كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
الْعَبْدَرِيُّ
وَأَمَّا مَوْضِعُ الدِّيوَانِ فَلَا يَخْلُو أَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ غَلْقُهُ وَلَا تَحْجِيرُهُ وَلَا جُلُوسُ أَهْلِ الدِّيوَانِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ ، إذْ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْمَسْجِدَ كَمَا تَقَدَّمَ .
(
فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ
الزَّخْرَفَةِ فِي الْمِحْرَابِ وَغَيْرِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
الْبِدَعِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ .
وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَذْكُرُ مَسْجِدَ
الْمَدِينَةِ وَمَا عُمِلَ مِنْ التَّزْوِيقِ فِي قِبْلَتِهِ فَقَالَ :
كَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ حِينَ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ
بِالنَّظَرِ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمَسَاجِدِ هَلْ
يُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَتِهَا بِالصَّبْغِ مِثْلَ آيَةِ
الْكُرْسِيِّ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ
وَنَحْوِهَا فَقَالَ : أَكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ
شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّزْوِيقِ وَقَالَ : إنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ
الْمُصَلِّيَ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا
أَحْدَثُوهُ مِنْ إلْصَاقِ الْعُمُدِ فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ وَفِي
الْأَعْمِدَةِ ، أَوْ مَا يُلْصِقُونَهُ أَوْ يَكْتُبُونَهُ فِي
الْجُدْرَانِ وَالْأَعْمِدَةِ .
وَكَذَلِكَ يُغَيِّرُ مَا
يُعَلِّقُونَهُ مِنْ خِرَقِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْمِحْرَابِ
وَغَيْرِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَأَمَّا التَّخْلِيقُ
بِالزَّعْفَرَانِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَهُوَ جَائِزٌ إذْ إنَّهُ مِنْ
الطِّيبِ لَكِنْ قَدْ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الصَّدَقَةَ
بِثَمَنِ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَيَجُوزُ تَخْلِيقُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا
يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا مَنْ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ حَذَرًا
مِنْ أَنْ تَدْخُلَهُ حَائِضٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، أَوْ امْرَأَةٌ طَاهِرَةٌ
تُخَالِطُ النَّاسَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّاهُمْ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ
ذَلِكَ .
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا
أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّأْزِيرِ فِي جُدَرَانِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ
مِنْ بَابِ الزَّخْرَفَةِ أَيْضًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ
إلَّا بِمَسَامِيرَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ أَوْتَادٍ
وَغَيْرِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ إلَّا لِضَرُورَةٍ
شَرْعِيَّةٍ مِثْلِ أَنْ يَكُونَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ فِيهِ سِبَاخٌ أَوْ
شَيْءٌ يُلَوِّثُ ثِيَابَ الْمُصَلِّينَ فَيُغْتَفَرُ ذَلِكَ لِأَجْلِ
هَذِهِ الضَّرُورَةِ .
وَمَنْعُ دَقِّ الْمَسَامِيرِ وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ شَائِعٌ فِي كُلِّ وَقْفٍ .
وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذَا دَخَلْتَ
لِأَحَدِهِمْ بَيْتَهُ فِي الْمَدْرَسَةِ تَجِدُ كُلَّ مَا لَهُ مِنْ
كُتُبٍ وَأَثَاثٍ بِالْأَرْضِ خَشْيَةً مِمَّا ذُكِرَ مِنْ تَسْمِيرِ
مَسَامِيرَ يَضَعُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ عِمَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا .
وَكَذَلِكَ
يَمْنَعُ مِمَّا ذُكِرَ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي مَوْضِعٍ وُقِفَ
بِكِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ ،
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ الْبَيْتُ
مِلْكًا لِغَيْرِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهِ مِنْ
الْمَالِكِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ .
( فَصْلٌ )
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّرَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَسَامِيرُ
الْكِبَارُ وَالْأَوْتَادُ ، وَيَقْتَطِعُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوَاضِعَ
يَمْنَعُونَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَيَسْكُنُونَ فِيهَا دَائِمًا ،
وَيَنَامُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ ، وَقَدْ يَجْنُبُ أَحَدُهُمْ لَيْلًا
فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ
وَهُوَ جُنُبٌ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ، وَلَا نَكِيرَ فِي ذَلِكَ وَلَا مَنْ
يُغَيِّرُ بَعْضَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَفَاعِلُ
مَا ذُكِرَ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ مُقِيمٌ عَلَيْهَا ، وَلَوْ تَابَ
بِقَلْبِهِ وَلَفْظِهِ حَتَّى يُفَارِقَهَا ، فَكَيْفَ يُزَارُ أَوْ
يُتَبَرَّكُ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْجُرْحَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِمَوَاضِعِ
الْمُصَلِّينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَقْصُورَةِ أَغْلَقَهَا عَلَى مَتَاعِهِ وَأَخَذَ الْمِفْتَاحَ مَعَهُ حَتَّى كَأَنَّهَا بَيْتُ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ فِي الْمَبِيتِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْغُرَبَاءِ إذَا
اُضْطُرُّوا إلَيْهِ فَذَهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ
يَجُوزُ فِي الْبَادِيَةِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَاضِرَةِ ، وَأَعْنِي
بِالْبَادِيَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ يَأْوِي إلَيْهِ ، وَأَمَّا
بِلَادُ الرِّيفِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا مَوَاضِعُ غَيْرُ الْمَسْجِدِ
فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إلَى الْمَبِيتِ فِي الْمَسْجِدِ .
(
فَصْلٌ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَمْتَلِئُ
بِالنَّاسِ حَتَّى يَحْتَاجُوا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَحْدَثُوا
فِيهَا مَا أَحْدَثُوا .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الْمَهْجُورَةِ لَا يَجُوزُ سُكْنَاهَا
وَلَا إجَارَتُهَا وَلَا احْتِكَارُهَا ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
(
فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي سُطُوحِ
الْمَسْجِدِ مِنْ الْبُيُوتِ ، وَذَلِكَ غَصْبٌ لِمَوَاضِع الْمُسْلِمِينَ
فِي الْمَسْجِدِ وَاحْتِكَارٌ لَهَا وَإِحْدَاثٌ فِي الْوَقْفِ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ الْمُقِيمِينَ فِي الْمَسْجِدِ وَغَصْبِهِمْ
لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَكَنُوهَا ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ
تِلْكَ الْبُيُوتَ الَّتِي فِي السُّطُوحِ مُؤَبَّدَةً لِلسُّكْنَى ،
بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَفِيهِ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ
الْمَفَاسِدِ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ يَكُونُ جُنُبًا
كَمَا سَبَقَ فِي حَقِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ
الْقُضَاةِ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى وَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ جَاءَ إلَى سُطُوحِ الْجَامِعِ بِمِصْرَ فِي
جَمَاعَةٍ وَهَدَمَ الْبُيُوتَ الْمُحْدَثَةَ عَنْ آخِرِهَا ، وَلَمْ
يَسْأَلْ لِمَنْ هَذَا الْبَيْتُ وَلَا لِمَنْ هَذِهِ الثِّيَابُ ، بَلْ
أَخَذَ مَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَغَيَّرَهُ وَرَمَاهُ فِي صَحْنِ
الْجَامِعِ ، وَمَشَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ
طَوِيلَةً ، ثُمَّ أَحْدَثُوهَا أَيْضًا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَنْ
يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ .
وَصَلَاةُ
الْجُمُعَةِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ سُطُوحِ الْمَسْجِدِ لَا تَصِحُّ
عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ
الْجُمُعَةِ الْجَامِعَ الْمَسْقُوفَ ، وَمِنْ صِفَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ
يُدْخَلَ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ فِيهِ سَوَاءً
، وَسُطُوحُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَى
بَعْضِ النَّاسِ ، وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِيمَا هُوَ كَذَلِكَ كَمَا
لَا تَصِحُّ فِي بَيْتِ الْقَنَادِيلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّحْجِيرِ
عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا
أَنَّ السُّطُوحَ لَيْسَتْ بِمَحْجُورَةٍ عَلَى أَحَدٍ فَالْحُكْمُ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْغَالِبِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا
مَحْجُورَةٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ .
( فَصْلٌ ) وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْوُضُوءَ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَمَنْ كَانَ
سَاكِنًا فِي سُطُوحِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ
كَمَا يُشَاهَدُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ فِيهِ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ لَا شَكَّ
فِيهِ كَمَا لَا يَتَوَضَّأُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ
سَطْحِهِ كَحُرْمَتِهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْخَطِيبِ إذَا أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ
خُطْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ ؟ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : أَنَّهُ
لَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي صَحْنَهِ وُضُوءَ طَاهِرٍ .
وَكَرِهَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَسْتٍ وَمَنْ
يَتَوَضَّأُ فِي السُّطُوحِ أَوْ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي فِيهَا
فَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ فِيمَا هُوَ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ
كُلُّهُ مَمْنُوعٌ .
وَقَدْ تَرَتَّبَتْ عَلَى بِنَاءِ الْبُيُوتِ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مَفَاسِدُ جُمْلَةً .
فَمِنْهَا
: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ يَعْتَكِفُ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي
فَوْقَ سُطُوحِ الْمَسْجِدِ تَجِدُهُمْ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ
آخِرَ شَعْبَانَ يَتَقَدَّمُهُ الْفُرُشُ وَالْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَمَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَيْتِهِ مِمَّا يُمْنَعُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ
.
وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ
بِوِسَادَةٍ فِي الْمَسْجِدِ يَتَّكِئُ عَلَيْهَا أَوْ بِفَرْوَةٍ
يَجْلِسُ عَلَيْهَا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : تُشَبِّهُ الْمَسَاجِدَ
بِالْبُيُوتِ .
( فَصْلٌ ) وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْمَرَاوِحَ إذْ إنَّ اتِّخَاذَهَا فِي الْمَسْجِدِ
بِدْعَةٌ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْيَوْمَ
زِيَارَةُ الْمُعْتَكِفِ فِي مُعْتَكَفِهِ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ فِي
الْمَسْجِدِ وَاللَّغَطُ فِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَأْكُلُ
الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ .
وَقَدْ كَانَ
السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إذَا اعْتَكَفُوا لَا يَأْتِيهِمْ
أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ اعْتِكَافِهِمْ إذْ إنَّ حَالَ
الْمُعْتَكِفِ يَدُورُ بَيْنَ صَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ وَفِكْرٍ وَذِكْرٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهُ كَالصَّلَاةِ عَلَى
الْجِنَازَةِ وَمُدَارَسَةِ الْعِلْمِ إنْ كَانَ يَمْشِي إلَيْهِ .
وَأَمَّا إنْ غَشِيَهُ فِي مَجْلِسِهِ وَهُوَ يَسْمَعُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
هَذَا
عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا النَّوْمُ الْخَفِيفُ
فَهُوَ مُسْتَثْنًى ؛ لِضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي
أَنْ يُمْنَعَ مَا أَحْدَثُوهُ فِيمَا يَأْتُونَ بِهِ لِفُطُورِهِمْ ،
فَتَجِدُ الرَّوَائِحَ الَّتِي لِأَطْعِمَتِهِمْ يَشُمُّهَا الْفُقَرَاءُ
وَالْمَسَاكِينُ حِينَ يُؤْتُونَ بِهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَالنَّاسُ
إذْ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ، فَتَبْقَى
نُفُوسُهُمْ إذْ ذَاكَ مُشْتَهِيَةً لِذَلِكَ الطَّعَامِ وَأَعْيُنُهُمْ
فِيهِ ، سِيَّمَا إذَا دَخَلُوا بِهِ مِنْ بَابِ السُّطُوحِ الَّذِي فِي
الْقِبْلَةِ ؛ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ ،
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْفُقَرَاءِ
الْمُحْتَاجِينَ كَثِيرٌ وَيَتَأَذَّوْنَ بِتِلْكَ الرَّوَائِحِ كَثِيرًا
وَيُخَافُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا ،
وَالْمُعْتَكِفُ إنَّمَا دَخَلَ لِاعْتِكَافِهِ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ
وَهَذَا ضِدُّهُ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ .
فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ
الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
، ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى بَقِيَّةِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي بَعْضِ
الْجَوَامِعِ ، فَمِنْ ذَلِكَ السُّبْحَةُ الَّتِي أَحْدَثُوهَا
وَعَمِلُوا لَهَا صُنْدُوقًا تَكُونُ فِيهِ وَجَامِكِيَّةٌ لِقَيِّمِهَا
وَحَامِلِهَا وَالذَّاكِرِينَ عَلَيْهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ
لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَالِهِمْ فِي الذِّكْرِ كَيْفَ كَانَ .
ثُمَّ
إنَّ بَعْضَ مَنْ اقْتَدَى بِمِنْ أَحْدَثَهَا زَادَ فِيهَا حَدَثًا آخَرَ
وَهُوَ أَنْ جَعَلَ لَهَا شَيْخًا يُعْرَفُ بِشَيْخِ السُّبْحَةِ
وَخَادِمًا يُعْرَفُ بِخَادِمِ السُّبْحَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهِيَ
بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ فَيَنْبَغِي لِإِمَامِ
الْمَسْجِدِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى إزَالَةِ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَى سَائِرِ
الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ آكَدُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ
مِنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
( فَصْلٌ ) وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ لِقَاصٍّ وَلَا
لِسَمَاعِ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ الَّتِي تُقْرَأُ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْخٌ
يُبَيِّنُ مَا يُشْكِلُ عَلَى السَّامِعِ مِنْهَا وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
بَيَانُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ .
وَهَذَا فِي حَقِّ
إمَامِ الْمَسْجِدِ آكَدُ إذْ إنَّهُ رَاعٍ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ،
فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا
يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ
إلَيْهِ النَّاسُ لِسَمَاعِ الْكُتُبِ فِيهِ ثُمَّ تَأْتِي النِّسَاءُ
أَيْضًا لِسَمَاعِهَا فَيَقْعُدُ الرِّجَالُ بِمَكَانٍ وَالنِّسَاءُ
بِمُقَابَلَتِهِمْ ، سِيَّمَا وَقَدْ حَدَثَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ
بَعْضَ النِّسَاءِ يَأْخُذُهُنَّ الْحَالُ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ فَتَقُومُ
الْمَرْأَةُ وَتَقْعُدُ وَتَصِيحُ بِصَوْتٍ نَدِيٍّ وَتَظْهَرُ مِنْهَا
عَوْرَاتٌ ، لَوْ كَانَتْ فِي بَيْتِهَا لَمُنِعَتْ ، فَكَيْفَ بِهَا فِي
الْجَامِعِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ فَنَشَأَ عَنْ هَذَا مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ
وَتَشْوِيشَاتٌ لِقُلُوبِ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ فَجَاءُوا لِيَرْبَحُوا
فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالنَّقْصِ ، أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ
بِمَنِّهِ .
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِعْلَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ ، وَمَوْضِعُ الْمُصَافَحَةِ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ لَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ فَحَيْثُ وَضَعَهَا الشَّرْعُ نَضَعُهَا فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيُزْجَرُ فَاعِلَهُ لِمَا أَتَى مِنْ خِلَاف السُّنَّةِ
( فَصْلٌ )
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَدْخُلُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ إلَى
الْمَسْجِدِ حِينَ إتْيَانِهِمْ بِالْمَيِّتِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ
فِيهِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُكَبِّرِينَ
وَالْمُرِيدِينَ ، إذْ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ فِي غَيْرِ
الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُشَوِّشُ
عَلَى الْمُتَنَفِّلِ وَالتَّالِي وَالذَّاكِرِ الْمُتَفَكِّرِ ،
وَالْمَسْجِدُ إنَّمَا بُنِيَ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَقَدْ
اُسْتُفْتِيَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ :
هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَقْرَؤُهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ عَلَى
الْجَنَائِزِ بِدِمَشْقَ بِالتَّمْطِيطِ الْفَاحِشِ وَالتَّغَنِّي
الزَّائِدِ وَإِدْخَالِ حُرُوفٍ زَائِدَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْهُمْ ، هَلْ هُوَ مَذْمُومٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ بِمَا هَذَا لَفْظُهُ : هَذَا مُنْكَرٌ ظَاهِرٌ مَذْمُومٌ
فَاحِشٌ ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ نَقَلَ
الْإِجْمَاعَ فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى وَلِيِّ
الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ زَجْرُهُمْ عَنْهُ وَتَعْزِيرُهُمْ
وَاسْتِتَابَتُهُمْ ، وَيَجِبُ إنْكَارُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ
تَمَكَّنَ مِنْ إنْكَارِهِ انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَيَتَعَيَّنُ مَنْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى
الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ تُمْنَعُ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ كَانَتْ سَالِمَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : { مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ
لَهُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ ، وَهَذَا الَّذِي خَرَّجَهُ
أَبُو دَاوُد يُقَوِّيهِ عَمَلُ السَّلَفِ الْمُتَّصِلُ ، بَلْ لَوْ
انْفَرَدَ الْعَمَلُ لَكَانَ كَافِيًا فِي مَنْعِهِ فِي الْمَسْجِدِ ،
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَلَى
الْمَيِّتِ وَدَفْنَهُ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ
وَصَلَاتِهِ إنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا
فَيَنْتَظِرُونَ بِهِ انْقِضَاءَ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَكُونُ ،
وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ أَنَّ { مِنْ
إكْرَامِ الْمَيِّتِ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ } .
وَقَدْ
كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ كَانَ يُحَافِظُ
عَلَى السُّنَّةِ إذَا جَاءُوا بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ ، صَلَّى
عَلَيْهِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، وَيَأْمُرُ أَهْلَهُ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى
دَفْنِهِ وَيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُمْ إنْ لَمْ
يُدْرِكُوهَا بَعْدَ دَفْنِهِ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنْ نَفْسِهِ
عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى السُّنَّةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْبِدْعَةِ ،
فَلَوْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مَاشِينَ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ هَذَا
السَّيِّدُ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ ، وَهِيَ
أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا سَكَتَ لَهُ عَلَيْهِ فَتَزَايَدَ الْأَمْرُ
بِذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
ثُمَّ إنَّ
مَعَ مَا ذُكِرَ تَرَتَّبَتْ مَفَاسِدُ عَلَى كَوْنِ الْمَيِّتِ يُصَلَّى
عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى
بَعْضِهِمْ يَأْتُونَ بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ فِي زِحَامٍ مِنْ
الْوَقْتِ فَيَجِدُونَ الْمَسْجِدَ قَدْ امْتَلَأَ بِالنَّاسِ ،
فَيَدْخُلُ الْحَامِلُونَ لَهُ وَهُمْ حُفَاةٌ قَدْ مَشَوْا
بِأَقْدَامِهِمْ عَلَى النَّجَاسَاتِ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الطُّرُقَاتِ
فِي هَذَا الْوَقْتِ ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ عَلَى ذَلِكَ
الْحَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْسَحُوا أَقْدَامَهُمْ أَوْ يَحُكُّوهَا
بِالْأَرْضِ فَيَتَخَطَّوْنَ رِقَابَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ
وَيَمْشُونَ بِهَا عَلَى ثِيَابِهِمْ ، وَقَدْ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ
الْمَسْجِدِ وَثِيَابُ مَنْ مَشَوْا عَلَيْهِ بِذَلِكَ .
وَهَذَا
الْمَوْضِعُ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي فَاعِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ
مُؤْذٍ ، { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي تَخَطَّى
رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ } هَذَا
وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ يَكُونُ قَدَمُهُ فِي حُجْزَتِهِ ، فَإِذَا تَحَرَّكَ تَحَرَّكَ
الْقَدَمُ بِحَرَكَتِهِ وَيَنْحَكُّ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ ، فَإِنْ كَانَتْ
فِيهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ الْغَالِبُ
وَقَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي النَّاسُ عَلَيْهَا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِذَلِكَ .
الْوَجْهُ
الثَّالِثُ : أَنَّ مَوْضِعَ سَرِيرِ الْمَيِّتِ يَمْسِكُ مَوَاضِعَ
لِلْمُصَلِّينَ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ وَقْفٌ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِ كُلِّيَّةً إلَّا فِي
وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ سِيَّمَا إذَا كَانَتْ صَلَاةَ
الْجُمُعَةِ ، فَيَتَأَكَّدُ تَعْيِينُ الْغَصْبِ فِي ذَلِكَ .
الْوَجْهُ
الرَّابِعُ : أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِ الْمَوْتَى أَنْ يَبْقَى
فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ ، وَالْمَيِّتُ لَا يَمْسِكُ ذَلِكَ
وَقَدْ تَخْرُجُ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّجَاسَةُ فِي الْمَسْجِدِ
مَمْنُوعَةٌ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : رَفْعُ صَوْتِ الْحَامِلِينَ
عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ
وَبَعْدَهَا حِينَ خُرُوجِهِمْ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ
فَيَنْتَهِكُونَ بِذَلِكَ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ
كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ لَا تَأْتِي
بِخَيْرٍ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدَّقِيقِ وَالْجَلِيلِ .
وَسُئِلَ
مَالِكٌ عَنْ الْجَنَائِزِ يُؤَذَّنُ بِهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ
فَكَرِهَ ذَلِكَ وَكَرِهَ أَنْ يُصَاحَ خَلْفَهُ بِاسْتَغْفِرُوا لَهُ
يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ وَأَفْتَوْا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ .
قَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الْجِنَازَةِ يُؤَذَّنُ بِهَا
فِي الْمَسْجِد بِصِيَاحٍ قَالَ : لَا خَيْرَ فِيهِ وَكَرِهَهُ وَقَالَ :
لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُدَارَ فِي الْحِلَقِ وَيُؤَذِّنُ النَّاسَ بِهَا
وَلَا يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ
بْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ : أَمَّا
النِّدَاءُ بِالْجَنَائِزِ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ ، فَلَا يَنْبَغِي
وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ لِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ
فَقَدْ كُرِهَ ذَلِكَ حَتَّى فِي الْعِلْمِ .
وَأَمَّا النِّدَاءُ بِهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَرَآهُ مِنْ النَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ فَإِنَّ النَّعْيَ
مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وَالنَّعْيُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُنَادَى
فِي النَّاسِ أَلَا إنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَاشْهَدُوا جِنَازَتَهُ ،
وَأَمَّا الْإِيذَانُ بِهَا وَالْإِعْلَامُ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ فَذَلِكَ
جَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ .
وَقَدْ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تُوُفِّيَتْ لَيْلًا :
أَفَلَا آذَنْتُمُونِي بِهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا أَنَا مِتُّ فَلَا
تُؤَذِّنُوا بِي أَحَدًا إنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا ، وَقَدْ {
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ
النَّعْيِ } وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى .
فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ : إنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَيِّتِ فِي
الْمَسْجِدِ لِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ سَدِّ مَخَارِجِهِ وَإِرْسَالِ
الْقُطْنِ مَعَهُ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ فِي فِعْلِ هَذَا
مُحَرَّمَاتٍ أُخَرَ مِنْهَا هَتْكُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ بَعْدَ مَوْتِهِ
، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ
يُرْسِلُونَ مَعَهُ الْقُطْنَ فِي فَمِهِ وَيُدْخِلُونَهُ إلَى حَلْقِهِ
وَيُرْسِلُونَهُ مَعَهُ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَمْلَئُوا حَلْقَهُ
بِالْقُطْنِ وَيَنْزِلَ ذَقَنُهُ إلَى أَسْفَلَ وَيَطْلُعَ أَنْفُهُ إلَى
فَوْقَ ، وَيَمْلَئُونَ فَمَه وَشَدْقَيْهِ بِالْقُطْنِ فَيَبْقَى
مُثْلَةً لِلنَّاظِرِ .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي أَنْفِهِ
فَيُرْسِلُونَ فِيهِ الْقُطْنَ حَتَّى يَتَعَاظَمَ أَنْفُهُ ثُمَّ
يَفْعَلُونَ فِعْلًا قَبِيحًا فَيُرْسِلُونَ الْقُطْنَ فِي دُبُرِهِ
بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا فِعْلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
حَرَامٌ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ :
وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
أَمَرَنَا بِغُسْلِ الْمَيِّتِ إكْرَامًا لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي
الْقَبْرِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِ مَا ذُكِرَ ، فَإِذَا جَاءُوا بِهِ
إلَى الْقَبْرِ أَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْهُ يَخْرُجُ الْقُطْنُ وَهُوَ
مُلَوَّثٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي
الْغَالِبِ وَيَبْقَى الْفَمُ
مَفْتُوحًا لَا يُمْكِنُ غَلْقُهُ ، ثُمَّ إنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي
الْغَالِبِ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ تَتَأَذَّى مِمَّا
يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ ، وَهُمْ يُبْقُونَ ذَلِكَ مَعَهُ فِي
قَبْرِهِ فِي الْغَالِبِ ، فَذَهَبَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي
لِأَجْلِهِ أَمَرَنَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ بِغُسْلِهِ لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ .
ثُمَّ
الْعَجَبُ فِي كَوْنِهِمْ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَيَسْكُبُونَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ ، وَهَذِهِ أَيْضًا بِدْعَةٌ أُخْرَى ؛
لِأَنَّ الطِّيبَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْغُسْلِ
لَا فِي الْقَبْرِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ طِيبٌ وَنَجَاسَةٌ .
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ ، وَجَمِّرُوهَا أَيَّامَ جُمَعِكُمْ وَاجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ ، } وَقَدْ كَثُرَ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ وَالْخُصُومَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى إنَّ الْخَطِيبَ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ مَا يَقُولُ لِكَثْرَةِ غَوْغَائِهِمْ إذْ ذَاكَ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يُغَيِّرَ عَلَيْهِمْ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّصْفِيقِ فِي حَالِ
الْخُطْبَةِ ، إذْ إنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ قَبِيحٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ
فِعْلِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ ، } وَهَذَا كُلُّهُ سَبَبُهُ
السُّكُوتُ عَمَّا أُحْدِثَ فِي الدِّينِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد
فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثُ نَفَرٍ فَرَجُلٌ حَضَرَهَا
بِلَغْوٍ فَذَلِكَ حَظُّهُ مِنْهَا ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ فَهُوَ
رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ ،
وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ لَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ
مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ
الَّتِي تَلِيهَا ، وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّهَ يَقُولُ : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
} }
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ
تَفْرِيقِ الرَّبْعَةِ حِينَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ،
فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْأَذَانِ قَامَ الَّذِي فَرَّقَهَا لِيَجْمَعَ مَا
فُرِّقَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ فَيَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ بِسَبَبِ
أَخْذِهَا مِنْهُمْ ، وَهَذَا فِيهِ مَحْذُورَاتٌ جُمْلَةٌ مِنْهَا :
أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إذْ
إنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّ فِيهِ تَخَطِّيَ رِقَابَ النَّاسِ حِينَ ارْتِصَاصِهِمْ
لِانْتِظَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّ فَاعِلَهُ مُؤْذٍ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ كُلَّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ .
الْوَجْهُ
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ يُعْطِي الْخَتْمَةَ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ
يَقْرَأَ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ خَجَلٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ
أَذِيَّةٌ وَصَلَتْ عَلَى يَدِهِ لِمُسْلِمٍ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ يَنْسَى بَعْضَ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَيَضِيعُ عَلَى الْوَقْفِ .
الْوَجْهُ
الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَيَكْتُمُهُ
لِتَسَاهُلِهِمْ فِي الْوَقْفِ ، فَقَدْ يَخْفَى وَيَخْتَارُ أَنْ
يَخْتَصَّ هُوَ بِمَنْفَعَتِهِ فِي بَيْتِهِ إمَّا لِنَفْسِهِ أَوْ
لِوَلَدِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ عَلَى الْوَقْفِ .
الْوَجْهُ
السَّادِسُ : أَنَّهُ قَدْ يَأْتِي عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
أَنَّهُ يَكُونُ مَشْغُولًا فِي جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ ،
وَالْخَطِيبُ إذْ ذَاكَ يَخْطُبُ فَيَقَعُ الْكَلَامُ وَالْمُرَاجَعَةُ
بِسَبَبِ جَمْعِهَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَقِفُوا تَحْتَ اللَّوْحِ الْأَخْضَرِ لِلدُّعَاءِ
، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذْ إنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ
مِمَّنْ فَعَلَهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا
أَحْدَثُوهُ مِنْ إرْسَالِ الْبُسُطِ وَالسَّجَّادَاتِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ
أَنْ يَأْتِيَ أَصْحَابُهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ
الْقُبْحِ وَمُخَالَفَةِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى مَنْ يَقْرَأُ
الْأَعْشَارَ وَغَيْرَهَا بِالْجَهْرِ ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ
الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْفَرَائِضِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ
النَّهْيِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ } وَلَا يَظُنُّ
ظَانٌّ أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، بَلْ ذَلِكَ
مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى
غَيْرِهِ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَالتَّالِينَ
وَالْمُتَفَكَّرِينَ وَكُلِّ مَنْ كَانَ فِي عِبَادَةٍ ، وَالْحَاصِلُ :
أَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ الْمَطْرُوقِ مُطْلَقًا وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ وَمُعَرَّضٌ لِمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَا .
وَأَمَّا
إنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ مَهْجُورٍ وَلَيْسَ فِيهِ غَيْرُ السَّامِعِينَ
أَوْ فِي مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ بَيْتٍ ، فَذَلِكَ مَنْدُوبٌ
إلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ غَيْرُ
السَّامِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُمْ
فَيُمْنَعُ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ يَدْرُسُ أَوْ
يُطَالِعُ أَوْ يُصَلِّي أَوْ يَأْخُذُ رَاحَةً لِنَفْسِهِ ، فَيَقْطَعَ
عَلَيْهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } انْتَهَى هَذَا إذَا سَلِمَ
مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ مِثْلَ أَنْ يَمُدَّ الْمَقْصُورَ
أَوْ يُقْصِرَ الْمَمْدُودَ أَوْ يُشَدِّدَ مَوْضِعَ التَّخْفِيفِ أَوْ
عَكْسَهُ أَوْ يُظْهِرَ مَوْضِعَ الْإِدْغَامِ أَوْ عَكْسَهُ أَوْ
يُظْهِرَ مَوْضِعَ الْإِخْفَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَنْ لَا يَصِلَ
بِالْعَشْرِ آيَةً أُخْرَى غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
تَغْيِيرٌ لِلْقُرْآنِ فِي الظَّاهِرِ عَنْ نَظْمِهِ الَّذِي أَجْمَعَتْ
عَلَيْهِ الْأُمَّةُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ قِرَاءَةِ
الْأَسْبَاعِ سِيَّمَا الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ
وَقِرَاءَةِ الْأَسْبَاعِ فِي الْمَسْجِد مِمَّا يُشَوِّشُونَ بِهَا لِمَا
وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ { : لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } فَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ تَشْوِيشٌ مُنِعَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَنْهَى الْفُقَرَاءَ الذَّاكِرِينَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ
قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَوْقَاتِ
؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَسْأَلُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِمَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : {
مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ } وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ .
قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ : إذَا سَأَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ
فَقَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ لَا يُعْطَى ، وَإِذَا سَأَلَ عَلَى الْقُرْآنِ
فَلَا تُعْطُوهُ انْتَهَى .
وَالْمَسْجِدُ لَمْ يُبْنَ لِلسُّؤَالِ
فِيهِ وَإِنَّمَا بُنِيَ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ ،
وَالسُّؤَالُ يُشَوِّشُ عَلَى مَنْ يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَنْهَى عَنْ الْإِعْطَاءِ لِمَنْ يَسْأَلُ فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ
مِنْ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاحْرِمُوهُ ؛
وَلِأَنَّ إعْطَاءَهُ ذَرِيعَةٌ إلَى سُؤَالِهِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَمْنَعَ السَّقَّائِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ
وَيُنَادُونَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُسَبِّلُ لَهُمْ ، فَإِذَا سَبَّلَ لَهُمْ
يُنَادُونَ غَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ سَبَّلَ وَرَحِمَ مَنْ جَعَلَ الْمَاءَ
لِلسَّبِيلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ ، وَيَضْرِبُونَ
مَعَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فِي أَيْدِيهِمْ لَهُ صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ
النَّاقُوسِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَمِمَّا يُنَزَّهُ
الْمَسْجِدُ عَنْ مِثْلِهِ .
وَفِي فِعْلِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ شَبَهِ النَّاقُوسِ .
وَمِنْهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَمِنْهَا
الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ
مَا ذُكِرَ وَبَعْضَهُمْ يَمْشِي يَخْتَرِقُ الصُّفُوفَ فِي الْمَسْجِدِ ،
فَمَنْ احْتَاجَ أَنْ يَشْرَبَ نَادَاهُ فَشَرِبَ وَأَعْطَاهُ الْعِوَضَ
عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا بَيْعٌ بَيِّنٌ لَيْسَ فِيهِ وَاسِطَةُ تَسْبِيلٍ
وَلَا غَيْرِهِ سِيَّمَا وَالْمُعَاطَاةُ بَيْعٌ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَمَنْ تَبِعَهُ .
وَمِنْهَا تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ فِي حَالِ انْتِظَارِهِمْ لِلصَّلَاةِ .
وَمِنْهَا
تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْ الْمَاءِ
شَيْءٌ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ فِي
الْمَسَاجِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْيُ بَعْضِهِمْ
حُفَاةً وَدُخُولُهُمْ الْمَسْجِدَ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ النَّجِسَةِ
وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَحْذُورِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي لَيْلَةِ
الْإِسْرَاءِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَوُقُودِ
الْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا وَمَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .
وَكَذَلِكَ
مَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ
مَبْسُوطًا فِي مَوَاضِعِهِ فَلْيُلْتَمَسْ هُنَاكَ .
وَأَمَّا
الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى
لِجَهْلِ الْجَاهِلِ وَسُكُوتِ الْعَالِمِ ، حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ إلَى
جَهْلِ الْحُكْمِ فِيهِ وَاسْتَحْكَمَتْ الْعَوَائِدُ حَتَّى أَنَّ أُمَّ
الْقُرَى مَكَّةَ الَّتِي لَهَا مِنْ الشَّرَفِ مَا لَهَا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي مَسْجِدِهَا ، وَالسَّمَاسِرَةُ يُنَادُونَ فِيهِ عَلَى السِّلَعِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ هُنَاكَ أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ اللَّغَطِ ، وَلَا يَتْرُكُونَ شَيْئًا إلَّا يَبِيعُونَهُ فِيهِ مِنْ قُمَاشٍ وَعَقِيقٍ وَدَقِيقٍ وَحِنْطَةٍ وَتِينٍ وَلَوْزٍ وَأُكُرٍ وَعُودِ أَرَاكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَاكُ مَنْ لَهُ وَرَعٌ بِعُودِ الْأَرَاكِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَبِيعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَيَسْتَاكَ بِهِ حِينَئِذٍ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ تَعْلِيقِ الْقَنَادِيلِ الْمُذَهَّبَةِ وَوُقُودِهَا وَالتَّزْيِينِ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِيهِ السَّرَفُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ إذْ إنَّ الذَّهَبَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي تَحْلِيَةِ النِّسَاءِ وَفِي تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمِنْطَقَةِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ
لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَلَهُمْ طَرِيقٌ سِوَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ
أَبْعَدَ مِنْهُ ، وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا مِنْ أَشْرَاطِ
السَّاعَةِ وَهَا هُوَ ذَا قَدْ شَاعَ وَكَثُرَ .
وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ
جَامِعًا إلَّا وَقَدْ اتَّخَذُوهُ طَرِيقًا وَقَلَّ مَنْ يَنْهَى عَنْ
ذَلِكَ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا نَهَى عَنْهُ لَاسْتَحْمَقُوهُ
، وَقَدْ يَتَأَذَّى بِسَبَبِ ذَلِكَ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ الْجَامِعَ وَيَجْلِسْنَ فِيهِ لِانْتِظَارِ بَيْعِ غَزْلِهِنَّ ، وَيَدْخُلُ الْمُنَادِي إلَيْهِنَّ وَمَعَهُ الْغَزْلُ فَيُكَلِّمُهُنَّ فِي الْجَامِعِ وَيُشَاوِرهُنَّ عَلَى ثَمَنِ ذَلِكَ ، فَمَنْ رَضِيَتْ مِنْهُنَّ تَقُولُ : قَدْ بِعْتُ ، وَذَلِكَ بَيْعٌ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ صَارَ إذْ ذَاكَ كَالْوَكِيلِ وَيَقَعُ بِذَلِكَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَيَجِدُ السَّبِيلَ إلَى مَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ ، وَبَعْضُهُنَّ يَكُونُ مَعَهَا الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ ، وَقَدْ يَبُولُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُئِيَ ذَلِكَ عِيَانًا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَأْتِينَ لِلْمُحَاكَمَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَدْخُلْنَ إلَيْهِ لِانْتِظَارِ مَا يُرِيدُونَهُ وَيَدْخُلُ إلَيْهِنَّ الْوُكَلَاءُ وَالرِّجَالُ وَالْأَزْوَاجُ وَتَكْثُرُ الْخُصُومَاتُ وَتَرْتَفِعُ الْأَصْوَاتُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَالْقَاضِي بِمَعْزِلٍ عَنْهُمْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيَمْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَفِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا يَفْعَلُونَهُ مِنْ
الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ لِلْحَدِيثِ فِي أَمْرِ
الدُّنْيَا وَمَا جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي
الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ
أَكْلَ النَّارِ الْحَطَبَ فَيَنْهَاهُمْ وَيُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ .
وَقَدْ
وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
{ : يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ
الْمَسَاجِدَ يَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا ، ذِكْرُهُمْ الدُّنْيَا
وَحُبُّهُمْ الدُّنْيَا ، لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ
مِنْ حَاجَةٍ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَتَى الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ
فَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَامِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ : اُسْكُتْ يَا
وَلِيَّ اللَّهِ ، فَإِنْ زَادَ تَقُولُ : اُسْكُتْ يَا بَغِيضَ اللَّهِ ،
فَإِنْ زَادَ تَقُولُ : اُسْكُتْ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ } وَإِنَّمَا
يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الصَّلَاةِ
وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ أَوْ تَدْرِيسِ الْعِلْمِ
بِشَرْطِ عَدَمِ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَعَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى
الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ جَمَاعَةً وَيَجُوزُ جَهْرًا بِشَرْطِ عَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى غَيْرِهِ .
وَهَذَا
النَّوْعُ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى حَتَّى فِي الْمَسَاجِدِ
الثَّلَاثَةِ ، فَقَدْ كَثُرَ فِيهَا الْحَدِيثُ وَالْقِيلُ وَالْقَالُ
وَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَتَجِدُ رَفْعَ
الْأَصْوَاتِ عِنْدَ قَبْرِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَدِيثَ الْكَثِيرَ بِحَيْثُ
الْمُنْتَهَى حِينَ أَوْقَاتِ الزِّيَارَةِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ .
وَكَذَلِكَ فِي قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فِي الْحَجِّ تَجِدُ لَهُمْ غَوْغَاءَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ قَطُّ مَا هُمْ فِي عِبَادَةٍ .
وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ فِيهِ مِنْ الْوُقُوفِ
يَوْمَ
عَرَفَةَ وَالنُّفُورِ عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ
فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ لَمْ يَحُجَّ إلَيْهِ أَحَدٌ
قَطُّ وَلَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِيهِ وَمَا كَانَ الْحَجُّ مِنْ عَهْدِ
آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا لِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَعَرَفَةَ
وَمِنًى وَالْمَنَاسِكِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ
فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَّا الصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ ، فَهِيَ
الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَتْ ثُمَّ حُوِّلَتْ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ .
فَالْوُقُوفُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْسَ فِيهِ اقْتِدَاءٌ بِالْمَاضِينَ وَلَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ لِمَا ذُكِرَ .
عَلَى
أَنَّهُ لَوْ حَجَّ إلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيهِ الْيَوْمَ ، كَمَا أَنَّهُ لَا
تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ بَعْدَ نَسْخِهَا .
وَقَدْ شَذَّ
بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ بِجَوَازِ الْوُقُوفِ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ
مُثَابٌ لَا أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ الْحَجِّ الْمَشْرُوعِ ، وَهُوَ قَوْلٌ
لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَافْهَمْهُ .
وَمِمَّا
أَحْدَثُوا فِيهِ مَا يَفْعَلُونَهُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
وَأَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ فَيُسْمَعُ لَهُمْ صِيَاحٌ
وَهَرَجٌ وَبِدَعٌ كَثِيرَةٌ حِينَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ، وَأَوَّلُ مَا
حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدَعُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمِنْهُ شَاعَتْ
فِي الْأَقَالِيمِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ لَهُ ، فَإِذَا
كَانَ الْإِمَامُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ أَوْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ كَمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ أَوْ بَعْضُهَا ،
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْهَى مَنْ يَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ
لِتَفْلِيَةِ ثِيَابِهِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ يَقْعُدُونَ فِي
الشَّمْسِ وَيُفَلُّونَ ثِيَابَهُمْ وَهَذَا لَا يَحِلُّ إجْمَاعًا ؛
لِأَنَّ جِلْدَةَ الْبُرْغُوثِ الَّذِي خَالَطَ الْإِنْسَانَ نَجِسَةٌ
وَجِلْدَةَ الْقَمْلَةِ نَجِسَةٌ مُطْلَقًا ، وَهُمْ يُلْقُونَ ذَلِكَ فِي
الْمَسْجِدِ بَعْدَ قَتْلِهِ ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ
يَجْمَعُهُ وَيُلْقِيهِ خَارِجَ الْمَسْجِد فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛
لِأَنَّ قَتْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ يُمْنَعُ وَإِنْ لَمْ يُلْقِهَا فِيهِ
، إذْ أَنَّهُ حَامِلٌ لِلنَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حِينِ
قَتْلِهَا إلَى حِينِ إلْقَائِهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ
شَرْعِيَّةٍ .
وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ : وَكَرِهَ مَالِكٌ قَتْلَ
الْقَمْلَةِ وَرَمْيَهَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا يَطْرَحُهَا مِنْ
ثَوْبِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَقْتُلُهَا بَيْنَ النَّعْلَيْنِ فِي
الْمَسْجِدِ انْتَهَى .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ فِي الْمُصَلِّي إذَا أَخَذَ قَمْلَةً وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ،
فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلْقِيَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ }
وَإِذَا رَمَاهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ بِالْحَيَاةِ فَإِمَّا أَنْ
تَمُوتَ جُوعًا أَوْ تَضْعُفَ وَكِلَاهُمَا عَذَابٌ لَهَا ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْقِتْلَةِ .
وَشَأْنُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ
أَنْ يَنْقُلَهَا لِمَكَانٍ آخَرَ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ
يَرْبِطَهَا فِي طَرَفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
وَأَمَّا
الْبُرْغُوثُ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ يُلْقِيهِ
فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتُلَهُ ؛ لِأَنَّ الْبُرْغُوثَ لَا
يَقْعُدُ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا
خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ
لَوْ بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ التُّرَابِ ؛
لِأَنَّهُ مِنْهُ خُلِقَ وَيَعِيشُ فِيهِ بِخِلَافِ الْقَمْلَةِ ،
فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ دَمِ الْإِنْسَانِ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سَيِّدِي حَسَنٍ الزُّبَيْدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
خَرَجَ
يَوْمًا مَعَ أَصْحَابِهِ إلَى بُسْتَانِهِ ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ
يَذْهَبُوا إلَى الْبُسْتَانِ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ رُجُوعِهِ فَقَالَ
: كَانَ عَلَيَّ قَمِيصٌ نَسِيتُهُ فِي الْبَيْتِ وَفِيهِ دَوَابُّ
فَخِفْتُ أَنْ يَمُوتُوا جُوعًا فَرَجَعْتُ إمَّا أَنْ أَقْتُلَهُمْ
وَإِمَّا أَنْ أَلْبَسَهُ .
وَهَذَا الْأَمْرُ قَدْ كَثُرَ وَفَشَا
سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَتَرَى الْغُرَبَاءَ يَأْتُونَ
إلَيْهِ بِدُلُوقٍ تَغْلِي قَمْلًا فَيُجَرِّدُونَهَا عَنْهُمْ
وَيُلْقُونَهَا فِي الْمَسْجِدِ ، فَتَحُسُّ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ
فَتَخْرُجُ مِنْ الثَّوْبِ وَتَمُوتُ بِحَرِّ الشَّمْسِ ، ثُمَّ يَنْفُضُ
أَحَدُهُمْ دَلْقَهُ وَيَلْبَسُهُ وَتَبْقَى الدَّوَابُّ كُلُّهَا
مَيِّتَةً فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ يَنْهَى
عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ تَنَبَّهَ النَّاسُ إلَيْهِ وَتَرَكُوهُ
وَغَيَّرُوهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْهَى
النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا إنْ
كَانَ مِنْ الْمَطْبُوخِ بِالْبَصَلِ أَوْ الثُّومِ أَوْ الْكُرَّاثِ ،
وَأَمَّا إنْ كَانَ نِيئًا فَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ،
وَالْأَكْلُ فِي الْمَسْجِدِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا
يُسَامَحُ فِيهِ إلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالسَّوِيقِ وَنَحْوِهِ .
وَمِنْ
الطُّرْطُوشِيِّ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْأَكْلِ فِي
الْمَسْجِدِ فَقَالَ : أَمَّا الشَّيْءُ الْخَفِيفُ مِثْلَ السَّوِيقِ
وَيَسِيرِ الطَّعَامِ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَلَوْ خَرَجَ
إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَلَا
يُعْجِبُنِي وَلَا فِي رِحَابِهِ .
وَقَالَ فِي الَّذِي يَأْكُلُ
اللَّحْمَ فِي الْمَسْجِدِ : أَلَيْسَ يَخْرُجُ لِغَسْلِ يَدِهِ ؟ قَالُوا
: بَلَى قَالَ : فَلْيَخْرُجْ لِيَأْكُلْ انْتَهَى ، وَقَدْ كَرِهَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ الْكَلَامُ
بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : وَأَكْرَهُ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةِ الْعَجَمِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ : وَإِنَّمَا
ذَلِكَ لِمَا قِيلَ فِي أَلْسِنَةِ الْأَعَاجِمِ إنَّهَا خَبٌّ قَالَ :
وَلَا يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ مِنْ الْخَبِّ قَالَ : وَهُوَ
لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَشَدُّ انْتَهَى .
وَهَذَا الْأَمْرُ
الْيَوْمَ قَدْ كَثُرَ وَشَاعَ حَتَّى إنَّ الْقَوَمَةَ لَيُخْرِجُونَ
مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ صِحَافًا كَثِيرَةً وَأَوْرَاقًا
وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُؤْكَلُ فِي الْمَسْجِدِ ،
وَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابُ وَالْخُشَاشُ وَيَكْثُرُ
الْقِطَاطُ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ بَابِ
الْحَسَنَاتِ فَتَكْثُرُ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا أَكَلَ
أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيَبُلْنَ فِيهِ وَبَوْلُهُنَّ نَجِسٌ ، وَقَدْ رَأَيْتُ
ذَلِكَ عِيَانًا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى
صَلَاةِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ
بِذَلِكَ ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ
عِنْدَهُ
هِرٌّ مُؤْذٍ أَرْسَلَهُ إلَى الْجَامِعِ ، فَكَانَ النَّاسُ يُوَقِّرُونَ
بُيُوتَ رَبِّهِمْ يَحْتَرِمُونَهَا وَيُنَزِّهُونَهَا عَمَّا لَا يَلِيقُ
بِهَا ، وَكَانَتْ الْمَسَاجِدُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : {
الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ } ، فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ
صَارَ الْمَسْجِدُ مَأْوًى لِلْقِطَاطِ الْمُؤْذِيَةِ ، وَالْأَكْلُ
سَبَبُ ذَلِكَ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ
وُرُودُ الْغُرَبَاءِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُمْ يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ
وَيَرْمُونَ الْعِظَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَأْكُلُونَ الْبِطِّيخَ
وَيَرْمُونَ قُشُورَهُ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَأْكُولِ
وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ يُلْقِي ذَلِكَ فِي خَارِجِ الْمَسْجِد ، بَلْ
يَدْخُلُونَ فِيهِ بِالْحَمِيرِ بِسَبَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ
الْبُنْيَانِ وَالْعِمَارَةِ فَتَبُولُ الْحَمِيرُ فِيهِ وَتَرُوثُ
كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ طَرِيقٌ مِنْ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ ، وَلَوْ
كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ ، فَكَيْفَ
الْحَالُ فِي الْمَسَاجِدِ ؟ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ مَا فِيهِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
فَإِذَا كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ
يَنْهَى عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهَا انْحَسَمَتْ
الْمَادَّةُ ، فَإِنَّ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ
النَّاسِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ وَاحِدٌ سَمِعَ آخَرُ .
وَقَدْ وَرَدَ
فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ {
لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ
النَّعَمِ } وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ
بَعْضِ النَّاسِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ
الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ
يَقُولَ : إنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ
وَعَنْ عَوَائِدِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ، وَجَوَابُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ
فِي الْحَدِيثِ ؛ { لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا } إلَخْ
.
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَأْتِي النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَأْتِي النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَالْخَيْرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إذْ إنَّ الْخَيْرَ فِيهَا كَامِنٌ فَمَنْ نُبِّهَ مِنْهُمْ تَنَبَّهَ وَرَجَعَ وَانْقَادَ وَاسْتَغْفَرَ ، وَكُنْتَ أَنْتَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْجَمِيعِ بِمَنِّهِ .
وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ
النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَذَلِكَ
فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ سِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَتَجِدُ
الْمَسْجِدَ قَدْ ارْتَصَّ بِالنَّاسِ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { : إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ } .
وَالنَّائِمُ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ خُرُوجِ الرِّيحِ مِنْهُ فَتَتَأَذَّى الْمَلَائِكَةُ بِهِ .
وَقَدْ
نُهِينَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِرَائِحَةِ الثُّومِ أَوْ الْبَصَلِ ؛
لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ
، } فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الثُّومِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى
الرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْ الْمَخْرَجِ ، وَقَدْ يَحْتَلِمُ النَّائِمُ
فَيَبْقَى جُنُبًا فِي الْمَسْجِدِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى ،
وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ لَأَنْ تُسْرَقَ عِمَامَتُهُ أَوْ
رِدَاؤُهُ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ يَطُولُ
تَتَبُّعُهَا ، وَالْحَاصِلُ مِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ
تَجِدُ فِيهِ مَخَاوِفَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُهُ ، فَإِذَا عَلِمَ النَّاسُ
ذَلِكَ مِنْ نَهْيِ الْإِمَامِ ارْتَدَعُوا عَنْهُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ .
وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ خِيَاطَةِ قُلُوعِ الْمَرَاكِبِ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ ، فَكَيْفَ بِالصَّنْعَةِ تُعْمَلُ فِيهِ ؟ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ نَسْخَ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَنَسْخَ الْقُرْآنِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ فِيهِ ، فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِمَا فَيَمْنَعُ فَاعِلَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْهَى السَّقَّاءَ الَّذِي يَدْخُلُ بِالْجَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ بَوْلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَجِسٌ وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْغَنَمِ لِأَنَّهَا قَدْ تَبُولُ فِيهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى دُخُولِ السَّقَّاءِ بِالْجَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْهَى عَنْ دُخُولِ الشَّوَّاءِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفَاسِدَ .
مِنْهَا أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ طَرِيقًا وَقَدْ قُدِّمَ مَا فِيهِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يَدْخُلُ بِالذَّفَرِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ يُنَزَّهُ عَنْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا .
الثَّالِثَةُ
: أَنَّ رَائِحَتَهُ قَوِيَّةٌ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ
الْفُقَرَاءِ الْمُتَوَجِّهِينَ مَنْ تَتَشَوَّقُ نَفْسُهُ لِذَلِكَ وَلَا
شَيْءَ مَعَهُ لِيَشْتَرِيَ بِهِ فَيَتَشَوَّشُ فِي عِبَادَتِهِ .
الرَّابِعَةُ
: أَنَّ حَامِلَهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعِ
الذَّبْحِ وَهُوَ مَحَلُّ النَّجَاسَاتِ وَحَامِلُهَا حَافٍ هُنَاكَ
وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ .
الْخَامِسَةُ :
أَنَّ الْحَامِلِينَ لَهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ كَثْرَةُ الْكَلَامِ
وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِكَلَامٍ لَا يَنْبَغِي فِي غَيْرِ
الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ .
السَّادِسَةُ مَا فِيهِ
مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَهَذَا
الْكَلَامُ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّ الشِّوَاءَ طَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا
كَانَ مُتَنَجِّسًا فَلَا يَدْخُلُ بِالنَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ
اتِّفَاقًا .
وَيَنْهَى عَنْ دُخُولِ الرُّهْبَانِ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ يَفْرِشُونَهُ بِالْحُصُرِ الْمَضْفُورَةِ الَّتِي يُضَفِّرُونَهَا فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْعُ دُخُولِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى دُخُولِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ إذْ إنَّ غَيْرَهُمْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي فَرْشِهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وَيَنْهَى
النَّاسَ عَنْ إتْيَانِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِأَوْلَادِهِمْ الَّذِينَ
لَا يَعْقِلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ أَوْ يُنْهَوْنَ عَنْهُ إذْ إنَّ
ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ حِينَ
صَلَاتِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ فِي صَلَاتِهِمْ
وَيَبْكِي الصَّبِيُّ فَيُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ فَيَنْهَى عَنْ
ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ .
وَهَذَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَعَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ .
فَأَمَّا
إنْ كَانَ مَعَ أُمِّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الْغَالِبَ فِي مَوْضِعِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ بِالْبُعْدِ
بِحَيْثُ لَا يُشَوِّشُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ .
الثَّانِي : أَنَّ
الْغَالِبَ فِي الْأَوْلَادِ إذَا كَانُوا مَعَ أُمَّهَاتِهِمْ قَلَّ أَنْ
يَبْكُوا بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَهَذَا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى
صَلَاةِ الْمَرْأَةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهَا فِي
بَيْتِهَا أَفْضَلُ .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ
إلَى الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَيُصَلِّينَ مَعَهُ جَمَاعَةً .
وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَفِّفُ صَلَاتَهُ
إذَا سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ } .
فَالْجَوَابُ
عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا { لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا أَحَدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا
مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ } الثَّانِي أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ فُقِدَ فَإِذَا لَمْ تَخْرُجْ الْأُمُّ
لِلصَّلَاةِ فَالْإِتْيَانُ بِالْأَوْلَادِ لِلْمَسْجِدِ دُونَ
أُمَّهَاتِهِمْ يُمْنَعُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ الذِّكْرِ
وَالْقِرَاءَةِ جَهْرًا فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ يُشَوِّشُ عَلَى
الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ فَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَى
عَنْهُ وَيَزْجُرَ فَاعِلَهُ .
وَيَنْهَى النَّاسَ عَنْ كَتْبِهِمْ
الْحَفَائِظَ فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَالِ
الْخُطْبَةِ وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : لِمَا احْتَوَتْ
عَلَيْهِ مِنْ اللَّفْظِ الْأَعْجَمِيِّ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْهُ وَمَا يَدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ .
الثَّانِي : أَنَّ فِيهِ اللَّغْوَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالْكُتُبِ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ .
الرَّابِعُ
: أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِبِدْعَةٍ وَيَتْرُكُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ
مِنْ الْإِصْغَاءِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ
مُؤَكَّدَةٌ .
الْخَامِسُ : مَا أَحْدَثُوهُ عَنْ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ .
وَبَعْضُ
النَّاسِ يَكْتُبُهَا بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ
بِدْعَةٌ أَيْضًا لَكِنَّهَا أَخَفُّ مِنْ الْبِدْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهَا إذْ إنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ خُطْبَةٌ يَشْتَغِلُ عَنْهَا وَلَوْ
كَتَبَهَا وَأَسْقَطَ مِنْهَا اللَّفْظَ الْأَعْجَمِيَّ وَلَمْ يَتَّخِذْ
لِكِتَابَتِهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَيَنْهَى النِّسَاءَ عَمَّا أَحْدَثْنَهُ وَسُكِتَ
لَهُنَّ عَنْهُ مِنْ دُخُولِهِنَّ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي مُؤَخِّرِ
الْجَامِعِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُنَّ مَقْصُورَةٌ مَعْلُومَةٌ لَكِنَّهَا
كَالْعَدَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إذْ إنَّهَا لَا تَسْتُرهُنَّ وَالْغَالِبُ
عَلَيْهِنَّ خُرُوجُهُنَّ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ التَّحَلِّي
وَاللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى
ذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضِعَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ قَدْ اسْتَغْنَيْنَ بِهِ
عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْقُرْبِ مِنْ الرِّجَالِ فَهُوَ أَلْيَقُ
بِهِنَّ مَا لَمْ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ
صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْخَمِيسِ وَالْجَنَائِزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ
الْأَلْيَقُ بِهِنَّ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ
وَلَا يُمَكَّنَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ قَدْ قَالُوا إنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا
وَحْدَهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ
وَصَلَاتَهَا فِي مَخْدَعٍ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي
بَيْتِهَا فَكَيْفَمَا زَادَ سَتْرُهَا وَانْحِجَابُهَا كَانَ أَفْضَلَ
لِصَلَاتِهَا .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُمْكِنُهَا
أَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِهَا مَعَ جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي
يُجَاوِرُهَا وَهِيَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهَا
مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلِذَلِكَ
كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّينَ
فِي بُيُوتِهِنَّ بِصَلَاةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ
وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ حِينَ دُخُولِهِ وَحِينَ خُرُوجِهِ وَيُجِيبُهُ بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ مِمَّنْ فِي الْمَسْجِدِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ ضَجِيجٌ قَوِيٌّ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ تِلْكَ الزَّعَقَاتِ فِيهِ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي السُّوقِ أَوْ الطَّرِيقِ لَكَانَ جَائِزًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْهَى
عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ إدْخَالِ الْمِرْآةِ فِي الْمَسْجِدِ لِقَصِّ
الشَّارِبِ وَنَتْفِ الشَّيْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ
مِنْ فِعْلِهِمْ وَهَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَاجْعَلُوا
مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ } وَإِذَا كَانَ الطُّهُورُ
فِي الْمَسْجِدِ مَمْنُوعًا فَكَيْفَ يُدْخَلُ بِالْفَضَلَاتِ فِي
الْمَسْجِدِ وَيُعْمَلُ فِيهِ الصَّنْعَةُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ
نَسْخِ الْخَتْمَةِ أَوْ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ ذَلِكَ
عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ فَكَيْفَ بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ وَمَا
أَشْبَهَهَا وَالشَّعْرُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ
عَفَشٌ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ .
هَذَا إذَا كَانَ الشَّعْرُ مَقْصُوصًا .
وَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ فِي
الْمَسْجِدِ وَلَا يَقُصُّ شَارِبَهُ وَإِنْ أَخَذَهُ فِي ثَوْبِهِ
وَأَكْرَهُ أَنْ يَتَسَوَّكَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ أَنَّ مَا يَخْرُجُ
مِنْ السِّوَاكِ يُلْقِيهِ فِي الْمَسْجِدِ .
قَالَ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ وَلْيَخْرُجْ لِفِعْلِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الطُّرْطُوشِيُّ .
وَأَمَّا
إذَا كَانَ الشَّعْرُ بِأَصْلِهِ مِثْلَ نَتْفِ الشَّيْبِ فَإِنَّ
الْحَيَاةَ تَحُلُّ أَصْلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ
الشَّعْرَةِ نَجِسًا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ وُقُوعِ الْقَمْلِ فِي
الْمَسْجِدِ إمَّا حَيًّا وَإِمَّا مَيِّتًا وَكِلَاهُمَا يُمْنَعُ فِيهِ
وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ
سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي تَرِدُ إلَيْهِ الْخَلْقُ
كَثِيرًا .
وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ
وَالنُّسُكِ وَقَدْ سَبَّلَ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَسَنَةِ عَلَى
زَعْمِهِ فَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى بَابِ الْمِيضَأَةِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ
فَأَيُّ غَرِيبٍ جَاءَ قَصَّ لَهُ أَظَافِرَهُ أَوْ شَارِبَهُ وَأَزَالَ
شَعْرَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَيُلْقِي كُلَّ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فِي
الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُهُ
وَيُخْرِجُهُ مِنْهُ فَكَيْفَ
بِإِلْقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا الْحَدَثِ زَرَعَ
دَالِيَةَ عِنَبٍ فِي الْمَسْجِدِ فَأَطْعَمَتْ وَأَثْمَرَتْ وَبَقِيَ
إذَا وَرَدَ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَخَذَ مِنْ عِنَبِهَا أَوْ
حِصْرِمِهَا وَأَهْدَاهُ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ وَحَصَّلَ
بِهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَهَذَا النَّوْعُ
مِمَّا أَحْدَثُوهُ كَثِيرًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاِتَّخَذُوا
فِيهِ دَوَالِيَ عِنَبٍ وَخَزَائِنَ لِلسُّكْنَى وَهُوَ مَسْجِدٌ وَلَا
يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
الْمَسَاجِدَ الْمَهْجُورَةَ لَا يَجُوزُ سُكْنَاهَا وَلَا أَنْ يُحْدَثَ
فِيهَا حَدَثٌ غَيْرُ مَا بُنِيَتْ لَهُ .
وَيَنْهَى الْبَيَّاعِينَ
لِلْقُضَامَةِ وَغَيْرِهَا فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى أَبْوَابِهِ
وَفِي الزِّيَادَةِ إذْ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُصَلِّيًا يُمْسِكُ
بِهَا أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِتِلْكَ
الْمَوَاضِعِ حِينَ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُ الْمُصَلِّي
مِنْهُمْ يَتَعَيَّنُ أَدَبُهُ وَزَجْرُهُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَرِيقَهُمْ وَالثَّانِي أَنَّهُ
تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ وَتَارِكُ الصَّلَاة قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ
مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَكِبٌ كَبِيرَةً سِيَّمَا إنْ كَانَتْ صَلَاةَ
جُمُعَةٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ .
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ
يَمْنَعَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ مِمَّنْ يَبِيعُ الْحَلَاوَةَ أَوْ اللَّحْمَ
أَوْ الْمَشْمُومَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُضَيِّقُ بِهِ طَرِيقَ
الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي
لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ دُكَّانٍ لَهَا مَسْطَبَةٌ خَارِجَةٌ
فِي شَارِعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ
يُمْنَعَ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَهْدِمَ الْمَسَاطِبَ
الْمُلَاصِقَةَ لِجِدَارِ الْمَسَاجِدِ إذْ إنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ
لِلْمُصَلِّينَ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
( فَصْلٌ ) وَيَنْهَى
الزَّبَّالِينَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ سِيَّمَا وَقْتُ
إتْيَانِ النَّاسِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ أَمَرَ بِالتَّنْظِيفِ لَهَا
بِالْغُسْلِ وَلُبْسِ النَّظِيفِ مِنْ الثِّيَابِ وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ مَا أَمَرَهُ بِهِ صَاحِبُ
الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَخَرَجَ
لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ لَقِيَ الزَّبَّالِينَ فِي طَرِيقِهِ
فَيُفْسِدُونَ عَلَيْهِ هَيْئَتَهُ لَهَا وَهَذَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ .
وَقَدْ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ }
فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ لِأَنَّهُ مُؤْذٍ .
وَقَدْ وَرَدَ { كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ }
وَيَنْهَى
النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ وُقُوفِ الدَّوَابِّ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُمْ يُضَيِّقُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَرِيقَهُمْ
إلَيْهِ وَيَرُوثُونَ بِهَا وَيَبُولُونَ عَلَى أَبْوَابِهِ وَيَمْشِي
النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْدَامِهِمْ وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ
فَيُنَجِّسُونَ بِهَا مَا أَصَابَتْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ
وَفِي وُقُوفِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ أَذِيَّةٌ كَثِيرَةٌ
سِيَّمَا لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْأَعْمَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ
أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْجُمُعَةِ بَلْ
رُبَّمَا أُذُوا بِالرَّفْسِ وَالْكَدْمِ الْأَصِحَّاءَ فَكَيْفَ بِمَنْ
سِوَاهُمْ مِنْ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاءِ ، فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ لِوُقُوفِ الدَّوَابِّ سِيَّمَا لِأَجْلِ
الْغِلْمَان الْمُمْسِكِينَ لِتِلْكَ الدَّوَابِّ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمَوَاضِعِ
الَّتِي هِيَ مُعَدَّةٌ لِجَعْلِ الدَّوَابِّ فِيهَا كَالْفَنَادِقِ
وَالْإِصْطَبْلَاتِ وَغَيْرِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَوَاضِعُ
لَكَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِهَا
إلَى الْمَسْجِدِ يُرْسِلُهَا إلَى مَوْضِعِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهِ
وَيُخْبِرُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُهَا
فِيهِ فَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ الضَّرَرِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْهَى الْبَيَّاعِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي سَمَاعِ الْخَطِيبِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ إذْ إنَّهُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ حُرِّمَ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ وَبَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَكُونُ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ وَهُمْ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ وَلَا يَسْتَحْيُونَ .
وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ
صَلَاتِهِمْ الْجُمُعَةَ فِي الدَّكَاكِينِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ
عِنْدَهُ فِي مَوْضِعٍ مَحْجُورٍ .
وَإِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فِي
الْمَسْجِدِ أَوْ الطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ إنْ تَعَذَّرَ دُخُولُ
الْمَسْجِدِ وَبَعْضُهُمْ يَأْتِي إلَى الْجُمُعَةِ فَيَقْعُدُ فِي
الدُّكَّانِ يَنْتَظِرُ إقَامَةَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْمَسْجِدُ
بَعْدُ لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ
حَالٍ .
وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
الْإِتْيَانِ لِلْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا تَغْيِيرِ هَيْئَةٍ
فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ السَّلَفِ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ كَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا
أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُؤَكِّدَ الْأَمْرَ لِصَاحِبِهِ يَقُولُ لَهُ
وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتْرُكُ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ .
وَمِنْ
كِتَابِ الْقُوتِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَسَابُّونَ فَيَقُولُونَ
لَأَنْتَ شَرٌّ مِمَّنْ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
وَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ إنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ وَهُوَ
ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ أَوْ
وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ
قَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ الْوَتْرَ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ
سُنَّةً وَلِلِاخْتِلَافِ فِيهِ أَيْضًا هَلْ هُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ
الْفَرَائِضِ أَوْ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَمَا يُوجِبُ فِسْقَ
تَارِكِهِ فَجَدِيرٌ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُتْرَكُ إلَّا
مِنْ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ أَهْمَلُوا ذَلِكَ
حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ أَعْنِي عِنْدَ أَكْثَرِ
الْعَامَّةِ ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ حِكَايَةٌ تُحْكَى حَتَّى
كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْغُسْلِ لَهَا .
وَكَذَلِكَ
يَنْهَاهُمْ عَمَّا تَرَكُوهُ مِنْ لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ
لَهَا وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِهَا
الْمُؤَكَّدَةِ أَيْضًا .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلْيَتَطَيَّبْ بِأَطْيَبِ طِيبِهِ
مِمَّا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ فَذَلِكَ طِيبُ الرِّجَالِ
وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ انْتَهَى .
وَقَدْ
تَرَكَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ حَتَّى إنَّكَ لَتَجِدُ بَعْضَ
الْفُقَهَاءِ فِي الدَّرْسِ أَوْ فِي دُكَّانِهِ أَوْ حِينَ اجْتِمَاعِهِ
بِأَحَدِ الْقُضَاةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ عَلَى
هَيْئَةٍ مِنْ ثِيَابٍ وَرَائِحَةِ طِيبٍ وَغَيْرِهِمَا وَتَجِدُهُ فِي
صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَلَى هَيْئَةٍ دُونَهَا وَسَبَبُ هَذَا تَعْظِيمُ
الدُّنْيَا فِي الْقُلُوبِ وَالتَّهَاوُنُ بِشَعَائِر الدِّينِ
وَالْغَفْلَةُ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ .
وَلَا يَظُنُّ
ظَانٌّ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ هُوَ مَا
اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ ذَلِكَ عَلَى مَا
دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَكَانُوا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى
مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ أَثْمَانُ أَثْوَابِهِمْ الْقُمُصُ كَانَتْ مِنْ الْخَمْسَةِ
إلَى الْعَشَرَةِ فَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَثْمَانِ وَكَانَ جُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ وَخِيَارُ التَّابِعِينَ قِيمَةُ ثِيَابِهِمْ مَا بَيْنَ
الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُ أَنْ
يَكُونَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ الثِّيَابِ مَا يُجَاوِزُ قِيمَتُهُ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إلَى الْمِائَةِ وَيَعُدُّهُ
سَرَفًا فِيمَا جَاوَزَهَا انْتَهَى .
فَعَلَى هَذَا فَمَا زَادَ عَلَى
ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَهُمْ اللَّهُمَّ إلَّا
مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ دَفْعِ حَرٍّ أَوْ
بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ
الْجَائِزِ أَوْ الْمَنْدُوبِ أَوْ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ الْحَالِ .
فَإِذَا نَبَّهَ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا وَحَضَّ عَلَى فِعْلِهِ وَقَبَّحَ تَرْكَهُ تَنَبَّهَ النَّاسُ لِمَا ارْتَكَبُوهُ فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا أَوْ بَعْضُهُمْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْهَى
النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْأَذَانِ
الْأَوَّلِ لِلْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ
السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى
قِسْمَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرْكَعُ حِينَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ
وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصْعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَإِذَا جَلَسَ عَلَيْهِ قَطَعُوا تَنَفُّلَهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ
كَانَ يَرْكَعُ وَيَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ وَلَمْ
يُحْدِثُوا رُكُوعًا بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ وَلَا غَيْرِهِ فَلَا
الْمُتَنَفِّلُ يَعِيبُ عَلَى الْجَالِسِ وَلَا الْجَالِسُ يَعِيبُ عَلَى
الْمُتَنَفِّلِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا هُمْ الْيَوْمَ يَفْعَلُونَهُ
فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ حَتَّى إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَامُوا
لِلرُّكُوعِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا وَقْتٌ يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ .
وَقَدْ
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ قَالَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ فِي
الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } .
فَالْجَوَابُ أَنَّ السَّلَفَ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَفْقَهُ بِالْحَالِ وَأَعْرَفُ بِالْمَقَالِ فَمَا
يَسَعُنَا إلَّا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ اتِّبَاعَ السَّلَفِ
أَوْلَى ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الرُّكُوعُ إنَّمَا هُوَ لِلْجُمُعَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذَا مَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ رُكُوعِهِمْ الْمُتَقَدِّمُ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ وَقْتَ الْجُمُعَةِ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَلْ
هُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَوْ مِنْ الزَّوَالِ
فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي جَمَاعَةٍ إلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي وَقْتِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا
تَأَكَّدَ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ .
فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ فَعَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ رَكَعَ
وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَيَرْكَعُ وَهَذَا جَائِزٌ
فَكَيْفَ تَمْنَعُونَهُ .
فَالْجَوَابُ
إنَّا لَا نَمْنَعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتٌ يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ
لِمَنْ أَرَادَهُ وَإِنَّمَا الْمَنْعُ عَنْ اتِّخَاذِ ذَلِكَ عَادَةً
بَعْدَ الْأَذَانِ لَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ .
عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَذَانَ الْمَفْعُولَ الْيَوْمُ
أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَإِنَّمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ فَالْأَذَانُ الَّذِي فُعِلَ فِي السُّوقِ وَالرُّكُوعُ
لِلْجُمُعَةِ لَا يَكُونُ فِي السُّوقِ وَمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لَا
يَسْمَعُهُ حَتَّى يَرْكَعَ عِنْدَهُ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ
أَنَّ هِشَامًا لَمَّا أَنْ نَقَلَهُ كَانُوا يَرْكَعُونَ بَعْدَهُ عَلَى
أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ
لِأَنَّ فِعْلَ هِشَامٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ
مَثَلًا إنَّ النَّاسَ لَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِجَالٌ
يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ حَتَّى تُزَالَ بِهِمْ الْحُرْمَةُ فَالْجَوَابُ
أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ هُمْ رِجَالُهُ وَجُنْدُهُ وَحِزْبُهُ { أَلَا إنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } فَإِنْ قَالَ مَثَلًا إنَّ النَّاسَ
لَا يَرْجِعُونَ بِذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَرْجِعُوا
بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَ كُلَّ
ذَلِكَ لِلْمُحْتَسِبِ فَيَمْنَعُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ بِالْيَدِ
الْقَوِيَّةِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَقَدْ بَرِئَتْ
ذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا فَقَدْ بَرِئَتْ
ذِمَّةُ الْإِمَامِ وَأَمَّا قَبْلَ إيصَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ الذِّمَّةَ
لَا تَبْرَأُ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنْ رَعِيَّتِهِ
وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَعِيَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا ذُكِرَ كُلِّهِ
بِشَرْطٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْمُؤَذِّنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَذَانُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ } فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْمُؤَذِّنِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ مِنْ رَعِيَّتِهِمَا مَعًا فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَقْوَى وَأَفْضَلَهُمْ وَأَوْرَعَهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ إنْ اجْتَمَعَتْ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهَا فَأَكْثَرُهَا فَيَتَّخِذُ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ مُؤَذِّنًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شُرُوطُ الْمُؤَذِّنِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهَا لَكِنْ بَقِيَتْ الْأَوْصَافُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهَا فِيهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَيُكْرَهُ لَهُ التَّطْرِيبُ فِي الْأَذَانِ وَكَذَلِكَ التَّحْزِينُ وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ إمَالَةُ حُرُوفِهِ وَإِفْرَاطُ الْمَدِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ .
فَصْلٌ فِي مَوْضِعِ الْأَذَانِ
وَمِنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى
الْمَنَارِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ ،
فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى بَابِهِ .
وَكَانَ الْمَنَارُ عِنْدَ
السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِنَاءً يَبْنُونَهُ عَلَى سَطْحِ
الْمَسْجِدِ كَهَيْئَتِهِ الْيَوْمِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا فِيهِ
أَنَّهُمْ عَمِلُوهُ مُرَبَّعًا عَلَى أَرْكَانٍ أَرْبَعَةٍ وَكَانَ فِي
عَهْدِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُدَوَّرًا وَكَانَ
قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ خِلَافًا لِمَا أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ مِنْ
تَعْلِيَةِ الْمَنَارِ .
وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّالِثُ
: أَنَّ صَوْتَهُ يَبْعُدُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَنِدَاؤُهُ إنَّمَا
هُوَ لَهُمْ وَقَدْ بَنَى بَعْضُ الْمُلُوكِ فِي الْمَغْرِبِ مَنَارًا
زَادَ فِي عُلُوِّهِ فَبَقِيَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ لَا يَسْمَعُ
أَحَدٌ مِمَّنْ تَحْتَهُ صَوْتَهُ .
وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَنَارُ تَقَدَّمَ وُجُودُهُ بِنَاءَ الدَّارِ .
وَأَمَّا
إذَا كَانَتْ الدُّورُ مَبْنِيَّةً ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ يُرِيدُ
أَنْ يَعْمَلَ الْمَنَارَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ
يَكْشِفُ عَلَيْهِمْ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ
الْمَنَارِ وَالدُّورِ سِكَكٌ وَبُعْدٌ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا طَلَعَ
الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ وَرَأَى النَّاسَ عَلَى أَسْطِحَةِ
بُيُوتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ
فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ الْمَنَارُ أَعْلَى مِنْ الْبُيُوتِ قَلِيلًا
أَسْمَعَ النَّاسَ إذْ إنَّهُ يَعُمُّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا
إذَا كَانَ مُرْتَفِعًا كَثِيرًا وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي
الْأَذَانِ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ
الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً فَيُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فِي
الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَوْقَاتُهَا مُمْتَدَّةٌ فَيُؤَذِّنُونَ فِي
الظُّهْرِ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَفِي الْعَصْرِ
مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْخَمْسَةِ وَفِي الْعِشَاءِ كَذَلِكَ وَالصُّبْحِ يُؤَذِّنُونَ لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ سُدُسِ اللَّيْلِ الْآخِرِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي كُلِّ ذَلِكَ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْمَغْرِبِ لَا يُؤَذِّنُ لَهَا إلَّا وَاحِدٌ لَيْسَ إلَّا .
فَصْلٌ
فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً فَإِنْ كَثُرَ الْمُؤَذِّنُونَ فَزَادُوا عَلَى
عَدَدِ مَا ذُكِرَ وَكَانُوا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الثَّوَابَ وَخَافُوا
أَنْ يَفُوتَهُمْ الْوَقْتُ وَلَمْ يَسَعْهُمْ الْجَمِيعُ إنْ أَذَّنُوا
وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ سَبَقَ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى ، فَإِنْ
اسْتَوَوْا فِيهِ فَإِنَّهُمْ يُؤَذِّنُونَ الْجَمِيعَ .
قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ
الرَّوْضَةِ لَهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِذَا تَرَتَّبَ لِلْأَذَانِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا
فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَرَاسَلُوا بَلْ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ
تَرَتَّبُوا فِيهِ ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ أُقْرِعَ
بَيْنَهُمْ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا
أَذَّنُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَقَفُوا
مَعًا وَأَذَّنُوا وَهَذَا إنْ لَمْ يُؤَدِّ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ إلَى
تَشْوِيشٍ ، فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِ لَمْ يُؤَذِّنْ إلَّا وَاحِدٌ ، فَإِنْ
تَنَازَعُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ انْتَهَى .
وَأَذَانُهُمْ جَمَاعَةً
عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُخَالِفَةِ
لِسُنَّةِ الْمَاضِينَ وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَذَانِ وَغَيْرِهِ
مُتَعَيِّنٌ وَفِي الْأَذَانِ آكَدُ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ أَعْلَامِ
الدِّينِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ قَوْمًا أَمْهَلَ حَتَّى
يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ سَمِعَ الْأَذَانَ تَرَكَهُمْ وَإِنْ
لَمْ يَسْمَعْهُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ ؛ وَلِأَنَّ فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً
جُمْلَةُ مَفَاسِدَ .
مِنْهَا : مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ .
الثَّانِي
: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ فِي الْأَذَانِ خَفِيَ أَمْرُهُ فَلَا يُسْمَعُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْجَمَاعَةِ إذَا
أَذَّنُوا
عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ لَا يَفْهَمُ السَّامِعُ مَا يَقُولُونَ
وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانِ إنَّمَا هُوَ نِدَاءُ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ
فَذَهَبَتْ فَائِدَةُ مَعْنَى قَوْلِهِ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ
عَلَى الْفَلَاحِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمْشِي عَلَى صَوْتِ بَعْضٍ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانِ
أَنْ يَرْفَعَ الْإِنْسَانُ بِهِ صَوْتَهُ مَهْمَا أَمْكَنَهُ وَذَلِكَ
لَا يُمْكِنُهُ فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْخَامِسُ : أَنَّ
الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْأَذَانِ كُلِّهِ
لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي أَثْنَائِهِ فَيَجِدُ غَيْرَهُ
قَدْ سَبَقَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ
مَنْ تَقَدَّمَهُ فَيَتْرُكُ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُوَافِقُهُمْ
فِيمَا هُمْ فِيهِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ قَدْ مَضَتْ عَادَةُ
الْمُؤَذِّنِ عَلَى السُّنَّةِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ
عَمِلَ الْحُسْنَ مِنْ تَنَحْنُحٍ أَوْ كَلَامٍ مَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ
يُشْعِرُ بِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَذِّنَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
يَشْرَعُ فِي الْأَذَانِ هَذَا وَهُوَ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ
بِالْجَمَاعَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا خِيفَةَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَمَنْ حَوْلَهُ
عَلَى غَفْلَةٍ فَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ لِبَعْضِهِمْ رَجْفَةٌ فَإِذَا
كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ فَمَا بَالُكَ بِجَمَاعَةٍ
يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عَلَى بَغْتَةٍ .
وَقَدْ تَكُونُ حَامِلٌ
فَتَأْخُذُهَا الرَّجْفَةُ بِذَلِكَ فَتُسْقِطَ وَتَرْتَجِفُ بِذَلِكَ
الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ
ثَابِتٌ وَتَشْوِيشُهُمْ كَثِيرٌ قَلَّ أَنْ يَنْحَصِرَ قَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ جَمَاعَةً هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ فَجَعَلَ الْمُؤَذِّنِينَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ كَانُوا
يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَلَى الْمَنَارِ فِي عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُؤَذِّنُونَ بَيْنَ
يَدَيْهِ جَمِيعًا إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَخَذَ
الْأَذَانَ الَّذِي زَادَهُ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لَمَّا أَنْ كَثُرَ النَّاسُ وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَذِّنًا وَاحِدًا
فَجَعَلَهُ عَلَى الْمَنَارِ فَهَذَا الَّذِي أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ كَانُوا
فِيمَنْ قَبْلَهُ يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ شَيْئًا ثُمَّ
أَحْدَثُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ جَمْعًا كَثِيرًا
كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ .
وَكَذَلِكَ زَادُوا عَلَى الْمُؤَذِّنِ
الْوَاحِدِ عَلَى الْمَنَارِ فَجَعَلُوهُمْ جَمَاعَةً وَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ
لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ
ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَالثَّوَابُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لَا
بِالِابْتِدَاعِ وَإِنْ كَانَ لِأَخْذِ الْجَامِكِيَّةِ فَالْجَامِكِيَّةُ
لَا تُصْرَفُ فِي بِدْعَةٍ كَمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا
ابْتِدَاءً وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ فَمَفَاسِدُهُ
لَا تَنْحَصِرُ فِي الْغَالِبِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ
فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ بِالْأَلْحَانِ وَلْيَحْذَرْ فِي نَفْسِهِ
أَنْ يُؤَذِّنَ بِالْأَلْحَانِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَمَّا أَحْدَثُوا
فِيهِ مِمَّا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي جَمَاعَةٍ
يَطْرَبُونَ تَطْرِيبًا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ حَتَّى لَا يُعْلَمُ مَا
يَقُولُونَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ إلَّا أَصْوَاتٌ تَرْتَفِعُ
وَتَنْخَفِضُ وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ
بِالْحُدُوثِ أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بِمَدْرَسَةٍ بَنَاهَا
ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا وَهَذَا الْأَذَانُ هُوَ
الْمَعْمُولُ بِهِ فِي الشَّامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهِيَ بِدْعَةٌ
قَبِيحَةٌ إذْ إنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ النِّدَاءُ إلَى
الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْهِيمِ أَلْفَاظِهِ لِلسَّامِعِ وَهَذَا
الْأَذَانُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا دَخَلَ أَلْفَاظَهُ مِنْ
شِبْهِ الْهُنُوكِ وَالتَّغَنِّي .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَحْدَثَ
فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَقَدْ رَوَى ابْنُ
جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { كَانَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ يُطْرِبُ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْأَذَانَ
سَهْلٌ سَمْحٌ ، فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَهْلًا سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا
تُؤَذِّنْ } أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ .
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ التَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ وَهُوَ مِنْ الْبَغْيِ
فِيهِ وَالِاعْتِدَاءِ .
قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ لِابْنِ
عُمَرَ إنِّي لَأُحِبّكَ فِي اللَّهِ فَقَالَ لَهُ لَكِنِّي أَبْغَضُكَ
فِي اللَّهِ فَقَالَ وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ لِأَنَّكَ
تَبْغِي فِي أَذَانِكَ وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أُجْرَةً .
وَكَانَ أَبُو
بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ خَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ
وَلَمْ يَحْلُ لِي الْمَقَامُ بِهَا قَدْ ابْتَدَعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ
حَتَّى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفِي الْأَذَانِ يَعْنِي الْإِجَارَةَ
وَالتَّلْحِينَ
انْتَهَى .
وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ
حَيْثُ يَرُدُّونَ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَوْنِهِ
يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالرُّجُوع إلَيْهِمْ ثُمَّ
إنَّهُمْ يُسْتَدَلُّونَ عَلَى جَوَاز هَذَا الْأَذَانِ الْمَذْكُورِ
بِأَنَّهُ مِمَّا مَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى أَنَّ
الْقَاعِدَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا حَدَثَ مِنْ جِهَةِ
الْمَشْرِقِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَدَى بِهِ لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا مِنْ
حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ } وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ وَمَا
حَدَثَ بِالشَّامِ إلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْبِدْعَةِ إذَا حَدَثَتْ فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا بَلْ يَضُمُّ إلَيْهَا
بِدَعًا أَوْ مُحَرَّمَاتٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَا أَنْ
أَحْدَثُوا هَذَا الْأَذَانَ تَعَدَّتْ بِدْعَتُهُ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ
أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْمَأْمُومِينَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ بِتِلْكَ
الْأَلْحَانِ وَذَلِكَ كَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ
لَا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِذَلِكَ وَإِذَا بَطَلَتْ
صَلَاتُهُمْ سَرَى ذَلِكَ إلَى فَسَادِ مَنْ ائْتَمَّ بِتَسْمِيعِهِمْ
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِدَاءُ
إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ عُدِمَتْ فَلَا ائْتِمَامَ
فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَنْ يَرَى أَفْعَالَ الْإِمَامِ فَإِنْ
تَعَذَّرَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَرُؤْيَةُ أَفْعَالِ
الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِمْ وَهَؤُلَاءِ
لَيْسُوا فِي صَلَاةٍ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ التَّسْمِيعِ جَمَاعَةً بِالْأَلْفَاظِ الْمَفْهُومَةِ فَإِنَّهُ
قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى بِتَسْمِيعِهِمْ بِنَاءً
عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي صَلَاتِهِمْ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
فَصْلٌ
فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
لِلْأَذَانِ ثَلَاثَةَ مَوَاضِعَ الْمَنَارُ وَعَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ
وَعَلَى بَابِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَمْنَعُ مِنْ
الْأَذَانِ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَمْعِ
بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي جَوْفِهِ .
وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلَا تَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ .
الثَّانِي
: أَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا هُوَ نِدَاءٌ لِلنَّاسِ لِيَأْتُوا إلَى
الْمَسْجِدِ وَمَنْ كَانَ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ لِنِدَائِهِ لِأَنَّ
ذَلِكَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا
يَسْمَعُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ غَالِبًا .
وَإِذَا كَانَ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ وَمَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ يُمْنَعُ .
الثَّالِثُ
: أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِيهِ تَشْوِيشٌ عَلَى مَنْ هُوَ
فِيهِ يَتَنَفَّلُ أَوْ يَذْكُرُ أَوْ يَفْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
الْعِبَادَاتِ الَّتِي بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِأَجْلِهَا وَمَا كَانَ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيُمْنَعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا
اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ
أَيْضًا إلَى بِدَعٍ أُخُرَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ
أَحْدَثُوا الْأَذَانَ فِي الْمَسْجِدِ اقْتَدَى الْعَوَامُّ بِهِمْ
فَصَارَ كُلُّ مَنْ خَطَرَ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ قَامَ وَأَذَّنَ فِي
مَوْضِعِهِ وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَا
يُحْسِنُونَ النُّطْقَ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ
وَيَنْقُصُونَ وَيَكْثُرُ التَّخْلِيطُ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الصِّبْيَانِ
الصِّغَارِ لَيُؤَذِّنُونَ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ تَغْيِيرِ الْأَذَانِ
وَبَيْنَ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ
كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَشَيْءٌ يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُجَنَّبَ بَيْتُ اللَّهِ مِنْهُ
فَصْلٌ فِي
الطَّوَافِ بِالْمُؤَذِّنِ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ
وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الطَّوَافِ
بِأَحَدِهِمْ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ وَكَذَلِكَ
يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ
بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ حِينَ يَطُوفُونَ بِهِ فِيهِ .
