ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ هَلَّا كَانَ ذَلِكَ النُّورُ فِي أَنَامِلِكِ } فَهَذَا
إرْشَادٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْأَفْضَلِ
وَالْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ ، وَقَاعِدَةُ الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ
إلَى عَمَلٍ مَفْضُولٍ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَقَدْ
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قَرَأَ فِي
الْخِتْمَةِ يَجْعَلُهَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعًا وَيُمْسِكُهَا بِيَدِهِ
الْيُسْرَى وَجَمِيعُ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى تَمُرُّ عَلَى
الْحُرُوفِ الَّتِي يَتْلُوهَا وَيَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيُعَلِّلُهُ بِأَنْ
يَقُولَ حَتَّى يَحْصُلَ لِكُلِّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِكَيْ
يَكْثُرَ الثَّوَابُ بِذَلِكَ .
فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَأَنَا إلَيْهِ رَاجِعُونِ .
{
فَصْلٌ } وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا
شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ فَيَقُولُ : إنَّهُ إذَا أَخَذَ
الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ إنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ
لَمْ يَبْقَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ وَلَا زَوْجَتِهِ وَلَا نَفْسِهِ
، بَلْ التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلشَّيْخِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ
يُطَلِّقَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ أَخَذَ مَالَهُ لَزِمَهُ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي
يَشْتَرِطُونَهَا لَوْ تَصَرَّفَ الشَّيْخُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
لَكَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ وَالتَّرْكِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَة
الْقَوْمِ وَلَا بِمَأْثُورٍ عَنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ الْعَهْدَ
عَلَى أَنْ يَنْتَمِي لِفُلَانٍ مِنْ الْمَشَايِخِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى
كَأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى عَدَدِ الْمَشَايِخِ
فَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ كَمَا يَنْتَسِبُ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ إلَى
مَذَاهِبِهِمْ فَإِذَا انْتَسَبُوا إلَى ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ
الْمُحَمَّدِيُّ أَيْنَ هُوَ وَحَصَلَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمْ
تَعَصُّبَاتٌ وَشَنَآنٌ كَثِيرٌ حَتَّى صَارُوا أَحْزَابًا وَوَقَعَ
بَعْضُهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ شَيْخِهِ الَّذِي يَنْتَمِي إلَيْهِ
أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .
وَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ .
وَلِذَلِكَ
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ
طَرِيقُ الْقَوْمِ وَاحِدَةٌ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ سُنَّةُ الْأَحْبَابِ وَاحِدَةٌ
يَعْنِي أَنَّ مُشْرَبَهُمْ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ
الِابْتِدَاعِ وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ
إنْكَارٌ لِأَخْذِ الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ بِشَرْطِهِ
الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمْ إذْ إنَّهُ عَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ
الصَّالِحُ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَلَا نُنْكِر أَيْضًا الِانْتِمَاءَ
إلَى الْمَشَايِخِ بِشَرْطِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْمُرِيدِ
شَيْخُهُ ، وَغَيْرُ شَيْخِهِ بِالسَّوَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى
الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَيَكُونُ إيثَارَهُ لِشَيْخِهِ
بِسَبَبِ
أَنَّهُ كَانَ وُصُولُهُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى يَدَيْهِ
فَيَرَى لَهُ ذَلِكَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَقَعُ التَّفَضُّلُ
لِشَيْخِهِ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ صَنَعَ
إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ
فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } ، وَقَدْ
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَأْبَى أَنْ يَأْخُذَ
الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَسَأَلْتُهُ مَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ ؟ أَهُوَ
بِدْعَةٌ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي نَفْسَهُ لَيْسَ
كَغَيْرِهِ فَأَخَافُ إنْ أَخَذْتُ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ لَا
يُوفِي بِمَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَهْدِ فَيَقَعُ لَهُ
التَّشْوِيشُ وَأَكُونُ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فَأَتْرُكُهُمْ رَحْمَةً
بِهِمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ وَأُعَوِّضُ عَنْهُ الدُّعَاءَ لَهُمْ
بِظَاهِرِ الْغَيْبِ بِالِاسْتِقَامَةِ ، أَوْ كَمَا قَالَ .
وَالْحَاصِلُ
مِنْ أَخْذِ الْعَهْدِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْخُ الْعَهْدَ عَلَى
الْمُرِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاهُ وَلَا
يَفْقِدُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ وَهَذَا هُوَ زُبْدَتُهُ وَأَصْلُهُ
وَبَقِيَتْ تَفَارِيعُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَلَّ أَنْ تَتَنَاهَى ،
وَهِيَ الْأَمَانَةُ الَّتِي عَرَضَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولًا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : ظَلُومًا
لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِأَمْرِ رَبِّهِ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الْغَالِبِ
مِنْهُمْ وَإِلَّا فَكَثِيرُ مَنْ وَفَّى ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَثِيرٌ
مَنْ دَخَلَ فِي جَاهِ مَنْ وَفَّى وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَ
كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ يَنْتَمُونَ إلَى الْمَشَايِخِ لِيَكُونُوا
فِي حُرْمَتِهِمْ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ
إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ { : هُمْ
الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } فَكَمَا لَا يَشْقَى بِهِمْ
جَلِيسُهُمْ
كَذَلِكَ لَا يَشْقَى بِهِمْ مُعْتَقِدُهُمْ وَلَا مُحِبُّهُمْ .
وَقَدْ
خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { : جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ
قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ :
أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا فَقَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ إلَّا
أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ، وَأَنْتَ
مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ } فَمَا رَأَيْتُ فَرَحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ
الْإِسْلَامِ كَفَرَحِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ
أَنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِلسَّائِلِ حِينَ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ هُوَ ذَلِكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَعِنِّي
عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّ هَذَا طَلَبَ مَنْصِبًا
عَظِيمًا فَأَرْشَدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى
الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ
وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ إذَا كَانَ سَاجِدًا } فَأَرْشَدَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ ، وَطَالِبُ الْمَعِيَّةِ
تَشْمَلُهُ الدَّارُ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَنَازِلُ
تَتَفَاوَتُ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ جُعِلَتْ السَّعَادَةُ لِمَنْ نَالَهَا .
لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ
خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ
سَلِمَ مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْعَنَاءِ
وَالتَّنْغِيصِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا حِينَ يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَرِيقِهِ
فَيُكَلِّفُهُ
أَنْ يَعْتَرِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ
وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ مَا فِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِبَعْضِ مَنْ فَعَلَ
الذُّنُوبَ { : أَنَا سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا
أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ } ، وَقَدْ وَرَدَ { : كُلُّ النَّاسِ
مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ } فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ لِيَتُوبَ عَلَى يَدَيْهِ ، أَوْقَعَهُ الشَّيْخُ بِاعْتِرَافِهِ
فِي هَذِهِ الْمَهَالِكِ فَكَانَ عَدَمُ التَّوْبَةِ بِهِ أَوْلَى ،
وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَفِي هَذَا تَشَبُّهٌ بِالْقِسِّيسِينَ ؛ لِأَنَّ
مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذَا جَاءَهُمْ أَحَدٌ لِيَتُوبَ عَلَى
أَيْدِيهِمْ يُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُسَمِّيَ لَهُمْ ذُنُوبَهُ ذَنْبًا
ذَنْبًا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قِيلَ :
إنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ .
فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى تَخْلِيطِ أُمُورِ الدِّينِ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا فِيهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةً شَنِيعَةً آلَتْ إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ،
وَتَرْكُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ هُوَ ارْتِدَادٌ ،
أَوْ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ مِمَّنْ فَعَلَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ
يُلَبِّدُونَ شُعُورَ رُءُوسِهِمْ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْجَنَابَةَ
تُصِيبهُمْ فَإِذَا اغْتَسَلُوا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُوصِلُوا
الْمَاءَ إلَى الْبَشَرَةِ وَلَيْسَ ثَمَّ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يُجِيزُ
الْمَسْحَ عَلَى حَائِلٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ فَصَلَاتُهُمْ عَلَى
هَذَا بَاطِلَةٌ ، ثُمَّ ضَمُّوا إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَة مَفْسَدَةً
أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْهَا ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ
عَلَى الْخَيْرِ وَالصَّوَابِ وَعَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ وَالْهِدَايَةِ .
نَسْأَلُ
اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ مِنْ بَلَائِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَتَعَانَى اتِّخَاذَ الْحُرُوزِ الْكَثِيرَةِ وَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ
كَالْقِلَادَةِ لِلْمَرْأَةِ .
