كتاب : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر
المؤلف : أبي الفتح ضياء الدين نصرالله بن محمد بن عبدالكريم الموصلي

لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض ) تقديره ذلك إذا لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق
وكذلك ورد قوله تعالى ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) تقديره إذا لو فعلت ذلك لارتاب المبطلونِ وهذا من أحسن المحذوفات
ومما جاء من ذلك شعراً قول بعضهم في صدر الحماسة
( لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي ... بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بِنْ شَيْبَانَا )
( إِذَاً لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إِنْ ذُو لُوثَةٍ لانَا )
فلو في البيت الثاني محذوفة لأنها في البيت الأول قد استوفت جوابها بقوله ( لم تستبح إبلي ) ثم حذفها في الثاني وتقدير حذفها إذا لو كنت معهم لقام بنصري معشر خشن وإذا لو كانوا قومي لقام بنصري معشر حسن
وأما حذف جواب ( لو ) فإنه كثير شائع وذلك كقولك لو زرتنا لما ألممت بنا معناه لأحسنا إليك أو لأكرمناك أو ما جرى هذا المجرى
مما ورد منه في القرآن الكريم قوله تعالى ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ) فإن جواب ( لو ) ههنا محذوفِ تقديره لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة أو غير ذلك مما جرى مجراه
ومما جاء على نحو من هذا قوله عز و جل ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ) تقديره لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام ولا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون ناصراً ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم

حذف

ومما يجري على هذا النهج قوله تعالى ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) فجواب لو في هذا الموضع محذوف كما حذف في قوله تعالى ( ولو أن قرآناً سيرت به الجبال ) أي لو أن لي بكم قوة لدفعتكم أو منعتكم أو ما أشبهه وكذلك قوله ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) لكان هذا القرآن
وهذا الضرب من المحذوفات أظهر الضروب المذكورة وأوضحها لعلم المخاطب به لأن قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) يتسارع الفهم [ فيه ] إلى أن الكلام يحتاج إلى جواب
ومما جاء منه شعراً قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمورية
( لَوْ يَعْلَمُ الكُفْرُ كَمْ مِنْ أَعْصُرٍ كَمَنَتْ ... لَهُ الْعَوَاقِبُ بَيْنَ السُّمرِ والْقُضُبِ )
فإن هذا محذوف الجواب تقديره لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبة الحذار أو غير ذلك
واعلم أن حذف هذا الجواب لا يسوغ في أي موضع كان من الكلامِ وإنما يحذف ما دل عليه مكان المحذوف ألا ترى أنه قد ورد في القرآن الكريم غير محذوف كقوله تعالى ( ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) وهذا ليس كالذي تقدم من الآيات لأن تلك علم مكان المحذوف منها وهذه الآية لو حذف الجواب فيها لم يعلم مكانه لأنه يحتمل وجوهاً منها أن يقال لما آمنوا أو لطلبوا ما وراء ذلك وقد تقدم القول في أول باب الإيجاز أنه لا بد من دلالة الكلام على المحذوف
الضرب التاسع وهو حذف جواب ( لولا )

فمن ذلك قوله تعالى ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) فجواب ( لولا ) ههنا محذوف تقديره لما أنزل عليكم هذا الحكم بطريق التلاعن وستر عليكم هذه الفاحشة بسببه
وكذلك ورد قوله تعالى ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ) تقديره ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعجل لكم العذاب أو فعل بكم كذا وكذا
الضرب العاشر وهو حذف جواب ( لما ) وجواب ( أما )
فأما حذف جواب ( لما ) فكقوله تعالى ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ) فإن جواب ( لما ) ههنا محذوف وتقديره فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله وما أشبه ذلك مما اكتسباه بهذه المحنة من عظائم الوصف دنيا وآخرة وقوله إنا كذلك نجزي المحسنين تعليل لتخويل ما خولهما من الفرح والسرور بعد تلك الشدة العظيمة
وأما حذف جواب ( أما ) فنحو قوله تعالى ( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم )
الضرب الحادي عشر وهو حذف جواب ( إذا )
فمما جاء منه قوله تعالى ( وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) ألا ترى كيف حذف الجواب عن ( إذا ) في هذا الكلام وهو مدلول عليه بقوله ( إلا كانوا

عنها معرضين ) كأنه قال وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا ثم قال ودأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة
الضرب الثاني عشر حذف المبتدأ والخبر
أما حذف المبتدأ فلا يكون إلا مفرداً والأحسن هو حذف الخبر لأن منه ما يأتي جملة كقوله تعالى ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) وههنا قد حذف خبر المبتدأ وهو جملة من مبتدأ وخبر وتقديرها واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر
ومما ورد منه شعراً قول أبي عبادة البحتري
( كُلُّ عُذْرٍ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَلكنْ ... أَعْوَزَ الْعُذْرُ مِنْ بَيَاضِ الْعِذارِ )
هذا وقد حذف منه خبر المبتدأ إلا أنه مفرد غير جملة وتقديره كل عذر من كل ذنب مقبول أو مسموع أو ما جرى هذا المجرى
الضرب الثالث عشر وهو حذف ( لا ) من الكلام وهي مرادة
وذلك كقوله تعالى ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف ) يريد به لا تفتؤ فحذفت ( لا ) من الكلام وهي مرادة
وعلى هذا جاء قول امريء القيس

( فَقُلْتُ يَمِينُ الله أَبْرَحُ قَاعِداً ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكَ وَأَوْصَالِي )
أي لا أبرح قاعداً فحذفت ( لا ) في هذا الموضع وهي مرادة
ومما جاء منه قول أبي محجن الثقفي لما نهاه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن شرب الخمرِ وهو إذ ذاك في قتال الفرس بالقادسية
( رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا ... مَنَاقِبُ تُهْلِكُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا )
( فَلا وَاللهِ أَشْرَبهُا حَيَاتِي ... وَلا أَسْقِي بِهَا أَبَداً نَدِيمَا )
يريد ( لا أشربها ) فحذف ( لا ) من الكلام وهي مفهومة منه
الضرب الرابع عشر وهو حذف الواو من الكلام وإثباتها
وأحسن حذوفها في المعطوف والمعطوف عليه وإذا لم يذكر الحرف المعطوف به كان ذلك بلاغة وإيجازاً كقول أنس بن مالك رضي الله عنه كان أصحاب رسول الله ينامون يصلون ولا يتوضئون أو قال ثم يصلون لا يتوضئونِ فقوله ( لا يتوضئون ) بحذف الواو أبلغ في تحقيق عدم الوضوء من قوله ( ولا يتوضئون ) بإثباتها كأنه جعل ذلك حالة لهم لازمة أي أنها داخلة في الجملة وليست جملة خارجة عن الأولى لأن واو العطف تؤذن بانفراد المعطوف عن المعطوف عليه وإذا حذفت في مثل هذا الموضع صار المعطوف والمعطوف عليه جملة واحدة
وقد جاء مثل ذلك في القرآن الكريم وذلك أنه يذكر جمل من القول كل واحدة منها مستقلة بنفسها ثم تسرد سرداً بغير عاطف كقوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) تقدير هذا الكلام لا يألونكم وودوا ما عنتم

وقد بدت البغضاء من أفواههم فلما حذفت الواو جاء الكلام أوجز وأحسن طلاوة وأبلغ تأليفاً ونظماً وأمثاله في القرآن الكريم كثير
واعلم أنه قد حذفت الواو وأثبتت في مواضع فأما إثباتها فنحو قوله تعالى ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) وأما حذفها فنحو قوله تعالى ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون )
وعلى هذا فلا يجوز حذف الواو وإثباتها في كل موضع وإنما يجوز ذلك فيما هذا سبيله من هاتين الآيتين
ولنبين لك في ذلك رسماً تتبعه فنقول اعلم أن كل اسم نكرة جاء خبره بعد ( إلا ) يجوز إثبات الواو في خبره وحذفها كقولك ما رأيت رجلاً إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت إلا عليه ثياب بغير واو فإن كان الذي يقع على النكرة ناقصاً فلا يكون إلا بحذف الواو نحو قولك ما أظن درهماً إلا هو كافيك ولا يجوز إلا وهو كافيك بالواو لأن الظن يحتاج إلى شيئين فلا يعترض فيه بالواو لأنه يصير كالمكتفي من الأفعال باسم واحد وكذلك جواب ظننت وكان وإن وأشباهها فخطأ أن تقول إن رجلاً وهو قائم ونحو ذلك ويجوز هذا في ( ليس ) خاصة تقول ليس أحد إلا وهو قائم لأن الكلام يتوهم تمامه بليس وبحرف ونكرة ألا ترى أنك تقول ليس أحد وما من أحد فجاز فيها إثبات الواو ولم يجوز في أظن لأنك لا تقول ما أظن أحداً فأما أصبح وأمسى ورأى فإن الواو فيهن أسهل لأنهن توأم في حال وكان وأظن ونحوهما بنين على النقص إلا إذا كانت تامة وكذلك ( لا ) في التنزيه وغيرهما نحو لا رجلِ وما من رجل فيجوز إثبات الواو فيها وحذفها

واعلم أن العرب قد حذفت من أصل الألفاظ شيئا لا يجوز القياس عليه كقول بعضهم
( كَأَنَّ إبْرِيقَهُم ظَبْيٌ عَلَى شَرَفٍ ... مُفَدَّمٌ بِسَبَا الْكِتَّانِ مَلْثُومُ )
فقوله بسبا الكتان يريد بسبائب الكتان وكذلك قول الآخر
( يُذْرِينَ جَنْدَلَ حَائِرٍ لِجُنُوبِهَا ... فَكَأَنَّمَا تُذْكِي سَنَابِكُهَا الْحُبا )
فهذه وأمثاله مما يقبح ولا يحسن وإن كانت العرب قد استعملته فإنه لا يجوز لنا أن نستعمله

وأما القسم الثاني من الإيجاز فهو ما لا يحذف منه شيء وذلك ضربان أحدهما مأساوي لفظه ومعناه ويسمى التقدير والآخر ما زاد معناه عن لفظه ويسمى الإيجاز بالقصر
فأما الإيجاز بالتقدير فإنه الذي يمكن التعبير عن معناه بمثل ألفاظه وفي عدتها
أما الإيجاز بالقصر فإنه ينقسم قسمين أحدهما ما دل لفظه على محتملات متعددة وهذا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها والآخر ما يدل لفظه على محتملات متعددة ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها لا بل يستحيل ذلك
ولنورد الآن الضرب الأول الذي هو الإيجاز بالتقدير فمما جاء منه قوله تعالى ( قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسرهثم أماته فأقبرهثم إذا شاء أنشرهكلا لما يقض ما أمره ) فقوله ( قتل الإنسان ) دعاء عليه وقوله ( ما أكفره ) تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله عليه ولا نرى أسلوبا أغلظ من هذا الدعاء والتعجب ولا أخشن مسا ولا أدل على سخط مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه ثم إنه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى زمانه فقال ( من أي شيء خلقه ) ثم بين الشيء الذي خلق منه بقوله ( من نطفة خلقه فقدره ) أي هيأه لما يصلح له ( ثم السبيل يسره ) أي سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر والأول أولى لأنه تال لخلقته وتقديره ثم بعد ذلك يكون تيسير سبيله لما يختاره من طريقي الخير والشر ( ثم أماته فأقبره ) أي جعله ذا قبر يوارى فيه ( ثم إذا شاء أنشره ) أي أحياه ( كلا ) ردع للإنسان عما هو عليه ( لما يقضي ما أمره ) أي لم يقض مع تطاول زمانه ما أمره الله به يعني أن إنسانا لم يخل من تقصير قط ألا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف منه كلمة واحدة لما قدرت على ذلك لأنك كنت تذهب بجزء من معناه والإيجاز هو ألا يمكنك أن تسقط شيئا من ألفاظه

والآيات الواردة من هذا الضرب كثيرة كقوله تعالى ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) فقوله ( فله ما سلف ) من جوامع الكلم ومعناه أن خطاياه الماضية قد غفرت له وتاب الله عليه فيها إلا أن قوله ( فله ما سلف ) أبلغ أي أن السالف من ذنوبه لا يكون عليه إنما هو له وكذلك ورد قوله تعالى ( من كفر فعليه كفره ) فعليه كفره كلمة جامعة تغني عن ذكر ضروب من العذاب لأن من أحاط به كفره فقد أحاطت به كل خطيئة
وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) فهذه الآية من جوامع الآيات الواردة في القرآن الكريم وروي أن النبي قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له يا ابن أخي أعد فأعاد النبي قراءتها عليه فقال له إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسلفه لمغدق وما هو بقول البشر
ومن هذا النحو قوله تعالى ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن والشمال قعيدما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) وهذه الآيات من قوارع القرآن العجيبة التي دلت على تخويف وإرهاب ترق القلوب وتقشعر منه الجلود وهي مشتملة مع قصرها على حال الإنسان منذ خلقه إلى حين حشره وحشر غيره من الناس وتصوير ذلك الأمر الفظيع في أسهل لفظ وأقربه وما مررت عليها ألا جدت لي موعظة وأحدثت عندي إيقاظا
ومن هذا الضرب ما ورد عن النبي في دعائه لأبي سلمة عند موته فقال ( اللهم ارفع درجته في المهتدين واخلفه في عقبه في الغابرين لنا وله يا رب العالمين ) وهذا دعاء جامع بين الإيجاز وبين مناسبة الحال التي وقع فيها فأوله مفتتح بالمهم الذي يفتقر إليه المدعو له في تلك الحال وهو رفع درجته في

الآخرة وثانيه مردف بالمهم الذي يؤثر المدعو له من صلاح حال عقبه من بعده في الدنيا وثالثه مختتم بالجمع بين الداعي والمدعو له وهذا من الإيجاز البليغ الذي هو طباق ما قصد له وكلام النبي هكذا كما قال ( أوتيت جوامع الكلم )
وكذلك ورد قوله يوم بدر فإنه قال ( هذا يوم له ما بعده ) وهو شبيه بقوله تعالى ( فله ما سلف )
ولما جرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجراحة التي مات بها اجتمع إليه الناس فجاءه شاب من الأنصارِوقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله وقدم في الإعلام ما علمت ووليت فعدلت ثم شهادة
وهذا كلام سديد قد حوى المعنى المقصود وأتى به في أوجز لفظ وأحسنه ومع ما فيه من الإيجاز فإنه مستغرب وسبب استغرابه أنه جعل المساءة بشرى وأخرجها مخرج المسرة وتلطف في ذلك فأبلغ ولو أراد الكاتب البليغ والخطيب المصقع أن يأتي بذلك على هذا الوجه لأعوزه
ومن هذا النمط ما كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون عند لقائه عيسى بن ما هان وهزمه إياه وقتله فكتب إليه كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يديه وخاتمه في يده وعسكره مصرف تحت أمري والسلام
وهذا من الكتب المختصرة التي حوت الغرض المطول وما يكتب في هذا المقام مثله
ولما أرسل المهلب بن أبي صفرة أبا الحسن المدائني إلى الحجاج بن يوسف يخبره أخبار الأزارقة كلمه كلاما موجزا كالذي نحن بصدد ذكره ههنا وذاك أن الحجاج سأله فقال كيف تركت المهلب فقال أدرك ما أمل وأمن مما خاف فقال كيف هو لجنده قال والد رءوف فقال كيف جنده له قال أولاد بررة قال كيف رضاهم عنه قال وسعهم بفضله وأغناهم بعدله قال كيف تصنعون إذا لقيتم العدو قال نلقاهم بجدنا ويلقوننا بجدهم قال كذلك الجد إذا لقي الجد قال فأخبرني عن بني المهلب قال هم أحلاس القتال بالليل حماة

السرج بالنهار قال أيهم أفضل قال هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها فقال الحجاج لجلسائه هذا والله هو الكلام الفصل الذي ليس بمصنوع وقد ورد في الأخبار النبوية من هذا الضرب شيء كثير وسأورد منه أمثلة يسيرة
فمن ذلك قول النبي الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات وهذا الحديث من أجمع الأحاديث للمعاني الكثيرة وذاك أنه يشتمل على جل الأحكام الشرعية فإن الحلال والحرام إما أن يكون الحكم فيهما بينا لا خلاف فيه بين العلماء وإما أن يكون خافيا يتجاذبه وجوه التأويلات فكل منهم يذهب فيه مذهبا
وكذلك جاء قوله الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى فإن هذا الحديث أيضا من جوامع الأحاديث للأحكام الشرعية
ومن ذلك قوله المضعف أمير الركب وقد ورد آخر هذا الحديث بلفظ آخر فقال سيروا بسير أضعفكم إلا أن الأول أحسن لأنه أبلغ معنى فإن الأمير واجب الحكم فهو يتبع وإذا كان المضعف أمير الركب كانوا مؤتمرين له في سيرهم ونزولهم وهذا المعنى لا يوجد في قوله سيروا بسير أضعفكم
وأحسن من هذا كله ما ورد عنهفي حديث مطول يتضمن سؤال جبريل عليه السلام فقال من جملته الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فقوله تعبد الله كأنك تراه من جوامع الكلم لأنه ينوب مناب كلام كثيرِكأنه قال تعبد الله مخلصا في نيتك واقفا عند أدب الطاعة من الخضوع والخشوع آخذا أهبة الحذر وأشباه ذلك لأن العبد إذا خدم مولاه ناظرا إليه استقصى في آداب الخدمة بكل ما يجد إليه السبيل وما ينتهي إليه الطوق
ومما أطربني من ذلك حديث الحديبية وهو أنه جاء بديل بن ورقاء إلى النبيفقال له إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي معهم العوذ المطافيل وهو مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال له النبي إن قريشا قد نهكتهم

الحرب فإن شاءوا ماددناهم مدة ويدعوا بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس وإلا كانوا قد جموا وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي هذه ولينفذن الله أمره وهذا الحديث من جوامع الكلم وهو من الفصاحة والبلاغة على غاية لا ينتهي إليها وصف الواصف
وأما ما ورد من ذلك شعرا فقول النابغة
( وَإِنَّكَ كَالَّليْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ ) وتخصيصه الليل دون النهار مما يسأل عنه
وكذلك قوله
( وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخَاً لا تَلُمُّهُ ... عَلَى شَعَثٍ أيُّ الرِّجَالِ المُهَذَّبُ ) وعلى هذا الأسلوب ورد قول الأعشى في اعتذاره إلى أوس بن لام عن هجائه إياه
( وَإنِّي عَلَى مَا كَانَ مِنِّي لَنَادِمٌ ... وَإِنِّي إِلى أَوْسِ بْنِ لاَمٍ لَتَائِبُ )
( وإِنِّي إِلى أَوْسٍ لِيَقْبَلَ عِذْرَتِي ... وَيَصْفَحَ عَنِّي مَا حَيِيتُ لَراغِبُ )
( فَهَبْ لِي حَيَاتِي فَالْحَيَاةُ لِقَائِمٍ ... بِشُكْرِكَ فِيهَا خَيْرُ مَا أَنْتَ وَاهِبُ )
( سَأَمْحُو بِمَدْحٍ فِيكَ إِذْ أَنَا صَادِقٌ ... كِتَابَ هِجَاءٍ سَارَ إِذْ أَنَا كَاذِبُ ) وهذا من المعاني الشريفة في الألفاظ الخفيفة وهو من طنانات الأعشى المشهورة

وعلى نحو منه جاء قول الفرزدق
( صَبَحْنَاهُمُ الشُّعْثَ الْجِيَادَ كَأَنَّهَا ... قَطاً هَيَّجَتْهُ يَوْمَ رِيحٍ أَجَادِلُهْ )
( إِلَى كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَطَبْنَا بَنَاتِهِمْ ... بِأَرْعَنَ جَرَّارٍ كَثِيرٍ صَوَاهِلُهْ )
( إِذَا مَا الْتَقَيْنَا أنْكَحَتْنَا رِمَاحُنَا ... مِنَ الْقَوْمِ أَبْكَاراً كِرَاماً عَقَائِلُهْ )
( وإِنَّا لَمَنَّاعُونَ تَحْتَ لِواَئِنَا ... حِمَانَا إذَا مَا عَادَ بِالسَّيْفِ حَامِلهْ )
وهذا من محاسن ما يجيء في هذا الباب
ومما يجري هذا المجرى قول جرير
( تَمَنَّى رِجَالٌ مِنْ تَمِيمٍ مَنِيَّتي ... وَمَا ذَاد عَنْ أحْسَابِهِمْ ذَائِدٌ مِثْلِي )
( فَلَوْ شَاءَ قَوْمِي كَانَ حِلْمِي فِيهِمْ ... وَكَانَ عَلَى جُهَّالِ أَعْدَائِهِمْ جَهْلِي )

وكذلك ورد قوله متغزلا وهو من محاسن أقواله
( سَرَتِ الْهُمُومُ فَبِتْنَ غَيْرَ نِياَمِ ... وَأَخُو الْهُمُومِ يَرُومُ كُلِّ مَرَاَمِ )
( ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ الِّلوَى ... وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولئِكَ الأَقْوامِ )
( وَلَقَدْ أرَاكِ وَأَنْتِ جَامِعَةُ الْهَوَى ... أثْنِي بِعَهْدِكِ خَيْرَ دَارِ مُقَامِ )
( طَرَقَتْكَ صائِدَةُ الْقُلُوبِ فَلَيْسَ ذَا ... حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلاَمِ )
( تُجْرِي السِّوَاكَ عَلَى أَغَرَّ كَأَنَّهُ ... بَرَدٌ تَحَدَّرَ مِنْ مُتُونِ غَمَامِ )
( لَوْ كَانَ عَهْدُكِ كَالَّذِي حَدَّثْتِنَا ... لَوَصَلْتِ ذَاكِ فَكَانَ خَيْرَ ذِمَامِ )
( وَلَقَدْ أرَانِي وَالْجَدِيدُ إلَى بِلًى ... فِي مَوْكِبٍ طُرُفِ الْحَدِيثِ كِرَامِ )
( لَوْلاَ مُرَاقَبَةُ الْعُيُونِ أرَيْتِنَا ... حَدَقَ الْمَهَا وَسَوَالِفَ الآرَامِ )
( وَإِذَا صَرَفْنَ عُيُونَهُنَّ بِنَظْرَةٍ ... نَفَذَتْ نَوَافِذُهَا بِغَيْرِ سِهَامِ )
( هَلْ تَنْفَعَنَّكَ إِنْ قَتَلْنَ مُرَقَّشاً ... أَوْ مَا فَعَلْنَ بِعُرْوَةَ بْنِ حِزَامِ )
وحلاوة هذا الكلام أحسن من إيجازه ولقد أعوز غيره أن يأتي بمثله حتى أقر بإعوازه

ومن باب الإيجاز الذي يسمى التقدير قول علي بن جبلة
( وَمَا لاِمْرِيءٍ حَاوَلَتْهُ عَنْكَ مَهْرَبٌ ... وَلَوْ حَمَلَتْهُ فِي السَّمَاءِ الْمَطاَلِعُ )
( بَلَى هَارِبٌ مَا يَهْتَدِي لِمَكَانِهِ ... ظَلاَمٌ وَلاَ ضَوْءٌ مِنَ الصُّبْحِ سَاطِعُ )
فهذا هو الكلام الذي ألفاظه وفاق معانيه فإنه قد اشتمل على مدح رجل بشمول ملكه وعموم سلطانه وأنه لا مهرب عنه لمن يحاوله وإن صعد السماء ثم ذكر جميع المهارب في المشارق والمغارب وأشار إلى أنه يبلغ الظلام والضياء وذلك مما لم تزد عبارته على المعنى المندرج تحته ولا قصرت عنه
ومن هذا الضرب قول أبي نواس وهو من نادر ما يأتي في هذا الموضع
( وَدَارِ نَدَامى عَطَّلُوهَا وَأدْلَجُوا ... بِهَا أَثَرٌ مِنْهُمْ جَدِيدٌ وَدَارِسُ )
( مَسَاحِبُ مِنْ جَرِّ الزِّقَاقِ عَلَى الْثَرَى ... وَأضْغَاثُ رَيْحَانٍ جَنِيٌّ وَيَابِسُ )
( حَبَسْتُ بِهَا صَحْبِي فَجَدَّدْتُ عَهْدَهُمْ ... وَإِنِّي عَلَى أَمْثَالِ تِلْكَ لَحَابِسُ )
( تُدَارُ عَليْنَا الرَّاحُ فِي عَسْجَدِيَّهٍ ... حَبَتْهَا بِأنْواعِ التَّصَاوِيرِ فَارِسُ )
( قَرَارَتُهَا كِسْرَى وَفِي جَنَبَاتِهَا ... مَهاً تَدَّرِيهَا بِالْقِسِيِّ الْفَوَارِسُ )
( فَلِلرَّاحِ مَا زُرَّتْ عَلَيْهِ جُيُوبُهَا ... وَلِلْمَاءِ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْقَلاَنِسُ )
ومما انتهى إلي من أخبار ابن المزرع قال سمعت الجاحظ يقول لا أعرف شعرا يفضل هذه الأبيات التي لأبي نواس ولقد أنشدتها أبا شعيب القلاق فقال والله يا أبا عثمان إن هذا لهو الشعر ولو نقر لطن فقلت له ويحك ما تفارق عمل

الجرار والخزفِ ولعمري إن الجاحظ عرف فوصف وخبر فشكر والذي ذكره هو الحق
وعلى هذا الأسلوب جاء قول أبي تمام
( إِنَّ الْقَوَافِيَ وَالْمَسَاعِيَ لَمْ تَزَلْ ... مِثْلَ النِّظَامِ إِذَا أَصَابَ فَرِيدَا )
( هِيَ جَوْهَرٌ نَثْرٌ فَإِنْ أَلَّفْتَهُ ... بِالشِّعْرِ صَارَ قَلاَئِداً وَعُقُودَا )
( فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ وَكُلِّ مُقَامَةٍ ... يَأْخُذْنَ مِنْهُ ذِمَّةً وَعُهُودا )
( فَإذَا الْقَصَائِدُ لَمْ تَكُنْ خُفَراءهَا ... لَمْ تَرْضَ مِنْهَا مَشْهَداً مَشْهُودَا )
( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَانَتِ الْعَرَبُ الأُلَى ... يَدْعونَ هَذا سودَداً مَحْدُودَا )
( وَتَندُّ عِنْدَهُمُ الْعُلا إلاَّ عُلاً ... جُعِلَتْ لَهَا مِرَرُ الْقَريِضِ قُيُودَا )
وأما الضرب الثاني وهو الإيجاز بالقصر فإن القرآن الكريم ملآن منه وقد تقدم القول أنه قسمان أحدهما ما يدل على محتملات متعددة
فمن ذلك قوله تعالى ( لقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى ) فقوله ( فغشيهم من اليم ما غشيهم ) من جوامع الكلم التي يستدل على قلتها بالمعاني الكثيرة أي غشيهم من الأمور الهائلة والخطوب الفادحة مالا يعلم كنهه إلا الله ولا يحيط به غيره
ومن هذا الضرب قوله تعالى ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) فجمع في الآية جميع مكارم الأخلاق لأن في الأمر بالمعروف صلة الرحم ومنع اللسان عن الغيبة وعن الكذب وغض

الطرف عن المحرمات وغير ذلك وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وغيرهما
وقال بعض الأعراب في دعائه اللهم هب لي حقك وأرض عني خلقك فقال النبي هذا هو البلاغة
ومن ذلك قوله عز و جل ( أولئك لهم الأمن ) فإنه دخل تحت الأمن جميع المحبوبات وذلك أنه نفى به أن يخافوا شيئا من الفقر والموت وزوال النعمة ونزول النقمة وغير ذلك من أصناف المكاره
وأشباه هذا في القرآن الكريم كثيرة فهو يكثر في بعض الصور ويقل في بعض قال النبي ( من شاء يرتع في الرياض الأنائق فعليه بآل حم )
ومن ذلك قول النبي ( الخراج بالضمان ) وذاك أن رجلا اشترى عبدا فأقام عنده مدة ثم وجد به عيبا فخاصم البائع إلى النبي ِفرده عليه فقال يا رسول الله إنه استغل غلامي فقال الخراج بالضمان ومعنى قوله الخراج بالضمان أن الرجل إذا اشترى عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا دلسه عليه البائع فله أن يرده ويسترجع الثمن جميعه ولو مات العبد أو أبق أو سرقه سارق كان في مال المشتري وضمانه عليه وإذا كان ضمانه عليه فخراجه له أي له ما تحصل منه أجرة عمله
وأما ما ورد شعرا فقول السموءل بن عاديا الغساني من جملة أبياته اللامية المشهورة وذلك قوله منها
( وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى الْنَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلى حُسْن الثَّنَاءِ سَبِيلُ )
فإن هذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق جميعها من سماحة وشجاعة وعفة وتواضع وحلمِ وصبر وغير ذلك فإن هذه الأخلاق كلها من ضيم النفس لأنها تجد بحملها ضيما أي مشقة وعناء

وقد تقدم القول أن الإيجاز بالقصر يكون فيما تضمن لفظه محتملات كثيرة وهذا البيت من ذلك القبيل ولا أعلم أن شاعرا قديما ولا حديثا أتى بمثله وقد أخذه أبو تمام فأحسن في أخذه وهو
( وَظَلَمْتَ نَفْسَكَ طَالِباً إِنْصَافَهَا ... فَعَجِبْتُ مِنْ مَظْلُومَةٍ لَمْ تُظْلَمِ )
ففاز في بيته هذا بالمقابلة بين الضدين في الظلم والإنصافِ ثم قال فعجبت من مظلومة لم تظلم وهذا أحسن من الأولِ ومعنى قوله ظلمت نفسك طالبا إنصافها أي أنك أكرهتها على مشاق الأمور وإذا فعلت ذلك ظلمتها ثم إنك مع ظلمك إياها قد أنصفتها لأنك جلبت إليها أشياء حسنة تكسبها ذكرا جميلا ومجدا مؤثلا فأنت منصف لها في صورة ظالم وكذلك قوله فعجبت من مظلومة لم تظلم أي أنك ظلمتها وما ظلمتها لأن ظلمك إياها أدى إلى ما هو جميل حسن
وهذا القدر في الأمثلة كاف في هذا الباب
القسم الآخر من الضرب الثاني في الإيجاز بالقصر وهو الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها وهو أعلى طبقات الإيجاز مكانا وأعوزها إمكانا وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا
فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) فإنه قوله تعالى ( القصاص حياة ) لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة لأن معناه أنه إذا قتل القاتل امتنع غيره عن القتل فأوجب ذلك حياة للناس ولا يلتفت إلى ما ورد عن العرب من قولهم القتل أنفى للقتل فإن من لا يعلم يظن أن هذا على وزن الآية وليس كذلك بل بينها فرق من ثلاثة أوجه الأول أن القصاص حياة لفظتان والقتل أنفى للقتل ثلاثة ألفاظ الوجه الثاني أن في قولهم القتل أنفى للقتل تكريرا ليس في الآية الثالث أنه ليس كل قتل نافيا للقتل إلا إذا كان على حكم القصاص
وقد صاغ أبو تمام هذا الوارد عن العرب في بيت من شعره فقال

( وَأَخَافَكُمْ كَيْ تُغْمِدُوا أَسْيَافَكُمْ ... إِنَّ الدَّمَ الْمُعْتَرَّ يَحْرُسُهُ الدَّمُ )
فقوله إن الدم المعتر يحرسه الدم أحسن مما ورد عن العرب من قولهم القتل أنفى للقتل
ويروي عن معن بن زائدة أنه سأله أبو جعفر المنصور فقال له أيما أحب إليك دولتنا أو دولة بني أميه فقال ذاك إليك فقوله ذاك إليك من الإيجاز بالقصر الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بألفاظ كثيرة لأن معنى قوله ذاك إليك وهو لفظتان أنه زاد إحسانك على إحسان بني أمية فأنتم أحب إلي وهذه عشرة ألفاظ
فإن قيل كيف لا يمكن التعبير عن ألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها وفي المترادف من الألفاظ ما هو دليل على خلاف ذلك فإنه إذا قيل راح ثم قيل مدامة أو سلافة كان ذلك سواء وقامت هذه اللفظة مقام هذه اللفظة
قلت في الجواب ليس كل الألفاظ المترادفة يقوم بعضها مقام بعض ألا ترى أن لفظه القصاص لا يمكن التعبير عنها بما يقوم مقامها ولما عبر عنها بالقتل في قول العرب القتل أنفى للقتل ظهر الفرق بين ذلك وبين الآية في قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة ) فالذي أردته أنا إنما هو الكلام الذي لا يمكن التعبير عن ألفاظه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدتها فإن كان كذلك وإلا فليس داخلا في هذا القسم المشار إليه

النوع السادس عشر
في الإطناب
هذا النوع من الكلام أنعمت نظري فيه وفي التكرير وفي التطويل فملكتني حيرة الشبه بينها طويلا وكنت في ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله عنه في الكلالة حيث قال قد أعياني أمر الكلالة وكنت سألت رسول الله عنها كثيرا حتى ضرب في صدري وقال ( ألا يكفيك آية الصيف )
وبعد أن أنعمت نظري في هذا النوع الذي هو الإطناب وجدت ضربا من ضروب التأكيد التي يؤتى بها في الكلام قصدا للمبالغة ألا ترى أنه ضرب مفرد من بينها برأسه لا يشاركه فيه غيره لأن من التأكيد ما يتعلق بالتقديم والتأخيركتقديم المفعول وبالاعتراض كالاعتراض بين القسم وجوابه وبين المعطوف والمعطوف عليه وأشباه ذلك وسيأتي الكلام عليه في باب
وهذا الضرب الذي هو الإطناب ليس كذلك
ورأيت علماء البيان قد اختلفوا فيه فمنهم من ألحقه بالتطويل الذي هو ضد الإيجاز وهو عنده قسم غيره فأخطأ من حيث لا يدري كأبي هلال العسكري والغانمي حتى إنه قال إن كتب الفتوح وما جرى مجراها مما يقرأ على عوام الناس ينبغي أن تكون مطولة مطنبا فيها وهذا القول فاسد لأنه إن عنى بذلك أنها تكون ذات معان متعددة قد استقصى فيها شرح تلك الحادثة من فتح أو غيره فذلك مسلم وإن عنى بذلك أنها تكون مكررة المعاني مطولة الألفاظ قصدا لإفهام العامة فهذا غير مسلم وهو مما لا يذهب إليه من عنده أدنى معرفة بعلم الفصاحة

والبلاغة ويكفي في بطلانه كتاب الله تعالى فإنه لم يجعل لخواص الناس فقط وإنما جعل لعوامهم وخواصهم وأكثره لا بل جميعه مفهوم الألفاظ للعوام إلا كلمات معدودة وهي التي تسمى غريب القرآن وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى المختصة بالألفاظ وعلى هذا فينبغي أن تكون الكتب جميعها مما يقرأ على عوام الناس وخواصهم ذات ألفاظ سهلة مفهومة وكذلك الأشعار والخطب ومن ذهب إلى غير ذلك فإنه بنجوة عن هذا الفن وعلى هذا فإن الإطناب لا يختص به عوام الناس وإنما هو للخواص كما هو للعوام
وسأبين حقيقته في كتابي هذا وأحقق القول فيه بحيث تزول الشبهة التي خبط أرباب علم البيان من أجلها وقالوا أقوالا لا تعرب عن فائدة
والذي عندي فيه أنه إذا رجعنا إلى الأسماء واشتقاقها وجدنا هذا الاسم مناسبا لمسماه وهو في أصل اللغة مأخوذ من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه ويقال أطنبت الريح إذا اشتدت في هبوبها وأطنب في السير اذا اشتد فيه وعلى هذا فإن حملناه على مقتضى مسماه كان معناه المبالغة في إيراد المعاني وهذا لا يختص بنوع واحد من أنواع علم البيان وإنما يوجد فيها جميعها إذ ما من نوع منها إلا ويمكن المبالغة فيه وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يفرد هذا النوع من بينها ولا يتحقق إفراده إلا بذكر حده الدال على حقيقته
والذي يحد به أن يقال هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة فهذا حده الذي يميزه عن التطويل إذ التطويل هو زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة وأما التكرير فإنه دلالة على المعنى مرددا كقولك لمن تستدعيه أسرع أسرع فإن المعنى مردد واللفظ واحد وسيرد بيان ذلك مفصلا في بابه بعد باب الإطناب بعضها بعضا وإذا كان التكرير هو إيراد المعنى مرددا فمنه ما يأتي لفائدة ومنه ما يأتي لغير فائدة فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب وهو أخص منه فيقال حينئذ إن كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائدةِ

وأما الذي يأتي من التكرير لغير فائدة فإنه جزء من التطويل وهو أخص منه فيقال حينئذ إن كل تكرير يأتي لغير فائدة تطويل وليس كل تطويل تكريرا يأتي لغير فائدة
وكنت قدمت القول في باب الإيجاز بأن الإيجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من غير زيادة عليه
وإذا تقررت هذه الحدود الثلاثة المشار إليها فإن مثال الإيجاز والإطناب والتطويل مثال مقصد يسلك إليه في ثلاثة طرق فالإيجاز هو أقرب الطرق الثلاثة إليه والإطناب والتطويل هما الطريقان المتساويان في البعد إليه إلى أن طريق الإطناب تشتمل على منزه من المنازه لا يوجد في طريق التطويل وسيأتي بيان ذلك بضرب الأمثلة التي تسهل من معرفته
والإطناب يوجد تارة في الجملة الواحدة من الكلام ويوجد تارة في الجمل المتعددة والذي يوجد في الجمل المتعددة أبلغ لاتساع المجال في إيراده
وعلى هذا فإنه بجملته ينقسم قسمين
القسم الأول الذي يوجد في الجملة الواحدة من الكلام وهو يرد حقيقة ومجاز أما الحقيقة فمثل قولهم رأيته بعيني وقبضته بيدي ووطأته بقدمي وذقته بفمي وكل هذا يظن الظان أنه زيادة لا حاجة إليها ويقول إن الرؤية لا تكون إلا بالعين والقبض لا يكون إلا باليدِ والوطء لا يكون إلا بالقدم والذوق لا يكون ألا بالفم وليس الأمر كذلك بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله ويعز الوصول إليه فيؤكد الأمر فيه على هذا الوجه دلالة على نيله والحصول عليه كقول أبي عبادة البحتري

( تَأَمَّلْ مِنْ خِلاَل السَّجْفِ وَانْظُرْ ... بِعَيْنِكَ مَا شَربْتُ ومَنْ سَقَاني )
( تَجِدْ شَمْسَ الضُّحَى تَدْنُو بِشَمْس ... إِليَّ مِنَ الرَّحِيقِ الْخُسْرُوَانِي ) ولما كان الحضور في هذا المجلس مما يعز وجوده وكان الساقي فيه على هذه الصفة من الحسن قال أنظر بعينك
وعلى هذا ورد قوله تعالى ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) فإن هذا القول لما كان فيه افتراء عظم الله تعالى على قائله ألا ترى إلى قوله تعالى في قصة الإفك ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ) فصرح في هذه الآية بما أشرت إليه من تعظيم الأمر المقول
وفي مساق الآية المشار إليها جاء قوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) ألا ترى أن مساق الكلام أن الإنسان يقول لزوجته أنت علي كظهر أمي ويقول لمملوكه يا بني فضرب الله لذلك مثالا فقال كيف تكون الزوجة أما وكيف يكون المملوك ابنا والجمع بين الزوجية والأمومة وبين العبودية والبنوة في حالة واحدة كالجمع بين القلبين في الجوف وهذا تعظيم لما قالوه وإنكار له ولما كان الكلام في حال الإنكار والتعظيم أتى بذكر الجوف وإلا فقد علم أن القلب لا يكون إلا في الجوف والتمثيل يصح بقوله ( ما جعل الله لرجل من قلبين ) وهو تام لكن في ذكر الجوف فائدة وهي ما أشرت اليها وفيها أيضا زيادة تصوير للمعنى المقصود لأنه إذا سمعه المخاطب به صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان ذلك أسرع إلى إنكاره
وعليه ورد قوله تعالى ( فخر عليهم السقف من فوقهم ) فكما أن القلب لا يكون إلا في الجوف فكذلك السقف لا يكون إلا من فوق وهذا مقام ترهيب

وتخويف كما أن ذاك مقام إنكار وتعظيم ألا ترى إلى هذه الآية بكمالها وهي قوله وتعالى ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) ولذكر لفظة ( فوقهم ) فائدة لا توجد مع إسقاطها من هذا الكلام وأنت تحس هذا من نفسك فإنك إذا تلوت هذه الآية يخيل إليك أن سقفا خر على أولئك من فوقهم وحصل في نفسك من الرعب ما لا يحصل مع إسقاط تلك اللفظة وفي القرآن الكريم من هذا النوع كثير كقوله تعالى ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) وقوله ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) وكل هذه الآيات إنما أطنب فيها بالتأكيد لمعان اقتضتها فإن النفخ في الصور الذي تقوم به الأموات من القبور مهول عظيم دل على القدرة الباهرة وكذلك حمل الأرض والجبال فلما كانا بهذه الصفة قيل فيهما ( نفخة واحدة ) و ( دكة واحدة ) أي أن هذا الأمر المهول العظيم سهل يسير على الله تعالى يفعل ويمضي الأمر فيه بنفخة واحدة ودكة واحدة ولا يحتاج فيه إلى طول مدة ولا كلفة مشقة فجيء بذكر الواحدة لتأكيد الإعلام بأن ذلك هين سهل على عظمه
وهذه المواضع وأمثالها ترد في القرآن الكريم ويتوهم بعض الناس أنها ترد لغير فائدة اقتضتها وليس الأمر كذلك فإن هذه الأسرار البلاغية لا يتنبه لها إلا العارفون بها وهكذا يرد ما يرد منها في كلام العرب
وههنا نكته لا بد من الإشارة إليها وذاك أني نظرت في قوله تعالى ( نفخة واحدة ) و ( دكة واحدة ) وفي قوله تعالى ( ومناة الثالثة الأخرى ) فوجدت ذلك غير مقيس على ما تقدم وسأبينه ببيان شاف فأقول إن قوله تعالى ( ومناة الثالثة الأخرى ) إنما جيء به لتوازن الفقر التي نظمت السورة كلها عليها وهي ( والنجم إذا هوى ) ولو قيل ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة ) ولم يقل الثالثة الأخرى لكان الكلام عاريا عن الطلاوة والحسن وكذلك لو قيل ومناة الأخرى من غير أن يقال الثالثة لأنه نقص في الفقرة الثانية عن الأولى وذاك قبيح وقد

تقدم الكلام عليه في باب السجع لكن التأكيد في هذه الآية جاء ضمنا لتوازن الفقر وتبعا وأما ( نفخة واحدة ) و ( دكة واحدة ) فإنما جيء بلفظ الواحدة فيهما وقد علم أن النفخة هي واحدة والدكة هي واحدة لمكان نظم الكلام لأن السورة التي هي ( الحاقة ) جارية على هذا المنهاج في توازنها السجعي ولو قيل نفخة من غير واحدة ودكة من غير واحدة ثم قيل بعدهما ( فيومئذ وقعت الواقعة ) لكان الكلام منثورا محتاجا إلى تمام لكن التأكيد جاء فيهما ضمنا وتبعا وإذا تبين ذلك واتضح فاعلم أن الفرق بين هذه الآيات وبين قوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ظاهر وذاك أن نفخة هي واحدة ومناة هي الثالثة
وأما ما جاء منه على سبيل المجاز فقوله تعالى ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ففائدة ذكر الصدور ههنا أنه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب تشبيه ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف ليتقرر أن مكان العمي إنما هو القلوب لا الأبصار
وهذا موضع من علم البيان كثيرة محاسنه وافرة لطائفه والمجاز فيه أحسن من الحقيقة لمكان زيادة التصوير في إثبات وصف الحقيقي للمجازي ونفيه عن الحقيقي
وأما القسم الثاني المختص بالجمل فإنه يشتمل على ضروب أربعة
الأول منها أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعاني متداخلة إلا أن كل معنى يختص بخصيصة ليست للآخر وذلك كقول أبي تمام

( قَطَعَتْ إِلَيَّ الْزَّابيَيْنِ هِبَاتُهُ ... والْتَاثَ مَأْمُولُ السَّحَابِ السُّبِلِ )
( مِنْ مِنَّةٍ مَشْهُورَةٍ وَصَنِيعَةٍ ... بكْرٍ وَإحْسَانٍ أغَرَّ مُحَجَّلِ )
فقوله منة مشهورة وصنيعة بكر وإحسان أغر محجل تداخلت معانيه إذ المنة والصنيعة والإحسان متقارب بعضه من بعض وليس ذلك بتكريرلأنه لو اقتصر على قوله منة وصنيعة وإحسان لجاز أن يكون تكريراِولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة أخرجتها عن حكم التكريرِفقال " منة مشهورة " فوصفها بالاشتهار لعظم شأنهاِو " صنيعة بكر " فوصفها بالبكارة أي أنها لم يؤت بمثلها من قبلِو " إحسان أغر محجل " فوصفه بالغرة والتحجيل أي هو ذو محاسن متعددة فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدل على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطناباِولم يكن تكريرا
ولم أجد في ضروب الإطناب أحسن من هذا الموضعِولا ألطف وقد استعمله أبو تمام في شعره كثيرا بخلاف غيره من الشعراءِكقوله
( زِكِيٌّ سَجَايَاهُ تُضِيفُ ضُيُوفَهُ ... وَيُرْجَى مُرَجِّيهِ وَيُسْأَلُ سَائِلُهْ ) فإن غرضه من هذا القول إنما هو ذكر الممدوح بالكرم وكثرة العطاءِإلا أنه وصفه بصفات متعددةفجعل ضيوفه تضيفِوراجيه يرجىِوسائله يسألِوليس هذا

تكريرا لأنه لا يلزم من كون ضيوفه تضيف أن يكون راجيه مرجوا ولا أن يكون سائله مسئولا لأن ضيفه يستصحب ضيفا طمعا في كلام مضيفه وسائله يسأل أي أنه يعطي السائل عطاء كثيرا يصير به معطيا وراجيه يرجى أي أنه إذا تعلق به رجاء راج فقد أيقن بالفلاح والنجاح فهو حقيق بأن يرجى لمكان رجائه إياه وهذا أبلغ الأوصاف الثلاثة
الضرب الثاني يسمى النفي والإثباتِ وهو أن يذكر الشيء على سبيل النفي ثم يذكر على سبيل الإثبات أو بالعكس ولابد أن يكون في أحدهما زيادة ليست في الآخر وإلا كان تكريرا والغرض به تأكيد ذلك المعنى المقصود
فمما جاء منه قوله تعالى ( لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وآرتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون )
واعلم أن لهذا الضرب من الإطناب فائدة كبيرةِ وهو من أوكد وجوهه ألا ترى أنه قال ( لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) ثم قال ( إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ) والمعنى في ذلك سواء إلا أنه في الثانية قوله ( وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ) ولولا هذه الزيادة لكان حكم هاتين الآيتين حكم التكرير وهذا الموضع ينبغي أن يتأمل وينعم النظر فيه
وعليه ورد قوله تعالى ( ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن اكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) فقوله ( يعلمون ) بعد قوله ( لا يعلمون ) من الباب الذي نحن بصدد ذكره ألا ترى أنه نفى العلم عن الناس بما خفي عنهم من تحقيق وعده ثم أثبت لهم العلم

بظاهر الحياة الدنيا فكأنهم علموا وما علموا إذ العلم بظاهر الأمور ليس بعلم وإنما العلم هو ما كان بالباطن من الأمور
الضرب الثالث هو أن يذكر المعنى الواحد تاما لا يحتاج إلى زيادة ثم يضرب له مثال من التشبيه كقول أبي عبادة البحتري
( ذَاتُ حُسْنٍ لَوِ اسْتَزَادَتْ مِنَ الْحُسْنِ إِلَيْهِ لَمَا أَصَابَتْ مَزِيدَاً ... )
( فَهْيَ كَالشَّمْس بَهْجَةً وَالْقَضِيب اللَّدْنِ قَدِّا وَالرِّيم طَرْفاً وَجِيدَا ... ) ألا ترى أن الأول كاف في بلوغ الغاية في الحسن لأنه لما قال ( لو استزادت لما أصابت مزيدا ) دخل تحته كل شيء من الأشياء الحسنة إلا أن للتشبيه مزية أخرى تفيد السامع تصويرا وتخييلا لا يحصل له من الأول وهذا الضرب من أحسن ما يجيء في باب الإطناب
وكذلك ورد قوله
( تَرَدَّدَ فِي خُلُقَيْ سُودَدٍ ... سَمَاحًا مُرَجًّى وَبَأْساً مَهِيباَ )
( فَكَالسَّيْفِ إِنْ جِئْتَهُ صَارِخاً ... وَكَالْبَحْرِ إِنْ جِئْتَهُ مُسْتَثيبَا )
فالبيت الثاني يدل على معنى الأول لأن البحر و السيف للبأس المهيب إلا أن في الثاني زيادة التشبيه التي تفيد تخيلا وتصويرا
الضرب الرابع أن يستوفي معاني الغرض المقصود من كتاب أو خطبة أو

قصيدة وهذا أصعب الضروب الأربعة طريقا وأضيقها بابا لأنه يتفرع إلى أساليب كثيرة من المعاني وأرباب النظم والنثر يتفاوتون فيه وليس الخاطر الذي يقذف بالدرر في مثله إلا معدوم الوجود ومثاله ومثال الإيجاز مثال مجمل ومفصل وقد تقدم القول بأن الإيجاز والإطناب والتطويل بمنزلة مقصد يسلك إليه ثلاثة طرق وقد أوردت ههنا أمثله لهذه الأساليب الثلاثة وجعلتها على هيئة المقصد الذي تسلك إليه الطرق الثلاثة
فمن ذلك ما ذكرته في وصف بستان ذات فواكه متعددة فإذا أريد وصفه على حكم الإيجاز قيل فيه من كل فاكهة زوجان وهذا كلام الله تعالى وقد جمع جميع أنواع الفاكهة بأحسن لفظ وأخصره
وإذا أريد وصف ذلك البستان على حكم الإطناب قيل فيه ما أذكره وهو فصل من كتاب أنشأته وهو جنة علت أرضها أن تمسك ماء وغنيت بينبوعها أن تستجدي سماء وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة وتربة منجبة وما كل تربة توصف بالنجابة ففيها المشمش الذي يسبق غيره بقدومه ويقذف أيدي الجانين بنجومه فهو يسمو بطيب الفرع والنجار ولو نظم في جيد الحسناء لاشتبه بقلادة من نضار وله زمن الربيع الذي هو أعدل الأزمان وقد شبه بسن الصبا في الأسنان وفيها التفاح الذي رق جلده وعظم قده وتورد خده وطابت أنفاسه فلا بان الوادي ولا رنده وإذا نظر إليه وجد منه حظ الشم والنظر ونسبته من سرر الغزلان أولى من نسبته إلى منابت الشجر وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة وأكثرها ألوان زينة وأول غرس اغترسه نوح عليه السلام عند خروجه من السفينة فقطفه يميل بكف قاطفه ويغري بالوصف لسان واصفه وفيها الرمان الذي هو طعام وشراب وبه شبهت نهود الكعاب ومن فصله أنه لا نوى له فيرمى نواه ولا يخرج اللؤلؤ والمرجان من فاكهة سواه وفيها التين الذي أقسم الله به تنويها بذكره واستتر آدم عليه السلام بورقه إذا كشفت المعصية من ستره وخص بطول الأعناق فما يرى بها من ميل فهو نشوة من سكره وقد وصف بأنه راق طعما ونعم جسما وقيل هذا كنيف مليء شهدا لا كنيف مليء علما وفيها من ثمرات النخيل ما يزهى بلونه وشكله ويشغل بلذة منظره عن لذة أكله وهو الذي فضل ذوات الأفنان بعرجونه ولا تماثل بينه وبين الحلواء هذا خلق الله فأروني ماذا

خلق الذين من دونه وفيها غير ذلك من أشكال الفاكهة وأصنافها وكلها معدود من أوساطها لا من أطرافها ولقد دخلتها فاستهوتني حسدا ولم أصاحبها على قوله لن تبيد هذه أبدا
فهذا الوصف على هذه الصورة يسمى إطنابا لأنه لم يعر عن فائدة وذاك الأول هو الإيجاز لأنه اشتمل باختصاره على جميع أصناف الفاكهة
وأما التطويل فهو أن تعد الأصناف المذكورة تعدادا من غير وصف لطيف ولا نعت رائق فيقال مشمش وتفاح وعنب ورمان ونخل وكذا وكذا
وانظر أيها المتأمل إلى ما أشرت إليه من هذه الأقسام الثلاثة في الإيجاز والإطناب والتطويل وقس عليها ما يأتي منها
وسأزيد ذلك بيانا بمثال آخر فأقول
قد ورد في باب الإيجاز كتاب كتبه طاهر بن الحسين إلى المأمون رحمه الله تعالىِ يخبره بهزيمة عيسى بن ماهان وقتله إياه وهو كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس عيسى بن ماهان بين يدي وخاتمه في يدي وعسكره مصرف تحت أمري والسلام
وهذا كتاب جامع للمعنى شديد الإختصار
وإذا كتب ما هو في معناه على وجه الإطناب قيل فيه ما أذكره وهو ما أنشأته مثالا في هذا الموضع ليعلم به الفرق بين الإيجاز والإطناب وهو أصدر كتابه هذا وقد نصر بالفئة القليلة على الفئة الكثيرة وانقلب باليد الملأى والعين القريرة وكان انتصاره بجد أمير المؤمنين لا بجد نصله والجد أغنى من الجيش وإن كثرت أمداد خيله ورجله وجيء برأس عيسى بن ماهان وهو على جسد غير جسده وليس له قدم فيقال إنه يسعى بقدمه ولا يد فيقال إنه يبطش بيدهِ ولقد طال وطوله مؤذن بقصر شأنهِ وحسدت الضباع الطير على مكانها منه وهو غير محسود على مكانه وأحضر خاتمه وهو الخاتم الذي كان الأمر يجري على نقش أسطره وكان يرجو أن يصدر كتاب الفتح بختمه فحال ورود المنية دون مصدره وكذلك البغي مرتعه وبيل

وصرعه جليلِ وسيفه وإن مضى فإنه عند الضرب كليلِ وقد نطق الفأل بأن الخاتم والرأس مشيران بالحصول على خاتم الملك ورأسهِ وهذا الفتح أساس لما يستقبل بناؤه ولا يستقر البناء على أساسه والعساكر التي كانت على أمير المؤمنين حربا صارت له سلما وأعطته البيعة علما بفضله وليس من تابع تقليدا كمن تابع علما وهم الآن مصرفون تحت الأوامرِممتحنون بكشف السرائر مطيفون باللواء الذي خصه الله باستفتاح المقالد واستيطاء المنابر وكما سرت خطوات القلم في أثناء هذا القرطاسِ فكذلك سرت طلائع الرعب قبل الطلائع في قلوب الناس وليس في البلاد ما يغلق بمشيئة الله بابا ولا يحسر نقابا وعلى الله إتمام النعم التي افتتحها وإجابة أمير المؤمنين إلى مقترحاته التي اقترحها والسلام
وهذا الكتاب يشتمل على ما اشتمل عليه كتاب طاهر بن الحسين من المعنى إلا أنه فصل ذلك الإجمال
ولو كتبت على وجه التطويل الذي لا فائدة فيه لقيل أصدر كتابه في يوم كذا من شهر كذاِوالتقى عسكر أمير المؤمنين وعسكر عدوه الباغي وتطاعن الفريقان وتزاحف الجمعان وحمي القتال واشتد النزال وترادفت الكتائب وتلاحقت المقانب وقتل عيسى بن ماهان واحتز رأسه وقطع ونزع الخاتم من يده وخلع وترك جسده طعاما للطيور والسباع والذئاب والضباع وانجلت الوقعة عن غلب أمير المؤمنين ونصره وخذلان عدوه وقهره والسلام ُ
فهذا الكتاب يشتمل على تطويل لا فائدة فيه لأنه كرر فيه معاني يتم الغرض بدونها وذكر ما لا حاجة إليه في الإعلام بالواقعة
فانظر إلى هذه الكتب الثلاثة وتأملها كما تأملت الذي تقدمها
وبعد ذلك إني أورد لك كتابا وتقليدا يوضحان لك فائدة الإطناب أما الكتاب فإنه كتاب كتبته عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله إلى ديوان الخلافة ببغداد يتضمن فتح البيت المقدس واستنفاذه من أيدي الكفار وذلك في معارضة كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني عنه وكان الفتح في السابع والعشرين من شهر رجب من سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة خلد الله سلطان الديوان العزيز النبوي وجعل أيام دولته أترابا ومناقب مجدها هضابا وزادها على

مرور الأيام شبابا وأوسعها توشية وإذهابا إذا أوسع غيرها تلاشيا وذهابا ومنحها في الدنيا والآخرة عطاء وفاقا لاعطاء حسابا ومثل جدودها في عيون الأعداء شيئا عجابا وأراهم منها وراءهم في اليقظة إرهابا وإرعابا وفي المنام إبلا صعابا تقود خيلا عرابا لو جمعت العصور في صعيد واحد لكان هذا العصر عليها فاخرا وفاز بسبق أوائلها وإن جاء آخرا وليس ذلك إلا لخظوته بالدولة الناصرية التي كسته حبرا وقلدته دررا ودونت له من المحامد سيرا وجعلت في كل ناحية من وجهه شمسا وقمرا وقيض الله لها من الخادم وليا يوصل يومه في طاعتها بأمسهولا يرى إلا ومن نفسه في خدمتها رقيب على نفسه وطالما سعى بين يديها بمساع نغص بأخبارها محافل القوم ويقال له فيها ما ضرك ما صنعت بعد اليوم وقد سلفت منها آيات تتمايل في أشباهها وأضرابها واستؤنف لها الآن واحدة تدعى بأم كتابها وهي فتح البيت المقدس الذي تفتحت له أبواب السماء وكثرت بأحاديث مجده كواكب الظلماء واسترد حق الإسلام وطالما سعت الهمم في طلبه بالزاد والماءِومن أحسن ما أتى به آنس قبلته الثانية بقبلته الأولى وأطال منه كل ما قصرته يد الكفر وكانت هي الطولي وبه صح لهذا البيت معنى اسمه وانتقل إلى الطهارة ونزاهتها عن الرجس ووصمه ولم يحزه الخادم حتى طوى ما حوله من البلاد المنجدة والغائرة وكان مركزا لدائرتها فغادره وهو طرف من أطراف الدائرة ولما شارفه نظر منه إلى ظله من الظلل ورأى بلدا قد استقر على متن الجبل مثل الجبل ويطيف به واد تستهزيء عصمته بنوب الدهر وقد انعطف على جوانبه انعطاف الحبوة على الظهر والمسالك إليه مع ذلك ذات تعاريج ومعارج وهي ضيقة مستوعرة يطلق عليها اسم الطرق ولا يطلق عليها اسم المناهج فلما رآه قال هذا أمنية لمن يرى وعلم حينئذ أن كل الصيد في جوف الفرا إلا أن لسان حاله خاطبه وهو أفصح الخطاب وقال امدد يدك فليس دونها من حجاب وكان قد برز من السلاح في لباس رائع من المنعة وأخرج من السواد الأعظم ما خدع العيون والحرب خدعة وما يمنع رقاب البلاد بكثرة السواد ولا يحمي بعوالي الأسوار بل بعوالي الصعاد وفي يوم كذا وكذا خيم المسلمون في عقد داره ونزلوا منه نزول الجار إلى جانب جاره ثم ارتادوا موقفا للقتال وإن لم يكن هناك موقف يقرب مناله ولا يتسع محاله واتفق الرأي على لسان المنجنيق في خطبة عقيلية أبلغ

خطاباِوأدنى من المطلوب طلاباِوأنه إذا ضرب بعصاه الحجر انبجست عيون أهله دماء كما انبجست عيون الحجر ماء هذا والعزائم تنظر إلى هذا الرأي نظر المستجهل وتصد عنه صدود المستعجل وتقول ما بارتياد السهل تملك الصعاب ومن ابتنى السيف صرحا لم ينأ عنه بلوغ الأسباب والحديد لا يفلح إلا بالحديد والركن الشديد لا يصدم إلا بركن شديد فعندها صمم الخادم أن يلقى البلد مواثبا لا مواربا وأن يجعل للزحف جانبا وللمنجنيق جانبا ونوى أن يبدي صفحة وجهه أمام الناس وتأسى برسول الله في الاتقاء به إذا اشتد البأس ولا شك أن قلوب الجيوش بمنزلة قلوبها وأن النفاذ لأسنة الرماح لا لكعوبها ولا يشتفي من الوغى إلا من كان طرفه أمام طرفه ومن وقف خلف جنوده فقد جعل عزائمها من خلفه ولما وقع الزحف صورع البلد صراعا بعد أن قورع قراعا ثم هز هزة طوته بيمينها ونشرته بشمالها وأذاقته العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر من نكالها وبدون ذلك يكون عذرك أديمه وعطف شكيمه ولم يكن قتاله بالسهام التي غايتها أن تصف أجنحتها للمطار وتنال بكلومها من فوق الأسوار بل بالسيوف التي إذا جالدت بلدا أخذت بكظمه وتوغلت في هجمه وأغنت بسرعة خطواتها إليه عن المنجنيق وإبطاء هدمه والسيف ليس بمرتو من النفس التي تظل طائشة عند لقائها جائشة عند استيفائها فالقلوب توصف بأنها تجيش إذا كانت أعدادا والنفوس لا تجيش إلا ذا كانت ثمادا وما يستوي وجوه الأقران في إقدامها وإحجامها فمنها المظلم إذا رابها الروع بإشراقها ومنها المشرق إذا شابها الروع بإظلامها وكانت وجوه المؤمنين أحظى بلباس الإشراق وأتم أبدرا والبدور لا يكون تمامها في المحاق فما منهم إلا من عرض نفسه ليوم العرض ومشى إلى جنة عرضها السموات والأرض حتى اتسع المكر وضاق بأعداء الله المقر وحرقت أوعار الخنادق وصار الرجال لمنطقة الصور كالمناطق ولم يستشهد فيهم إلا عدد يسير لا تدخله لام التعريف وكانت أجنحة الملائكة مطيفة بهم فأكرم بالمطاف به وبالمطيف وقد أسعد الله أولئك بالشهادة التي هي الفوز الأكبر وقرنها بإدناء مضاجعهم من الأرض المقدسة التي هي أرض المحشرِفما يسرهم أن يعودوا إلى الدنيا إلا للاستزادة من ثواب الجهاد وأيسر ذلك أن أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق من ثمار الجنة إلى يوم المعاد ولما رأى الكفار أن صليبهم قد صار

خوارا وأن زئيرهم قد انقلب خواراأذعنت أيديهم باستلامها وصانعت بالمال عن الرقاب واسترقاقها وبالبلد عن النفوس وحمامها فأبى السيف أن يترك رقابا تغذي بأكلها ويحل من عشقها على مداومة وصلها وذكر الخادم أن سلف هؤلاء انتزاع هذا البلد قسرا وفتك بمن كان به من المسلمين غدرا وذلك ثأر ذخره الله لك حتى تحظى في الآخرة بثوابه وتتجمل في الدنيا بزينة أثوابه والمسلم أخو المسلم يأخذ بدمه وإن تطاولت أمداد السنين على قدمه فيا بعد عهد هذا الثأر من ثائره ويا طيب خبره عند سامعه وحسن أثره عند ناظره ولما تحقق العزم على ذلك أشار ذوو الرأي بقبول الفدية المبذولة وألا يحمل العدو على ما ليست نفسه عليه بمحمولة فإن النقد إذا أخرج صار ذا أنياب وأظفار واستضرى حتى يلتحق بالسباع الضوار وهؤلاء إذا رأوا عين القتل تجردوا للقتال وركبوا الأهوال للنجاة من الأهوال ومن يدع إلى خطة رشد فليقبلها ومن أنشط له عقل الأمور فلا يعقلها وعلى كل حال فإن الفدية للمسلمين أرغب وأموال يتقوى بها على العدو خير من دماء تذهب هذا وبالبلد من أسارى المسلمين من حياة أحدهم بحياة كل نفس ومن حرمته عند الله مما طلعت عليه الشمس ولا يوازي فتحه عنوة أن يتعدى إليهم أضراره ولا شك أنهم يعاجلون بالقتل قبل أن تدخل أقطاره فرأى الخادم عند ذلك أن الرأي مشترك وأن له معتركا كما أن السيف له معترك وتقرر تسليم البلد ودموع أهله قد خضبت أحداقها وأقرحت آماقها ولم تطب أنفسهم بفراق قمامه حتى كادت الهام تفارق أعناقها فعلى حب ذلك التراب تقوم قيامتهم وتشيل نعامتهم ولطالما ابتهلوا عنده أيام الحصار واستنصره فلم يحظوا منه بمعونة الانتصار وكيف يرجى النصر من معبود تقر شيعته بقتله أم كيف يدفع عن غيره من كان هو مبتلى بمثله وهذه عقول سخيفة نفذ فيها كيد شيطانها وأخفى عنها محجة الحق على وضوح بيانها ولقد كان يوم التسليم عريض الفخار زائد العمر على عمر أبويه من الليل والنهار واشتق من اسمه معنى السلامة للمسلمين والهلاك للكفار وزاده فخرا إلى فخره أنه وافق اليوم المسفر عن ليلة المعراج النبوي الذي كان في تلك الأرض موعده ومن صخرتها مصعده وذلك هو الإسراء الذي ركب إليه ظهر البراق واستفتح له أبواب السبع الطباق ولقي فيه الأنبياء على اختلاف درجاتهم فظفر خير ملقى بخير لاق وبركة ذلك اليوم سرت إلى هذا

فأطالت من شهرته وضمنته نصرة الدين الحنيف الذي لله عناية بنصرته وجعلته تاريخا يؤرخ بفتحه كما أرخ للنبي بدار هجرته وإذا أنصف واصفه قال إنه لليوم البدري في اقتراب النسب وإنه العجيبة التي لم تجفل عنها الأيام في صفر وإنما أجفلت عنها في رجب فما أكثر الفائز فيه والمغبون والمسرور والمحزون فمن جد راكب ومن جد راجل ومن عز قادم وذل راحل ولطالما جد الخادم في السعي له وأبصار العدا تزلقه وألسنتهم تسلقه وما منهم إلا من أكثر الشناعة بأن ذلك السعي للاستكثار من البلاد والله يعلم أنه لم يكن إلا للاستكثار من موارد الجهاد لا جرم أن صدق النية كان له عقبى الدار وتلك الأقوال الكاذبة كان لها عقبى البوار ويوم هذا الفتح يفتقر قبله إلى أيام تجلو بياضه عن سوادها ويلقح لها بطون المساعي حتى يكون لها نتيجة ميلادها ولما ظفر به الخادم لم يكن لأهل النجامة فيه قول يرد كذابه ولا يقبل صوابه والشهب الطالعة على ذوات السروج نبأ من الشهب الطالعة من ذوات البروج على أنهما وإن اتفقا رجما فإنهما يختلفان علما فعلم هذه يسأل عنه ثغر الأعناق وعلم هذه يسأل عنه بطون الأوراق ولما دخل البلد وجد به أمما لولا أن ضربت عليهم الذلة لدافعوا المنايا مكاثرة وغالبوا السيوف مصابرة وهم طوائف مختلفو الألسنة والألوان وإن قيل إنهم أناسي فإن صورهم صور الجان ومنهم طائفة استشعرت حبس نفوسها وفحصت الشعر عن أوساط رءوسها وتوحشت بالرهبانية حتى ارتاعت العيون من أشكالها ولبوسها ولما رأوا طلعة الإسلام داخلة عليهم أعلنوا بالجؤار واصطرخوا جميعا كما يصطرخون غدا في النار وزادهم غيظا إلى غيظهم أنهم رأوا الصلاة قائمة وقد صار الناقوس أذانا وكلمة الكفر إيمانا وأقيمت الجمعة وهي أول جمعة حظي الأقصى بمشهدها وحضرتها الأمة الإسلامية بأحمرها وأسودها فمن باك بدمعة سروره الباردة ومن مجيل نظره في نعمة الله الواردة ومن شاكر للزمن الذي أبقاه إلى يومه هذا الذي كل الأيام له حاسدة من كان ولده تقدم قبله أو بعده فكأنه لم يولد وكانت هذه الجمعة في رابع شعبان وهو الشهر الذي جعله الله طليعة لشهر الصيام وليلة نصفه هي الليلة المعروفة بإحياء قيامها إلى حين وفاة شخص الظلام والتي يغفر فيها لأكثر من شعر غنم كلب من ذوي الذنوب والأثام وجيء باللواء الأسود فركز من المنبر في أعلاه ونطق لسان حاله فقال من كان

رسول الله مولاه فأنا مولاه ولم يكن لسان الخطيب بأفصح بيانا من لسانه غير أن هذا يزهى ببلاغ موعظته وهذا يزهى بعزة سلطانه ولما ذكرت سمات الخلافة المعظمة أتبعها الناس بالدعاء الذي ملأ المسجد بعجيجه وسبق الكرام الكاتبون بزميله إلى السماء ووشيجه وكان اليوم فصلا والموقف حفلا وذلك الدعاء فرضا لا نفلا ولا ينتهي النصف إلى ما شوهد بالبلد من الآثار العجيبة التي تستلبث العجلان وتستحلب الأذهان وتستنطق الألسنة بالتسبيح لله الذي فطر الإنسان ومن جملة ذلك ما تبوهي في حسنه من البيع والصوامع ذوات الأبنية الروائع التي روضت بالزخارف ترويض الأزهار ورفعت معاقدها حتى كادت النجوم توحي إليها بالأسرار وما منها إلا ما يقال إنه إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ولقد ألان الله لهم الحجارة حتى تخيروا في توسيعها بضروب الاختيار وجعلوها أعاجيب للأسماع والأبصار وقيل فيها هذه روضات جنان لا أفنية ديار هذا إلى غيره مما وجد من معبودات القوم الموصوفة بأنها آلة الصلب اللاتي من ذوات النصب وأكثر ذلك وجد في المسجد موضوعا وعلى قبته مرفوعا فأنزلت على قرونها واستن بسنة رسول الله في طعن عيونها واستوطن المؤمن مكان الكفور وبدلت الظلمات بالنور وقالت الصخرة الآن جمع بيني وبين الحجر الأسود لخاطب الإسلام والجمع بين الأختين في هذا الأمر من الحلال لا من الحرام وقال الأقصى سبحان الذي أسرى إلي بجنده كما أسرى بعبده وأعاد لي عهود الفتح الأول بهذا الفتح الذي أتى من بعده وعود الذاهب أرجى لدوام أحقابه وخلود الإنسان لا يكون إلا في مآبه وهذا هو الخطب الذي جدد للإسلام عهود ابن خطابه رضي الله عنه إلا أن مستنقذ الطريدة أولى بها من صاحبها ولئن غصبتها يد غالبة فقد جاء الله باليد التي غصبتها من غاصبها هذا ولم يستنقذها الخادم إلا بإنضاء سلاح أنفته الوقعة الأولى التي استأصلت حماة البلاد واستباحت أغيالها بقتل الآساد فكانت لهذا الفتح عنوانا ولتقرير أصوله بنيانا ولم ينج بها من طواغيت الكفر إلا طاغية ترابلس فإن السيوف أسأرته وبفؤاده قلق من أوجالها وفي عينه دهش من أهوالها وقد قرن الله هذا الفتح ببشرى موته وكفى المسلمين مؤنة الاهتمام لفوته ففر من الوقعة ولم ينج بذلك الفرار واعتصم بذات جداره فقتله الخوف من وراء الجدار ولا فرق بين قتيل خوف السفار وبين قتيل

الشفار ولقد فر من المكروه إلى مثله لكنه انتقل من ميتة عزه إلى ميتة ذله وكذلك آثار الخادم في أعداء الله فهم هلكى بسيفه في مواقف الطراد فإن فروا فبخوفه على جنوب الوساد وبعد هذه فهل يمترون في أن دماءهم قد استجابت لمراده وأن سواء لديه من أمكن منها في دونه ومن امتنع منها في بعاده وكل ذلك مستمد من الاستنصار بعناية الديوان العزيز التي من شأنها أن تجعل الرؤيا حقا وأحاديث الآمال صدقا وتقرب بعيدات الأمور حتى تجعل الشرق غربا والغرب شرقا فهذا الفتح منسوب إليها وإن كان الخادم هو الساعي في تسهيله والمجاهد بنفسه وماله في سبيله فعلى عطف دولتها ترقم أعلامه وفي أيامها تؤرخ أيامه ولو أبيح للقلم الخيلاء في مقام المقال كما أبيح لصاحبه في مقام القتال لاختالت مشيته في هذا الكتاب ولقال وأسهب فليس الإكثار ههنا من الإسهاب لكنه منعه من ذلك أن يكون ممن فخر بعمله فأبطله وأرسل خطابه إلى الديوان العزيز فلم يقبضه بالأدب حين أرسله وقد ارتاد من يبلغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بيانا مؤهل لإيداع حسانها والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحبها في تجريح الرجال وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال والأيام واللياليرواة فما الظن برواية الأيام والليال وستتلو هذه الأخبار الصادقة بمشيئة الله أخبار مثلها صادقة وما دامت السيوف ناطقة في يد الخادم فالألسنة عنها ناطقة وللآراء العالية مزيد العلو إن شاء الله تعالى
وأما التقليد فإنه تقليد أنشأته لمنصب الحسبة وهو أما بعد فقد جعل الله جزاء التمكين في أرضه أن يقام بحدود فرضه ونحن نسأله التوفيق لهذا الأمر الذي ثقل حمله وعدم أهله فقد جيء بنا في زمن أصبح الناس فيه سدى وعاد الإسلام فيه غريبا كما بدا وهو الزمن الذي كثرت فيه أشراط اليوم الأخير وغربلت فيه الأمة حتى لم يبق إلا حثالة التمر والشعير ومن أعم ما نقرر بناءه ونقدم عناءه ونصلح به الزمن وأبناءه أن نمضي أحكام الشريعة المطهرة على ما قررته في تعريف ما عرفته وتنكير ما نكرته ومدار ذلك على النظر في أمر الحسبة التي تتنزل