وَذَلِكَ
يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
هَلْ يُدْخَلُ بِالْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ
وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَمَا بَالُكَ بِمَا لَيْسَ
بِفَرْضٍ وَلَا سُنَّةٍ بَلْ لِلْعَبَثِ وَالْبِدْعَةِ وَإِقَامَتُهُ فِي
الْمَسْجِدِ حَتَّى يَطُوفُونَ بِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا
يَجُوزُ اتِّفَاقًا .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا أَنْ صُلِّيَ
عَلَيْهِ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى إبْقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ ،
الثَّالِثُ : أَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ دَفْنِهِ وَمِنْ إكْرَامِ الْمَيِّتِ
الْإِسْرَاعُ بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ
الْمُتَّبِعِينَ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَتَوْا بِالْمَيِّتِ إلَى
الْمَسْجِدِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ
وَقَالَ لِأَهْلِهِ : اذْهَبُوا إلَى دَفْنِهِ وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْكُمْ
إنْ لَمْ تُدْرِكُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ
يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي
يَطُوفُونَ بِهِ فِيهِ فَيَذْهَبُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ
أُمِرْنَا بِغَسْلِهِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ فِيهِ تَشْوِيشًا عَلَى
مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا نَوْعٌ مِمَّا أَحْدَثَ
بَعْضُ الشُّرَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا مَاتَ لَهُمْ
مَيِّتٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا
فَيَدْخُلُونَ بِهِ الْمَسْجِدَ فَيَطُوفُونَ بِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ
سَبْعًا وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْأُمُورِ الْحَادِثَةِ .
وَفِيهِ
مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ أَجْلِ
الطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ وَحُرْمَةِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِهِ
وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي الدُّخُولِ إلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ فِي أَذَانِ الشَّابِّ عَلَى الْمَنَارِ
وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَذَانِ الشَّابِّ
عَلَى الْمَنَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوْصَافِ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَتْقَاهُمْ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الشَّابِّ .
وَيَنْبَغِي
لِلْمُؤَذِّنِ الَّذِي يَصْعَدُ عَلَى الْمَنَارِ أَنْ يَكُونَ
مُتَزَوِّجًا لِأَنَّهُ أَغَضُّ لِطَرْفِهِ وَالْغَالِبُ فِي الشَّابِّ
عَدَمُ ذَلِكَ وَالْمَنَارُ لَا يَصْعَدُهُ إلَّا مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ .
وَقَدْ
كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ وَكَانَ يَصْحَبُ إمَامَ
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُنَاكَ وَكَانَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ
وَلَدٌ حَسَنُ الصَّوْتِ فَطَلَبَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ
لِوَلَدِهِ فِي الصُّعُودِ عَلَى الْمَنَارِ لِيُؤَذِّنَّ فِيهِ فَأَبَى
عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ وَلِمَ تَمْنَعُهُ قَالَ إنَّ الْمَنَارَ لَا
يَصْعَدُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا إلَّا مَنْ شَابَ ذِرَاعَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي السِّنِّ فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَامْتَنَعَ
مِنْهُ ، وَقَالَ أَتُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَ الْفِتْنَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ تَرَاهُ امْرَأَةٌ فَتَشْغَفُ
بِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا قَدْ يَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ
عَنْهُ فَتَقَعُ الْفِتَنُ أَقَلُّ مَا فِيهِ شَغْلُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ
كَانُوا عَنْهُ فِي غِنًى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى
وَإِيَّاكَ كَيْفَ كَانَ تَحَرُّزُهُمْ فِي هَذَا الْعَهْدِ الْقَرِيبِ
وَكَيْفَ هُوَ الْحَالُ الْيَوْمَ .
هَذَا وَهُمْ يُؤَذِّنُونَ
الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تَمْيِيلٍ وَلَا
تَصَنُّعٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَنَارِ .
وَأَمَّا
عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ عَلَى سَطْحِهِ إنْ
أَمِنَ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى أَحَدٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ
فِي النَّهْيِ عَمَّا أَحْدَثُوهُ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ
وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ
بِاللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنًا سِرًّا
وَعَلَنًا لَكِنْ لَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَرَكَهَا الشَّارِعُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا شَيْئًا
مَعْلُومًا .
وَقَدْ رَتَّبَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ لِلصُّبْحِ أَذَانًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَذَانًا
عِنْدَ طُلُوعِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ
يُؤَذِّنُونَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
عَلَى سَبِيلِ الْإِخْفَاءِ لِتَرْكِهِمْ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ حَتَّى
لَا يُسْمَعَ .
وَهَذَا ضِدُّ مَا شُرِعَ الْأَذَانُ لَهُ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِعْلَامِ النَّاسِ بِالْوَقْتِ .
قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ
فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ } وَقَدْ
وَرَدَ أَذَانُ بِلَالٍ كَانَ يُنَوِّمُ الْيَقْظَانَ وَيُوقِظُ
الْوَسْنَانَ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ أَحْيَا اللَّيْلَ
كُلَّهُ فَإِذَا سَمِعَ أَذَانَ بِلَالٍ نَامَ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ
رَاحَةٌ وَنَشَاطٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ
نَائِمًا فَإِذَا سَمِعَ أَذَانَ بِلَالٍ قَامَ وَتَطَهَّرَ وَأَدْرَكَ
وِرْدَهُ مِنْ اللَّيْلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ فِي الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ مَتَى يَكُونُ فَقِيلَ بَعْدَ نِصْفِ
اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ مِنْ أَوَّلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ وَقِيلَ
السُّدُسُ الْأَخِيرُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ
كُلُّهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مَحَلًّا لِلْأَذَانِ فِيهِ .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يُرَتَّبُونَ
فِي أَذَانِهِمْ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِ
الْوَقْتِ الَّذِي هُمْ فِيهِ حَتَّى يَتَهَيَّئُوا لِلْعِبَادَةِ
فَيُرَتَّبُ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى حَسَبِ مَا يَسَعُ الْوَقْتُ مِنْ
عَدَدِهِمْ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِكَيْ يَكُونَ وَقْتُ أَذَانِ كُلِّ
إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا لَا
يَتَقَدَّمُهُ وَلَا
يَتَأَخَّرُهُ فَيَكُونُ النَّاسُ يَعْرِفُونَ بِالْعَادَةِ الْأَوَّلَ
وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَهَكَذَا إلَى الْمُؤَذِّنِ الْآخِرِ الَّذِي
يُؤَذِّنُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الرَّئِيسُ صَاحِبُ الْوَقْتِ
فَيَنْضَبِطُ الْوَقْتُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَيَعْرِفُ كُلُّ
إنْسَانٍ مِنْهُمْ كَمْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ الْغُسْلَ
أَوْ الْوُضُوءَ أَوْ الْوِرْدَ أَوْ الِاسْتِبْرَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ
فَيَتِمَّ النِّظَامُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ أَضْبَطُ حَالًا
وَأَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَجْلِ الِاتِّبَاعِ بِخِلَافِ مَا أَحْدَثُوهُ
مِنْ التَّسْبِيحِ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ
لَيَنْدُبُ الْأَطْلَالَ بِصَوْتٍ فِيهِ تَحْزِينٌ يَقْرُبُ مِنْ
النَّوْحِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُ
النَّاسُ فِي الْغَالِبِ أَيَّ وَقْتٍ هُمْ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ
بِالنِّسْبَةِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ سِيَّمَا وَهُمْ قَدْ أَحْدَثُوا
زِيَادَةً عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إذَا قَرُبَ طُلُوعُ الْفَجْرِ
سَكَتُوا سَكْتَةً طَوِيلَةً ثُمَّ يُؤَذِّنُونَ فَمَنْ أَفَاقَ فِي حَالِ
سُكُوتِهِمْ فَقَدْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ
بَعْدُ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَرَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ .
ثُمَّ
الْعَجَبُ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِلصُّبْحِ
الَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُخْفُونَ ذَلِكَ فَإِذَا فَرَغُوا
مِنْهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
السُّنَّةُ تَخْفَى وَغَيْرُ مَا شُرِعَ يَظْهَرُ .
فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا يُخْفُونَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِلصُّبْحِ
خِيفَةَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَيْهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَيَكُونُ
صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةً لِإِيقَاعِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّهُمْ لَوْ امْتَثَلُوا السُّنَّةَ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ تَرْتِيبِ
الْمُؤَذِّنِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَعْرُوفٌ
وَقْتُهُ وَكَذَلِكَ الثَّانِي إلَى الْمُؤَذِّنِ الَّذِي يُؤَذِّنُ عَلَى
الْفَجْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَمَا انْبَهَمَ الْوَقْتُ عَلَى أَحَدٍ
مِمَّنْ سَمِعَهُمْ وَكَانُوا
مُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَذَلِكَ
يَنْبَغِي أَنْ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ
وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكْبَرِ
الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْلَكَ بِهَا مَسْلَكَهَا
فَلَا تُوضَعُ إلَّا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا .
أَلَا
تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَمَعَ
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا
فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الْجُلُوسِ أَعْنِي الْجُلُوسَ فِي الصَّلَاةِ
لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلتِّلَاوَةِ فَالصَّلَاةُ
وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحْدَثُوهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لَمْ تَكُنْ تُفْعَلُ فِيهَا فِي
عَهْدِ مَنْ مَضَى وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ جِدًّا
أَقْرَبَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ
الْأُمَرَاءِ مِنْ التَّغَنِّي بِالْأَذَانِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَهِيَ
عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ وَبَعْدَ أَذَانِ
الْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِي
الْمَسْجِدِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَرْقَى الْمِنْبَرَ
وَعِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ يُسَلِّمُونَ عِنْدَ كُلِّ دَرَجَةٍ
يَصْعَدُهَا وَالْكُلُّ فِي الْإِحْدَاثِ قَرِيبٌ مِنْ قَرِيبٍ أَعْنِي
فِي زَمَانِنَا هَذَا وَأَصْلُ إحْدَاثِهِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ .
وَتَقَدَّمَ
الْحَدِيثُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ {
الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ } .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ كَيْفَ كَانَ خَوْفُ الصَّحَابَةِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْحَدَثِ فِي الدِّينِ وَمَا جَرَى لَهُمْ
مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ وَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ رَأَى الطَّيْرَ الَّذِي هُنَاكَ وَقَعَ
عَلَى الْقَذَرِ ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُ وَوَقَعَ عَلَى ثَوْبِهِ فَعَلِمَ
ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
عَلَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ يَغْسِلُهُ فَلَمَّا
أَنْ جَاءَ إلَى غَسْلِهِ قَالَ ، وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ
أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ
أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّهَا وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ
اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَنًا سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ لَيْسَ لَنَا
أَنْ نَضَعَ الْعِبَادَاتِ إلَّا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي وَضَعَهَا
الشَّارِعُ فِيهَا وَمَضَى عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ .
أَلَا تَرَى
إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ
اللَّهَ قَدْ بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ
يَفْعَلُ .
وَمِنْ كِتَابِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ رَزِينٍ قَالَ
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ عَطَسَ رَجُلٌ إلَى جَنْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ فَقَالَ الْحَمْدُ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَقُولُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا هَكَذَا
عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
نَقُولَ إذَا عَطَسْنَا وَإِنَّمَا عَلَّمَنَا نَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَى .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ
جَوَابٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُوعٌ بِنَصِّ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ .
قَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ مَنْ اتَّصَفَ بِالْإِنْصَافِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْغَالِبِ .
أَلَا
تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ فِي زَمَانِنَا هَذَا
أَقَلُّ مِنْ الْإِنْصَافِ فَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي زَمَانِ مَالِكٍ
عَلَى مَا ذُكِرَ فَمَا بَالُكَ بِهِ الْيَوْمُ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَقَدْ
وَقَعَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ
كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَخَتَمَ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ
الْبَحْرِ } فَقَالَ هَذَا الْعَالِمُ أَنَا أَعْمَلُ مِنْ كُلِّ
وَاحِدَةٍ مِائَةً فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا فَرَأَى فِي مَنَامِهِ
أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَحُشِرَ النَّاسُ إلَى الْمَحْشَرِ
وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ مَهُولٍ وَإِذَا بِمُنَادٍ يُنَادِي أَيْنَ
الذَّاكِرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فَقَامَ نَاسٌ مِنْ نَاسٍ قَالَ
فَقُمْت مَعَهُمْ فَجِئْنَا إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ مَلَائِكَةٌ يُعْطُونَ
النَّاسَ ثَوَابَ ذَلِكَ وَكُنْتُ أُزَاحِمُ مَعَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ
وَلَا يُعْطُونِي شَيْئًا فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ الْجَمِيعُ
فَجِئْتُ وَطَلَبْتُ مِنْهُمْ الثَّوَابَ فَقَالُوا لِي مَا لَكَ
عِنْدَنَا شَيْءٌ فَقُلْتُ لَهُمْ وَلِمَ أَعْطَيْتُمْ أُولَئِكَ
فَقَالُوا لِي هَؤُلَاءِ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ
صَلَاةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ وَمَا كَانُوا يَذْكُرُونَ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ
كَانُوا يُسَبِّحُونَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ إلَخْ فَقُلْتُ أَنَا
وَاَللَّهِ كُنْتُ أَعْمَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةً فَقَالُوا مَا
هَكَذَا أَمَرَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَلْ أَمَرَ بِثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مَا لَكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ
فَانْتَبَهْتُ مَرْعُوبًا فَتُبْتُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا
أَزِيدَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَيْئًا فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَأَكِّدَةٌ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لَكِنَّ
اتِّخَاذَهَا عَادَةً مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى الْمَنَارِ عِنْدَ
طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ مَشْرُوعًا وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحَرَّى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
كَالزِّيَادَةِ عَلَى الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمَعَ مَا ذُكِرَ
مِنْ التَّعْلِيلِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ .
مِنْهَا
ارْتِكَابُ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { لَا
يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ } فَإِذَا نَهَى عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ مِنْ
أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَدْخُلُ مِنْ
التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِمَّنْ يَتَعَبَّدُ إذَا جَهَرَ
بِهِ فَمَا بَالُكَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ
الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ مِمَّا يُشْبِهُ
الْغِنَاءَ فِي وَقْتٍ وَالنَّوْحَ فِي وَقْتٍ وَنَدْبَ الْأَطْلَالِ فِي
وَقْتٍ وَيَنْشُدُونَ فِيهِ الْقَصَائِدَ وَفِي الْمَسْجِدِ مِنْ
الْمُتَهَجِّدِينَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ
إلَّا وَقَدْ وَصَلَ لَهُ مِنْ التَّشْوِيشِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ
فَيَتَفَرَّقُ أَمْرُهُمْ وَتَتَشَوَّشُ خَوَاطِرُهُمْ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَيُمْنَعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ إلَيْهِ .
فَأَيْنَ
هَذَا مِمَّا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ
حِينَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ ثُمَّ
دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ إذْ ذَاكَ
خَلِيفَةً وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا
أَنْ سَمِعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ
لِخَادِمِهِ اذْهَبْ إلَى هَذَا الْمُصَلَّى فَقُلْ لَهُ إمَّا أَنْ
تَخْفِضَ صَوْتَكَ وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَجَاءَ الْخَادِمُ فَوَجَدَ الْمُصَلِّيَ
عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَجَعَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا
فَلَمَّا أَنْ سَلَّمَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ
لِخَادِمِهِ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ تَنْهَى هَذَا الْمُصَلَّى عَمَّا هُوَ
يَفْعَلُ فَقَالَ لَهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَالَ اذْهَبْ إلَيْهِ وَقُلْ لَهُ مَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ فَذَهَبَ
إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : إنَّ سَعِيدًا يَقُولُ لَكَ إمَّا أَنْ تَخْفِضَ
صَوْتَكَ وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَخَفَّفَ فِي
صَلَاتِهِ فَلَمَّا أَنْ سَلَّمَ مِنْهَا أَخَذَ نَعْلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا مِنْ تَوَاضُعِهِ فِي خِلَافَتِهِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّ بَعْضَ الْعَوَامّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِأَجْلِ
سَمَاعِ التَّسْبِيحِ بِتِلْكَ الْأَلْحَانِ وَالنَّغَمَاتِ فَيَقَعُ
مِنْهُمْ أَشْيَاءُ مِنْ الزَّعَقَاتِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِمَّا يُنَزَّهُ
الْمَسْجِدُ عَنْهَا الثَّالِثُ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ صُعُودِ
الشُّبَّانِ إذْ ذَاكَ عَلَى الْمَنَارِ وَلَهُمْ أَصْوَاتٌ حَسَنَةٌ
وَنَغَمَاتٌ تُشْبِهُ الْغِنَاءَ فَيَرْفَعُونَ عَقِيرَتَهُمْ بِذَلِكَ
فَكُلُّ مَنْ لَهُ غَرَضٌ خَسِيسٌ يَصْدُرُ مِنْهُ فِي وَقْتِ سَمَاعِهِ
مَا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا
إلَى تَعَلُّقِ قَلْبِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالشَّابِّ الَّذِي
يَسْمَعُونَهُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْفِتَنِ أَشْيَاءُ لَا
تَنْحَصِرُ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ
الْمَغْرِبِ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الَّذِي يُؤَذِّنُ
عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّرْتِيبِ
اجْتَمَعَ الْمُؤَذِّنُونَ بِجَمْعِهِمْ وَنَادَوْا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ
أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَيُكَرِّرُونَ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً
مَعَ دَوَرَانِهِمْ عَلَى الْمَنَارِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لَا
ضَرُورَةَ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ
الْمُؤَذِّنَ الَّذِي يُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ يَكُونُ وَقْتُهُ
مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِينَ فَمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ عَلِمَ أَنَّ
الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ
مَا أَحْكَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ فَمَفَاسِدُهُ عَدِيدَةٌ
لَا تَنْحَصِرُ
فَصْلٌ فِي التَّسْحِيرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ
التَّسْحِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ
مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ
سِيَّمَا وَهُمْ يَقُومُونَ إلَى التَّسْحِيرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ
لِأَنَّ السُّحُورَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْوَى بِهِ
الْإِنْسَانُ عَلَى صَوْمِ النَّهَارِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا إذَا
فُعِلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِقَلِيلٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ { تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ : كَمْ
كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً }
فَإِذَا تَسَحَّرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَالْغَالِبُ
عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوعُ إلَّا بَعْدَ الظُّهْرِ ، وَإِذَا جَاعَ
ذَلِكَ الْوَقْتَ فَمَسَافَةُ الْفِطْرِ قَرِيبَةٌ فَتَسْهُلُ لِذَلِكَ
الْعِبَادَةُ وَلِذَلِكَ سَمَّوْا السَّحُورَ الْغَدَاءَ الْمُبَارَكَ
لِأَنَّ وَقْتَ السُّحُورِ قَرِيبٌ مِنْ وَقْتِ الْغَدَاءِ ، وَيَحْصُلُ
لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَجْرُ الصِّيَامِ مَعَ نَشَاطِ بَدَنِهِ وَتَوْفِيرِ
عُمْرِهِ لِقِيَامِ لَيْلِهِ لِأَنَّهُ إذَا تَسَحَّرَ فِي اللَّيْلِ
حَصَلَ لَهُ الْكَسَلُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِسَبَبِ الْبُخَارِ
الَّذِي يَصْعَدُ إلَى دِمَاغِهِ فَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبُهُ
النَّوْمُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَسَحَّرَ قَرِيبًا مِنْ طُلُوعِ
الْفَجْرِ فَإِنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْهُ اشْتَغَلَ بِالطَّهَارَةِ
لِصَلَاةِ الْفَرْضِ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي
أَوْرَادِهِ وَاشْتَغَلَ بِهَا ثُمَّ تَصَرَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
مُهِمَّاتِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ التَّهَجُّدُ فِي لَيْلِهِ وَخِفَّةُ
الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي نَهَارِهِ وَيَنْضَبِطُ حَالُهُ .
فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ : إنَّمَا يَتَسَحَّرُونَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ خِيفَةَ أَنْ
يَبْقَى النَّاسُ لَا يَعْرِفُونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجُوزُ لَهُمْ
الْأَكْلُ فِيهِ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ
الْمُؤَذِّنِينَ
إذَا كَانُوا عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ عَلِمَ النَّاسُ بِسَبَبِ
ذَلِكَ فِي أَيِّ جُزْئِهِمْ مِنْ اللَّيْلِ وَهَلْ يَأْكُلُونَ
وَيَشْرَبُونَ أَمْ لَا ؟ كَمَا كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُونَ جَوَازَ الْأَكْلِ بِأَذَانِ
بِلَالٍ وَمَنْعَهُ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ .
وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ
التَّسْحِيرِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ
الْمُتَهَجِّدِينَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الَّذِي
ذَكَرْتُمُوهُ إنَّمَا يَنْضَبِطُ بِهِ حَالُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
وَمَا حَوْلَهُ أَمَّا مَنْ بَعُدَ عَنْهُ فَلَا يَسْمَعُونَ
الْمُؤَذِّنِينَ وَلَا يَعْلَمُونَ فِي أَيِّ جُزْئِهِمْ مِنْ اللَّيْلِ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ الْمَسَاجِدَ قَدْ كَثُرَتْ فَمَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَّا
وَبِجَانِبِهِ مَسْجِدٌ أَوْ مَسَاجِدُ فَيُعْمَلُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ
أَذَانَانِ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِصَوْتِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عَلَى مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَيَكْفِيهِمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا
يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالثَّانِي يَدُلَّ عَلَى مَنْعِهِ
لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا تَابِعِينَ فِي أَذَانِهِمْ لِلْجَامِعِ
أَوْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَوْقَاتِ
وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ هُوَ الَّذِي
يَكُونُ فِيهِ مُؤَذِّنُونَ جُمْلَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
فَصْلٌ
فِي اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فِي التَّسْحِيرِ اعْلَمْ أَنَّ التَّسْحِيرَ
لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ
فِيهِ عَوَائِدُ أَهْلِ الْأَقَالِيمِ فَلَوْ كَانَ مِنْ الشَّرْعِ مَا
اخْتَلَفَتْ فِيهِ عَوَائِدُهُمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ التَّسْحِيرَ فِي
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْجَامِعِ يَقُولُ الْمُؤَذِّنُونَ
تَسَحَّرُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ
مَعْلُومٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ؟ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ
الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ
وَيُكَرِّرُونَ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً ثُمَّ يَسْقُونَ عَلَى
زَعْمِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ {
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } مِنْ قَوْله
تَعَالَى { إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ } إلَى قَوْلِهِ {
إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا } وَالْقُرْآنُ
الْعَزِيزُ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مَوْضِعِ بِدْعَةٍ أَوْ عَلَى
مَوْضِعِ بِدْعَةٍ ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا
تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ إنْشَادِ الْقَصَائِدِ وَمَا
تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ، وَيُسَحِّرُونَ أَيْضًا بِالطَّبْلَةِ يَطُوفُ
بِهَا أَصْحَابُ الْأَرْبَاعِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْبُيُوتِ
وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهَا هَذَا الَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ
وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة
وَأَهْلُ الْيَمَنِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَيُسَحِّرُونَ بِدَقِّ
الْأَبْوَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْبُيُوتِ وَيُنَادُونَ عَلَيْهِمْ قُومُوا
كُلُوا ، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْبِدَعِ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا
أَهْلُ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ يُسَحِّرُونَ بِدَقِّ الطَّارِ وَضَرْبِ
الشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالْهُنُوكِ وَالرَّقْصِ وَاللَّهْوِ
وَاللَّعِبِ وَهَذَا شَنِيعٌ جِدًّا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِيَامِ قَابَلُوهُ بِضِدِّ
الْإِكْرَامِ
وَالِاحْتِرَامِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَأَمَّا
بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ قَرِيبًا مِنْ فِعْلِ
أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَقْتُ السُّحُورِ عِنْدَهُمْ
يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ عَلَى الْمَنَارِ وَيُكَرِّرُونَهُ سَبْعَ
مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعْدَهُ يَضْرِبُونَ بِالْأَبْوَاقِ سَبْعًا أَوْ خَمْسًا
فَإِذَا قَطَعُوا حُرِّمَ الْأَكْلُ إذْ ذَاكَ عِنْدَهُمْ .
ثُمَّ
الْعَجَبُ مِنْهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ
يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ فِي الْأَفْرَاحِ الَّتِي
تَكُونُ عِنْدَهُمْ وَيَمْشُونَ بِذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِذَا
مَرُّوا عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ سَكَتُوا وَأَسْكَتُوا وَيُخَاطِبُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَوْلِهِمْ احْتَرِمُوا بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى
فَيَكُفُّونَ حَتَّى يُجَاوِزُونَهُ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا
عَلَيْهِ ، ثُمَّ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ شَهْرُ
الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى مِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ يَأْخُذُونَ فِيهِ النَّفِيرَ
وَالْأَبْوَاقَ وَيَصْعَدُونَ بِهَا عَلَى الْمَنَارِ فِي هَذَا الشَّهْرِ
الْكَرِيمِ وَيُقَابِلُونَهُ بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا
يَدُلُّك عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّسْحِيرِ بِدْعَةٌ بِلَا شَكٍّ وَلَا
رَيْبٍ ، إذْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَأْثُورَةً لَكَانَتْ عَلَى شَكْلٍ
مَعْلُومٍ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا فِي بَلْدَةٍ دُونَ أُخْرَى كَمَا
تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ قَدَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا
التَّغْيِيرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ خُصُوصًا
كُلٌّ مِنْهُمْ يُغَيِّرُ مَا فِي إقْلِيمِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ
بِشَرْطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي بَلَدِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي مَسْجِدِهِ .
{
تَنْبِيهٌ } وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْتَرَّ أَوْ يَمِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ
الْبِدَعِ بِسَبَبِ مَا مَضَتْ لَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ وَتَرَبَّى
عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ سُمٌّ وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِهَا .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمَغَارِبَةِ وَكَانَ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي يُسَحِّرُونَ فِيهِ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ لَمَّا
أَنْ
سَمِعَ الْمُسَحِّرِينَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يَقُولُونَ تَسَحَّرُوا
كُلُوا وَاشْرَبُوا قَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ وَأَنْكَرَهَا
لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ ، وَمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ هُوَ
أَكْثَرُ شَنَاعَةً وَقُبْحًا وَأَقْرَبُ إلَى الْمَنْعِ مِمَّا
أَنْكَرَهُ هُنَا ، فَالْعَوَائِدُ قَلَّ أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ مَعَهَا
إلَّا بِتَأْبِيدٍ وَتَوْفِيقٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَلِأَجَلِ
الْعَوَائِدِ وَمَا أَلِفَتْ النُّفُوسُ مِنْهَا أَنْكَرَتْ قُرَيْشٌ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ
الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكُفْرِهِمْ
وَطُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ بِقَوْلِهِمْ { إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ
مُبِينٌ } { سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } { سِحْرٌ يُؤْثَرُ } .
{ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا } .
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } .
{
إنْ هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْأَلْفَاظِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بِسَبَبِ مَا تَرَبَّوْا عَلَيْهِ
وَنَشَئُوا فِيهِ .
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذَا السُّمِّ
فَإِنَّهُ قَاتِلٌ وَمِلْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا
لِخَلَاصِ مُهْجَتِكَ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَاقْبَلْ
نَصِيحَةَ أَخٍ مُشْفِقٍ ، فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ أَفْضَلُ عَمَلٍ
يَعْمَلُهُ الْمَرْءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا
وَإِيَّاكَ لِمَا يَرْضَاهُ بِمَنِّهِ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِ .
سُؤَالٌ
وَارِدٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ التَّسْحِيرَ مِنْ الْبِدَعِ
الْمُسْتَحَبَّاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبِدَعَ قَدْ قَسَّمَهَا
الْعُلَمَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ وَهِيَ
مِثْلُ كَتْبِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى
لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ فِي صُدُورِهِمْ وَكَشَكْلِ الْمُصْحَفِ
وَنَقْطِهِ .
الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ : بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ
قَالُوا : مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَتَنْظِيفِ الطُّرُقِ
لِسُلُوكِهَا وَتَهْيِئِ الْجُسُورِ وَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
الْبِدْعَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ الْمُبَاحَةُ كَالْمُنْخُلِ وَالْأُشْنَانِ وَمَا شَاكَلَهُمَا .
الْبِدْعَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ الْمَكْرُوهَةُ مِثْلُ الْأَكْلُ عَلَى الْخُوَانِ وَمَا أَشْبَهَ .
الْبِدْعَةُ الْخَامِسَةُ : وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ .
مِنْهَا
مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ اللَّاتِي وَصَفَهُنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ { نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ
مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ
لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا } وَمِمَّا يَقْرَبُ
مِنْهُ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ طَرِيقًا وَمِنْهَا اتِّخَاذُهَا
لِلدُّيُونِ وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ،
وَمَسْأَلَةُ التَّسْحِيرِ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى فِعْلِهَا إذْ إنَّ
صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ
الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِلصُّبْحِ دَالًّا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَالثَّانِي دَالًا عَلَى تَحْرِيمِهِمَا فَلَمْ يَبْقَ أَنْ
يَكُونَ مَا يُعْمَلُ زِيَادَةً عَلَيْهِمَا إلَّا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ
لِأَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ إذَا أَذَّنُوا مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
انْضَبَطَتْ الْأَوْقَاتُ وَعُلِمَتْ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى النَّاسُ عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ تَعْلِيقِ
الْفَوَانِيسِ الَّتِي جَعَلُوهَا عَلَمًا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مَا دَامَتْ مُعَلَّقَةً مَوْقُودَةً وَعَلَى
تَحْرِيمِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلُوهَا ، وَذَلِكَ
يُمْنَعُ فِعْلُهُ
لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ذَكَرُوا أَنْ يُعَلِّمُوا وَقْتَ
الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فَذَكَرُوا أَنْ يُوقِدُوا نَارًا أَوْ
يَضْرِبُوا نَاقُوسًا كَالنَّصَارَى .
وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ بَدَلًا
عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلُوا وَاحِدًا مِنْهَا إذْ إنَّهَا مِنْ خِصَالِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَالنَّارُ يَعْبُدُهَا الْمَجُوسُ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا بِالصَّوْمِ إذْ إنَّهُ قَدْ
تَنْطِفِي فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَرَاهَا
مَوْقُودَةً أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَتْرُكُ الْأَكْلَ
وَالشُّرْبَ وَغَيْرَهُمَا وَقَدْ يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى ذَلِكَ
فَيَتَضَرَّرُ فِي صَوْمِهِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ
يَنْسَاهَا مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا مَوْقُودَةً أَوْ يَنَامُ عَنْهَا
فَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهَا كَذَلِكَ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ
فَيَتَعَاطَى شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُفْسِدُ بِهِ صَوْمَهُ
.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ تَشْتَبِكُ وَلَا يَقْدِرُ مَنْ
هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا عَلَى خَلَاصِهَا فَحُكْمُهُ كَالْوَجْهِ الَّذِي
قَبْلَهُ ، وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ مِمَّا قَبْلَهَا
وَهِيَ مُخَاطَرَةُ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا بِنَفْسِهِ إذَا
اشْتَبَكَتْ وَكَانَتْ مَوْقُودَةً وَحَاوَلَ خَلَاصَهَا فَإِنَّهُ قَدْ
يَسْقُطُ فَيَمُوتُ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ
فِي التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا
أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ
وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ مِنْ السَّلَفِ
الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ بَلْ هُوَ قَرِيبُ
الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ ، وَهُوَ الَّذِي
أَحْدَثَ التَّغَنِّيَ بِالْأَذَانِ فِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبِدْعَةُ هَذَا أَصْلُهَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُهَا .
سُؤَالٌ
وَارِدٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : النَّاسُ مُضْطَرُّونَ إلَى التَّذْكَارِ
لِكَيْ يَقُومُوا مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَيَخْرُجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ
فَيَأْتُوا إلَى الْمَسْجِدِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ
مَنْ يَأْتِي إلَى الْجُمُعَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا
فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْأَذَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي
فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْفِيهِ
سَمَاعُهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَهُوَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ
الْأَوَّلَ الَّذِي لِلتَّذْكَارِ فَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ بِالِاحْتِيَاطِ
، أَلَّا تَرَى أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ
بِحَسَبِ قُرْبِ مَوَاضِعِهِمْ وَبُعْدِهَا ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَى
بَعْضِهِمْ الْإِتْيَانُ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ ،
وَعَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ الزَّوَالِ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْقُرْبِ
وَالْبُعْدِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو
إلَى مَا أَحْدَثُوهُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ
الْمَفَاسِدُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا أَعْنِي مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى
مَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الْجُمُعَةَ ، وَهُمْ عَلَى مَا
يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ مِنْهُمْ الْمُصَلِّي وَمِنْهُمْ الذَّاكِرُ
وَالتَّالِي وَالْمُتَفَكِّرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَهَذِهِ
الْبِدْعَةُ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْأَقَالِيمِ لَكِنَّ
كُلَّ أَهْلِ إقْلِيمٍ قَدْ اخْتَصُّوا بِعَوَائِدَ كَمَا مَضَى ذَلِكَ
فِي التَّسْحِيرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّذْكَارَ فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ
عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَفِي الْمَغْرِبِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ
يَجْتَمِعُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ
عَلَى الْمَنَارِ فَيَقُولُونَ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ وَيَدُورُونَ
عَلَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا .
وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
الثَّانِي
: أَنَّ الْعَامَّةَ تَسْمَعُهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْغُسْلَ
لِلْجُمُعَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَهَا ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ لَا
يَسْأَلُونَ الْعُلَمَاءَ فَتَنْدَرِسُ هَذِهِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمْ
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ يُنَادُونَ الْغُسْلَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ
فَذَلِكَ يُمْنَعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ النَّاسِ مَنْ
يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِلْجُمُعَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ ، فَقَدْ
يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِجَهْلِهِ وَهُوَ لَا
يَسْأَلُ وَيَسْمَعُ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
فَيَتْرُكَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : مَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
{
فَصْلٌ } قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ لِلْفَجْرِ يَكُونُونَ
عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَكَذَلِكَ يَكُونُونَ فِي
أَذَانِ الظُّهْرِ فَيُعْلَمُ الْمُؤَذِّنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي
وَالثَّالِثُ وَهَكَذَا إلَى الْآخِرِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى آخِرِ
أَذَانِهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عَلَى عِلْمٍ مِنْ الْوَقْتِ
فَيَتَأَهَّبُونَ لِلصَّلَاةِ بِإِيقَاعِ الطَّهَارَةِ وَالْجُلُوسِ
لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ الْجُلُوسِ فِي دَكَاكِينِهِمْ حَتَّى
يَسْمَعُوا الْمُؤَذِّنَ الْآخِرَ فَيَتْرُكُوا إذْ ذَاكَ بَيْعَهُمْ
وَشِرَاءَهُمْ وَيَهْرَعُونَ لِصَلَاتِهِمْ حَتَّى يَقْضُوهَا .
لَكِنْ
زَادَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ هُنَا بِدْعَةً وَهِيَ أَنَّهُ إذَا
فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ الْآخِرُ الَّذِي يُصَلُّونَ عَلَى آخِرِ أَذَانِهِ
يَجْتَمِعُ جَمَاعَةُ الْمُؤَذِّنِينَ فَيُنَادُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ
حَضَرَتْ الصَّلَاةُ رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَيَدُورُونَ عَلَى الْمَنَارِ
مِرَارًا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْعَصْرِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ
اجْتَمَعُوا بِجَمْعِهِمْ وَنَادَوْا أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَيَدُورُونَ عَلَى الْمَنَارِ مِرَارًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ
لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ تَدْعُ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ
يَتَرَتَّبُونَ جَمَاعَةً فِي الْعَصْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ،
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ وَوَقْتُهَا
ضَيِّقٌ لَا يَسَعُ الْمُؤَذِّنِينَ جَمَاعَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ
فَيُؤَذِّنُ لَهَا وَاحِدٌ لَيْسَ إلَّا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
الْمُؤَذِّنِينَ إذَا تَزَاحَمُوا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ
الثَّوَابِ وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمْ الْآخَرَ أَذَّنُوا جَمَاعَةَ
كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ
رَفِيقِهِ وَيَتَرَتَّبُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْعِشَاءِ كَمَا فِي
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .
فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَرْتِيبِ الْأَذَانِ
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي
الْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَيْفَ عَمَّتْ مَنْفَعَتُهُ
لِلْأُمَّةِ إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ قَالَ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا
يَقُولُ } وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مَنْ
حَكَاهُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا لَيْسَ
إلَّا لَفَاتَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ إذْ
إنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُكَلَّفُ قَاعِدًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ فِي
سُوقِهِ مَشْغُولًا لَا يَسْمَعُهُ أَوْ فِي أَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ أَوْ
نَوْمِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ ، فَلَوْ كَانَ
الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً يُؤَذِّنُونَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ لَفَاتَتْهُمْ
حِكَايَتُهُ ، فَإِذَا أَذَّنُوا عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ وَاحِدًا
بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ حِكَايَةِ
الْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَ الثَّانِي ، وَكَذَلِكَ قَدْ
يَتَنَبَّهُ النَّائِمُ مِنْ نَوْمِهِ فَيَحْكِيهِ وَيَعْلَمُ فِي أَيِّ
وَقْتٍ هُوَ مِنْ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فَتَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ لِلْأُمَّةِ
.
وَقَدْ وَرَدَ { أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ لَا يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ
عِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ إلَى الْجِهَادِ وَعِنْدَ اصْطِفَافِهِمْ إلَى
الصَّلَاةِ وَعِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ }
فَإِذَا حَكَى الْمُكَلَّفُ الْمُؤَذِّنَ وَدَعَا بِمَا يَخْتَارُهُ
اُسْتُجِيبَ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَعْدِ الْجَمِيلِ ،
وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَجِيبَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا نُقِلَ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَقَالَ : إنِّي
أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ } ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ
قَالَ الْوَاصِفُ لِصَوْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
إنَّهُ
{ كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ إنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى
نَقُولَ إنَّهُ لَا يَصُومُ ، وَمَا أَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا
رَمَضَانَ } .
وَذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ وَأَخْذٌ مِنْهُ بِالْأَفْضَلِ وَالْأَعْلَى .
أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَامَ يَوْمًا وَأَفْطَرَ يَوْمًا لَفَاتَتْ تِلْكَ
الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ مِثْلِ الْمُسَافِرِ
وَالْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ ، وَعَلَى مَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ يُدْرِكُ كُلٌّ مِنْهُمْ الْفَضِيلَةَ بِكَمَالِهَا وَذَلِكَ
نِصْفُ الدَّهْرِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا أَخْبَرَ بِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صَلَاةِ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُد
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ
وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ بَلْ قَالَ
الْوَاصِفُ لِقِيَامِهِ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ
لَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ قَائِمًا إلَّا
رَأَيْتَهُ نَائِمًا وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ مِنْ
اللَّيْلِ نَائِمًا إلَّا رَأَيْتَهُ قَائِمًا ، وَمَا ذَاكَ إلَّا
لِرِفْقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأُمَّتِهِ حَتَّى لَا
تَفُوتُهُمْ فَضِيلَةُ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ،
فَمَنْ نَامَ مِنْهُمْ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ أَدْرَكَ الْجُزْءَ
الْآخَرَ فَسُبْحَانَ مَنْ أَهَّلَهُ لِلرِّفْقِ بِأُمَّتِهِ وَرَفْعِ
الْمَشَاقِّ عَنْهُمْ وَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ ، كَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ مَعَهُمْ : بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أُمَّتِهِ بِحُرْمَتِهِ عِنْدَكَ لَا
رَبَّ سِوَاكَ .
{ فَصْلٌ } وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا
أَحْدَثُوهُ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ
الصَّلَاةَ رَحِمكُمْ اللَّهُ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ
الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ
؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ
لِلْمُكَلَّفِ حُضُورَ الصَّلَاةِ بِسَمَاعِهِ الْأَذَانَ فَالزِّيَادَةُ
عَلَيْهِ بِدْعَةٌ .
هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ
إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَقِيَ الْأَذَانُ الشَّرْعِيُّ كَأَنَّهُ لَا مَعْنَى
لَهُ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَهِدُوا ذَلِكَ يَتَّكِلُونَ عَلَى وُقُوفِ
الْمُؤَذِّنِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى قَوْلِهِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْغَالِبُ
مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ لَمْ
يَهْرَعُوا إلَى الْمَسْجِدِ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا
وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْحَدِيثِ فِي الدِّينِ .
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَارًّا فِي طَرِيقٍ
بِالْبَصْرَةِ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَدَخَلَ إلَى الْمَسْجِدِ يُصَلِّي
فِيهِ الْفَرْضَ فَرَكَعَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أَثْنَاءِ الرُّكُوعِ ،
وَإِذَا بِالْمُؤَذِّنِ قَدْ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ
حَضَرَتْ الصَّلَاةُ رَحِمَكُمْ اللَّهُ ، فَفَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ
وَأَخَذَ نَعْلَيْهِ وَخَرَجَ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي فِي
مَسْجِدٍ فِيهِ بِدْعَةٌ .
{ فَصْلٌ } وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَةِ { إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ اُدْعُوا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ } عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الْأَذَانَ لِلْفَجْرِ وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا بَرَكَةً وَخَيْرًا لَكِنْ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَضَعَ الْعِبَادَاتِ إلَّا حَيْثُ وَضَعَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
فَصْلٌ
فِي النَّهْيِ عَنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي
وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ النِّدَاءِ عَلَى
الْغَائِبِ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي فِيهَا التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْظِيمُ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا
تُزَكُّوا عَلَى اللَّهِ أَحَدًا } وَالْمَيْتُ مُضْطَرٌّ إلَى الدُّعَاءِ
وَالتَّزْكِيَةُ ضِدُّ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ إذْ
إنَّهَا قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِهِ أَوْ تَوْبِيخِهِ فَيُقَالُ
لَهُ أَهَكَذَا كُنْت وَقَدْ وَقَعَ هَذَا مِنْهُمْ كَثِيرًا فِي
مَنَامَاتٍ رُئِيَتْ لَهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
أَلَا تَرَى إلَى
قَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّجُلِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الصَّالِحِ
الْعَابِدِ الْوَرِعِ الزَّاهِدِ النَّاسِكِ الْحَاجِّ إلَى بَيْتِ
اللَّهِ الزَّائِرِ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فُلَانِ الدِّينِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ
الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ :
إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى
الْغَائِبِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّنَا لَا نُنْكِرُ مَذْهَبَهُ بَلْ
نُنْكِرُ مَا أَنْكَرَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمَذْكُورَةِ .
فَلَوْ قَالَ
الْمُؤَذِّنُ مَثَلًا الصَّلَاةَ عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ
النَّازِلِ بِفِنَائِهِ الْمُضْطَرِّ إلَى رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ
فُلَانٍ بِاسْمِهِ الشَّرْعِيِّ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ
فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُكْرَهُ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ
مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يُخَافُ
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَعْيًا لِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ إذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤَذِّنُوا بِي أَحَدًا فَإِنِّي
أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا وَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ .
فَصْلٌ فِي النَّهْي عَنْ مَشْيِ الْمُؤَذِّنِينَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ أَمَامَ الْجَنَائِزِ وَرَفْعِهِمْ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ فَإِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَمَامَ الْجَنَائِزِ بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا وَالٍ مِنْ الْوُلَاةِ قَرِيبُ الْعَهْدِ جِدًّا أَحْدَثَهَا عَلَى جِنَازَةٍ كَانَتْ لَهُ ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إلَى أَنْ فَعَلَهُ بَعْضُ مَنْ لَهُ الرِّيَاسَةُ فِي الدَّوْلَةِ ثُمَّ انْتَشَرَ ذَلِكَ وَشَاعَ حَتَّى صَارَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مَا قَامَ بِحَقِّ مَيِّتِهِ ، وَيَا لَيْتَهُ لَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ لَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ وَخَيْرٍ وَبَرَكَةٍ ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى ضِدِّ مَا يَظُنُّونَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ وَمَنْ اتَّصَفَ بِالْبِدْعَةِ فَقَدْ تَعَذَّرَ وَصْفُهُ بِذَلِكَ .
فَصْلٌ
فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَوْ
الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى نَهْيِ النَّاسِ عَمَّا أَحْدَثُوهُ
حِينَ عَقْدِ الْأَنْكِحَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ إتْيَانِهِمْ
بِالْمَبَاخِرِ الْمُفَضَّضَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ
فِي بَيْتٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْبَخُورِ وَالطِّيبِ
مَنْدُوبًا إلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ مَالِكٌ إنَّ
الصَّدَقَةَ بِثَمَنِ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ لِأَجْلِ
ظَرْفِهِ لِأَنَّهُ مُفَضَّضٌ .
وَأَمَّا فَرْشُ الْبُسُطِ فِي
الْمَسْجِدِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَلَوْ كَانَتْ فِي الْبُيُوتِ لَكَانَ
ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِفَرْشِهَا الْمُبَاهَاةُ
وَمَا شَاكَلَهَا وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْجَهَالَةِ ، وَذَلِكَ
إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِهَذَا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ
يَتَلَبَّسُوا بِالْعِلْمِ وَلَا يَسْأَلُوا عَمَّا وَقَعَ لَهُمْ ،
وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْعِلْمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ
الْغَفْلَةِ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَمَّا يَجِبُ عَلَى
الْمَرْءِ فِي دِينِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّشَبُّهِ بِمَنْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالرُّعُونَةِ ، ثُمَّ
يَنْضَمُّ إلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يُنَزَّهْ عَنْهُ مِنْ
الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَةَ وَالتَّعْظِيمَ لَوْ
كَانَتْ فِي الشَّخْصِ أَوْ الْكَذِبِ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ وَكِلَاهُمَا
لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنْ التَّمَلُّقِ
وَالْأَيْمَانِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْأَيْمَانَ إذَا كَثُرَتْ فَإِنَّ
الْحِنْثَ فِيهَا وَاقِعٌ فَيَحْذَرُ مِنْ أَنْ يُسَامِحَ فِي شَيْءٍ مِنْ
هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ فِي تَهَيُّئِ
الْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ خُصُوصًا
الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ نَظِيفًا فِي نَفْسِهِ لِوُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ
فَقَدْ يَرَاهُ أَحَدٌ حِينَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْوُضُوءِ وَحْدَهُ
أَوْ يَسْمَعُ عَنْهُ ذَلِكَ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي تَرْكِ هَذِهِ
السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ
صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَهُمْ حَالًا وَمَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ
بِغَيْرِ غُسْلٍ فَهُوَ أَنْقُصُ حَالًا مِمَّنْ اغْتَسَلَ .
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ
يَتَجَنَّبَهَا فِي نَفْسِهِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ
أَحْسَنَ لِبَاسِ النَّاسِ الْبَيَاضُ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ لِبَاسِكُمْ الْبَيَاضُ } فَيَنْبَغِي
لِلْإِمَامِ أَنْ يُبَادِرَ إلَيْهِ قَبْلَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُلْبَسُ الْبَيَاضُ
، وَلُبْسُ السَّوَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَلَا
مِنْ الْفَضَائِلِ أَنْ يُنْظَرَ إلَى لَابِسِهِ انْتَهَى .
فَإِنْ
كَانَ الثَّوْبُ جَدِيدًا فَلْيَمْتَثِلْ السُّنَّةَ حِينَ لُبْسِهِ
بِأَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ يَقُولُ مَا وَرَدَ فِي
السُّنَّةِ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ لُبْسِهِ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ
وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ هَذَا
الثَّوْبِ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ
مَا صُنِعَ لَهُ } ثُمَّ يَقُولُ { اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِي عَوْنًا
عَلَى طَاعَتِك } وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى الثَّوْبَ الْجَدِيدَ عَلَى
غَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ
وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ {
تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ } .
وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي
سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ {
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَجَدَّ
ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ إمَّا قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً } زَادَ
التِّرْمِذِيُّ { أَوْ رِدَاءً ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ
أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ أَسْأَلُك خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ
وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ } قَالَ أَبُو
بَصْرَةَ وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إذَا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا قِيلَ لَهُ تُبْلَى وَيُخْلِفُ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ
وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ
حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ
وَمَا تَأَخَّرَ وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ
غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } وَإِنْ كَانَ
غَيْرَ جَدِيدٍ فَالتَّسْمِيَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ لُبْسِهِ
وَعِنْدَ خَلْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَالِبُ
لِبَاسِهِ الْبَيَاضَ سِيَّمَا لِلْخُطْبَةِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُ
السَّوَادِ جَائِزًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَبِسَهُ وَخَطَبَ فِيهِ لَكِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى لُبْسِهِ
لِلْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهِ بِدْعَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَلْبِسَ الْبَيَاضَ وَلَوْ كَانَ يَوْمًا مَا حَتَّى يَخْرُجَ بِذَلِكَ
مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَا لَمْ يُؤَدِّ لُبْسُ الْبَيَاضِ إلَى
تَوَقُّعِ فِتْنَةٍ أَوْ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ .
وَكَذَلِكَ الرَّئِيسُ يَتَجَنَّبُ مَا يَتَجَنَّبُهُ الْإِمَامُ .
وَكَذَلِكَ
يَتَحَفَّظُ مِنْ غَرْزِ الْإِبَرِ فِيمَا يَتَطَيْلَسُ بِهِ أَوْ
يَتَعَمَّمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ .
وَكَذَلِكَ
لَا يَلْبِسُ الْخُفَّيْنِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُهُمَا جَائِزًا سَفَرًا
وَحَضَرًا لَكِنَّ لُبْسَهُمَا لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ
الْجُمُعَةِ بِدْعَةٌ أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ يُتَحَفَّظُ مِنْ جَعْلِ
الْأَعْلَامِ السُّودِ عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ الْخُطْبَةِ فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَوَقَّعَ
الْفِتْنَةَ بِزَوَالِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ
بِقَلْبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ الْخُطَبَاءِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَامُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَكَيْفَ يَتْرُكُهَا الْإِمَامُ وَهُوَ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ لِبَيْتِ رَبِّهِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا بِمَنْصِبِهِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ حِينَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَيَفْعَلُ الْآدَابَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مَرَّةً لَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِ .
{ فَصْلٌ } وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُونَ إذْ ذَاكَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَرِّرُ مِنْ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى يَصِلُ إلَى الْمِنْبَرِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ فِي صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ أَوْ الْعَصَا أَوْ غَيْرَهُمَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى إذْ إنَّهَا السُّنَّةُ ، وَلِأَنَّ تَنَاوُلَ الطَّهَارَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْيَمِينِ وَالْمُسْتَقْذِرَات بِالشِّمَالِ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْيَسَارِ لِكَوْنِهِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فِي مُنَاوَلَتِهِ إذَا أَرَادَ أَحَدٌ اغْتِيَالَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْغِيلَةَ وَهَذَا مَأْمُونٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْإِمَارَةِ فِي الْغَالِبِ حَتَّى يَغْتَالَهُ أَحَدٌ .
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ
صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ
الْمِنْبَرَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقَدِّمَ الْيَمِينَ
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَحْذَرَ أَنْ يَضْرِبَ بِمَا فِي يَدِهِ عَلَى
دَرَجِ الْمِنْبَرِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ
فِعْلِ مَنْ مَضَى وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَمَا
تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمِنْبَرَ وَقْفٌ وَالضَّرْبُ
عَلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ مِمَّا يَضُرُّ بِهِ وَيَخْلُقُهُ ، وَإِنْ
كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِجَوَازِهِ لَكِنَّهُ مَحْجُوجٌ بِمَا
ذَكَرَ مِنْ الِاتِّبَاعِ .
وَكَذَلِكَ يَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَنْ
الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عِنْدَ كُلِّ ضَرْبَةٍ يَضْرِبُهَا عَلَيْهِ
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ
فِي رُقِيِّهِ الْمِنْبَرِ إلَّا لِضَرُورَةِ مِنْ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ
ضَعْفِ بَدَنٍ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْطُبُ
عَلَيْهِ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَجَلَسَ مِنْ غَيْرِ
سَلَامٍ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ
لَكِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ إذْ ذَاكَ وَبَعْضُهُمْ يُسَلِّمُ وَيَزِيدُ فِيهِ
بِدْعَةً وَهُوَ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ إلَى النَّاسِ وَلَا يَقِفُ
مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ لِيَدْعُوَ إذْ ذَاكَ
لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ عَدُّوا ذَلِكَ
مِنْ الْبِدَعِ .
فَصْلٌ فِي فَرْشِ السَّجَّادَةِ عَلَى
الْمِنْبَرِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْرِشَ السَّجَّادَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ
لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ
وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدْعَةً
وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ صَلَاةٍ .
وَكَذَلِكَ
يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ مَا يُفْرَشُ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ
مَنْ مَضَى فَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا .
وَيَنْهَى الرَّئِيسَ عَمَّا
أَحْدَثَهُ مِنْ نِدَائِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْخَطِيبِ الْخُطْبَةَ
بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ أَيُّهَا النَّاسُ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا قُلْتَ
لِصَاحِبِك وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ فَقَدْ
لَغَوْتَ } أَنْصِتُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ انْتَهَى .
وَالْعَجَبُ مِنْ
بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَخْذَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَسْتَحْسِنُونَ هَذَا الْفِعْلَ
وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ
وَعَادَتِهِمْ الْمُسْتَمِرَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ
يَنْهَاهُمْ أَيْضًا عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صُعُودِ الرَّئِيسِ عَلَى
الْمِنْبَرِ مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ يَجْلِسُ دُونَهُ وَذَلِكَ
يُمْنَعُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّئِيسَ بِهَذَا
الْفِعْلِ يُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي اسْتِقْبَالِهِ لِلْخَطِيبِ فِي حَالِ
الْخُطْبَةِ وَرَمَقِهِ بِعَيْنَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَدْبِرٌ لَهُ إذْ
ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى جَلَسَ مَعَ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ .
وَالْعَجَبُ
مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ
يَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَاتِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ أَنْصِتُوا رَحِمَكُمْ
اللَّهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ضِدَّ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَلَامِ
فَيَتَكَلَّمُ وَيَسْتَدْعِي الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ آمِينَ اللَّهُمَّ
آمِينَ غَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ يَقُولُ آمِينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّ مَذْهَبَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا ذَكَرَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ
السَّامِعُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ هُوَ
أَنْ يُسْمِعَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ
عَمَلِ السَّلَفِ فِي جَهْرِهِمْ فِي مَوَاضِعِ الْجَهْرِ لَا عَلَى مَا
يُعْهَدُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ
حَدِّ السَّمْتِ ،
وَحَالُ الْخُطْبَةِ حَالُ خُشُوعٍ وَحُضُورٍ إذْ
إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ عَلَى قَوْلِ
بَعْضِهِمْ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ
أَعْنِي الْإِنْصَاتَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ .
وَمَذْهَبُ
مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ أَوْ
النَّارَ أَوْ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
السَّامِعَ يَسْأَلُ وَيَسْتَعِيذُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَمَاعِهِ لِذَلِكَ سِرًّا فِي
نَفْسِهِ .
زَادَ أَشْهَبُ أَنَّ الْإِنْصَاتَ أَفْضَلُ لَهُ فَإِنْ
فَعَلَ فَسِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَوْ عَطَسَ فَيَحْمَدُ اللَّهَ سِرًّا
فِي نَفْسِهِ وَمَنْ سَمِعَهُ فَلَا يُشَمِّتْهُ ، فَإِنْ جَهِلَ
فَشَمَّتَهُ فَلَا يَرُدَّ عَلَيْهِ ، وَالْإِنْصَاتُ عَلَى مَذْهَبِ
مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَلَى
مَنْ سَمِعَ الْخُطْبَةَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا وَعَلَى مَنْ
كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَهُ مِمَّنْ يَنْتَظِرُ صَلَاةَ
الْجُمُعَةِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ الْإِنْصَاتَ يَجِبُ عَلَى أَرْبَعِينَ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ
فَالْإِنْصَاتُ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّهِمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَ
الْمَنْدُوبِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْفَاضِلِ يَقْبَحُ سِيَّمَا عَلَى مَا
تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ بَدَلٌ عَنْ
الرَّكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ السَّلَفِ
أَوْلَى مَا يُبَادَرُ إلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا
وَقَدْ كَانُوا جَمِيعًا مُنْصِتِينَ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى فِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ سَمِعَ رَجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي حَالِ
الْخُطْبَةِ فَحَصَبَهُمَا أَنْ اُصْمُتَا قَالَ لِأَنَّ حَصْبَهُمَا
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهُمَا اُسْكُتَا فَإِذَا كَانَ عَمَلُ السَّلَفِ
عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فَالْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِهِمْ
أَفْضَلُ وَأَعْلَى كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُمْ عَلَى الْهُدَى
الْمُسْتَقِيمِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ التَّقْعِيرَ فِي
خُطْبَتِهِ
وَالتَّصَنُّعَ فِيهَا .
وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ تَطْوِيلَ الْخُطْبَةِ وَتَقْصِيرَ الصَّلَاةِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُونَ الْخُطْبَةَ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ وَيُقَصِّرُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ } فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا وَرَدَ أَنَّ طُولَ الصَّلَاةِ وَقِصَرَ الْخُطْبَةِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ فَلْيُتَحَفَّظْ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ .
وَأَمَّا تَرَضِّي
الْخَطِيبِ فِي خُطْبَتِهِ عَنْ الْخُلَفَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَبَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ وَبَاقِي الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ وَعِتْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ لَا
مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَلَا
الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَكِنْ فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَمْرٍ كَانَ وَقَعَ قَبْلَهُ
وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يَسُبُّونَ بَعْضَ
الْخُلَفَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
عَلَى الْمَنَابِرِ فِي خُطْبَتِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبْدَلَ مَكَانَ ذَلِكَ
التَّرَضِّي عَنْهُمْ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّهِ هُوَ إمَامُ هُدًى وَأَنَا أَقْتَدِي بِهِ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى حَالِ خُشُوعٍ وَتَضَرُّعٍ
لِأَنَّهُ يَعِظُ النَّاسَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَوْعِظَةِ حُصُولُ
الْخُشُوعِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِاتِّبَاعِ
أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْخَوْفِ مِمَّا
أَوْعَدَ بِهِ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ فِيمَا وَعَدَ بِهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ
بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَإِذَا كَانَ الْخَطِيبُ مُسْتَعْمِلًا
فِي نَفْسِهِ مَا ذَكَرَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى قَبُولِ مَا يُلْقِيهِ
إلَى السَّامِعِينَ لِاتِّصَافِهِ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ
كَمَا مَرَّ فِي الْمُؤَذِّنِ إذَا أَذَّنَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ
عَلَى طَهَارَةٍ لِيُبَادِرَ لَفِعْلِ مَا نَادَى إلَيْهِ أَوَّلًا
فَيَكُونَ أَدْعَى إلَى صَدْعِ الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا خَرَجَ
مِنْ عَامِلٍ تَشَبَّثَ بِالْقُلُوبِ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ
انْسَابَ عَنْ الْقُلُوبِ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَتَجَنَّبُ فِي
خُطْبَتِهِ التَّصَنُّعَ لِأَنَّ التَّصَنُّعَ إذَا وَقَعَ فَهُوَ
الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّهُ يُشْبِهُ
النِّفَاقَ بَلْ هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ إذْ إنَّ مَعْنَى النِّفَاقِ
أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ
أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
فَصْلٌ فِي إسْلَامِ الْكَافِرِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ وَهِيَ أَنَّ الْكَافِرَ يَأْتِي إلَى الْخَطِيبِ فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَعُودُ وَيَأْتِي ثَانِيًا وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ بِسَبَبِهِ وَتَقَعُ ضَجَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهَا وَهُوَ وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ تَرْتِيبَ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلُ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي أَنَّهُ يُجَدِّدُ الْإِسْلَامَ إذْ ذَاكَ لِيَشْتَهِرَ إسْلَامُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْرِفُوهُ بِذَلِكَ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إسْلَامِهِ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ إسْلَامِهِ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَعَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ مِنْهُمْ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ الْآنَ أَسْلَمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْخَطِيبِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَيَأْمُرَ مَنْ يَخْرُجُ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَغْتَسِلَ إنْ كَانَ جُنُبًا وَلَوْ لَمْ تَتَقَدَّمْ لَهُ جَنَابَةٌ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَيَغْتَسِلُ لِلْإِسْلَامِ فَإِنْ تَرَكَ الْغُسْلَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَالْوُضُوءُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيُصَلِّيَ بِهِ الْجُمُعَةَ .
{
فَصْلٌ } فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدُعَائِهِ فِيهَا
فَلْيَخْتِمْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ أَوْ بِقَوْلِهِ { اُذْكُرُوا
اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ } أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ
فَلْيُقِمْ الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ فَإِذَا دَخَلَ الْمِحْرَابَ
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا هُنَاكَ مِنْ الْحَصِيرِ
وَيَتْرُكَ السَّجَّادَةَ إذْ إنَّ اتِّخَاذَهَا لِلصَّلَاةِ بِدْعَةٌ
إلَّا لِضَرُورَةِ التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَا ضَرُورَةَ
تَدْعُو إلَيْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ إنَّ الْمِحْرَابَ لَهُ
هَيْبَةٌ وَلَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا الصِّبْيَانُ
الصِّغَارُ وَمَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ
أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَ مَوْضِعَهُ فَهُوَ عَلَى
أَصْلِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْإِمَامُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ
أَفْضَلَ الْقَوْمِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا
يَسْجُدَ عَلَى حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ السُّنَّةُ
وَلَمَّا أَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْحُصُرِ الْمَفْرُوشَةِ هُنَاكَ
فُعِلَتْ .
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يُبَاشِرُ الْأَرْضَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ لَا
يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ
أَكْثَرِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ
فَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ
تَدْعُو ضَرُورَةٌ إلَى ذَلِكَ فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ
أَحْكَامٌ أُخَرُ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ .
فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا فِي الْمِحْرَابِ فَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الْمَأْمُومِينَ .
وَقَدْ كَانَ الْأَمَامُ مِنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْرُبُ أَنْ تَمَسَّ ثِيَابُهُ ثِيَابَ الْمَأْمُومِينَ .
وَقَدْ قَالُوا إنَّ مِنْ فِقْهِ الْإِمَامِ قُرْبُهُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ ذَكَرُوهَا .
مِنْهَا
أَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ
مِنْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كَلَامٍ وَلَا إلَى كَثِيرِ عَمَلٍ فِي
الِاسْتِخْلَافِ بَلْ يَمُدُّ يَدُهُ إلَى مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فَيُقَدِّمُهُ .
وَمِنْهَا
أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ فَيُسَبِّحُونَ لَهُ فَلَا
يَسْمَعُهُمْ فَإِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ فِي الْغَالِبِ
وَتَدَارَكُوا مُلَاقَاةَ ذَلِكَ بِمَسِّهِمْ لَهُ وَتَنْبِيهِهِمْ لَهُ
عَلَيْهِ فَيَتَدَارَكُ إصْلَاحَ مَا أَخَلَّ بِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ
قَدْ يَكُونُ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا فَإِذَا كَانَ
قَرِيبًا مِنْهُمْ أَدْرَكُوهَا فَنَبَّهُوهُ عَلَيْهَا إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ .
وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
مِحْرَابٌ وَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ لَكِنَّهَا بِدْعَةٌ
مُسْتَحَبَّةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لَا
يَعْرِفُونَ الْقِبْلَةَ إلَّا بِالْمِحْرَابِ فَصَارَتْ مُتَعَيِّنَةً .
لَكِنْ
يَكُونُ الْمِحْرَابُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَهُمْ قَدْ زَادُوا فِيهِ
زِيَادَةً كَثِيرَةً ، وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ
يُصَلُّونَ دَاخِلَ الْمِحْرَابِ حَتَّى يَصِيرُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى
بُعْدٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ .
ثُمَّ إنَّهُ يُخْرِجُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ بَاقِيَ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا فِيمَنْ
اُضْطُرَّ إلَى النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يَنَامُ فِي
مِحْرَابِهِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ بَاقِي الْمَسْجِدِ بَلْ يَنْبَغِي
لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لَمْ يَضِقْ بِالنَّاسِ فَلَا
يَدْخُلُ الْإِمَامُ إلَى الْمِحْرَابِ ، فَإِنْ ضَاقَ بِهِمْ
فَلْيَدْخُلْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ
يَدْخُلْ يُمْسِكْ بِوُقُوفِهِ خَارِجًا عَنْهُ مَوْضِعَ صَفٍّ مِنْ
الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَدْ يَسَعُ خَلْقًا كَثِيرًا .
وَلْيَحْذَرْ
مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ
الْأَئِمَّةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَقُولُ اسْتَوُوا
يَرْحَمْكُمْ اللَّهُ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ شِمَالِهِ وَيَقُولُ مِثْلَ
ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ الرَّئِيسُ أَوْ أَحَدُ الْمَأْمُومِينَ كَبِّرْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك هَذَا فِعْلُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ فِي
الصَّفِّ خَلَلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ خَلَلٌ لَمْ
يَسُدَّهُ أَحَدٌ بِقَوْلِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ
بَعْدَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّةُ مِنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُوَكِّلُونَ الرِّجَالَ بِتَسْوِيَتِهَا .
مِنْهُمْ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ لَا يُكَبِّرُونَ
حَتَّى يَأْتِي مَنْ وَكَّلُوهُمْ بِذَلِكَ فَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهَا قَدْ
اسْتَوَتْ فَيُكَبِّرُونَ إذْ ذَاكَ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَتُسَوُّنَّ
صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } وَقَدْ
نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ
ثِيَابَهُمْ كَانَتْ تَنْقَطِعُ مِنْ جِهَةِ الْمَنَاكِبِ أَوَّلًا
لِشِدَّةِ تَرَاصِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَهَذِهِ السَّجَّادَاتُ تَمْنَعُ
مِنْ ذَلِكَ ضَرُورَةً لِأَنَّهَا تُبْسَطُ عَلَى مَوْضِعٍ فِي
الْمَسْجِدِ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهَا فِي
قِيَامِهِ وَسُجُودِهِ اللَّهُمَّ إلًّا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ
بِجَانِبِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ مَعَهُ عَلَيْهَا فَيَخْرُجُ عَنْ بَابِ
الْكَرَاهَةِ لَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ
أَنَّهُ إذَا كَانَ مَنْ يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ مُتَوَرِّعًا أَوْ فِي
كَسْبِ صَاحِبِهَا عِلَّةُ شُبْهَةٍ أَوْ حَرَامٌ ، وَقَدْ يَكُونُ
كَسْبُهُ حَلَالًا لَكِنْ يَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ
تَخْرِيجُهُ مِنْ دُخُولِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ فَلَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ يَأْتِي إلَى فِعْلٍ مَنْدُوبٍ وَهُوَ
التَّرَاصُّ فِي الصَّفِّ فَيَقَعُ فِي مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ
فَصْلٌ
فِي دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا اسْتَوَتْ الصُّفُوفُ فَلْيَنْوِ
إذْ ذَاكَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بِقَلْبِهِ وَلَا يَنْطِقُ
بِلِسَانِهِ وَلَا يَجْهَرْ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِهَا مِنْ
الْبِدَعِ .
وَاخْتُلِفَ فِي النُّطْقِ بِاللِّسَانِ هَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ كَمَالٌ .
فَقَالَ
بَعْضُهُمْ هُوَ كَمَالٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ فِي مَحَلِّهَا
وَهُوَ الْقَلْبُ وَنَطَقَ بِهَا اللِّسَانُ وَذَلِكَ زِيَادَةُ كَمَالٍ
هَذَا مَا لَمْ يَجْهَرْ بِهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ النُّطْقَ
بِاللِّسَانِ مَكْرُوهٌ وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَرَى أَنَّ النُّطْقَ
بِهَا بِدْعَةٌ إذْ لَمْ يَأْتِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ .
وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَا يُخْشَى أَنَّهُ إذَا نَطَقَ بِهَا بِلِسَانِهِ
قَدْ يَسْهُو عَنْهَا بِقَلْبِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا
.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَحَّلَ الْقِرَاءَةِ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ ،
فَلَوْ قَرَأَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا لِسَانُهُ لَمْ تُجْزِهِ
صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ بِلِسَانِهِ وَلَمْ
يَنْوِهَا بِقَلْبِهِ .
وَمِنْ صِفَةِ النِّيَّةِ عَلَى الْكَمَالِ
أَنْ يَنْوِيَ بِصَلَاتِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ
مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا وَذَلِكَ
يَحْتَوِي عَلَى خَمْسِ نِيَّاتٍ وَهِيَ نِيَّةُ الْأَدَاءِ وَنِيَّةُ
التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنِيَّةُ الْفَرْضِ وَتَعْيِينُ
الصَّلَاةِ وَإِحْضَارُ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي
صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْأَيَّامِ وَعَدَدِ
الرَّكَعَاتِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَنْوِيَ
الِائْتِمَامَ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ
مَأْمُومٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطُلَتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ
فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ إلَّا فِي كُلِّ
صَلَاةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ وَهِيَ خَمْسٌ ، وَذَلِكَ مَا
نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِيَةُ
الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالثَّالِثَةُ الْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ وَالرَّابِعَةُ صَلَاةُ الْخَوْفِ وَالْخَامِسَةُ الْمَأْمُومُ الْمُسْتَخْلَفُ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ لَكِنْ إنْ نَوَاهَا كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا وَأَكْثَرَ ثَوَابًا مِمَّنْ لَمْ يَنْوِهَا .
ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ الْقِرَاءَةَ
فَيَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِسُورَةِ
الْجُمُعَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهَا
فَقِيلَ إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ .
وَقِيلَ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى .
وَقِيلَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ .
وَلَمْ
يَخْتَلِفْ الْمَذْهَبُ فِي الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِيهَا إلَّا
سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا
يَقْرَأُ الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ فِي الْجُمُعَةِ فَقَالَ يَقْرَأُ
مِثْلَ مَا قَرَأَ إمَامُهُ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ ، فَقِيلَ لَهُ
أَقِرَاءَةُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ قَالَ
لَا أَدْرِي مَا هِيَ سُنَّةٌ وَلَكِنَّ مَنْ أَدْرَكْنَا كَانَ يَقْرَأُ
بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْجُمُعَةِ انْتَهَى ، وَإِنْ
كَانَ قَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِ { سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَفِي الثَّانِيَةِ بِ { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
الْغَاشِيَةِ } لَكِنَّ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى تَرْكِ قِرَاءَةِ سُورَةِ
الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي
فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ، وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِآخِرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ
مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا
نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } إلَى آخِرِهَا وَفِي
الثَّانِيَةِ بِآخِرِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ
وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ
وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } إلَى آخِرِهَا .
وَهَذَا
رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَإِطَالَةِ
الْخُطْبَةِ وَمَا كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْرَءُونَ
إلَّا سُورَةً كَامِلَةً بَعْدَ أُمِّ
الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أَجَازَ الِاقْتِصَارَ عَلَى قِرَاءَةِ بَعْضَ السُّورَةِ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَالْمَنْدُوبِ ، وَالْأَفْضَلُ وَالِاتِّبَاعُ قِرَاءَةُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ
{ فَصْلٌ } وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ لَا
يُجْهَرُ بِهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْفَذِّ
فَالْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إذْ إنَّهُ لَمْ يُرْوَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُلَفَاءَ
وَلَا الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ جَهَرُوا
بِهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَنْهَى الْمَأْمُومِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ
بِالْجَهْرِ بِإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حِينَ قِرَاءَةِ
الْإِمَامِ إيَّاهَا فَيُحَذِّرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْجَهْرِ خَلْفَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ
السِّرِّ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافَ السُّنَّةِ وَفِيهِ التَّشْوِيشُ
عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يَقْرَبُ مِنْهُ .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ
أَقَلَّ مِنْ هَذَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا
يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ } وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ وَهَذِهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْ بَابِ
أَوْلَى أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً وَقَرَأَ الْمَأْمُومُ أُمَّ الْقُرْآنِ خَلْفَهُ فَلَا يَجْهَرْ بِهَا .
وَقَدْ
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ فَانْتَهَى
النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتْرُكُ
سُنَّةَ الْإِسْرَارِ فِي الصَّلَاةِ .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَحْتَجُّ
بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانَا إذْ إنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ
بِالْإِمَامِ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا
فَعَلَ ذَلِكَ لِكَيْ يُعْلِمَ النَّاسَ الْحُكْمَ فِي صَلَاةِ السِّرِّ
أَنَّهُ يُقْرَأُ فِيهَا بِسُورَةٍ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى لَا
يَجِدَ أَحَدٌ السَّبِيلَ إلَى أَنْ يَقُولَ كَانَ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو
أَوْ يُفَكِّرُ فَكَانَ جَهْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِالْآيَةِ أَحْيَانَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيَنْبَغِيَ
لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي رُكُوعِهِ أَوْ
سُجُودِهِ وَلَا يَجْهَرَ بِالدُّعَاءِ فِي مَوْضِعِ الدُّعَاءِ فِي
الصَّلَاةِ أَوْ عَقِبَهَا وَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ
فَيَحْمِلُ الْمَأْمُومِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ ،
وَالْجَهْرُ بِذَلِكَ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً فَسَلَّمَ مِنْهَا
وَبَسَطَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَأَمَّنَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى دُعَائِهِ .
وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَكَذَلِكَ
بَاقِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَشَيْءٌ لَمْ
يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ
بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ لَا يَمْسَحْ
صَدْرَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا مِمَّا
شُرِعَ فِيهِ الْقُنُوتُ أَوْ الدُّعَاءُ لِمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ
يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ إذْ إنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَكَذَلِكَ يَنْهَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ إذْ إنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَكَذَلِكَ
لَا يَجْهَرْ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ
السَّلَامِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَالْأَصْلُ
الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ صَلَاتَهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ الْخُشُوعُ
وَالْحُضُورُ فِيهَا فَيُمَثِّلُ نَفْسَهُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ
الْمَلِكِ الْجَلِيلِ يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي
الْقِرَاءَةِ فَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ
فِي غَيْرِهَا مِنْ دُعَاءٍ أَوْ ذِكْرٍ فَهُوَ يُنَاجِي مَوْلَاهُ
بِدُعَائِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَوْلَى
الْعَلِيمُ يَسْمَعُهُ إذْ إنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ أَعْنِي بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ فَتَخْشَعُ جَوَارِحُهُ
كُلُّهَا انْقِيَادًا مِنْهَا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخُشُوعِ
، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ خُشُوعِ جَوَارِحِهِ الظَّاهِرَةِ دُونَ
الْجَوَارِحِ
الْبَاطِنَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْخُطْبَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى .
وَقَدْ
وَرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ
رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هُوَ
الْإِمَامُ إذْ إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَهُمْ
وَبِحُصُولِ هَذِهِ الصِّفَةِ تَزْكُو صَلَاتُهُ وَيَعُودُ مِنْ
بَرَكَاتِهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ مَعَهُ فَيَعْمَلُ عَلَى تَحْصِيلِ
هَذِهِ الْمَزِيَّةِ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَالسُّنَّةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ أَنْ يَلِيَ الْإِمَامَ مِنْ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ
عِلْمًا وَعَمَلًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَمِنْ فَوَائِدِهِ
أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْإِمَامِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِخْلَافَ
لَوَجَدَ مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ بِقُرْبِهِ مِنْ غَيْرِ
كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا وَهَذِهِ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا فِي بِلَادِ
الْمَغْرِبِ عَلَى مَا كُنْت أَعْهَدُ أَنَّهُ لَا يَسْتُرُ الْإِمَامَ
إلَّا مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ التَّقَدُّمِ لِلْإِمَامَةِ فِي الْغَالِبِ
، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَهَذِهِ خَصْلَةٌ دَائِرَةٌ فِي هَذِهِ
الْبِلَادِ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَسْتُرُ
الْإِمَامَ وَتَجِدُ أَهْلَ الْفَضْلِ فِي الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ
عَنْهُ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { لِيَلِنِي
مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ
أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَسْبِقُ إلَى الْمَسْجِدِ إنْ أَمْكَنَهُ
ذَلِكَ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ السُّنَّةَ وَيَخْمِدَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ
وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِهِ .
وَمَا زَالَ الْفُضَلَاءُ وَالْأَكَابِرُ
فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ
الْأَنْصَارِ هُمْ الَّذِينَ يُبَادِرُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فِي
أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ أَوْ قَبْلِهَا .
حَتَّى إنَّهُ قَدْ حُكِيَ
عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ
رَجُلَيْنِ قَدْ سَبَقَاهُ فَجَعَلَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ
أَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ، فَلَوْ جَاءَ الْإِمَامُ أَوْ
غَيْرُهُ مِنْ الْفُضَلَاءِ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدُوا غَيْرَهُمْ
مِمَّنْ لَيْسَ فِي مَنْزِلِهِمْ قَدْ سَبَقَهُمْ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ
الَّتِي يَعْهَدُونَ الصَّلَاةَ فِيهَا أَعْنِي مَنْ كَانَ يَسْتُرُ
الْإِمَامَ أَوْ يَقْرَبُ مِنْهُ كَانَ مَنْ سَبَقَ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ
أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ
وَأَوْلَى ، وَلَا يُقَامُ مِنْهَا اتِّفَاقًا وَإِقَامَتُهُ ظُلْمٌ لَهُ وَبِدْعَةٌ .
اللَّهُمَّ
إلَّا أَنْ يُؤْثِرَ السَّابِقُ بِهَذِهِ الْقُرْبَةِ غَيْرَهُ مِنْ
أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ فَذَلِكَ لَهُ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو
الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَلِلْعَمَلِ الْمَاضِي الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهُ .
وَالثَّانِي مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ
، فَإِذَا قَدَّمَهُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَ مَنْدُوبًا
إلَيْهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ السَّلَفِ الَّذِي
كَانَ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَيُدْرِكَ فَضِيلَةَ
الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ بِالنَّاسِ تَأَخَّرَ إلَى
الثَّانِي وَآثَرَ بِمَكَانِهِ غَيْرَهُ وَهَكَذَا إلَى أَنْ يُصَلِّيَ
فِي آخِرِ صَفٍّ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ
أُبَكِّرُ لِأَحُوزَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَتَأَخَّرُ
رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ قَدْ صَلَّيْت خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرُ لِي
، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ
الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَرَكَ قُرْبَةً لَا بَدَلَ عَنْهَا .
أَمَّا
مَنْ تَرَكَهَا لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا وَأَوْلَى فَلَيْسَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ قُرْبَةٍ لِمَا هُوَ أَعْلَى
مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَرْكَ
التَّبْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ وَذَلِكَ
مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّبْكِيرَ مِنْ غَدْوَةِ النَّهَارِ
إلَيْهَا أَفْضَلُ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَعْنَاهُ
التَّهْجِيرُ وَدَلِيلُهُ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ
الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ
التَّبْكِيرَ إلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّهْجِيرِ بِأَنْ قَالَ أَوَّلُ
بِدْعَةٍ حَدَثَتْ تَرْكُ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ كَانُوا
يَأْتُونَهَا بِالْمَشَاعِلِ لَيْلًا ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَبِيتُ
فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ .
وَقَدْ
كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّبْكِيرَ إلَيْهَا وَعَلَّلَهُ
بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ قَالَ وَلَمْ يَكُونُوا
يُبَكِّرُونَ هَذَا التَّبْكِيرَ وَأَخَافُ عَلَى فَاعِلِهِ أَنْ
يَدْخُلَهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي صِحَّةِ نَقْلِ مَالِكٍ
عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَيُؤَيِّدُهُ
مَا جَرَى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَ
الْمَسْجِدَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ
لِلْجُمُعَةِ فَلَوْ كَانَ التَّبْكِيرُ أَفْضَلَ لَمَا تَأَخَّرَ
عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَغَلَ بِالسُّوقِ إلَى الْوَقْتِ
الَّذِي أَتَى فِيهِ إلَى الْجُمُعَةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا
سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَوْضِعِهِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ
أَنَّهُ يُغَيِّرُ هَيْئَتَهُ فِي جُلُوسِهِ فِي الصَّلَاةِ لِيُقْبِلَ
عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى
بِالسُّنَّةِ لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ
بِوَجْهِهِ } فَيَحْصُلُ لِفَاعِلِ ذَلِكَ امْتِثَالُ السُّنَّةِ
وَاسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ ،
بِخِلَافِ مَا لَوْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَخَرَجَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ ، هَذَا إذَا
كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي رَحْلِهِ فِي
السَّفَرِ فَلَا بَأْسَ بِجُلُوسِهِ فِيهِ ، وَتَغْيِيرُهُ الْهَيْئَةَ
أَوْلَى كَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَبَعْضُ
الْأَئِمَّةِ يَقْعُدُ فِي مُصَلَّاهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ
عَلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا مِنْ
الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ لِأَنَّهُ
قَدْ يُخْلَطُ عَلَى الدَّاخِلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ فِي
الصَّلَاةِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ تَعَالِيلَ أُخَرَ
مَوْجُودَةً فِي كُتُبِهِمْ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَأْمُومِ فَإِنَّ
لَهُ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ هَيْئَةَ صَلَاتِهِ حَتَّى
يَفْرُغَ مِمَّا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ عَقِبَ
صَلَاتِهِ ثُمَّ يَتَنَفَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ لَكِنَّ
الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَتَنَفَّلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ إنْ
كَانَتْ الصَّلَاةُ مِمَّا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي
صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ بَلْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى
فَيُصَلِّي فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا حَرَجَ وَيُصَلِّيهَا فِي
مَوْضِعِهِ .
وَالتَّنَفُّلُ فِي الْمَسَاجِدِ بِتَوَابِعِ
الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ لِئَلَّا يَكُونَ
ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِتَأَكُّدِهَا فَيَقْتَصِرُ
عَلَى الْفَرَائِضِ دُونَهَا .
وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا عَدَا الرُّكُوعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ .
أَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَعُ بَعْدَهَا فِي بَيْتِهِ .
وَحِكْمَةُ
ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ
الْجَمِيلَةِ فِي رَحْمَتِهِ بِأُمَّتِهِ إذْ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ
صَائِمًا وَرَكَعَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَنْتَظِرُهُ
أَكْثَرُهُمْ حَتَّى يَنْصَرِفُوا بِانْصِرَافِهِ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ الْأَوْلَادُ وَالْعَائِلَةُ فَيَنْتَظِرُونَهُ فَيَكُونُ
ذَلِكَ مَشَقَّةً فَأَزَالَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُمْ
بِرُكُوعِهِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ فِي
الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ خَشْيَةً مِنْ
وُجُودِ الْمَشَقَّةِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَإِذَا أَمِنَ مِنْهَا جَازَ
.
وَأَمَّا فِي الْجُمُعَةِ فَلَا يَتَنَفَّلْ عَقِبَهَا إمَامٌ وَلَا
غَيْرُهُ إلَّا فِي بَيْتِهِ ، بِذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي
قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ
الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ
وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ } .
وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا قَامَ يَتَنَفَّلُ
بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَجَبَذَهُ وَأَقْعَدَهُ وَقَالَ لَهُ :
اجْلِسْ تُشْبِهُ الْجُمُعَةَ بِمَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ مِنْ صَلَاةِ
الظُّهْرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ
إلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا } .
فَالتَّنَفُّلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ لِمَا ذُكِرَ حَتَّى يَنْصَرِفَ إلَى بَيْتِهِ فَيُصَلِّيَ
فِيهِ
، فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا أَوْ مِمَّنْ لَا بَيْتَ لَهُ أَوْ مِمَّنْ
يُرِيدُ انْتِظَارَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ يَخْرُجُ مِنْ بَابٍ وَيَدْخَلُ مِنْ آخَرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ إذَا طَالَ مَجْلِسُهُ أَوْ حَدِيثُهُ يَعْنِي مِمَّا
يَسُوغُ الْكَلَامُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَرْكَعَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَاةِ .
وَمِنْ
آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ
أَهْلُهُ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ أَوَّلًا وَلِمَنْ
حَضَرَهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ .
وَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ إذَا كَانَ إمَامًا فِي
الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ .
هَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَكَذَلِكَ
يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَلِّينَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ
وَلِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إمَامٍ
وَمَأْمُومٍ وَلْيَحْذَرُوا جَمِيعًا مِنْ الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ
وَالدُّعَاءِ وَبَسْطِ الْأَيْدِي عِنْدَهُ أَعْنِي عِنْدَ الْفَرَاغِ
مِنْ الصَّلَاةِ إنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ
لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ
بِذَلِكَ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ
الصَّلَاةِ فَيَجْهَرُ بِذَلِكَ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُمْ
قَدْ تَعَلَّمُوا أَمْسَكَ .
وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ إذَا سَلَّمَ مِنْ
صَلَاتِهِ أَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ يَجْهَرُ بِهِ قَبْلَ الذِّكْرِ
الْمَشْرُوعِ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَيَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ
مَشْرُوعٌ لَهُ الْجَهْرُ فِيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ التَّعْلِيمِ ،
وَذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ
الْمَأْثُورُ ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ بِمَا يَفْعَلُهُ
مِنْ الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَقِبَ الصَّلَاةِ فَلْيُحَذِّرْ مِنْ هَذَا
جَهْدَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ الْقِرَاءَةِ جَمَاعَةً وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا
أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ
اسْتِحْبَابُ قِرَاءَتِهَا كَامِلَةً فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خُصُوصًا
فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ لَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَيَقْرَأُهَا سِرًّا فِي
نَفْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ جَهَرَا فِي غَيْرِهِ أَوْ فِيهِ إنْ كَانَ
الْمَسْجِدُ مَهْجُورًا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْ يَتَشَوَّشُ
بِقِرَاءَتِهِ وَالسِّرُّ أَفْضَلُ ، وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ لِذَلِكَ
فَبِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ
فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الصَّلَاةُ عَلَى
الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى
الْجِنَازَةِ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى أَحَدِهِمَا
فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَيُكْرَهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ
لَهُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِلْعَمَلِ
الْمُتَّصِلِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ عَلَى مَيِّتٍ فِي
الْمَسْجِدِ .
وَمَا وَرَدَ مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ
} فَلَمْ يَصْحَبْهُ الْعَمَلُ ، وَالْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَقْوَى لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَغَيْرَهُ ،
وَالْعَمَلُ لَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ هُوَ عَلَى جَادَّةِ
الِاتِّبَاعِ ، وَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى مَا يُبَادَرُ إلَيْهِ لِعَدَمِ
الِاحْتِمَالِ فِيهِ ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى
الْإِمَامِ وَلَا عَلَى الْجِنَازَةِ فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا فَقَدْ
ارْتَكَبَ ثَلَاثَ مَكْرُوهَاتٍ : أَحَدُهَا : الصَّلَاةُ عَلَى
الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ .
الثَّانِي : التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ .
الثَّالِثَ : التَّقَدُّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكْرُوهٍ فَكَيْفَ إذَا تَعَدَّدَ .
وَحَدُّ الْمَكْرُوهِ مَا تَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ
{ تَنْبِيهٌ } وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا بُنِيَ أَوْ يُبْنَى إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ مِنْ مِيضَأَةٍ أَوْ سَرَابٍ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَصِلُ مِنْهُ نَدَاوَةٌ إلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ أَوْ جُدْرَانِهِ فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُبْطِلُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا حَصِيرٌ لِأَنَّ الْأَرْضِ هِيَ الْمَسْجِدُ لَا الْحَصِيرُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَصِيرَ إذَا بُسِطَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ تَنَجَّسَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْجُدْرَانُ لِأَنَّ الْمُصَلِّينَ يَسْتَنِدُونَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ إلَيْهَا فَتُنَجِّسُ ثِيَابَهُمْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِتَحْصِيلِ الْحَسَنَةِ بِتَيْسِيرِ مَوْضِعِ الطَّهَارَةِ سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَنْ بَيْتُهُ بَعِيدٌ مِنْهُ ، فَيُقَرِّبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَمْرَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ فَيَقَعُ فِي مُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةً لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي تُوَصِّلُ إلَى السَّيِّئَةِ مَا هِيَ بِحَسَنَةٍ بَلْ هِيَ السَّيِّئَةُ نَفْسُهَا ، وَالْغَالِبُ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَدُسَّ هَذَا الْمَعْنَى لِبَعْضِ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي السَّيِّئَةِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ فِي حَسَنَةٍ ، وَهَذَا مِنْ بَعْضِ مَكَائِدِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ
فَصْلٌ فِي خُرُوجِ
الْإِمَامِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي
صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُصَلَّى لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا
أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ } ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ خَرَجَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُصَلَّى وَتَرَكَهُ فَهَذَا دَلِيلٌ
وَاضِحٌ عَلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى لِصَلَاةِ
الْعِيدَيْنِ فَهِيَ السُّنَّةُ وَصَلَاتُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِدْعَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ
ثَمَّ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهَا وَلَا
أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ ، وَلِأَنَّهُ {
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ النِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى
صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَأَمَرَ الْحُيَّضَ وَرَبَّاتِ الْخُدُورِ
بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمَا فَقَالَتْ إحْدَاهُنَّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ تُعِيرُهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا لِتَشْهَدَ
الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ } ، فَلَمَّا أَنْ شَرَعَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُنَّ الْخُرُوجَ شَرَعَ الصَّلَاةَ فِي
الْبَرَاحِ لِإِظْهَارِ شَعِيرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَلِيَحْصُلَ لَهُمْ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَدْ أَمَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بَاعِدُوا
بَيْنَ أَنْفَاسِ النِّسَاءِ وَأَنْفَاسِ الرِّجَالِ } فَلَمَّا أَمَرَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَكَانَ النِّسَاءُ
بَعِيدًا مِنْ الرِّجَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَصَلَاتِهِ جَاءَ إلَى
النِّسَاءِ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ ، فَلَوْ كُنَّ قَرِيبًا
لَسَمِعْنَ الْخُطْبَةَ وَلَمَا احْتَجْنَ إلَى تَذْكِيرِهِ لَهُنَّ
بَعْدَ الْخُطْبَةِ هَذَا وَجْهٌ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَلَوْ
كَبُرَ
فَهُمْ مَحْصُورُونَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ أَبْوَابِهِ الْمَعْلُومَةِ ،
وَقَدْ يَجْتَمِعُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عِنْدَ الدُّخُولِ فِيهَا
وَالْخُرُوجِ مِنْهَا فَتُتَوَقَّعُ الْفِتَنُ فِي مَوْضِعِ الْعِبَادَاتِ
، وَالْبَرَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْبَرِّيَّةِ فَلَا يَصِلُ
فِيهَا أَحَدٌ لِأَحَدٍ فِي الْغَالِبِ ، وَهَذَا بِعَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ
بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَهُمْ كَبِيرٌ
وَلَهُ أَبْوَابٌ شَتَّى فَيَخْرُجُونَ مِنْهُ إلَى الْبَرَاحِ لِكَوْنِهِ
أَوْسَعَ وَهُوَ السُّنَّةُ فَبَنَوْا فِي ذَلِكَ الْبَرَاحِ مَوْضِعًا
يَكُونُ فِي الْغَالِبِ عَلَى قَدْرِ صَحْنِ الْجَامِعِ أَوْ أَصْغَرَ
وَجَعَلُوا لَهُ بَابَيْنِ لَيْسَ إلَّا بَابًا لِلْجِهَةِ الْقِبْلِيَّةِ
وَالْآخَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَجْتَمِعُ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ فِي
أَحَدِ الْبَابَيْنِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، وَتَقِفُ الْخَيْلُ
وَالدَّوَابُّ عَلَيْهِمَا فَإِذَا انْصَرَفُوا خَرَجُوا مِنْهُمَا
كَذَلِكَ مُزْدَحِمِينَ .
وَالْغَالِبُ أَنَّ النِّسَاءَ إذَا خَرَجْنَ
لِغَيْرِ الْعِيدِ يَلْبَسْنَ الْحَسَنَ مِنْ الثِّيَابِ وَيَسْتَعْمِلْنَ
الطِّيبَ وَيَتَحَلَّيْنَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ
زِينَتِهِنَّ فَكَيْفَ بِهِنَّ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَالرِّجَالُ أَيْضًا
يَتَجَمَّلُونَ بِمَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ فَتَقَعُ الْفِتَنُ
وَتَتَلَوَّثُ الْقُلُوبُ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا لِقُرْبَةٍ فَآلَ
الْأَمْرُ إلَى ضِدِّهَا ، وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ أُمُورٌ أُخَرُ مِنْهَا
أَنَّ الْبَابَيْنِ الْمَفْتُوحَيْنِ لَا بَابَ عَلَيْهِمَا فَيَبْقَى
ذَلِكَ الْمَكَانُ مَأْوًى لِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَاللُّصُوصِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ
الْمُتَوَقَّعَةَ فِيهَا .
وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا
تَجِدَ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَا يَجِدُ
مَنْ يُوقِعُهَا مَعَهُ وَلَا يَجِدُ مَوْضِعًا فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ
الْعِصْمَةِ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَوْضِعَ مُتَيَسِّرًا كَانَ ذَلِكَ
تَيْسِيرًا لِلْمَعْصِيَةِ لِمَنْ أَرَادَهَا ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ
عِبَادَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ هَذَا فَيُتْرَكُ مَكْشُوفًا
لَا بِنَاءَ
فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةَ مَا فِيهِ مِنْ الْبُنْيَانِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيمَا حَوَاهُ الْبُنْيَانُ وَيُصَلِّي خَارِجًا عَنْهُ فِي الْبَرَاحِ فَهُوَ الْأَوْلَى ، وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ بَلْ الْمُتَعَيِّنُ الْيَوْمَ لَكِنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ بَعْدَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْصَاتِ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَكَائِدِ إبْلِيسَ يَأْتِي إلَى مَوَاضِعِ الْقُرَبِ فَيَدُسُّ فِيهَا دَسَائِسَ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ
الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ يُكَبِّرَ
عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْمُصَلَّى إنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ أَوْ قُرْبَ طُلُوعِهَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَتَى
إلَى الْمُصَلَّى لِأَجْلِ بُعْدِ مَنْزِلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَكْبِيرٌ
حَتَّى يَدْخُلَ الْوَقْتُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَشْهُورِ .
وَقِيلَ يُشْرَعُ لَهُ التَّكْبِيرُ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا خَرَجَ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ .
وَالسُّنَّةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ فَيُسْمِعَ نَفْسَهُ
وَمَنْ يَلِيهِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَعْقِرَ حَلْقَهُ
مِنْ الْبِدَعِ إذْ إنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا ذُكِرَ ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِذَلِكَ
يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ
أَعْنِي فِي التَّكْبِيرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُؤَذِّنًا
أَوْ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ
أَجْمَعِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ إلَّا النِّسَاءَ فَإِنَّ
الْمَرْأَةَ تُسْمِعُ نَفْسَهَا لَيْسَ إلَّا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ
بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ ، فَكَأَنَّ التَّكْبِيرَ إنَّمَا شُرِعَ فِي
حَقِّ الْمُؤَذِّنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَتَجِدُ الْمُؤَذِّنِينَ
يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَكْثَرُ
النَّاسِ يَسْتَمِعُونَ لَهُمْ وَلَا يُكَبِّرُونَ وَيَنْظُرُونَ
إلَيْهِمْ كَأَنَّ التَّكْبِيرَ مَا شُرِعَ إلَّا لَهُمْ ، وَهَذِهِ
بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ ثُمَّ إنَّهُمْ يَمْشُونَ عَلَى صَوْتِ وَاحِدٍ
وَذَلِكَ بِدْعَةٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُكَبِّرَ
كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ .
وَمِمَّا
أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا وَقُودُهُمْ الْقَنَادِيلَ فِي
طَرِيقِ الْإِمَامِ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ
الْعِيدِ ، وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى بَابِ
دَارِ الْإِمَامِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْعِيدِ ، فَإِذَا
اجْتَمَعُوا وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ شَرَعُوا فِي التَّكْبِيرِ
عَلَى مَا
وَصَفْنَا مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ الْخَارِجِ عَنْ
الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فَيَمْشُونَ مَعَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَصِلُوا
إلَى قُرْبِ الْمِحْرَابِ فَيَتَشَوَّشُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا
تَقَدَّمَ وَحِينَئِذٍ يَقْطَعُونَ التَّكْبِيرَ وَيَأْخُذُونَ فِي
الصَّلَاةِ ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ خَرَجُوا مَعَ
إمَامِهِمْ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالنَّاسُ
سُكُوتٌ لَا يُكَبِّرُونَ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ التَّكْبِيرُ سُنَّةً
فَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِ
الْمُؤَذِّنِينَ مِنْ الْبِدَعِ .
وَكَذَلِكَ تَكْبِيرُهُمْ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ
سُكُوتُ النَّاسِ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِهِمْ وَتَرْكِهِمْ التَّكْبِيرَ
لِأَنْفُسِهِمْ فَهَذِهِ ثَلَاثُ بِدَعٍ مُعَارِضَةٌ لِسُنَّةِ
التَّكْبِيرِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَنَّهُ يُكَبِّرُ كُلُّ مَنْ خَرَجَ
إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ الرِّجَالِ إمَامًا كَانَ أَوْ مُؤَذِّنًا
أَوْ غَيْرَهُمَا يُسْمِعُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ
ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَعْقِرَ حَلْقَهُ
لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَحْسَنَ اللِّبَاسِ
وَأَفْضَلَهُ الْبَيَاضُ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ
الْقَوْمِ حَتَّى فِي مَلْبَسِهِ وَزِيِّهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي
اللِّبَاسِ فِي الْجُمُعَةِ بِشَرْطِهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا
يَقْدُمَ الصَّلَاةَ فَيُوقِعُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ
إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ يَفْعَلُونَ هَذَا
وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى
تَرْتَفِعَ وَعِنْدَ الْغُرُوبِ حَتَّى تَغِيبَ ، فَيُوقِعُ بَعْضُهُمْ
الصَّلَاةَ عِنْدَ بُزُوغِ الشَّمْسِ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ
فَيَخْرُجُ إلَى فِعْلِ بِرٍّ فَيَقَعُ فِي ضِدِّهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ ذَلِكَ .
وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ضِدَّ هَذَا
فَيُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ الْعِيدِ حَتَّى تَسْخَنُ الشَّمْسُ وَهُوَ
خِلَافُ السُّنَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ فِي الْخَارِجِ
إلَى الْمُصَلَّى أَنْ يُعَجِّلَ الْأَوْبَةَ إلَى أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إنْ
كَانَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَيُضَحِّي لَهُمْ إنْ كَانَ مُمْنٍ يُضَحِّي
حَتَّى يُفْطِرُوا عَلَى أُضْحِيَّتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي عِيدِ
الْفِطْرِ فَيَأْكُلُونَ مَعَهُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَفْطَرُوا قَبْلَ
خُرُوجِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى عَلَى تَمَرَاتٍ أَوْ الْمَاءِ كَمَا
وَرَدَتْ السُّنَّةُ ، وَالْغَالِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ
الْعِيَالُ وَالْأَوْلَادُ فَيَبْقَوْنَ مُتَشَوِّفِينَ مُنْتَظِرِينَ
لَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَهُوَ الْوَسَطُ
فَالْمُخْتَارُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ
وَلَا يُؤَخِّرَهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ .
فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الصَّحْرَاءِ وَخَطَبَ فَلْيَكُنْ بِالْأَرْضِ لَا عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ .
قَالَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ رَوَيْنَا أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا أَحْدَثَ
الْمِنْبَرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَ الْمُصَلَّى قَامَ إلَيْهِ أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ يَا مَرْوَانُ : مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ ؟
فَقَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِمَّا تَعْلَمُ إنَّ
النَّاسَ قَدْ كَثُرُوا فَأَرَدْتُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الصَّوْتُ .
فَقَالَ
أَبُو سَعِيدٍ : وَاَللَّهِ لَا تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ
أَبَدًا وَاَللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَرَاءَكَ الْيَوْمَ فَانْصَرَفَ وَلَمْ
يُصَلِّ مَعَهُ صَلَاةَ الْعِيدِ انْتَهَى .
فَإِنْ فَعَلَ وَخَطَبَ
عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ
أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَدْ
أَحْدَثُوا فِي مِنْبَرِ الْعِيدِ الْيَوْمَ بِدْعَةً أَكْثَرَ مِنْ
جُلُوسِ الرَّئِيسِ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْجُمُعَةِ ؛
لِأَنَّهُمْ زَادُوا أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا خَطَبَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ
امْتَلَأَ الْمِنْبَرُ كُلُّهُ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ وَغَيْرِهِمْ
يَرْتَصُّونَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِيمَا فَوْقَ الْمِنْبَرِ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ إذَا خَطَبَ أَنْ يُوجِزَ فِي خُطْبَتِهِ وَلَا يُطِيلُهَا فَإِنَّ
التَّطْوِيلَ هَاهُنَا أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْهُ فِي الْجُمُعَةِ لِمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ انْتِظَارِ الْأَهْلِ لَهُمْ فِي الْعِيدَيْنِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ
فِي الْمُصَلَّى وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ
يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى التَّحَفُّظُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْضِعٍ
فِيهِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ
مِمَّا تَطَؤُهُ الْخَيْلُ وَالدَّوَابُّ فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ
سِيَّمَا وَإِيقَاعُ الصَّلَاةِ يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَبْلَ
أَنْ تَنْزِلَ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ فَتُنَشِّفَ تِلْكَ الرُّطُوبَةَ
، فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا تَنَجَّسَ مَا أُصِيبَ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ
ثِيَابِهِ ، وَإِنْ فَرَشَ عَلَيْهَا شَيْئًا يُصَلِّي عَلَيْهِ تَنَجَّسَ
فَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَغْسِلَهُ .
وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَى مَوْضِعِ قُبُورٍ .
وَقَدْ
كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةَ عَلَيْهَا
دُونَ حَائِلٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَقْبَرَةُ جَدِيدَةً لَمْ تُنْبَشْ
بَعْدُ وَقِيلَ هِيَ مَكْرُوهَةٌ مُطْلَقًا فِي الْجَدِيدَةِ
وَالْقَدِيمَةِ إلَّا عَلَى حَائِلٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَدْ
اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ
لِأَخِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ وَغَفَرَ
لَنَا وَلَك عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ
حَسَنٌ .
مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ .
مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ مُسْتَحَبٌّ .
الرَّابِعُ : لَا يَبْتَدِئُ بِهِ فَإِنْ قَالَ لَهُ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ .
وَإِذَا
كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ الْحَسَنِ مَعَ تَقَدُّمِ
حُدُوثِهِ فَمَا بَالُكَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ عِيدٌ مُبَارَكٌ مُجَرَّدًا
عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَعَ أَنَّهُ مُتَأَخِّرُ الْحُدُوثِ فَمِنْ
بَابِ أَوْلَى أَنْ يَكْرَهُوهُ ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ يَوْمٌ
مُبَارَكٌ وَلَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ وَصَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ
وَمَسَّاكَ بِالْخَيْرِ .
وَقَدْ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ .
وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَجَازَهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَعْنِي عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ غَيْبَةٍ كَانَتْ .
وَأَمَّا فِي الْعِيدِ لِمَنْ هُوَ حَاضِرٌ مَعَكَ فَلَا .
وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ فَإِنَّهَا وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ .
وَأَمَّا فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَصَافَحُونَ فَلَا أَعْرِفُهُ .
لَكِنْ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ :
رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ أَدْرَكَ بِمَدِينَةِ فَاسَ وَالْعُلَمَاءُ
الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ بِهَا مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا
فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ صَافَحَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ
يُسَاعِدُهُ النَّقْلُ عَنْ السَّلَفِ فَيَا حَبَّذَا وَإِنْ لَمْ
يَنْقُلْ عَنْهُمْ فَتَرْكُهُ أَوْلَى
فَصْلٌ فِي خُرُوجِ
النِّسَاءِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النِّسَاءَ بِالْخُرُوجِ إلَى
صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى حَتَّى الْحُيَّضَ وَرَبَّاتِ
الْخُدُورِ } وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ التَّسَتُّرِ وَتَرْكِ الزِّينَةِ
وَالصِّيَانَةِ وَالتَّعَفُّفِ وَأَنَّ مُرُوطَهُنَّ تَنْجَرُّ
خَلْفَهُنَّ مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ وَبُعْدِهِنَّ مِنْ الرِّجَالِ ،
وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْ عَلِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ
بَعْدَهُ لَمَنَعْهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي
إسْرَائِيلَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ
مَنْعُهُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا فِي
خُرُوجِهِنَّ مِنْ الْفِتَنِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَخْفَى ، وَمَا
يُتَوَقَّعُ مِنْ ضِدِّ الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا .
فَصْلٌ
فِي انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ سُرْعَةُ
الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ
وَلَهُ أَنْ يَزُورَ إخْوَانَهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ لَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ
أَهْلٌ فَلْيَبْدَأْ بِهِمْ وَيُزِيلُ تَشَوُّفَهُمْ إلَيْهِ ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ يَمْضِي لِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ زِيَارَةِ مَنْ ذُكِرَ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ فَلْيَمْضِ إلَى إخْوَانِهِ وَمَعَارِفِهِ
الْمُتَّقِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ
بِرُؤْيَتِهِمْ وَالْتِمَاسِ الدُّعَاءِ مِنْهُمْ لَكِنْ يَتَحَرَّى
وَقْتَ زِيَارَتِهِمْ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ إخْوَانِهِ أَنَّهُمْ
يُضَحُّونَ ، وَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنْ يَتَوَلَّى الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ
بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ مُعَدٌّ لِلذَّبْحِ
غَالِبًا فَلْيَمْشِ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَيْهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِعَدَمِ الْمَانِعِ .
فَصْلٌ
فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ
فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ ضَرُورَةِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ
الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَالسُّنَّةُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي
الْمُصَلَّى لَكِنْ فِي الْمَسْجِدِ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ أَكْثَرَ
مِمَّا ذُكِرَ فِي الْبَرِّيَّةِ تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ مِنْ رَفْعِ
الْأَصْوَاتِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُطْبَةِ بَعْدَ
الصَّلَاةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ بِمَعْزِلٍ بَعِيدٍ عَنْ
الرِّجَالِ بِخِلَافِ مَا هُنَّ الْيَوْمَ يَفْعَلْنَهُ لِأَنَّهُنَّ
يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ الْمَسْجِدَ غَالِبُهُ
مَمْلُوءٌ يَوْمَ الْعِيدِ بِالنِّسَاءِ وَغَالِبُ خُرُوجِهِنَّ عَلَى مَا
يُعْلَمُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَلَوْ مُنِعْنَ الْخُرُوجَ
لَكَانَ أَحْسَنَ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي
الْمَسْجِدِ فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْكَلَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُهُ
فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَفِي حَقِّ النِّسَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إذْ إنَّ
مَفَاسِدَهُنَّ تَزِيدُ عَلَى مَفَاسِدِ الرِّجَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَنْعُ الْوُعَّاظِ مِنْ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا
فَصْلٌ فِي
التَّكْبِيرِ إثْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَقَدْ
مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ يُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ
صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ إقَامَةِ الْحَجِّ
بِمِنًى فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي تِلْكَ
الْأَيَّامِ كَبَّرَ تَكْبِيرًا يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ
وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ بِتَكْبِيرِهِ كُلُّ وَاحِدٍ يُكَبِّرُ
لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ عَلَى مَا وُصِفَ مِنْ
أَنَّهُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ .
وَأَمَّا
مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ
الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ كَبَّرَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ
عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ فِي الْمَآذِنِ وَيُطِيلُونَ فِيهِ
وَالنَّاسُ يَسْتَمِعُونَ إلَيْهِمْ وَلَا يُكَبِّرُونَ فِي الْغَالِبِ
وَإِنْ كَبَّرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَصْوَاتِهِمْ
وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ إذْ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ .
وَفِيهِ إخْرَاقُ حُرْمَةِ
الْمَسْجِدِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ وَالتَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ بِهِ
مِنْ الْمُصَلِّينَ وَالتَّالِينَ وَالذَّاكِرِينَ .
فَصْلٌ فِي
صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعُوا
جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ
أَصْبَحَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ عَرَفْت الَّذِي
رَأَيْت مِنْ صَنِيعِكُمْ وَمَا مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ
إلَّا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ } فَلَمَّا أَنْ مَضَى
لِسَبِيلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمِنَ مِمَّا ذَكَرَهُ
مِنْ الْفَرْضِ عَلَى الْأُمَّةِ .
فَلَمَّا أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ وَتَفَرَّغَ لِلنَّظَرِ
فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ يَقُومُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانِ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ جَمَعْتُهُمْ
عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحْسَنَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَهُمْ يُصَلُّونَ
عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ
وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَصْلِ فِعْلِهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ بِدْعَةً .
وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَمْعُهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ .
الثَّانِي
: أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ قِيَامَهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ دُونَ
آخِرِهِ وَأَمَّا الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ سُنَّةٌ لَا يُخْتَلَفُ
فِيهِ .
وَمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِهِمْ لَا عَلَيْهِمْ إذْ إنَّهُمْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ مِنْ قِيَامِ
أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حَكَاهُ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا انْصَرَفُوا
مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ اسْتَعْجَلُوا الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ
مَخَافَةَ الْفَجْرِ وَكَانُوا
يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ
طُولِ الْقِيَامِ فَقَدْ حَازُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
الْفَضِيلَتَيْنِ مَعًا قِيَامَ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ فَعَلَى
مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت مُتَّبِعًا .
إنَّ الْمُحِبَّ
لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ وَهُمْ سَادَتُنَا وَقُدْوَتُنَا إلَى رَبِّنَا
فَيَنْبَغِي لَنَا الِاتِّبَاعُ لَهُمْ وَالِاقْتِفَاءُ لِآثَارِهِمْ
الْمُبَارَكَةِ لَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ تَعُودُ عَلَى الْمُتَّبِعِ
لَهُمْ ، لَكِنْ هَذَا قَدْ تَعَذَّرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي
الْغَالِبِ أَعْنِي قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا
يَخْتَلِطُ بِهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْيَوْمَ أَنْ لَا يُخْلِيَ نَفْسَهُ
مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَفْعَلُهَا فِي الْمَسْجِدِ
مَعَ النَّاسِ عَلَى مَا هُمْ يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ مِنْ التَّخْفِيفِ
فِيهَا فَإِذَا فَرَغُوا وَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَغْتَنِمَ بَرَكَةَ اتِّبَاعِهِمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ
إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ بِمَنْ تَيَسَّرَ مَعَهُ
مِنْ أَهْلِهِ أَوْ وَحْدَهُ فَتَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ الْكَامِلَةُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَكُونُ وَتْرُهُ آخِرَ تَنَفُّلِهِ
اقْتِدَاءً بِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
حِينَ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ الْإِمَامُ
مِمَّنْ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَلَامٍ ، أَمَّا
أَنَا فَإِذَا أَوْتَرُوا خَرَجْت وَتَرَكْتُهُمْ فَلِلْإِنْسَانِ
بِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أُسْوَةُ فِي تَرْكِ الْوِتْرِ مَعَهُمْ
حَتَّى يُوتِرَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ تَنَفُّلِهِ آخِرَ اللَّيْلِ إلَّا
أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى النَّوْمِ إذَا آتَى إلَى بَيْتِهِ ،
وَيَخَافُ أَنْ يَسْتَغْرِقَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يُغَرُّ
وَيَتْرُكْ الْوِتْرَ بَعْدَ نَوْمِهِ وَلْيُوقِعْهُ قَبْلَهُ ، فَإِنْ
أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ شَيْئًا قَامَهُ وَلَمْ يُعِدْ وِتْرَهُ
عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ لَمْ
يُدْرِكْ شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوِتْرُ فِي وَقْتِهِ وَلَا حَرَجَ
عَلَيْهِ .
وَقَدْ
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَلِّي فِي
الْمَسْجِدِ مَعَ النَّاسِ صَلَاةَ الْقِيَامِ وَيُوتِرُ مَعَهُمْ فَإِذَا
رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ صَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ ،
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ شَيْخَهُ سَيِّدِي الشَّيْخَ
أَبَا الْحَسَنِ الزَّيَّاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ .
وَكَانَ
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ يَنْبَغِي
لِلْمُكَلَّفِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ يُعَجِّلُ فِطْرَهُ ثُمَّ
يَقُومُ فَيُصَلِّي بِحِزْبَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْلَ
الْعِشَاءِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي مَعَ النَّاسِ الْقِيَامَ وَيُوتِرُ
مَعَهُمْ ثُمَّ إذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ صَلَّى لِنَفْسِهِ بِحِزْبَيْنِ
وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمُنُ الْخَتْمَةِ
أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ يَنَامُ مَا قُدِّرَ لَهُ
ثُمَّ يَقُومُ لِتَهَجُّدِهِ فَيُصَلِّي مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِمَّا بَقِيَ
عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ قَرَّرْتُمْ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ سُنَّةٌ فَمَا وَجْهُ تَرْكِ أَبِي بَكْرٍ لَهَا .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِمَا هُوَ
أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهَمُّ فِي الدِّينِ وَهُوَ قِتَالُ أَهْلِ
الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَبَعْثُ الْجُيُوشِ إلَى الشَّامِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ
وَغَيْرِهِ ، وَتَرَاكُمِ الْفِتَنِ عِنْدَ انْتِقَالِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ شُغْلِهِ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ
وَتَدْوِينِهِ مَعَ قِصَرِ مُدَّتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ
يَتَفَرَّغْ لِمَا تَفَرَّغَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَانَ مَا ذُكِرَ وَاتَّضَحَ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْإِمَامِ فِي
قِيَامِ رَمَضَانَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ
الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُقَدِّمُونَ
الرَّجُلَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ لَا لِحُسْنِ دِينِهِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لِيُصَلِّيَ
بِهِمْ لِحُسْنِ صَوْتِهِ إنَّمَا يُقَدِّمُوهُ لِيُغَنِّيَ لَهُمْ
وَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ التَّطْرِيبِ فِي
الْقِرَاءَةِ وَوَضْعِهَا عَلَى الطَّرَائِقِ الَّتِي اصْطَلَحُوا
عَلَيْهَا الَّتِي تُشْبِهُ الْهُنُوكَ وَأَمَّا لَوْ قَدَّمُوهُ
لِدِينِهِ وَحُسْنِ صَوْتِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى الْمَنْهَجِ
الْمَشْرُوعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ لَا يُقَدَّمَ لِلْإِمَامَةِ إلَّا مَنْ تَطَوَّعَ بِهَا دُونَ مَنْ
يَأْخُذُ عَلَيْهَا عِوَضًا ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِهِ فَقِيلَ
تُبَاحُ وَقِيلَ تُكْرَهُ وَهِيَ فِي الْفَرِيضَةِ أَشَدُّ كَرَاهَةً .
وَأَجَازَ
ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بَاطِلَةٌ .
