كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ
الْعَبْدَرِيُّ
أَقْرَبَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْيَوْمَ بُغْضُ الْبِدَعِ وَمَحَبَّةُ السُّنَنِ
وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا وَمَحَبَّةُ أَهْلِهَا وَمُوَالَاتُهَا إذْ إنَّ
الْفَنَّ قَدْ انْدَرَسَ إلَّا عِنْدَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ
مَا هُمْ .وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ إحْضَارِهِمْ الْكِيزَانَ وَغَيْرَهَا مِنْ أَوَانِي الْمَاءِ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ الْخَتْمِ فَإِذَا خَتَمَ الْقَارِئُ شَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَرْجِعُونَ بِهِ إلَى بُيُوتِهِمْ فَيُسْقُونَهُ لِأَهْلَيْهِمْ وَمَنْ شَاءُوا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَهَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ لَا يَخْتَصُّ بِلَيْلَةِ الْخَتْمِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَعَلُوا ذَلِكَ فِيهَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي لَيَالِي الْأَعْيَادِ وَالتَّهَالِيلِ وَالْمَآتِمِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَآخِرِ أَرْبِعَاءَ مِنْ السَّنَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ فَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ فَاتَتْهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ مِنْ صِفَةِ خُرُوجِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ تَوَقَّعَ شَيْئًا مِمَّا يُخَالِفُ السُّنَّةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَصَلَاتُهُ فَذًّا فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ إذْ ذَاكَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِ مَا هُنَالِكَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ فِي تَوَاعُدِهِمْ
لِلْخَتْمِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ يَخْتِمُ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَفُلَانٌ
يَخْتِمُ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَيَعْرِضُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالنَّوْبَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ
وَلَائِمُ تُعْمَلُ وَشَعَائِرُ تُظْهَرُ فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ
غَالِبًا مِنْ انْتِصَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ
فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُ إذْ
إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى أَعْنِي فِي مُوَاعَدَتِهِمْ
فِي الْخَتْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ إنْسَانٌ
يُرِيدُ أَنْ يَخْتِمَ لِنَفْسِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ السَّنَةِ
فَيَجْمَعُ أَهْلَهُ لِتَعُمَّهُمْ الرَّحْمَةُ ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ
تَنْزِلُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِفِعْلِ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِنَّمَا نُهِيَ
عَنْ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا
تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَالثَّانِي
: خِيفَةً مِمَّا قَدْ وَقَعَ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا شَعِيرَةٌ
مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي
طُولِ السَّنَةِ لَكَانَ ذَلِكَ بِدْعَةً أَيْضًا إذْ إنَّ السُّنَّةَ
الْمَاضِيَةَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ إخْفَاؤُهُ مَهْمَا أَمْكَنَ
فَهَذَا ذِكْرُ بَعْضِ مَا أَحْدَثُوهُ فَقِسْ عَلَيْهِ كُلَّ مَا رَابَك
مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ تُصِبْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُؤَدِّبِ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى
وَإِيَّاكَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْآدَابِ فِي حَقِّ مَنْ
تَقَدَّمَ إنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إذْ إنَّ
أَصْلَ كُلِّ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ إذْ هُوَ مَعْدِنُ الْجَمِيعِ وَهُوَ يَنْبُوعُ كُلِّ عِلْمٍ
نَافِعٍ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
حَامِلُهُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي التَّعْظِيمِ لِشَعَائِرِهِ
وَالْمَشْيِ عَلَى سُنَنِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فِي تَعْظِيمِهِ ذَلِكَ
وَإِكْرَامِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ
مُحْتَاجٌ إلَى تَحْسِينِ النِّيَّةِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ عَمِلَ مِنْ
هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ
يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ } انْتَهَى وَمَعْلُومٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
أَنَّ أَصْلَ الْخَيْرِ إنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ فَهُوَ أَعْلَى أَعْمَالِ
الْآخِرَةِ فَيَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ لِسَبَبِ
الِاسْتِجْلَابِ لِلرِّزْقِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ
بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ
الْعَظِيمِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ
إذْ إنَّ اسْتِجْلَابَ الرِّزْقِ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَإِنْ هُوَ جَلَسَ لَهُ فَهُوَ تَحْصِيلُ
حَاصِلٍ إذْ إنَّ الرِّزْقَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ وَقَدْ
حَرَمَ نَفْسَهُ خَيْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَزِيلًا .
وَلَا يَظُنُّ
ظَانٌّ أَنَّ التَّرْكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِانْتِقَالِ عَمَّا هُوَ
فِيهِ بَلْ يَسْتَصْحِبُ الْحَالَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَكِنْ
بِبَذْلِ النِّيَّةِ يَسْتَقِيمُ الْحَالُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَيْفِيَّةُ
ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْوِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ
ذَلِكَ الِامْتِثَالَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرْشَادَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ }
وَالْمُرَادُ
بِالْخَيْرِ هُنَا خَيْرُ الْآخِرَةِ أَيْ أَنَّ
عُمَّالَ الْآخِرَةِ كُلَّهُمْ هَذَا هُوَ مَقْدِمُهُمْ إذْ إنَّ مِنْهُ
انْفَتَحَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْخَطِّ وَالِاسْتِخْرَاجِ
وَالْحِفْظِ وَالضَّبْطِ وَالْفَهْمِ لِلْمَسَائِلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ
مِفْتَاحُهُ الْمُؤَدِّبُ فَهُوَ أَوَّلُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ
التَّوْفِيقِ دَخَلَهُ الْمُكَلَّفُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ
ظَهَرَتْ مَزِيَّتُهُ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ حَامِلٌ كَلَامَ اللَّهِ
الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ شِئْت أَنْ أُوَقِّرَ سَبْعِينَ
بَعِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْت وَهَذَا مِنْهُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَكُونَ تَلَفُّظُهُ بِالسَّبْعِينَ كِنَايَةً مِنْهُ عَمَّا لَا
نِهَايَةَ لَهُ إذْ إنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُطْلِقُ
السَّبْعِينَ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {
إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ } ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاَللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى
السَّبْعِينَ مَا لَمْ أُنْهَ ، فَنَزَلَتْ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ } .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ يَجِلُّ عَنْ
أَنْ يَأْخُذَهُ حَصْرٌ أَوْ حَدٌّ .
وَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ
إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ
أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا
نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } فَإِنَّك إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا وَجَدْته
مُشَاهَدًا مَرْئِيًّا بِالْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ إذْ إنَّ الْبِحَارَ
كُلَّهَا عَلَى عِظَمِهَا وَكَثْرَتِهَا وَمَدَدِهَا الدَّائِمِ
مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَنْ يَمُدُّهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ نُقْطَةٍ مِنْهَا
مُحْتَاجَةٌ لِكَتْبِ مَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ مِنْ حِينِ بُرُوزِهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ بَرَزَتْ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَصْلُهَا وَعَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ تُسْلَكُ وَمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَسْتَقِرُّ فَهِيَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا لِمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فَبَقِيَتْ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا دُونَ شَيْءٍ تَكْتُبُ بِهِ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِمَنْ لَهُ يَقَظَةٌ فَيَنْظُرُ وَيَعْتَبِرُ .
وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْمُؤَدِّبِ خَيْرُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ إخْبَارًا
عَنْ { رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ يَا دُنْيَا
اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك } فَإِذَا كَانَتْ
نِيَّتُهُ بِجُلُوسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَأَنْ يُعَلِّمَ آيَةً لِجَاهِلٍ
بِهَا وَلِكَيْ يَصِحَّ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِتَعْلِيمِهِ أُمَّ
الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَفْعِهِ الْعَامِّ لِلصَّغِيرِ
وَالْكَبِيرِ فَهُوَ قَدْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ .
وَقَدْ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ
دُنْيَاهُ فَإِنَّهُ حَظُّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَنَلْ مِنْ دُنْيَاهُ
إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ نَالَ
حَظَّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْ دُنْيَاهُ مَا قُسِمَ لَهُ }
أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ
أَنَّ الدُّنْيَا تَجِيءُ رَاغِمَةً لِطُلَّابِ الْآخِرَةِ فَكَمْ مِنْ
زَاهِدٍ فِيهَا وَمُتَوَرِّعٍ وَفَقِيرٍ وَمُتَوَجِّهٍ صَادِقٍ فِي
تَنَزُّهِهِ وَتَوَجُّهِهِ وَعَالِمٍ صَادِقٍ فِي عِلْمِهِ وَطَالِبِ
عِلْمٍ صَادِقٍ فِي تَعَلُّمِهِ وَعَارِفٍ وَمُبْتَدٍ وَمُنْتَهٍ
أَتَتْهُمْ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ مَعَ فَرَاغِهِمْ لِمَا هُمْ
بِصَدَدِهِ كُلُّ ذَلِكَ أَصْلُهُ مَا جَلَسَ هَذَا إلَيْهِ فَالْكُلُّ
فَرْعٌ عَنْهُ وَرَاجِعٌ إلَيْهِ .
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَظِّمَ
مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمَجْلِسِ الشَّرِيفِ
وَأَنْ لَا يَشِينَهُ بِشَيْنِ الْمُخَالَفَةِ وَالِاعْتِقَادِ الرَّدِيءِ
وَالدَّسَائِسِ وَالنَّزَغَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ
فِي ذَلِكَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ .
وَدَوَاءُ ذَلِكَ إنْ وَقَعَ صِدْقُ
الِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّةُ الثِّقَةِ بِمَضْمُونِهِ
وَالنُّزُولُ بِسَاحَتِهِ وَالِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْمُحْتَاجِينَ
الْمُضْطَرِّينَ الَّذِينَ لَا أَرَبَ لَهُمْ وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا
مَوْلَاهُمْ فَهُوَ مَقْصُودُهُمْ وَمَطْلُوبُهُمْ الَّذِي عَلَيْهِ
يُعَوِّلُونَ وَإِلَيْهِ يَلْجَئُونَ وَعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُونَ إذْ
إنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرُدُّ قَاصِدَهُ
وَلَا
يُخَيِّبُ مَنْ سَأَلَهُ وَهُوَ أَكْرَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ لَا
يُعْطِيَ حَتَّى يُسْأَلَ فَكَيْفَ بِمَنْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِ وَتَضَرَّعَ
إلَيْهِ وَأَلْقَى كَتِفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ
عَادَتْ بَرَكَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سِرًّا وَعَلَنًا إمَّا حِسًّا وَإِمَّا
مَعْنًى أَوْ كِلَاهُمَا .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ
التَّفْسِيرِ لَهُ حَدِيثًا قَالَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { خَيْرُ النَّاسِ وَخَيْرُ مَنْ
يَمْشِي عَلَى جَدِيدِ الْأَرْضِ الْمُعَلِّمُونَ كُلَّمَا خَلِقَ
الدِّينُ جَدَّدُوهُ أَعْطُوهُمْ وَلَا تَسْتَأْجِرُوهُمْ فَتُحْرِجُوهُمْ
فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا قَالَ لِلصَّبِيِّ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ الصَّبِيُّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَةً لِلْمُعَلِّمِ وَبَرَاءَةً
لِلصَّبِيِّ وَبَرَاءَةً لِأَبَوَيْهِ مِنْ النَّارِ } انْتَهَى .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْوِي فِي جُلُوسِهِ لِلتَّعْلِيمِ مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَآدَابِهِ وَهَدْيِهِ وَهَذَا
مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ
الْأَصْلُ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُهُ فَرْعٌ عَنْهُ .
وَإِنَّمَا
وَقَعَ تَأْخِيرُ ذِكْرِهِ إلَى هُنَا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ
كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا مَضَى أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الْعَالِمَ
نَفْعُهُ عَامٌّ لِأَجْلِ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الدِّينِ
وَإِقَامَةِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَفَتَاوِيه الَّتِي يُعْبَدُ اللَّهُ
تَعَالَى بِهَا وَلَا يُعْصَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنَّ
نِيَّتَهُ تَكُونُ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ
أَحْكَامِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى
الْمَعْلُومِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ ، فَإِنْ جَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَكَذَلِكَ مَا هُنَا
سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
فَيَرْكَبُ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً وَيَكُونُ
الصِّبْيَانُ
عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُشَرِّفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
فَابْنُ الْفَقِيرِ وَابْنُ صَاحِبِ الدُّنْيَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي
التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ وَمَنْ مَنَعَهُ
إذْ بِهَذَا يَتَبَيَّنُ صِدْقُ حَالِهِ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ ، فَإِنْ
كَانَ يَعْلَمُ مَنْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِمَّنْ لَمْ يُعْطِهِ فَذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ
إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمَعْلُومُ فَتَسَخَّطَ وَتَضَجَّرَ دَلَّ
ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ مَا هُنَا بَلْ يَكُونُ مَنْ
لَمْ يُعْطِهِ أَرْجَى عِنْدَهُ مِمَّنْ يُعْطِيه ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ
يُعْطِهِ تَمَحَّصَ تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَنْ
أَعْطَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَشُوبًا بِدَسِيسَةٍ لَا تُعْلَمُ
السَّلَامَةُ فِيهِ مَعَهَا وَالسَّلَامَةُ أَوْلَى مَا يَغْتَنِمُ
الْمَرْءُ فَيَغْتَنِمُهَا الْعَاقِلُ .
فَإِذَا جَلَسَ لِمَا ذُكِرَ
فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبُوحَ بِنِيَّتِهِ لِأَحَدٍ وَلَا
يَذْكُرُهَا لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ سِرًّا فِي
نَفْسِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ
فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنْ
جُهِرَ بِهَا فَقَوْلَانِ هَلْ تُكْرَهُ أَمْ لَا وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مَعَ كَثْرَةِ مَعْرِفَتِهِمْ
لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَهُ فَكَيْفَ بِقَارِئِ الْقُرْآنِ
فَكَيْفَ بِمَنْ انْقَطَعَ لِتَعْلِيمِهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ عَلَى عَكْسِ حَالِ مَنْ
تَقَدَّمَ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ
فِي الْغَالِبِ أَنَّ الْمُعَلِّمَ يُعَلِّمُ كِتَابَ اللَّهِ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَقَلَّ مَنْ يُعْطِيه شَيْئًا فَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ مَا
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُهُ إذَا
وَجَدَ الْفَقِيرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ قُوتَهُ مِنْ حَيْثُ لَا
يَحْتَاجُ لِأَحَدٍ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَرَامَاتِ وَكَانَ يُعَلِّلُ
ذَلِكَ
وَيَقُولُ إنَّ النَّاسَ قَدْ انْقَسَمُوا فِي هَذَا
الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ فِي الْغَالِبِ فَمِنْهُمْ مُعْتَقِدٌ
وَمِنْهُمْ مُسِيءُ الظَّنِّ فَالْمُسِيءُ الظَّنِّ إنْ لَمْ يَضُرَّك لَا
يَنْفَعُك وَالْمُحْسِنُ الظَّنِّ قَدْ خَرَجَ بِحُسْنِ ظَنِّهِ عَنْ
الْحَدِّ فَيُعَدُّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَأْكُلُ
وَلَا تَشْرَبُ فَمَا يَصِلُك مِنْهُ نَفْعٌ أَصْلًا فَإِذَا وَجَدَ
الْفَقِيرُ الْقُوتَ فِي زَمَانِ مَنْ هَذَا حَالُهُمْ كَانَ ذَلِكَ
كَرَامَةً فِي حَقِّهِ إذْ إنَّ الْكَرَامَةَ إنَّمَا هِيَ خَرْقُ
الْعَادَةِ وَمَا جَرَى لِهَذَا فَهُوَ خَرْقُ عَادَةٍ وَالْمُؤَدِّبُ
مِثْلُهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَإِذَا شَعَرُوا مِنْهُ أَنَّهُ يُعَلِّمُ
لِلَّهِ تَعَالَى فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهُ
شَيْئًا لِعَدَمِ مُطَالَبَتِهِ إيَّاهُمْ هَذَا حَالُهُمْ فِي أُمُورِ
آخِرَتِهِمْ بِخِلَافِ أَسْبَابِ دُنْيَاهُمْ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
أَحْوَالِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا
حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ وَلَدُهُ الْمَكْتَبَ
وَقَرَأَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَاءَ إلَى وَالِدِهِ
بِلَوْحِ الْإِصْرَافَةِ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِينَارٍ يُعْطِيهَا
لِلْفَقِيهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَتْ عِنْدَ الْفَقِيهِ اجْتَمَعَ
بِالشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي وَأَيُّ شَيْءٍ عَمِلْته حَتَّى
تُقَابِلَنِي بِهَذَا الْعَطَاءِ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ لَا قَرَأَ
عَلَيْك ابْنِي شَيْئًا بَعْدَ الْيَوْمِ فَقَالَ لَهُ وَلِمَ ذَلِكَ
فَقَالَ ؛ لِأَنَّك اسْتَعْظَمْت مَا حَقَّرَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ
الدُّنْيَا وَاسْتَصْغَرْت مَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ
الْقُرْآنُ وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ هَذَا الْحَالُ وَهُوَ
اسْتِعْظَامُ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتِصْغَارُ مَا كَانَ مِنْ
أَمْرِ الْآخِرَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلَا يُظْهِرُ الْمُؤَدِّبُ
فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُ جَلَسَ يُقْرِئُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ
يُظْهِرُ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْمَعْلُومِ وَنِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى
كَمَا تَقَدَّمَ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْبَابِ أَوْلِيَاءِ
الصِّبْيَانِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ
أَوْلَادِ مَنْ يَتَسَبَّبُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ عَلَى أَنْوَاعِهِ مِنْ
مَكْسٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَا يَأْخُذُ مِمَّا أَتَى بِهِ
الصَّبِيُّ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ شَيْئًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ
يَأْتِيه مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُحَذَّرِ مِنْهَا مِنْ
جَانِبِ الشَّرْعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِشَيْءٍ
مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وَجْهٍ
مَسْتُورٍ بِالْعِلْمِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إقْرَائِهِ لِلْوَلَدِ
الَّذِي يَكُونُ مُتَّصِفًا وَلِيُّهُ بِمَا ذُكِرَ أَنْ لَا يُوَالِيَ
وَالِدَ الصَّبِيِّ بِإِقْبَالٍ عَلَيْهِ وَلَا بِسَلَامٍ وَلَا بِكَلَامٍ
وَلَا جَوَابٍ إذْ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى
أَمْثَالِهِ بِشُرُوطِهِ فَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَرْجِعْ لَمْ
يَبْقَ فِي حَقِّهِ مِنْ التَّغْيِيرِ إلَّا الْهِجْرَانُ لَهُ وَإِذَا
سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ هِجْرَانِهِ وَذَلِكَ
حَرَامٌ .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ لَهُ تَحَرُّزٌ عِنْدَهُ وَلَدٌ
لَهُ وَالِدٌ وَكِيلٌ عَلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا
إذَا جَاءَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ سَلَامًا وَإِذَا
كَلَّمَهُ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ جَوَابًا وَكَانَ لَا يَأْخُذُ مِنْ
الصَّبِيِّ شَيْئًا إلَّا مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ
غَيْرِهِمَا مِمَّنْ هُوَ سَالِمٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ
تَعَذَّرَتْ جِهَةُ الْحَلَالِ فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا وَيَحْذَرُ مِنْ
هَذَا جَهْدَهُ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ إذْ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَرْبَابِهِ بِالظُّلْمِ
وَالْمُصَادَرَةِ وَالْقَهْرِ وَهُوَ يَأْخُذُهُ عَلَى ظَاهِرِ أَنَّهُ
حَلَالٌ فِي زَعْمِهِ وَهَذَا أَعْظَمُ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ الْأَوَّلِ
، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي نِيَّتِهِ
عَلَى سَبِيلِ الْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ .
وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ
يُقْرِئَ النَّاسَ الْقُرْآنَ بِعِوَضٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ
اللَّهِ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهُ
أَحَلُّ شَيْءٍ يَكُونُ .
وَمِنْ كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ
سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ إجَارَةِ الْمُعَلِّمِينَ فَقَالَ
لَا بَأْسَ بِذَلِكَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ فَيُعْطَى قِيلَ لَهُ
إنَّهُ يُعَلِّمُ مُشَاهَرَةً وَيَطْلُبُ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ
مَا زَالَ الْمُعَلِّمُونَ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
انْتَهَى .
لَكِنْ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوْلَى لِمَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَمِنْ أَكْبَرِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا خُلُوُّ الْقَلْبِ عَنْهَا وَتَرْكُ النَّظَرِ إلَيْهَا وَتَرْكُ السَّبَبِ } هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَالُ حَامِلِ الْقُرْآنِ إذْ إنَّهُ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ تَتَشَوَّفُ إلَى الْمَعْلُومِ فَالِاقْتِدَاءُ بِالْكِرَامِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ نِعْمَةٌ شَامِلَةٌ وَالْمَرْجُوُّ مِنْ الَّذِي أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنْ يُتَمِّمَ نِعْمَتَهُ بِالِاتِّبَاعِ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ نَزَلَ سَاحَةَ الْكِرَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْكَرِيمَ أَنْ يَحْمِلَنَا بِفَضْلِهِ وَيَحْمِلَ عَنَّا بِمَنِّهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ
فَصْلٌ فِي صِفَةِ تَوْفِيَتِهِ بِمَا نَوَاهُ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى مَا ذُكِرَ فَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّعْلِيمِ أَكْثَرَ مِنْ تَعْلِيمِ مَنْ يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُقْرِئُ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَمَحَّصَ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَرْجَى فِي صِحَّةِ إخْلَاصِهِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ ضِدَّ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِأَخْذِ عِوَضٍ بِفِعْلِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِرَاحَةِ وَالْتَوَانِي إنْ تَفَرَّغَ لِذَلِكَ فَعَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ مُحْتَجًّا بِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ لِعَدَمِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَمَا يَشْعُرُ أَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي أَمْرٍ خَطِرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ حِرْصُهُ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي نَوَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوفِيَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَآخَرَ يُصَلِّي بِعِوَضٍ فَيَكُونُ الَّذِي يُصَلِّي بِلَا عِوَضٍ أَحْرَصَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ وَالْمُبَادَرَةِ مِنْ الَّذِي يُصَلِّي بِالْعِوَضِ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى حِرْصًا مِنْهُ عَلَى التَّوْفِيَةِ بِمَا الْتَزَمَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَوْ قَالَ نَوَيْت بِتَعْلِيمِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إنْ قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ فَعَلَهُ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ فَلْيُحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ التَّقْصِيرِ بِمَنِّهِ وَقَدْ يُضْطَرُّ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ إلَى أَخْذِ الْعِوَضِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ أَحَلُّ مَا يَأْكُلُهُ الْمَرْءُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِذَا
أَخَذَ الْعِوَضَ فَلْيَحْتَرِزْ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ
شَيْئًا مِنْ جِهَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ وَلِيُّهُ فِي
ذَلِكَ ، فَإِنْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ
وَأَكْلُهُ لِذَلِكَ سُحْتٌ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ
وَلَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ
فَصْلٌ
فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ مِنْ الْآدَابِ وَيَنْبَغِي
لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ
الصِّبْيَانِ يَأْتِي إلَى الْكُتَّابِ بِغِذَائِهِ وَلَا بِفِضَّةٍ
مَعَهُ وَلَا فُلُوسٍ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا فِي الْمَكْتَبِ ؛ لِأَنَّ
مِنْ هَذَا الْبَابِ تَتْلَفُ أَحْوَالُهُمْ وَيَنْكَسِرُ خَاطِرُ
الصَّغِيرِ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ وَالضَّعِيفِ لِمَا يَرَى مِنْ جِدَةِ
غَيْرِهِ فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ ضَارَّ بِمُسْلِمٍ أَضَرَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ }
انْتَهَى ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْفَقِيرِ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ مُنْكَسِرًا
خَاطِرُهُ مُتَشَوِّشًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِنَفَقَةِ وَالِدَيْهِ
عَلَيْهِ لِمَا يَرَى مِنْ نَفَقَةِ مَنْ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي الدُّنْيَا
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ قَلَّ أَنْ
تَنْحَصِرَ وَفِيمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ كِفَايَةٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ
أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا مِنْ الْبَيَّاعِينَ يَقِفُ عَلَى الْمَكْتَبِ
لِيَبِيعَ لِلصِّبْيَانِ إذْ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَشَرْنَا
إلَيْهِ إنْ اُشْتُرِيَ مِنْهُ .
وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ
لَا يُكْثِرَ الْكَلَامَ مَعَ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ إخْوَانِهِ إذْ
مَا هُوَ فِيهِ آكِدٌ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيثِ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ
مُشْتَغِلٌ بِأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُمَّ إلَّا
أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضٌ أَوْ أَمْرٌ هُوَ أَهَمُّ فِي الْوَقْتِ
مِمَّا هُوَ فِيهِ فَنَعَمْ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ
تَجِدُهُمْ بِضِدِّ هَذَا الْحَالِ يَتَحَدَّثُونَ كَثِيرًا مَعَ النَّاسِ
مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالصِّبْيَانُ يُبْطِلُونَ مَا هُمْ
فِيهِ وَيَلْهُونَ عَنْهُ وَيَلْعَبُونَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَنْ
يَقَعَ مِنْهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ
الْكُتَّابِ بِالسُّوقِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ
فَعَلَى شَوَارِعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ وَيُكْرَهُ أَنْ
يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِمَسْلُوكٍ لِلنَّاسِ فَإِنَّ الصِّبْيَانَ
يُسْرِعُ إلَيْهِمْ الْقِيلُ وَالْقَالُ فَإِذَا كَانَ بِالسُّوقِ أَوْ
عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ ذَهَبَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَفِيهِ
فَائِدَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ وَهِيَ إظْهَارُ الشَّعَائِرِ ؛ لِأَنَّهُ
أَجَلُّهَا كَذَلِكَ يَحْذَرُ أَنْ يَتَّخِذَ الْكُتَّابَ فِي
الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَنِّبُوا
مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ } انْتَهَى .
وَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْتَبُ فِي مَوْضِعٍ يَخْفَى عَنْ أَعْيُنِ
الْمَارِّينَ فِي الطَّرِيقِ إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا
يَخْفَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّبْيَانَ يَكُونُونَ عِنْدَهُ
عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فَابْنُ الْفَقِيرِ وَابْنُ الْغَنِيِّ سَوَاءٌ
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَتْرُكُ دَكَّةً تَدْخُلُ لَهُ
الْكُتَّابَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْفِيعًا لِابْنِ الْغَنِيِّ عَلَى
غَيْرِهِ وَانْكِسَارًا لِخَاطِرِ الْفَقِيرِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَوْضِعُ
مَوْضِعُ جَبْرٍ لَا مَوْضِعُ كَسْرٍ إذْ اللَّائِقُ بِحَامِلِ الْقُرْآنِ
أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخَيْرِ
فَتَكُونُ بِدَايَةُ أَمْرِ الصِّبْيَانِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ
وَالطَّرِيقِ الْأَرْشَدِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ الصِّبْيَانُ فِيهِ لِضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ مَعْلُومًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْفًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا أَبَاحَهُ صَاحِبُهُ وَيُؤْمَنُ عَلَى الصِّبْيَانِ فِيهِ ، فَإِنْ عُدِمَا مَعًا أَوْ عُدِمَ الْأَمْنُ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَمْضِي إلَى بَيْتِهِ لِيُزِيلَ ضَرُورَتَهُ ثُمَّ يَعُودَ وَإِذَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ فَلَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ يَخْرُجُ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا جَمِيعًا يُخْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّعِبِ بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ يُبْطِئُونَ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمَكْتَبِ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِهِمْ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ إذَا احْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى غِذَائِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ يَمْضِي
إلَى بَيْتِهِ لِغِذَائِهِ ثُمَّ يَعُودُ ؛ لِأَنَّهُ سِتْرٌ عَلَى
الْفَقِيرِ وَفِيهِ أَيْضًا تَعْلِيمُ الْأَدَبِ لِلصِّبْيَانِ فِي حَالِ
صِغَرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا بَيْنَ
الْإِخْوَانِ وَالْمَعَارِفِ دُونَ الْأَجَانِبِ فَإِذَا نَشَأَ
الصَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُتَأَدِّبًا بِآدَابِ الشَّرِيعَةِ
فَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ عَامَّةِ النَّاسِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ مِنْ الْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَفِي الْأَسْوَاقِ
وَبِحَضْرَةِ مَنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ وَقَدْ قِيلَ لَا
يَأْكُلُ عَلَى الطَّرِيقِ إلَّا كَرِيمٌ أَوْ لَئِيمٌ .
وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ .
فَإِذَا
مَضَوْا إلَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ السَّطْوَةَ عَلَيْهِمْ
إذَا غَابُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِئَلَّا يَكُونَ
ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اجْتِمَاعِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَوُقُوعِ مَا
لَا يَنْبَغِي مِنْهُمْ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى تَعْلِيمَ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَلْيَأْمُرْ بَعْضَهُمْ أَنْ يُقْرِئَ بَعْضًا وَذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يُخَلِّي نَظَرَهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَفَلَ قَدْ تَقَعُ مِنْهُمْ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِي بَالٍ ؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَمْ تَتِمَّ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ إذَا غَفَلْت عَنْهُ وَقْتًا مَا فَسَدَ أَمْرُهُ وَتَلِفَ حَالُهُ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا وَكَّلَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أَنْ لَا يَجْعَلَ صِبْيَانًا مَعْلُومِينَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَلْ يُبَدِّلُ الصِّبْيَانَ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الْعُرَفَاءِ مَرَّةً يُعْطِي صِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا وَصِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ صِبْيَانٌ مَعْلُومُونَ فَقَدْ تَنْشَأُ بَيْنَهُمْ مَفَاسِدُ بِسَبَبِ الْوُدِّ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَإِذَا فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَيَفْعَلُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ صِبْيَانَهُمْ تَارَةً وَيَدْفَعُ لَهُمْ آخَرِينَ ، فَإِنْ كَانَ الصِّبْيَانُ كُلُّهُمْ صِغَارًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَأْخُذْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمَأْمُونِينَ شَرْعًا بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الْإِقْرَاءِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إنَّمَا كَانُوا يُقْرِئُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي سَبْعِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَلِّفَ الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ السِّنِّ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى مَنْ يَأْتِي بِهِ إلَى الْمَكْتَبِ إنْ أَمِنَ عَلَيْهِ غَالِبًا ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهِ فَلْيُرْسِلْ مَعَهُ وَلِيُّهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي ذَهَابِهِ إلَى بَيْتِهِ لِضَرُورَتِهِ وَغِذَائِهِ وَمَنْ يَأْتِي بِهِ إلَى الْمَكْتَبِ فَهُوَ أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتَبِ وَالْغَالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ أَوْلَادَهُمْ الْمَكْتَبَ فِي حَالِ الصِّغَرِ بِحَيْثُ إنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يُرَبِّيهِمْ وَيَسُوقُهُمْ إلَى الْمَكْتَبِ وَيَرُدُّهُمْ إلَى بُيُوتِهِمْ بَلْ بَعْضُهُمْ يَكُونُ سِنُّهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْسِكَ ضَرُورَةَ نَفْسِهِ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَكْتَبِ وَيُلَوِّثُ بِهِ ثِيَابَهُ وَمَكَانَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يُقْرِئَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي إقْرَائِهِ لَهُمْ إلَّا وُجُودُ التَّعَبِ غَالِبًا وَتَلْوِيثُ مَوْضِعِ الْقُرْآنِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ الصِّبْيَانِ بِالْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ السِّنِّ غَالِبًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إلَى الْمَكْتَبِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ تَعَبِهِمْ لَا لِأَجْلِ الْقِرَاءَةِ وَحَامِلُ الْقُرْآنِ يَجِلُّ مَنْصِبُهُ الرَّفِيعُ عَنْ تَرْبِيَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُمْ وَفِي إقْرَائِهِ لِغَيْرِهِمْ سَعَةٌ وَفَائِدَةٌ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ يُعَلِّمَهُمْ آدَابَ الدِّينِ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا
كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِمَا إذْ ذَاكَ
فَيُعَلِّمُهُمْ السُّنَّةَ فِي حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءِ
بَعْدَ الْأَذَانِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ
دُعَاءَهُمْ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ
الشَّرِيفِ ثُمَّ يُعَلِّمُهُمْ حُكْمَ الِاسْتِبْرَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا
وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالرُّكُوعُ بَعْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَتَوَابِعُهَا
وَيَأْخُذُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا وَلَوْ مَسْأَلَةً
وَاحِدَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَتْرُكَهُمْ يَشْتَغِلُونَ بَعْدَ الْأَذَانِ بِغَيْرِ أَسْبَابِ
الصَّلَاةِ بَلْ يَتْرُكُونَ كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ وَيَشْتَغِلُونَ
بِذَلِكَ حَتَّى يُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ فِي
قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ يَمْضُونَ إلَى مَوْضِعِ وَقْفٍ أَوْ مَوْضِعِ مِلْكٍ
أُبِيحَ لَهُمْ أَوْ إلَى بُيُوتِهِمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً
بِسَوَاءٍ وَيُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ
مُؤَدِّبُهُمْ ، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّعِبِ أَوْ الْعَبَثِ
فَيُصَلُّونَ فِي الْمَكْتَبِ جَمِيعًا وَيُقَدِّمُونَ أَكْبَرَهُمْ فِيهِ
فَيُصَلِّي بِهِمْ جَمَاعَةً .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَوِّدَهُمْ
الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُسَامِحُهُمْ فِي
تَرْكِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا يُعَوِّدَهُمْ الصَّلَاةَ أَفْذَاذًا ؛
لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا أَعْنِي شُهُودَ الْجَمَاعَةِ
هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى
أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ .
فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ وَتَوَابِعِهَا رَجَعُوا لِمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْوَظَائِفِ فِي الْمَكْتَبِ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ وَقْتُ كَتْبِهِمْ الْأَلْوَاحَ مَعْلُومًا وَوَقْتُ
تَصْوِيبِهَا مَعْلُومًا وَوَقْتُ عَرْضِهَا مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ
قِرَاءَةُ الْأَحْزَابِ حَتَّى يَنْضَبِطَ الْحَالُ وَلَا يَخْتَلَّ
النِّظَامُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْهُمْ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَابَلَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فَرُبَّ صَبِيٍّ
يَكْفِيه عُبُوسَةُ وَجْهِهِ عَلَيْهِ وَآخَرَ لَا يَرْتَدِعُ إلَّا
بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ وَآخَرَ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا
بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
وَقَدْ جَاءَ
أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُضْرَبُ عَلَيْهَا إلَّا لِعَشْرٍ فَمَا سِوَاهَا
أَحْرَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ بِالرِّفْقِ مَهْمَا
أَمْكَنَهُ إذْ إنَّهُ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ فِي هَذَا السِّنِّ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي سِنِّ مَنْ
يُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَاضْطُرَّ إلَى ضَرْبِهِ ضَرَبَهُ
ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ
شَيْئًا بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ،
فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ فِيمَا بَيْنَ
الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ سَعَةٌ .
لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ
الْآلَةُ الَّتِي يَضْرِبُ بِهَا دُونَ الْآلَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي
تُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ { رَجُلًا
اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ فَوْقَ
هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ دُونَ
هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ } .
وَلَا يَكُونُ الْأَدَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَشَرَةِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَطْرَأُ عَلَى الصَّبِيِّ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ .
وَلْيَحْذَرْ الْحَذَرَ الْكُلِّيَّ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُمْ
يَتَعَاطَوْنَ آلَةً اتَّخَذُوهَا لِضَرْبِ الصِّبْيَانِ مِثْلَ عَصَا اللَّوْزِ الْيَابِسِ وَالْجَرِيدِ الْمُشَرَّحِ وَالْأَسْوَاطِ النُّوبِيَّةِ وَالْفَلَقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ وَهُوَ كَثِيرٌ وَلَا يَلِيقُ هَذَا بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى حَمْلِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إذْ إنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا أُدْرِجَتْ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إلَيْهِ }
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ الْخَطَّ
وَالِاسْتِخْرَاجَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ حِفْظَ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُمْ
بِذَلِكَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْحِفْظِ وَالْفَهْمِ فَهُوَ أَكْبَرُ
الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَفَهْمِ
مَسَائِلِهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ
لِمَسْحِ الْأَلْوَاحِ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ مُصَانٌ نَظِيفٌ لَا يُمْشَى
فِيهِ بِالْأَقْدَامِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَأْخُذُ الْمَاءَ الَّذِي
يَجْتَمِعُ مِنْ الْمَسْحِ فَيَحْفِرُ لَهُ فِي مَكَان طَاهِرٍ مُصَانٍ
عَنْ أَنْ يَطَأَهُ قَدَمٌ وَيُجْعَلُ فِيهِ أَوْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ
أَوْ الْبِئْرِ أَوْ يُجْعَلُ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ لِكَيْ يَسْتَشْفِيَ
بِهِ مَنْ يَخْتَارُ ذَلِكَ الْمَاءَ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَغْسِلُ بِهِ
الْخِرَقَ بَعْدَ الْمَسْحِ يُجْعَلُ فِي مَوْضِعٍ بِحَيْثُ لَا
يُمْتَهَنُ وَيُشْتَرَطُ فِي الْخِرَقِ الَّتِي يُمْسَحُ بِهَا
الْأَلْوَاحُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي
تُبَلُّ مِنْهُ حِينَ يُمْسَحُ بِهِ طَاهِرًا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمَاءُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ حُلْوًا
فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرَبُهُ لِلِاسْتِشْفَاءِ
بِهِ ، فَإِنْ كَانَ أُجَاجًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ تَنَغَّصَ
بِشُرْبِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْآنِيَةِ إذَا غُسِلَتْ فِيهَا الْأَيْدِي
بَعْدَ الْأَكْلِ أَنَّهُ لَا يُبْصَقُ فِيهَا وَلَا يُغْسَلُ فِيهَا
بِأُشْنَانٍ وَلَا غَيْرِهِ خِيفَةَ أَنْ يَشْرَبَهُ مَنْ يَتَبَرَّكُ
بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَفِي الْمَاءِ الَّذِي تُمْسَحُ بِهِ الْأَلْوَاحُ
مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ
الصِّبْيَانَ مِمَّا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَمْسَحُونَ
الْأَلْوَاحَ أَوْ بَعْضَهَا بِبُصَاقِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛
لِأَنَّ الْبُصَاقَ مُسْتَقْذَرٌ وَفِيهِ امْتِهَانٌ وَالْمَوْضِعُ
مَوْضِعُ تَرْفِيعٍ وَتَعْظِيمٍ وَتَبْجِيلٍ فَيُجَلُّ عَنْ ذَلِكَ
وَيُنَزَّهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسَامِحَ الصِّبْيَانَ فِي دَقِّ الْمَسَامِيرِ فِي الْمَكْتَبِ إنْ كَانَ وَقْفًا ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ إذْ إنَّهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فِي بُيُوتِهِمْ لَا فِي الْمَكْتَبِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ بَيْتُهُ بَعِيدًا بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الذَّهَابُ وَالرُّجُوعُ فَيُكَلِّفُهُ الْمُؤَدِّبُ أَنْ يَمْضِيَ إلَى بَيْتِ أَحَدِ أَقَارِبِهِ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَعَارِفِهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَجْعَلْ وَقْتَ غِذَائِهِ حِينَ يَنْصَرِفُ الصِّبْيَانُ إلَى غِذَائِهِمْ وَقَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَدِّبَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ
وَيُعَلِّمُهُمْ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ
الْقُرْآنَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَوِّدَهُمْ الْقِرَاءَةَ فِي
جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَعَوَّدُوا ذَلِكَ فِي
صِغَرِهِمْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ فِي كِبَرِهِمْ وَأَيْضًا
فَإِنَّ حِفْظَهُمْ لَا يَتَأَتَّى بِذَلِكَ إذْ إنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ
مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُ إذَا كَانُوا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ
وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْلَى بَلْ هُوَ
الْمُتَعَيِّنُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُهُ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ لَا يَسْتَقْضِيَ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَحْتَاجُ
إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَبَاهُ فِي ذَلِكَ وَيَأْذَنَ لَهُ عَنْ
طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَلَا يَسْتَقْضِي الْيَتِيمَ مِنْهُمْ فِي حَاجَةٍ
بِكُلِّ حَالٍ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْسِلَ إلَى بَيْتِهِ أَحَدًا
مِنْ الصِّبْيَانِ الْبَالِغِينَ أَوْ الْمُرَاهِقِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ
ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ إلَى سُوءِ الظَّنِّ
بِأَهْلِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ
فِيهِ خَلْوَةَ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَهُوَ
مُحَرَّمٌ ، فَإِنْ سَلِمُوا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي
أَعْرَاضِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا وَمَا ذُكِرَ مِنْ
اسْتِقْضَاءِ حَوَائِجِهِ لِبَعْضِ الصِّبْيَانِ فَهُوَ مِنْ بَابِ
الْجَوَازِ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَقْضِيَ أَحَدًا
مِنْهُمْ فِي حَاجَةٍ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى
تَعْلِيمِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ .
لَكِنْ قَدْ
تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَاءَهُ شَيْءٌ أَخَذَهُ
عَلَى سَبِيلِ الْفُتُوحِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ لَكِنْ
يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ مُتَشَوِّفَةٍ لِشَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ
نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ
يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَكَانِ الَّذِي
يَقْضِي الصِّبْيَانُ فِيهِ ضَرُورَةَ الْبَشَرِيَّةِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَتْرُكَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُ
بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ
فِي جُدْرَانِ بُيُوتِ النَّاسِ وَطُرُقَاتِهِمْ فَيُنَجِّسُونَ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ فَمَنْ جَلَسَ إلَى تِلْكَ الْجُدْرَانِ تَلَوَّثَ ثَوْبُهُ
بِالنَّجَاسَةِ وَكَذَلِكَ الْمَاشِي قَدْ يُصِيبُهُ مِنْهَا أَذًى .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اتَّقُوا
الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ } فَهَذَا مِنْ آكِدِهَا فَتَلْحَقُ الصِّبْيَانَ
اللَّعْنَةُ .
وَهَذَا
كُلُّهُ فِي ذِمَّةِ مَنْ سَكَتَ لَهُمْ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فَيَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ
يَكُونُ مُتَزَوِّجًا ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ
فَالْغَالِبُ إسْرَاعُ سُوءِ الظَّنِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَنْ كَانَ
غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَالْبَنَاتِ فِي
الظَّاهِرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى فَيَسَرِي
إلَيْهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ فَإِذَا كَانَ مُتَأَهِّلًا انْسَدَّ بَابُ
الْكَلَامِ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا
يَضْحَكَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَلَا يُبَاسِطُهُمْ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ
إلَى الْوُقُوعِ فِي عِرْضِهِ وَعِرْضِهِمْ وَإِلَى زَوَالِ حُرْمَتِهِ
عِنْدَهُمْ إذْ إنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤَدِّبِ أَنْ تَكُونَ حُرْمَتُهُ
قَائِمَةً عَلَى الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ النَّاسِ الَّذِينَ
يُقْتَدَى بِهِمْ فَلْيَهْتَدِ بِهَدْيِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّبْيَانَ يَمْضُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ لِقَضَاءِ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِغِذَائِهِمْ .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ
الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الصِّبْيَانَ
الَّذِينَ عِنْدَهُ إذَا أَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغِذَائِهِ أَوْ
بَعْضُهُمْ فَيَتَسَلَّمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَخْلِطُ جَمِيعَ
ذَلِكَ ثُمَّ يُعْطِي مِنْهُ مَنْ يَخْطُرُ لَهُ فَتَجِدُ بَعْضَ
الصِّبْيَانِ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ غِذَائِهِ فَيَحْرِمُهُ
وَيُوَفِّرُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ يَخْتَارُ وَهَذَا حَرَامٌ سُحْتٌ
وَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَيَتَعَيَّنُ إقَامَتُهُ مِنْ الْمَكْتَبِ
إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِشَرْطِ أَنْ تُعْلَمَ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ
.
وَفِيهِ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ عِدَّةٌ .
مِنْهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ
غِذَاءَ هَذَا فَيُعْطِيه لِغَيْرِهِ فَيُدْخِلُ الْخَلَلَ فِي غِذَاءِ
النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَالِدُ بَعْضِهِمْ صَالِحًا
مُتَوَرِّعًا فِي كَسْبِهِ وَآخَرُ مَكَّاسًا ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ
غِذَاءُ بَعْضِهِمْ أَحْسَنَ مِنْ غِذَاءِ الْآخَرِ فِي الْمَطْعَمِ
وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَوَلِيُّهُ لَمْ يَرْضَ
بِذَلِكَ سِيَّمَا إنْ كَانَ لِيَتِيمٍ فَلَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ وَلَا
يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
وَبَعْضُ
الْمُؤَدِّبِينَ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا مُحَرَّمًا وَهُوَ
أَنَّهُ يَأْكُلُ مَعَ الصِّبْيَانِ مِنْ أَغْذِيَتِهِمْ وَيُطْعِمُ مَنْ
يَخْتَارُهُ وَمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ وَيُرْسِلُ مِنْهَا إلَى بَيْتِهِ مَا
يَخْتَارُ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخُلْسَةِ .
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الصِّبْيَانَ بَقِيَ لَهُمْ غِذَاؤُهُمْ وَلَمْ يَمَسَّهُ غَيْرُهُمْ فَأَكَلُوا مِنْهُ مَا
شَاءُوا
وَبَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ وَتَرَكُوهَا فِي الْمَكْتَبِ رَغْبَةً
عَنْهَا لَجَازَ لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيَنْتَفِعَ بِهَا .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يُعْلِمَ أَوْلِيَاءَ الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ إنْ كَانُوا
جَمَاعَةً أَوْ وَاحِدًا إنْ انْفَرَدَ هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِيَتِيمٍ
كَمَا تَقَدَّمَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ لَمْ يَأْكُلْ
شَيْئًا مِنْ غِذَائِهِ وَتَرَكَهُ كُلَّهُ فِي الْمَكْتَبِ فَلَا يَجُوزُ
لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَخْذِهِ إلَّا بِإِعْلَامِ وَالِدِ
الصَّبِيِّ وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهَا
فَضَلَاتٌ عَنْ شِبَعِهِمْ .
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُهُ الصِّبْيَانُ
مِنْ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ شَيْئًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ
بِالسَّوِيَّةِ فَيَشْتَرِي بِهِ مَاعُونَ الْمَاءِ وَالْمَاءَ وَلَا
يُمَكِّنُ الصِّبْيَانَ مِنْ الذَّهَابِ إلَى بُيُوتِهِمْ لِلشُّرْبِ
وَإِنْ كَانَ بَيْتُ بَعْضِهِمْ قَرِيبًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا
يَتَكَرَّرُ فِي الْغَالِبِ .
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ
فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَشْرَبَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ
إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ آبَاؤُهُمْ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ
يَتِيمٌ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا لِثَمَنِ الْمَاءِ وَلَا غَيْرِهِ
وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي
الشُّرْبِ وَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مُؤَدِّبِهِمْ .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ سُكْنَى دُورِ الْقَرَافَةِ تُمْنَعُ وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَتَّخِذُ فِيهَا مَكْتَبًا لِلْعِلَّةِ
الْمَذْكُورَةِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ وَلَا حَاجَةَ
تَدْعُو إلَى تَفْصِيلِهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مَعْلُومٌ لِمَنْ
وُفِّقَ لَهُ
فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمَكْتَبِ
وَانْصِرَافُ الصِّبْيَانِ وَاسْتِرَاحَتُهُمْ يَوْمَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ
لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَلِكَ انْصِرَافُهُمْ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ
يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَوِّحُوا الْقُلُوبَ
سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ } فَإِذَا اسْتَرَاحُوا يَوْمَيْنِ فِي
الْجُمُعَةِ نَشَطُوا لِبَاقِيهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ
أَحَدًا عِنْدَهُ مِنْ الصِّبْيَانِ مِمَّنْ فِيهِ رَائِحَةٌ مَا مِنْ
الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ إذْ إنَّ ذَلِكَ سَبِيلٌ لِلْوَقِيعَةِ فِي حَقِّ
بَعْضِ مَنْ فِي الْمَكْتَبِ عِنْدَهُ وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى أَنْ
يَشْتَهِرَ مَكْتَبُهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَقَدْ يُنْسَبُ إلَى
الْمُؤَدِّبِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ
أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا إلَى عَدَمِ مَجِيءِ
الصِّبْيَانِ إلَيْهِ أَوْ قِلَّتِهِمْ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَمْزِيقُ
الْعِرْضِ وَقِلَّةُ الرِّزْقِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ
وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا
يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُؤَدِّبِينَ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَلَّ
عِنْدَهُ الصِّبْيَانُ أَوْ فَتَحَ مَكْتَبًا وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ
فَإِنَّهُ يَكْتُبُ أَوْرَاقًا وَيُعَلِّقُهَا عَلَى بَابِ الْمَكْتَبِ
لِيَكْثُرَ مَجِيءُ الصِّبْيَانِ إلَيْهِ وَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا
سُفَهَاءُ النَّاسِ وَفِيهِ اسْتِشْرَافُ النَّفْسِ لِتَحْصِيلِ
الدُّنْيَا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمَنْصِبُ الْمُؤَدِّبِ يَجِلُّ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ .
وَيَنْبَغِي
أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصِّبْيَانِ شَيْئًا مِمَّنْ يَأْتِي
بِهِ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي
مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ قَبُولَهُ لِذَلِكَ مِنْ بَابِ
التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِهِمْ وَفِي التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِهِمْ
تَعْظِيمٌ لَهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ فِيهِ مَا فِيهِ .
وَقَدْ يَكُونُ
ذَلِكَ سَبَبًا إلَى أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دِينَهُمْ هُوَ
الْحَقُّ وَأَنَّ غَيْرَهُ هُوَ الْبَاطِلُ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ تَعْظِيمِ
الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِيهِ عَدَمُ الْإِنْكَارِ
وَالتَّغْيِيرِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَتَاهُ
بِهِ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ
وَلِغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ وَبَعْضُ
الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشْنَعُ مِنْ
هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَطْلُبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ .
وَبَعْضُ
الْمُؤَدِّبِينَ يَطْلُبُ مِنْ بَعْضِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ عِنْدَهُ
فُلُوسًا يَأْتُونَ بِهَا إلَيْهِ حَتَّى يَصْرِفَهُمْ فِي مَوَاسِمِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا أَشْنَعُ مِمَّا قَبْلَهُ وَبَعْضُ
الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ
الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي أَعْيَادِهِمْ وَمَوَاسِمِهِمْ وَهَذَا
أَقْبَحُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْمُؤَدِّبِينَ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الصِّبْيَانَ لِغِذَائِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ
وَيَتْرُكَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَقْتًا يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ فِي
بُيُوتِهِمْ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُبِيحَ لَهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ فِي
الْمَكْتَبِ ؛ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ إذَا خَرَجُوا عَمَّا بُنِيَ
الْمَكْتَبُ لَهُ عَادَ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ غَالِبًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى
غَيْرِهِمْ وَمَا بُنِيَ الْمَكْتَبُ إلَّا لِأَجْلِ الدَّرْسِ
وَالْحِفْظِ وَالْعَرْضِ وَالْكِتَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ
فَلْيَكُنْ فِي بُيُوتِهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ يَنَامُونَ فِيهِ وَقْتًا
مَا فِي الْحَرِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِمَّا هُوَ أَخَفُّ مِنْ
هَذَا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَمْضُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ وَيَأْكُلُونَ فِيهَا
وَلَا يَأْكُلُونَ فِي الْمَكْتَبِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا اشْتَكَى
أَحَدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ وَهُوَ فِي الْمَكْتَبِ بِوَجَعِ عَيْنَيْهِ
أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ وَعَلِمَ صِدْقَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصْرِفَهُ
إلَى بَيْتِهِ وَلَا يَتْرُكُهُ يَقْعُدُ فِي الْمَكْتَبِ بِغَيْرِ
قِرَاءَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِبَطَالَةِ غَيْرِهِ فِي الْغَالِبِ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ
صِبْيَانِ مَكْتَبِهِ يَحْمِلُهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَالْمَنْعُ
فِي الْأُنْثَى أَشَدُّ وَلَا يَسْتَأْذِنُ فِي مِثْلِ هَذَا الْآبَاءَ
بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي اسْتِقْضَائِهِمْ حَوَائِجَهُ فَإِنَّهُ
يَسْتَأْذِنُ الْآبَاءَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ
الْمَكْتَبِ أَصْلًا مَا دَامَ الصِّبْيَانُ فِيهِ إذْ إنَّهُمْ لَا
عَقْلَ لَهُمْ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يَخْطُرُ لَهُمْ فِعْلُهُ فَلَا بُدَّ
لَهُمْ مِنْ رَاعٍ يَرْعَاهُمْ بِنَظَرِهِ وَيَسُوسُهُمْ بِعَقْلِهِ
وَيُؤَدِّبُهُمْ بِكَلَامِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاعِيَ إذَا
غَفَلَ عَنْ الْمَاشِيَةِ قَلِيلًا اخْتَلَّ نِظَامُهَا وَتَغَيَّرَ
حَالُهَا فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا تَلِفَ بَعْضُهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا
لِعَدَمِ الْعَقْلِ عِنْدَهَا .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّبْيَانَ مَعَ الْمَجَانِينِ
حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ
صِبْيَانَكُمْ
وَمَجَانِينَكُمْ } الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغِيبَ الْغَيْبَةَ الْيَسِيرَةَ لِضَرُورَتِهِ وَلَا
يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِهَا عَنْهُ مِثْلُ
خُبْزِهِ إذَا اخْتَمَرَ لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَسْتَنِيبَ
عَلَيْهِمْ أَكْبَرَهُمْ سِنًّا وَأَعْقَلَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَأْمُرَهُ
أَنْ لَا يَضْرِبَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي غَيْبَتِهِ وَلَا يَنْهَرَهُ
إلَّا أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَتَبَ اسْمَهُ حَتَّى
يَأْتِيَ الْمُؤَدِّبُ فَيُعْلِمَهُ بِهِ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ .
وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ مِنْ
كَتْبِهِمْ أَوْرَاقَ الْمُسْتَأْذِنَاتِ لِلْأَفْرَاحِ فَيَكْتُبُ فِيهَا
بِنَحْوِ قَوْلِهِ إلَى الْحِجَابِ الْمَنِيعِ وَالسِّتْرِ الرَّفِيعِ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّزْكِيَةِ وَمَا شَاكَلَهَا وَالشِّعْرِ
الَّذِي يُنَزَّهُ غَيْرُ الْمُؤَدِّبِ عَنْ الْكَلَامِ بِهِ فَكَيْفَ
بِالْمُؤَدِّبِ .
وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْحُرُوزَ لِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلِكِبَارِهِمْ .
وَكَذَلِكَ الصَّحِيفَةُ فِيهَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرَّقْيُ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ .
وَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ
وَلَوْ قِيلَ إنَّ فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ مَا لَا يُحْصَى فَإِنَّهُ
مَمْنُوعٌ وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
فَقَالَ وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ .
وَيَنْبَغِي لِآبَاءِ
الصِّبْيَانِ أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِأَوْلَادِهِمْ أَفْضَلَ مَا
يُمْكِنُهُمْ فِي وَقْتِهِمْ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ ، وَإِنْ كَانَ
مَوْضِعًا بَعِيدًا فَيَخْتَارُونَ لَهُمْ أَوَّلًا أَهْلَ الدِّينِ
وَالتَّقْوَى ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ
الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ أَحْسَنُ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِالْفِقْهِ
فَهُوَ أَوْلَى ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِكِبَرِ السِّنِّ فَهُوَ أَجَلُّ
، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِوَرَعٍ وَزُهْدٍ فَهُوَ أَوْجَبُ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ إذْ إنَّهُ كَيْفَمَا زَادَتْ الْخِصَالُ الْمَحْمُودَةُ فِي
الْمُؤَدِّبِ زَادَ الصَّبِيُّ بِهِ تَجَمُّلًا وَرِفْعَةً وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ النَّظَرُ فِيمَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَتَجَنَّبَ
مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ وَبَعْضُ مَشَايِخِ الْقُرْآنِ
مِنْ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَفِيهِ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ .
مِنْهَا وَطْءُ الْأَعْقَابِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَقَدْ
ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ
بِالدِّرَّةِ وَقَالَ فِيهِ ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ
انْتَهَى .
وَمِنْهَا أَنَّ السُّوقَ مَوْضِعُ اللَّغَطِ وَالْكَلَامِ
وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يُقْرَأَ فِي مِثْلِ هَذِهِ
الْمَوَاضِعِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُلِيَ تَعَيَّنَ
الْإِنْصَاتُ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ فَيَقَعُ مَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ فِي
الْأَسْوَاقِ أَوْ الطُّرُقِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَالْمُسْلِمُ يُحِبُّ
لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ
قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَسْلَمُ الْقَارِئُ
غَالِبًا مِنْ أَنْ يَقْرَأَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ
وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُنَزَّهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْهَا .
وَمِنْهَا
إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ يَنْبَغِي لِقَارِئِهِ وَلِسَامِعِهِ أَنْ
يَتَدَبَّرَهُ وَيَتَفَكَّرَ فِيهِ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الْأَسْوَاقِ
وَالطُّرُقِ غَالِبًا وَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ خَارِجَ الْبَلَدِ إذَا لَمْ
تُعَايَنْ النَّجَاسَةُ وَفِي الِانْتِقَالِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ
مَعَ عَدَمِ مُعَايَنَةِ النَّجَاسَةِ أَيْضًا وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذُكِرَ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا إذْ الْمَعْنَى فِيهِمَا
وَاحِدٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ
الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ وَقْتُ
الصَّلَاةِ يُؤَذِّنُونَ عَلَى بَابِ الْمَكْتَبِ أَوْ فَوْقَ سَطْحِهِ
أَوْ فِيهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَمْنُوعَةِ ؛ لِأَنَّ
الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَهْرَعُ النَّاسُ
إلَيْهَا لِأَدَاءِ فَرْضِهِمْ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ وَالْمَكْتَبُ لَيْسَ
بِمَسْجِدٍ حَتَّى يَأْتِيَ النَّاسُ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ
وَمِثْلُهُ مَنْ يُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ فَإِنَّهُ
يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ
تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } ؛ لِأَنَّهُ يُنَادِي النَّاسَ
بِلِسَانِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَمَعْنَى
ذَلِكَ هَلُمُّوا إلَى الصَّلَاةِ هَلُمُّوا إلَى الْفَلَاحِ ثُمَّ مَعَ
هَذَا النِّدَاءِ يَغْلِقُ الْبَابَ دُونَهُمْ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ ؛
لِأَنَّهُ جَمَعَ مَفَاسِدَ .
مِنْهَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ ؛
لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَسْمَعُهُ فَيَأْتِي إلَى مَوْضِعِ
الْأَذَانِ فَلَا يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى دُخُولِ الْمَكَانِ الَّذِي
سَمِعَ فِيهِ الْأَذَانَ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ الْمَشْيَ
بِإِذْنِهِ إلَى أَنْ أَتَوْا سِيَّمَا الْغَرِيبُ الَّذِي هُوَ عَابِرُ
سَبِيلٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ لَوْ أُذِّنَ خَارِجَ
الْبَلَدِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي بَرِّيَّةٍ فَمَنْ
أَتَى إلَيْهِ صَلَّى مَعَهُ .
وَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنْ
بَابِ الْمَنْدُوبِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ اعْتَنَى بِهِ { يَا بُنَيَّ
إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْت فِي غَنَمِك
أَوْ بَادِيَتِك فَأَذَّنْت بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ
فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ
وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }
انْتَهَى .
وَالْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ
وَالْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا
وَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْتِمَ مَنْ اسْتَحَقَّ الْأَدَبَ مِنْ الصِّبْيَانِ
وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ هَذَا وَهُوَ حَرَامٌ
وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لِلْمُؤَدِّبِ غَيْظٌ مَا عَلَى الصَّبِيِّ
شَتَمَهُ وَتَعَدَّى بِذَلِكَ إلَى وَالِدَيْهِ وَرُبَّمَا حَصَلَ
لِبَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَذْفٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ
سِيَّمَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي خُلُقِهِ حِدَّةٌ أَوْ فِيهِ غِلْظَةٌ
وَفَظَاظَةٌ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا أَدْرَكَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ
أَنْ لَا يُؤَدِّبَ الصَّبِيَّ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ بَلْ يَتْرُكَهُ
حَتَّى يَسْكُنَ غَيْظُهُ وَيَذْهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنْ الْحَنَقِ
عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يُؤَدِّبُهُ الْأَدَبَ الشَّرْعِيَّ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّبَهُ فِي حَالِ غَيْظِهِ يَخَافُ
عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَدَّى الْأَدَبَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ .
وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ }
وَعَدَاهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلَى كُلِّ مَا
يُشَوِّشُ عَلَيْهِ كَحَقْنَةٍ بِبَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ
بَيْنَ الْقَاضِي وَالْمُؤَدِّبِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بَيْنَ
الْكِبَارِ وَهَذَا يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّغَارِ وَحَامِلُ الْقُرْآنِ
يُنَزَّهُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ فَيُقِيمُ الْأَدَبَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ عِرْضَهُ وَلَا شَتَمَ أَبَوَيْهِ بَلْ
يُؤَدِّبُهُ كَمَا يُؤَدِّبُهُ وَالِدَاهُ وَهُمَا يَرْحَمَانِهِ
وَيُشْفِقَانِ عَلَيْهِ وَيَذُبَّانِ عَنْهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ
وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْآبَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا لِأَوْلَادِهِمْ
مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ مَنْ هُوَ أَوْرَعُ وَأَزْهَدُ وَأَتْقَى إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ رَضَاعٌ ثَانٍ لِلصَّبِيِّ
بَعْدَ رَضَاعِ الْأُمِّ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَفْعَلَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ
بِأَوْلَادِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ الْمَكْتَبِ الَّذِي
يَقْرَءُونَ فِيهِ كِتَابَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَعَلَّمُونَ
فِيهِ شَرِيعَةَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَيَذْهَبُونَ بِهِمْ إلَى كُتَّابِ النَّصَارَى لِتَعْلِيمِ الْحِسَابِ
وَهَذَا رَضَاعٌ ثَالِثٌ بَعْدَ رَضَاعِ الْمُؤَدِّبِ .
وَقَدْ قِيلَ
الرَّضَاعُ يُغَيِّرُ الطِّبَاعَ فَهَذَا أَمْرٌ شَنِيعٌ قَبِيحٌ مِنْ
الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ
بَعْدُ وَلَمْ يَقْرَأْ الْعِلْمَ وَلَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ
.
وَقَدْ تَسْبِقُ إلَيْهِ الدَّسَائِسُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ الَّذِي
يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْحِسَابَ أَوْ مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ
صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا ثُمَّ إنَّ النَّصْرَانِيَّ مَعَ ذَلِكَ
يُؤَدِّبُهُ عَلَى مَا يَخْطُرُ لَهُ وَيَمُرُّ بِبَالِهِ مِنْ كُفْرِهِ
وَطُغْيَانِهِ وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ تَعْلِيمِهِ
الْحِسَابَ وَهَذَا لَا يَرْضَى بِهِ عَاقِلٌ وَلَا مَنْ فِيهِ مُرُوءَةٌ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّبِيُّ فِي هَذَا السِّنِّ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا
يُلْقَى إلَيْهِ مِثْلُ الشَّمْعِ أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْت عَلَيْهِ طُبِعَ
فِيهِ فَيُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَتَغَيَّرَ
حَالُهُ فَيَرْجِعُ مَكَانُ الصِّدْقِ كَذِبًا وَبُهْتَانًا وَمَوْضِعُ
النَّصِيحَةِ غِشًّا وَخَدِيعَةً وَمَوْضِعُ الْأُلْفَةِ بِالْمُسْلِمِينَ
انْقِطَاعًا وَوَحْشَةً وَمَكَانُ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ
خُبْثًا وَمُدَاهَنَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَكْرِهِمْ وَخِصَالِهِمْ
الرَّدِيئَةِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ
يَرْكَنَ إلَى قَوْلِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ إلَى شَيْءٍ مَا مِنْ
اعْتِقَادِهِ أَوْ اسْتِحْسَانِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُمَكِّنْ زَائِغَ الْقَلْبِ مِنْ أُذُنَيْك لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُكَ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَقَدْ
سَمِعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا مِنْ
بَعْضِ أَهْلِ الْقَدَرِ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِهِ فَكَانَ يَأْتِي
إخْوَانَهُ الَّذِينَ اسْتَصْحَبَهُمْ فَإِذَا نَهَوْهُ قَالَ كَيْفَ
بِمَا عَلِقَ قَلْبِي لَوْ عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ رَاضٍ أَنْ أُلْقِيَ
نَفْسِي مِنْ فَوْقِ هَذِهِ الْمَنَارَةِ لَفَعَلْت .
وَمِنْ قَوْلِ
أَهْلِ السُّنَّةِ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى بِدْعَةٍ
؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ اجْتَهَدُوا فِي التَّأْوِيلِ فَلَمْ يُعْذَرُوا
إذْ خَرَجُوا بِتَأْوِيلِهِمْ عَنْ الصَّحَابَةِ فَسَمَّاهُمْ الرَّسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِقِينَ مِنْ الدِّينِ نَقَلَهُ
ابْنُ يُونُسَ .
وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ
الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ
الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بِشْرُ بْنُ
الْحَارِثِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ ( يَا مُوسَى لَا تُخَاصِمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ فَيُلْقُوا
فِي قَلْبِك شَيْئًا فَيُرْدِيَك فَيَسْخَطَ اللَّهُ عَلَيْك ) وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ جَعَلَ
دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ فَقَدْ أَكْثَرَ الشُّغْلَ .
وَقَالَ
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إيَّاكُمْ وَالْخُصُومَاتِ فِي
الدِّينِ فَإِنَّهَا تُشْغِلُ الْقَلْبَ وَتُورِثُ النِّفَاقَ انْتَهَى .
وَقَدْ
كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الرَّضَاعِ
الثَّالِثِ أَكْثَرَ مِنْ الرَّضَّاعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَهُمَا
رَضَاعُ الْأُمِّ وَرَضَاعُ الْمُؤَدِّبِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ
رَجَعَ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالْأُمُورِ وَقَابِلِيَّةٌ لِقَبُولِ
مَا سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ رَضَاعِ الْمُؤَدِّبِ رَضَاعُ
الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ
نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَيِّنِينَ لَهَا
الْكَاشِفِينَ عَنْ غَامِضِهَا وَالْمُخْرِجِينَ لِخَبَايَاهَا
فَإِذَا
ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ هَذَا الرَّضَاعَ الثَّالِثَ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ
إنْ وَقَعَ لَهُ غَيْرُ مَا سَبَقَ إلَيْهِ سَارَعَ بِسَبَبِ عِلْمِهِ
وَمَا انْطَبَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا تَحَصَّلَ عَنْهُ مِنْ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَحَبَّتِهِمَا وَإِيثَارِهِمَا إلَى
إنْكَارِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ لِذَلِكَ .
وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ
النَّاسِ بِوَلَدِهِ إلَى بَعْضِ السَّلَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يُقْرِئَهُ فَقَالَ لَهُ أَقَرَأَ قَبْلَ هَذَا عِلْمًا غَيْرَ مَا نَحْنُ
فِيهِ يَعْنِي مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ نَعَمْ قَالَ
وَمَا هُوَ قَالَ الْعَرَبِيَّةُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ بِوَلَدِك فَإِنَّهُ
لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ وَلِمَ قَالَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ
إلَيْهِ تَغَزُّلَاتُ الْعَرَبِ وَأَشْعَارُهَا وَجُبِلَ عَلَى ذَلِكَ
فَكَيْفَ يُمْكِنُ صَلَاحُهُ فَلَمْ يُقْرِئْهُ وَمَعْلُومٌ
بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ
فَهْمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَفَهْمِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ مَا وَقَعَ لَوْمُ هَذَا السَّيِّدِ لَهُ إلَّا
لِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ تَغَزُّلَاتِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا فَلَوْ
سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ
حَيْثُ إنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُسَنُّ وَمَا يُنْدَبُ
إلَيْهِ لَمَا عَذَلَهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا تَحَفُّظَهُمْ عَلَى سَبْقِ
الْعَرَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الشَّرْعِ كَمَا
تَقَدَّمَ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهَا .
وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَقِّ
الْمُؤَدِّبِ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ
الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ أَحْسَنُ أَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ عَالِمًا
بِالْعَوَامِلِ وَهُوَ لِمَ رُفِعَ هَذَا وَنُصِبَ هَذَا وَخُفِضَ هَذَا
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ .
أَحَدُهَا عِلْمُ الْعَوَامِلِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ وَالثَّانِي عِلْمُ اللُّغَةِ وَالثَّالِثُ عِلْمُ الْأَدَبِ
وَالرَّابِعُ عِلْمُ الْبَدِيعِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ
إلَيْهِ الْمُؤَدِّبُ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي الْغَالِبِ .
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى
تَمَامِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي دُخُولِ الصَّبِيِّ لِكِتَابِ النَّصَارَى .
فَمِنْ
ذَلِكَ مَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الذِّلَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَا
فَعَلَ هَذَا بِوَلَدِهِ وَفِيهِ تَعْظِيمُ النَّصَارَى .
فَإِنَّهُمْ
إذَا رَأَوْا أَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ يَأْتُونَ إلَيْهِمْ
لِيَتَعَلَّمُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ مِنْهُمْ رَأَوْا أَنَّ لَهُمْ
رِفْعَةً وَسُوْدُدًا وَفَضِيلَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ
مَمْنُوعٌ شَرْعًا وَعَقْلًا فَيَا لَلَّهُ وَيَا لَلْعَجَبُ كَيْفَ
يُتْرَكُ التَّعْلِيمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ فِي
هَذَا الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُؤْتَى
إلَى نَصْرَانِيٍّ عَدُوٍّ لِلدِّينِ وَعَدُوٍّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ
مُظْهِرٍ لِذَلِكَ مُعَانِدٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَهَذَا مِنْ الْخَسْفِ
الْبَاطِنِيِّ الَّذِي لَا يُرْتَابُ فِيهِ وَلَا يُشَكُّ .
فَإِنْ
قَالَ قَائِلٌ إنَّ النَّصَارَى فِي عِلْمِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ
أَحْذَقُ وَأَعْرَفُ بِالتَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
فَالْجَوَابُ
أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّبِيُّ عَلِمَ كُلَّ مَا
عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ
مِنْ النَّصْرَانِيِّ حَتَّى فَاقَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى
بَعْدَ ذَلِكَ إلَى النَّصْرَانِيِّ لِزِيَادَةٍ عِنْدَهُ فِيهِ لَكَانَ
هَذَا الْقَوْلُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمَيْلِ إلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ
وَالصَّبِيُّ بَعْدُ لَمْ يَلُمَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْحِسَابِ وَلَا
غَيْرِهِ وَلَوْ عَرَفَهُ لَكَانَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْمُسْلِمِينَ
مَنْ يَعْرِفُ أَكْثَرَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَأَمْثَالِهِ فَلَا حَاجَةَ
تَدْعُو إلَى التَّعْلِيمِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ .
وَقَدْ أَقَامَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْكُمْ بِالْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ نَهَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَّخِذَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَاتِبًا .
وَقَالَ
جَوَابًا لِمَنْ أَثْنَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْحِذْقِ
فِي الْحِسَابِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ أَيْضًا لَا تُكْرِمُوهُمْ وَقَدْ
أَهَانَهُمْ
اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَأْمَنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى وَلَا تَسْتَعْمِلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ إلَّا
الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ كَمَا قَالَ .
فَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى اشْتِرَاطِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَشْيَةَ فِيمَنْ تَوَلَّى مِنْ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَمَا بَالُك فِي حَقِّ أَعْدَاءِ
الدِّينِ وَإِنَّمَا هِيَ حُجَجٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَنَفْسَانِيَّةٌ
وَرُكُوبٌ لِلْهَوَى وَرُكُونٌ لِلْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَتَرْكٌ
لِلنَّظَرِ إلَى أَمْرِ الشَّرِيعَةِ وَمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ مِنْ
الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ
أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ
الَّتِي يَأْبَاهَا الْإِسْلَامُ وَمَنْ فِيهِ عُذُوبَةُ طَبْعٍ
وَانْقِيَادٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَهِيَ أَنَّ
الْمُعَلِّمَ النَّصْرَانِيَّ يَجْلِسُ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ
وَأَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُ وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ أَوْ
رُكْبَتَهُ حِينَ إتْيَانِهِمْ إلَيْهِ وَانْصِرَافِهِمْ وَيُقِيمُ
السَّطْوَةَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ .
وَفِيهِ
أَيْضًا أَنَّ الْوَلَدَ يَتَرَبَّى عَلَى تَرْكِ التَّحَفُّظِ مِنْ
النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَجَاسَةٌ فِيمَا
يَعْتَقِدُونَهُ إلَّا دَمُ الْحَيْضِ لَيْسَ إلَّا وَأَبْوَالُهُمْ
وَفَضَلَاتُهُمْ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ يُسْقَوْنَ
الْأَدْوِيَةَ بِالنَّجَاسَاتِ وَيَكْتُبُونَ مِنْهَا فَتُنَجَّسُ
أَجْسَادُهُمْ وَأَثْوَابُهُمْ مِنْ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا أَنَّ
الْمُعَلِّمَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ بِحَضْرَتِهِمْ وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلَهَا وَحَاضِرَهَا فِي جُمْلَةِ
مَنْ لَعَنَ بِسَبَبِهَا وَالْوَلَدُ الْمُسْلِمُ هُوَ حَاضِرُهَا
وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَكُونُ حَامِلَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ ،
فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بَالِغًا أَوْ مُرَاهِقًا فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ
اللَّعْنَةِ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا فَاللَّعْنَةُ عَائِدَةٌ
عَلَى وَالِدَيْهِ أَوْ وَلِيِّهِ أَوْ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ
وَقَلَّ
أَنْ يَسْلَمَ الْوَلَدُ مِنْ شُؤْمِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا
غَيْرَ مُكَلَّفٍ وَرُبَّمَا أَمَرَهُمْ الْمُعَلِّمُ بِحَمْلِ الْخَمْرِ
إلَيْهِ أَوْ إلَى بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ
يَسْتَقْضِيَهُمْ فِي حَوَائِجِهِ وَضَرُورَاتِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ
الْوَلَدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ بِحَضْرَتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ
مِنْ الِانْصِرَافِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ
هُمَا مَعًا وَقَدْ يُمَوِّهُ عَلَيْهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى
يَخْرُجَ وَقْتُهَا أَوْ يَفُوتَهُ بَعْضُهَا .
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ يَعِيبُونَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ .
وَمِنْهَا
أَنَّهُمْ إذَا كَانَ صَوْمُهُمْ يَمْنَعُونَ الْمَاءَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ
إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَبْقَى أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَطَشِ
غَالِبًا .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَهُوَ
الْغَالِبُ أَنْ يَقَعَ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبَاطِلِ أَوْ فِي بَحْثِ
بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي أَلْوَاحِهِمْ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَكْتُوبٌ
بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ
بِحَضْرَتِهِ فَقَدْ يَسْبِقُ إلَى الْوَلَدِ وَيَتَعَلَّقُ بِذِهْنِهِ
مَا هُمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ
يَتَأَتَّى خَلَاصُهُ مِنْهُ غَالِبًا .
وَسَبَبُ وُقُوعِ هَذِهِ
النَّازِلَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي
الْحَدِيثِ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } فَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَخُوفِ
وَهُوَ أَنَّهُ مَا كَانَ سَبَبُ إتْيَانِ الْوَلَدِ إلَى النَّصْرَانِيِّ
لِتَعْلِيمِ الْحِسَابِ إلَّا حُبُّ الدُّنْيَا غَالِبًا لَا جَرَمَ
أَنَّهُمْ عُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فَوَقَعُوا فِي الْفَقْرِ
وَالْفَاقَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ مِنْ الْكَتَبَةِ
وَغَيْرِهِمْ .
وَإِذَا تَرَبَّى الْوَلَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا
الْحَالِ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَوَّلُهُمَا وَهُوَ
أَشَدُّهُمَا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي اعْتِقَادِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقِلَّ اهْتِبَالُهُ بِأَمْرِ
دِينِهِ
فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ مِنْهُ
مِنْ الْمُخَالَفَاتِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكْتَرِثُ بِهِ وَلَا
يَنْدَمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَغِيرُ عَلَى غَيْرِهِ وَهَذِهِ
خَصْلَةٌ تُنَافِي أَخْلَاقَ الْمُسْلِمِينَ وَهَدْيَهُمْ وَآدَابَهُمْ .
وَقَدْ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لَهُ : وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ
الْقُلُوبِ أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ وَأَرْجَى الْقُلُوبِ لِلْخَيْرِ مَا
لَمْ يَسْبِقْ الشَّرُّ إلَيْهِ وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ
وَرَغَّبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ
أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَرْسُخَ فِيهَا وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى
مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا
وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ وَتَعْمَلَ
بِهِ جَوَارِحُهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ
لِكِتَابِ اللَّهِ يُطْفِئُ غَضَبَ اللَّهِ وَأَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيْءِ
فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي يَدْخُلُ كُتَّابَ
النَّصَارَى أَنْ يَنْتَقِشَ فِي قَلْبِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ أَوْ
بَعْضُهُ وَلَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا نَسْأَلُ اللَّهَ
السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَمِنْ أَقْبَحِ مَا فِيهِ وَأَهْجَنِهِ
وَأَوْحَشِهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتَرَبَّى عَلَى تَعْظِيمِ النَّصَارَى
وَالْقِيَامِ لَهُمْ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي حَقِّ أَهْلِ
الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ مِنْ
عَوَائِدِهِمْ وَسَمَاعِ اعْتِقَادِ أَدْيَانِهِمْ الْبَاطِلَةِ حَتَّى
لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ مِنْ مَكْتَبِهِمْ لَبَقِيَ عَلَى عَادَتِهِمْ .
فِي
التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَعَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُمْ وَمِنْ
أَدْيَانِهِمْ الْبَاطِلَةِ وَأَنَّهُ إذَا رَأَى مُعَلِّمَهُ الَّذِي
عَلَّمَهُ الْحِسَابَ أَوْ الطِّبَّ قَامَ إلَيْهِ وَعَظَّمَهُ
كَتَعْظِيمِ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ بَعْضٍ
أَوْ أَكْثَرَ غَالِبًا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَعَ كُلِّ مَنْ صَحِبَهُ فِي
مَكْتَبِ مُعَلِّمِهِ
النَّصْرَانِيِّ مِنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ
دِينِهِ فَيَأْلَفُ هَذِهِ الْعَادَةَ الذَّمِيمَةَ الْمَسْخُوطَةَ
شَرْعًا وَلَا يَرْضَى بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ
غَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ أَوْ الْتِفَاتٌ إلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَلَا
تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ
مِنْهُمْ } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { لَا
تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .
وقَوْله
تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ
مُتَعَدِّدَةٌ وَفِيمَا ذُكِرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا عَدَاهُ
فَصْلٌ
فِي تَزْوِيقِ الْأَلْوَاحِ وَأَمَّا تَزْوِيقُ الْأَلْوَاحِ فِي
الْإِصْرَافَاتِ وَالْأَعْيَادِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَهُوَ مِنْ بَابِ
الْمُبَاحِ الْجَائِزِ وَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْأَوْلَادِ
وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ مَا قَدْ عُلِمَ وَفِيهِ
التَّنْشِيطُ لِلصِّبْيَانِ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى
الْقِرَاءَةِ .
لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا
أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ
مُتَعَدِّدَةٌ فَمِنْهَا تَزْيِينُ الْمَكْتَبِ فِي الْأَعْيَادِ
وَالْإِصْرَافَاتِ بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ أَرْضًا وَحِيطَانًا وَسُقُفًا
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَنَاعَةُ ذَلِكَ وَقُبْحُهُ فِي زِينَةِ الْأَسْوَاقِ
لِلْمَحْمَلِ أَوْ غَيْرِهِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ
يَكُونَ فِيهِ صُوَرٌ مِمَّا لَهَا رُوحٌ فَيَكُونُ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ
نَقِيضُ مَا جَلَسَ الْمُؤَدِّبُ إلَيْهِ فَإِذَا كَانَ السُّوقُ يُمْنَعُ
فِيهِ ذَلِكَ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَوْضِعٌ يُتْلَى فِيهِ كَلَامُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْعُهُ فِيهِ أَوْجَبُ .
ثُمَّ بَقِيَتْ أَفْعَالٌ يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَهِيَ قَبِيحَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ .
فَمِنْهَا
أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَوْحَ الْإِصَْرافَةِ مُكَفَّتًا بِالْفِضَّةِ فِي
خِرْقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَاسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا
لِلنِّسَاءِ حَيْثُ أُجِيزَ لَهُنَّ ذَلِكَ .
وَأَمَّا تَكْفِيتُ اللَّوْحِ بِالْفِضَّةِ فَلَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ .
وَالثَّانِي
لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُيَلَاءِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ
بِالنِّسَاءِ } وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ الصَّبِيَّ الَّذِي لَهُ
الْإِصْرَافَةُ فَيُزَيِّنُونَهُ كَمَا يُزَيِّنُونَ النِّسَاءَ
فَيُحَفِّفُونَهُ وَيُخَطِّطُونَهُ وَيُلْبِسُونَهُ الْحَرِيرَ
وَيُحَلُّونَهُ بِالْقَلَائِدِ مِنْ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مَعَ قَلَائِدِ
الْعَنْبَرِ كَأَنَّهُ عَرُوسٌ تُجْلَى وَيُرْكِبُونَهُ عَلَى فَرَسٍ أَوْ
بَغْلَةٍ مُزَيَّنَةٍ بِاللِّبَاسِ مِنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ
وَغَيْرِهِمَا فَيَجْعَلُونَ
عَلَيْهَا كُنْبُوشًا مِنْ الْحَرِيرِ الْمُزَرْكَشِ بِالذَّهَبِ وَيُلْبِسُونَ وَجْهَهَا وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ .
ثُمَّ
يُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ أَشْيَاءَ رَذِيلَةً مِنْهَا أَنَّهُمْ
يَحْمِلُونَ أَمَامَهُ أَطْبَاقًا فِيهَا ثِيَابٌ مِنْ حَرِيرٍ
وَعَمَائِمَ مُعَمَّمَةٍ عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ هُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا
يَفْعَلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ صِبْيَانُ الْمَكْتَبِ وَيُنْشِدُونَ فِي طَرِيقِهِ إلَى أَنْ يُوصِلُوهُ إلَى بَيْتِهِ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ الْقُرَّاءَ يَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ وَيُنْقِصُونَ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَيْهِ الْمُكَبِّرِينَ
وَالْمُؤَذِّنِينَ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ فِي جَنَائِزِهِمْ .
ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَلْقَاهُمْ مَنْ يُنْسَبُ
إلَى الْعِلْمِ أَوْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أَوْ الْمَجْمُوعِ وَقَلَّ
أَنْ تَجِدَ مَنْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي
الْغَالِبِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَمِنْهُمْ
مَنْ يُعَوِّضُ عَمَّا ذُكِرَ بِمَا هُوَ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ وَهُوَ أَنْ
يُضْرَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالطَّبْلِ وَالْبُوقِ .
وَبَعْضُهُمْ
يُمْشُونَ الْفِيلَ وَالزَّرَافَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ رَمْيِ النُّقَطِ
، وَبَعْضُهُمْ يُمَشِّي بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُغَنِّيَةَ وَطَائِفَتَهَا
مَكْشُوفَةً عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ حَالِهَا مَعَ ضَرْبِ الطَّارِّ
وَالشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ ، وَتَرْفَعُ عَقِيرَتَهَا عَلَى مَا
يُعْهَدُ مِنْ فِتْنَتِهَا فَكَانَ الْأَمْرُ أَوَّلًا لِلْفَرَحِ
بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانُوا فِي قُرْبَةٍ فَعَكَسُوهُ بِمَا
هُوَ ضِدُّهُ ، أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَلَوْ
كُلِّفَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِبَعْضِ مَا صَرَفَهُ فِيمَا لَا
يَجُوزُ مِمَّا صَنَعَهُ فِي الْإِصْرَافَةِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي
الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ طَاعَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى سِرًّا لَيْسَ
فِيهِ لَهْوٌ وَلَا لَعِبٌ وَلَا رِيَاءٌ وَلَا سُمْعَةٌ ، وَذَلِكَ
شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَى
ذَلِكَ
فِعْلًا قَبِيحًا وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤَدِّبِينَ
يَدْخُلُونَ مَعَ صَاحِبِ الْإِصْرَافَةِ الْبَيْتَ وَيَجْلِسُونَ مَعَ
النِّسَاءِ وَهُنَّ مُتَبَرِّجَاتٌ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ
فِي بُيُوتِهِنَّ وَيُعْطِي اللَّوْحَ لِأُمِّ صَاحِبِ الْإِصْرَافَةِ
أَوْ لِأُخْتِهِ أَوْ لِخَالَتِهِ أَوْ لِعَمَّتِهِ أَوْ لِجَارَتِهِ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِ الْوَلَدِ وَمَعَارِفِهِ حَتَّى تُنَقِّطَ
كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْفِضَّةِ بِمَا أَمْكَنَهَا وَذَلِكَ
مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُنَّ فَلَا يَجُوزُ
لَهُنَّ أَنْ يَظْهَرْنَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُنَّ إلَّا
لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالضَّرُورَةُ هُنَا مَعْدُومَةٌ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْبَغِي
لِوَالِدِ الصَّبِيِّ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا
يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ
إذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ التَّعَبِ بِهِ وَقَرُبَ مِنْ أَنْ يَخْتِمَ
الْقُرْآنَ نَقَلَهُ وَالِدُهُ إلَى كُتَّابٍ آخَرَ حَتَّى يُفَوِّتَ
الْأَوَّلَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْإِصْرَافَةِ .
وَقَدْ قَالَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّبِيِّ إذَا دَخَلَ سُورَةَ
الْأَعْرَافِ عِنْدَ مُؤَدِّبٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ
فَإِصْرَافَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ اسْتَحَقَّهَا الْمُؤَدِّبُ الْأَوَّلُ
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا إذَا دَخَلَ سُورَةَ يُونُسَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلْ يَسْتَحِقُّهَا الْأَوَّلُ أَوْ الثَّانِي ؟
قَوْلَانِ ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِإِصْرَافَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
لَيْسَ إلَّا ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ إصْرَافَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ
قَرُبَ إلَيْهَا الصَّبِيُّ ، فَإِنَّ الْمُؤَدِّبَ الْأَوَّلَ
يَسْتَحِقُّهَا .
وَمِنْ كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ سُئِلَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى الْكِتَابَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ فَقَالَ : لَا
وَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ ذَلِكَ يَصِيرُونَ إلَى أَنْ يَقْرَءُوا
الْقُرْآنَ .
قَالَ : وَسَأَلْته عَنْ تَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ
النَّصْرَانِيِّ كِتَابَ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ كِتَابَ الْأَعْجَمِيَّةِ
فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ لَا أُحِبُّ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ .
قَالَ :
وَلَا يَتَعَلَّمُ الْمُسْلِمُ عِنْدَ النَّصْرَانِيِّ وَلَا
النَّصْرَانِيُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى : أَمَّا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِ أَبْنَاءَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى أَوْ تَعْلِيمُهُمْ عِنْدَهُمْ فَالْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ
بَيِّنَةٌ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ حَبِيبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى : إنَّ ذَلِكَ سَخْطَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ مُسْقِطَةٌ
لِإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْحَذَاقَةِ
يَعْنِي الْإِصْرَافَةَ أَنَّهُ يُقْضَى بِهَا وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ
حَبِيبٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْضَارِ فَقَالَ :
إنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْإِحْضَارِ فِي الْأَعْيَادِ ، وَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا فِعْلُهُ فِي أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَكْرُوهًا
فِي أَعْيَادِ النَّصَارَى مِثْلِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَلَا
يَجُوزُ لِمَنْ فَعَلَهُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ قَبِلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
تَعْظِيمِ الشِّرْكِ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُجَاهِدِ ، وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ ،
وَهَدْيِهِ قَدْ تَقَدَّمَ - رَحِمَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ - آدَابُ
الْعَالِمِ ، وَهَدْيُهُ ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ
فَالْمُجَاهِدُ ، وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا
شَيْئًا قَلِيلًا اخْتَصَّ بِهِ الْعَالِمُ ، وَشَيْئًا قَلِيلًا اخْتَصَّ
بِهِ الْمُجَاهِدُ يَقَعُ ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
،
وَلْتَعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : جِهَادٌ
أَصْغَرُ ، وَجِهَادٌ أَكْبَرُ ، فَالْجِهَادُ الْأَكْبَرُ هُوَ جِهَادُ
النُّفُوسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هَبَطْتُمْ
مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ } ،
وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ
آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ ، وَالْكَلَامُ هُنَا إنَّمَا هُوَ عَلَى
الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ ، وَهُوَ : جِهَادُ أَهْلِ الْكُفْرِ ،
وَالْعِنَادِ ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ ، وَأَعْظَمِهَا ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ بِهِ
يَعْرِفُ الْمُجَاهِدُ فَضِيلَةَ الْجِهَادِ ، وَكَيْفَ يُجَاهِدُ ،
وَبِمَاذَا يَصِحُّ لَهُ الْجِهَادُ ، وَبِمَاذَا يَفْسُدُ ، وَكَذَلِكَ
غَيْرُهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَكَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ ؛ لِمَا
جَاءَ فِي تَفْضِيلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ
عَلَى عُمُومِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ
فَرُبَّ شَخْصٍ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِطَلَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ
قَادِرٌ عَلَى الْجِهَادِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الْقُوَّةِ ،
وَالشَّجَاعَةِ ، وَالْإِقْدَامِ فَالْجِهَادُ فِي حَقِّ هَذَا
يَتَأَكَّدُ أَمْرُهُ ، وَآخَرُ يَكُونُ فِيهِ ذَكَاءٌ ، وَفَهْمٌ ،
وَحِفْظٌ ، وَتَحْصِيلٌ لِلْمَسَائِلِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ
لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الضَّرْبِ ، وَالطَّعْنِ فَطَلَبُ الْعِلْمِ
لِمِثْلِ هَذَا يَتَعَيَّنُ ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ
بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجِهَادُ فِيهِ فَضْلٌ
كَبِيرٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ .
لَكِنْ
يَنْبَغِي
لِلْمُجَاهِدِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْجِهَادِ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ
الْعِلْمِ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي جِهَادِهِ إنْ لَمْ يَعْلَمْهُ .
لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى
كُلِّ مُسْلِمٍ } قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَاهُ : مَا
وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ ، وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ بِهِ انْتَهَى .
فَيَعْرِفُ
أَوَّلًا الْأَحْكَامَ اللَّازِمَةَ لَهُ ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ
فَيَبْدَأُ بِمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -
مِنْ الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : شَرْطُ
وُجُوبِ الْجِهَادِ سَبْعَةٌ ، وَهِيَ : أَنْ يَكُونَ : مُسْلِمًا
عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا حُرًّا مُسْتَطِيعًا بِصِحَّةِ الْبَدَنِ ،
وَالْمَالِ ، وَفَرَائِضُهُ سِتَّةٌ : النِّيَّةُ ، وَطَاعَةُ الْإِمَامِ
، وَتَرْكُ الْغُلُولِ ، وَالْوَفَاءُ بِالْأَمَانِ ، وَالثَّبَاتُ عِنْدَ
الزَّحْفِ ، وَأَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ
فَصْلٌ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَالْغَنِيمَةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ اتَّصَفَ بِعَشَرَةِ شُرُوطٍ السَّبْعَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا ، وَأَنْ يَكُونَ خَرَجَ لِلْجِهَادِ لَا لِلتِّجَارَةِ ، وَلَا لِلْإِجَارَةِ ، وَأَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ حَصَلَتْ بِالْقِتَالِ أَوْ مَا أُوجِفَ عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ ، وَالرِّكَابِ
فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْأَسَارَى .
وَالْإِمَامُ
مُخَيَّرٌ فِي الْأَسَارَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : الْقَتْلُ ،
وَالِاسْتِرْقَاقُ ، وَالْمَنُّ ، وَالْفِدَاءُ ، وَالْجِزْيَةُ
فَصْلٌ فِي الْأَوْصَافِ الْمُوجِبَةِ لِلْجِزْيَةِ الْجِزْيَةُ وَاجِبَةٌ بِعَشَرَةِ أَوْصَافٍ : الْكُفْرُ ، وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا حُرًّا غَيْرَ مُعْتَقٍ لِمُسْلِمٍ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهَا ، وَلَا يَكُونَ قُرَشِيًّا ، وَلَا مُرْتَدًّا
فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ
دَارُ الْمُرْتَدِّينَ تُفَارِقُ دَارَ الْحَرْبِ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَا يُهَادَنُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ
بِبَلَدِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُصَالَحُونَ عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ .
الثَّالِثُ : لَا تُسْتَرَقُّ رِجَالُهُمْ ، وَلَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ .
الرَّابِعُ
: لَا يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَمْوَالَهُمْ ، وَهِيَ أَيْضًا تُفَارِقُ
دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ
يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ ، وَمُدْبِرِينَ كَالْمُشْرِكِينَ .
الثَّانِي : إبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَسْرَى ، وَمُمْتَنِعِينَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَصِيرُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ .
الرَّابِعُ : بُطْلَانُ مُنَاكَحَتِهِمْ
فَصْلٌ
فِي قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ ، وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُ
الْإِمَامَ ، وَرَأْيَ الْجَمَاعَةِ ، وَتَنْفَرِدُ بِمَذْهَبٍ مُبْتَدَعٍ
، وَتَنْعَزِلُ بِدَارٍ ، وَيُفَارِقُ قِتَالُهُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ
مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ
بِنِيَّةِ رَدْعِهِمْ ، وَلَا يُتَعَمَّدُ بِهِ قَتْلُهُمْ .
الثَّانِي : يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ ، وَيُكَفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ .
الثَّالِثُ : لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ .
الرَّابِعُ : لَا تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ .
الْخَامِسُ : لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ .
السَّادِسُ : لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ .
السَّابِعُ : لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ .
الثَّامِنُ : لَا يُهَادَنُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِهِمْ .
التَّاسِعُ : لَا يُصَالَحُونَ عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى بِدْعَتِهِمْ .
الْعَاشِرُ : لَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : لَا يُنْصَبُ عَلَيْهِمْ الرَّعَّادَاتُ .
الثَّانِي عَشَرَ : لَا تُحَرَّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهُمْ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : لَا تُقْطَعُ أَشْجَارُهُمْ .
فَصْلٌ
فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ كَقِتَالِ الْفِئَةِ
الْبَاغِيَةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ
يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا : أَحَدُهَا : : أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ
مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ .
الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُتَعَمَّدَ فِي الْحَرْبِ قَتْلُهُمْ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ أَسْرَاهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِمْ .
الرَّابِعُ
: أَنَّهُمْ ضَامِنُونَ لِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فِي
الْحَرْبِ ، وَغَيْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفِئَةِ
الْبَاغِيَةِ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ مَا
أَخَذُوهُ مِنْ خَرَاجٍ ، وَصَدَقَاتٍ فَهُوَ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا
فَعَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ غُرْمُهُ فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ
مَعْرِفَةُ مَا ذُكِرَ فَلْيَكُنْ عَالِمًا بِأَحْكَامِ صَلَاةِ الْخَوْفِ
فِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ قِتَالٍ ، وَغَيْرِهِ ، وَكَيْفِيَّةِ مَا
يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَلْزَمُهُ ،
وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَمَسَائِلُهُ .
، وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا
، وَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْكَامَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ
، وَفِي أَيِّ وَقْت يَقْصُرُ ، وَفِي أَيِّ وَقْت يُتِمُّ ، وَذَلِكَ
كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مُتَيَسَّرٌ عَلَى
أَلْسِنَتِهِمْ لِمَنْ جَاءَ إلَيْهِمْ مُسْتَفْتِيًا ؛ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ ، وَبِهَا قِوَامُهُ فَإِذَا كَانَ
الْمُجَاهِدُ يُخِلُّ بِهَا أَوْ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا كَانَ
تَرْكُهُ لِلْجِهَادِ أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ
يَتَعَيَّنْ .
فَإِذَا تَعَيَّنَ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ عَاصِيًا ، وَإِنْ كَانَ مُجَاهِدًا .
وَهَذِهِ
مَسْأَلَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى ؛ لِأَنَّا نَرَى ، وَنُبَاشِرُ
مَنْ يَخْرُجُ إلَى الْجِهَادِ ، وَغَالِبُ أَحْوَالِهِمْ عَدَمُ
الْفِقْهِ ، وَعَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ أَوْ بِأَكْثَرِهِ
، وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ مِنْهُمْ يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ ، وَيَسْأَلُ عَمَّا
يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيمَا
ذُكِرَ سِيَّمَا صَلَاةُ الْخَوْفِ الَّتِي مَا بَقِيَتْ تُعْرَفُ
عَنْهُمْ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا تُذْكَرُ إلَّا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ
كَأَنَّهَا حِكَايَةٌ تُحْكَى سِيَّمَا صَلَاةُ الْمُسَايَفَةِ فَإِنَّهَا
كَادَتْ لَا تُعْرَفُ أَيْضًا لِعَدَمِ فَاعِلِهَا ، وَقِلَّةِ السُّؤَالِ
عَنْهَا فَيَخْرُجُ الْمُجَاهِدُ ، وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ فِي
طَاعَةٍ ، وَهُوَ يَقَعُ فِي مُخَالَفَاتٍ جُمْلَةً لِعَدَمِ التَّلَبُّسِ
بِمَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الرُّعْبِ
فِي قَلْبِهِ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَانْهِزَامِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَإِنَّ
الْعَدُوَّ إنَّمَا يُسْتَعَدُّ لَهُ بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }
قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - نَصْرُ الْعَبْدِ
لِرَبِّهِ هُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ فَإِذَا
فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ،
وَأَمْنِهِ مِمَّا يَخَافُ سِيَّمَا ، وَالْمُجَاهِدُ إنَّمَا يُجَاهِدُ
لِأَجْلِ الدِّينِ ، وَالصَّلَاةُ هِيَ عِمَادُهُ ، وَبِهَا قِوَامُهُ ،
وَقَدْ ، وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ جُيُوشِهِ بِالشَّامِ ، وَهُمْ يُخْبِرُونَهُ
فِيهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ افْتَتَحُوا الْبَلْدَةَ الَّتِي نَزَلُوا بِهَا ،
وَكَانَ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ أَوَّلِ
النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ
فَقِيلَ لَهُ : أَتَبْكِي ، وَالنَّصْرُ لَنَا ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا
الْكُفْرُ يَقِفُ أَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَدْوَةٍ إلَى الزَّوَالِ
إلَّا مِنْ أَمْرٍ أَحْدَثْتُمُوهُ أَنْتُمْ أَوْ أَنَا فَانْظُرْ إلَى
مَا قَرَّرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا نَظَرَ فِي النَّصْرِ ،
وَعَدَمِهِ إلَّا بِصَلَاحِ الْحَالِ ، وَفَسَادِهِ فِيمَا بَيْنَ
الْعَبْدِ وَرَبِّهِ فَأَيْنَ هَذَا الْحَالُ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ حَالِ
أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ ، وَفِي كَوْنِهِمْ يُخْرِجُونَ الصَّلَاةَ
عَنْ وَقْتِهَا ،
وَيَقْضُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا قَائِلَ
بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي جَوَازَ إخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا
عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَالْعُذْرُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا
هُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ أَوْ اسْتِتَارُهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ
الْمُسَايِفَ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يُضَارِبُ ، وَيَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ يُصَلِّي ،
وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِأَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ ، وَيُكَبِّرُ ،
وَيَقْرَأُ ، وَكَذَلِكَ الْغَرِيقُ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي حَالِ
غَرَقِهِ ، وَالْمَصْلُوبُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ
صَلَاتُهُمْ إنَّمَا هِيَ بِالْإِيمَاءِ ، وَاللِّسَانِ ، وَاغْتُفِرَ فِي
حَقِّهِمْ ، وَمَنْ شَابَهَهُمْ تَرْكُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ جُمْلَةً فِي
حَالِ صَلَاتِهِمْ إذْ ذَاكَ خِيفَةً عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَخْرُجَ
فَلَوْ تَرَكَ أَحَدُهُمْ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ
فِي الْوَقْتِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ عَاصِيًا ، وَإِنْ
قَضَاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا .
؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا -
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ
الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا مُتَعَمِّدًا هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا ؟
فَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ آثِمٌ
فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّأْخِيرِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ
لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُرْتَدٌّ ،
وَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ .
وَمَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الْمُجَاهِدِ مِنْ
تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا هُوَ مَوْجُودٌ
بِعَيْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُجَّاجِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ
أَحْوَالِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ يُحَصِّلُونَ الزَّادَ ، وَالرَّاحِلَةَ ،
وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِمْ بِخِلَافِ مَا
يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ فَقَلَّ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ
مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ ، وَإِتْمَامِهَا ،
وَأَحْكَامِ الْحَجِّ ، وَمَنَاسِكِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ
بَعْضِهِمْ فَالْغَالِبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعْتَنُونَ فِي الْمَنَاسِكِ
بِأَدْعِيَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى قَانُونٍ مَعْرُوفٍ فَيُعَوِّلُونَ
عَلَيْهَا ، وَيَتْرُكُونَ ذِكْرَ الْأَحْكَامِ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ
كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعْيِينَ الدُّعَاءِ لِبَعْضِ
الْأَرْكَانِ ، وَقَالَ هَذِهِ بِدْعَةٌ إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهَ ،
وَيَدْعُو بِمَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ .
ثُمَّ
نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ فَمِنْ
أَهَمِّ مَا يُقَدَّمُ فِيهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَيْهِ ، وَعِنْدَهُ
حُسْنُ النِّيَّةِ ، وَاهْتِمَامُهُ بِهَا ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهَا .
وَقَدْ
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُهَا
أَتَمَّ بَيَانٍ حِينَ جَاءَهُ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا
يُقَاتِلُ غَضَبًا ، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ
قَالَ ، وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا
فَقَالَ { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَقَدْ اتَّضَحَ ، وَبَانَ مَا يَنْوِي
الْمُجَاهِدُ حِينَ خُرُوجِهِ ، وَتَلَبُّسِهِ بِالْقِتَالِ .