منه بمنزلة السلك من العقد والكف من الزند وقد أخلصنا النية في ارتياد من يقوم فيها ويكفيها ويصطفى لها ولا يصطفيها وهو أنت أيها الشيخ الأجل فلان أحسن الله لك الأثر وصدق فيك النظر فتولها غير موكول إليها بل معانا عليها
واعلم أن الناس قد أماتوا سننا وأحيوا بدعا وتفرقوا فيما أحدثوه من المحدثات شيعا وأظلم منهم من أقرهم على أمرهم ولم يأخذهم بقوارع زجرهم فإن السكوت عن البدعة رضا بمكانها وترك النهي عنها كالأمر بإتيانها ولم يأت بنا الله تعالى إلا ليعيد الدين قائما على أصوله صاعدا بحكم الله فيه وحكم رسوله
ونحن نأمرك أن تتصفح أحوال الناس في أمر دينهم الذي هو عصمة مالهم وأمر معاشهم الذي يتميز به حرامهم من حلالهم فابدأ أولا بالنظر في العقائد واهد فيها إلى سبيل الفرقة الناجية الذي هو سبيل واحد وتلك الفرقة هي السلف الصالح الذين لزموا مواطن الحق فأقاموا وقالوا ربنا الله ثم استقاموا ومن عداهم شعب دانوا أديانا وعبدوا من الأهواء أوثانا واتبعوا ما لم ينزل به الله سلطانا ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم فمن انتهى من هؤلاء إلى فلسفة فاقتله ولا تسمع له قولا ولا تقبل منه صرفا ولا عدلا وليكن قتله على رءوس الأشهادِ ما بين حاضر وباد فما تكدرت الشرائع بمثل مقالته ولا تدنست علومها بمثل أثر جهالته والمنتمي إليها يعرف بنكرهِ ويستدل عليه بظلمة كفره وتلك ظلمة تدرك بالقلوب لا بالأبصار وتظهر زيادتها ونقصها بحسب ما عند رائيها من الأنوار وما تجده من كتبها التي هي سموم ناقعة لا علوم نافعة وأفاعي ملففة لا أقوال مؤلفة فاستأصل شافتها بالتمزيق وافعل بها ما يفعله الله بأهلها من التحريقولا يقنعك ذلك حتى تجتهد في تتبع آثارها والكشف عن مكامن أسرارها فمن وجدت في بيته فليؤخذ جهارا ولينكل به إشهارا وليقل هذا جزاء من استكبر استكبارا ولم يرج لله وقارا وأما من تحدث في القدر وقال فيه بمخالفة نص الخبر فليس في شيء من ربقة الإسلامِ وإن تنسك بمداومة الصلاة والصيام قال النبي ( القدرية مجوس هذه الأمة )
والمراد بذلك أنهما ماثلوا بين الله والعبد والضياء والظلمة فعلاج هذه الطائفة أن تجزى بأن تخزى فليقابل جمعها بالتكسير واسمها بالتصغير ولتنقل إلى ثقل

الحدود عن خفة التعزير ومن كان منها ذا مكانة نابهة فليهبط أو شهادة عادلة فليسقط وكذلك يجري الحكم فيمن قال بالتشبيه والتجسيم أو قال بحدوث القرآن القديم
ومن ملحدي القرآن فرقة فرقت بين المعنى والخط وفرقة قالت فيه بالشكل والنقط وكل هؤلاء قوم خبثت سرائرهم وعميت بصائرهم وعظمت عند الله جرائمهم فخذهم بالتوبة التي تطهر أهلها وتجب ما قبلها وليست التوبة عبارة عن ذكرى اللسان والقلب لاه في قبضة النسيان بل هي عبارة عن الندم على ما فات واستئناف الإخلاص فيما ما هو آت وقد جعل الله التائب من أحبابه ووصفه في مواضع كثيرة من كتابه ومن فضله أن الملائكة يستغفرون لذنبه ويشفعون له إلى ربه فإن أبت هذه الطوائف إلا إصرارا ولم يزدهم دعاؤك إلا فرارا فاعلم أن الله قد طبع على قلوبهم طبعا وألحقهم بالذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره وكانوا لا يستطيعون سمعا فخذهم عند ذلك بحد الجلد فإن لم ينجع فبحد ذوات الحدفإن هذه أمراض عمى لا ترجى لها الإفاقة ولا تبريء منها إلا الدماء المراقة
وأما الفرقة المدعوة بالرافضة التي هي لما رفعه الله خافضة فإنهم أناس ليس لهم من الدين إلا اسمه ولا من الإسلام إلا رسمه وإذا نقب عن مذهبهم وجد على العصبية موضوعا ولغير ما شرعه الله ورسوله مشروعا ذبوا عن علي رضي الله عنه فأسلموه وأخروه إذ قدموه وهؤلاء وضعوا أحاديث فنقلوها وأولوها على ما أولوها فتبع الآخر منهم الأول على غمة وقالوا إنا وجدنا آبائنا على أمة وههنا غير ما ذكرناه من عقائد محلولة ومذاهب غير منقولة ولا مقبولة وبالهدي يتبين طريق الضلال وبالصحة يظهر أثر الاعتلال ولا عقيدة إلا عقيدة السنة والكتاب ولا دين إلا دين العجائز الماء والمحراب
وإذا فرغنا من الوصية بالأصول التي هي للدين ملاك فلنتبعها بالفروع التي هي له مساك وأول ذلك الصلاة وهي في مباني الإسلام الخمس أوكد خمسهِ

وآخر ما وصى به رسول الله عند مفارقة نفسه ومن فضلها أنها العمل الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر ولا عذر في تركها لأحد من الناس فيقال إنه يعذر فاجمع الناس إليها واحملهم عليها ومرهم بالاجتماع لها في المساجد وناد فيهم بفضيلة صلاة الجماعة على صلاة واحد وراقبهم عند أوقات الأذان في الأسواق التي هي معركة الشيطانفمن شغل بتثمير مكسبه ولها عنها بالإقبال على لهوه ولعبهفخذه بالآلة العمرية التي تضع من قدره وتذيقه وبال أمره ولا يمنعك عن ذي هيبة هيبته ولا عن ذي شيبة شيبته فإنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ومن مهمات الصلاة يوم الجمعة الذي هو في الأيام بمنزلة الأعياد في الأعوام وفيه الساعة المخصوصة بالدعاء المجاب التي ما صادفها عبد إلا ظفر بالطلاب فمر الناس بابتداره في البواكر والفوز فيه بقربان البدنات الأخايرِفإنه اليوم الذي لم تطلع الشمس على مثله وبه فضل هذا الدين على أهل الكتاب من قبله فهو واسطة عقد الأيام السبعة ولاشتماله على مجموع فضلها سمي يوم الجمعة وفي الأعوام مواسم لصلوات مخصوصة كالتراويح في شهر رمضان والرغائب في أول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان فلتملأ المساجد في هذه المواسم التي تكثر فيها شهادات الأقلام في كتب الطاعات ومحو الآثام ومن حضرها وليس همه إلا أن يمر بها طروقا ويواعد إليه أخدانه رفثا أو فسوقافهؤلاء هم الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فابعث عليهم قوما يسلبونهم سلبا ويوجعونهم ضربا ويملئون عيونهم مهابة وقلوبهم رعبا فبيوت الله مطهرة من هذه الأدناس ولم تعمر لشياطين الإنس وإنما عمرت للناس فلا يحضرها إلا راكع وساجد أو ذاكر وحامد
وههنا عظيمة عضيهة وفاحشة يفقه لها من ليست نفسه بفقيهة وهي الربا فإنه قد كثر أكله وتظاهر به فاعله وقال فساق الفقهاء بتأويله وتوصلوا إلى شبهه تحليليه ولا يتسارع إلى ذلك إلا من أعمى الله قلبه ومحق كسبهِ قال النبي ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ) ونحن نأمرك

أن تشمر في هذا الأمر تشميرا يرهبه الناس ولا تدع ربا حتى تضعه وأول ربا تضعه ربا العباس فتأديب الكبير قاض بتهذيب الصغير والأسوة بالرفيع خلاف الأسوة بالنظير وجل معاملة الربا تجري في سوق الصرف الذي تختلف به النقود وتفترض فيه العقود ويخاض في نار نيره إلى النار ذات الوقود وبه قوم أوسعوا عيون الموازين غمزا وألسنتها همزا ولمزا وأصبح الدرهم والدينار عندهم بمنزلة الصنمين اللات والعزى ولا يرى منهم إلا من الحرص مفاض على ثيابه وقد جمع بين المعرفة بالحرام والهجوم على ارتكابه فعدل ميل هؤلاء تعديلا وتخولهم على مرور الأيام تخويلا واعلم أنك قد وليت من الكيل والميزان أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة فباشرهما بيدك مباشرة الاختيار والاختبار ولا تقل أهلهما عثرة فإن الإقالة لا تنهى عن العثار وكل هؤلاء من سواد الناس ممن لم يزك غرسه ولا فقهت نفسه وليس همه إلا فرجه أو ضرسه فخذهم بآلة التعزيز التي هي نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى ومن آثارها أنها ترج أرض الرأس رجا وتفرج سماءه فرجا ويسلك بصاحبه هديا ونهجا
وقد كثر في الأسواق الخلابة والنجس وتلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي وتنفيق السلعة باليمين الكذابة وكل هذه من المحظورات التي وردت الأخبار النبوية بيانها والنهي عن تورد مكانها فمن قارف شيئا منها جاهلا بتحريمه فقومه بالتعليمِ واهده إلى الصراط المستقيم ومن عرف ما اقترف فأذقه حر التأديب قبل أن يذاق غدا حر التعذيب وأعلمه أن الأرزاق بيد الله تعالى لا ينقصها عجز القاعد ولا يزيدها حرص الكادح وقد ينقلب الجاهد فيها بصفقة الخاسر والوداع بصفقة الرابح ومن سنة الله تعالى أن ينمي الحلال وإن كان يسيرا ويمحق الحرام وإن كان كثيرا ومن الناس من آتاه الله مالا فبث في الأسواق جنود ذهبه وورقه واحتكر ما حمله الميزان من ذوات رطله ووسعه الكيل من ذوات وسقه فأصبح فقراء بلده في ضيق من عدم الرفق ومدد الرزق فلمنع هؤلاء أن يجعلوا رزق الله محتكرا

و معاش عباده محتجرا وليؤمروا بأن يتراحموا ولا يتزاحموا وأن يأخذ الغني منهم بقدر الكفاف ويترك للفقير ما يعينه على الإسعاف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا حكرة في سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من أرزاق الله تعالى ينزل بساحتنا فيحتكرونه علينا ولكن أيما جالبا جلب على عمود كبده فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله وأما التسعير فإنه وإن آثره القاطنون وحكم به القاسطون وقيل إن في ذلك للفقير تيسير العسيرفليس لأحد أن يكون يد الله في حفظ ما رفع وبذل ما منع فقف أنت حيث أوقفك حكم الحق ودع ما يعن من مصلحة الخلق ولا تكن ممن اتبع الرأي والنظر وترك الآية والخبر فحكمة الله مطوية فيما يأمر به على ألسنة رسله وليست مما يستنبطه ذو العلم بعلمه ولا يستدل عليه ذو العقل بعقله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
ومما نأمرك به أن تمحو الصغيرة كما تمحو الكبيرة فإن لمم الذنوب كالقطر يصير مجتمعه سيلا متدفقا وكان أوله قطرا متفرقا
وقد استمر في الناس عوائد تهاونوا باستمرارها ولم ينظروا إلى ثقل أوزارها فمن ذلك لبس الذهب والحرير الذي لم يلبسه إلا من عدم عند الله خلاقا وإن قيل إنه شعار للغني فلم يزد صاحبه من الحسنات إلا إملاقا وللبس عباءة مع التقوى أحسن في العيون شعارا وأعظم في الصدور وقارا ويلتحق بهذه المعصية صوغ الذهب والفضة آنية يمنع منها حق الصدقات وهو حق يقاتل مانعه ويعصى في استعمالها أمر الله وهو حد من حدوده يعاقب عاصيه ويثاب طائعه وكذلك يجري الحكم في الصور المرقومة في البيوت والثياب وعلى الستور المغلقة على الأبواب وإخراجها في ضروب أشكال الحيوان لملاعبة الصبيان وذلك مماثلة لخلق الله في التقدير ولهذا يؤمر صانعه بنفخ الروح فيما صوره من التصوير
ومما يغلظ نكيره إطالة الذيول للاجترار والمباهاة لما فيها من عنجهية التيه والاستكبار ولن يخرق صاحبها الأرض بإعجابه ولا يبلغ طول الجبال بإطالة

ثيابه قال النبي ( إن الله لا ينظر يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء )
ومما هو أشد نكيرا أمر الحمامات فإن الناس قد أصروا بها على الإجهار وترك الاستتار والتهاون بأمر العورات التي لصاحبها اللعنة وله سوء الدار والنساء في هذا المقام أشد تهالكا من الرجال وقد ابتذلن أنفسهن حتى أفرطن في فاحشة الابتذال ولهن محدثات من المنكر أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف وقد أحدثن الآن من الملابس ما لم يخطر للشيطان في حساب وتلك من لباس الشهرة الذي لا يستر منه إسبال مرط ولا إدناء جلباب ومن جملتها أنهن يعتصبن عصائب كأمثال الأسنمة ويخرجن من جهارة أشكالها في الصور المعلمة وقد أخبر رسول الله بها فيما ورد عنه من الأخبار وجعل صاحبها معدودا من زمرة أصحاب النار
ومما حيد فيه عن السنن قراءة القرآن بضروب الألحان وتلك قراءة تخرج حروفها من غير مخرج وتبدو معوجة وهو قرآن عربي غير ذي عوج وقد أمر الله بترتيله وإيراده على هيئة تنزيله فمن قرأه بالترجيع والترديد وزلزل حروفه بالتمطيط والتمديدِ وقد ألحقه بدرجات الأغاني وذهب بما فيه من طلاوة الألفاظ والمعاني قال النبي ( اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق ولحون أهل الكتابين وسيجيء بعدي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهمِ مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم ) ويلتحق بذلك اقتناء القينات المغنيات اللاتي يلعبن بالعقول لعبهن بالأسماع ويغنين الشيطان بغنائهن عن بث الجنود والأشياع وفتيا النفس الأمارة في ذلك أن تقول هؤلاء إماء يحل نغمة سماعهن كما يحل ما تحت قناعهن وقد علم أن لكل شيء نماما وقد ينقلب الحلال فيصير حراما ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه قال النبي ( لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام ) وفي مثل هذا أنزلت ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) وكذلك يجري الحكم في المواشط اللاتي يجعلن الحسن موفورا والقبح مستورا ويخدعن نظر الناظر حتى يجعلنه مسحورا فهن يبدين

صدقا من كذب وجدا من لعب وفعلهن هذا من الغش الذي نهى رسول الله عنه وقال إنه ليس منه وقد لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة ومن غش المنكرات أيضا خضاب الشيب الذي يخالف فيه الظاهر الباطن ويتخلق صاحبه بخلق الكاذب الخائن وهب أنه أخفى لون شعره وهل يخفي أخلاق لباسه وإذا استسن ملائم المرء فلا يغنيه سواد عارضه ولا سواد رأسه وقد جعل الله الشيب من نعمه المبشرة بطول الأعمار وسماه نورا للونه وهدايته ولا تستوي الظلمات والأنوار قال النبي الشيب أن يشتغل بتغيير صيغة الكتاب ويدأب في محو سواد العقاب ببياض الثواب ففي بقية عمره مندوحة لادخار ما يحمد ذخره وتبديل ما تقدم سطره
ومما خولفت فيه السنة عقد مجالس التعازي لحضور الناس وإظهار شعار الأسود والأزرق من اللباس والتشبيه بالجاهلية في النوح والندب ومجاوزة دمع العين وخشوع القلب إلى الإعلان بإسخاط الرب وقد تواطأ النساء على ضرب الخيام على القبور وجعل الأعياد مواسم لاجتماع الزائر والمزور فصارت المآتم بينهم ولائم والمنادب عندهم مآدب وربما نشأ من ذلك ما يغض طرفا ويجدعوا أنفا ويوجب حدا وقذفا
وهكذا أهمل أمر الإسلام في تشبيه أهل الذمة بأهله وما كانوا ليشابهوه في زي غرته ويخالفوه في سلوك سبله ولا بد من الغيار بأن يشد النصراني عقدة زناره ويصفر اليهودي أعلى إزاره وليمنعوا من الظاهر بطغيان النعمة وعلو الهمة ويؤمروا بالوقوف عندما حكم عليهم من الأحكام وأخذوا فيه بالاختفاء والاكتتام فخمورهم تستر وشعائر دينهم لا تظهر وموتاهم تقبر بالخمول قبل أن تقبر فلا يوقد خلف ميتهم مصباح ولا يتبع بندب ولا صياح

ومما عرف الناس منكره إثارة التحريش بين الحيوانات وهي ذوات أكباد رطبة وأخلاق صعبة وما منها إلا ما يحل أكله ولا يحل قتله كالكبش والحجلة والديك والسماني وما أشبهها وقد أكثر الناس من اقتنائها والمواظبة على إضرام شحنائها ولربما نشأ من ذلك فتنة تؤل إلى ضراب وشق ثياب وإحداث شجاج وإثارة عجاج وتحزب إلى أحزاب كثيرة وأفواج
ويتصل بهذه المنكرات المذكورة أشياء أخرى تجري مجراها في التقديم وتتنزل منزلتها في التحريم فاحكم فيها بحكمك وامضي في شبهاتها بدليل علمك ونب عنا في التذكير والتحذير والتعريف والتنكيرِحتى يتقوم الأود ويتضح الرشد ويمكث في الأرض ما ينفع ويذهب الزبد وليكن عملك لله الذي يسمع ويرى وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى
واعلم أن الأمر بالمعروف عبادة يتعدى نفع صاحبها إلى غيره وتستضيف خير المأمور بها إلى خيره وهي الجهاد الأكبر الذي تقاتل فيه عواصي النفوس وتضرب به رءوس الشهوات التي هي أمنع من معاقد الرءوس فقتيله يحيا بقتله وجريحه يوسي بجراحة نصله وبمثل هذا الجهاد تستنزل أمداد النعم مضعفة كما تستنزل أمداد النصر مردفة فأقدم عليه ذا عزم باتر وطرف ساهر وقدم ثابت صابرِحتى تظل لمعاقل الشيطان فاتحا وتكون فيمن دعا إلى الله وعمل صالحا
واعلم أنك في صبيحة كل يوم يبتدرك الملك والشيطان وكل منهما يقول يأيها الإنسان فإن أجبت نداء الملك كتبك في زمرة من مهد لجنبه وخاف مقام ربه وعرج بك إلى الله طيبا نشره مضاعفا أجره وإن أجبت نداء الشيطان كتبك في زمرة من أغواه وقرنك بمن أغفل الله قلبه واتبع هواه ثم نزل به إلى الأرض خبيثا مخبثا وأقبل به على إخوانه من الشياطين محدثا
وهذا آخر ما عهدناه إليك من العهد الذي طوقت اليوم بكتابه وستناقش غدا على حسابه وكما جعلناه لك في الدنيا ذكرا فاجعله لك في الآخرة ذخرا إن شاء الله تعالى والسلام
وهذا الذي ذكرته في هذين من الكتاب والتقليد يتضمن إطنابا مستوفى

الأقسامِ ولولا خوف الإطالة التي لا حاجة إليها لأوردت قصائد من الشعر أيضا حتى لا يخلو الموضع من ضرب أمثلة من المنظوم والمنثور لكن في الذي ذكرته كفاية لمن يحمله على أشباهه ونظائره
فإن قيل إن الإطناب في الكلام وضعتموه اسما على غير مسمى فإن الكلام لا يخلو من حالين إما ألا يزيد لفظه على معناه وهو الإيجاز أو يزيد لفظه على معناه وهو التطويل وليس ههنا قسم ثالث فما الإطناب إذا ؟
قلت في الجواب اعلم أن الإيجاز هو ضد التطويل كما أن السواد ضد البياض غير أن بين الضدين مراتب ومنازل ليست أضدادا فالإطناب لا إيجاز هو ولا تطويل كما أن الحمرة أو الخضرة ليست بياضا ولا سوادا وقد قدمنا القول أن الإطناب يأتي في الكلام مؤكدا كالذي يأتي بزيادة التصوير للمعنى المقصود إما حقيقة وإما مجازا والتطويل ليس كذلك فإنه التعبير عن المعنى بلفظ زائد عليه يفهم ذلك المعنى بدونه فإذا حذفت تلك الزيادة بقي المعنى المعبر عنه على حاله لم يتغير منه شيء وهذا بخلاف الإطناب فإنه إذا حذفت منه تلك الزيادة المؤكدة للمعنى تغير ذلك المعنى وزال ذلك التأكيد عنه وذهبت فائدة التصوير والتخييل التي تفيد السامع ما لم يكن إلا بها ألا ترى إلى قوله تعالى ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) وهذا لا يسمى إيجازا لأنه أتى فيه بزيادة لفظ وهو ذكر الصدور وقد علم أن القلوب لا تكون إلا في الصدور ولا يسمى تطويلا لأن التطويل لا فائدة فيه أصلا وهذا فيه فائدة وهي ما أشرنا إليه وكذلك باقي أقسام الإطناب التي نبهناه عليها وهذا لا نزاع فيه

النوع السابع عشر
في التكرير
قد تقدم الكلام في صدر كتابي هذا على تكرار الحروف وما أشبه ذلك مما يختلط بهذا النوع الذي هو تكرار المعاني والألفاظ
واعلم أن هذا النوع من مقاتل علم البيان وهو دقيق المأخذ
وحده هو دلالة اللفظ على المعنى مرددا وربما اشتبه على أكثر الناس بالإطناب مرة وبالتطويل أخرى وقد تقدم الكلام على الفرق بين هذه الأنواع الثلاثة في باب الإطناب فلا حاجة إلى إعادته ههنا وأما التكرير فقد عرفتكه
وهو ينقسم قسمين أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى والآخر يوجد في المعنى دون اللفظ
فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى فكقولك لمن تستدعيه أسرع أسرع ومنه قول أبي الطيب المتنبي
( وَلَمْ أَرَ مِثْلَ جِيرَانِي وَمِثْلِي ... لِمِثْلي عِنْدَ مِثْلِهِمُ مُقَامُ )
وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك أطعني ولا تعصني فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية
وكل من هذين القسمين ينقسم إلى مفيد وغير مفيد ولا أعني بالمفيد ههنا ما يعنيه النحاة فإنه عندهم عبارة عن اللفظ المركبإما من الاسم مع الاسم بشرط أن يكون للأول بالثاني علاقة معنى يسع مكلفا جهله وإما من الاسم مع

الفعل التام المتصرف على هذا الشرط أيضا وإما من حرف النداء مع الاسم فهذا هو المفيد عند النحاة وأنا لم اقصد ذلك ههنا بل مقصودي من المفيد أن يأتي لمعنى وغير المفيد أن يأتي لغير معنى
واعلم أن المفيد من التكرير يأتي في الكلام تأكيدا له وتشيدا من أمره وإنما يفعل ذلك للدلالة على العناية بالشيء الذي كررت فيه كلامك إما مبالغة في مدحه أو ذمه أو غير ذلك ولا يأتي إلا في أحد طرفي الشيء المقصود بالذكر والوسط عار منه ولأن أحد الطرفين هو المقصود بالمبالغة إما بمدح أو ذم أو غيرهما والوسط ليس من شرط المبالغة وغير المفيد لا يأتي في الكلام إلا عيا وخطلا من غير حاجة إليه
فأما الأول - وهو الذي يوجد في اللفظ والمعنى - فإنه ينقسم إلى ضربين مفيد وغير مفيد
فالأول المفيد وهو فرعان الأول إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد والمقصود به غرضان مختلفان كقوله تعالى ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) هذا تكرير في اللفظ والمعنىِ وهو قوله ( يحق الحق ) و ( وليحق الحق ) إنما جيء به ههنا لاختلاف المراد وذاك أن الأول تمييز بين الإرادتين والثاني بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكه على غيرها وأنه ما نصرهم وخذل أولئك إلا لهذا الغرض
ومن هذا الباب قوله تعالى ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ) فكرر قوله تعالى ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) وقوله ( قل الله أعبد مخلصا له ديني ) والمراد به غرضان مختلفان و ذلك أن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة

والإخلاص في دينه والثاني إخبار بأنه يخص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة في الثاني وأخره في الأول لأن الكلام أولا واقع في الفعل نفسه وإيجاده وثانيا فيمن يفعل من أجله ولذلك رتب عليه ( فاعبدوا ما شئتم من دونه )
وعليه ورد قوله تعالى ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ) وظاهر الأول والثاني أنهما سواء في المعنى وليس كذلك لأن الثاني فيه تخصيص غير موجود في الأول ألا ترى أنا إذا قلنا زيد الأفضل وقلنا الأفضل زيد كان في الثاني تخصيص له بالفضل وهذا التخصيص لا يوجد في القول الأول الذي هو زيد الأفضل ويجوز أن تبدل صفة الفضل فيه بغيرها أو بضدها فيقال زيد الأجمل أو زيد الأنقص وإذا قلنا الأفضل زيد وجب تخصيصه بالفضل ولم يمكن تغييره عنه وكذلك يجري الحكم في هذه الآيةفإن الله تعالى قال ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ) ثم قال ( لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) فوصفهم بالامتناع عن الذهاب إلا بإذنه وهذه صفة يجوز أن تبدل بغيرها من الصفات كما قال تعالى في موضع آخر ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) فجاء بصفة غير تلك الصفة ولما قال ( إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ) وجب تخصيصهم بذلك الوصف دون غيره وهذا موضع حسن في تكرير المعاني
ومما يعد من هذا الباب قوله تعالى ( قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا انتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين ) وقد ظن قوم أن هذه الآية تكرير لا فائدة فيه وليس الأمر كذلك فإن معنى قوله ( لا أعبد ) يعني في المستقبل من عبادة آلهتكم وإلا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ( ولا أنا عابد ما عبدتم ) أي وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه يعني أنه لم يعهد مني عبادة صنم في الجاهلية في وقت

فكيف يرجى ذلك مني في الإسلام ( ولا أنتم عابدون ) في الماضي في وقت ما ما أنا على عبادته الآن
ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) فكرر ( الرحمن الرحيم ) مرتين والفائدة في ذلك أن الأول يتعلق بأمر الدنيا والثاني يتعلق بأمر الآخرة فما يتعلق بأمر الدنيا يرجع إلى خلق العالمين في كونه خلق كل منهم على أكمل صفة وأعطاه جميع ما يحتاج إليه حتى البقة والذباب وقد يرجع إلى غير الخلق كإدرار الأرزاق وغيرها وأما ما يتعلق بأمر الآخرة فهو إشارة إلى الرحمة الثانية في يوم القيامة الذي هو يوم الدين
وبالجملة فاعلم أنه ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره فإن رأيت شيئا منه تكرر من حيث الظاهر فأنعم نظرك فيهفانظر إلى سوابقه ولواحقهلتنكشف لك الفائدة منه
ومما ورد في القرآن الكريم مكررا قوله تعالى ( كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون ) فكرر واحد منهما لعلة فجعل الأول كونه أمينا فيما بينهم وجعل علة الثاني حسم طمعه عنهم وخلوه من الأغراض فيما يدعوهم إليه
من هذا النحو قوله تعالى ( كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ) وإنما كرر تكذيبهم ههنا لأنه لم يأت به على أسلوب واحد بل تنوع فيه بضروب من الصنعة فذكره أولا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه والتنوع في تكريره بالجملة الخبرية أولا وبالاستثنائية ثانيا وما في الاستثناء من الوضع

على وجه التوكيد والتخصيص المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأبلغه
وهذا باب من تكرير اللفظ والمعنى حسن غامض وبه تعريف موقع التكرير والفرق بينه وبين غيره فافهمه إن شاء الله تعالى
الفرع الثاني من الضرب الأول إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد والمراد به غرض واحد كقوله تعالى ( فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ) والتكرير دلالة على التعجب من تقديره وإصابته الغرض وهذا كما يقال قتله الله ما أشجعه أو ما أشعره وعليه ورد قوله الشاعر
( أَلاَ يَا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ... ) وهذا مبالغة في الدعاء لها بالسلامة وكل هذا يجاء به لتقرير المعنى المراد وإثباته
وعليه ورد الحديث النبوي وذاك أن النبي قال ( إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يطلق علي أبنتي وينكح ابنتهم ) فقوله ( لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن ) من التكرير الذي هو أشد موقعا من الإيجاز لانصباب العناية إلى تأكيد القول في منع علي رضي الله عنه من التزوج بابنة أبي جهل بن هشام
وهذا مثل قوله تعالى ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فاولى ) ومن أجل ذلك نقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له لأن قولنا ( لا إله إلا الله ) مثل قولنا ( وحده لا شريك له ) وهما في المعنى سواءِوإنما كررنا القول فيه لتقرير المعنى وإثباته وذاك لأن من الناس من يخالف فيه كالنصارى والثنوية والتكرير في مثل هذا المقام أبلغ من الإيجاز وأحسن وأسد موقعا
ومما جاء في مثل هذا قوله تعالى ( والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا

فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ) فقوله ( من قبله ) بعد قوله ( من قبل ) فيه دلالة على أن عهدهم بالمطر قد بعد وتطاول فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك
وعلى ذلك ورد قوله تعالى ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ) فقوله ( لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) يقوم مقام قوله ( ولا يدينون دين الحق ) لأن من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لا يدين دين الحق وإنما كرر ههنا للخطب على المأمور بقتالهم والتسجيل عليهم بالذم ورجمهم بالعظائم ليكون ذلك أدعى لوجوب قتالهم وحربهم وقد قلنا إن التكرير إنما يأتي لما أهم من الأمر الذي بصرف العناية إليه يثبت ويتقرر
كذلك ورد قوله تعالى ( وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديدأولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) فتكرير لفظه ( أولئك ) من هذا الباب الذي أشرنا إليهلمكان شدة النكيرِ وإغلاظ العقاب بسبب إنكارهم البعث
وعلى هذا ورد قوله تعالى ( أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ) فإنه إنما تكررت لفظة ( هم ) للإيذان بتحقيق الخسارِ و الأصل فيها وهم في الآخرة الأخسرونلكن لما أريد تأكيد ذلك جيء بتكرير هذه اللفظة المشار اليها
كذلك قوله تعالى ( فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها )
أمثال هذا في القرآن كثير
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة القصص ( فأصبح في المدينة خائفا

يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ) فقوله تعالى ( فلما أن أراد أن يبطش ) بتكرير أن مرتين دليل على أن موسى عليه السلام لم تكن مسارعته إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته إلى قتل الأول بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه فعبر القرآن عن ذلك في قوله تعالى ( فلما أراد أن يبطش )
وجرت بيني وبين رجل من النحويين مفاوضة في هذه الآية فقال إن أن الأولى زائدة ولو حذفت فقيل فلما أراد أن يبطش لكان المعنى سواء ألا ترى إلى قوله تعالى ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه ) وقد اتفق النحاة على أن أن الواردة بعد لما وقبل الفعل زائدة فقلت له النحاة لا فتيا لهم في مواقع الفصاحة والبلاغة ولا عندهم معرفة بأسرارهما من حيث إنهم نحاة ولا شك أنهم وجدوا أن ترد بعد لما وقبل الفعل في القرآن الكريم وفي كلام فصحاء العرب فظنوا أن المعنى بوجودها كالمعنى إذا أسقطت فقالوا هذه زائدة وليس الأمر كذلك بل إذا وردت لما وورد الفعل بعدها بإسقاط أن دل ذلك على الفور وأذا لم تسقط لم يدلنا ذلك على أن الفعل كان على الفور وإنما كان فيه تراخ وإبطاء
وبيان ذلك وجهين
أحدهما أني أقول فائدة وضع الألفاظ أن تكون أدلة على المعاني فإذا أوردت لفظة من الألفاظ في كلام مشهود له بالفصاحة والبلاغة فالأولى أن تحمل تلك اللفظة على معنى فإن لم يوجد لها معنى بعد التنقيب والتنقير والبحث الطويل قيل هذه زائدة دخولها في الكلام كخروجها منه ولما نظرت أنا في هذه الآية وجدت لفظة " أن " الواردة بعد " لما " وقبل الفعل دالة على معنى وإذا كانت دالة على معنى فكيف يسوغ أن يقال إنها زائدة
فإن قيل إنها إذا كانت دالة على معنى فيجوز أن تكون دالة على غير ما أشرت أنت إليه
قلت في الجواب إذا ثبت أنها دالة على معنى فالذي أشرت إليه معنى

مناسب واقع في موقعه وإذا كان مناسبا واقعا في موقعه فقد حصل المراد منه ودل الدليل حينئذ أنها ليست بزائدة
الوجه الآخر أن هذه اللفظة لو كانت زائدة لكان ذلك قدحا في كلام الله تعالى وذاك أنه يكون قد نطق بزيادة في كلامه لا حاجة إليها والمعنى يتم بدونها وحينئذ لا يكون كلامه معجزا إذ من شرط الإعجاز عدم التطويل الذي لا حاجة إليه وإن التطويل عيب في الكلام فكيف يكون ما هو عيب في الكلام من باب الإعجاز ؟ هذا محال
وأما قوله تعالى ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه ) فإنه إذا نظر في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته منذ ألقوه في الجب وإلى أن جاء البشير إلى أبيه عليه السلام وجد أنه كان ثم إبطاء بعيد وقد اختلف المفسرون في طول تلك المدة ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول لما جيء بأن بعد لما وقبل الفعل بل كانت تكون الآية فلما جاء البشير ألقاه على وجهه
وهذه دقائق ورموز لا تؤخذ من النحاة لأنها ليست من شأنهم
واعلم أن من هذا النوع قسما يكون المعنى فيه مضافا إلى نفسه مع اختلاف اللفظ وذلك يأتي في الألفاظ المترادفة وقد ورد في القرآن الكريم واستعمل في فصيح الكلام
فمنه قوله تعالى ( والذين سعوا في آياتنا معجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) والرجز هو العذاب
وعليه ورد قول أبي تمام
( نهُوضُُ بِثِقْلِ الْعِبْءِ مُضْطَلِعٌ بِهِ ... وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْخُطُوبُ وَجَلَّتِ )

والثقل هو العبء والعبء هو الثقل وكذلك ورد قول البحتري
( وَيَوْمَ تَثَنَّتْ لِلْوَدَاع وَسَلَّمَتْ ... بِعَيْنَيْنِ مَوْصُولٍ بِلَحْظِهِمَا الْسِّحْرُ )
( تَوَهَّمْتُهَا أَلْوَى بِأَجْفَانِهَا الْكَرى ... كَرَى النَّوْمِ أَوْ مَالَتْ بِأَعْطَافِهَا الْخَمْرُ ) فإن الكرى هو النوم
وربما أشكل هذا الموضع على كثير من متعاطي هذه الصناعة وظنوه مما لا فائدة فيه وليس كذلك بل الفائدة فيه هي التأكيد للمعنى المقصود والمبالغة فيه
أما الآية فالمراد بقوله تعالى ( عذاب من رجز ) أي عذاب مضاعف من عذاب
وأما بيت أبي تمام فإنه تضمن المبالغة في وصف الممدوح بحمله للأثقال
وأما بيت البحتري فإنه أراد أن يشبه طرفها لفتوره بالنائم فكرر المعنى فيه على طريق المضاف والمضاف إليه تأكيدا له وزيادة في بيانه
وهذا الموضع لم ينبه عليه أحد سواي
ولربما أدخل في التكوير من هذا النوع ما ليس منه وهو موضع لم ينبه عليه أيضا أحد سواي
فمنه قوله تعالى ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ) فلما تكرر ( إن ربك ) مرتين علم أن ذلك أدل على المغفرة

وكذلك قوله تعالى ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم )
ومثل قوله تعالى ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب )
وهذه الآيات يظن أنها من باب التكرير وليست كذلك وقد أنعمت نظري فيها فرأيتها خارجة عن حكم التكرير وذاك أنه إذا طال الفصل من الكلام وكان أوله يفتقر إلى تمام لا يفهم إلا به فالأولى في باب الفصاحة أن يعاد لفظ الأول مرة ثانية ليكون مقارنا لتمام الفصل كي لا يجيء الكلام منثورا لا سيما في إن وأخواتهافإذا وردت إن وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام فإعادة إن أحسن في حكم البلاغة والفصاحةكالذي تقدم من هذه الآيات
وعليه ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة
( أَسِجْنَاً وَقَيْداً وَاشْتِيَاقَاً وَغُرْبَةً ... وَنَأْيَ حَبِيبٍ إِنَّ ذَا لَعَظِيمُ )
( وَإِنَّ امْرَأً دَامَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ ... عَلَى مِثْلِ هَذَا إنَّهُ لَكَرِيمُ )
فإنه لما طال الكلام بين اسم إن وخبرها أعيدت إن مرة ثانية لأن تقدير الكلام وإن أمرا دامت مواثيق عهده على مثل هذا لكريم لكن بين الاسم والخبر مدى طويل فإذا لم تعد إن مرة ثانية لم يأت على الكلام بهجة ولا رونق وهذا لا يتنبه لاستعماله إلا الفصحاء إما طبعا وإما علما
وكذلك يجري الأمر إذا كان خبر إن عاملا في معمول يطول ذكره فإن إعادة الخبر ثانية هو الأحسن
وعلى هذا جاء قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام ( إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) فلما

حذف 156

( إني رأيت ) ثم طال الفصل كان الأحسن أن يعيد لفظ الرؤية فيقول ( رأيتهم لي ساجدين )
وكذلك جاءت الآية المذكورة ههنا قبل هذه وهي قوله تعالى ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ) فإنه لما طال الفصل أعاد قوله ( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ) فاعلم ذلك وضع يدك عليه
وكذلك الآية التي قبلها وهي قوله تعالى ( ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة )
وكذلك الآية الأخرى وهي ( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا )
ومن باب التكرير في اللفظ والمعنى الدال على معنى واحد قوله عز و جل ( وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ) فإنه إنما كرر نداء قومه ههنا لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة ولأنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم من الضلال وهو يعلم وجه خلاصهم ونصيحتهم عليه واجبه فهو يتحزن لهم ويتلطف بهم ويستدعي بذلك ألا يتهموه فإن سرورهم سروره وغمهم غمه وأن ينزلوا على نصيحته لهم وهذا من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز وأسد موقعا من الإختصارفاعرفه إن شاء الله تعالى
وعلى نحو منه جاء قوله تعالى في سورة القمر ( فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) فإنه قد تكرر ذلك في السورة كثيرا وفائدته أن يجددوا عنه استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا وإيقاظا وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث إليه وأن تقرع لهم العصا مرات لئلا يغلبهم السهو وتستولي عليهم الغفلة
وهكذا حكم التكرير في قوله تعالى في سورة الرحمن ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) وذلك عند كل نعمة عددها على عباده

أمثال هذا في القرآن الكريم كثير ومما ورد من هذا النوع شعرا قول بعض شعراء الحماسة
( إِلَى مَعْدِنِ الْعِزِّ الْمُؤَثَّلِ وَالْنَّدى ... هُناكَ هُناكَ الفَضْلُ وَ الخُلُقُ الجَزْلُ )
فقوله ( هناك هناك ) من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجازلأنه في معرض مدحِفهو يقرر في نفس السامع ما عند الممدوح من هذه الأوصاف المذكورة مشيرا إليهاِكأنه قال أدلكم على معدن كذا وكذا ومقره ومفاده وكذلك ورد فول المساور بن هند
( جَزى اللهُ عَنِّي غالِباً مِنْ عَشيرَةٍ ... إِذا حَدَثانُ الدَّهْرِ نابَتْ نَوائِبُهُ )
( فَكَمْ دافَعوا مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ تَلاحَمَتْ ... عَلَيَّ وَمَوْجٍ قَدْ عَلَتْني غَوارِبُهُ ) فصدر البيت الثاني وعجزه يدلان على معنى واحدلأن تلاحم الكرب عليه كتعالي الموج من فوقهِوإنما سوغ ذلك لأنه مقام مدح وإطراءِالا ترى أنه يصف إحسان هؤلاء القوم عند دثان دهره في التكريرِوفي قبالته لو كان القائل هاجيافأن الهجاء في هذا كالمدحِوالتكرير إنما يحسن في كلا الطرفينِلا في الوسط
واعلم أنه إذا وردت ( إن ) المكسورة المخففة بعد ( ما ) كانت بمعناها سواءِألا ترى إلى قوله تعالى ( إن هم إلا كالأنعام ) فإن وما بمعنى واحدِوإذا أوردت من بعد ما كانت من باب التكريرِكقولنا ما إن يكون كذا وكذا أي ما يكون كذا وكذاِوإذا وردت في الكلام فإنما ترد في مثل ما أشرنا إليه من التكريرفإن استعملت في غير ما يكون منها لفائدة ينتجها تكريرها كان استعمالها لغوا لا فائدة فيه

وقد زعم قوم من مدعي هذه الصناعة أن أبا الطيب المتنبي أتى في هذا البيت بتكرير لا حاجة به إليه وهو قوله
( الْعَارِضُ الْهَتِنُ ابْنُ الْعَارِضِ الْهَتِنِ ابْنِ الْعَارِضِ الْهَتِنِ ابْنِ الْعَارِضِ الْهَتِنِ ... )
وليس في هذا البيت من تكريرفإنه كقولك الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا أي أنه عريق النسب في هذا الوصف
وقد ورد في الحديث النبوي مثل ذلككقول النبي في وصف يوسف الصديق عليه السلام ( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم )
ولقد فاوضني في هذا البيت المشار إليه بعض علماء الأدب وأخذ يطعن فيه من جهة تكراره فوقفته على مواضع الصواب منه وعرفته أنه كالخبر النبوي من جهة المعنى سواء بسواء لكن لفظه ليس بمرضي على هذا الوجه الذي قد استعمل فيه فإن الألفاظ إذا كانت حسانا في حال انفرادها فإن استعمالها في حال التركيب يزيدها حسنا على حسنها أو يذهب ذلك الحسن عنها وقد تقدم الكلام على ذلك في المقالة الأولى من الصناعة اللفظية ولو تهيأ لأبي الطيب المتنبي أن يبدل لفظه العارض بلفظه السحاب أوما ما يجري مجراها لكان أحسن وكذلك لفظه الهتن فإنها ليست بمرضية في هذا الموضع على هذا الوجه ولفظة العارض وإن كانت قد وردت في القرآن وهي لفظة حسنة فالفرق بين ورودها في القرآن الكريم وورودها في هذا البيت الشعري ظاهر وقد تقدم الكلام على مثلها من آية وبيت لأبي الطيب أيضا وهو في المقالة اللفظية عند الكلام على الألفاظ المفردة فليؤخذ من هناك وكثيرا ما يقع الجهال في مثل هذه المواضع وهم الذين قيل لهم

( وَكَذا كُلُّ أَخِي حَذْلَقَةٍ ... مَا مَشَى فِي يابِسٍ إِلاَّ زَلَقْ )
فترى أحدهم قد جمع نفسه وظن على جهله أنه عالم فيسرع في وصف كلام بالإيجاز وكلام بالتطويل أو بالتكرير وإذا طولب بأن يبدي سببا لما ذكره لم يوجد عنده من القول شيء إلا تحكما محضا صادرا عن جهل محض
الضرب الثاني من التكرير في اللفظ والمعنى وهو غير المفيدفمن ذلك قول مروان الأصغر
( سَقَى اللهُ نَجْداً وَالسَّلامُ عَلَى نَجْدِ ... وَيَا حَبَّذا نَجْدٌ عَلَى النَّأْيِ وَالْبُعْدِ )
( نَظَرْتُ إِلَى نَجْدٍ وَبَغْدَادُ دُونَهَا ... لَعَلِّي أَرَى نَجْداً وَهَيْهَاتَ مِنْ نَجْدِ ) ُ
وهذا من العي الضعيف فإنه كرر ذكر نجد في البيت الأول ثلاثا وفي البيت الثاني ثلاثا ومراده في الأول الثناء على نجد وفي الثاني أنه تلفت إليها ناظرا من بغداد وذلك مرمى بعيد وهذا المعنى لا يحتاج إلى مثل هذا التكرير أما البيت الأول فيحمل على الجائز من التكرير لأنه مقام تشوق وتحرق وموجدة بفراق نجد ولما كان كذلك أجيز فيه التكرير على انه قد كان يمكنه أن يصوغ هذا المعنى الوارد في البيتين معا من غير أن يأتي بهذا التكرير المتتابع ست مرات
وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي نواس
( أَقَمْنَا بِهَا يَوْماً وَيَوْماً وَثالِثاً ... وَيوْماً لَهُ يَوْمُ الْتَّرَحُّلِ خَامِسُ )
ومراده من ذلك أنهم أقاموا بها أربعة أيام ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن التي تقدم ذكرها في باب الإيجاز وهي
( وَدارِ نَدَامَى عَطَّلُوها وَأَدْلَجُوا ... )

ومن هذا الباب أيضا ما أوردناه في صدر هذا النوع وهو قول أبي الطيب المتنبي
( وَلَمْ أَرَ مِثْلَ جِيرانِي وَمِثْلِي ... لِمِثْلِي عِنْدَ مِثْلِهِمُ مُقَامُ )
فهذا هو التكرير الفاحش الذي يؤثر في الكلام نقصا ألا ترى أنه يقول لم أر مثل جيراني في سوء الجوار ولا مثلي في مصابرتهم ومقامي عندهم إلا انه قد كرر هذا المعني في البيت مرتين
وعلى نحو من ذلك جاء قوله أيضا
( وٌقَلْقَلْتُ بِالْهَمِّ الَّذِي قَلْقَلَ الْحَشَى ... قَلاقِلَ عِيسٍ كُلُّهُنَّ قَلاقِلُ )
وأما القسم الثاني من التكرير وهو الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فذلك ضربان مفيد وغير مفيد
الضرب الأول المفيد وهو فرعان
الأول إذا كان التكرير في المعنى يدل على معنيين مختلفين وهو موضع من التكرير مشكل لأنه يسبق إلى الوهم أنه تكرير يدل على معنى واحد
فمما جاء منه حديث حاطب بن أبي بلتعة في غزوة الفتح وذاك أن النبي أمر علي بن أبي طالب والزبير والمقداد رضي الله عنهم فقال ( اذهبوا إلى روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فأتوني به ) قال علي رضي الله عنه فخرجنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة وإذا فيها الظعينة فأخذنا الكتاب من عقاصها وأتينا به رسول الله وإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض شأن رسول الله فقال له ما هذا يا حاطب فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة تحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك

ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله ( إنه قد صدقكم ) فقوله ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام من التكرير الحسن وبعض الجهال يظنه تكريرا لا فائدة فيه فإن الكفر والارتداد عن الدين سواء وكذلك الرضا بالكفر بعد الإسلام وليس كذلك والذي يدل عليه اللفظ هو أني لم أفعل ذلك وأنا كافر أي باق على الكفر ولا مرتدا أي أني كفرت بعد إسلامي ولا رضا بالكفر بعد الإسلام أي ولا إيثارا لجانب الكفار على جانب المسلمين وهذا حسن في مكانه واقع في موقعه وقد يحمل التكرير فيه على غير هذا الفرع الذي نحن بصدد ذكره ههنا وهو الذي يكون التكرير فيه يدل على معنى واحد وسيأتي بيانه في الفرع الثاني الذي يلي هذا الفرع الأول والذي يجوزه أن هذا المقام هو مقام اعتذار وتنصل عما رمي به من تلك القارعة العظيمة التي هي نفاق وكفر فكرر المعنى في اعتذاره قصدا للتأكيد والتقرير لما ينفي عنه ما رمي به
ومما ينتظم بهذا السلك أنه إذا كان التكرير في المعنى يدل على معنيين أحدهما خاص والآخر عام كقوله تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) فإن الأمر بالمعروف داخل تحت الدعاء إلى الخير لأن الأمر بالمعروف خاص والخير عام فكل أمر بالمعروف خير وليس كل خير أمرا بالمعروف وذاك أن الخير أنواع كثيرة من جملتها الأمر بالمعروف ففائدة التكرير ههنا أنه ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضله كقوله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) وكقوله تعالى ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) وكقوله تعالى ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ) فإن الجبال داخلة في جملة الأرض لكن لفظ الأرض عام والجبال خاص وفائدته ههنا تعظيم شأن الأمانة المشار إليها وتفخيم أمرها وقد ورد هذا في القرآن الكريم كثيرا
ومما ورد منه شعرا قول المقنع الكندي من أبيات الحماسة

( وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي ... بَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدًّا )
( إِذَا أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ ... وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا )
( وَإِنْ ضَيَّعُوا غَيْبي حَفِظْتُ غُيُوبَهُمْ ... وَإِنْ هُمْ هَوُوا غَيِّ هَوِيتُ لَهُمْ رُشْدَا )
فهذا من الخاص والعام فإن كل لحم يؤكل للإنسان فهو تضييع لغيبه وليس كل تضييع لغيبه أكلا للحمه ألا ترى أن أكل اللحم هو كناية عن الاغتياب وأما تضييع الغيب فمنه الاغتياب ومنه التخلي عن النصرة والإعانة ومنه إهمال السعي في كل ما يعود بالنفع كائنا ما كان وعلى هذا فإن هذين البيتين من الخاص والعام المشار إليه في الآية المقدم ذكرها وهو موضع يرد في الكلام البليغ ويظن أنه لا فائدة فيه
الفرع الثاني إذا كان التكرير في المعنى يدل على معنى واحد لا غير وقد سبق مثال ذلك في أول هذا الباب كقولك أطعني ولا تعصني فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية والفائدة في ذلك تثبيت الطاعة في نفس المخاطب
والكلام في هذا الموضع كالكلام في الموضع الذي قبله من تكرير اللفظ والمعنى إذا كان الغرض به شيئا واحدا ولا نجد شيئا من ذلك يأتي في الكلام إلا لتأكيد الغرض المقصود به كقوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ) فإنه إنما كرر العفو والصفح والمغفرة والجميع بمعنى واحد للزيادة في تحسين عفو الوالد عن ولده والزوج عن زوجته وهذا وأمثاله ينظر في الغرض المقصود به وهو موضع يكون التكرير فيه أوجز من لمحة الإيجاز وأولى بالاستعمال
وقد ورد في القرآن الكريم كثيرا كقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام ( قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) فإن البث والحزن بمعنى واحد وإنما ههنا لشدة الخطب النازل به وتكاثر سهامه النافذة في قلبه وهذا المعنى كالذي قبله
وكذلك ورد قوله تعالى ( تلك عشرة كاملة ) بعد ثلاثة وسبعة تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة مرتين لأن عشرة هي ثلاثة وسبعة ثم قال " كاملة " وذلك توكيد

ثالث والمراد به إيجاب صوم الأيام السبعة عند الرجوع في الطريق على الفور لا عند الوصول إلى البلد كما ذهب إليه بعض الفقهاء وبيانه أني أقول إذا صدر الأمر من الآمر على المأمور بلفظ التكرير مجردا من قرينه تخرجه عن وصفه ولم يكن موقتا بوقت معين كان ذلك حثا على المبادرة إلى امتثال الأمر على الفور فإنك إذا قلت لمن تأمره بالقيام قم قم قم فإنما تريد بهذا اللفظ المكرر أن يبادر إلى القيام في تلك الحال الحاضرة
فإن قلت الغرض بتكرير الأمر أن يتكرر في نفس المأمور أنه مراد منه وليس الغرض الحث على المبادرة إلى امتثال الأمر
قلت في الجواب إن المرة الواحدة كافية في معرفة المأمور أن الذي أمر به مراد منه والزيادة على المرة الواحدة لا تخلو إما أن تكون دالة على ما دلت عليه المرة الواحدة أو دالة على زيادة معنى لم تكن في المرة الواحدة فإن كانت دالة على ما دلت عليه المرة الواحدة كان ذلك تطويلا في الكلام لا حاجة إليه وقد ورد مثله في القرآن الكريم كهذه الآية المشار إليها وغيرها من الآيات والتطويل في الكلام عيب فاحش عند البلغاء والفصحاء والقرآن معجز ببلاغته وفصاحته فكيف يكون فيه تطويل لا حاجة إليه فينبغي أن تكون تلك الزيادة دالة على معنى زائد على ما دلت عليه المرة الواحدة وإذا ثبت هذا فتلك الزيادة هي الحث على المبادرة إلى امتثال الأمر فإن سلمت لي ذلك وإلا فبين معنى تلك الزيادة ببيان غير ما ذكرته أنا ولا أراك تستطيع ذلك
فإن قلت إن الواو في قوله تعالى ( وسبعة إذا رجعتم ) لولا أن تؤكد بقوله ( تلك عشرة ) لظن أنها وردت بمعنى أو أي فثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم فلما قيل ( تلك عشرة ) زال هذا الظن وتحققت الواو أنها عاطفة وليست بمعنى أو
قلت في الجواب هذا باطل من أربعة أوجه الوجه الأول أن الواو العاطفة لا تجعل بمعنى أو أين وردت من الكلام وإنما تجعل بمعنى أو حال ضرورة

ترجيح جانبها على جانب جعلها عاطفة لأن الأصل فيها أن تكون عاطفة فإذا عدل بها عن أصلها احتاج إلى ترجيح ولا ترجيح ههنا الوجه الثاني بلاغي وذاك أن القرآن الكريم منتهى البلاغة والفصاحة لمكان إعجازه فلو كان معنى الواو في هذه الآية بمعنى أو لقيل فثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ولم يحتج إلى هذا التطويل في قوله ( فثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) الوجه الثالث أن هذا الصوم حكم من أحكام العبادات والعبادات يجب فيها الاحتياط أن تؤدى على أكمل صورة لئلا يدخلها النقص وإذا كان الأمر على ذلك فكيف يظن أن الواو في هذه الآية بمعنى أو ؟ الوجه الرابع أن السبعة ليست مماثلة للثلاثة حتى تجعل في قبالتها لأن معنى الآية إذا كانت الواو فيها بمعنى أو إما أن تصوموا ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم
فإن قلت هذا تعبد لا يعقل معناه كغيره من التعبدات التي لا يعقل معناها
قلت في الجواب إن لنا من التعبدات ما لا يعقل معناه كعدد ركعات الصلوات وعدد الطواف والسعي وأشباه ذلك ولنا ما يعقل معناه كهذه الآية فإنا نعقل التفاوت بين الصوم في الحضر والسفر ونعقل التفاوت بين العدد الكثير والعدد القليل وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون صوم الأيام السبعة عند الرجوع في الطريق أو عند الوصول إلى البلدفإذا كان في الطريق فإنه أشق من الصوم بمكةلأن الصوم في السفر أشق من الصوم في الحضرفكيف يجعل صوم سبعة أيام في السفر في مقابلة صوم ثلاثة أيام بمكة ؟ وإن كان الصوم عند الوصول إلى البلد فلا فرق بين الصوم بمكة والصوم عند الوصول إلى البلدلأن كليهما صوم في المقام ببلد من البلاد لا تفاوت بينهما حتى يجعل الصوم ثلاثة أيام في مقابلة سبعة أيام على غير مثال ولا تساوفعلى كلا التقديرين لا يجوز أن تكون الواو في ( وسبعة إذا رجعتم ) بمعنى أوفتحقق إذا أنها للعطف خاصةِ وإذا كانت للعطف خاصة فتأكيدها بعشرة كاملة دليل على أن المراد وجود صوم الأيام السبعة في الطريق قبل الوصول إلى البلد
فإن قلت إن الصوم بمكة أشق من الصوم في الطريقلأن الواجب عليه

الصوم بمكة في نصب وتعب بتصريف زمانه في السعي والطواف والصلاة والعمرة وغير ذلك
قلت في الجواب هذا لا يلزم إذ الواجب عليه سعي واحد وطواف واحد لا غير وما عدا ذلك نافلة لا يلزم ونحن في هذا المقام ناظرون إلى ما يجب لا إلى النافلة والذي يجب أداؤه بمكة يفرغ منه في ساعة واحدة فكيف تجعل الزيادة على ذلك دليلا يورد في هذا المقام ؟ هذا غير وارد
هكذا ورد قوله تعالى ( فإذا نقر في الناقورفذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ) فقوله ( غير يسير ) بعد قوله ( عسير ) من هذا النوع المشار إليه وإلا فقد علم أن العسير لا يكون يسيرا وإنما ذكر ههنا على هذا الوجه لتعظيم شأن ذلك اليوم في عسره وشدته على الكافرين
وكذلك ورد قوله تعالى ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ) فإن البغضاء والعداوة بمعنى واحد وإنما حسن إيرادهما معا في معرض واحد لتأكيد البراءة بين إبراهيم صلوات الله عليه والذين آمنوا به وبين الكفار من قومهم حيث لم يؤمنوا بالله وحده وللمبالغة في إظهار القطيعة والمصارمة
وورد مثل ذلك في مثل هذا الموضع كالإيجاز في موضعه ولن ترى شيئا يرد في القرآن الكريم من هذا القبيل إلا وهو لأمر اقتضاه وإن خفي عنك موضع السر فيه فاسأل عنه أهله العارفين به
ومما ورد منه شعرا قول بعضهم في أبيات الحماسة

( نَزَلْتُ عَلَى آلِ المُهَلَّبِ شَاتِياً ... بَعِيداً عَنِ الأوْطَانِ فِي زَمَنِ الْمَحْلِ )
( فَمَا زَالَ بِي إكْرَامُهُمْ وَافْتِقَادُهُمْ ... وَإحْسَانُهُمْ حَتَّى حَسِبْتُهُمُ أَهْلِي ) فإن الإكرام والافتقاد داخلان تحت الإحسان وإنما كرر ذلك للتنويه بذكر الصنيع والإيجاب لحقه
وعلى هذا ورد قول الأعشى في قصيدته المشهورة التي يمدح بها النبيفقال منها
( فَآلَيْتُ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ ... وَلاَ مِنْ وَجًى حَتَّى تُلاَقِي مُحَمَّدَا )
فإن الوجى والكلالة معناهما سواء وإنما حسن تكريره ههنا للإشعار ببعد المسافة
الضرب الثاني من القسم الثاني في تكرير المعنى دون اللفظ وهو غير المفيد فمن ذلك قول أبي تمام
( قَسَمَ الزَّمَانُ رُبُوعَهَا بَيْنَ الصَّبَا ... وَقَبُولِهَا وَدَبُورِهَا أَثْلاَثَا )
فإن الصبا هي القبول وليس ذلك مثل التكرير في قوله تعالى ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) فيما يرجع إلى اللفظ والمعنى ولا مثل التكرير في قوله تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ) فيما يرجع إلى تكرير المعنى دون اللفظ وقول أبي تمام الصبا والقبول لا يشتمل إلا على معنى واحد لا غير
وهذا الضرب من التكرير قد خبط فيه علماء البيان خبطا كثيرا والأكثر منهم

أجازه فقالوا إذا كانت الألفاظ متغايرة والمعنى المعبر عنه واحدا فليس استعمال ذلك بمعيب وهذا القول فيه نظر والذي عندي فيه أن الناثر يعاب على استعماله مطلقا إذا أتى لغير فائدة وأما الناظم فإنه يعاب عليه في موضع دون موضع أما الموضع الذي يعاب استعماله فيه فهو صدور الأبيات الشعرية وما والاها وأما الموضع الذي لا يعاب استعماله فيه فهو الأعجاز من الأبيات لمكان القافية وإنما جاز ذلك ولم يكن عيبا لأنه قافية والشاعر مضطر إليها والمضطر يحل له ما حرم عليهكقول امريء القيس في قصيدته اللامية التي مطلعها
( ألاَ اْنعِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الطَّلَلُ الْبَالِي ... ) فقال
( وَهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُُ الهُمُومِ لاَ يَبِيتُ بِأَوْجَالِ ) وإذا كان قليل الهموم فإنه لا يبيت بأوجال وهذا تكرير للمعنى إلا أنه ليس بمعيب لأنه قافية وكذلك ورد قول الحطيئة
( قَالَتْ أُمَامَةُ لاَ تَجْزَعْ فَقُلْتُ لَهَا ... إنَّ الْعَزَاءَ وَإنَّ الصَّبْرَ قَذْ غُلِبَا )
( هَلاَّ الْتَمَسْتِ لَنَا إنْ كُنْتِ صَادِقَةً ... مَالاً نَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ أَوْ نَشَبَا )
فالبيت الأول معيب لأنه كرر العزاء والصبر إذ معناهما واحد ولم يردا قافيةلأن القافية هي الباءِوأما البيت الثاني فليس بمعيبلأن التكرير جاء في النشب وهو قافية ومما يجري هذا المجرى قول المنخل اليشكري

( وَلَقَدْ دَخَلْتُ عَلَى الْفَتَاةِ ... الْخِدْرَ فِيِ الْيَوْمِ الْمَطِيرِ )
( الْكَاعِبِ الْحَسْنَاءِ تَرْفُلُ ... فِي الْدِّمْقْسِ وَفِي الْحَرِيرِ ) فإن الدمقس والحرير سواءِوقد ورد قافية فلا بأس به من أجل ذلك
فإن قيل إن الحرير هو الإبريسم المنسوج بدليل قوله تعالى ( وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ) فإنه لم يرد خيوط إبريسم وإنما أراد أثوابا من الإبريسم وأما الدمقس فإنه خيوط الإبريسم محلولة بدليل قول امرىء القيس
( وَشَحْمٍ كَهُدَّابِ الْدِّمَقْسِ الْمُفَتَّلِ ... ) فإنه لم يرد إبريسما منسوجا ِوإنما أراد خيوط الإبريسم
فالجواب عن ذلك أنه لو حمل بيت المنخل على ذلك لفسد معناه لأن المرأة لا ترفل في خيوط من الإبريسم وإنما ترفل في الأثواب منه وأما قول امرئ القيس ( ( كهداب الدمقس ) ) فإنه لو كان الدمقس هو الخيوط المحلولة من الإبريسم لما احتاج أن يقول ( ( كهداب ) ) فإن الهداب جمع هدب ثم قال ( ( المفتل ) ) فدل بذلك على أن الدمقس يطلق على الإبريسمِ سواء كان منسوجا أو غير منسوج وكذلك الحرير أيضاِ وعند الاستعمال يفهم المراد منه بالقرينةِ ألا ترى أنه لما قال المنخل ( ترفل في الدمقس وفي الحرير ) فهم من ذلك أنه أراد أثوابا من الدمقس ومن الحريرلأن الرفول لا يكون في خيوط من الإبريسمِ وإنما يكون في أثوابه
ومما يجري على هذا النهج قول الآخر من شعراء الحماسة

( إِنِّي وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَمِّيَ غَائِبَاً ... لَمُقَادِفُُ مِنْ خَلْفِهِ وَوَرَائِهِ )
فإن خلفا ووراء بمعنى واحدِوإنما جاز تكرارهما لأنهما قافية
وعلى هذا ورد قول أبي تمام
( دِمَنٌ كَأَنَّ الْبَيْنَ أَصْبَحَ طَالِبَاً ... دِمَنَاً لَدَى آرَامِهَا وَحُقُودا )
فإن الدمنة هي الحقد
وكذلك قول أبي الطيب المتنبي
( بَحْرٌ تَعَوَّدَ أنْ يُذِمَّ لأَهْلِهِ ... مِنْ دَهْرِهِ وَطِوَارِقِ الْحِدْثَانِ )
( فَتَرَكْتَهُ وَإِذا أَذَمَّ مِنَ الْوَرَى ... رَاعَاكَ وَاسْتَثْنَى بَنِي حَمْدَانِ )
فإن الدهر وطوارق الحدثان سواء وإنما جاز استعمال ذلك لأنه قافية
وأما ما ورد في أثناء الأبيات الشعرية فكقول عنترة
( حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ )

فقوله " أقوى وأقفر " من المعيب لأنهما لفظان وردا بمعنى واحد لغير ضرورةإذ الضرورة لا تكون إلا في القافية كما أريتك
وأما ما ورد من صدور الأبيات فكقول البحتري في قصيدته العينية
( أَلَمَّتْ وَهَلْ إلْمَامُهَا بِكَ نَافِعٌ ... وَزَارَتْ خَيَالاً وَالْعُيُونُ هَوَاجِعُ )
فإن قوله " ألمت " وقوله " زارت خيالا " سواءِولا فرق إذا بين صدر البيت وعجزه
فإن قيل إنه أراد بالإلمام زيارة اليقظة ثم قال " وزارت خيالا "
فالجواب عن ذلك أنه لم يرد إلا زيارة المنام في الحالتين لأنه قال " ألمت وهل إلمامها بك نافع " ولو كان الإلمام في اليقظة لما قال " وهل إلمامها بك نافع " فإنه لا نفع من زيارة المحبوب في اليقظة وهذا غير خاف لا يحتاج إلى السؤال عنه
فإن قيل لم أجزت ذلك للناظم وحظرته على الناثر ؟ قلت في الجواب أما الناثر إذا سجع كلامه فالغالب أن يأتي به مزدوجا على فقرتين من الفقر ويمكنه إبدال تلك الفقرتين بغيرهما فيسلم منه وأما الشاعر فإنه يصوغ قصيدا ذا أبيات متعددة على قافية من القوافي فإذا تكرر لديه شيء من الكلام في آخر بيت من الأبيات عسر إبداله من أجل القافية وهذا غير خاف والسؤال عنه غير وارد وهذا الذي ذكرته إذا ورد في غير القافية سمي إخلاءا ويقال إن البحتري كان يخلي كثيرا في شعره وهو لعمري كذلك إلا أن حسن سبكه ورونق ديباجته يغفر له ذلك

ويروى عنه أنه كان إذا مثل بين يدي الفتح بن خاقان وزير المتوكل مادحا له اختال بين يديه معجبا بنفسه فتقدم خطوات ثم تأخر وقال أي شيء تسمعون فنقم عليه ذلك بعض حسدته وحمل الفتح بن خاقان عليه فقال له الفتح لو رمانا بالحجارة لكان ذلك مغفورا له فيما يقوله

النوع الثامن عشر
في الاعتراض

وبعضهم يسميه الحشو
وحده كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو أسقط لبقي الأول على حاله
مثال ذلك أن تقول زيد قائمفهذا كلام مفيدِ وهو مبتدأ وخبرفإذا أدخلنا فيه لفظا مفردا قلنا زيد والله قائم ولو أزلنا القسم منه لبقي الأول على حاله وإذا أدخلنا في هذا الكلام لفظا مركبا قلنا زيد على ما به من المرض قائم فأدخلنا بين المبتدأ والخبر لفظا مركبا وهو قولنا " على ما به من المرض " فهذا هو الاعتراض وهذا حده
واعلم أن الجائز منه وغير الجائز إنما يؤخذ من كتب العربية فإنه يكون مستقصى فيها كالاعتراض بين القسم وجوابه وبين الصفة والموصوف وبين المعطوف والمعطوف عليه وأشباه ذلك مما يحسن استعماله وكالاعتراض بين المضاف والمضاف إليه وبين إن واسمها وبين حرف الجر ومجروره وأمثال ذلك مما يقبح استعماله وليس هذا مكانه لأن كتابنا هذا موضوع لمن أستكمل معرفة ذلك وغيره مما أشرنا إليه في صدر الكتاب
وليس المراد ههنا من الاعتراض إلا ما يفرق به بين الجيد والرديء لا ما يعلم به الجائز وغير الجائز لأن كتابي هذا موضوع لذكر ما يتضمنه الكلام على اختلاف أنواعه من وصفي الفصاحة والبلاغة فالذي اذكره في باب الاعتراض إنما هو ما اشتمل على شيء من هذين الوصفين المشار إليهما
واعلم أن الاعتراض ينقسم قسمين أحدهما لا يأتي في الكلام إلا لفائدةِ

وهو جار مجرى التوكيد والآخر أن يأتي في الكلام لغير فائدةفإما أن يكون دخوله فيه كخروجه منه وإما أن يؤثر في تأليفه نقصا وفي معناه فسادا
فالقسم الأول - وهو الذي يأتي الكلام لفائدة - كقوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ) ففي هذا الكلام اعتراضان أحدهما قوله ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) وذلك اعتراض بين القسم الذي هو ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) وبين جوابه الذي هو ( إنه لقرآن كريم ) وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر بين الموصوف الذي هو ( قسم ) وبين صفته التي هي ( عظيم ) وهو قوله ( لو تعلمون ) فذانك اعتراضان كما ترى وفائدة هذا الاعتراض بين القسم وجوابه إنما هي تعظيم لشأن المقسم به في نفس السامع ألا ترى إلى قوله ( لو تعلمون ) اعتراضا بين الموصوف والصفة وذلك الأمر بحيث لو علم وفي حقه من التعظيم وهذا مثل قولنا إن هذا الأمر لعظيم بحيث لو تعلم يا فلان عظمه لقدرته حق قدره فإن ذلك يكبر في نفس المخاطب ويظل متطلعا إلى معرفة عظمه
وكذلك ورد قوله تعالى ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ) وتقديره ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون فاعترض بين المفعولين بسبحانه وهو مصدر يدل على التنزيه فكأنه قال ويجعلون لله البنات وهو منزه عن ذلك ولهم ما يشتهون وفائدة هذا الاعتراض ههنا ظاهرة
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام ( قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين ) فقوله ( لقد علمتم ) اعتراض بين القسم وجوابه وفائدته تقرير إثبات البراءة من الفساد والنزاهة من تهمة السرقة أي إنكم قد علمتم هذا منا ونحن مع علمكم به نقسم بالله على صدقه

وقد ورد الاعتراض في القرآن كثيرا وذلك في كل موضع يتعلق بنوع من خصوصية المبالغة في المعنى المقصود
ومن هذا القسم قوله تعالى ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ) فهذا الاعتراض بين إذا وجوابهالأن تقدير الكلام وإذا بدلنا آية مكان آية قالوا إنما أنت مفتر فاعترض بينهما بقوله تعالى ( والله أعلم بما ينزل ) وهو مبتدأ وخبر وفائدته إعلام القائلين إنه مفتر أن ذلك من الله وليس منه وأنه أعلم بذلك منهم
ومن هذا الباب قوله تعالى ( ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك ) ألا ترى إلى هذا الاعتراض الذي قد طبق مفصل البلاغة وفائدته أنه لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم من المشاق في حمل الولد وفصاله إيجابا للتوصية بها وتذكيرا بحقها وإنما خصها بالذكر دون الأب لأنها تتكلف من أمر الولد ما لا يتكلفه ومن ثم قال النبي لمن قال له من أبر ؟ فقال ( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك )
ومما جاء على هذا الأسلوب قوله عز و جل ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) فقوله ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وفائدته أن يقرر في نفوس المخاطبين وقلوب السامعين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك النفس لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه لأن الله تعالى مظهر لذلك ولو جاء الكلام غير معترض فيه لكان وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اضربوه ببعضها ولا يخفى على البليغ الفرق بين ذلك وبين كونه معترضا فيه
ومما ورد من ذلك شعرا قول امريء القيس

( وَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ )
( وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي )
تقديره كفاني قليل من المال فاعترض بين الفعل والفاعل بقوله " ولم أطلب " وفائدته تحقير المعيشة وأنها تحصل بغير طلب ولا عناء وإنما الذي يحتاج إلى الطلب هو المجد المؤثل
وكذلك قول جرير
( وَلَقَدْ أَرَانِي وَالْجَدِيدُ إِلَى بِلًى ... فِي مَوْكِبٍ طُرُفِ اْلحَدِيثِ كِرَامِ )
تقديره ولقد أراني في موكب طرف الحديث فاعترض بين المفعولين وإنما جاء بهذا الاعتراض تعزيا عما مضى من تلك اللذة وذلك النعيم الذي فاز به من عشرة أولئك الأحباب ولقد أعهدني في كذا وكذا من اللذة وذلك قد مضى وسلف وبلي جديده وكذلك كل جديد فإنه إلى بلى
والاعتراض إذا كان هكذا كسا الكلام لطفا إن كان غزلا وكساه أبهة وجلال إن كان مديحا أو ما يجري مجراه من أساليب الكلام وإن كان هجاء كساه تأكيدا وإثباتا كقول كثير
( لَوَ أنَّ الْبَاخِلِينَ وَأنْتَ منْهُمْ ... رَأَوْكِ تَعَلَّمُوا مِنْكَ الْمِطَالاَ )
فقوله " وأنت منهم " من محمود الاعتراض و نادره وفائدته ههنا التصريح بما هو المراد وتقدير هذا الكلام قبل الاعتراض لو أن الباخلين رأوك فاعترض بين اسم إن وهو الباخلين وبين خبرها وهو رأوك بالمبتدأ والخبر الذي هو " وأنت منهم "
ومن محاسن ما جاء في هذا الباب قول المضرب السعدي

( فَلَوْ سَأَلَتْ سَرَاةَ الْحَيِّ سَلْمَى ... عَلَى أنْ قَدْ تَلَوَّنَ بِي زَمَانِي )
( لَخَبَّرَهَا ذَوُو أحَسْابِ قَومِي ... وَأَعْدَائِي فَكُلٌّ قَدْ بَلاَنِي )
وهذا اعتراض بين " لو " وجوابها وهو من فائق الاعتراض ونادره وتقديره فلو سألت سراة الحي سلمى لخبرها ذوو أحساب قومي و أعدائي وفائدة قوله " على أن قد تلون بي زمان " أي أنهم يخبرون عني على تلون الزمان بي يريد تنقل حالاته من خير وشر وليس من عجمه الزمان وأبان عن جوهره كغيره ممن لم يعجمه ولا أبان عنه
ومن ذلك قول أبي تمام
( وَإِنَّ الْغِنَى لِي إنْ لَحَظْتَ مَطَالِبِي ... مِنَ الشِّعْرِ إِلاَّ فِي مَدِيحِكَ أطْوَعُ )
وهذا البيت في اعتراضان الأول بين اسم " إن " وخبرها وتقديره وإن الغنى أطوع لي من الشعر فاعترض بين الاسم والخبر بقوله " إن لحظت مطالبي " وأما الاعتراض الثاني فقوله " إلا في مديحك " فجاء بالجملة الاستثنائية مقدمة وموضعها التأخير فاعترض بها بين الجملة التي هي خبر إن وتقدير البيت بجملته وأن الغنى أطوع لي من الشعر إن لحظت مطالبي إلا في مديحك وفائدة قوله " إلا في مديحك " من الاعتراض الذي اكتسب به الكلام رقة فائدة حسنة والمراد به وصف جود الممدوح بالإسراع ووصف خاطر شعره بالإسراع إذا كان في مدحه خاصة دون غيره فهذا الاعتراض يتضمن مدح الممدوح والمادح معا وهو من محاسن ما يجيء في هذا الموضع
وكذلك ورد قوله

( رَدَدْتَ رَوْنَقَ وَجْهِي فِي صَحِيفَتِهِ ... رَدَّ الصِّقَالِ بَهَاءَ الصَّارِمِ الْخَذِمِ ) ( وَمَا أُبَالِي وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ ... حَقَنْتَ لِي مَاءَ وَجْهِي أمْ حَقَنْتَ دَمِي ) فقوله " وخير القول أصدقه " اعتراض بين المفعول والفعل لأن موضع حقنت نصب إذ هو مفعول أبالي وفائدته إثبات ما ماثل به بين ماء الوجه والدم أي أن هذا القول صدق ليس بكذب
وأما القسم الثاني - وهو والذي يأتي في الكلام كخروجه منه لا يكتسب به حسنا ولا قبحا فمن ذلك قول النابغة
( يَقُولُ رِجَالٌ يَجْهَلُونَ خَلِيقَتِي ... لَعَلَّ زِيَاداً لاَ أَبالَكَ غافِلُ ) فقوله " لا أبالك " من الاعتراض الذي لا فائدة فيه وليس مؤثرا في هذا البيت حسنا ولا قبحا
ومثله جاء قول زهير
( سَئِمْتُ تَكاليفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمانِينَ حَوْلاً لا أَبالَكَ يَسْأَمِ )
وقد وردت هذه اللفظة - وهي " لا أبالك " - في موضع آخر فكان للاعتراض بها فائدة حسنة كقول أبي تمام
( عِتَابَكِ عَنِّي لاَ أبالَكِ واقْصِدِي ... )

فإنه لما كره عتابها اعترض بين الأمر والمعطوف عليه بهذه اللفظة على طريق الذم
الضرب الثاني - وهو الذي يؤثر في الكلام نقصا وفي المعنى فسادا - وقد تقدم ذكر أمثاله وأنظاره في باب التقديم والتأخير وإنما جيء بذكره ههنا مكررا لإتمام التقسيم الاعتراضي فيما أفاد وفيما لا يفيد وقد ذكرت من ذلك مثالا واحدا أو مثالين فمما ورد منه قول بعضهم
( فَقَدْ وَالشَّكُّ بَيَّنَ لِي عَنَاءُ ... بِوَشْكِ فِراقِهِمْ صُرَدٌ يَصِيحُ )
فإن هذا البيت من رديء الاعتراض ما أذكره لك وهو الفصل بين قد والفعل الذي هو بين وذلك قبيح لقوة اتصال قد بما تدخل عليه من الأفعال ألا تراها تعد مع الفعل كالجزء منه ولذلك أدخلت عليها اللام المراد بها توكيد الفعل كقوله تعالى ( ولقد علموا لمن اشتراه ) وقول الشاعر
( وَلَقَدْ أَجْمَعُ رِجْلَيَّ بِهَا ... حَذَرَ الْمَوْتِ وَإِنِّي لَفَرُورُ ) إلا إن فصل بين قد والفعل بالقسم فإن ذلك لا بأس به نحو قوله قد والله كان ذاك وقد فصل في هذا البيت أيضا بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي هو عناء بقوله بين لي وفصل بين الفعل الذي هو بين وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناءفجاء معنى البيت كما تراه كأنه صورة مشوهة قد نقلت أعضاؤها بعضها إلى مكان بعض

ومن هذا الضرب قول الآخر
( نَظَرْتُ وَشَخْصي مَطْلِعَ الشَّمْسِ ظِلُّهُ ... إلى الْغَرْبِ حَتَّى ظله الشمس قَدْ عقل ) أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله إلى الغرب حتى عقل الشمس أي حاذاها وعلى هذا التقدير فقد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ الذي هو شخصي وبين خبره الجملة وهو قوله ظله إلى الغرب وأغلظ من ذلك أنه فصل بين الفعل وفاعله بالأجنبي وهذا وأمثاله مما يفسد المعاني ويورثها اختلالا
واعلم أن الناثر في استعمال ذلك أكثر ملامة من الناظم وذاك أن الناظم مضطر إلى إقامة ميزان الشعر وربما كان مجال الكلام عليه ضيقا فيلقيه طلب الوزن في مثل هذه الورطات وأما الناثر فلا يضطر إلى إقامة الميزان الشعري بل يكون مجال الكلام عليه واسعا ولهذا إذا اعترض في كلامه اعتراضا يفسده توجه عليه الإنكار وحق عليه الذم

النوع التاسع عشر
في الكناية والتعريض
وهذا النوع مقصور على الميل مع المعنى وترك اللفظ جانبا
وقد تكلم علماء البيان فيه فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض ولم يفرقوا بينهما ولا حدوا كلا منهما بحد يفصله عن صاحبه بل أوردوا لهما أمثلة من النظم والنثر وأدخلوا أحدهما في الآخر فذكروا للكناية أمثلة من التعريض وللتعريض أمثلة من الكنايةفممن فعل ذلك الغانمي وابن سنان الخفاجي والعسكري فأما ابن سنان فإنه ذكر في كتابه قول امريء القيس
( فَصِرْنَا إِلَى الْحُسْنَى وَرَقَّ كَلامُهَا ... وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةَ أَيَّ إِذْلالِ )
وهذا مثال ضربه للكناية عن المباضعة وهو مثال للتعريض
ووجدت في كتاب التذكرة لابن حمدون البغدادي وكان مشارا إليه عندهم بفضيلة ومعرفة لاسيما فن الكتابة فوجدت في كتابه ذلك بابا مقصورا على ذكر الكناية والتعريض وما قيل فيهما نظما ونثرا وهو محشو بالخلط بين هذين القسمين من غير فصل بينهما وقد أورد أيضا في بعضه أمثلة غثة باردة

وسأذكر ما عندي في الفرق بينهما ِوأميز أحدهما عن الآخرليعرف كل منها على انفرادهفأقول
أما الكناية فقد حدت بحدفقيل هي اللفظ الدال على الشيء على غير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين الكناية والمكنى عنه كاللمس والجماعفإن الجماع اسم موضوع حقيقي واللمس كناية عنه وبينهما الوصف الجامع إذ الجماع لمس وزيادة فكان دالا عليه بالوضع المجازي
هذا الحد فاسدلأنه يجوز أن يكون حدا للتشبيهفإن التشبيه هو اللفظ الدال على غير الوضع الحقيقي لجامع بين المشبه والمشبه به وصفة من الأوصافألا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي بوصف جامع بين زيد والأسد وذلك الوصف هو الشجاعة ومن ههنا وقع الغلط لمن أشرت إليه في الذي ذكره في حد الكناية
وأما علماء أصول الفقه فإنهم قالوا في حد الكناية إنها اللفظ المحتمل يريدون بذلك أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى وعلى خلافه
وهذا فاسدفإنه ليس كل لفظ يدل على المعنى وعلى خلافه بكناية دليل ذلك قول النبي " إذا لم تستح فافعل ما شئت " فإن هذا اللفظ يدل على المعنى وعلى خلافه وبيان ذلك أنه يقول في أحد معنييه إنك إذا لم يكن لك وازع يزعك عن الحياء فافعل ما شئت وأما معناه الآخر فإنه يقول إذا لم تفعل فعلا يستحى منه فافعل ما شئت هذا ليس من الكناية في شيءفبطل إذا هذا الحدومثال الفقيه في قوله ( إن الكناية هي اللفظ المحتمل ) مثال من أراد أن يحد الإنسان فأتى بحد الحيوانفعبر بالأعم وكذلك يقال ههنا فإن كل كناية لفظ محتمل وليس كل لفظ محتمل كناية
والذي عندي في ذلك أن الكناية إذا وردت تجاذبها جانبا حقيقة ومجاز وجاز حملها على الجانبين معا ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى ( أو لامستم النساء ) يجوز حمله على الحقيقة والمجازوكل منهما يصح به المعنى ولا يختل ولهذا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن اللمس هو مصافحة الجسد الجسد فأوجب

الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة وذلك هو الحقيقة في اللمس وذهب غيره إلى أن المراد باللمس هو الجماع وذلك مجاز فيه وهو الكناية وكل موضع ترد فيه الكناية فإنه يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز ويجوز حمله على كليهما معا وأما التشبيه فليس كذلك ولا غيره من أقسام المجازلأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة ولو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى ألا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد لا يصح إلا على جانب المجاز خاصة وذاك أنا شبهنا زيدا بالأسد في شجاعته ولو حملناه على جانب الحقيقة لاستحال المعنى لأن زيدا ليس ذلك الحيوان ذا الأربع والذنب والوبر والأنياب والمخالب
وإذا كان الأمر كذلك فحد الكناية الجامع لها هو أنها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز
والدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع أن تتكلم بشيء وتريد غيره يقال كنيت بكذا عن كذا فهي تدل على ما تكلمت به وعلى ما أردته من غيره وعلى هذا فلا تخلو إما أن تكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة ومجاز أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجاز أو في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقة وليس لنا قسم رابع ولا يصح أن تكون في لفظ تجاذبه جانبا حقيقة وحقيقةلأن ذلك هو اللفظ المشترك وإذا أطلق من غير قرينة تخصصه كان مبهما غير مفهوم وإذا أضيف إليه القرينة صار مختصا بشيء بعينه والكناية أن تتكلم بشيء وتريد غيره وذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إليه القرينةلأنه يختص بشيء واحد بعينه لا يتعداه إلى غيره وكذلك لا يصح أن تكون الكناية في لفظ تجاذبه جانبا مجاز ومجازلأن المجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها لأنه فرع عليها وذلك اللفظ الدال على المجازين إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه أو لا يكون لها شركة فإن كان لها شركة في الدلالة فيكون اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء أحدها الحقيقة وهذا مخالف لأصل الوضعلأن أصل الوضع أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره ههنا تكون قد تكلمت بشيء وأنت تريد شيئين غيرهوإن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة كان ذلك مخالفا للوضع أيضالأن أصل الوضع أن

تتكلم بشيء وأنت تريد غيرهفيكون الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به وعلى غيره وإذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به وهذا محالفتحقق حينئذ أن الكناية أن تتكلم بالحقيقة وأنت تريد المجاز وهذا الكلام في حقيقة الدليل على تحقيق أمر الكناية لم يكن لأحد فيه قول سابق
واعلم أن الكناية مشتقة من الستر يقال كنيت الشيءإذا سترته وأجري هذا الحكم في الألفاظ التي يستر فيها المجاز بالحقيقةفتكون دالة على الساتر وعلى المستور معاِ ألا ترى إلى قوله تعالى ( أو لامستم النساء ) فإنه إن حمل على الجماع كان كنايةلأنه ستر الجماع بلفظ اللمس الذي حقيقته مصافحة الجسد الجسد وإن حمل على الملامسة التي هي مصافحة الجسد الجسد كان حقيقة ولم يكن كناية وكلاهما يتم به المعنى وقد تأولت الكناية بغير هذا وهي أنها مأخوذة من الكنية التي يقال فيها أبو فلان فإنا إذا نادينا رجلا اسمه عبد الله وله ولد اسمه محمد فقلنا يا أبا محمدِكان ذلك مثل قولنا يا عبد اللهفإن شئنا ناديناه بهذا وإن شئنا ناديناه بهذا وكلاهما واقع عليه وكذلك يجري الحكم في الكناية فإنا إذا شئنا حملناها على جانب المجاز وإذا شئنا حملناها على الحقيقةِ إلا أنه لا بد من الوصف لجامع بينهما لئلا يلحق بالكناية ما ليس منها ألا ترى إلى قوله تعالى ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ) فكنى بذلك عن النساء والوصف الجامع بينهما هو التأنيث ولولا ذلك لقيل في مثل هذا الموضع إن أخي له تسع وتسعون كبشا ولي كبش واحد وقيل هذه كناية عن النساء ومن أجل ذلك لم يلتفت إلى تأويل من تأول قوله تعالى ( وثيابك فطهر ) أنه أراد بالثياب القلب على حكم الكنايةلأنه ليس بين الثياب والقلب وصف جامع ولو كان بينهما وصف جامع لكان التأويل صحيحا

فإن قيل فما الدليل على اشتقاق الكناية من كنيت الشيء إذا سترته ومن الكنية ؟
قلت في الجواب أما اشتقاقها من كنيت الشيء إذا سترته فإن المستور فيها هو المجازلأن الحقيقة تفهم أولا ويتسارع الفهم إليها قبل المجازلأن دلالة اللفظ عليها دلالة وضيعة وأما المجاز فإنه يفهم منه بعد فهم الحقيقة وإنما يفهم بالنظرة والفكرة ولهذا يحتاج إلى دليل لأنه عدول عن ظاهر اللفظفالحقيقة أظهر والمجاز أخفي وهو مستور بالحقيقة ألا ترى إلى قوله تعالى ( أو لامستم النساء ) فإن الفهم يتسارع فيه إلى الحقيقة التي هي مصافحة الجسد الجسد وأما المجاز الذي هو الجماع فإنه يفهم بالنظر والفكر ويحتاج الذاهب إليه إلى دليللأنه عدول عن ظاهر اللفظ وأما اشتقاقها من الكنية فلأن محمدا في هذه الصورة المذكورة هو حقيقة هذا الرجل أي الاسم الموضوع بإزائه أولا وأما أبو عبد الله فإنه طار عليه بعد محمدلأنه لم يكن له إلا بعد أن صار له ولد اسمه عبد الله وكذلك الكنايةفإن الحقيقة لها هو الاسم الموضوع بإزائها أولا في أصل الوضع وأما المجاز فإنه طار عليها بعد ذلكلأنه فرع والفرع إنما يكون بعد الأصل وإنما يعمد إلى ذلك الفرع للمناسبة الجامعة بينه وبين الأصل على ما تقدم الكلام فيه وهذا القدر كاف في الدلالة على اشتقاق الكناية من ذينك المعنيين المشار إليهما
فإن قيل إنك قد ذكرت أقسام المجاز في باب الاستعارة التي قدمت ذكرها في كتابك هذا وحصرتها في أقسام ثلاثة وهي التوسع في الكلام والاستعارة والتشبيه ونراك قد ذكرت الكناية في المجاز أيضا فهل هي قسم رابع لتلك الأقسام الثلاثة أم هي من جملتها ؟ فإن كانت قسما رابعا فذلك نقض للحصر الذي حصرته وإن كانت من جملتها فقد أعدت ذكرها ههنا مرة ثانية وهذا المكرر لا حاجة إليه
فالجواب عن ذلك أني أقول أما الحصر الذي حصرته في باب الاستعارة فهو ذاك ولا زيادة عليه وأما الكناية فإنها جزء من الاستعارة ولا تأتي إلا على حكم الاستعارة خاصة لأن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له

وكذلك الكناية فإنها لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المكنى عنه ونسبتها إلى الاستعارة نسبة خاص إلى عامفيقال كل كناية استعارة وليس كل استعارة كناية ويفرق بينهما من وجه آخر وهو أن الاستعارة لفظها صريح والصريح هو ما دل عليه ظاهر لفظه والكناية ضد الصريحلأنها عدول عن ظاهر اللفظ وهذه ثلاثة فروق أحدهما الخصوص والعموم والآخر الصريح والآخر الحمل على جانب الحقيقة والمجاز
وقد تقدم القول في باب الاستعارة أنها جزء من المجاز وعلى ذلك فتكون نسبته الكناية إلى المجاز نسبة جزء الجزء وخاص الخاص
وكان ينبغي أن نذكر الكناية عند ذكر الاستعارة في النوع الأول من هذه الأنواع المذكورة في المقالة الثانية وإنما أفردتها بالذكر ههنا من أجل التعريضلأن من العادة أن يذكرا جميعا في مكان واحد
وقد يأتي في الكلام ما يجوز أن يكون كناية ويجوز أن يكون استعارة وذلك يختلف باختلاف النظر إليه بمفرده والنظر إلى ما بعده كقول نصر بن سيار في أبياته المشهورة التي يحرض بها بني أمية عند خروج أبي مسلم
( أَرَى خلَلَ الرَّمَادِ ومِيضَ جَمْرٍ ... وَيُوشِكُ أَنْ يكون لَهُ ضِرَامُ )
( فَإِنَّ النَّارَ بِالزَّنْدَيْنِ تُورِيَ ... وَإِنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا كَلاَمُ )
( أقُولُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ شِعْري ... أأيْقَاظُُ أُمَيَّةُ أمْ نِيامُ )
( فَإنْ هَبُّوا فَذَاكَ بَقَاءُ مُلكً ... وَإنْ رَقَدُوا فَإِنِّي لاَ أُلامُ ) فالبيت الأول لو ورد بمفرده كان كنايةلأنه يجوز حمله على جانب الحقيقة وحمله على جانب المجاز أما الحقيقة فإنه اخبر أنه رأى وميض جمر في خلل الرماد وأنه سيضطرم وأما المجاز فإنه أراد أن هناك ابتداء شر كامن ومثله بوميض جمر من خلل الرماد وإذا نظرنا إلى الأبيات جملتها اختص البيت الأول منها بالاستعارة دن الكناية

وكثيرا ما يرد مثل ذلك ويشكللتجاذبه بين الكناية والاستعارةِعلى أنه لا يشكل إلا على غير العارف
وأما التعريض فهو اللفظ الدال على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي فإنك إذا قلت لمن تتوقع صلته ومعروفه بغير طلب والله إني لمحتاج وليس في يدي شيء وأنا عريان والبرد قد آذانيفإن هذا وأشباهه تعريض بالطلب وليس هذا اللفظ موضوعا في مقابلة الطلب لا حقيقة ولا مجازا إنما دل عليه من طريق المفهوم بخلاف دلالة اللمس على الجماع وعليه ورد التعريض في خطبة النكاح كقولك للمرأة إنك لخلية وإني لعزب هذا وأمثاله لا يدل على طلب النكاح حقيقة ولا مجاز والتعريض أخفي من الكنايةلأن دلالة الكناية لفظية وضعية من جهة المجاز ودلالة التعريض من جهة المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي وإنما سمي التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرضه أي من جانبه وعرض كل شيء جانبه
واعلم أن الكناية تشمل اللفظ المفرد والمركب معافتأتي على هذا تارة وعلى هذا أخرى وأما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب ولا يأتي في اللفظ المفرد ألبتة والدليل على ذلك أنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز وإنما يفهم من جهة التلويح والإشارة وذلك لا يستقل به اللفظ المفرد ولكنه يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب وعلى هذا فإن بيت امريء القيس الذي ذكره ابن سنان مثالا للكناية هو مثال للتعريضفإن غرض امريء القيس من ذلك أن يذكر الجماع غير أنه لم يذكره بل ذكر كلاما آخر يفهم الجماع من عرضهلأن المصير إلى الحسنى ورقة الكلام لا يفهم منهما ما أراده امرؤ القيس من المعنى لا حقيقة ولا مجازا وهذا لا خفاء به فاعرفه

وحيث فرقنا بين الكناية والتعريض وميزنا أحدهما عن الآخر فلنفصلهما ونذكر أقسامهما ولنبدأ أولا بالكنايةفنقول
اعلم أن الكناية تنقسم قسمين أحدهما ما يحسن استعماله والآخر ما لا يحسن استعماله وهو عيب في الكلام فاحش
وقد ذهب قوم إلى أن الكناية تنقسم أقساما ثلاثا تمثيلا وإردافا ومجاورة
فأما التمثيل فهو أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخر ويكون ذلك مثالا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه كقولهم فلان نقي الثوب أي منزه من العيوب
وأما الإرداف فهو أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخر ويكون ذلك رادفا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه ولازما له كقولهم فلان طويل النجاد أي طويل القامةفطول النجاد رادف لطول القامة ولازم له بخلاف نقاء الثوب في الكناية عن النزاهة من العيوبلأن نقاء الثوب لا يلزم منه النزاهة من العيوب كما يلزم من طول النجاد طول القامة
وأما المجاورة فهي أن تريد ذكر الشيء فتتركه إلى ما جاوره كقول عنترة
( بِزُجَاجَةٍ صَفْرَاءَ ذَاتِ أَسِرَّةٍ ... قُرِنَتْ بِأَزْهَرَ فِي الشَّمَالِ مُفَدَّمِ )
يريد بالزجاجة الخمرِفذكر الزجاجة وكنى بها عن الخمرلأنها مجاورة لها
وهذا التقسيم غير صحيحلأن من شرط التقسيم أن يكون كل قسم منه

مختصا بصفة خاصة تفصله عن عموم الأصل كقولنا الحيوان ينقسم أقساما منها الإنسان وحقيقة كذا وكذا ومنها الأسد وحقيقته كذا وكذا ومنها الفرس وحقيقته كذا وكذا ومنها غير ذلك وههنا لم يكن التقسيم كذلكفإن التمثيل على ما ذكر عبارة عن مجموع الكنايةلأن الكناية إنما هي أن تراد الإشارة إلى معنى فيوضع لفظ لمعنى آخرِ ويكون ذلك اللفظ مثالا للمعنى الذي أريدت الإشارة إليه ألا ترى إلى قوله تعالى ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ) فإنه أراد الإشارة إلى النساء فوضع لفظا لمعنى آخر وهو النعاج ثم مثل به النساء وهكذا يجري الحكم في جميع ما يأتي من الكناياتلكن منها ما يتضح التمثيل فيه وتكون الشبهية بين الكناية والمكنى عنه شديدة المناسبة ومنه ما يكون دون ذلك في الشبهية وقد تأملت ذلك وحققت النظر فيهفوجدت الكناية إذا وردت على طريق اللفظ المركب كانت شديدة المناسبة واضحة الشبهية وإذا وردت على طريق اللفظ المفرد لم تكن بتلك الدرجة في قوة المناسبة والمشابهةألا ترى إلى قولهم فلان نقي الثوب وقولهم اللمس كناية عن الجماعفإن نقاء الثوب أشد مناسبة وأوضح شبهالأنا إذا قلنا نقاء الثوب من الدنس كنزاهة العرض من العيوب اتضحت المشابهة ووجدت المناسبة بين الكناية والمكنى عنه شديدة الملاءمة وإذا قلنا اللمس كالجماع لم يكن بتلك الدرجة في قوة المشابهة وهذا الذي ذكر من أن من الكناية تمثيلا وهو كذا وكذا غير سائغ ولا وارد بل الكناية كلها هي ذاك والذي قدمته من القول فيها هو الحاصر لها ولم يأت به أحد غيري كذلك
وأما الإرداف فإنه ضرب من اللفظ المركب ألا أنه اختص بصفة تخصه وهي أن تكون الكناية دليلا على المكنى عنه ولازمه له بخلاف غيرها من الكنايات ألا ترى أن طول النجاد دليل على طول القامة ولازم له وكذلك يقال فلان عظيم الرماد أي كثير إطعام الطعام وعليه ورد قول الأعرابية في حديث أم زرع في وصف زوجها له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك إذا سمعن صوت

المزهر أيقن أنهن هوالك وغرض الأعرابية من هذا القول أن تصف زوجها بالجود والكرم إلا أنها لم تذكر ذلك بلفظه الصريح وإنما ذكرته من طريق الكناية على وجه الإرداف الذي هو لازم له
وكذلك ورد في الأخبار النبوية أيضا وذاك أن امرأة جاءت إلى النبي فسألته عن غسلها من الحيض فأمرها أن تغتسل ثم قال " خذي فرصة من مسك فتطهري بها " قالت كيف أتطهر بها ؟ فقال " تطهري بها " قالت كيف أتطهر بها ؟ قال " سبحان الله ! تطهري بها " فاجتذبتها عائشة رضي الله عنها إليها وقالت تتبعي بها أثر الدم فقولها " أثر الدم " كناية عن الفرج على طريق الإردافلأن أثر الدم في الحيض لا يكون إلا في الفرج فهو رادف له
ومما ورد من ذلك شعرا قول عمر بن أبي ربيعة
( بَعِيدَةُ مَهْوَى الْقُرْطِ إمَّا لِنَوْفَلٍ ... أَبُوها وإِمَّا عَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمُ )
فإن بعد مهوى القرط دليل على طول العنق
ومن لطيف هذا الموضع وحسنه ما يأتي بلفظه مثلكقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح مثلي لا يفعل هذا أي أنا لا أفعله فنفي ذلك عن مثله ويريد نفيه عن نفسهلأنه إذا نفاه عمن يماثله ويشابهه فقد نفاه عن نفسه لا محالةإذ هو ينفي ذلك عنه أجدر وكذلك يقال مثلك إذا سئل أعطى أي أنت إذا سئلت أعطيت وسبب ورود هذه اللفظة في هذا الموضع أنه يجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتا للأمر وتوكيدا ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه ولم يرس فيه قدمه وهذا مثل قول القائل إذا كان في مدح إنسان أنت من القوم الكرام أي لك في هذا الفعل سابقة وأنت حقيق به ولست دخيلا فيه

وقد ورد هذا في القرآن الكريم كقوله تعالى ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) والفرق بين قوله ( ليس كمثله شيء ) وبين قوله ليس كالله شيء هو ما أشرت إليه وإن كان الله سبحانه وتعالى لا مثل له حتى يكون لمثله مثل وإنما ذكر ذلك على طريق المجاز قصدا للمبالغة
وقد يأتي هذا الموضع بغير لفظة مثل وهي مقصودة كقولك للعربي العرب لا تخفر الذمم أي أنت لا تخفر الذمم وهذا أبلغ من قولك أنت لا تخفر الذمم وهذا أبلغ من قولك أنت لا تخفر الذمملما أشرت إليه
وعلى نحو من هذا جاء قول أبي الطيب المتنبي
( ألَسْتُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِي مِنْ رِمَاحِهِمْ ... نَدَاهُمْ وَمِنْ قَتْلاَهُمُ مُهْجَةُ الْبُخْلِ )
وإذا فرغت من ذكر الأصول التي قدمت ذكرها فإني أتبعها بضرب الأمثلة نثرا ونظما حتى يزداد ما ذكرته وضوحا

فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم نحو قوله تعالى ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبةفهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة للمعنى الذي وردت من أجلهفأما جعل الغيبة كأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جدالأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابهلأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها آمران بتركها والبعد عنها ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر إلا أنه لا يكون مثل كراهته لحم أخيه فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة وأما جعل اللحم ميتا فمن أجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحس بها وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها مع العلم بقبحهافانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهالأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها وجدتها مناسبة لما قصدت له
وكذلك ورد قوله تعالى ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ) والأرض التي لم يطئوها عن مناكح النساء وذلك من حسن الكناية ونادره
وكذلك ورد قوله تعالى ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ) فكنى بالماء عن العلم وبالأودية عن القلوب وبالزبد عن الضلال وهذه الآية قد ذكرها أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الموسوم ب " إحياء الله علوم الدين " وفي كتابه المواسم ب " الجواهر " و " الأربعين " وأشار بها إلى أن في القرآن الكريم إشارات وإيماآت لا تنكشف إلا بعد الموت وهذا يدل على أن الغزالي رحمه الله لم يعلم أن هذه الآية من باب الكنايات الذي لفظها يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز

وقد رأيت جماعة من أئمة الفقه لا يحققون أمر الكناية ِوإذا سئلوا عنها عبروا عنها بالمجاز وليس الأمر كذلك وبينهما وصف جامع كهذه الآية وما جرى مجراها فإنه يجوز حمل الماء على المطر النازل من السماء وعلى العلم وكذلك يجوز حمل الأودية على مهابط الأرض وعلى القلوب وهكذا يجوز حمل الزبد على الغثاء الرابي الذي تقذفه السيول وعلى الضلال وليس في أقسام المجاز شيء يجوز حمله على الطرفين معا سوى الكناية
وبلغني عن الفراء النحوي انه ذكر في تفسيره آية وزعم أنها كناية وهي قوله تعالى ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) فقال إن الجبال كناية عن أمر رسول الله وما جاء به من الآيات وهذه الآية من باب الاستعارة لا من باب الكنايةلأن الكناية لا تكون إلا فيما جاز حمله على جانبي المجاز والحقيقة والجبال ههنا لا يصح بها المعنى إلا إذا حملت على جانب المجاز خاصةلأن مكر أولئك لم يكن لتزول منه جبال الأرضفإن ذلك محال
وأما ما ورد منها في الأخبار النبوية فقول النبي ( إنه كانت امرأة فيمن كان من قبلنا وكان لها ابن عم يحبها فراودها عن نفسها فامتنعت عليه حتى إذا أصابتها شدة فجاءت إليه تسأله فراودها فمكنته من نفسهافلما قعد منها مقعد الرجل من المرأة قالت له لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه " فقام عنها وتركها وهذه كناية واقعة في موقعها
ومن ذلك أيضا قول النبي ( رويدك سوقك بالقوارير ) يريد بذلك النساء فكنى عنهن بالقوارير وذاك أنه كان في بعض أسفاره وغلام أسود اسمه أنجشة يحدو فقال له ( يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير ) وهذه كناية لطيفة
وكذلك ورد حديث الحديبية وذاك أنه لما نزل رسول الله على الركية جاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من أهل تهامه فقال تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت وهذه كناية عن النساء والصبيان والعوذ جنع عائذِ

وهي الناقة التي وضعت وقوي ولدها وهذا يجوز حمله على طريق الحقيقة كما جاز حمله على طريق المجاز أي معهم الأموال من الإبل وهي كانت جل أموال العرب أي أنهم قد أحضروا أموالهم ليقاتلوا دونهاولما جاز حمل العوذ المطافيل على النساء والصبيان وعلى الأموال كان من باب الكناية
ومن ذلك ما ورد في إقامة الحد على الزاني وهو أن يشهد عليه برؤية الميل في المكلحة وذلك كناية عن رؤية الفرج في الفرج
ومن لطيف الكناية أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها فقالت لها أقيد جملي ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها لا أرادت المرأة أنها تصنع لزوجها شيئا يمنعه عن غيرها أي تربطه أن يأتي غيرها فظاهر هذا اللفظ هو تقييد الجمل وباطنه ما أرادته المرأة وفهمته عائشة منها
وكذلك يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذاك أنه جاء إلى النبي فقال يا رسول الله هلكت قال ( وما أهلكك ) قال حولت رحلي البارحة فقال له النبي " أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة "
ويروى أن عمرو بن العاص زوج ولده عبد الله رضي الله عنه فمكثت المرأة عنده ثلاث ليال لم يدن منه وإنما كان ملتفتا إلى صلاته فدخل عليها عمرو بعد ثلاث فقال كيف ترين بعلك ؟ فقالت نعم البعل إلا أنه لم يفتش لنا كنفا ولا قرب لنا مضجعا فقولها " لم يفتش لنا كنفا ولا قرب لنا مضجعا " من الكناية الغراء الظاهرة
ومن ألطف ما بلغني في هذا قول عبد الله بن سلام فإنه رأى على رجل ثوبا معصفرا فقال لو أن ثوبك في تنور اهلك أو تحت قدرهم كان خيرا فذهب الرجل فأحرقه نظرا إلى حقيقة قول عبد الله وظاهر مفهومه وإنما أراد المجاز منه وهو أنك لو صرفت ثمنه إلى دقيق تخبزه أو حطب تطبخ به كان خيرا والمعنى متجاذب بين هذين الوجهين فالرجل فهم منه الظاهر الحقيقي فمضى فأحرق ثوبه ومراد عبد الله غيره

ومن هذا القسم ما ورد في أمثال العرب كقولهم إيَّاكَ وَعَقِيِلَةِ المِلْح وذاك كناية عن المرأة الحسناء في مَنْبِتِ السوءفإن عقيلة الملح هي اللؤلؤة وتكون في البحر فهي حسنة وموضعها ملح
وكذلك قولهم لبس له جلد النمرِكناية عن العداوة وقد يقاس على هذا أن يقال ليس له جلد الذئب ولبس له جلد الأرقم لأن هذا كله مثل قولهم لبس له جلد النمر إذا العداوة محتملة في الجميع وكذلك قولهم قلب لهم ظهر المجن كناية عن تغيير المودة
ومما ورد في ذلك شعرا قول أبي نواس
( لاَ أَذُودُ الطَّيْرَ عَنْ شَجَرٍ ... قَدْ بَلَوْتُ المُرَّ مِنْ ثَمَرِهْ )
وهذا له حكاية وهو أنه كان لأبي نواس صديقة تغشاه فقيل له إنها تختلف إلى آخر من أهل الريب فلم يصدق ذلك حتى تبعها يوما من الأيام فرآها تدخل منزل ذلك الرجل ثم إن ذلك الرجل جاءه وكان صديقا له فكلمه فصرف وجهه عنه ثم نظم قصيدته المشهورة التي مطلعها
( أَيُّهَا المنْتَابُ عَنْ عُفُرِهْ ... )
وهذا البيت من جملة أبياتها
وكذلك ورد قوله أيضا
( وَناظِرَةٍ إِليَّ مِنْ النِّقَابِ ... تُلاحِظُنِي بِطَرْفٍ مُسْتَرَابِ )
( كَشَفْتُ قِنَاعَهَا فَإِذَا عَجُوزُُ ... مُمَوَّهَةُ المَفَارِقِ بِالْخِضَابِ )
( فَمَا زَالَتْ تُحَمِّسُنِي طَوِيلاً ... وَتَأْخُذُ فِي أَحَادِيثِ التَّصَابِي )

( تُحَاوِلُ أَنْ يَقُومَ أَبُو زِيَادٍ ... وَدُونَ قِيَامِهِ شَيْبُ الْغُرَابِ )
( أَتَتْ بِجِرَابِهَا تَكْتَالُ فِيهِ ... فَقامَتْ وَهْيَ فَارِغَةُ الْجِرَابِ )
فقوله " أتت بجرابها تكتال فيه " من باب الكنايةإذا الجراب يجوز حمله على الحقيقة والمجاز وكذلك الكيل أيضا
ومما جاء من هذا الباب قول أبي تمام في قصيدته التي يستعطف بها مالك بن طوق على قومهومطلعها
( أَرْضُُ مُصَرَّدَة وَأَرْضُُ تُثْجِ ... )
( مَالِي رَأَيْتُ تُرَابَكُمْ يَبِسَ الثرَى ... مَالِي أَرَى أَطْوَادَكُمْ تَتَهَدَّمُ )
" فيبس الثرى " كناية عن تنكر ذات البين تقول يبس الثرى بيني وبين فلانإذا تنكر الود الذي بينك وبينه وكذلك " تهدم الأطواد " فإنه كناية عن خفة الحلوم وطيش العقول
ومن الكناية الحسنة قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي يعاتب فيها سيف الدولة بن حمدان التي مطلعها

( وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِم ... )
( وَشَرُّ مَا قَنَصَتْهُ رَاحَتِي قَنَصٌ ... شُهْبُ الْبُزَاةِ سَوَاءٌ فِيهِ وَالرَّخَمُ )
يشير بذلك إلى أن سيف الدولة يستوي في المنال منه هو وغيرهفهو البازي وغيره الرخمة وإن حمل المعنى على جانب الحقيقة كان جائزا
وعلى هذا ورد قول الأقيشر الأسدي وكان عنينا لا يأتي النساء وكان كثيرا ما يصف ذلك من نفسه فجلس إليه يوما رجل من قيس فأنشده الأقيشر
( وَلَقَدْ أَرُوحُ بِمُشْرِفٍ ذِي مَيْعَةٍ ... عَسِرِ المَكَرَّةِ مَاؤُهُ يَتَفَصَّدُ )
( مَرِحٍ يَطِيرُ مِنَ الْمِرَاحِ لُعَابُهُ ... وَيَكادُ جِلْدُ إِهَابِهِ يَتَقدَّدُ )
ثم قال له أتبصر الشعر ؟ قال نعم قال فما وصفت ؟ قال فرسا قال أفكنت تركبه لو رأيته ؟ قال إي والله وأثني عطفه فكشف له عن أيره وقال هذا وصفت فقم فاركبه فوثب الرجل عن مكانه وقال قبحك الله من جليس سائر اليوم !
وكذلك أيضا يحكى أنه وفد سعيد بن عبد الرحمن على هشام بن عبد الملك وكان جميل الوجه فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن زيد فراوده عن نفسه فوثب من عنده ودخل على هشام مغضبا وهو يقول
( إِنَّهُ وَاللهِ لَوْلاَ أَنْتَ لَمْ ... يَنْجُ مِنِّي سَالِماً عَبْدُ الصَّمَد )

فقال هشام ولم ذلك ؟ قال
( إِنَّهُ قَدْ رَامَ مِنِّي خُطَّةً ... لَمْ يَرُمْهَا قَبْلَهُ مِنِّي أَحَدْ )
قال ما هي ؟ قال
( رَاحَ جَهْلاً بِي وَجَهْلاً بِأَبِي ... يُدْخِلُ الأَفْعَى عَلَى حَبْسِ الأَسَدْ )
قال فضحك هشام وقال لو فعلت به شيئا لم أنكره عليك
ومن ألطف ما سمعته في هذا الباب قول أبي نواس في الهجاء
( إِذَا مَا كُنْتَ جَارَ أَبي حُسَيْنٍ ... فَنَمْ وَيَدَاكَ في طَرَفِ السِّلاحِ )
( فَإِنَّ لَهُ نِسَاءً سَارِقَاتٍ ... إِذَا مَا بِتْنَ أََطْرَافَ الرِّمَاحِ )
( سَرَقْنَ وَقَدْ نَزَلْتُ عَلَيْهِ أَيْرِي ... فَلَمْ أَظْفَرْ بِهِ حَتَّى الصَّبَاحِ )
( فَجَاءَ وَقَدْ تَخَدَّشَ جانِبَاهُ ... يَئِنُّ إلَيَّ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ )
فتعبيره عن العضو المشار إليه بأطراف الرماح تعبير في غاية اللطافة والحسن
وقد أدخل في باب الكناية ما ليس منه كقول نصيب
( فَعاجُوا فَأَثْنَوْا بِالَّذي أَنْتَ أَهْلُهُ ... وَلَوْ سَكَتُوا أَثْنَتْ عَلَيْكَ الْحَقَائِبُ )
وهذا يروي عن الجاحظ وما أعلم كيف ذهب عليه مع شهرته بالمعرفة بفن الفصاحة والبلاغةفإن الكناية هي ما جاز حمله على جانب الحقيقة كما يجوز حمله على جانب المجاز ههنا لا يصح ذلك ولا يستقيملأن الثناء للحقائب لا يكون إلا مجازاِ وهذا من باب التشبيه المضمر الأداة الخارج عن الكناية والمراد به أن في الحقائب من عطاياك ما يعرب عن الثناء لو سكت أصحابها عنه
وأما القسم المختص بما يقبح ذكره من الكناية فإنه لا يحسن استعمالهلأنه عيب في الكلام فاحش وذلك لعدم الفائدة المرادة من الكناية فيه

فما جاء منه قول الشريف الرضي يرثي امرأة
( إِنْ لَمْ تَكُنْ نَصْلاً فَغِمْدُ نِصَالِ ... )
وفي هذا من سوء الكناية ما لا خفاء بهفإن الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح ذكره وهذا المعنى أخذه من قول الفرزدق فمسخه وشوه صورتهفإن الفرزدق رثى امرأته فقال
( وَجَفْنِ سِلاحٍ قَدْ رُزِئْتُ فَلَمْ أَنُحْ ... عَلَيْهِ وَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْهِ الْبَوَاكِيَا )
( وَفي جَوْفِهِ مِنْ دَارِمٍ ذُو حَفِيظَةٍ ... لَوَ أنَّ المَنَايَا أَمْهَلَتْهُ لَيَالِيَا )
وهذا حسن بديع في معناه وما كني عن امرأة ماتت بجمع أحسن من هذه الكنايةِ ولا أفخم شأن فجاء الشريف الرضي فأخذ معناها وفعل به ما ترى وليس كل من تصرف في المعاني أحسن في تصريفها وأبقى هذه الرموز في تأليفها
وقد عكس هذه القصة مع أبي الطيب المتنبي فأحسن فيما أساء به أبو الطيب طريق الكناية فأخطأ حيث قال

( إِنِّي عَلَى شَغَفِي بِما في خُمْرِهَا ... لأَعِفُّ عمَّا في سَرَاوِيلاتِهَا )
وهذه كناية عن النزاهة والعفة إلا أن الفجور أحسن منها
وقد أخذ الشريف الرضي هذا المعنى فأبرزه في أجمل صورة حيث قال
( أَحِنُّ إِلى مَا تَضْمَنُ الخُمْرُ والحُلَى ... وَأَصْدِفُ عَمَّا في ضَمَانِ الْمَآزِرِ )
وأمثال هذا كثير وفيما ذكرناه من هذين المثالين مقنع وأما التعريض فقد سبق الإعلام به وعرفناك الفرق بينه وبين الكناية
فما جاء منه قوله تعالى ( قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) وغرض إبراهيم صلوات الله عليه من هذا الكلام إقامة الحجة عليهملأنه قال ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) وذلك على سبيل الاستهزاء وهذا من رموز الكلام والقول فيه أن قصد إبراهيم عليه السلام لم يرد به نسبة الفعل الصادر عنه إلى الضم وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته على أسلوب تعريض يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجة عليهم والاستهزاء بهم وقد يقال في هذا غير ما أشرت إليه وهو أن كبير الأصنام غضب أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها وغرض إبراهيم عليه السلام من ذلك أنه لا يجوز أن يعبد مع الله تعالى من هو دونهفإن من دونه مخلوق من مخلوقاته فجعل إحالة القول إلى كبير الأصنام مثالا لما أراده
ومن هذا القسم أيضا قوله تعالى ( قال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك

إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ) فقوله ( ما نراك إلا بشرا مثلنا ) تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم فقالوا هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها ؟ ألا ترى إلى قولهم ( وما نرى لكم علينا من فضل )
وكان مروان بن الحكم واليا على المدينة من قبل معاوية فعزلهفلما قدم عليه قال له عزلتك لثلاث لو لم تكن إلا واحدة منهن لأوجبت عزلك إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تشتفي منه والثانية كراهتك أمر زياد والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك على زوجها عمر بن عثمان فلم تعدهافقال له مروان أما عبد الله بن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موضعه وأما كراهتي أمر زياد فإن سائر بني أمية كرهوه وأما استعداء رملة على عمر بن عثمان فوالله إنه لتأتي على سنة وأكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا يريد بذلك أن رملة بنت معاوية إنما استعدت لطلب الجماع فقال له معاوية يا ابن الوزغ لست هناك فقال له مروان هو ذاكوهذا من التعريضات اللطيفة
ومثله في اللطافة ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذاك أنه كان يخطب يوم جمعة فدخل عثمان بن عفان رضي الله عنهِ فقال عمر أية ساعة هذه ؟ فقال عثمان يا أمير المؤمنين انقلبت من أمر السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت فقال عمر والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمرنا بالغسل فقوله ( أية ساعة هذه ) تعريض بالإنكار عليه لتأخره عن المجيء إلى الصلاة وترك السبق إليهاوهو من التعريض المعرب عن الأدب
ووقفت في كتاب العقد على حكاية تعريضية حسنة الموقع وهي أن امرأة وقفت على قيس بن عبادةفقالت أشكو إليك قلة الفأر في بيتيفقال ما أحسن ما ورت عن حاجتها املئوا لها بيتها خبزا وسمنا ولحما
ومن خفي التعريض وغامضه ما ورد في الحديث النبوي وهو أن النبي خرج

وهو محتضن أحد ابني ابنته وهو يقول ( والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلونِ وإنكم لمن ريحان الله وإن آخر وطأة وطئها الله بوج ) اعلم أن وجا واد بالطائفِ والمراد به غزاة حنين وحنين واد قبل وجلأن غزاة حنين آخر غزاة أوقع بها رسول الله مع المشركين وأما غزوتا الطائف وتبوك اللتان كانتا بعد حنين فلم يكن فيهما وطأة أي قتال وإنما كانتا مجرد خروج إلى الغزو من غير ملاقاة عدو ولا قتال ووجه عطف هذا الكلام وهو قوله ( وإن آخر وطأة وطئها الله بوج ) على ما قبله من الحديث هو التأسف على مفارقة أولادهلقرب وفاتهلأن غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان ووفاته كانت في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة وبينهما سنتان ونصف فكأنه قال وإنكم لمن ريحان الله أي من رزقه وأنا مفارقكم عن قريب إلا أنه صانع عن قوله وأنا مفارقكم عن قريب بقوله ( إن آخر وطأة وطئها الله بوج ) وكان ذلك تعريضا بما أراده وقصده من قرب وفاته
ومما ورد من هذا الباب شعرا قول الشميذر الحارثي
( بَنِي عَمِّنَا لا تَذْكُرُوا الشِّعْرَ بَعْدَمَا ... دَفَنْتُمْ بِصَحْرَاءِ الْغُمَيْرِ الْقَوَافِيَا )
وليس قصده ههنا الشعرِبل قصده ما جرى لهم في هذا الموضع من الظهور عليهم والغلبة إلا أنه لم يذكر ذلك بل ذكر الشعر وجعله تعريضا بما قصده أي لا تفخروا بعد تلك الواقعة التي جرت لكم ولنا بذلك المكان
ومن أحسن التعريضات ما كتبه عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون في أمر بعض أصحابه وهو أما بعدفقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعينِ وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته فوقع المأمون في ظهر كتابه قد عرفت تصريحك وتعريضك لنفسك وقد أجبناك إليهما

واعلم أن هذين القسمين من الكناية والتعريض قد وردا في غير اللغة العربية ووجدتهما كثيرا في اللغة السريانيةفإن الإنجيل الذي في أيدي النصارى قد أتى منهما بالكثير
ومما وجدته من الكناية في لغة الفرس أنه كان رجل من أساورة كسرى وخواصه فقيل إن الملك يختلف إلى امرأتك فهجرها لذلك وترك فراشها فأخبرت كسرى فدعاه وقال له قد بلغني أن لك عينا عذبة وأنك لا تشرب منهافما سبب ذلك ؟ قال أيها الملك بلغني أن الأسد يردها فخفته فاستحسن كسرى منه هذا الكلام وأسنى عطاءه

النوع العشرون
في المغالطات المعنوية
وهذا النوع من أحلى ما استعمل من الكلام وألطفهلما فيه من التورية
وحقيقته أن يذكر معنى من المعاني له مثل في شيء آخر ونقيض والنقيض أحسن موقعا وألطف مأخذا
فالأول الذي يكون له مثل يقع في الألفاظ المشتركة فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي
( يَشُلُّهُمُ بِكُلِّ أقَبَّ نَهْدٍ ... لِفَارِسِهِ عَلَى الْخَيْلِ الْخِيَارُ )
( وَكُلِّ أَصَمَّ يَعْسِلُ جَانِبَاهُ ... عَلى الْكَعْبَيْنِ مِنْهُ دَمُُ مُمَارُ )
( يُغَادِرُ كُلَّ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ ... وَلَبَّتُهُ لِثَعْلَبِهِ وِجَارُ )
فالثعلب هو هذا الحيوان المعروف والوجار اسم بيته والثعلب أيضا هو طرف

سنان الرمحفلما اتفق الاسمان بين الثعلبين حسن ذكر الوجار في طرف السنان وهذا نقل المعنى من مثل إلى مثله
وعليه ورد قول المتنبي أيضا
( بِرَغْمِ شَبِيبٍ فَارَقَ السَّيْفَ كَفُّهُ ... وَكَانَا عَلَى الْعِلاَّتِ يَصْطَحِبَانِ )
( أَنَّ رِقَابَ النَّاسِ قالَتْ لِسَيْفِهِ ... رَفيقُكَ قَيْسِيٌّ وَأَنْتَ يَمَانِي )
فإن شبيبا الخارجي الذي خرج على كافور الإخشيدي وقصد دمشق وحاصرها وقتل على حصارهاكان من قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب وأخبار ذلك مشهورة والسيف يقال له " يماني " في نسبته إلى اليمن ومراد المتنبي من هذا البيت أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه وهذه مغالطة حسنة وهي كالأولى إلا أنها أدق وأغمض
وكذلك ورد قول بعضهم من أبيات يهجو بها شاعرا فجاء من جملتها قوله
( وَخَلَطْتُمُ بَعْضَ الْقُرانِ بِبَعْضِهِ ... فَجَعَلْتُمُ الشَعَرَاءَ في الأَنْعَامِ ) ومعنى ذلك أن الشعراء اسم سورة من القرآن الكريم والأنعام اسم سورة أيضا والشعراء جمع شاعر والأنعام ما كان من الإبل والبقر

وكذلك ورد قول بعض العراقيين يهجو رجلا كان على مذهب احمد بن حنبل رضي الله عنه ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ثم انتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه
( مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي الْوَجِيهَ رِسَالَةً ... وَإِنْ كَانَ لا تُجْدِي لَدَيْهِ الرسَائِلُ )
( تَمَذْهَبْتَ لِلنُّعْمَانِ بَعْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ ... وَفَارَقْتَهُ إِذْ أَعْوَزَتْكَ المَآكِلُ )
( وَمَا اخْتَرْتَ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ تَدَيُّناً ... وَلكِنَّمَا تَهْوَى الَّذي مِنْهُ حَاصِلُ )
( وَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ لا شَكَّ صَائِرٌ ... إلَى مَالِكٍ فَافْطِنْ لِمَا أَنَا قَائِلُ )
ومالك هو مالك ابن أنس صاحب المذهب رضي الله عنه ومالك هو خازن النار وهذه مغالطة خفيفة
ومن أحسن ما سمعته في هذا الباب قول أبي العلاء بن سليمان في الإبل
( صلْبُ الْعَصَا بالضَّرْبِ قَدْ دَمَّاهَا ... تَودُّ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْنَاهَا )
( إِذا أرَادَتْ رَشَداً أغْوَاهَا ... محاله من رقه إياها )
فالضرب لفظ مشتركيطلق على الضرب بالعصا وعلى الضرب في الأرض وهو المسير فيها وكذلك دماها فإنه لفظ مشترك يطلق على شيئين أحدهما يقال دماهإذا أسال دمه ودماهإذا جعله كالدمية وهي الصورة وهكذا لفظ الفناء فإنه يطلق على عنب الثعلب وعلى إذهاب الشيء إذا لم يبق منه بقية يقال أفناهإذا أذهبه وأفناهإذا أطعمه الفناءِوهو عنب الثعلب والرشد والغوى نبتان يقال أغواهإذا أضله وأغواهإذا أطعمه الغوى ويقال طلب رشدا إذا طلب ذلك النبت وطلب رشداإذا طلب الهداية وبعض الناس يظن هذه الأبيات من باب اللغز وليس كذلكلأنها تشتمل على ألفاظ مشتركة وذلك معنى ظاهر يستخرج من دلالة اللفظ عليه واللغز هو الذي يستخرج من طريق الحزر والحدس لا من دلالة اللفظ عليه وسأوضح ذلك إيضاحا جليا في النوع الحادي والعشرين وهو الذي يتلو هذا النوعفليؤخذ من هناك

ويروى في الأخبار الواردة في غزاة بدر أن النبي كان سائرا بأصحابه يقصد بدرا فلقيهم رجل من العرب فقال ممن القوم ؟ فقال النبي ( من ماء ) فأخذ ذلك الرجل يفكر ويقول من ماء من ماءلينظر أي بطون العرب يقال لها ماء فسار النبي لوجهته وكان قصده أن يكتم أمره وهذا من المغالطة المثليةلأنه يجوز أن يكون بعض بطون العرب يسمى ماء ويجوز أن يكون المراد أن خلقهم من ماء
وقد جاءني شيء من ذلك من الكلام المنثور
فمنه ما كتبته في فصل من كتاب عند دخولي إلى بلاد الروم أصف فيه البرد والثلجفقلت ومن صفات هذا البرد أنه يعقد الدر في خلفه والدمع في طرفه وربما تعدى إلى قليب الخاطر فأجفه أن يجري بوصفهفالشمس مأسورة والنار مقرورة والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض ومسيلات الجبال أنهار غير أنها جامدة لم تخض
ومكان المغالطة من هذا الكلام في قولي ( والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض ) فإن الشهباء من الخيل يقال فيها حولية أي لها حول ويقال أنها مروضة أي ذللت للركوب وهذه الأرض مضى للثلج عليها حول فهي شهباء حوليةوقولي " لم ترض " أي لم تسلك بعد
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريمفقلت ولقد نزلت منه بمهلبي الصنع أحنفي الأخلاق ولقيته فكأني لم أرع ممن أحب بلوعة الفراق ولا كرامة للأهل والوطن حتى أقول إني قد استبدلت به أهلا ووطنا وعهدي بالأيام وهي من الإحسان فاطمة فاستولدتها بجواره حسنا
وهذه تورية لطيفة فإن فاطمة بنت رسول الله والحسن رضي الله عنهما ولدها وفاطمة هي اسم فاعلة من الفطام يقال فطمت فهي فاطمةِكما يقال فطم فهو فاطم والحسن هو الشيء الحسن
ومن هذا الأسلوب ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت

وعهده بقلمي وهو يتحلى من البيان بأسمائه وتبرز أنوار المعاني من ظلمائه وقد أصبحت يدي منه وهي حمالة الحطب وأصبح خاطري أبا جهل بعد أن كان أبا لهب
وهذا أحسن من الأول وأخلب عبارة فانظر أيهل المتأمل إلى ما فيه من التورية اللطيفة ألا ترى أن الخاطر يحمد فيوصف بأنه وقاد وملتهب ويذم فيوصف بأنه بليد وجاهلوأبو لهب وأبو جهل هما الرجلان المعروفان وكذلك حمالة الحطب هي المرأة المعروفة وإذا ذم القلم قيل إنه حطب وإنه صاحبه حاطبفلما نقلت أنا هذا إلى المعنى الذي قصدته جئت به على حكم المغالطة ووريت فيه تورية والمسلك إلى مثل هذه المعاني وتصحيح المقصد فيها عسر جدا لا جرم أن الإجادة فيها قليلة
ومما يجري هذا المجرى ما ذكرته في وصف شخص بمعالي الأمور وهو من أبر مساعيه أنه حاز قفل المكرمات ومفتاحها فإذا سئل منقبة كان مناعها وإذا سئل موهبة كان مناحها وأحسن أثرا من ذلك أنه أخذ بأعنة الصعاب وألان جماحها فإذا شهد حومة حرب كان منصورها وإذا لقي مهجة خطب كان سفاحها
والمغالطة في هذا الكلام في ذكر المنصور والسفاحفإنهما لقب خليفتين من بني العباس والسفاح أول خلفائهم والمنصور أخوه الذي ولي الخلافة من بعده وهما أيضا من النصر في حومة الحرب والسفح الذي هو الإراقة والمهجة دم القلبفكأني قلت هو منصور في حومة الحرب ومريق لدم الخطوب وقد اجتمع في هذا الكلام المنصور والمنصور والسفاح والسفاح وهذا من المغالطة المثلية لا من النقيضية ولا خفاء بما فيها من الحسن
ومن ذلك ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوانفقلت وقد علمت أن ذلك الأنس بقربه يعقب إيحاشا وأن تلك النهلة من لقائه تجعل الأكباد عطاشافإن من شيمة الدهر أن يبدل الصفو كدرا ويوسع أيام عقوقه طولا وأيام بره قصراِوما أقول

إلا أنه شعر بتلك المسرة المسروقة فأقام عليها حد القطع ورأى العيش فيها خفضا فأزاله بعامل الرفع
والمغالطة في هذا الكلام هي في ذكر الخفض والرفعفإن الخفض هو سعة العيش والخفض هو أحد العوامل النحوية والرفع هو من قولنا رفعت الشيء إذا أزلته والرفع هو أحد العوامل النحوية أيضا وهذا من المغالطات الخفية
ومن ذلك ما كتبته في فصل أصف فيه الحمى وكنت إذ ذاك بحصن سميساط وهو بلد من بلاد الأرمن فقلت ومما أكره في حال المرض بهذه الأرض أن الحمى خيمت بها فاستقرت ولم تقنع بأهلها حتى سرت إلى تربتها فترى وقد أخذتها النافض فاقشعرت ولم يشكل أمرها إلا لأنها حمى أرمنية مستعجمة اللسان وقد تشتبه الأمراض وأهل بلادها في الأبان وإذا كانت الحمى كافرة لم تزل للمسلم حربا وشكاتها لا تسمى شكاة وإنما تسمى طعنا وضربا ولهذا صارت الأدوية في علاجها ليست بأدوية وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدأة بأيام تروية وليس موسمها في فصل معلوم بل كل فصول العام من مواسمها ولو كاتبتها نصيبين أو ميافارقين بكتاب لترجمته بعبدها وخادمها
والمغالطة ههنا في قولي ( وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدأة بأيام تروية ) والمراد بذلك أنها تقبل بغتة من غير ترو أي من غير تلبث ويوم النحر هو يوم عيد الأضحى وقبله يسمى يوم الترويةفالمغالطة حصلت بين نحر الحمى للناس ونحر الضحايا إلا أن يوم النحر مبتدأ بيوم تروية ولا خفاء بما في هذه المغالطة من الحسن واللطافة
وأما القسم الآخر وهو النقيض فإنه أقل استعمالا من القسم الذي قبله لأنه لا يتهيأ استعماله كثيرا
فمن جملته ما ورد شعرا لبعضهم وهو قوله
( وَمَا أشْيَاءُ تَشْرِيهَا بِمَالٍ ... فَإِنْ نَفَقَتْ فَأَكْسَدُ مَا تَكُونُ )

يقال نفقت السلعةإذا راجت وكان لها سوق ونفقت الدابة إذا ماتت وموضع المناقضة ههنا في قوله إنها إذا نفقت كسدت فجاء بالشيء ونقيضه وجعل هذا سببا لهذا وذلك من المغالطة الحسنة
ومن ذلك ما كتبته في جملة كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن فتوح بلد من بلاد الكفارفقلت في آخر الكتاب وقد ارتاد الخادم من يبلغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بيانا مؤهل لإبداع حسانها والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحتها في تجريح الرجال وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال والليالي والأيام لها رواة فما الظن برواية الأيام والليال
في هذا الفصل مغالطة نقيضه ومغالطة مثليةأما المغالطة المثلية فهي في قولي " وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال " وقد تقدم الكلام على هذا وما يجري مجراه في القسم الأولوأما المغالطة النقيضية فهي قولي " وهو راوي أخبار نصرها التي صحتها في تجريح الرجل " وموضع المغالطة منه أنه يقال في رواة الأخبار فلان عدل صحيح الرواية وفلان مجروح أي سقيم الرواية غير موثوق به فأتيت بهذا المعنى على وجه النقيض فقلت صحة أخبار هذه الفتوح في تجريح الرجل أي تجريحهم في الحرب وفي هذا من الحسن ما لا خفاء به
وقد أوردت من هذه الأمثلة ما فيه كفاية ومقنع
فإن قيل إن الضرب الأول من هذا النوع هو التجنيس الذي لفظه واحد

ومعناه مختلف كالمثال الذي مثلته في قول أبي الطيب المتنبي ثعلب ووجار فإن الثعلب هو الحيوان المعروف وهو أيضا طرف السنان وكذلك باقي الأمثلة
قلت في الجواب إن الفرق بين هذين النوعين ظاهر وذاك أن التجنيس يذكر فيه اللفظ الواحد مرتينفهو يستوي في الصورة ويختلف في المعنىِكقول أبي تمام
( بِكُلِّ فَتىً ضَرْب يُعَرِّضُ لِلْقَنا ... مُحَيَّاً مُحَلًّى حَلْيُهُ الطَّعْنُ وَالضَرْبُ )
فالضرب الرجل الخفيف والضرب هو الضرب بالسيف في القتال فاللفظ لا بد من ذكره مرتين والمعنى فيه مختلف والمغالطة ليست كذلك بل يذكر فيها اللفظ مرة واحدة ويدل به على مثله وليس بمذكور

النوع الحادي والعشرون
في الأحاجي
وهي الأغاليط من الكلام وتسمى الألغازِجمع لغز وهو الطريق الذي يلتوي ويشكل على سالكه وقيل جمع لغز بفتح اللام وهو ميلك بالشيء عن وجهه وقد يسمى هذا النوع أيضا المعمى وهو يشتبه بالكناية تارة وبالتعريض أخرى ويشتبه أيضا بالمغالطات المعنوية ووقع في ذلك عامة أرباب هذا الفن
فمن ذلك أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر بيتي الأقيشر الأسدي في جملة الألغاز وهما
( وَلَقَدْ أَروحُ بِمُشْرِفٍ ذِي مَيْعَةٍ ... عَسِرِ المَكَرَّةِ ماؤُهُ يَتَفَصَّدُ )
( مَرِحٍ يَطيرُ مِنْ الْمِرَاحِ لُعَابُهُ ... وَيَكَادُ جِلْدُ إِهَابِهِ يَتَقَدَّدُ )
هذان البيتان من باب الكنايةلأنهما يحملان على الفرس وعلى العضو المخصوصِ وإذا حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز فكيف يعد من جملة الألغاز ؟

وكذلك فعل الحريري في مقاماتهفإنه ذكر في الأحاجي التي جعلها على حكم الفتاوي كناية ومغالطة معنوية وظن أنهما من الأحاجي الملغزة كقوله أيحل للصائم أن يأكل نهارا والنهار من الأسماء المشتركة بين النهار الذي هو ضد الليل وبين فرخ الحبارىفإنه يسمى نهارا وإذا كان من الأسماء المشتركة صار من باب المغالطات المعنوية لا من باب الأحاجي والألغاز شيء منفصل عن ذلك كله ولو كان من جملته لما قيل لغز وأحجية وإنما قيل كناية وتعريض أو مغالطة ولكن وجد من الكلام ما يطلق عليه الكناية ومنه ما يطلق عليه التعريض ومنه ما يطلق عليه المغالطة ومنه شيء آخر خارج عن ذلكفجعل لغزا وأحجية
وكنت قدمت القول بأن الكناية هي اللفظ الدال على جانب الحقيقة وعلى جانب المجاز فهو يحمل عليهما معا وأن التعريض هو ما يفهم من عرض اللفظ لا من دلالته عليه حقيقة ولا مجاز وأن المغالطة هي التي تطلق ويراد بها شيئان أحدهما دلالة اللفظ على معنيين بالاشتراك الوضعي والآخر دلالة اللفظ على المعنى ونقيضه
وأما اللغز والأحجية فإنهما شيء واحد وهو كل معنى يستخرج بالحدس والحزرِلا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجاز ويفهم من عرضهلأن قول القائل في الضرس
( وَصَاحِبٍ لاَ أَمَلُّ الدَّهْرَ صُحْبَتَهُ ... يَشْقَى لِنَفْعِي وَيَسْعَى سَعْيَ مُجْتَهِدِ )
( مَا إِنْ رَأَيْتُ لَهُ شَخْصاً فَمُذْ وَقَعَتْ ... عَيْنِي عَلَيْهِ افْتَرَقْنَا فُرْقَةَ الأَبَدِ )
لا يدل على أنه الضرس لا من طريق الحقيقة ولا من طريق المجاز ولا من طريق المفهوم وإنما هو شيء يحدس ويحزر والخواطر تختلف في الإسراع والإبطاء عند عثورها عليه

فإن قيل إن اللغز يعرف من طريق المفهوم وهذان البيتان يعلم معناهما بالمفهوم
قلت في الجواب إن الذي يعلم بالمفهوم إنما هو التعريض كقول القائل إني لفقير وإني لمحتاجفإن هذا القول لا يدل على المسألة والطلب لا حقيقة ولا مجاز وإنما فهم منه أن صاحبه متعرض للطلب وهذان البيتان ليسا كذلكفإنهما لا يشتملان على ما يفهم منه شيء إلا بالحدس والحزرِلا غيرِوكذلك كل لغز من الألغاز
وإذا ثبت هذا فاعلم أن هذا الباب الذي هو اللغز والأحجية والمعمى يتنوع أنواعا فمنه المصحف ومنه المعكوس ومنه ما ينقل إلى لغة من اللغات غير العربية كقول القائل اسمي إذا صحفته بالفارسية آخر وهذا اسمه اسم تركي وهو دنكر - بالدال المهلمة والنون وآخر بالفارسية ديكر - المهملة والياء المعجمة بثنتين من تحت - وإذا صفحت هذه الكلمة صارت دنكر بالنون فانقلبت الياء نونا بالتصحيف وهذا غير مفهوم إلا لبعض الناس دون بعض
وإنما وضع واستعمل لأنه مما يشحذ القريحة ويحد الخاطرلأنه يشتمل على معان دقيقة يحتاج في استخراجها إلى توقد الذهن والسلوك في معاريج خفية من الفكر
وقد استعمله العرب في أشعارهم قليلا ثم جاء المحدثون فأكثروا منه وربما أتي منه بما يكون حسنا وعليه مسحة من البلاغة وذلك عندي بين بينفلا أعده من الأحاجي ولا أعده من فصيح الكلام
فما جاء منه قول بعضهم
( قَدْ سُقِيَتْ آبَالُهُمْ بِالنَّارِ ... والنَّارُ قَدْ تَشْفِي مِنَ الأُوَارِ )
ومعنى ذلك أن هؤلاء القوم الذين هم أصحاب الإبل ذوو وجاهة وتقدم ولهم وسم معلوم فلما وردت إبلهم الماء عرفت بذلك الوسمفأفرج لها الناس حتى شربتوقد اتفق له أنه أتى في هذا البيت بالشيء وضده وجعل أحدهما سببا للآخر

فصار غريبا عجيبا وذاك أنه قال سقيت بالنار وقال إن النار تشفي من الأوار وهو العطش وهذا من محاسن ما يأتي في هذا الباب
ومما يجري على هذا النهج قول أبي نواس في شجر الكرم
( لَنَا هَجْمَةَ لاَ يَدَّرِي الذّئْبُ سَخْلَهَا ... وَلاَ رَاعَهَا غَضُّ الْفِحَالَةِ وَالْحَظْرُ )
( إذَا امْتُحِنَتْ أَلْوَانُهَا مالَ صَفْوُهَا ... إِلى الْحُوِّ إلاّ أنّ أوْبَارَهَا خُضْرُ ) ومن هذا القبيل قول بعضهم
( سَبْعٌ رَوَاحِل مَا يُنِخْنَ مِن الْوَنَا ... شِيَمٌ تُسَاقُ بِسَبْعَةٍ زُهْرِ )
( مُتَوَاصِلاتٌ لا الدُّءوبُ يُمِلُّها ... بَاقٍ تَعَاقُبُهَا عَلَى الدَّهْرِ )
هذان البيتان يتضمنان وصف أيام الزمان ولياليه وهي الأسبوعفإن الزمان عبارة عنه وذلك من الألغاز الواقعة في موقعها
وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي في السن من جملة قصيدته التي مدح بها سيف الدول عند ذكر عبوره الفرات وهي
( الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ ... )

فقال
( وَحَشَاهُ عَادِيَةٍ بِغَيْرِ قَوَائِمٍ ... عُقْمَ الْبُطُونِ حَوَالِكَ الأَلْوَانِ )
( تَأْتِي بِمَا سَبَتِ الْخُيُولُ كَأَنَّهَا ... تَحْتَ الْحِسَانِ مَرَابِضُ الْغِزْلاَنِ )
وهذا حسن في بابه
ومن ذلك قول بعضهم في حجر المحك
( وَمُدَّرِعٍ مِن صَنْعَةِ اللَّيْلِ بُرْدَهُ ... يُفَوَّقُ طَوْراً بِالنُّضَارِ وَيُطْلَسُ )
( إِذا سَأَلُوهُ عَنْ عَوِيصَيْنِ أشْكَلا ... أَجَابَ بِمَا أَعْيَا الْوَرَى وَهْوَ أَخْرَسُ )

وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه وكان سمعه بعض المتأخرين من أهل زماننا فأجاب عنه ببيتين على وزنه قافيته وهما
( سُؤَالُكَ جُلْمُودٌ مِنَ الصَّخْرِ أَسْوَدُُ ... خَفِيفٌ لَطِيفٌ نَاعِمُ الْجِسْمِ أَطلَسُ )
( أُقِيمَ بِسُوقِ الصَّرْفِ حُكْماً كَأَنَّهُ ... مِنَ الزَّنْجِ قَاضٍ بِالْخَلُوقِ مُطَلَّسُ ) وقد رأيت هذا الشاعر وهو حائك بجزيرة ابن عمر وليس عنده من أسباب الأدب شيء سوى أنه قد أصلح لسانه بطرف يسير من علم النحو لا غير وهو مع ذلك يقول الشعر طبعا وكان يجيد في الكثير منه
ومن الألغاز ما يرد على حكم المسائل الفقهية كالذي أورده الحريري في مقاماته وكنت سئلت عن مسألة منه وهي
( وَلِي خَالَةٌ وَأَنَا خَالُهَا ... وَلي عَمَّةُُ وَأَنا عَمُّهَا )
( فأمَّا الَّتي أَنَا عَمُّ لَهَا ... فَإِنَّ أَبي أُمُّهُ أمُّهَا )
( أَبُوهَا أَخِي وَأَخُوهَا أَبِي ... وَلي خَالَةُُ هكَذَا حُكْمُهَا )
( فأََيْنَ الْفَقِيهُ الذي عِنْدَهُ ... فُنُونُ الدِّرَايَةِ أَوْ عِلْمُهَا )
( يُبَيِّنْ لَنَا نَسَباً خَالِصاً ... وَيَكْشِفُ لِلنَّفْسِ مَا هَمُّهَا )
( فَلَسْنَا مَجُوساً وَلاَ مُشْرِكِينَ ... شَرِيعَةُ أَحْمَدَ نَأْتَمُّها ) وهذه المسألة كتبت إلي فتأملتها تأمل غير ملجلج في الفكر ولم ألبث أن أنكشف لي ما تحتها من اللغز وهو أن الخالة التي الرجل خالها تصور على هذه الصورة وذاك أن رجلا تزوج امرأتين اسم إحداهما عائشة واسم الأخرى فاطمة فأولد عائشة بنتا وأولد فاطمة ابنا ثم زوج بنته من أبي امرأته فاطمة فجاءت ببنت فتلك البنت هي خالة ابنه وهو خالهالأنه أخو أمها وأما العمة التي هو عمها فصورتها أن رجلا له ولد ولولده أخ من أمه فزوج أخاه من أمه أم أبيه فجاء بنت فتلك البنت هي عمتهلأنها أخت أبيه وهو عمهالأنه أخو أبيها وأما قوله ( ولي خالة هكذا حكمها ) فهو أن تكون أمها أخته وأختها أمه كما قال ( أبوها أخي

وأخوها أبي ) وصورتها أن رجلا له ولد ولولده أخت من أمه فزوجها من أبي أمه فجاءت ببنتفأختها أمه وأمها أخته
وأحسن من ذلك كله وألطف وأحلى قول بعضهم في الخلخال
( وَمَضْرُوبٍ بِلاَ جُرْمِ ... مَلِيحِ اللَّوْنِ مَعْشُوقِ )
( لَهُ قَدُّ الْهِلاَلِ عَلَى ... مَلِيحِ الْقَدِّ مَمْشوُقِ )
( وَأكْثَرُ مَا يُرَى أبَدا ... عَلَى الأمْشَاطِ في السُّوقِ )
وبلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبياتفقال قد دخلت السوق فما رأيت على الأمشاط شيئا وظن أنها الأمشاط التي يرجل بها الشعر وأن السوق سوق البيع والشراء
واعلم أنه قد يأتي من هذا النوع ما هو ضروب وألوانفمنه الحسن الذي أوردت شيئا منه كما تراه ومنه المتوسط الذي هو دونه في الدرجة فلا يوصف بحسن ولا قبح كقول بعضهم
( رَاحَتْ رَكَائِبُهُمْ وَفي أَكْوَارِهَا ... أَلْفَانِ مِنْ عُمِّ الأُثَيْلِ الْوَاعِدِ )
( مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلا باركب هكذا ... حَمَلَتْ حَدَائِقَ كالظَّلامِ الرَّاكِدِ )
وهذا يصف قوما وفدوا على ملك من الملوك فأعطاهم نخلا وكتب لهم بها كتاباِ والأثيل الموضع الذي كتب إليه والعم العظام الرءوس من النخيل والواعد الأقناء من النخل فلما حملوا الكتب في أكوارهم فكأنهم حملوا النخل وهذا من متوسط الألغاز
وقد جاء من ذلك ما هو بشع باردفلا يستخرج إلا بمسائل الجبر والمقابلة أو بخطوط الرمل من القبض الداخل أو القبض الخارج والبياض والحمرة وغيرهاِ

ولئن كان معناه دقيقا يدل على فرط الذكاء فإني لا أعده من اللغة العربية فضلا عن أن يوصف بصفات الكلام المحمودة ولا فرق بينه وبين لغة الفرس والروم وغيرهما من اللغات في عدم الفهم
وأما ما ورد من الألغاز نثرا فقد ألغز الحريري في مقاماته ألغازا ضمنها ذكر الإبرة والمرود وذكر الدينار وهي أشهر كما يقال من قفا نبكفلا حاجة إلى إيرادها في كتابي هذا
وقد ورد من الألغاز شيء في كلام العرب المنثور غير أنه قليل بالنسبة إلى ما ورد في أشعارها وقد تأملت القرآن الكريم فلم أجد فيه شيئا منها ولا ينبغي أن يتضمن منها شيئالأنه لا يستنبط بالحدس والحرز كما تستنبط الألغاز
وأما ما ورد للعرب فيروى عن امريء القيس وزوجته عدة من الألغاز وذاك أنه سألها قبل أن يتزوجهافقال ما اثنان وأربعة وثمانية ؟ فقالت أما الإثنان فثديا المرأة وأما الأربعة فأخلاف الناقة وأما الثمانية فأطباء الكلبةثم إنه تزوجها وأرسل إليها هدية على يد عبد له وهي حلة من عصب اليمن ونحي من عسل ونحي من سمن فنزل العبد ببعض المياه ولبس الحلة فعلق طرفها بسمرة فانشق وفتح النحيين وأطعم أهل الماء ثم قدم على المرأة وأهلها خلوف فسأل عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها الهدية فقالت له أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين وأن أخي يرقب الشمس وأخبره أن سماءكم انشقت وأن وعاءيكم نضبا فعاد العبد إلى امرىء القيس وأخبره بما قالته له فقال أما أبوها فإنه ذهب يحالف قوما على قومه وأما أمها فإنها ذهبت تقبل امرأة وأما أخوها فإنه في سرح يرعاه إلى أن تغرب الشمس وأما قولها ( إن

سماءكم انشقت ) فإن الحلة انشقت وأما قولها " إن وعائيكم نضبا " فإن النحيين نقصا ثم قال للعبد أصدقني فقال له إني نزلت بماء من مياه العرب وفعلت كذا وكذا
فهذا وأمثاله قد ورد عنهم إلا أنه يسير
وكذلك يروى عن شن بن أقصى وكان ألزم نفسه ألا يتزوج إلا امرأة تلائمه فصاحبه رجل في بعض أسفاره فلما أخذ منهما السير قال له شن أتحملني أم أحملك ؟ فقال له الرجل يا جاهلهل يحمل الراكب راكبا ؟ فأمسك عنه وسارا حتى أتيا على زرع فقال شن أترى هذا الزرع قد أكل ؟ فقال له يا جاهلأما تراه في سنبله فأمسك عنه ثم سارا فاستقبلتهما جنازة فقال شن أترى صاحبها حيا ؟ فقال له الرجل ما رأيت أجهل منك ! أتراهم حملوا إلى القبر حيا ؟ ثم إنهما وصلا إلى قرية الرجل فسار به إلى بيته وكانت له بنته فأخذ يطرفها بحديث رفيقه فقالت ما نطق إلا بالصواب ولا استفهم إلا عما يستفهم عن مثله أما قوله ( أتحملني أم أحملك ) فإنه أراد أتحدثني أم أحدثك حتى نقطع الطريق بالحديث وأما قوله ( أترى هذا الزرع قد أكل ) فإنه أراد هل استسلف ربه ثمنه أم لا وأما استفهامه عن صاحب الجنازة فإنه أراد هل خلف له عقبا يحيا بذكره أم لا فلما سمع كلام ابنته خرج إلى شن وحدثه بتأويلها فخطبها فزوجه إياها
وأدق من هذا كله وألطف ما يحكى عن رجل من المناقذة أصحاب شيرز وهو أولهم الذي استنقذه من أيدي الروم بالمكر والخديعة ولذلك قصة ظريفة وليس هذا موضع ذكرها وكان قبل ملكه إياها في خدمة محمود بن صالح صاحب حلب وكان إذ ذاك يلقب بسديد الملك فنبا به مكانه وحدثت له حادثة أوجبت له أن هرب ومضى إلى مدينة ترابلس في زمن بني عمار أصحاب البلد فأرسل إليه ابن صالح واستعطفه ليعود إليه فخافه ولم يعد فأحضر ابن صالح رجلا من أهل حلب صديقا لابن منقذ وبينه وبينه لحمة مودة أكيدة وأجلسه بين يديه وأمره أن يكتب إليه كتابا عن نفسه يوثقه من جهة ابن صالح ليعود فما وسعه إلا أن يكتب وهو يعلم أن باطن الأمر في ذلك خلاف ظاهره وأنه متى عاد ابن منقذ إلى حلب

هلك فأفكر وهو يكتب في إشارة عمياء لا تفهم ليضعها فيه يحذر بها ابن منقذ فأداه فكره أن كتب في آخر الكتاب عند إنهائه " إن شاء الله تعالى " ِوشدد إن وكسرها ثم سلم الكتاب إلى ابن صالح فوقف عليه وأرسله إلى ابن منقذ فلما صار في يده وعلم ما فيه قال هذا كتاب صديقي وما يغشني ولولا أنه يعلم صفاء قلب ابن صالح لي لما كتب إلي ولا غرني ثم عزم على العود وكان عنده ولده فأخذ الكتاب وكرر نظره فيه ثم قال له يا أبت مكانك فإن صديقك قد حذرك وقال لا تعد فقال وكيف ؟ قال إنه قد كتب إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب وشدد إن وكسرها وضبطها ضبطا صحيحا لا يصدر مثله عن سهو ومعنى ذلك أنه يقول إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك وإن شككت في ذلك فأرسل إلى حلب
وهذا من أعجب ما بلغني من حدة الذهن وفطانة الخاطر ولولا أنه صاحب الحادثة المخوفة لما تفطن إلى مثل ذلك أبدالأنه ضرب من علم الغيب وإنما الخوف دله على استنباط ما استنبطه
ووجد لبعض الأدباء لغز في حمامفمنه ما أجاد فيهكقوله وقد أظلتها سماء ذات نجوم لا استراق لها ولا رجوم وهي مركبة في فلك صحت استدارته وسكنت إدارته
( أَعْجِبْ بِهَا مِنْ أنْجُمٍ ... عِنْدَ الْصَّبَاحِ ظَاهِرَهْ )
( لَكِنَّهَا إِذَا بَدَا ... نَجْمُ الْظَّلامِ غَائِرَهْ ) فهي على القياس جنة نعيم مبنية على لظى جحيم لا خلود فيها ولا مقام ولا تزاور بين أهلها ولا سلام أنهارها متدفقة ومياهها مترقرقة والأكواب بها موضوعة والنمارق عنها منزوعة
( يُطِيعُ بِهَا الْمَوْلَى أَوَامِرَ عَبْدِهِ ... وَيُصْبِحُ طَوْعاً في يَدَيْهِ مَقَاتِلُهْ )
( وَيُرْفَعُ عَنْهُ التَّاجُ عِنْدَ دُخُولِهِ ... وتُسْلَبُ مِنْ قَبْلِ الجُلُوسْ غَلاَئِلُهْ )

هذا اللغز من فصيح الألغاز لا يقال إن صاحبه في العمى صانع العكاز وإذا تطرز غيره بلمعة من الوشي فهذا كله طراز
ومما سمعته من الألغاز الحسان التي تجري في المحاورات ما يحكى عن عمر بن هبيرة وشريك النميري وذاك أن عمر بن هبيرة كان سائرا على برذون له وإلى جانبه شريك النميري على بغلة فتقدمه شريك في المسير فصاح به عمر أغضض من لجامها فقال أصلح الله الأمير إنها مكتوبة فتبسم عمر ثم قال له ويحك لم أرد هذا فقال له شريك ولا أنا أردته
وكان عمر أراد قول جرير
( فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرِ ... فَلا كَعْباً بَلَغْتَ وَلا كِلاَبَا )
فأجابه شريك بقول الآخر
( لا تَأْمَنَنَّ فَزَارِياً نَزَلَتْ بِهِ ... عَلَى قَلُوصِكَ واكْتُبْهَا بِأَسْيَارِ ) وهذا من الألغاز اللطيفة وتفطن كل من هذين الرجلين لمثله ألطف وأحسن
ومما يجري هذا المجرى أن رجلا من تميم قال لشريك النميري ما في الجوارح أحب إليّ من البازي ؟ فقال له شريك إذا كان يصيد القطا

وكان التميمي أراد قول جرير
( أَنَا الْبَازِي المُطِلُّ عَلَى نُمَيْرٍ ... أُتِيحَ مِنَ السَّماءِ لَهَا انْصِبابَا ) وأراد شريك قول الطرماح
( تَمِيمٌ بِطُرْقِ اللُّؤْمِ أَهْدَى مِنَ الْقَطَا ... وَلَوْ سَلَكَتْ طُرْقَ المَكَارِمِ ضَلَّتِ )
واعلم أن خواطر الناس تتفاضل كتفاضل الأشخاص ومن ههنا قيل سبحان خالق أبي موسى وعمرو ابن العاص

النوع الثاني والعشرون
في المبادي والافتتاحات
هذا النوع هو أحد الأركان الخمسة البلاغية المشار إليها في الفصل التاسع من مقدمة الكتاب
وحقيقة هذا النوع أن يجعل مطلع الكلام من الشعر أو الرسائل دالا على المعنى المقصود من ذلك الكلام إن كان فتحا ففتحا وإن كان هناء فهناء أو كان عزاء فعزاء وكذلك يجري الحكم في غير ذلك من المعاني
وفائدته أن يعرف من مبدأ الكلام ما المراد به ولم هذا النوع
والقاعدة التي يبني عليها أساسه أنه يجب على الشاعر إذا نظم قصيدا أن ينظرفإن كانت مديحا صرفا لا يختص بحادثة من الحوادث فهو مخير بين أن يفتتحها بغزل أو لا يفتتحها بغزل بل يرتجل المديح ارتجالا من أولها كقول القائل
( إنْ حَارَتِ الأَلْبَابُ كَيْفَ تَقُولُ ... في ذَا المَقَامِ فَعُذْرُهَا مَقْبُولُ )
( سَامِحْ بِفَضْلِكَ مَادِحِيكَ فَمَا لَهُمْ ... أَبَداً إِلى مَا تَسْتَحِقُّ سَبِيلُ )
( إِنْ كَانَ لاَ يُرْضِيكَ إِلاَّ مُحْسِنٌ ... فَالْمُحْسِنُونَ إِذاً لَدَيْكَ قَلِيلُ )
فإن هذا الشاعر ارتجل المديح من أول القصيدة فأتى به كما ترى حسنا لائقا
وأما إذا كان القصيد في حادثة من الحوادثكفتح مقفل أو هزيمة جيش أو غير ذلكفإنه لا ينبغي أن يبدأ فيما بغزل وإن فعل ذلك دل على ضعف قريحة الشاعر وقصوره عن الغاية أو على جهله بوضع الكلام في مواضعه
فإن قيل إنك قلت يجب على الشاعر كذا وكذا فلم ذلك

قلت في الجواب إن الغزل رقة محضة والألفاظ التي تنظم في الحوادث المشار إليها من فحل الكلام ومتين القول وهي ضد الغزل وأيضا فإن الأسماع تكون متطلعة إلى ما يقال في تلك الحوادث والابتداء بالخوض في ذكره لا الابتداء بالغزلإذ المهم واجب التقديم
ومن أدب هذا النوع ألا يذكر الشاعر في افتتاح قصيدة المديح ما يتطير منه وهذا يرجع إلى أدب النفس لا إلى أدب الدرس فينبغي أن يحترز منه في مواضعه كوصف الديار بالدثور والمنازل بالعفاء وغير ذلك من تشتت الآلاف وذم الزمان لا سيما إذا كان في التهاني فإنه يكون أشد قبحا وإنما يستعمل ذلك في الخطوب النازلة والنوائب الحادثة ومتى كان الكلام في المديح مفتتحا بشيء من ذلك تطير منه سامعه
وإنما خصت الابتداءات بالاختيار لأنها أول ما يطرق السمع من الكلامفإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفرت الدواعي على استماعه ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور وكذلك الابتداءات بالنداء كقول تعالى في مفتتح سورة النساء ( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) وكقوله تعالى في أول سورة الحج ( يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) فإن هذا الابتداء مما يوقظ السامعين للإصغاء إليه وكذلك الابتداءات بالحروف كقوله تعالى ( ألم ) و ( طس ) و ( حم ) وغير ذلكفإن هذا أيضا مما يبعث على الاستماع إليهلأنه يقرع السمع شيء غريب ليس له بمثله عادةفيكون ذلك سببا للتطلع نحوه والإصغاء إليه
ومن قبيح الابتداءات قول ذي الرمة
( مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ ... )

لأن مقابلة الممدوح بهذا الخطاب لا خفاء بقبحه وكراهته
ولما أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قصيدته التي أولها
( خَفَّ الْقَطِينُ فَرَاحُوا مِنْكَ أو بَكَرُوا ... ) قال له عند ذلك لا بل منك وتطير من قولهفغيرها ذو الرمةوقال
( خَفَّ الْقَطِينُ فَرَاحُوا الْيوْمَ أوْ بَكَرُوا ... )
ومن شاء أن يذكر الديار والأطلال في شعره فليتأدب بأدب القطامي على جفاء طبعه وبعده عن فطانة الأدبفإنه قال
( إِنَّا مُحَيُّوكَ فَاسْلَمْ أْيُّهَا الطَّلَلُ ... ) فبدأ قبل ذكر الطلل بذكر التحية والدعاء له بالسلامة
وقد قيل إن امرأ القيس كان يجيد الابتداء كقوله
( ألاَ انْعَمْ صَباحاً أيُّها الطَّلَلُ الْبالي ... )
وكقوله
( قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمنْزِلِ ... )

ومما يكره من الابتداءات قول أبي تمام
( تَجَرَّعْ أَسًى قَدْ أَقْفَرَ الْجَرَعُ الْفَرْدُ ... ) وإنما ألقى أبا تمام في مثل هذا المكروه تتبعه للتجنيس بين تجرع والجرع وهذا دأب الرجل فإنه كثيراً ما يقع في مثل ذلك
وكذلك استقبح قول البحتري
( فؤادٌ مَلاَهُ الحُزْنُ حَتَّى تَصَدَّعا ... )
فإن ابتداء المديح بمثل هذا طيرة ينبو عنها السمع وهو أجدر بأن يكون ابتداء مرئية لا مديح وما أعلم كيف يخفى على مثل البحتري وهو من مفلقي الشعراء
وحكي أنه لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه وجمع أهله وأصحابه وأمرهم أن يخرجوا في زينتهمفما رأى الناس أحسن من ذلك اليومفاستأذن إسحق بن إبراهيم الموصلي في الإنشادفأذن له فأنشد شعرا حسنا أجاد فيه إلا أنه استفتحه بذكر الديار وعفائها فقال
( ياَ دَارُ غَيَّرَكِ الْبِلَى وَمَحَاكِ ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي أَبْلاَكِ )
فتطير المعتصم بذلك وتغامز الناس على إسحق بن إبراهيم كيف ذهب عليه مثل ذلك مع معرفته وعمله وطول خدمته للملوك ثم أقاموا يومهم وانصرفوا فما عاد منهم اثنان إلى ذلك المجلس وخرج المعتصم إلى سرَّ من رأى وخرب القصر
فإذا أراد الشاعر أن يذكر داراً في مديحه فليذكر كما ذكر أشجع السلمي حيث قال

( قَصْرٌ عَلَيْهِ تَحِيَّةٌ وَسَلامُ ... خَلَعَتْ عَلَيْهِ جَمَالَهَا الأيَّامُ )
وما أجدر هذا البيت بمفتتح شعر إسحق بن إبراهيم الذي أينشده للمعتصمفإنه لو ذكر هذا أو ما جرى مجراه لكان حسنا لائقا
وسئل بعضهم عن أحذق الشعراء فقال من أجاد الابتداء والمطلعألا ترى إلى قصيدة أبي نواس التي أولها
( يَا دَارُمَا فَعَلَتْ بِكِ الأَيَّامُ ... لَمْ تُبْقِ فِيكِ بَشَاشَةً تُسْتَامُ )
فإنها من أشرف شعره وأعلاه منزلة وهي مع ذلك مستكرهة الابتداءلأنها في مدح الخليفة الأمين وافتتاح المديح بذكر الديار ودثورها مما يتطير منه لا سيما في مشافهة الخلفاء والملوك
ولهذا يختار في ذكر الأماكن والمنازل ما رقَّ لفظه وحسن النطق به كالعذيب والغوير ورامة وبارق والعقيق وأشباه ذلك
ويختار أيضا أسماء النساء في الغزل نحو سعاد وأميم وفوز وما جرى هذا المجرى
وقد عيب على الأخطل في تغزله بقذور وهو اسم امرأةفإنه مستقبح في الذكر وقد عيب على غيره التغزل باسم تماضر فإنه وإن لم يكن مستقبحا في معناه فإنه ثقيل على اللسان كما قال البحتري
( إنَّ لِلْبَيْنِ مِنَّةً لاَ تُؤَدَّى ... وَ يَداً فِي تُمَاضِرٍ بَيْضَاءَ )
فتغزله بهذا الاسم مما يشوه رقة الغزل ويثقل من خفته وأمثال هذه الأشياء يجب مراعاتها والتحرز منها
وقد استثنى من ذلك ما كان اسم موضع تضمن وقعة من الوقائعفإن ذكره لا يكره وإن كان في اسمه كراهة كما ذكر أبو تمام في شعره مواضع مكروهة الأسماء لضرورة ذكر الوقائع التي كانت بها كذكر الحشال وعقوقس وأمثالهما وكذلك ذكر أبو الطيب المتنبي هنزيط وشميصاط وما جرى مجراهما وهذا لاعيب

ففي ذكرهلمكان الضرورة التي تدعو إليه وهكذا يسامح الشاعر والكاتب أيضا في ذكر ما لابد من ذكره وإن قبح ومهما أمكنه من التورية في هذا المقام فليسلكها وما لا يمكنه فإنه معذور فيه
واعلم أنه ليس من شرط الابتداء ألا يكون مما يتطير منه فقطفإن من الابتداءات ما يستقبح وإن لم يتطير منه كقول أبي تمام
( قَدْكَ اتَّئِبْ أرْبَيْتَ فِي الْغُلَوَاءِ ... ) وكقوله
( تَقِي جَمَاَتِي لَسْتُ طَوْعَ مُؤَنِّبَى ... ) وكقول أبي الطيب المتنبي
( أقَلُّ فَعَالِي بَلْهَ أَكْثَرَهُ مَجْدُ ... ) وكقوله
( كُفِّي أَرَانِي وَيْكِ لَوْمَكِ ألوَمَا ... )

والعجب أن هذين الشاعرين المفلقين يبتدئان بمثل ذلك ولهما من الابتداءات الحسنة ما أذكره
أما أبو تمام فإنه افتتح قصيدته التي مدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمورية فقال
( السَّيْف أصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ ... فِي حَدِّهِ الْحَدُّ بَيْنَ الْجِدِّ وَالَّلعِبِ )
( بِيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي ... مُتُونِهِنَّ جِلاَءُ الشَّكِّ والرِّيَب )
وهذه الأبيات لها قصة وذلك أنه لما حضر المعتصم مدينة عمورية زعم أهل النجامة أنها لا تفتح في ذلك الوقت وأفاضوا في هذا حتى شاع وصار أحدوثة بين الناس فلما فتحت بنى أبو تمام مطلع قصيدته على هذا المعنى وجعل السيف أصدق من الكتب التي خبرت بامتناع البلد واعتصامهاولذلك قال فيها
( وَالْعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لامِعَةً ... بَيْنَ الْخَمِيسَيْنِ لا في السَّبْعَةِ الشُّهُبِ )
( أَيْنَ الرِّوَايَةُ أمْ أيْنَ النُّجُومُ وَمَا ... صَاغُوهُ مِنْ زُخْرُفٍ فيها وَمِنْ كَذِبِ )
( تَخَرُّصاً وَأَحَادِيثاً مُلَفَّقَةً ... لَيْسَتْ بِنَبْعٍ إِذَا عُدَّتْ وَلا غَرَبِ )
وهذا من أحسن ما يأتي في هذا الباب
وكذلك قوله في أول قصيدة يمدحه بها أيضا ويذكر فيها خروج بابك الخرمي عليه وظفره به وهي من أمهات شعره فقال
( الْحَقُّ أَبْلَجُ وَالْسُّيُوفُ عَوَارِ ... فَحَذَارِ مِنَ أُسْدِ الْعَرِينِ حَذَارِ )
وكذلك قوله متغزلا
( عَسَى وَطَنٌ يَدْنو بِهِمْ وَلَعَلَّمَا ... وَأَنْ تُعْتِبَ الأَيَّامُ فِيهِمْ فَرُبَّمَا )
وهذا من الأغزال الحلوة الرائقة وهو من محاسن أبي تمام المعروفة
وكذلك قوله في أول مرثية
( أَصَمَّ بِكَ النَّاعِي وَإِنْ كَانَ أَسْمَعَا ... وَأَصْبَحَ مَغْنى الْجُودِ بَعْدَكَ بَلْقَعا )

وأما أبو الطيب فإنه أكثر من الابتداءات الحسنة في شعرهكقوله في قصيدة يمدح بها كافوراوكان قد جرت بينه وبين ابن سيده نزغة فبدأ قصيدته بذكر الغرض المقصود فقال
( حَسَمَ الصُّلْحُ مَا اشْتَهَتْهُ الأَعَادِي ... وأَذَاعَتْهُ ألْسُنُ الْحُسَّادِ ) وهذا من بديع الابتداء ونادره
وكذلك ورد قوله في سيف الدولة وكان ابن الشمشقيق حلف ليلقينه كفاحا فلما التقيا لم يطق ذلك وولى هاربا فافتتح أبو الطيب قصيدته بفحوى الأمر فقال
( عُقْبَى الْيَمِينِ عَلَى عُقْبَى الْوَغَى نَدَمُ ... مَاذَا يَزِيدُكَ فِي إِقْدَامِكَ الْقَسَمُ )
( وَفي الْيَمِينِ عَلَى ما أَنْتَ وَاعِدُهُ ... مَا دَلَّ أَنَّكَ في الْمِيعَادِ مُتَّهَمُ )
وكذلك قوله وقد فارق سيف الدولة وسار إلى مصر فجمع بين ذكر فراقه إياه ولقائه كافورا في أول بيت من القصيدة فقال
( فِرَاقُُ وَمن فَارَقتَ غَيْرُ مَدَمَّمِ ... وَأمٌّ وَمَنْ يَمَّمْتَ خَيْرُ مُيَمَّمِ ) ومن البديع النادر في هذا الباب قوله متغزلا في مطلع قصيدته القافية وهي
( أَتُرَاهَا لِكَثْرَةِ الْعُشَّاقِ ... تَحْسِبُ الْدَّمْعَ خِلْقَةً في المَآقِي ) وله مواضع أخر كثيرة لا حاجة إلى ذكرها

ومن محاسن الابتداءات التي دلت على المعنى من أول بيت في القصيدة ما قرأته في كتاب الروضة لأبي العباس المبرد فإنه ذكر غزوة غزاها الرشيد هرون رحمه الله في بلاد الرومِ وأن نقفور ملك الروم خضع له وبذل الجزية فلما عاد عنه واستقر بمدينة الرقة وسقط الثلج نقض نقفور العهد فلم يجسر أحد على إعلام الرشيدلمكان هيبته في صدور الناس ِوبذل يحيى بن خالد للشعراء الأموال على أن يقولوا أشعارا في إعلامه فكلهم أشفق من لقائه بمثل ذلك إلا شاعرا من أهل جدة يكنى أبا محمد وكان شاعرا مفلقا فنظم قصيدا وأنشدها الرشيد أولها
( نَقَضَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ نقْفُورُ ... فَعَلَيْهِ دَائِرَةُ الْبَوَارِ تَدُورُ )
( أَبْشِرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ فَإِنَّهُ ... فَتْحٌ أَتاكَ بِهِ الإِلَهُ كَبِيرُ )
( نقْفُورُإِنَّكَ حِينَ تَغْدِرُ - أنْ نَأَى ... عَنْكَ الإِمَامُ - لَجَاهِلٌ مَغْرُورُ )
( أَظْنَنْتَ حِينَ غَدَرْتَ أنَّكَ مُفْلِتٌ ... هَبِلَتْكَ أمُّكَ ! مَا ظَنَنْتَ غُرُورُ ) فلما أنهى الأبيات قال الرشيد أو قد فعل ؟ ثم غزاه في بقية الثلج وقتح مدينة هرقلة
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الإصبهاني ما رواه من شعر سديف في تحريض الخليفة السفاح رحمه الله علي بني أمية فقال قدم سديف من مكة الى الحيرة والسفاح بها ووافق قدومه جلوس السفاح للناس وكان بنو امية يجلسون عنده على الكراسي تكرمة لهمفلما دخل عليه سديف حسر لثامه وأنشده أبياتا من الشعرفالتفت رجل من أولاد سليمان بن عبد الملك وقال لآخر إلى جانبه قتلنا والله العبد فلما أنهى الأبيات أمر بهم السفاح فأخرجوا من بين يديه وقتلوا عن آخرهم وكتب الى عماله بالبلاد يأمرهم بقتل من وجدوه منهم ومن الأبيات
( أَصْبَحَ الدِّينُ ثَابِتاً في الأّسَاسِ ... بِالْبَهَالِيلِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ )

( أَنْتَ مَهْدِيُّ هَاشِمٍ وَهُدَاهَا ... كَمْ أُنَاسٍ رَجَوْكَ بَعْدَ إِيَاسِ )
( لاَ تُقِيلَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ عِثاراً ... وَاقْطَعَنْ كُلَّ رَقلة وَغِرَاسِ )
( أَنْزِلُوها بِحَيْثُ أَنْزَلَهَا اللهُ بِدَارِ الهَوَانِ وَالإِتْعاسِ )
( خَوْفُهُمْ أَظْهَرَ التَّوَدُّدَ فِيهِمْ ... وَبِهِمْ مِنْكُمُ كَحَزِّ المَوَاسِي )
( أَقْصِهِمْ أَيُّهَا الخَليفَةُ وَاحْسِمْ ... عَنْكَ بِالسَّيْفِ شَأْفَةَ الأَرْجَاسِ )
( وَاذْكُرَنْ مَصْرَعَ الْحُسَيْنِ وَزَيْدٍ ... وَقَتيلاً بِجانِبِ الْمِهْرَاسِ )
( وَلَقَدْ سَاءنِي وَسَاءَ سِوَائِي ... قُرْبُهُمْ مِنْ مَنَابِرٍ وَكَراسِي ) وهذه الأبيات من فاخر الشعر ونادره افتتاحا وابتداء وتحريضا وتأليبا ولو وصفتها من الأوصاف بما شاء الله وشاء الإسهاب والإطناب لما بلغت مقدار مالها من الحسن
ومن لطيف الابتداءات ما ذكره مهيار ِوهو

( أَمَا وَهَوَاهَا عِذْرَةً وَتَنَصُّلاَ ... لَقَدْ نَقَلَ الْوَاشِي إِليْهَا فَأَمْحَلا )
( سَعَى جُهْدَهُ لكِنْ تَجَاوَزَ حَدَّهُ ... وكَثَّرَ فَارْتَابَتْ وَلَوْ شَاءَ قَللا ) فإنه أبرز الاعتذار في هيئة الغزل وأخرجه في معرض النسيب وكان وشي به الى الممدوح فافتتح قصيدته بهذا المعنى فأحسن
ومما جاء على نحو من ذلك قول بعض المتأخرين من العراقيين
( وَرَاءكَ أَقْوَالُ الْوُشَاةِ الْفَوَاجِر ... وَدُونَكَ أحْوَالُ الْغَرَامِ الْمُخَامِرِ )
( وَلَوْلاَ وَلُوعُُ مِنْكَ بِالصِّدِّ مَا سَعَوْا ... وَلَوْلا الْهَوَى لمْ أَنْتَدِبْ لِلْمَعَاذِرِ ) فسلك في هذا القول مسلك مهيار إلا أنه زاد عليه زيادة حسنة وهي المعاتبة على الإصغاء إلى أقوال الوشاة والاستماع منهم وذلك من أغرب ما قيل في هذا المعنى
ومن الحذاقة في هذا الباب أن تجعل التحميدات في أوائل الكتب السلطانية مناسبة لمعاني تلك الكتب وإنما خصصت الكتب السلطانية دون غيرها لأن التحاميد لا تصدر في غيرهافإنها تكون قد تضمنت أمورا لائقة بالتحميد كفتح مقفل أو هزيمة جيش أو ما جرى هذا المجرى
ووجدت أبا اسحق الصابي - على تقدمه في فن الكتابة - قد أخل بهذا الركن الذي هو من أوكد أركان الكتابة فإذا أتى بتحميدة في كتاب من هذه الكتب لا تكون مناسبة لمعنى ذلك الكتاب وإنما تكون في واد والكتاب في واد إلا ما قل من كتبه
فما خالف فيه مطلع معناه إنه كتب كتابا يتضمن فتح بغداد وهزيمة الأتراك عنها وكان ذلك فتحا عظيمافابتدأ بالتحميد وقال الحمد لله رب العالمين

الملك الحق المبين الوحيد الفريد العلي المجيد الذي لا يوصف إلا بسلب الصفات ولا ينعت إلا برفع النعوت الأزلي بلا ابتداء الأبدي بلا انتهاء القديم لا منذ أمد محدود الدائم لا إلا أجل معدود الفاعل لا من مادة استمدها ولا بآلة استعملها الذي لا تدركه الأعين بلحاظها ولا تحده الألسن بألفاظها ولا تخلقه العصور بمرورها ولا تهرمه الدهور بكرورها و لا تضارعه الأجسام بأقطارها ولا تجانسه الصور بأعراضها ولا تجاريه أقدام النظر أو الأشكال ولا تزاحمه مناكب القرناء والأمثال بل هو الصمد الذي لا كفء له والفذ الذي لا توأم معه والحي الذي لا تخرمه المنون والقيوم الذي لا تشغله الشئون والقدير الذي لا تئوده المعضلات والخبير الذي لا تعييه المشكلات
وهذه التحميدة لا تناسب الكتاب الذي افتتح بها ولكنها تصلح أن توضع في صدر مصنف من مصنفات أصول الدين ككتاب الشامل للجويني أو كتاب الاقتصاد أو ما جرى مجراهما وأما أن توضع في صدر كتاب فتح فلا
وهو وإن أساء في هذا الموضع فقد أحسن في مواضع آخر وذاك أنه كتب كتابا عن الخليفة الطائع رحمه الله تعالى إلى الأطراف عند عوده إلى كرسي ملكه وزوال ما نزل به وبأبيه المطيع رحمه الله من فادحة الأتراكفقال الحمد لله ناظم الشمل بعد شتاته وواصل الحبل بعد بتابه وجابر الوهن إذا ثلم وكاشف الخطب إذا أظلم والقاضي للمسلمين بما يضم نشرهم ويشد أزرهم ويصلح ذات بينهم ويحفظ الألفة عليهم وإن شابت ذلك في الأحيان شوائب من الحدثان فلن يتجاوز بهم الحد الذي يوقظ غافلهم وينبه ذاهلهم ثم إنهم عائدون إلى فضل ما أولاهم الله وعودهم ووثق لهم ووعدهم من إيمان

سربهم وإعذاب شربهم وإعزاز جانبهم وإذلال مجانبهم وإظهار دينهم على الدين كله ولو كره المشركون
وهذه تحميدة مناسبة لموضوع الكتاب وإن كانت المعاني فيها مكررة كالذي أنكرته عليه وعلى غيره من الكتاب وقدمت القول فيه في باب السجعفليؤخذ من هناك
ومن المبادي التي قد أخلقت وصارت مزدراة أن يقال في أوائل التقليدات إن أحق الخدم بأن ترعى خدمة كذا وكذا وإن أحق من قلد الأعمال من اجتمع فيه كذا وكذاِ فإن هذا ليس من المبادي المستحسنة ومن استعمله أولا فقد ضعفت فكرته عن اقتراح ما يحسن استعماله من المبادئ والذي تبعه في ذلك إما مقلد ليس عنده قوة على أن يختار لنفسه وإما جاهل لا يفرق بين الحسن والقبيح والجيد والرديء وأهل زماننا هذا من الكتاب قد قصروا مبادي تقاليدهم على هذه الفاتحة دون غيرها وإن أتوا بتحميدة من التحاميد كانت مباينة لمعنى التقليد الذي وضعت في صدره وكذلك قد كان الكتاب يستعملون في التقليدات مبدأ واحدا لا يتجاوزونه إلى غيره وهو هذا ما عهد فلان إلى فلان والتحميد خير ما افتتح به التقليدات وكتب الفتوح وما جرى مجراهما وقد أنكرت ذلك على مستعمله في مفتتح تقليد أنشأته بولاية وال فقلت كانت التقليدات تفتتح بكلام ليس بذي شأن ولا يوضع في ميزان ولا يجتني من أفنان وغاية ما يقال هذا ما عهد فلان إلى فلان وتلك فاتحة لم تكن جديدة فتخلق بتطاول الأيام ولا حسنة النظم فيضاهى بمثلها من ذوات النظام وهذا التقليد مفتتح بحمد الله الذي تكفل لحامده بالزيادة وبدأ النعمة ثم قرنها من فضله بالإعادة وهو الذي بلغ بنا من مآرب الدينا منتهى الإرادة وسلم إلينا مقاده فذلل لنا بها كل مقادة ووسد الأمر منا إلى أهله فاستوطأت الرعايا منه على وسادة ونرجوا أن يجمع لنا بين سعادة الأولى والأخرى حتى تتصل هذه السعادة ثم نصلي على نبيه محمد الذي ميزه الله

على الأنبياء بشرف السيادة وجعل انشقاق القمر له من آيات النبوة وانشقاق الإيوان من آيات الولادة وعلى آله وأصحابه الذين شادوا الدين من بعده فأحسنوا في الإشادة وبسطت عليهم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلهم فلم يحولوا عن خلق الزهادة أما بعد كذا وكذا ثم أنهيت التقليد إلى آخره
ومن الحذاقة في هذا الباب أن يجعل الدعاء في أول الكتاب من السلطانيات والإخوانيات وغيرهما مضمنا من المعنى ما بني عليه ذلك الكتاب وهذا شيء انفردت بابتداعه وتراه كثيرا فيما أنشأته من المكاتباتفإني توخيته فيها وقصدته
فمن ذلك ما كتبته في الهناء بفتح وهو هذا الكتاب مشافه بخدمة الهناء للمجلس السامي الفلاني جدد الله له في كل يوم فتحا وبدل عرش كل ذي سلطان لديه صرحا وجعل كل موقف من مواقف جوده وبأسه يوم فطر ويوم أضحى وكتب له على لسان الإسلام ولسان الأيام ثناء خالدا ومدحا وأسكنه بعد العمر الطويل دارا لا يظمأ فيها ولا يضحىِثم أخذت بعد ذلك في إنشاء الكتاب المتضمن ما يقتضيه معاني ذلك الفتح
ومن ذلك ما ذكرته في الهناء بمولود وهو جدد الله مسرات المجلس السامي الفلاني ووصل صبوح هنائه بغبوقه وأمتعه بسليله المبشر بطروقه وأبقاه حتى يستضيء بنوره ويرمي عن فوقه وسر به أبكار المعاني حتى تخلق أعطافها بخلوقه وجعله كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه ثم أخذت في إتمام الكتاب بالهناء بالمولود على حسب ما اقتضاه ذلك المعنى
فتأمل ما أوردته ههنا من هذين المثالين وانسج على منوالهما فيما تقصده من المعاني التي تبني عليها كتبكفإن ذلك من دقائق هذه الصناعة
وأما فواتح الكتب التي أنشأتها فمنها ما اخترعته اختراعا ولم أسبق إليه وهي عدة كثيرة وقد أوردت ههنا بعضها
فمن ذلك مفتتح كتاب إلى ديوان الخلافة وهو نشأت سحابة من سماء الديوان العزيز النبوي جعل الله الخلود لدولته أوطانا والحدود لها أركانا ونصب

أيامها في أيام الدهر أحيانا وصورها في وجهه عينا وفي عينه إنسانا ومد ظلها على الناس عدلا وإحسانا وجمع الأمم على دين طاعتها وإن تفرقوا أديانا وأتاها من معجزات سلطانه ما لم ينزل به لغيره سلطانا فارتاح الخادم لالتقائها وبسط يده لاستسقائها وقال رحمة مرسلة لا تخشى رعودها ولا تخلف وعودها ومن شأنها ترويض الصنائع التي تبقي آثارها لا الحمائل التي تذوي أزهارها وقد يعبر عن الكتاب ونائله بالسحاب ووابلهفإن صدر عن يد كيد الديوان العزيز فقد وقع التشبيه موقع الصواب وصدق حينئذ قول القائل إن البحر عنصر السحاب لكن فرق بين ما يجود بمائه وما يجود بنعمائه وبين ما يسم الأرض الماحلة وبين ما يسمي الأقدار الخاملة وما زالت كتب الديوان العزيز تضرب لها الأمثال وتصرف نحوها الآمال ويرى الحسد فيها حسدا وإن عد في غيرها من سيء الأعمال وهذا فصل من أول الكتاب
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وأرسلته إليه من الموصل إلى أرض الشمال من بلاد الروم وهو طلع كوكب من أفق المجلس السامي لا خلت سيادته من عدو وحاسد ولا شينت بتوأم يخرجها عن حكم الواحد ولا عدمت صحبة الجدود المتيقظة في الزمن الراقد ولا أوحشت الدنيا من ذره الخالد الذي هو عمر خالد ولا زال مرفوعا إلى المحل الذي يعلم به أن الدهر ناقد والكواكب تختلف مطالعها في الشمال والجنوبفمنها ما يطلع دائما في أحدهما وهو في الآخر دائم الغروب وكتاب المجلس كوكب لم ير بهذه الأرض مطلعه وإن علم من السماء أين موضعه ولما ظهر الآن للخادم سبح له حامدا وخر له ساجدا وقال قد عبدت الكواكب من قبلي فلا عجب أن أكون لهذا الكوكب عابدا وها أنا قد أصبحت بالعكوف على عبادته مغرى وقال الناس هذا ابن كبشة الكتاب لا ابن أبي كبشة الشعرى
وهذا مطلع غريب والسياقة التالية لمطلعه أغرب ومن أغرب ما فيها قولي " وها أنا قد أصبحت بالعكوف على عبادته مغرى وقال الناس هذا ابن كبشة

الكاتب لا ابن أبي كبشة الشعري " والمراد بذلك أن ابن كبشة كان رجلا في الجاهلية يعبد الشعرى فخالف بذلك دين قومه ولما بعث النبي قالت قريش هذا قد خالف ديننا وسموه " ابن أبي كبشة " أي أنه قد خالفنا كما خالف أبو كبشة قومه في عبادة الشعرى فأخذت أنا هذا المعنى وأودعته كتابي هذا فجاء كما تراه مبتدعا غريبا
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان بالشام وهو طلعت من الغرب شمس فقيل قد آذنت أشارط الساعة بالاقتراب ولم يعلم أن تلك الأنوار إنما هي أنوار الكتاب لم تألف الأبصار من قبله أن تطلع الشمس من المغرب وليس ذلك إلا كتاب المجلس لا سلبه الله مزية هذا الوصف الكريم وأتاه من الفضل ما يقال معه وفوق كل ذي علم عليم وأحيا النفوس من كلمها بروح كلمه كما شفي غليلها من أقلامه بسقيا الكليم ولما ورد عن الخادم صار ليله نهارا وأصبح الناس في الحديث به أطوارا والمنصف منهم يقول قد جرت الشمس إلى مستقرها والشمس لا تجد قرارا
وهذا الكتاب في الحسن والغرابة كالذي قبله
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وهو تأوب زور من جانب المجلس السامي أدنى الله داره وجعل كلماته التامة جاره وأشهد أفعال التقوى ليله وأفعال المكارم نهاره ووهبه من أعوام العمر طواله ومن أعوام العيش قصاره ولا أقدر السابقين إلى المعالي أن يجروا معه ولا أن يشقوا غباره وليس ذلك الزور إلا سطورا في قرطاس ولا فرق بين الكتاب وبين مرسله في ملاطفة الإيناس والله لا يصغر ممشى هذا الزائر ويقر عيني برؤيته حتى لا أزال به قرير الناظر ومع هذا فإني عاتب لتأخره وههنا مظنة العتاب ومن تأخر عنه كتاب صديقه فلا بد أن يخطر له خاطر الارتياب والضنين بالمودة لا يرى إلا ظنينا وقد قيل إنها وديعة وقليلا ما تجد على الودائع أمينا

وهذا فصل من أول الكتاب
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وهو سنحت روضة من جانب المجلس السامي جعل الله المعالي له رداء ونهايات المساعي له ابتداء وفداه بمن يقصر عن درجته حتى تكون الأكارم له فداء وهدى المحامد لأفعاله وأهدى البقاء لأيامه حتى يجتمع له الأمران هدى وإهداء وأتاه من السيادة ما يجعل أعداءه أصادق ومن السعادة ما يجعل أصدقاءه أعداء فاستنشق الخادم رباها وتلقى بالتحية محياها واستمع بأزهارها التي أنبتها سقيا الأقلام لا سقي الغمام وقال هذا ربيع الأرواح لا ربيع الأجسام ولو رام الإحاطة بوصفها لكانت الأقوال المطولة فبها مختصرة ولكنه اكتفى بان رفعها على رأسه حتى يتمثل أن الجنة في شجرة ومن أوصافها أنها جاءت رائدة ومن شأن الروض أن يرتاد وحلت محاسنها التي هي في غيرها من حظ البصر وفيها من حظ السمع والبصر والفؤاد ولما سرح فيها وجد شوقه حمامة تغرد في أكنافها وتردد الشجى لبعد أليفها إذا رددته الحمائم لقرب ألافها وهذا قول له عند إخوان الصفاء علامة وإذا تمثل كتاب الحبيب روضة فهل يتمثل شوق محبه إلا حمامة وأي فرق بين هذه وبين أخواتها من ذوات الأطواق ؟ لولا أنها تملي شجوها على صفحات القلوب وتلك تمليه على عذبات الأوراق
وهذا فصل من الكتاب وهو غريب عجيب وفيه معنيان مبتدعان وأعجبهما وأغربهما قولي " حتى يتمثل أن الجنة في شجرة " وهذا مستخرج من الحديث النبوي
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وهو تضوعت نفخة من تلقاء المجلس السامي رعى الله عهده وسقاه وصان وده ووفاه ويسر لي إلقاء العصا بملقاه فعطرت الطريق التي سايرتها والريح التي جاورتها وأنت فأفرشتها خدي وضممت عليها ودي وجعلتها درعا لجيبي ولطيمة لردني وسخابا لعقدي وعلمت أنها ليست بنفخة طيب ولكنها كتاب حبيب فإن مناشق الأرواح غير مناشق الأجسام ولا يستوي عرف الطيب وعرف الأقلام ثم مددت

يدي إلى الكتاب بعد أن صافحت يد موصله كما صافحت عبقة مندله وقلت أهلا بمن أدنى من الحبيب مزارا وأهدى لعيني قرة ولقلبي قرارا
وهذا في الغرابة كأخواته التي تقدمت
ولم أستقص ما اخترعته من هذا الباب في مطالع الكتب
وأما ما أتيت فيه بالحسن من المعاني ولكنه غير مخترعفمن ذلك مطلع كتاب كتبته عن الملك نور الدين أرسلان بن مسعود صاحب الموصل إلى الملك الأفضل علي بن يوسف يتضمن تعزية وتهنئة أما التعزية فبوفاة أخيه الملك العزيز عثمان صاحب مصر وأما التهنئة فبوراثة الملك من بعده وهو لا يعلم القلم أينطق بلسان التعزية أم بلسان التهنية لكنه جمعهما جميعا فأتى بهما على حكم التثنية وفي مثل هذا الخطب يظل القلم حائرا وقد وقف موقف السخط والرضا فسخط أولا ثم رضي آخرا وهذا البيت الناصري يتداول درجات العلى فما تمضي إلا وإليه ترجع وشموسه وأقماره تتناقل مطالع السعود فما يغيب منها غائب إلا وآخر يطلع والناس إن فجعوا بماجد ردفه من بعده ماجد وإن قيل إن الماضي كان واحدا قيل بل الآتي هو الواحد
وهذا فصل من أول الكتاب ثم كتبت في هذا المعنى كتابين آخرين وفي الذي أوردته من هذا الفصل مقنع
ومن هذا الأسلوب ما كتبته إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه وكانت الكتب قد انقطعت بيني وبينه زمانا وهو لقاء كتب الأحباب كلقاء الأحباب وقد تأتي بعد يأس منها فيشتبه لها دمع السرور بدمع الاكتئاب ومن أحسنها كتاب المجلس السامي الفلاني جعل الله الليالي له صحبا والمعاني له عبقا ورفع مجده فوق كل ماجد حتى تكون حسناتهم لدى حسناته ذنبا ولا زال اسمه في الأفواه عذبا وذكره في الألسنة رطبا ووده لكل إنسان إنسانا ولكل قلب قلبا
ثم انتهيت إلى آخر الكتاب على هذا النسق وإنما ذكرت ههنا مبتدأه لأنه الغرض المقصود في هذا الموضع
ومن ذلك ما كتبته إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه وهو البشرى تعطى

للكتاب كما تعطي لمرسله وكل منهما يوفي حق قدره وينزل في منزله وكذلك فعل الخادم بكتاب المجلس السامي الفلاني لا زال محله أنيسا وذكره للفرقدين جليسا وسعيه على المكارم حبيسا ومجده جديد الملابس إذا كان المجد لبيسا
وههنا ذكرت من هذا الكتاب كما ذكرته من الذي قبله فإني لم أذكر إلا مبدأه الذي هو الغرض
ومما ينتظم في هذا السلك ما كتبته في صدر كتاب يتضمن تعزية وهو لو لم يلبس قلمي ثوب الحداد لهجر مداده ونضي عنه سواده وبعد عن قرينته وعاد إلى طينتهِ وحرم على نفسه أن يمتطي يدا أو يجري إلى مدى لكنه أحد فندب وبكى فسكب هذا الكتاب من دموعه وضمنه ما حملته أحناء ضلوعه وإنما استعار ذلك من صاحبه الذي أعداه وأبدى إليه من حزنه ما أبداه وهو نائب عنه في تعزية سيدنا أحسن الله صبره ويسر أمره وأرضى عنه دهره ثم أنهيت الكتاب إلى آخره
ومن محاسن هذا الباب أن يفتتح الكتاب بآية من القرآن الكريم أو بخبر من الأخبار النبوية أو ببيت من الشعرِثم يبني الكتاب عليه
فمن ذلك ما كتبته في ابتداء كتاب يتضمن البشرى بفتح وهو
( وَمَنْ طَلَبَ الْفَتْحَ الْجَليلَ فَإِنَّما ... مَفَاتِيحُهُ الْبيضُ الْخِفَافُ الصَّوارِمُ ) وقد أخذنا بقول هذا الشاعر الحكيم وجعلنا السيف وسيلة إلى استنتاج الملك العقيمِ وراية المجد لا تنصب إلا على النصب والراحة الكبرى لا تنال إلا على جسر من التعب وكتابنا هذا وقد استولينا على مملكة فلانة وهي المملكة التي

تمسي الآمال دونها صرعى وإذا قيس إليها غيرها من الممالك كانت أصلا وكان غيرها فرعا وهذا فصل من أول الكتاب
ومن ذلك ما كتبته في مفتتح تقليد بالحسبة وهو ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم ولا يختص به إلا ذوو الأوامر المطاعة وذوو العلوم وقد جمع الله لنا هذين الوصفين كليهما وجعلنا من المستحلفين عليهما فلنبدأ أولا بحمده الذي هو سبب للمزيد ثم لنأخذ في القيام بأمره الذي هو على كل نفس منه رقيب عتيد ولا ريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتى تزكو بطونها وتنام عيونها ويشترك في بركات السماء ساكنها ومسكونها والأمر بذلك حمل إن لم تتوزعه الأكف ثقل على الرقاب وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب وقد اخترنا لمدينة فلانة رجلا لم نأل في اختياره جهدا وقدمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيتها صادفت رشدا وهو أنت أيها الشيخ فلان فابسط يدك بقوة إلى أخذ هذا الكتاب وكن كحسنة من حسناتنا التي يرجح بها ميزان الثواب وحقق نظرنا فيك فإنه من نور الله الذي ليس دونه حجاب فتأمل كيف فعلت في هذه الآية التي بنيت التقليد عليها وهو من محاسن المبادي والافتتاحات
وكذلك فعلت في موضع آخر وهو مفتتح كتاب كتبته إلى شخص كلفته السفارة إلى مخدومه في حاجة عرضت وهو ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين تبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ) هذا القول تتبع آثاره وتحمل عليه أنظاره وأولى الناس بسيدنا من شاركه في لحمة أدبه وإن لم يشاركه في لحمة نسبهفإن المناقب أقارب والمآثر أواصر
( وَلَيْسَ يَعْرِفُ لي فَضْلي وَلا أَدَبي ... إِلاَّ امْرُؤُُ كان ذا فَضْلٍ وَذَا أَدَبِ ) ونتيجة هذه المقدمة بعث خلقه الكريم على عوارف أفضاله واستهداء صنيعة جاهه

التي هي أكرم من صنيعة ماله ولا تجارة أربح من هذه التجارة والساعي فيها شريك في الكسب بريء من الخسارة
وأما الأخبار النبوية فيسلك بها هذا المسلك بأن يذكر الخبر في صدر الكتاب ثم يبني عليه
ولنذكر منها مثالا واحدا وهو توقيع كتبته لولد رجل من أصحاب السلطان توفي والده ونقل ما كان باسمه إليه فقلت قال النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أو كلا أو ضياعا فإلي وعلي " وهذا خلق من الأخلاق النبوية لا مزيد على حسنه وأساليب المكارم بأسرها موضوعة في ضمنه ونحن نرجو أن نمشي على أثره فنتنزل منزلة رديفة وأن نتشبه به فنبلغ مبلغ مده أو نصيفه وقد أرانا الله ذلك في قوم صحبونا فأسعفناهم بمباغي الإنعام وأحمدناهم صحبة الليالي والأيام وتكفلنا أيتامهم من بعدهم حتى ودوا أن يكونوا هم الأيتام وهذا فلان ابن فلان رحمه الله ممن كان له في خدمة الدولة قدم صدق وأولية سبق وحفظ كتاب المحافظة عليها فقيل له في تلاوته اقرأ وارقثم أنهيت التوقيع إلى آخره
فتأمل مفتتح هذا التوقيع فإنه تضمن نص الخبر من غير تغيير وقد ضمنته بعض خبر آخر من الأخبار النبوية وهو قوله " اقرأ وارق " قال النبي " يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها "
وقد مثلت لك ههنا أمثالا يقتدى بها فاحذ حذوها وامض على نهجها والله الموفق للصواب

النوع الثالث والعشرون
في التخلص والاقتضاب
وهذا النوع أيضا كالذي قبله في انه أحد الأركان الخمسة التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل التاسع من مقدمة الكتاب
وينبغي لك أيها المتوشح لهذه الفضيلة أن تصرف إليه جل همتك فإنه مهم عظيم من مهمات البلاغة
أما التخلص - وهو أن يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره وجعل الأول سببا إليه - فيكون بعضه آخذا برقاب بعضمن غير أن يقطع كلامه ويستأنف كلاما آخر بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا وذلك مما يدل على حذق الشاعر وقوة تصرفهمن أجل أن نطاق الكلام يضيق عليه ويكون متبعا للوزن والقافية فلا تواتيه الألفاظ على حسب إرادته وأما الناثر فإنه مطلق العنان يمضي حيث شاءفلذلك يشق التخلص على الشاعر أكثر مما يشق على الناثر
وأما الاقتضاب فإنه ضد التخلص وذاك أن يقطع الشاعر كلامه الذي هو فيه ويستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك ولا يكون للثاني علاقة بالأول
وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين وأما المحدثون فإنهم تصرفوا في التخلص فأبدعوا وأظهروا منه كل غريبة فمن ذلك قول أبي تمام

( يَقُولُ في قَوْمِسٍ صَحْبِي وَقَدْ أَخَذَتْ ... مِنَّا السُّرى وَخُطَا الْمَهْرِيَّةِ الْقُودِ )
( أَمَطْلَعَ الْشَّمْسِ تَبْغِي أَنْ تَؤُمَّ بِنَا ... فَقُلْتُ كَلا وَلَكِنْ مَطْلَعَ الْجُودِ ) وهذان البيتان من بديع ما يأتي في هذا الباب ونادره
وكذلك قوله أيضا في وصف أيام الربيع ثم خرج من ذكر الربيع ما وصفه به من الأوصاففقال
( خُلْقٌ أَطَلَّ مِنَ الْرَّبِيعِ كَأَنَّهُ ... خُلُقُ الإِمامِ وَهَدْيُهُ الْمُتَنَشِّرُ )
( فِي الأَرْضِ مِنْ عَدْلِ الإِمَامِ وَجُودِهِ ... وَمِنَ النَّبَاتِ الْغَضِّ سُرْجُُ تُزْهِرُ )
( تُنْسِي الْرِّيَاضَ وَمَا يُرَوِّضُ جُودُهُ ... أَبَداً عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي يُذْكَرُ )

وهذا من ألطف التخلصات وأحسنها
وكذلك قوله في قصيدته الفائية التي أولها
( أَمَّا الرُّسُومُ فَقَدْ أذْكَرْنَ مَا سَلَفَا ... ) فقال فيها
( غَيْدَاءُ جادَ وَلِيُّ الْحُسْنِ سنَّتَهَا ... فَصاغَها بِيَدَيْهِ رَوْضَةً أُنُفَا )
( يُضْحِي الْعَذُولُ عَلَى تأْنيبِهِ كَلِفاً ... بِعُذْرِ مَنْ كَانَ مَشْغُوفاً بِها كَلِفَا )
( وَدِّعْ فُؤَادَكَ تَوْدِيعَ الْفِرَاقِ فَمَا ... أََراهُ مِنْ سَفَرِ التَّوْديعِ مُنْصَرِفَا )
( تُجاهِدُ الشَّوْقَ طَوْراً ثُمَّ تَجْذِبُهُ ... جَهَادهُ لِلْقَوَافِي فِي أَبي دُلَفَا ) وهذا أحسن من الذي قبله وأدخل في باب الصنعة
وكذلك جاء قوله
( زَعَمَتْ هَوَاكَ عَفَا الْغَدَاةَ كَمَا عَفَتْ ... مِنْهَا طُلُولٌ بِالِّلوَى وَرُسُومُ )
( لاَ وَالَّذِي هُوَ عَالِمٌ أَنَّ النَّوَى ... أَجَلٌ وَأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَرِيمُ )
( مَا حُلْتُ عَنْ سَنَنِ الوِدَادِ وَلاَ غَدَتْ ... نَفْسِي عَلَى إِلْفٍ سِوَاكِ تَحُومُ ) وهذا خروج من غزل إلى مديح أغزل منه
ومن البديع في هذا الباب قول أبي نواس من جملة قصيدته المشهورة التي أولها

( أَجَارَةَ بَيْتَيْنَا أَبُوكِ غَيُورُ ... ) فقال عند الخروج إلى ذكر الممدوح
( تَقُولُ الَّتِي مِنْ بَيْتِهَا خَفَّ مَرْكَبِي ... عَزِيزٌ عَلَيْنَا أَنْ نَراكَ تَسيرُ )
( أَما دُونَ مِصْرٍ لِلْغِنَى مُتَطَلَّبٌ ... بَلَى إِنْ أَسْبَابَ الْغِنَى لَكَثِيرُ )
( فَقُلْتُ لَهَا واسْتَعْجَلَتْهَا بَوَادِرٌ ... جَرَتْ فَجَرَى فِي جَرْيِهِنَّ عَبيرُ )
( ذَرِينِي أُكَثِّرْ حَاسِدِيكِ بِرِحْلَةٍ ... إِلىَ بَلَدٍ فِيهَا الخَصِيبُ أَميرُ ) ومما جاء من التخلصات الحسنة قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته الدالية التي أولها
( عَوَاذِلُ ذَاتِ الخَالِ فِيَّ حَواَسِدُ ... )
( وَأُورِدُ نَفْسِي وَالمُهَنَّدُ في يَدِي ... مَوَارِدَ لاَ يَصْدِرْنَ مَنْ لاَ يُجَالِدُ )
( وَلكِنْ إَذا لَمْ يَحْمِلِ الْقَلْبُ كَفه ... عَلى حَالَةٍ لَمْ يَحْمِلِ الكَفَّ سَاعِدُ )
( خَلِيلَيَّ إِنِّي لاَ أَرَى غَيْرَ شَاعِرٍ ... فَكَمْ مِنْهُمُ الدَّعْوَى وَمِنِّي الْقَصَائِدُ )
( فَلاَ تَعْجَبَا إِنَّ السُّيُوفَ كَثِيرَةٌ ... وَلكِنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ الْيَوْمَ وَاحِدُ ) وهذا هو الكلام الآخذ بعضه برقاب بعضألا ترى إلى الخروج إلى مدح الممدوح في هذه الأبيات كأنه أفرغ في قالب واحدثم إن أبا الطيب جمع بين مدح نفسه ومدح سيف الدولة في بيت واحد وهو من بدائعه المشهورة

وكذلك قوله أيضا وهو من أحسن ما أتى به من التخلصاتوهو في قصيدته التي أولها
( سِرْبٌ مَحَاسِنُهُ حُرِمْتُ ذَواتِهَا ... ) فقال في أثنائها
( وَمَطالِبٍ فِيها الْهَلاكُ أتَيْتُهَا ... ثَبْتَ الْجَنَانِ كَأنَّني لَمْ آتيهَا )
( وَمَقَانِبٍ بِمَقَانِبٍ غَادَرْتُهَا ... أَقْوَاتَ وَحْشٍ كُنَّ مِنْ أَقْوَاتِهَا )
( أَقْبَلْتُهَا غُرَرَ الْجِيَادِ كَأنَّما ... أَيْدي بَني عِمْرَانِ فِي جَبَهَاتِهَا )
( الثاَّبِتينَ فُرُوسَةً كَجُلُودِهَا ... فِي ظَهْرِهَا وَالطَّعْنِ فِي لَبَّاتِهَا )
( فَكَأَنَّهَا نُتِجَتْ قِيَاماً تَحْتَهُمْ ... وَكَأَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلَى صَهَوَاتِهَا )
( تِلْكَ الْنُّفُوسُ الْغَالِبَاتُ عَلَى الْعُلا ... والْمَجْدُ يَغْلِبُهَا عَلَى شَهَوَاتِهَا )
( سُقِيَتْ مَنَابِتُها الَّتي سَقَتِ الْوَرَى ... بِيَديْ أَبي أَيُّوبَ خَيْرِ نَبَاتِها ) فانظر إلى هذين التخلصين البديعي فالأول خرج به إلى مدح قوم الممدوح والثاني خرج به إلى نفس الممدوح وكلامها قد أغرب فبه كل الإغراب
وعلى هذا جاء قوله
( إِذَا صُلْتُ لَمْ أَتْرُكْ مَصَالاً لِفَاتِكٍ ... وإِنْ قُلْتُ لَمْ أَتْرُكْ مَقَالاً لِعَالِمِ )

( وَإِلاَّ فَخَانَتْني الْقَوَافِي وَعَاقَني ... عَنِ ابْنِ عُبَيْدِ اللهِ ضُعْفُ العَزائِمِ )
والشعراء متفاوتون في هذا البابِ وقد يقصر عنه الشاعر المفلق المشهور بالإجاده في إيراد الألفاظ واختيار المعانيِ كالبحتري فإن مكانه من الشعر لا يجهل وشعره هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس قريبا ضوؤها بعيدا مكانهاِ وكالقناه لينا مسها خشنا سنانها وهو على الحقيقه قينة الشعراء في الإطراب وعنقاؤهم في الإغرابِ ومع هذا فإنه لم يوفق في التخلص من الغزل إلى المديح بل اقتضبه اقتضاباِ ولقد حفظت شعره فلم أجد له من ذلك شيئا مرضيا إلا اليسيرِ
كقوله في قافية الباء من قصيدة
( وَكَفَانِي إذَا الْحَوَادِثُ أَظْلَمْنَ شِهَاباً بِغُرَّةِ ابْنِ شِهَابِ ... )
وكقوله في قافية الدال من قصيدة
( قَصَدَتْ لِنَجْرَانِ الْعِرَاقِ رِكَابُنَا ... يَطْلُبْنَ أَرْحَبَهَا مَحِلَّةَ مَاجِدِ )
( آلَيْتُ لاَ تَلْقَيْنَ جَدّاً صَاعِداً ... فِي مَطْلَبٍ حَتَّى تُنَاخَ بِصَاعِدِ )
وكقوله في قصيدته التي أولها
( حَلَفْتُ لَهَا بِاللهِ يَوْمَ التَّفَرُّقِ ... )

فإنه تشوق فيها إلى العراق من الشامِ ووصف العراق ومنازله ورياضهِ فأحسن في ذلك كلهِ ثم خرج إلى مدح الفتح بن خاقان بسياقة آخذ بعضها برقاب بعضِ فقال
( رِبَاع مِنَ الْفَتْحِ بْنِ خَاقَانَ لَمْ تَزَلْ ... غِنًى لِعَدِيمٍ أَوْ فَكَاكاً لِمُوثَقِ ) ثم أخذ في مدحه بعد ذلك بضروب من المعاني
وكذلك ورد قوله في قصيدته التي أولها
( مِيلُوا إِلى الدَّارِ مِنْ ليلى نُحَيِّيهَا ... ) فإنه وصف البركة فأبدع في أوصافها ثم خرج منها إلى مدح الخليفة المتوكلفقال
( كَأنَّها حِينَ لَجَّتْ فِي تَدَفُّقِهَا ... يَدُ الْخَلِيِفَةِ لَمَا سَالَ وَادِيهَا ) وأحسن ما وجدته له وهو مما لطف فيه كل التلطيف قوله في قصيدته التي يمدح بها ابن بسطام ومطلعها
( نَصِيبُ عَيْنِكَ مِنَ سَحٍّ وَتَسْجَامِ ... ) فقال عند تخلصه إلى المديح
( هَلِ الشَّبَابُ مُلِمُُّ بِي فَرَاجِعَةُُ ... أَيَّامُهُ لِيَ فِي أعْقَابِ أيَّامِ )
( لَوْ أنَّهُ بَابل عمر يجاذبه ... إذاً تَطَلَّبْتُهُ عِنْدَ ابْنِ بِسْطَامِ ) وهذا من الملائح في هذا الباب
وله مواضع أخرى يسيرة بالنسبة إلى كثرة شعره

وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي إن كتاب الله خال من التخلص
وهذا القول فاسد لأن حقيقة التخلص إنما هي الخروج من كلام إلى آخر غيره بلطيفة تلائم بين الكلام الذي خرج منه والكلام الذي خرج إليه وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من ذلك كالخروج من الوعظ والتذكير بالإنذار والبشارة بالجنة إلى أمر ونهي ووعد ووعيد ومن محكم إلى متشابه ومن صفة إلى لنبي مرسل وملك منزل إلى ذم شيطان مريد وجبار عنيد بلطائف دقيقة ومعان آخذ بعضها برقاب بعض
فما جاء من التخلص في القرآن الكريم قوله تعالى ( واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباءكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ربي هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مالا ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أينما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أظلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين )
هذا كلام يسكر العقول ويسحر الألباب وفيه كفاية لطالب البلاغة فإنه متى أنعم فيه نظره وتدبر أثناءه ومطاوي حكمته على أن في ذلك غنى عن تصفح الكتب

المؤلفة في هذا الفن ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا سؤال مستفهم ثم أنحى على آلهتهمفأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره وأخرجه من ان يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكره الإله الذي لا تجب العبادة إلا له ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه فصور المسألة في نفسه دونهم بقوله ( فإنهم عدو لي ) على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله في يده وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسهلينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله وأبعث على الاستماع منه ولو قال فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابةِ فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالىفأجرى عليه تلك الصفات العظام من تفخيم شأنه وتعديد نعمه من لدن خلقه وأنشأه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمتهليعلم من ذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة واجب على الخلق الخضوع له والاستكانة لعظمتهثم خرج من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه فدعا الله بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابينلأن الطالب من مولاه إذا قدم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للإجابة وأنجح لحصول الطلبة ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة ومجازاة الله تعالى من آمن به واتقاه بالجنة ومن ضل عن عبادته بالنار فجمع بين الترغيب في طاعته والترهيب من معصيتهثم سأل المشركين عما كانوا يعبدون سؤالا ثانيا عند معاينة الجزاء وهو سؤال موبخ لهم مستهزيء بهم وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى العودةليؤمنوافانظر أيها المتأمل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض مع احتوائه على ضروب من المعاني فيخلص من كل واحد منها إلى الآخر بلطيفة ملائمة حتى كأنه أفرغ في قالب واحد فخرج من ذكر الأصنام وتنفير أبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هي فيه من التعري عن صفات الإلهية حيث لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع إلى ذكر الله تعالى فوصفه بصفات الإلهية فعظم شأنه

وعدد نعمهليعلم بذلك أن العبادة لا تصح إلا له ثم خرج من هذا إلى دعائه إياه وخضوعه له ثم خرج منه إلى ذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه فتدبر هذه التخلصات اللطيفة المودعة في أثناء هذا الكلام
وفي القرآن مواضع كثيرة من التخلصات كالذي ورد في سورة الأعراففإنه ذكر فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية من آدم إلى نوح عليهما السلام وكذلك إلى قصة موسى عليه السلام حتى انتهى إلى آخرها الذي هو ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون )
هذا تلخص من التخلصات الحسانفإن الله تعالى ذكر الأنبياء والقرون الماضية إلى عهد موسى عليه السلامفلما أراد ذكر نبينا ذكره بتخلص انتظم به بعض الكلام ببعض ألا ترى أنه قال موسى عليه السلام ( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ) فأجيب بقوله تعالى ( قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين ) من حالهم كذا وكذا ومن صفتهم كيت وكيت وهم الذين ( يتبعون الرسول النبي الأمي ) ثم وصفه صلوات الله عليه بصفاته إلى آخر الكلام
ويا لله العجب كيف يزعم الغانمي أن القرآن خال من التخلص ؟ ألم يكفه

يوسف عليه السلام فإنها قصة برأسها وهي مضمنه شرح حاله مع إخوته من أول أمره إلى آخره وفيها عدة تخلصات في الخروج من معنى إلى معنى وكذلك إلى آخرها
ولو أخذت في ذكر ما في القرآن الكريم من هذا النوع لأطلت ومن أنعم نظره فيه وجد من ذلك أشياء كثيرة
وقد جاءني من التخلصات في الكلام المنثور أشياء كثيرةوسأذكر ههنا نبذة يسيرة منها
فمن ذلك ما أوردته في كتاب إلى بعض الإخوان أصف فيه الربيع ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الأشواق فقلت وكما أن هذه الأوصاف في شأنها بديعة فكذلك شوقي في شأنه بديع غير انه لحره فصل مصيف وهذا فصل ربيع فأنا أملي أحاديثه العجيبة على النوى وقد عرفت حديث من قتله الشوق فلا أستفض حديث من قتله الهوى
ومن هذا الأسلوب ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان أيضا وأرسلته إليه من بلاد الروم وهو كتاب يشتمل على وصف البرد وما لاقيته منه ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الشوق فقلت ومما أشكوه من بردها أن الفرو لا يلبس إلا في شهر ناجرِ وهو قائم مقام الظل الذي يتبرد من لفح الهواجر ولفظ شدته لم أجد ما يحققه فضلا عما يذهبه فإن النار المعدة له تطلب من الدفء أيضا ما أطلبه لكن وجدت نار أشواقي أشد حرا فاصطليت بجمرها التي لا تذكي بزناد ولا تئول إلى رماد ولا يدفع البرد الوارد على الجسد بأشد من حر الفؤاد غير أني كنت في ذلك كمن سد خلة بخلة واستشفى من علة بعلة وأقتل ما أغلك ما شفاك فما ظنك بمن يصطلي نار الأشواق وقد قنع من أخيه بالأوراق فظن عليه بالأوراق

ينتظم في هذا العقد ما ذكرته في مفتتح كتاب يتضمن عناية ببعض المتظلمينِ فاستطردت فيه المعنى إذ ذكر المكتوب إليهوهو هدايا المكارم أنفس من هدايا الأموال وأبقى على تعاقب الأيام والليال وقد حمل هذا الكتاب منها هدية تورث حمدا وتكسب مجدا وهي خير ثوابا وخير مردا ولا يسير بها إلا سجية طبعت على الكرم وخلقت من عنصر الديم كسجية مولانا أعلاه الله علوا تفخر به الأرض على السماء وتحسده شمس النهار ونجوم الظلماءِولا زالت أياديه مخجلة صوب الغمام معدية على نوب الأيام مغنية بشرف فضلها على شرف الأخوال والأعمام وتلك الهدية هي تجريد الشفاعة في أمر فلان ومن إيمان المرء سعيه في حاجة أخيه وإن لم يمسه بشيء من أسباب أواخيه فإن المؤمنين إخوة وإن تباينت مناسبهم وتفاوتت مراتبهم ومن صفتهم أن يسعى بذمتهم أدناهم وخيرهم من عناه من الأمر ما عناهم ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب
ومن ذلك ما كتبته من كتاب إلى صديق استحدثت مودته وهو من أهل العراق وكنت اجتمعت به بالموصل ثم سار عني فكتبت إليه أستهديه رطبافقلت هذه المكاتبة ناطقة بلسان الشوق الذي تزف كلمه زفيف الأوراق وتسجع سجع ذوات الأطواق وتهتف وهي مقيمة بالموصل فتسمع من هو مقيم بالعراق وأبرح الشوق ما كان عن فراق غير بعيد وود استجدت حلته واللذة مقترنة بكل شيء جديد وأرجو ألا يبلى قدم الأيام لهذه الجدة لباسا وأن يعاذ من نظرة الجن والإنس حتى لا يخشى جنة ولا بأسا وقد قيل إن للمودات طعما كما أن لها وسما وإن ذا اللب يصادق نفسا قبل أن يصادق جسما وإني لأجد لمودة سيدنا حلاوة يستلذ دوامها ولا يمل استطعامها وقد أذكرتني الآن بحلاوة الرطب الذي هو من أرضها وغير عجيب لمناسبة الأشياء أن يذكر بعضها ببعضها إلا أن هذه الحلاوة تنال بالأفواه وتلك تنال بالأسرار وفرق بين ما يغترس بالأرض وما يغترس بالقلب في شرف الثمار فلا ينظر سيدنا علي في هذا التمثيل ولربما كان ذلك تعريضا ينوب مناب التطفيل
وهذا من التخلصات البديعةفانظر أيها المتأمل كيف سقت الكلام إلى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5