وَكَرِهَ
ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ كَمَا
تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ وَمِنْ
جُمْلَةِ فَضِيلَتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَا لِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ عَلَى
صَلَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا
يَنْظُرَ إلَيْهِ وَأَنْ يُصَلِّيَ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ
وَيَتْرُكَ النَّظَرَ لِلْعِوَضِ ، فَإِنْ جَاءَهُ شَيْءٌ وَكَانَ
مُحْتَاجًا إلَيْهِ قَبِلَهُ لِضَرُورَتِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفَرْضِ
وَالنَّفَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَأَخَذَهُ
وَتَصَدَّقَ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ بِجَامِعِ
مِصْرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِيهِ
وَكَانَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ الْمَغَارِبَةِ يَجِيءُ الْمَسْجِدَ
بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاتِهِ فَيُصَلِّي فِي آخِرِ
الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ كَذَلِكَ
ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى عَلِمَ
بِهِ النَّاسُ فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ
وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْأَصْلِيِّ وَصَلُّوا خَلْفَ
هَذَا لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهِ فَتَشَوَّشَ الْإِمَامُ مِنْ ذَلِكَ
لِقِلَّةِ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ وَكَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ
الْآخَرِ فَاجْتَمَعَ بِهِ وَسَأَلَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ
خَلْفَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى صَلَاتِهِ أُجْرَةً فَقَالَ
لَهُ وَاَللَّهِ مَا أَكَلْت مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ وَلَكِنِّي
أَتَصَدَّقُ بِهَا فَقَالَ لَهُ الْآنَ أُصَلِّي خَلْفَك فَرَجَعَ
فَصَلَّى خَلْفَهُ .
فَإِذَا أَخَذَ الْعِوَضَ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ
لِغَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا
الْمَكْرُوهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ بِهِ
ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْعِوَضُ ، فَإِنْ
تَبَرَّمَ وَتَضَجَّرَ أَوْ تَرَكَ الْإِمَامَةَ فَلَا شَكَّ فِي
كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
مِنْ الْمُلَازَمَةِ وَالسُّكُوتِ وَالرِّضَا فَلَا يَضُرُّهُ مَا
أَخَذَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي حَالِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ الْجَامِكِيَّةَ عَلَى التَّدْرِيسِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ
فَصْلٌ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الذِّكْرِ بَعْدَ كُلِّ تَسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَمِنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِذَلِكَ وَالْمَشْيِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَكَذَلِكَ يَنْهَى عَنْ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ : الصَّلَاةَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ أَيْضًا وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فِعْلُ ذَلِكَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ
فَصْلٌ فِيمَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْخَتْمِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا فِي الْغَالِبِ بِحِزْبَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَتْمِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِيهَا عَلَى الْقِيَامِ الْمَعْهُودِ لِفَضِيلَتِهَا فَيُصَلِّي بَعْضُهُمْ فِيهَا بِنِصْفِ حِزْبٍ لَيْسَ إلَّا وَهُوَ مِنْ سُورَةِ وَالضُّحَى إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ وَكَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقُومُونَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا فَجَاءَ هَؤُلَاءِ فَفَعَلُوا الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ
فَصْلٌ
فِي صِفَةِ قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ
وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي قِيَامِ
الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إذْ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ
الْأَوَاخِرُ طَوَى فِرَاشَهُ وَشَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ
وَأَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ } .
وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي
الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَقُومُونَ مِنْ
أَوَّلِ الشَّهْرِ فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَرَكُوهُ ؛
لِأَنَّهُمْ يَخْتِمُونَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ ثُمَّ لَا
يَعُودُونَ لِلْقِيَامِ بَعْدَ خَتْمِهِمْ .
وَهَذِهِ بِدْعَةٌ مِمَّنْ
فَعَلَهَا وَهِيَ مُصَادِمَةٌ لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ ، وَإِنْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَبِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ مَعَ
أَنَّهُ قَدْ أَحْيَا بَعْضُهُمْ هَذَا الْعَشْرَ فِي الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ وَهِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ لَوْ سَلِمَتْ مِمَّا طَرَأَ
عَلَيْهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ فَمِنْهَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ يَأْخُذُونَ
عَلَيْهَا عِوَضًا مَعْلُومًا الثَّانِي : أَنَّ الْمَسْجِدَ يَبْقَى فِي
ظَلَامِ اللَّيْلِ مَفْتُوحَ الْأَبْوَابِ يَدْخُلُ إلَيْهِ مِنْهَا مَنْ
يَقُومُ وَمَنْ لَا يَقُومُ وَظَلَامُ اللَّيْلِ يَسْتُرُهُمْ فَلَوْ
كَانَ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقَفَ عَلَى زَيْتٍ يَعُمُّ
الْمَسْجِدَ كُلَّهُ بِضَوْئِهِ وَعَلَى رِجَالٍ يَطُوفُونَ بِالْمَسْجِدِ
طُولَ لَيْلِهِمْ فَمَنْ رَأَوْهُ فِيهِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ أَخْرَجُوهُ
لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا .
وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ هَذَا فَمَفَاسِدُهُ
كَثِيرَةٌ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ أَسْأَلُ
اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ
فَصْلٌ فِي الْخُطْبَةِ عَقِبَ الْخَتْمِ وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا خُطْبَةٌ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ وَإِذَا لَمْ تُذْكَرْ فَهِيَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَعْرُوفًا مَشْهُورًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ أَوْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ مَنْسُوبًا إلَى عَالِمٍ أَوْ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أَوْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْمَشْيَخَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِيهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِاقْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا فِي حَقِّ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا لَكِنْ يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ فِي حَقِّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ الْخَتْمِ مِنْ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالزَّعَقَاتِ .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { اُدْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْ
التَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ بِالْعِيَاطِ وَالزَّعَقَاتِ وَذَلِكَ
مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ
السَّلَفِ عَنْ الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ
فَقَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ تِلَاوَتِي إيَّاهُ سَبْعِينَ مَرَّةً .
وَسُئِلَ
غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَمْقُتَنِي
عَلَى تِلَاوَتِي وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمْ
مِنْ قَارِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ يَقُولُ أَلَا
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ ظَالِمٌ انْتَهَى .
وَلَا
يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا هُوَ فِي الدِّمَاءِ أَوْ
الْأَعْرَاضِ أَوْ الْأَمْوَالِ بَلْ هُوَ عَامٌّ إذْ قَدْ يَكُونُ
ظَالِمًا لِنَفْسِهِ فَيَدْخُلُ إذْ ذَاكَ تَحْتَ الْوَعِيدِ .
وَبِالْجُمْلَةِ
فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ خُشُوعٍ وَتَضَرُّعٍ وَابْتِهَالٍ وَرُجُوعٍ إلَى
الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ مِمَّا قَارَفَهُ مِنْ
الذُّنُوبِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفَلَاتِ وَتَقْصِيرِ حَالِ الْبَشَرِيَّةِ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْذُلَ الْعَبْدُ جَهْدَهُ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ
وَمَرْتَبَتِهِ .
وَمِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَوْلُهُ { اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ
عِبَادَتِك } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ
لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي
فِيهَا مَعَادِي } وَمِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ لَهُ قُلْ
اللَّهُمَّ تَمِّمْ عَلَيَّ النِّعْمَةَ حَتَّى تُهَنِّئَنِي الْمَعِيشَةُ
وَحَسِّنْ لِي الْعَاقِبَةَ حَتَّى لَا تَضُرَّنِي ذُنُوبِي وَخَلِّصْنِي
مِنْ شَبَائِكِ الدُّنْيَا وَكُلِّ هَوْلٍ فِي الْقِيَامَةِ حَتَّى
تُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ .
وَمِنْ
ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك فِعْلَ
الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا
أَرَدْت بِالنَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إلَيْك غَيْرَ مَفْتُونٍ } .
وَقَدْ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ مَرَّ بَعْضُ
السَّلَفِ بِقَاصٍّ يَدْعُو بِسَجْعٍ فَقَالَ لَهُ أَعْلَى اللَّهِ
تُبَالِغُ أَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْت حَبِيبًا الْعَجَمِيَّ يَدْعُو وَمَا
يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا جَيِّدِينَ اللَّهُمَّ لَا
تَفْضَحْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلْخَيْرِ
وَالنَّاسُ يَدْعُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ يُعْرَفُ
بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ اُدْعُ اللَّهَ بِلِسَانِ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ لَا بِلِسَانِ الْفَصَاحَةِ وَالِانْطِلَاقِ .
وَقِيلَ إنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَبْدَالَ لَا يَزِيدُ أَحَدُهُمْ فِي الدُّعَاءِ عَلَى سَبْعِ كَلِمَاتٍ فَمَا دُونَهَا .
وَيَشْهَدُ
لَهُ آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْبِرْ فِي
مَوْضِعٍ مِنْ أَدْعِيَةِ عِبَادِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى .
هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ فِي الْجَمَاعَاتِ أَوْ مَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَوْضِعِ الْعِبَادَاتِ .
وَأَمَّا
إنْ كَانَ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ يُؤْثِرُونَ
تَطْوِيلَ دُعَائِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ
فِي الدُّعَاءِ } وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَيَجُوزُ فِي
الْمَسْجِدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَهْرُ وَالتَّطْوِيلُ
بِالدُّعَاءِ عَادَةً .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَمْضِيَ فِيمَا
فُتِحَ لَهُ فِيهِ فِي أَيِّ وُجْهَةٍ كَانَتْ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ
أَوْ عِلْمٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَضَرُّعٍ أَوْ ابْتِهَالٍ أَوْ خُشُوعٍ
حَتَّى إنَّهُمْ قَدْ قَالُوا لَوْ أَخَذَهُ الْخُشُوعُ فِي صَلَاةِ
النَّافِلَةِ فَلْيَمْضِ فِي
ذَلِكَ وَلَوْ خَتَمَ الْخَتْمَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَكَذَلِكَ
لَوْ وَجَدَ الْخُشُوعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يُكَرِّرُهَا مَا
دَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الصَّبَاحِ وَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا لِفَرْضٍ
تَعَيَّنَ .
وَكَذَلِكَ إذَا فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ
فَالْمُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَقْطَعَهُ أَيْضًا فَمَنْ لَهُ
عَقْلٌ فَلْيَرْجِعْ إلَى عَمَلِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَيَتْرُكْ الْحَدَثَ فِي الدِّينِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ قَالَ
الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنْ
قِيلَ هَلْ يَأْثَمُ فَاعِلُ ذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنْ
كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ السَّلَامَةِ مِنْ اللَّغَطِ وَلَمْ يَكُنْ
إلَّا الرِّجَالُ أَوْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مُنْفَرِدِينَ بَعْضُهُمْ
عَنْ بَعْضٍ يَسْمَعُونَ الدُّعَاءَ فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي كَرِهَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي يَجْرِي فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَمُصَادَمَةِ أَجْسَادِهِمْ وَمُزَاحَمَةِ مَنْ فِي
قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِ الرَّيْبِ وَمُعَانَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
كَمَا حُكِيَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ رَجُلًا يَطَأُ امْرَأَةً وَهُمْ
وُقُوفٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ وَحَكَتْ لَنَا امْرَأَةٌ أَنَّ رَجُلًا
وَاقَعَهَا فَمَا حَالَ بَيْنَهُمَا إلَّا الثِّيَابُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ
مِنْ الْفِسْقِ وَاللَّغَطِ فَهَذَا فُسُوقٌ فَيَفْسُقُ الَّذِي كَانَ
سَبَبًا فِي اجْتِمَاعِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ رَوَى عَبْدُ
الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ .
قُلْنَا
فَهَذَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي
بَيْتِهِ وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَلْفِيقِ الْخَطْبِ
عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَتَخْتَلِطُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ
وَالصِّبْيَانُ وَالْغَوْغَاءُ وَتَكْثُرُ الزَّعَقَاتُ وَالصِّيَاحُ
وَيَخْتَلِطُ الْأَمْرُ وَيَذْهَبُ بَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَوَقَارُ
الْإِيمَانِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ دَعَا وَإِنَّمَا جَمَعَ أَهْلَهُ فَحَسْبُ .
وَلِمَا
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ
رَجُلًا يَقُولُ يَا حَبَّذَا صُفْرَةُ مَاءِ ذِرَاعَيْهَا لِمَاءٍ كَانَ
قَدْ تَوَضَّأَتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَبَقِيَ فِيهِ مِنْ أَثَرِ
الزَّعْفَرَانِ فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ
يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي مَجْلِسِ الْمَرْأَةِ عَقِبَ قِيَامِهَا وَكُلُّ
مَنْ قَالَ بِأَصْلِ الذَّرَائِعِ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِهَذَا الْفَرْعِ
وَمَنْ أَبَى أَصْلَ الذَّرَائِعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَلْزَمُهُ
إنْكَارُهُ لِمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
انْتَهَى
فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْخَتْمِ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْبِدَعِ عِنْدَ الْخَتْمِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فَيَسْجُدُونَهَا مُتَوَالِيَةً فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ رَكَعَاتٍ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ إذْ إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَ السَّلَفِ وَبَعْضُهُمْ يُبَدِّلُ مَكَانَ السَّجَدَاتِ قِرَاءَةَ التَّهْلِيلِ عَلَى التَّوَالِي فَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَرَأَهَا إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا
فَصْلٌ فِي قِيَامِ
السَّنَةِ كُلِّهَا قَالَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ
الْمُوَطَّأِ إنَّ هَذَا الْقِيَامَ الَّذِي يَقُومُ النَّاسُ بِهِ فِي
رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا
يُوقِعُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ
الْقَارِئِ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ
لِكَيْ يَحْصُلَ لِعَامَّةِ النَّاسِ فَضِيلَةُ الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ
كُلِّهِ وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِمْ فِي أَفْضَلِ الشُّهُورِ انْتَهَى
وَلِكَوْنِهِ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلَى سَمَاءِ
الدُّنْيَا وَلِكَوْنِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُدَارِسُ
الْقُرْآنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
فَلِأَجَلْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا شَابَهَهَا نَاسَبَ مُحَافَظَةَ
جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى قِيَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ فِي
السَّنَةِ كُلِّهَا مَشْرُوعًا لِمَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَمْ
يَحْفَظْهُ فَمَنْ حَفِظَهُ قَامَ بِهِ فِي بَيْتِهِ جَهْرًا وَلَا
يَقُومُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ أَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ كَمَا فِي رَمَضَانَ
وَغَيْرُ الْحَافِظِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ
بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا مِنْ السُّوَرِ فِي
بَيْتِهِ أَيْضًا هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي الْأُمَّةِ
خِلَافًا لِمَا فَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيَامَ
الْمَعْهُودَ فِي رَمَضَانَ دَائِمًا فِي زَاوِيَتِهِ فِي جَمِيعِ
السَّنَةِ ثُمَّ نُقِلَتْ عَنْهُ وَاشْتُهِرَتْ فَصَارَتْ تُعْمَلُ فِي
بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ
وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي
الْمَسَاجِدِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَاعَدُوا
عَلَى أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ فَإِنَّهُمْ
يُمْنَعُونَ مِنْهُ ، فَإِنْ فَعَلُوا فَهِيَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
فِيمَا تَقَدَّمَ نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ يَعْنِي فِي جَمْعِهِمْ
عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
فَذِكْرُهُ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ
فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ
الْخَتْمِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ
الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ وَعِنْدَ
الْخَتْمِ مِثْلُهُ .
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْأَمْرُ فِي
رَمَضَانَ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ بِالْقَصَصِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ
الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ نَهَى مَالِكٌ أَنْ يَقُصَّ
أَحَدٌ بِالدُّعَاءِ فِي رَمَضَانَ وَحَكَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَعْمُولَ
بِهِ فِي الْمَدِينَةِ الْقِرَاءَةُ مِنْ غَيْرِ قَصَصٍ وَلَا دُعَاءٍ .
وَمِنْ
الْمُسْتَخْرَجَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ
الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَخْتِمُهُ ثُمَّ يَدْعُو قَالَ مَا
سَمِعْت أَنَّهُ يَدْعُو عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ
النَّاسِ .
وَمِنْ مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ
مَالِكٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَوْمُ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ
مَنْ يُقْرِئُهُمْ أَوْ يَفْتَحُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا
يَقْرَأُ قَالَ وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا يَدْعُو رَافِعًا يَدَيْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تُقَلِّصُوا تَقْلِيصَ الْيَهُودِ قَالَ مَالِكٌ التَّقْلِيصُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ .
وَرَوَى
ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يَعْمَلُ النَّاسُ
بِهِ مِنْ الدُّعَاءِ حِينَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَحِينَ يَخْرُجُونَ
وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ وَأَنْكَرَ
ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّمَا عَنَى
بِهَذَا الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ فَأَمَّا الدُّعَاءُ عِنْدَ دُخُولِهِ
وَخُرُوجِهِ مَاشِيًا فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ آثَارٌ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ
مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَدْعُو خَلْفَ الصَّلَاةِ قَائِمًا قَالَ لَيْسَ
بِصَوَابٍ وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ
شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ جُمَلًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ
الْمُحْدَثَةِ قَالَ إنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ خِيفَةَ أَنْ يُلْحَقَ
بِمَا يَجِبُ فِعْلُهُ حَتَّى يُتَّخَذَ أَمْرًا مَاضِيًا وَمَا لَنَا
نُقَدِّرُ ذَلِكَ بَلْ قَدْ وَجَدْنَا مَا كُنَّا نَحْذَرُ فَأَكْثَرُ
الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إنَّمَا شَرَعَ قِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
وَأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْمَعْ فِي رَمَضَانَ إلَّا
لَيْلَتَيْنِ انْتَهَى .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ
الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّ
الْكَرَاهَةَ الْمَذْكُورَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَهْرِ وَرَفْعِ
الصَّوْتِ فِي جَمَاعَةٍ
وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي السِّرِّ فَهُوَ
جَائِزٌ أَوْ مَنْدُوبٌ بِحَسْبِ الْحَالِ وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خُتِمَ عِنْدَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْهُ
خَلْفَ الْمَكْتُوبَةِ شَيْئًا وَكُنَّا لَا نَعْرِفُ دُعَاءَهُ بَعْدَ
الصَّلَاةِ إلَّا حِينَ يَرْمُقُ السَّمَاءَ بِعَيْنَيْهِ وَهَذَا ضِدُّ
مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَقِبَ الْخَتْمِ مِنْ قِرَاءَةِ
الْقَصَائِدِ وَالْكَلَامِ الْمُسَجَّعِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشْبِهُ
الْغِنَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّطْرِيبِ وَالْهُنُوكِ وَخُلُوِّهِ مِنْ
الْخُشُوعِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ لِلْمَوْلَى الْكَرِيمِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ } وَلَمْ يَقُلْ أَمَّنْ
يُجِيبُ الْقَوَّالَ .
وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَشْيَاءَ
جُمْلَةً يَعْرِفُهَا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى فِعْلِ السَّلَفِ
الْمَاضِينَ فَإِنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الْمَاضُونَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ
بَعْدَ الْخَتْمِ وَمَا انْضَافَ إلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .
فَمِنْ
ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُؤَذِّنِينَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مَوْضِعِ
الْخَتْمِ فَيُكَبِّرُونَ جَمَاعَةً فِي حَالِ كَوْنِهِمْ فِي الصَّلَاةِ
لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ
جَمَاعَةٍ بَلْ بَعْضُهُمْ يُسْمِعُونَ وَلَيْسُوا فِي صَلَاةٍ وَهَذَا
فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالْمُخَالَفَةِ لِسُنَّةِ السَّلَفِ
الْمَاضِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَيُؤَذِّنُونَ أَيْضًا كَذَلِكَ .
ثُمَّ
إنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ إذَا خَرَجَ الْقَارِئُ مِنْ الْمَوْضِعِ
الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَتَوْهُ بِبَغْلَةٍ أَوْ فَرَسٍ لِيَرْكَبَهَا
ثُمَّ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي صِفَةِ ذَهَابِهِ إلَى بَيْتِهِ .
فَمِنْهُمْ
مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا هُمْ يَفْعَلُونَهُ
أَمَامَ جَنَائِزِهِمْ وَأَمَامَهُمْ الْمُدِيرُ عَلَى عَادَتِهِمْ
الذَّمِيمَةِ وَالْمُؤَذِّنُونَ يُكَبِّرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَتَكْبِيرِ
الْعِيدِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى كَرِهَ مَالِكٌ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ
وَالطُّرُقِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ
وَتَعْظِيمُهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَهُ وَهُوَ مَاشٍ فِي الطُّرُقِ
وَالْأَسْوَاقِ لِمَا قَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْأَقْذَارِ
وَالنَّجَاسَاتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ حَقَّ التَّدَبُّرِ .
وَالثَّالِثُ لِمَا يُخْشَى أَنْ يَدْخُلَهُ ذَلِكَ فِيمَا يُفْسِدُ نِيَّتَهُ انْتَهَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ بِالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَغَانِي وَهُوَ أَشَدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَمْنُوعَةً .
وَبَعْضُهُمْ
يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ ضَرْبَ الطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالدُّفِّ
وَبَعْضُهُمْ الطَّارُّ وَالشَّبَّابَةُ فِي بَيْتِهِ .
وَبَعْضُهُمْ
يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ وَيَحْضُرُ إذْ ذَاكَ مِنْ
اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَا هُوَ ضِدُّ الْمَطْلُوبِ
فِيهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ عَلَى الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَتَرْكِ
الْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَاكَلَهُ .
ثُمَّ
إنَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْحَلَاوَاتِ
فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَضَرَّ الْبِدَعَ وَمَا أَكْثَرَ شُؤْمَهَا .
حَتَّى
لَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمَشَايِخِ عَمِلَ لِوَلَدِهِ خَتْمًا بِبَعْضِ
مَا ذُكِرَ فَلَمَّا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ سَأَلْته عَنْ
وَلَدِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَلَّى الْقِيَامَ فَقَالَ لِي أَنَا
مَنَعْته مِنْ الْقِيَامِ فَقُلْت لَهُ وَلِمَ قَالَ ؛ لِأَنَّ
الْأَصْحَابَ وَالْإِخْوَانَ وَالْمَعَارِفَ يُطَالِبُونَنِي بِالْخَتْمِ
فَأَحْتَاجُ إلَى كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ .
فَانْظُرْ إلَى شُؤْمِ
الْبِدَعِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ
الْمُحَافَظَةِ عَلَى حِفْظِ الْخَتْمَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ
يُصَلِّي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بَقِيَتْ الْخَتْمَةُ مَحْفُوظَةً
عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْسَهَا فِي الْغَالِبِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ
كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا
أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ } وَالْغَالِبُ فِي الصِّبْيَانِ
أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ فِي اللَّيْلِ فَإِذَا لَمْ يُصَلُّوا بِهِ فِي
اللَّيْلِ وَلَمْ يَقُومُوا بِهِ فِي رَمَضَانَ وَالْغَالِبُ مِنْ
حَالِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْأَسْبَابِ الَّتِي
تُعَوِّقُهُمْ عَنْ مُعَاهَدَةِ الْخَتْمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا
لِنِسْيَانِهَا لِأَكْثَرِهِمْ
فَصْلٌ فِي وُقُودِ الْقَنَادِيلِ
لَيْلَةَ الْخَتْمِ وَيَنْبَغِي فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا أَنْ
يُزَادَ فِيهَا الْوُقُودُ قَلِيلًا زَائِدًا عَلَى الْعَادَةِ لِأَجْلِ
اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَثْرَتِهِمْ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَرَوْنَ
الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ
يَسَعُهُمْ أَمْ لَا وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَضَعُونَ فِيهَا
أَقْدَامَهُمْ وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَمْشُونَ فِيهَا إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهِمْ .
وَلَا يُزَادُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ
شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فُعِلَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى بِخِلَافِ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ
الْيَوْمَ مِنْ زِيَادَةِ وُقُودِ الْقَنَادِيلِ الْكَثِيرَةِ
الْخَارِجَةِ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِمَا فِيهَا مِنْ إضَاعَةِ
الْمَالِ وَالسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ
مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُودِ الشَّمْعِ وَمَا يُرْكَزُ فِيهِ ،
فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ
فَاسْتِعْمَالُهُ مُحَرَّمٌ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ
بِغَيْرِهِمَا فَهُوَ إضَاعَةُ مَالٍ وَسَرَفٌ وَخُيَلَاءُ .
وَبَعْضُهُمْ
يَفْعَلُونَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ خَتْمَةً
عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْتِمُونَ فِيهِ وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ
فِيهَا فَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُهَا مِنْ الشُّقَقِ الْحَرِيرِ
الْمُلَوَّنَةِ .
وَبَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِهَا لَكِنَّهَا تَكُونُ
مُلَوَّنَةً أَيْضًا وَيُعَلِّقُونَ فِيهَا الْقَنَادِيلَ وَذَلِكَ
مُحَرَّمٌ وَسَرَفٌ وَخُيَلَاءُ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَاسْتِعْمَالٌ لِمَا
لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ ، وَبَعْضُهُمْ
يَجْعَلُ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْقَنَادِيلِ مُلَوَّنًا .
وَبَعْضُهُمْ
يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ الْقَنَادِيلَ الْمُذَهَّبَةَ أَوْ الْمُلَوَّنَةَ
أَوْ هُمَا مَعًا وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ
وَالْبِدْعَةِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالْقِيلِ
وَالْقَالِ .
فَكَيْفَمَا زَادَتْ فَضِيلَةُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ قَابَلُوهَا بِضِدِّهَا .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
وَبَعْضُهُمْ
يَفْعَلُونَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَسْتَعِيرُونَ
الْقَنَادِيلَ مِنْ مَسْجِدٍ آخَرَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ
قَنَادِيلَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَقْفٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا
مِنْهُ وَلَا اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ
مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَحٌ
فِي طُولِ السَّنَةِ اسْتَعَارَ الْقَنَادِيلَ مِنْ مَسْجِدٍ
وَاسْتَعْمَلَهَا فِي بَيْتِهِ لِلسَّمَاعِ وَالرَّقْصِ وَمَا شَاكَلَ
ذَلِكَ ثُمَّ أَفْضَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوُقُودِ إلَى اجْتِمَاعِ أَهْلِ
الرِّيَبِ وَالشَّكِّ وَالْفُسُوقِ وَمَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ حَتَّى
جَرَّ ذَلِكَ إلَى اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ
وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ
بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْوُقُودِ اجْتِمَاعُ اللُّصُوصِ وَتَشْوِيشُهُمْ
عَلَى بَعْضِ الْحَاضِرِينَ وَانْضَافَ إلَيْهِ أَيْضًا كَثْرَةُ
اللَّغَطِ فِي الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ فِيهِ وَالْقِيلُ
وَالْقَالُ إذْ إنَّهُ يَكُونُ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ وَكَثِيرٌ مِنْ
النَّاسِ يَتَحَدَّثُونَ وَيَخُوضُونَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُنَزَّهُ
الْمَسْجِدُ عَنْ بَعْضِهَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَكَيْفَ بِهَا فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ الْعَظِيمِ فَكَيْفَ بِهَا فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ
مِنْهُ فَلْيُتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَمَا شَاكَلَهُ جَهْدَهُ .
وَهَذَا إذَا كَانَ الزَّيْتُ مِنْ مَالِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي مَنْعِهِ .
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْطُهُ .
لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ }
وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
وَهَذِهِ عَادَةٌ قَدْ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْفِ
سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ سِيَّمَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ
فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهِ أَفْعَالًا لَا تَلِيقُ بِسَبَبِ سُكُوتِ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ عَلَى انْقِلَابِ
الْحَقَائِقِ .
إذْ إنَّهُمْ لَوْ
فَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ سَرَفٌ وَبِدْعَةٌ كَمَا
تَقَدَّمَ لَرُجِيَتْ لَهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَلَكِنْ زَادُوا
عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا عِنْدَهُمْ فَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ
مِنْ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَفِعْلِهَا فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ مِنْ
هَذَا الْأَمْرِ الْمَخُوفِ فَلْيُغَيِّرْ ذَلِكَ مَهْمَا اسْتَطَاعَ
جَهْدَهُ ، فَإِنْ عَدِمَ الِاسْتِطَاعَةَ فَلَا يُصَلِّي فِيهِ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ ؛ لِأَنَّ بِصَلَاتِهِ فِيهِ يَكْثُرُ سَوَادُ أَهْلِ
الْبِدَعِ وَيَكُونُ حُجَّةً إنْ كَانَ قُدْوَةً لِلْقَوْمِ بِأَنَّ
ذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ
سَيِّدِي فُلَانٌ يَحْضُرُهُ وَلَا يُغَيِّرُهُ فَلَوْ كَانَ بِدْعَةً
لَمَا حَضَرَهُ وَلَا رَضِيَ بِهِ .
وَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ
زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُعْضِلَةٌ إذْ إنَّ إثْمَ
ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ أَوْ اسْتَحْسَنَهُ
أَوْ رَضِيَ بِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مَا أَوْ قَدَرَ عَلَى
تَغْيِيرِهِ بِشُرُوطِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ أُحْدِثَ فِي الدِّينِ فَلْيَجْتَنِبْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُضْطَرٌّ
لِلصَّلَاةِ فِيهِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ إذْ إنَّ
الْفَضِيلَةَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إنْ كَانَ
سَالِمًا مِمَّا ذُكِرَ وَيَتَأَكَّدُ التَّرْكُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ
قُدْوَةٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا حَضَرْت
أَمْرًا لَيْسَ بِطَاعَةٍ لِلَّهِ وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَنْهَى عَنْهُ
فَتَنَحَّ عَنْهُمْ وَاتْرُكْهُمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ
يَقُولَ الْحَقَّ إذَا شَهِدَهُ أَوْ عَلِمَهُ } نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ
فِي كِتَابِهِ
فَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَسْجِدًا سَالِمًا
مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلْيُصَلِّ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ
وَأَقْرَبُ إلَى رِضَاءِ رَبِّهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ إذْ إنَّ