كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
الْعَبْدَرِيُّ
فَإِذَا زَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ قَدَرَ
أَنْ لَا يَجْلِسَ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى ، فَإِنْ عَجَزَ ، فَلَهُ أَنْ
يَجْلِسَ بِالْأَدَبِ ، وَالِاحْتِرَامِ ، وَالتَّعْظِيمِ ، وَقَدْ لَا
يَحْتَاجُ الزَّائِرُ فِي طَلَبِ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ أَنْ
يَذْكُرَهَا بِلِسَانِهِ ، بَلْ يُحْضِرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَهُوَ
حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْلَمُ مِنْهُ بِحَوَائِجِهِ
وَمَصَالِحِهِ وَأَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ
مِنْ أَقَارِبِهِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : {
إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الْفَرَاشِ تَقَعُونَ فِي النَّارِ
وَأَنَا آخُذُ بِحُجُزِكُمْ عَنْهَا } .
أَوْ كَمَا قَالَ ، وَهَذَا
فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ
وَأَوَانٍ أَعْنِي فِي التَّوَسُّلِ بِهِ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ بِجَاهِهِ
عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زِيَارَتُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِسْمِهِ فَلْيَنْوِهَا كُلَّ وَقْتٍ
بِقَلْبِهِ وَلْيُحْضِرْ قَلْبَهُ أَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ
مُتَشَفِّعًا بِهِ إلَى مَنْ مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيُوسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي رُقْعَتِهِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إلَيْهِ مِنْ أَبْيَاتٍ
إلَيْك أَفِرُّ مِنْ زَلَلِي وَذَنْبِي وَأَنْتَ إذَا لَقِيت اللَّهَ
حَسْبِي وَزَوْرَةُ قَبْرِك الْمَحْجُوجُ قِدَمًا مُنَايَ وَبُغْيَتِي
لَوْ شَاءَ رَبِّي ، فَإِنْ أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِجِسْمِي فَلَمْ
أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِقَلْبِي إلَيْك غَدَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنِّي
تَحِيَّةُ مُؤْمِنٍ دَنِفٍ مُحِبِّ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا
شَفَاعَتَهُ وَلَا عِنَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ
وَأَدْخَلْنَا بِفَضْلِك فِي زُمْرَةِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِإِحْسَانٍ
إلَى يَوْمِ الدِّينِ بِجَاهِهِ عِنْدَك ، فَإِنَّ جَاهَهُ عِنْدَك
عَظِيمٌ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَوَّلِ خُلَفَائِهِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَرَضَّى عَنْهُ وَيُثْنِي
عَلَيْهِ بِمَا حَضَرَهُ ، ثُمَّ
يَفْعَلُ كَذَلِكَ مَعَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَوَسَّلُ بِهِمَا إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَدِّمُهُمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ شَفِيعَيْنِ فِي حَوَائِجِهِ ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ
شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْبَقِيعِ لِيَزُورَ مَنْ فِيهِ اقْتِدَاءً
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا أَتَى إلَى
الْبَقِيعِ بَدَأَ بِثَالِثِ الْخُلَفَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ يَأْتِي قَبْرَ الْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ بَعْدَهُ مِنْ
الْأَكَابِرِ وَيَنْوِي امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَزُورُ أَهْلَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ،
وَهَذَا نَصٌّ فِي الزِّيَارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قُرْبَةٌ
بِنَفْسِهَا مُسْتَحَبَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا فِي الدِّينِ ظَاهِرَةٌ
بَرَكَتُهَا عِنْدَ السَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ
إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ كَانَتْ إقَامَتُهُ كَثِيرَةً بِالْمَدِينَةِ عَلَى
سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ ، وَالسَّلَامِ .
فَأَمَّا الزَّائِرُ
أَيَّامًا وَيَرْجِعُ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَجِوَارِهِ ، وَالْمُقَامِ عِنْدَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنَّهُ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ
وَبَابُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ دِينًا وَدُنْيَا وَأُخْرَى فَيَذْهَبُ إلَى
أَيْنَ ، وَقَدْ فَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ
الْأَفَّاقِي ، وَالْمُقِيمِ فِي التَّنَفُّلِ بِالطَّوَافِ ،
وَالصَّلَاةِ فَقَالُوا : الطَّوَافُ فِي حَقِّ الْأَفَّاقِي أَفْضَلُ
لَهُ ، وَالتَّنَفُّلُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ أَفْضَلُ ، وَمَا نَحْنُ
بِسَبِيلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا خَرَجَ إلَى
زِيَارَةِ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلْيَغْتَنِمْ
مُشَاهَدَتَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، وَقَدْ قَالَ
لِي سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ
دَخَلَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ : مَا جَلَسْت فِي الْمَسْجِدِ إلَّا الْجُلُوسَ فِي
الصَّلَاةِ ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ ، وَمَا زِلْت وَاقِفًا هُنَاكَ حَتَّى رَحَلَ الرَّكْبُ وَلَمْ أَخْرُجْ إلَى بَقِيعٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَمْ أَزُرْ غَيْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ قَدْ خَطَرَ لِي أَنْ أَخْرُجَ إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَقُلْت : إلَى أَيْنَ أَذْهَبُ ؟ هَذَا بَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَفْتُوحُ لِلسَّائِلِينَ ، وَالطَّالِبِينَ ، وَالْمُنْكَسِرِينَ ، وَالْمُضْطَرِّينَ ، وَالْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُقْصَدُ مِثْلُهُ ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا ظَفَرَ وَنَجَحَ بِالْمَأْمُولِ ، وَالْمَطْلُوبِ ، أَوْ كَمَا قَالَ
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى زِيَارَةِ
قُبُورِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
دَلِيلُ ذَلِكَ ، فَإِذَا زَارَ فَلْيَعْتَبِرْ فِي حَالِ مَنْ زَارَهُ
وَمَا صَارَ إلَيْهِ فِي قَبْرِهِ مِنْ الْحَمَإِ الْمَسْنُونِ وَهِيَ
الطِّينَةُ الْحَارَّةُ الْمُنْتِنَةُ الْعَفِنَةُ ، وَمَاذَا سُئِلَ
عَنْهُ ، وَبِمَاذَا أَجَابَ وَمَا هُوَ حَالُهُ هَلْ فِي جَنَّةٍ ، أَوْ
ضِدِّهَا ، وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّرَحُّمِ
عَلَيْهِ وَرَفْعِ مَا بِهِ مِنْ الْكَرْبِ إنْ كَانَ بِهِ وَيَسْأَلُ
لَهُ جَلْبَ الرَّحْمَةِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَيُشْعِرُ نَفْسَهُ
أَنَّهُ حَصَلَ فِي عَسْكَرِهِمْ ، إذْ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ كَمَا قِيلَ :
مَنْ عَاشَ مَاتَ وَمَنْ مَاتَ فَاتَ وَأَنَّهُ الْآنَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُ
وَيُفَكِّرُ فِي مَاذَا يُجِيبُ ، وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَحِيدٌ فَرِيدٌ
قَدْ رَحَلَ عَنْهُ أَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَوَلَدُهُ وَمَالُهُ
فَيَكُونُ مَشْغُولًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا
تُذَكِّرُ الْمَوْتَ } انْتَهَى .
فَيَتَعَلَّقُ بِمَوْلَاهُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَطِرَةِ الْعَظِيمَةِ وَيَلْجَأُ إلَيْهِ وَيَتَوَسَّلُ
وَلَا
يَقْرَأُ الزَّائِرُ عِنْدَ قَبْرِ الْمَيِّتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
شَغْلِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إلَى التَّدَبُّرِ وَإِحْضَارِ الْفِكْرَةِ فِيمَا
يَتْلُوهُ وَفِكْرَتَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لَا
يَجْتَمِعَانِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أَعْتَبِرُ فِي وَقْتٍ
وَأَقْرَأُ فِي وَقْتٍ آخَرَ ، وَالْقِرَاءَةُ إذَا قُرِئَتْ تَنْزِلُ
الرَّحْمَةُ ، إذْ ذَاكَ فَلَعَلَّ أَنْ يَلْحَقَ الْمَيِّتَ مِنْ تِلْكَ
الرَّحْمَةِ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَرِدْ بِذَلِكَ وَكَفَى بِهَا .
الثَّانِي
: شَغْلُهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِكْرَةِ ، وَالِاعْتِبَارِ فِي حَالِ
الْمَوْتِ وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَالْوَقْتُ مَحَلٌّ لِهَذَا فَقَطْ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى سِيَّمَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ فِي بَيْتِهِ وَأَهْدَى لَهُ لَوَصَلَتْ ،
وَكَيْفِيَّةُ وُصُولِهَا أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ تِلَاوَتِهِ وَهَبَ
ثَوَابَهَا لَهُ ، أَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَهَا لَهُ
فَإِنَّ ذَلِكَ دُعَاءٌ بِالثَّوَابِ ؛ لَأَنْ يَصِلَ إلَى أَخِيهِ ،
وَالدُّعَاءُ يَصِلُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا
يَحْتَاجُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقُبُورِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ
يَكُونُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ سَبَبًا لِعَذَابِهِ ، أَوْ
لِزِيَادَتِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةٌ لَمْ
يَعْمَلْ بِهَا فَيُقَالُ لَهُ : أَمَا قَرَأْتَهَا أَمَا سَمِعْتهَا
فَكَيْفَ خَالَفْتهَا فَيُعَذَّبُ ، أَوْ يُزَادُ فِي عَذَابِهِ لِأَجْلِ
مُخَالِفَتِهِ لَهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ
مِمَّا ذُكِرَ ؛ أَنَّهُ رُئِيَ فِي عَذَابٍ عَظِيمٍ فَقِيلَ لَهُ : أَمَا
تَنْفَعُك الْقِرَاءَةُ الَّتِي تُقْرَأُ عِنْدَك لَيْلًا وَنَهَارًا
فَقَالَ : إنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ عَذَابِي وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ
سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْقُبُورِ بِدْعَةٌ
وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ وَإِنَّ مَذْهَبَ
مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ انْتَهَى .
فَيَكُونُ الْعَالِمُ يُبَيِّنُ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الزِّيَارَةِ وَيُوَضِّحُهَا حَتَّى تُعْرَفَ وَيَتَعَاهَدَهَا النَّاسُ ، وَيُبَيِّنُ لِمَنْ حَضَرَهُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي الزِّيَارَةِ مِنْ الْبِدَعِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهَا فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي رُكُوبِهِنَّ عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ ، وَالرُّجُوعِ وَفِي مَسِّ الْمُكَارِي لَهُنَّ وَتَحْضِينِهِ لِلْمَرْأَةِ فِي إرْكَابِهَا ، وَإِنْزَالِهَا وَحِينَ مُضِيِّهَا يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى فَخْذِهَا وَتَجْعَلُ يَدَهَا عَلَى كَتِفِهِ مَعَ أَنَّ يَدَهَا وَمِعْصَمَهَا مَكْشُوفَانِ لَا سِتْرَ عَلَيْهِمَا سِيَّمَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاتِمِ ، وَالْأَسَاوِرِ مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ الْفِضَّةِ ، أَوْ هُمَا مَعًا مَعَ الْخِضَابِ فِي الْغَالِبِ وَتَقْصِدُ مَعَ ذَلِكَ إظْهَارَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ فَعَلَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ لَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ وَمُنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَرَاهُ الزَّوْجُ ، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ ، أَوْ الْعَالِمُ ، أَوْ غَيْرُهُمْ فَيَسْكُتُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مَعَ أَنَّهَا تُنَاجِي الْمُكَارِيَ وَتُحَدِّثُهُ كَأَنَّهُ زَوْجُهَا ، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا ، بَلْ الْعَجَبُ أَنَّ زَوْجَهَا وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ بِالْحَضْرَةِ وَيَعْلَمُونَهُ بِالْغَيْبَةِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ ، وَكُلُّ مَنْ يُعَايِنُهُمْ مِنْ النَّاسِ سُكُوتٌ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ وَلَا يَجِدُونَ لِذَلِكَ غَيْرَةً إسْلَامِيَّةً فِي الْغَالِبِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ إذَا رَآهُ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ مَنْ يُجَالِسُهُ وَيَرَاهُ تَنَبَّهَ النَّاسُ لِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَلَّ فَاعِلُهَا ، فَإِنْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ يَعْلَمُ بِسَبَبِ إشَاعَةِ الْعَالِمِ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّهُ عَاصٍ وَكَفَى بِهَذِهِ نِعْمَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ رُجِيَ لَهُمْ التَّوْبَةُ ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي ذَهَابِهِنَّ وَعَوْدِهِنَّ
.
وَأَمَّا فِي حَالِ
زِيَارَتِهِنَّ الْقُبُورَ فَأَشْنَعُ وَأَعْظَمُ ؛ لِأَنَّهَا
اشْتَمَلَتْ عَلَى مَفَاسِدَ عَدِيدَةٍ : فَمِنْهَا : مَشْيُهُنَّ
بِاللَّيْلِ مَعَ الرِّجَالِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ مَعَ كَثْرَةِ
الْخَلَوَاتِ هُنَاكَ وَكَثْرَةِ الدُّورِ الْمُتَيَسِّرَةِ ،
وَكَشْفُهُنَّ لِوُجُوهِهِنَّ وَغَيْرِهَا حَتَّى كَأَنَّهُنَّ مَعَ
أَزْوَاجِهِنَّ خَالِيَاتٌ فِي بَيْتِهِنَّ ، وَيَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ
مُحَادَثَتُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَمَزْحُهُنَّ
وَمُلَاعَبَتُهُنَّ وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ مَعَ الْغِنَاءِ فِي مَوْضِعِ
الْخُشُوعِ ، وَالِاعْتِبَارِ ، وَالذُّلِّ ، فَإِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ
أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْحُزْنِ
، وَالْخَوْفِ ضِدَّ مَا يَفْعَلُونَهُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ
يَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ ، وَالرَّفَثَ فِي
الصِّيَامِ ، وَالضَّحِكَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ } انْتَهَى .
فَيَحِقُّ
لِمَنْ مَصِيرُهُ إلَى هَذَا عَدَمُ اللَّهْوِ ، وَاللَّعِبِ ،
وَخُرُوجُهُنَّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَوْ كَانَ بِالنَّهَارِ
لَخِيفَ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْكُبْرَى فَكَيْفَ بِهِ لَيْلًا
، وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْوُعَّاظِ عَلَى
الْمَنَابِرِ ، وَالْكَرَاسِيِّ ، وَالْمُحَدِّثِينَ مِنْ الْقُصَّاصِ
بَيْنَ الْمَقَابِرِ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ وَغَيْرِهَا ،
وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مُخْتَلِطِينَ ،
وَكَذَلِكَ الْقُرَّاءُ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّرْجِيعِ
، وَالزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ ، وَالْوَقَارِ
، وَالتَّمْطِيطِ ، وَالْمَدِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَتَخْفِيفِ
الْمُشَدَّدِ وَعَكْسِهِ ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَى تَرْتِيبِ هَنُوكِ
الْغِنَاءَ ، وَالطَّرَائِقِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ وَسَوَاءٌ كَانَ
الزُّوَّارُ رِجَالًا ، أَوْ نِسَاءً فَكُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ لِمَا
فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ
وَغَيْرِهَا .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ صِفَةُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الْمَشْرُوعَةِ أَعْنِي
لِلرِّجَالِ ، إذْ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
لِلنِّسَاءِ حِينَ رَآهُنَّ فِي جِنَازَةٍ : { ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ
غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ يَعْنِي
الْقُبُورَ وَذَكَرَ وَعِيدًا شَدِيدًا ، هَذَا وَهُنَّ فِي حَالِ
التَّشْيِيعِ لِلْجِنَازَةِ فَمَا بَالُك بِهِنَّ فِي زِيَارَةِ
الْقُبُورِ ، وَكَذَلِكَ زِيَارَتُهُنَّ فِي النَّهَارِ مَمْنُوعَةٌ
أَيْضًا ، بَلْ النَّهَارُ أَشَدُّ كَشْفًا لِمَا يُظْهِرْنَهُ مِنْ
الزِّينَةِ وَكَشْفِهَا وَعَدَمِ الْحَيَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
ثُمَّ
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَهُ النِّسَاءُ فِي
هَذِهِ الزِّيَارَةِ الَّتِي ابْتَدَعْنَهَا لِأَنْفُسِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ
جَعَلْنَ لِكُلِّ مَشْهَدٍ يَوْمًا مَعْلُومًا فِي الْجُمُعَةِ حَتَّى
أَتَيْنَ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ لِيَجِدْنَ السَّبِيلَ إلَى
وُصُولِهِنَّ إلَى مَقَاصِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ
فَجَعَلْنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلسَّيِّدِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ، وَالسَّبْتِ لِلسَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ
وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَالْجُمُعَةِ لِلْقَرَافَةِ لِزِيَارَةِ
الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَمْوَاتِهِنَّ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَك
اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ بِسَبَبِ
هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الدَّيِّنَ الْغَيُورَ
مِنْهُمْ عَلَى زَعْمِهِ لَا يُمَكِّنُ زَوْجَتَهُ أَنْ تَخْرُجَ
وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا
الْخُرُوجَ ، أَوْ تُفَارِقُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشَاتِ
الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا مِنْهَا مِنْ الِامْتِنَاعِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ
مَنْعِهِ لَهَا فَيَخْرُجُ مَعَهَا لِئَلَّا يُفَارِقَهَا فَيُبَاشِرُ مَا
ذُكِرَ ، أَوْ بَعْضَهُ ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ ، أَوْ يَسْمَعُ
وَيَرَى وَهِيَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهَا وَيَقَعُ اسْتِمْتَاعُ
الْأَجَانِبِ
بِزَوْجَتِهِ بِالْمُزَاحِ ، وَالْبَسْطِ ، وَالْمُلَاعَبَةِ مَعَهَا ،
وَاللَّمْسِ لَهَا بِحُضُورِهِ ، وَقَدْ يَرَى هَذَا مِنْ حُسْنِ
الْخُلُقِ ، وَالسِّيَاسَةِ ، وَالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِرْضِ
زَوْجَتِهِ وَعَلَى عِرْضِ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجَتِهِ .
وَقَدْ
يَرَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ ، وَهَذَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ وَخَسْفٌ بَاطِنٌ
أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ هَذَا إنْ احْتَمَلَ الزَّوْجُ
مَا رَأَى مِمَّا وَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ
الْعَدِيدَةِ ، وَإِنْ غَلَبْته الْغَيْرَةُ ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ عَلَى
مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا فَعَلَ مَعَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ
فَيَقَعُ الضَّرْبُ ، وَالْخِصَامُ ، وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى
الْوَالِي ، وَالْحَاكِمِ ، وَالْحَبْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
هَذَا إنْ
كَانَ الزَّوْجُ سَالِمًا مِنْ الرِّيَاسَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ
يَتَرَأَّسُ ، أَوْ هُوَ رَئِيسٌ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَ
زَوْجَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ
هُنَاكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيُرْسِلُ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ لَهَا عَوْنًا
عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَبِيٍّ ، أَوْ عَبْدٍ ، أَوْ عَجُوزٍ ، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا كَانَ أَكْثَرَ فَسَادًا مِنْ خُرُوجِهَا
وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَهَابُ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى
الْمَرْأَةِ فَيَبْتَدِئُهَا بِكَلَامٍ ، أَوْ مُزَاحٍ ، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ هَذَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ تَبْتَدِئْ أَحَدًا بِكَلَامٍ
وَلَا مُزَاحٍ ، فَإِنْ وَجَدُوا مَعَهَا أَحَدًا مِمَّنْ ذُكِرَ
تَوَصَّلُوا بِسَبَبِهِ إلَى مَا يَخْتَارُونَ مِنْهَا بِسَبَبِ تَوَسُّلِ
الْوَاسِطَةِ وَتَحْسِينِهِ وَتَزْيِينِهِ لِلْفِعْلِ الذَّمِيمِ
وَتَيْسِيرِهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ قَدْ عَدِمَ
الطَّرَفَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ زَوْجَتِهِ .
وَالثَّانِي
لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَنْ يُرْسِلُهُ مَعَهَا وَعِنْدَهُ غَيْرَةٌ لَا
يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَخْرُجُ وَحْدَهَا وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا
الْخُرُوجَ فَيَخْرُجُ مَعَهَا وَيَمْشِي بَعِيدًا عَنْهَا ، وَهَذَا
أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْفَسَادِ ،
وَالْفِتْنَةِ بِكَثْرَةٍ تَتَبُّعِ فُرُوعِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ ، وَالسَّكَنَاتِ ، وَقَدْ قَالَ لِي بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَانَ وَرَدَ إلَى مَدِينَةِ مِصْرَ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدَنَا أَحَدٌ بِبَغْدَادَ يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ عِنْدَنَا وَنَفَرَ النُّفُورَ الْكُلِّيَّ مِنْ إقَامَتِهِ بِإِقْلِيمِ مِصْرَ ، وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى بَغْدَادَ ، إذْ أَنَّهَا عِنْدَهُ أَقَلُّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ ، فَإِذَنْ كَانَتْ بَغْدَادُ عَلَى هَذَا أَقَلَّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ وَهِيَ مُقَامُ التَّتَارِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا الْمَدِينَةُ الْمَلْعُونَةُ يُخْسَفُ بِهَا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ } فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
فَصْلٌ فِي
خُرُوجِهِنَّ إلَى دُورِ الْبِرْكَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ
مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبِرْكَةِ وَمَا كَانَ فِي
مَعْنَاهَا ، إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الْمَفَاسِدِ
فَمِنْهَا : رُكُوبُهُنَّ إلَيْهَا عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ ،
وَالْعَوْدِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَمِنْهَا خُرُوجُ
بَعْضِهِنَّ مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي هُنَاكَ عَلَى شَاطِئِ الْبِرْكَةِ
فِي الطَّرِيقِ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَزَيِّنَاتٍ مُخْتَلِطَاتٍ بِالرِّجَالِ
، وَبَعْضُهُنَّ يَغْتَسِلْنَ فِي الْبِرْكَةِ ، وَبَعْضُ الرِّجَالِ
يَنْظُرُونَ فِي الْغَالِبِ إلَيْهِنَّ وَمَا يَفْعَلْنَ أَيْضًا مِنْ
تَبَرُّجِهِنَّ إنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْبُيُوتِ مَنْ يَنْظُرُهُنَّ مِنْ
الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ ، وَالْأَسْطِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَيُظْهِرْنَ مَا بِهِنَّ مِنْ الزِّينَةِ وَمَا عَلَيْهِنَّ مِنْ حُسْنِ
الثِّيَابِ ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمُمَازَحَتِهِنَّ
لِلرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ
يَمْنَعُهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي أَيَّامِ الْخَضِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
الْمَوْضِعَ مَحَلٌّ لِفُرْجَةِ الرِّجَالِ وَفُسْحَتِهِمْ فَقَلَّ مَنْ
تَرَاهُ هُنَاكَ إلَّا وَهُوَ رَافِعٌ رَأْسَهُ إلَى الطَّاقَاتِ ،
وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ الزِّينَةُ ، وَالتَّبَرُّجُ كَمَا تَقَدَّمَ ،
وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُتَفَرِّجِينَ أَنَّهُمْ لَا يَغُضُّونَ
أَبْصَارَهُمْ عَنْ الْمَحَارِمِ وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ ، بَلْ
يَرْتَكِبُونَ الْمُحَرَّمَ جِهَارًا فَيَمْشُونَ فِي زُرُوعِ النَّاسِ
قَصْدًا وَيَتَّخِذُونَهَا طَرِيقًا وَمَجَالِسَ وَرُبَّمَا عَمِلُوا
فِيهَا السَّمَاعَ ، وَإِنْشَادَ الشَّعْرِ الرَّقِيقِ الْمُشْتَمِلِ
عَلَى التَّغَزُّلَاتِ الَّتِي تُمِيلُ قُلُوبَ الرِّجَالِ فَكَيْفَ
بِالنِّسَاءِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رِفْقًا
بِالْقَوَارِيرِ } انْتَهَى .
يَعْنِي النِّسَاءَ ، وَذَلِكَ
لِضَعْفِهِنَّ عَنْ سَمَاعِ الصَّوْتِ الْحَسَنِ فَكَيْفَ بِهِ مَعَ
التَّغَزُّلَاتِ ، وَقَدْ قَالُوا : إنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ النِّفَاقَ
فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ فَتَرِقُّ طِبَاعُهُنَّ
لِمَا يَسْمَعْنَ
وَيَرَيْنَ مِنْ ذَلِكَ وَيُشَاهِدْنَهُ فَيَمِلْنَ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ الْفَسَادُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا ، وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى الْفِرَاقِ ، وَالْبَقَاءِ عَلَى دَخَنٍ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
فَصْلٌ فِي الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ ، إذْ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَشْفَةً لَهُنَّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ أَخَفُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِي الدُّخُولِ إلَى الْبُسْتَانِ تَحَرَّزَ مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ بِغَلْقِ الطَّاقَاتِ ، وَالْأَبْوَابِ ، وَالْأَسْطِحَةِ وَيَمْنَعُهُنَّ مِنْ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَيُبَاحُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ أَهْلَهُ إلَى الْبُسْتَانِ بِشَرْطَيْنِ ، وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يُكْشَفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَأَنْ لَا يَدْخُلَهُ مَعَ أَهْلِهِ غَيْرُ ذِي مَحْرَمٍ
فَصْلٌ فِي رُكُوبِهِنَّ الْبَحْرَ وَيَنْبَغِي لَهُ ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ يَحْتَجْنَ فِيهِ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْفُرْجَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُبَاحًا ، إذْ أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ كَشْفَةٌ لَهُنَّ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقَصِّي جُزْئِيَّاتِهِ هَذَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ الْفُرْجَةِ لَا مُنْكَرَ فِيهِ وَلَا فِتْنَةً يَتَخَوَّفُ وُقُوعَهَا ، وَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ مَفْسَدَةٌ فَالْأَوْلَى الْمَنْعُ مِثْلُ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقَنَاطِرِ وَغَيْرِهَا وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ وَمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِمَّا يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهُ فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ كَسْرِ الْخَلِيجِ وَمَا يَجْتَمِعُ فِيهِ مِنْ الْغَوْغَاءِ وَمَا فِيهِ الْيَوْمَ مِنْ الْفِتَنِ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَقِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ اعْتَادُوا فِيهِ عَادَةً ذَمِيمَةً وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْحَرَافِيشِ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ يُجَرِّدُونَهُ وَيَأْخُذُونَ مَا مَعَهُ وَيَضْرِبُونَهُ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ وَأَعْدَمُوهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاكِمٌ ؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ فِيهِمْ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ
فَصْلٌ
فِي خُرُوجِهِنَّ إلَى الْمَحْمَلِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ
مِنْ الْخُرُوجِ إلَى شُهُودِ الْمَحْمَلِ حِينَ يَدُورُ وَيَمْنَعَهُنَّ
مِنْ الْخُرُوجِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي يَسْتَعِدُّ فِيهَا
لِدَوَرَانِ الْمَحْمَلِ ، إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَارْتِكَابِ
الْمُحَرَّمَاتِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا
تَزْيِينُ الدَّكَاكِينِ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا بِالْقُمَاشِ مِنْ
الْحَرِيرِ ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ
الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا يُنَازَعُ
فِيهِ ، وَتَحْرِيمُهُ لَا خَفَاءَ فِيهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ
دَوَرَانِهِ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ ، وَيَقَعُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ
الْمَفَاسِدِ اسْتِمْتَاعُ الرِّجَالِ بِالْحَرِيرِ الْمُحَرَّمِ
عَلَيْهِمْ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي الشَّرْعِ لِحَكَّةٍ ، أَوْ
جِهَادٍ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ
لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَسَمَّى اسْتِعْمَالَ
الْحَصِيرِ لُبْسًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَزْيِينِهِمْ
بِمَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَالْبَشْخَانَاتِ الْمُعَلَّقَةِ ، وَمَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ حَرَامٌ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ مُحَرَّمَةٌ
فَيَتَأَكَّدُ الْوَعِيدُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ
اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحُ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ
فِيهَا أَبَدًا } .
.
وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُصَوِّرِينَ فِي الدُّنْيَا : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ انْتَهَى .
وَلَا
فَرْقَ فِي ذَلِكَ أَعْنِي فِي لُحُوقِ الْإِثْمِ بَيْنَ مَنْ صَنَعَهَا
وَبَيْنَ مِنْ اسْتَحْسَنَهَا وَبَيْنَ مَنْ جَلَسَ إلَيْهَا وَبَيْنَ
مَنْ رَضِيَ بِهَا وَأَحَبَّهَا وَبَيْنَ مَنْ رَآهَا وَلَمْ يُنْكِرْ
وَلَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّغْيِيرِ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ ،
وَقَدْ
تَقَدَّمَ وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَنْ
اسْتَحَلَّهُ فَالْحُكْمُ فِيهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
مُحَرَّمًا فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَلَا
لِامْرَأَةٍ عُمُومًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ
بِحَسَبِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ
يَجْلِسَ تَحْتَ الْبَشْخَانَاتِ وَلَا مَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا
، وَلَا أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا
أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ
إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِهَا ، بَلْ يَجِبُ عَلَى
مَنْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهَا بِشَرْطِ أَنْ يُزِيلَهَا دُونَ
إفْسَادِهَا وَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ
الِاسْتِمْتَاعَاتِ .