وَمِنْهُمْ مِنْ يَجْعَلُهَا عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى يَتَوَشَّحُ بِهَا وَهَذَا شُهْرَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ وَشَوْهٌ ظَاهِرٌ
،
وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلتَّبَرُّكِ
وَالتَّحَفُّظِ مِنْ الْعَيْنِ وَمِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ فَلَهُ طَرِيقٌ
غَيْرُ هَذَا بِأَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثَوْبِهِ
بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَظْهَرُ وَأَمَّا عَلَى هَذِهِ
الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيُمْنَعُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ
وَلِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَأْخُذُ سُبْحَةً كَبِيرَةً وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِهِ ، أَوْ
يَتَوَشَّحُ بِهَا وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ
وَالتَّحَدُّثِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ إظْهَارًا مِنْهُ أَنَّهُ
يُكَاشِفُهَا وَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ
عَنْهَا خَيْطًا مِنْ صُوفٍ عَلَى صِفَاتٍ وَصِبْغٍ فَيَتَقَلَّدُونَ بِهِ
، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الشُّهْرَةِ ، أَوْ الشَّهْوَةِ ، وَالْبِدْعَةِ
، وَالْخُرُوجِ عَنْ الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمَعِينَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ
فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا رَذِلًا يَأْبَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِ فِي الْجَامِعِ
يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَقَامَ النَّاسُ
إلَيْهَا قَامَ هُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ فَإِذَا رَكَعُوا وَسَجَدُوا بَقِيَ
وَاقِفًا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ لَا يُحْرِمُ وَلَا يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ
، ثُمَّ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنْ
صَلَاتِهِمْ وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَأَرْذَلُ مَنْ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا
حَالُهُ وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ ، وَأَنَّهُ مِنْ
الْوَاصِلِينَ وَيَتَأَوَّلُ بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ،
وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ تَخْرِيبٌ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُشْهَرَ
وَلَا يُعْتَقَدَ ، وَتَأْوِيلُهُمْ هَذَا مِنْ السَّخَافَةِ وَالْحُمْقِ
وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ فِي
الدِّينِ وَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ
الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ وَأَوَّلُ
أَرْكَانِهِ بَعْد كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ ؛ إذْ إنَّ مَنْ رَأَى وَلَمْ
يُنْكِرْ كَمَنْ فَعَلَ وَلَا ضَرُورَةَ
تَدْعُو إلَى التَّخْرِيبِ
؛ لِأَنَّ مَنْ مَشَى عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ
وَالسُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَاقْتَفَى آثَارَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سِيَّمَا إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ
مِنْ عَوَائِدِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ فَالْغَالِبُ
مِنْ حَالِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ النُّفُورُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ إنَّمَا تَرَكَ
الْعَوَائِدَ وَالِابْتِدَاعَ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ
وَتَمَسَّكَ بِهَا ، وَعَادَةُ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ النُّفُورُ مِنْ
الْحُكْمِ عَلَيْهَا .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا حَقُّ مَا أَبْقَيْتَ لِي حَبِيبًا .
وَقَدْ
كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى عَكْسِ هَذَا الْحَالِ
مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ أَحَبُّوهُ وَاعْتَقَدُوهُ وَعَظَّمُوهُ
وَوَقَّرُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ ، وَمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ
تَرَكُوهُ وَأَهْمَلُوهُ وَمَقَتُوهُ وَأَبْغَضُوهُ حَتَّى كَانَ مَنْ
يُرِيدُ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُمْ وَالتَّعْظِيمَ مِمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ
يُظْهِرُ الِاتِّبَاعَ حَتَّى يَعْتَقِدُوهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا
الْيَوْمَ فَيَعْتَقِدُونَ وَيَحْتَرِمُونَ مَنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ
الْمُحْدَثَةَ وَيَمْشِي عَلَيْهَا وَلَا يُنْكِرُ عَلَى أَحَدٍ مَا هُوَ
فِيهِ فَمَنْ أَرَادَ التَّخْرِيبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَلْيَتْبَعْ
السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فَإِنَّهُمْ يَنْفِرُونَ عَنْهُ وَلَا
يَعْتَقِدُونَهُ غَالِبًا لِإِنْكَارِهِ مَا هُمْ فِيهِ حَتَّى قَدْ
يَنْفُرَ عَنْهُ أَبَوَاهُ وَأَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا
هُمْ عَلَيْهِ .
ثُمَّ إنَّ الْمُخَرِّبَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ ذَلِكَ أَمْ لَا فَإِنْ
اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَهُ مَعَ
اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ .
وَأَمَّا
الْمَكْرُوهُ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ :
إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمَكْرُوهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَغَالَوْنَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فَيَقُولُونَ : هَذَا
بَدَلُ هَذَا قُطْبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذَا
اللَّفْظُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ
وَبَذَلَ جَهْدَهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَكَيْفَ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ
تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ ، أَوْ
هُمَا مَعًا ؟ ثُمَّ إنَّ الْمُتَّبِعَ مِنْ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِ
عَلَى قِسْمَيْنِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ
وَأَقْوَالِهِ كُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ
أَوْ قَالَهُ ، أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ
وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مَوْضِعٌ لَا
أَدْخُلُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَوْ اسْتَعْمَلَ الْمُسْلِمُونَ
فِيهِ الْغَصْبَ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ : هَذَا مِنْ بَابِ
الْوَرَعِ هَذَا لَيْسَ بِمُتَّبَعٍ ، وَقَدْ دَخَلَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ
وَيَحْتَجُّونَ بِمَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهِمْ
أَهْلِيَّةٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فَقَدْ تَكُونُ لَهُ أَعْذَارٌ فِي
ارْتِكَابِ ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ
عُذْرَهُ فِيمَا وَقَعَ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ؛ إذْ إنَّ اتِّبَاعَ
لِسَانِ الْعِلْمِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى النَّاسِ عُمُومًا
وَخُصُوصًا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : إنِّي لَا أَتَكَلَّمُ بِالْوَرَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ
وَالنَّاسُ يَحْمِلُونَ مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَصَارَ لِسَانُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ وَرَعًا
وَتَرَتَّبَتْ عَلَى هَذَا مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ
يَنْسِبُونَ كَثِيرًا مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى الْوَرَعِ فَيَتْرُكُونَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاتِّبَاعَ ، وَبَابُ الْوَرَعِ ضَيِّقٌ لَا يَدْخُلُهُ
إلَّا الْأَفْذَاذُ إذْ لَيْسَ هَذَا زَمَانُ الْوَرَعِ غَالِبًا وَمَا
يَتَعَلَّلُونَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْوَرَعِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَسْوِيلِ
النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ لِيُثَبِّطَ عَنْ بَرَكَةِ
الِاتِّبَاعِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ غَيْرُ
الْمُعْتَقِدِ
يَقُولُ : هَذَا يَابِسٌ مُشَدَّدٌ مَرْبُوطٌ يُشِيرُ بِكَلَامِهِ
وَحَالِهِ إلَى أَنَّ غَيْرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ
وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ .
وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَرُدُّهُ مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ
فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا
فَسَدَ النَّاسُ } وَفِي رِوَايَةٍ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ
النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : كَيْفَ بِكُمْ إذَا
فَسَقَ فِتْيَانُكُمْ وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ كَيْفَ
بِكُمْ إذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ
؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ :
نَعَمْ وَأَشَدُّ ، كَيْفَ بِكُمْ إذَا رَأَيْتُمْ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا
، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ؟ } .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) : ثُمَّ إنَّ غَالِبَ حَالِهِمْ أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ يَدُورُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اعْتِقَادُهُ شَهْوَةً فَيَعْقِدُهُ مُدَّةً ، ثُمَّ يَنْحَلُّ عَنْ اعْتِقَادِهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَدُومُ اعْتِقَادُهُ لَكِنْ يَزِيدُ فِي اعْتِقَادِهِ وَيَتَغَالَى
فِيهِ فَيَقُولُ هَذَا بَدَلٌ هَذَا قُطْبٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ
يَقُولُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَتَنَاقَضُ قَوْلُهُمْ إذْ إنَّ
الْقُطْبَ إنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ
بِهِ إلَّا الْوَاحِدُ مِنْ الْأَفْذَاذِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ
يَعْرِفُهُ ؛ لِأَنَّ صِفَتَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الْأَنْوَارِ لَهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُدِيرُ الْقُطْبَ فِي الْآفَاقِ
الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْكَانِ الدُّنْيَا كَدَوَرَانِ الْفُلْكِ فِي
أُفُقِ السَّمَاءِ ، وَقَدْ سُتِرَتْ أَحْوَالُ الْغَوْثِ ، وَهُوَ
الْقُطْبُ عَنْ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غَيْرَة مِنْ الْحَقِّ عَلَيْهِ
غَيْرَ أَنَّهُ يَرَى عَالِمًا جَاهِلًا أَبْلَهَ فَطِنًا تَارِكًا آخِذًا
قَرِيبًا بَعِيدًا سَهْلًا عَسِرًا آمِنًا حَذِرًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ
إذَا حَصَلَ لَهُ اعْتِقَادٌ فِي شَيْخٍ بِعَيْنِهِ نَقَّصَ غَيْرَهُ ،
أَوْ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَنَآنٌ بَيْنَ
أَصْحَابِهِمْ وَمَنْ يَنْتَمُونَ إلَيْهِمْ حَتَّى أَنَّهُمْ
لَيَرْجِعُونَ أَحْزَابًا وَيَهْجُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِعَدَمِ
تَسْلِيمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ
حَدَّثَنِي بَعْضُ الْفُقَرَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ سَيِّدِي
أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ
يَسْمَعُهُ ، وَهُوَ يُعَظِّمَ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ أَبِي
جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ هَذَا الْفَقِيرُ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ
مَا هَذَا إلَّا رَجُلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ مِثْلُ هَذَا السَّيِّدِ
يُعَظِّمُهُ قَالَ : فَمَضَيْتُ يَوْمًا إلَيْهِ حَتَّى أَرَاهُ
فَدَخَلْتُ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّرْسِ ،
وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ عِبَارَتَهُ دُونَ عِبَارَةِ
سَيِّدِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْمَرْجَانِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَعَجَّبْتُ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي أَمِثْلُ هَذَا
يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ
فَاسْتَبْعَدْتُ ذَلِكَ فَرَدَّ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ رَأْسَهُ
إلَيَّ وَنَظَرَ لِي ، ثُمَّ رَجَعَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا كَانَ بِسَبِيلِهِ
فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ يَنْبَغِي لِلْفَقِيرِ إذَا دَخَلَ عَلَى
الشُّيُوخِ أَنْ لَا يُفَضِّلَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَيْخًا عَلَى
غَيْرِهِ يَا مِسْكِينُ هَذَا الَّذِي تُفَضِّلُهُ لَوْ سَأَلْتَهُ
عَمَّنْ فَضَّلْتَهُ عَلَيْهِ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ : هُوَ
بَرَكَتِي ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا أَرْجُو مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ
يَنْفَعَنِي بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَرُبَّ سَاكِتٍ أَفْضَلُ مِنْ
نَاطِقٍ فَيَجِيءُ أَحَدُكُمْ يُفَضِّلُ مَنْ يَخْطِرُ لَهُ بِمَا
يَخْطِرُ لَهُ أَجَاءَ لَكَ أَحَدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى -
وَأَخْبَرَكَ أَنَّ فُلَانًا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ فَهَذَا مِنْ
قِلَّةِ الْأَدَبِ وَالِاحْتِرَامِ فَتُبْ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
وَارْجِعْ إلَيْهِ مَا كَفَى أَنَّ أَحَدَكُمْ يُحْرَمُ الْعَمَلُ حَتَّى
يُحْرَمَ الِاعْتِقَادُ مَا هَذَا الْحَالُ .
قَالَ فَبَقِيتُ أَتُوبُ
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لَعَلَّهُ يَسْكُتُ فَمَا سَكَتَ إلَّا بَعْدَ
حِينٍ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ .
بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْ الْآخِرِ .
أَوْ
يَكُونَ الَّذِي يُفَضِّلُ أَعْلَى مَقَامًا مِنْهُمَا فَيَكْشِفُ
عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي مَقَامٍ يَكْشِفُ عَلَى مَنْ هُوَ
دُونَهُ وَلَا يَكْشِفُ عَلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ عَلَى مَقَامَاتِ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَكْشِفْ عَلَى
مَقَامِهِ الْخَاصِّ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا
كَوْنُ الْمُرِيدِ يُعَظِّمُ شَيْخَهُ وَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ
مِمَّنْ هُوَ فِي وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهُ لَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ
جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ قَسَمَ لَهُ عَلَى يَدَيْهِ
رِزْقًا
حَسَنًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ رُزِقَ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ } وَقَالَ
فِي حَدِيثٍ آخَرَ { : جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ
إلَيْهَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِمَا يَبْقَى هُوَ أَفْضَلُ
وَأَعْلَى مِنْ الْإِحْسَانِ بِمَا يَفْنَى وَحَقِيقَةُ الْمُرِيدِ مَعَ
شَيْخِهِ أَنَّ الشَّيْخَ وَجَدَهُ غَرِيقًا فِي بَحْرِ التَّلَفِ
فَأَنْقَذَهُ وَخَلَّصَهُ مِنْهُ وَأَوْقَفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا إحْسَانَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْإِحْسَانِ .
وَوَجْهٌ
آخَرُ ، وَهُوَ مَحَبَّةُ الْمُرِيدِ لِطَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فَلَمَّا أَنْ رَأَى عِنْدَ شَيْخِهِ مَا يُحِبُّهُ الْتَزَمَهُ
لِمَحْبُوبِهِ الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَهُ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ
النَّاسِ يَخْدُمُ بَعْضَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَيُحِبُّهُ يُؤْثِرُ
بِالْخِدْمَةِ لَهُ فَعَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْتِزَامِ
خِدْمَتِهِ لَهُ ، وَهُوَ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ
قَالَ : مَحْبُوبِي عِنْدَهُ .
وَقِيلَ لِآخَرَ أَيْضًا وَقَدْ
رَأَوْهُ وَاقِفًا بِبَابِ عَدُوِّهِ فَعَذَلُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَ
بِمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ أَنَّ مَحْبُوبَهُ عِنْدَهُ ، وَالْمُرِيدُ
بِنِيَّتِهِ وَخَاطِرِهِ وَكُلِّيَّتِهِ رَاغِبٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ ، مُتَسَبِّبٌ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ فَإِذَا رَأَى مَنْ
هُوَ مِثْلُهُ ، أَوْ أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْ أَحْكَمَ الطَّرِيقَ
وَعَرَفَهَا أَحَبَّهُ ، وَالْتَزَمَهُ وَأَنِسَ بِهِ لِمَا حَصَلَ
عِنْدَهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ الْجَمِيلَةِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا
أَنَّهُ يُعَظِّمُهُ لِمَا خَلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ
الْخِلَعِ السَّنِيَّةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَوْلَى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
الْكَرَامَاتِ فَيَغْتَرُّ بِهَا فَيَتْلَفُ حَالُهُ بِسَبَبِهَا ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ بِوَاسِطَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا
جَرَى لِبَعْضِ الْمُرِيدِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً
فِي زَاوِيَةٍ خَارِجَ الْبَلَدِ فَطَلَعَ عَلَى سَطْحِ الزَّاوِيَةِ فِي
لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَأَعْجَبَهُ ضَوْءُ
الْقَمَرِ فَخَطَرَ لَهُ
أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي الطَّيَرَانِ هَلْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَمْ
لَا فَجَرَّبَ نَفْسَهُ فَطَارَ فِي الْهَوَاءِ فَدَخَلَ الْبَلَدَ مِنْ
أَعْلَى سُورِهَا ، وَهُوَ طَائِرٌ فَقَالَ : أَيُّ مَوْضِعٍ أَقْصِدُهُ
فَوَقَعَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى زِيَارَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ
الْمَشَايِخِ فِي وَقْتِهِ فَأَتَى إلَى بَابِ دَارِهِ وَنَزَلَ وَدَقَّ
الْبَابَ فَخَرَجَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ : مَنْ أَنْتَ ؟
فَقَالَ : فُلَانٌ .
فَقَالَ لَهُ : مَا وَجَدْتُ شَيْئًا تَأْتِينِي
بِهِ إلَّا بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ؟ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ بَعْدَهَا
أَبَدًا فَأَدَّبَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِ عَلَى رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَسَلَامَتِهِ ، أَوْ كَمَا جَرَى .
وَمِثْلُ هَذَا مَا
حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُرِيدِينَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ
شَيْخِهِ ، ثُمَّ انْقَطَعَ فَسَأَلَ الشَّيْخُ عَنْهُ فَقَالُوا لَهُ :
هُوَ فِي عَافِيَةٍ فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَحَضَرَ فَسَأَلَهُ مَا
الْمُوجِبُ لِانْقِطَاعِكَ فَقَالَ : يَا سَيِّدِي كُنْتُ أَجِيءُ لِكَيْ
أَصِلَ ، وَالْآنَ قَدْ وَصَلْتُ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْحُضُورِ
فَسَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُصُولِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ يُصَلِّي وِرْدَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : يَا
بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا دَخَلْتُهَا أَبَدًا فَلَعَلَّكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ
عَلَيَّ فَتَأْخُذَنِي مَعَكَ لِعَلِّي أَنْ أَدْخُلَهَا كَمَا
دَخَلْتَهَا أَنْتَ قَالَ : نَعَمْ فَبَاتَ الشَّيْخُ عِنْدَ الْمُرِيدِ
فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ جَاءَ طَائِرٌ فَنَزَلَ عِنْدَ
الْبَابِ فَقَالَ الْمُرِيدُ لِلشَّيْخِ هَذَا الطَّائِرُ الَّذِي
يَحْمِلُنِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عَلَى ظَهْرِهِ إلَى الْجَنَّةِ فَرَكِبَ
الشَّيْخُ وَالْمُرِيدُ عَلَى ظَهْرِ الطَّائِرِ فَطَارَ بِهِمَا سَاعَةً
، ثُمَّ نَزَلَ بِهِمَا فِي مَوْضِعٍ كَثِيرِ الشَّجَرِ فَقَامَ
الْمُرِيدُ لِيُصَلِّيَ وَقَعَدَ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ الْمُرِيدُ : يَا
سَيِّدِي أَمَا تَقُومُ اللَّيْلَةَ فَقَالَ الشَّيْخُ : يَا بُنَيَّ
الْجَنَّةُ هَذِهِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ صَلَاةٌ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ
يُصَلِّي وَالشَّيْخُ قَاعِدٌ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ
الْفَجْرُ جَاءَ
الطَّائِرُ وَنَزَلَ فَقَالَ الْمُرِيدُ لِلشَّيْخِ قُمْ بِنَا نَرْجِعُ
إلَى مَوْضِعِنَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ اجْلِسْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا فَجَعَلَ الطَّائِرُ يَضْرِبُ
بِأَجْنِحَتِهِ وَيَصِيحُ حَتَّى أَرَاهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ تَتَحَرَّكُ
بِهِمْ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ يَقُولُ لِلشَّيْخِ : قُمْ بِنَا لِئَلَّا
يَجْرِيَ عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ هَذَا يَضْحَكُ
عَلَيْكَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ الْجَنَّةِ فَاسْتَفْتَحَ
الشَّيْخُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَذَهَبَ الطَّائِرُ وَبَقِيَا كَذَلِكَ
إلَى أَنْ تَبَيَّنَ الضَّوْءُ ، وَإِذَا هُمَا عَلَى مَزْبَلَةٍ ،
وَالْعُذْرَةُ وَالنَّجَاسَاتُ حَوْلَهُمَا فَصَفَعَ الشَّيْخُ الْمُرِيدَ
وَقَالَ لَهُ هَذِهِ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي أَوْصَلَكَ الشَّيْطَانُ
إلَيْهَا قُمْ فَاحْضُرْ مَعَ إخْوَانِكَ ، أَوْ كَمَا جَرَى .
وَحِكَايَاتُهُمْ
فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ ، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ أَنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا وَلَا يَيْأَسُ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ
خُرُوجِ رُوحِهِ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَضْرِبُ عَلَيْهِ بِخَيْلِهِ
وَرَجْلِهِ وَيَسْتَعْمِلُ حِيَلَهُ كُلَّهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ
بَعْضُ هَذَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى
الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ حَالًا وَلَا مَقَامًا خِيفَةَ أَنْ
يُفْسِدَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مُنَّ بِهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ حَقِيقَةً ،
أَوْ يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ ابْتِدَاءً وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي
هَذَا الزَّمَانِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رُسُوخٌ فِي الطَّرِيقِ ، بَلْ
بَعْضُهُمْ مَغْمُوسٌ فِي الْجَهْلِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ الشُّيُوخِ
الْمُوصِلِينَ إلَى اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَوْقٌ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ
بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ عَكْسُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا فِي مُطَالَبَةِ
بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَقِيَامِ الْمُسْتَغْفِرِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ
زَمَنًا طَوِيلًا وَرُبَّمَا كَانَ مُعْتَلَّ الدِّمَاغِ فَتَأْخُذُهُ
نَزْلَةٌ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ ، وَقَدْ يَئُولُ
الْأَمْرُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْمَوْتِ ، أَوْ إلَى أَمْرَاضٍ
خَطِرَةٍ
قَدْ تَطُولُ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ بِالْعِلَلِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ
زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ النَّاسِ عَامَّةً ،
وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانَتْ
مُطَالَبَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا
بَيْنَهُمْ مُسْتَتِرِينَ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ
كَمَا قِيلَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ إلَّا ذُو مَحْرَمٍ وَمَحْرَمُهُمْ
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَعْنِي مِنْ أَصْحَابِ الْخِرْقَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ
.
وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ حَمْلَ الْأَقْدَامِ وَيَقِفُ طَوِيلًا بِهَا يَنْتَظِرُ إقْبَالَهُمْ عَلَيْهِ .
وَبَعْضُهُمْ
يُبَالِغُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَيَأْمُرُ بِكَشْفِ رَأْسِ الْجَانِي
عَلَى زَعْمِهِ وَضَرْبِهِ بِالْجَمَاجِمِ ، وَالْجَرِيدِ وَغَيْرِهَا
وَهَذَا قُبْحٌ وَشَنَاعَةٌ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا لِمَنْ يَدَّعِي
الطَّرِيقَ ، وَطَرِيقُ الْقَوْمِ غَيْرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إذْ إنَّهَا
مَبْنِيَّةٌ عَلَى الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ مَا لَمْ
يَكُنْ فِي أَمْرِ الدِّينِ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَيَكْفِي
فِيهِ الْهِجْرَانُ لَا غَيْرُ وَفِيهِ مُقْنَعٌ لِلْجَانِي
وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَغَيْرُ هَذَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي
شَيْءٍ .
وَطَرِيقُهُمْ أَنَّهُمْ إذَا وَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي
مُخَالَفَةٍ يُطَالِبُونَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا وَقَعَ
فِيهِ .
ثُمَّ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُ
مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَا
يَفْعَلُهُ لِلصَّادِقِ مِنْهُمْ مَعَ إخْوَانِهِ إذَا اطَّلَعَ عَلَى
شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ ، وَأَنَّهُ يَتَوَجَّهُ
إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فِي إنْقَاذِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لِلشَّيْخِ آكَدُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ
لِلْمُرِيدِ ؛ لِأَنَّ بِغَفْلَةِ الشَّيْخِ عَنْهُ جَرَى عَلَيْهِ مَا
جَرَى فَلَوْ كَانَ الشَّيْخُ يَلْحَظُهُ لَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فِي
الْغَالِبِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِسَيِّدِي أَبِي عَلِيِّ
بْنِ السَّمَّاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ -
تَعَالَى - أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ جَاءَ
إلَيْهِ وَطَلَبَ مِنْهُ إذْنًا أَنْ يَتَزَوَّجَ فَأَبَى عَلَيْهِ ،
ثُمَّ جَاءَهُ ثَانِيًا فَأَبَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ ثَالِثًا كَذَلِكَ
فَقَالَ : أَزْنِي ؟ قَالَ : اذْهَبْ .
فَذَهَبَ الْمُرِيدُ فَأَخَذَ
امْرَأَةً وَجَاءَ بِهَا إلَى بَيْتِهِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ ، وَإِذَا
بِالْحَائِطِ قَدْ انْشَقَّ وَدَخَلَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَخَرَجَ
هَارِبًا يَسِيحُ فِي الْبَرِّيَّةِ بِحَالٍ أَخَذَهُ لَا يَعْرِفُ أَيْنَ
يَذْهَبُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ عَقْلُهُ بَعْد ذَلِكَ فَقَالَ : مِنْ
أَيْنَ أَصَابَنِي الْمَرَضُ ؟ مِنْ هُنَاكَ أَتَدَاوَى فَرَجَعَ إلَى
مَوْضِعِ الشَّيْخِ فَدَخَلَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ
رَحِمَهُ اللَّهُ : أَقَدَرْتَ عَلَى شَيْءٍ تَفْعَلُهُ ؟ أَتَظُنُّ
أَنَّكَ لِنَفْسِكَ ؟ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَتَحَمَّلُونَ أَنْ
يَرَوْا مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِمْ فِي ذَرَّةٍ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .
أَلَا
تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ
فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ : مَا لِي
أَرَاك هَاهُنَا فَقَالَ لَهُ لِأَجْلِ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ
وَلِلْقُرْبِ مِنْ الْخَطِيبِ فَقَالَ لَهُ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ
الْبُعْدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
مِنْ الْقُرْبِ مِنْهُمْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمُشَاهَدَةِ مَا الشَّرْعُ
يَأْمُرُ بِتَغْيِيرِهِ عَلَيْهِ .
أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي
التَّغْيِيرِ أَنْ لَا يَرَى شَيْئًا يُخَالِفُ السُّنَّةَ حَتَّى
يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ إذْ إنَّ أَصْعَبَ مَا فِي
التَّغْيِيرِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى
الْقَلْبِ تَدْنِيسُهُ بِمَا يُشَاهِدُ وَيَرَى وَيَسْمَعُ فَقَلَّ أَنْ
يَتَأَثَّرَ مَعَ مُدَاوَمَةِ هَذَا الْحَالِ عَلَيْهِ فَالتَّغْيِيرُ
بِالْقَلْبِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمَرْتَبَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُ
فَهُوَ أَصْعَبُ مِنْهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَتَأَمَّلْهُ .
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَأْنِيسِ الْقُلُوبِ غَالِبًا بِالْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : أَوَّلُ بِدْعَةٍ رَأَيْتُ بُلْتُ الدَّمَ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ
ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ { : وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ } وَكَذَلِكَ
وَرَدَ { : مَنْ لَمْ يُزِلْ الْمُنْكَرَ فَلْيَزُلْ عَنْهُ } فَكَيْفَ
يُقْبِلُ الْمُكَلَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ يُصْغِي إلَيْهِ
وَأَمَّا إنْ فَاجَأَهُ ذَلِكَ وَعَجَزَ عَنْ التَّغْيِيرِ فَالتَّخَلُّصُ
مِنْهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ .
لِمَا وَرَدَ فِيمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّغْيِيرِ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ ثَلَاثًا .
ثُمَّ لِيَمْضِ لِسَبِيلِهِ وَيُعْرِضُ عَنْهُ .
فَصْلٌ
فِي مُكَاتَبَةِ الْفَقِيرِ لِأَخِيهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ
مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي مُكَاتَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْظِيمِ ،
وَالْكَذِبِ وَالتَّنْمِيقِ ، وَالْقَوَافِي وَالسَّجْعِ ،
وَالْعِبَارَاتِ الْقَلِقَةِ وَالتَّكَلُّفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ كُتُبَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى مِنْهَاجٍ غَيْرِ هَذَا .
فَمِنْ
ذَلِكَ كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى مَنْ يُكَاتِبُهُ مِنْ وُلَاتِهِ مِنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إلَى
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكُتُبُهُمْ لَهُ .
مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَصَفُوهُ بِالصِّفَةِ الْمُلَازِمَةِ لَهُ .
فَإِنْ
قِيلَ : قَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
هِرَقْلَ : مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ
الرُّومِ .
فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ أَنَّ
مَعْنَى .
كَتْبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى
هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ أَيْ الَّذِي يُعَظِّمُهُ الرُّومُ وَتَعْظِيمُ
الرُّومِ لَهُ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَلِذَلِكَ
وَصَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَعَلَى
هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ،
وَتَعْظِيمُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إنَّمَا هُوَ بِالْقُلُوبِ لَا
بِاللَّقْلَقَةِ مِنْ الْأَلْسُنِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي هَذَا
الزَّمَانِ فَهَذِهِ بَعْضُ نُبَذٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا .
وَأَمَّا
طَرِيقُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُسَافِرِينَ أَعْنِي غَيْرَ
الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ فَلَهُمْ اصْطِلَاحَاتٌ وَعَوَائِدُ قَلَّ أَنْ
تَجِدَ لِلِاتِّبَاعِ فِيهَا سَبِيلًا ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانُوا
يُوجِبُونَهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُونَ أَخْذَ ثِيَابِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ
مُتَطَلَّبَاتٍ كَثِيرَةٍ يُسَمُّونَهَا شُغْلَ الْفُقَرَاءِ
وَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ خَاصًّا بِهِمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } وَهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى أَنَّهُمْ لَيُكَلِّفُونَ مَنْ كَانَ فَقِيرًا إلَى الْمَسْأَلَةِ بِالْإِلْحَاحِ وَتَكْلِيفِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الضِّيَافَاتِ وَالْإِجَازَاتِ ، وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ ، وَفِيمَا ذُكِرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا عَدَاهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ فِي صَرْفِ هِمَمِ الْمُرِيدِ
كُلِّهَا إلَى الْآخِرَةِ وَأُمُورِهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ
أَهَمُّ الْأُمُورِ عَلَيْهِ وَآكَدُهَا عِنْدَهُ أُمُورَ الْآخِرَةِ إذْ
إنَّهُ مَصِيرُهُ إلَيْهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إيثَارُهَا وَلَا
يَعْبَأُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الِامْتِثَالِ ؛ لِأَنَّ
غَيْرَ أَمْرِ الْآخِرَةِ مُنْقَطِعٌ زَائِلٌ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ
فَأَمْرُهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ مِنْ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ .
أَلَا
تَرَى إلَى حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيْفَ
كَانَ عَلَى مَا وَصَفَ الْوَاصِفُ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ ؟ وَقَدْ
كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ
هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُ يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ عَلَى مَا نُقِلَ
عَنْهُ .
وَكَانَ يَقُولُ : أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْلَأُ فَاهُ
بِالضَّحِكِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ دِيوَانٍ اسْمُهُ هَلْ فِي
الْجَنَّةِ ، أَوْ فِي النَّارِ .
وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَعِظَهُ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ : إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِالرِّزْقِ فَاهْتِمَامُك
بِالرِّزْقِ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْسُومًا فَالْحِرْصُ
لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ الْخَلَفُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا فَالْبُخْلُ
لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ حَقًّا فَالرَّاحَةُ لِمَاذَا ،
وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ حَقًّا فَالْمَعْصِيَةُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ
سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَقًّا فَالْأُنْسُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ
الدُّنْيَا فَانِيَةً فَالطُّمَأْنِينَةُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ
الْحِسَابُ حَقًّا فَالْجَمْعُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ
بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَالْحُزْنُ لِمَاذَا ؟ .
وَقَدْ قَالَتْ
رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ لِرَجُلٍ رَأَتْهُ مَهْمُومًا : إنْ كَانَ
هَمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمًّا ، وَإِنْ كَانَ
مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَفَرَّجَ اللَّهُ هَمَّكَ ، وَقَدْ أَنْشَدَ
بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : لَا تَجْزَعَنَّ إذَا مَا
الْأَمْرُ ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا وَنَمْ وَتَوَسَّدْ خَالِيَ الْبَالِ مَا
بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا يُغَيِّرُ
اللَّهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ .
(
فَصْلٌ ) : هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَدَبِ الْمُرِيدِ
وَيَنْبَغِي أَنْ نَخْتِمَهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ آثَارِهِ
وَأَحْوَالِهِ وَلِكَيْ يَكُونَ سُلَّمًا لِلْمُرِيدِ فِي اتِّبَاعِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ
وَسَكَنَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ
الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسُنَنِ
الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ رَجُلَيْنِ
كَانَا جَالِسَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ قَرِيبٌ
مِنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنِّي رَأَيْتُ فِي
الْمَنَامِ كَأَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَرَأَيْتُ
النَّبِيِّينَ لَهُمْ نُورَانِ نُورَانِ ، وَلِأَتْبَاعِهِمْ نُورٌ نُورٌ
، قَالَ : وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
مِنْ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ إلَّا وَفِيهَا نُورَانِ ،
وَرَأَيْتُ أَتْبَاعَهُ لَهُمْ نُورَانِ نُورَانِ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ :
اتَّقِ اللَّهَ وَانْظُرْ مَاذَا تُحَدِّثُ بِهِ فَقَالَ : إنَّمَا هِيَ
رُؤْيَا رَأَيْتُهَا فَقَالَ كَعْبٌ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ
فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ لَكَمَا ذَكَرْتَ .
وَمِنْهُ أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُمِعَ بَعْدَ وَفَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ، وَهُوَ يَبْكِي :
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَقَدْ كَانَ لَكَ جِذْعٌ
تَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَثُرُوا اتَّخَذْت مِنْبَرًا
لِتُسْمِعَهُمْ فَحَنَّ الْجِذْعُ لِفِرَاقِكَ حَتَّى جَعَلْتَ يَدَكَ
عَلَيْهِ فَسَكَنَ فَأُمَّتُكَ أَوْلَى بِالْحَنِينِ عَلَيْكَ حِينَ
فَارَقْتَهُمْ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ
بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ رَبِّكَ أَنْ جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ
فَقَالَ - تَعَالَى - { : مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
} ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ
فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَكَ فِي
أَوَّلِهِمْ فَقَالَ -
تَعَالَى - { : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنَّ أَهْلَ
النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ وَهُمْ بَيْنَ
أَطْبَاقِهَا يُعَذَّبُونَ { يَقُولُونَ : يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا
اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ أَعْطَاهُ اللَّهُ حَجَرًا
تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ أَصَابِعِكَ
حِينَ نَبَعَ مِنْهَا الْمَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ ، بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد
أَعْطَاهُ اللَّهُ رِيحًا غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ فَمَا
ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الْبُرَاقِ حِينَ سَرَيْتَ عَلَيْهِ إلَى
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، ثُمَّ صَلَّيْتَ الصُّبْحَ مِنْ لَيْلَتِكَ
بِالْأَبْطَحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ .
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَعْطَاهُ اللَّهُ -
تَعَالَى - إحْيَاءَ الْمَوْتَى فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الشَّاةِ
الْمَسْمُومَةِ حِينَ كَلَّمَتْكَ ، وَهِيَ مَسْمُومَةٌ فَقَالَتْ : لَا
تَأْكُلْنِي فَإِنِّي مَسْمُومَةٌ .
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا
رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ { : رَبِّ لَا
تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } .
وَلَوْ
دَعَوْتَ مِثْلَهَا عَلَيْنَا لَهَلَكْنَا عَنْ آخِرِنَا فَلَقَدْ وُطِئَ
ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُكَ فَأَبَيْتَ أَنْ
تَقُولَ إلَّا خَيْرًا فَقُلْتَ { : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي
فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَقَدْ اتَّبَعَكَ فِي إحْدَاثِ سِنِّكَ وَقِصَرِ عُمُرِكَ مَا
لَمْ يَتْبَعْ نُوحًا فِي كِبَرِ سِنِّهِ وَطُولِ عُمْرِهِ فَلَقَدْ آمَنَ
بِكَ الْكَثِيرُ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ .
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ لَمْ تُجَالِسْ إلَّا كُفُؤًا لَكَ مَا جَالَسْتَنَا .
وَلَوْ لَمْ تَنْكِحْ إلَّا كُفْئًا لَكَ مَا
نَكَحَتْ إلَيْنَا ، وَلَوْ لَمْ تُؤَاكِلْ إلَّا كُفْئًا لَكَ مَا آكَلْتنَا .
وَلَبِسَتْ
الصُّوفَ وَرَكِبَتْ الْحِمَارَ وَوَضَعْتَ طَعَامَكَ بِالْأَرْضِ
وَلَعَقْتَ أَصَابِعَكَ تَوَاضُعًا مِنْكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ .
وَمِنْ
كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَنْتَعِلُ
الْمَخْصُوفَ وَلَا يَتَأَنَّفُ مِنْ مَلْبَسٍ يَلْبَسُ مَا وَجَدَهُ
مَرَّةً شَمْلَةً وَمَرَّةً بُرْدَةً حَبِرَةً وَمَرَّةً جُبَّةَ صُوفٍ .
وَكَانَ
يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةِ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا وَكَانَ
لِنَعْلَيْهِ قِبَالَانِ وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا وَاحِدًا
عُثْمَانُ وَكَانَ أَحَبُّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْحَبِرَةَ ، وَهِيَ
بُرُودُ الْيَمَنِ فِيهَا حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ .
وَكَانَ أَحَبُّ
اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْقَمِيصُ وَكَانَ إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ
بِاسْمِهِ عِمَامَةً كَانَ ، أَوْ قَمِيصًا وَرِدَاءً وَيَقُولُ
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا أَلْبَسْتَنِيهِ أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ
وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ
لَهُ .
وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثِّيَابُ الْخُضْرُ .
وَكَانَ يَلْبَسُ
الْكِسَاءَ الصُّوفَ وَحْدَهُ فَيُصَلِّي فِيهِ وَرُبَّمَا لَبِسَ
الْإِزَارَ الْوَاحِدَ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَعْقِدُ طَرَفَيْهِ
بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيُصَلِّي فِيهِ .
وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ
تَحْتَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُهَا دُونَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُ
الْعَمَائِمَ دُونَهَا وَيَلْبَسُ الْقَلَانِسَ ذَاتَ الْآذَانِ فِي
الْحَرْبِ وَرُبَّمَا نَزَعَ قَلَنْسُوَتَهُ وَجَعَلَهَا سُتْرَةً بَيْنَ
يَدَيْهِ وَصَلَّى إلَيْهَا ، وَرُبَّمَا مَشَى بِلَا قَلَنْسُوَةٍ وَلَا
عِمَامَةٍ وَلَا رِدَاءٍ رَاجِلًا يَعُودُ الْمَرْضَى كَذَلِكَ فِي
أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ يَعْتَمُّ وَيُسْدِلُ طَرَفَ عِمَامَتِهِ
بَيْنَ كَتِفَيْهِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِعِمَامَةٍ وَسَدَلَ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيَّ ، وَقَالَ { :
إنَّ الْعِمَامَةَ حَاجِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ }
وَكَانَ يَلْبَسُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ وَيَعْتَمُّ .
وَكَانَ
يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ فِي خِنْصَرِهِ الْأَيْمَنِ وَرُبَّمَا لَبِسَهُ فِي
الْأَيْسَرِ وَيَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ .
وَكَانَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الطِّيبَ وَيَكْرَهُ
الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ وَكَانَ يَقُولُ { : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى -
جَعَلَ لَذَّتِي فِي الدُّنْيَا لِلنِّسَاءِ وَالطِّيبِ ، وَقُرَّةَ
عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } وَكَانَ يَتَطَيَّبُ بِالْغَالِيَةِ
وَبِالْمِسْكِ حَتَّى يُرَى وَبِيصَهُ فِي مَفَارِقِهِ وَيَتَبَخَّرُ
بِالْعُودِ وَيَطْرَحُ فِيهِ الْكَافُورَ .
وَكَانَ يُعْرَفُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ بِطِيبِ رِيحِهِ .
وَكَانَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ ثَلَاثًا فِي
الْيُمْنَى وَاثْنَتَيْنِ فِي الْيُسْرَى وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ ، وَهُوَ
صَائِمٌ .
وَكَانَ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ .
وَكَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ .
وَكَانَ يَتَرَجَّلُ غِبًّا .
وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَرُبَّمَا نَظَرَ فِي الْمَاءِ فِي رَكْوَةٍ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَسَوَّى جُمَّتَهُ .
وَكَانَ
لَا تُفَارِقُهُ قَارُورَةُ الدُّهْنِ فِي سَفَرِهِ ، وَالْمُكْحُلَةُ
وَالْمِرْآةُ وَالْمُشْطُ ، وَالْمِقْرَاضُ وَالسِّوَاكُ ، وَالْخُيُوطُ ،
وَالْإِبْرَةُ فَيَخِيطُ ثِيَابَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ .
وَكَانَ
يَسْتَاكُ بِالْأَرَاكِ وَكَانَ إذَا قَامَ مِنْ النَّوْمِ يَشُوصُ فَاهُ
بِالسِّوَاكِ وَيَسْتَاكُ فِي اللَّيْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ
النَّوْمِ وَبَعْدَهُ عِنْدَ الْقِيَامِ ، وَلِوِرْدِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ
لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَاحْتَجَمَ
وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَكَّةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ .
وَكَانَ
يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وَتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا
حَقًّا .
دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أُمِّ
سُلَيْمٍ ، وَقَدْ مَاتَ
نَغْرُ ابْنِهَا مِنْ بَنِي أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا
عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ، وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ : أَحْمِلُكِ عَلَى
وَلَدِ النَّاقَةِ وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ زَوْجِي مَرِيضٌ فَقَالَ لَعَلَّ زَوْجَكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ
بَيَاضٌ فَرَجَعَتْ الْمَرْأَةُ وَفَتَحَتْ عَيْنَيْ زَوْجِهَا لِتَنْظُرَ
إلَيْهِمَا فَقَالَ مَا لَكِ ؟ فَقَالَتْ : أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فِي عَيْنَيْكَ بَيَاضًا فَقَالَ
وَيْحَكِ وَهَلْ أَحَدٌ إلَّا وَفِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ .
{ وَجَاءَتْ
أُخْرَى فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي
الْجَنَّةَ فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلَانٍ إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا
عَجُوزٌ فَوَلَّتْ الْمَرْأَةُ ، وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا ، وَهِيَ
عَجُوزٌ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ { إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ
إنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا } } .
وَقَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَابَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمِي
سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي ، ثُمَّ ضَرَبَ كَتِفِي وَقَالَ : هَذِهِ
بِتِلْكَ .
{ وَجَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السُّوقِ
مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِ رَجُلٍ اسْمُهُ زَاهِرٌ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَمَا
كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ : مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ فَجَعَلَ
يَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيَقُولُ إذَنْ وَاَللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّكَ عِنْدَ رَبِّكَ
لَسْتَ كَاسِدًا } .
{ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسَيْنًا مَعَ صِبْيَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَقَدَّمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَ
الْقَوْمِ
وَطَفِقَ الْحُسَيْنُ يَفِرُّ هَارِبًا هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ
فَجَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ ، وَالْأُخْرَى فَوْقَ رَأْسِهِ
} .
وَكَانَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَى
عَائِشَةَ ، وَالْجَوَارِي يَلْعَبْنَ عِنْدَهَا فَإِذَا رَأَيْنَهُ
تَفَرَّقْنَ فَيُسِيرَهُنَّ إلَيْهَا .
وَقَالَ لَهَا يَوْمًا ، وَهِيَ
تَلْعَبُ بِلُعْبَتِهَا مَا هَذِهِ يَا عَائِشَةُ ؟ فَقَالَتْ : خَيْلُ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد فَضَحِكَ وَطَلَبَ الْبَابَ فَابْتَدَرَتْهُ
وَاعْتَنَقَتْهُ فَقَالَ : مَا لَكِ يَا حُمَيْرَاءُ فَقَالَتْ : بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي
مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى
رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لَا تُغَادِرُ
ذَنْبًا وَلَا تَكْسِبُ بَعْدَهَا خَطِيئَةً وَلَا إثْمًا .
ثُمَّ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَرِحْتِ يَا عَائِشَةُ
فَقَالَتْ : إي وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ : أَمَّا
وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا خَصَصْتُكِ بِهَا مِنْ بَيْنِ
أُمَّتِي ، وَإِنَّهَا لَصَلَاتِي لِأُمَّتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
فِيمَنْ مَضَى مِنْهُمْ ، وَمَنْ بَقِيَ ، وَمَنْ هُوَ آتٍ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ وَأَنَا أَدْعُو لَهُمْ ، وَالْمَلَائِكَةُ يُؤَمِّنُونَ
عَلَى دُعَائِي } .
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُكْرِمُ ضَيْفَهُ وَيَبْسُطُ رِدَاءَهُ لَهُ كَرَامَةً .
{
وَجَاءَتْهُ ظِئْرُهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ يَوْمًا فَبَسَطَ لَهَا
رِدَاءَهُ وَقَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّي وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ } .
وَكَانَ
أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَأَحْسَنَهُمْ بِشْرًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ
مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ لَا يَمْضِي لَهُ وَقْتٌ
فِي غَيْرِ عَمَلِ اللَّهِ ، أَوْ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ ، أَوْ
لِأَهْلِهِ ، أَوْ لِأُمَّتِهِ مِنْهُ وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ
إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَطِيعَةُ رَحِمٍ
فَيَكُونَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ .
وَكَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ
وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْدُمُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ وَيَقْطَعُ
اللَّحْمَ مَعَهُنَّ وَيَرْكَبُ الْفَرَسَ وَالْبَغْلَ وَالْحِمَارَ
وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ عَبْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَيَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ
بِطَرَفِ كُمِّهِ ، أَوْ بِطَرَفِ رِدَائِهِ .
وَكَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَصَا ، وَقَالَ { : التَّوَكُّؤُ عَلَى الْعَصَا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَرَعَى
الْغَنَمَ وَقَالَ { : مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا ، وَقَدْ رَعَاهَا وَعَقَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا جَاءَتْهُ
النُّبُوَّةُ } .
وَكَانَ لَا يَدَعُ الْعَقِيقَةَ عَنْ الْمَوْلُودِ
مِنْ أَهْلِهِ وَيَأْمُرُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ يَوْمَ السَّابِعِ وَأَنْ
يَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ
وَيَكْرَهُ الطِّيَرَةَ وَيَقُولُ : مَا مِنَّا إلَّا مَنْ يَجِدُ فِي
نَفْسِهِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ .
{ وَكَانَ
إذَا جَاءَهُ مَا يُحِبُّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
، وَإِذَا جَاءَهُ مَا يَكْرَهُ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ
حَالٍ } { ، وَإِذَا رُفِعَ الطَّعَامُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قَالَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَآوَانَا وَجَعَلَنَا
مُسْلِمِينَ } وَرُوِيَ فِيهِ { : الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا
طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرُ مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ
رَبَّنَا } { ، وَإِذَا عَطَسَ خَفَضَ صَوْتَهُ وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ ،
أَوْ بِثَوْبِهِ وَحَمِدَ اللَّهَ } .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ جُلُوسِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ .
وَإِذَا جَلَسَ فِي الْمَجْلِسِ احْتَبَى بِيَدَيْهِ .
وَكَانَ
يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ
وَيَسْتَغْفِرُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ وَكَانَ
يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ السَّحَرِ ، ثُمَّ
يُوتِرُ ثُمَّ يَأْتِي فِرَاشَهُ فَإِذَا سَمِعَ الْآذَانَ وَثَبَ
قَائِمًا فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَإِلَّا
تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ .
وَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَائِمًا وَرُبَّمَا صَلَّى قَاعِدًا .
قَالَتْ عَائِشَةُ لَمْ
يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرَ صَلَاتِهِ جَالِسًا .
وَكَانَ يُسْمَعُ لِجَوْفِهِ أَزِيزًا كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ .
وَكَانَ
يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ
شَهْرٍ وَعَاشُورَاءَ وَقَلَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَكْثَرُ
صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ ،
وَإِذَا نَامَ نَفَخَ وَلَا يَغُطُّ غَطِيطًا .
{ وَكَانَ إذَا رَأَى
فِي مَنَامِهِ مَا يَرُوعُهُ قَالَ : هُوَ اللَّهُ رَبِّي لَا شَرِيكَ
لَهُ } ، وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى تَحْتَ
خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَقَالَ { : رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ
عِبَادَكَ } .
وَكَانَ يَقُولُ { : اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ
وَأَحْيَا } ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ { : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } وَكَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ يُبَيِّنُ كَلَامَهُ حَتَّى
يَحْفَظَهُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ وَيُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا
لِتَعْقِلَ عَنْهُ .
وَيَخْزُنُ لِسَانَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي
غَيْرِ حَاجَةٍ وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَصْلًا لَا فُضُولًا
وَلَا تَقْصِيرًا وَكَانَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّعْرِ وَكَانَ
يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ : وَيَأْتِيَكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ
تُزَوِّدْ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُّ ضَحِكِهِ
التَّبَسُّمَ وَرُبَّمَا ضَحِكَ مِنْ شَيْءٍ مُعْجِبٍ حَتَّى تَبْدُوَ
نَوَاجِذُهُ مِنْ غَيْرِ قَهْقَهَةٍ .
{ وَمَا عَابَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ
يَشْتَهِيهِ تَرَكَهُ } وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَلَا عَلَى
خُوَانٍ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُ
الصَّدَقَةَ وَلَا يَأْنَفُ فِي مَأْكَلٍ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ إنْ وَجَدَ
تَمْرًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ وَجَدَ خُبْزًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ وَجَدَ
لَبَنًا اكْتَفَى بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { :
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
الدُّنْيَا وَلَا يَشْبَعُ بِخُبْزِ الشَّعِيرِ وَكَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ لَا تُوقَدُ فِي بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِهِ نَارٌ ، وَكَانَ قُوتُهُمْ التَّمْرَ وَالْمَاءَ وَكَانَ
يَعْصِبُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ } .
هَذَا وَقَدْ
آتَاهُ اللَّهُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا
وَاخْتَارَ الْآخِرَةَ وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْخُبْزَ بِالْخَلِّ ، وَقَالَ { : نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ }
وَأَكَلَ لَحْمَ الدَّجَاجِ وَكَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ وَيَأْكُلُهُ
وَيُعْجِبُهُ الذِّرَاعُ مِنْ الشَّاةِ وَقَالَ : إنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ
لَحْمُ الظَّهْرِ وَقَالَ { : كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ
فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ
يَعْنِي مَا بَقِيَ مِنْ الطَّعَامِ وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ
الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خُبْزَ الشَّعِيرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ هَذَا أَدَمُ هَذَا وَأَكَلَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ ،
وَالْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرَ بِالزُّبْدِ وَكَانَ يُحِبُّ
الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَشْرَبُ قَاعِدًا وَرُبَّمَا شَرِبَ قَائِمًا وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا ،
وَإِذَا فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهَا بَدَأَ
بِمَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشَرِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَبَنًا ، وَقَالَ { : مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ
اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا
مِنْهُ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ
شَيْءٌ يُجْزِي مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ } زَادَ
الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَكَانَ
أَحَلَمَ النَّاسِ وَأَعْدَلَ وَأَعَفَّ النَّاسِ لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ
قَطُّ
امْرَأَةً إلَّا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا أَوْ عِصْمَةِ نِكَاحِهَا ، أَوْ تَكُونُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ .
أَسْخَى
النَّاسِ لَا يَبِيتُ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ فَإِنْ فَضَلَ
وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيهِ وَفَاجَأَهُ اللَّيْلُ لَمْ يَأْوِ إلَى
مَنْزِلِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ .
لَا يَأْخُذُ
مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ إلَّا قُوتَ عَامِهِ فَقَطْ مِنْ أَيْسَرِ مَا
يَجِدُ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَيَضَعُ سَائِرَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ ، ثُمَّ
يَعُودُ عَلَى قُوتِ عَامِهِ فَيُؤْثِرُ مِنْهُ حَتَّى يَحْتَاجَ قَبْلَ
انْقِضَاءِ الْعَامِ .
أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً لَا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِي وَجْهِ أَحَدٍ .
يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ ، وَلَوْ أَنَّهَا جَرْعَةُ لَبَنٍ .
وَتَسْتَتْبِعُهُ الْأَمَةُ وَالْمِسْكِينُ فَيَتْبَعُهُمَا حَيْثُ دَعْوَاهُ .
لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَيَغْضَبُ لِرَبِّهِ .
مِنْدِيلُهُ بَاطِنُ قَدَمِهِ .
يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ .
أَشَدُّ النَّاسِ تَوَاضُعًا وَأَسْكَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ كِبْرٍ وَأَبْلَغُهُمْ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ .
لَا يَهُولُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا .
يُجَالِسُ
الْفُقَرَاءَ وَيُؤَاكِلُ الْمَسَاكِينَ وَيُكْرِمُ أَهْلَ الْفَضْلِ فِي
أَخْلَاقِهِمْ وَيَتَأَلَّفُ أَهْلَ الشَّرَفِ بِالْبِرِّ لَهُمْ .
يَصِلُ ذَوِي رَحِمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْثِرَهُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ لَا يَجْفُو عَلَى أَحَدٍ .
يَقْبَلُ مَعْذِرَةَ الْمُعْتَذِرِ .
يَخْرُجُ إلَى بَسَاتِينِ أَصْحَابِهِ لَا يُحَقِّرُ مِسْكِينًا لِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ .
وَلَا يَهَابُ مَلِكًا لِمُلْكِهِ .
يَدْعُو هَذَا وَهَذَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - دُعَاءً مُسْتَوِيًا .
وَقَدْ
جَمَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ السِّيرَةَ الْفَاضِلَةَ وَالسِّيَاسَةَ
التَّامَّةَ ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ نَشَأَ فِي
بِلَادِ الْجَهْلِ وَالصَّحَارَى فَعَلَّمَهُ اللَّهُ جَمِيعَ مَحَاسِنِ
الْأَخْلَاقِ وَالطُّرُقِ الْحَمِيدَةِ وَأَخْبَارَ الْأَوَّلِينَ ،
وَالْآخَرِينَ وَمَا فِيهِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ ،
وَالْغِبْطَةُ وَالْخَلَاصُ فِي الدُّنْيَا .
قَالَ الْبَاجِيُّ
رَحِمَهُ
اللَّهُ : وَذَكَرَ الْعُتْبِىُّ قَالَ { : كُنْتُ عِنْدَ حُجْرَةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ
فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ اللَّهَ -
تَعَالَى - يَقُولُ { : وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ
لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } .
وَقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَجِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّي ،
ثُمَّ أَنْشَأَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ : يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي
الْأَرْضِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ
الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ .
قَالَ الْعُتْبِيُّ :
فَغَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي : يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ
الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ } .
وَمِنْ
كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
يَأْخُذْ عَنِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ وَيُعَلِّمُ مَنْ
يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا فَقَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ
أَعْبَدَ النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى
النَّاسِ وَأَحْسِنْ إلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ
مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ
فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ } .
وَمِنْهُ عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ
وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ } وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا
وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ؟
قَالَ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ
مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي }
(
فَصْلٌ ) : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّبْعَةِ الَّذِينَ
يَدُورُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الدِّينِ ، وَنَرْجِعُ الْآنَ إلَى الْقِسْمِ
الثَّانِي ، وَهُوَ تَصَرُّفُ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ
وَمَعَايِشِهِمْ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ النِّيَّةِ
فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ ، وَمَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ ، وَهَذَا النَّوْعُ
كَثِيرٌ .
فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِمَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى ، وَالْآكَدُ فَالْآكَدُ .
فَأَوَّلُ
مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ :
غُسْلُ الْمَيِّتِ وَحَفْرُ الْقَبْرِ وَغَيْرُهُمَا وَمَا يُفْعَلُ فِي
ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا أَحْدَثُوهُ
فِيهِ إذْ إنَّهُ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَآكَدِهَا .
لَكِنْ نُقَدِّمُ أَوَّلًا ذِكْرَ حَالِ الْمُحْتَضَرِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْآدَابِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
قَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { : لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ }
وَوَرَدَ أَيْضًا { : مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
دَخَلَ الْجَنَّةَ } ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَبَهُ حَائِضٌ وَلَا
جُنُبٌ وَلَا صَغِيرٌ يَعْبَثُ لَا يَرْجِعُ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ
يُنْهَى عَنْهُ .
وَيَنْبَغِي أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا
يَكُونَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثَوْبُهُ طَاهِرًا
وَبَدَنُهُ طَاهِرًا ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ يَكُونُ كَذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحْتَضَرِ إذْ ذَاكَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الطِّيبِ إكْرَامًا لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ يَحْضُرَهُ إذْ ذَاكَ أَحْسَنُ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ هَدْيًا
وَخُلُقًا وَدِينًا وَسَمْتًا وَوَقَارًا فَيُلَقِّنُهُ كَلِمَتَيْ
التَّوْحِيدِ بِرِفْقٍ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَهْرًا ، ثُمَّ يَسْكُتُ سَاعَةً ،
ثُمَّ يُعِيدُهَا ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يُقْضَى .
وَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ : قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَوْ
يُلِحَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ :
قُلْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ الْمُحْتَضَرُ إذْ
ذَاكَ ، وَقَدْ يَكُونُ أَخَذَتْهُ غَشْيَةٌ فَيَتَوَهَّمُ فَيَكُونُ
سَبَبًا لِمَوْتِهِ ، وَإِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ بِلَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وُصِفَ قَبْلُ
سَلِمَ مِنْ هَذَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ
وَلِلْحَاضِرِينَ لَكِنْ بِخَفْضِ صَوْتٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ ؛
لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَحْضُرُونَ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ
الدَّاعِي .
وَهَذَا الْمَوْطِنُ مِنْ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُرْجَى
فِيهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
الْقِرَاءَةَ عِنْدَهُ بِسُورَةِ يس وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَعَلَّلَ
ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ ، وَأَجَازَهُ ابْنُ
حَبِيبٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مِنْ الْوَقَارِ وَالتُّؤَدَةِ ،
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَا فِي تَوْجِيهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ ، وَكَرِهَ أَنْ
يُعْمَلَ ذَلِكَ اسْتِنَانًا .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُسْتَحَبُّ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي كَانَ يُعَظِّمُهَا فِي حَيَاتِهِ
، فَإِذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فَلَا يُفْعَلُ
ذَلِكَ بِهِ حَتَّى يُعَايِنَ ، وَهُوَ أَنْ يَشْخَصَ بِبَصَرِهِ ؛
لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ قَدْ يُوهِمُهُ
فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِهِ أَوْ لِلْغَشَيَانِ عَلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي
لِمَنْ يُلَقِّنُهُ أَنْ لَا يَضْجَرَ وَلَا يَقْلَقَ إنْ طَالَ الْأَمْرُ
عَلَيْهِ وَوَجَدَ مَنْ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْخُذَ رَاحَةً
لِنَفْسِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ
وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، وَلَا يُلَقِّنُونَهُ بِجَمَاعَتِهِمْ ،
فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْرِجُهُ وَيُقْلِقُهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا
يَضْجَرَ أَيْضًا مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الْمُحْتَضَرِ لِمَا يُلْقِيهِ
إلَيْهِ ، وَقَدْ يُرَى مِنْ بَعْضِهِمْ عَدَمُ الْقَبُولِ لِذَلِكَ ؛
لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ .
أَلَا تَرَى
إلَى مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ إذَا اُحْتُضِرَ يَأْتِيهِ
شَيْطَانَانِ : أَحَدُهُمَا عَلَى صِفَةِ أَبِيهِ ، وَالْآخَرُ
عَلَى
صِفَةِ أُمِّهِ ، فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي هُوَ عَنْ يَمِينِهِ عَلَى
صِفَةِ أَبِيهِ : يَا بُنَيَّ أَنَا قَدْ سَبَقْتُك إلَى هَذَا
الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ عَرَفْتُ الْحَقَّ فِيهِ وَالدِّينَ الْأَقْوَمَ
الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ ، وَهُوَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فَمُتْ
عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ ،
وَيَقُولُ الَّذِي عَلَى صِفَةِ أُمِّهِ : يَا بُنَيَّ قَدْ كَانَ بَطْنِي
لَك وِعَاءً وَثَدْيِي لَك سِقَاءً وَحِجْرِي لَك وِطَاءً ، وَأَنَا
أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ، وَقَدْ سَبَقْتُك إلَى هَذَا
الْمَوْطِنِ وَعَرَفْتُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ فَمُتْ عَلَى دِينِ
الْيَهُودِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ
أَنَّ الْأَدْيَانَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ ، وَالْأَمْرُ أَمْرٌ
خَطِرٌ عَظِيمٌ فِي الْخَطَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرُوا لَهُ مِنْ
الدُّعَاءِ وَأَنْ يَجْتَنِبُوا اللَّغَطَ وَالْقِيلَ وَالْقَالَ ، وَقَدْ
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّ بَعْضَ
الْمَغَارِبَةِ جَاءُوا إلَى الْبِلَادِ بِنِيَّةِ الْحِجَازِ فَمَرِضَ
بَعْضُهُمْ وَاحْتُضِرَ فَجَلَسَ إلَيْهِ رُفَقَاؤُهُ يُلَقِّنُونَهُ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَكَانَ إذَا قَالَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ :
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَعَّرَ وَجْهَهُ
وَرَدَّهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَسَارِ ، وَإِذَا قَالَ مَنْ عَلَى
يَسَارِهِ ذَلِكَ مَعَّرَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ إلَى النَّاحِيَةِ
الْأُخْرَى ، ثُمَّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ
عَلَيْهِمْ النَّوْمُ فَنَامُوا ، وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ يُلَقِّنُهُ
، فَإِذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ دَار إلَيْهِ ،
وَإِذَا حَوَّلَهُ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ دَارَ إلَيْهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ
، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَيْضًا
كَأَصْحَابِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي النَّوْمِ إذْ رَأَى النَّاسَ
يَتَجَارَوْنَ قَالَ : فَقُلْت : فَمَا بَالُ النَّاسِ ؟ فَقَالُوا : هُمْ
مَاشُونَ إلَى فُلَانٍ " اسْمِ الْمُحْتَضَرِ " يُهَنِّؤُنَهُ بِالْمَوْتِ
عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُلْت : هَذَا صَاحِبِي فَأَسْرَعْت مَعَهُمْ
لِأُهَنِّيَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُهَنِّيهِ
فَجِئْنَا إلَى بَابٍ
كَبِيرٍ فَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، فَدَخَلْت مَعَهُمْ ،
فَإِذَا بِصَاحِبِي وَاقِفٌ ، وَالنَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْمَوْتِ عَلَى
الْإِسْلَامِ فَزَاحَمْت مَعَهُمْ حَتَّى اجْتَمَعْت بِهِ فَهَنَّيْتُهُ
كَمَا فَعَلَ غَيْرِي ، فَأَمْسَكَ بِيَدِي وَقَالَ : آهٍ يَا فُلَانُ مَا
هَذَا الْحَالُ الَّذِي فَعَلْتُمْ مَعِي تَرَكْتُمُونِي وَحِيدًا
لِلشَّيَاطِينِ يَتَسَلَّمُونِي ، فَقُلْت لَهُ : كُنَّا نُلَقِّنُك
وَأَنْتَ تُمَعِّرُ وَجْهَك وَتُعْرِضُ عَنَّا يَمِينًا وَيَسَارًا
فَقَالَ لِي : مَا عَنْكُمْ كُنْت أُعْرِضُ ، وَإِنَّمَا كُنْت أُعْرِضُ
عَنْ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمَا أَتَيَانِي عَلَى صِفَةِ أَبِي مِنْ
جِهَةِ الْيَمِينِ وَعَلَى صِفَةِ أُمِّي مِنْ جِهَةِ الْيَسَارِ ؛
فَهَذَا يَدْعُونِي إلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَهَذِهِ تَدْعُونِي
إلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ ، وَكَانَ كَلَامُكُمْ يُؤْنِسُنِي
وَأَسْتَوْثِقُ بِهِ ، فَلَمَّا نِمْتُمْ تَسَلَّمَانِي لَكِنْ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَعَانَنِي ، فَإِنَّنِي لَمَّا أَنْ بَقِيت وَحِيدًا
نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ فَهَزَّهَا
عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ لَهُمَا : إلَيْكُمَا عَنْ وَلِيِّ اللَّهِ
فَوَلَّيَا هَارِبَيْنِ ، ثُمَّ لَقَّنَنِي الشَّهَادَةَ فَقُلْتهَا
فَمُتُّ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَهَؤُلَاءِ يُهَنُّونَنِي بِمَا أَنْعَمَ
اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَاسْتَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ
فَقَامَ إلَى صَاحِبِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ
حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
لَمَّا جَاءَ الْمَوْتُ وَلُقِّنَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ : لَا .
فَرُئِيَ
بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ : كُنَّا نَقُولُ لَك : لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنْتَ تَقُولُ : لَا ، فَقَالَ : كَانَ إبْلِيسُ
تَعَرَّضَ لِي وَقَالَ لِي : سَلِمْت مِنِّي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت لَهُ :
مَا دَامَتْ الرُّوحُ فِي الْحُلْقُومِ لَا أَسْلَمُ مِنْك ، وَكَانَ
ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ لَا لَكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ
فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ
بَعَثَ اللَّهُ
إلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ : اُنْظُرْ مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ ،
فَإِنْ هُوَ إذَا جَاءُوهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ رَفَعَا
ذَلِكَ إلَى اللَّهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ لِعَبْدِي عَلَيَّ إنْ
تَوَفَّيْته أُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ، وَإِنْ أَنَا شَفَيْته أَنْ
أُبْدِلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ
وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ
أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { لَا تُصِيبُ الْعَبْدَ نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا
إلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ قَالَ وَقَرَأَ } {
: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }
الْآيَةَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ أَحَدًا يَبْكِي حَوْلَهُ
يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ ، وَمَنْ كَانَ بَاكِيًا مِنْ جَمَاعَتِهِ
فَلْيَعْتَزِلْ عَنْهُ بِمَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُهُ الْمُحْتَضَرُ وَلَا
بَأْسَ بِالْبُكَاءِ بِالدُّمُوعِ حِينَئِذٍ ، وَحُسْنُ التَّعَزِّي
وَالتَّصَبُّرِ أَوْلَى وَأَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ .
وَلْيَحْذَرْ
مِنْ السَّخَطِ وَالضَّجَرِ وَلْيَكُنْ مُوقِنًا بِالْعِوَضِ مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى إذْ إنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ حَلٌّ وَلَا رَبْطٌ
وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ الْمَوْلَى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَاَلَّذِي أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ يُقِيمُهُ فِي
غَيْرِهِ أَوْ لَا يُحْوِجُهُ إلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَثِلَ
السُّنَّةَ ، وَيَتَعَلَّقَ بِهَا حِينَ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِهِ ،
فَيَقُولُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ : { مَا مِنْ امْرِئٍ
تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
إنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ يَقُولُ :
اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاعْقُبْنِي خَيْرًا مِنْهَا إلَّا
أَبْدَلَهُ خَيْرًا مِنْهَا } قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَلَمَّا أَنْ
مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ جَعَلْت أَقُولُهَا وَقُلْت : وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ
أَبِي سَلَمَةَ ، ثُمَّ قُلْت : أَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فَأَقُولُهَا
فَقُلْتهَا ؛