وَأَمَّا
مَا يَقَعُ لَهُ بَعْدَ تَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَغَيْرُ مَا نَوَاهُ لَا
عِبْرَةَ بِهِ ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ قَالَ
فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا ، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَأَجَابَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا لَا يَضُرُّهُ مَا اعْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِ
غَضَبًا أَوْ حَمِيَّةً أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ
مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ ، وَنَزَغَاتِهِ ، وَهَوَاجِسِ النُّفُوسِ
الَّتِي لَا تُمْلَكُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ رَفَعَ ذَلِكَ
عَنَّا ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِتَرْكِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ
هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { ، وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } الْآيَةَ ضَجَّ الصَّحَابَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَتَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا
الصَّلَاةَ ، وَالصَّوْمَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَالْحَجَّ فَقَبِلْنَاهُ ،
وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِنَا فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ كَمَا
قَالُوا
فَعَلَّمَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَدَبَ مَعَ
الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ : أَتَقُولُونَ مِثْلَ مَا قَالَتْ بَنُو
إسْرَائِيلَ سَمِعْنَا ، وَعَصَيْنَا ، ، وَلَكِنْ قُولُوا : سَمِعْنَا ،
وَأَطَعْنَا فَقَالُوا : سَمِعْنَا ، وَأَطَعْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } إلَى آخِرِ
السُّورَةِ فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِصْرَ عَنْهُمْ ، وَعَدَمَ
الْمُؤَاخَذَةِ بِالْوَسَاوِسِ ، وَالْهَوَاجِس .
وَلِأَجْلِ هَذَا
الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ بِسَبِيلِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ { جَاءَهُ أَصْحَابُهُ يَشْكُونَ لَهُ مِمَّا
وَقَعَ لَهُمْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا : إنَّا نَجِدُ فِي
أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ، فَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ،
قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ
كَيْدَهُ لِهَذَا } فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ
صَرِيحُ الْإِيمَانِ يَعْنِي فِي دَفْعِهِ ، وَتَعَاظُمُ الْأَمْرِ
عِنْدَهُمْ لَا فِي نَفْسِ وُقُوعِهِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا ،
وَذَلِكَ أَنَّ إبْلِيسَ اللَّعِينَ لَمْ يَقْنَعْ مِنْهُمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى جَعَلَهُمْ يَنْشُرُونَ خَشَبًا ، وَيَنْحِتُونَ
حِجَارَةً ، وَيَجْعَلُونَهَا صُوَرًا يَسْجُدُونَ لَهَا ،
وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُمْ قَدْ
صَنَعُوهَا بِأَيْدِيهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ ، وَظَهَرَ
أَمْرُهُ ، وَانْتَشَرَ أَيِسَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى
مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ حِيلَةٌ إلَّا الْوَسْوَاسُ ،
وَالْهَوَاجِسُ الْمُشَوِّشَةُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ
كَيْدَهُ لِهَذَا .
فَحَمِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَبَّهُ عَلَى كَوْنِ اللَّعِينِ عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ جَمِيعِ
الْحِيَلِ إذْ أَنَّ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْحِيَلِ إلَّا الْوَسْوَاسُ ،
وَالْهَوَاجِسُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ مَنْ وَقَعَ
لَهُ
، وَلَوْ وَقَفَ الْمُكَلَّفُ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْهَوَاجِسِ
قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ أَدَاءُ عِبَادَةٍ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِ .
فَالْحَاصِلُ
أَنَّهُ يُقَاتِلُ أَوَّلًا بِنِيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَنْ يَحْتَسِبَ نَفْسَهُ ، وَمَالَهُ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ }
إلَى آخِرِ الْآيَةِ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ، وَقَدْ نَقَلَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّدَفِيُّ
الْمَشْهُورُ بِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { عَبَّانَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ لَيْلًا } ، وَالتَّعْبِيَةُ
هِيَ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ ، وَتَقْدِمَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَيْنَ
يَدَيْ الْقِتَالِ مِنْ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِيُرْجَى بِهِ الظَّفَرُ
، وَالنَّصْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ }
ثُمَّ الْإِدَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَالْخَدِيعَةُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ الظَّفَرِ .
أَخْرَجَ
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } ، وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوًا وَرَّى
عَنْهُ بِغَيْرِهِ } .
وَمِنْ الْخُدَعِ فِي الْحَرْبِ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْأَحْزَابِ .
رُوِيَ
أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ ،
وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْأَحْزَابِ ، وَكَانَ يَأْتِي
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَوْمًا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ
قَدْ مَالُوا عَلَيْك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ فَأَتَى الرَّجُلُ أَبَا
سُفْيَانَ فَقَالَ هَلْ عَلِمْت مُحَمَّدًا يَقُولُ مَا لَيْسَ هُوَ ،
قَالَ : لَا ، قَالَ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَعَلَّنَا
أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ قَالَ سَنَنْظُرُ فَأَرْسَلَ إلَى بَنِي
قُرَيْظَةَ قَالَ نُحِبُّ أَنْ تُعْطُونَا رَهَائِنَ ، وَوَافَقَ ذَلِكَ
أَنْ كَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِلْقَدَرِ الْمَقْدُورِ فَقَالُوا :
نَحْنُ فِي السَّبْتِ فَإِنْ انْقَضَى فَعَلْنَا فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ
نَحْنُ فِي مَكْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى فِي
قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا ، وَجُنُودًا لَمْ
يَرَوْهَا { ، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ
يَنَالُوا خَيْرًا ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } .
وَكَانَتْ
هَذِهِ مِنْ الْخُدَعِ الَّتِي خَدَعَهُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْهُ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ
سَمِعْته يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى الْأَحْزَابِ { اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ
سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ ،
وَزَلْزِلْهُمْ } فَهَذَا الدُّعَاءُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى بِهِ
عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْهُ
عَنْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنْ يَأْتِكُمْ الْعَدُوُّ
فَقُولُوا حم لَا يُنْصَرُونَ } ، وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
دَخَلَ مَكَّةَ ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ } .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ { ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ ،
وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ } ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ أَيْ اُطْلُبُونِي أَيْ
أَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُمْ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ
تَعَالَى { أَنَا مَعَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي }
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَهُمْ فَهُمْ مَنْصُورُونَ ، وَيُرِيدُ
بِالضُّعَفَاءِ ، - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
ظُهُورٌ فِي الدُّنْيَا ، وَهُمْ طَالِبُونَ لَهَا ، وَهُمْ زَاهِدُونَ
فِي دُنْيَاهُمْ رَاغِبُونَ فِي آخِرَتِهِمْ طَائِعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى
نَاصِرُونَ لِدِينِهِ فَهُمْ مَنْصُورُونَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ،
وَقَالَ { ، وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } أَيْ بِالنَّصْرِ ،
وَالْمَعُونَةِ أَيْ مَعَ الصَّابِرِينَ عَنْ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ
الْمُحَرَّمَاتِ ، وَالصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَجِهَادِ
الْكُفَّارِ فَاَللَّهُ نَاصِرُهُمْ ، وَمُعِينُهُمْ .
رُوِيَ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ : احْرِصْ
عَلَى الْمَوْتِ تُوهَبْ لَك الْحَيَاةُ .
وَوَجَّهَ أَبُو مُسْلِمٍ
قَوْمًا إلَى الْغَزْوِ فَقَالَ : أَلْزِمُوا قُلُوبَكُمْ الصَّبْرَ
فَإِنَّهُ سَيْفُ الظَّفَرِ ، وَاذْكُرُوا كَثْرَةَ الضَّغَائِنِ
فَإِنَّهُمَا تَحُضُّ عَلَى الْإِقْدَامِ ، وَالْزَمُوا الطَّاعَةَ
فَإِنَّهَا حِصْنُ الْمُحَارِبِ .
وَمِنْ الْحِكْمَةِ : قُوَّةُ النَّفْسِ فِي الْحَرْبِ عَلَامَةُ الظَّفَرِ .
وَمِنْهَا : تَقَحُّمُ الْحَرْبِ يُنْجِحُ الْقَلْبَ ، وَمِنْهَا : الْهَزِيمَةُ تَحِلُّ الْعَزِيمَةَ .
وَمِنْهَا : الْحِيَلُ أَبْلَغُ مِنْ الْعَمَلِ ، وَمِنْهَا : الرَّأْيُ السَّدِيدُ أَجْدَى مِنْ الْأَيْدِ الشَّدِيدِ .
وَمِنْهَا : شِدَّةُ الصَّبْرِ فَاتِحَةُ النَّصْرِ
، وَيَنْبَغِي الْمَشُورَةُ فِي الْقِتَالِ ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ يَعْرِضُ .
،
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
{ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي
مَشُورَةُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ ، وَدِينٌ ، وَتَجَارِبُ .
مِنْ كَلَامِ الْحِكْمَةِ تَوَقَّ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ .
وَمِنْهَا : لَا تُشَاوِرُ مَنْ تَمِيلُ بِهِ رَغْبَتُهُ أَوْ رَهْبَتُهُ .
أَخْرَجَ
مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ ثَوْبَانَ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا
تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا
يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } ،
وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ
قَائِمًا تُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى
تَقُومَ السَّاعَةُ } ، وَمِنْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزَالُ
أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ
} قَالَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، - وَرَحِمَهُ - هَذِهِ
الطَّائِفَةُ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُمْ
أَهْلُ السُّنَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ .
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَعْضِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ .
فَمِنْ
ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى
لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ الصَّفْقَتَيْنِ جَمِيعًا .
بَيَانُهُ
قَوْلُ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنْفُسًا هُوَ خَلَقَهَا ،
وَأَمْوَالًا هُوَ رَزَقَهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ أَقُولُ أَيْضًا هُوَ
خَالِقُ فِعْلِ الْمُجَاهِدِ فِي قُدْرَتِهِ ، وَعَزْمِهِ عَلَى
الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ، وَرَغْبَتِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلُهُ ،
وَنِعْمَتُهُ ، وَمِنَّتُهُ قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ ،
وَتَعَالَى يُسْدِي عَلَى أَيْدِينَا الْخَيْرَ ، وَيَمْنَحُ عَنْ
أَيَادِيهِ الْجَزَاءَ ، وَرُوِيَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ {
الْأَنْصَارَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرِطْ لِرَبِّك
، وَلِنَفْسِك مَا شِئْت قَالَ : أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ
لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي
مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ قَالُوا : فَإِذَا فَعَلْنَا
ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالُوا : رَبِحَ
الْبَيْعُ قَالُوا لَا نَقِيلُ ، وَلَا نَسْتَقِيلُ } .
وَمَرَّ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ ،
وَهُوَ يَقْرَأُ { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ } الْآيَةَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ
كَلَامُ مَنْ ؟ قَالَ : كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : بَيْعٌ ،
وَاَللَّهِ صَرِيحٌ لَا نَقِيلُهُ ، وَلَا نَسْتَقِيلُهُ
فَخَرَجَ إلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَقَوْلُهُ
تَعَالَى { ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } قَالَ هَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ
أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَهُ
لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ ، وَعْدٌ ثَابِتٌ ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي
التَّوْرَاةِ ، وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ .
وَعَنْ
الْجَوْهَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَاهِيك مِنْ صَفْقَةٍ
الْبَائِعُ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَالثَّمَنُ جَنَّةُ الْمَأْوَى
، وَالْوَاسِطَةُ مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ أَكْرِمْ بِهَا صَفْقَةً فَالرَّبُّ
عَاقِدُهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مُضَرِ أَثْمَانُهَا
جَنَّةٌ نَاهِيك مِنْ نُزُلٍ دَارٌ بِهَا نِعَمٌ تَخْفَى عَنْ الْبَشَرِ
أَنْوَاعُ مَطْعَمِهَا مِنْ كُلِّ شَهْوَتِنَا شَرَابُهَا عَسَلٌ صَافٍ
مِنْ الْكَدَرِ مِنْ كُلِّ مَا لَذَّةٍ طَابَتْ مَوَارِدُهَا ، وَحُورُهَا
دُرَرٌ تَزْهُو عَلَى الْقَمَرِ أَنَّى لَهَا ثَمَنٌ دُنْيَا بِهَا مِحَنٌ
لَمْ يَصْفُ مَشْرَبُهَا يَوْمًا لِمُعْتَبِرِ ثُمَّ قَالَ { ، وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ } ؛ لِأَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ إنَّمَا
يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ لِأَحَدِ أُمُورٍ أَوْ مَجْمُوعِهَا ، وَذَلِكَ
: لِبُخْلٍ أَوْ شُحٍّ خَوْفَ الْفَقْرِ أَوْ مَحَبَّةَ الِازْدِيَادِ
مِنْ الشَّهَوَاتِ أَوْ لِعَجْزٍ أَوْ لِنِسْيَانٍ ، وَذُهُولٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى خَالِقِ
الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ .
فَهَذِهِ الْآيَةُ إذَا فُهِمَتْ
مَعَانِيهَا ، وَحَضَرْتَ بِخُلُوِّ الْقَلْبِ ، وَشُرُوطِ الِاسْتِمَاعِ
لَتَالِيهَا لَا تَطْلَبُ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ زِيَادَةً
عَلَيْهَا ، وَلَا انْضِمَامَ شَيْءٍ مِنْ الْمُؤَكَّدَاتِ إلَيْهَا ،
وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ
عَنْ صَلَاةٍ ، وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ } ، وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { ،
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }
فَهَذَا وَعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ إذْ أَنَّ
الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ أَوْ الْمَوْتَ مُقْتَرِنٌ بِهِمَا الْمَغْفِرَةُ
، وَالرَّحْمَةُ ، وَخَبَرُهُ تَعَالَى ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ ،
وَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ ، وَتَحْقِيقٌ
لِفَضْلِهِ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي
سَبِيلِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَانًا بِي ،
وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ
الْجَنَّةَ إنْ مَاتَ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ
مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ ، وَاَلَّذِي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ
لَوْنُ دَمٍ ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْت خَلْفَ
سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ
سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ
أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لَوَدِدْت أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو
فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ } قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَانًا بِي
وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فِي هَذَا حَضٌّ عَلَى النِّيَّةِ ،
وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ
مِنْ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَهِيَ
الشَّهَادَتَانِ ، وَعُلُوُّ الْمُسْتَمْسِكِ بِهِمَا مِنْ أَهْلِ
الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إذَا عَلَا بِالضَّرُورَةِ تَكُونُ
الشَّهَادَتَانِ ، وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ السُّفْلَى فَيَقْصِدُ
بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ هَذَا مُخْلِصًا ،
وَيَبِيعُ نَفْسَهُ
مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ الَّتِي وَعَدَهَا فِي الْقُرْآنِ
أَوْ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ ابْتِغَاءَ الْجَنَّةِ ، وَعُلُوَّ
الْكَلِمَتَيْنِ فَإِذَا صَحَّ قَصْدُهُ نَالَ مِنْ اللَّهِ مَا وَعَدَهُ .
وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ قِيلَ مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ .
وَقَوْلُهُ
أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا
نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ ، وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد مِنْ أَجْرٍ ، وَغَنِيمَةٍ .
، وَالْكَلْمُ الْجُرْحُ ،
وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَالرِّيحُ رِيحُ
الْمِسْكِ } فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى النِّيَّةِ .
وَمِنْهُ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ،
وَمَا فِيهَا } ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ { خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ .
} الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ إلَى
الزَّوَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَالرَّوْحَةُ السَّيْرُ مِنْ الزَّوَالِ
إلَى الْغُرُوبِ مَرَّةً وَاحِدَةً .
فَالْمَعْنَى أَنَّ ثَوَابَ
هَذِهِ الْغَدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَفَضْلَهَا ،
وَنَعِيمَهَا عَلَى قِلَّتِهَا ، وَيَسَارَتِهَا ، وَخِفَّتِهَا خَيْرٌ
مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا عَلَى كَثْرَتِهَا فَإِنَّ نِعَمَ
الدُّنْيَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ
بَاقِيَةٌ أَوْ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا لَوْ نَالَهَا مَلِكٌ
بِأَسْرِهَا ، وَأَنْفَقَهَا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ ، وَأَجْرِهَا لَكَانَ
جَزَاءُ هَذِهِ الْغَدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ أَكْثَرَ ، وَفَضْلُهَا
أَعْظَمَ ، وَأَكْبَرَ .
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِم مُتَّصِلًا عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ ( يَا أَبَا سَعِيدٍ { مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا
وَبِالْإِسْلَامِ
دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ
لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ ، وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ
مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ
السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ قَالَ ، وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الدَّرَجَاتُ : الْمَنَازِلُ فِي
الْجَنَّةِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ ،
وَالسُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى { لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ } ، وَمِنْهُ عَنْ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ : مَا أُبَالِي أَنْ لَا
أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ ،
وَقَالَ آخَرُ مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ
الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَقَالَ آخَرُ
: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ
فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ : لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلَكِنْ إذَا صَلَّيْت
الْجُمُعَةَ دَخَلْت لِأَسْتَفْتِيَهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ،
وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ ،
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ
عِنْدَ اللَّهِ } الْآيَةَ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ {
أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : يُجَاهِدُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ ، وَنَفْسِهِ قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ :
مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ ، وَيَدَعُ
النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ } ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ
فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ
هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ ، وَالْمَوْتَ
مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غَنِيمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ
الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ
الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ
الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إلَّا فِي خَيْرٍ } ) فَظَهَرَ مِنْ
هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْجِهَادِ ، وَشَرَفُهُ ، وَالْمُوَاظَبَةُ
عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْهُ خَيْرُ كَسْبٍ إذَا خُمِّسَ
الْمَغْنَمُ ، وَلَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَى الْغَازِينَ بِشَيْءٍ إلَّا مَا
الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ مِثْلُ الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ،
وَشِبْهِهِمَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ ،
وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ .
، وَالْهَيْعَةُ الصَّوْتُ الْمُفْزِعُ .
وَالطَّيَرَانُ هُوَ إغَاثَةُ الْمُسْتَغِيثِ بِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْرِعِ ، وَالشَّعَفُ رُءُوسُ الْجِبَالِ .
وَفِيهِ
حَضٌّ عَلَى الِانْزِوَاءِ عَنْ النَّاسِ ، وَالِاعْتِزَالِ ؛ لِمَا فِي
الْمُخَالَطَةِ مِنْ آفَاتِ الْقِيلِ ، وَالْقَالِ ، وَهَذَا
الِانْزِوَاءُ ، وَالِاعْتِزَالُ إنَّمَا يُحْمَدُ إذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ
فَرْضُ الْجِهَادِ ، وَالْقِتَالِ أَوْ فَرْضٌ مِنْ الْفُرُوضِ عَلَى
حَسَبِ الْأَحْوَالِ .
مِنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت أَبِي ، وَهُوَ بِحَضْرَةِ
الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَقَامَ
رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى أَأَنْت سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا قَالَ :
نَعَمْ ، قَالَ فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ
السَّلَامَ ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ ، وَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى
بِسَيْفِهِ إلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ } قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّ الْجِهَادَ ، وَحُضُورَ
الْمَعَارِكِ سَبَبٌ
لِدُخُولِهَا ، وَمُقَرِّبٌ إلَيْهَا ،
وَيَظْهَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ ،
وَجِلَادَ الْكُفَّارِ مِنْهُ تُنْقَلُ رُوحُ الشَّهِيدِ حِينَ
الشَّهَادَةِ ، وَتُدْخَلُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ،
وَصَحِيحِ الْأَخْبَارِ .
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ
عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ عَمِّي الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ لَمْ
يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا
قَالَ فَشَقَّ عَلَيْهِ قَالَ : أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْت عَنْهُ ، وَلَئِنْ
أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ
يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا قَالَ ، وَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ ؟ قَالَ ، وَاهًا لِرِيحِ
الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ
قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ ، وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ ،
وَطَعْنَةٍ ، وَرَمْيَةٍ قَالَ : وَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي
الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ ،
وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ،
وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } قَالَ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ
فِيهِ ، وَفِي أَصْحَابِهِ .
قَوْلُهُ ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ
كَلِمَةُ تَلَهُّفٍ ، وَحُنَيْنٍ ، وَشَوْقٍ إلَى الْجَنَّةِ ، وَتَمَنٍّ
لَا جَرَمَ لَمَّا صَدَقَ أُعْطِيَ سُؤْلَهُ ، وَبَلَغَ مِمَّا تَمَنَّى
مَأْمُولَهُ ، وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ رِيحَ الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي
الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ
سَنَةٍ ، وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ السَّعَادَةِ
، وَتَكْرِمَةٌ لِمَنْ كُتِبَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ .
وَمِنْ مُسْنَدِ
النَّسَائِيّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { أَنَا
زَعِيمٌ ،
وَالزَّعِيمُ الْحَمِيلُ لِمَنْ آمَنَ ، وَأَسْلَمَ ، وَجَاهَدَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ ، وَبِبَيْتٍ فِي ،
وَسَطِ الْجَنَّةِ ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ مَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لَهُ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا ، وَلَا مِنْ
الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ يَمُوتُ } .
وَمِنْ مُسْنَدِ أَبِي
دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ : إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
، وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ
فَاتِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ
سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ } ، وَمِنْهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ
جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ
غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا } ، وَمِنْهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ قَالَ : لَحِقَنِي عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ ،
وَأَنَا مَاشٍ إلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنَّ خُطَاك هَذِهِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَمِعْت أَبَا عَبْسٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ } انْتَهَى كَلَامُ
الصَّدَفِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَبُو
عَبْسٍ هَذَا اسْمُهُ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ ، وَيَزِيدُ بْنُ
أَبِي مَرْيَمَ هُوَ رَجُلٌ شَامِيٌّ رَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ ، وَيَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ غَيْرَ وَاحِدٍ .
ثُمَّ قَالَ
الصَّدَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَلِجُ
النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ
فِي الضَّرْعِ ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ،
وَدُخَانُ جَهَنَّمَ }
فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ ، وَفَضِيلَتِهِ
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ
الْوَاحِدِ ثَلَاثَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي
صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ ، وَالرَّامِيَ بِهِ ، وَمُنْبِلَهُ } ، وَفِي
التِّرْمِذِيِّ { كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ
إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتَهُ
أَهْلَهُ } ، وَمِنْ مُسْنَدِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ
الْأَسْلَمِيِّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ
عَدْلُ مُحَرَّرٍ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى نَفَرٍ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا
، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ : فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ
بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ ، قَالُوا : كَيْفَ نَرْمِي ، وَأَنْتَ مَعَهُمْ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْمُوا ،
وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ } .
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ { سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ ، وَيَكْفِيكُمْ
اللَّهُ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ } ،
وَمِنْهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ أَنَّ نُعَيْمًا
اللَّخْمِيَّ قَالَ لَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ تَخْتَلِفُ بَيْنَ
هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ ، وَأَنْتَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْك فَقَالَ :
عُقْبَةُ لَوْلَا كَلَامٌ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أُعَانِهِ فَقِيلَ لِابْنِ شِمَاسَةَ ، وَمَا
ذَاكَ قَالَ : إنَّهُ قَالَ : { مَنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ
فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى } ، وَقَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ لَيْسَ مُتَّبِعًا لَنَا ، وَلَا مُهْتَدِيًا بِهَدْيِنَا تَارِكُ الرَّمْيِ .
،
وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ حِمْصَ عَلِّمُوا
أَوْلَادَكُمْ السِّبَاحَةَ ، وَالرِّمَايَةَ ، وَالْفُرُوسِيَّةَ ،
وَالِاحْتِفَاءَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ ، وَقَالَ : احْتَفُوا ،
وَتَجَرَّدُوا ، وَاخْشَوْشِنُوا ، وَتَمَعْدَدُوا ، وَاقْطَعُوا
الرَّكْبَ ، وَانْزُوَا عَلَى الْخَيْلِ نَزْوًا ، وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ
إيَّاكُمْ وَلِبَاسَ الْعَجَمِ الْبَسُوا الْأُزُرَ وَالْأَرْدِيَةَ ،
وَأَلْقُوا السَّرَاوِيلَاتِ ، وَاسْتَقْبِلُوا حَرَّ الشَّمْسِ
بِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا شَامَاتُ الْعَرَبِ ، وَاطْرَحُوا الْخِفَافَ ،
وَالْبَسُوا النِّعَالَ
فَصْلٌ فِي الرِّبَاطِ ، وَفَضْلِهِ ،
وَذِكْرِ الْخَيْلِ ، وَفَضْلِهَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا ، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي
الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا ، وَالرَّوْحَةُ
يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ
الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ
بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الَّذِي يَمُوتُ
مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ } .
أَخْرَجَ
مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ
لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ : فَأَمَّا
الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيلِهَا
ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ ، وَلَوْ
أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ
كَانَتْ آثَارُهَا ، وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ ، وَلَوْ أَنَّهَا
مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ
كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا
تَغَنِّيًا ، وَتَعَفُّفًا ، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا
، وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا
، وَرِيَاءً ، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ
وِزْرٌ } ، وَمِنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ فِي
نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَمِنْهُ عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رُئِيَ يَمْسَحُ ، وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَسُئِلَ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي عُوتِبْت
اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ } ،
وَرَوَى الْعُتْبِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ ثَغْرِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّة هَلْ الرُّجُوعُ لِثَغْرِهِمْ ، وَالْكَوْنُ فِيهِ
لِلْحَرَسِ ، وَسَدُّهُ أَفْضَلُ أَمْ الْمَقَامُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى
سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ ، وَأَزْكَى التَّحِيَّاتِ لِطَلَبِ
الْعِلْمِ أَفْضَلُ ؟ فَرَجَّحَ لَهُمْ الرُّجُوعَ إلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّة ، وَالْكَوْنَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ .
وَرُوِيَ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْحَرْسُ أَفْضَلُ مِنْ
الْغَزْوِ ؛ لِأَنَّ الْحَرْسَ فِيهِ حِفْظُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ،
وَالْغَزْوُ فِيهِ إرَاقَةُ دِمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَحِفْظُ دِمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى .
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ { عَيْنَانِ لَا تَمَسَّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
.
وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَقِيَ اللَّهَ
بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ ، وَفِيهِ ثُلْمَةٌ } ،
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت عُثْمَانَ ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ
يَقُولُ : إنِّي كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَاهِيَةَ نُفُورِكُمْ عَنِّي ثُمَّ
بَدَا لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا
بَدَا لَهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ
فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } قَالَ : أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى
اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ مِنْ قَطْرَتَيْنِ ، وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةُ
دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
تَعَالَى
، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى } قَالَ :
ابْنُ حَبِيبٍ الرِّبَاطُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْجِهَادِ .
وَقِيلَ
مَنْ رَابَطَ فَوَاقَ نَاقَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ فَوَاقَ نَاقَةٍ قَدْرُ مَا تُحْلَبُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ
قَدْرُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَحَرْسُ لَيْلَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
صِيَامِ أَلْفِ يَوْمٍ أَصُومُهَا ، وَأَقُومُ لَيْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ ، وَعِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
يَنْبَغِي لِكُلِّ قَوْمٍ أَنْ يُرَابِطُوا فِي نَاحِيَتِهِمْ ، وَأَنْ
يُمْسِكُوا سَوَاحِلَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا مَخُوفًا يُخَافُ
فِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ يُرِيدُ فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِ .
وَمِنْ
الْحَرْسِ فِي الثُّغُورِ حَفْرُ الْخَنَادِقِ ، وَالِاحْتِسَابُ فِي
حَفْرِهَا مُسْتَنِّينَ فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَطْعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِلْحَجَرِ الَّذِي أَعْيَتْ الصَّحَابَةَ الْحِيلَةُ فِي
كَسْرِهِ .
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ
: { لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَ لَنَا حَجَرٌ لَا يَأْخُذُهُ الْمِعْوَلُ
فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَأَلْقَى ثَوْبَهُ ، وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ، وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ
ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَتْ ثُلُثَ الصَّخْرَةِ فَقَالَ اللَّهُ
أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الشَّامِ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ
إلَى قَصْرِهَا الْأَحْمَرِ الْآنَ مِنْ مَكَانِي هَذَا قَالَ : ثُمَّ
ضَرَبَ أُخْرَى ، وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ
فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ فَارِسٍ ، وَاَللَّهِ
إنِّي لَأُبْصِرُ خَضْرَاءَ الْمَدَائِنِ ، وَإِلَى الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ
ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ ، وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَقَطَعَ بَقِيَّةَ
الْحَجَرَ فَقَالَ : اللَّهُ
أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ بَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي السَّاعَةَ }
فَصْلٌ
فِي فَضْلِ الشَّهَادَةِ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ
قَالَ : سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {
، وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } قَالَ : أَمَّا إنَّا قَدْ
سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : { أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ
خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ
حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ } ، وَمِنْهُ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( مَا مِنْ
أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا ،
وَإِنَّ لَهُ بِهَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرَ الشَّهِيدِ
فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ ؛ لِمَا
يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ
الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ ، وَقَاتِلُهُ فِي
النَّارِ أَبَدًا } .
وَمِنْ الْمُوَطَّأِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْغَزْوُ غَزْوَانِ : فَغَزْوٌ
تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ ، وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ ، وَيُطَاعُ
فِيهِ ذُو الْأَمْرِ ، وَيُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ
خَيْرٌ كُلُّهُ ، وَغَزْوٌ لَا تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ ، وَلَا
يُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ ، وَلَا يُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ ، وَلَا
يُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ يَرْجِعُ صَاحِبُهُ
كَفَافًا .
وَمِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ ، وَرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ، وَآتَى
الزَّكَاةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ
يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي
أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُنَبِّئُ
النَّاسَ بِذَلِكَ قَالَ : إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ
أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ كُلِّ
دَرَجَتَيْنِ
كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ
تَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ ، وَسَطُ الْجَنَّةِ ،
وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } .
وَمِنْ صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ
الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ :
يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ فِي أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهِ ،
وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ،
وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ
الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا ،
وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ ، وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ ،
وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ } قَالَ : أَبُو عِيسَى هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ : { مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْبٍ فِيهِ عَيْنٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ
فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا فَقَالَ : لَوْ اعْتَزَلْت عَنْ النَّاسِ
فَأَقَمْت فِي هَذَا الشِّعْبِ ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا
تَفْعَلْ ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ
صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ ، وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اُغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ ، وَجَبَتْ لَهُ
الْجَنَّةُ } ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ
ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ،
وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ }
، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ
بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
يَقُولُ ( { الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ
لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ الَّذِي
يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا ،
وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ قَالَ : فَمَا أَدْرِي
أَقَلَنْسُوَةُ عُمَرَ أَرَادَ أَمْ قَلَنْسُوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ
الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا ضُرِبَ جِلْدُهُ بِشَوْكِ
طَلْحٍ مِنْ الْجُبْنِ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي
الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا ،
وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ
فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى
نَفْسِهِ لَقِيَ الْعَدُوَّ صَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي
الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ } ، وَفَضِيلَةُ الْجِهَادِ قَدْ جَاءَ فِيهَا
مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .
وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ عَلَى
الْمَرْءِ وَحْدَهُ إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمَاعَةٍ ، وَإِمَامٍ
تَنْعَقِدُ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا يُخَالِفُونَهُ .
، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ذَلِكَ ، وَشَرَطُوا لَهُ شُرُوطًا ، وَبَيَّنُوا حَالَ الْإِمَامِ ، وَحَالَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُ ، وَصِفَةَ هَدْيِهِمْ ، وَطَرِيقَتَهُمْ ، وَآدَابَهُمْ ، وَمَا يَتَجَنَّبُونَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرٌ قَلَّ أَنْ يُحْصَرَ أَعْنِي مَا أُحْدِثَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ شَرْقًا ، وَغَرْبًا فَمَنْ أَرَادَ الْجِهَادَ فَلْيَتَوَقَّفْ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ ، وَالنُّهَى عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَمَا يُنْدَبُ لَهُ ، وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ أَوْ يُكْرَهُ ، وَمَا يَتَجَنَّبُ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ ، وَالْأَئِمَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ ، وَالْعَصْرِ فَلَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا لِكَثْرَتِهَا ، وَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَالْأَزْمَانِ فَبِالسُّؤَالِ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا يَصْلُحُ بِهِ فَإِنْ رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خَلَلٍ يَرْتَكِبُهُ بِسَبَبِ جِهَادِهِ فَالتَّرْكُ لَهُ أَوْلَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلَا سُؤَالَ إذْ ذَاكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ فِيهِ إذْنَ الْإِمَامِ ، وَلَا حُضُورَ الْجَمَاعَةِ ، وَلَا إذْنَ الْوَالِدِ ، وَلَا إذْنَ الْوَالِدَةِ ، وَلَا إذْنَ السَّيِّدِ إذْ أَنَّ النَّفِيرَ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ بِوَجْهٍ مَا
ثُمَّ الْأَصْلُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ
فِي جِهَادِهِ ، وَيَعْتَقِدُ النَّصْرَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ التَّعَلُّقُ
بِجَنَابِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِمْ ،
وَالصُّدُورُ عَنْ رَأْيِهِمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا أَنْ خَرَجَ لِبَعْضِ غَزَوَاتِهِ
قَالَ : اُنْظُرُوا إلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَذَهَبُوا
إلَيْهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَقَالُوا ، وَجَدْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي
فَقَالَ : اذْهَبُوا فَقَدْ نَصَرَنَا : سَبَّابَتُهُ فِي الْقِبْلَةِ
عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَلْفِ فَارِسٍ فَمَضَوْا ؛ لِمَا
كَانُوا بِسَبِيلِهِ فَنُصِرُوا ، وَغَنِمُوا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ
} ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَنَّى الْمَرْءُ لِقَاءَ
الْعَدُوِّ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَاسْأَلُوا
اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا
أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ ،
وَغَيْرُهُ فَشَأْنُ الْمُكَلَّفِ امْتِثَالُ الْأَدَبِ بِتَرْكِ
الدَّعَاوَى ، وَغَيْرِهَا حَتَّى إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ
اسْتَعَانَ بِرَبِّهِ تَعَالَى ، وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ مُبْتَغِيًا
بِذَلِكَ مَرْضَاتَهُ ، وَمَا وَعَدَ عَلَيْهِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ
لِفَاعِلِهِ .
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ دَقِيقُهَا ،
وَجَلِيلُهَا فَلْيَكُنْ الْمَرْءُ مُتَيَقِّظًا لَهَا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ، وَالْجِهَادُ مَظِنَّةُ
الْمَوْتِ غَالِبًا .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } .
قَالَ
عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعْنَاهُ أَنَّ رُوحَ
الْمُؤْمِنِ تُنْقَلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى الْجَنَّةِ ،
وَالتَّعَلُّقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْأَصْلُ لِهَذَا الْأَصْلِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ ، وَبَقِيَ
الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا شَاءَ فَعَلَ
فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْقَادِرُ عَلَى النَّصْرِ بِسَبَبٍ ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ .
أَلَا
تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { ، وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ، وَلَكِنَّ
اللَّهَ رَمَى } فَنَفَى الرَّمْيَ عَنْ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ ، وَمَا رَمَيْت ثُمَّ أَثْبَتَهُ لَهُ
بِقَوْلِهِ إذْ رَمَيْت فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَمَعَ لِنَبِيِّهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ ،
وَالشَّرِيعَةِ .
أَمَّا الشَّرِيعَةُ فَلِكَوْنِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ بِيَدِهِ
الْكَرِيمَةِ ، وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِهِمْ ، وَقَالَ : شَاهَتْ
الْوُجُوهُ .
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِوُصُولِ ذَلِكَ التُّرَابِ
لِعَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَدُوِّ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ
أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَهُ لِمِلْئِهَا بِالتُّرَابِ ،
وَهَذَا شَيْءٌ يَعْجَزُ الْبَشَرُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ
أَفْعَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ
امْتِثَالِ الْحِكْمَةِ ثُمَّ يُظْهِرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُدْرَتَهُ
عِيَانًا لِلْخَلْقِ عَلَى يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَلَا
تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ
الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ ،
وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ دُونَ مَاءٍ بَلْ امْتَثَلَ الْحِكْمَةَ بِوَضْعِ
يَدِهِ الْكَرِيمَةِ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ
يَسْقُوا ، وَيَشْرَبُوا ، وَيَمْلَئُوا ، وَالْمَاءُ يَتَفَجَّرُ مِنْ
بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ
مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بِجَمْعِ مَا بَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْأَزْوَادِ
حِينَ فَنِيَتْ فَجُمِعَتْ ، وَبَارَكَ فِيهَا فَأَكَلَ الْجَمِيعُ
مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا ، وَمِنْ ذَلِكَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي قِصَّةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فِي الدَّاجِنِ الَّذِي ذَبَحَهُ ، وَالْعَجِينِ الَّذِي خَبَزَهُ
، وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَصَقَ فِيهِمَا ،
وَبَارَكَ ثُمَّ أَذِنَ
لِعَشَرَةٍ فِي الْأَكْلِ ثُمَّ عَشَرَةٍ
مِنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ حَتَّى أَكَلَ
الْجَمِيعُ ، وَشَبِعُوا ، وَكَانُوا أَلْفًا ، وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ
كَمَا هِيَ ، وَالْعَجِينُ يُخْبَزُ كَمَا هُوَ .
وَمِنْ ذَلِكَ
خُرُوجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْجِهَادِ فَإِنَّهُ
كَانَ يَعْتَدُّ لِذَلِكَ بِجَمْعِ أَصْحَابِهِ ، وَبِاِتِّخَاذِ
الْخَيْلِ ، وَالسِّلَاحِ ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ آلَاتِ
الْجِهَادِ ، وَالسَّفَرِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ تَخَلَّى مِنْ ذَلِكَ ، وَرَدَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ
لِمَوْلَاهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ { آيِبُونَ
تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ ،
وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ ، وَحْدَهُ } فَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ ، وَحْدَهُ } فَنَفَى عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى
الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ ، وَفِعْلَهُ خَلْقٌ لِرَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فَهُوَ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى الَّذِي خَلَقَ ، وَدَبَّرَ ،
وَأَعَانَ ، وَأَجْرَى الْأُمُورَ عَلَى يَدِ مَنْ شَاءَ ، وَاخْتَارَ
مِنْ خَلْقِهِ فَكُلٌّ مِنْهُ ، وَكُلٌّ إلَيْهِ رَاجِعٌ .
وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ أَنْ يُبِيدَ أَهْلَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ
قِتَالٍ لَفَعَلَ ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ قَالَ
سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ
مِنْهُمْ ، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } فَيُثِيبُ
سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى الصَّابِرِينَ ، وَيُجْزِلُ الثَّوَابَ
لِلشَّاكِرِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }
فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الِامْتِثَالُ فِي الْحَالَيْنِ أَعْنِي فِي
امْتِثَالِ الْحِكْمَةِ ، وَالرُّجُوعِ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ ،
وَتَعَالَى ، وَالسُّكُونِ إلَيْهِ ، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ {
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ ،
وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ كَثِيرٌ فَتَجِدُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَمْتَثِلُ الْحِكْمَةَ
أَوَّلًا تَأَدُّبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَتَشْرِيعًا لِأُمَّتِهِ
ثُمَّ يُظْهِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ قُدْرَتَهُ الْغَامِضَةَ
الْمُخَبَّأَةَ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ .
وَمَا جَرَى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ جَارٍ لِأُمَّتِهِ بِبَرَكَةِ
اتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَثِيرًا مَا قَدْ ،
وَقَعَ مِثْلُ هَذَا كَتَكْثِيرِ الْقَلِيلِ ، وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ ،
وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ ، وَمَا
أَشْبَهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ يَقْطَعُ الْعُذْرَ ،
وَيُوجِبُ الْقَطْعَ بِوُجُودِهِ .
قَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كُلُّ كَرَامَةٍ ظَهَرَتْ لِوَلِيٍّ فَهِيَ
مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ أَنَّهُ مَا
حَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْكَرَامَةُ إلَّا بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَتْ هَذِهِ
الْبَرَكَاتُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَنْقَطِعُ ، وَكَيْفَ لَا ،
وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةٌ
عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ
أَمْرُ اللَّهِ } ، وَهَذَا عَامٌّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَفِي
غَيْرِهِ
، وَيَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ بِنِيَّةِ
إرَاقَةِ دِمَاءِ الْكُفَّارِ لَيْسَ إلَّا بَلْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ نِيَّةِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ
التَّوْحِيدِ ، وَإِظْهَارِهَا ، وَإِخْمَادِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ،
وَإِبْطَالِهَا .
وَيَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِينَ إذَا كَانُوا مَعَ
الْإِمَامِ أَوْ فِي سَرِيَّةٍ ، وَأَدْرَبُوا بِلَادَ الْعَدُوِّ
أَنَّهُمْ إذَا صَلُّوا الْخَمْسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ
لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ بِذَلِكَ ، وَلِيَقْتَدُوا فِيهِ بِالسَّلَفِ
الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - ، وَفِعْلُ ذَلِكَ
فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِدْعَةٌ .
،
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
، وَالنَّاصِرُ ، وَالْهَادِي لَا رَبَّ سِوَاهُ ، وَلَا مَرْجُوًّا إلَّا
إيَّاهُ .
فَصْلٌ فِي آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ التَّارِكِ
لِلْأَسْبَابِ ، وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ ، وَهَدْيِهِ قَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ عَلَى قِسْمَيْنِ جِهَادٌ أَصْغَرُ ،
وَجِهَادٌ أَكْبَرُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ
الْأَصْغَرِ ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ ، وَهُوَ
عَامٌّ فِي كُلِّ النَّاسِ إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ النَّاسِ
إلَيْهِ إذْ أَنَّهُ خَلَّفَ الدُّنْيَا ، وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَأَقْبَلَ
عَلَى آخِرَتِهِ لِشُغْلِهِ بِرَبِّهِ ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى إصْلَاحِ
نَفْسِهِ وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْغَيْرِ فَكُلُّ قَلْبٍ فِيهِ غَيْرُ
اللَّهِ تَعَالَى كَانَ فِي حَيِّزِ الْمَتْرُوكِ الْمَطْرُوحِ ، وَكُلُّ
قَلْبٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى وَقَعَ لَهُ
الْفَتْحُ ، وَالتَّجَلِّي ، وَالْمُخَاطَبَةُ فِي سِرِّهِ بِمَا يَلِيقُ
بِحَالِهِ .
وَهَذَا مَقَامٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُهُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِ .
وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى مُجَاهَدَةٍ عَظِيمَةٍ
لِكَيْ يَصْفُوَ قَلْبُهُ ، وَيَتَجَهَّزَ لِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ
الرَّبَّانِيَّةِ لَعَلَّهُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا
فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةِ السَّابِقِينَ ، وَقَاعِدَةُ الْفَقِيرِ
أَبَدًا لَا يَزَالُ فِي جِهَادٍ .
فَأَوَّلُ جِهَادِهِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ ثُمَّ جِهَادُ نَفْسِهِ .
وَقَدْ
قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - : إنَّ الْجِهَادَ
يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ جِهَادٌ بِالْقَلْبِ ، وَجِهَادٌ
بِاللِّسَانِ .
وَجِهَادٌ بِالْيَدِ ، وَجِهَادٌ بِالسَّيْفِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ
هُنَا عَلَى بَاقِي أَقْسَامِ الْجِهَادِ .
فَالْجِهَادُ بِالْقَلْبِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ ، وَجِهَادُ النَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ .
قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى { ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى } ، وَجِهَادُ اللِّسَانِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ،
وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِ مِنْ
جِهَادِ
الْمُنَافِقِينَ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ ، وَالْمُنَافِقِينَ ، وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فَجَاهَدَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ ، وَجَاهَدَ
الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَهَاهُ
أَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ فَيُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ ،
وَكَذَلِكَ جِهَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ
قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ بِالْقَوْلِ خَاصَّةً ، وَجِهَادُ
الْيَدِ زَجْرُ ذَوِي الْأَمْرِ أَهْلَ الْمَنَاكِرِ عَنْ الْمُنْكَرِ ،
وَالْبَاطِلِ ، وَالْمَعَاصِي ، وَالْمُحَرَّمَاتِ ، وَعَنْ تَعْطِيلِ
الْفَرَائِضِ الْوَاجِبَاتِ بِالْأَدَبِ ، وَالضَّرْبُ عَلَى مَا يُؤَدِّي
إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ ، وَمِنْ ذَلِكَ إقَامَتُهُمْ
الْحُدُودَ عَلَى الْقَذَفَةِ الزُّنَاةِ ، وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ ثُمَّ
أَوَّلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُجَاهَدَتِهِ الزُّهْدُ فِي
الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهَا ، وَالْعَمَلَ عَلَى تَحْصِيلِهَا مَعَ
وُجُودِ شَغَفِ الْقَلْبِ بِهَا يُعْمِي عَنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ ،
وَيَطْمِسُ الْقَلْبَ ، وَيُكْثِرُ فِيهِ الْوَسَاوِسَ ، وَالنَّزَغَاتِ ؛
لِأَنَّ الشَّيْطَانَ ، وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا
شَغَفَ قَلْبُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ .
وَقَدْ
مَرَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَجُلٍ نَائِمٍ فِي
السَّحَرِ فَوَكَزَهُ ، وَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ قُمْ فَقَدْ
سَبَقَكَ الْعَابِدُونَ فَقَالَ : يَا رُوحَ اللَّهِ دَعْنِي فَقَدْ
عَبَدْتُهُ بِأَحَبِّ الْعِبَادَاتِ إلَيْهِ قَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَا ذَاكَ قَالَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا
قَالَ لَهُ عِيسَى نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ فِي خِدْرِهَا انْتَهَى ثُمَّ
إنَّ الزُّهْدَ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا
لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْحَرَكَاتِ ، وَالسَّكَنَاتِ ،
وَضَابِطُهُ : أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ، وَنَفَسٍ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ يَنْظُرُ فِيهِ فَمَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلْيُمْضِهِ ، وَمَا
كَانَ
لِغَيْرِهِ فَلْيَدَعْهُ .
وَقَدْ قَالُوا : الزُّهْدُ فِي
فُضُولِ الْكَلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي غَيْرِهِ يَشْهَدُ
لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَابًا
لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا أَثْنَوْا عَلَى رَجُلٍ
قَدْ مَاتَ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَا
يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ كَمَا
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى أَقَلُّ فَائِدَةٍ فِي السُّكُوتِ تَسْبِيحُ الْأَعْضَاءِ
انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَقَلُّ فَوَائِدِهِ فَمَا بَالُك
بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا
السَّلَامَةُ مِنْ عَثَرَاتِ اللِّسَانِ لَكَانَ غَنِيمَةً عَظِيمَةً .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ الْأَعْضَاءَ تُصْبِحُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ تُنَاشِدُ اللِّسَانَ أَنْ يُسْلِمَهَا مِنْ آفَاتِهِ لِأَنَّهُ
إذَا عَطِبَ لَمْ يَعْطَبْ ، وَحْدَهُ بَلْ يَعْطَبُ كُلُّ الْأَعْضَاءِ
بِسَبَبِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَوَجَدَهُ مُمْسِكًا لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَا هَذَا قَالَ : هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ
فَإِذَا كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ
الْمَقَالَةِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَلْيُشَمِّرْ الْفَقِيرُ إلَى سُلُوكِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ لِيَقْطَعَهَا
فَإِنَّهَا عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَا يُجَاوِزُهَا إلَّا الْمُشَمِّرُونَ -
أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مَنْ بَرَكَاتِهِمْ - .
ثُمَّ إنَّ
الزُّهْدَ فِي الرِّيَاسَةِ أَعْظَمُ مِنْ الزُّهْدِ فِي كُلِّ مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ ، وَالْمَالَ يُنْفَقَانِ فِي
الرِّيَاسَةِ ، وَالرِّيَاسَةُ لَا تُنْفَقُ فِيهِمَا فَالزُّهْدُ فِيهَا
مُتَعَيَّنٌ .
ثُمَّ لَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّيَاسَةَ إنَّمَا
هِيَ فِي رُتَبِ الدُّنْيَا لَيْسَ إلَّا بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي رُتَبِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ
شَيْءٌ
فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ لَا شَيْءَ ، وَمِنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ لَا
شَيْءَ فَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ شَيْءٌ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ
بَعْضُ الشُّيُوخِ - نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - : مَنْ رَأَى
أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَمَا قَالَهُ
بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا
يَدْخُلُ النَّارَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ
فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِإِحْدَى الدَّارَيْنِ فَإِنْ كَانَ هَذَا
الْآدَمِيُّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ -
فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا
شَكَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى
حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، - وَأَعَادَ
عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ - أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا ، وَوَجَدَ فَضْلَةَ
طَعَامٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ ، وَإِذَا بِكَلْبٍ
قَدْ جَاءَ فَأَكَلَ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ نَبَحَ الْكَلْبُ
عَلَى إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ : لَا تَنْبَحْ عَلَيَّ ، وَلَا
أَنْبَحُ عَلَيْك كُلْ مِنْ جِهَتِك ، وَأَنَا آكُلُ مِنْ جِهَتِي إنْ
دَخَلْت أَنَا الْجَنَّةَ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْك ، وَإِنْ دَخَلْت النَّارَ
فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي تَصْرِيحًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى : إنْ كَانَتْ نَفْسُكَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فَسِرُّك فِي
سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّانِيَةِ فَسِرُّك
فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّالِثَةِ
فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ
الرَّابِعَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى
الْأَرْضِ الْخَامِسَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَإِنْ
نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ السَّادِسَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ
السَّادِسَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَسِرُّك فِي
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ عَنْ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ
إلَى ظَهْرِ
الثَّوْرِ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرْضِينَ
فَسِرُّك نَاظِرٌ إلَى الْعَرْشِ انْتَهَى فَقَرَّرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّهُ بِسَبَبِ التَّوَاضُعِ ، وَعَلَى قَدْرِ نُزُولِ النَّفْسِ
يَسْمُو أَمْرُهُ ، وَيَعْلُو قَدْرُهُ فَمَنْ أَرَادَ الْفَوْزَ
فَلْيَعْمَلْ عَلَى إشَارَتِهِ يَحْظَ بِالسَّلَامَةِ .
وَأَعْنِي
بِالزُّهْدِ فِي مَرَاتِبِ الْآخِرَةِ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى
لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ لَا لِعِوَضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ } ، وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ
أَهْلًا لِشَيْءٍ لِاسْتِحْقَارِهِ نَفْسَهُ ، وَتَرْكِ النَّظَرِ
إلَيْهَا ، وَصَغَارَتِهَا عِنْدَهُ لِعَظِيمِ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ
الْخَطَرِ .
قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ
عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ ، وَكَانُوا يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَعْنِي مَنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ مِنْ الْعُبَّادِ فَأَوْحَى اللَّهُ
تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ قُلْ
لِفُلَانٍ يَعْبُدُنِي مَا شَاءَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَصْبَحَ
مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَخْبَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ
بِذَلِكَ فَتَعَجَّبُوا ، وَقَالُوا لَيْسَ فِينَا أَحَدٌ مِثْلَهُ فِي
الْعِبَادَةِ ، وَالْخَيْرِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، وَإِذَا
بِالرَّجُلِ قَدْ أَتَى فَسَلَّمَ ، وَجَلَسَ فَأَخْبَرَهُ مُوسَى
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا قَدْ وَقَعَ فَقَالَ : أَهْلًا
بِقَضَاءِ رَبِّي ، وَمَضَى لِسَبِيلِهِ فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ
تَطَهَّرَ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي كُنْت
أَعْبُدُك ، وَلَسْت عِنْدَ نَفْسِي أَهْلًا لِشَيْءٍ ، وَالْآنَ قَدْ
مَنَنْت عَلَيَّ ، وَجَعَلْتنِي أَهْلًا لِنَارِك فَوَعِزَّتِك لَا زَالَ
هَذَا مَقَامِي بَيْنَ يَدَيْك شُكْرًا لَك عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ
حَتَّى أَلْقَاك فَلَمَّا أَصْبَحَ مِنْ الْغَدِ جَاءَ إلَى مُوسَى
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ قُلْ
لِفُلَانٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
لِازْدِرَائِهِ بِنَفْسِهِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ رَحِمَهُ
اللَّهُ
، - وَنَفَعَ بِهِ - عَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَجْلِسْ
إلَيْهِمْ ، وَيُحَدِّثْهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ ؛
لِأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ ،
وَالْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ : شَغَلَنِي أَرْبَعٌ لَوْ فَرَغْتُ مِنْهَا
لَجَلَسْتُ إلَيْكُمْ وَحَدَّثْتُكُمْ فَقَالُوا لَهُ ، وَمَا هِيَ
فَقَالَ : افْتَكَرْت فِي نُزُولِ الْمَلَكِ لِتَصْوِيرِي فِي الرَّحِمِ ،
وَنِدَائِهِ يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا أَعْرِفُ كَيْف
خَرَجَ جَوَابِي .
الثَّانِيَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي نُزُولِ مَلَكِ
الْمَوْتِ لِقَبْضِ رُوحِي ، وَنِدَائِهِ يَا رَبِّ أَقْبِضُهُ عَلَى
الْإِسْلَامِ أَمْ عَلَى الْكُفْرِ فَمَا أَعْرِفُ كَيْف خَرَجَ جَوَابِي .
الثَّالِثَةُ
أَنِّي افْتَكَرْت فِي قَوْله تَعَالَى { ، وَامْتَازُوا الْيَوْمَ
أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } فَمَا أَعْرِفُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ
أَمْتَازُ .
الرَّابِعَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي الْمُنَادِي الَّذِي
يُنَادِي حِينَ حُصُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَهْلِ
النَّارِ فِي النَّارِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ فِيهَا
، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ فِيهَا فَمَا أَعْرِفُ فِي
أَيِّ الدَّارَيْنِ أَكُونُ انْتَهَى .
فَمَنْ كَانَ يَتَقَلَّبُ
بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَيْفَ يَقَرُّ لَهُ قَرَارٌ أَوْ يَأْوِي
إلَى عِمْرَان ، وَإِنَّمَا هِيَ غَفَلَاتٌ ، وَالْمُرِيدُ مُبَرَّأٌ مِنْ
الْغَفَلَاتِ مُتَيَقِّظٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ
الْقَاطِعَاتِ نَاظِرٌ لِلنَّاسِ نَظَرَ عُمُومٍ يَرَاهُمْ هَلْكَى
فَيَرْحَمُهُمْ ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ قَدْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِهِ
خَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا لَحِقَهُمْ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا
لَوْلَا الْحَمْقَى مَا عَمَرَتْ ، وَطُولُ الْأَمَلِ فِي الْإِنْسَانِ
مِنْ أَكْبَرِ الْحُمْقِ ، وَالْمُرِيدُ نَاظِرٌ إلَى زَمَانِهِ ، وَهُوَ
يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَاضٍ ، وَمُسْتَقْبَلٍ ،
وَحَالٍّ ، فَإِنْ نَظَرَ إلَى الْمَاضِي فَهُوَ كَنَدْبِ الْأَطْلَالِ ،
بِطَالَةٌ لَا تُغْنِي ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى
الْمُسْتَقْبَلِ فَالْقَدَرُ لَيْسَ بِيَدِهِ ، وَالْحَيَاةُ لَيْسَتْ
بِحُكْمِهِ فَلَمْ
يَبْقَ إلَّا النَّظَرُ فِي الْحَالِّ ،
وَالنَّظَرُ فِي الْحَالِّ هُوَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى : الْفَقِيرُ ابْنُ وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ
مُتَوَقَّعٌ مَعَ الْحَرَكَاتِ ، وَالسَّكَنَاتِ ، وَالْأَنْفَاسِ فَإِذَا
خَرَجَ مِنْهُ نَفَسٌ فَقَدْ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ، وَإِذَا رَجَعَ
إلَيْهِ فَقَدْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْكُلَفُ ، وَالنَّظَرُ فِي الْمَلْبَسِ ،
وَالْقُوتِ ، وَالْمَسْكَنِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ
الْبَشَرِيَّةِ إذْ أَنَّ نَفَسًا ، وَاحِدًا لَا ثَمَنَ لَهُ ، وَلَا
يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِي الْإِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا إذْ أَنَّ مَنْ
صَارَ حَالُهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ
نُصْبَ عَيْنَيْهِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ فِكْرَتُهُ ، وَهُمُومُهُ ،
وَحَسَرَاتُهُ فِي كَيْفِيَّةِ مَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَفِي
قَبْرِهِ ، وَوَحْشَتِهِ ، وَجَوَابِهِ حِينَ السُّؤَالِ فِيهِ ، وَمَا
بَعْدَهُ مِنْ الْأَهْوَالِ الْعِظَامِ فَأَيُّ رَاحَةٍ تَبْقَى لِمَنْ
هَذَا حَالُهُ ، وَفِكْرَتُهُ .
حُكِيَ أَنَّ إنْسَانًا جَاءَ لِبَعْضِ
إخْوَانِهِ يَزُورُهُ فَوَجَدَهُ وَحْدَهُ ، وَهُوَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا ،
وَشِمَالًا ، وَخَلْفًا ، وَأَمَامًا قَالَ لَهُ الزَّائِرُ : لِمَنْ
تَلْتَفِتُ فَقَالَ : أَنْظُرْ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ
يَأْتِينِي .
وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى شَيْخٍ لَهُ لِيَزُورَهُ ،
وَكَانَ قَدْ لَقِيَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ :
إنِّي صَائِمٌ فَأَعْطَاهُ سَبْعَ تَمَرَاتٍ أَوْ لَوْزَاتٍ عَلَى أَنْ
يُفْطِرَ عَلَيْهَا فَرَبَطَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ كِسَائِهِ فَلَمَّا دَقَّ
الْبَابَ خَرَجَ لَهُ شَيْخُهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الشَّيْخُ
: مَا هَذَا الَّذِي فِي طَرَفِ كِسَائِك فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ ، وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّك تَعِيشُ إلَى
الْغُرُوبِ ، وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُك بَعْدَهَا أَبَدًا ، وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى ، وَنَفَعَ بِهِ - : عُمْرُك نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أَنْ
يَكُونَ لَك لَا عَلَيْك انْتَهَى .
وَهَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ
فَمَنْ كَانَ حَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَلَا رَاحَةَ لَهُ دُونَ لِقَاءِ رَبِّهِ .
وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ حَيْثُ قَالَ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُونَ
لِقَاءِ رَبِّهِ } ، وَمَعْنَى ذَلِكَ ، - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -
أَنَّ الْمُؤْمِنَ طَالَمَا هُوَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ لَا يَزَالُ فِي
مُكَابَدَاتٍ ، وَأَهْوَالٍ ، وَأَخْطَارٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا
فَيَلْقَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَرَى مَالَهُ عِنْدَهُ مِنْ
الْكَرَامَاتِ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ لَهُ الرَّاحَةُ الْحَقِيقِيَّةُ
الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا .
، وَقَدْ ذَكَرَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ مَرْزُوقٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَفَعَ بِهِ - فِي حَالِ الْفَقِيرِ ،
وَزُهْدِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ : اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الزُّهْدِ
عَلَى طَبَقَاتٍ فَمِنْهُمْ آخِذٌ ، وَهُوَ تَارِكٌ ، وَمِنْهُمْ تَارِكٌ
، وَهُوَ آخِذٌ ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ ، وَيَصِحُّ هَذَا الْأَمْرُ لِمَنْ
تَرَكَ الدُّنْيَا ، وَزَهِدَ فِيهَا بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا ،
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مُصَلِّيًا نَائِمًا ، وَآخَرُ نَائِمًا
مُصَلِّيًا ، وَمُفْطِرًا صَائِمًا ، وَصَائِمًا مُفْطِرًا ، وَكَاسِيًا
عَارِيًّا ، وَعَارِيًّا كَاسِيًا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى
تَصَرُّفِ إرَادَةِ الْقَلْبِ ، وَتَصْحِيحِ النِّيَّةِ ، وَفَسَادِ
إرَادَةِ الْقَلْبِ ، وَفَسَادِ النِّيَّةِ ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ
الْكَسْبِ الْخَبِيثِ ، وَالْقَوْلِ الْخَبِيثِ ، وَفِي هَذَا كَلَامٌ
كَثِيرٌ إلَّا أَنَّ مَنْ صَدَقَ أَبْصَرَ ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي
لِلْعَالِمِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ،
وَنَهَاهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَأَتْ قَلْبَهُ عَظَمَةُ اللَّهِ
تَعَالَى فَاشْتَغَلَ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ
فُضُولِ الدُّنْيَا مِنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَاللِّبَاسِ ،
وَالْبُنْيَانِ ، وَالْمَرْكَبِ ، وَالْأَزْوَاجِ ، وَالْأَوْلَادِ ،
وَالْخَدَمِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ الزَّوْجَةُ ،
وَالْوَلَدُ ، وَأَشْيَاءُ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ عَلَى الرَّغْبَةِ ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ فَهْمِ وَعْدِ الْقُرْآنِ ، وَوَعِيدِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا وَصَلُوا إلَى مَا وَصَلُوا إلَيْهِ لَمْ يَغْتَرُّوا بِدَارِ الْغُرُورِ ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ رَغْبَةٌ إلَّا خَوْفَ فَوَاتِ مَا شَوَّقَ إلَيْهِ وَعْدُ الْقُرْآنِ وَوَعِيدُهُ مِنْ الْخُلُودِ فِي دَارِ النَّعِيمِ أَوْ دَارِ الْهَوَانِ { إنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } إنَّمَا دَعَا إلَى دَارِ السَّلَامِ - مَنْ خَلَقَهَا ، وَزَيَّنَهَا ، وَجَلَّاهَا : فَخُضْ أَيُّهَا الْمُرِيدُ الْغَمَرَاتِ شَوْقًا إلَى نَعِيمِهَا ، وَأَجِبْ الدَّاعِيَ الصَّادِقَ الْوَفِيَّ إلَى مَا وَعَدَ ، وَدَعَاك إلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ حَذَّرَك نَفْسَك ، وَهَوَاك ، وَأَنْذَرَك حُلُولَ دَارِ سَخَطِهِ ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالْوُصُولُ إلَى نَعِيمِ دَارِ الْخُلُودِ رَفْضُ الْمَحْبُوبِ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَارْفُضْهُ ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ ضَجِيعَك ، وَالزُّهْدَ قَرِينَك ، وَالْجِدَّ سِلَاحَك ، وَالصِّدْقَ مَرْكَبَك ، وَالْإِخْلَاصَ زَادَك ، وَالْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ عَلَى مُقَدِّمَتِكَ ، وَالشَّوْقَ إلَى الْجَنَّةِ صَاحِبَ لِوَائِك ، وَالْمَعْرِفَةَ عَلَى مَيْمَنَتِك ، وَالْيَقِينَ عَلَى مَيْسَرَتِك ، وَالثِّقَةَ عَلَى سَاقَتِك ، وَالصَّبْرَ أَمِيرَ جُنْدِكَ ، وَالرِّضَا ، وَزِيرَك ، وَالْعِلْمَ مُشِيرَك ، وَالتَّوَكُّلَ دِرْعَك ، وَالشُّكْرَ خَلِيلَك ثُمَّ انْفِرْ إلَى عَدُوِّك ، وَصَافِقْهُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْت لَك ، وَطِبْ نَفْسًا عَنْ دَارِ الْهُمُومِ ، وَالْأَحْزَانِ إلَى دَارِ الْبَقَاءِ ، وَالسُّرُورِ مَعَ الْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ
اللَّهُ فَلْيَنْظُرْ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَمْرِهِ
فَإِنَّهُ مَنْ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَحَدٍ مِنْ
الْمَخْلُوقِينَ بِأَمَلٍ رَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ كَانَ عُزُوبًا لِقَلْبِهِ
عَنْ اللَّهِ ، وَكَانَ مَنْقُوصًا عَنْ مَنْزِلَةِ الْوَاثِقِينَ
الْمُؤَيَّدِينَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ لِدَاوُدَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { : يَا دَاوُد إنِّي قَدْ آلَيْتَ عَلَى نَفْسِي
أَنْ لَا أُثِيبَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي إلَّا عَبْدًا قَدْ عَلِمْت مِنْ
طَلْبَتِهِ ، وَإِرَادَتِهِ ، وَإِلْقَاءِ كَنَفِهِ بَيْنَ يَدَيَّ
أَنَّهُ لَا غِنَى لَهُ عَنِّي ، وَأَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ
بِنَظَرِهَا ، وَفِعَالِهَا إلَّا ، وَكَّلْته إلَيْهَا أَضِفْ
الْأَشْيَاءَ إلَيَّ فَإِنِّي أَنَا مَنَنْت بِهَا عَلَيْك } .
وَاعْلَمْ
أَنَّ الْعِبَادَ إنَّمَا تَفَاوَتُوا ، وَتَبَايَنُوا فَبِاخْتِيَارِهِمْ
نَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى اخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ زَادَهُمْ ذَلِكَ
سُرْعَةً ، وَقُرْبًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ، وَصُنْعِهِ
، وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ ، وَبِالسَّهْوِ عَنْهُ ، وَاخْتِيَارِهِمْ
أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى زَادَهُمْ ذَلِكَ بُطْئًا ،
وَبُعْدًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ ، وَصُنْعِهِ ،
وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ فَكُنْ فِي نَظَرِك إلَى رَبِّك نَاظِرًا بِأَنْ
لَا تُؤَمِّلْ غَيْرَ صُنْعِهِ ، وَلَا تَرْجُو غَيْرَ مَعُونَتِهِ ،
وَاثِقًا بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ ، وَأَسْرَعُ فِي
مَعُونَتِهِ لَك فَإِنَّ الَّذِينَ قَلَّدُوا أُمُورَهُمْ رَبَّهُمْ ،
وَوَثِقُوا بِهِ ، وَلَجَأُوا إلَيْهِ قَدْ أَمَاتُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ
تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ ، وَجَعَلُوا الْأُمُورَ عِنْدَهُمْ أَسْبَابًا
مَعَ قِيَامِهِمْ بِهَا ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَأُولَئِكَ
ذَهَبُوا بِصَفْوِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ لِسُكُونِ قُلُوبِهِمْ
إلَيْهِ فَوَجَدُوا بِذَلِكَ الرَّوْحَ ، وَالرَّاحَةَ فَهُمْ حُمَاةُ
الدِّينِ ، وَالْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ قَدْ فَاقُوا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ
بِاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ ، وَسُكُونِهِمْ إلَيْهِ فَأَوْجَبَ لَهُمْ
صُنْعَهُ ، وَأَقَامَ قُلُوبَهُمْ عَلَى مِنْهَاجِهِ فَمَا تَقَلَّبُوا
فِيهِ
مِنْ الْأَمْرِ فَعَلَى الرِّضَا ، وَالطُّمَأْنِينَةِ ،
وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْخَلْقِ فِي مُؤْنَةٍ ، وَتَعَبٍ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اخْتَارُوهَا ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهَا
فَأَوْرَثَتْهُمْ الْهَمَّ ، وَالْغُمُومَ ، وَأَمَّا أَهْلُ
الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَلَّدُوهُ أُمُورَهُمْ ،
وَخَرَجُوا عَنْ طِبَاعِ الْعِبَادِ ؛ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ خَطَأِ
مَنْ اخْتَارَ نَفْسَهُ فَجَعَلُوا اخْتِيَارَهُمْ الرِّضَا بِمَا
صَيَّرَهُمْ إلَيْهِ مَوْلَاهُمْ مِنْ أُمُورِهِمْ فَزَالَتْ الْغُمُومُ
عَنْ قُلُوبِهِمْ فَأَوْجَبَ لَهُمْ الصُّنْعَ ، وَالتَّوْفِيقَ فِي
أَحْوَالِهِمْ ، وَأَوْرَثَهُمْ الْغِنَى ، وَالْعِزَّ فِي قُلُوبِهِمْ ،
وَسَدَّ عَنْهُمْ أَبْوَابَ الْحَاجَاتِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ ،
وَأَتَتْهُمْ لَطَائِفُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ ، وَقَامَ
لَهُمْ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ ، وَنَزَّهَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا سِوَى
ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُمْ عَنْ فُضُولِ الدُّنْيَا ، وَطَهَارَةً
لِقُلُوبِهِمْ عَنْ التَّشَاغُلِ بِمَا أَغْنَاهُمْ عَنْهُ فَحَصَّنَهُمْ
مِنْ كُلِّ دَنَسٍ ، وَأَمْشَاهُمْ فِي طُرُقَاتِ الدُّنْيَا طَيِّبِينَ
مُوَالِينَ لَهُ فَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ أَشْهَرُ مِنْهُمْ فِي الْأَرْضِ
، وَلِأَصْوَاتِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ ، وَنُورٌ يُعْرَفُونَ بِهِ ،
وَيَحْيَوْنَ عَلَيْهِ قَدْ رَفَعَ أَبْصَارَ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَهِيَ
نَاظِرَةٌ إلَيْهِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ عَنْهُ بِلَا
إدْرَاكٍ مِنْهُمْ لِصِفَةٍ ، وَلَا صُورَةٍ ، وَلَا حَدٍّ ، وَلَا
إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَكِنْ كَيْفَ شَاءَ لَهُمْ
ذَلِكَ فَأَحَبَّهُمْ ، وَحَبَّبَهُمْ إلَى مَلَائِكَتِهِ ، وَسَائِرِ
خَلْقِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى { يَا دَاوُد
تَفَضَّلْ عَلَى عِبَادِي أَكْتُبْك مِنْ أَوْلِيَائِي ، وَأَحِبَّائِي ،
وَأُبَاهِي بِك حَمَلَةَ عَرْشِي ، وَأَرْفَعُ الْحُجُبَ بَيْنِي ،
وَبَيْنَك فَتَنْظُرُ إلَيَّ بِبَصَرِ قَلْبِك لَا أَحْجُبُك عَنْ ذَلِكَ
مَا كُنْت مُسْتَمْسِكًا بِطَاعَتِي } ، وَذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ
: { قُلْ لِأَهْلِ مَحَبَّتِي يَشْتَغِلُوا بِي فَإِذَا
عَلِمْت
أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِي ، وَالِانْقِطَاعُ
إلَيَّ كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَ الْحُجُبَ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيَّ بِأَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
يَتَنَعَّمُونَ بِذِكْرِي قَدْ أَغْنَاهُمْ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ
مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ } فَهَؤُلَاءِ قَدْ مَلَأَ
اللَّهُ أَسْمَاعَهُمْ ، وَأَبْصَارَهُمْ ، وَجَوَارِحَهُمْ مِنْ حُبِّهِ
فَأَدَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ ، وَالدُّخُولِ فِي
مَحَبَّتِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْدِيبَ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِي
مَطْعَمِهِ ، وَمَشْرَبِهِ ، وَمَلْبَسِهِ يَزِيدُ فِي صَلَاحِ قَلْبِهِ ،
وَتَنْقَادُ جَوَارِحُهُ لِقَلْبِهِ ، وَيَقْوَى عَزْمُهُ ، وَيَقْهَرُ
هَوَاهُ فَيَقُومُ عِنْدَ ذَلِكَ مَقَامَ أَهْلِ الْقُوَّةِ إلَى أَنْ
يَرْفَعَهُ اللَّهُ إلَى مَنْزِلَةٍ فَوْقَهَا حَتَّى يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ
الْأَخْذُ ، وَالتَّرْكُ فَلَا يَأْسَفُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ ، وَلَا
يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ لِلْغِنَى الَّذِي وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ
يَزْدَادُونَ لَهُ مَحَبَّةً ، وَمَوَدَّةً ، وَشُكْرًا لَهُ فِي
الْعِلْمِ بِهِ ، وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَّتْ
قُلُوبُهُمْ ، وَانْقَادَتْ أَهْوَاؤُهُمْ إلَى مَا قَلَّ مِنْ الدُّنْيَا
، وَكَفَى فَهِيَ لَا تَطَّلِعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَاظِرِينَ إلَى
رَبِّهِمْ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا لَا إلَى الْأَسْبَابِ نَظَرُهُمْ
مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فِي إقَامَةِ الْأَسْبَابِ الْخَالِصَةِ مِنْ
أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنْ لَبِسُوا خَشِنًا أَوْ لَيِّنًا أَوْ حَسَنًا
أَوْ قَبِيحًا أَوْ أَكَلُوا طَيِّبًا أَوْ كَرِيهًا أَوْ حُلْوًا أَوْ
مُرًّا أَوْ حَامِضًا أَوْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ
مِنْ قُلُوبِهِمْ عَنْ الْحَالِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا مِنْ ذِكْرِ
رَبِّهِمْ ، وَتَعْظِيمِهِ .
وَذَلِكَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عَامِرَةٌ
مِنْ ذِكْرِ الْخَالِقِ ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ سِوَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ
ثُبُوتٌ إلَّا بِالْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْسَخَ أَوْ يَثْبُتَ
فَلَمْ يَقُمْ النَّاسُ مَقَامًا أَشْرَفَ مِنْ أَنْ يُعَلِّقُوا
قُلُوبَهُمْ بِرَبِّهِمْ ، وَلَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى
جَمْعِ هُمُومِهِمْ
فِي صَلَاتِهِمْ ، وَجَمْعِ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ إنْ
قَامُوا عُرِفُوا بَيْنَ يَدَيْ مَنْ هُمْ قِيَامٌ لَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ
رَكَعُوا أَوْ سَجَدُوا أَوْ تَلُوا الْقُرْآنَ أَوْ دَعَوْا رَبَّهُمْ
لَا تَعْزُبُ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذَلِكَ .
فِيهِ زَكَتْ أَعْمَالُهُمْ ،
وَصُوِّبَتْ عُقُولُهُمْ فَهُوَ يَتَعَاهَدُهُمْ بِلُطْفِهِ ،
وَيَسُوسُهُمْ بِتَوْفِيقِهِ فَقَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ خَطَؤُهُمْ ، وَكَثُرَ
صَوَابُهُمْ فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي مَحَبَّةِ طَاعَةِ
اللَّهِ فَلَا يَكُنْ لَهُ ثِقَةٌ إلَّا اللَّهَ ، وَلَا غِنًى إلَّا بِهِ
، وَلَا أَمَلٌ غَيْرَهُ يَرْجُوهُ ، وَيَتَّخِذُهُ ، وَكِيلًا فِي
أُمُورِهِ كُلِّهَا رَاضِيًا بِقَضَائِهِ فِيمَا نَقَلَهُ إلَيْهِ مِنْ
أُمُورِهِ رَاضِيًا بِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ مُتَّهِمًا رَأْيَهُ ،
وَلِمَا تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ مُسَلِّمًا رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ غَيْرَ
مُتَجَبِّرٍ ، وَلَا مُتَمَلِّكٍ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ مِنْ مَرَضٍ
أَوْ صِحَّةٍ أَوْ رَخَاءٍ أَوْ شِدَّةٍ مِمَّا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ ،
وَلْيَكُنْ قَلْبُهُ بِذَلِكَ رَاضِيًا لِمَوْضِعِ الثِّقَةِ بِرَبِّهِ ،
وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ .
فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ وَرِثَ
قَلْبُهُ الْمَحَبَّةَ لَهُ ، وَالشَّوْقَ إلَيْهِ ، وَصَارَ إلَى
مَنْزِلَةِ الرِّضَا بِمَا كَفَاهُ ، وَحَمَاهُ مِنْ الدُّنْيَا ، وَإِنْ
قَلَّ ، وَأَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ مَطَامِعَ الْمَخْلُوقِينَ فَاسْتَغْنَى
بِاَللَّهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ ثُمَّ أَلْهَمَهُ
مَوْلَاهُ عِلْمًا مِنْ عِلْمِهِ فَعَرَّفَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفْهُ
، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ فَعَنْ اللَّهِ أَخَذَ عِلْمَهُ ،
وَبِأَمْرِ اللَّهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - تَأَدَّبَ فَطَهُرَتْ أَخْلَاقُهُ
لَمَّا آثَرَ أَمْرَ اللَّهِ ، وَلَجَأَ إلَيْهِ فَتَمَّتْ عَلَيْهِ
نِعْمَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ
الْمَحْبُوبُونَ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ الْمَعْرُوفُونَ فِيهَا خَفِيٌّ
أَمْرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَظَهَرَ أَمْرُهُمْ لِأَهْلِ
السَّمَوَاتِ لِكَلَامِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ ، وَلِبُكَائِهِمْ حُنَيْنٌ
تَقَعْقَعُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مِنْ سُرْعَةِ فَتْحِهَا
إجَابَةً لِدُعَائِهِمْ فَأَعْظِمْ بِهِمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَاهًا ، وَمَنْزِلَةً ، وَأَعْظِمْ بِهِمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِهِ فَهُمْ مَسْرُورُونَ بِرَبِّهِمْ قَرِيرَةٌ أَعْيُنُهُمْ طَرِبَةٌ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِهِ مُشْتَاقَةٌ سَاكِنَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ إلَيْهِ تَقَدَّمُوا النَّاسَ ، وَانْقَطَعَ النَّاسُ عَنْهُمْ ، وَأَشْرَفُوا عَلَى النَّاسِ ، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهُمْ فَعَجِبُوا مِنْ النَّاسِ ، وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُمْ انْقَطَعُوا إلَى اللَّهِ بِهُمُومِهِمْ ، وَأَهْوَائِهِمْ ، وَعَلِقُوا بِهِ ، وَلَجَئُوا إلَى اللَّهِ لَجْأَ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ قَدْ تَخَلَّصَتْ إلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فَأَنْزَلُوا نِسْيَانَهُ مَعْصِيَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فَقَبِلَهُمْ ، وَاجْتَبَاهُمْ ، وَنَعَّمَهُمْ ، وَخَصَّهُمْ ، وَكَفَاهُمْ ، وَآوَاهُمْ ، وَعَلَّمَهُمْ ، وَعَرَّفَهُمْ ، وَأَسْمَعَهُمْ ، وَبَصَّرَهُمْ ، وَحَجَبَهُمْ عَنْ الْآفَاتِ ، وَحَجَبَ الْآفَاتِ عَنْهُمْ ، وَأَقَامَهُمْ مَقَامَ الطَّهَارَةِ ، وَأَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَ السَّلَامَةِ ، وَأَقَامَ قُلُوبَهُمْ بِذِكْرِهِ فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ بَدَلًا ، وَلَا عَنْهُ حِوَلًا صِيَانَةً لَدَيْهِ ، وَطَرَبًا ، وَاشْتِيَاقًا إلَيْهِ قَدْ أَذَاقَهُمْ مِنْ حَلَاوَةِ ذِكْرِهِ ، وَأَلْعَقَهُمْ مِنْ لَذَاذَةِ مُنَاجَاتِهِ ، وَسَقَاهُمْ بِكَأْسِهِ فَهُمْ وَالِهُونَ بِهِ لَيْسَ لَهُمْ مَسْكَنٌ غَيْرَهُ تَضْطَرِبُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ فَقْدِهِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى مَوْضِعِ حَنِينِهَا يَحْتَمِلُونَ الْأَشْيَاءَ لَهُ ، وَلَا يَحْتَمِلُونَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْهُ هَدَايَا مُجَدَّدَةٌ فَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمُ رَبِّهِمْ ، وَجَلَالُهُ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ قُدْرَتُهُ ، وَسُلْطَانُهُ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ آلَاؤُهُ ، وَنَعْمَاؤُهُ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ تَقْصِيرُهُمْ عَنْ وَاجِبِ حَقِّهِ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ رَأْفَتُهُ ، وَرَحْمَتُهُ ، وَتَارَةً يَصِيرُونَ إلَى حَنِينِهِ ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ تَارَةٍ دَمْعَةٌ ، وَلَذَّةٌ ، وَفِي كُلِّ دَمْعَةٍ
وَلَذَّةٍ فِكْرَةٌ ، وَعِبْرَةٌ ، وَقُلُوبُهُمْ فِي فِكْرَةٍ ، وَعِبْرَةٍ مُهْتَاجَةٌ طَرِبَةٌ هَائِمَةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَهُمْ يُسْقَوْنَ مِنْ كُلِّ تَارَةٍ مَشْرَبًا سَائِغًا يُذِيقُهُمْ لَذَّتَهُ ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ مَقَامٍ عِلْمُ زِيَادَةٍ يُعَرِّفُهُمْ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الزِّيَادَةِ فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ آمَالُ الْخَلْقِ عَنْهُمْ ، وَأَفْضَوْا إلَى اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِجَمِيعِ رَغَبَاتِهِمْ ، وَانْزَاحَتْ الْأَشْيَاءُ الشَّاغِلَةُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَصُمَّتْ عَنْهَا أَسْمَاعُهُمْ ، وَانْصَرَفَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَلَهَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ حَتَّى إذَا جَنَّهُمْ اللَّيْلُ ، وَزَجَرَهُمْ الْقُرْآنُ بِعَجَائِبِهِ مِنْ وَعْدِهِ ، وَوَعِيدِهِ ، وَأَخْبَارِهِ ، وَأَمْثَالِهِ شَرِبُوا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ كَأْسًا مِنْ الزَّجْرِ ، وَالتَّحْذِيرِ ، وَالْأَخْبَارِ ، وَالْأَمْثَالِ ، وَالْوَعْدِ ، وَالْوَعِيدِ ، وَوَجَدُوا حَلَاوَةَ مَا شَرِبُوا حَتَّى إذَا صَفَا يَقِينُهُمْ ارْتَفَعُوا إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِمْ ، وَجَلَالِ مَوْلَاهُمْ خَضَعَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ ، وَخَشَعَتْ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ لِسُكُونِهَا إلَيْهِ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُومُهُمْ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ لَذَاذَةٌ لِاسْتِمَاعِهِ فَقَدْ كَشَفَ لَهُمْ الْقُرْآنُ عَنْ أُمُورِهِ ، وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ عَجَائِبِهِ ، وَدَلَّهُمْ عَلَى بَاطِنِ عِلْمِهِ فَيَفْهَمُونَهُ فَيَسْمُونَ بِهِ إلَى جَلَالِ سَيِّدِهِمْ وَوَقَارِهِ حَتَّى إذَا اتَّقَدَتْ الْأَنْوَارُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَتَمَكَّنَ الْيَقِينُ مِنْ أَجْوَافِهِمْ ، وَحَنَّتْ الْقُلُوبُ لِحَنِينِهَا ، وَضَاقَتْ عَنْ احْتِمَالِ مَا هَجَمَ عَلَيْهَا هَاجَ مِنْهُمْ مَا لَا يَمْلِكُونَ إمْسَاكَهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمْرُ مِنْهُمْ مَدَاهُ ، وَانْتَهَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُمْ مُنْتَهَاهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ جَلَّ جَلَالُهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ ، وَالسُّكُونِ فَلَوْلَا حُسْنُ سِيَاسَتِهِ لَهُمْ ، وَنَظَرُهُ ، وَلُطْفُهُ بِهِمْ مَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ ، وَلَا أَثْبَتُوا مَعَارِفَهُمْ ، وَلَا سَكَنُوا مَنَازِلَهُمْ لِلَّذِي هَجَمَ عَلَى
أَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ مِنْ عَظَمَةِ سَيِّدِهِمْ فَهُمْ يَزْدَادُونَ لَهُ ذِكْرًا ، وَمَوَدَّةً ، وَمَحَبَّةً فِي كُلِّ مَا امْتَحَنَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ ، وَاشْتَغَلُوا عَنْ النَّعِيمِ بِذِكْرِ مَوْلَاهُمْ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَّةٌ مِنْهُ ، وَتَفَضُّلٌ عَلَيْهِمْ فَهُمْ أَدِلَّاءٌ لِعِبَادِهِ ، وَأَعْلَامٌ فِي بِلَادِهِ ، وَحُجَّةٌ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ ، وَخَلَفُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَوَدَائِعُ عِلْمِهِ فَبِهِمْ يَنْزِلُ الْغَيْثُ ، وَبِهِمْ يُصْرَفُ الْعَذَابُ ، وَبِهِمْ يُنْصَرُ عَلَى الْعَدُوِّ فَهُمْ بَرَكَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا يُحِبُّونَ اللَّهَ ، وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ أَقَامُوا مَشِيئَتَهُمْ فِيمَا وَافَقَ مَحَبَّةَ رَبِّهِمْ يَغْضَبُونَ لِغَضَبِهِ ، وَيُحِبُّونَ لِمَحَبَّتِهِ فَهُوَ يَسُوسُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ ، وَيُوَفِّقُهُمْ بِتَوْفِيقِهِ يَأْتِيهِمْ الْعَوْنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ يَرْحَمُونَ الْخَلْقَ بِرَحْمَةِ رَبِّهِمْ ، وَيُؤَمِّلُونَ فَضْلَهُ قَدْ أَزَالَ عَنْ قُلُوبِهِمْ الْمَطَامِعَ ، وَأَسْكَنَهَا الْغِنَى فَاكْتَفَوْا بِمَا جَزَاهُمْ ، وَبَلَغُوا بِمَا بَلَّغَهُمْ فَهُمْ الْقَانِتُونَ الرَّاهِبُونَ السَّائِحُونَ الرَّاغِبُونَ الْمُحِبُّونَ لِلَّهِ الَّذِينَ فَكَّرُوا فِي قُدْرَتِهِ ، وَعَمِلُوا فِي مَحَبَّتِهِ حَتَّى وَرِثُوا الرَّهْبَةَ ثُمَّ وَرِثُوا الرَّغْبَةَ ثُمَّ وَرِثُوا الشَّوْقَ ثُمَّ رَفَعَهُمْ إلَى مَنْزِلَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا رَغْبَةٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ رَبِّهِمْ هِمَّةٌ غَلَبَتْ الْمَحَبَّةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَعْمَالَهُمْ ، وَصَيَّرُوا فِيهِ جَمِيعَ رَغَبَاتِهِمْ ثُمَّ رَفَعَهُمْ إلَى مَزِيدِ فَوَائِدِهِ فَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ حَقًّا مِنْهُمْ الْمُرْسَلُونَ ، وَالنَّبِيُّونَ ، وَالصِّدِّيقُونَ ، وَالشُّهَدَاءُ ، وَالصَّالِحُونَ فَاقُوا أَهْلَ السَّمَاءِ ، وَأَهْلَ الْأَرْضِ لِشِدَّةِ حُبِّهِمْ لِرَبِّهِمْ فَمَا أَصَابُوا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يُصِيبُوهُ عَلَى جِهَةِ مَا يُصِيبُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ التَّلَذُّذِ ، وَالطَّرَبِ إلَيْهِ ،
وَالِاشْتِغَالِ بِهِ ،
وَالتَّفَكُّهِ إنَّمَا يُصِيبُونَهُ عَلَى مَوْضِعِ التَّقْوِيَةِ عَلَى
عِبَادَةِ رَبِّهِمْ ، وَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْ الدُّنْيَا
أَكْلَةً وَاحِدَةً تَكُونُ آخِرَ زَادِهِمْ مِنْهَا لَاكْتَفَوْا بِمَا
قَلَّ فَلَمَّا أَعْطَوْا اللَّهَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ ضَيَّقَ
أَمْعَاءَهُمْ ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمْ شَهَوَاتِهِمْ ، وَاكْتَفَوْا
بِالْيَسِيرِ مِنْ الْمَطْعَمِ فَعِنْدَ ذَلِكَ خَفَّتْ عَلَيْهِمْ
مُؤْنَةُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُنَافِسُوا فِيهَا أَحَدًا فَتِلْكَ
حَالَاتُهُمْ فِي الْمَطْعَمِ ، وَالْمَلْبَسِ مَا تَهَيَّأَ أَكَلُوهُ ،
وَلَبِسُوهُ لَيْسَ لَهُمْ تَخْيِيرٌ ، وَلَا تَلَذُّذٌ فِي أَخْذٍ ،
وَلَا تَرْكٍ خَوْفَ الشَّهَوَاتِ ، وَالِاشْتِغَالُ عَمَّا هُمْ فِيهِ
فَأَسْكَنَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ ، وَحُبِّهِ مَا
أَذَابَ كُلَّ مَوَدَّةٍ لِأَهْلٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ مَالٍ فَإِنْ عَرَضَ
مِنْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ عَارِضٌ فَخَاطِرٌ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتٍ
فِيهَا وَرِثُوا نُورَ الْهُدَى فَأَبْصَرُوا مَوَاضِعَ حِيَلِ إبْلِيسَ ،
وَمَكْرِهِ فَكَسَرُوا عَلَيْهِ كَيْدَهُ ، وَلَبَّسُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ
، وَدَلُّوا النَّاسَ عَلَى مَوَاضِعِ مَكْرِهِ فَهُمْ نُصَحَاءُ اللَّهِ
فِي عِبَادِهِ ، وَأُمَنَاؤُهُ فِي بِلَادِهِ ثُمَّ أَسْكَنَ
مَحَبَّتَهُمْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ فِي عِلِّيِّينَ فَأَحَبَّهُمْ
، وَحَبَّبَهُمْ إلَى مَلَائِكَتِهِ .
فَأَحْيُوا قُلُوبَكُمْ أَيُّهَا
الْمُرِيدُونَ بِالذِّكْرِ ، وَأَمِيتُوهَا بِالْخَشْيَةِ ، وَنَوِّرُوهَا
بِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ ، وَفَرِّحُوهَا بِالشَّوْقِ إلَيْهِ ،
وَاقْمَعُوهَا بِالْمُنَاصَحَةِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
بِالْمَحَبَّةِ تَرْتَفِعُونَ ، وَبِالْمَعْرِفَةِ تَرْهَبُونَ ،
وَبِالشَّوْقِ تَرْغَبُونَ ، وَبِحُسْنِ النِّيَّةِ تَقْهَرُونَ الْهَوَى
، وَبِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ تَصْفُو لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ، وَتُؤْثِرُونَ
رَبَّكُمْ وَحْدَهُ حَتَّى يُؤْثِرَكُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ فِي
عِلِّيِّينَ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُرِيدًا لِلرَّاحَةِ فَلْيَعْمَلْ فِي
مَنَازِلِ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِعَزْمٍ ،
وَإِرَادَةِ قُوَّةٍ وَهِيَ الدَّرَجَاتُ السَّبْعُ الَّتِي تَتَنَقَّلَ
فِيهَا بَنُو آدَمَ
حَتَّى يَصِيرُوا إلَى الْمَعْرِفَةِ ، وَالْعِلْمِ ، وَهِيَ الدَّرَجَاتُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَيْهَا الرُّسُلَ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ الْوَحْيُ مَعَ جِبْرِيلَ ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْعَوَائِدِ ، وَإِنَّمَا وَرِثَ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ وَرِثَ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ الصِّدِّيقُونَ فَاقْتَدُوا بِهِمْ وَجِدُّوا فِي آثَارِهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْكِمْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ السَّبْعِ إلَّا رَسُولٌ أَوْ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْأَبْدَالِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَوْتَادَ الْأَرْضِ فَسَقَى بِهِمْ الْغَيْثَ ، وَأَنْزَلَ عَلَى الْعِبَادِ بِدُعَائِهِمْ الرَّحْمَةَ ، وَصَرَفَ عَنْهُمْ بِهِمْ السُّوءَ فَمَنْ كَانَ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَاتِ ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمُرْسَلِينَ ، وَالنَّبِيِّينَ ، وَالصِّدِّيقِينَ فِي سَيْرِهِمْ فَلْيَرْفُضْ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ مِنْهَا عَلَاقَةٌ تَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا شَغَلَهُ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ فَلْيَبْدَأْ بِرَفْضِ الدُّنْيَا ، وَطَرْحِهَا مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى لَا تَعْدِلَ عِنْدَهُ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ فَإِنَّهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ ، وَأَصْغَرَ
قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ
فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ ، وَيَتَنَاوَلُ مِنْ الدَّرَجَاتِ السَّبْعِ
دَرَجَةَ الْمَعْرِفَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ كَمَا يَنْبَغِي
لَهُ مِنْ حَيْثُ تَعَرَّفَ إلَيْهِ رَبُّهُ فَقَدْ تَعَرَّفَ إلَى
خَلْقِهِ بِخَلْقِهِ إيَّاهُمْ ، وَتَدْبِيرِهِ فِيهِمْ ، وَبِصِفَتِهِ
بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ أَنَابَ
إلَيْهِ ، وَطَلَبَ رِضَاهُ ، وَأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ
كَذَّبَ بِهِ ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، وَعَصَاهُ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ أَمْرَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَا
سِوَاهَا مِنْ الْعِلْمِ ، وَالْعَمَلِ ، وَلَا مِنْ الدَّرَجَاتِ الَّتِي
ذَكَرْنَا ، وَلَا تَكُنْ الْمَعْرِفَةُ حَتَّى تَثْبُتَ فِي الْقَلْبِ
بِالْيَقِينِ الرَّاسِخِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتْ
الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ فَإِنْ قَصَّرَ فِي
الْمَعْرِفَةِ كَانَ فِي الْعَمَلِ أَشَدَّ تَقْصِيرًا ، وَضَعْفًا
لِنِيَّتِهِ ، وَلَمْ يَجِدْ السَّبِيلَ إلَى بُلُوغِ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ
.
، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى قَلْبِهِ
بِمَا كَسَبَ ، وَأَنَّهُ مَعَهُ يَرَاهُ ، وَيَنْظُرُهُ فِي جَمِيعِ
أَحْوَالِهِ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ
أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ رِضَاهُ ، وَلِقَائِهِ ، وَلَا أَبْغَضَ إلَيْهِ
مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَبَقَائِهِ ، وَإِنْ أَحَبَّ الْبَقَاءَ فِي
الدُّنْيَا لَمْ يُحِبَّهُ إلَّا لِلْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ، وَلْيَنْظُرْ
الْمُرِيدُ لِلْمَعْرِفَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ ، وَيَتَدَبَّرْهَا
حَتَّى يَعْرِفَهُ بِهَا ، وَيَدْخُلَ ذَلِكَ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ
يُوَرِّثُ قَلْبَهُ بِذَلِكَ الْعِلْمَ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ
.
فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ
إلَّا مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَنَهَاهُ عَنْهُ ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ
عِنْدَهُ يُنَشِّطُهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ .
ثُمَّ يُوَرِّثُ
قَلْبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَشْيَةَ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ
دَرَجَةُ التَّقْوَى لِلَّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ { إنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، وَهِيَ مُرَاقَبَتُهُ فِي
السِّرِّ ، وَالْعَلَانِيَةِ فَإِذَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ اسْتَقَلَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَأْلُو جَهْدًا ، وَلَا اجْتِهَادًا ، وَلَا يَمَلُّ فَإِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إلَى ذَلِكَ ، وَدَأَبَ عَلَى عَمَلِهِ فِيمَا يُرْضِي رَبَّهُ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُوَرِّثُ قَلْبَهُ الْحُبَّ لَهُ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ فَإِذَا صَارَ إلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ آثَرَ حُبَّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ حُبِّ خَلْقِهِ ، وَأَحَبَّ اللَّهَ ، وَحَبَّبَهُ إلَى مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ حَوْلَ عَرْشِهِ ، وَإِلَى مَلَائِكَةِ السَّمَوَاتِ كُلِّهَا ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ ، وَمَنْ فِيهَا ، وَبَسَطَ حُبَّهُ عَلَى الْمَاءِ فَلَا يَشْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ إلَّا أَحَبَّهُ ، وَلَا يَزْدَادُ فِي عَمَلِهِ إلَّا جِدًّا ، وَاجْتِهَادًا فَوُرِّثَ قَلْبُهُ بَعْدَ هَذَا الشَّوْقَ إلَيْهِ ، وَالْحُبَّ لِلِقَائِهِ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاشِقِ قَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ الذِّكْرُ لِلَّهِ ، وَشُغِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَا خَلَا الْفَرَائِضَ ، وَاجْتِنَابَ الْمَحَارِمِ ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ أَقْوَى مِنْ كُلِّ عَامِلٍ فِي الدُّنْيَا ، وَأَرْفَعَ مَنْزِلَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَفَرَّغْ قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَا نَائِمًا ، وَلَا قَائِمًا ، وَلَا آكِلًا ، وَلَا شَارِبًا ، وَاَللَّهُ لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ فَلَوْ تَرَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، وَلَمَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ تَشَوُّقًا إلَى اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا رَآهُ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مَنَّ عَلَيْهِ بِالطُّمَأْنِينَةِ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ مُعَايِنٌ لَهُ ، وَكَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَوْدِعُهُ ، وَأَنِيسُهُ ، وَسَائِسُهُ ، وَدَلِيلُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُوَرَّثُ قَلْبُهُ الْغِنَى ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُعْظَمُ دُعَائِهِ لِلْخَلْقِ بِالصَّلَاحِ ، وَصَرْفِ السُّوءِ عَنْهُمْ
حَتَّى
يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ
فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَسْقُطُ لَهُ دَعْوَةٌ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ
السَّابِعَةُ .
فَإِذَا صَارَ إلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَتَفَوَّهْ
بِشَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ إذَا خَطَرَتْ بِبَالِهِ تَصِيرُ بَيْنَ
يَدَيْهِ ، وَمَا أَرَادَ مِنْهَا يَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَ
بِشَيْءٍ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ ، وَتَعَاهُدًا
مِنْهُ حَتَّى يَعْجَبَ مِنْ لُطْفِهِ ، وَنَظَرِهِ ، وَصُنْعِهِ
فَيَكُونُ قَوْلُهُ عَدْلًا ، وَفِعْلُهُ رِضًا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي مَنْ وَالَاهُ نِعَمَهُ ، وَأَغْنَاهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَصْلٌ فِي الرِّيَاءِ وَاعْلَمْ - وَفَّقَنَا
اللَّهُ - ، وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا عَلَى الْمُرِيدِ فِي ابْتِدَاءِ
أَمْرِهِ التَّحَفُّظُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْ الْآفَاتِ
الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ الْعَوَائِقَ
كَثِيرَةٌ ظَاهِرًا ، وَبَاطِنًا فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِ
الْوُصُولِ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْخُذُ نَفْسَهُ أَوَّلًا
بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي التَّحَرُّزِ مِمَّا ذُكِرَ لِيَسْلَمَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ : فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَتَّقِيَ
الرِّيَاءَ ، وَالْعُجْبَ ، وَالشُّهْرَةَ ، وَالْكِبْرَ ؛ لِأَنَّهُ
سُمٌّ قَاتِلٌ أَدْنَى الْأَشْيَاءِ مِنْهُ يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ
كُلَّهَا ، وَقَدْ يَخْفَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْفَى
مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ كَمَا وَرَدَ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ .
وَتَظْهَرُ
آفَاتُهُ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ أَنْ قَالَ : أَصْلُ الْعَبْدِ لَمْ يَزَلْ
مُذْ نَشَأَ مُرَائِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ، وَذَلِكَ لِمَيْلِهِ
إلَى الدُّنْيَا ، وَإِيثَارِهِ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ ، وَإِهْمَالِهِ
نَفْسَهُ ، وَإِرْسَالِهِ نِيَّتَهُ فَلَمَّا أَهْمَلَ نَفْسَهُ ،
وَقَلَّتْ مُحَاسَبَتَهُ لَهَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ الرِّيَاءِ فَعَمِلَ
لِلدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ أَصْلِ نِيَّةٍ ثَابِتَةٍ قَدْ نَهَى اللَّهُ
عَنْ إهْمَالِ النَّفْسِ ، وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ اللَّهُ
تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ }
فَنَهَاهُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إضَاعَةِ الْأَعْمَالِ فَلَا يَكُونُ
عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا عَنْ إرَادَةٍ ، وَلَا تَكُونُ
الْإِرَادَةُ إلَّا عَنْ نِيَّةٍ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى عَنْ إضَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَيُّ عَمَلٍ أَكْبَرُ
مِنْ الْإِرَادَةِ ، وَالنِّيَّةِ ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْإِنْسَانَ لَا
يَخْلُو مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ ، وَالْحَرَكَةُ ، وَالسُّكُونُ
جَمِيعُهَا عَمَلٌ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ
فَلَمَّا تَرَكَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ إخْلَاصِ
الْعَمَلِ
لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الرِّيَاءِ ، وَغَيْرِهِ ، وَأَمْرَجَ نَفْسَهُ
فَعَمِلَ عَلَى مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ، وَجَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ
رِيَاءٌ مَحْضٌ ظَاهِرٌ لَا يَعْرِفُهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَعْرِفُهُ
مِنْهُ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ فَهُمْ يَرَوْنَ
فِعْلَهُمْ فِعْلَ أَهْلِ الرِّيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ
صَاحِبِهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ ، وَلَوْ أَنَّهُ أَبْدَى إلَيْهِ شَيْئًا
مِنْ عُيُوبِهِ لَنَفَرَ مِنْهُ ، وَذَبَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَبْطَلَ مَا
نَسَبَهُ إلَيْهِ فَصَارَ عَدُوًّا مُشَاحِنًا ، وَأَقَلُّ مَا يَقُولُ
لِلْعَارِفِ بِعُيُوبِهِ : حَسَدْتنِي فَلَمَّا عَلِمَ الْحَكِيمُ أَهْلَ
زَمَانِهِ ، وَأَنَّ زَمَانَهُ زَمَانُ غَلَبَةِ الْهَوَى ، وَإِعْجَابُ
كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ اعْتَزَلَ بِنَفْسِهِ ، وَنَفَرَ عَنْ
الْعَامَّةِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ فِيهِ
عِنْدَ أَهْلِهِ مُنْكَرًا ، وَأَنَّ الشَّرَّ قَدْ أَحَاطَ بِالْخَيْرِ ،
وَاعْتَزَلَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِصِدْقِ الْإِرَادَةِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ الصِّدْقُ ، وَمَا فِيهِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصْفُو إلَّا
بِالصِّدْقِ اتَّقِي الْكَذِبَ ، وَفُنُونَهُ كُلَّهَا ، وَتَشَوَّقَتْ
عِنْدَ ذَلِكَ نَفْسُهُ إلَى الْكَذِبِ ، وَالرِّيَاءِ لِحَلَاوَةِ
فُنُونِهِ عِنْدَهَا فَأَخَذَهَا بِالْجِدِّ ، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ
ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَتْ مُنْقَادَةً فَلَمَّا
صَارَتْ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَرَأَى الْعَبْدُ ذَلِكَ مِنْهَا
ازْدَادَ إلَى الصِّدْقِ تَشَوُّقًا ، وَازْدَادَ لِلْكَذِبِ مَقْتًا .
وَإِنَّمَا
كَانَ يَنْفِرُ الصِّدْقُ ، وَفُنُونُهُ مِنْ قَلْبِهِ لِغَلَبَةِ
الْكَذِبِ ، وَفُنُونِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الرِّيَاءُ ، وَالْعُجْبُ ،
وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ ، وَاِتِّخَاذُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ
الْمَخْلُوقِينَ ، وَالْمَحْمَدَةُ ، وَالْعِزَّةُ ، وَالتَّعْظِيمُ ،
وَالتَّخْيِيرُ فِي الْأَعْمَالِ الْكَاذِبَةِ فَمَنْ عَمِلَ بِالصِّدْقِ
، وَاتَّقَى الْكَذِبَ بَرِئَ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَالْعُجْبِ ، وَدَوَاعِي
الشَّرِّ كُلِّهِ فَإِذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ الصِّدْقُ ،
وَفُنُونُهُ فِي قَلْبِهِ .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ
الشَّيْطَانَ
يَأْتِي ابْنَ آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ
أَتَاهُ مِنْ وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِيَسْتَدْرِجَهُ فَلَا يَزَالُ بِهِ
حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي بِدْعَةٍ فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ
جِهَةِ الْحَرَجِ ، وَالشِّدَّةِ لِيُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ يُحِلَّ
حَرَامًا فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْوُضُوءِ
فَيُشَكِّكُهُ فِي وُضُوئِهِ ، وَصَلَاتِهِ ، وَصِيَامِهِ حَتَّى
يَعْتَقِدَ بِهَوَاهُ أَمْرًا يَضِلُّ بِهِ عَنْ السَّبِيلِ ، وَيَدْعُ
الْعِلْمَ فَإِذَا قَدَرَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَلَّى
بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ ، وَالزُّهْدِ ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ ،
وَالصَّدَقَةِ ، وَكُلِّ أَعْمَالِ الْبِرِّ ، وَيُخَفِّفُ ذَلِكَ
عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا كَايَدَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَرَدَةِ فَيَقُولُ
لَهُ إبْلِيسُ : دَعْهُ لَا تَصُدَّهُ عَمَّا يُرِيدُ فَإِنَّمَا
بِأَمْرِي يَعْمَلُ فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ النَّاسُ فِي عِبَادَتِهِ ،
وَزُهْدِهِ ، وَصَبْرِهِ ، وَرِضَاهُ بِالذُّلِّ قَالَتْ الْعَامَّةُ ،
وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ : هَذَا عَالِمٌ مُصِيبٌ صَابِرٌ فَيَتَّبِعُونَهُ
عَلَى ضَلَالَتِهِ ، وَيَمُدُّ لَهُ إبْلِيسُ الصَّوْتَ فَيُعْجَبُ
بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ .
وَعَلَامَتُهُ
الْإِعْجَابُ بِرَأْيِهِ ، وَالْإِزْرَاءُ عَلَى مَنْ لَا يَعْمَلُ مِثْلَ
عَمَلِهِ ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ لِلنَّاسِ بِالِاحْتِقَارِ لَهُمْ ،
وَيَتَغَضَّبُ عَلَيْهِمْ فِي التَّقْصِيرِ بِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي
الْعِلْمِ : احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ ، وَالْعَالِمِ
الْفَاسِقِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ .
وَاعْلَمْ
يَا أَخِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ
بِالرِّفْقِ قَالَ لَهُ الْعَدُوُّ : إنَّ الْعَمَلَ بِالْخَيْرِ لَا
يَنْفَعُك حَتَّى تَدَعَ الشَّرَّ كُلَّهُ ، وَتَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا ،
وَتَعْتَزِلَ عَنْ النَّاسِ فَاعْرِفْ نَفْسَك ، وَأَصْلِحْ عُيُوبَك ،
وَاَلَّذِي عِنْدَك أَكْثَرُ ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُصْلَحَ هَكَذَا
سَرِيعًا ، وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَكَادَ يَقْنَطُ ،
وَيَنْقَطِعُ عَنْ الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ دُنْيَا عَرَضَ
لَهُ بِحُسْنِ
الظَّنِّ ، وَالرَّجَاءِ ، وَالتَّسْوِيفِ ، وَطُولِ
الْأَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ إلَى هَذَا الْبَابِ قَطَعَهُ عَنْ الْبِرِّ ،
وَشَغَلَهُ بِالدُّنْيَا ، وَشَهَوَاتِهَا ، وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ
، وَقَالَ : التَّوْبَةُ ، قَالَ : صَدَقْت لَعَمْرِي لَقَدْ فَرَّطْت ،
وَأَخَاف أَنْ يُدْرِكَك الْمَوْتُ فَعَلَيْك بِالْجِدِّ ،
وَالِاجْتِهَادِ ، وَلَا تُرِيدُ أَنْ تُقَصِّرَ فَيُلْزِمُهُ أَشَدَّ
الْعِبَادَةِ فَيَثْبُتُ أَوْ يَنْقَطِعُ أَوْ يَذْهَبُ عَقْلُهُ فَإِنْ
اشْتَهَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ أَلْقَى إلَيْهِ طُولَ الْأَمَلِ ،
وَخَوَّفَهُ قِلَّةَ الصَّبْرِ ، وَيَقُولُ لَهُ : لَك بِالنَّاسِ
أُسْوَةٌ فَيُبَغِّضُ إلَيْهِ الْعِبَادَةَ ، وَيُثَقِّلُهَا عَلَيْهِ
ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ عَرَفُوك بِالْعَمَلِ فَلَا
تُبْدِ لَهُمْ التَّقْصِيرَ ، وَدَعْ نَفْسَك فِي السِّرِّ ، وَيَعْرِضُ
لَهُ بِغِذَائِهِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الَّتِي كَانَ يُصِيبُهَا
فَيَمِيلُ إلَيْهَا ، وَيَرْجِعُ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى ، وَصَارَ
عَمَلُهُ عَلَانِيَةً رِيَاءً لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ
أَنْ يَسْتَحْلِيَ الْكَلَامَ فِي الزُّهْدِ ، وَمَا يُزَيِّنُهُ عِنْدَ
النَّاسِ ، وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ مُجَالَسَةَ النَّاسِ فَتَصِيرُ
عِبَادَتُهُ ، وَزُهْدُهُ كُلُّهُ بِالْكَلَامِ .
فَالْعَالِمُ عَرَفَ
ضَعْفَ نَفْسِهِ ، وَعَرَفَ زَمَانَهُ ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ فِيهِ
عَلَى الْخَيْرِ ، وَكَثْرَةَ الْأَعْدَاءِ فَأَخَذَ الْأَمْرَ
بِالرِّفْقِ ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ ، وَطَلَبَ صَفَاءَ
الْأَعْمَالِ ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا ، وَإِنْ قَلَّتْ الْأَعْمَالُ ،
وَطَلَبَ مُخَالَفَةَ الْهَوَى ، وَنَقَلَ الطِّبَاعَ بِالرِّفْقِ ،
وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَقَصَدَ
جِهَادَ نَفْسِهِ ، وَمُحَارَبَةَ الشَّيْطَانِ ، وَالْمُعَانَدَةَ
لِلْهَوَى بِالْخِلَافِ ؛ لِمَا يُلْقُونَ إلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَكِيدَةٍ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ
سِلَاحًا يَدْفَعُ بِهِ تِلْكَ الْمَكِيدَاتِ وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ
أَنْ يَعْرِفَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ ، وَمَا
تَهْوَاهُ النَّفْسُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَصِلُ
إلَى
الْعَبْدِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِ مُوَافَقَةِ
الْهَوَى فَإِذَا بَدَأَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ ، وَمُحَارَبَتِهَا ،
وَبِهَوَاهُ فَأَمَاتَهُ هَانَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ .
وَاعْلَمْ يَا
أَخِي أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَإِنْ أَنْتَ وَغِلْت فِيهِ
بِالرِّفْقِ أَمْكَنَك ، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ ، وَقَلِيلٌ
تَدُومُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ يَقْطَعُك فَإِنَّك لَمْ تَرَ
شَيْئًا أَشَدَّ تَوَلِّيًا مِنْ الْقَارِئِ إذَا تَوَلَّى ، وَيُرْوَى
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ
يَتَعَوَّذُ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ } ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ
الزِّيَادَةَ ، وَيَكْرَهُونَ النُّقْصَانَ .
وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ
أَنْ يَكُونَ حَذِرًا مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَ
السُّنَّةَ خَالَفَ الْحَقَّ ، وَمَنْ خَالَفَ الْحَقَّ هَلَكَ .
فَائْتِ
الْعُلَمَاءَ ، وَالْزَمْ أَدَبَهُمْ فَإِنْ رَأَيْتهمْ يُقَصِّرُونَ فِي
بَعْضِ مَا يَقُولُونَ فَلَا تَزْهَدْ فِيهِمْ ، وَاقْتَدِ بِذِي
الْبَصِيرَةِ مِنْهُمْ ، وَالْبَصَرِ ، وَمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ
فِعْلَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ قَالَ : عُقُولُ الرِّجَالِ عَلَى قَدْرِ
أَزْمِنَتِهِمْ فَإِذَا نَقَصَ الْعَقْلُ نَقَصَ الْبِرُّ كُلُّهُ
فَاعْرِفْ نَفْسَك فِي زَمَانِك وَاعْلَمْ أَنَّ الزُّهْدَ ،
وَالْعِبَادَةَ ، وَالْعِلْمَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ
قَلِيلٌ ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْعُلَمَاءِ لَا يَصْبِرُ
عَلَى نُزُولِ الْمِحَنِ فَكَيْفَ يَصْبِرُ الْجَاهِلُ عَلَى نُزُولِهَا ،
وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالزُّهَّادِ لَا يَصْبِرُ فَكَيْفَ
يَصْبِرُ الرَّاغِبُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْعَالِمُ مِنْ أَهْلِ هَذَا
الزَّمَانِ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْرِ خَرَجَ ، وَالْجَاهِلُ مِنْ شِدَّةِ
الصَّبْرِ حَرَجَ ، وَأَمَّا الْعَالِمُ الصَّادِقُ الَّذِي اسْتَوْجَبَ
اسْمَ الْعِلْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ مِنْ عِلْمِهِ
بِاَللَّهِ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِجَوَارِحِهِ
أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ فَيَمْقُتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ
يَرَهُ اللَّهُ يُؤْثِرُ
دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ فَصَبَرَ عَلَى
الدُّنْيَا ، وَصَبَرَ عَلَى الذَّمِّ ، وَالتَّقْصِيرِ ، وَالتَّقَلُّلِ
، وَكَرِهَ الْمَدْحَ ، وَالتَّوَسُّعَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَالْجَاهِلُ
الَّذِي يَعْمَلُ بِجَهْلٍ جَزَعَ مِنْ الذَّمِّ ، وَفَرِحَ بِالْمَدْحِ ،
وَالتَّوَسُّعِ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى صَبَرَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ
الْجَزَعِ فَاحْذَرْ أَنْ تَصْبِرَ صَبْرَ الْجَاهِلِ ، وَلِذَلِكَ ثَقُلَ
الْعَمَلُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ ، وَخَفَّ عَلَى أَهْلِ
الْجَهْلِ ، وَنَوْمُ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْجَاهِلِ ،
وَضَحِكُ الْعَالِمِ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بُكَاءِ الْجَاهِلِ
فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عَلَى أَفْعَالِك ، وَاحْذَرْ نَفْسَك ، وَهَوَاك ،
وَاحْذَرْ أَهْلَ زَمَانِك ، وَلَا تَأْمَنْ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى
دِينِك .
وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ قَدْ نَصَبَ لَك حَبَائِلَهُ ،
وَأَقْعَدَ لَك الرَّصَدَةَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ ، وَقَدْ سُلِّطَ أَنْ
يَجْرِيَ مِنْك مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ ، وَيَرَاك هُوَ ،
وَأَعْوَانُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُمْ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَأْتِيك
مِنْ قِبَلِ الرِّيَاءِ ، وَالْعُجْبِ ، وَالْكِبْرِ ، وَالشَّكِّ ،
وَالْإِيَاسِ ، وَالْأَمْنِ مِنْ الْمَكْرِ ، وَالِاسْتِدْرَاجِ ،
وَتَرْكِ الْإِشْفَاقِ فَإِنْ تَابَعْته فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْتَ
عَلَى سَبِيلِ هَلَكَةٍ فَحِينَئِذٍ يُخَلِّي بَيْنَك ، وَبَيْنَ مَا
شِئْت مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا
لِيَسْتَوْلِيَ الْهَوَى عَلَى قَلْبِك فَيَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ الَّذِي
يُرِيدُ مِنْك فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ
خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ النَّصِيحَةِ .
وَهَذِهِ الْخِصَالُ
الَّتِي ، وَصَفْت لَك كُلُّهَا أَشَدُّ مِنْ الْمَعَاصِي ، وَصَاحِبُهَا
لَا يَكَادُ يَثُوبُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا ، وَرُبَّمَا انْتَبَهَ
الْعَبْدُ فَتَابَ مِنْهَا فَإِنْ ظَفَرَ مِنْ الْعَبْدِ بِالْعُجْبِ
قَالَ لَهُ : إنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِك فَاعْمَلْ ، وَأَعْلِنْ
عَمَلَك فَيَتَأَسَّى النَّاسُ بِك ، وَيَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِك ،
وَيَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِك ؛ لِأَنَّهُ
مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ
فَإِذَا
ظَهَرَ عَمَلُهُ فَرِحَ بِهِ فَصَارَ مُعْجَبًا ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ
فَنَسِيَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى عَمَلِهِ حَبَّبَ
إلَيْهِ حَمْدَهُمْ ، وَاِتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ فَإِذَا
فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ مُرَائِيًا مُفَاخِرًا ، فَاتَّهِمْ فَرَحَ الْقَلْبِ
بِالْعَمَلِ فَإِنَّ الْفَرَحَ إلَى الْقَلْبِ الْفَرِحِ أَقْرَبُ ،
وَأَسْرَعُ مِنْهُ إلَى الْقَلْبِ الْحَزِينِ ، وَأَقْلِلْ مِنْ
مَعْرِفَةِ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا
مِمَّنْ تَعْرِفُ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا مِنْ
قِبَلِهِمْ فَكُلَّمَا قَلُّوا كَانَ خَيْرًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ
الْعَبْدَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فِي السِّرِّ فَلَا يَزَالُ بِهِ إبْلِيسُ
يَقُولُ أَظْهِرْهُ لِيَقْتَدِيَ بِك النَّاسُ فِيهِ ، وَتُنَشِّطَهُمْ
عَلَى طَاعَةِ رَبِّك فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَ فَإِذَا
أَظْهَرَهُ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْعَلَانِيَةِ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى
يَفْتَخِرَ بِهِ فَإِذَا افْتَخَرَ بِهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرِّيَاءِ
فَعَلَيْك بِعَمَلِ السِّرِّ ، وَكِتْمَانِهِ ، وَخُمُولِ النَّفْسِ
وَإِسْقَاطِ الْمَنْزِلَةِ ، وَاكْتُمْ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَكْتُمُ
السَّيِّئَاتِ ، وَخَفْ مِنْ فَضِيحَةِ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَخَافُ مِنْ
فَضِيحَةِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّ الْمُفْتَضِحَ بِالسَّيِّئَاتِ لَيْسَ
يَفْتَضِحُ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إنَّمَا يَفْتَضِحُ عِنْدَ قَوْمٍ
دُونَ قَوْمٍ ، وَالْمُفْتَضِحُ بِالْحَسَنَاتِ إذَا دَخَلَهَا الرِّيَاءُ
افْتَضَحَ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فَاحْذَرْ ، وَاسْتَحِ مِنْ اللَّهِ
أَنْ يَرَاك تَعْمَلُ لِغَيْرِهِ ، وَتَطْلُبُ الثَّوَابَ مِنْهُ ،
وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ لِلَّهِ ، وَاصْدُقْ فِيهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
تَخْلِيصَ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى
يَتَخَلَّصَ ، وَالِاتِّقَاءُ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَشَدُّ
مِنْ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ
اللَّهُ عَمَلًا مِنْ مُرَاءٍ ، وَلَا مِنْ مُسْمِعٍ ، وَلَا مِنْ دَاعٍ
إلَّا بِثُبُوتٍ مِنْ قَلْبِهِ ، وَاحْذَرْ الرِّيَاءَ كُلَّهُ فَإِنَّ
أَوَّلَهُ ، وَآخِرَهُ بَاطِلٌ ، وَكُنْ فِي الْعَمَلِ مُتَأَنِّيًا ،
وَقَّافًا فَإِذَا هَمَمْت
بِعَمَلٍ فَقِفْ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا فَاحْمَدْ اللَّهَ ، وَامْضِ فِيهِ ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَى إخْلَاصِهِ ، وَأَكْلِفْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُ ، وَتُحِبُّ أَنْ تَزْدَادَ مِنْهُ ، وَدُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا ، وَإِنْ قَلَّ فَاعْمَلْ بِمَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّهُ حَقٌّ وَاضِحٌ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَقِفْ ، وَلَا تَقْتَحِمْ ، وَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِمْ فَهُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا إلَى اللَّهِ ، وَهُمْ الدُّعَاةُ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ ، وَقَّافٌ عِنْدَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَحَاطِبِ اللَّيْلِ فَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا الْتَبَسَ عَلَيْك فَمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَخُذْ بِهِ ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَخُذْ أَنْتَ فِيهِ بِالثِّقَةِ ، وَالِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الْإِثْمَ حَوَّازُ الْقُلُوبِ .
، وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ رُبَّمَا قَالَ لِلْعَبْدِ
: قَدْ سَبَقَك النَّاسُ إلَى اللَّهِ مَتَى تَلْحَقُ بِهِمْ ؟ فَلْيَقُلْ
لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ : قَدْ عَرَفْتُك أَنَا فِي الطَّلَبِ إنْ رَفَقْت
لَحِقْت ، وَإِنْ لَمْ أُرْفِقْ لَمْ أَلْحَقْ إنْ صَبَرْت عَلَى
الْقَلِيلِ نِلْت الْكَثِيرَ ، وَإِنْ عَجَزْت عَنْ الْقَلِيلِ فَأَنَا
عَنْ الْكَثِيرِ أَعْجَزُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ { ،
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } فَالزِّينَةُ مِنْ
الشَّيْطَانِ ، وَالنُّورُ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَمِلَ
الْعَبْدُ عَمَلًا فَرَأَى الشَّيْطَانُ مَعَهُ نُورًا كَانَتْ هِمَّةُ
الْخَبِيثِ أَنْ يُطْفِئَ ذَلِكَ النُّورَ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى
الْعَبْدِ عَمَلَ السِّرِّ أَخْرَجَهُ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ
بِحِيلَتِهِ ، وَمَكِيدَتِهِ فَإِنْ عَمِلَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِصِدْقٍ ،
وَإِخْلَاصٍ فَرَأَى فِي عَمَلِهِ الْعَلَانِيَةِ نُورًا ، وَصَبْرًا
أَمَرَهُ بِمُخَالَفَةِ النَّاسِ لِيُؤْذَى فَلَا يَحْتَمِلُ فَإِنْ
خَالَطَهُمْ فَأُوذِيَ ، وَاحْتَمَلَ الْأَذَى أَمَرَهُ بِالْعُزْلَةِ ،
وَالرَّاحَةِ مِنْ النَّاسِ لِيُعْجَبَ بِمَا يَعْمَلُ ، وَيَضْجَرَ مِنْ
الْعَمَلِ فَإِنْ اعْتَزَلَ ، وَصَبَرَ ، وَأَخْلَصَ قَالَ لَهُ :
الرِّفْقُ خَيْرٌ لَك فَيَصُدُّهُ عَنْ الْعِبَادَةِ ، وَإِنَّمَا
يَلْتَمِسُ مِنْ الْأَشْيَاءِ غَفْلَتَهُ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ
يَكُونَ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ ، وَلْيَسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ
أَنَّ صَاحِبَ الْإِخْلَاصِ خَائِفٌ ، وَجِلٌ حَزِينٌ مُتَوَاضِعٌ
مُنْتَظِرٌ لِلْفَرَجِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَوَدُّ أَنَّهُ نَجَا
كَفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَالْجَاهِلُ فَرِحٌ فَخُورٌ
مُتَكَبِّرٌ مُدْلٍ بِعَمَلِهِ ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ
أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأَعْرِفُ مِائَةَ بَابٍ مِنْ الْخَيْرِ ،
وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَالِمَ
الْعَامِلَ الصَّادِقَ الْمُخْلِصَ الْعَارِفَ الْخَائِفَ الْمُشْتَاقَ
الرَّاضِيَ الْمُسَلِّمَ الْمُوَفَّقَ الْوَاثِقَ الْمُتَوَكِّلَ
الْمُحِبَّ لِرَبِّهِ يُحِبُّ أَنْ لَا يُرَى شَخْصُهُ ، وَلَا يُحْكَى
قَوْلُهُ ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ أَفْلَتَ كَفَافًا فَمَعْرِفَتُهُ
بِنَفْسِهِ بَلَغَتْ بِهِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ ، وَتَمَسُّكُهُ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ أَوْصَلَهُ إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ .
وَالْجَاهِلُ
الْمِسْكِينُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْخَيْرِ ، وَيَنْتَشِرَ عَنْهُ ،
وَيُنْشَرَ ذِكْرُهُ ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُزْرَى عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ ،
وَلَا فِعْلٍ بَلْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ،
وَيُوَطَّأُ عَقِبُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُزْرِ لَهُمْ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا
شِدَّةُ حُبِّهِ لِذَلِكَ لِحَلَاوَةِ الثَّنَاءِ ، وَالْحُبِّ
لِإِقَامَةِ الْمَنْزِلَةِ ، وَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا عَظِيمَةٌ ،
وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ شَدِيدَةٌ ، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ الْهَوَى
يَتَلَاعَبُ بِهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ التَّلَاعُبِ تَنْقَضِي أَيَّامُهُ ،
وَيَفْنَى عُمْرُهُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَسِيرًا لِلشَّيْطَانِ ،
وَعَبْدًا لِلْهَوَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نَظَرَ إلَى
الْعَبْدِ مُرِيدًا صَادِقًا مُخْلِصًا مُدَاوِمًا عَارِفًا بِنَفْسِهِ
عَارِفًا بِهَوَاهُ مُعَانِدًا لَهُمَا حَذِرًا مُسْتَعِدًّا عَارِفًا
بِفَقْرِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ لَهُ : إنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا
يَصْلُحُ إلَّا بِالْأَعْوَانِ عَلَيْهِ ، وَالشَّيْطَانُ عَلَى
الْوَاحِدِ أَقْوَى ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ فَجَالِسْ
إخْوَانَكَ ، وَذَاكِرْهُمْ ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَنُوبُك فِي عَمَلِك
مِنْ نَفْسِكَ ، وَهَوَاكَ ، وَمِنْ عَدُوِّكَ فَإِنَّهُمْ يَدُلُّونَكَ ،
وَيُعِينُونَك يُرِيدُ بِذَلِكَ ذَهَابَ حُزْنِ الْخَلَوَاتِ ،
وَإِطْفَاءَ نُورِ الْعُزْلَةِ ، وَقَطْعَ سَبِيلِ النَّجَاةِ ، وَفَتْحَ
طَرِيقِ الْفُضُولِ ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ
عَمَلِ السِّرِّ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ
بِذَلِكَ كُلِّهِ إطْفَاءَ مَا قَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي
قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ نُورِ فِكْرِ الْخَلَوَاتِ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا
إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك : أَجَلْ إنَّمَا هُوَ مِنْ
الشَّيْطَانِ تَعْلِيمُك النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِك فَلَوْ أَخْبَرْت
النَّاسَ بِذَلِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَك لِيَعْلَمُوا مِنْ آفَاتِ
الْأَعْمَالِ مَا تَعْلَمُ فَتُؤْجَرُ فِيهِمْ فَإِنْ قُلْت أَيْضًا هَذَا
مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك :
لَوْلَا عِلْمُك لَمْ تَعْلَمْ
بِهَذِهِ الْآفَاتِ لِتُعْجَبَ بِنَفْسِك ، وَتَنْسَى النِّعْمَةَ عَلَيْك
فِي الْعَمَلِ فَتُخْمِدَ النَّفْسَ فَلَا يُجَاوِزُ عَمَلُك رَأْسَك
فَاحْذَرْ هَذَا الْبَابَ فَإِنَّ فِيهِ شَهَوَاتٍ خَفِيَّةً ، وَمِنْ
الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ أَنْ يُخْفِي الْعَبْدُ عَمَلَهُ ، وَيُحِبَّ
أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ بِهِ ، وَيُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ
عَلَيْهِ ، وَالْعَمَلُ خَفِيَ فِي السِّرِّ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ
يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ عَلَامَةِ عَطَشٍ إنْ
كَانَ صَائِمًا أَوْ عَلَامَةِ سَهَرٍ فِي الْوَجْهِ إنْ كَانَ قَامَ مِنْ
اللَّيْلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إنْ قَالَ أَنَا أَعْمَلُ
لِلَّهِ لَا لِلنَّاسِ قَالَ لَهُ : صَدَقْتَ أَخْلِصْ عَمَلَك لِلَّهِ
فَإِنَّ الْمُخْلِصَ يُحَبِّبُهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ ، وَيُعَرِّفُهُمْ
فَضْلَهُ فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ : وَمَا حَاجَتِي إلَى النَّاسِ قَالَ :
فَأَنْتَ الْآنَ الْمُخْلِصُ الَّذِي قَدْ أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنْ
قَلْبِك ، وَعَرَفْت مَكِيدَةَ إبْلِيسَ ، وَقَدْ نَجَوْت ، وَأَنْتَ
مَعْصُومٌ فَإِنْ عَقَلَ الْعَبْدُ ، وَقَالَ لَهُ : وَمَنْ أَنَا ،
وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ مَنٌّ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ، وَلَهَا
شُكْرٌ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا ، وَإِنَّمَا
الثَّوَابُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْجَزَاءِ لِمَنْ أَخْلَصَ ، وَلَمْ
يُعْجَبْ بِعَمَلِهِ ، وَلَمْ يَنْسِبْ إلَى نَفْسِهِ نِعْمَةً هِيَ مِنْ
اللَّهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ الشُّكْرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ
لِلْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ : الْآنَ نَجَوْت حِينَ اعْتَرَفْت لِلَّهِ
بِذَلِكَ ، وَقُمْت بِشُكْرِ النِّعْمَةِ ، وَتَوَاضَعْت لِرَبِّك ،
وَبَرَّأْت نَفْسَك مِنْ الْعَمَلِ ، وَنَسَبْته إلَى الَّذِي هُوَ مِنْهُ
فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُ هَلَكْت ، وَلَكِنْ قُلْ أَنَا أَرْجُو ،
وَأَخَافُ ، وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ النَّجَاةِ شَيْءٌ ، وَلَسْت أَدْرِي
بِمَا يُخْتَمُ لِي عَمَلِي .
وَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ ،
وَالتَّزَيُّنَ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا
تَزَيَّنَ الرَّجُلُ بِالرِّقَاعِ ، وَالْخِرَقِ ، وَالشُّعْثِ ، وَتَرَكَ
الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ التَّزَيُّنَ
فَإِنْ
فَعَلْت ذَلِكَ نَزَلْت بِمَحَلَّةِ خُشُوعِ النِّفَاقِ ، وَإِنْ عَرَفْت
نَفْسَك بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ تُسَارِعْ إلَى التَّحَوُّلِ
عَنْهُ خِفْت أَنْ يَلْحَقَك الْخِذْلَانُ ، وَالْمَقْتُ فَاتَّقِ اللَّهَ
فِي جَمِيعِ أُمُورِك ، وَاعْمَلْ لَهُ كَأَنَّك تَرَاهُ .
فَإِنْ
قَالَ لَك الْخَبِيثُ : الْآنَ نَجَوْت حِينَ عَرَفْت نَفْسَك ،
وَأَنْزَلْتهَا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ ، وَحَذِرْت هَوَاك ، وَعَدُوَّك
فَقُلْ : الْآنَ هَلَكْتُ حِينَ أَمِنْت الْعِقَابَ فَإِنْ قَالَ لَك :
الْآنَ نَجَوْت حِينَ خِفْت أَنْ تَكُونَ قَدْ أَمِنْت الْعِقَابَ فَقُلْ
: الْآنَ هَلَكْت لَوْ كُنْت صَادِقًا لَصَدَّقَ قَوْلِي فِعْلِي ،
وَلَزِدْتُ خَوْفًا ، وَحَيَاءً مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، وَلَوْ
كُنْت كَذَلِكَ الْحَالُ بَيْنِي ، وَبَيْنَك ، وَجَعَلَنِي فِي حِرْزِهِ
، وَحِصْنِهِ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ قَالَ : فِيهِمْ { إنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } ، وَلَمْ تَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ
عَلَيَّ فِي عَمَلِي فَإِنْ قَالَ لَك : جَاهِدْ نَفْسَك فَإِنَّهُ
أَفْضَلُ الْعَمَلِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ شَغَلَهُمْ أَمْرُ غَيْرِهِمْ ،
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَأَنْتَ بَيْنَهُمْ غَرِيبٌ ، وَأَنْتَ
كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ بَيْنَ الشَّجَرِ الْيَابِسِ .
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ } ، وَأَنْتَ الْمَعْرُوفُ فِي أَهْلِ
السَّمَاءِ ، وَالْمَجْهُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ
هَلَكْتَ ، وَإِنْ قُلْتَ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك : صَدَقْت
هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَقَدْ كَثُرَتْ عَلَيْك مَكَائِدُهُ ،
وَمُجَاهَدَةُ نَفْسِك ، وَهَوَاك فَكَمْ تُعَذِّبُ نَفْسَك إنْ كُنْت
شَقِيًّا لَمْ تَسْعَدْ أَبَدًا ، وَإِنْ كُنْت سَعِيدًا لَمْ تَشْقَ
أَبَدًا ، وَلَا يَضُرُّك تَرْكُ الْعَمَلِ إنْ كُنْت سَعِيدًا ، وَلَا
يَنْفَعُك الْعَمَلُ الْكَثِيرُ إنْ كُنْت شَقِيًّا فَإِنْ قَبِلْت
الْقُنُوطَ الَّذِي أَلْقَاهُ إلَيْك هَلَكْت ، وَإِنْ تَرَكْت الْعَمَلَ
، وَنِلْت مِنْ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْغُرُورِ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ
بِزَعْمِك ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى الرَّجَاءِ الْكَاذِبِ ، وَالطَّمَعِ
الْكَاذِبِ ،
وَالْأَمَانِيِّ الْكَاذِبَةِ ، وَرَجَوْت الْجَنَّةَ
بِالْغُرُورِ ، وَطَلَبْتهَا طَلَبَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالرَّاحَةِ
عَطِبْتَ ، وَإِنْ امْتَنَعْت قَالَ لَك : أَحْسِنْ ظَنَّك بِاَللَّهِ
فَإِنَّهُ يَقُولُ : { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } ، وَاَللَّهُ
يُحِبُّ الْيُسْرَ ، وَالدِّينُ وَاسِعٌ ، وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
فَاعْرِفْ نَفْسَك عِنْدَ ذَلِكَ ، وَاعْتَصِمْ بِاَللَّهِ { ، وَكَفَى
بِاَللَّهِ حَسِيبًا } ، وَاعْلَمْ أَنَّك كُنْت فِي بَلَدٍ ، وَأَنْتَ
فِيهِ سَالِمٌ ، وَأَمْرُك فِيهِ مُسْتَقِيمٌ ، وَالنُّورُ مَعَك فِي
فِعْلِك ، وَقَوْلِك قَالَ لَك : عَلَيْك بِالثُّغُورِ ، وَعَلَيْك
بِمَكَّةَ ، وَعَلَيْك بِكَذَا فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ رَأَيْت فَتْرَةً
فِي عَاجِلِ عَمَلِك ، وَقَسَاوَةً فِي قَلْبِك ، وَوَقَعْت فِي
الْمَشُورَةِ يُرِيدُ بِذَلِكَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ السَّفَرِ ،
وَالشُّغْلَ بِهِ عَنْ الدَّأَبِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالنَّشَاطِ الَّذِي
كَانَ مَعَك فَإِنْ صِرْتَ إلَى بَلَدٍ أَنْتَ فِيهِ مَسْرُورٌ ،
وَقَلْبُك رَيِّحٌ قَالَ لَك : مَوْضِعُك كَانَ أَصْلَحَ لِقَلْبِك ،
وَأَجْمَعَ لِهِمَّتِك فَارْجِعْ إلَى مَوْضِعِك فَإِنَّ أَحَبَّ
الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا مَعَ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ ،
وَالْفَقْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لِلدَّأَبِ ثَوَابًا ،
وَلِلصَّبْرِ ثَوَابًا { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ،
وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَنْجُو
بِالْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَهْلِكُ بِهَا ، وَكُلُّ عَبْدٍ
مُيَسَّرٌ ؛ لِمَا خُلِقَ لَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَهْلِكُ
بِالتَّفْرِيطِ ، وَالتَّضْيِيعِ أَكْثَرُ ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ
أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا رَاهِبًا لَا يَأْمَنُ ، وَلَا يَيْأَسُ .
وَاعْلَمْ
أَنَّهُ يَأْتِيك مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لَا يَغْفُلُ ، وَلَا يَأْلُوك
خَبَالًا إنْ كُنْت مُقِلًّا ، عِنْدَك مِنْ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسِيرٌ
تُرِيدُ أَنْ تَقُوتَهُ نَفْسَك ، أَمَرَك بِالصَّدَقَةِ ، وَرَغَّبَك
فِيهَا لِتُخْرِجَ مَا فِي يَدَيْك ، وَتَحْتَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَظْفَرَ
بِك فِي حَالِ الْغَفْلَةِ ، وَإِنْ كُنْت غَنِيًّا أَمَرَك
بِالْإِمْسَاكِ ، وَرَغَّبَك فِيهِ ، وَخَوَّفَك الْفَقْرَ ، وَالْحَاجَةَ
، وَقَالَ لَك :
ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَلَعَلَّك تَكْبَرُ ،
وَتَضْعُفُ ، وَيَطُولُ عُمْرُك يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَصِيرَ إلَى حَالِ
الْبُخْلِ فَيَظْفَرَ بِك ، وَإِنْ كُنْت تَصُومُ ، وَقَدْ عُرِفْت
بِالصَّوْمِ ، وَأَحْبَبْت أَنْ تُرِيحَ نَفْسَك قَالَ لَك : قَدْ عُرِفْت
بِالصَّوْمِ لَا تُفْطِرْ فَيَضَعُ النَّاسُ أَمْرَك عَلَى أَنَّك قَدْ
كَبِرْتَ ، وَتَغَيَّرْتَ ، وَفَتَرْتَ ، وَعَجَزْتَ فَإِنْ قُلْتَ مَالِي
، وَلِلنَّاسِ قَالَ لَك : صَدَقْت أَفْطِرْ فَإِنَّ الْمُحْسِنَ مُعَانٌ
سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ
مِنْهُ ، وَأَفْطَرْتَ عَلَى أَنَّ النَّاسَ سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى
أَحْسَنِ الْوُجُوهِ ، وَالْمَنْزِلَةُ لَا تَسْقُطُ عِنْدَهُمْ
بِإِفْطَارِك فَقَدْ عَطِبْتَ ، وَإِنْ أَنْتَ نَفَيْت ذَلِكَ ، نَصَبَ
لَك بَابًا آخَرَ فَقَالَ لَك : عَلَيْك بِالتَّوَاضُعِ لِيُشْهِرَك
عِنْدَ النَّاسِ ، وَكُلَّمَا ازْدَدْت تَوَاضُعًا عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ
لِلشَّهْوَةِ ، وَالشُّهْرَةِ ازْدَادَ كَلَبًا عَلَيْك فَاتَّقِ مَا
وَصَفْتَ لَك ، وَالْجَأْ إلَى اللَّهِ فِي أُمُورِك كُلِّهَا ، وَاتْرُكْ
كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا لِعَمَلِ الْآخِرَةِ رَغْبَةً مِنْك فِي
الْآخِرَةِ ، وَحُبًّا لَهَا ، وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى الدُّنْيَا
فَبِحُبِّك إيَّاهَا تَصِلُ إلَيْهَا ، وَبِقَدْرِ حُبِّك لَهَا تَعْمَلُ
لَهَا ، وَأَقِلَّ الدُّنْيَا ، وَأَبْغِضْهَا فَبِقَدْرِ بُغْضِك لَهَا
تَزْهَدُ فِيهَا ، وَانْظُرْ إنْ كُنْتَ ذَا عِلْمٍ فَخِفْ أَنْ تُوقَفَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَك : بُعْدًا ، وَسُحْقًا بَعْدَ
الْعِلْمِ ، وَالتَّبَصُّرِ مِلْتَ إلَى الدُّنْيَا ، وَتَرَكْتَ
الْعِلْمَ ، وَالْعَمَلَ ، وَاخْتَرْتَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ مَا غَرَّك
بِرَبِّك الْكَرِيمِ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فَلْيَعْبُدْ اللَّهَ
الْعَالِمُ بِطَاعَةِ الْعِلْمِ ، وَلْيَتْرُكْ طَاعَةَ الْجَهْلِ ،
وَلْيَتْرُكْ الِاغْتِرَارَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ أَطَاعَهُ فِي الدُّنْيَا ،
وَهُوَ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْجُو مِنِّي
بِحِيلَةٍ فَفِي حِبَالِي وَقَعَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى {
إنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ
، وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ، وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } ، وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ ، وَاَللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } فَافْهَمْ ، وَاحْذَرْ ، وَافْطَنْ ، وَانْظُرْ ،
وَحَارِبْ ، وَاسْتَعِدَّ ، وَكَابِدْ ، وَجَاهِدْ ، وَاسْتَعِنْ
بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَامَ إلَى
الصَّلَاةِ يُرِيدُ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ ، وَحْدَهُ فَ { ثَوَابُ
اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ ، وَعَمِلَ صَالِحًا ، وَلَا يُلَقَّاهَا
إلَّا الصَّابِرُونَ } ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ ، وَحَمْدَ
غَيْرِهِ هَلَكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْعَبْدِ
أَنْ يُخْلِصَ عَمَلَهُ كُلَّهُ لِلَّهِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَثِيرٌ
غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي إخْلَاصِ الْعَمَلِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ
الْعَمَلَ كُلَّهُ يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ
عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ اطَّلَعَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلِهِ
كَرِهَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ ، وَلَمْ يُسَرَّ بِذَلِكَ فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ
يَحْمَدَهُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ بِهِ
مَنْزِلَةً عِنْدَهُمْ فَهَذَا أَصْلُ إخْلَاصِ الْعَمَلِ ، وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
وَأَمَّا الرِّيَاءُ فَهُوَ أَنْ تُحِبَّ أَنْ
يَحْمَدَك النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِك أَوْ تَقُومَ لَك بِهِ
مَنْزِلَةٌ عِنْدَهُمْ ، وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ اقْتَصَرَ عَلَى
الْقَلِيلِ ، وَمَنْ لَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْكَثِيرِ .
،
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الْعَمَلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ :
صِنْفٌ أَهْمَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْبِرِّ فَعَمِلُوا
لِيُعْرَفُوا بِالْخَيْرِ فَهُمْ الْهَالِكُونَ ، وَصِنْفٌ أَهْلُ
رَهْبَةٍ مِنْ اللَّهِ ، وَرَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَهُ يُكَابِدُونَ
الْأَعْمَالَ بِالصِّدْقِ ، وَالْإِخْلَاصِ ، وَيَتَّقُونَ فَسَادَ
الْأَعْمَالِ ، وَلَا يُحِبُّونَ الْمَحْمَدَةَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ،
وَلَا الْمَنْزِلَةَ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ
الْعَمَلِ لِلنَّاسِ ، وَلَا يَتْرُكُونَ مِنْ أَجْلِهِمْ شَيْئًا ،
وَأَحْيَانَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْعَوَارِضُ ، وَأَحْيَانَا يَسْلَمُونَ
مِنْهَا ، وَصِنْفٌ قَوِيَ إخْلَاصُهُمْ ، وَاسْتَقَامَتْ سَرِيرَتُهُمْ ،
وَعَلَانِيَتُهُمْ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ ، وَتَرَكُوا الدُّنْيَا
بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا ، وَنَظَرُوا إلَيْهَا بِالْعَيْنِ الَّتِي
يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ بِهَا إلَيْهَا فَرَأَوْا عُيُوبَهَا
فَمَقَتُوهَا ، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي مَقْتِهِمْ لَهَا ، وَتَرَكُوهَا
زُهْدًا فِيهَا ، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي ذَلِكَ فَمَاتَ ذَلِكَ مِنْ
قُلُوبِهِمْ ، وَذَابَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ قَرَارٌ
لِقُوَّةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا اسْتَوْلَتْ
الْعَظَمَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِدُنْيَا ، وَلَا لِأَهْلِهَا
فِي قُلُوبِهِمْ مُسْتَقَرٌّ ، وَلَا قَرَارٌ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي
الْمَنِّ ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
، وَمِنْ الرِّيَاءِ أَنَّ
الْعَبْدَ يُرَائِي أَهْلَ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا فِي لِبَاسِهِ ،
وَمَرْكُوبِهِ ، وَمَسْكَنِهِ ، وَفُرُشِهِ ، وَطَعَامِهِ ، وَشَرَابِهِ ،
وَخَدَمِهِ حَتَّى الدُّهْنَ ، وَالْكُحْلَ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرِيدُ
بِهَا صِيَانَةَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ رِيَاءٌ ، وَلَيْسَ كَالرِّيَاءِ
بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ
الْمُرَائِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّارِ
لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ { ، وَلَكِنَّك فَعَلْت لِيُقَالَ : فُلَانٌ
كَذَا كَذَا فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ } .
وَهَذَا الَّذِي رَاءَى
بِالتَّكَاثُرِ ، وَالتَّفَاخُرِ ، وَطَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا
مُكَاثِرًا مُفَاخِرًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ أَهْوَنُ مِنْ الْبَابِ الْآخَرِ ، وَكِلَاهُمَا شَدِيدٌ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفَاخِرَ إنَّمَا يُرِيدُ إقَامَةَ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَلَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَاحْتَاجَ إلَيْهَا ؛ لِمَا مَعَهُ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ أَنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا خَائِفٌ وَجِلٌ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ نَازِلَةٌ تُغَيِّرُ فَيَتَغَيَّرُ مَنْ كَانَ لَهُ مُطِيعًا فَمَا أَشَدَّ مَضَرَّةَ هَذَا الْبَابِ .
، وَعَلَامَةُ الْمُرِيدِ
النَّظَرُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرِّزْقِ ، وَإِلَى مَنْ هُوَ
فَوْقَهُ فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ ، وَيَتَوَاضَعُ ، وَلَا يُنَافِسُ
أَهْلَ الْكِبْرِ ، وَالْفَخْرِ ، وَالرِّيَاءِ ، وَالتَّكَاثُرِ ، وَلَا
يَأْخُذُ مَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَتْرُكُ مَا تَرَكَ لِنَفْسِهِ ،
وَمَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا نِيَّتُهُ فِيهِ الْقُوَّةُ عَلَى دِينِهِ ،
وَإِقَامَةُ فَرَائِضِهِ ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَيَدَعُ
جَمِيعَ مَا كَانَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْعُجْبُ فَأَصْلُهُ
حَمْدُ النَّفْسِ ، وَنِسْيَانُ النِّعْمَةِ ، وَهُوَ نَظَرُ الْعَبْدِ
إلَى نَفْسِهِ ، وَأَفْعَالِهِ ، وَيَنْسَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ
مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُحْسِنُ حَالَ نَفْسِهِ
عِنْدَهُ ، وَيَقِلُّ شُكْرَهُ ، وَيَنْسِبُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا هُوَ
مِنْ غَيْرِهَا ، وَهِيَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنْ غَفَلَ
هَلَكَ ، وَاسْتُدْرِجَ ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِعِبَادَتِهِ مُزْرِيًا
عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ قَدْ عَمِيَ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ
فَيَكُونُ مُسْتَكْثِرًا لِعَمَلِهِ مَسْرُورًا بِهِ رَاضِيًا عَنْ
نَفْسِهِ فَرِحًا بِهَا يَسْعَى فِي هَوَاهَا غَضَبُهُ لَهَا ، وَرِضَاهُ
لَهَا ، وَلَا يَخْلُو الْمُعْجَبُ بِعَمَلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
مُرَائِيًا ؛ لِأَنَّهُمَا قَرِينَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ ، وَلَا يَكُونُ
الْمُعْجَبُ مَحْزُونًا ، وَلَا خَائِفًا أَبَدًا ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ
يَنْفِي الْخَوْفَ .
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ النَّاظِرَ إلَى
اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ قَدْ نَفَى الْعُجْبَ عَنْهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ
الْعَمَلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ قَائِمٌ
بِالشُّكْرِ لَهُ مُسْتَعِينٌ بِاَللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ عَلَى حَالٍ
مُتَّهِمٌ لِنَفْسِهِ قَدْ نَفَى الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَنْهَا فَلَيْسَ
لَهَا عِنْدَهُ فِيهَا حَظٌّ ، وَلَا نَصِيبٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ
صِنْفَانِ : صِنْفٌ عُلَمَاءُ أَقْوِيَاءُ فَهُمْ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى
اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَعْمَلُونَ فَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَ
لَهُمْ مِنْ قَلِيلِهِ ، وَكَثِيرِهِ ، وَصِنْفٌ نَظَرُوا إلَى السَّبَبِ
الَّذِي أَعْطَاهُمْ اللَّهُ فَاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ السَّبَبِ
، وَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ أُولَئِكَ لَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْعُجْبُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ ، وَهَؤُلَاءِ رُبَّمَا أُعْجِبُوا بِالسَّبَبِ ، وَرُبَّمَا انْتَفَى عَنْهُمْ فَهُمْ مُكَابِدُونَ لَهُ فَإِنْ قَامُوا بِشُكْرِ ذَلِكَ فَحَالَتُهُمْ حَسَنَةٌ ، وَهُمْ دُونَ أُولَئِكَ ، وَإِنْ رَكَنُوا إلَى مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُجْبِ فَقَدْ هَلَكُوا إلَّا أَنْ يُنَبِّهَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ فَيَتُوبَ عَلَيْهِ ، وَالْعُجْبُ كَثِيرٌ ، وَهُوَ آفَةُ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخِرِينَ ، وَهُوَ مِنْ الْكِبْرِ ، وَالْكِبْرُ آفَةُ إبْلِيسَ الَّتِي أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِهَا .
، وَأَمَّا الشُّهْرَةُ ، وَإِشَارَةُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ
فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّ إلَّا مَنْ أَرَادَهَا ، وَالْمَرْءُ مُلَبَّسٌ
زِيَّ عَمَلِهِ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ .
فَكَمْ
مِنْ مُسْتَتِرٍ بِعَمَلِهِ قَدْ شَهَرَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَكَمْ مِنْ
مُتَزَيِّنٍ بِعَمَلِهِ يُرِيدُ بِهِ الِاسْمَ ، وَاِتِّخَاذَ
الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ قَدْ شَانَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَإِنَّمَا
يُصْلِحُ ذَلِكَ ، وَيُفْسِدُهُ الضَّمِيرُ فَإِنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ
جَمَعَ الشُّهْرَةَ ، وَالرِّيَاءَ ، وَالْعُجْبَ جَمِيعًا ، وَإِنْ
أَرَادَ اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَكَانَ مُخْلِصًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ
عُرِفَ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ ، وَرُبَّمَا لَحِقَهُ حُبُّ مَعْرِفَتِهِمْ
إيَّاهُ بِالْعَمَلِ فَيَخْرُجُ بِهِ إلَى الْبَابِ الَّذِي يُحْبِطُ
الْأَعْمَالَ .
وَمِنْ ذَلِكَ حُبُّ مَعْرِفَتِهِمْ إيَّاهُ
بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَالْغَضَبِ
لِلَّهِ ، وَفِي اللَّهِ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ ، وَنَفَى مَا يُحِبُّهُ ،
وَكَانَتْ نَصِيحَتُهُ لِلَّهِ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَنَجَاةِ نَفْسِهِ
نَجَا ، وَإِنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِنْ اتِّخَاذِ الْمَنْزِلَةِ أَوْ
حُبِّ الثَّنَاءِ أَوْ طَلَبِ رِيَاسَةٍ أَوْ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ فَقَدْ
شَرِبَ السُّمَّ الَّذِي لَا يُبْقِي ، وَلَا يَذَرُ ، وَلَا عَاصِمَ مِنْ
ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ .
وَالرِّيَاءُ ، وَالْعُجْبُ ، وَالْكِبْرُ ،
وَالشُّهْرَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَتَوَسَّلْ يَا
أَخِي إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ قَلْبِك فَإِنْ سَلِمَ قَلْبُك ،
وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ إرَادَتِك أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةٌ خَلَّصَك
اللَّهُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْك ، وَاَللَّهُ يُقَسِّمُ
الثَّنَاءَ كَمَا يُقَسِّمُ الرِّزْقَ ، وَمَنْ خَافَ اللَّهَ خَوَّفَ
اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ أَخَافَهُ
اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ كُلُّ
شَيْءٍ ، وَاَللَّهُ مُسَبِّبُ الْعِبَادَةِ ، وَإِنَّمَا تَصْحِيحُ
الْعَمَلِ بِالْحَوَادِثِ عَلَى قَدْرِ صِحَّةِ الْقَلْبِ ، وَمَعَ
صِحَّةِ الْقَلْبِ دَلَالَةُ الْعَقْلِ ، وَسِيَاسَةُ الْعِلْمِ ،
وَسَابِقَةُ الْخَوْفِ فَإِذَا أَرَدْت عَمَلًا فَابْتَغِ
بِذَلِكَ
ثَوَابَ اللَّهِ ، وَأَكْثِرْ مَا تُؤَمِّلْ مِنْ اللَّهِ النَّجَاةَ مِنْ
النَّارِ ، وَالْوُصُولَ إلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ يُهَوِّنْ عَلَيْك
الْعَمَلَ ، وَيُخَلِّصْهُ اللَّهُ مِنْ الْآفَاتِ ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهِ
فَإِذَا عَمِلْت فَاشْكُرْ ، وَانْظُرْ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ بَدَنِك شَيْءٌ
فِي لَيْلِك ، وَنَهَارِك لِتَعْقِدَ النِّيَّةَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ،
وَانْظُرْ إذَا أَصْبَحْتَ كَيْفَ مَضَتْ عَلَيْك لَيْلَتُك بِتَعَبِهَا ،
وَنَصَبِهَا ، وَبَقِيَ لَك ثَوَابُهَا ، وَسُرُورُهَا يَكُنْ ذَلِكَ
قُوَّةً لَك عَلَى مَا تَسْتَقْبِلُ فَالْحَسَنَةُ لَهَا نُورٌ فِي
الْقَلْبِ ، وَسُرُورٌ يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ ذَلِكَ السُّرُورِ ،
وَضِيَاءَ ذَلِكَ النُّورِ ، وَلَمْ يَدَعْ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ
الْمُطِيعِينَ حَتَّى جَعَلَ لَهُمْ بِالطَّاعَةِ اللَّذَّةَ ،
وَالنَّشَاطَ ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ ، وَحَلَاوَةَ الْقُرْبِ إلَيْهِ ،
وَلَمْ يَدَعْهُمْ حَتَّى حَبَّبَهُمْ إلَى النَّاسِ ، وَحَتَّى نَظَرُوا
إلَيْهِمْ بِالْهَيْبَةِ لَهُمْ ، وَالْإِجْلَالِ مَعَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَاضُعِ ، وَالْخَوْفِ لِلَّهِ فَإِنْ لَمْ
يَعْرِفْهُمْ النَّاسُ ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِهِمْ
كَانُوا أَرْفَعَ خَلْقِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ
بِالطَّاعَةِ عَامِلًا كَانَ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ عِنْدَ النَّاسِ ،
وَأَغْنَاهُمْ بِاَللَّهِ ، وَمَنْ هَابَ اللَّهَ فِي السَّرِيرَةِ
هَابَهُ النَّاسُ فِي الْعَلَانِيَةِ ، وَبِقَدْرِ مَا يَسْتَحْيِ
الْعَبْدُ مِنْ اللَّهِ فِي الْخَلْوَةِ يَسْتَحِي النَّاسُ مِنْهُ فِي
الْعَلَانِيَةِ ، وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُ فِي
الْعَمَلِ بِالْحَسَنَاتِ سَتْرُهَا ، وَنِسْيَانُهَا فَإِنَّهُ
سَيَحْفَظُهَا لَهُ مَنْ لَا يَنْسَاهَا وَيُحْصِي لَهُ مَثَاقِيلَ
الذَّرِّ مِنْ عَمَلِهِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ الْحَسَنَاتُ فَلْيَعْرِفْ
نَفْسَهُ ، وَلَا يَغُرَّنَّهُ ثَنَاءُ مَنْ جَهِلَهُ فَفَكِّرْ أَيُّهَا
الْعَامِلُ فِي الْعَوَاقِبِ فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ يُحِبَّك النَّاسُ
أَوْ يَفْطِنُوا بِحَسَنَاتِك إذَا عَمِلْتهَا لِيُكْرِمُوك ، وَيُجِلُّوك
فَقَدْ تَعَرَّضْت لِمَقْتِ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ لَك .
وَيْحَك إنَّك إنْ أَسْقَطَكَ اللَّهُ سَقَطْت
فَلَا
تَغْتَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِنْ سَلِمَتْ لَك آخِرَتُك
سَلِمَتْ لَك دُنْيَاك ، وَإِنَّ خُسْرَانَ الْآخِرَةِ خُسْرَانُ
الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا ، وَمَنْ رَبِحَ الْآخِرَةَ
رَبِحَهُمَا جَمِيعًا .
وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ غَضِبْت عَلَى النَّاسِ
فِي شَيْءٍ هُوَ لِنَفْسِك فَأَبْدَيْته لَهُمْ أَوْ لَمْ تُبْدِهِ لَهُمْ
عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِك فَقَدْ تَعَرَّضْت لِغَضَبِهِ إذَا
أَظْهَرْت أَنَّك إنَّمَا غَضِبْت لِنَفْسِك .
، وَاعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِك خَافِيَةٌ ،
وَلَيْسَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَضَبِك عَلَيْهِمْ ، وَبَيْنَ سُرُورِكَ
بِهِمْ ، وَفَرَحِكَ بِثَنَائِهِمْ عَلَيْك بِحَسَنَاتِك ، وَأَنْتَ
تُرِيدُ ثَوَابَهَا مِنْ رَبِّك لَقَدْ اُبْتُلِيَتْ أَيُّهَا الْعَبْدُ
بِحَسَنَاتِك ، وَعَظُمَ فِيهَا بَلَاؤُك ، وَلَعَلَّهَا أَضَرُّ عَلَيْك
مِنْ بَعْضِ سَيِّئَاتِك فَإِنْ بَلَغَ بِك الْبَلَاءُ أَنْ تَفْرَحَ إذَا
مَدَحُوكَ بِغَيْرِ عَمَلِك أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك فَقَبِلَهُ
قَلْبُك أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَك ثُمَّ تَصِيرُ إلَى حَالِ حُبِّ مَجِيءِ
الْإِخْوَانِ إلَيْك فِي أَوْقَاتِ الْأَعْمَالِ فَتَفْرَحُ ، وَإِنْ
أَتَوْك فِي وَقْتِ فَرَاغِك غَمَّك ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ سَائِلُك عَنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَتُظْهِرُ مِنْك الْحُزْنَ ، وَتُوهِمُ النَّاسَ أَنَّ
ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ
مِنْك تَصَنُّعٌ تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدُوك عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتَ إذَنْ
قَدْ هَلَكْت مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَخَفْ اللَّهَ فِي سَرَّاءِ
نَفْسِك ، وَعَلَانِيَتِهَا ، وَاحْتَقِرْ حَسَنَاتِك جَهْدَك ،
وَاسْتَكْثِرْ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْت حَتَّى يَعْظُمَ قَدْرُكَ عِنْدَ
اللَّهِ ، وَتَعْظُمَ حَسَنَاتُك ، وَاسْتَكْبِرْ صَغِيرَ ذَنْبِك حَتَّى
يَصْغُرَ عِنْدَ اللَّهِ ، وَخَفْ مِنْ صَغِيرِ ذُنُوبِك أَنْ يُحْبِطَ
اللَّهُ بِهِ عَمَلَك كُلَّهُ ، وَارْجُ بِحَسَنَاتِك أَنْ يَمْحُو
اللَّهُ بِهَا عَنْك كُلَّ سَيِّئَةٍ عَمِلْتهَا فَارْجُ حَسَنَاتِك ،
وَخَفْ سَيِّئَاتِك { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ
ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }
، وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ
عَجْزَهُ ، وَضَعْفَهُ فَيَقْطَعُ سَبَبَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَرْجِعُ
إلَى الْعِزِّ ، وَالْمَنْعَةِ ، وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمَلِكِ الْقَادِرِ
عَلَى مَا يُرِيدُ بِالِاعْتِصَامِ ، وَالتَّوَكُّلِ ، وَالِاسْتِصْغَارِ
، وَالِانْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فَيَجِدُ عِنْدَ ذَلِكَ
الْعِزَّ ، وَالرَّوْحَ ، وَالْفَرَجَ وَالْمَنْعَةَ ، وَيُفَوِّضُ
أَمْرَهُ إلَى الْمَلِكِ الْجَبَّارِ فَمَا اخْتَارَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ
رَضِيَ بِهِ ، وَسَلَّمَ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ غَمٌّ أَوْ
رَوْعٌ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى مِنْ اللَّهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ
حِينَئِذٍ بِالِانْكِسَارِ ، وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ ؛ لِمَا فَرَّطَ
مِنْهُ ، وَيَطْلُبُ الرَّوْحَ ، وَالْفَرَجَ بِالتَّقْوَى ، وَهُوَ
اسْتِمَاعُ الْعَبْدِ إلَى قَوْلِ رَبِّهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَعَلَهُ ،
وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ حَتَّى تَكُونَ كُلُّهَا مَجْمُوعَةً لَهُ
فِي رَوْضَةٍ وَاحِدَةٍ .
فَانْظُرْ يَا أَخِي ، وَلَا تَدَعْ مَا
فِيهِ الْمَخْرَجُ إلَّا خَرَجْت مِنْهُ ، وَمَا كَانَ مِمَّا فَرَطَ
مِنْك مِمَّا لَا حِيلَةَ فِيهِ إلَّا النَّدَمُ ، وَالِاسْتِغْفَارُ
فَانْدَمْ عَلَيْهِ نَدَمًا صَحِيحًا بِالْقَلَقِ مِنْك ، وَالِاضْطِرَابِ
فِي حَضْرَةِ اللَّهِ ، وَالِاجْتِهَادِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَيَّامِ ،
وَهُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْك ، وَأَكْثِرْ مَعَ النَّدَمِ الصَّحِيحِ
ذِكْرَ مَا نَدِمْتَ عَلَيْهِ ، وَلَا تَفْتُرْ عَمَّا أَمْكَنَك مِنْ
الِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ عَلَيْك بَعْدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ الْعَائِقِ
الَّذِي يَشْتَغِلُ عَنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ حَتَّى تَكُونَ مُؤْثِرًا
لِلَّهِ عَلَى مَا سِوَاهُ ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ إلَى سَبِيلِ
النَّجَاةِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ
دَلَالَاتِ الْعُقُولِ ، وَالْعُلُومِ تَأْسِيسَ التَّقْوَى فَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ صَارَ الْعَبْدُ حَيَّ الْقَلْبِ قَابِلًا لِلْمَوْعِظَةِ
مُعَظِّمًا ؛ لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مُصَغِّرًا ؛ لِمَا صَغَّرَ اللَّهُ
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَحْيَا قَلْبَهُ بِالْعِلْمِ ،
وَالْعَمَلِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحْيَا قَلْبَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
أَلْفَ مَرَّةٍ ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْحَيَاةِ ،
وَالْحَيَاةِ
مَوْتَةٌ لَخِفْتُ عَلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ حَيَاتُهُ دَائِمَةً تَمُوتُ
بِهِ خَوَاطِرُ نَفْسٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارٌ ، وَالْخَاطِرُ إذَا صُرِمَ
أَصْلُهُ ، وَقُطِعَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ ، وَالْبُكَاءُ فَلَا
يَكُونُ مَسْرُورًا بِالْعَارِضِ ، وَلَا مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ عَنْ
الْمُنْعِمِ فَهَذَا سَبِيلُ النَّجَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعَبْدِ رَوْعٌ ، وَغَمٌّ
عِنْدَ الْخَاطِرِ فَهُوَ مَيِّتٌ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ
إلَى التَّقْوَى ، وَالْإِخْلَاصِ ، وَالصِّدْقِ ، وَالتَّخَلُّصِ مِمَّا
يَكْرَهُ الرَّبُّ ، وَالْحَيَاءُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعِلْمِ
الْمَفْهُومِ فَإِذَا عَلِمَ ، وَفَهِمَ الْعِلْمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ
بِهِ قَبِلَ الْمَوْعِظَةَ لِنُصْحِهِ بِتَعْظِيمِهِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ
، الْقَلْبُ الْحَيُّ تَكْفِيهِ غَمْزَةٌ فَيَنْتَبِهُ ، وَالْقَلْبُ
الْمَيِّتُ لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ لَمْ يَنْتَبِهْ ، وَلَمْ يَحْيَى
، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ ، وَجَلَّ يَقُولُ { أَوَمَنْ كَانَ
مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } ، وَذَلِكَ لِمَنْ قَبِلَ ، وَأَجَابَ
الدَّاعِيَ ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمَوْعِظَةَ ، وَلَمْ يُجِبْ
الدَّاعِيَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ عَزَّ ، وَجَلَّ { أَمْوَاتٌ غَيْرُ
أَحْيَاءٍ ، وَمَا يَشْعُرُونَ } ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَقَدْ
حَيِيَ بِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَيِّتٌ ، وَلَا يَنْفَعُهُ الْعِلْمُ إلَّا
بِالْقَبُولِ ، وَإِيثَارِ الرَّبِّ عَلَى هَوَاهُ فَمَنْ كَانَ مُقِرًّا
بِأَنَّهُ عَاصٍ ، وَلَيْسَ يَتَحَوَّلُ ، وَلَيْسَ مَعَهُ الرَّوْعُ ،
وَالْغَمُّ الشَّدِيدُ ، وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي لَيْسَ
يَرْضَاهَا ، وَلَا يُبَادِرُ بِالتَّوْبَةِ ، وَالتَّطْهِيرِ فَهُوَ
مَيِّتٌ ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَحْيَا بِالتَّوْبَةِ ، وَيَرْجِعُ إلَى الرَّغْبَةِ ،
وَالرَّهْبَةِ ، وَالطَّاعَةِ .
وَمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ وَفَّقَهُ ،
وَنَبَّهَهُ مِنْ الزَّلَّةِ ، وَأَيْقَظَهُ مِنْ الْغَفْلَةِ ،
وَإِنَّمَا هَذِهِ كُلُّهَا مَوَارِيثُ حُبِّ الدُّنْيَا ، وَاتِّبَاعُ
الْهَوَى ، وَطُولُ الْأَمَلِ .
وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ يَبْتَغِي
لِنَفْسِهِ
طَاعَةَ رَبِّهِ أَنْ يَرْجُوَ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ الْبِرِّ ،
وَيَتَّهِمَ مَا خَفَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الصِّدْقِ
يُثْقِلُ خَفِيفَ الْعَمَلِ ، وَالْكَذِبُ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ
يُخَفِّفُ ثَقِيلَ الْعَمَلِ ، وَقَلِيلُ الصِّدْقِ أَوْزَنُ ، وَأَرْجَحُ
مِنْ كَثِيرِ الْكَذِبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إرَادَتَك الْعَمَلَ عَمَلٌ
فَانْظُرْ فِي إرَادَتِك حَتَّى يَصِحَّ لَك عَمَلُك ، وَيَرَاك اللَّهُ
لِنِيَّتِك طَالِبًا ، وَلَهَا مُصَحِّحًا كَمَا يَرَاك فِي عَمَلِك
مُخْلِصًا فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ .
وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ
ظَفِرْت بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ مَعَ قَلِيلِ الْعَمَلِ رَبِحْت عَمَلَك ،
وَظَفِرْت بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَدُوَّك يَنْظُرُ
إلَى ابْتِدَاءِ نِيَّتِك ، وَابْتِدَاءِ عَمَلِك ، وَقَدْ يَخْفَى
عَلَيْك سَقَمُ نِيَّتِك كَمَا يَخْفَى عَلَيْك سَقَمُ غَيْرِك فَاحْذَرْ
أَنْ تَكُونَ نِيَّتُك سَقِيمَةً فَقُمْ عَلَى تَصْحِيحِهَا فَإِنَّ
الْعَمَلَ تَابِعٌ لِلنِّيَّةِ إنْ صَحَّتْ صَحَّ ، وَإِنْ فَسَدَتْ
فَسَدَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ إذَا رَأَى فِي نِيَّتِك سَقَمًا
رَغَّبَك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَلَمْ يُثْقِلْهُ عَلَيْك بَلْ
يُخَفِّفْهُ عَلَيْك مَخَافَةَ أَنْ يُقْنِطَك بِالسَّقَمِ ، وَوَدَّ
حِينَئِذٍ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحَبُّوك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ ،
وَمَدَحُوك إذَا ظَفِرَ مِنْك بِسَقَمِ النِّيَّةِ ، وَيَزِيدُك قُوَّةً ،
وَنَشَاطًا فِي عَمَلِك ، وَيُحَسِّنُهُ عِنْدَك ، وَفِي أَعْيُنِ
النَّاسِ ، وَيُحَبِّبُهُمْ إلَيْك فَكُلَّمَا أَثْنَوْا عَلَيْك
اسْتَحْلَيْت عَمَلَك ، وَخَفَّ عَلَيْك ، وَقَدْ سَتَرَ عَنْك دَاءَ
الْحَسَنَاتِ ، وَدَاءَ السَّيِّئَاتِ ، وَمِنْ دَاءِ الْحَسَنَاتِ
أَنَّهُ لَا يَمْنَعُك مِنْ تَرْكِهَا إلَّا مَخَافَةَ أَنْ تَسْقُطَ مِنْ
أَعْيُنِ النَّاسِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ رِبْحَهُ مِنْك إذَا سَقِمَتْ
نِيَّتُك أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِهِ مِنْك إذَا أَحْبَبْت الدُّنْيَا ،
وَاتَّسَعْتَ مِنْهَا ، وَمِنْ دَاءِ السَّيِّئَاتِ سَقَمُ نِيَّتِك ،
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَسَنَاتِ أَوَّلًا
بِسَقَمِ النِّيَّةِ ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَهَا آخِرًا بِتَعْظِيمِ
النَّاسِ لَك فَإِذَا
عَلِمَ أَنَّك لَا تُحِبُّ ذَلِكَ ، وَلَمْ
تُجِبْهُ إلَى مَعْصِيَةٍ خَلَّاك ، وَذَاكَ فَاحْذَرْ عَلَى عَمَلِك
كُلِّهِ مِنْ حِيلَةِ الْخَبِيثِ ، وَإِذَا رَأَيْت الْعَمَلَ قَدْ خَفَّ
فَكُنْ أَشَدَّ مَا تَكُونُ لَهُ حَذَرًا إذَا خَفَّ عَلَى نَفْسِك
الْعَمَلُ فَهُوَ أَفْسَدُ مَا يَكُونُ إذَا صَحَّ عِنْدَك .
وَاعْلَمْ
أَنَّ الشَّيْطَانَ أَعْرَفُ بِك ، وَبِمَا تَهْوَاهُ نَفْسُك مِنْك ،
وَلَا تَدَعْ الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِ آفَتِهِ ، وَلَكِنْ اعْمَلْ بِنِيَّةٍ
، وَصِحَّةٍ ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ ، وَكُنْ حَذِرًا طَالِبًا
لِلْخَلَاصِ كَارِهًا مُعَانِدًا لِفَسَادِ الْعَمَلِ لَا تُرِيدُ
الثَّوَابَ إلَّا مِنْ اللَّهِ ، وَحْدَهُ ، وَطَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ
، وَلَا تَعْمَلْ لِيُعْطِيَك فِي الدُّنْيَا ثَوَابًا فَإِنَّ الَّذِي
قَدَّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصِلَ إلَيْك مِنْ رِزْقٍ أَوْ
أَجْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَإِنَّهُ صَائِرٌ إلَيْك فَعَلَيْك بِالصِّدْقِ ،
وَاِتَّخِذْهُ ذُخْرًا لِيَوْمٍ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ .
وَانْظُرْ
إذَا صَحَّ عَمَلُك عِنْدَك فَكُنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِهِ ،
وَلَا تَأْمَنْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ فَتُفْسِدُهُ فَإِنَّ آفَةَ
الْعَمَلِ الْأَمْنُ عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْنَ عَلَى
الْحَسَنَاتِ أَضَرُّ عَلَيْهَا مِنْ السَّيِّئَاتِ ، وَالْأَمْنَ عَلَى
السَّيِّئَاتِ أَضَرُّ عَلَيْك مِنْ السَّيِّئَاتِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
أَمْنَك عَلَى الْحَسَنَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ ،
وَقُنُوطَك بَعْدَ السَّيِّئَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ
، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ كَبِيرَةٍ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ سَيِّئَةٍ
بَعْدَ سَيِّئَةٍ ، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ أَرَدْتَهَا ثُمَّ
تَرَكْتهَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ كَبِيرَةٍ عَمِلْتهَا ثُمَّ اسْتَغْفَرْت
مِنْهَا لِعِظَمِهَا عِنْدَك فَافْهَمْ مَا أُلْقِيَ إلَيْك مِنْ هَذَا
الْبَابِ ، وَاحْذَرْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ الْخَبِيثَ يُجْرِي
عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ مَدْحَ الصَّادِقِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ
صِدْقَهُ ، وَيَزِيدُ الْكَاذِبَ فِي عَمَلِهِ قُوَّةً حَتَّى يُسَوِّي
بَيْنَ الصَّادِقِ ، وَالْكَاذِبِ فَاحْذَرْ تَجْدِيدَ الْقُوَّةِ فِي
الْعَمَلِ عِنْدَ تَجْدِيدِ الْمَدْحِ