أَمَّا الرِّجَالُ فَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ
بَيِّنٌ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْأَدِلَّةُ مَانِعَةٌ لَهُنَّ مِنْ
اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْنِي مِنْ الْمَسَانِدِ
وَالْبَشْخَانَاتِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ
مِنْ الْكَتَّانِ الرَّفِيعِ ، أَوْ الْقُطْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا
فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَلَا يَصِلُ إلَى التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ
أَصْلَهُ مُبَاحٌ أَعْنِي لُبْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا
، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ ، وَفِيهِ ضَرْبٌ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ ،
وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا يُبْلِيهَا وَتَتَدَنَّسُ بِمَا
يُلَاقِيهَا مِنْ غُبَارٍ وَدُخَانِ مِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِمَا دُونَ
ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ،
وَالْأَدِلَّةُ دَالَّةٌ عَلَى مَنْعِ اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ عَلَى النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ إلَّا مَا أَبَاحَ الشَّرْعُ
لَهُنَّ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ ،
وَالْفِضَّةِ وَلِهَذَا أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ لَهَا اللِّحَافَ ،
وَالْفِرَاشَ مِنْ الْحَرِيرِ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ لُبْسٌ لَهُنَّ وَلَمْ
يَعُدُّوهُ إلَى غَيْرِ اللُّبْسِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا اتِّخَاذُ
الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ كَانَتْ لِلزِّينَةِ ، أَوْ
لِلِاسْتِعْمَالِ فَذَلِكَ كُلُّهُ حَرَامٌ عَلَيْهَا ، فَإِنْ فَعَلْت
ذَلِكَ
كَانَتْ عَاصِيَةً وَيَجِبُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ
زَكَاةُ تِلْكَ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِشُرُوطِهَا
مَعَ وُجُودِ الْإِثْمِ ، إذْ أَنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ فِي
كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ ، وَالتَّوْبَةُ لَا تَصِحُّ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ
الْإِقْلَاعِ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي تَابَتْ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
مَا دَامَتْ تِلْكَ الْآنِيَةُ عَلَى حَالِهَا إلَّا بِإِخْرَاجِهَا مِنْ
يَدِهَا وَعَنْ مِلْكِهَا لِمَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ لَهَا وَذَلِكَ إذَا
تَمَكَّنَتْ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ
فَتَوْبَتُهَا صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا اسْتِعْمَالُ الْفِرَاشِ ،
وَاللِّحَافِ مِنْ الْحَرِيرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا خَاصَّةً وَأَمَّا
زَوْجُهَا ، فَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : إنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ
لَهَا فَلَا يَدْخُلُ الْفِرَاشَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهَا وَلَا يُقِيمُ
فِي الْفِرَاشِ بَعْدَ قِيَامِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتْ ضَرُورَةٌ ،
ثُمَّ تَرْجِعُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ ، بَلْ
يَنْتَقِلُ مِنْهُ لِمَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى
فِرَاشِهَا وَإِنْ قَامَتْ وَهُوَ نَائِمٌ فَتُوقِظُهُ حَتَّى يَنْتَقِلَ
إلَى مَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ ، أَوْ تُزِيلُهُ عَنْهُ انْتَهَى .
هَذَا
حُكْمُ الزَّوْجِ مَعَهَا إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْحُكْمِ وَيَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهَا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ جَاهِلَةً
بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ
يُعَلِّمُهُ فَيُعَلِّمَهَا ، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْخُرُوجِ
لِتَتَعَلَّمَ وَإِنْ أَبَى أَنْ تَخْرُجَ فَلْتَخْرُجْ وَلَا حَرَجَ
عَلَيْهَا وَلَا تَكُونُ عَاصِيَةً وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَهُ
عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَذِنَ لَهَا
الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الذُّكُورُ فَفِيهِمْ
خِلَافٌ ، وَالْمَنْعُ أَوْلَى ، وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي
شَأْنِ الْحَرِيرِ فِي الْبُيُوتِ وَأَمَّا فِي الْأَسْوَاقِ ،
وَالدَّكَاكِينِ فَالزِّينَةُ
فِيهَا أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ دِينًا
وَدُنْيَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ فِي الْغَالِبِ خَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَهُمْ
بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ هَذَا مَعَ
مَا فِي الزِّينَةِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ،
وَالْمُبَاهَاةِ ، وَالتَّفَاخُرِ الْمَوْجُودِ بِالْفِعْلِ ،
وَالتَّكَاثُرِ بِعَرَضِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ وَكَسْرِ خَوَاطِرِ
الْفُقَرَاءِ إذَا رَأَوْا ذَلِكَ أَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلِأَنَّهُمْ
يُوقِدُونَ الْقَنَادِيلَ عَلَيْهِ لَيَالِيَ الزِّينَةِ وَإِنْ كَانَتْ
مُقْمِرَةً وَتَبْقَى اللَّيْلَ كُلَّهُ مُوقَدَةً وَذَلِكَ إضَاعَةُ
مَالٍ لِلزَّيْتِ الَّذِي يَحْتَرِقُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ ،
بَلْ لِلْمَضَرَّةِ بِتَسْوِيدِ الْقُمَاشِ مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ
سِيَّمَا إنْ كَانَ الْوَقُودُ بِالزَّيْتِ الْحَارِّ فَإِنَّهُ يَضُرُّ
بِهِ وَيُنْقِصُ ثَمَنَهُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : الْخَوْفُ عَلَى
الْقُمَاشِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُتَوَقَّعٌ مِنْ السَّرِقَةِ ،
وَالْخِلْسَةِ وَغَيْرِهِمَا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ السَّهَرِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةٍ ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهَا .
الْخَامِسُ
: أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَعْنِي
الزِّينَةَ ، فَإِنَّ الَّذِي قَرَّرَهَا كَانَ ، وَالِيًا بِمِصْرَ
وَصَارَتْ بَعْدَهُ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى شَاعَتْ وَذَاعَتْ ،
وَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ مَهُولٍ ، وَهُوَ أَنْ ادَّعَوْا أَنَّ
ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ
الْعَوَامّ لَعِيبَ عَلَيْهِمْ وَعُنِّفُوا وَزُجِرُوا عَلَى اعْتِقَادِ
ذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنْ يُصَرِّحَ
بِذَلِكَ ، أَوْ يَعْتَقِدَهُ بِمَقَالِهِ ، أَوْ حَالِهِ ، وَالْعِلْمُ ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَأْبَى
ذَلِكَ فَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ خَالَفَهَا ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَكَ
اللَّهُ كَيْفَ تَعَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ ؟
مِنْهَا أَنَّ النِّسَاءَ ، وَالرِّجَالَ يَخْرُجُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا
وَيَجْتَمِعُونَ
فِي لَيَالِي الزِّينَةِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ تَحْتَ سِتْرِ ظَلَامِ
اللَّيْلِ ، وَكُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ تَيَسَّرَ لَهُ مَا
يُرِيدُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي بِخِلَافِ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْأَمَاكِنِ
الْبَعِيدَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذَكَرُهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي
النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ
فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا لِإِنْفَاذِ غَرَضِهِ الْخَسِيسِ .
فَإِذَا
تَيَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ فَعَلَهُ فَكَانَتْ
الزِّينَةُ سَبَبًا لِتَسْهِيلِ الْمَعَاصِي وَتَيَسُّرِهَا عَلَى مَنْ
أَرَادَهَا وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ
الْمَالِ وَهُوَ وَقُودُ الْقَنَادِيلِ ، وَالشُّمُوعِ نَهَارًا يَوْمَ
دَوَرَانِ الْمَحْمَلِ ، وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَقُودَ بِالنَّهَارِ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ دُونَ فَائِدَةٍ
شَرْعِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ فِي
اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ مَعَ بَعْضٍ وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ
أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالنِّسْوَةِ سِيَّمَا فِي
هَذَا الزَّمَانِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ
مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَحْيِنَ أَنْ يَسْأَلْنَ
الرِّجَالَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتُهُنَّ بِالْكَلَامِ ، وَيَرَى
أَنَّ بَذْلَ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لَهُنَّ فَيَجُوزُ ، أَوْ
يَجِبُ بِحَسَبِ الْحَالِ الْوَاقِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى فِعْلُ
السَّلَفِ عَلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْعَالِمِ تُبَلِّغُ عَنْهُ أَحْكَامَ
الشَّرْعِ لِلنِّسَاءِ عُمُومًا وَلِبَعْضِ الرِّجَالِ خُصُوصًا مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مُخَاطَبَةِ النِّسَاءِ
لِلرِّجَالِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيمِ زَوْجَةِ
الْعَالِمِ لِلنَّاسِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا
كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي } انْتَهَى .
لِأَنَّ
أَهْلَ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ
لَمْ يَزَالُوا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ ، وَقَدْ كَانَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ
الْمَسَائِلِ أَرْسَلُوا إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُنَّ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا يُفْتِينَ بِهِ
فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { خُذُوا
عَنْهَا شَطْرَ دِينِكُمْ } فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ
يُعَلِّمُ زَوْجَتَهُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَهِيَ تُعَلِّمُهَا
النَّاسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ الْمَشْرُوعِ ، وَلَيْسَ هَذَا
خَاصًّا بِالزَّوْجَةِ ، بَلْ كُلُّ مَنْ عَلَّمَهُ الْعَالِمُ مِنْ
زَوْجَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا صَارَ عَالِمًا بِذَلِكَ الْحُكْمِ
وَيُعَلِّمُهُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَأَصْحَابَهُ ، ثُمَّ عَلَّمُوا
النَّاسَ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ
فَكَانَ الْجَمِيعُ فِي صَحِيفَتِهِمْ وَهُمْ وَمَا فِي صَحِيفَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخَرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَذَلِكَ مَاضٍ إلَى أَنْ يُرْفَعَ الْقُرْآنُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا إنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِالْحُكْمِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِالْخُرُوجِ إلَى التَّعْلِيمِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الْخُرُوجِ خَرَجَتْ بِغَيْرِ ، إذْنِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَعْنِي طَلَبَ النِّسَاءِ حُقُوقَهُنَّ فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْنَ إلَّا لِأَجْلِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } قَدْ أُهْمِلَ الْيَوْمَ وَصَارَ مَتْرُوكًا قَدْ دُثِرَ مَنَارُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ لِعَدَمِ الْكَلَامِ فِيهِ مِنْ الزَّوْجِ ، وَالزَّوْجَةِ فِي الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا فِي غَالِبِ الْحَالِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ ، وَالْكِسْوَةِ وَفِيمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَا يَهُمُّهُمْ شَأْنُهُ غَالِبًا وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِهِ ، بَلْ لَا يَخْطِرُ لِبَعْضِهِمْ بِبَالٍ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْخِطَابِ ، فَظَاهِرُ حَالِهِمْ كَحَالِ مِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى تَرْكِهِ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَقَّهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَرَفَعْته إلَى الْحَاكِمِ وَطَالَبَتْهُ بِالتَّعْلِيمِ لِأَمْرِ دِينِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهَا إمَّا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِوَاسِطَةِ إذْنِهِ لَهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ جَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَجْبُرُهُ عَلَى حُقُوقِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ ، إذْ أَنَّ حُقُوقَ الدِّينِ آكَدُ وَأَوْلَى ، وَإِنَّمَا سَكَتَ الْحَاكِمُ عَمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا ، أَوْ مُحْتَسِبًا ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ
، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ زَوْجَةُ الْعَالِمِ بِالنِّسْوَةِ ؛ لَأَنْ تُعَلِّمَهُنَّ الْأَحْكَامَ فَلْتَحْذَرْ أَنْ يَسْرِيَ إلَيْهَا مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ بِهِنَّ مِنْ النِّسْوَةِ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، إذْ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ اجْتِمَاعِهِنَّ لَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ الَّتِي نَشَأْنَ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِهِنَّ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيمِ لِلنِّسَاءِ فَيَئُولُ الْأَمْرُ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ أَهْلَهُ بِمَعْرِفَةِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، أَوْ بَعْضِهَا وَيَتَضَرَّرُ هُوَ لِذَلِكَ ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُمَا الْأَمْرُ بِالتَّعْلِيمِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَعْنِي تَعْلِيمَهَا لِغَيْرِهَا وَإِذْنَ زَوْجِهَا لَهَا وَيَبْقَى الْعَالِمُ مَأْمُورًا بِالتَّعْلِيمِ ، فَإِنْ تَخَوَّفَ وُقُوعَهُ ، فَالتَّعْلِيمُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَمْ تُحَقَّقْ لَكِنْ يَحْتَرِزُ مِنْهَا جَهْدَهُ ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ فَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُهُنَّ وَاسْتَحْكَمَ حُبُّهَا فِي قُلُوبِهِنَّ ، وَالْعَمَلِ بِهَا الذِّكْرُ لِلنِّسَاءِ ، وَالْكَلَامُ مَعَ مَنْ سَامَحَهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ ، أَوْ رَأَى وَسَكَتَ كَمَنْ فَعَلَ وَمِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ مَا رَتَّبْتَهُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَأَيَّامِ الْجُمُعَةِ ، فَكُلُّ يَوْمٍ فَعَلُوا فِيهِ أَفْعَالًا مَخْصُوصَةً لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ وَمَنْ خَالَفَ مِنْهُنَّ ذَلِكَ يَتَطَيَّرْنَ بِهِ وَيَنْسُبْنَهُ إلَى الْجَهْلِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ فَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُنَّ اللَّبَنَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّنَةِ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ تَفَاؤُلٌ بِأَنْ تَكُونَ سَنَتُهُمْ كُلُّهَا عَلَيْهِمْ بَيْضَاءَ وَهَذَا مِنْهُمْ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ ؛ أَمَّا الْبِدْعَةُ فَاِتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ عَادَةً وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاؤُلِ ،
وَالتَّفَاؤُلُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الَّذِي لَا
يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ حَتَّى يَسْمَعَهُ ابْتِدَاءً ، وَأَمَّا مَنْ
يَقْصِدُهُ فَلَيْسَ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ .
وَأَشَدُّ مِنْ
ذَلِكَ التَّفَاؤُلُ فِي فَتْحِ الْخِتْمَةِ ، وَالنَّظَرِ فِي أَوَّلِ
سَطْرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَقَدْ
نُهِيَ عَنْهُ ؛ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لَهُ مِنْهَا آيَةُ
عَذَابٍ وَوَعِيدٍ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ ذَلِكَ فَرُفِعَ
عَنْهُ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهُ مَادَّةُ التَّشْوِيشِ ، بَلْ
يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ لَهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ
وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى الْخَطَرِ الْعَظِيمِ أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى
لِبَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ فَتَحَ الْمُصْحَفَ لِيَأْخُذَ مِنْهُ
الْفَأْلَ فَوَجَدَ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ مِنْهُ { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ
كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا حَتَّى
خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَجَرَتْ مِنْهُ أُمُورٌ لَا
يُمْكِنُ ذِكْرُهَا لِمُنَافَرَتِهَا لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ
الذَّخِيرَةِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ
أَخْذَ الْفَأْلِ بِالْمُصْحَفِ وَضَرْبَ الرَّمَلِ وَنَحْوَهُمَا حَرَامٌ
وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ مَعَ أَنَّ الْفَأْلَ
حَسَنٌ بِالسُّنَّةِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ هُوَ مَا
يَعْرِضُ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِثْلُ قَائِلٍ يَقُولُ : يَا مُفْلِحُ
وَنَحْوُهُ .
وَالتَّفَاؤُلُ الْمُكْتَسَبُ حَرَامٌ كَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ انْتَهَى .
أَسْأَلُ
اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ الْفُقَّاعَ
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَذَلِكَ الْيَوْمِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ
فَيَفْتَحُونَ فَمَهْ فِي الْبَيْتِ فَيَصْعَدُ نَاحِيَةَ السَّقْفِ ،
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الرِّزْقَ يَفُورُ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ
وَيُوَسَّعُ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقَبَطِ ، وَالْأُنْسِ بِعَوَائِدِهِمْ
الرَّدِيئَةِ وَيَفْعَلُونَ فِيهِ أَفْعَالًا مِنْ جِهَةِ الْبَسْطِ قَدْ
يَئُولُ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذَا جَهْلٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ
(
فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَهُوَ
أَنَّهُنَّ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ السَّمَكَ وَلَا يَأْكُلْنَهُ وَلَا
يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ ، وَهَذِهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ ؛
لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يَصْطَادُونَ السَّمَكَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ
وَلَا يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَأْكُلُونَهُ ، وَقَدْ أَبَاحَ
اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ
فَمَنَعَهُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ لَا
يَدْخُلْنَ فِيهِ الْحَمَّامَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ
قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهَا حَيْضُهَا تَتْرُكَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَلَا يَشْتَرِينَ فِيهِ الصَّابُونَ
وَلَا السِّدْرَ وَلَا الْأُشْنَانَ وَلَا يَغْسِلْنَ فِيهِ الثِّيَابَ ،
وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ
انْتَقَلْنَ مِنْ خَصْلَةِ الْيَهُودِ إلَى خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ
النَّصَارَى فِي كَوْنِهِنَّ لَا يَعْمَلْنَ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ وَلَا
فِي يَوْمِهِ شُغْلًا ، وَأَمَّا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمُ
الثُّلَاثَاءِ فَعِنْدَهُنَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ فِيهِمَا جَمِيعُ
مَا يَخْتَرْنَهُ ، وَيَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ
اللَّبَنَ وَلَا يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ وَلَا يَأْكُلْنَهُ ، وَيَوْمُ
الْخَمِيسِ لِلْإِشْغَالِ ، وَالْحَوَائِجِ الَّتِي لَهُنَّ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ، وَيَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمُ
الْجُمُعَةِ لَا يَعْمَلْنَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ غَزْلِ كَتَّانٍ وَلَا
مَحْرِهِ وَلَا تَسْرِيحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ
مَنْعُهُنَّ خُرُوجَ النَّارِ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَاعُونِ الْبَيْتِ
عَشِيَّةَ كُلِّ يَوْمٍ وَيُبَالِغْنَ فِي مَنْعِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ
مَنْ كَانَ مِنْهُنَّ يَتَعَشَّى فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ ، ثُمَّ جَاءَ
أَحَدٌ يُسْرِجُ مِنْهُ فَلَا يَتْرُكْنَهُ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ
أَذِنَ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْرِجَهُ ، ثُمَّ يُطْفِئَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ
ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ وَيُوقِدَهُ فِي الرَّابِعَةِ
وَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ بِهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
إنَّ
النَّارَ لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمْنَعَ
مِنْ الِاقْتِبَاسِ مِنْهَا ، إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا
يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ إذَا كَانَ
ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الضَّرَرِ ، وَالضِّرَارِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إنْ اضْطَرَّ
أَحَدٌ إلَى أَخْذِ الْغِرْبَالِ جَعَلْنَ فِيهِ حَجَرًا ، أَوْ مِلْحًا ،
أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْحِجَامَةِ ،
وَالِاطِّلَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَقَالَ : لَا
بَأْسَ بِذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُهُ أَنْتَ قَالَ نَعَمْ
وَأُكْثِرُهُ وَأَتَعَمَّدُهُ ، وَقَدْ احْتَجَمْتُ فِيهِ وَلَا أَكْرَهُ
شَيْئًا مِنْ حِجَامَةٍ وَلَا اطِّلَاءٍ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا
شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ
ذَلِكَ : وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ ؛ لِأَنَّ
مَنْ تَطَيَّرَ ، فَقَدْ أَثِمَ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَلَا طِيَرَةَ ، وَالطِّيَرَةُ
عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ } .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى
مَنْ تَطَيَّرَ أَيْ عَلَيْهِ إثْمُ مَا تَطَيَّرَ بِهِ لَا أَنَّ مَا
تَطَيَّرَ بِهِ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي
أَوَّلِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : وَلَا طِيَرَةَ انْتَهَى .
وَهَذِهِ
الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ كُلُّهَا وَمَا شَاكَلَهَا إنَّمَا سَبَبُهَا
ارْتِكَابُ مَا نَهَى عَنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُجَاوِرُونَ الْمُسْلِمِينَ ،
وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَكُونُوا بِمَعْزِلٍ فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ
مُنْحَازِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ ،
وَكَذَلِكَ هُمْ لَا يُشَارِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَقِيَّةِ الْبَلَدِ
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَ لَهُمْ
إبْلِيسُ اللَّعِينُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ كَيْفَ جَرَتْ
إلَى مَا هُوَ أَرْدَأُ مِنْهَا مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعَةٍ :
مِنْهَا
فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَا
الذِّكْرِ ، وَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ
الْأَحَدِ ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ تَشَبُّهُهُمْ أَيْضًا فِي تَرْكِ
الشُّغْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ وَرَدَ عَنْ
ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ أَوْقَعَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّ مَنْ
مَنَعَ الْمَاعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }
قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هُوَ مَاعُونُ الْبَيْتِ .
الْوَجْهُ
الْخَامِسُ : مَا أَحْرَمَهُمْ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ، وَالْخَيْرِ
الْجَسِيمِ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ، وَهُوَ مَا
وَرَدَ أَنَّ الْقِدْرَ إذَا أَعَارَهَا الْإِنْسَانُ ، أَوْ الْغِرْبَالَ
، أَوْ غَيْرَهُمَا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَا يُفْعَلُ بِذَلِكَ فَمَا طُبِخَ
فِيهَا كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ قُرِئَ عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ
مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ شَيْءٌ فَلَهُ
مِنْ الْأَجْرِ كَالْفَاعِلِ لِذَلِكَ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ :
أَنَّهُ ، أَوْقَعَهُمْ فِي النَّهْيِ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الطِّيَرَةِ } وَهُمْ
يَتَطَيَّرُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : مَا
أَوْقَعَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ
يُحْدِثُونَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ لَمْ يَرِدْ بِهَا
الشَّرْعُ وَلَا هِيَ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَرْكَ
الْمُبَادَرَةِ لِلْمَعْرُوفِ ، وَالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي ، فَإِنَّهُمْ
إذَا أَوْقَدُوا الْمِصْبَاحَ مِنْ عِنْدَهُمْ ، أَوْ أَخَذُوا
الْغِرْبَالَ فَعَلُوا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَابْتَدَعُوا مَا
لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الشَّرْعُ فِيهِ
( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا
يَفْعَلُونَهُ إذَا نَزَلَتْ الشَّمْسُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ
فَيَخْرُجُونَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً
وَشُبَّانًا مُخْتَلِطِينَ أَقَارِبَ وَأَجَانِبَ فَيَجْمَعُونَ شَيْئًا
مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ يُسَمُّونَهُ بِالْكَرْكِيشِ فَيَقْطَعُونَ ذَلِكَ
مِنْ مَوْضِعِهِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْخَوَاتِمِ
النَّفِيسَةِ ، وَالْأَسَاوِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُلِيِّ
وَيَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ قَطْعِهِ بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ كُفْرًا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا يُدْرِيه
لَعَلَّهُ كُفْرٌ وَيَجْعَلُونَ مَا يَقْطَعُونَ مِنْ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ
فِي خَرَائِطَ مَصْبُوغَاتٍ بِزَعْفَرَانٍ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ
الْخَرِيطَةَ فِي الصُّنْدُوقِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَا دَامَ
فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِكْثَارِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ
وَاسْتِغْنَائِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، وَأَنَّ الْفَقْرَ يُوَلِّي
عَنْهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ
يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَبَعْضُهُمْ
يَسْتَحْسِنُهُ وَبَعْضُهُمْ يَسْكُتُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا ، وَهَذَا
فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّ فِيهِ التَّشَبُّهَ
بِأَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَأَشْبَاهَهُ خَرَجَ مِنْ
جِهَةِ الْقَبَطِ الثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ الْكَشَفَةِ وَقِلَّةِ
الْحَيَاءِ فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ ، وَالشَّبَابِ
وَرُبَّمَا اخْتَلَطُوا وَتَزَاحَمُوا عَلَى ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِغِنَاهُمْ .
الرَّابِعُ
: أَنَّهُ عَرَّضَ مَا مَعَهُ مِنْ الْآلَةِ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا إلَى
إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِمَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ
، فَقَدْ ` يَسْقُطُ مِنْ يَدِهِ وَيَقَعُ فِي شَقٍّ مِنْ تِلْكَ
الشُّقُوقِ فَيُدْخِلُ يَدَهُ لِيَأْخُذَهُ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ
سَبَبًا لِمَوْتِهِ ، أَوْ لِلْوُقُوعِ فِي أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ ؛
لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ ثُعْبَانٌ ، أَوْ غَيْرُهُ
مِنْ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي ؛ فَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ بِلَسْعِهَا
وَإِمَّا أَنْ يَمْرَضَ ، وَقَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا اسْتَعَارَ بَعْضُهُمْ الذَّهَبَ أَوْ غَيْرَهُ لِيَقْطَعَ بِهِ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ فَضَاعَ مِنْهُ ، أَوْ سَقَطَ فِي تِلْكَ الشُّقُوقِ فَيَقَعُ فِي التَّشْوِيشِ مَعَ غُرْمِ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهَذَا قَدْ عُجِّلَ لَهُ الْفَقْرُ بِمَا سَقَطَ مِنْهُ أَوْ ضَاعَ ضِدَّ مُرَادِهِ ، وَهَكَذَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا جَارِيَةٌ فِيمَنْ طَلَبَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ الَّذِي شَرَعَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَزْعُمُ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ أَرْبَعِينَ أَرْبِعَاءَ
مُتَوَالِيَاتٍ فَإِنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا ، وَذَلِكَ
قُبْحٌ عَظِيمٌ وَسَخَافَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ
مِنْ تَسْوِيلِ اللَّعِينِ حَتَّى يُوقِعَهُمْ فِي ارْتِكَابِ مَا لَا
يَنْبَغِي ، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ فِيهِ أَشْيَاءُ
مُسْتَهْجَنَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ فِيهِ إحْدَاثًا ، وَالْحَدَثُ مَمْنُوعٌ .
الثَّالِثُ
: مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ
عَدَّ فِيهَا طَلَبَ الرِّزْقِ بِالْمَعَاصِي وَلَا شَكَّ أَنَّ دُخُولَ
الْحَمَّامِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مَعْصِيَةٌ عَلَى مَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } فَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إلَّا بِامْتِثَالِ
أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَؤُلَاءِ
يُرِيدُونَ حُصُولَ ذَلِكَ بِالْمُخَالَفَةِ نَقِيضُ الْمُرَادِ مِنْهُمْ
سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ
عِيد الأضحي ( فَصْلٌ ) وَمِنْ الْعَوَائِدِ
الرَّدِيئَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوَاسِمِ وَهُمْ فِيهَا
عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ : الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : الْمَوَاسِمُ
الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ .
الْمَرْتَبَةُ
الثَّالِثَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي تَشَبَّهُوا فِيهَا بِالنَّصَارَى ؛
فَأَمَّا الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَأَوَّلُهَا
عِيدُ الْأَضْحَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَوَاسِمِ الْمُسْلِمِينَ تَرَكَ
بَعْضُهُمْ فِيهِ سُنَّةَ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي سَنَّهَا صَاحِبُ
الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهَا
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ
فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ، فَمَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ
الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ
النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَفْضَلَ مِنْ
إرَاقَةِ دَمٍ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ،
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ هِيَ
فَرْضٌ ، أَوْ سُنَّةٌ ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَعْنِي وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ ،
ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَتْرُكُونَ الْأُضْحِيَّةَ وَيَشْتَرُونَ
اللَّحْمَ وَيَطْبُخُونَ أَلْوَانَ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَكُونُ
الْأُضْحِيَّةُ الْمَشْرُوعَةُ بِبَعْضِ ثَمَنِ مَا أَنْفَقُوهُ ، أَوْ
مِثْلِهِ ، أَوْ يُقَارِبُهُ حَتَّى حَرَمَهُمْ إبْلِيسُ اللَّعِينُ
هَذِهِ الْبَرَكَةَ الْعُظْمَى ، وَالْخَيْرَ الشَّامِلَ بِتَسْوِيلِهِ
وَتَزْيِينِهِ لَهُمْ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ يَذْبَحُ
لَيْلَةَ الْعِيدِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا
الْأُضْحِيَّةَ ، أَوْ لَا ، فَإِنْ نَوَاهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
عَيَّنَهَا ، أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَيَّنَهَا أَثِمَ فِي
ذَبْحِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَيَكُونُ حَرِجَةً
فِي حَقِّهِ إنْ
قَدِمَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا جَرَى
عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَاهِلِ هَلْ هُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ ، أَوْ
كَالنَّاسِي ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالْمُتَعَمِّدِ ، وَيَجِبُ
عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا وَلِلْمَسْأَلَةِ
فُرُوعٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنْ لَمْ
يُعَيِّنْهَا وَنَوَى بِهَا الْأُضْحِيَّةَ حِينَ ذَبَحَهَا لَمْ تُجْزِهِ
وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا ، وَهَذَا
كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ
السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ ،
فَقَدْ أَسَاءَ فِي فِعْلِهِ بِارْتِكَابِهِ الْبِدْعَةَ ،
وَالْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا ؛ لِأَنَّ
السُّنَّةَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ أَنْ
يُضَحِّيَ بِهَا فِي وَقْتِهَا وَيُفْطِرَ عَلَى زِيَادَةِ الْكَبِدِ
مِنْهَا .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الْأُضْحِيَّةِ فِي
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ السَّبَبُ
فِي حِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ الْجَزِيلِ نَسْأَلُ
اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي
مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ يَعْمَلُ الطَّعَامَ بِلَيْلٍ حَتَّى إذَا جَاءُوا
مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَجَدُوا ذَلِكَ مُتَيَسِّرًا فَأَكَلُوا هُمْ
وَمَنْ يَخْتَارُونَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُونَ بِذَبْحِ
الْأُضْحِيَّةِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ الذَّبْحَ
بِاللَّيْلِ لِأَجْلِ عَمَلِ الطَّعَامِ فَوَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ ارْتِكَابُ بِدْعَةٍ وَمُخَالَفَةٍ لِهَذِهِ
السُّنَّةِ الْجَلِيلَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُضَحِّي بِهِ
أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَكْفِيه بَاعَ الثَّانِي
وَاشْتَرَى بِهِ الْأُضْحِيَّةَ ، وَكَذَلِكَ فِي ثَوْبِ الْجُمُعَةِ
فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلَةٌ
تَدَايَنَ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ الْقُرْبَةَ الْعَظِيمَةَ ، وَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ
إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ وَمَا أَدْخَلَ مِنْ سُمِّهِ السَّمُومِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِتَسْوِيلِهِ لَهُمْ تَرْكَ هَذِهِ السُّنَّةِ الْعُظْمَى ، وَحَرَمَهُمْ جَزِيلَ ثَوَابِهَا بِمَا أَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْعِلَلِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ فَزَيَّنَ لِكُلِّ أَهْلِ إقْلِيمٍ مَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهُ ، فَإِذَا قُلْت لِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ : لِمَ لَا تُضَحِّي ؟ فَيَقُولُ : لِي مَعَارِفُ كَثِيرَةٌ وَخَرُوفٌ وَاحِدٌ لَا يَعُمُّهُمْ ، فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ يَلُومَنِي وَلَا يَلْزَمُنِي أَكْثَرُ مِنْ خَرُوفٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا قُلْت لِلْفَقِيرِ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ : لِمَ تَتَكَلَّفُ الْأُضْحِيَّةَ وَهِيَ لَا تَجِبُ عَلَيْك فَيَقُولُ : قَبِيحٌ مِنْ الْجِيرَانِ ، وَالْأَهْلِ ، وَالْمَعَارِفِ أَنْ يَقُولُوا : فُلَانٌ لَمْ يُضَحِّ فَصَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ بِالنَّظَرِ إلَى فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا مَشُوبَةٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ وَتَحْسِينِهِمْ وَتَقْبِيحِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمَوْسِمِ الْعَظِيمِ كَيْفَ تَرَكُوا بَرَكَتَهُ وَانْحَازُوا عَنْهَا بِمَعْزِلٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ { مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَمَرَ بِزِيَادَةِ الْكَبِدِ فَصُنِعَ لَهُ ، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَيْهِ } تَشَبُّهًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَفَاؤُلًا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا يَفْطُرُونَ فِيهَا عَلَى زِيَادَةِ كَبِدِ الْحُوتِ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرَضِينَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّفَاؤُلِ بِذَلِكَ ، إذْ أَنَّهُ عَرُوسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيِّ الْجَلِيلِ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي ، بَعْضُهُمْ يَبِيعُ جُلُودَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ،
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
لَعَنْ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَحَمَّلُوهَا
فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } فَيَدْخُلُ الْمِسْكِينُ فِي هَذَا
الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
وَكَذَلِكَ
إنْ دَفَعَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ
يَبِيعُهُ ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ
فِي تَفْرِقَةِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ ، إذْ أَنَّهُمْ يُهْدُونَ
اللَّحْمَ لِلْجَارِ وَغَيْرِهِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ تَتَشَوَّفُ
نَفْسُهُ لِلْعِوَضِ عَنْهُ ، ثُمَّ إنَّ الْجَارَ وَغَيْرَهُ يُكَافِئُ
عَلَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ بِمِثْلِهِ ، أَوْ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ ،
وَالْمُعْطِي ، وَالْآخِذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْظُرُ فِيمَا
يُعْطِيَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعِوَضِ فَيَرْضَى بِهِ ، أَوْ يَسْخَطُهُ ،
فَقَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ بَابِ الْمُهَادَاةِ بِقَصْدٍ مِنْ قَصْدِ
الْعِوَضِ عَنْهُ .
وَالْأُضْحِيَّةُ لَا يُتَعَوَّضُ عَنْهَا
بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْهَدَايَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا
الْعِوَضِيَّةُ بِشَرْطِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَدِيَّةِ الْجِيرَانِ
الطَّعَامُ يَتَعَوَّضُونَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ،
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ فَاعِلَ السُّنَّةِ فِيمَا ذُكِرَ قَلِيلٌ
مِنْ قَلِيلٍ ، وَاعْلَمْ وَفَّقْنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذَا
الْمَنْعَ الْمَذْكُورَ فِي إهْدَاءِ اللَّحْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا
ذُكِرَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ وَمَا شَاكَلَهَا ، وَأَمَّا مَنْ
كَانَ يُعْطِي لِلَّهِ تَعَالَى وَيَأْخُذُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا
يَلْتَفِتُ إلَى التَّعْوِيضِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا لَا
يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى
الْمَرَاتِبِ وَأَسْنَاهَا ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِيمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ فِي هَدَايَا الْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ
الطَّعَامَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ
تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ كَيْفَ يَتَّبِعُ
السُّنَنَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَيُلْقِي لِمَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ
وَسْوَسَتَهُ حُجَجًا لِتَرْكِ تِلْكَ السُّنَّةِ
وَاسْتِعْمَالِ
غَيْرِهَا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ
مُحَرَّمٌ بَيِّنٌ ، أَوْ بِدْعَةٌ بَيِّنَةٌ ، يَرَى ذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ
مَنْ لَهُ نُورٌ أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ فِي الْعِيدِ
بِإِسْرَاعِ الْأَوْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْأَهْلِ ، وَمَا ذَاكَ
إلَّا لِقَطْعِ تَشَوُّفِ الْأَهْلِ لِوُرُودِ صَاحِبِ الْبَيْتِ
وَذَكَاةِ الْأُضْحِيَّةِ إنْ كَانَتْ وَاجْتِمَاعِهِمْ وَفَرَحِهِمْ
بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : { إنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ }
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَذِكْرِ اللَّهِ مَوْضِعَ وَبِعَالٍ انْتَهَى .
يَعْنِي
بِذَلِكَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَلَمَّا عَلِمَ إبْلِيسُ مَا لَهُمْ
فِيهِ مِنْ النَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ
الشَّامِلَةِ ، وَالرَّاحَةِ الْمُعَجَّلَةِ الْمُثَابِ عَلَيْهَا
وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا يُلْقِيه لَهُمْ مِنْ
تَرْكِ السُّنَّةِ مُجَرَّدًا ، وَمِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ أَنَّهُ
لَا يَأْمُرُ بِتَرْكِ سُنَّةٍ حَتَّى يُعَوِّضَ لَهُمْ عَنْهَا شَيْئًا
يُخَيَّلُ إلَيْهِمْ أَنَّهُ قُرْبَةٌ .
عَوَّضَ لَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ
الْأَوْبَةِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى
أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْعِيدِ وَزَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَرَاهُمْ أَنَّ
زِيَارَةَ الْأَقَارِبِ مِنْ الْمَوْتَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ بَابِ
الْبِرِّ وَزِيَادَةِ الْوُدِّ لَهُمْ وَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةِ
التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ ، إذْ فَقَدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْعِيدِ ،
وَفِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ الْبِدَعِ ،
وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ
فَكَيْفَ بِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَ
وَيَتَحَلَّيْنَ ابْتِدَاءً ، وَيَتَجَمَّلْنَ فِيهِ بِغَايَةِ الزِّينَةِ
مَعَ عَدَمِ الْخُرُوجِ فَكَيْفَ بِهِنَّ فِي الْخُرُوجِ فِي هَذَا
الْيَوْمِ فَتَرَاهُنَّ يَوْمَ الْعِيدِ عَلَى الْقُبُورِ مُتَكَشِّفَاتٍ
قَدْ خَلَعْنَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْهُنَّ ، فَبَدَّلَ لَهُمْ
مَوْضِعَ السُّنَّةِ مُحَرَّمًا وَمَكْرُوهًا ، فَالْمَكْرُوهُ فِي
كَوْنِهِ
أَخَّرَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ ؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْمُحَرَّمُ مَا يُشَاهِدُ الزَّائِرُ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ فِي الْمَقَابِرِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ كُلُّهَا لَمْ يَقْنَعْ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ بِهَا ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا شَنِيعًا ، وَهُوَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ وَفِيهِنَّ الْأَبْكَارُ ، وَالْمُرَاهِقَاتُ وَغَيْرُهُنَّ اللَّاتِي يَخْرُجْنَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ظَاهِرَاتٍ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَمَا يَفْعَلْنَهُ مِنْ الْغِنَاءِ ، وَالدُّفُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ ، وَالْأَسْوَاقِ وَدُخُولِهِنَّ الْبُيُوتَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ يَفْتَتِنُ بِهِنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَيَسْكُتُ لَهُنَّ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ وَيَعِظُونَهُنَّ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
عِيدُ الْفِطْرِ ( فَصْلٌ ) ، وَالسُّنَّةُ فِي عِيدِ
الْفِطْرِ التَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ
الْمَأْكُولِ ، إذْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ
فَمَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ ، فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ طَعَامًا مَعْلُومًا ، إذْ هُوَ مِنْ
الْمُبَاحِ لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّكَلُّفِ فِيهِ وَبِشَرْطِ أَنْ
لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ
فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً ، وَإِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا
الْحَدِّ فَفِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ ، إذْ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
يُنْسَبُ إلَى السُّنَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ
فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ .
وَأَمَّا مَا يُفْعَلُ
الْيَوْمَ مِنْ شِرَاءِ الْخُشْكِنَانِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى
مَذْهَبِ الْإِمَامَيْنِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَعْكِ الْمَحْشُوِّ بِالْعَجْوَةِ ؛
لِأَنَّ مَا فِي بَاطِنِهِ تَبَعٌ لِظَاهِرِهِ بِخِلَافِ الْخُشْكِنَانِ
وَالْبُسْنَدُودِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَبَعٌ لِبَاطِنِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَّا أَنْ
يَكْسِرَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا .
وَعَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ كَسْرٍ
بِشَرْطِ أَنْ يَكْسِرَ وَاحِدَةً وَيُعَايِنَ جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا
، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ مِنْ
الْبِدَعِ كَوْنُهُمْ يَبُخُّونَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ .
وَالْبِدْعَةُ
الثَّانِيَةُ : أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَهُمْ صِيَامٌ ، وَحَالُ
فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُمْ فِي بَخٍّ
الْكَعْكِ بِالشَّيْرَجِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَهُمْ صِيَامٌ أَيْضًا ،
وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ فَيُعَرِّضُ الصَّائِمُ
نَفْسَهُ لِلْفِطْرِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرًا ، وَكَثِيرٌ مِنْ
الْيَهُودِ يَعْمَلُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا
يُؤْتَمَنُونَ مِنْ أَنْ يَبُخُّونَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ ،
وَهَذَا لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
سُؤْرَ
الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي
أَفْوَاهِهِمْ نَجَاسَةً فِي وَقْتِ الْفِعْلِ لِذَلِكَ ، أَوْ كَانَتْ
قَبْلَهُ وَلَمْ يُطَهِّرْ فَمَهُ بَعْدَهَا ، فَمَا أَصَابَهُ بِرِيقِهِ
مُتَنَجِّسٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ إذَا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ ،
وَالْخَلَفِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْ
الْمُسْتَقْذَرَاتِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَأْكُولُ عَلَى سَبِيلِ
السَّلَامَةِ مِمَّا ذُكِرَ لَكَانَ بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ،
وَالطِّبِّ : أَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ
مُعَيَّنٌ .
وَأَمَّا الطِّبُّ فَإِنَّ الصَّوْمَ يُجَفِّفُ
الرُّطُوبَاتِ غَالِبًا وَيَعْصِمُ ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ الصَّوْمِ
أَفْطَرُوا عَلَى الْكَعْكِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ جَفَافًا وَإِمْسَاكًا
فَيَتَضَرَّرُ الْبَدَنُ بِذَلِكَ ، فَقَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى
الْأَدْوِيَةِ ، وَالْأَشْرِبَةِ ، وَالْأَطِبَّاءِ وَكَانُوا فِي غِنًى
عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ السَّمَكَ
الْمَشْقُوقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْفَاضِلِ الَّذِي يُعْتِقُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الرِّقَابِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ كُلِّهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ الْمَرْءُ فِي هَذَا
الْيَوْمِ إلَى كَسْبِ الْحَسَنَاتِ ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ
اتِّقَاءُ الْمَحَارِمِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا
نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا } .
فَاتَّخَذَ هَؤُلَاءِ
فِطْرَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ عَلَى شَيْءٍ مُمَكَّسٍ ،
وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعِدَّ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا
الْيَوْمِ لِإِفْطَارِهِ شَيْئًا حَلَالًا مِنْ جِهَةٍ يَرْضَاهَا
الشَّرْعُ لَعَلَّهُ يَلْحَقُ بِالْقَوْمِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا
اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ
يَتَّبِعُونَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا حَظُّ نَفْسٍ
وَمُبَاهَاةٌ
وَشَهْوَةٌ خَسِيسَةٌ فَانِيَةٌ يَحْرِصُونَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَوَلَدٍ وَعَبْدٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ شَرْعًا ، وَاَلَّذِي لَهُمْ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَسِيمُ وَالْخَيْرُ الْعَمِيمُ يَتَسَاكَتُونَ عَنْهُ وَيُهْمِلُونَ أَمْرَهُ ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا هَذَا الْغَالِبُ مِنْهُمْ ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ إخْرَاجُهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ ، إذْ أَنَّهُ قُوتُ جَمِيعِهِمْ فَفَعَلَ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي يَوْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتْرُكُونَهَا لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا وَيُنْفِقُونَ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا ، أَوْ مِثْلَهُ فَعَوَّضُوا مَكَانَ السُّنَنِ الْمَطْهَرَةِ عَوَائِدَهُمْ الرَّدِيئَةَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَفِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ مِنْ الْبِدَعِ سَهَرُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِمَا ، أَوْ فِي بَعْضِهِمَا لَا لِعِبَادَةٍ ، بَلْ لِلشُّغْلِ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا شَاكَلَهَا وَإِضَاعَةِ الْمَالِ بِصَقْلِ الْقُمَاشِ الَّذِي يُفْضِي إلَى تَقْطِيعِهِ وَتَرْكِ إحْيَاءِ اللَّيْلَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَنْدُوبِ إلَى إحْيَائِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى مَا فِيهِ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، وَتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ إلَى الْبُيُوتِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا ، فَتَفْرِقَةُ الْكَعْكِ هَاهُنَا مُقَابِلَةٌ لِتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ فِي الْأَضْحَى
يَوْمُ
عَاشُورَاءَ الْمَوْسِمُ الثَّالِثُ مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ
وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَالتَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ ،
وَالْأَقَارِبِ ، وَالْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ وَزِيَادَةُ
النَّفَقَةِ ، وَالصَّدَقَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يُجْهَلُ
ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطٍ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَدَمِ
التَّكَلُّفِ ، وَمِنْ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ
بِهَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدِّ
فَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ سِيَّمَا إذَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لَهُ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ؛ لِأَنَّ تَبْيِينَ
السُّنَنِ وَإِشَاعَتَهَا وَشُهْرَتَهَا أَفْضَلُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ مَضَى فِيهِ طَعَامٌ مَعْلُومٌ
لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتْرُكُونَ النَّفَقَةَ فِيهِ قَصْدًا لِيُنَبِّهُوا
عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، وَأَمَّا مَا
يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّ عَاشُورَاءَ يَخْتَصُّ بِذَبْحِ
الدَّجَاجِ وَغَيْرِهَا ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ
فَكَأَنَّهُ مَا قَامَ بِحَقِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَكَذَلِكَ طَبْخُهُمْ
فِيهِ الْحُبُوبَ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَرَّضُونَ فِي هَذِهِ الْمَوَاسِمِ وَلَا
يَعْرِفُونَ تَعْظِيمَهَا إلَّا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالصَّدَقَةِ ،
وَالْخَيْرِ وَاغْتِنَامِ فَضِيلَتِهَا لَا بِالْمَأْكُولِ بَلْ كَانُوا
يُبَادِرُونَ إلَى زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ ،
وَالْغَالِبُ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْدُومَةٌ
، أَوْ قَلِيلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَصَدَّقُ فَالْغَالِبُ
عَلَيْهِمْ أَنَّهَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ ، ثُمَّ إنَّهُمْ
يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ بِدْعَةً ، أَوْ مُحَرَّمًا ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الزَّكَاةُ مَثَلًا فِي شَهْرِ صَفَرٍ ، أَوْ
رَبِيعٍ ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ فَيُؤَخِّرُونَ
إعْطَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ مِنْ
التَّغْرِيرِ بِمَالِ الصَّدَقَةِ مَا
فِيهِ ، فَقَدْ يَمُوتُ فِي
أَثْنَاءِ السَّنَةِ ، أَوْ يُفْلِسُ فَيَبْقَى ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ ،
وَأَقْبَحُ مَا فِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ شَهِدَ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } .
وَفِيهِ
بِدْعَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ حَدَّ لِلزَّكَاةِ حَوْلًا كَامِلًا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ
شَهْرًا ، وَفِي فِعْلِهِمْ الْمَذْكُورِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَوْلِ
بِحَسَبِ مَا جَاءَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا ،
وَقَدْ يَكُونُ قَلِيلًا ، وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ نَقِيضُ ذَلِكَ
وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا لِأَجْلِ يَوْمِ
عَاشُورَاءَ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَرْضًا مِنْهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَمَذْهَبُ
مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِيه كَمَا لَوْ أَحْرَمَ
بِصَلَاةِ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهَا ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ لَا
يُجْزِيه عِنْدَ الْجَمِيعِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ،
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْزِيه بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ
دَافِعُ الزَّكَاةِ وَآخِذُهَا بَاقِيَيْنِ عَلَى وَصْفَيْهِمَا مِنْ
الْحَيَاةِ ، وَالْجِدَةِ ، وَالْفَقْرِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ ذَلِكَ
الْمَالِ الْمُزَكَّى عَنْهُ ، وَفِي هَذَا مِنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِ
الصَّدَقَةِ كَالْأَوَّلِ .
وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ
زِيَارَةُ الْقُبُورِ ، وَنَفْسُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي هَذَا
الْيَوْمِ الْمَعْلُومِ بِدْعَةٌ مُطْلَقًا لِلرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ ،
ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ خُرُوجِ النِّسَاءِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ اخْتِصَاصِ النِّسَاءِ
بِدُخُولِهِنَّ الْجَامِعَ الْعَتِيقَ بِمِصْرَ وَهُنَّ عَلَى مَا
يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ الْخَسِيسَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ التَّحَلِّي
، وَالزِّينَةِ الْحَسَنَةِ ، وَالتَّبَرُّجِ لِلرِّجَالِ وَكَشْفِ بَعْضِ
أَبْدَانِهِنَّ وَيُقِمْنَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ
لَا يُشَارِكُهُنَّ فِيهِ الرِّجَالُ وَيَتَمَسَّحْنَ فِيهِ
بِالْمَصَاحِفِ وَبِالْمِنْبَرِ ، وَالْجُدَرَانِ وَتَحْتَ اللَّوْحِ
الْأَخْضَرِ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَانَ السَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ
( فَصْلٌ )
وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ
الْحِنَّاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا مِنْهُنَّ
فَكَأَنَّهَا مَا قَامَتْ بِحَقِّ عَاشُورَاءَ ، وَمِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا
مَحْرُهُنَّ فِيهِ الْكَتَّانَ وَتَسْرِيحُهُ وَغَزْلُهُ وَتَبْيِيضُهُ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ وَيَشِلْنَهُ لِيَخِطْنَ بِهِ الْكَفَنَ
، وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا لَا يَأْتِيَانِ مَنْ
كَفَنُهَا مِخْيَطٌ بِذَلِكَ الْغَزْلِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ
الِافْتِرَاءِ ، وَالتَّحَكُّمِ فِي دِينِ اللَّهِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ
بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ رَآهُ ، وَمِمَّا
أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ الْبَخُورُ .
فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِهِ
مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَتَبَخَّرْ بِهِ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ
أَمْرًا عَظِيمًا وَكَوْنُهُ سُنَّةً عِنْدَهُنَّ لَا بُدَّ مِنْ
فِعْلِهَا ، وَادِّخَارِهِنَّ لَهُ طُولَ السَّنَةِ يَتَبَرَّكْنَ بِهِ
وَيَتَبَخَّرْنَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مِثْلُهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ
الثَّانِي ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ إذَا بُخِّرَ بِهِ الْمَسْجُونَ خَرَجَ
مِنْ سِجْنِهِ وَأَنَّهُ يُبْرِئُ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالنَّظْرَةِ ،
وَالْمُصَابِ ، وَالْمَوْعُوكِ ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ ؛ لِأَنَّهُ
مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ
أَمْرٌ بَاطِلٌ فَعَلْنَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ فَهَذِهِ
الْمَوَاسِمُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ فَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَمْ مِنْ بِدْعَةٍ أَحْدَثُوا فِي ذَلِكَ
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
الْمَرْتَبَةُ
الثَّانِيَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي نَسَبُوهَا إلَى الشَّرْعِ
وَلَيْسَتْ مِنْهُ فَمِنْهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ
فَيَتَكَلَّفُونَ فِيهِ النَّفَقَاتِ ، وَالْحَلَاوَاتِ الْمُحْتَوِيَةِ
عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ
حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا } .
فَهَذَا
دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الصُّوَرِ الَّتِي لَهَا رُوحٌ وَدَلِيلٌ عَلَى
عَذَابِ مَنْ صَوَّرَهَا ، فَمَنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ فَهُوَ مُعِينٌ
لَهُمْ عَلَى تَصْوِيرِهَا ، وَمَنْ أَعَانَهُمْ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ
فِيمَا تَوَاعَدُوا بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ
الْحَلَاوَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِصُورَةٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى
مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ بَيْعِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ
مَنْ وَقَفَ يَنْظُرُ إلَيْهَا ، أَوْ تُعْجِبُهُ مَعَ الْعِلْمِ
بِالتَّحْرِيمِ فَكُلُّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ ،
وَكَثِيرٌ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ وَهُوَ
قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ
فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ بَلْ يَقِفُ
بَعْضُهُمْ وَيَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى ،
وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ الْعُدُولِ وَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا وَهُوَ
عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارٌ ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ نَظَرٌ
فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ حَتَّى
تَقَعَ مِنْهُمْ التَّوْبَةُ بِشُرُوطِهَا ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ
أُجْرَةً عَلَى الشَّهَادَةِ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِمَا ذَكَرَ قَبْلَ
تَوْبَتِهِ أَخَذَ حَرَامًا وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي بُكَاءِ وَلَدِهِ ،
أَوْ سَخَطِ زَوْجَتِهِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ
الشَّرْعِيَّةَ مَعْرُوفَةٌ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ
فَالْحَلَاوَةُ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا ؛
لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ
عَلَى الْمَنْعِ ،
وَمَا مُنِعَ فِعْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَلَا شِرَاؤُهُ فَلَوْ كَسَّرَهَا وَبَاعَهَا مَكْسُورَةً لَجَازَ
بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَكِنْ يُكْرَهُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ الْمُقْتَدَى
بِهِمْ أَنْ يَشْتَرُوهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِفَةً فِعْلُهَا
مُحَرَّمٌ وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي زَجْرِ فَاعِلِهَا عَلَى
الصِّفَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ، وَهُوَ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ
التَّصْوِيرِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا كَمَا
تَقَدَّمَ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ
الْمَفَاسِدِ وَكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ
تَعْظِيمٌ لِهَذَا الْمَوْسِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، ثُمَّ زَادُوا فِيهِ
مِنْ التَّكَلُّفِ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى مُهَادَاةِ
الْأَقَارِبِ وَالْأَصْهَارِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ
جَدِيدَةً ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَةِ بَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ
خِرْقَةٍ عَلَى صِينِيَّةٍ مَعَ أَطْبَاقِ الْحَلَاوَاتِ وَغَيْرِهَا
كَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ .
وَالْغَالِبُ مِنْ النِّسْوَةِ
أَنَّهُنَّ يُكَلِّفْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الَّتِي
أَحْدَثُوهَا وَرُبَّمَا يَئُولُ أَمْرُهُمْ إنْ قَصَّرَ فِي
التَّوْسِعَةِ إلَى الْفِرَاقِ ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ الْمَنْعِ
مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا شَاكَلَهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : { أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ } فَمَنْ
تَكَلَّفَ ، أَوْ كَلَّفَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الدُّخُولِ فِي عُمُومِ
الْحَدِيثِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
وَالتَّكَلُّفُ
مَذْمُومٌ فِي الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْعِبَادَاتِ
الْعَمَلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فَكَيْفَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْسِمٍ
شَرْعِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ ، بَلْ مُحْدَثٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا كَانَ
السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا الشَّهْرَ
أَعْنِي شَهْرَ رَجَبٍ وَيَحْتَرِمُونَهُ إلَّا بِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ
فِيهِ ، وَالتَّشْمِيرِ لِأَدَاءِ حُقُوقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِقَامَةِ
حُرْمَتِهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَوَّلَ شُهُورِ
الْبَرَكَةِ
وَافْتِتَاحِ تَزْكِيَةِ الْأَعْمَالِ لَا بِالْأَكْلِ وَالرَّقْصِ وَلَا بِالْمُفَاخَرَةِ بِالطَّعَامِ وَالْهَدَايَا .
وَمِنْ
الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ : أَنَّ
أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْهُ يُصَلُّونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي
الْجَوَامِعِ ، وَالْمَسَاجِدِ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ ، وَيَجْتَمِعُونَ
فِي بَعْضِ جَوَامِعِ الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِهَا وَيَفْعَلُونَ هَذِهِ
الْبِدْعَةَ وَيُظْهِرُونَهَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ بِإِمَامٍ
وَجَمَاعَةٍ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ ، وَانْضَمَّ إلَى هَذِهِ
الْبِدْعَةِ مَفَاسِدُ مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ ،
وَالرِّجَالِ فِي اللَّيْلِ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ
وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ
زِيَادَةِ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا .
وَفِي زِيَادَةِ
وَقُودِهَا إضَاعَةُ الْمَالِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزَّيْتُ مِنْ
الْوَقْفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ جُرْحَةً فِي حَقِّ النَّاظِرِ لَا سِيَّمَا
إنْ كَانَ الْوَاقِفُ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ
شَرْعًا .
وَزِيَادَةُ الْوُقُودِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ
الْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ ،
وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ عَالِمًا
بِذَلِكَ فَهُوَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ ، وَأَمَّا إنْ
حَضَرَ لِيُغَيِّرَ وَهُوَ قَادِرٌ بِشَرْطِهِ فَيَا حَبَّذَا ، وَقَدْ
ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَقْبِيحَ اجْتِمَاعِهِمْ
وَفِعْلِهِمْ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ ، وَأَعْظَمَ النَّكِيرَ
عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : إنَّهَا بِدْعَةٌ
قَرِيبَةُ الْعَهْدِ حَدَثَتْ فِي زَمَانِهِ وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ فِي
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَحْدَثَهَا فُلَانٌ سَمَّاهُ فَالْتَمَسَهُ
هُنَاكَ هَذَا قَوْلُهُ فِيهَا ، وَهِيَ عَلَى دُونِ مَا يَفْعَلُونَهُ
الْيَوْمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ وَرَدَ
الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّدْبِ إلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ فَالْجَوَابُ
أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا
وَقَعَ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَإِظْهَارِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يَفْعَلُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَيُصَلِّيهَا سِرًّا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا سُنَّةً دَائِمَةً لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ بِالسَّنَدِ الضَّعِيفِ قَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا : إنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا وَلِكِنِّهَا لَا تُفْعَلُ عَلَى الدَّوَامِ فَإِنَّهُ إذَا عَمِلَ بِهَا ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ ، فَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ صَحِيحًا ، فَقَدْ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِهِ ، وَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ مَطْعَنٌ يَقْدَحُ فِيهِ فَلَا يَضُرُّهُ مَا فَعَلَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ خَيْرًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَعِيرَةً ظَاهِرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ كَقِيَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْنَا صِحَّتُهُ ، وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ مَكْرُوهٌ فِعْلُهَا ، وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَمْنَعُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِيهِ أَعْنِي فِي شَهْرِ رَجَبٍ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ الَّتِي شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ فِيهَا بِفَضْلِهِ الْعَمِيمِ وَإِحْسَانِهِ الْجَسِيمِ ، وَكَانَتْ عِنْدَ السَّلَفِ يُعَظِّمُونَهَا إكْرَامًا لِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَادَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ فِيهَا وَإِطَالَةِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالتَّضَرُّعِ ، وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الْجَمِيلَةِ فِي تَعْظِيمِ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِامْتِثَالِهِمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ : تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَحَاتِ وَكَيْفَ لَا ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِيهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِخَمْسِينَ إلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَهَذَا هُوَ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ مِنْ غَنِيٍّ كَرِيمٍ ، فَكَانُوا إذَا جَاءَتْ يُقَابِلُونَهَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شُكْرًا مِنْهُمْ لِمَوْلَاهُمْ عَلَى مَا مَنْحَهُمْ وَأَوْلَاهُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ آمِينَ ، فَجَاءَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَقَابَلُوا هَذِهِ اللَّيْلَةَ الشَّرِيفَةَ بِنَقِيضِ مَا كَانَ السَّلَفُ يُقَابِلُونَهَا بِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا فِيهَا مِنْ الْبِدَعِ أَشْيَاءَ ، فَمِنْهَا إتْيَانُهُمْ الْمَسْجِدَ الْأَعْظَمَ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِيهِ ، وَمِنْهَا زِيَادَةُ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ فِيهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لِمَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ ، وَمِنْهَا مَا يَفْرِشُونَهُ مِنْ الْبُسُطِ ، وَالسَّجَّادَاتِ وَغَيْرِهِمَا ، وَمِنْهَا أَطْبَاقُ النُّحَاسِ فِيهَا الْكِيزَانُ ، وَالْأَبَارِيقُ وَغَيْرِهِمَا كَأَنَّ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى بَيْتُهُمْ ، وَالْجَامِعُ إنَّمَا جُعِلَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلْفِرَاشِ ، وَالرُّقَادِ ، وَالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ .
فَإِنْ احْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ } وَبِفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُلَازَمَتِهِ الْمَسْجِدَ وَمَبِيتِهِ فِيهِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُسَمَّى حَمَامَةَ الْمَسْجِدِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْتِزَامَهُمْ الْمَسْجِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَبِيتَهُمْ فِيهِ لِمَعْنًى بَيِّنٍ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ بَرَاحٌ مِنْهُ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَكَيْفِيَّةُ الْتِزَامِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ ، إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ فِي أَحْوَالٍ سَنِيَّةٍ إمَّا صَلَاةٍ ، أَوْ ذِكْرٍ ، أَوْ تِلَاوَةٍ ، أَوْ فِكْرٍ كُلُّ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ ، وَإِنْ غَلَبَ النَّوْمُ عَلَى أَحَدِهِمْ أَعْطَى الرَّاحَةَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَجْلِسَ مُحْتَبِيًا قَلِيلًا ، ثُمَّ يَنْهَضُ لِمَا كَانَ بِسَبِيلِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُمْ لَيْسُوا كَمِثْلِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ زَائِرٌ يَزُورُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ أُحَدِّثُهُ فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَامَ يَتَنَفَّلُ فَخَافَ الزَّائِرُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ تَنَفُّلَهُ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ ، فَقَالَ الزَّائِرُ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أُكَلِّمُهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ ، وَالتِّلَاوَةِ فَخَافَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ وِرْدَهُ فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ ، فَقَالَ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أُكَلِّمُهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَامَ يَتَنَفَّلُ كَذَلِكَ إلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، فَقَامَ يَتَنَفَّلُ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَقْبَلَ
عَلَى الذِّكْرِ ،
وَالتِّلَاوَةِ إلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَامَ يَتَنَفَّلُ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ ، وَالزَّائِرُ
يَنْتَظِرُهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُكَلِّمَهُ فَخَفَقَتْ رَأْسُ هَذَا
السَّيِّدِ فَاسْتَفَاقَ عِنْدَ خَفَقَانِ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ
عَيْنَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ
لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ الزَّائِرُ فِي نَفْسِهِ : يَحْرُمُ
عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ مَنْ هَذَا حَالُهُ .
فَانْصَرَفَ عَنْهُ
وَمَضَى فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ صَارَ حَالُ هَذَا
، وَهُوَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ ذَكَرَ حَالَهُمْ
فَجَعَلَ السِّنَةَ الَّتِي لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ ذَنْبًا يَسْتَغْفِرُ
مِنْهُ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَمَا بَالُك بِالسَّادَةِ
الْكِرَامِ فَكَيْفَ يَحِلُّ الِاسْتِدْلَال بِهِمْ عَلَى اللَّهْوِ ،
وَاللَّعِبِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النَّفْسِ
وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْيَوْمَ
مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِمَنْ يَظُنُّ فِيهِ ، أَوْ يَتَوَهَّمُهُ
أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ يَشْتَرِيَ : مَا
تَفْعَلُ وَمَا تُرِيدُ ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَوَهَّمَهُ
يَقُولُ لَهُ عَلَيْك بِسُوقِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ
الْآخِرَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ
مِنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي
مَوْضِعِهِ مِنْ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا
السَّقَّاءُونَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ فَمِنْهَا
الْبَيْعُ ، وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَهِيَ أَنْ تُعْطِيَهُ
وَيُعْطِيَك مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَكُمَا ، وَقَدْ
مُنِعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ
لَفْظُ الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَلَوْ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ
، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ مِنْ
الْعِبَادَةِ فَقَطْ ، وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ مَنْ
سَبَّلَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
بَيْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ،
ثُمَّ دَخَلَ لِيَسْقِيَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ لَجَازَ ذَلِكَ
بِشُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ فِي الْمَسْجِدِ
وَلَا غَيْرِهِ ، وَمَنْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْجَبُ .
الثَّانِي : أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ : الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ .
الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ .
الرَّابِعُ
: أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ بِقَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ
مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ حُفَاةً وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ
وَأَقْدَامُهُمْ مُتَنَجِّسَةٌ .
الْخَامِسُ : إنْ كَانَ لَهُ نَعْلٌ
فَلَا يَجْعَلُهُ تَحْتَ إبْطِهِ ، أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ دُونَ شَيْءٍ
يُكِنُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ
أَذًى وَقَعَ فِي الْمَسْجِدِ وَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ
لَهُ لِمَا ذُكِرَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَيْنَ
يَضَعُ نَعْلَهُ حِينَ صَلَاتِهِ ، وَلَوْ تَحَفَّظَ النَّاسُ الْيَوْمَ
كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَتَحَفَّظُونَ لَمَا احْتَاجُوا إلَى بِدْعَةِ
السَّجَّادَةِ ، وَالْحُصُرِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الْبُسُطِ
وَغَيْرِهَا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ
الشُّرُوطِ فِي السَّقَّاءِ فَلَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ دُونَ
غَيْرِهَا مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بَلْ الْمَنْعُ عَامٌّ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ فَحَيْثُ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ
الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَ الْمَنْعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، وَمِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ حَلَقَاتٍ كُلُّ حَلْقَةٍ لَهَا كَبِيرٌ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي الذِّكْرِ ، وَالْقِرَاءَةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِكْرًا ، أَوْ قِرَاءَةً لَكِنَّهُمْ يَلْعَبُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَالذَّاكِرُ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، بَلْ يَقُولُ : لَا يِلَاهَ يِلَّلَّهُ فَيَجْعَلُونَ عِوَضَ الْهَمْزَةِ يَاءً وَهِيَ أَلِفُ قَطْعٍ جَعَلُوهَا وَصَلًا ، وَإِذَا قَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يَمُطُّونَهَا وَيُرْجِعُونَهَا حَتَّى لَا تَكَادُ تُفْهَمُ ، وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَزِيدُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ بِحَسَبِ تِلْكَ النَّغَمَاتِ ، وَالتَّرْجِيعَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْغِنَاءَ ، وَالْهُنُوكَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ ، ثُمَّ فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْقَارِئَ يَبْتَدِئُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَالْآخَرُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ ، أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَهُ فَيُسْكِتُونَ الْقَارِئَ ، أَوْ يَهُمُّونَ بِذَلِكَ ، أَوْ يَتْرُكُونَ هَذَا فِي شِعْرِهِ ، وَهَذَا فِي قِرَاءَتِهِ لِأَجْلِ تَشَوُّقِ بَعْضِهِمْ لِسَمَاعِ الشَّعْرِ وَتِلْكَ النَّغَمَاتِ الْمَوْضُوعَةِ أَكْثَرَ ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ اللَّعِبِ فِي الدِّينِ أَنْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مُنِعَتْ فَكَيْفَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ ضَمُّوا إلَيْهِ اجْتِمَاعَ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ مُخْتَلَطِينَ بِاللَّيْلِ ، وَخُرُوجَ النِّسَاءِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ الزِّينَةِ ، وَالْكِسْوَةِ ، وَالتَّحَلِّي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مُؤَخَّرِ الْجَامِعِ وَبَعْضُ النِّسَاءِ يَسْتَحْيِنِ أَنْ يَخْرُجْنَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ فَيَدُورُ عَلَيْهِنَّ
إنْسَانٌ بِوِعَاءِ فَيَبُلْنَ
فِيهِ وَيُعْطِينَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا ، أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ
الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ يَعُودُ كَذَلِكَ مِرَارًا ، وَالْبَوْلُ فِي
الْمَسْجِدِ فِي وِعَاءٍ حَرَامٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ ،
وَالشَّنَاعَةِ وَبَعْضُهُمْ يَخْرُجَ إلَى سِكَكِ الطُّرُقِ
فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيهَا ، ثُمَّ يَأْتِي النَّاسُ إلَى صَلَاةِ
الصُّبْحِ فَيَمْشُونَ إلَى الْجَامِعِ فَتُصِيبُ أَقْدَامَهُمْ
النَّجَاسَةُ ، أَوْ نِعَالَهُمْ وَيَدْخُلُونَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ
فَيُلَوِّثُونَهُ .
وَدُخُولُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ فِيهَا مَا
فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْإِثْمِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي النُّخَامَةِ فِي
الْمَسْجِدِ أَنَّهَا خَطِيئَةٌ هَذَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ بِاتِّفَاقٍ
فَكَيْفَ بِالنَّجَاسَةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي
أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ
قَاعِدًا يَوْمًا مَعَ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ
الزَّوَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مِنْ جُلَّةِ
الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْأَكَابِرِ فِي الْعِلْمِ ، وَالدِّينِ وَهُوَ
شَيْخُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي
عَلِيٍّ الْقَرَوِيَّيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ
شَيْخُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ
شُبَّاكٌ فِيهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَتَنَخَّمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ
الزَّوَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ النُّخَامَةَ فِي فِيهِ وَلَمْ
يُلْقِهَا حَتَّى قَامَ وَمَشَى خُطْوَتَيْنِ وَأَخْرَجَ فَمَهْ مِنْ
الْمَسْجِدِ وَحِينَئِذٍ أَلْقَاهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ .
قَالَ :
فَقُلْت لَهُ : لِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَنْتَ جَالِسٌ بِمَوْضِعِك ؛
لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا خَارِجَ الْمَسْجِدِ .
فَقَالَ لِي : إنَّ
النُّخَامَةَ إذَا خَرَجَتْ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ
الْبُصَاقِ ، وَلَوْ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ ، أَوْ دُونَهُ فَيَسْقُطُ
ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ
خَطِيئَةٌ فَقُمْت ؛ لَأَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ ،
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى احْتِرَازِ هَذَا
الْعَالِمِ الْجَلِيلِ فِيمَا فَعَلَ
فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ إلَى ضِدِّهَا فَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ بَعْضُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُورًا وَبَصِيرَةً رَأَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَعْنِي فِي الْخَيْرِ وَضِدِّهِ
لَيْلَةُ نِصْفِ
شَعْبَانَ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ مَوْسِمِ لَيْلَةِ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ
يُسَمُّونَهُ مَوْسِمًا وَلَيْسَ بِمَوْسِمٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ الْمَوَاسِمَ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الْعِيدَانِ وَعَاشُورَاءُ وَلَا
شَكَّ أَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ } ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
هَلْ هِيَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ ، أَوْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ
.
الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَبِالْجُمْلَةِ
فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلَهَا
فَضْلٌ عَظِيمٌ وَخَيْرٌ جَسِيمٌ وَكَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ يُعَظِّمُونَهَا وَيُشَمِّرُونَ لَهَا قَبْلَ إتْيَانِهَا فَمَا
تَأْتِيهِمْ إلَّا وَهُمْ مُتَأَهِّبُونَ لِلِقَائِهَا ، وَالْقِيَامُ
بِحُرْمَتِهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ احْتِرَامِهِمْ لِلشَّعَائِرِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هَذَا هُوَ التَّعْظِيمُ الشَّرْعِيُّ
لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فَعَكَسُوا الْحَالَ
كَمَا جَرَى مِنْهُمْ فِي غَيْرِهَا فَمَا ثَمَّ مَوْضِعٌ مُبَارَكٌ ،
أَوْ زَمَنٌ فَاضِلٌ حَضَّ الشَّرْعُ عَلَى اغْتِنَامِ بَرَكَتِهِ ،
وَالتَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ الْمَوْلَى سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى فِيهِ
إلَّا وَتَجِدُ الشَّيْطَانَ قَدْ ضَرَبَ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَجَمِيعِ
مَكَايِدِهِ لِمَنْ يُصْغِي إلَيْهِ ، أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى
يَحْرِمَهُمْ جَزِيلَ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَيُفَوِّتَهُمْ مَا
وُعِدُوا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَمِيمِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى
السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ
مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَمَرُّدِهِ وَشَيْطَنَتِهِ وَإِغْوَائِهِ بِمَا نَالَ
مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِمْ سَمِعُوا مِنْهُ وَنَالَ مِنْهُمْ بِأَنْ
حَرَمَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَبْدَلَ لَهُمْ
مَوْضِعَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِدَعِ
وَشَهَوَاتِ النُّفُوسِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ ، وَالْحَلَاوَاتِ
الْمُحْتَوِيَةِ
عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ
الْمَفَاسِدِ ، وَالْوَعِيدِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ
التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حِكَايَةً عَنْ اللَّعِينِ
إبْلِيسَ بِقَوْلِهِ { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيَدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
} ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَجِدُ اللَّعِينَ لَا
يَجِدُ مَوْضِعًا فِيهِ امْتِثَالُ سُنَّةٍ إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى
تَبْدِيلِهَا بِمَا يُنَاقِضُهَا حَتَّى صَارَ مَا أَبْدَلَهُ سُنَّةً
لَهُمْ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً
} .
وَهَذَا الْحَدِيثُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ
مِنْ الْأَمْرِ ، وَالنَّهْيِ ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أَوْ يُشِيرُ بِهِ إنَّمَا هُوَ عَنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَتَارَةً يُؤَكِّدُ ذَلِكَ فَيُوجِبُهُ وَتَارَةً
يُخَفِّفُ عَنْ الْعِبَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سُنَّةً ، فَإِذَا سَمِعْت
بِالسُّنَّةِ فَهِيَ عَادَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَطَرِيقَتُهُ ، ثُمَّ بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي فِي
اتِّخَاذِ السُّنَّةِ عَادَةً فَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ ، أَوْ
طَرِيقَةٌ فَتِلْكَ سُنَّتُهُ فَلَمَّا أَنْ اعْتَادَ النَّاسُ عَوَائِدَ
وَمَضَتْ الْأَعْوَامُ عَلَيْهَا كَانَتْ سُنَّتَهُمْ .
فَإِذَا جَاءَ
الْإِنْسَانُ يَتْرُكُ عَادَتَهُمْ قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً ، فَإِذَا
جَاءَ يَفْعَلُ سُنَّةً أَعْنِي سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا فَعَلَ بِدْعَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنَّهُ
خَالَفَ عَادَتَهُمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا جَرَى بَعْدَ انْقِطَاعِ
الثَّلَاثَةِ قُرُونٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } .
وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِمْ خَيْرَ الْقُرُونِ فِي أَوَّلِ
الْكِتَابِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِحُذَيْفَةَ { كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا
تَرَكَ سُنَّةً } انْتَهَى .
هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ هُوَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ
الْمَذْكُورَةِ ، إذْ أَنَّ أَكْثَرَ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ مَا
حَدَثَتْ إلَّا بَعْدَهُمْ ، وَفِي كُلِّ عَامٍ تَزِيدُ الْبِدَعُ
وَتَنْقُصُ السُّنَنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ مَا
أَرَاهُ مُنْذُ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ عَامَنَا هَذَا
أَخْصَبُ وَأَرْخَصُ سِعْرًا مِنْ الْعَامِ الْمَاضِي فَقَالَ :
فَأَيُّهُمَا أَكْثَرُ فِقْهًا وَقِرَاءَةً وَأَحْدَثُ عَهْدًا
بِالنُّبُوَّةِ فَقَالَ الَّذِي مَضَى فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْت وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا
مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ {
بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى
لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي } .
وَهَا هُوَ ذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ أَلَا
تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَانَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ يَقُولُ : لَا
تَسْأَلُوهُمْ الْيَوْمَ عَمَّا أَحْدَثُوا فَإِنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا
لَهُ جَوَابًا وَلَكِنْ سَلُوهُمْ عَنْ السُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَا
يَعْرِفُونَهَا وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إذَا نَظَرَ إلَى مَا أَحْدَثَ
النَّاسُ مِنْ الرَّأْي ، وَالْهَوَى يَقُولُ : لَقَدْ كَانَ الْقُعُودُ
فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا يَعْدِلُ بِهِ فَمُذْ صَارَ
فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُرَاءُونَ ، فَقَدْ بَغَّضُوا إلَيَّ الْجُلُوسَ
فِيهِ وَلَأَنْ أَقْعُدَ عَلَى مَزْبَلَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ
مِنْ أَنْ
أَجْلِسَ فِيهِ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ مِنْ
السُّنَّةِ أَنْ تُجَادِلَ عَنْ السُّنَّةِ وَلَكِنَّك تُخْبِرُ بِهَا ،
فَإِنْ قُبِلَ مِنْك وَإِلَّا فَاسْكُتْ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
الْمَكِّيُّ ، فَقَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرُ
مَعْرُوفًا وَصَارَتْ السُّنَّةُ بِدْعَةً ، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً
انْتَهَى .
وَالْغَرِيبُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ وَإِلَى
هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِمَنْ أَوْصَاهُ { كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ ،
أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ } .
وَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِك قَالَ : الَّذِينَ يَصْلُحُونَ
إذَا فَسَدَ النَّاسُ } انْتَهَى وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ {
الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي
} { وَلَمَّا أَنْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفِتَنَ
قَالَ بَعْضُهُمْ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا
أَدْرَكَنِي ذَلِكَ الزَّمَانُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
: كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } يَعْنِي أَنْ يَتَّخِذَ بَيْتَهُ
كَأَنَّهُ ثَوْبُهُ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ فَيُلَازِمُهُ وَلَا
يُفَارِقُهُ إذَا عَمَّتْ الْفِتَنُ وَكَثُرَتْ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ
مُشَاهَدٌ ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَاتِ رَجَعَتْ لِلْعَادَاتِ ،
بَلْ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ قَدْ صَارَتْ الْيَوْمَ وَسَائِلَ لِلدُّخُولِ
فِي الدُّنْيَا وَأُكُلِهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهَا لِلرِّيَاءِ ،
وَالسُّمْعَةِ فِي الْغَالِبِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
فَالْهَرَبُ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ الْيَوْمَ
عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْعَدِيدَةِ إلَى قُعُودِ الْإِنْسَانِ فِي
بَيْتِهِ أَسْلَمُ لَهُ بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ وَلِهَذَا
قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرِهَا : الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ
لِلْعَبْدِ جِهَةُ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ
تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ
بِالنَّصْرِ مِنْهَا لَهُ فَلَا يُبَالِي
الْمُكَلَّفُ بِتَعَدُّدِ جِهَاتِ اللَّعِينَ إبْلِيسَ لِإِبْقَاءِ
الْبَابِ الْعُلْوِيِّ الْمَفْتُوحِ لَهُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ ،
وَالْكَرَمِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
: { إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَا لَمْ
يُغَرْغِرْ } انْتَهَى .
فَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ إلَى أَنْ
تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَمَهْمَا وَقَعَ الْمُؤْمِنُ فِي
شَيْءٍ مَا مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ فِيهِ الْعَتَبُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ
فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ ،
فَإِذَا أَوْقَعَهَا بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا وَجَدَ
الْبَابَ ، وَالْحَمْدَ لِلَّهِ مَفْتُوحًا لَا يُرَدُّ عَنْهُ وَلَا
يُغْلَقُ دُونَهُ بِكَرَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَذَلِكَ
بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ وَقُوَّةِ صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ
، أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَمَا جَرَى لَهُ فِي بَدْءِ تَوْبَتِهِ وَنُزُولِهِ عَنْ
فَرَسِهِ وَدَفْعِهِ ثِيَابَهُ لِلصَّيَّادِ وَأَخْذِهِ ثِيَابَ
الصَّيَّادِ وَمَرَّ لِسَبِيلِهِ فَرَأَى إنْسَانًا قَدْ وَقَعَ عَنْ
قَنْطَرَةٍ فَقَالَ لَهُ : قِفْ .
فَوَقَفَ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى
وَصَلَ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَلْقَاهُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ
سَالِمًا وَمَا ذَاكَ إلَّا لِصِدْقِ تَوْبَتِهِ وَحُسْنِ نِيَّتِهِ مَعَ
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ مَعَ اللَّهِ
تَعَالَى فِي تَوْبَتِهِ وَفِي الرُّجُوعِ إلَيْهِ وَفِي مُلَازَمَتِهِ
سُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُنَّتُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ أَعْنِي أَنَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَيُقِيلُهُمْ وَيَغْفِرُ
لَهُمْ مَا مَضَى وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ عَاجِلًا
وَآجِلًا ، أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُونُسَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ
وَابْتَلَعَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ وَنَزَلَ بِهِ إلَى قَعْرِ الْبَحْرِ
وَهُوَ يُنَادِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا
أَنْتَ
سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } فَسَمِعَهُ
قَارُونُ وَهُوَ يُخْسَفُ بِهِ فَسَأَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ
بِعَذَابِهِ أَنْ يَقِفُوا بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ صَاحِبَ الصَّوْتِ
فَلَمَّا أَنْ سَأَلَهُ وَأَجَابَهُ قَالَ لَهُ قَارُونُ : ارْجِعْ إلَى
رَبِّك فَإِنَّك إذَا رَجَعْت إلَيْهِ تَجِدُهُ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ
تَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ .
فَقَالَ لَهُ يُونُسُ عَلَى نَبِيِّنَا
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا مَنَعَك أَنْتَ أَنْ تَرْجِعَ
إلَى رَبِّك فَقَالَ لَهُ : إنَّ تَوْبَتِي وُكِّلَتْ إلَى ابْنِ خَالَتِي
مُوسَى فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنِّي فَهَذَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي
قَبُولِ التَّائِبِ عِنْدَ صِدْقِهِ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَوْلَاهُ
الْكَرِيمِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ
الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ
بَيْتِك } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَعْنَاهُ لَكِنْ
قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَسْلَمُ لِذِي
دِينٍ إلَّا مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إلَى شَاهِقٍ كَطَائِرٍ
بِأَفْرَاخِهِ ، أَوْ كَثَعْلَبٍ بِأَشْبَالِهِ } .
أَوْ كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : { مَا أَتْقَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَا أَتْقَاهُ }
فَظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ التَّعَارُضُ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَذَا
بِالْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهِ وَأَمَرَ هَذَا بِالْفِرَارِ .
وَالْجَمْعُ
بَيْنَ الْإِقَامَةِ ، وَالْفِرَارِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ
التَّعَارُضُ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ
الْوَارِدَ فِي الْفِرَارِ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ
الْمَوَاضِعِ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ فِيهَا وَأُخْرَى فَاسِدَةً ،
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ
يَفِرَّ بِدَيْنِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْفَاسِدَةِ إلَى الْمَوَاضِعِ
الصَّالِحَةِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الزَّمَانُ قَدْ
اسْتَوَى فِي
عُمُومِ مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يَفِرُّ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ حِلْسًا مِنْ
أَحْلَاسِ بَيْتِهِ وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إذَا رَأَيْت
الْفَسَادَ قَدْ كَثُرَ فِي مَوْضِعٍ وَعَلَا أَمْرُهُ فَلَا تَخْرُجُ
فِرَارًا مِنْهُ وَاعْتَزِلْ مَا قَدَرْت عَلَيْهِ وَكُنْ حِلْسًا مِنْ
أَحْلَاسِ بَيْتِك وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ
بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّك إذَا خَرَجْت مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ
الَّذِي أَنْتَ فِيهِ وَصِرْت إلَى غَيْرِهِ وَجَدْتَهُ أَكْثَرَ فَسَادًا
وَمَنَاكِرَ وَبِدَعًا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجْت عَنْهُ
فَتَنْدَمُ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى خُرُوجِك مِنْهُ وَتُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ
إلَى مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ فَتَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِشَارَةِ ،
وَالِاسْتِخَارَةِ وَتَبْدِيلِ الْحَالِ بِطُرُقِ الْأَسْفَارِ
وَمُبَاشَرَةِ مَا كُنْت مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَمُلَاقَاةِ الْمَخَاوِفِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسَافِرِينَ ، فَإِذَا وَصَلْت إلَى
مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ وَجَدْته قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ إلَى مَا
هُوَ أَشَدُّ فَتَنْدَمُ عَلَى رُجُوعِك إلَيْهِ ، وَتَرَى أَنَّ
إقَامَتَك فِي مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت سَافَرْت إلَيْهِ أَقَلُّ فَسَادًا
فَتَقَعُ فِي ضَيَاعِ الْأَوْقَاتِ ، وَالْمَشَاقِّ وَارْتِكَابِ
الْأَهْوَالِ وَرُؤْيَةِ الْمُخَالَفَاتِ وَمُبَاشَرَتِهَا عِيَانًا
بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُسَافِرْ ، ثُمَّ
يَبْقَى حَالُهُ كَذَلِكَ مُذَبْذَبًا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ ،
أَوْ كَمَا قَالَ وَفِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِالْإِقَامَةِ فِي الْبُيُوتِ رِفْقٌ عَظِيمٌ وَرَحْمَةٌ شَامِلَةٌ
لِأُمَّتِهِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ
عَنْهُمْ تِلْكَ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا بِالْجُلُوسِ فِي
، أَوْطَانِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { نِعْمَ الصَّوَامِعُ بُيُوتُ أُمَّتِي } .
هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْضِعَ إذَا كَثُرَ فِيهِ الْفَسَادُ ، وَأَهْلُهُ
الْمُقِيمُونَ مَعَهُ عَلَى حَالِهِمْ لَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ مِنْ
الْبَلَاءِ
دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُوَّةِ حَالِ الْوَلِيِّ الْمُقِيمِ
بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا قُوَّةُ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى
وَمَكَانَتُهُ عِنْدَهُ وَقُرْبُهُ مِنْهُ مَا انْدَفَعَتْ الْعُقُوبَةُ
عَنْهُمْ فَبِنَفْسِهِ وَهِمَّتِهِ الْعَالِيَةِ وَحُلُولِهِ بَيْنَهُمْ
أَخَّرَ الْمَوْلَى الْكَرِيمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ لِيَتُوبَ مَنْ
يَتُوبُ وَيَرْجِعَ مَنْ يَرْجِعُ ، أَوْ يُصِيبُ الْعَذَابُ بَعْضَهُمْ
خُصُوصًا وَلَا يَقَعُ عَامًّا .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
الْجَلِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِالصِّقِلِّيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْلِ الْأَرْضَ
مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛ إمَّا قَائِمٌ لَهُ بِحُجَّةٍ ، وَإِمَّا مَدْفُوعٌ
بِهِ الْبَلَاءُ انْتَهَى .
فَالْقَائِمُ بِالْحُجَّةِ مَعْرُوفٌ
بَيْنَ النَّاسِ ، وَالْمَدْفُوعُ بِهِ الْبَلَاءُ قَدْ يُعْرَفُ ، وَقَدْ
لَا يُعْرَفُ ، وَقَدْ يَعْرِفُهُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ آخَرِينَ
يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ
الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ بِالْقُرَشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا
أَنْ رَأَى فِي وَقْتِهِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِأَهْلِ مِصْرَ بَلَاءٌ
قَالَ : أَيَقَعُ هَذَا وَأَنَا فِيهِمْ قِيلَ لَهُ : اُخْرُجْ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَخَرَجَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى إلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهِ ، ثُمَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ
نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ أَسْأَلُ اللَّهِ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ ،
فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ عَذَابًا
عَامًّا وَفِيهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
فَعَلَى مَا
تَقَرَّرَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا
الْفِرَارُ إلَى الْبُيُوتِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى
إظْهَارِ مَعَالِمِ الشَّرْعِ ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهَا فَيُبَادِرُ إلَى
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ ، فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ يَتَخَوَّفُ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ الْبِدَعِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ هَلْ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ ،
أَوْ الرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنُوبُهُ
فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ فِي بَيْتِهِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْضَلَ
وَأَكْثَرَ نَفْعًا بَادَرَ إلَى فِعْلِهِ سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّفْعُ
مُتَعَدِّيًا ، وَإِنْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ فَالرُّجُوعُ
إلَى بَيْتِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَإِقَامَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى
مَا ذُكِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ
، إذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ لَحَصَلَ لَهُ الْمَعْنَى
الْمَقْصُودُ وَزِيَارَةُ جِوَارِ بَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ،
وَالِاعْتِكَافُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي أَوَائِلِ
الْكِتَابِ .
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُرْشِدُهُ ، أَوْ
يَسْتَرْشِدُ هُوَ مِنْهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، إذْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ ،
وَالْمَقْصُودَ مِنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ إنَّمَا
هُوَ طَلَبُ السَّلَامَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي زَمَنِهِ
فَيَكُونُ فِرَارًا بِدِينِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى بَيْتِ رَبِّهِ وَمِنْ
بَيْتِ رَبِّهِ إلَى بَيْتِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : {
فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ } ، وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ
الْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فَلَا
يَتْرُك الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ
مِنْ الْبِدَعِ ، إذْ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَعَالِمِ
الدِّينِ وَمِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا
اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَبَدَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ
صَلَاتِهِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، بَلْ حَيْثُمَا
قَلَّتْ الْبِدَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى
وَأَفْضَلَ مِنْ
غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَسْجِدًا سَالِمًا
مِمَّا ذُكِرَ وَقَلَّ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إلَى أَقَلِّ
الْمَسَاجِدِ بِدَعًا فَلْيُصَلِّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ
بِدْعَةٌ وَاحِدَةٌ أَشَدَّ مِنْ بِدَعٍ جُمْلَةٍ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا
وَأَشْبَاهِهِ وَلْيُصَلِّ فِيمَا عَدَاهُ ، وَإِذَا صَلَّى مَعَ ذَلِكَ
فَلْيَحْذَرْ جَهْدَهُ وَيُغَيِّرْ مَا اسْتَطَاعَ بِشَرْطِهِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ
، فَإِنْ كَانَتْ لَيْلَةٌ تَزِيدُ فِيهَا الْبِدَعُ وَتَكْثُرُ فَتَرْكُ
الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ ،
إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَلَكِنْ
تَكْثِيرُ سَوَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَتَرْكُ
الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجِبٌ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ مُتَعَيِّنٌ فَيَتْرُكُ
الْمَنْدُوبَ لَهُ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي
تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْحَاضِرِينَ فِي أَمَاكِنِ الْبِدَعِ فِي الْإِثْمِ
هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَأْنَسُ قَلْبَهُ
بِتِلْكَ الْبِدَعِ فَيَئُولُ إلَى تَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتَبِ التَّغْيِيرِ لِمَا وَرَدَ
وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ .
الْوَجْهُ
الثَّالِثُ : وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ يُخَافُ
عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْسِنَ شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ ، أَوْ يَسْمَعَ بِهِ
، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا
كَرِهَهُ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْإِحْدَاثُ فِي الدِّينِ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا
هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } .
يَعْنِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِ
، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ لَا
يَقْبَلُ عَمَلَ امْرِئٍ حَتَّى يُتْقِنَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ :
وَمَا إتْقَانُهُ قَالَ : يُخَلِّصُهُ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَالْبِدْعَةِ }
، وَقَدْ وَرَدَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لِمَنْ
أَحْدَثَ فِي الدِّينِ حَدَثًا : هَبْ أَنِّي
أَغْفِرُ لَك مَا بَيْنِي وَبَيْنَك فَاَلَّذِي أَضْلَلْتهمْ مِنْ
النَّاسِ } انْتَهَى .
فَإِذَا وَقَعَ اسْتِحْسَانُ شَيْءٍ مِنْ
الْبِدَعِ كَائِنًا مَا كَانَ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ
مَعَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ قَلَّ أَنْ يَقَعَ أَعْنِي أَنْ تَعُمَّ
تِلْكَ الْبِدَعُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمِيعَ مَسَاجِدِ الْبَلَدِ ،
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَمَالُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَاصِلٌ لَهُ
أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ
تِلْكَ الْبِدَعِ ، أَوْ مِنْ أَكْثَرِهَا ، وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْضُ مَنْ
يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا الْبِدَعُ
لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ وَزَالَتْ الْبِدَعُ كُلُّهَا ، أَوْ
أَكْثَرُهَا ، أَوْ بَعْضُهَا لَكِنْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ
الْوَقْتِ عَلَى تَعَاطِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ إذَا خَتَمَ وَلَدُهُ الْقُرْآنَ ، أَوْ صَلَّى
التَّرَاوِيحَ .
وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي
فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ
فَاسَ أَنَّهُمْ أَوْقَدُوا جَامِعَهَا الْأَعْظَمَ فَزَادُوا فِي
الْوَقُودِ الزِّيَادَةَ الْكَثِيرَةَ فَجَاءَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْقَشْتَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى صَلَاةِ
الْعِشَاءِ عَلَى عَادَتِهِ فَرَأَى ذَلِكَ فَوَقَفَ وَلَمْ يَدْخُلْ
فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ حَتَّى
لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ إلَّا ثَلَاثَةُ قَنَادِيلَ ، أَوْ خَمْسَةٌ
، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَامْتَثَلُوا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ ، وَحِينَئِذٍ
دَخَلَ فَوَقَعَ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِتَغْيِيرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ
مِنْ الشُّيُوخِ فَكَيْفَ بِهِ لَوْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاحِدِ
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى التَّسَامُحِ فِي
هَذَا الْبَابِ حَتَّى جَرَّ الْأَمْرُ إلَى اعْتِيَادِ الْبِدَعِ
وَيَنْسُبُهَا أَكْثَرُ الْعَوَامّ إلَى الشَّرْعِ بِسَبَبِ حُضُورِ مَنْ
يُقْتَدَى بِهِمْ فَظَنَّ أَكْثَرُ الْعَوَامّ أَنَّ
ذَلِكَ مِنْ
الْمَشْرُوعِ ، وَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛
لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ ، إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : {
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ الْبِدَعِ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ
فَتَتَأَكَّدُ الصَّلَاةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ وَحْدَهُ
إحْيَاءُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ
الْغَنِيمَةِ ، وَالسَّعَادَةِ مَا فِيهِ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ
مِنْ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِي يُصَلِّي
فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْدَهُ إنَّهُ يُصَلِّي عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ
يَسَارِهِ مَلَكٌ ، فَإِذَا أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ } .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد
فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً ،
فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا
بَلَغَتْ خَمْسِينَ } ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا لَمْ
يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ كُمِّلَ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ ، فَإِذَا
صَلَّى وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي
بِصَلَاتِهِ ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا إلَّا وَيَقْوَى
الرَّجَاءُ فِي قَبُولِ مَا يُعْمَلُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ إذَا
حَضَرَ مَوْضِعًا ، وَمَنْ هَرَبَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَوَى إلَى
السُّنَّةِ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي وِلَايَتِهِ ،
إذْ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ .
وَالتَّشَبُّهُ
بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّ إمَامَ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ وَحْدَهُ قَامَ مَقَامَ
الْجَمَاعَةِ ، فَإِذَا جَاءَتْ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ فَلَا يَجْمَعُونَ
فِيهِ وَيُصَلُّونَ أَفْذَاذًا ، وَالْإِمَامُ لَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ
، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَكَانَ
فِيهَا بَعْضُ طِينٍ وَظَلَامٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ هُوَ وَخَادِمُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا ، فَحَصَلَ لَهُ سُرُورٌ فَسَأَلَهُ خَادِمُهُ مَا سَبَبُ سُرُورِهِ فَقَالَ لَهُ : أَلَا تَرَى مَا حَصَلَ لَنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَمَا خَصَّصَنَا بِهِ مِنْ إحْيَاءِ بَيْتِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَنَا وَلَمْ يُشَارِكْنَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا فَرَحُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَسْجِدٌ سَالِمٌ مِنْ الْبِدَعِ فَكَيْفَ بِالْهَارِبِ مِنْ مَوَاضِعِ الْبِدَعِ إلَى مَوَاضِعَ تَحْصُلُ فِيهَا السَّلَامَةُ ، وَالْخَيْرُ ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إحْيَاءِ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى
وَإِنَّمَا طَالَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ مَا يُعْمَلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَعْنِي لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِأَجْلِ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ أَعْنِي فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهَا لَكِنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ زَادَتْ فَضِيلَتُهَا وَمُقْتَضَى زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ زِيَادَةُ الشُّكْرِ اللَّائِقِ بِهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِهَا فَبَدَّلَ بَعْضُهُمْ مَكَانَ الشُّكْرِ زِيَادَةَ الْبِدَعِ فِيهَا عَكْسُ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ ضِدَّ شُكْرِ النِّعَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ زِيَادَةِ الْوَقُودِ الْخَارِجِ الْخَارِقِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْجَامِعِ قِنْدِيلٌ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يُوقَدُ إلَّا أَوْقَدُوهُ حَتَّى إنَّهُمْ جَعَلُوا الْحِبَالَ فِي الْأَعْمِدَةِ ، وَالشُّرَافَاتِ وَعَلَّقُوا فِيهَا الْقَنَادِيلَ وَأَوْقَدُوهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْلِيلُ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرِهَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى التَّمَسُّحَ بِالْمُصْحَفِ ، وَالْمِنْبَرِ ، وَالْجُدَرَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ السَّبَبَ فِي ابْتِدَاءِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَزِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ النَّارِ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ النَّارِ يُوقِدُونَهَا حَتَّى إذَا كَانَتْ فِي قُوَّتِهَا وَشَعْشَعَتِهَا اجْتَمَعُوا إلَيْهَا بِنِيَّةِ عِبَادَتِهَا ، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَى تَرْكِ تَشَبُّهِ الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى فِي زِيِّهِمْ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ ، وَالْوِلْدَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَتَنَجَّسُ الْجَامِعُ بِفَضَلَاتِهِمْ غَالِبًا وَكَثْرَةِ اللَّغَطِ ، وَاللَّغْوِ الْكَثِيرِ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ لَيْلَةِ السَّابِعِ ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَفِي هَذِهِ
اللَّيْلَةِ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ
وَأَكْبَرُ ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهَا فَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدَعِ كَيْفَ يَجُرُّ
بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ،
أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَامِعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ رَجَعَ كَأَنَّهُ
دَارُ شُرْطَةٍ لِمَجِيءِ الْوَالِي ، وَالْمُقَدَّمِينَ ، وَالْأَعْوَانِ
وَفَرْشِ الْبُسُطِ وَنَصَبِ الْكُرْسِيِّ لِلْوَالِي لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ
فِي مَكَان مَعْلُومٍ وَتُوقَدُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَشَاعِلُ
الْكَثِيرَةُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ وَيَقَعُ مِنْهَا بَعْضُ الرَّمَادِ
فِيهِ وَرُبَّمَا وَقَعَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا ، وَالْبَطْحُ لِمَنْ
يَشْتَكِي فِي الْجَامِعِ ، أَوْ تَأْتِيهِ الْخُصُومُ مِنْ خَارِجِ
الْجَامِعِ وَهُوَ فِيهِ ، هَذَا كُلُّهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ .
وَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْجَامِعِ
فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ مِنْ الْخُصُومِ ، وَالْجَنَادِرَةِ
وَغَيْرِهِمْ ، بَلْ اللَّغَطُ وَاقِعٌ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ فَكَيْفَ
بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى الشَّكَاوَى وَأَحْكَامِ الْوَالِي يَا
لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَيْهِ
أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إقَامَةُ حُرْمَةٍ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ
وَلِبَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُمْ أَتَوْهُ لِيُعَظِّمُوهُ
، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ ، وَهَذَا أَمْرٌ
أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ، إذْ أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ
أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لَرُجِيَ لَهُمْ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَلَكِنْ زَعَمُوا
أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْ الْقُرَبِ ، وَمَا
اعْتَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قَالَ
الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تُرْفَعُ أَيْ تُغْلَقُ وَلَا
تُفْتَحُ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي : أَنَّ تَرْفِيعَهَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحْكَامَ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ،
وَذَلِكَ
يَتَلَقَّى عَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْآخِذِينَ عَنْهُ
، وَتَعْظِيمُهُمْ لَهَا إنَّمَا كَانَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَمُذَاكَرَةِ
الْعِلْمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا يَعُمُّ جَعْفَرًا
يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ وَمَا يَخُصُّهُ يَخُصُّنَا ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْدَثَ
فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } أَيْ مَرْدُودٌ
عَلَيْهِ .
وَقَدْ بَنَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ رَحْبَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى الْبَطْحَاءُ ، وَقَالَ :
مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا ، أَوْ يَنْشُدَ ضَالَّةً
فَلْيَخْرُجْ إلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ فَإِنَّمَا الْمَسَاجِدُ لِمَا
بُنِيَتْ لَهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ
نَشَدَ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك
} .
وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ } ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَسْجِدُنَا هَذَا لَا
تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
: { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ وَسَلَّ
سُيُوفِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ ، وَاجْعَلُوا وُضُوءَكُمْ عَلَى
أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ } انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ
عَلَى صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ ،
وَصَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ
كُلِّهِ ؛ لِمَا فِيهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
فِعْلَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ بِدْعَةٌ ، وَلَوْ صَلَّاهَا
إنْسَانٌ وَحْدَهُ سِرًّا لَجَازَ ذَلِكَ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ فِي
كَرَاهِيَتِهِ تَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّبَاعِ
السَّلَفِ فِي ذَلِكَ
يَا لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ
مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ
أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ وَهُوَ خُرُوجُ الْحَرِيمِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
الشَّرِيفَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ ، وَهَذِهِ
اللَّيْلَةُ فِيهَا زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى غَيْرِهَا أَعْنِي كَثْرَةَ
خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقُبُورِ ، وَمَعَ بَعْضِهِنَّ الدُّفُّ يَضْرِبْنَ
بِهِ وَبَعْضُهُنَّ يُغَنِّينَ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ وَرُؤْيَتِهِمْ
لَهُنَّ مُتَجَاهَرِينَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ حَيَائِهِنَّ وَقِلَّةِ مَنْ
يُنْكِرُ عَلَيْهِنَّ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ لِلْعِبَادَةِ
وَهِيَ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ ،
وَالصُّلَحَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ مِنْ
الشُّبَّانِ ، وَالرِّجَالِ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي
وَأَكْثَرُهُمْ مُخْتَلِطُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضِ نِسَاءٌ وَشُبَّانٌ
وَرِجَالٌ قَدْ رَفَعُوا جِلْبَابَ الْحَيَاءِ ، وَالْوَقَارِ عَنْهُمْ
عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ
، إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْقُبُورِ بَيْنَ النِّسَاءِ ،
وَالرِّجَالِ أَعْنِي فِي كَشْفِ الْوُجُوهِ ، وَالْأَطْرَافِ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ فَيَا
لِلْعَجَبِ فِي انْكِشَافِهِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ
مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ ، وَالتِّذْكَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا
رَجَعْنَ إلَى الْبَلَدِ يَرْجِعْنَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ كَشْفِ
السُّتْرَةِ عَنْهُنَّ ، فَإِذَا وَصَلْنَ إلَى الْبَلَدِ تَنَقَّبْنَ ،
إذْ ذَاكَ وَاسْتَتَرْنَ ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ بَيْنَهُنَّ
شَعِيرَةً يَتَدَيَّنُ بِهَا أَعْنِي فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَتِرُ
فِي الْبَلَدِ ، وَفِي الْقُبُورِ ، وَالطَّرِيقِ إلَيْهَا مَكْشُوفَةُ
الْوَجْهِ لَا تَسْتَتِرُ مِنْ أَحَدٍ ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةٌ
مِنْ الْمَفَاسِدِ مِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ كَمَا سَبَقَ .
الثَّانِي :
انْتِهَاكُ حُرْمَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُعَظَّمَةِ ، وَهَذَا
الْيَوْمُ الْعَظِيمِ ، وَهَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ وَمَا أَشْبَهَ
ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ أَعْظَمُوا
الْمَعْصِيَةَ
بِفِعْلِهَا عَلَى الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخَشْيَةِ ،
وَالْفَزَعِ ، وَالِاعْتِبَارِ ، وَالْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ
لِهَذَا الْمَصْرَعِ الْعَظِيمِ الْمَهُولِ أَمْرُهُ ، فَرَدُّوا ذَلِكَ
لِلنَّقِيضِ ، وَجَعَلُوهُ فِي مَوْضِعِ فَرَحٍ وَمَعَاصٍ كَحَالِ
الْمُسْتَهْزِئِينَ .
الرَّابِعُ : أَذِيَّةُ الْمَوْتَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
الْخَامِسُ
: قِلَّةُ احْتِرَامِهِمْ لِتَعْظِيمِ جَنَابِ الْعُلَمَاءِ ،
وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَالصُّلَحَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ
يَمْضُونَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُمْ
اتَّصَفُوا بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ بِصِفَةِ النِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ
صِفَتُهُ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ وَإِظْهَارُهَا فِي الصُّورَةِ أَنَّهَا
طَاعَةٌ فَيَا لِلْعَجَبِ كَيْفَ يَقْدِرُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ أَنْ
يَسْمَعَ بِهَذِهِ الْمُنَاكِرِ وَلَا يَتَنَغَّصُ لَهَا وَلَا
يَتَشَوَّشُ مِنْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْحَدِيثِ فِيمَنْ لَمْ
يُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
{ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ
} .
فَكَيْفَ يَتْرُكُ حَرِيمَهُ ، أَوْ أَقَارِبَهُ ، أَوْ مَنْ
يَلُوذُ بِهِ يَخْرُجْنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُكُوبِهِنَّ
الدَّوَابَّ مَعَ الْمُكَارِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ نَصِيبٌ فِي الْخُرُوجِ إلَى
الْجَنَائِزِ وَلَا الْقُبُورِ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثُ
خَرَجَاتٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْوَالِ
الرَّدِيئَةِ فِي الْقُبُورِ حَتَّى صَارَ أَمْرُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
يَقُومُ إنْسَانٌ بِشَيْءٍ يَحْمِلُهُ كَالْقُبَّةِ عَلَى عَمُودٍ
حَوْلَهَا قَنَادِيلُ كَثِيرَةٌ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالشُّبَّانِ ، وَالرِّجَالِ جَمَاعَةٌ
كَثِيرَةٌ يَتَزَاوَرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ
مِنْ الْآفَاتِ فِي الدِّينِ ، وَالدُّنْيَا مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ،
ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُقِيمُونَ خَشَبَةً عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ ،
أَوْ
الْمَيِّتَةِ وَيَكْسُونَ ذَلِكَ الْعَمُودَ مِنْ الثِّيَابِ
مَا يَلِيقُ بِهِ عِنْدَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْ الْعُلَمَاءِ
، أَوْ الصُّلَحَاءِ جَعَلُوا يَشْكُونَ لَهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ
وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا يُؤَمِّلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ
غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَهْلِ ، وَالْأَقَارِبِ ، وَالْمَعَارِفِ فَعَلُوا
مِثْلَ ذَلِكَ وَجَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ مَعَهُ وَيَذْكُرُونَ لَهُ مَا
حَدَثَ لَهُمْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَرُوسًا ، أَوْ
عَرُوسَةً كَسَوْا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ يَلْبَسُهُ فِي
حَالِ فَرَحِهِ فَيَكْسُونَ الْمَرْأَةَ ثِيَابَ الْحَرِيرِ
وَيُحَلُّونَهَا بِالذَّهَبِ وَيَجْلِسُونَ يَبْكُونَ وَيَتَبَاكَوْنَ
وَيَتَأَسَّفُونَ ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَنَاقِضَةٌ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا
سَوَّلَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَهَذَا الَّذِي
يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ عَلَى الْخَشَبَةِ فِيهِ تَشَبُّهٌ فِي
الظَّاهِرِ بِالنَّصَارَى فِي كِسْوَتِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ ، وَالصُّوَرِ
الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا اخْتِلَاقًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فِي
مَوَاسِمِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ
الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ .
وَقَدْ
كَانَ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ فِي الظَّاهِرِ
إلَى الْمَشْيَخَةِ ، وَالْهِدَايَةِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ
الْوَقْتِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَفَعَلَ فِي زَاوِيَتِهِ
بِالْمَقَابِرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْوَقُودِ بِالْجَامِعِ فِي
هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى صَارَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ إلَى
ذَلِكَ قَصْدًا وَيَتْرُكُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْوَقُودِ فِي
الْبَلَدِ لِاشْتِمَالِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الزِّيَادَاتِ عَلَى مَا فِي
الْجَامِعِ لِتَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُهُمْ تَنَاوُلُ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ فِي الْبَلَدِ وَسَمَّى
هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيْلَةَ الْمَحْيَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ
يَلِيقُ بِهَا لَكِنْ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالْخَيْرِ ، وَالتَّضَرُّعِ
إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَطَلَبِ الْفَوْزِ بِطَاعَتِهِ ،
وَالنَّجَاةِ بِفَضْلِهِ مِنْ
مُخَالَفَتِهِ وَمَعَاصِيهِ لَا بِمَا
يَفْعَلُهُ هُوَ وَمَنْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَأَمْثَالُهُمْ ، وَصَارَ
الرِّجَالُ ، وَالنِّسَاءُ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ وَتَمَادَى ذَلِكَ
وَاشْتَهَرَ حَتَّى صَارَ عَادَةً لَهُمْ فَبَقِيَ النَّاسُ يَهْرَعُونَ
لِذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَنَصَبُوا الْخِيَامَ خَارِجَ
الزَّاوِيَةِ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ وَزَادَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ
بِذَلِكَ وَكَثُرَتْ الْبِدَعُ وَوَقَعَ الضَّرَرُ لِمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ
الْمَوْطِنَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَلِمَنْ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ
فَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلْأَحْيَاءِ بِحُضُورِ ذَلِكَ وَاسْتِحْسَانِهِ .
وَحُصُولُ
الضَّرَرِ لِلْأَمْوَاتِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ
الرَّدِيئَةِ ، إذْ أَنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ وَيَعْظُمُ عَلَيْهِمْ
ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ
النَّهْيُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ وَتَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ
عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجُلُوسِ لِقَضَاءِ
حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي تِلْكَ الْمَوْضِعِ
فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَيَفْعَلُونَ
ذَلِكَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَيَقَعُونَ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ فَلَمَّا
أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ وَتَوَلَّى ذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى قَامَ بَعْضُ
مَنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ كَعَادَةِ شَيْخِهِمْ
وَاسْتَأْكَلُوا بِذَلِكَ بَعْضَ الْحُطَامِ الَّذِي فِي أَيْدِي بَعْضِ
مَعَارِفِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي
الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ مِنْ الذَّمِّ وَصَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ
فِي الْغَالِبِ قَلَّمَا يَفُوتُهُمْ الْخُرُوجُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ إلَى شُهُودِ ذَلِكَ ، فَأَيْنَ الشَّفَقَةُ ، وَالرَّحْمَةُ
لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصِيحَةِ
لِنَفْسِهِ ، وَلِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ الْإِيمَانِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ
الْعُلَمَاءِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْأَوْلِيَاءِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ
الْمُتَّقِينَ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ يَزُورُونَهُمْ وَيَتَبَرَّكُونَ
بِهِمْ ؟ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ ، إذْ أَنَّ تَعْظِيمَهُمْ وَحُصُولَ بَرَكَتِهِمْ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ وَاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ لَا بِالْمُخَالَفَةِ وَاقْتِرَافِ الذُّنُوبِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ خَسْفِ الْقُلُوبِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ .
فَصْلٌ فِي
الْمَوْلِدِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَعَ
اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ
الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
مَوْلِدٍ وَقَدْ احْتَوَى عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةٍ .
فَمِنْ
ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ الْمَغَانِي وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنْ
الطَّارِ الْمُصَرْصَرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ
آلَةً لِلسَّمَاعِ وَمَضَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ
فِي كَوْنِهِمْ يَشْتَغِلُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي
فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَظَّمَهَا بِبِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ وَلَا
شَكَّ أَنَّ السَّمَاعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيهِ مَا فِيهِ .
فَكَيْفَ
بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي
فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَضَّلَنَا فِيهِ بِهَذَا النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَدْ
نَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ
مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ آلَاتِ الطَّرَبِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ
مُحَرَّمَةٌ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّارَ
الَّذِي فِيهِ الصَّرَاصِرُ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ الشَّبَّابَةُ وَيَجُوزُ
الْغِرْبَالُ لِإِظْهَارِ النِّكَاحِ .
فَآلَةُ الطَّرَبِ وَالسَّمَاعِ
أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَعْظِيمِ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ
الَّذِي مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ .
فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ
وَالْخَيْرِ شُكْرًا لِلْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَا
أَوْلَانَا مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ
الشُّهُورِ شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِرَحْمَتِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ وَرِفْقِهِ بِهِمْ
لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ
خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَمَا
وَصَفَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي
كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
لَكِنْ
أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ
الْعَظِيمِ { بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ
الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ } فَتَشْرِيفُ
هَذَا الْيَوْمِ مُتَضَمِّنٌ لِتَشْرِيفِ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ
فِيهِ .
فَيَنْبَغِي أَنْ نَحْتَرِمَهُ حَقَّ الِاحْتِرَامِ
وَنُفَضِّلَهُ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَشْهُرَ الْفَاضِلَةَ
وَهَذَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي } انْتَهَى .
وَفَضِيلَةُ
الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ
الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ
الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَتَشَرَّفُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا
يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ فِيهِ .
فَعَلَى
هَذَا يَنْبَغِي إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ أَنْ يُكَرَّمَ
وَيُعَظَّمَ وَيُحْتَرَمَ الِاحْتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ وَذَلِكَ
بِالِاتِّبَاعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَوْنِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخُصُّ الْأَوْقَاتَ
الْفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ فِيهَا وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ
.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى {
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ
بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ } فَنَمْتَثِلُ
تَعْظِيمَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ بِمَا امْتَثَلَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا ( فَصْلٌ ) فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ قَدْ الْتَزَمَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا
الْتَزَمَهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ مِمَّا قَدْ عُلِمَ وَلَمْ
يَلْتَزِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَا الْتَزَمَهُ فِي غَيْرِهِ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يَلْتَزِمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ شَيْئًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إنَّمَا هُوَ مَا
قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ
وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ سِيَّمَا فِيمَا كَانَ يَخُصُّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ حَرَمِ الْمَدِينَةِ { اللَّهُمَّ إنَّ
إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمَا
حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ } ثُمَّ إنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَشْرَعْ فِي قَتْلِ صَيْدِهِ
وَلَا فِي قَطْعِ شَجَرِهِ الْجَزَاءَ تَخْفِيفًا عَلَى أُمَّتِهِ
وَرَحْمَةً لَهُمْ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْظُرُ
إلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ
يَتْرُكُهُ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ فَمَا أَكْثَرَ شَفَقَتَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا
أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْيَمِينِ
الْغَمُوسِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا
شَرَعَهَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْيَمِينِ
الَّذِي أَجَازَ الْحَلِفَ بِهَا وَأَمَّا مَنْ يَتَعَمَّدُ الْيَمِينَ
الْكَاذِبَةَ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ
مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ إنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِانْغِمَاسِ صَاحِبِهَا
فِي النَّارِ وَلَمْ تَرِدْ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا
مُشَرِّعُونَ .
فَكَذَلِكَ قَتْلُ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ إذْ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ
يُكَفَّرَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَعَ مِنْ
الصَّيْدِ فِيهِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ جَزَاءً عَلَى مَنْ قَتَلَهُ
فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ
بِأَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
حَرَمِ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ
فِيهِ يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ
وَهُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فَعَلَى هَذَا فَتَعْظِيمُ هَذَا الشَّهْرِ
الشَّرِيفِ إنَّمَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الزَّاكِيَاتِ فِيهِ
وَالصَّدَقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَاتِ فَمَنْ عَجَزَ عَنْ
ذَلِكَ فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ
وَيُكْرَهُ لَهُ تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ وَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ
أَكْثَرُ احْتِرَامًا كَمَا يَتَأَكَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَيَتْرُكُ الْحَدَثَ فِي الدِّينِ وَيَجْتَنِبُ
مَوَاضِعَ الْبِدَعِ وَمَا لَا يَنْبَغِي .
وَقَدْ ارْتَكَبَ
بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ضِدَّ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ
إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الشَّرِيفُ تَسَارَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهْوِ
وَاللَّعِبِ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ .
فَمَنْ
كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْإِسْلَامِ
وَغُرْبَتِهِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ وَالْعَامِلِينَ بِالسُّنَّةِ .
وَيَا
لَيْتَهُمْ
لَوْ عَمِلُوا الْمَغَانِيَ لَيْسَ إلَّا بَلْ يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ
أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ فَيَبْدَأُ الْمَوْلِدَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ
الْعَزِيزِ وَيَنْظُرُونَ إلَى مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مَعْرِفَةً
بِالْهُنُوكِ وَالطُّرُقِ الْمُهَيِّجَةِ لِطَرِبِ النُّفُوسِ فَيَقْرَأُ
عَشْرًا .
وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وُجُوهٌ .
مِنْهَا مَا
يَفْعَلُهُ الْقَارِئُ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ
الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَالتَّرْجِيعُ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
الثَّانِي أَنَّ فِيهِ قِلَّةَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ احْتِرَامٍ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
الثَّالِثُ
أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْبِلُونَ
عَلَى شَهَوَاتِ نُفُوسِهِمْ مِنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ بِضَرْبِ الطَّارِ
وَالشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالتَّكْسِيرِ الَّذِي يَفْعَلُهُ
الْمُغَنِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ .
الرَّابِعُ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ
غَيْرَ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ صِفَةُ النِّفَاقِ
وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ يُرِيدُ
غَيْرَهُ اللَّهُمَّ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا .
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْتَدِئُونَ الْقِرَاءَةَ وَقَصْدُ بَعْضِهِمْ وَتَعَلُّقُ خَوَاطِرِهِمْ بِالْمَغَانِي .
الْخَامِسُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَى لَهْوِهِ بِمَا بَعْدَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
السَّادِسُ
أَنَّ بَعْضَ السَّامِعِينَ إذَا طَوَّلَ الْقَارِئُ الْقِرَاءَةَ
يَتَقَلْقَلُونَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ طَوَّلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَسْكُتْ
حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِمَا يُحِبُّونَهُ مِنْ اللَّهْوِ .
وَهَذَا
غَيْرُ مُقْتَضَى مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَهْلَ الْخَشْيَةِ
مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ سَمَاعَ كَلَامِ
مَوْلَاهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَدْحِهِمْ { وَإِذَا سَمِعُوا مَا
أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ
مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا
مَعَ الشَّاهِدِينَ } فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ
بِمَا ذُكِرَ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَسْتَعْمِلُونَ الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ
فَإِذَا سَمِعُوا
كَلَامَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ قَامُوا بَعْدَهُ
إلَى الرَّقْصِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالطَّرَبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ
الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ
الشَّيْطَانِ وَيَطْلُبُونَ الْأَجْرَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَيَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ فِي تَعَبُّدٍ وَخَيْرٍ وَيَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ
يَفْعَلُهُ سَفَلَةُ النَّاسِ وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى فَتَجِدُ
بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ
يَفْعَلُهُ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ أَعْنِي
فِي تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِيمَا ذُكِرَ
.
ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَكِيدَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالدَّسِيسَةُ مِنْ اللَّعِينِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ إذَا شَرِبَهُ أَوَّلَ مَا تَدِبُّ فِيهِ
الْخَمْرَةُ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ فَإِذَا قَوِيَتْ
عَلَيْهِ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ لِمَنْ حَضَرَهُ وَانْكَشَفَ مَا
كَانَ يُرِيدُ سَتْرَهُ عَنْ جُلَسَائِهِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا
اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمُغَنِّي إذَا غَنَّى تَجِدْ مَنْ لَهُ
الْهَيْبَةُ وَالْوَقَارُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ وَيَقْتَدِي
بِهِ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ وَالْعِبَارَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْخَيْرَاتِ
يَسْكُتُ لَهُ وَيُنْصِتُ فَإِذَا دَبَّ مَعَهُ الطَّرَبُ قَلِيلًا
حَرَّكَ رَأْسَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ
كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ إذَا تَمَكَّنَ الطَّرَبُ مِنْهُ ذَهَبَ
حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ
فَيَقُومُ وَيَرْقُصُ وَيُعَيِّطُ وَيُنَادِي وَيَبْكِي وَيَتَبَاكَى
وَيَتَخَشَّعُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ وَيَرْفَعُ
رَأْسَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ جَاءَهُ الْمَدَدُ مِنْهَا
وَيُخْرِجُ الرَّغْوَةَ أَيْ الزَّبَدَ مِنْ فِيهِ وَرُبَّمَا مَزَّقَ
بَعْضَ ثِيَابِهِ وَعَبِثَ بِلِحْيَتِهِ .
وَهَذَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ
إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَمْزِيقَ الثِّيَابِ مِنْ ذَلِكَ
هَذَا وَجْهٌ .
الثَّانِي
أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْعُقَلَاءِ إذْ أَنَّهُ
صَدَرَ مِنْهُ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَجَانِينِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ
.
الثَّالِثُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَفْسَهُ بِالْبَهَائِمِ إذْ التَّكْلِيفُ إنَّمَا خُوطِبَ بِهِ الْعُقَلَاءُ .
وَهَذَا
يَزْعُمُ أَنَّهُ سُلِبَ عَقْلُهُ وَلَوْ صَدَقَ فِي دَعْوَاهُ لَبَقِيَ
عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مُدَّةً وَلَكِنَّا نَرَاهُ عِنْدَ سُكُوتِ
الْمُغَنِّي يَسْكُنُ إذْ ذَاكَ وَيَرْجِعُ إلَى هَيْئَتِهِ وَيَلْبَسُ
ثِيَابَهُ وَيَلُومُ الْمُغَنِّيَ عَلَى سُكُوتِهِ وَلَوْمُهُ دَلِيلٌ
وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ مَعَ حُظُوظِ نَفْسِهِ سَامِعٌ لِقَوْلِ
الْمُغَنِّي إذْ لَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ كَمَا
يَزْعُمُ لَمَا أَحَسَّ بِالْمُغَنِّي وَلَا غَيْرِهِ إنْ تَكَلَّمُوا
أَوْ سَكَتُوا .
يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ
وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الدَّاءَ الْعُضَالَ وَهُوَ الْكَذِبُ
الْمَحْضُ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ
بِأَشْيَاءَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهَا فِي سِرِّهِمْ فَإِنْ
يَكُنْ مَا قَالُوهُ حَقًّا وَهُوَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِمَا ذَكَرُوا
فَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا
يَحْتَاجُونَ إلَى الشَّيْطَانِ إذْ أَنَّ نُفُوسَهُمْ أَغْنَتْ
الشَّيْطَانَ عَنْ تَكَلُّفِ أَمْرِهِمْ فَهِيَ تُحَدِّثُهُمْ وَتُسَوِّلُ
لَهُمْ فَيَتَحَدَّثُونَ فِي سِرِّهِمْ بِمَا يَخْطُرُ لِنُفُوسِهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ خُوطِبْنَا بِكَذَا وَكَذَا .
وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
يُطْلِعَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِهِ مَنْ هُوَ مُخَالِفٌ لِرَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَلِكِتَابِهِ وَلِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ ذُكِرَ لَهُ بِالْوِلَايَةِ فَقَصَدَهُ فَرَآهُ
يَتَنَخَّمُ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ فَانْصَرَفَ وَلَمْ
يُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ
آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَمِينًا عَلَى أَسْرَارِ الْحَقِّ .
وَقَدْ
وَعَظَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا مَنْ حَضَرَهُ فَقَامَ رَجُلٌ
فَصَاحَ وَمَزَّقَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لَهُ يُمَزِّقُ لِي عَنْ قَلْبِهِ
لَا عَنْ جَيْبِهِ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا
عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ ضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَطَرَ
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا نَظِيفَ الصُّورَةِ حَسَنَ
الْكِسْوَةِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ أَحَدًا مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ
يَتَصَنَّعُونَ فِي رَقْصِهِمْ بَلْ يَخْطُبُونَهُمْ لِلْحُضُورِ فَمَنْ
لَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ رُبَّمَا عَادُوهُ وَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ فِتْنَةً كَمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا وَهُمْ يَأْتُونَ
إلَى ذَلِكَ شَبَهَ الْعَرُوسِ الَّتِي تَجَلَّى لَكِنَّ الْعَرُوسَ
أَقَلُّ فِتْنَةً لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ حَيِيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ
الْعَنْبَرُ وَالطِّيبُ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ بَيْنَ أَثْوَابِهِمْ
وَيَتَكَسَّرُونَ مَعَ ذَلِكَ فِي مَشْيِهِمْ إذْ ذَاكَ وَكَلَامِهِمْ
وَرَقْصِهِمْ وَيَتَعَانَقُونَ فَتَأْخُذُهُمْ إذْ ذَاكَ أَحْوَالُ
النُّفُوسِ الرَّدِيئَةِ مِنْ الْعِشْقِ وَالِاشْتِيَاقِ إلَى
التَّمَتُّعِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ الشُّبَّانِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ
الشَّيْطَانُ وَتَقْوَى عَلَيْهِمْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ
وَيَنْسَدُّ عَلَيْهِمْ بَابُ الْخَيْرِ سَدًّا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ .
وَقَوْلُهُ
هَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ الْعَذْرَاءَ تَمْتَنِعُ النُّفُوسُ
الزَّكِيَّةُ ابْتِدَاءً مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا بِخِلَافِ الشَّابِّ .
لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى سُمٌّ وَالشَّابُّ لَا يَتَنَقَّبُ وَلَا يَخْتَفِي بِخِلَافِ الْعَذْرَاءِ .
وَالشَّيْطَانُ
مِنْ دَأْبِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ كُبْرَى أَجْلَبَ
عَلَيْهَا بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَبِعَمَلِ الْحِيَلِ الْكَثِيرَةِ
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُ النَّاظِرِ
بِالْعَذْرَاءِ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ
بِخِلَافِ الشَّابِّ .
هَذَا فِي حُضُورِ الشَّابِّ لَيْسَ إلَّا .
فَكَيْفَ
إذَا كَانَ مُغَنِّيًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَالصُّورَةِ وَيَنْشُدُ
التَّغَزُّلَ وَيَتَكَسَّرُ فِي صَوْتِهِ وَحَرَكَاتِهِ فَيُفْتَنُ بَعْضُ
مَنْ مَعَهُ مِنْ الرِّجَالِ .
وَبَعْضُ النِّسْوَةِ يُعَايِنُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ
نَظَرِهِنَّ مِنْ السُّطُوحِ وَالطَّاقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَيَرَيْنَهُ وَيَسْمَعْنَهُ وَهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَقَلُّ عُقُولًا فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ .
وَمَنْ
لَهُ عَقْلٌ أَوْ لَدَيْهِ بَعْضُ عِلْمٍ أَوْ هُمَا مَعًا وَلَهُ
غَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ كَيْفَ يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَصِفَ مَا ذُكِرَ
مِنْ أَمْرِ الشُّبَّانِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ .
فَإِنَّ
سَمَاعَ مِثْلِ ذَلِكَ لَهُنَّ يُهَيِّجُ قُلُوبَهُنَّ لِمَا تَقَدَّمَ
مِنْ رِقَّتِهِنَّ وَقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ مِنْ الْمَيْلِ إلَى رُؤْيَةِ
ذَلِكَ .
فَكَيْفَ يَتَسَبَّبُ فِي حُضُورِهِنَّ حَتَّى يُعَايِنَّ مَا يَفْتِنُهُنَّ وَيُغَيِّرُهُنَّ عَنْ وُدِّهِ .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى قَطْعِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا .
وَقَدْ
يَئُولُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَى الْفِرَاقِ فَيَفْسُدُ حَالُ
الزَّوْجِ وَحَالُ الزَّوْجَةِ جَزَاءً وِفَاقًا ارْتَكَبُوا مَا نُهُوا
عَنْهُ فَجَوَّزُوا عَلَيْهِ بِالنَّكِدِ الْعَاجِلِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ
إذَا حَصَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْأَقَارِبُ وَالْجِيرَانُ وَالْجَنَادِرَةُ
وَالْقَاضِي بَيْنَهُمْ وَتَشَتَّتَتْ أَحْوَالُهُمْ بَعْدَ جَمْعِهِمْ
وَصَارُوا فِرَقًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ وَأَنْشَدَ
بَعْضُهُمْ يَا عُصْبَةً مَا ضَرَّ أُمَّةَ أَحْمَدَ وَسَعَى عَلَى
إفْسَادِهَا إلَّا هِيَ طَارٌ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَادِنٍ أَرَأَيْت
قَطُّ عِبَادَةً بِمَلَاهِي وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ اللُّوطِيَّةُ عَلَى
ثَلَاثِ مَرَاتِبَ طَائِفَةٌ تَتَمَتَّعُ بِالنَّظَرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ
لِأَنَّ النَّظْرَةَ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ إجْمَاعًا .
بَلْ صَحَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ .
وَالطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ يَتَمَتَّعُونَ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ
وَالْمُعَانَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَدَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى .
وَلَا
يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّظَرِ
وَالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ وَالْمُعَانَقَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً
مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بَلْ الدَّوَامُ عَلَيْهِ يُلْحِقُهُ بِهَا
لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَإِذَا دَاوَمَ
عَلَى
الصَّغَائِرِ صَارَتْ كَبَائِرَ هَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ دَاوَمَ عَلَى
الصَّغَائِرِ وَصَارَتْ بِدَوَامِهِ عَلَيْهَا كَبَائِرَ .
وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى .
فَالْحَاصِلُ
أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفَاسِدَ جُمْلَةٍ مِنْ
اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا لَا يَحِلُّ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ .
وَيُقَالُ
إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ وَيَغْضَبُ الرَّبُّ تَعَالَى لِثَلَاثَةِ
أَعْمَالٍ لِقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَإِتْيَانِ الذَّكَرِ
لِلذَّكَرِ .
وَرُكُوبِ الْأُنْثَى الْأُنْثَى .
وَفِي الْخَبَرِ {
لَوْ اغْتَسَلَ اللُّوطِيُّ بِالْبِحَارِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إلَّا
التَّوْبَةُ } وَقَدْ قَالَ بَعْضُ صُوفِيَّةُ الشَّامِ نَظَرْت إلَى
غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ حَسَنِ الْوَجْهِ فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ
فَمَرَّ بِي ابْنُ الْجَلَاءِ الدِّمَشْقِيُّ وَأَخَذَ بِيَدِي
فَاسْتَحَيْتُ مِنْهُ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ
تَعَجَّبْت مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةِ
الْمُحْكَمَةِ كَيْفَ خُلِقَتْ لِلنَّارِ فَغَمَزَ يَدِي وَقَالَ
لَتَجِدَنَّ عُقُوبَتَهَا بَعْدَ حِينٍ فَعُوقِبْت بِتِلْكَ النَّظْرَةِ
بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً .
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْأَشْيَاخِ عَنْ مَنْصُورٍ الْفَقِيهِ .
قَالَ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ السُّكَّرِيِّ فِي النَّوْمِ فَقُلْت لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ .
فَقَالَ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْعَرَقِ حَتَّى سَقَطَ لَحْمُ وَجْهِي .
قُلْت وَلِمَ ذَلِكَ .
قَالَ نَظَرْت إلَى غُلَامٍ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا .
وَقَدْ
نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ
بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي
وَضَعَهُ فِي إنْكَارِ الْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ مُطْلَقًا مَعَ
سَلَامَتِهِ مِمَّا ذُكِرَ .
وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَافَ إلَيْهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
قَالَ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا مَعْنَاهُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّك لَوْ مَثَّلْت
بَيْنَ عَيْنَيْك جُلُوسَ هَؤُلَاءِ الْمُغَنِّينَ وَتَزَيُّنَهُمْ .
وَهَذِهِ
الْآلَاتِ وَهَيْئَتَهَا وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّمَاعُ الْيَوْمَ
مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَوَجَدْت نَفْسَكَ
تُنَزِّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ حُضُورِ هَذِهِ الْمَجَالِسِ وَرُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا
مَنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ
اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ انْتَهَى .
لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ الصَّادِقِينَ شِعَارُهُمْ
ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ مَشْيُهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ
اللَّعِبِ وَالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُلْطَةِ وَالْجُمُوعِ
وَالْقِيلِ وَالْقَالِ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ وَمَنْ
تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا
اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا وَمَا
أَقْبَحَهَا وَكَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ .
أَلَا تَرَى
أَنَّهُمْ خَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَفَعَلُوا الْمَوْلِدَ
لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى فِعْلِهِ بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ
مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالطَّرِيقِ
الْمُوَصِّلَةِ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ
بِالسُّنَّةِ مِنَّا إذْ هُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ
بِالْحَالِ .
وَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ
إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ عَوَائِدِ أَهْلِ الْوَقْتِ
وَمِمَّنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ
مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إذَا عَمِلَ بِالسَّمَاعِ فَإِنْ
خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا
إلَيْهِ الْإِخْوَانَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ
بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي
الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ
الْمَاضِينَ وَاتِّبَاعُ
السَّلَفِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ نِيَّةً مُخَالِفَةً
لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا
لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَهُمْ قَدَمُ السَّبْقِ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ
يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ وَنَحْنُ لَهُمْ
تَبَعٌ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ .
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
اتِّبَاعَهُمْ فِي الْمَصَادِرِ وَالْمَوَارِدِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
كِتَابِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى
يَصِيرَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا } انْتَهَى .
وَقَدْ
وَقَعَ مَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
وَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ
وَمَنْ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ بَخِيلٌ
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَقَالَ أَيْضًا
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاء كَلَامًا مَنْظُومًا فِي وَصْفِ
زَمَانِنَا هَذَا كَأَنَّهُ شَاهَدَهُ ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى
بِفِعَالِهِمْ وَالْمُنْكِرُونَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُنْكَرِ وَبَقِيت فِي
خُلْفٍ يُزَكِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَدْفَعَ مُعْوَرٌ عَنْ مُعْوَرِ
أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً فِي صُورَةِ الرَّجُلِ
السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٍ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ فَإِذَا
أُصِيبَ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ فَقِيهًا
مِثْلَهُ مَنْ يَسْعَ فِي عِلْمٍ بِلُبٍّ يَظْفَرْ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا
أَشْنَعَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَدَعُوا فِعْلَ الْمَوْلِدِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَشَوَّفَتْ نُفُوسُ النِّسَاءِ لِفِعْلِ ذَلِكَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ الْبِدَعِ
وَالْمُخَالَفَةِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ فَكَيْفَ إذَا فَعَلَهُ النِّسَاءُ لَا جَرَمَ أَنَّهُنَّ
لَمَّا فَعَلْنَهُ ظَهَرَتْ فِيهِ
عَوْرَاتٌ جُمْلَةٌ وَمَفَاسِدُ
عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ أَنَّهُ
يَكُونُ بَعْضُ النِّسَاءِ يَنْظُرُ إلَى الرِّجَالِ فَيَقَعُ مَا يَقَعُ
مِنْ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا
تَقَدَّمَ .
وَفِي الْمَوْلِدِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مَا هُوَ
أَعْظَمُ وَأَدْهَى لِأَنَّ بَعْضَ الرِّجَالِ يَتَطَلَّعُ عَلَيْهِنَّ
مِنْ بَعْضِ الطَّاقَاتِ وَمِنْ السُّطُوحِ وَرُبَّمَا عَرَفَ الرِّجَالُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ بَعْضَ النِّسْوَةِ الْحَاضِرَاتِ فَيَقُولُونَ هَذِهِ
زَوْجَةُ فُلَانٍ وَهَذِهِ بِنْتُ فُلَانٍ وَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نُفُوسُ
بَعْضِ الرِّجَالِ بِبَعْضِ مَنْ يَرَوْنَ .
وَكَذَلِكَ بَعْضُ النِّسْوَةِ رُبَّمَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهَا بِمَنْ رَأَتْهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالشُّبَّانِ .
فَقَدْ
يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الْفِتْنَةِ الْكُبْرَى
وَالْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ بَلْ
هُوَ أَشَدُّ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُنَّ
اقْتَدَيْنَ بِالرِّجَالِ فِي الذِّكْرِ جَمَاعَةً بِرَفْعِ
أَصْوَاتِهِنَّ كَمَا يَفْعَلُ الرِّجَالُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ
ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِأَدِلَّتِهِ سِيَّمَا وَأَصْوَاتُ
النِّسَاءِ فِيهَا مِنْ التَّرْخِيمِ وَالنَّدَاوَةِ مَا هُوَ فِتْنَةٌ
فِي الْغَالِبِ فِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ
فَتَكْثُرُ الْفِتْنَةُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَسْمَعُهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ
أَوْ الشُّبَّانِ وَأَصْوَاتُهُنَّ عَوْرَةٌ فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ
الَّذِي يُعْمَلُ فِيهِ الْمَوْلِدُ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى السُّوقِ
زَادَتْ الْفِتْنَةُ وَعَمَّتْ الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ مَنْ يَسْمَعُ أَوْ
يَرَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ تَصْفِيقَهُنَّ بِالْأَكُفِّ فِيهِ فِتْنَةٌ وَزِيَادَةٌ فِي إظْهَارِ الْعَوْرَاتِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا فِي
الْمَرْأَةِ إذَا نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا وَاضْطُرَّتْ إلَى
التَّصْفِيقِ أَنَّهَا تُصَفِّقُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهَا عَلَى ظَهْرِ
يَدِهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا خِيفَةَ صَوْتِ بَاطِنِ كَفَّيْهَا لِأَنَّ
ذَلِكَ عَوْرَةٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَرْقُصْنَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي رَقْصِ الشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مِنْ
الْعَوْرَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَفِي رَقْصِهِنَّ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ .
وَلِذَلِكَ أُمِرْنَ بِالسِّتْرِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ .
وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } وَقَدْ
عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِ النِّسْوَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ الْمَرْأَةَ
لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فِي الْغَالِبِ حَتَّى تَلْبَسُ أَحْسَنَ
ثِيَابِهَا وَتَتَطَيَّبُ وَتَتَزَيَّنُ ثُمَّ تُفْرِغُ عَلَيْهَا مِنْ
الْحُلِيِّ مَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَإِذَا رَقَصَتْ وَهِيَ عَلَى
هَذِهِ الْحَالَةِ زَادَتْ خَشْخَشَةُ الْحُلِيِّ فَقَدْ تُسْمَعُ مِنْ
بَعِيدٍ فَتَزِيدُ الْفِتْنَةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ إذْ لَا يَخْلُو
أَمْرُهُنَّ فِي الْغَالِبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرِّجَالِ
يَسْتَمِعُونَ وَبَعْضُهُمْ يَنْظُرُونَ فَتَكْثُرُ الْفِتَنُ وَتَفْسُدُ
الْقُلُوبُ وَتَتَشَوَّشُ .
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ
وَطَرَأَ عَلَيْهِ سَمَاعُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ رُؤْيَتُهُ
تَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ بَاطِنُهُ مِنْ
الْفِتْنَةِ الْمَعْهُودَةِ لَوَقَعَ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ جِهَةِ مَا
يَرَى أَوْ يَسْمَعُ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ فَإِنْ كَانَ التَّشْوِيشُ الْوَاقِعُ فِي
بَاطِنِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يَجِدُهُ الْبَشَرُ غَالِبًا فَقَدْ يُؤَوَّلُ
ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ
تَعَبُّدِهِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَخَافُ أَنْ يُصِيبَ مِنْ
فِتْنَةِ الْعُقُوبَةِ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا لِأَجْلِ فَسَادِ
حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ
لَا يَكُونُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَخُرُوجُهَا لِلْمَوْلِدِ
لَيْسَ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ لِلْبِدَعِ وَالْمَنَاكِيرِ
وَالْمُحَرَّمَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
ثُمَّ إنَّهُنَّ لَا
يَجْتَمِعْنَ لِلْمَوْلِدِ الَّذِي احْتَوَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ إلَّا بِحُضُورِ مَنْ يَزْعُمْنَ
أَنَّهَا شَيْخَةٌ
عَلَى عُرْفِهِنَّ وَقَدْ تَكُونُ وَهُوَ
الْغَالِبُ مِمَّنْ تُدْخِلُ نَفْسَهَا فِي التَّفْسِيرِ لِكِتَابِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتُفَسِّرُ وَتَحْكِي قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَتَزِيدُ
وَتُنْقِصُ وَرُبَّمَا وَقَعَتْ فِي الْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَهِيَ لَا
تَشْعُرُ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَرُدُّهَا وَيُرْشِدُهَا .
وَقَدْ
بَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي بَيْتِ شَيْخٍ مِنْ
الشُّيُوخِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيَّرَ عَلَيْهَا
أَحَدٌ بَلْ أَكْرَمُوهَا وَأَعْطَوْهَا .
وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْجُلُوسَ إلَى الْقُصَّاصِ مِنْ الرِّجَالِ
أَعْنِي الْوُعَّاظَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ
الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
كَانُوا يَرَوْنَ الْقِصَصَ بِدْعَةً وَيَقُولُونَ لَمْ يُقَصُّ فِي
زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي زَمَنِ
أَبِي بَكْرٍ وَلَا فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى
ظَهَرَتْ الْفِتْنَةُ فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ظَهَرَ الْقُصَّاصُ .
وَجَاءَ
ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَجْلِسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ
فَوَجَدَ قَاصًّا يَقُصُّ فَوَجَّهَ إلَى صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ
أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَهُ فَلَوْ كَانَتْ الْقِصَصُ مِنْ
مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْقُصَّاصُ عُلَمَاءَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ ابْنُ
عُمَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا مَعَ وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ .
وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ الْقَصَصُ بِدْعَةٌ .
وَرَوَيْنَا
عَنْ عَوْنِ بْنِ مُوسَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ سَأَلْت
الْحَسَنَ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُلْت أَعُودُ مَرِيضًا
أَحَبُّ إلَيْكَ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ عُدْ مَرِيضَكَ قُلْت
أُشَيِّعُ جِنَازَةً أَحَبُّ إلَيْك أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ
شَيِّعْ جِنَازَتَكَ قُلْت إنْ اسْتَعَانَ بِي رَجُلٌ فِي حَاجَتِهِ
أُعِينُهُ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ اذْهَبْ فِي حَاجَتِك .
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ
الْمَسْجِدِ وَقَالَ مَا أَخْرَجَنِي مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا الْقَاصُّ وَلَوْلَاهُ مَا خَرَجْت .
وَقَالَ ضَمْرَةُ قُلْت لِلثَّوْرِيِّ نَسْتَقْبِلُ الْقَاصَّ بِوُجُوهِنَا فَقَالَ وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ .
وَقَالَ
ابْنُ عَوْنٍ دَخَلْت عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ مَا كَانَ الْيَوْمَ
مِنْ خَبَرٍ فَقُلْت نَهَى الْأَمِيرُ الْقُصَّاصَ أَنْ يَقُصُّوا .
وَقَدْ
قَسَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامِ
فَوَصَفَهُمْ بِأَمَاكِنِهِمْ فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ ثَلَاثَةٌ
أَصْحَابُ الْكَرَاسِيِّ وَهُمْ الْقُصَّاصُ وَأَصْحَابُ الْأَسَاطِينِ
وَهُمْ الْمَفْتُون وَأَصْحَابُ الزَّوَايَا وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ
انْتَهَى .
وَقَدْ مَنَعَ عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كُلَّ مَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ حِينَ مَشَى
عَلَيْهِمْ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ مَا خَلَا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ
فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ وَسَأَلَهُ فَأَجَابَهُ بِمَا
يَنْبَغِي أَبْقَاهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ مِثْلُ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى
امْتَحَنَهُ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي زَمَانِنَا هَذَا .
وَمَعْلُومٌ
أَنَّ مَنْ أَقَامَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ وَأَدْيَنُ وَأَوْرَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ
عُلَمَاءِ زَمَانِنَا هَذَا وَصُلَحَائِهِمْ إذْ أَنَّهُمْ فِي خَيْرِ
الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَنَحْنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
فِي الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ فِيهِمْ بِضِدِّ حَالِ مَنْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ وَصِفَةُ مَا
يُفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَسَبَبُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ
يَنْقُلُونَ الْقِصَّةَ عَلَى مَا نُقِلَ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ
وَالْحِكَايَاتِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ أَنْ تُنْسَبَ
لِمَنْصِبِ مَنْ نُسِبَتْ إلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ قَالَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ عَصَى أَوْ
خَالَفَ فَقَدْ كَفَرَ نَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَثِيرٌ
مِنْ الرِّجَالِ مِمَّنْ يُطَالِعُ الْكُتُبَ وَيَعْرِفُ الصَّحِيحَ مِنْ
السَّقِيمِ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ فَكَيْفَ
بِالْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ مُعْوَجَّةٌ أَصْلًا وَفَرْعًا ثُمَّ إنَّهَا
مَعَ اعْوِجَاجِهَا قَلِيلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَإِنْ طَالَعَتْ
فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي عِنْدَهَا الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ
وَالْغَالِبُ فِي الْقَصَصِ وَالْحِكَايَاتِ الضَّعْفُ وَالْكَذِبُ
فَتَنْقُلُهُ إنْ كَانَتْ ثِقَةً عَلَى مَا رَأَتْهُ فَيَقَعُ الْخَطَأُ
فَكَيْفَ بِهَا إذَا حَرَّفَتْهُ فَزَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ فِيهِ فَتَضِلَّ
وَتُضِلَّ فَيَدْخُلْنَ النِّسْوَةُ فِي الْغَالِبِ وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ
فَيَخْرُجْنَ وَهُنَّ مُفْتَتَنَاتٌ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ فُرُوعِ
الدِّينِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } الْآيَةَ فِي
سُورَةِ طَه قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا الْيَوْمَ أَنْ يُخْبِرَ
بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْله
تَعَالَى عَنْهُ أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ فَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ ذَلِكَ
مِنْ قِبَلِ نَفْسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا
الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا الْمُمَاثِلِينَ لَنَا فَكَيْفَ بِأَبِينَا
الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ الْأَكْبَرِ لِلنَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْمُرْسَلِينَ انْتَهَى .
ثُمَّ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ كَيْفَ
يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ بِالْمَغَانِي وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ كَمَا
تَقَدَّمَ لِأَجْلِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِيهِ انْتَقَلَ إلَى كَرَامَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَفُجِعَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأُصِيبَتْ بِمُصَابٍ عَظِيمٍ لَا يَعْدِلُ
ذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْمَصَائِبِ أَبَدًا فَعَلَى هَذَا كَانَ
يَتَعَيَّنُ
الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ الْكَثِيرُ وَانْفِرَادُ كُلِّ
إنْسَانٍ بِنَفْسِهِ لِمَا أُصِيبَ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمْ الْمُصِيبَةُ
بِي } انْتَهَى فَلَمَّا ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْمُصِيبَةَ بِهِ ذَهَبَتْ كُلُّ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَرْءَ
فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَبَقِيَتْ لَا خَطَرَ لَهَا .
وَلَقَدْ
أَحْسَنَ حَسَّانُ حِينَ رَثَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِقَوْلِهِ كُنْتَ السَّوَادَ لِنَاظِرِي فَعَمَى عَلَيْكَ النَّاظِرُ
مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ فَانْظُرْ
فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَيْفَ يَلْعَبُونَ
فِيهِ وَيَرْقُصُونَ وَلَا يَبْكُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ وَلَوْ فَعَلُوا
ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَالِ لِأَجْلِ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ
وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ مِنْ أَجْلِ فَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ مُذْهِبًا لِلذُّنُوبِ وَمُمْحِيًا
لِآثَارِهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَالْتَزَمُوهُ لَكَانَ
أَيْضًا بِدْعَةً وَإِنْ كَانَ الْحُزْنُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ دَائِمًا لَكِنْ لَا
يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ لِذَلِكَ وَالتَّبَاكِي وَإِظْهَارِ
التَّحَزُّنِ بَلْ ذَلِكَ أَعْنِي الْحُزْنَ فِي الْقُلُوبِ فَإِنْ
دَمَعَتْ الْعَيْنُ فَيَا حَبَّذَا وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ إذَا كَانَ
الْقَلْبُ عَامِرًا بِالْحُزْنِ وَالتَّأَسُّفِ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ
بِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الذِّكْرُ لِهَذَا الْفَصْلِ
لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا الطَّرَبَ الَّذِي لِلنُّفُوسِ فِيهِ رَاحَةٌ
وَهُوَ اللَّعِبُ وَالرَّقْصُ وَالدُّفُّ وَالشَّبَّابَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ
مِمَّا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ
لِلنَّفْسِ فِيهِ رَاحَةٌ بَلْ الْكَمَدُ وَحَبْسُ النُّفُوسِ عَنْ
شَهَوَاتِهَا وَمَلَاذِّهَا .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَعْمَلُ
الْمَوْلِدَ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ لِوِلَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعْمَلُ يَوْمًا آخَرَ لِلْمَأْتَمِ
وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ
قَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ طَعَامًا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ لَيْسَ إلَّا
وَجَمَعَ لَهُ الْإِخْوَانَ فَإِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ .
هَذَا وَهُوَ
فِعْلٌ وَاحِدٌ ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالتَّقَرُّبُ لَيْسَ إلَّا فَكَيْفَ
بِهَذَا الَّذِي جَمَعَ بِدَعًا جُمْلَةً فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ .
فَكَيْفَ
إذَا كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْفَرَحِ وَمَرَّةً لِلْحُزْنِ
فَتَزِيدُ الْبِدَعُ وَيَكْثُرُ اللَّوْمُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَيْفَ زَادَتْ عَلَى مَا فِي
مَوْلِدِ الرِّجَالِ فَتَعَدَّتْ فِتْنَةُ الرِّجَالِ إلَى النِّسَاءِ
ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ آلَ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُرُوجِ إلَى
الْمَقَابِرِ وَهَتْكِ الْحَرِيمِ هُنَاكَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ مُخْتَلَطِينَ عَلَى الْوَاعِظِ أَوْ
الْوَاعِظَةِ وَتُنْصَبُ لَهُمْ الْمَنَابِرُ وَيَصْعَدُونَ عَلَيْهَا
يَعِظُونَ وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ وَيَتَمَايَلُونَ كَمَا قَدْ عُلِمَ
مِنْ أَفْعَالِ الْوُعَّاظِ وَزَعَقَاتِهِمْ بِتِلْكَ الطُّرُقِ
الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ وَالْهُنُوكُ الْمَذْمُومَةُ شَرْعًا الَّتِي
لَا تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ
أَعْجَبَهُمْ شَأْنُهُمْ وَيَتَمَايَلُونَ مَعَ كُلِّ صَوْتٍ
وَيَرْجِعُونَ بِحَسَبِ حَالِ ذَلِكَ الصَّوْتِ مَعَ التَّكْسِيرِ
وَالضَّرْبِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَالْكُرْسِيِّ وَإِظْهَارِ التَّحَزُّنِ وَالْبُكَاءِ وَهُوَ خَالٍ مِنْ
الْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
وَهُوَ عَرِيٍّ عَنْ التَّوْفِيقِ فِيهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ
{ إذَا اسْتَكْمَلَ نِفَاقُ الْمَرْءِ كَانَتْ عَيْنَاهُ بِحُكْمِ يَدِهِ
يُرْسِلُهُمَا مَتَى شَاءَ } انْتَهَى وَهَذَا نُشَاهِدُهُ مِنْ كَثِيرٍ
مِنْ النَّاسِ فَتَجِدُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ
مِنْ الظَّلَمَةِ تُذَكِّرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَوَاعِظِ أَوْ
التَّخْوِيفِ فَيُرْسِلُونَ دُمُوعَهُمْ إذْ ذَاكَ وَيَتَخَشَّعُونَ
وَيَتَضَرَّعُونَ ثُمَّ يَبْقَوْنَ عَلَى حَالِهِمْ لَا يُقْلِعُونَ وَلَا
يَرْجِعُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَفِي
خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ مِنْ الْكَشَفَةِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ
وَإِنَّ النِّسَاءَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا يَحْتَجِبْنَ
فَكَأَنَّ الرِّجَالَ فِي الْقُبُورِ صَارُوا نِسَاءً فَإِذَا دَخَلُوا
الْبَلَدَ رَجَعُوا رِجَالًا يُسْتَحْيَا مِنْهُمْ فِيهَا ( فَصْلٌ )
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِكَايَةِ
هَذَا الْعَدُوِّ اللَّعِينِ بَلْ بَعْضُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى
وَسْوَسَتِهِ
إذْ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَقَدْ قَرَّرُوا وَأَصَّلُوا أَنَّ
كُلَّ زَمَانٍ فَاضِلٍ يَشْغَلُونَهُ فِي الْغَالِبِ بِارْتِكَابِ
الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ
خُرُوجَ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ فِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ
وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ مِمَّا يَعُمُّ
وُجُودُهُ مِنْهُنَّ غَالِبًا وَلَا يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ
إلَّا فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الشَّرِيفَةِ كَلَيَالِي الْجُمَعِ
سِيَّمَا الْمُقْمِرَةُ مِنْهَا فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِيهَا تَكْثُرُ
فَعَامَلُوهَا بِالنَّقِيضِ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذْ أَنَّ
اللَّيَالِيَ الْمُقْمِرَةَ هِيَ لَيَالِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَهِيَ
أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ اللَّيَالِيِ الْمَعْلُومِ
فَضْلُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى فَإِنْ اجْتَمَعَ إلَى الْأَيَّامِ
الْبِيضِ وَلَيَالِيِهَا شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ
الْأَشْهُرِ أَوْ الْأَيَّامِ أَوْ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ فَتَزِيدُ
الْفَضَائِلُ إلَى فَضَائِلَ أُخَرَ فَتَتَأَكَّدُ الْحُرْمَةُ وَيَقَعُ
تَعْظِيمُ الثَّوَابِ وَالْخَيْرَاتِ لِمَنْ قَامَ بِحُرْمَةِ شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ .
فَلَمَّا أَنْ زَادَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ
قَابَلْنَهَا بِضِدِّ مَا يُرَادُ مِنْهُنَّ عَلَى عَوَائِدِهِنَّ
الذَّمِيمَةِ وَإِنْ كُنَّ لَمْ يَقْصِدْنَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي
الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِالنَّقِيضِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَيَنْهَتِكْنَ
فِي الْغَالِبِ فِي الْجُمُعَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْخَمِيسِ
فِي الْخُرُوجِ إلَى الْقُبُورِ وَالْجُمُعَةِ فِي إقَامَتِهِنَّ فِيهَا
وَالسَّبْتِ فِي رُجُوعِهِنَّ إلَى بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ
وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَالْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ لَكِنْ زَادَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِسَبَبِ
الْوُقُودِ فِي الزَّاوِيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ الْمَفَاسِدِ
الْكَثِيرَةِ بِسَبَبِ الْوَقُودِ فِيهَا وَفِي الْقُبُورِ أَشْنَعُ إذْ
فِيهِ تَفَاؤُلٌ لِمَنْ هُنَاكَ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ نَهَى
النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ
فَكَيْفَ يُفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى قَبْرِهِ وَأَعْظَمُ فِتْنَةٍ فِيهَا
اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مُخْتَلَطِينَ
وَاجْتِمَاعُهُمْ فِتْنَةٌ حَيْثُ وُجِدُوا لَكِنْ فِي الْقُبُورِ أَشَدُّ
وَأَعْظَمُ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ إنَّهُمْ ضَمُّوا لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ
الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِزِيَارَةِ السَّيِّدِ
الْحُسَيْنِ وَحُضُورِ بَعْضِهِنَّ سُوقَ الْقَاهِرَةِ لِمَا يَقْصِدْنَ
فِيهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا .
وَجَعَلْنَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِزِيَارَةِ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ حُضُورِ سُوقِ مِصْرَ
لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ .
وَيَوْمَ الْأَحَدِ
لِحُضُورِ سُوقِ مِصْرَ أَيْضًا فَلَمْ يَتْرُكْنَ الْإِقَامَةَ فِي
الْغَالِبِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ إنْ
سَلِمْنَ فِيهِ مِنْ الزِّيَارَةِ لِمَنْ يَخْتَرْنَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَأَيْنَ الضَّرُورَةُ الشَّرْعِيَّةُ .
وَلَوْ
حُكِيَ هَذَا عَنْ الرِّجَالِ لَكَانَ فِيهِ شَنَاعَةٌ وَقُبْحٌ فَكَيْفَ
بِهِ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
(
فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَإِنَّهَا لَا تَأْتِي إلَّا بِالشَّرِّ .
وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ قَدْ وَقَعَتْ بِهَدْمِ بُنْيَانِ
الْبُيُوتِ الَّتِي فِي الْقُبُورِ عَلَى مَا سَبَقَ فَلَوْ امْتَثَلْنَا
أَمْرَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ كُلُّهَا
وَكُفِيَ النَّاسُ أَمْرَهَا فَبِسَبَبِ مَا هُنَاكَ مِنْ الْبُنْيَانِ
وَالْمَسَاكِنِ وَجَدَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى حُصُولِ
أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ نَسْأَلُ اللَّهَ
الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا قَدْ قِيلَ مِنْ
الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ فَإِذَا هَمَّ الْإِنْسَانُ بِالْمَعْصِيَةِ
وَأَرَادَهَا وَعَمِلَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَفْعَلُهَا أَوْ
وَجَدَهُ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ مَكَانًا لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ فَهُوَ
نَوْعٌ مِنْ الْعِصْمَةِ .
فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ فِيهِ مَفَاسِدُ .
مِنْهَا هَتْكُ الْحَرِيمِ بِخُرُوجِهِنَّ إلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَيَجِدْنَ أَيْنَ يُقِمْنَ أَغْرَاضَهُنَّ هَذَا وَجْهٌ .
الثَّانِي
تَيْسِيرُ الْأَمَاكِنِ لِاجْتِمَاعِ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ
فَتَيْسِيرُ الْمَسَاكِنِ هُنَاكَ سَبَبٌ وَتَسْهِيلٌ لِوُقُوعِ
الْمَعَاصِي هُنَاكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْنِي الْبَيْتَ
مُجَاوِرًا لِلتُّرْبَةِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ
وَأَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَتَنْقَطِعُ آثَارُهُمْ وَتَبْقَى الدِّيَارُ
خَالِيَةً فَيَجِدُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى مُرَادِهِ
وَقَدْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ حَيَاةِ صَاحِبِهَا بِغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ .
وَقَدْ يَنْقَلِعُ بَابُهَا فَتَبْقَى مَأْوَى لِلْفَسَقَةِ وَاللُّصُوصِ .
الثَّالِثُ
: وَهُوَ أَكْبَرُ وَأَشْنَعُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ أَنَّ
الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
الْمَوْضِعَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ
مِنْهُ شَيْءٌ مَا مَوْجُودًا فِيهِ حَتَّى يَفْنَى فَإِذَا فَنِيَ
حِينَئِذٍ يُدْفَنُ غَيْرُهُ فِيهِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مَا مِنْ
عِظَامِهِ
فَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ كَجَمِيعِهِ .
وَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُحْفَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَلَا يُكْشَفَ
عَنْهُ اتِّفَاقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قَدْ غُصِبَ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَلْحَدَ مَيِّتًا
وَأُهِيلَ عَلَيْهِ بَعْضُ التُّرَابِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ يَاقُوتَةً
وَقَعَتْ فِي الْقَبْرِ لَهَا قِيمَةٌ أَوْ نَفَقَةٌ كَثِيرَةٌ فَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ مَا أُهِيلَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ لِأَخْذِ مَا
وَقَعَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
إضَاعَةِ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ
فَلَا يَجُوزُ الْكَشْفُ بَعْدَ إهَالَةِ شَيْءٍ مِنْ التُّرَابِ عَلَيْهِ
قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْكَشْفِ عَنْهُ
خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُ الْمَيِّتِ عَمَّا كَانَ
عَلَيْهِ فَمَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّتْرِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ
امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ
{ أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا }
فَالسَّتْرُ فِي الْحَيَاةِ سَتْرُ الْعَوْرَاتِ وَفِي الْمَمَاتِ سَتْرُ
جِيَفِ الْأَجْسَادِ وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي
الْقُبُورِ سَبَبًا إلَى خَرْقِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ
مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَفْرِ قُبُورِهِمْ وَالْكَشْفِ عَنْهُمْ بَلْ
يَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ الْأَمْوَاتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ
قِدَمٍ أَوْ طَرَاوَةٍ فِي الْقِفَافِ فَيَرْمُونَ ذَلِكَ فِي
الْمَزَابِلِ أَوْ يَدْفِنُونَهُ بَعْضَ دَفْنٍ وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ
لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ فَيَعْمَلُونَ فِي مَوَاضِعِ
الْقُبُورِ الْبُيُوتَ الْعَالِيَةَ وَالْمَرَاحِيضَ وَالسَّرَابَاتِ
وَيَنْقُلُونَ الْمَوْتَى وَفِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ
وَالْأَشْرَافُ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ
بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا بِمِصْرَ فَيَعْمَلُونَ فِي
مَوَاضِعِهِمْ السَّرَابَاتِ الَّتِي لِلْمَرَاحِيضِ فَتَعُمُّ
الْأَذِيَّةُ لِمَنْ نُقِلَ
مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَمْ يُنْقَلْ لِقُوَّةِ سَرَيَانِ النَّجَاسَةِ الْمُنْبَعِثَةِ إلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ .
وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ وَيَسْكُتُ لَهُ لِلْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ الْجَارِيَةِ فِيهِمْ وَبَيْنَهُمْ .
وَقَدْ
رَأَيْت ذَلِكَ عِيَانًا حَفَرَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا شَوْكَةَ
لَهُ مَوْضِعَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ فَرَأَيْت الْفَعَلَةَ وَهُمْ
يَنْقُلُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَرْمُونَهَا فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ حَتَّى بَنَى دَارًا عَظِيمَةً عَلَى زَعْمِهِمْ
وَحَمَّامًا وَإِصْطَبْلًا وَبِئْرًا وَحَوْضًا لِلسَّبِيلِ عَلَى
زَعْمِهِ بَلْ ارْتَكَبَ بَعْضُ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ أَمْرًا عَظِيمًا هُوَ
أَشَدُّ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَنْ يُبَاشِرُ
نَبْشَ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ الْأُسَارَى مِنْ
كُفَّارِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَيَأْخُذُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى
فِي الْقُفَفِ بَعْدَ حَفْرِهِمْ عَلَيْهِمْ أَذِيَّةً وَنِكَايَةً
وَحَسِيفَةً فَيَكْسِرُونَ الْعِظَامَ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَةَ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا } انْتَهَى ثُمَّ
إذَا أَخْرَجُوا الْعِظَامَ فِي الْقُفَفِ لِيَرْمُوهَا يَتَضَاحَكُونَ
عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَقَدْ يُنَادِي بَعْضُ الْأُسَارَى عَلَى
الْقُفَّةِ الَّتِي مَعَهُ فِيهَا عِظَامُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ
كَأَنَّهُ يَبِيعُ شَيْئًا يَقُولُ قُفَّةٌ بِرُبْعٍ قُفَّةٌ بِأَرْبَعِ
فُلُوسٍ قُفَّةٌ بِفَلْسَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اسْتِهْزَائِهِمْ .
وَكَيْفَ
لَا وَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ وَقَدْ وَجَدُوا السَّبِيلَ إلَى
الْجِهَادِ عَلَى زَعْمِهِمْ فَانْتَهَكُوا ذَلِكَ وَطَابَتْ
خَوَاطِرُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْهُ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ مَا أَعْظَمَ قُبْحَهَا وَمَا
أَشْنَعَهَا وَارْتِكَابِ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ فِيهَا كُلُّ ذَلِكَ
سَبَبُهُ تَسَامُحُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ فِي النَّهْيِ عَنْ
الْبُنْيَانِ فِي الْقُبُورِ وَوَقَعَ ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ بَلْ
بَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ
الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْوُصُولِ إلَى أَرْبَابِ الْأُمُورِ
تَجِدْ لَهُمْ فِيهَا مَوَاضِعَ عَالِيَةً عَظِيمَةً عِنْدَهُمْ
وَتَشَبَّهُوا فِي ذَلِكَ بِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بَلْ يَقِفُ بَعْضُ
مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى عَلَى تُرَبِهِمْ
الْأَوْقَافَ عَلَى الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالذَّاكِرِينَ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ حَالِهِمْ فِيمَا
يَفْعَلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا
وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَقِفُونَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالْبَوَّابِ
وَالْقَيِّمِ وَالْمُؤَذِّنِ وَعَلَى الزَّيْتِ لِوَقُودِ الْمَكَانِ
وَيُمْنَعُ الْوُقُودُ هُنَاكَ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ
السَّلَفِ فِي ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ
لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ
يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ فَكَيْفَ بِهِ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى
قَبْرِهِ .
وَالثَّالِثُ : إضَاعَةُ الْمَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَالْعَجَبُ
الْعَجِيبُ مِنْ كَوْنِهِمْ يُفْتُونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ
الْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْبَشَ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَلَا أَنْ
يُتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ الْمَرَاحِيضِ وَالْفَسَاقِي الْمَمْلُوءَةِ بِالْمَاءِ
لِلِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَقِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَقْفًا فَيَكُونُ
الْوَقْفُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَنْ يَبُولُ عَلَيْهِمْ
وَيُنَجِّسُهُمْ فَتَجِدُ أَكْثَرَ دُورِهِمْ أَكْثَرَ تَنْجِيسًا
لِزِيَادَةِ الِاجْتِمَاعِ عِنْدَهُ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ
وَقَوْمَةِ الْمَكَانِ وَمَنْ كَانَ يَأْتِي إلَيْهِمْ وَإِلَى
زِيَارَتِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
فَإِذَا عُلِمَ مَا
ذُكِرَ وَتَحَقَّقَ بِمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا بَطَلَ إذْ ذَاكَ الْوَقْفُ
؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي
نَفْسِهِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ مُنَافٍ لِلْقُرْبَةِ قَطْعًا فَأَيْنَ
الْقُرْبَةُ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ
يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ يَتَفَاخَرُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فِي
صِفَةِ الرُّخَامِ الَّذِي يَفْرِشُونَهُ حَوْلَ الْقَبْرِ
وَعَلَيْهِ .
وَأَمَّا
بُنْيَانُ الْقَبْرِ وَالْأَعْمِدَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالسُّقُوفِ
الْمُذَهَّبَةِ وَالتَّصَاوِيرِ الَّتِي فِي بَعْضِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ كَيْفَ يَنْعَكِسُ مُرَادُ مَنْ خَالَفَهُ إلَى ضِدِّهِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا الْأَوْقَافَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَمَا قَصَدُوا بِالْأَوْقَافِ إلَّا كَثْرَةَ
التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَعَلُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا
كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ انْعَكَسَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ فَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبًا لِعَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ مِمَّنْ
يَأْتِي لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، أَوْ يَمُرُّ بِهَا إذْ أَنَّهُمْ
مَحْجُوبُونَ بِتِلْكَ الْقُصُورِ وَالْأَبْوَابِ وَالْحُجَّابِ مِنْ
الطَّوَّاشِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى حَالِ
رِيَاسَتِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَصْحَبُوا ذَلِكَ حَتَّى فِي الْقُبُورِ ( فَصْلٌ )
ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنْهُمْ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ وَعُمْدَتُهَا
إذْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ الْوَرَعُ وَكُلُّ أَحَدٍ فِيهِ عَلَى
مَرْتَبَتِهِ وَالْوَرَعُ بِالْمَرْءِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ مَوْتِهِ ،
أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي حَيَاتِهِ إذْ
أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا إقَامَةٌ إلَّا أَنْفَاسٌ
يَسِيرَةٌ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِلِقَاءِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَرَعِ لِلْحَدِيثِ
الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْ قُمْتُمْ
حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا
كَالْأَوْتَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَرَعٌ حَاجِزٌ لَمْ يَمْنَعْكُمْ
ذَلِكَ مِنْ النَّارِ } انْتَهَى .
فَعَكَسَ هَؤُلَاءِ الْأَمْرَ
وَجَمَعُوا الْمَالَ مِنْ وَجْهِهِ وَمِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَغَصَبُوا
مَوَاضِعَ قُبُورِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ رَاحِلُونَ لِأَوَّلِ
مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَبَنَوْا وَشَيَّدُوا الدِّيَارَ
وَغَيْرَهَا
مِنْ مَالٍ جُمِعَ مِنْ الشُّبُهَاتِ ، أَوْ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ هُمَا
مَعًا عَكْسُ خِصَالِ الْمُتَّقِينَ بَلْ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَصْبُ مِنْ
الْكَبَائِرِ فِيمَا هُوَ لِلْأَحْيَاءِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ لِلْمَوْتَى
خُصُوصًا فَغَصَبُوا حُقُوقَ الْمَوْتَى وَبَنَوْا فِيهَا بِتِلْكَ
الْأَمْوَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ غَصَبَ شِبْرًا
مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ }
انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا
مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا أَوْقَافًا عَلَى تِلْكَ
الْمَوَاضِعِ الْمَغْصُوبَةِ وَتَسَبَّبُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا
عَلَى انْبِعَاثِ النَّجَاسَاتِ عَلَى قُبُورِ أَنْفُسِهِمْ وَقُبُورِ
غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
ثُمَّ
الْعَجَبُ فِي حُكْمِهِمْ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ كَيْفَ يُمْكِنُ
وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفُ لِلْوَقْفِ مَصْرِفًا
غَيْرَ مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ فَلِمَنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ
بِبُطْلَانِهِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ ( فَصْلٌ )
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَلَا يَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي تِلْكَ
الْمَوَاضِعِ لِلتَّرَحُّمِ وَلَا لِحُضُورِ دَفْنِ الْجِنَازَةِ هُنَاكَ
وَلَا لِغَيْرِهِمَا إذْ أَنَّ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَغْصُوبَةٌ لِمَوْتَى
الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ
ارْتَكَبَ مَا لَا يَنْبَغِي وَمَعَ ذَلِكَ يَخْرُجُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ
عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ
لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ انْتَهَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْإِنْكَارُ هَاهُنَا لَا مَحَلَّ لَهُ إذْ أَنَّ مَنْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ قَدْ مَاتَ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ فِي تَرْكِ الدُّخُولِ فِيهِ فَائِدَةً كُبْرَى إذْ أَنَّ فِيهِ
رَدْعًا وَزَجْرًا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ مِنْ
الْأَحْيَاءِ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ
كَيْفِيَّةَ تَتَبُّعِ اللَّعِينِ إبْلِيسَ
السُّنَنَ الشَّرِيفَةَ
لَا يَجِدُ سُنَّةً إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى تَرْكِهَا بِكَيْدِهِ
وَتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ ثُمَّ يُبَدِّلُهَا بِضِدِّهَا أَلَا تَرَى
أَنَّ السُّنَّةَ فِي النِّسَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهِنَّ الِاخْتِفَاءُ
وَالْحِجَابُ الْمَنِيعُ وَمَهْمَا أَمْكَنَ كَانَ أَوْلَى وَأَوْجَبَ
وَفِي حَالِ الْمَمَاتِ لَمْ تُفَرِّقْ السُّنَّةُ بَيْنَ قُبُورِ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ الْقُبُورِ لَيْسَ
لِأَحَدِهِمَا زِيٌّ يَخْتَصُّ بِهِ .
وَأَنْتَ تَرَى حَالَ بَعْضِ
النِّسْوَةِ الْيَوْمَ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ ذَلِكَ فَتَرَاهُنَّ فِي
حَالِ الْحَيَاةِ يَتَبَرَّجْنَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَقَدَّمَ
ذِكْرُهَا وَغَيْرِهَا ثُمَّ إنَّهُنَّ إذَا مُتْنَ يَجْعَلْنَ عَلَى
قُبُورِهِنَّ أَعْنِي مَنْ قَدَرَ مِنْهُنَّ فَيَجْعَلْنَ فِي التُّرَبِ
الْحُجَّابَ مِنْ الطَّوَّاشِيَّةِ وَالْبَوَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا
يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَمْ يَرْضَوْهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ
فَعَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَّ فِي قُبُورِهِنَّ
عَكْسُ الْحَيَاةِ فَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ
إلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ بَرَكَةِ مَنْ يَزُورُ الْقُبُورَ ، أَوْ
يَتَرَحَّمُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَمُرُّ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ
مَنْ يُبَكِّرُ مِنْ الرِّجَالِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ
كَمَا يَزْعُمُونَ ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا
بِالشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ أَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لَا يَتَّصِفُ بِهِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ ،
وَإِنَّمَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالذُّلِّ
وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالتَّصَاغُرِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا
أَشْبَهَهَا هِيَ الَّتِي تَنَزَّهَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَنْهَا وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَرَفٌ وَلَا تَقَرُّبٌ إلَّا بِهَا فَإِنْ
انْخَرَمَ شَيْءٌ مِنْهَا نَقَصَ مِنْ حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى
بِقَدْرِ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى
عَكْسِ الْحَالِ .
كَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعُلَمَاءِ فَصَارَ الْيَوْمَ الْأَمْرُ
بِالْعَكْسِ
، وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَرْتَكِبُ مَا لَا يَنْبَغِي
كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْتِي الْعَالِمُ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي
ذَلِكَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ فَعَمَّتْ
الْفِتْنَةُ وَاسْتَحْكَمَتْ هَذِهِ الْبَلِيَّةُ فَلَا تَجِدُ فِي
الْغَالِبِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُعِينُ عَلَى
زَوَالِهِ ، أَوْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، أَوْ مُحَرَّمٌ .
فَإِنْ
قِيلَ إنَّ مَنْ تَرَحَّمَ عَلَى الْقُبُورِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي
تَرَحُّمِهِ مَنْ كَانَ خَلْفَ بُنْيَانٍ ، أَوْ غَيْرِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَصْدَ الزَّائِرِ أَوْ الْمَارِّ التَّرَحُّمُ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ وَمَنْ رَآهُمْ مِنْ الْقُبُورِ .
وَأَمَّا
مَنْ هُوَ خَلْفَ حِجَابٍ وَلَمْ يَقْصِدْهُ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ
مِنْ تَرَحُّمِهِ لِانْعِزَالِ الْمَدْفُونِ بِحِجَابِ مَا بِالتُّرْبَةِ
الْمُشَيَّدَةِ وَغَيْرِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعُمَّ بِدُعَائِهِ
مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمَنْ فَعَلَ
هَذَا الْفِعْلَ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ مَاتَ عَلَى
الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْمُورٌ
بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ بِالْقَلْبِ وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَالْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ
الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى الدُّعَاءَ وَالتَّرَحُّمَ لِمَنْ
قَبْرُهُ عَلَى مَا وُصِفَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِأَنْ
يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِهِ مَا بَنَوْهُ وَشَيَّدُوهُ وَغَصَبُوهُ
لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَوَاضِعِ دَفْنِهِمْ وَمَنْ دَعَا لَهُمْ
أَوْ تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ ؛
لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَرَحَّمُونَ
عَلَيْهِمْ إذَا اتَّصَفُوا بِمَا ذُكِرَ لَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ .
وَلِهَذَا
الْمَعْنَى أُمِرْنَا بِهِجْرَانِ مَنْ أُمِرْنَا بِهِجْرَانِهِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا فِي حَقِّ
الْأَحْيَاءِ ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَلَا فَائِدَةَ فِي هِجْرَانِهِمْ
بِتَرْكِ الدُّعَاءِ لَهُمْ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ
الْمُكَلَّفَ
الْعَالِمَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ
عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ
وَذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْهُمْ فَلَا
يَدْعُو لَهُمْ .
وَفِي عَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا
فَائِدَةٌ كُبْرَى ، وَهُوَ الرَّدْعُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ
عَمَلَهُمْ وَيَحْذُوَ حَذْوَهُمْ وَلَوْ فِي بَعْضِ النَّاسِ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ .
فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ الْيَوْمَ عَلَى
هَذَا الْحَالِ لَعَلَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ ثَوَابُ
التَّأَسُّفِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْخَيْرِ
وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يُكْتَبُ مِنْ حِزْبِهِمْ إذْ أَنَّ
مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا كَمَا يَنْبَغِي شَرْعًا أُلْحِقَ بِهِمْ .
وَلَمْ
تَزَلْ الْأَكَابِرُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ عِنْدَ
مَوْتِهِمْ بِأَنْ يُدْفَنُوا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَيْ يَصِلَ
إلَيْهِمْ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ
يَتَرَحَّمُ ، أَوْ يَسْتَغْفِرُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَدْ خَرَجْنَا عَمَّا كُنَّا بِصَدَدِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْقُبُورِ وَوَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِهَا .
ثُمَّ
نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ
مَسَائِلِ الْمَوْلِدِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ
فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْمَغَانِي الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَيُعَوِّضُ
عَنْ ذَلِكَ الْقُرَّاءَ وَالْفُقَرَاءَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
مُجْتَمَعِينَ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالْهُنُوكِ كَمَا عُلِمَ مِنْ
عَادَةِ الْقُرَّاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَكَذَلِكَ الْفُقَرَاءُ .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْع ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَوْلِدِ فَكَيْفَ
بِهِ فِي الْمَوْلِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَطْعَمَ
الْإِخْوَانَ لَيْسَ إلَّا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ
فَكَيْفَ بِهِ هُنَا فَمِنْ بَابِ أَحْرَى الْمَنْعُ مِنْهُ .
وَقَدْ يَحْصُلُ فِي هَذَا مِنْ الْمَفَاسِدِ بَعْضُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ أَكْثَرُ ، أَوْ مِثْلُهُ .
وَبَعْضُهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ هَذَا وَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ
بِقِرَاءَةِ
الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ
قِرَاءَةُ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَكْبَرِ الْقُرَبِ
وَالْعِبَادَاتِ وَفِيهَا الْبَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْخَيْرُ
الْكَثِيرُ لَكِنْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ اللَّائِقِ بِهِ عَلَى
الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ كَمَا يَنْبَغِي لَا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ فَعَلَهَا إنْسَانٌ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ
الْمُشْرَعِ لَهَا لَكَانَ مَذْمُومًا مُخَالِفًا فَإِذَا كَانَتْ
الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا بَالَك بِغَيْرِهَا
(
فَصْلٌ ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَوْلِدَ لَا لِمُجَرَّدِ
التَّعْظِيمِ وَلَكِنْ لَهُ فِضَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ كَانَ
قَدْ أَعْطَاهَا فِي بَعْضِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَوَاسِمِ وَيُرِيدُ أَنْ
يَسْتَرِدَّهَا وَيَسْتَحْيِ أَنْ يَطْلُبَهَا بُدَاءَةً فَيَعْمَلُ
الْمَوْلِدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَخْذِ مَا اجْتَمَعَ لَهُ
عِنْدَ النَّاسِ ، وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ : أَحَدُهَا :
وَهُوَ أَشَدُّهَا أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ النِّفَاقِ ، وَهُوَ
أَنَّهُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ إذْ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ
عَمِلَ الْمَوْلِدَ يَبْتَغِي بِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَبَاطِنُهُ
أَنَّهُ يَجْمَعُ بِهِ فِضَّتَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ
الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ
وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ
تَكُونَ لَهُ دُنْيَا وَيَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ مِنْ الْفُقَرَاءِ
الْمَسَاكِينِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِتَزِيدَ دُنْيَاهُ بِمُسَاعَدَةِ
النَّاسِ لَهُ فَيَزْدَادَ هَذَا فَسَادًا عَلَى الْمَفَاسِدِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَهُوَ
أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِذَلِكَ ثَنَاءَ النَّاسِ
عَلَيْهِ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ الْمَحَامِدَ كَثِيرًا ، وَهَذَا فِيهِ مَا
فِيهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ
إلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ يَخَافُ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَشَرِّهِ
فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يُسَاعِدَهُ النَّاسُ تَقِيَّةً عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ فَيَزْدَادَ مِنْ الْحُطَامِ بِسَبَبِ مَا
فِيهِ مِنْ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ ؛
لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْ شَرِّهِ
فَهُوَ مَعْدُودٌ بِفِعْلِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي
مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْحَالِ
فَيُرِيدَ أَنْ يَتَّسِعَ حَالُهُ فَيَعْمَلَ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ ذَلِكَ
.
الثَّانِي مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْفُقَرَاءِ لَكِنْ لَهُ
لِسَانٌ يُخَافُ مِنْهُ وَيُتَّقَى لِأَجْلِهِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ
حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا مِمَّنْ
يَخْشَاهُ
وَيَتَّقِيهِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ مِنْ حُضُورِ الْمَوْلِدِ
الَّذِي يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنْ مَعَارِفِهِ لَحَلَّ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ
مَا يَتَشَوَّشُ بِهِ وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْعَدَاوَةِ ، أَوْ
الْوُقُوعِ فِي حَقِّهِ فِي مَحَافِلِ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ قَاصِدًا
بِذَلِكَ حَطَّ رُتْبَتِهِ بِالْوَقِيعَةِ فِيهِ ، أَوْ نَقْصَ مَالِهِ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُهُ مَنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى
مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى مَنْ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَشَوَّفُ نَفْسُهُ إلَى الثَّنَاءِ وَالْمِدْحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَهَذَا
الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَفَاسِدِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ
وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّسَائِسِ وَدُخُولِ وَسَاوِسِ النُّفُوسِ
وَشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَتَعَذَّرُ حَصْرُهُ .
فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ أَعْطَى قِيَادَهُ لِلِاتِّبَاعِ وَتَرَكَ الِابْتِدَاعَ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ
(
فَصْلٌ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُصَّ مَوْلِدُهُ الْكَرِيمُ بِشَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ وَبِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ
وَالْمَشْهُورِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَفِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ
وَاخْتُصَّ بِفَضَائِلَ عَدِيدَةٍ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ
الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا الْحُرْمَةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَلَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا فِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا فِي لَيْلَتِهَا .
فَالْجَوَابُ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
انْتَهَى .
وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ ، وَهُوَ أَنَّ خَلْقَ
الْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي
يَتَغَذَّى بِهَا بَنُو آدَمَ وَيَحْيَوْنَ وَيَتَدَاوَوْنَ وَتَنْشَرِحُ
صُدُورُهُمْ لِرُؤْيَتِهَا وَتَطِيبُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَتَسْكُنُ بِهَا
خَوَاطِرُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِتَحْصِيلِ
مَا يُبْقِي حَيَاتَهُمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ حِكْمَةِ
الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوُجُودُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي هَذَا الشَّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قُرَّةُ عَيْنٍ
بِسَبَبِ مَا وُجِدَ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالْبَرَكَةِ
الشَّامِلَةِ لِأُمَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
الْوَجْهُ
الثَّانِي أَنَّ ظُهُورَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ
رَبِيعٍ فِيهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ تَفَطَّنَ إلَيْهَا
بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِقَاقِ لَفْظَةِ رَبِيعٍ إذْ أَنَّ فِيهِ
تَفَاؤُلًا حَسَنًا بِبِشَارَتِهِ لِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَالتَّفَاؤُلُ لَهُ أَصْلٌ أَشَارَ إلَيْهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ
اسْمِهِ نَصِيبٌ هَذَا فِي الْأَشْخَاصِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَفَصْلُ الرَّبِيعِ فِيهِ
تَنْشَقُّ الْأَرْضُ
عَمَّا فِي بَاطِنِهَا مِنْ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَأَرْزَاقِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْعِبَادِ وَحَيَاتُهُمْ
وَمَعَايِشُهُمْ وَصَلَاحُ أَحْوَالِهِمْ فَيَنْفَلِقُ الْحَبُّ
وَالنَّوَى وَأَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْأَقْوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ فِيهَا
فَيَبْتَهِجُ النَّاظِرُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا وَتُبَشِّرُهُ بِلِسَانِ
حَالِهَا بِقُدُومِ رَبِيعِهَا وَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إلَى
الِاسْتِبْشَارِ بِابْتِدَاءِ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
أَلَا
تَرَى أَنَّكَ إذَا دَخَلْت بُسْتَانًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ
تَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّهُ يَضْحَكُ لَك وَتَجِدُ زَهْرَهُ كَأَنَّ
لِسَانَ حَالِهِ يُخْبِرُكَ بِمَا لَكَ مِنْ الْأَرْزَاقِ الْمُدَّخَرَةِ
وَالْفَوَاكِهِ .
وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ إذَا ابْتَهَجَ نَوَارُهَا كَأَنَّهُ يُحَدِّثُكَ بِلِسَانِ حَالِهِ كَذَلِكَ أَيْضًا .
فَمَوْلِدُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ مِنْ
الْإِشَارَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ وَذَلِكَ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ
مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى التَّنْوِيهِ بِعَظِيمِ
قَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَحِمَايَةٌ
لَهُمْ مِنْ الْمَهَالِكِ وَالْمَخَاوِفِ فِي الدِّينِ وَحِمَايَةٌ
لِلْكَافِرِينَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا
لِأَجْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } وَكَيْفَ لَا
يَكُونُ ذَلِكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَإِدْرَارُ
نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكْثُرُ عِنْدَ
الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَنِ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَمُخَالَفَةِ الْعَدُوِّ اللَّعِينِ
وَجُنُودِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
حِينَ خُرُوجِهِ إلَى هَذَا الْوُجُودِ لَمْ يَقْدِرْ اللَّعِينُ إبْلِيسُ
وَجُنُودُهُ عَلَى الْقَرَارِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَا فِي
الثَّانِيَةِ وَلَا فِي الثَّالِثَةِ إلَى أَنْ نَزَلُوا إلَى الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ فَخَلَتْ
الْأَرْضُ مِنْهُمْ بِبَرَكَةِ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى خُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ هَذَا اللَّعِينِ وَجُنُودِهِ .
وَقَدْ
وَرَدَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُمْ يُقَيَّدُونَ فَأَيْنَ
التَّقْيِيدُ مِنْ نَفْيِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى تُخُومِ الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ .
وَفِي هَذَا إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى
كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِ
وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ وَبِمَنْ تَبِعَهُ .
فَإِنْ قِيلَ إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ تُقَيَّدُ الشَّيَاطِينُ فِي جَمِيعِهِ .
فَلَا
شَكَّ أَنَّ نَفْيَهُمْ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى فِي
يَوْمِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمُ مِنْ
تَقْيِيدِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ إذْ فِيهِ ظُهُورُ مَزِيَّةِ
الْوَقْتِ الَّذِي خَلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الْعَدُوِّ وَجُنُودِهِ فِيهِ
فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَوَقَعَتْ
الْبَرَكَاتُ وَإِدْرَارُ الْأَرْزَاقِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا مِنَّةُ
اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِهِدَايَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَهُمْ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى
أَنْ يُعَرِّفَنَا بَرَكَةَ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ
دِينًا وَدُنْيَا وَآخِرَةً بِفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ آمِينَ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا فِي شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ شَبَهِ الْحَالِ .
أَلَا
تَرَى أَنَّ فَصْلَ الرَّبِيعِ أَعْدَلُ الْفُصُولِ وَأَحْسَنُهَا إذْ
لَيْسَ فِيهِ بَرْدٌ مُزْعِجٌ وَلَا حَرٌّ مُقْلِقٌ وَلَيْسَ فِي لَيْلِهِ
وَنَهَارِهِ طُولٌ خَارِقٌ بَلْ كُلُّهُ مُعْتَدِلٌ وَفَصْلُهُ سَالِمٌ
مِنْ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا
النَّاسُ فِي أَبْدَانِهِمْ فِي زَمَانِ الْخَرِيفِ بَلْ النَّاسُ
تَنْتَعِشُ فِيهِ قُوَاهُمْ وَتَصْلُحُ أَمْزِجَتُهُمْ وَتَنْشَرِحُ
صُدُورُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْأَبْدَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ مِنْ إمْدَادِ
الْقُوَّةِ مَا يُدْرِكُ النَّبَاتَ حِينَ خُرُوجِهِ إذْ مِنْهَا خُلِقُوا
فَيَطِيبُ لَيْلُهُمْ لِلْقِيَامِ وَنَهَارُهُمْ لِلصِّيَامِ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ اعْتِدَالِهِ فِي الطُّولِ
وَالْقِصَرِ وَالْحَرِّ
وَالْبَرْدِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ شَبَهَ الْحَالِ بِالشَّرِيعَةِ
السَّمْحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
مِنْ رَفْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ كَانَ
قَبْلَنَا وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ
الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ
الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ } .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
تَتَشَرَّفُ بِهِ الْأَزْمِنَةُ وَالْأَمَاكِنُ لَا هُوَ يَتَشَرَّفُ
بِهَا بَلْ يَحْصُلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى وَالْمَزِيَّةُ
عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ
لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَلَوْ
وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَوْقَاتِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَكَانَ ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَتَشَرَّفُ
بِهَا فَجَعَلَ الْحَكِيمُ جَلَّ جَلَالُهُ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِهَا لِيَظْهَرَ عَظِيمُ عِنَايَتِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَكَرَامَتُهُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ مَا فِي { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ وَلَمَّا
أَنْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ } عُلِمَ بِذَلِكَ مَا اخْتَصَّ
بِهِ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي
ظَهَرَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ كَانَ {
يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ
يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } وَقَدْ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ
بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ
وَالْأَخْيَارِ أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ
وَقَوَّى رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ قَالَ فِي كِتَابِهِ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَذَكَرَ فِيهِ { أَنَّ آدَمَ خُلِقَ بَعْدَ
الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ
الْجُمُعَةِ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إلَى اللَّيْلِ انْتَهَى } ؛ لِأَنَّ
آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهُوَ سَاكِنُ الدَّارِ ،
وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ إذْ أَنَّ الدَّارَ لَا تُرَادُ
لِنَفْسِهَا بَلْ لِسَاكِنِهَا .
قَالَ وَقَدْ كَانَتْ فَاطِمَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذَا صَلَّتْ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
تَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَتُقْبِلُ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَلَا
تُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَتَقُولُ إنَّ السَّاعَةَ
الْمَذْكُورَةَ هِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَتُؤْثِرُ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ
السَّاعَةَ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا
شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ صَادَفَ
السَّاعَةَ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى
الْوُجُودِ ، وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا أَنَّهُ قَدْ
نَجَحَ سَعْيُهُ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ .
إذْ أَنَّ الْمَعْنَى
الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ هُوَ خَلْقُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا
بَالُكَ بِالسَّاعَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ }
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ
لِوَائِي } انْتَهَى .
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ أُهْبِطَ آدَم وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ .
وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ خَيْرٌ كُلُّهُ وَأَمْنٌ كُلُّهُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ قَدْ خُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ
وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ فَالْجَوَابُ
مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا
يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ يُخَفِّفُ فِيهِ الْأَمْرَ عَنْ
أُمَّتِهِ فَلَا يُكَلِّفُهُمْ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ ؛ لِأَنَّ
الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَنْ أَخْرَجَهُ إلَى
الْوُجُودِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يُكَلِّفْ الْأُمَّةَ
فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ بِسَبَبِ عِنَايَةِ وُجُودِهِ
فِيهِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُحْكَمِ
التَّنْزِيلِ { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }
فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ
عُمُومًا وَلِأُمَّتِهِ خُصُوصًا .
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ
نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ .
إنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ وَلَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ النَّبِيِّينَ بَعْدَهُ ثُمَّ الصِّدِّيقِينَ
وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُخْتَارِينَ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ نُورَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَجَعَلَهُ فِي عَمُودٍ أَمَامَ
عَرْشِهِ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَيُقَدِّسُهُ ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَخُلِقَ نُورُ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِنْ نُورِ
آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى .
وَقَدْ أَشَارَ الْفَقِيهُ الْخَطِيبُ أَبُو الرَّبِيعِ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الصُّدُورِ لَهُ أَشْيَاءُ جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ .
فَمِنْهَا
مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا شَاءَ الْحَكِيمُ خَلْقَ ذَاتِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَارَكَةِ الْمُطَهَّرَةِ أَمَرَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْزِلَ إلَى
الْأَرْضِ وَأَنْ يَأْتِيَهُ بِالطِّينَةِ الَّتِي هِيَ قَلْبُ الْأَرْضِ
وَبَهَاؤُهَا وَنُورُهَا .
قَالَ فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَمَلَائِكَةُ الْفِرْدَوْسِ وَمَلَائِكَةُ الرَّفِيقِ
الْأَعْلَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ مَوْضِعِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بَيْضَاءُ مُنِيرَةٌ فَعُجِنَتْ
بِمَاءِ التَّسْنِيمِ وَغُمِسَتْ فِي مَعِينِ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ حَتَّى
صَارَتْ كَالدُّرَّةِ الْبَيْضَاءِ وَلَهَا نُورٌ وَشُعَاعٌ عَظِيمٌ
حَتَّى طَافَتْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ حَوْلَ الْعَرْشِ وَحَوْلَ
الْكُرْسِيِّ وَفِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِي الْجِبَالِ
وَالْبِحَارِ فَعَرَفَتْ الْمَلَائِكَةُ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلَهُ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ آدَمَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَضَعَ فِي ظَهْرِهِ قَبْضَةَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَسَمِعَ آدَم فِي ظَهْرِهِ نَشِيشًا كَنَشِيشِ الطَّيْرِ .
فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ مَا هَذَا النَّشِيشُ .
قَالَ
هَذَا تَسْبِيحُ نُورِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَخُذْهُ
بِعَهْدِي وَمِيثَاقِي وَلَا تُودِعْهُ إلَّا فِي الْأَرْحَامِ
الطَّاهِرَةِ .
فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ قَدْ أَخَذْتُهُ بِعَهْدِكَ وَمِيثَاقِكَ وَلَا أُودِعُهُ إلَّا فِي
الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ .
فَكَانَ
نُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَأْلَأُ فِي
ظَهْرِ آدَمَ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ خَلْفَهُ صُفُوفًا
يَنْظُرُونَ إلَى نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ
سُبْحَانَ اللَّهِ اسْتِحْسَانًا لِمَا يَرَوْنَ .
فَلَمَّا رَأَى آدَم ذَلِكَ .
قَالَ أَيْ رَبِّ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ يَقِفُونَ خَلْفِي صُفُوفًا .
فَقَالَ
الْجَلِيلُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ يَا آدَم يَنْظُرُونَ إلَى نُورِ
خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَقَالَ أَيْ
رَبِّ أَرِنِيهِ فَأَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَآمَنَ بِهِ وَصَلَّى
عَلَيْهِ مُشِيرًا بِأُصْبُعِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ .
فَقَالَ
آدَم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا النُّورَ فِي مُقَدَّمِي كَيْ تَسْتَقْبِلَنِي
الْمَلَائِكَةُ وَلَا تَسْتَدْبِرَنِي فَجَعَلَ ذَلِكَ النُّورَ فِي
جَبْهَتِهِ فَكَانَ يُرَى فِي غُرَّةِ آدَمَ دَائِرَةٌ كَدَائِرَةِ
الشَّمْسِ فِي دَوَرَانِ فَلَكِهَا أَوْ كَالْبَدْرِ فِي تَمَامِهِ
وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ أَمَامَهُ صُفُوفًا يَنْظُرُونَ إلَى
ذَلِكَ النُّورِ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا اسْتِحْسَانًا
لِمَا يَرَوْنَ .
ثُمَّ إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ يَا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا النُّورَ فِي مَوْضِعٍ أَرَاهُ فَجَعَلَ
اللَّهُ ذَلِكَ النُّورَ فِي سَبَّابَتِهِ فَكَانَ آدَم يَنْظُرُ إلَى
ذَلِكَ النُّورِ .
ثُمَّ إنَّ آدَمَ قَالَ يَا رَبِّ هَلْ بَقِيَ مِنْ هَذَا النُّورِ شَيْءٌ فِي ظَهْرِي .
فَقَالَ نَعَمْ بَقِيَ نُورُ أَصْحَابِهِ .
فَقَالَ
أَيْ رَبِّ اجْعَلْهُ فِي بَقِيَّةِ أَصَابِعِي فَجَعَلَ نُورَ أَبِي
بَكْرٍ فِي الْوُسْطَى وَنُورَ عُمَرَ فِي الْبِنْصِرِ وَنُورَ عُثْمَانَ
فِي الْخِنْصَرِ وَنُورَ عَلِيٍّ فِي الْإِبْهَامِ فَكَانَتْ تِلْكَ
الْأَنْوَارُ تَتَلَأْلَأُ فِي أَصَابِعِ آدَمَ مَا دَامَ فِي الْجَنَّةِ .
فَلَمَّا صَارَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ انْتَقَلَتْ الْأَنْوَارُ مِنْ أَصَابِعِهِ إلَى ظَهْرِهِ انْتَهَى .
وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورُ مُحَمَّدٍ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ ذَلِكَ النُّورُ يَتَرَدَّدُ
وَيَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ .
فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَرْشَ .
وَمِنْ الثَّانِي الْقَلَمَ .
وَمِنْ الثَّالِثِ اللَّوْحَ ثُمَّ قَالَ لِلْقَلَمِ اجْرِ وَاكْتُبْ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ مَا أَكْتُبُ .
قَالَ مَا أَنَا خَالِقُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
فَجَرَى الْقَلَمُ عَلَى اللَّوْحِ وَكَتَبَ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ .
وَأَقْبَلَ
الْجُزْءُ الرَّابِعُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى
وَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَةَ
أَجْزَاءٍ فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَقْلَ وَمِنْ الثَّانِي
الْمَعْرِفَةَ وَأَسْكَنَهَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَمِنْ الْجُزْءِ
الثَّالِثِ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنُورَ الْأَبْصَارِ وَالْجُزْءُ
الرَّابِعُ جَعَلَهُ اللَّهُ حَوْلَ الْعَرْشِ حَتَّى خَلَقَ آدَمَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ ،
فَنُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنُورُ الْقَلَمِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ اللَّوْحِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ النَّهَارِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْعَقْلِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْمَعْرِفَةِ وَنُورُ الشَّمْسِ وَنُورُ
الْقَمَرِ وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ انْتَهَى .
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لِأَبِي الرَّبِيعِ .
وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُقِلَ يَا أَبَا
مَعْنَايَ وَيَا ابْنَ صُورَتِي .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ
وَالْجَسَدِ } انْتَهَى .
فَلَئِنْ
كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ
اُخْتُصَّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعَظِيمِ قَدْرِهَا الْمَشْهُورِ
الْمَعْرُوفِ ، وَأَنَّ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ عَلَى
الرَّاجِحِ ، وَأَنَّ قِيَامَهَا يَعْدِلُ عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ
فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي أَشَقِّ الْعِبَادَاتِ ، وَهُوَ الْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَعِلْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَلَ لَنَا
بِإِخْبَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفَضِيلَةُ الْأَوْقَاتِ
تَلَقَّيْنَاهَا مِنْهُ وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَشَهْرُ
رَبِيعٍ وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَتُهُ عَلِمْنَا فَضْلَ ذَلِكَ
كُلِّهِ بِظُهُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا فَهُوَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَوْنِ وَاَلَّذِي
خُلِقَ الْوُجُودُ لِأَجْلِهِ وَاَلَّذِي فُضِّلَتْ الْأَوْقَاتُ
بِبَرَكَتِهِ وَاَلَّذِي خُصَّتْ أُمَّتُهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ
أَجْلِهِ وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَا وَرَدَ مِنْ
مُنَاظَرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْن عَيَّاشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَيْثُ يَقُولُ لَهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ
فَقَالَ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ
وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلَا فِي بَيْتِهِ شَيْئًا أَأَنْت
الْقَائِلُ إلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَمِنْ الْمُنْتَقَى قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ لَضَرَبَهُ يُرِيدُ
لِأَدَبِهِ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ لِاعْتِقَادِهِ
تَفْضِيلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ ، أَوْ هُوَ يَرَى تَرْكَ الْأَخْذِ
فِي تَفْضِيلِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ
الْأَوَّلَ أَظْهَرُ لِمَا شُهِرَ مِنْ أَخْذِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ
دُونَ نَكِيرٍ .
فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ
مِنْ مَكَّةَ .
وَمِنْ كِتَابِ مُسْنَدِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ
لِأَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَافِقِيِّ الْجَوْهَرِيِّ
بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اُفْتُتِحَتْ الْقُرَى
بِالسَّيْفِ وَافْتُتِحَتْ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ } وَمِنْهُ
بِإِسْنَادِهِ إلَى عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ تَكَلَّمَ
مَرْوَانُ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَطْنَبَ فِي
ذِكْرِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَدِينَةَ فَقَامَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ
فَقَالَ مَالَك يَا هَذَا ذَكَرْت مَكَّةَ فَأَطْنَبْت فِي ذِكْرِهَا
وَلَمْ
تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ
لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } انْتَهَى .
مَعَ أَنَّهُ قَدْ
خَصَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَشْبَهَهُ
فَقَالَ إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فِي كَثْرَةِ الرِّزْقِ وَبَرَكَةِ
الثِّمَارِ ، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا
كُنْت لَهُ شَفِيعًا ، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَمَعْنَى
لَأْوَائِهَا هُوَ الْجُوعُ وَالشِّدَّةُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعِيدٌ أَنْ
يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كَثْرَةِ
الثِّمَارِ إذْ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُشَرِّعُ
وَالْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ وَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَالْأَعْلَى وَالْأَخَصُّ .
وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ
يُخَصَّصَ عُمُومُ الْحَدِيثِ وَالْمَدِينَةُ قَدْ اشْتَمَلَتْ
وَاخْتَصَّتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا
وَمَيِّتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْكُتُبَ الصِّحَاحَ
وَذَكَرَ فِي بَابِ فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ
الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَا هَذَا لَفْظُهُ ( عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
{ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي
الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَمَا قُلْت .
فَقَالَ
الرَّجُلُ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
مِثْلُ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ
أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا } انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
مَا
احْتَوَى عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ
وَالْأَسْرَارِ الْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ بِحُلُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَصَلَتْ لَهَا هَذِهِ
الْخَاصِّيَّةُ الْعُظْمَى .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَابَ قَوْلَ الْقَائِلِ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ .
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِئْسَمَا قُلْت فَمَفْهُومُهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرُ مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ .
ثُمَّ
أَكَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِجَوَابِهِ حِينَ قَالَ
الرَّجُلُ إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَلَا مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَقَدْ
جَاءَ فِي الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ
مَعْلُومٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ } الْآيَةَ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَدِدْت أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ }
وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ مَشْهُورَةٌ .
ثُمَّ إنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَضَّلَ الدَّفْنَ فِيهَا لِنَفْسِهِ
الْكَرِيمَةِ وَلِغَيْرِهِ عَلَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ الْعُظْمَى .
هَذَا
، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ظَهْرِهَا فَكَيْفَ
بَعْدَ أَنْ حَلَّ فِي جَوْفِهَا { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ
لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْصَرَ فَضِيلَةُ
ذَلِكَ وَلَا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا .
وَمِنْ الْمُوَطَّأِ أَنَّ
مَوْلَاةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَتْهُ
فِي الْفِتْنَةِ فَقَالَتْ إنِّي أَرَدْت الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ اُقْعُدِي لَكَاعِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا
وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا ، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } انْتَهَى .
قَالَ الْبَاجِيُّ قَالَ عِيسَى بْنُ
دِينَارٍ هُوَ شَكٌّ مِنْ الْمُحَدِّثِ وَلَأْوَاؤُهَا هُوَ الْجُوعُ
وَالشِّدَّةُ وَتَعَذُّرُ الْكَسْبِ وَالشِّدَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِهَا اللَّأْوَاءَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا كُلَّ مَا يَشْتَدُّ
بِسَاكِنِهَا وَتَعْظُمُ مَضَرَّتُهُ وَقَوْلُهُ شَفِيعًا الشَّفَاعَةُ
عَلَى قِسْمَيْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهِيَ شَفَاعَةٌ
فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَشَفَاعَةٌ فِي
الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ ، أَوْ شَهِيدًا يَحْتَمِلُ
أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ شَهِيدٌ لَهُ بِالْمَقَامِ الَّذِي فِيهِ
الْأَجْرُ
وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ لِشَهَادَتِهِ فَضْلًا فِي
الْأَجْرِ وَإِحْبَاطًا لِلْوِزْرِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ سُكْنَاهُ
فِي الْمَدِينَةِ وَالْبَقَاءَ بِهَا يَثْبُتُ لَهُ وَيُوجَدُ ثَابِتًا
فِي جُمْلَةِ حَسَنَاتِهِ إلَّا أَنَّ شَهَادَةَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ .
وَكَذَلِكَ {
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ أَنَا
شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ،
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ فَضِيلَةَ اسْتِيطَانِ الْمَدِينَةِ
وَالْبَقَاءِ بِهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ انْتَهَى ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي
الصَّائِمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمُ
فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } وَإِذَا كَانَ لَهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى ، وَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهِ فَلَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ وَلَا
تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ وَفِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ شَبَهٌ مِنْ ذَلِكَ
؛ لِأَنَّ بِحُلُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَلَدِ
عَمَّتْ بَرَكَتُهُ لِجَمِيعِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا وَمَنْ لَمْ يُدْفَنْ
فَبَرَكَتُهُ لِلْأَحْيَاءِ مَعْلُومَةٌ وَكَذَلِكَ لِلْأَمْوَاتِ .
أَلَا
تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَطَاعَ
أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ
مَاتَ بِهَا } فَلَمْ يَكْتَفِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
فَضِيلَتِهَا بِمَا بَيَّنَهُ وَصَرَّحَ بِهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ حَتَّى
قَالَ { مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ
قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا } انْتَهَى .
وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا .
ثُمَّ
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَعْضِ سِرِّ
تَكْرَارِهِ ذَلِكَ ثَلَاثًا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ
يَلْقَى أَمْرًا لَهُ خَطَرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا فَهَذَا دَلِيلٌ
وَاضِحٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْمَدِينَةِ وَمَا قَارَبَهَا وَمَا
خَصَّهَا
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ الْعَمِيمَةِ وَالْبَرَكَاتِ
الشَّامِلَةِ الْعَظِيمَةِ إذْ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي
كِتَابِهِ الْعُزَيْرِ حَاكِيًا عَنْ حَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ
يُوحَى } فَمَا يَفْضُلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَعْظُمُهُ
إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَيُّ بَلَدٍ
وَأَيُّ بُقْعَةٍ تَصِلُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ .
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ
صَاحِبُ الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيبِ فِيهِ وَالْقَاضِي فِي الْمَعُونَةِ
وَتَدَاخُلُ كَلَامِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ يَحْرُسُونَهَا لَا
يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ } وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ
فِي مَكَّةَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَذْكُرْ
ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ
طِيبُهَا } وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .
وَأَوْضَحُهَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ
دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاك
إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ } وَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ دُعَاءِ إبْرَاهِيمَ ؛ لِأَنَّ
فَضْلَ الدُّعَاءِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ الدَّاعِي .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا
الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا لَنَا
وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا
فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ
يُحَبِّبَ إلَيْهِ الْأَدْوَنَ عَلَى الْأَعْلَى .
وَمِنْهَا مَا
اسْتَقَرَّ عِنْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ
مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يُخَاطِبُهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ
الْمَدِينَةِ ثَلَاثًا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ
{ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إلَّا
أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُمِرْت بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى
يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي
الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ تَأْكُلُ الْقُرَى
إلَّا رُجْحَانُ فَضْلِهَا عَلَيْهَا وَزِيَادَتُهَا عَلَى غَيْرِهَا .
وَمِنْهَا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ
إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا }
وَتَخْصِيصُهُ إيَّاهَا بِذَلِكَ لِفَضْلِهَا عَلَى جَمِيعِ الْبِقَاعِ
الَّتِي لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْلُوقٌ مِنْهَا ، وَهُوَ خَيْرُ
الْبَشَرِ فَتُرْبَتُهُ أَفْضَلُ التُّرَبِ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ
إلَيْهَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمُقَامِ بِهَا طَاعَةً وَقُرْبَةً
وَالْمُقَامُ بِغَيْرِهَا ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى
فَضْلِهَا عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ انْتَهَى كَلَامُهُمَا .
فَلَمَّا
أَنْ عُلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ أَحَبَّ الْبِقَاعِ
إلَى رَبِّهِ هَذِهِ الْبُقْعَةُ أَحَبَّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا إذْ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ شَيْءٌ
قَطُّ يُفَضِّلُهُ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهُ
رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ جَوَابًا لِنِسَائِهِ حِينَ تَكَلَّمْنَ مَعَهُ فِي
تَفْضِيلِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَيْهِنَّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُنَّ فَأَجَابَهُنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ {
إنَّهُ لَمْ يُوحَ إلَيَّ فِي فِرَاشِ إحْدَاكُنَّ إلَّا فِي فِرَاشِهَا }
.
فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُفَضِّلُ الْأَشْيَاءَ
بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ كَافٍ .
وَمَذْهَبُ
عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا أَفْضَلُ
مِنْ مَكَّةَ { ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ
مَكَّةَ
بِدُونِ الْأَلْفِ ، وَأَنَّهَا تَفْضُلُ غَيْرَهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ
بِالْأَلْفِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ
بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ } لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ ، وَهُوَ
مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ .
وَبِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ قَالَ
الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ
مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى
فَاضِلَةً فِي نَفْسِهَا فَإِذَنْ فَضَلَتْهَا الْمَدِينَةُ .
وَقَدْ
جَاءَ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ وَكَفَى بِهَا مِنْ
الْفَضِيلَةِ أَنَّهَا مَطْلَعُ شَمْسِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَفِيهَا نُبِّئَ وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ
وَمِنْهَا أُسْرِيَ بِهِ إلَى قَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ فَحَصَلَتْ لَهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى
بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
لَكِنْ جَرَتْ
حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ جَعَلَ نَبِيَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَتْبُوعًا ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ
كُلَّهَا تَتَشَرَّفُ بِهِ وَيَعْلُو قَدْرُهَا وَفَضْلُهَا بِسَبَبِهِ
كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَظَهَرَ أَمْرُهُ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ مِنْهَا
إلَى رَبِّهِ لَكَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَشَرَّفَ بِمَكَّةَ
فَكَانَ انْتِقَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمَدِينَةِ
لِيَخُصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبَلَدٍ وَحْدَهُ وَحَرَمٍ أَوْ مَسْجِدٍ
وَرَوْضَةٍ وَوُفُودٍ تَسِيرُ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ،
وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَتِمُّ
الْإِسْلَامُ إلَّا بِهِ ، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ أَحَدٌ عَلَى
الشَّهَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يُقِرَّ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ
إسْلَامٌ وَلَا إيمَانٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْحِيدُ إلَّا مَعَ
الْإِقْرَارِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ
فَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَنْسُوبَةِ
إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفَضَّلَهَا بِذَلِكَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلَتَهَا فَالْوُفُودُ تَسِيرُ
مِنْ كُلِّ الْآفَاقِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَكَذَلِكَ تَسِيرُ إلَى
زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمَّا أَنْ جَعَلَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ حَرَمًا جَعَلَ لِنَبِيِّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَمًا يُقَابِلُهُ .
وَلَمَّا
أَنْ جَعَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَهُ فَضِيلَةً فِي الصَّلَاةِ فِيهِ
جَعَلَ مَسْجِدَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ فِي
تَضْعِيفِ الْأُجُورِ وَلَمَّا أَنْ كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَشْهَدُ
لِلَامِسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا شَهِدَ لِلَامِسِهِ دَخَلَ
الْجَنَّةَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مُقَابَلَتِهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .
قَالَ الْقَاضِي
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ
الْمَعُونَةِ لَهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَصَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِيهَا
لِفَضْلِهِ عَلَى بَقِيَّتِهَا فَكَانَ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى فَضْلِهَا
عَلَى سِوَاهَا أَوْلَى انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَلْ هِيَ بِنَفْسِهَا فِي الْجَنَّةِ أَوْ الْعَمَلُ فِيهَا يُوجِبُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .
فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ قَدْ خَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَضْلُ
الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ
صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ } قَالَ وَلَا نَعْلَمُ هَذَا
الْحَدِيثَ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ فَالْجَوَابُ
أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعَالَى قَاعِدَةُ مَذْهَبِهِ
أَنَّهُ يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ عَارَضَهُ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ .