كتاب : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر
المؤلف : أبي الفتح ضياء الدين نصرالله بن محمد بن عبدالكريم الموصلي

الأسماء مبتذلة لكن ذكر في القرآن على وجه آخر وهو قوله تعالى ( وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا ) فعبر عن الآجر بالوقود على الطين
ومن هذا القسم المبتذل قول الفرزدق في قصيدته التي أولها
( عَزَفْتَ بأعْشَاشٍ وَمَا كِدْتَ تَعْزِفُ ... )
( وَأَصْبَحَ مُبْيَضُّ الضَّرِيبِ كأَنَّهُ ... عَلَى سَرَوَاتِ النِّيبِ قُطْنٌ مُنَدَّفُ )
فقوله مندف من الألفاظ العامية
ومن هذا القسم قول البحتري
( وُجُوهُ حُسَّادِكَ مُسْوَدَّةٌ ... أَمْ صُبِغَتْ بَعْدِيَ بِالزَّاجِ )
فلفظة الزاج من أشد ألفاظ العامة ابتذالا وقد استعمل أبو نواس هذا النوع في شعره كثيرا كقوله
( يَا مَنْ جَفَانِي وَمَلاَّ ... نَسِيتَ أَهْلاً وَسَهْلاَ )
( وَمَاتَ مَرْحَبُ لَمَّا ... رَأَيْتَ مَالِيَ قَلاَّ )
( إنِّي أَظُنُّكَ فِيمَا ... فَعَلْتَ تَحْكِي الْقِرِلَّى )

وكقوله
( وََأنْمَرُ الْجِلْدَةِ صَيَّرْتُهُ ... في النَّاسِ زَاغاً وَشِقِرَّاقَا )
( ما زِلْتُ أُجْرِي كَلكي فَوْقَهُ ... حَتَّى دَعَا مِنْ تَحْتِهِ قَاقَا )
وكقوله
( وَمُلِحَّة بِالْعَذْلِ تَحْسَبُ أَنَّني ... بِالْجَهْلِ أَتْرُكُ صُحْبَةَ الشُّطَّار )
وقد استعمل لفظة الشاطر والشاطرة والشطار كثيرا وهي من الألفاظ ابتذلها العامة حتى سئمت من ابتذالها
وهذه الأمثلة تمنع الواقف عليها من استعمال أشباهها وأمثالها
ومن أوصاف الكلمة ألا تكون مشتركة بين معنيين أحدهما يكره ذكره وإذا وردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت وذلك إذا كانت مهملة بغير قرينة تميز معناها عن القبح فأما إذا جاءت ومعها قرينة فإنها لا تكون معيبة كقوله تعالى ( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) ألا ترى أن لفظة التعزير مشتركة تطلق على التعظيم والإكرام وعلى الضرب الذي هو دون الحد وذلك نوع من الهوان وهما معنيان ضدان فحيث وردت في هذه الآية جاء معها قرائن من قبلها ومن بعدها فخصت معناها بالحسن وميزته عن القبيح ولو وردت مهملة بغير قرينة وأريد بها المعنى الحسن لسبق إلى الوهم ما اشتملت عليه من المعنى القبيح
مثال ذلك لو قال قائل لقيت فلانا فعزرته لسبق إلى الفهم أنه ضربه وأهانه ولو قال لقيت فلانا فأكرمته وعزرته لزال ذلك اللبس
واعلم أنه قد جاء من الكلام ما معه قرينة فأوجب قبحه ولو لم تجيء معه لما استقبح كقول الشريف الرضي

( أَعْزِرْ عَلَيَّ بأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلاَ ... عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ العُوَّادِ )
وقد ذكر ابن سنان الخفاجي هذا البيت في كتابه فقال إن إيراد هذه اللفظة في هذا الموضع صحيح إلا أنه موافق لما يكره ذكره في مثل هذا الشعر لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته إليه وهو العواد ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا فأما الإضافة إلى من ذكره ففيها قبح لا خفاء به هذا حكاية كلامه وهو مرضي واقع في موقعه ولنذكر نحن ما عندنا في ذلك فنقول قد جاءت هذه اللفظة المعيبة في الشعر في القرآن الكريم فجاءت حسنة مرضية وهي قوله تعالى ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) وكذلك قوله تعالى ( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافته إليه كما جاءت في الشعر ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العواد مقاعد الزيارة أو ما جرى مجراه لذهب ذلك القبح وزالت تلك الهجنة ولهذا جاءت هذه اللفظة في الآيتين على ما تراه من الحسن وجاءت على ما تراه من القبح في قول الشريف الرضي
وعلى هذا ورد قول تأبط شرا
( أَقُولُ لِلِحْيَانٍ وَقَدْ صَفِرَتْ لَهُمْ ... وِطَابِي وَيَوْمِي ضَيِّقُ الْجُحْرِ مُعْوِرُ )
فإنه أضاف الجحر إلى اليوم فأزال عنه هجنة الاشتباه لأن الجحر يطلق على

كل ثقب كثقب الحية واليربوع وعلى المحل المخصوص من الحيوان فإذا ورد مهملا بغير قرينة تخصصه سبق إلى الوهم ما يقبح ذكره لاشتهاره به دون غيره ومن ههنا ورد قول النبي ( المؤمن لا يلسع من جحر مرتين ) وحيث قال يلسع زال اللبس لأن اللسع لا يكون إلا للحية وغيرها من ذوات السموم
وأما ما ورد مهملا بغير قرينة فقول أبي تمام
( أَعْطَيْتَ لِي دِيَةَ الْقَتِيلِ وَلَيْسَ لِي ... عَقْلٌ وَلاَ حَقٌّ عَلَيْكَ قَدِيمُ )
فقوله ليس لي عقل يظن أنه من عقل الشيء إذا علمه ولو قال ليس لي عليك عقل لزال اللبس
فيجب إذا على صاحب هذه الصنعة أن يراعي في كلامه مثل هذا الموضع وهو من جملة الألفاظ المشتركة التي يحتاج في إيرادها إلى قرينة تخصصها ضرورة
ومن أوصاف الكلمة أن تكون مؤلفة من أقل الأوزان تركيبا وهذا مما ذكره ابن سنان في كتابه ثم مثله بقول أبي الطيب المتنبي
( إِنَّ الْكِرَامَ بِلاَ كِرَامٍ مِنْهُمُ ... مِثْلُ الْقُلُوبِ بِلاَ سُوَيْدَاواتِهَا )

وقال إن لفظة سويداواتها طويلة فلهذا قبحت وليس الأمر كما ذكره فإن قبح هذه اللفظة لم يكن بسبب طولها وإنما هو لأنها في نفسها قبيحة وقد كانت وهي مفردة حسنة فلما جمعت قبحت لا بسبب الطول والدليل على ذلك أنه قد ورد في القرآن الكريم ألفاظ طوال وهي مع ذلك حسنة كقوله تعالى ( فسيكفيكهم الله ) فإن هذه اللفظة تسعة أحرف وكقوله تعالى ( ليستخلفنهم في الأرض ) فإن هذه اللفظة عشرة أحرف وكلتاهما حسنة رائقة ولو كان الطول مما يوجب قبحا لقبحت هاتان اللفظتان وليس كذلك ألا ترى أنه لو أسقط من لفظة سويداواتها الهاء والألف اللتين هما عوض عن الإضافة لبقي منها ثمانية أحرف ومع هذا فإنها قبيحة ولفظة ليستخلفنهم عشرة أحرف وهي أطول منها بحرفين ومع هذا فإنها حسنة رائقة
والأصل في هذا الباب ما أذكره وهو أن الأصول من الألفاظ لا تحسن إلا في الثلاثي وفي بعض الرباعي كقولنا عذب وعسجد فإن هاتين اللفظتين إحداهما ثلاثية والأخرى رباعية وأما الخماسي من الأصول فإنه قبيح ولا يكاد يوجد منه شيء حسن كقولنا جحمرش وصهصلق وما جرى مجراهما وكان ينبغي على ما ذكره ابن سنان أن تكون هاتان اللفظتان حسنتين واللفظتان الواردتان في القرآن قبيحتين لأن تلك تسعة أحرف وعشرة وهاتان خمسة وخمسة ونرى الأمر بالضد مما ذكره وهذا لا يعتبر فيه طول ولا قصر وإنما يعتبر نظم تأليف الحروف بعضها مع بعض وقد تقدم الكلام على ذلك ولهذا لا يوجد في القرآن من الخماسي الأصول شيء إلا ما كان من اسم نبي عرب اسمه ولم يكن في الأصل عربيا نحو إبراهيم وإسماعيل
ومما يدخل في هذا الباب أن تجتنب الألفاظ المؤلفة من حروف يثقل النطق بها سواء كانت طويلة أو قصيرة ومثال ذلك قول امرئ القيس في قصيدته اللامية التي هي من جملة القصائد السبع الطوال

( غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلا ... تَضِلُّ المَدَارَى في مُثَنًّى وَمَرْسَلِ )
فلفظة مستشزرات مما يقبح استعمالها لأنها تثقل على اللسان ويشق النطق بها وإن لم تكن طويلة لأنا لو قلنا مستنكرات أو مستنقرات على وزن مستشزرات لما كان في هاتين اللفظتين من ثقل ولا كراهة
ولربما اعترض بعض الجهال في هذا الموضع وقال إن كراهة هذه اللفظة إنما هو لطولها وليس الأمر كذلك فإنا لو حذفنا منها الألف والتاء وقلنا مستشزر لكان ذلك ثقيلا أيضا وسببه أن الشين قبلها تاء وبعدها زاي فثقل النطق بها وإلا فلو جعلنا عوضا من الزاي راء ومن الراء فاء فقلنا مستشرف لزال ذلك الثقل
ولقد رآني بعض الناس وأنا أعيب على امرئ القيس هذه اللفظة المشار إليها فأكبر ذلك لوقوفه مع شهرة التقليد في أن امرئ القيس أشعر الشعراء فعجبت من ارتباطه بمثل هذه الشبهة الضعيفة وقلت له لا يمنع إحسان امرئ

القيس من استقباح ما له من القبح ومثال هذا كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره ولا تكون لذاذة ذلك الطيب حامية للخبث من الاستكراه فأسكت الرجل عند ذلك
وحضر عندي في بعض الأيام رجل من اليهود وكنت إذ ذاك بالديار المصرية وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد لمكان علمه في دينهم وغيره وكان لعمري كذلك فجرى ذكر اللغات وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات وأنها أشرفهن مكانا وأحسنهن وضعا فقال ذلك الرجل كيف لا تكون كذلك وقد جاءت آخرا فنفت القبيح من اللغات قبلها وأخذت الحسن ثم إن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة فاختصر ما اختصر وخفف ما خفف فمن ذلك اسم الجمل فإنه عندنا في اللسان العبراني كوميل ممالا على وزن فوعيل فجاء واضع اللغة العربية وحذف منها الثقيل المستبشع وقال جمل فصار خفيفا حسنا وكذلك فعل في كذا وكذا وذكر أشياء كثيرة ولقد صدق في الذي ذكره وهو كلام عالم به
ومن أوصاف الكلمة أن تكون مبنية من حركات خفيفة ليخف النطق بها وهذا الوصف يترتب على ما قبله من تأليف الكلمة ولهذا إذا توالى حركتان خفيفتان في كلمة واحدة لم تستثقل وبخلاف ذلك الحركات الثقيلة فإنه إذا توالى منها حركتان في كلمة واحدة استثقلت ومن أجل ذلك استثقلت الضمة على الواو والكسرة على الياء لأن الضمة من جنس الواو والكسرة من جنس الياء فتكون عند ذلك كأنها حركتان ثقيلتان
ولنمثل لك مثالا لتهتدي به في هذا الموضع وهو أنا نقول إذا أتينا بلفظة مؤلفة من ثلاثة أحرف وهي ج ز ع فإذا جعلنا الجيم مفتوحة فقلنا الجزع أو مكسورة فقلنا الجزع كان ذلك أحسن من أن لو جعلنا الجيم مضمومة فقلنا الجزع وكذلك إذا والينا حركة الفتح فقلنا الجزع كان ذلك أحسن من موالاة حركة الضم عند قولنا الجزع ومن المعلوم أن هذه اللفظة لم يكن اختلاف حركاتها مغيرا لمخارج حروفها حتى ينسب ذلك إلى اختلاف تأليف المخارج بل

وجدناها تارة تكتسى حسنا وتارة يسلب ذلك الحسن عنها فعلمنا أن ذلك حادث عن اختلاف تأليف حركاتها
واعلم أنه قد توالت حركة الضم في بعض الألفاظ ولم يحدث فيها كراهة ولا ثقلا كقوله تعالى ( ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ) وكقوله تعالى ( وإن المجرمين في ضلال وسعر ) وكقوله تعالى ( وكل شيء فعلوه في الزبر ) فحركة الضم في هذه الألفاظ متوالية وليس بها من ثقل ولا كراهة وكذلك ورد قول أبي تمام
( نَفَسٌ يَحْتَثُّهُ نَفَسُ ... وَدُمُوعٌ لَيْسَ تُحْتَبَسُ )
( وَمَغَانٍ لِلْكَرَى دُثُرٌ ... عُطُلٌ مِنْ عَهْدِهِ دُرُسُ )
( شَهَرَتْ مَا كُنْتُ أَكْتُمُهُ ... نَاطِقَاتٌ بِالْهَوَى خُرُسُ )
فانظر كيف جاءت هذه الألفاظ الأربعة مضمومات كلها وهي مع ذلك حسنة لا ثقل بها ولا ينبو السمع عنها
وهذا لا ينقض ما أشرنا إليه لأن الغالب أن يكون توالي حركة الضم مستثقلا فإذا شذ عن ذلك شيء يسير لا ينقض الأصل المقيس عليه

القسم الثاني الألفاظ المركبة
قد قدمنا القول في شرح أحوال اللفظ المفردة وما يختص بها وأما إذا صارت مركبة فإن لتركيبها حكما آخر وذاك أنه يحدث عنه من فوائد التأليفات والامتزاجات ما يخيل للسامع أن هذه الألفاظ ليست تلك التي كانت مفردة ومثال ذلك كمن أخذ لآلىء ليست من ذوات القيم الغالية فألفها وأحسن الوضع في تأليفها فخيل للناظر بحسن تأليفه وإتقان صنعته أنها ليست تلك التي كانت منثورة مبددة وفي عكس ذلك من يأخذ لآلىء من ذوات القيم الغالية فيفسد تأليفها فإنه يضع من حسنها وكذلك يجري حكم الألفاظ العالية مع فساد التأليف وهذا موضع شريف ينبغي الالتفات إليه والعناية به

واعلم أن صناعة تأليف الألفاظ تنقسم إلى ثمانية أنواع هي السجع ويختص بالكلام المنثور والتصريع ويختص بالكلام المنظوم وهو داخل في باب السجع لأنه في الكلام المنظوم كالسجع في الكلام المنثور والتجنيس وهو يعم القسمين جميعا والترصيع وهو يعم القسمين أيضا جميعا ولزوم ما لا يلزم وهو يعم القسمين أيضا والموازنة وتختص بالكلام المنثور واختلاف صيغ الألفاظ وهو يعم القسمين جميعا وتكرير الحروف وهو يعم القسمين جميعا
النوع الأول السجع وحده أن يقال تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد
وقد ذمه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة ولا أرى ذلك وجها سوى عجزهم أن يأتوا به وإلا فلو كان مذموما لما ورد في القرآن الكريم فإنه قد أتى منه بالكثير حتى إنه ليؤتي بالسورة جميعها مسجوعة كسورة الرحمن وسورة القمر وغيرهما وبالجملة فلم تخل منه سورة من السور فمن ذلك قوله تعالى ( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا ) وكقوله تعالى في سورة طه ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) وكذلك قوله تعالى في سورة ق ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) وكقوله تعالى ( والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ) وأمثال ذلك كثيرة
وقد ورد على هذا الأسلوب من كلام النبي شيء كثير أيضا
فمن ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله

( استحيوا من الله حق الحياء ) قلنا إنا لنستحيي من الله يا رسول الله قال ( ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا )
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن سلام فقال لما قدم رسول الله فجئت في الناس لأنظر إليه فلما تبينت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب فكان أول شيء تكلم به أن قال ( أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )
فإن قيل إن النبي قال لبعضهم منكرا عليه وقد كلمه بكلام مسجوع ( أسجعا كسجع الكهان ) ولولا أن السجع مكروه لما أنكره النبي
فالجواب عن ذلك أنا نقول لو كره النبي السجع مطلقا لقال ( أسجعا ) ثم سكت وكان المعنى يدل على إنكار هذا الفعل لم كان فلما قال ( أسجعا كسجع الكهان ) صار المعنى معلقا على أمر وهو إنكار الفعل لم كان على هذا الوجه فعلم أنه إنما ذم من السجع ما كان مثل سجع الكهان لا غير وأنه لم يذم السجع على الإطلاق وقد ورد في القرآن الكريم وهو قد نطق به في كثير من كلامه حتى إنه غير الكلمة عن وجهها إتباعا لها بأخواتها من أجل السجع فقال لابن ابنته عليهما السلام ( أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة ) وإنما أراد ملمة لأن الأصل فيها من ألم فهو ملم وكذلك قوله ( ارجعن مأزورات غير مأجورات ) وإنما أراد موزورات من الوزر فقال مأزورات لمكان مأجورات طلبا للتوازن والسجع وهذا مما يدلك على فضيلة السجع
على أن هذا الحديث النبوي الذي يتضمن إنكار سجع الكهان عندي فيه نظر فإن الوهم يسبق إلى إنكاره يقال فما سجع الكهان الذي يتعلق الإنكار به ونهى عنه رسول الله والجواب عن ذلك أن النهي لم يكن عن السجع نفسه وإنما النهي عن حكم الكاهن الوارد باللفظ المسجوع ألا ترى أنه لما أمر رسول الله في الجنين بغرة عبد أو أمة قال الرجل أأدي من لا شرب ولا

أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل فقال رسول الله ( أسجعا كسجع الكهان ) أي أتتبع سجعا كسجع الكهان
وكذلك كان الكهنة كلهم فإنهم كانوا إذا سئلوا عن أمر جاءوا بالكلام مسجوعا كما فعل الكاهن في قصة هند بنت عتبة فإنه قال لما امتحن قبل السؤال عن قصتها ثمرة في كمرة فقيل له نريد أبين من هذا فقال حبة بر في إحليل مهو والحكاية مشهورة فلهذا اختصرناها ههنا
وكذلك قال سطيح فإنه قال عبد المسيح جاء إلى سطيح وهو موف على الضريح لرؤيا الموبذان وارتجاس الإيوان وأتم الكلام إلى آخره مسجوعا والحكاية مشهورة أيضا فلهذا اختصرناها
فالسجع إذا ليس بمنهي عنه وإنما المنهي عنه هو الحكم المتبوع في قول الكاهن فقال رسول الله ( أسجعا كسجع الكهان ) أي أحكما كحكم الكهان وإلا فالسجع الذي أتى به ذلك الرجل لا بأس به لأنه قال أأدي من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل وهذا كلام حسن من حيث السجع وليس بمنكر لنفسه وإنما المنكر هو الحكم الذي تضمنه في امتناع الكاهن أن يدي الجنين بغرة عبد أو أمة
واعلم أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء والنفس تميل إليه بالطبع ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط ولا عند تواطؤ الفواصل على حرف واحد إذ لو كان ذلك هو المراد من السجع لكان كل أديب من الأدباء سجاعا وما من أحد منهم ولو شدا شيئا يسيرا من الأدب إلا ويمكنه أن يؤلف ألفاظا مسجوعة ويأتي بها في كلامه بل ينبغي أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة طنانة رنانة لا غثة ولا باردة وأعني بقولي غثة باردة أن صاحبها يصرف نظره إلى السجع نفسه من غير نظر إلى مفردات الألفاظ المسجوعة وما يشترط لها من الحسن ولا إلى تركيبها وما

يشترط له من الحسن وهو في الذي يأتي به من الألفاظ المسجوعة كمن ينقش أثوابا من الكرسف أو ينظم عقدا من الخزف الملون
وهذا مقام تزل عنه الأقدام ولا يستطيعه إلا الواحد من أرباب هذا الفن بعد الواحد ومن أجل ذلك كان أربابه قليلا
فإذا صفي الكلام المسجوع من الغثاثة والبرد فإن وراء ذلك مطلوبا آخر وهو أن يكون اللفظ فيه تابعا للمعنى لا أن يكون المعنى فيه تابعا للفظ فإنه يجيء عند ذلك كظاهر مموه على باطن مشوه ويكون مثله كغمد من ذهب على نصل من خشب وكذلك يجري الحكم في الأنواع الباقية الآتي ذكرها من التجنيس والترصيع وغيرهما
وسأبين لك في هذا مثالا تتبعه فأقول إذا صورت في نفسك معنى من المعاني ثم أردت أن تصوغه بلفظ مسجوع ولم يؤاتك ذلك إلا بزيادة في ذلك اللفظ أو نقصان منه ولا يكون محتاجا إلى الزيادة ولا إلى النقصان إنما تفعل ذلك لأن المعنى الذي قصدته يحتاج إلى لفظ يدل عليه وإذا دللت عليه بذلك اللفظ لا يكون مسجوعا إلا أن تضيف إليه شيئا آخر أو تنقص منه فإذا فعلت ذلك فإنه هو الذي يذم من السجع ويستقبح لما فيه من التكلف والتعسف وأما إذا كان محمولا على الطبع غير متكلف فإنه يجيء في غاية الحسن وهو أعلى درجات الكلام وإذا تهيأ للكاتب أن يأتي به في كتابته كلها على هذه الشريطة فإنه يكون قد ملك رقاب الكلم يستعبد كرائمها ويستولد عقائمها وفي مثل ذلك فليتنافس وعن مقامه فليقاعس ولصاحبه أولى بقول أبي الطيب المتنبي
( أَنْتَ الْوَحِيدُ إِذَا رَكِبْتَ طَرِيقَةً ... وَمَنِ الرَّدِيفُ وَقَدْ رَكِبْتَ غَضَنْفَرَا )

فإن قيل فإذا كان السجع أعلى درجات الكلام على ما ذهبت إليه فكان ينبغي أن يأتي القرآن كله مسجوعا وليس الأمر كذلك بل منه المسجوع ومنه غير المسجوع
قلت في الجواب إن أكثر القرآن مسجوع حتى إن السورة لتأتي جميعها مسجوعة وما منع أن يأتي القرآن كله مسجوعا إلا أنه سلك به مسلك الإيجاز والاختصار والسجع لا يؤاتي في كل موضع من الكلام على حد الإيجاز والاختصار فترك استعماله في جميع القرآن لهذا السبب
وههنا وجه آخر هو أقوى من الأول ولذلك ثبت أن المسجوع من الكلام أفضل من غير المسجوع وإنما تضمن القرآن غير المسجوع لأن ورود غير المسجوع معجزا أبلغ في باب الإعجاز من ورود المسجوع ومن أجل ذلك تضمن القرآن القسمين جميعا
واعلم أن للسجع سرا هو خلاصته المطلوبة فإن عري الكلام المسجوع منه فلا يعتد به أصلا وهذا شيء لم ينبه عليه أحد غيري وسأبينه ههنا وأقول فيه قولا هو أبين مما تقدم وأمثل لك مثالا إذا حذوته أمنت الطاعن والعائب وقيل في كلامك ليبلغ الشاهد الغائب والذي أقوله في ذلك هو أن تكون كل واحدة من السجعتين المزدوجتين مشتملة على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه أختها فإن كان المعنى فيهما سواء فذاك هو التطويل بعينه لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها وإذا وردت سجعتان يدلان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه وجل كلام الناس المسجوع جار عليه وإذا تأملت كتابة المفلقين ممن تقدم كالصابي وابن العميد وابن عباد وفلان وفلان وفلان فإنك ترى أكثر المسجوع منه كذلك والأقل منه على ما أشرت إليه
ولقد تصفحت المقامات الحريرية والخطب النباتية على غرام الناس بهما وإكبابهم عليهما فوجدت الأكثر من السجع فيهما على الأسلوب الذي أنكرته
فالكلام المسجوع إذا يحتاج إلى أربع شرائط الأولى اختيار مفردات الألفاظ على الوجه الذي أشرت إليه فيما تقدم الثانية اختيار التركيب على الوجه

الذي أشرت إليه أيضا فيما تقدم الثالثة أن يكون اللفظ في الكلام المسجوع تابعا للمعنى لا المعنى تابعا للفظ الرابعة أن تكون كل واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالة على معنى غير المعنى الذي دلت عليه أختها فهذه أربع شرائط لا بد منها
وسأورد ههنا من كلامي أمثلة تحذي حذوها فإني لما سلكت هذه الطريق وأتيت بكلامي مسجوعا توخيت أن تكون كل سجعة منه مختصة بمعنى غير المعنى الذي تضمنته أختها ولم أخل بذلك في مكاتباتي كلها وإذا تأملتها علمت صحة ما قد ذكرته
فمن ذلك ما كتبته في صدر كتاب عن بعض الملوك إلى دار الخلافة وهو الخادم واقف موقف راج هائب لازم بكتابه هذا وقار حاضر عن شخص غائب موجه وجهه إلى ذلك الجناب الذي تقسم فيه أرزاق العباد ويتأدب به الزمان تأدب ذوي الاستعباد وتستمد الملوك من خدمته شرف الجدود كما تستغني بنسبها إليه عن شرف الأجداد ولو ملك الخادم نفسه لقصرها على خدمة قصره وأحظاها من النظر إليه ببرد العيش الذي عمرها محسوب من عمره وهذا القول يقوله وكل ما جد فيه حاسد وبتأميله راكع ساجد والديوان العزيز محسود الاقتراب وهو موطن الرغبات الذي الاغتراب إليه ليس بالاغتراب وما ينافس في القرب من أبوابه الكريمة إلا ذوو الهمم الكريمة وقد ودت الكواكب بأسرها أن تكون له منادمة فضلا عن ندماني جذيمة
ومن ذلك ما كتبته من كتاب يتضمن العناية ببعض الناس وهو الكريم من أوجب لسائله حقا وجعل كواذب آماله صدقا وكان خرق العطايا منه خلقا ولم ير بين ذممه وبين رحمه فرقا وكل ذلك موجود في كرم مولانا أجراه الله من فضله على وتيرة وجعل هممه على تمام كل نقص قديرة وأوطأه من كل مجد سريرا كما بوأه من كل قلب سريرة ولا زالت يده بالمكارم جديرة ومن الأيام مجيرة ولضرائرها من البحار والسحاب معيرة ولا برحت تستولد عقائم المعاني وتستجد أبنيتها حتى يشهد الناس منها في كل يوم عقيقة أو وكيرة ومن صفات كرمه أنه

يسبك الأموال مآثر ويتخذها عند السؤال ذخائر فهي تفنى لديهم بالإنفاق وذكرها على مرور الأيام باق ومن أربح منه صفقة وقد باع صامتا بناطق وما هو معرض لحوادث السرقات بما لا تصل إليه يد سارق ومثله من عرف الدنيا فرغب عن اقتنائها وجد في ابتناء المحامد بهدم بنائها وعلم أن مالها ليس عند الضنين به إلا أحجارا وأن غناه منها لا يزيده إلا افتقارا فهو لماله عبد يخدمه ولا يستخدمه وأم ترضعه بسعيها ولا تفطمه
ومنه ما كتبته في جواب كتاب يتضمن إباق غلام وهو أول كتاب ورد من المكتوب عنه إلى المكتوب إليه فقلت وأما الإشارة الكريمة في أمر الغلام الآبق عن الخدمة فقد يفر المهر من عليقه ويطير الفراش إلى حريقه وغير بعيد أن ينبو مضجعه أو يكبو به مطمعه فيرجع وقد حمد من رجوعه ما ذمه من ذهابه وعلم أن الغنيمة كل الغنيمة في إيابه فما كل شجرة تحلو لذائقها ولا كل دار ترحب بطارقها ومن أبق عن مولاه مغاضبا وجانب محل إحسانه الذي لم يكن مجانبا فإنه يجد من مفارقة الإحسان ما يجده من مفارقة معاهد الأوطان وهل أضل سعيا ممن دفع في صدر العافية وغدا يسأل عن الأسقام وألقى الثروة من يده ومضى في طلب الإعدام ومع هذا فإن الخادم يشكره على ذنب الإباق الذي أقدم على اجتراحه وليس ذلك إلا لأنه صار سببا لافتتاح باب المكاتبة الذي لم يطمع في افتتاحه ولا جزاء له عنده إلى السعي في إعادته إلى الخدمة التي تقلب في إنشائها وهي أبر به من أمه التي تقلب في أحشائها ومن فضلها أنها تلقاه من حلمها بوسيلة الشافع ومن كرمها بالوجه الضاحك والفضل الواسع
فانظر أيها المتأمل إلى هذا الأسجاع جميعها وأعطها حق النظر حتى تعلم أن كل واحدة منها تختص بمعنى ليس في أختها التي تليها وكذلك فليكن السجع وإلا فلا
وسأورد ههنا من كلام الصابي ما ستراه
فمن ذلك تحميد في كتاب فقال الحمد لله الذي لا تدركه الأعين

بألحاظها ولا تحده الألسن بألفاظها ولا تخلقه العصور بمرورها ولا تهرمه الدهور بكرورها
ثم انتهى إلى الصلاة على النبي فقال لم ير للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه ولا رسما إلا أزاله وعفاه
ولا فرق بين مرور العصور وكرور الدهور وكذلك لا فرق بين محو الأثر وعفاء الرسم
ومن كلامه أيضا في كتاب وهو وقد علمت أن الدولة العباسية لم تزل على سالف الأيام وتعاقب الأعوام تعتل طورا وتصح أطوارا وتلتاث مرة وتستقل مرارا من حيث أصلها راسخ لا يتزعزع وبنيانها ثابت لا يتضعضع
وهذه الأسجاع كلها متساوية المعاني فإن الاعتلال والالتياث والطور والمرة والرسوخ والثبات كل ذلك سواء
وكذلك ورد له في جملة كتاب كتبه عن عز الدولة بن بويه جوابا عن كتاب وصله من الأمير عبد الكريم بن المطيع لله فقال وصلني كتابه مفتتحا من الاعتزاء إلى إمارة المؤمنين والتقلد لأمور المسلمين بما أعراقه الزكية مجوزة لاستمراره وأرومته العلية مسوغة لاستقراره له ولكل نجيب أخذ بحظه من نسبه وضارب بسهم في منصبه إذ كان ذلك جاريا على الأصول المعهودة فيه والأسباب العاقدة له من إجماع المؤمنين كافة فإن تعذر اجتماعهم مع انبساطهم في الأرض وانتشارهم في الطول والعرض فلا بد من اتفاق أشراف كل قطر وأفاضله وأعيان كل صقع وأماثله
وهذا الكلام كله متماثل المعاني في أسجاعه فإن إمارة المؤمنين والتقلد لأمور المسلمين سواء في المعنى وكذلك الأعراق والأرومة والتجويز والتسويغ والأشراف والأفاضل والأعيان والأماثل والقطر والصقع كل ذلك سواء

وعلى هذا جاء كلامه في كتاب آخر فقال يسافر رأيه وهو دان لم ينزح ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح
وكلا هذين سواء أيضا
وما أحسن هذا المعنى لو قال يسافر رأيه وهو دان لم يبرح ويثخن الجراح في عدوه وسيفه في الغمد لم يجرح فإنه لو قال مثل هذا سلم من هجنة التكرار
وأمثال ذلك في كلام الصابي كثير
وعلى منواله نسج الصاحب ابن عباد
فمن ذلك ما ذكره في وصف مهزومين فقال طاروا واقين بظهورهم صدورهم وبأصلابهم نحورهم وكلا المعنيين سواء
وكذلك قوله في هذا الكتاب يصف ضيق مجال الحرب مكان ضنك على الفارس والراجل ضيق على الرامح والنابل
ومن كلامه في كتاب وهو لا تتوجه همته إلى أعظم مرقوب إلا طاع ودان ولا تمتد عزيمته إلى أفخم مطلوب إلا كان واستكان
وكل هذا الذي ذكره شيء واحد
وله من كتاب وهو وصل كتابه جامعا من الفوائد أشدهما للشكر استحقاقا وأتمها للحمد استغراقا وتعرفت من إحسان الله فيما وفره من سلامته وهنأه من كرامته أنفس موهوب ومطلوب وأحمد مرقوب ومخطوب
وهذا كله متماثل المعاني متشابه الألفاظ
وفيما أوردته ههنا مقنع فأنعم نظرك أيها الواقف على هذا الكتاب فيما بينته لك ووضعت يدك عليه حتى تعلم كيف تأتي بالمعاني في الألفاظ المسجوعة والله الموفق للصواب
فإن قيل إنك اشترطت أن تكون كل واحدة من الفقرتين في الكلام المسجوع دالة على معنى غير المعنى الذي دلت عليه أختها وإنما اشترطت هذه

الشريطة فرارا من أن يكون المعنيان شيئا واحدا ونرى قد ورد في القرآن الكريم لفظتان بمعنى واحد في آخر إحدى الفقرتين المسجوعتين كقوله تعالى ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ) وكل رسول نبي
قلت في الجواب ليس هذا كالذي اشترطته أنا في اختصاص كل فقرة بمعنى غير المعنى الذي اختصت به أختها وإنما هو إيراد لفظتين في آخر إحدى الفقرتين بمعنى واحد وهذا لا بأس به لمكان طلب السجع ألا ترى أن أكثر هذه السورة التي هي سورة مريم عليها السلام مسجوعة على حرف الياء وهذا يجوز لصاحب السجع أن يأتي به وهو بخلاف ما ذكرته أنا ألا ترى أن النبي قد غير اللفظة عن وضعها طلبا للسجع فقال ( مأزورات ) وإنما هي موزورات وقال ( العين اللامة ) وإنما هي الملمة إلا أنه ليس في ذلك زيادة معنى بل يفهم من لفظة مأزورات أنها قائمة موزورات وكذلك يفهم من لفظة لامة أنها بمعنى ملمة فالسجع قد أجيز معه تغيير وضع اللفظة وأجيز معه أن يورد لفظتان بمعنى واحد في آخر إحدى الفقرتين ومع هذا فلم يجز في استعماله أن يورد فقرتان بمعنى واحد لأنه تطويل محض لا فائدة فيه وبين الذي ذكرته أنت وبين الذي ذكرته أنا فرق ظاهر
والذي قدمت من الأمثلة المسجوعة للصابي والصاحب ابن عباد ربما كانت يسيرة أتهم فيها بالتعصب ويقال إني التقطتها التقاطا من جملة رسائلهما وقد خرجت من عهدة هذه التهمة وذاك أني وجدت للصابي تقليدا بنقابة الأشراف العلويين ببغداد وكنت أنشأت تقليدا بنقابة الأشراف العلويين بالموصل وقد أوردت التقليدين ههنا ليتأملهما الناظر في كتابي هذا ويحكم بينهما إن كان عارفا أو يسأل عنهما العارف إن كان مقلدا
وقد أوردت تقليد الصابي أولا لأنه المقدم زمانا وفضلا وهو هذا ما عهد أمير المؤمنين إلى محمد بن الحسين بن موسى العلوي الموسوي حين وصلته به الأنساب وتأكدت له الأسباب وظهرت دلائل عقله ولبابته ووضحت مخايل فضله ونجابته ومهد له بهاء الدولة وضياء الملة أبو نصر بن عضد الدولة وتاج

الملة مولى أمير المؤمنين ما مكن له عند أمير المؤمنين من المحل المكين ووصفه به من الحلم الرزين وأشاد به فيه من رفع المنزلة وتقديم المرتبة والتأهيل لولاية الأعمال والحمل للأعباء الثقال وحيث رغبه فيه سابقة الحسين أبيه في الخدمة والنصيحة والمواقف المحمودة والمقامات المشهودة التي طابت بها أخباره وحسنت فيها آثاره وكان محمد متخلقا بخلائقه وذاهبا في طرائقه علما وديانة وورعا وصيانة وعفة وأمانة وشهامة وصرامة بالحظ الجزيل من الفضل الجميل والأدب الجزل والتوجه في الأهل والإيفاء بالمناقب على لداته وأترابه والإبرار على قرائبه وأضرابه فقلده ما كان داخلا في أعمال أبيه من نقابة نقباء الطالبين أجمعين بمدينة السلام وسائر الأعمال والأمصار شرقا وغربا وبعدا وقربا واختصه ذلك جذبا بصنعه وإنافة بقدره وقضاء لحق رحمه وترفيها لأبيه وإسعافا بإيثاره فيه إلى أمير المؤمنين واستخلافه عليه من النظر في المظالم وتسيير الحجيج في المواسم والله يعقب أمير المؤمنين فيما أمر ودبر حسن العاقبة فيما قضى وأمضى وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عله يتوكل وإليه ينيب
أمره بتقوى الله التي هي شعار المؤمنين وسنا الصالحين وعصمة عباد الله أجمعين وأن يعتقدها سرا وجهرا ويعتمدها قولا وفعلا ويأخذ بها ويعطي ويسر بها وينوي ويأتي ويذر ويورد ويصدر فإنها السبب المتين والمعقل الحصين والزاد النافع يوم الحساب والمسلك المفضي إلى دار الثواب وقد حض الله أولياءه عليها وهداهم في محكم كتابه إليها فقال عز من قائل ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )
وأمره بتلاوة كتاب الله مواظبا وتصفحه مداوما ملازما والرجوع إلى أحكامه فيما أحل وحرم ونقض وأبرم وأثاب وعاقب وباعد وقارب فقد صحح الله برهانه وحجته وأوضح منهاجه ومحجته وجعله نجما في الظلمات طالعا ونورا في المشكلات ساطعا فمن أخذ به نجا وسلم ومن عدل عنه هوى وندم

قال الله تعالى ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره بتنزيه نفسه عما تدعو إليه الشبهات وتطلع إليه التبعات وأن يضبطها ضبط الحليم ويكفها كف الحكيم ويجعل عقله سلطانا عليها وتمييزه أمرا ناهيا لها ولا يجعل لها عذرا إلى صبوة ولا هفوة ولا يطلق منها عنانا عند ثورة لا فورة فإنها أمارة بالسوء منصبة إلى الغي فمن رفضها نجا ومن اتبعها هوى فالحازم متهم عند تحرك وطره وأربه واهتياج غيظه ولا يدع أن يغضها بالشكيم ويعركها عرك الأديم ويقودها إلى مصالحها بالخزائم ويفتقدها من مقارفة المآثم والمحارم كيما يعز بتذليلها وتأديبها ويجل برياضها وتقويمها والمفرط في أمر تطمح به إذا طمحت ويجمع معها إذا جمحت ولا يلبث أن تورده حيث لا يصدر وتلجئه إلى أن يعتذر وتقيمه مقام النادم الواجم وتتنكب به سبيل الراشد السالم وأحق من تحلى بالمحاسن وتصدى لاكتساب المحامد من ضرب بمثل سهمه في نسب أمير المؤمنين الشريف ومنصبه المنيف واجتمع معه في ذؤابة العترة الطاهرة واستظل بأوراق الدوحة الفاخرة فذلك الذي تتضاعف به المآثر إن آثرها والمثالب إن أسف إليها ولا سيما من كان مندوبا بالسياسة ومرشحا للتقليد على أهله إذ ليس يفي بالصلاح لمن ولي عليه ولا يفي بإصلاح ما بين جنبيه ومن أعظم الهجنة عليه أن يأمر ولا يأتمر ويزجر ولا يزدجر قال الله تعالى جل ذكره ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره أن يتصفح أحوال من ولي عليهم من استقراء مذاهبهم والبحث عن بواطنهم ودخائلهم وأن يعرف لمن تقدمت قدمه منهم وتظاهر فضله فيهم منزلته ويوفيه حقه وزينته وينتهي في إكرام جماعتهم إلى الحدود التي توجبها أنسابهم وأقدارهم وتقتضيها مواقعهم وأخطارهم فإن ذلك يلزمه لشيئين أحدهما يخصه وهو النسب الذي بينه وبينهم والآخر يعمه والمسلمين جميعا وهو قول الله جل ذكره ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) فالمودة لهم

الإعظام لأكابرهم والاشتمال على أصاغرهم واجب متضاعف الوجوب عليه متأكد اللزوم له ومن كان منهم في دون تلك الطبقة من أحداث لم يحتنكوا عليه وجذعان لم يقرحوا ومجرين إلى ما يزري بأنسابهم ويغض من أحسابهم عذلهم وأنبهم ونهاهم ووعظهم فإن نزعوا وأقلعوا فذاك المراد بهم والمقصد فيهم وإن أصروا وتتابعوا أنالهم من العقوبة بقدر ما يكف ويردع فإن نفع وإلا تجاوزه إلى ما يلذع ويوجع من غير تطرق لأعراضهم ولا امتهان لأحسابهم فإن المغرض منهم الصيانة لا الإهانة والإدالة لا الإذالة وإذا وجبت عليهم الحقوق أو تعلقت بهم دواعي الخصوم قادهم إلى الإعفاء بما يصح منها ويجب والخروج إلى سنن الحق فيما يشتبه ويلتبس ومتى لزمتهم الحدود أقامها عليهم بحسب ما أمره الله تعالى فيها بعد أن تثبت الجرائم وتصح وتبين وتتضح وتتجرد عن الشك وتتجلى من الظن والتهمة فإن الذي يستحب في حدود الله عز و جل أن تدرأ مع نقصان اليقين والصحة وأن تمضى عليهم مع قيام الدليل والبينة قال الله عز و جل ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره بحياطة أهل النسب الأطهر والشرف الأفخر عن أن يدعيه الأدعياء أو يدخل فيه الدخلاء ومن أنتمى إليه كاذبا أو انتحله باطلا ولم يوجد له بيت في الشجرة ولا مصداق عند النسابين المهرة أوقع به كذبه وفسقه وشهره شهرة ينكشف بها غشه ولبسه وينزع بها غيره ممن تسول له ذلك نفسه وأن يحصن الفروج عن مناكحة من ليس كفئا لها في شرفها وفخرها حتى لا يطمع في المرأة الحسيبة النسيبة إلا من كان مثلا لها مساويا ونظيرا موازيا فقد قال الله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )
وأمره بمراعاة متبتلي أهله ومتهجديهم وصلحائهم ومجاوريهم وأراملهم وأصاغرهم حتى تستد الخلة من أحوالهم وتدر المواد عليهم وتتعادل أقساطهم فيما يصل إليهم من وجوه أموالهم وأن يزوج الأيامى ويربي اليتامى وليلزمهم المكاتب فيتلقنوا القرآن ويعرفوا فرائض الإسلام والإيمان ويتأدبوا بالآداب اللائقة بذوي الأحساب فإن شرف الأعراق محتاج إلى شرف الأخلاق ولا حمد لمن شرفه حسبه وسخف أدبه إذ كان لم يكتسب الفخر الحاصل بفضل سعي ولا

طلب ولا اجتهاد بل بصنع الله تعالى له ومزيد المنة عليه وبحسب ذلك لزوم ما يلزمه من شكره سبحانه على هذه العطية والاعتداد بما فيها من المزية
وإعمال النفس في حيازة الفضائل والمناقب والترفع عن الرذائل والمثالب
وأمره بإجمال النيابة عن شيخه الحسين بن موسى فيما أمره أمير المؤمنين باستخلافه عليه من النظر والأخذ للمظلوم من الظالم وأن يجلس للمترافعين إليه جلوسا عاما ويتأمل كلامهم تأملا تاما فما كان منها متعلقا بالحاكم رده إليه ليحمل الخصوم عليه وما كان من طريقة الغشم والظلم والتغلب والغصب قبض عند اليد المبطلة وثبت فيه اليد المستحقة وتحرى في قضاياه أن تكون موافقة للعدل ومجانبة للخذل فإن عادة الحكام وصاحب المظالم واحدة وهي إقامة الحق ونصرته وإبانته وإثارته وإنما يختلف سبيلاهما في النظر إذ كان الحاكم يعمل بما ثبت عنده وظهر وصاحب المظالم يفحص عما غمض واستتر وليس له مع ذلك أن يرد للحاكم حكومة ولا يعل له قضية ولا يتعقب ما ينفذه ويمضيه ولا يتتبع ما يحكم به ويقضيه والله يهديه ويوفقه ويسدده ويرشده
وأمره أن يسير حجيج بيت الله عز و جل إلى مقصدهم ويحميهم في بدأتهم وعودتهم ويرتبهم في مسيرهم ومسلكهم ويرعاهم في ليلهم ونهارهم حتى لا تنالهم شدة ولا تصل إليهم مضرة وأن يريحهم في المنازل ويوردهم المناهل ويناوب بينهم في النهل والعلل ويمكنهم من الارتواء والاكتفاء مجتهدا في الصيانة لهم ومعذرا في الذب عنهم ومتلوما على متأخرهم ومتخلفهم ومنهضا لضعيفهم ومهيضهم فإنهم حجاج بيت الله الحرام وزوار قبر رسوله قد هجروا الأهل والأوطان وفارقوا الجيرة والإخوان وتجشموا المغارم الثقال وتعسفوا السهولة والجبال يلبون دعاء الله ويطيعون أمره ويؤدون فرضه ويرجون ثوابه وحقيق على المسلم أن يحرسهم متبرعا ويحوطهم متطوعا فكيف من تولى ذلك وضمنه وتقلده واعتقبه قال الله تعالى ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا )

وأمره أن يراعي أمور المساجد بمدينة السلام وأطرافها وأقطارها وأكنافها وأن يجبي أموال وقفها ويستقصي جميع حقوقها وأن يلم شعثها ويسد خللها بما يتحصل من هذه الوجوه قبله لا يزيل رسما جرى ولا ينقض عادة كانت لها وأن يكتب اسم أمير المؤمنين على ما يعمره منها ويذكر اسمه بعده بأن عمارتها جرت على يده وصلاح أداه قول أمير المؤمنين في ذلك تنويها باسمه وإشادة لذكره وأن يولي ذلك من قبله من حسنت أمانته وظهرت عفته وصيانته فقد قال الله جل من قائل ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وأمره أن يستخلف على ما يرى استخلافه عليه من هذه الأعمال في الأمصار الدانية والنائية والبلاد القريبة والبعيدة من يثق به من صلحاء الرجال ذوي الوفاء والاستقلال وأن يعهد إليهم مثل ما عهد إليه ويعتمد عليهم مثل ما اعتمد عليه ويستقصي في ذلك آثارهم ويتعرف أخبارهم فمن وجده محمودا قربه ومن وجده مذموما صرفه ولم يمهله واعتاض من ترجى الأمانة عنده وتكون الثقة معهودة منه وأن يختار لكتابته وحجابتة والتصرف فيما قرب منه وبعد عنه من يزينه ولا يشينه وينصح له ولا يغشه ويجمله ولا يهجنه من الطبقة المعروفة باللطف المتصونة عن النطف ويجعل لهم من الأرزاق الكافية والأجرة الوافية ما يصدهم عن المكاسب الذميمة والمآكل الوخيمة فليس تجب عليهم الحجة إلا مع إعطاء الحاجة قال الله تعالى ( وأن ليس للإنسان ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى )
وأمره أن يكتب لمن تقوم بينته عنده وتنكشف له حجته إلى أصحاب المعارف بالشد على يده واتصال حقه إليه وحسم الطمع الكاذب فيه وقبض اليد الظالمة عنه إذ هم مندوبون للتصرف بين أمره ونهيه والوقوف عند رسمه وحده
هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته لك وعليك قد أبان منه سبيلك وأوضح دليلك وهداك لرشدك وجعلت على بينة من أمرك فاعمل به ولا تخالفه وانته إليه ولا تجاوزه وإن عرض لك عارض يعجزك الوفاء به ويشتبه

عليك الخروج منه أنهيته إلى أمير المؤمنين مبادرا وكنت إلى ما يأمرك به صائرا إن شاء الله تعالى
وأما التقليد الذي أنشأته أنا فقد أوردته بعد هذا التقليد وهو
أما بعد فإن كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم وكل كتاب لا يرقم باسمه فليس بمعلم وعلى هذا فإن حمده يتنزل من الكلام منزلة الأعضاء من الأجسام واسمه يتنزل من الكتاب منزلة الرقوم من الثياب وقد جمعنا في كتابنا هذا بين التسمية والتحميد وجعلنا أحدهما مفتاحا للتيمن والآخر سببا للمزيد ثم ردفناهما بالصلاة على سيدنا محمد الذي أيده الله بالقرآن المجيد وجعل شهادته قبل كل شهيد وعلى آله وصحبه الذين هدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ومما يقترن بهذه الصلاة في ثوابها ويجيء على أعقابها النظر في أمر الأسرة النبوية التي وصل ودها بوده وجعلها إحدى الثقلين المخلفين من بعده وقد تقادم الآن زمانها وتشعبت أغصانها ونسي مالها في الرقاب من عهدة الأمانة ولم توضع فيما وضع الله تعالى ورسوله من المكانة وأولى الناس بها من أضمر ولاءها حقا وأوجب أن يرد معها الحوض حين يقال لوارده سحقا وكان بمن تحت يده منها بارا رفيقا حتى لا يسأله برا ولا رفقا ونحن نرجو أن نفوز بفضيلة هذه الحسنة وأن نسبق إليها سبق المتقرب في الجمعة ببدنه ومن أهم أمورها أن يختار لها زعيم يرأف بها رأفة الوالد بولده ويقوم بأمرها قيام الرأس بجسده حتى تأتلف أصولها كلها في مغرسها ولا يحكم عليها من ليس من أنفسها وقد اخترنا من وفقنا في اختياره وأخذناه فيه ببيان الرأي وحزمه لا بشبهة الهوى واغتراره ولو لم يكن من القوم الذين ولوها لكان استحقاقه لها بينا والتعويل عليها متعينا فكيف وقدمه فيها قديمة الميلاد ووراثته إياها عن سيادة الجدود وسؤدد الأجداد وهو أنت أيها السيد الأجل الشريف الحسيب النسيب فلان بن فلان الحسيني ولو شئنا لأسندنا هذه النسبة كابرا عن كابر ونضدناها آخرا بعد أول عن أول قبل آخر حتى وصلنا هذا الفرع بشجرته الطيبة وهذا القطر بسحابته الصيبة وشرف الأنساب أصدقه ما كان الدهر به شهيدا وأجده ما كان قديما وأخلقه ما كان جديدا وما تولى الروح الأمين مدحه قرآنا أكرم مما تولى

الشعراء مدحه قصيدا ولا فضل للمعتزي إلى هذا النسب حتى تلحق البنوة بالأبوة ويضيف درجة الفضيلة إلى محتد النبوة وحينئذ يقال ما أقرب الشبه على قدم عهده وهذا ماء الورد بعد ذهاب ورده وأنت ذلك الرجل الذي تردد الشرف في مناسبه تردد القمر في منازله وزها المجد بمناقبه زهو الروض في خمائله فلآليء حسبك تغنيك عن سؤال من وما وتملأ بودك وحمدك قلبا وفما والحسب ما حفظت أواخره أوائله وأوضحت الليالي والأيام دلائله وأقرت به الأعداء فما ردت فضائله وهذه هي المآثر التي إذا نظمت غارت الشعرى عليها من الشعر وإذا نثرت وجدت في محكم الذكر وأنت صاحبها وابن صاحبها ومن لم يرثها عن أباعدها بل عن أقاربها ولو جانبت رياستها مصانعا ومشيت بها الضراء متواضعا لدل عليك وصفها وعرف منك عرفها
وقد قلدناك أمر هذه الأسرة الطاهرة التي هي أسرتك وأمرناك عليها وإمرتها إمرتك فتولها تولي من خفض لها جناحه وأفاض عليها سماحه وأنضى فيها غدوه ورواحه حتى يقال إنك الراعي الذي تناول ثلثه فأراح حسيرها وجبر كسيرها وارتاد لها خصبا وأوردها رفها لا غبا وأذكى في كلاءتها عينا وقلبا
ومن حقها عليك أن تنظر إلى ذات شمالها وذات يمينها وتتصفح أحوالها في أمر دنياها ودينها فأول ذلك أن تعلمها كتاب الله تعالى الذي في تعليمه نهج الصواب وفي تلاوته مضاعفة حسنات الثواب وقد مثل قارئه بالبيت العامر وتاركه بالبيت الخراب وهو كتاب امتاز عن الكتب بنجوم التنزيل وتولى الله حفظه من التحريف والتبديل وافتتحه بالسبع المثاني التي لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل وهو الموصوف بأنه النور المستضاء به في غيابة الظلماء والحبل الممدود من الأرض إلى السماء والبحر الذي لا يستخرج لؤلؤه ومرجانه إلا الراسخون من العلماء
وكذلك فخذ هذه الأسرة بتعليم الفضائل التي تتفاوت بها القيم وسسها برياضة الآداب وتهذيب الشيم ولا تتركها فوضى لا يتسم أحدها بسمة القدر المنيف ولا يرجع إلى حسب تليد ولا إلى سعي طريف وتكون غاية ما عنده من

الفضيلة أن يقال فلان الشريف ومن حفظ رسول الله فيها أن توفي فضل مكانها وتخالف بين شأن غيرها من المسلمين وبين شأنها فلا تبتذل بمجالس الولاة في انتزاع ظلامة ولا في إقامة حد يسلب معه رداء الكرامة وأنت تتولى ذلك منها وجب عليها من حق فخذها باقتضائه وأمض فيها حكم الله الذي أمر بإمضائه وليكن ذلك على وجه الرفق الذي يسلس له القياد ويتوطأ له المهاد وإن أمكنك افتداء شيء من هذه الظلامات التي تتوجه عليها ففاد وقد أتم الله فضلها بمنع كرائمها إلا من كفء لا دناءة في عنصره ولا غضاضة في مخبره وهو الذي إن فاته شرف النبوة في مغرسه فلم يفته شرف النباهة في معشره وإذا تباينت الأقدار فلا فرق بن المناكح المخطوبة وبين الأسلاب المسلوبة فاحفظ لأسرتك حرمة هذه المنزلة واجعلها في كتاب الوصايا التي وصيت بها مكان البسملة وكما أمرناك بالنظر في صون أقدارها فكذلك نأمرك بالنظر في حفظ مادة درهمها ودينارها وقد علمت أن لها أوقافا وقفها قوم فحظوا بأجرها واسمها وستحظى أنت بالعدل في قسمها فأجر على كل منها رزقه وأعط كل ذي حق حقه وفي الناس طائفة أدعياء يرومون إلحاق الرأس بالذنب والنبع بالغرب ويلحقون أبا لغير ابن وابنا لغير أب كل ذلك رغبة في سحت يأكلونه لا في نسب يوصلونه فنقب عن حال هؤلاء تنقيبا واجعل النسب نسيبا والغريب غريبا حتى تخلص السلالة من طراقها وتبقى الشجرة قائمة على أعراقها ومن علمت كذبه فازجره بأليم الازدجار وأعلمه بأنه قد تبوأ مقعده من النار وأشهره في الناس حتى ينتهي وينتهي غيره بذلك الاشتهار
وههنا وصية هي أهم من هذه الوصية أمرا وأعظم أجرا وأجدر بأن تكون هذه الأولى وتكون هي الأخرى وهي الأخذ على ألسنة السفهاء من الخوض فيها شجر بين آل النبي وأصحابه وإظهار العصبية التي تزحزح الحق عن نصابه وترجعه على أعقابه وليس مستندها إلا مغالاة ذوي الجهل وربما نشأ منها فتنة والفتنة أشد من القتل فوكل بهؤلاء غربا قاطعا ونهيا قامعا وكن في ذلك شارعا لما كان الله شارعا فأولئك السادات هم النجوم الذين بأيهم كان الاقتداء كان به الاهتداء وقصارى المحسن في هذا الزمان أن يتعلق منها سببا ويأخذ عنهم دينا أو أدبا ولا يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه ولو أنفق مثل أحد ذهبا ونحن نعلم أنك واقف على سنن اقتصادك وأن هذه الوصية هي محض

اعتقادك والمنصف في هذا المقام من رمقه بنظر جلي ووفى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حقهما وإن كان من نسل علي فكل قد ذكره رسول الله بفضله وهؤلاء من صحابته وهذا من أهله ونعوذ بالله من الأهواء الزائغة والأقوال التي ليست بسائغة ولا حجة إلا بالحق ولله الحجة البالغة وقد جعلنا لك في مالنا عطاء دارا تستعين به على لوازم النفقات وتخرج نافلته في وقاية عرضك التي هي محسوبة من الصدقات فإن من ساد قوما يفتقر إلى تحمل أثقالهم والإفاضة من حاله على أحوالهم وهذا بر يكون منا أصله ومنك فرعه وثواب يكون لك قصده ولنا شرعه وصاحب الإحسان من سن سبيل الإحسان ولم نرض أن أريناك مكانه حتى أمددناك فيه بالإمكان فأعط ما لنا وتعلم من سنة إفضالنا ولدولتنا بذلك ثوب جمال كلما لبس زاد جدة وعمر ذكر كلما مضت عليه مدد الأيام طال مدة ولا ملك في الدنيا لمن لم يجعل ملكه حديثا حسنا ويشتري المحامد فيجعله لها ثمنا ومن عرف قدر الثناء جد في تحصيله ولو أنفق الكثير في قليله فكم من دولة أعدمت منه فدرست آثار معالمها ولو كانت منه مثرية لما ذهبت مع بقاء مكارمها وإذا ذكرنا هذا فلنختمه بما يكون قلادة لصاحب هذا التقليد وهو أن نجرد العناية بوجاهته حتى يلبس تقدما بذلك التجريد وفحوى ذلك أن يعلم الناس ما له في الدولة من منزلة الكرامة ويعرفوا أنه فيها ابن جلا غير محتاج إلى وضع العمامة ونحن نأمر نوابنا وولاتنا وأصحابنا أن يوفوه حق أبوته الشريفة وفضيلته التي ردفتها فأضحت وهي لها رديفة وأن يعطوه ما شاء من إعلاء شأنه ويمضوا فعل يده وقول لسانه إن شاء الله تعالى
وقد وجدت للصابي أيضا تقليدا أنشأه لفخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي بن بويه عن الخليفة الطائع رحمه الله وهو مثبت ههنا على صورته وكان عرض على تقليد كتب للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من الخليفة المستضيء بالله رحمه الله في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة فوجدت فيه كلاما نازلا بالمرة وسألني بعض الإخوان بمدينة دمشق أن أعارضه فعارضته بتقليد في معناه وهو مثبت ههنا أيضا وكلا التقليدين باسم ملك كبير وفيهما يظهر ما يظهر من فصاحة وبلاغة

فأما التقليد الذي أنشأه الصابي فهو هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين حين عرف غناه وبلاه واستصح دينه ويقينه
ورعى قديمه وحديثه واستنجب عوده ونجاره وأثنى عز الدولة أبو منصور بن معز الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين عليه وأشار بالمزيد في الصنيعة إليه وأعلم أمير المؤمنين اقتداءه به في كل مذهب ذهب فيه من الخدمة وغرض رمى إليه من النصيحة دخولا في زمرة الأولياء المنصورة وخروجا عن جماعة الأعداء المدحورة وتصرفا على موجبات البيعة التي هي بعز الدولة أبي منصور منوطة وعلى سائر ما يتلوه ويتبعه مأخوذة مشروطة فقلده الصلاة وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والأعشار والضياع والجهبذة والصدقات والجوالي وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم وأسواق الرقيق والعيار في دور الضرب والطرز والحسبة بكور همذان واستراباذ والدينور وقرميسين والإيعارين وأعمال أذربيجان وأزان والسحانين وموقان واثقا منه باستقبال النعمة واستدامتها والاستزادة بالشكر منها والتجنب لغمطها وجحودها والتنكب لإيحاشها وتنفيرها والتعمد لما يمكن له الحظوة والزلفى ويحرس عليه الأثرة والقربى بما يظهره ويضمره من الوفاء الصحيح والولاء الصريح والغيب الأمين والصدر السليم والمقاطعة لكل من قطع العصمة وفارق الجملة والمواصلة لكل من حمى البيضة وأخلص النية والكون تحت ظل أمير المؤمنين وذمته ومع عز الدولة أبي منصور وفي حوزته والله جل اسمه يعرف لأمير المؤمنين حسن العقبى فيما أبرم ونقض وسداد الرأي فيمن رفع وخفض ويجعل عزائمه مقرونة بالسلامة محجوبة عن موارد الندامة وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل
أمره بتقوى الله التي هي العصمة المتينة والجنة الحصينة والطود الأرفع والمعاذ الأمنع والجانب الأعز والملجأ الأحرز وأن يستشعرها سرا وجهرا ويستعملها قولا وفعلا ويتخذها ذخرا دافعا لنوائب القدر وكهفا حاميا من حوادث الغير فإنها أوجب الوسائل وأقرب الذرائع وأعودها على العبد بمصالحه وأدعاها إلى كل مناجحة وأولاها بالاستمرار على هدايته والنجاة من غوايته

والسلامة في دنياه حين توبق موبقاتها وتردهي مردياتها وفي آخرته حين تروع رائعاتها وتخيف مخيفاتها وأن يتأدب بأدب الله في التواضع والإخبات والسكينة وصدق اللهجة إذا نطق وغض الطرف إذا رمق وكظم الغيظ إذا أحفظ وضبط اللسان إذا أغضب وكف اليد عن المآثم وصون النفس عن المحارم وأن يذكر الموت الذي هو نازل به والموقف الذي هو صائر إليه ويعلم أنه مسئول عما اكتسب مجزى عما تزمل واحتقب ويتزود من هذا الممر لذلك المقر ويستكثر من أعمال البر لتنفعه ومن مساعي الخير لتنقذه ويأتمر بالصالحات قبل أن يأمر بها ويزدجر عن السيئات قبل أن يزجر عنها ويبتدئ بإصلاح نفسه قبل إصلاح رعيته فلا يبعثهم على ما يأتي ضده ولا ينهاهم عما يقترف مثله ويجعل ربه رقيبا عليه في خلواته ومروأته مانعة له من شهواته فإن أحق من غلب سلطان الشهوة وأولى من ضرع لغذاء الحمية من ملك أزمة الأمور واقتدر على سياسة الجمهور وكان مطاعا فيما يرى متبعا فيما يشاء يلي على الناس ولا يلون عليه ويقتص منهم ولا يقتصون منه فإذا اطلع الله منه على نقاء جيبه وطهارة ذيله وصحة سريرته واستقامة سيرته أعانه على حفظ ما استحفظه وأنهضه بثقل ما حمله وجعل له مخلصا من الشبهة ومخرجا من الحيرة فقد قال الله تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) وقال عز من قائل ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وقال ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) إلى آي كثيرة حضنا بها على أكرم الخلق وأسلم الطرق فالسعيد من نصبها إزاء ناظره والشقي من نبذها وراء ظهره وأشقى منها من بعث عليها وهو صادف عنها وأهاب إليها وهو بعيد منها وله ولأمثاله يقول الله تعالى ذكره ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )
وأمره أن يتخذ كتاب الله إماما متبعا وطريقا متوقعا ويكثر من تلاوته إذا خلا بذكره ويملأ بتأميله أرجاء صدره فيذهب معه فيما أباح وحظر ويقتدي به

إذا نهى وأمر ويستبين ببيناته إذا استغلقت دونه المعضلات ويستضيء بمصابيحه إذا غم عليه في المشكلات فإنه عروة الإسلام الوثقى ومحجته الوسطى ودليله المقنع وبرهانه المرشد والكاشف لظلم الخطوب والشافي من مرض القلوب والهادي لمن ضل والمتلافي لمن زل فمن نجا به فقد فاز وسلم ومن لها عنه فقد خاب وندم قال الله تعالى ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
وأمره أن يحافظ على الصلوات ويدخل فيها في حقائق الأوقات قائما على حدودها متبعا لرسومها جامعا فيها بين نيته ولفظه متوقيا لمطامح سهوه ولحظه منقطعا إليها عن كل قاطع لها مشغولا بها عن كل شاغل عنها متثبتا في ركوعها وسجودها مستوفيا عدد مفروضها ومسنونها موفرا عليها ذهنه صارفا إليها همه عالما بأنه واقف بين يدي خالقه ورازقه ومحييه ومميته ومعاقبه ومثيبه لا تستر دونه خائنة الأعين وما تخفي الصدور فإذا قضاها على هذه السبيل منذ تكبيرة الإحرام إلى خاتمة التسليم أتبعها بدعاء يرتفع بارتفاعها ويستمع باستماعها لا يتعدى فيه مسائل الأبرار ورغائب الأخيار من استصفاح واستغفار واستقالة واسترحام واستدعاء لمصالح الدين والدنيا وعوائد الآخرة والأولى فقد قال الله تعالى ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) وقال تعالى ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )
وأمره بالسعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية بعد التقدم في فرشها وكسوتها وجمع القوام والمؤذنين والمكبرين فيها واستسعاء الناس إليها وحضهم عليها آخذين الأهبة متنظفين في البزة مؤدين لفريضة الطهارة وبالغين في ذلك أقصى الاستقصاء معتقدين خشية الله وخيفته مدرعين تقواه ومراقبته مكثرين من دعائه عز و جل وسؤاله مصلين على محمد وعلى آله بقلوب على اليقين موقوفة وهمم إلى الدين مصروفة وألسن بالتقديس والتسبيح فصيحة وآمال في المغفرة والرحمة فسيحة فإن هذه المصليات والمتعبدات بيوت الله التي فضلها ومناسكه التي شرفها وفيها

يتلى القرآن الكريم ويتعوذ العائذون ويتعبد المتعبدون ويتهجد المتهجدون وحقيق على المسلمين أجمعين من وال ومولى عليه أن يصونها ويعمرها ويواصلها ولا يهجرها وأن يقيم الدعوة على منابرها لأمير المؤمنين ثم لنفسه على الرسم الجاري فيها قال الله تعالى في هذه الصلاة ( يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) وقال في عمارة المساجد ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )
وأمره أن يراعي أحوال من يليه من طبقات جند أمير المؤمنين ومواليه ويطلق لهم الأرزاق في أوقات الوجوب والاستحقاق وأن يحسن في معاملتهم ويجمل في استخدامهم ويتصرف في سياستهم بين رفق من غير ضعف وخشونة في غير عنف مثيبا لمحسنهم ما زاد بالإثابة في حسن الأثر وسلم معها من دواعي الأشر ومتغمدا لمسيئهم ما كان التغمد له نافعا وفيه ناجعا فإن تكررت زلاته وتتابعت عثراته تناولته من عقوبته بما يكون له مصلحا ولغيره واعظا وأن يختص أكابرهم وأماثلهم وأهل الرأي والخطر منهم بالمشاورة في الملم والإطلاع على بعض المهم مستخلصا مخايل صدورهم بالبسط والإناء ومستشحذا بصائرهم بالإكرام والاجتباء فإن في مشاورة هذه الطبقة استدلالا على مواقع الصواب وتحرزا عن غلط الاستبداد وأخذا بمجامع الحزامة وأمنا من مفارقة الاستقامة وقد حض الله عز و جل على الشورى حيث قال لرسوله ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين )
وأمره بأن يصمد بما يتصل بنواحيه من ثغور المسلمين ورباط المرابطين ويقسم لها قسما وافرا من عنايته ويصرف إليها طرفا بل شطرا من رعايته ويختار لها أهل الجلد والشدة وذوي البأس والنجدة ممن عجمته الخطوب وعركته الحروب واكتسب دربه بخدع المتنازلين وتجربة بمكايد المتقارعين وأن يستظهر

بكشف عددهم واعتبار عددهم وانتخاب خيلهم واستجادة أسلحتهم غير مجمر بعثا إذا بعثه ولا مستكرهه إذا وجهه بل يناوب بين رجاله مناوبة تريحهم ولا تمدهم وترفههم ولا تئودهم فإن في ذلك من فائدة الإجمام والعدل في الاستخدام زينا فليسو بين رجال النوب فيما عاد عليهم بعز الظفر والنصر وبعد الصيت والذكر وإحراز النفع والأجر ما يحق أن يكون الولاة به عاملين وللناس عليه حاملين وأن يكرر في أسماعهم ويثبت في قلوبهم مواعيد الله تعالى لمن صبر ورابط وسامح بالنفس من حيث لا يقدمون على تورط غرة ولا يحجمون عن انتهاز فرصة ولا ينكصون عن تورد معركة ولا يلقون بأيديهم إلى التهلكة فقد أخذ الله ذلك على خلقه والمرء أمين على دينه وأن يريح العملة فيما يحتاج إليه من راتب نفقات هذه الثغور وحادثها وبناء حصونها ومعاقلها واستطراق طرقها ومسالكها وإفاضة الأقوات والعلوفة فيها للمترتبين بها والمترددين إليها والحامين لها وأن يبذل أمانة لمن طلبه ويعرضه على من لم يطلبه ويفي بالعهد إذا عاهد وبالعقد إذا عاقد غير مخفر ذمة ولا جارح أمانة فقد أمر الله تعالى بالوفاء فقال عز و جل ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) ونهى عن النكث فقال عز من قائل ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه )
وأمره أن يعرض من في حبوس عمله على جرائمهم فمن كان إقراره واجبا أقره ومن كان إطلاقه سائغا أطلقه وأن ينظر في الشرطة والأحداث نظر عدل وإنصاف ويختار لها من يخاف الله ويتقيه ولا يجابي ولا يراقب فيه ويتقدم إليهم بقمع الجهال وردع الضلال وتتبع الأشرار وطلب الدعار مستدلين على أماكنهم متوغلين إلى مكامنهم متولجين عليهم في مظانهم متوثقين ممن يجدونه منهم منفذين أحكام الله تعالى فيهم بحسب الذي يتبين من أمرهم ويصح من فعلهم في كبيرة ارتكبوها وعظيمة احتقبوها ومهجة إن أفاظوها واستهلكوها وحرمة إن استباحوها وانتهكوها فمن استحق حدا من حدود الله المعلومة أقاموه عليه غير مخففين منه وأحلوه به غير مقصرين عنه بعد ألا يكون عليهم في الذي يأتونه حجة ولا يعترضهم في وجوبه مشبهة فإن الواجب في الحدود أن تقام بالبينات وأن تدرأ بالشبهات فأولى ما توخاه رعاة الرعايا فيها ألا يقدموا عليها مع

نقصان ولا يتوقفوا عنها مع قيام الدليل ومن وجب عليه القتل احتاط بما يحتاط به على مثله من الحبس الحصين والتوثق الشديد وكتب إلى أمير المؤمنين بخبره وشرح جنايته وثبوتها بإقرار يكون منه أو بشهادة تقع عليه ولينتظر من جوابه ما يكون عمله بحسبه فإن أمير المؤمنين لا يطلق سفك دم مسلم أو معاهد إلا ما أحاط به علما وأتقنه فهما وكان ما يمضيه فيه عن بصيرة لا يخالجها شك ولا يشوبها ريب ومن ألم بصغيرة من الصغائر ويسيرة من الجرائر من حيث لم يعرف له مثلها ولم يتقدم له أختها وعظه وزجره ونهاه وحذره واستتابه وأقاله ما لم يكن عليه خصم في ذلك يطالب بقصاص منه وجزاء له فإن عاد تناوله من التقويم والتهذيب والتعزيز والتأديب بما يرى أن قد كفى فيما اجترم ووفى بما قدم فقد قال الله تعالى ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون )
وأمره أن يعطل ما في أعماله من الحانات والمواخير ويطهرها من القبائح والمناكير ويمنع من يجمع أهل الخنا فيها ويؤلف شملها بها فإنه شمل يصلحه التشتيت وجمع يحفظه التفريق وما زالت هذه المواطن الذميمة والمطارح الدنية داعية من يأوي إليها ويعكف عليها إلى ترك الصلوات وإهمال المفترضات وركوب المنكرات واقتراف المحظورات وهي بيوت الشيطان التي في عمارتها لله معصية وفي إخرابها للخير مجلبة والله تعالى يقول لنا معشر المؤمنين ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ويقول عز من قائل لغيرنا من المذمومين ( فخلف من بعدهم خلق أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا )
وأمره أن يولي الحماية في هذه الأعمال أهل الكفاية والعناية من الرجال وأن يضم إليهم كل من خف ركابه وأسرع عند الصريخ مرتبا لهم في المسالح وسادا بهم ثغر المسالك وأن يوصيهم بالتيقظ ويأخذهم بالتحفظ ويزيح عللهم في علوفة خيلهم والمقرر من أزوادهم وميرهم حتى لا تثقل لهم على البلاد وطأة ولا يدعوهم إلى تحنقهم وثلمهم حاجة وأن يحوطوا السابلة بادئة وعائدة

ويبذرقوا القوافل صادرة وواردة ويحرسوا الطريق ليلا ونهارا ويتفصوها رواحا وغدوا وينصبوا لأهل العبث الأرصاد ويتكمنوا لهم بكل واد ويتفرقوا عليهم حيث يكون التفرق مضيقا لفضائهم ومؤديا إلى انفضاضهم ويجتمعوا حيث يكون الاجتماع مطفئا لجمرتهم وصادعا لمروتهم ولا يخلوا هذه السبل من حماة لها وسيارة فيها يترددون في جوادها ويتعسفون في عواديها حتى تكون الدماء محقونة والأموال مصونة والفتن محسومة والغارات مأمونة ومن حصل في أيديهم من لص خاتل وصعلوك خارب ومخيف لسبيل ومنتهك لحريم امتثل في أمره أمر أمير المؤمنين الموافق لقول الله عز و جل ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم )
وأمره بوضع الرصد على من يجتاز في أعماله من أباق العبيد والاحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم والبحث عن الأماكن التي فارقوها والطرق التي استطرقوها ومواليهم الذين أبقوا منهم ونشزوا عنهم وأن يردوهم عليهم قهرا ويعيدوهم إليهم صغرا وأن ينشد الضالة ما أمكن أن تنشد ويحفظوها على ربها بما جاز أن تحفظ ويتجنبوا الامتطاء لظهورها والانتفاع بأوبارها وألبان ما يجز ويحلب وأن يعرفوا اللقطة ويتبعوا أثرها ويشيعوا خبرها فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلمت إليه ولم يعترض فيها عليه والله عز و جل يقول ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ويقول رسول الله ( ضالة المؤمن حرق النار )
وأمره أن يوصي عماله بالشد على يد الحكام وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام وأن يحضروا مجالسهم حضور الموقرين لها الذابين عنها المقيمين لرسوم الهيبة وحدود الطواعية فيها ومن خرج عن ذلك من ذي عقل ضعيف وحلم

سخيف نالوه بما يردعه وأحلوا به ما يزعه ومتى تقاعس متقاعس عن حضور مع خصم يستدعيه بأمر يوجبه الحكم إليه أو التوى ملتو بحق يحصل عليه ودين يستقر في ذمته قادوه إلى ذلك بأزمة الصغار وخزائم الاضطرار وأن يحبسوا ويطلقوا بأقوالهم ويثبتوا الأيدي في الأملاك والفروج وينزعوا بقضاياهم فإنهم أمناء الله في فصل ما يقضون وبث ما يبثون وعن كتابه وسنة نبيه يوردون ويصدرون وقد قال الله عز و جل ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب )
وأن يتوخى بمثل هذه المعاملة عمال الخراج في استيفاء حقوق ما استعملوا عليه واستنطاف بقاياهم فيه والرياضة لمن تسوء طاعته من معامليهم وإحضارهم طائعين أو كارهين بين أيديهم فمن آداب الله تعالى للعبد الذي يحق عليه أن يتخذها ويجعلها للرضا عنه سببا قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب )
وأمره أن يجلس للرعية جلوسا عاما وينظر في مظالمها نظرا تاما يساوي في الحق بين خاصها وعامها ويوازي في المجالس بين عزيزها وذليلها وينصف المظلوم من ظالمه والمغصوب من غاصبه بعد الفحص والتأمل والبحث والتبين حتى لا يحكم إلا بعدل ولا ينطق إلا بفصل ولا يثبت يدا إلا فيما وجب تثبيتها فيه ولا يقبضها إلا عما وجب قبضها عنه وأن يسهل الإذن لجماعتهم ويرفع الحجاب بينه وبينهم ويوليهم من حصانة الكنف ولين المنعطف والاشتمال والعناية والصون والرعاية ما تتعادل به أقسامهم وتتوازى منه أقساطهم ولا يصل الركين منهم إلى استضامة ما تأخر عنه ولا ذو السلطان إلى هضيمة من حل دونه وأن يدعوهم إلى أحسن العادات والخلائق ويحضهم على أحمد المذاهب والطرائق ويحمل عنهم كله ويمد عليهم ظله ولا يسومهم عسفا ولا يلحق بهم حيفا ولا يكلفهم شططا ولا يجشمهم مضلعا ولا يثلم لهم معيشة ولا يداخلهم في جريمة ولا يأخذ بريئا بسقيم ولا حاضرا بعديم

فإن الله عز و جل ينهى أن تزر وازرة وزر أخرى ويرفع عن هذه الرعية ما عسى أن يكون سن عليها من سنة ظالمة وسلك بها من محجة جائرة ويستقري آثار الولاة قبله عليها فيما أزلفوه من خير أو شر إليها فيقر من ذلك ما طاب وحسن ويزيل ما خبث وقبح فإن من غرس الخير يحظى بمعسول ثمره ومن زرع الشر يصلى بممرور ريعه والله تعالى يقول ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون )
وأمره بأن يصون مال الخراج وأثمان الغلات ووجوه الجبايات موفرا ويزيد ذلك مثمرا بما يستعمله من الإنصاف لأهلها وإجرائهم على صحيح الرسوم فيها فإنه مال الله الذي به قوة عباده وحماية بلاده ودرور حلبه واتصال مدده وبه يحاط الحريم ويدفع العظيم ويحمي الذمار ويذاد الأشرار وأن يجعل افتتاحه إياه بحسب إدراك أصنافه وعند حضور مواقيته وأحيانه غير متسلف شيئا قبلها ولا مؤخر لها عنها وأن يخص أهل الطاعة والسلامة بالترقية لهم وأهل الاستصعاب والامتناع بالتشديد عليهم لئلا يقع إرهاق لمذعن أو إهمال لطامع وعلى المتولي لذلك أن يضع كلا من الأمرين موضعه ويوقعه موقعه متجنبا إحلال الغلظة بمن لا يستحقها وإعطاء الفسحة من ليس أهلها والله تعالى يقول ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى )
وأمره أن يتخير عماله على الخراج والأعشار والضياع والجهبذة والصدقات والجوالي من أهل الظلف والنزاهة والضبط والصيانة والجزالة والشهامة وأن يستظهر مع ذلك عليهم بوصية تعيها أسماعهم وعهود يقلدها أعناقهم بألا يضيعوا حقا ولا يأكلوا سحتا ولا يستعملوا ظلما ولا يقارفوا غشما وأن يقيموا العمارات ويحتاطوا ويحترزوا من إتواء حق لازم أو تعطيل رسم عادل مؤدين في جميع ذلك الأمانة مجتنبين للخيانة وأن يأخذوا جهابذتهم باستيفاء وزن المال على تمامه واستجادة نقده على عياره واستعمال الصحة في قبض ما يقبضوه

وإطلاق ما يطلقون وأن يوعزوا إلى سعاة الصدقات في أخذ الفرائض من سائمة مواشي المسلمين دون عمالتها وكذلك الواجب فيها وألا يجمعوا فيها متفرقا ولا يفرقوا مجتمعا ولا يدخلوا فيها خارجا عنها ولا يضيفوا إليها ما ليس منها من فحل إبل وأكولة راع أو عقيلة مال فإذا اجتبوها على حقها واستوفوها على رسمها أخرجوها في سبيلها وقسموها على أهلها الذين ذكرهم الله عز و جل في كتابه العزيز إلا المؤلفة قلوبهم الذين ذكرهم الله عز و جل في كتابه الكريم وسقط سهمهم فإن الله تعالى يقول ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) وإلى جباة أهل الذمة أن يأخذوا منهم الجزية في المحرم من كل سنة بحسب منازلهم في الأحوال وذات أيديهم في الأموال وعلى الطبقات المطبقة فيها والحدود المعهودة لها وألا يأخذوها من النساء ولا ممن لم يبلغ الحلم من الرجال ولا من ذي سن عالية ولا ذي علة بادية ولا فقير معدم ولا مترهب متبتل وأن يراعي جماعة هؤلاء العمال مراعاة يسرها ويظهرها ويلاحظهم ملاحظة يخفيها ويبديها لئلا يزولوا عن الحق الواجب أو يعدلوا عن السنن اللاحب فقد قال الله تعالى ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا )
وأمره بأن يندب لعرض الرجال وإعطائهم وحفظ جراياتهم وأوقات إطعامهم من يعرفه بالثقة في متصرفه والأمانة فيما يجري على يده والبعد عن الإسفاف إلى الدنية والاتباع للدناءة وأن يبعثه على ضبط الرجال وشيات الخيل وتجديد العرض بعد الاستحقاق وإيقاع الاحتياط في الإنفاق فمن صح عرضه ولم يبق في نفسه شيء منهم من شك يعرض له أو ريبة يتوهمها أطلق أموالهم موفورة وحصلها في أيديهم غير مثلومة وأن يرد على بيت المال أرزاق من سقط بالوفاة والإخلال ناسبا ذلك إلى جهته موردا له على حقيقته وأن يطالب الرجال بإحضار الخيل المختارة والآلات المستكملة على ما توجبه مبالغ أرزاقهم وحسب منازلهم ومراتبهم فإن أخر أحدهم شيئا من ذلك قاصه به من

رزقه وأغرمه مثل قيمته فإن المقصر فيه خائن لأمير المؤمنين ومخالف لرب العالمين إذ يقول سبحانه ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم )
وأمره أن يعتمد في أسواق الرقيق ودور الضرب والطرز والحسبة على من تجتمع فيه آلات هذه الولايات من ثقة ودراية وعلم وكتابة ومعرفة ورواية وتجربة وحنكة وحصافة ومسكة فإنها أحوال تضارع الحكم وتناسبه وتدانيه وتقاربه وأن يتقدم إلى ولاة أسواق الرقيق بالتحفظ فيمن يطلقون بيعه ويمضون أمره والتحرز من وقوع تخون فيه أو إهمال له إذ كان ذلك عائدا بتحصين الفروج وتطهير الأنساب وأن يبعدوا عنه أهل الريبة ويقربوا أهل العفة ولا يمضوا بيعا على شبهة ولا عقدا على تهمة وإلى ولاة العيار بتخليص عين الدرهم والدينار ليكونا مضروبين على البراءة من الغش والنزاهة من المش وبحسب الإمام المقدر بمدينة السلام وحراسة السكك من أن تتداولها الأيدي الزغلة وتتناقلها الجهات المنبية وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما يضرب ذهبا وفضة وإجراء ذلك على الرسم والسنة وإلى ولاة الطرز أن يجروا الاستعمال في جميع المناسج على أتم النيقة وأسلم الطريقة وأحكم الصنعة وأفضل الصحة وأن يكتبوا اسم أمير المؤمنين على طرر الكسا والفرش والأعلام والبنود وإلى ولاة الحسبة بتصفح أحوال العوام في حرفهم ومتاجرهم ومجتمع أسواقهم ومعاملاتهم وأن يعايروا الموازين والمكاييل ويفرزوها على التعديل والتكميل ومن اطلعوا منه على حيلة أو تلبيس أو غيلة أو تدليس أو بخس ما يوفيه واستفضال فيما يستوفيه نالوه بغليظ العقوبة وعظمها وخصوه بوجيعها وألمها واقفين في ذلك عند الحد الذي يرونه لذنبه مجازيا وفي تأديبه كافيا فقد قال الله تعالى ( ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون )

هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عليك وقد وقفك على سواء السبيل وأرشدك إلى واضح الدليل وأوسعك تعليما وتحكيما وأقنعك تعريفا وتفهيما ولم يألك جهدا فيما عصمك وعصم على يدك ولم يدخرك ممكنا فيما أصلح بك وأصلحك ولا ترك لك عذرا في غلط تغلطه ولا طريقا إلى تورط تتورطه بالغا بك في الأوامر والزواجر إلى حيث يلزم الأئمة أن يندبوا الناس إليه ويحثوهم عليه مقيما لك على منجيات المسالك صارفا لك عن مرديات المهالك مريدا فيك ما يسلمك في دينك ودنياك يعود بالحظ عليك في آخرتك وأولاك فإن اعتدلت وعدلت فقد فزت وغنمت وإن تجانفت واعوججت فقد فسدت وندمت والأولى بك عند أمير المؤمنين مع مغرسك الزاكي ومنبتك النامي وعودك الأنجب وعنصرك الأطيب أن تكون لظنه محققا ولمخيلته فيك مصدقا وأن تستزيده بالأثر الجميل قربا من رب العالمين وثوابا يوم الدين وزلفى عند أمير المؤمنين وثناء حسنا من المسلمين فخذ ما نبذ إليك أمير المؤمنين من معاذيره وأمسك بيدك على ما أعطى من مواثيقه واجعل عهده مثالا تحتذيه وإماما تقتفيه واستعن بالله يعنك واستهد يهدك وأخلص إليه في طاعته يخلص لك الحظ في معونتك ومهما أشكل عليك من خطب أو أعضل عليك من صعب أو بهرك من باهر أو بهظك من باهظ فاكتب إلى أمير المؤمنين منهيا وكن إلى ما يرد عليك من جوابه متطلعا إن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وأما التقليد الذي أنشأته أنا فهو هذا أما بعد فإن أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكل خطبة قيادا ولكل أمر مهادا ويستزيده من نعمه التي جعلت التقوى له زادا وحملته عبء الخلافة فلم يضعف عنه طوقا ولم يأل فيه اجتهادا وصغرت لديه أمر الدنيا فما تسورت له محرابا ولا عرضت عليه جيادا وحققت فيه قول الله تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) ثم يصلي على ما أنزلت الملائكة لنصره أمدادا وأسري به إلى السماء حتى ارتقى سبعا شدادا وتجلى له ربه فلم يزغ منه بصرا ولا أكذب منه

فؤادا ثم من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقا وأعوادا وورثت النور المتين تلادا ووصفت بأنها أحد الثقلين هداية وإرشادا وخصوصا عمه العباس المدعو له بأن يحفظ نفسا وأولادا وأن تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدة لا تخاف دركا ولا تخشى نفادا
وإذا استوفى القلم مداده من هذه الحمدلة وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفا لقرطاسه واستدام سجوده على صفحته حتى لم يكد يرفع من رأسه وليس ذلك إلا لإفاضته في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار واشتبه التطويل فيها بالاختصار وهي التي لا يفتقر واصفها إلى القول المعاد ولا يستوعر سلوك أطوادها ومن العجب وجود السهل في سلوك الأطواد وتلك مناقبك أيها الملك الناصر الأجل السيد الكبير العالم العادل المجاهد المرابط صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب والديوان العزيز يتلوها عليك تحدثا بشكرك ويباهي بك أولياءه تنويها بذكرك ويقول أنت الذي تستكفي فتكون للدولة سهمها الصائب وشهابها الثاقب وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب وما ضرها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغائب فاشكر إذا مساعيك التي أهلتك لما أهلتك وفضلتك على الأولياء بما فضلتك ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار فلم تشارك في عزمك الذي انتصر للدولة فكان له بسطة الانتصار وفرق بين من أمد بقلبه وبين من أمد بيده في درجات الأمداد وما جعل الله القاعدين كالذين قالوا لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك الغماد وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها وطمست على الدعوة الكاذبة التي كانت تدعيها ولقد مضى عليها زمن ومحراب حقها محفوف من الباطل بمحرابين ورأت ما رآه رسول الله من السوارين اللذين أولهما كذابين فمبصر منهما واحد تاه بمجرى أنهارها من تحته ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته ولعب بالدين حتى لم يدر يوم جمعته من يوم أحده ولا يوم سبته وأعانه على ذلك قوم رمى الله بصائرهم بالعمي والصمم واتخذوه صنما بينهم ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجل أو صنم فقمت أنت في وجه باطله حتى قعد وجعلت في جيده حبلا من مسد وقلت ليده تبت فأصبح وهو

لا يسعى بقدم ولا يبطش بيد وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمن ناجمته وسامت فيه سائمته فوضع بنية موضع الكعبة اليمانية وقال هذا ذو الخلصة الثانية فأي مقاميك يعترف الإسلام بسبقه أم أيها يقوم بأداء حقه وههنا فليصبح القلم للسيف من الحساد وليقصر مكانته عن مكانته وقد كان له من الأنداد ولم يحظ بهذه المزية إلا لأنه أصبح لك صاحبا وفخر بك حتى طال فخرا عما عز جانبا وقضى بولايتك فكان بها قاضيا لما كان حده قاضبا
وقد قلدك أمير المؤمنين البلاد المصرية واليمنية غورا ونجدا وما اشتملت عليه رعية وجندا وما انتهت إليه أطرافها برا وبحرا وما يستنقذ من مجاوريها مسالمة وقهرا وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدنة والمراكز المحصنة مستثنيا منها ما هو بيد نور الدين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمه الله وهو حلب وأعمالها فقد مضى أبوه عن آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين وتخلفه في عقبه في الغابرين وولده هذا قد هذبته الفطرة في القول والعمل وليست هذه الربوة إلا من ذلك الجبل فليكن له منك جار يدنو منه ودادا كما دنا أرضا ويصبح وهو له كالبنيان يشد بعضه بعضا
والذي قدمناه من الثناء عليك ربما تجاوز بك درجة الاقتصاد ولفتك عن فضيلة الازدياد فإياك أن تنظر سعيك بالإعجاب وتقول هذه بلاد أنا فتحتها بعد أن أضرب عنها كثير من الأضراب ولكن اعلم أن الأرض لله ولرسوله ثم لخليفته من بعده ولا منة للعبد بإسلامه بل المنة لله بهداية عبده وكم سلف من قبلك من لو رام ما رمته لدنا شاسعه وأجاب مانعه لكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازة وفي الدنيا برقم طرازه فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التسليم وقل ( لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )
وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الاسم شعارا وفي الوسم فخارا وتناسب محل قلبك وبصرك وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوبا وأبصارا ومن جملتها طوق يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق ويشير إليك بأن الإنعام قد أطاف بك إطافة الأطواق بالأعناق ثم إنك خوطبت بالملك وذلك خطاب يقضي

لصدرك بالانشراح ولأملك بالانفساح وتؤمر معه بمد يدك إلى العليا لا بضمها إلى الجناح وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السيادة وهي التي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال إنها الحسنى وزيادة فإذا صارت إليك فانصب لها يوما يكون في الأيام كريم الأنساب واجعله لها عيدا وقل هذا عيد الخلعة والتقليد والخطاب
هذا ولك عند أمير المؤمنين مكانة تجعلك لديه حاضرا وأنت ناء عن الحضور وتضن أن تكون مشتركة بينك وبين غيرك والضنة من شيم الغيور وهذه المكانة قد عرفتك نفسها وما كنت تعرفها وما تقول إلا أنها لك صاحبة وأنت يوسفها فاحرسها عليك حراسة تقضي بتقديمها واعمل لها فإن الأعمال بخواتيمها
واعلم أنك قد تقلدت أمرا تعين به نفي الحلوم ولا ينفك صاحبه عن عهدة الملوم وكثيرا ما يرى حسناته يوم القيامة وهي مقتسمة بأيدي الخصوم ولا ينجو من ذلك إلا من أخذ أهبة الحذار وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار وعلم أن الولاية ميزان إحدى كفتيه في الجنة والأخرى في النار قال النبي ( يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ) فانظر إلى هذا القول النبوي نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال ومثل الدنيا وقد سيقت إليك بحذافيرها أليس مصيرها إلى زوال والسعيد إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم واتخذ منها وهي السم دواء وقد تتخذ الأدوية من السموم وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصباح وهو كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح والله يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تباعتها التي لابستهم ولابسوها وأحصاها الله عليهم ونسوها ولك أنت من هذا الدعاء حظ على قدر محلك من العناية التي جذبت بضبعك ومحلك من الولاية التي بسطت من درعك فخذ هذا الأمر الذي تقلدته أخذ من لم يتعقبه بالنسيان وكن في رعايته ممن إذا نامت عياه كان قلبه يقظان
وملاك ذلك كله في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب وقدر يوما منه بعبادة ستين عاما في

الحساب ولم يأمر به آمرا إلا زيد قوة في أمره وتحصن به من عدوه ومن دهره ثم يجاء به يوم القيامة وفي يديه كتابا أمان ويجلس على منبر من نور عن يمين الرحمن ومع هذا فإن مركبه صعب لا يستوي على ظهره إلا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه وغلبت لمة ملكه على لمة شيطانه ومن أوكد فروضه أن تمحي السنن السيئة التي طالت مدد أيامها ويئس الرعايا من رفع ظلاماتها فلم يجعلوا أمدا لانحسار ظلامها وتلك السنن هي المكوس التي أنشأنها الهمم الحقيرة ولا غني للأيدي الغنية إذا كانت ذات نفوس فقيرة وكلما زيدت الأموال الحاصلة منها قدرا زادها الله محقا وقد استمرت عليها العوائد حتى ألحقها الظالمون بالحقوق الواجبة فسموها حقا ولولا أن صاحبها أعظم الناس جرما لما أغلظ في عقابه ومثلت توبة المرأة الغامدية بمتابه وهل أشقى ممن يكون السواد الأعظم له خصما ويصبح وهو مطالب بهم بما يعلم وبما لم يحط به علما وأنت مأمور بأن تأتي هذه الظلامات فتنحي على أبطالها وتلحق أسماءها في المحو بأفعالها حتى لا يبقى لها في العيان صور منظورة ولا في الألسنة أحاديث مذكورة فإذا فعلت ذلك كنت قد أزلت عن الماضي سنة سوء سنتها يداه وعن الآتي متابعة ظلم وجده نهجا مسلوكا فجرى على مداه فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من لم يضق ذراعا ونظر إلى الحياة الدنيا بعينه فرآها في الآخرة متاعا وأحمد الله تعالى على أن قيض للإمام هدى يقف بك على هداك ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك
وهذه البلاد المنوطة بطرفك تشتمل على أطراف متباعدة وتفتقر في سياستها إلى أيد متساعدة ولها ولهذا يكثر بها قضاة الأحكام وأولو تدبيرات السيوف والأقلام وكل من هؤلاء ينبغي أن يقف على باب الاختيار ويسلط عليه شاهدا عدل من أمانة الدرهم والدينار فما أضل الناس شيء كحب المال الذي فورقت من أجله الأديان وهجرت بسببه الأولاد والإخوان وكثيرا ما نرى الرجل الصائم القائم وهو عابد له عبادة الأوثان فإذا استعنت بأحد منهم على شيء من أمرك فاضرب عليه بالأرصاد

ولا ترض بما عرفته من مبدإ حاله فإن الأحوال تنتقل منتقل الأجساد وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالربيع بن زياد
وكذلك اؤمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم بأن يأمروا بالمعروف مواظبين وينهوا عن المنكر محاسبين ويعلموا أن ذلك من دأب حزب الله الذين جعلهم الله الغالبين وليبدأوا أولا بأنفسهم فيعدلوا بها عن هواها ويأمروها بما يأمرون به سواها ولا يكونوا ممن هدى إلى طريق البر وهو عند حائد وانتصب لطلب المرضى وهو محتاج إلى طبيب وعائد فما تنزل بركات السماء إلا على من خاف مقام ربه وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقبله وإذا صلحت الولاة صلحت الرعية بصلاحهم وهم لهم بمنزلة المصابيح ولا يستضيء كل قوم إلا بمصباحهم ومما يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخوانا في الاصطحاب وجيرانا في الاقتراب وأعوانا في توزع الحمل الذي يثقل على الرقاب فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا وأولى الناس باستعمال الرفق من كان فضل الله عليه كثيرا وليست الولاية لمن يستجد بها كثرة اللفيف ويتولاها بالوطء العنيف ولكنها لمن يمال على جوانبه ويؤكل من أطايبه ولمن إذا أغضب لم ير للغضب عنده أثر وإذا ألحف في سؤاله لم يلق الإلحاف بخلق الضجر وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر فذلك الذي يكون في أصحاب اليمين والذي يدعى بالحفيظ العليم والقوي الأمين ومن سعادة المرء أن تكون ولاته متأدبين بآدابه وجارين على نهج صوابه وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانوا حسنات مثبتة في كتابه
وبعد هذه الوصية فإن ههنا حسنة هي للحسنات كالأم الولود ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجنود وتيقظت لنصره والعيون رقود وهي التي تسبغ لها الآلاء ولا يتخطاها البلاء ولأمير المؤمنين بها عناية تبعثها الرحمة الموضوعة في قلب والرغبة في المغفرة لما تقدم وتأخر من ذنبه وتلك هي الصدقة التي فضل الله بها بعض عباده لمزية إفضالها وجعلها سببا إلى التعويض عنها بعشر أمثالها وهو يأمرك أن تتفقد أحوال الفقراء الذين قدرت عليهم مادة الأرزاق وألبسهم التعفف ثوب الغنى وهم في ضيق من الإملاق فأولئك أولياء الله الذين

مستهم الضراء فصبروا وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذ نظروا وينبغي أن يهيء لهم من أمرهم مرفقا ويضرب بينهم وبين الفقر موبقا وما أطلنا لك القول في هذه الوصية إلا إعلاما بأنها من المهم الذي يستقبل ولا يستدبر ويستكثر منه ولا يستكثر وهذا يعد من جهاد النفس في بذل المال ويتلوه جهاد العدو الكافر في مواقف القتال وأمير المؤمنين يعرفك من ثوابه ما تجعل السيف في ملازمته أخا وتسخو له بنفسك إن كان أحد بنفسه سخا ومن صفاته أنه العمل المحبو بفضل الكرامة الذي ينمي بعد صاحبه إلى يوم القيامة وبه تمتحن طاعة الخالق على المخلوق وكل الأعمال عاطلة لا خلوق لها وهو المختص دونها برتبة الخلوق ولولا فضله لما كان محسوبا بشطر الإيمان ولما جعل الله الجنة له ثمنا وليست لغيره من الأثمان وقد علمت أن العدو هو جارك الأدنى والذي يبلغك وتبلغه عينا وأذنا ولا تكون للإسلام نعم الجار حتى تكون له بئس الجار ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاه مكافحا أو تطرق أرضه مماسيا أو مصابحا بل يريد أن تقصد البلاد التي في يده قصد المستنقذ لا قصد المغير وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعد في بني قريظة والنضير وعلى الخصوص البيت المقدس فإنه تلاد الإسلام القديم وأخو البيت الحرام في شرف التعظيم والذي توجهت إليه الوجوه من قبل بالسجود والتسليم وقد أصبح وهو يشكو طول المدة في أسر رقبته وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته فانهض إليه نهضة توغل في قرحه وتبدل صعب قياده بسمحه وإن كان له عام حديبية فأتبعه بعام فتحه وهذه الاستزادة إنما تكون بعد سداد ما في اليد من ثغر كان مهملا فحميت موارده أو متهدما فرفعت قواعده ومن أهمها ما كان حاضر البحر فإنه عورة مكشوفة وخطة مخوفة والعدو قريب منه على بعده وكثيرا ما يأتيه فجأة حتى يسبق برقه برعده فينبغي أن يرتب بهذه الثغور رابطة تكثر شجاعتها وتقل أقرانها ويكون قتالها لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها وحينئذ يصبح كل منها وله من الرجال أسوار ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار ومع هذا لا بد لها من أصطول يكثر عدده ويقوي مدده فإنه العدة التي

تستعين بها على كشف الغماء والاستكثار من سبايا العبيد والإماء وجيشه أخو الجيش السليماني فذاك يسير على متن الريح وهذا على متن الماء ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار وتساوت أقدار خلقها على اختلاف مدة الأعمار فإذا أشرعت قيل جبال متعلقة بقطع من الغيوم وإذا نظر إلى أشكالها قيل إنها أهلة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنجوم ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالى في جيادها ويستكثر من قيادها وليؤمر عليها أمير يلقى البحر بمثله من سعة صدره ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها ولكن قتلها بخبره وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه وزحمتها مناكبه وممن يذل الصعب إذا هو ساسه وإن لان جانبه وهذا هو الرجل يرأس على القوم فلا يجد هزة بالرياسة وإن كان في الساقة ففي الساقة أو كان في الحراسة ففي الحراسة ولقد أفلحت عصابة اعتصبت من ورائه وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنصر من رأيه
واعلم أنه قد أخل من الجهاد بركن يقدح في عمله وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أن صدق النية تأتي في أوله وذلك هو قسم الغنائم فإن الأيدي قد تداولته بالإجحاف وخلطت جهادها فيه بغلوها فلم ترجع بالكاف والله قد جعل الظلم في تعدي حدوده المحدودة وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة ونحن نعوذ به أن يكون زماننا هذا زمانه وبأسه شرباس ولم يستخلفنا عل حفظ أركان دينه ثم نهمله إهمال مضيع ولا إهمال ناس والذي نأمرك به أن تجري هذا الأمر المنصوص من حكمه وتبرئ ذمتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشامية ما يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غدا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما
فتفصح ما سطرنا لك في هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات بل آيات محكمات وتحبب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كلماتها وابن لك منها مجدا يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها وهذا التقليد ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها وأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ثم إنه قد ختم بدعوات دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه وسأل فيها خيرة الله التي تتنزل من كل أمر بمنزلة نظامه ثم قال اللهم إني أشهدك على من قلدته شهادة تكون

عليه رقبيه وله حسيبة فإني لم آمره إلا بأوامر الحق التي فيها موعظة وذكرى وهي لمن تبعها هدى ورحمة وبشرى وإذا أخذ بها بلج بحجته يوم يسأل عن الحجج ولم يختلج دون رسول الله على الحوض في جملة من يختلج وقيل لا حرج عليك ولا إثم إن نجوت من ورطات الاسم والحرج والسلام
وهذا الذي ذكرته من كلامي وكلام الصابي في هذه التقاليد الأربعة لم أقصد به الوضع من الرجل وإنما ذكرت ما ذكرته لبيان موضع السجع الذي يثبت على المحك ولا شك أن هذا الوصف المشار إليه في فقر الأسجاع لم يكن مقصودا في الزمن القديم إما لمكان عسره أو لأنه لم يتنبه له وكيف أضع من الصابي وعلم الكتابة قد رفعه وهو إمام هذا الفن والواحد فيه ولقد اعتبرت مكاتباته فوجدته قد أجاد في السلطانيات كل الإجادة وأحسن كل الإحسان ولو لم يكن له سوى كتابه الذي كتبه عن عز الدولة بختيار بن بويه إلى سبكتكين عند خروجه عليه ومجاهرته إياه بالعصيان لاستحق به فضيلة التقدم كيف وله من السلطانيات ما أتى فيه بكل عجيبة لكنه في الإخوانيات مقصر وكذلك في كتب التعازي
وعندي فيه رأي لم يره أحد غيري ولي فيه قول لم يقله أحد سواي وذاك أن عقل الرجل في كتابته زائد على فصاحته وبلاغته وسأبين ذلك فأقول لينظر الناظر في هذين التقليدين اللذين أروتهما له فإنه يرى وصايا وشروطا واستدراكات وأوامر ما بين أصل وفرع وكل وجزء وقليل وكثير ولا نرى ذلك في كلام غيره من الكتاب إلا إنه عبر عن تلك الوصايا والأوامر والشروط والاستدراكات بعبارة في بعضها ما فيه من الضعف والركة وقد قيل إن زيادة العلم على المنطق هجنة وزيادة المنطق على علم خدعة ومع هذا فإني أقر للرجل بالتقدم وأشهد له بالفضل
وإذا فرغت مما أردت تحقيقه في هذا الموضع فإني أرجع إلى ما كنت بصدد ذكره من الكلام على السجع وقد تقدم من ذلك ما تقدم وبقي ما أنا ذاكر ههنا
وهو أن السجع قد ينقسم إلى ثلاثة أقسام
الأول أن يكون الفصلان متساويين لا يزيد أحدهما على الآخر كقوله

تعالى ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) وقوله تعالى ( والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ) ألا ترى كيف جاءت هذه الفصول متساوية الأجزاء حتى كأنها أفرغت في قالب واحد وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثيرة وهو أشرف السجع منزلة للاعتدال الذي فيه
القسم الثاني أن يكون الفصل الثاني أطول من الأول لا طولا يخرج به عن الاعتدال خروجا كثيرا فإنه يقبح عند ذلك ويستكره ويعد عيبا
فمما جاء من ذلك قوله تعالى ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) ألا ترى أن الفصل الأول ثمان لفظات والفصل الثاني والثالث تسع تسع
ومن ذلك قوله تعالى في سورة مريم ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) وأمثال هذا في القرآن كثيرة
ويستثنى من هذا القسم ما كان من السجع على ثلاثة فقر فإن الفقرتين الأوليين يحسبان في عدة واحدة ثم باقي الثلاثة فينبغي أن تكون طويلة طولا يزيد عليهما فإذا كانت الأولى والثانية أربع لفظات أربع لفظات تكون الثالثة عشرة لفظات أو إحدى عشرة
مثال ذلك ما ذكرته في وصف صديق فقلت الصديق من لم يعتض عنك بخالف ولم يعاملك معاملة حالف وإذا بلغته أذنه وشاية أقام عليها حد سارق أو قاذف فالأولى والثانية ههنا أربع لفظات أربع لفظات لأن الأولى لم يعتض عنك بخالف والثانية ولم يعاملك معاملة حالف وجاءت الثالثة عشر لفظات
وهكذا ينبغي أن يستعمل ما كان من هذا القبيل وإن زادت الأولى والثانية عن هذه العدة

فنزاد الثالثة بالحساب وكذلك إذا نقصت الأولى والثانية عن هذه العدة فافهم ذلك وقس عليه
إلا أنه لا ينبغي أن تجعله قياسا مطردا في السجعات الثلاث أين وقعت من الكلام بل تعلم أن الجواز يعم الجانبين من التساوي في السجعات الثلاث ومن زيادة السجعة الثالثة ألا ترى أنه قد ورد ثلاث سجعات متساويات في القرآن الكريم كقوله تعالى ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ) فهذه السجعات كلها من لفظتين لفظتين ولو جعلت الثالثة منها خمس لفظات أو ستا لما كان ذلك معيبها
القسم الثالث أن يكون الفصل الآخر أقصر من الأول وهو عندي عيب فاحش وسبب ذلك أن السجع يكون قد استوفى أمده من الفصل الأول بحكم طوله ثم يجيء الفصل الثاني قصيرا عن الأول فيكون كالشيء المبتور فيبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء إلى غاية فيعثر دونها
وإذا انتهينا إلى ههنا وبينا أقسام السجع ولبه وقشوره فسنقول فيه قولا كليا وهو أن السجع على اختلاف أقسامه ضربان
أحدهما يسمى السجع القصير وهو أن تكون كل واحدة من السجعتين مؤلفة من ألفاظ قليلة وكلما قلت الألفاظ كان أحسن لقرب الفواصل المسجوعة من سمع السامع وهذا الضرب أوعر السجع مذهبا وأبعده متناولا ولا يكاد استعماله يقع إلا نادرا
والضرب الآخر يسمى السجع الطويل وهو ضد الأول لأنه أسهل متناولا
وإنما القصير من السجع أوعر مسلكا من الطويل لأن المعنى إذا صيغ بألفاظ قصيرة عز مواتاة السجع فيه لقصر تلك الألفاظ وضيق المجال في استجلابه وأما الطويل فإن الألفاظ تطول فيه ويستجلب له السجع من حيث وليس كما يقال وكان ذلك سهلا

وكل واحد من هذين الضربين تتفاوت درجاته في عدة ألفاظ
وأما السجع القصير فأحسنه ما كان مألفا من لفظتين لفظتين كقوله تعالى ( والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا ) وقوله تعالى ( يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) ومنه ما يكون مؤلفا من ثلاثة ألفاظ وأربعة وخمسة وكذلك إلى العشرة
وما زاد على ذلك فهو من السجع الطويل
فمما جاء منه قوله تعالى ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى ) وقوله تعالى ( اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر )
وأما السجع الطويل فإن درجاته تتفاوت أيضا في الطول فمنه ما يقرب من السجع القصير وهو أن يكون تأليفه من احدي عشرة إلى اثنتي عشرة لفظة وأكثر خمس عشرة لفظة
كقوله تعالى ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور ) فالأولى إحدى عشرة لفظة والثانية ثلاث عشرة لفظة
وكذلك قوله تعالى ( ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )
ومن السجع الطويل ما يكون تأليفه من العشرين لفظة فما حولها كقوله تعالى ( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور )

ومن السجع الطويل أيضا ما يزيد على هذه العدة المذكورة وهو غير مضبوط
واعلم أن التصريع في الشعر بمنزلة السجع في الفصلين من الكلام المنثور وفائدته في الشعر أنه قبل كمال البيت الأول من القصيدة تعلم قافيتها وشبه البيت المصرع بباب له مصراعان متشاكلان
وقد فعل ذلك القدماء والمحدثون وفيه دلالة على سعة القدرة في أفانين الكلام فأما إذا كثر التصريع في القيدة فلست أراه مختارا إلا أن هذه الأصناف من التصريع والترصيع والتجنيس وغيرها إنما يحسن منها في الكلام ما قل وجرى مجرى الغرة من الوجه أو كان كالطراز من الثوب فأما إذا تواترت وكثرت فإنها لا تكون مرضية لما فيها من أمارات الكلفة وهو عندي ينقسم إلى سبع مراتب وذلك شيء لم يذكره على هذا الوجه أحد غيري
فالمرتبة الأولى وهي أعلى التصريع درجة أن يكون كل مصراع من البيت مستقلا بنفسه في فهم معناه غير محتاج إلى صاحبه الذي يليه ويسمى التصريع الكامل وذلك كقول امرئ القيس
( أَفَاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ هَجْراً فَأجْمِلِي )
فإن كل مصراع من هذا البيت مفهوم المعنى بنفسه غير محتاج إلى ما يليه
وعليه ورد قول المتنبي
( إِذَا كَانَ مَدْحٌ فَالنَّسِيبُ المُقَدَّمُ ... أَكُلُّ فَصيحٍ قالَ شِعْراً مُتَيَّمُ )
المرتبة الثانية أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الذي يليه فإذا جاء الذي يليه كان مرتبطا به كقول امرئ القيس
( قِفَنَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسُقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ )
فالمصراع الأول غير محتاج إلى الثاني في فهم معناه لكن لما جاء الثاني صار مرتبطا به
وكذلك ورد قول أبي تمام
( أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تُرْوى الظِّلمَاءُ الْحَوَائِمُ ... وَأَنْ يَنْظِمَ الشَّمْلَ الْمُبَدَّدَ نَاظِمُ )
وعليه ورد قول المتنبي
( الرّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعانِ ... هُوَ أَوَّلٌ وَهَيَ المَحَلُّ الثَّانِي )
المرتبة الثالثة أن يكون الشاعر مخيرا في وضع كل مصراع موضع صاحبه ويسمى التصريع الموجه وذلك كقول ابن الحجاج البغدادي
( مِنْ شُرُوطِ الصَّبُوح في الْمِهْرَجَانِ ... خَفَّةُ الشُّرْبِ مَعْ خُلُوِّ المَكَانِ )
فإن هذا البيت يجعل مصراعه الأول ثانيا ومصراعه الثاني أولا وهذه المرتبة كالثانية في الجودة
المرتبة الرابعة أن يكون المصراع الأول غير مستقل بنفسه ولا يفهم معناه إلا بالثاني ويسمى التصريع الناقض وليس بمرضي ولا حسن

المرتبة الثانية أن يكون المصراع الأول مستقلا بنفسه غير محتاج إلى الذي يليه فإذا جاء الذي يليه كان مرتبطا به كقول امرئ القيس
( قِفَانَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ... بِسُقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ )
فالمصراع الأول غير محتاج إلى الثاني في فهم معناه لكن لما جاء الثاني صار مرتبطا به
وكذلك ورد قول أبي تمام
( أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تُرْوى الظِّلمَاءُ الْحَوَائِمُ ... وَأَنْ يَنْظِمَ الشَّمْلَ الْمُبَدَّدَ نَاظِمُ )
وعليه ورد قول المتنبي
( الرّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعانِ ... هُوَ أَوَّلٌ وَهَيَ المَحَلُّ الثَّانِي )
المرتبة الثالثة أن يكون الشاعر مخيرا في وضع كل مصراع موضع صاحبه ويسمى التصريع الموجه وذلك كقول ابن الحجاج البغدادي
( مِنْ شُرُوطِ الصَّبُوح في الْمِهْرَجَانِ ... خَفَّةُ الشُّرْبِ مَعْ خُلُوِّ المَكَانِ )
فإن هذا البيت يجعل مصراعه الأول ثانيا ومصراعه الثاني أولا وهذه المرتبة كالثانية في الجودة
المرتبة الرابعة أن يكون المصراع الأول غير مستقل بنفسه ولا يفهم معناه إلا بالثاني ويسمى التصريع الناقض وليس بمرضي ولا حسن

فمما ورد منه قول المتنبي
( مَغَانِي الشِّعْبِ طِيباً فِي المَعَانِي ... بِمَنْزِلَةِ الرَّبِيعِ مِنَ الزَّمانِ )
فإن المصراع الأول لا يستقل بنفسه في فهم معناه دون أن يذكر المصراع الثاني
المرتبة الخامسة أن يكون التصريع في البيت بلفظة واحدة وسطا وقافية ويسمى التصريع المكرر وهو ينقسم قسمين أحدهما أقرب حالا من الآخر فالأول أن يكون بلفظة حقيقية لا مجاز فيها وهو أنزل الدرجتين كقول عبيد بن الأبرص
( فَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَثُوبُ ... وَغَائِبُ الْمَوْتِ لاَ يَثُوبُ )
القسم الآخر أن يكون التصريع بلفظة مجازية يختلف المعنى فيها كقول أبي تمام
( فَتًى كَانَ شُرْباً لِلْعُفَاةِ وَمَرْتَعَا ... فأَصْبَحَ لِلْهِنْدِيَّةِ الْبِيضِ مَرْتَعَا )
المرتبة السادسة أن يذكر المصراع الأول ويكون معلقا على صفة يأتي ذكرها

في أول المصراع الثاني ويسمى التصريع المعلق فمما ورد منه قول امرئ القيس
( أَلاَ أَيُّها اللَّيْلُ الطَّويلُ أَلاَ انْجَلِي ... بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ )
فإن المصراع الأول معلق على قوله بصبح وهذا معيب جدا
وعليه ورد قول المتنبي
( قَدْ عَلَّمَ الْبَيْنُ مِنَّا الْبَيْنَ أَجْفَانَا ... تَدْمَى وَأَلَّفَ فِي ذَا الْقَلْبِ أَحْزَانَاً )
فإن المصراع الأول معلق على قوله تدمى
المرتبة السابعة أن يكون التصريع في البيت مخالفا لقافيته ويسمى التصريع المشطور وهو أنزل درجات التصريع وأقبحها
فمن ذلك قول أبي نواس
( أَقِلْني قَدْ نَدِمْتُ عَلَى الذنُوبِ ... وَبِالإِقْرَارِ عُدْتُ عَنِ الْجُحُودِ )
فصرع بحرف الباء في وسط البيت ثم قفاه بحرف الدال وهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلا نادرا

النوع الثاني في التجنيس
اعلم أن التجنيس غرة شادخة في وجه الكلام وقد تصرف العلماء من أرباب هذه الصناعة فيه فغربوا وشرقوا لا سيما المحدثين منهم وصنف الناس فيه كتبا كثيرة وجعلوه أبوابا متعددة واختلفوا في ذلك وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض فمنهم عبد الله بن المعتز وأبو علي الحاتمي والقاضي أبو الحسين الجرجاني وقدامة بن جعفر الكاتب وغيرهم
وإنما سمي هذا النوع من الكلام مجانسا لأن حروف ألفاظه يكون تركيبها من جنس واحد
وحقيقته أن يكون اللفظ واحد والمعنى مختلفا وعلى هذا فإنه هو اللفظ المشترك وما عداه فليس من التجنيس الحقيقي في شيء إلا أنه قد خرج من ذلك ما يسمى تجنيسا وتلك تسمية بالمشابهة لا لأنها دالة على حقيقة المسمى بعينه
وعلى هذا فإني نظرت في التجنيس وما شبه به فأجرى مجراه فوجدته ينقسم إلى سبعة أقسام واحد منها يدل على حقيقة التجنيس لأن لفظه واحد لا يختلف وستة أقسام مشبهة
فأما القسم الأول فهو أن تتساوى حروف ألفاظه في تركيبها ووزنها كقوله تعالى ( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ) وليس في القرآن الكريم سوى هذه الآية فاعرفها ويروى في الأخبار النبوية أن الصحابة نازعوا جرير بن عبد الله البجلي زمامه فقال رسول الله ( خلوا بين جرير والجرير ) أي دعوا زمامه

ومما جاء منه في الشعر قول أبي تمام
( فأصْبَحَتْ غُرَرُ الأَيَّامِ مُشْرِقَةً ... بِالنَّصْرِ تَضْحَكُ عَنْ أَيَّامِك الْغُرَرِ )
فالغرر الأولى استعارة من غرر الوجه والغرر الثانية مأخوذة من غرة الشيء أكرمه فاللفظ إذا واحد والمعنى مختلف
وكذلك قوله
( مِنَ الْقَوْمِ جَعْدٌ أَبْيَضُ الْوَجْهِ وَالنَّدَى ... وَلَيْسَ بَنَانٌ يُجْتَدَى مِنْهُ بِالْجَعْدِ )
فالجعد السيد والبنان الجعد ضد السبط فأحدهما يوصف به السخي والآخر يوصف به البخيل
وكذلك قوله
( بِكٌلِّ فَتًى ضَرْبٍ يُعَرِّضُ لِلْقَنَا ... مُحَيًّى مُحَلًّى حَلْيُهُ الطَّعْنُ وَالضَّرْبُ )
فالضرب الرجل الخفيف والضرب بالسيف في الحرب
وكذلك قوله
( عَدَاكَ حَرُّ الثُّغُورِ الْمُسْتَضَامَةِ عَن ... بَرْدِ الثُّغُورِ وَعَنْ سَلْسَالِهَا الْخَصِبِ )

فالثغور جمع ثغر وهو واحد الأسنان وهو أيضا البلد الذي على تخوم العدو
ثم قال في هذه القصيدة
( كَمْ أحْرَزَتْ قُضُبُ الْهِندِيِّ مُصْلَتَةً ... تَهْتَزُّ مِنْ قُضْبٍ تَهْتزُّ في كُثُبِ )
( بِيضٌ إذَا انْتُضِيَتْ مِنْ حُجْبِهَا رَجَعَتْ ... أَحَقَّ بِالْبِيضِ أَبْدَاناً مِنَ الْحُجُبِ )
فالقضب السيوف والقضب القدود على حكم الاستعارة وكذلك البيض السيوف والبيض النساء وهذا من النادر الذي لا يتعلق به أحد
وكذلك قوله
( إذَا الْخَيْلُ جَابَتْ قَسْطَلَ الْحَرْبِ صَدَّعُوا ... صُدُورَ الْعَوَالِي في صُدُور الْكَتَائِبِ )
فلفظ الصدور في هذا البيت واحد والمعنى مختلف
وكذلك قوله
( عَامِي وَعامُ الْعِيسِ بَيْنَ وَدِيقَةٍ ... مَسْجُورَةٍ وَتَنُوفَةٍ صَيْهُودِ )

( حَتَّى أُغَادِرَ كُلَّ يَوْمٍ بِالْفَلاَ ... لِلطَّيْرِ عِيداً مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ )
فالعيد فحل من فحول الإبل والعيد اليوم المعروف من الأيام
وقد أكثر أبو تمام من التجنيس في شعره فمنه ما أغرب فيه فأحسن كالذي ذكرته ومنه ما أتى به كريها مستثقلا كقوله
( وَيَوْمَ أَرْشَقَ وَالْهَيْجَاءُ قَدْ رَشَقَتْ ... مِنَ المَنِيَّةِ رَشْقاً وَابِلاً قَصِفَا )
وكقوله
( يَا مُضْغِناً خَالِداً لَكَ الثُّكُلُ إِنْ ... خَلَّدَ حِقْداً عَلَيْكَ في خَلَدهْ )
وكقوله
( وَأَهْلُ مُوقَانَ إذْ مَاقُوا فَلاَ وَزَرٌ ... أنْجَاهُمُ مِنْكَ في الْهَيْجَا وَلاَ سَنَدُ )

وكقوله
( مَهْلاً بَني مَالكٍ لاَ تَجْلُبُنَّ إلى ... حَيِّ الأَرَاقِمِ دُؤْلُولَ ابْنَةَ الرَّقَمِ )
ثم قال فيها
( مِنَ الرُّدَيْنِيَّةِ اللاَّئِي إذَا عَسَلَتْ ... تُشِمُّ بَوَّ الصَّغَارِ الأَنْفَ ذَا الشَّمَمِ )
وكقوله
( قَرَّتْ بِقِرَّانَ عَيْنُ الدِّينِ وَاشْتَتَرَت ... بِالأَشْتَرَيْنِ عُيُونُ الشِّرْكِ فَاصْطٌلِمَا )
وله من هذا الغث البارد المتكلف شيء كثير لا حاجة إلى استقصائه بل قد أوردنا منه قليلا يستدل به على أمثاله
ومن الحسن في هذا الباب قول أبي نواس
( عَبَّاسُ عَبَّاسٌ إذَا احْتَدَم الْوَغَى ... وَالْفَضْلُ فَضْلٌ وَالرَّبِيعُ رَبيعُ )

وكذلك قوله
( فَقُلْ لأَبي الْعَبَّاسِ إنْ كُنْتُ مُذْنِباً ... فَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالأَخْذِ بِالْفَضْلِ )
( فَلاَ تَجْحَدُونِي وُدَّ عِشْرِينَ حِجَّةً ... وَلاَ تُفْسَدُوا مَا كَانَ مِنْكٌمْ مِنَ الْفَضْلِ )
وعلى هذا النهج ورد قول البحتري
( إذَا الْعَيْنُ رَاحَتْ وَهْيَ عَيْن عَلَى الْهَوى ... فَلَيْسَ بِسِرٍ مَا تُسِرُّ الأَضَالِعُ )
فالعين الجاسوس والعين معروفة
وكذلك ورد قول بعضهم
( وَتَرَى سَوَابِقَ دَمْعِهَا فَتَوَاكَفَتْ ... سَاق تجاوب فَوْقَ سَاقٍ سَاقَا )
فالساق ساق الشجرة والساق القمري من الطيور
وعلى هذا الأسلوب جاء قول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالمعري في قصيدة قصد بها التجنيس في كثير من أبياتها فمن ذلك ما أورده في مطلعها
( لَوْ زَارَنَا طَيْفُ ذَاتِ الْخَالِ أحْيَانَا ... وَنَحْنُ فِي حُفَرِ الأَجْدَاثِ أَحْيَانَا )
ثم قال في أبياتها
( تَقُولُ أنْتَ امْرُؤٌ جَافٍ مُغَالَطَةً ... فَقُلْتُ لاَ هَوَّمَتْ أجْفانُ أجْفَانَا )
وكذا قال في آخرها
( لَمْ يَبْقَ غَيْرُكَ إنْسَاناً يُلاَذُ بِهِ ... فَلاَ بَرْحَتَ لِعَيْنٍ الدَّهْرِ إنْسَانَاً )

ورأيت الغانمي قد ذكر في كتابه بابا وسماه رد الأعجاز على الصدور خارجا عن باب التجنيس وهو ضرب منه وقسم من جملة أقسامه كالذي نحن بصدد ذكره ههنا فمما أورده الغانمي من الأمثلة في ذلك قول بعضهم
( ونَشْرِي بِجَميلِ الصُّنْعِ ذِكْراً طِيِّبَ النَّشْرِ )
( وَنَفْرِي بِسُيُوفِ الْهِنْدِ مَنْ أسْرَفَ فِي النَّفْرِ )
( وَبَحْرِي فِي شِرَى الْحَمْدِ ... عَلَى شَاكِلَةِ الْبَحْرِ )
وكذلك قول بعضهم في الشيب
( يَا بَيَاضاً أذْرَى دُمُوعِيَ حَتَّى ... عَادَ مِنْهَا سَوَادُ عَيْنِي بَيَاضَا )
وكذلك قول البحتري
( وَأَغَرَّ فِي الزَّمَنِ الْبَهِيمِ مُحَجَّلٍ ... قَدْ رُحْتُ مِنْهُ عَلَى أَغَرَّ مُحَجَّلِ )
( كالْهَيْكَلِ الْمَبْنِيِّ إلاّ أنَّهُ ... فِي الْحُسْنِ جَاءَ كَصُورَةٍ فِي هَيْكَلِ )
وليس الأخذ على المعاني في ذلك مناقشة على الأسماء وإنما المناقشة على أن ينصب نفسه لإيراد علم البيان وتفصيل أبوابه ويكون أحد الأبواب التي ذكرناها داخلا في الآخر فيذهب عليه ذلك ويخفى عنه وهو أشهر من فلق الصباح
وربما جهل بعض الناس فأدخل في التجنيس ما ليس منه نظرا إلى مساواة اللفظ دون اختلاف المعنى فمن ذلك قول أبي تمام
( أَظُنُّ الدَّمْعَ فِي خَدِّي سَيُبْقِي ... رُسُوماً مِنْ بُكَائِي فِي الرُّسُومِ )
وهذا ليس من التجنيس في شيء إذا حد التجنيس هو اتفاق اللفظ واختلاف

المعنى وهذا البيت المشار إليه هو اتفاق اللفظ والمعنى معا وهذا مما ينبغي أن ينبه عليه ليعرف
ومن علماء البيان من جعل له اسما سماه به وهو الترديد أي أن اللفظة الواحدة رددت فيه
وحيث نبهت عليه ههنا فلا أحتاج أن أعقد له بابا أفرده بالذكر فيه
وأما الأقسام الستة المشبهة بالتجنيس فالقسم الأول منها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها مختلفة في وزنها فمما جاء من ذلك قول النبي ( اللهم كما حسَّنت خلقي حسن خلقي ) ألا ترى أن هاتين اللفظتين متساويتين في التركيب مختلفتان في الوزن لأن تركيب الخلق والخلق من ثلاثة أحرف وهي الخاء واللام والقاف إلا أنهما قد اختلفا في الوزن إذ وزن الخلق فعل بفتح الفاء ووزن الخلق فعل بضم الفاء
ومن هذا القسم قول بعضهم لا تنال غرز المعالي إلا بركوب الغرر واهتبال الغرر
وقال البحتري
( وَفَرَّ الْحَائِنُ الْمَغْرُورُ يَرْجُو ... أمَاناً أيُّ سَاعَةِ مَا أمَانِ )
( يَهَابُ الإِلْتِفَاتَ وَقَدْ تَهَيَّا ... لِلَحْظَةِ طَرْفِهِ طَرَفُ السِّنَانِ )
وكذلك ورد قول الآخر
( قَدْ ذُبْتُ بَيْنَ حُشَاشَةٍ وذَمَاءِ ... مَا بَيْنَ حَرِّ هَوًى وَحَرِّ هَوَاءِ )

القسم الثاني من المشبه بالتجنيس وهو أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير وإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس
فمما جاء قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) فإن هاتين اللفظتين على وزن واحد إلا أن تركيبهما مختلف في حرف واحد وكذلك قوله تعالى ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) وكذلك قوله تعالى ( ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون )
وعلى نحو من هذا ورد قول النبي ( الخيل معقود بنواصيها الخير ) وقال بعضهم لا تنال المكارم إلا بالمكاره
وقال أبو تمام
( يَمٌدُّونَ مِنْ أيْدٍ عَوَاصٍ عَوَاصِمٍ ... تَصُولُ بِأَسْيَافٍ قَوَاضٍ قَوَاضِبِ )
وقال البحتري
( مِنْ كُلِّ سَاجِي الطَّرْفِ أغْيَدَ أجْيَدٍ ... وَمٌهَفْهَفِ الْكَشْحَيْنِ أحْوَى أحْوَرِ )

وكذلك قوله
( شَوَاجِرُ أرْمَاحٍ تُقَطِّعُ بَيْنَهٌمْ ... شَوَاجِنَ أرْحَامٍ مَلُومٍ قَطُوعُهَا )
القسم الثالث من المشبه بالتجنيس وهو أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن والتركيب بحرف واحد كقوله تعالى ( والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ) وقوله تعالى ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) وكذلك ورد قوله ( المسلم من سلم الناس من لسانه ويده )
ودخل ثعلب صاحب كتاب الفصيح على أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ومجلسه غاص فجلس إلى جانبه ثم أقبل عليه وقال أخاف أن أكون ضيقت عليك على أنه لا يضيق مجلس بمتاجين ولا تسع الدنيا بأسرها متباغضين فقال له أحمد الصديق لا يحاسب والعدو لا يحتسب له وهذا كلام حسن من كلا الرجلين والتجنيس في كلام أحمد رحمه الله في قوله يحاسب ويحتسب له
وقد جاءني شيء من ذلك عليه خفة الطبع لا ثقل التطبع
فمنه ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن ذكر الجهاد فقلت وخيل الله قد اشتاقت أن يقال لها اركبي وسيوفه قد تطلعت أن يقال لها اضربي ومواطن الجهاد قد بعد عهدها باستسقاء شآبيب النحور وإنبات ربيع الذباب والنسور وما ذاك إلا لأن العدو إذا طلب تقمص ثوب إذلاله وتنصل من صحة نصاله واعتصم بمعاقله التي لا فرق بينها وبين عقاله

ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم فقلت وقد جعل الله حرمه ملقى الجفان ومتلقى الأجفان فهو حمى لمن جنى عليه زمانه وجار لمن بعد عنه جيرانه
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة وهو ولقد استبان الخادم من بركة طاعته ما يعمى عنه غيره فما يراه ووجد من أثره في صلاح دنياه ما استدل به على صلاح أخراه فهو المركب المنجي والعمل المرجو لا المرجي والمعنى المراد بهداية الصراط المستقيم وتأويل قوله تعال ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )
ومن ذلك ما ذكرته في أثناء كتاب إلى بعض الإخوان وذلك وصف بعض المنعمين فقلت نحن من حسن شيمه وفواصل إحسانه بين هند وهنيدة ومن يمن نقيبته وأمانة غيبه بين أم معبد وأبي عبيدة
ومن ذلك ما ذكرته في مطلع كتاب إلى بعض الإخوان فقلت الكتب وإن عدها قوم عرضا من الأعراض وتقالوها حتى قالوا هي سواد في بياض فإن لها عند الإخوان وجها وسيما ومحلا كريما وهي حمائم القلوب إذا فارق حميم حميما ومن أحسنها كتاب سيدنا ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب
ومن هذا القسم قول أبي تمام
( أيَّامَ تُدْمِي عَيْنَهُ تِلْكَ الدُّمَا ... فِيها وَتُقْمِرُ لُبَّهُ الأَقْمَارُ )
وكذلك قال

( بيضٌ فَهُنَّ إذَا رُمِقْنَ سَوَافِراً ... صُوَرٌ وَهُنَّ إذَ رُمِقْنَ صِوَارُ )
وكذلك قوله
( بَدْرٌ أَطالَتْ فيكَ بادِرَةَ النَّوَى ... وَلَعاً وَشَمْسٌ أُولِعَتْ بِشِماسُ )
وكذلك قوله
( كادُوا النُّبُوَّةَ وَالهُدى فَتَقَطَّعَتْ ... أعْنَاقُهُمْ في ذلِكَ المِضْمَارِ )
( جَهِلُوا فَلَمْ يَسْتَكْثُروا مِنْ طَاعَةٍ ... مَعُروفَةِ بِعِمَارَةِ الأَعْمَارِ )
وكذلك قوله
( إنَّ الرِّمَاحَ إِذَا غُرِسْنَ بِمَشْهَدٍ ... فَجَنَى الْعَوَالي في ذَرَاهُ مَعَالِي )

وكذلك قوله
( إذَا أَحْسَنَ الأَقْوَامُ أنْ يَتَطَاوَلُوا ... بِلاَ نِعْمَةٍ أحْسَنَتْ أنْ تَتَطَوَّلاَ )
وكذلك قوله
( أيُّ رَبْعٍ يُكَذِّبُ الدَّهْرُ عَنْهُ ... وَهْو مُلْقى عَلَى طَرِيقِ اللَّيَالِي )
( بَيْنَ حَالٍ جَنَتْ عَلَيْهِ وَحَوْلٍ ... فَهْوَ نِضْوُ الأَحْوَالِ وَالأَحْوَالِ )
( شَدَّ مَا اسْتَنْزَلَتْكَ عَنْ دَمْعِكَ الأَظْعَانُ حَتَّى اسْتَهَلَّ صَوْبُ الْعَزَالِي )
( أيُّ حُسْنٍ في الذَّاهِبِبينَ تَوَلَّى ... وَجَمَالٍ عَلَى ظُهُورِ الْجِمَالِ )
( وَدَلاَلٍ مُخَيِّمٍ في ذُرَى الْخَيْمِ وَحْجْلٍ مُعَصّم في الْحِجَالِ )
فالبيت الثاني والخامس هما المقصودان بالتمثيل ههنا والأبيات الباقية جاءت تبعا

ومما جاء من ذلك قول علي بن جبلة
( وَكَمْ لَكَ مِنْ يَوْمٍ رَفَعْتَ بِنَاءَهُ ... بِذَاتِ جٌفُونٍ أَوْ بِذَاتِ جِفَانِ )
وكذلك قول محمد بن وهيب الحميري
( قَسَمْتَ صُرُوفَ الدَّهْرِ بِأْساً وَنَائِلاً ... فَمَالُكَ مَوْتُورٌ وَسَيْفُكَ وَاتِرُ )
وهذا من المليح النادر
ومن هذا القسم قول البحتري
( جَدِيرٌ بِأْنْ تَنْشَقَّ عَنْ ضَوْءِ وَجْهِهِ ... ضَبَابَةُ نَقْعٍ تَحْتَها المَوْتُ نَاقِعُ )
وكذلك قوله
( نَسِيمُ الرَّوْضِ في رِيحٍ شَمالٍ ... وَصَوْبُ المُزْنِ في رَاحٍ شمُولِ )
وذم أعرابي رجلا فقال كان إذا سأل ألحف وإذا سئل سوف يحسد على الفضل ويزهد في الإفضال
القسم الرابع من المشبه بالتجنيس ويسمى المعكوس وذلك ضربان
أحدهما عكس الألفاظ والآخر عكس الحروف
فالأول كقول بعضهم عادات السادات سادات العادات وكقول الآخر شيم الأحرار أحرار الشيم

ومن هذا النوع مما ورد شعرا قول الأضبط بن قريع من شعراء الجاهلية
( قَدْ يَجْمَعُ الْمَالَ غَيْرُ آكِلِهِ ... وَيَأْكُلُ المَالَ غَيْرَ مَنْ جَمَعَهْ )
وَيَقْطَعُ الثَّوْبَ غَيْرُ لاَبِسِهِ ... وَيَلْبَسُ الثَّوْبَ غَيْرُ مَنْ قَطَعَهْ )
وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي
( فَلاَ مَجْدَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ قَلَّ مَالُهُ ... وَلاَ مَالَ في الدُّنْيا لِمَنْ قَلَّ مَجْدُهُ )
وكذلك قول الشريف الرضي من أبيات يذم فيها الزمان
( أَسَفَّ بِمَنْ يَطِيرُ إِلَى المَعَالِي ... وَطَارَ بِمَنْ يُسِفُّ إِلَى الدَّنَايَا )
وكذلك قول الآخر
( إنَّ اللَّيَالِيَ لِلأَنَامِ مَنَاهِلٌ ... تُطْوَى وَتُنْشَرُ بَيْنَهَا الأَعْمَارُ )
( فَقَصَارُهُنَّ مِنَ الْهُمومِ طَوِيلَةٌ ... وَطِوَالُهُنَّ مِنَ السُّرُورِ قِصَارُ )
وأحسن من هذا كله وألطف قول ابن الزقاق الأندلسي
( غَيَّرَتْنَا يَدُ الزَّمانِ ... فَقَدْ شِبْتُ وَالْتَحَى )
( فَاسْتَحَالَ الضُّحَى دُجاً ... وَاسْتَحَالَ الدُّجَا ضُحَى )
وهذا الضرب من التجنيس له حلاوة وعليه رونق وقد سماه قدامة بن جعفر الكاتب التبديل وذلك اسم مناسب لمسماه لأن مؤلف الكلام يأتي بما كان مقدما في جزء كلامه الأول مؤخرا في الثاني وبما كان مؤخرا في الأول مقدما في الثاني ومثله قدامة بقول بعضهم اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك

ومن هذا القسم قوله تعالى ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) وكذلك ورد قول النبي ( جار الدار أحق بدار الجار )
وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه كتابا فقال أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا ولا بما فاتك منها ترحا ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة بطول أمل وكأن قد والسلام
وروي عن أبي تمام أنه لما قصد عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان وامتدحه بقصيدته المشهورة التي مطلعها
( أهُنَّ عَوَادِي يُوسُفٍ وَصَوَاحِبُهُ ... )
أنكر عليه أبو سعيد الضرير وأبو العميثل هذا الابتداء
وقالا لم لا يقول ما يفهم فقال لم لا يفهما ما يقال فاستحسن منه هذا الجواب على الفور وهو من التجنيس المشار إليه
وقد جاءني شيء منه كقولي في فصل من كتاب يتضمن فتحا وهو فكم كان من افتراع عذرة الحصن من افتراع عذرة حصان وكم حيز به من سنان لحظ استرقه لحظ سنان
وكذلك قولي في صدر كتاب إلى ديوان الخلافة وهو الخادم يبلغ خدمته إلى ذلك الجناب التي تمطره الشفاه قبلا وتوسعه العفاة أملا وترى الخول به ملوكا والملوك خولا وطاعته هي محك الأعمال التي أشير إليها بقوله تعالى ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا )
وكذلك ورد قولي أيضا وهو فصل من تقليد وزير فقلت وقد صدق الله لهجة المثني عليك أن يقول إنك الرجل الذي تضرب به الأمثال والمهذب الذي لا يقال معه أي الرجال وإذا وازرت مملكة فقد حظيت منك بشد أزرها وسد ثغرها وأصبحت وأنت صدر لقلبها وقلب لصدرها فهي مزدانة منك بالفضل المتين معانة بالقوي الأمين

وأما الضرب الثاني من هذا القسم وهو عكس الحروف فهو كقول بعضهم
( أَهْدَيْتُ شَيْئاً يَقِلُّ لَوْلاَ ... أُحْدُوثَةُ الْفَالِ وَالتَّبَرُّكْ )
( كُرْسِي تَفَاءَلْتُ فِيهِ لَمَّا ... رَأَيْتُ مَقْلُوبَه يَسُرُّكْ )
وكذلك قول الآخر
( كَيْفَ السُّرُورُ بِإِقْبَالٍ وَآخِرُهُ ... إِذَا تَأمَّلْتُهُ مَقْلُوبُ إقْبَالِ )
وأجود من هذا كله قول الآخر
( جَاذَبْتُهَا وَالرِّيحُ تَجْذِبُ عَقْرَباً ... مِنْ فَوْقِ خَد مِثْلَ قَلْبِ الْعَقْرَبِ )
( وَطَفِقْتُ أَلْثِمُ ثَغْرَهَا فَتَمَنَّعَتْ ... وَتَحَجَّبَتْ عَنِّي بِقَلْبِ الْعَقْرَبِ )
وإذا قلب لفظ عقرب صار برقعا
وهذا الضرب نادر الاستعمال لأنه قل ما يقع كلمة تقلب حروفها فيجيء معناها صوابا
القسم الخامس من المشبه بالتجنيس ويسمى المجنب وذاك أن يجمع مؤلف الكلام بين كلمتين إحداهما كالتبع للأخرى والجنيبة لها كقول بعضهم
( أَبَا الْعَبَّاسِ لاَ تَحْسَبْ بِأَنِّي ... لِشَيْءٍ مِنْ حُلَى الأَشْعَارِ عارِي )
( فَلِي طَبْعٌ كَسْلَسالٍ مَعِينٍ ... زُلاَلٍ مِنْ ذُرَا الأَحْجَارِ جَارِي )
وهذا القسم عندي فيه نظر لأنه بلزوم ما لا يلزم أولى منه بالتجنيس ألا ترى أن التجنيس هو اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وههنا لم يتفق إلا جزء من اللفظ وهو أقله وأما اللزوم في الكلام المنثور فهو تساوي الحروف التي قبل

الفواصل المسجوعة وهذا هو كذلك لأن العين والراء تساويا في البيت الأول في قوله الأشعار وعار والجيم والراء في البيت الثاني في قوله الأحجار وجار
القسم السادس من المشبه بالتجنيس وهو ما يساوي وزنه تركيبه غير أن حروفه تتقدم وتتأخر وذلك كقول أبي تمام
( بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي ... مُتُونِهِنَّ جِلاَءُ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ )
فالصفائح والصحائف مما تقدمت حروفه وتأخرت
وقد ورد في الكلام المنثور كقوله في فضيلة تلاوة القرآن الكريم ( يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ ) فقوله ( اقرأ وارق ) من التجنيس المشار إليه في هذا القسم

النوع الثالث في الترصيع
وهو مأخوذ من ترصيع العقد وذاك أن يكون في أحد جانبي العقد من اللآلئ مثل ما في الجانب الآخر وكذلك نجعل هذا في الألفاظ المنثورة من الأسجاع وهو أن تكون كل لفظة من ألفاظ الفصل الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الفصل الثاني في الوزن والقافية وهذا لا يوجد في كتاب الله تعالى لما هو عليه من زيادة التكلف فأما قول من ذهب إلى أن في كتاب الله منه شيئا ومثله بقوله تعالى ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) فليس الأمر كما وقع له فإن لفظة لفي قد وردت في الفقرتين معا وهذا يخالف شرط الترصيع الذي شرطناه لكنه قريب منه وأما الشعر فإني كنت أقول إنه لا يتزن على هذه الشريطة ولم أجده في أشعار العرب لما فيه من تعمق الصنعة وتعسف الكلفة وإذا جيء به في الشعر لم يكن عليه محض الطلاوة التي تكون إذا جيء به في

الكلام المنثور ثم إني عثرت عليه في شعر المحدثين ولكنه قليل جدا فمن ذلك قول بعضهم
( فَمَكَارِمٌ أَوْلَيْتَها مُتَبَرِّعاً ... وَجَرَائِمٌ ألْغَيْتَها مُتَوَرِّعاً )
فمكارم بإزاء جرائم وأوليتها بإزاء ألغيتها ومتبرعا بإزاء متورعا
وقد أجاز بعضهم أن يكون أحد ألفاظ الفصل الأول خالفا لما يقابله من الفصل الثاني وهذا ليس بشيء لمخالفته حقيقة الترصيع
فمما جاء من هذا النوع منثورا قول الحريري في مقاماته فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه فإنه جعل ألفاظ الفصل الأول مساوية لألفاظ الفصل الثاني وزنا وقافية فجعل يطبع بإزاء يقرع والأسجاع بإزاء الأسماع وجواهر بإزاء زواجر ولفظه بإزاء وعظه
ومما جاءني من هذا النوع ما ذكرته في جواب كتاب إلى بعض الإخوان وهو قد أعدت الجواب ولم أستعر له نظما ملفقا ولا جلبت إليه حسنا منمقا بل أخرجته على رسله وغنيت بصقال حسنه عن صقله فجاء كما تراه غير ممشوط ولا مخطوط فهو يرفل في أثواب بذلته وقد حوى الجمال بجملته والحسن ما وشته فطرة التصوير لا ما حشته فكرة التزوير
والترصيع في قوله وشته فطرة التصوير وحشته فكرة التزوير
وكذلك ورد قولي في فصل من الكلام يتضمن تثقيف الأولاد فقلت من قوم أود أولاده ضرم كمد حساده فهذه الألفاظ متكافئة في ترصيعها فقوم بإزاء ضرم وأود بإزاء كمد وأولاده بإزاء حساده
وكذلك قول بعضهم في الأمثال المولدة التي لم ترد عن العرب وهو من أطاع غضبه أضاع أدبه فألهاع بإزاء أضاع وغضبه بإزاء أدبه

وقد ورد هذا الضرب كثيرا في الخطب التي أنشأها الشيخ الخطيب عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله
فمن ذلك قوله في أول خطبة الحمد لله عاقد أزمة الأمور بعزائم أمره وحاصد أئمة الغرور بقواصم مكره وموفق عبيده لمغانم ذكره ومحقق مواعيده بلوازم شكره فالألفاظ التي جاءت في الفصلين الأولين متساوية وزنا وقافية والتي جاءت في الفصلين الآخرين فيها تخالف في الوزن فإن مواعيد تخالف وزن عبيد ولا تخالف قافيتها التي هي الدال
ومن ذلك قوله أيضا في جملة خطبة أولئك الذين أفلوا فنجمتم ورحلوا فأقمتم وأبادهم الموت كما علمتم وأنتم الطامعون في البقاء بعدهم كما زعمتم كلا والله ما أشخصوا لتقروا ولا نغصوا لتسروا ولا بد أن تمرو حيث مروا فلا تثقوا بخدع الدنيا ولا تغتروا وهذا الكلام فيه أيضا ما في الذي قبله من صحة الوزن والقافية وصحة القافية دون الوزن
وكذلك قوله أيضا في خطبة أخرى أيها الناس أسيموا القلوب في رياض الحكم وأديموا النحيب على ابيضاض اللمم وأطيلوا الاعتبار بانتقاص النعم وأجيلوا الأفكار في انقراض الأمم
وأما ما ورد في الشعر على مخالفة بعض الألفاظ بعضا فكقول ذي الرمة
( كَحْلاءُ في بَرَجٍ صَفْرَاءُ في دَعَجٍ ... كَأَنَّهَا فَضَّةُ قَدْ مَسَّها ذَهَبُ )
وصدر هذا البيت مرصع وعجزه خال من الترصيع وعذر الشاعر في ذلك واضح لأنه مقيد بالوقوف مع الوزن والقافية ألا ترى أن ذا الرمة بنى قصيدته على

حرف الباء ولو رصع هذا البيت الترصيع الحقيقي لكان يلزمه أن يأتي بألفاظه على حرفين حرفين أحدهما الباء أو كان يقسم البيت نصفين ويماثل بين ألفاظ هذا النصف وهذا النصف وذلك مما يعسر وقوعه في الشعر
وأرباب هذه الصناعات قد قسموا الترصيع إلى هذين القسمين المذكورين وهذه القسمة لا أراها صوابا لأن حقيقة الترصيع موجودة في القسم الأول دون الثاني
ومما جاء في هذا القسم الثاني قول الخنساء
( حَامِي الْحَقِيقَةِ مَحْمُودُ الْخَلِيقَةِ مَهْدِيُّ ... الطَّرِيقَةِ نَفّاعٌ وَضَرَّارُ )
وكذلك قول الآخر
( سُودٌ ذَواَئِبُهَا بِيضٌ تَرَائِبُهَا ... مَحْضٌ ضَرَائِبُهَا صِيغَتْ مَنَ الْكَرَمِ )

النوع الرابع في لزوم ما لا يلزم
وهو من أشق هذه الصناعة مذهبا وأبعدها مسلكا وذاك لأن مؤلفه يلتزم ما لا يلزمه فإن اللازم في هذا الموضع وما جرى مجراه إنما هو السجع الذي هو تساوي أجزاء الفواصل من الكلام المنثور في قوافيها وهذا فيه زيادة على ذلك

وهو أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روى الأبيات الشعرية
وقد جمع أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان في ذلك كتابا وسماه كتاب اللزوم فأتى فيه بالجيد الذي يحمد والرديء الذي يذم
وسأذكر في كتابي هذا في هذا الموضع أمثلة من المنثور والمنظوم يهتدى بها
فمن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب في فصل يتضمن ذم جبان فقلت إذا نزل به خطب ملكه الفرق وإذا ضل في أمر لم يؤمن إلا إذا أدركه الغرق
ومن ذلك ما ذكرته في مبدأ كتاب إلى بعض الإخوان فقلت الخادم يهدي من دعائه وثنائه ما يسلك أحدهما سماء والآخر أرضا ويصون أحدهما نفسا والآخر عرضا وأعجب ما فيهما أنهما توأمان غير أن هذا مستنتج من ضمير القلب وهذا من نطق اللسان فاللزوم ههنا في الراء والضاد
وكذلك ورد قولي في جملة كتاب إلى ديوان الخلافة فقلت وقد علم من شيم الديوان العزيز أنه يسر بامتداد الأيدي إلى بابه وإذا أغب أحدها في المسألة نهاه عن إغبابه حتى لا يخلو حرمه الكريم من المطاف ولا يده الكريمة من الإسعاف فاللزوم ههنا في لفظتي بابه وإغبابه
ومن ذلك ما كتبته في جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أيضا وهو ومهما شد به عضد الخادم من الإنعام فإنه قوة لليد التي خولته ولا يقوى تصعد السحب إلا بكثرة غيثها الذي أنزلته وغير خاف أن عبيد الدولة لها كالعمد من طرافها ومركز الدائرة من أطرافها ولا يؤيد السيف إلا بقائمه ولا ينهض الجناح إلا بقوادمه فاللزوم في هذا الموضع في الراء والفاء في قولي طزاف وأطراف
ومن ذلك ما كتبته في صدر كتاب إلى الملك الأفضل علي بن يوسف أهنئه بملك مصر في سنة خمس وتسعين وخمسمائة فقلت المملوك يهنئ مولانا بنعمة الله المؤذنة باستخلاصه واحتبائه وتمكينه حتى بلغ أشده واستخرج كنز

آبائه ولو أنصف لهنأ الأرض منه بوابلها والأمة بكافلها وخصوصا أرض مصر التي خصت بشرف سكناه وغدت بين بحرين من فيض البحر وفيض يمناه
وكل هذه الفصول المذكورة من هذه المكتوبات التي أنشأتها لا كلفة على كلمات اللزوم فيها
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج أن لقيط بن زرارة تزوج بنت قيس بن خالد بن ذي الجدين فحظيت عنده وحظي عندها ثم قتل فآمت بعده وتزوجت زوجا غيره فكانت كثيرا ما تذكر لقيطا فلامها على ذلك فقالت إنه خرج في يوم دجن وقد تطيب وشرب فطرد البقر فصرع منها ثم أتاني وبه نضح دم فضمني ضما وشمني شمة فليتني مت ثمة فلم أر منظرا كان أحسن من لقيط فقولها ضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة من الكلام الحلو في باب اللزوم ولا كلفة عليه
وهكذا فليكن فإن الكلفة وحشة تذهب برونق الصنعة وما ينبغي لمؤلف الكلام أن يستعمل هذا النوع حتى يجيء به متكلفا ومثاله في هذا المقام كمن أخذ موضوعا رديئا فأجاد فيه صنعته فإنه يكون عند ذلك قد راعى الفرع وأهمل الأصل فأضاع جودة الصنعة في رداءة الموضوع
وقد سلك ذلك أبو العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان فمما جاء من ذلك قوله في حرف التاء مع الخاء
( بِنْتُ عَنِ الدُّنْيَا وَلاَ بِنْتَ لِي ... فِيها وَلاَ عِرْسَ وَلاَ أخْتُ )
( وَقَدْ تَحَمَّلْتُ مِنَ الْوِزْرِ مَا ... تَعْجِزُ أنْ تَحْمِلَهُ الْبُخْتُ )
( إِنْ مَدَحُونِي سَاءَنِي مَدْحُهُمْ ... وَخِلْتُ أَنِّي فِي الثَّرَى سِخْتُ )
وله من ذلك الجيد كقوله
( لاَ تَطْلُبَنَّ بِآلَةٍ لَكَ حَاجَةً ... قَلَمُ الْبَلِيغِ بِغَيْرِ جَد مِغْزَلُ )
( سَكَنَ السِّما كَانِ السَّمَاءَ كِلاَهُما ... هذَا لَهُ رُمْحٌ وَهذَا أَعْزَلُ )

وهذا بين الاسترسال وبين الكلفة
وأما ما تكلف له تكلفا ظاهرا وإن أجاد فقوله
( تُنَازِعُ في الدُّنْيا سِوَاكَ وَمَا لَهُ ... وَلاَ لَكَ شَيْء في الْحَقِيقَةِ فِيهَا )
( وَلكِنَّها مِلْكٌ لِرَبٍّ مُقَدِّرٍ ... يُعِيرُ جنُوبَ الأَرْضِ مُرْتَدِفِيهَا )
( وَلَمْ تَحْظَ مِنْ ذَاكَ النِّزَاعِ بِطَائِلٍ ... مِنَ الأَمْرِ إِلاَّ أَنْ تُعَدَّ سَفِيهَاً )
( فَيَا نَفْس لاَ تَعْظُمْ عَلَيْكِ خُطُوبُها ... فَمُتَّفِقُوها مِثْلُ مُخْتَلِفيهَا )
( تَدَاعَوْا إِلَى النَّزْرِ الْقَلِيلِ فَجَالَدُوا ... عَلَيْهِ وَخَلُّوْهَا لِمُغْتَرِفِيهَا )
( وَمَا أمُّ صِلٍّ أَوْ حَلِيلَةٌ ضَيْغَمٍ ... بِأَظْلَمَ مِنْ دُنْياكِ فاعْتَرِفِيهَا )
( تُلاَقِي الْوُفُودَ الْقَادِمِيها بِفَرْحَةٍ ... وَتَبْكِي عَلَى آثَارِ مُنْصَرِفِيهَا )
( وَمَا هِيَ إِلاَّ شَوْكُةٌ لَيْسَ عِنْدَهَا ... وَجَدِّكَ إِرْطَابٌ لِمُخْتَرِفِيهَا )
( كَمَا نَبَذَتْ لِلطَّيْرِ وَالْوَحْشُ رَازِمٌ ... فَأَلْقَتْ شُرُوراً بَيْنَ مُخْتَطِفيهَا )
( تَنَاؤَتْ عَنِ الإِنْصَافِ مَنْ ضِيمَ لَمْ ... يَجِدْ سَبِيلاً إِلَى غَايَاتِ مُنْتَصِفِيهَا )

( فأطْبِقْ فَمَاً عَنْها وَكَفًّا ومُقْلَةً ... وَقُلْ لِغَوِيِّ النَّاسِ فاكَ لِفِيهَا )
ومن ذلك
( أَرَى الدُّنْيَا وَمَا وُصِفَتْ بِبِرٍّ ... إِذَا أَغْنَتْ فَقِيراً أَرْهَقَتْهُ )
( إِذَا خُشِيَتْ لِشَر عَجَّلَتْهُ ... وَإِنْ رُجِيَتْ لِخَيْرٍ عَوَّقَتْهُ )
( حَيَاة كَالْحُبَالَةِ ذَاتُ مَكْرٍ ... وَنَفْسُ المَرْءِ صَيْدٌ أَعْلَقَتْهُ )
( فَلاَ يُخْدَعْ بِحِيْلَتِهَا أَرِيبٌ ... وَإِنْ هِيَ سَوَّرَتْهُ وَنَطَّقَتْهُ )
( أَذَاقَتْهُ شَهِيًّا مِنْ جَنَاها ... وَصَدَّتْ فَاهُ عَمَّا ذَوَّقَتْهُ )
وقد ورد للعرب شيء من ذلك إلا أنه قليل فمما جاء منه قول بعضهم في أبيات الحماسة
( إِنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّها ... خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوًى لَهَا )
( بَيْضَاءُ بَاكَرَهَا النَّعِيمُ فَصَاغَها ... بِلَبَاقَةٍ فَأَدَقَّها وَأَجَلَّها )
( حَجَبَتْ تَحِيَّتَها فَقُلْتُ لِصَاحِبِي ... ما كَانَ أكْثَرَها لَنَا وَأقلها )
( وَإِذَا وَجَدْتُ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةٍ ... شَفَعَ الضَّمِيرُ إِلَى الفُؤَادِ فَسَلَّها )
وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه
ومما يجري هذا المجرى قول حجر بن حية العبسي من شعر الحماسة أيضا

( وَلاَ أُدَوِّمُ قِدْرِي بَعْدَمَا نَضِجَتْ ... بُخْلاً فَتَمْنَعَ مَا فِيها أَثَافِيهَا )
( حَتَّى تُقَسَّمَ شَتَّى بَيْنَ مَا وَسِعَتْ ... وَلاَ يُؤَنَّبُ تَحْتَ اللَّيْلِ عَافِيها )
ومما ورد من ذلك أيضا قول طرفة بن العبد البكري
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ المَالَ يَكْسِبُ أَهْلَهُ ... فُضُوحاً إِذَا لَمْ يُعْطَ مِنْهُ نَوَاسِبُهْ )
( أَرَى كُلَّ مَالٍ لاَ مَحَالَةَ ذَاهباً ... وَأفْضَلُهُ مَا وُرِّثَ الحمدَ كَاسِبُهْ )
وكذلك قول الفرزدق
( وَغَيَّرَ لَوْنَ رَاحِلَتِي وَلَوْنِي ... تَرَدِّيَّ الهَوَاجِرَ وَاعْتِمَامي )
( أَقُولُ لَهَا إِذَا ضَجِرَتْ وَعَضَّتْ ... بِمُورِكَةِ الْوِرَاكِ مَعَ الزِّمامِ )
( عَلاَمَ تَلَفَّتينَ وَأنْتِ تَحْتِي ... وَخَيْرُ النَّاسِ كُلِّهِمِ أَمَامي )
وكذلك قوله أيضا

( مَنَعَ الْحَيَاة مِنَ الرِّجَالِ وَنَفْعَها ... حَدَقٌ تُقَلِّبُها النِّسَاءُ مِرَاضُ )
( وَكَأَنَّ أفْئِدَةَ الرِّجَالِ إِذَا رَأَوْا ... حَدَقَ النِّسَاءِ لِنَبْلِهَا أغْرَاضُ )
وإذا شئت أن تعلم مقادير الكلام وكان لك ذوق صحيح فانظر إلى هذا العربي في كلامه السهل الذي كأنه ماء جار وانظر إلى ما أوردته لأبي العلاء المعري فإن أثر الكلفة عليه باد ظاهر
وممن قصد من العرب قصيدة كله من اللزوم كثير عزة وهي القصيدة التي أولها
( خَلِيليَّ هذَا رَبْعُ عَزَّةَ فَاعْقِلاَ ... قَلُوصَيْكُمَا ثُمَّ احْلُلاَ حَيْثُ حَلَّتِ )
وهذه القصيدة تزيد على عشرين بيتا وهي مع ذلك سهلة لينة تكاد تترقرق من لينها وسهولتها وليس عليها من أثر الكلفة شيء ولولا خوف الإطالة لأوردتها بجملتها
وقد ذكر بعضهم من هذا النوع ما ورد في أبيات الحماسة وهو
( وَفَيْشَةٍ لَيْسَتْ كَهذِي الْفَيْشِ ... قَدْ مُلِئَتْ مِنْ تَرَفٍ وَطَيْشِ )
( إِذَا بَدَتْ قُلْتَ أَمِيرُ الْجَيْشِ ... مَنْ ذَاقَهَا يَعْرِفُ طَعْمَ الْعَيْشِ )
وهذا ليس من باب اللزوم لأن اللزوم هو أن يلتزم الناظم والناثر ما لا يلزمه كقولنا شرق وفرق مثلا فإنه لو قيل بدلا من ذلك شرق وحنق لجاز ذلك وفي

( لَقَدْ فُجِعَتْ عَتَّابهُ وَزُهَيْرُهُ ... وَتَغْلِبُهُ أخْرَى اللَّيَالِي وَوَائِلُهْ )
( وَمُبْتَدِرُ الْمَعْرُوفِ تَسْرِي هِبَاتُهُ ... إلَيْهِمْ وَلاَ تَسْرِي إِلَيْهِمْ غَوَائِلُهْ )
( طَوَاهُ الرَّدَى طَيَّ الرِّدَاءِ وَغُيِّبَتْ ... فَضَائِلُهُ عَنْ قَوْمِهِ وَفَوَاضِلُهْ )
( طَوى شِيمَاً كَانَتْ تَرُوحُ وتَغْتَدِي ... وَسَائِلَ مَنْ أعْيَتْ عَلَيْهِ وَسَائِلُهْ )
( فَيَا عَاضاً لِلْعُرْفِ أقْلَعَ مُزْنُهُ ... وَيَا وَادِياً لِلْجُودِ جَفَّتْ مَسَايِلُهْ )
( أَلَمْ تَرَنِي أنْزَفْتُ عَيْنِي عَلَى أبِي ... مُحَمَّدٍ النَّجْمِ الْمُشْرّقِ آفِلُهْ )
( وَأَخْضَلْتُهَا فِيْهِ كَمَا لَوْ أَتَيْتُهُ ... طَرِيد اللَّيَالِي أخْضَلَتْنِي نَوَافِلُهْ )
وهذا من أحسن ما يجيء في هذا الباب وليس بمتكلف كشعر أبي العلاء فإن حسن هذا مطبوع وحسن ذاك مصنوع وكذلك أقول في غير اللزوم من الأنواع المذكورة أولا فإن الألفاظ إذا صدرت فيها عن سهولة خاطر وسلاسة طبع وكانت غير مستجلبة ولا متكلفة جاءت غير محتاجة إلى التألف ولا شك أن صورة الخلقة غير صورة التخلق
فإن قيل ما الفرق بين المتكلف من هذا الأنواع وغير المتكلف
قلت في الجواب أما المتكلف فهو الذي يأتي بالفكرة والروية وذلك أن ينضى الخاطر في طلبه ويبعث على تتبعه واقتصاص أثره وغير المتكلف يأتي مستريحا من ذلك كله وهو أن يكون الشاعر في نظم قصيدته أو الخطيب أو الكاتب في إنشاء خطبته أو كتابته فبينا هو كذلك إذا سنح له نوع من هذه الأنواع الاتفاق لا بالسعي والطلب ألا ترى أن قول أبي نواس في مثل هذا الموضع
( أُتْرُكِ الأَطْلاَلَ لاَ تَعْبأُ بِهَا ... إِنَّهَا مِنْ كُلِّ بُؤْسٍ دَانِيَهْ )
( وَانْعَتِ الرَّاحَ عَلَى تَحْرِيمِها ... إنَّمَا دُنْيَاكَ دَارٌ فَانِيَهْ )

( مِنْ عُقَارٍ مَنْ رَآهَا قالَ لِي ... صِيدَتِ الشَّمْسُ لَنَا في آنِيَهْ )
وعلى هذه السهولة واللطافة ورد قوله أيضا
( كَمْ مِنْ غُلاَمٍ ذِي تَحَاسِين ... أفْسَدَهُ نَاطِفُ يَاسِين )
وهذا ياسين كان يبيع الناطف ببغداد
وحكى إبراهيم البندنيجي قال رأيت شيخا ضعيفا يبيع ناطفا فقلت له يا شيخ أما زلت في الصناعة قال مذ كنت ولكن الحال كانت واسعة والسلعة نافقة وكنت ممن يشار إلي حتى قال أبو نواس في وأنشد هذا البيت
فانظر أيها المتأمل ما أحلى لفظ أبي نواس في لزومه وما أعراه عن الكلفة وكذلك فلتكن الألفاظ في اللزوم وغيره
واعلم أنه إذا صغرت الكلمة الأخيرة من الشعر أو من فواصل الكلام المنثور فإن ذلك ملحق باللزوم ويكون التصغير عوضا عن تساوي الحروف التي قبل روى الأبيات الشعرية والحروف التي قبل الفاصلة من النثر فمن ذلك قول بعضهم
( عَزَّ عَلَى لَيْلَى بِذِي سُدَيْرِ ... سُوءُ مَبِيتي لَيْلَةَ الْغُمَيْرِ )
( مُقَضِّباً نَفْسِيَ في طُمَيْرِ ... تَنْتَهِزُ الرِّعْدَةُ في ظُهَيْرِي )
( يَهْفُوا إِلَيَّ الزَّورَ مِنْ صُدَيْرِي ... ظَمْآنَ في رِيحٍ وَفِي مُطَيْرِ )
( وَازِرَ قَر لَيْسَ بِالْغُرَيْرِ ... مِنْ لَدُمَا ظُهْرٍ إِلاَ سُحَيْرِ )
( حَتَّى بَدَتْ لِي جَبْهَةُ الْقُمَيْرِ ... لأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ شُهَيْرِ )

وهذا من محاسن الصنعة في هذا الباب فاعرفه
وأحسن منه ما ورد عن أبي نواس وعن عنان جارية النطاف وله معها حكايات كثيرة غير هذه فقال أبو نواس
( أَمَا تَرِقِّي لِصَب ... يَكْفِيهِ مِنْكِ نُظَيْرَهْ )
فقال عنان
( إِيَّايَ تَعْنِي بِهذَا ... عَلَيْكَ فاجْلِدْ عُمَيْرَهْ )
فقال أبو نواس
( أَخافُ إِنْ رُمْتُ هذَا ... عَلَى يَدِي مِنْكِ غَيْرَهْ )
فالبيتان الأول والثاني من هذا الباب والثالث جاء تبعا
وقد ورد في القرآن الكريم شيء من اللزوم إلا أنه يسير جدا
فمن ذلك قوله تعالى ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ) وقوله تعالى ( والطور وكتاب مسطور ) وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة ( فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون )
وربما وقع بعض الجهال في هذا الموضع فأدخل فيه ما ليس منه كقوله تعالى ( إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ) وهذا لا يدخل في باب اللزوم لأن الأصل فيه نعم وجحم والياء هي من حروف المد واللين فلا يعتد بها ههنا
ومن هذا الباب قوله تعالى ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود )

وكذلك ورد قوله تعالى ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهو فإن الله بما تعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير )
وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام ( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا )
وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى ( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد )
ولا تجد أمثال ذلك في القرآن إلا قليلا

النوع الخامس في الموازنة
وهي أن تكون ألفاظ الفواصل من الكلام المنثور متساوية في الوزن وأن يكون صدر البيت الشعري وعجزه متساوي الألفاظ وزنا وللكلام بذلك طلاوة ورونق وسببه الاعتدال لأنه مطلوب في جميع الأشياء وإذا كانت مقاطع الكلام معتدلة وقعت من النفس موقع الاستحسان وهذا لا مراء فيه لوضوحه
وهذا النوع من الكلام هو أخو السجع في المعادلة دون المماثلة لأن في السجع اعتدالا وزيادة على الاعتدال وهي تماثل أجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد وأما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود في السجع ولا تماثل في فواصلها فيقال إذا كل سجع موازنة وليس كل موازنة سجعا وعلى هذا فالسجع أخص من الموازنة

فمما جاء منها قوله تعالى ( وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم ) فالمستبين والمستقيم على وزن واحد
وكذلك قوله تعالى في سورة مريم عليها السلام ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا )
وكذلك قوله تعالى في سورة طه ( من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا )
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة حم عسق ( والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ) وهذه الآيات جميعها على وزن واحد فإن " شديد " و " قريب " و " بعيد " و " عزيز " و " نصيب " و " أليم " و " كبير " كل ذلك على وزن فعيل وإن اختلف حروف المقاطع التي هي فواصلها
وأمثال هذا في القرآن كثير بل معظم آياته جارية على هذا النهج حتى إنه لا تخلو منه سورة من السور ولقد تصفحته فوجدته لا يكاد يخرج منه شيء عن السجع والموازنة

وأما ما جاء من هذا النوع شعرا فقول ربيعة بن ذؤابة
( إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَتْ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَرِثِ بْنِ شِهَابِ )
( بأَشَدِّهِمْ بَأْساً عَلَى أَصْحَابِهِ ... وَأَعَزِّهِمْ فَقْداً عَلَى الأَصْحَابِ )
فالبيت الثاني هو المختص بالموازنة فإن بأسا وفقدا على وزن واحد

النوع السادس في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها
وهو من هذه الصناعة بمنزلة علية ومكانة شريفة وجل الألفاظ اللفظية منوطة به ولقد لقيت جماعة من مدعي فن الفصاحة وفاوضتهم وفاوضوني وسألتهم وسألوني فما وجدت أحدا منهم تيقن معرفة هذا الموضع كما ينبغي وقد استخرجت فيه أشياء لم أسبق إليها وسيأتي ذكرها ههنا
أما اختلاف صيغ الألفاظ فإنها إذا نقلت من هيئة إلى هيئة كنقلها مثلا من وزن من الأوزان إلى وزن آخر وإن كانت اللفظة واحدة أو كنقلها من صيغة الاسم إلى صيغة الفعل أو من صيغة الفعل إلى صيغة الاسم أو كنقلها من الماضي إلى المستقبل أو من المستقبل إلى الماضي أو من الواحد إلى التثنية أو إلى الجمع أو إلى النسب أو إلى غير ذلك انتقل قبحها فصار حسنا وحسنها صار قبحا
فمن ذلك لفظة خود فإنها عبارة عن المرأة الناعمة وإذا نقلت إلى صيغة الفعل قيل خود على وزن فعل بتشديد العين ومعناها أسرع يقال خود

البعير إذا أسرع فهي على صيغة الاسم حسنة رائقة وقد وردت في النظم والنثر كثيرا وإذا جاءت على صيغة الفعل لم تكن حسنة كقول أبي تمام
( وَإِلَى بَنِي عَبْدِ الْكَرِيمِ تَواهَقَتْ ... رَتَكَ النِّعَامِ رَأَى الظَّلاَمَ فَخَوَّدَا )
وهذا يقال عليه أشباهه وأنظاره إلا أن هذه اللفظة التي هي خود قد نقلت عن الحقيقة إلى المجاز فخف عنها ذلك القبح قليلا كقول بعض شعراء الحماسة
( أقولُ لِنَفْسِي حِينَ خَوَّدَ رَأْلُهَا ... رُوَيْدَكِ لَمَّا تُشْفِقِي حِينَ مُشْفَقِ )
( رُوَيْدَكِ حَتَّى تَنْظُرِي عَمَّ تَنْجَلي ... غَيابَةُ هذَا الْبَارِقِ الْمُتَأَلِّقِ )
والرأل النعام والمراد به ههنا أن نفسه فرت وفزعت وشبه ذلك بإسراع النعام في فراره وفزعه ولما أورده على حكم المجاز خف بعض القبح الذي على لفظة خود وهذا يدرك بالذوق الصحيح ولا خفاء بما بين هذه اللفظة في إيرادها ههنا وإيرادها في بيت أبي تمام فإنها وردت في بيت أبي تمام قبيحة سمحة ووردت ههنا بين بين
ومن هذا النوع لفظة ودع وهي فعل ماض ثلاثي لا ثقل بها على اللسان ومع ذلك فلا تستعمل على صيغتها الماضية إلا جاءت غير مستحسنة ولكنها تستعمل مستقبلة وعلى صيغة الأمر فتجيء حسنة أما الأمر فكقوله تعالى ( فدعهم يخوضوا ويلعبوا ) ولم تأت في القرآن الكريم إلا على هذه الصيغة وأما كونها

مستقبلة فكقول النبي وقد واصل في شهر رمضان فواصل معه قوم ( لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع له المتعمقون تعمقهم ) وقال أبو الطيب المتنبي
( تَشُقُّكُمْ بِقَنَاها كُلُّ سَلْهَبَةٍ ... وَالضَّرْبُ يَأْخُذُ مِنْكُمْ فَوْقَ مَا يَدَعُ )
وأما الماضي من هذه اللفظة فلم يستعمل إلا شاذا ولا حسن له كقول أبي العتاهية
( أَثْرَوْا فَلَمْ يُدْخِلُوا قُبُورَهُمُ ... شَيْئاً مِنَ الثَّرْوَةِ الَّتي جَمَعُوا )
( وَكَانَ مَا قَدَّمُوا لأَنْفُسِهِمْ ... أَعْظَمَ نَفْعاً مِنَ الَّذِي وَدَعُوا )
وهذا غير حسن في الاستعمال ولا عليه من الطلاوة شيء وهذه لفظة واحدة لم يتغير من حالها شيء سوى أنها نقلت من الماضي إلى المستقبل لا غير
وكذلك لفظة وذر فإنها لا تستعمل ماضية وتستعمل على صيغة الأمر كقول تعالى ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ) وتستعمل مستقبلة أيضا كقوله تعالى ( سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ) فهي لم ترد في القرآن إلا على هاتين الصيغتين وكذلك في فصيح الكلام غير القرآن وأما إذا جاءت على صيغة الماضي فإنها لا تستعمل وهي أقبح من لفظة ودع لأن لفظة ودع قد استعملت ماضية وهذه لم تستعمل
وههنا فلينعم الخائضون في هذا الفن نظرهم ويعلموا أن في الزوايا خبايا وإذا أنعموا الفكر في أسرار الألفاظ عند الاستعمال وأغرقوا في الاعتبار والكشف وجدوا غرائب وعجائب

ومن هذا النوع لفظة الأخدع فإنها وردت في بيتين من الشعر وهي في أحدهما حسنة رائقة وفي الآخر ثقيلة مستكرهة كقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة
( تَلَفَّتُ نَحْوَ الْحَيِّ حَتَّى وَجَدْتُنِي ... وَجِعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لِيتاً وَأَخْدَعَا )
وكقول أبي تمام
( يَا دَهْرُ قَوِّمْ مِنْ أَخْدَعَيْكَ فَقَدْ ... أَضْجَجْتَ هذَا الأَنَامَ مِنْ خُرُقِكْ )
ألا ترى أنه وجد لهذه اللفظة في بيت أبي تمام من الثقل على السمع والكراهة في النفس أضعاف ما وجد لها من بيت الصمة بن عبد الله بن الروح والخفة والإيناس والبهجة وليس سبب ذلك إلا أنها جاءت موحدة في أحدهما مثناة في الآخر وكانت حسنة في حالة الإفراد مستكرهة في حالة التثنية وإلا فاللفظة واحدة وإنما اختلاف صيغتها فعل بها ما ترى
ومن هذا النوع ألفاظ يعدل عن استعمالها من غير دليل يقوم على العدول عنها ولا يستفتي في ذلك إلى الذوق السليم وهذا موضع عجيب لا يعلم كنه سره
فمن ذلك لفظة اللب الذي هو العقل لا لفظة اللب الذي تحت القشر فإنها لا تحسن في الاستعمال إلا مجموعة وكذلك وردت في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وهي مجموعة ولم ترد مفردة كقوله تعالى ( وليتذكر أولو

الألباب ) و ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) وأشباه ذلك وهذه اللفظة الثلاثية خفيفة على النطق ومخارجها بعيدة وليست بمستثقلة ولا مكروهة وقد تستعمل مفردة بشرط أن تكون مضافة أو مضافا إليها أما كونها مضافا إليها فكقولنا لا يعلم ذلك إلا ذو لب وإن في ذلك لعبرة لذي لب وعليه ورد قول جرير
( إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي في طَرْفِها حَوَرٌ ... قَتَلْنَنا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا )
( يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لاَ حِرَاكَ بِهِ ... وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أَرْكَانَا )
وأما كونها مضافة فكقول النبي في ذكر النساء ( ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الحازم من إحداكن يا معشر النساء ) فإن كانت هذه اللفظة عارية عن الجمع أو الإضافة فإنها لا تأتي حسنة ولا تجد دليلا على ذلك إلا مجرد الذوق الصحيح وإذا تأملت القرآن الكريم ودققت النظر في رموزه وأسراره وجدت مثل هذه اللفظة قد روعي فيها الجمع دون الإفراد كلفظة كوب فإنها وردت في القرآن مجموعة ولم ترد مفردة وهي وإن لم تكن مستقبحة في حال إفرادها فإن الجمع فيها أحسن لكن قد ترد مفردة مع ألفاظ أخر تندرج معهن فيكسوها ذلك حسنا ليس لها وذلك كقولي في جملة أبيات أصف بها الخمر وما يجري معها من آلاتها
( ثَلاَثَةٌ تُعْطِي الْفَرَحْ ... كَأْسٌ وَكُوبٌ وَقَدَحْ )
( مَا ذَبَحَ الذَّوْقُ بِهَا ... إِلاّ وَلِلْهَمِّ ذَبَحْ )
فلما وردت لفظة الكوب مع الكأس والقدح على هذا الأسلوب حسنها وكأنه جلاها في غير لباسها الذي كان لها إذ جاءت بمفردها
وكذلك وردت لفظة رجا بالقصر والرجا الجانب فإنها لم تستعمل موحدة وإنما استعملت مجموعة كقوله تعالى ( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) فلما وردت هذه اللفظة مجموعة ألبسها الجمع ثوبا من الحسن لم يكن لها في حال كونها موحدة وقد تستعمل موحدة بشرط الإضافة كقولنا رجا البئر

ولربما أخطأ بعض الناس في هذا الموضع وقاس عليه ما ليس بمقيس وذلك أنه وقف على ما ذكرته ههنا واقف وكذلك قد وردت لفظة الصوف في القرآن الكريم ولم ترد إلا مجموعة كقوله تعالى ( وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ) وهذا بخلاف ما وردت عليه في شعر أبي تمام
( كانُوا بُرُودَ زَمَانِهِمْ فَتَصَدَّعوا ... فكأنَّمَا لَبِسَ الزَّمَانُ الصُّوفا )
وهذا ليس كالذي أشرت إليه فإن لفظة الصوف لفظة حسنة مفردة ومجموعة وإنما أزرى بها في قول أبي تمام أنها جاءت مجازية في نسبتها إلى الزمان
وعلى هذا النهج وردت لفظة خبر وأخبار فإن هذه اللفظة مجموعة أحسن منها مفردة ولم ترد في القرآن إلا مجموعة
وفي ضد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفردا ولم يرد مجموعا كلفظة الأرض فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل ( ومن الأرض مثلهن ) في قوله تعالى ( الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن )
ومما ورد من الألفاظ مفردا فكان أحسن مما يرد مجموعا لفظة البقعة قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام ( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله ) والأحسن استعمالها مفردة لا مجموعة وإن استعملت مجموعة فالأولى أن تكون مضافة كقولنا بقاع الأرض أو ما جرى مجراها

وكذلك لفظة طيف في ذكر طيف الخيال فإنها لم تستعمل إلا مفردة وقد استعملها الشعراء قديما وحديثا فلم يأتوا بها إلا مفردة لأن جمعها جمع قبيح فإن قيل طيوف كان من أقبح الألفاظ وأشدها كراهة على السمع ويا لله العجب من هذه اللفظة ومن أختها عدة ووزنا وهي لفظة ضيف فإنها تستعمل مفردة ومجموعة وكلاهما في الاستعمال حسن ورائق وهذا مما لا يعلم السر فيه والذوق السليم هو الحاكم في الفرق بين هاتين اللفظتين وما يجري مجراهما
وأما جمع المصادر فإنه لا يجيء حسنا والإفراد فيه هو الحسن ومما جاء في المصادر مجموعا قول عنترة
( فإنْ يَبْرَأْ فَلَمْ أَنْفثْ عَلَيْهِ ... وَإنْ يُفْقَدْ فَحُقَّ لَهُ الْفُقُودُ )
قوله الفقود جمع مصدر من قولنا فقد يفقد فقدا واستعمال مثل هذه اللفظة غير سائغ ولا لذيذ وإن كان جائزا ونحن في استعمال ما نستعمله من الألفاظ واقفون مع الحسن لا من الجواز
وهذا كله يرجع إلى حاكم الذوق السليم فإن صاحب هذه الصناعة يصرف الألفاظ بضروب التصريف فما عذب في فمه منها استعمله وما لفظه فمه تركه ألا ترى أنه يقال الأمة بالضم عبارة عن الجمع الكثير من الناس ويقال الإمة بالكسر وهي النعمة فإن الأمة بالضم لفظة حسنة وبالكسر ليست بحسنة واستعمالها قبيح
ورأيت صاحب كتاب الفصيح قد ذكرها فيما اختاره من الألفاظ الفصيحة ويا ليت شعري ما الذي رآه من فصاحتها حتى اختارها وكذلك قد اختار ألفاظا أخر ليست بفصيحة ولا لوم عليه لأن صدور مثل ذلك الكتاب عنه كثير وأسرار الفصاحة لا تؤخذ من علماء العربية وإنما تؤخذ منهم مسألة نحوية أو تصريفية أو

نقل كلمة لغوية وما جرى هذا المجرى وأما أسرار الفصاحة فلها قوم مخصوصون بها
وإذا شذ عن صاحب كتاب الفصيح ألفاظ معدودة ليست بفصيحة في جملة كثيرة ذكرها من الفصيح فإن هذا منه كثير
ومما يذكر في هذا الباب أنه يقال سهم صائب فإذا جمع الجمع الحسن الذي يعذب في الفم قيل سهام صوائب وصائبات وصيب فإذا جمع الجمع الذي يقبح قيل سهام صيب على وزن كتب قال أبو نواس
( مَا أَحَلَّ اللهُ مَا صَنَعَتْ ... عَيْنُهُ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ بِي )
( قَتَلَتْ إِنْسَانُهَا كَبِدِي ... بِسِهَامٍ لِلرَّدَى صُيُبِ )
فقوله سهام صيب من اللفظ الذي ينبو عنه السمع ويحيد عنه اللسان ومثله ورد قول عويف القوافي من أبيات الحماسة
( ذَهَبَ الرُّقَادُ فَمَا يُحَسُّ رُقَادُ ... مِمَّا شَجَاكَ وَنَامَتِ الْعُوَّادُ )
( لَمَّا أَتَانِي مِنْ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ ... أَمْسَتْ عَلَيْهِ تَظَاهَرُ الأقْيَادُ )
فقوله أقياد في جمع قيد مما لا يحسن استعماله بل الحسن أن يقال في جمعه قيود وكذلك قول مرة بن محكان التميمي من أبيات الحماسة وذلك من جملة الأبيات المشهورة التي أولها
( يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ... ضُمِّي إلَيْكِ رِحَالَ الْقَوْمِ وَالْقُرُبَا )
فقال فيها
( مَاذَا تَرَيْنَ أَنُدْنِيهِمْ لأَرْحُلِنَا ... فِي جَانِبِ الْبَيْتِ أمْ نَبْنِي لَهُمْ قُبَبَا )

فإنه جمع قبة على قبب وذلك من المستبشع الكريه والأحسن المستعمل هو قباب لا قبب وكذلك يجري الأمر في غير هذا
ومن المجموع ما يختلف استعماله وإن كان متفقا في لفظة واحدة كالعين الناظرة وعين الناس وهو النبيه فيهم فإن العين الناظرة تجمع على عيون وعين الناس تجمع على أعيان وهذا يرجع فيه إلى الاستحسان لا إلى جائز الوضع اللغوي
وقد شذ هذا الموضع عن أبي الطيب المتنبي في قوله
( وَالْقَوْمُ فِي أَعْيَانِهِمْ خَزَرٌ ... وَالْخَيْلُ فِي أَعْيَانِهَا قَبَلُ )
فجمع العين الناظرة على أعيان وكان الذوق يأبى ذلك ولا تجد له على اللسان حلاوة وإن كان جائزا
ولولا خوف الإطالة لأوردت من هذا النوع وأمثاله أشياء كثيرة وكشفت عن رموز وأسرار تخفى على كثير من متعاطي هذا الفن لكن في الذي أشرت إليه منبه لأهل الفطانة والذكاء أن يحملوه على أشباهه وأنظاره
وأعجب من ذلك كله أنك ترى وزنا واحدا من الألفاظ فتارة تجد مفرده حسنا وتارة تجد جمعه حسنا وتارة تجدها جميعا حسنين فالأول نحو حبرور وهو فرخ الحبارى فإن هذه اللفظة يحسن مفردها لا مجموعها لأن جمعها على حبارير وكذلك طنبور وطنابير وعرقوب وعراقيب وأما الثاني فنحو بهلول وبهاليل ولهموم ولهاميم وهذا ضد الأول وأما الثالث فنحو جمهور وجماهير وعرجون وعراجين فانظر إلى الوزن الواحد كيف يختلف في أحواله مفردا ومجموعا وهذا من أعجب ما يجيء في هذا الباب
وهكذا قد جاءت ألفاظ على وزن واحد ثلاثية مسكنة الوسط وجميعها حسن في الاستعمال وإذا أردنا أن نثقل وسطها حسن منها شيء دون شيء

فمن ذلك لفظة الثلث والربع إلى العشر فإن الجميع على وزن واحد وإذا ثقلنا أوساطها فقلنا ثلث وربع وخمس وكذلك إلى عشر فإن الحسن من ذلك جميعه ثلاثة وهي الثلث والخمس والسدس والباقي وهو الربع والسبع والثمن والتسع والعشر ليس كالأول في حسنه هذا والجميع على وزن واحد وصيغة واحدة والجميع حسن في الاستعمال قبل أن يثقل وسطه ولما ثقل صار بعضه حسنا وبعضه غير حسن
وكذلك تجد الأمر في أسماء الفاعلين كالثلاثي منها نحو فعل بفتح الفاء والعين وفعل بفتح الفاء وكسر العين وفعل بفتح الفاء وضم العين فإن هذه الأوزان الثلاثة لها أسماء فاعلين أما فعل بفتح الفاء والعين فليس له إلا اسم واحد أيضا وهو فاعل لا غير ولا يقع فيه اختلاف وكذلك فعل بفتح الفاء وضم العين فليس له إلا اسم واحد أيضا وهو فعيل ولا يقع فيه اختلاف إلا ما شذ لكن فعل بفتح الفاء وكسر العين يقع في اسم فاعله الاختلاف استحسانا واستقباحا لأن له ثلاثة أوزان نحو فاعل وفعل وفعلان تقول منه حمد فهو حامد وحمد وحمدان وقد جاء على وزنه فرح تقول منه فرح زيد فهو فرح وهو الأحسن ولا يحسن أن يقال فارح ولا فرحان وإن كان جائزا لكن فرحان أحسن من فارح وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم فلا تستعمل إلا على فرح لا غير كقوله تعالى ( كل حزب بما لديهم فرحون ) وكقوله تعالى ( إن الله لا يحب الفرحين ) وقد جاءت هذه اللفظة في شعر بعض شعراء الحماسة في باب المراثي
( فَمَا أَنَا مِنْ حُزْنٍ وَإِنْ جَلَّ جَازِعٌ ... وَلاَ بِسُرُورٍ بَعْدَ مَوْتِكَ فَارِحُ )
وهذا غير حسن وإن جاز استعماله
وعلى نحو منه يقال غضب وهو غضبان غضبان ولا يقال غاضب وإن كان

جائزا وقد تقدم القول أنا في تأليف الكلام بصدد استعمال الحسن والأحسن
لا بصدد استعمال الجائز وغير الجائز
ومما يجري هذا المجرى قولنا فعل وافتعل فإن لفظة فعل لها موضع تستعمل فيه ألا ترى أنك تقول قعدت إلى فلان أحدثه ولا تقول اقتعدت إليه وكذلك تقول اقتعدت غارب الجمل ولا تقول قعدت على غارب الجمل وإن جاز ذلك لكن الأول أحسن وهذا لا يحكم فيه غير الذوق السليم فإنه لا يمكن أن يقام عليه دليل
وأما فعل وافعوعل فإنا نقول أعشب المكان فإذا كثر عشبه قلنا اعشوشب فلفظة افعوعل للتكثير على أني استقريت هذه اللفظة في كثير من الألفاظ فوجدتها عذبة طيبة على تكرار حروفها كقولنا اخشوشن المكان واغرورقت العين واحلولى الطعم وأشباهها
وأما فعلة نحو همزة ولمزة وجثمة ونومة ولكنة ولجنة وأشباه ذلك فالغالب على هذه اللفظة أن تكون حسنة وهذا أخذته بالاستقراء وفي اللغة مواضع كثيرة هكذا لا يمكن استقصاؤها
فانظر إلى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ وعليك أن تتفقد أمثال هذه المواضع لتعمل كيف تضع يدك في استعمالها فكثيرا ما يقع فحول الشعراء والخطباء في مثلها ومؤلف الكلام من كاتب وشاعر إذا مرت به ألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح فما يجد الحسن منها مجموعا جمعه وكذلك يجري الحكم فيما سوى ذلك من الألفاظ

النوع السابع في المعاظلة اللفظية
والمعاظلة معاظلتان لفظية ومعنوية
أما المعنوية فسيأتي ذكرها في باب التقديم والتأخير ومن المقالة الثانية فليؤخذ من هناك
وأما المعاظلة اللفظية وهي المخصوصة بالذكر ههنا في باب صناعة الألفاظ وحقيقتها مأخوذة من قولهم تعاظلت الجرادتان إذا ركبت إحداهما الأخرى فسمي الكلام المتراكب في ألفاظه أو في معانيه المعاظلة مأخوذا من ذلك وهو اسم لائق بمسماه
ووصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه زهير بن أبي سلمى فقال كان لا يعاظل بين الكلام
وقد اختلف علماء البيان في حقيقة المعاظلة
فقال قدامة بن جعفر الكاتب التعاظل في الكلام هو أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه ولا أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة كقول أوس بن حجر
( وَذَاتِ هِدْمٍ عَار نَوَاشِرُهَا ... تُصْمِتُ بِالْمَاءِ تَوْلِباً جَدِعَا )

فسمي الظبي تولبا والتولب ولد الحمار
هذا ما ذكره قدامة بن جعفر وهو خطأ إذ لو كان ما ذهب إليه صوابا لكانت حقيقة المعاظلة دخول الكلام فيما ليس من جنسه وليست حقيقتها هذه بل حقيقتها ما تقدم وهو التراكب من قولهم تعاظلت الجرادتان إذا ركبت إحداهما الأخرى وهذا المثال الذي مثل به قدامة لا تركب في ألفاظه ولا في معانيه
وأما غير قدامة فإنه خالفه فيما ذهب إليه إلا أنه لم يقسم المعاظلة إلى لفظية ومعنوية ولكنه ضرب لها مثالا كقول الفرزدق
( وَمَا مِثْلُهُ في النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً ... أَبُو أمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ )
وهذا من القسم المعنوي لا من القسم اللفظي ألا ترى إلى تراكب معانيه بتقديم ما كان يجب تأخيره وتأخير ما كان يجب تقديمه لأن الأصل في معناه وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه وسيجيء شرح ذلك مستوفى في بابه من المقالة الثانية إن شاء الله تعالى
وإذ حققت القول في بيان المعاظلة والكشف عن حقيقتها فإني أتبع ذلك بتقسيم القسم اللفظي منها الذي أنا بصدد ذكره ههنا فأقول
إني تأملته بالاستقراء من الأشعار قديمها ومحدثها ومن النظر في حقيقتها نفسها فوجدتها تنقسم إلى خمسة أقسام
الأول منها يختص بأدوات الكلام نحو من وإلى وعن وعلى وأشباهها فإن منها ما يسهل النطق به إذا ورد مع أخواته ومنها ما لا يسهل بل يرد ثقيلا على اللسان ولكل موضع يخصه من السبك

فمما جاء منه قول أبي تمام
( إِلَى خَالِدٍ رَاحَتْ بِنَا أَرْحَبِيَّةٌ ... مَرَافِقُهَا مِنْ عَنْ كَرَاكِرِهَا نُكْبُ )
فقوله من عن كراكرها من الكلام المتعاظل الذي يثقل النطق به على أنه قد وردت هاتان اللفظتان وهما من وعن في موضع آخر فلم يثقل النطق بهما كقول القائل من عن يمين الطريق والسبب في ذلك أنهما وردتا في بيت أبي تمام مضافتين إلى لفظة الكراكر فثقلت منهما وجعلتهما مكروهتين كما ترى وإلا فقد وردتا في شعر قطري بن الفجاءة فكانتا خفيفتين كقوله
( وَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً ... مِنْ عَنْ يَمِينِي مَرَّةً وَأَمَامِي )
والأصل في ذلك راجع إلى السبك فإذا سبكت هاتان اللفظتان أو ما يجري مجراهما مع ألفاظ تسهل منهما لم يكن بهما من ثقل كما جاءتا في بيت قطري إذا سبكتا مع ألفاظ تثقل منهما جاءتا كما جاءتا في بيت أبي تمام
ومن هذا القسم قول أبي تمام أيضا
( كَأَنَّه لاجْتِمَاعِ الرُّوحِ فيهِ لَهُ ... فِي كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْ جِسْمِهِ رُوحُ )
فقوله في بعد قوله فيه له مما لا يحسن وروده

وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي
( وَتُسْعِدُنِي فِي غَمْرَةٍ بَعْدَ غَمْرَةٍ ... سَبُوحٌ لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شَوَاهِدُ )
فقوله لها منها عليها من الثقيل الثقيل الثقيل
وكذلك قوله
( تَبِيتُ وُفُودُهُمْ تَسْرِي إِلَيْهِ ... وَجَدْوَاهُ الَّتِي سأَلُوا اغْتِفَارُ )
( فَخَلَّفهُمْ بِرَدِّ الْبِيضِ عَنْهُمْ ... وَهَامُهُمْ لَهُ مَعَهُمْ مُعَارُ )
وقوله وهامهم له معهم مما يثقل النطق به ويتعثر اللسان فيه لكنه أقرب حالا من الأول
ومن الحسن في هذا الموضع قول أبي تمام
( دَارٌ أُجِلُّ الْهَوَى عَنْ أَنْ أُلِمَّ بِهَا ... فِي الرَّكْبِ إِلاَّ وَعَيْنِي مِنْ مَنَائِحِهَا )
فقوله عن أن في هذا البيت من الخفيف الحسن الذي لا بأس به
القسم الثاني من المعاظلة اللفظية تختص بتكرير الحروف وليس ذلك مما يتعلق بتكرير الألفاظ ولا بتكرير المعاني مما يأتي ذكره في باب التكرير في المقالة الثانية وإنما هو تكرير حرف واحد أو حرفين في كل لفظة من ألفاظ الكلام المنثور أو المنظوم فيثقل حينئذ النطق به
فمن ذلك قول بعضهم

( وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكانٍ قَفْرِ ... وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْر )
فهذه القافات والراآت كأنها في تتابعها سلسلة ولا خفاء بما في ذلك من الثقل
وكذا ورد قول الحريري في مقاماته
( وَازْوَرَّ مَنْ كَانَ لَهُ زَائِراً ... وَعَافَ عَافِي الْعُرْفِ عِرْفَانَهُ )
فقوله وعاف عافى العرف عرفانه من التكرير المشار إليه
وكذلك ورد قوله أيضا في رسالتيه اللتين صاغهما على حرف السين والشين فإنه أتى في إحداهما بالسين في كل لفظة من ألفاظها وأتى في الأخرى بالشين في كل لفظة من ألفاظها فجاءتا كأنهما رقى العقارب أو خذروفة العزائم وما أعلم كيف خفي ما فيهما من القبح على مثل الحريري مع معرفته بالجيد والرديء من الكلام
ويحكى عن بعض الوعاظ أنه قال في جملة كلام أورده جنى جنات وجنات الحبيب فصاح رجل من الحاضرين في المجلس وماد وتغاشى فقال له رجل كان إلى جانبه ما الذي سمعت حتى حدث بك هذا فقال سمعت جيما في جيم في جيم فصحت
وهذا من أقبح عيوب الألفاظ
ومما جاء منه قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته التي مطلعها
( أَتُرَاهَا لِكُثْرَةِ الْعُشَّاقِ ... )
( كَيْفَ تَرْثِي الَّتِي تَرَى كُلَّ جَفْنٍ ... رَاءَهَا غَيْرَ جَفْنِهَا غَيْرَ رَاقِي )

وهذا وأمثاله إنما يعرض لقائله في نوبة الصرع التي تنوب في بعض الأيام
ومن هذا القسم قول الشاعر المعروف بكشاجم في قصيدته التي مطلعها
( دَاوِ خُمَارِي بِكَأْسِ خَمْرِ ... )
( وَالزَّهْرُ وَالْقَطْرُ فِي رُبَاهَا ... مَا بَيْنَ نَظْمٍ وَبَيْنَ نَثْرِ )
( حَدَائِقٌ كَفُّ كُلِّ رِيحٍ ... حَلَّ بِهَا خَيْطُ كُلِّ قَطْرِ )
وهذا البيت يحتاج الناطق به إلى بركار يضعه في شدقه حتى يديره له
وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم وهو البيت المشهور الذي يتذاكره الناس
( مَلِلْتُ مَطَالَ مَوْلٌودٍ مُفَدًّى ... مَلِيحٍ مَانِعٍ مِنِّي مُرَادِي )
وهذه الميمات كأنها عقد متصلة بعضها ببعض
وكان بعض أهل الأدب من أهل مصرنا هذا يستعمل هذا القسم في ألفاظه كثيرا في كلامه نثرا ونظما وذلك لعدم معرفته بسلوك الطريق
وأنا أذكر نبذة من ذلك كقوله في وصف رجل سخي أنت المديح كبدا تريح والمليح إن تجهم المليح بالتكليح عند سائل تلوح بل يفوق إذ يروق مرأى لوح يا مغبوق كأس الحمد يا مصبوح ضاق عن نداك اللوح وببابك المفتوح تستريح وتريح ذا التبريح وترفه الطليح

فانظر إلى حرف الحاء كيف قد لزمه في كل لفظة من هذه الألفاظ فجاءكما تراءه من الثقل والغثاثة
واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم وذاك أنه إذا تكرر الحرف عندهم أدغموه استحسانا فقالوا في جعل لك جعلك وفي تضربونني تضربوني وكذلك قالوا استعد فلان للأمر فإذا تأهب له والأصل فيه استعدد واستتب الأمر إذا تهيأ والأصل فيه استتبب وأشباه ذلك كثير في كلامهم حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا أحد الحرفين المكررين حرفا آخر غيره فقالوا أمليت الكتاب والأصل فيه أمللت فأبدلوا اللام ياء طلبا للخفة وفرارا من الثقل وإذا كان قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة فما ظنك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضا
القسم الثالث من المعاظلة أن ترد ألفاظ على صيغة الفعل يتبع بعضها بعضا فمنها ما يختلف بين ماض ومستقبل ومنها ما لا يختلف
فالأول كقول القاضي الأرجاني في أبيات يصف فيها الشمعة وفيها معنى هو له مبتدع ولم يسمع من غيره وذلك أنه قال عن لسان الشمع إنه ألف العسل وهو أخوه الذي ربي معه في بيت واحد وإن النار فرقت بينه وبينه وإنه نذر أن يقتل نفسه بالنار أيضا من ألم الفراق إلا أنه أساء العبارة فقال
( بِالنَّارِ فَرَّقَتِ الحَوَادِثُ بَيْنَنا ... وَبِهَا نَذَرْتُ أعُودُ أقتُلُ رُوحِي )

فقوله ندرت أعود أقتل من المعاظلة المشار إليها
وأما ما يرد على نهج واحد من الصيغة الفعلية فكقول أبي الطيب المتنبي
( أقِلْ أَنِلْ اقْطِع احْمِلْ عَلِّ سلِّ أعِدْ ... زِدْ هَشَّ بَشَّ تَقَضَّلْ أَدْنِ سُرَّصِلِ )
فهذه ألفاظ جاءت على صيغة واحدة وهي صيغة الأمر كأنه قال افعل افعل هكذا إلى آخر البيت وهذا تكرير للصيغة وإن لم يكن تكريرا للحروف إلا أنه أخوه ولا أقول ابن عمه وهذه ألفاظ متراكبة متداخلة ولو عطفها بالواو لكانت أقرب حالا كما قال عبد السلام بن رغبان
( فَسَدَ النَّاسُ فاطْلُبِ الرِّزْقَ بالسَّيْفِ وَإِلاَّ فًمُتْ شَدِيدَ الهُزَالِ ... )
( احْلُ وَامْرُرْ وَضُرَّ وَانْفَعْ وَلِنْ وَاخْشُنْ وَأبْرِرْ ثُمَّ انْتَدِبْ لِلْمَعَالِي ... )

ألا ترى أنه لما عطف ههنا بالواو لم تتراكب الألفاظ كتراكبها في بيت أبي الطيب المتقدم ذكره
فإن قيل إنك جعلت ما كان واردا على صيغة واحدة على سبيل التكرار معاظلة وقد ورد ذلك في القرآن الكريم كقوله تعالى ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) ولو كان معاظلة لما ورد في القرآن الكريم مثله
فالجواب عن ذلك أني أقول هذه الآية ليست كالذي أنكرته فإن هذا الموضع ينظر فيه إلى الكثير والقليل فإذا كثر كان تعاظلا لتراكبه وثقله على النطق وقد عرفتك أن ما يفصل بين صيغة بواو العطف يكون أقل ثقلا مما لا يفصل والذي أنكرته من ذلك هو أن تأتي ألفاظ مكررة على صيغة واحدة كأنها عقد متصلة فحينئذ يثقل المنطق بها ويكره موقعها من السمع كبيت أبي الطيب المتنبي وأما هذه الآية المشار إليها فإنها خارجة عن هذا الحكم ألا ترى أنها لما وردت ألفاظها على صيغة واحدة فرق بينها بواو العطب ثم مع التفريق بينهما بواو العطف لم يرد التكرير فيها إلا بين ثنتين وهما ( خذوهم واحصروهم ) وأما الصيغة الأولى فإنها أضيف إليها كلام آخر فقيل ( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ولم يقل اقتلوا المشركين وخذوهم ثم لما جاءت الصيغة الرابعة أضيف إليها كلام آخر أيضا فقيل ( واقعدوا لهم كل مرصد ) لا جرم أن الآية جاءت غير ثقيلة على النطق مع توارد صيغة الأمر فيها أربع مرار وهذه رموز ينبغي أن يتنبه لها في استعمال الألفاظ إذا جاءت هكذا
القسم الرابع من المعاظلة وهو الذي يتضمن مضافات كثيرة كقولهم سرج فرس غلام زيد وإن زيد على ذلك قيل لبد سرج فرس غلام زيد وهذا أشد قبحا وأثقل على اللسان وعليه ورد قول ابن بابك الشاعر في مفتتح قصيدة له
( حَمَامَةَ جَرْعَا حَوْمَةِ الْجَنْدَلِ اسْجَعِي ... فأَنْتِ بِمَرْأَى مِنْ سُعَادَ وَمَسْمَعِ )

القسم الخامس من المعاظلة أن ترد صفات متعددة على نحو واحد كقول أبي تمام في قصيدته التي مطلعها
( مَا لِكَثِيبِ الْحِمَى إِلَى عقدِهْ ... )
فقال يصف جملا
( سَأخْرِقُ الْخَرْقِ بِابْنِ خَرْقَاءَ كَالهَيْقِ ... إِذَا مَا اسْتَحَمَّ مِنْ نَجَدِهْ )
( مُقَابَلٌ فِي الْجَدِيلِ صُلْبُ الْقَرَا ... لَوْحُكَّ مِنْ عَجْبِهِ إِلَى كَتَدِهْ )
( تَامِكِهِ نَهْدِهِ مُدَاخَلِهِ ... مَلْمُومِهِ مُحْزَئِلِّهِ أُجُدِهْ )
فالبيت الثالث من المعاظلة التي قلع الأسنان دون إيرادها
وكذلك قال من هذه القصيدة يصف رمحا
( وَمَرَّ تَهْفُوا ذُؤَابَتاهُ عَلَى ... أسْمَرِ مَتْنٍ يَوْمَ الْوَغَى جَسِدِهْ )

( مَارِنِهِ لَدْنِهِ مُثَقَّفهِ ... عَرَّاصِهِ في الأَكُفِّ مُطَّرِدِهِ )
وهذا كالأول في قبحه وثقله فقاتله الله ما أمتن شعره وما أسخفه في بعض الأحوال
وعلى هذا جاء من هذه القصيدة أيضا يصف الممدوح
( إِلَيْكَ عَنْ سَيْلِ عَارِضٍ خَضِلِ ... الشُّؤْبُوبِ يَأْتِي الْحِمَامُ مِنْ نَضَدِهْ )
( مُسِفِّهِ ثَرِّهِ مُسَحْسِحِهِ ... وَابِلِهِ مُسْتَهَلِّهِ جَرَدِهْ )
ولو لم يكن لأبي تمام من القبيح الشنيع إلا هذه الأبيات لحطت من قدره
وعلى هذا ورد قول أبي الطيب المتنبي
( دَانٍ بَعِيدٍ مُحِب مُبْغِضٍ بَهِجٍ ... أغَرَّ حُلْو مُمِرٍّ ليِّنٍ شَرِس )

( نَدٍ أَبِيٍّ غَرٍ وَافٍ أَخِي ثِقَةٍ ... جَعْدٍ سَرِيٍّ نَدْبٍ رِضًى نَدُسِ )
وهذا كأنه سلسلة بلا شك وقليلا ما يوجد في أشعار الشعراء ولم أجده كثيرا إلا في شعر الفرزدق وتلك معاظلة معنوية وسيأتي بيانها في بابها وهذه معاظلة لفظية وهي توجد في شعر أبي الطيب كثيرا

النوع الثامن
في المنافرة بين الألفاظ في السبك
وهذا النوع لم يحقق أحد من علماء البيان القول فيه وغاية ما يقال إنه ينبغي ألا تكون الألفاظ نافرة عن مواضعها ثم يكتفي بها القول من غير بيان ولا تفصيل حتى إنه قد خلط هذا النوع بالمعاظلة وكل منهما نوع مفرد برأسه له حقيقيه تخصه إلا أنهما قد اشتبها على علماء البيان فكيف على جاهل لا يعلم
وقد بينت هذا النوع وفصلته عن المعاظلة وضربت له أمثلة يستدل بها على أخواتها وما يجري مجراها
وجملة الأمر أن مدار سبك الألفاظ على هذا النوع والذي قبله دون غيرهما من تلك الأنواع المذكورة لأن هذين النوعين أصلا سبك الألفاظ وما عداهما فرع عليهما وإذا لم يكن الناثر أو الناظم عارفا بهما فإن مقاتله تبدو كثيرا
وحقيقة هذا النوع الذي هو المنافرة أن يذكر لفظ أو ألفاظ يكون غيرها مما هو في معناها أولى بالذكر

وعلى هذا فإن الفرق بينه وبين المعاظلة أن المعاظلة هي التراكب والتداخل إما في الألفاظ أو في المعاني على ما أشرت إليه وهذا النوع لا تراكب فيه وإنما هو إيراد ألفاظ غير لائقة بموضعها الذي ترد فيه
وهو ينقسم قسمين أحدها يوجد في اللفظة الواحدة والآخر في الألفاظ المتعددة
فأما الذي يوجد في اللفظة الواحدة فإنه إذا أورد في الكلام أمكن تبديله بغيره مما هو في معناه سواء كان ذلك نثرا أو نظما
وأما الذي يوجد في الألفاظ المتعددة فإنه لا يمكن تبديله بغيره في الشعر بل يمكن ذلك في النثر خاصة لأنه يعسر في الشعر من أجل الوزن
فمما جاء من القسم الأول قول أبي الطيب المتنبي
( فَلاَ يُبْرَمُ الأَمْرُ الَّذِي هُوَ حَالِلٌ ... وَلاَ يُحْلَلُ الأَمْرُ الَّذِي هُوَ يُبْرِمُ )
فلفظة حالل نافرة عن موضعها وكانت له مندوحة عنها لأنه لو استعمل عوضا عنها لفظة ناقض فقال
( فَلاَ يُبْرَمُ الأَمْرُ الَّذي هُوَ ناقِضٌ ... وَلاَ يُنْقَضُ الأَمْرُ الَّذي هُوَ يُبْرِم )
لجاءت اللفظة قارة في مكانها غير قلقة ولا نافرة
وبلغني عن أبي العلاء بن سليمان المعري أنه كان يتعصب لأبي الطيب حتى إنه كان يسميه الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه وكان يقول ليس في شعره لفظة يمكن أن يقوم عنها ما هو في معناها فيجيء حسنا مثلها فيا ليت شعري أما وقف على هذا البيت المشار إليه لكن الهوى كما يقال أعمى وكان أبو العلاء أعمى العين خلقة وأعماها عصبية فاجتمع له العمى من جهتين

وهذه اللفظة التي هي حالل وما يجري مجراها قبيحة الاستعمال وهي فك الإدغام في الفعل الثلاثي ونقله إلى اسم الفاعل وعلى هذا فلا يحسن أن يقال بل الثوب فهو بالل ولا سل السيف فهو سالل ولا أن يقال هم بالأمر فهو هامم ولا خط الكتاب فهو خاطط ولا حن إلى كذا فهو حانن وهذا لو عرض على من لا ذوق له لأدركه وفهمه فكيف من له ذوق صحيح كأبي الطيب لكن لا بد لكل جواد من كبوة
وأنشد بعض الأدباء بيتا لدعبل وهو
( شَفِيْعَكَ فَاشكُرْ في الْحَوَائِجِ إِنَّهُ ... يَصُونُكَ عَنْ مَكْرُوهِهَا وَهْوَ يخْلقُ )
فقلت له عجز هذا البيت حسن وأما صدره فقبيح لأنه سبكه قلقا نافرا وتلك الفاء التي في قوله شفيك فاشكر كأنها ركبة البعير وهي في زيادتها كزيادة الكرش فقال لهذه الفاء في كتاب الله أشباه كقوله تعالى ( يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر ) فقلت له بين هذه الفاء وتلك الفاء فرق ظاهر يدرك بالعلم أولا وبالذوق ثانيا أما العلم فإن الفاء في ( وربك فكبر وثيابك فطهر ) هي الفاء العاطفة فإنها واردة بعد ( قم فأنذر ) وهي مثل قولك امش فأسرع وقل فأبلغ وليست الفاء التي في شفيعك فاشكر كهذه الفاء لأن تلك زائدة لا موضع لها ولو جاءت في السورة كما جاءت دعبل وحاش لله من ذلك لابتدئ الكلام فقيل ربك فكبر وثيابك فطهر لكنها ما جاءت بعد ( قم فأنذر ) حسن ذكرها فيما يأتي بعدها ( وربك فكبر وثيابك فطهر ) وأما الذوق فإنه ينبوا عن الفاء الواردة في قول دعبل ويستثقلها ولا يوحد ذلك في الفاء الواردة في السورة فلما سمع ما ذكرته أذعن بالتسليم
ومثل هذه الدقائق التي ترد في الكلام نظما كان أو نثرا لا يتفطن لها إلا الراسخ في علم الفصاحة والبلاغة
ومن هذا القسم وصل همزة القطع وهو محسوب من جائزات الشعر التي لا تجوز في الكلام المنثور وكذلك قطع همزة الوصل لكن وصل همزة القطع أقبح لأنه أثقل على اللسان

فمما ورد من ذلك قول أبي تمام
( قَرَاني اللُّهَا وَالْوُدَّ حَتَّى كَأَنَّمَا ... أَفَادَ الْغِنَى مِنْ نَائِلِي وَفَوَائِدِي )
( فأَصْبَحَ يَلْقَانِي الزَّمَانُ مِنَ آجْلِهِ ... بإِعْظَامِ مَوْلُودٍ وَرَأْفَةِ وَالِدِ )
فقوله من آجله وصل الهمزة القطع
وعليه ورد قول أبي الطيب المتنبي
( تُوَسِّطُهُ الْمَفَاوِزَ كُلَّ يَوْمٍ ... طِلاَبُ الطَّالِبِينَ لاَ الانْتِظَارُ )
فقوله لا الانتظار كلام نافر عن موضعه
ومن هذا القسم أن يفرق بين الموصوف والصفة بضمير من تقدم ذكره كقول البحتري
( حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ يَوْمَ التَّفَرُّقِ ... وَبَالْوَجْدِ مِنْ قَلْبِي بِهَا المُتَعَلِّقِ )
تقديره من قلبي المتعلق بها فلما فصل بين الموصوف الذي هو قلبي والصفة التي هي المتعلق بالضمير الذي هو بها قبح ذلك ولو كان قال من قلب بها متعلق لزال ذلك القبح وذهبت تلك الهجنة

ومن هذا القسم أيضا أن تزاد الألف واللام في اسم الفاعل ويقام الضمير فيه مقام المفعول كقول أبي تمام
( فَلَوْ عَايَنْتَهُمْ وَالزَّائِرِيهِمْ ... لَمَا مِزْتَ الْبَعِيدَ مِنَ الْحَمِيمِ )
فقوله الزائري اسم فاعل وقوله هم الذي هو الضمير في موضع المفعول تقديره الزائرين أرضهم أو دارهم أو الزائرين إياهم فاستعمال هذا مع الألف واللام قبيح جدا وإذا حذفنا زال ذلك القبح وقد استعملها الشعراء المتقدمين كثيرا
ومما جاء من القسم الثاني الذي يوجد في الألفاظ المتعددة قول أبي الطيب أيضا
( لاَ خَلْقَ أَكْرَمُ مِنْكَ إِلاَّ عَارِفٌ ... بِكَ رَاءَ نَفْسَكَ لَمْ يَقُلْ لَكَ هَاتِهَا )
فإن عجز هذا البيت نافر عن مواضعه وأمثال هذا في الأشعار كثير

المقالة الثانية
في الصناعة المعنوية
وهي تنقسم إلى قسمين الأول منها في الكلام على المعاني مجملا والثاني في الكلام عليها مفصلا
وقبل الكلام على ذلك لا بد من توطئة تكون شاملة لما نحن بصدد ذكره ههنا فأقول
اعلم أن المعاني الخطابية قد حصرت أصولها وأول من تكلم في ذلك حكماء اليونان غير أن ذلك الحصر كلي لا جزئي ومحال أن تحصر جزئيات المعاني وما يتفرع عليها من التفريعات التي لا نهاية لها لا جرم أن ذلك الحصر لا يستفيد بمعرفته صاحب هذا العلم ولا يفتقر إليه فإن البدوي البادي راعي الإبل ما كان يمر شيء من ذلك بفهمه ولا يخطر بباله ومع هذا فإنه كان يأتي بالسحر الحلال إن قال شعرا أو تكلم نثرا
فإن قيل إن ذلك البدوي كان له ذلك طبعا وخليقة والله فطره عليه كما فطر ضروب نوع الآدمي على فطر مختلفة هي لهم في أصل الخلقة فإنه فطر الترك على الإحسان في الرمي والإصابة فيه من غير تعليم وكذلك فطر أهل الصين على الإحسان في صنعة اليد فيما يباشرونه من مصوغ أو خشب أو فخار أو غير ذلك وكذلك فطر أهل المغرب على الشجاعة وهذا لا نزاع فيه فإنه مشاهد
فالجواب عن ذلك أني أقول إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة فماذا تقول فيمن جاء بعدهم من شاعر وخطيب تحضروا وسكنوا البلاد ولم يروا البادية ولا خلقوا بها وقد أجادوا في تأليف النظم والشعر وجاءوا بمعان كثيرة ما جاءت في شعر العرب ولا نطقوا بها
فإن قلت إن هؤلاء وقفوا على ما ذكره علماء اليونان وتعلموا منه

قلت لك في الجواب هذا شيء لم يكن ولا علم أبو نواس شيئا منه ولا مسلم بن الوليد ولا أبو تمام ولا البحتري ولا أبو الطيب المتنبي ولا غيرهم وكذلك جرى الحكم في أهل الكتابة كعبد الحميد وابن العميد والصابي وغيرهم فإن ادعيت أن هؤلاء تعلموا ذلك من كتب علماء اليونان قلت لك في الجواب هذا باطل بي أنا فإني لم أعلم شيئا مما ذكره حكماء اليونان ولا عرفته ومع هذا فانظر إلى كلامي فقد أوردت لك نبذة منه في هذا الكتاب وإذا وقفت على رسائلي ومكاتباتي وهي عدة مجلدات وعرفت أني لم أتعرض لشيء مما ذكره حكماء اليونان في حصر المعاني علمت حينئذ أن صاحب هذا العلم من النظم والنثر بنجوة من ذلك كله وأنه لا يحتاج إليه أبدا وفي كتابي هذا ما يغنيك وهو كاف
ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا وانساق الكلام إلى شيء ذكر لأبي علي بن سنا في الخطابة والشعر وذكر ضربا من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي ووقفني على ما ذكره فلما وقفت عليه استجهلته فإنه طول فيه وعرض كأنه يخاطب بعض اليونان وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد به صاحب الكلام العربي شيئا ثم مع هذا جميعه فإن معول القوم فيما يذكر من الكلام الخطابي أنه يورد على مقدمتين ونتيجة وهذا مما لم يخطر لأبي علي بن سينا ببال فما صاغه من شعر أو كلام مسجوع فإن له شيئا من ذلك في كلامه وعند إفاضته في صوغ ما صاغه لم تخطر المقدمتان والنتيجة له ببال ولو أنه أفكر أولا في المقدمتين والنتيجة ثم أتى بنظم أو نثر بعد ذلك لما أتى بشيء ينتفع به ولطال الخطب عليه بل أقول شيئا آخر وهو أن اليونان أنفسهم لما نظموا ما نظموه من أشعارهم لم ينظموه في وقت نظمه وعندهم فكرة في مقدمتين ولا نتيجة وإنما هذه أوضاع توضع ويطول بها مصنفات كتبهم في الخطابة والشعر وهي كما يقال فقاقع ليس لها طائل كأنها شعر الأبيوردي
وحيث أوردت هذه المقدمة قبل الخوض في تقسيم المعاني فإني راجع إلى شرح ما أجملته فأقول

أما القسم الأول فإن المعاني فيه على ضربين أحدهما يبتدعه مؤلف الكلام من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه وهذا الضرب ربما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة ويتنبه له عند الأمور الطارئة ولنشر في هذا الموضع إلى نبذة لتكون مثالا للمتوشح لهذه الصناعة
فمن ذلك ما ورد في شعر أبي تمام في وصف مصلبين
( بَكَرُوا وَأَسْرَوْا فِي مُتُونِ ضَوَامِرٍ ... قِيدَتْ لَهُمْ مِنْ مَرْبِطِ النَّجَّارِ )
( لاَ يَبْرَحُونَ وَمَنْ رَآهُمْ خَالَهُمْ ... أَبَداً عَلَى سَفَرٍ مِنَ الأَسْفَارِ )
وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة والخاطر في مثل هذا المقام ينساق إلى المعنى المخترع من غير كبير كلفة لشاهد الحال الحاضرة
وكذلك قال في هذه القصيدة في صفة من أحرق بالنار
( مَا زَالَ سِرُّ الْكُفْرِ بَيْنَ ضُلُوعِهِ ... حَتَّى اصْطَلَى سِرَّ الزِّنَادِ الْوَارِي )
( نَاراً يُسَاوِرُ جِسْمَهُ مِنْ حَرِّهَا ... لَهَبٌ كَمَا عَصْفَرْتَ شِقَّ إِزَارِ )
( طَارَتْ لَهَا شُعَلٌ يُهَدِّمُ لَفْحُهَا ... أَرْكَانَهُ هَدْماً بِغَيْرِ غُبَارِ )
( فَصَّلْنَ مَنْهُ كُلَّ مَجْمَعِ مَفْصَلٍ ... وَفَعَلْنَ فَاقِرَةً بِكُلِّ فِقَارِ )
( مَشْبُوبَةً رُفِعَتْ لأَعْظَمِ مُشْرِكٍ ... مَا كَانَ يُرْفَعُ ضَوءُهَا لِلسَّارِي )
( صَلَّى لَهَا حَيًّا وَكَانَ وَقُودَهَا ... مَيْتاً وَيَدْخُلُهَا مَعَ الْفُجَّارِ )
وهذا مما يعين على استخراج المعاني في شاهد الحال
وقد ذيل البحتري على ما ذكره أبو تمام في وصف المصلبين فقال
( كَمْ عَزِيزٍ أَبَادَهُ فَغَدا يَرْكَبُ ... عُوداً مُرَكَّباً فِي عُودِ )

( أسْلَمَتْهُ إِلَى الرُّقَادِ رِجَالٌ ... لَمْ يَكُونُوا عَنْ وِتْرِهِمْ بِرُقُودِ )
( تَحْسُدُ الطَّيْرُ فِيهِ ضَبْعَ الْبَوَادِي ... وَهْوَ في غَيْرِ حَالَةِ المَحْسُودِ )
( غَابَ عَنْ صَحْبِهِ فَلاَ هُوَ مَوْجُودُ ... لَدَيْهِمْ وَلَيْسَ بِالْمَفْقُودِ )
وَكَأَنَّ امْتِدَادَ كَفَّيْهِ فَوْقَ الْجِذْعِ ... في مَحْفِلِ الرَّدَى المَشْهُودِ )
( طَائِرٌ مَدَّ مُسْتَرِيحاً جَنَاحَيْهِ ... اسْتِرَاحَاتِ مَتْعَبٍ مِكْدُودِ )
( أَخْطَبُ النَّاسِ رَاكِباً فَإِذَا أُرْجِلَ ... خَاطَبْتَ مِنْهُ عَيْنَ الْبَلِيدِ )
وهذه أبيات حسنة قد استوعبت أقسام هذا المعنى المقصود إلا أن فيها مأخوذا من شعر مسلم بن الوليد الأنصاري وهو قوله
( نَصَبْتُهُ حَيْثُ ترْتَابُ الرِّيَاحُ بِهِ ... وَتَحْسُدُ الطَّيْرُ فِيهِ أَضْبُعَ الْبِيدِ )
لكن البحتري زاد في ذلك زيادة حسنة وهي قوله ( وهو في غير حالة المحسود ... )
ومن هذا الضرب ما جاء في شعر أبي الطيب المتنبي في وصفه الحمى وهو قوله
( وَزَائِرَتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً ... فَلَيْسَ تَزُورُ إِلاَّ فِي الظَّلاَمِ )
( بَذَلْتُ لَهَا المَطَارفَ وَالْحَشَايَا ... فَعَافَتْهَا وَبَاتَتْ في عِظَامِي )

( كَأَنَّ الصُّبْحَ يَطْرُدُهَا فَتَجْرِي ... مَدَامِعُها بِأَرْبَعَةٍ سِجَامِ )
( أَرَاقِبُ وَقْتَهَا مِنْ غَيْرِ شَوْقٍ ... مُرَاقَبَةَ الْمَشُوقِ المُسْتَهَام )
وقد شرح أبو الطيب بهذه الأبيات حاله مع الحمى
ومن بديع ما أتى به في هذا الموضع أن سيف الدولة بن حمدان كان مخيما بأرض ديار بكر على مدينة ميافارقين فعصفت الريح بخيمته فتطير الناس لذلك وقالوا فيه أقوالا فمدحه أبو الطيب بقصيدة يعتذر فيها عن سقوط الخيمة أولها
( أَيَنْفَعُ فِي الْخَيْمَةِ الْعُذَّلُ ... )
فمنه ما أحسن فيه كل الإحسان وهو قوله
( تَضِيقُ بِشَخْصِكَ أَرْجَاؤُها ... وَيَرْكُضُ في الْوَاحِدِ الْجَحْفَلِ )
( وَتَقْصُرُ مَا كُنْتَ في جَوْفِهَا ... وَتُرْكَزُ فِيهَا الْقَنَا الذُّبَّلُ )
( وَكَيْفَ تَقُومُ عَلَى رَاحَةٍ ... كأَنَّ الْبِحَارَ لَهَا أَنْمُلُ )
( فَلَيْتَ وَقَارَكَ فَرَّقْتَهُ ... وَحَمَّلْتَ أَرْضَكَ مَا تَحْمِلُ )
( فَصَارَ الأَنَامُ بِهِ سَادَةً ... وَسُدْتَهُمُ بِالَّذِي يَفْضُلُ )
( رَأَتْ لَوْنَ نُورِكَ في لَوْنِهَا ... كَلَوْنِ الْغَزَالَةِ لاَ يُغْسَلُ )
( وَأَنَّ لَهَا شَرَفاً بَاذِخاً ... وَأنَّ الْخِيَامَ بِهَا تَخْجَلُ )
( فَلاَ تُنْكِرَنَّ لَهَا صَرْعَةً ... فَمِنْ فَرَحِ النَّفْسِ مَا يَقْتُلُ )
( وَلَوْ بُلِّغَ النَّاسُ مَا بُلِّغَتْ ... لَخَانَتْهُمُ حَوْلَكَ الأَرْجُلُ )
( وَلَمَّا أمَرْتَ بِتَطْنِيبِهَا ... أُشِيعَ بِأَنَّكَ لاَ تَرْحَلُ )
( فَمَا اعْتَمَدَ اللَّهُ تَقْوِيضَهَا ... وَلكِنْ أشَارَ بِمَا تَفْعَلُ )
( وَعَرَّفَ أنَّكَ مِنْ هَمِّهِ ... وَأَنَّكَ فِي نَصْرِهِ تَرْفُلُ )

( فَمَا الْعَانِدُونَ وَمَا أَمَّلُوا ... وَمَا الْحَاسِدُونَ وَمَا قَوّلُوا )
( هُمُ يَطْلُبُونَ فَمَنْ أَدْرَكُوا ... وَهُمْ يَكْذِبُونَ فَمَنْ يَقْبَلُ )
( وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَشْتَهُونَ ... وَمِنْ دُونِهِ جَدُّكَ الْمُقْبِلُ )
هذه الأبيات قد اشتملت على معان بديعة وكفى المتنبي فضلا أن يأتي بمثلها وهذا مقام يظهر في مثله براعة الناظم والناثر
وقرأت في كتاب الروضة لأبي العباس المبرد وهو كتاب جمعه واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيه بأبي نواس ثم بمن كان في زمانه وانسحب على ذيله فقال فيما أورده من شعره وله معنى لم يسبق إليه بإجماع وهو قوله
( تُدَارُ عَلَيْنَا الرَّاحُ في عَسْجَدِيَّةٍ ... حَبَتْهَا بأَنْوَاعِ التَّصَاوِيرِ فَارِسُ )
( قَرَارَتُهَا كِسْرَى وَفِي جَنَبَاتِهَا ... مَهَاً تَدَّرِيهَا بِالْقِسِيِّ الْفَوَارِسُ )
( فَلِلرَّاحِ مَا زُرَّتَ عَلَيْهِ جُيُوبُهَا ... وَلِلْمَاءمِا دَارَتْ عَلَيْهِ الْقَلاَنِسُ )
وقد أكثر العلماء في وصف هذا المعنى وقولهم فيه إنه معنى مبتدع
ويحكى عن الجاحظ أنه قال ما زال الشعراء يتناقلون المعنى قديما وحديثا إلا هذا المعنى فإن أبا نواس انفرد بإبداعه وما أعلم أنا ما أقول لها ولأبي سوى أن أقول قد تجاوز بهم حد الإكثار ومن الأمثال السائرة بدون هذا يباع الحمار وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة لا هذا المعنى فإنه لا كبير كلفة فيه لأن أبا نوس رأى كأسا من الذهب ذات تصاوير فحكاها في شعره والذي عندي في هذا أنه من المعاني المشاهدة فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء

يسيرا وكانت تستغرق صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها وكان الماء فيها قليلا بقدر القلانس التي على رءوسها وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر
وكذلك ورد قوله في الخمر أيضا
( يَا شَقِيقَ النَّفْسِ مِنْ حَكَمِ ... نِمْتَ عَنْ لَيْلِي وَلَمْ تُنِمِ )
( فاسْقِنِي الْخَمْرَ الَّتِي اخْتَمَرَتْ ... بِخِمَارِ الشَّيْبِ في الرَّحِمِ )
وهذا معنى مخترع لم يسبق إليه وهو دقيق يكاد لدقته أن يلتحق بالمعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصور
وبلغني انه اختلف في هذا المعنى بحضرة الرشيد هرون رحمه الله فقيل إنه يريد بخمار الشيب في الرحم أن الخمر تكون في جوانبها ذات زبد أبيض على وجهها فقال الأصمعي إن أبا نواس ألطف خاطرا من هذا وأسد غرضا فاسألوه فأحضر وسئل فقال إن الكرم أول ما يجري فيه الماء يخرج شبيها بالقطنة وهي أصل العنقود فقال الأصمعي ألم أقل لكم إن الرجل ألطف خاطرا وأسد غرضا
وقد جاء لابن حمديس الصقلي في الهلال لآخر الشهر ما لم يأت به غيره وهو من الحسن واللطافة في الغاية القصوى وذلك قوله
( كأَنَّما أدْهَمُ الظَّلْمَاءِ حِينَ نَجَا ... مِنْ أشْهَبِ الصُّبْحِ ألْقَى نَعْلَ حَافِرِهِ )
وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر إلا أنه أبدع في التشبيه
وأمثال هذا كثيرة في أقوال المجيدين من الشعراء
وجملة الأمر في ذلك أن الشاعر أو الكاتب ينظر إلى الحال الحاضرة ثم يستنبط لها ما يناسبها من المعاني كما فعل النابغة في مدح النعمان وقد أتاه وفد من الوفود فمات رجل منهم قبل أن يرفدهم فلما رفدهم جعل عطاء ذلك الميت

على قبره حتى جاء أهله وأخذوه فقال النابغة في ذلك
( حِبَاءُ شَقِيق فَوْقَ أحْجَارِ قَبْرِهِ ... وَمَا كَانَ يُحْبَى قَبْلَهُ قَبْرَ وَافِدِ )
وهذا بيت من جملة أبيات فانظر كيف فعل النابغة في هذا المعنى
وكذلك ورد قول أخت جساس زوجة كليب فإنه لما قتل جساس كليبا اجتمع النساء إليها وندبنه فتحدث بعضهم إلى بعض وقلن هذه ليست ثاكلة وإنما هي شامتة فإن أخاها هو القاتل فنم ذلك إليها فقالت
( يَا ابْنَةَ الأَقْوَامِ إنْ شِئْتِ فَلاَ ... تَعْجَلِي بِاللَّوْمِ حَتَّى تَسْأَلِي )
( فَإِذَا أَنْتِ تَبَيَّنْتِ الَّذِي ... يُوجِبُ الَّلوْمَ فَلُومِي وَاعْذلِي )
( إِنَّ أخْتاً لاِمْرِئٍ لِيمَتْ عَلَى ... شَفَقٍ مِنْها عَلَيْهِ فَافْعَلِي )
( جَلَّ عِنْدِي فِعْلُ جَسَّاسٍ فَوَا ... حَسْرَتَا عَمَّ انْجَلَتْ أَوْ تَنْجَلِي )
( فِعْلُ جَسَّاسٍ عَلَى وَجْدِي بِهِ ... قَاطِعٌ ظَهْرِي وَمُدْنٍ أجَلِي )
( لَوْ بِعَيْنٍ فُقِئَتْ عَيْنٌ سِوَى ... أخْتِها فانْفَقَأتْ لَمْ أحْفِلِ )
( يَا قَتِيلاً قَوَّضَ الدَّهْرُ بِهِ ... سقْفَ بَيْتَيَّ جَميعاً مِنْ عَلِ )
( هَدَّمَ الْبَيْتَ الَّذِي اسْتَحْدَثْتُهُ ... وَانْثَنَى في هَدْمِ بَيْتِي الأَوَّلِ )
( يَشْتَفِي الْمُدْرِكُ بالثَّأرِ وَفِي ... دَرَكي ثأرِيَ ثُكْلٌ مُثْكِلي )

( إٍنَّني قاتِلَةٌ مَقْتُولَةٌ ... وَلَعَلَّ اللهَ أنْ يَرْتَاحَ لِي )
وهذه الأبيات لو نطق بها الفحول المعدودون من الشعراء لاستعظمت فكيف امرأة وهي حزينة في شرح تلك الحال المشار إليها
واعلم أنه قد يستخرج من المعنى الذي ليس بمبتدع معنى مبتدع
فمن ذلك قول الشاعر المعروف بابن السراج في الفهد
( تَنَافَسَ اللَّيْلُ فِيهِ وَالنَّهَارُ مَعَاً ... فَقَمَّصَاهُ بِجِلْبَابٍ مِنَ المُقَلِ )
وليس هذا من المعاني الغريبة ولكنه تشبيه حسن واقع في موقعه
وقد جاء بعده شاعر من أهل الموصل يقال له ابن مسهر فاستخرج من هذا البيت معنى غريبا فقال
( وَنَقَّطَتْهُ حِبَاءً كَيْ يُسَالِمَها ... عَلَى المَنَايَا نِعَاجُ الرَّمْلِ بِالْحَدَقِ )
وهذا معنى غريب لم أسمع بمثله في مقصده الذي قصد من أجله وقليلا ما يقع هذا في الكلام المنظوم والمنثور وهو موضع ينبغي أن توضع اليد عليه ويتنبه له وكذلك فلتكن سياقة ما جرى هذا المجرى
وقد جاءني شيء من ذلك في الكلام المنثور
فمن ذلك ما ذكرته في وصف نساء حسان وهو أقبلت ربائب الكناس في مخضر اللباس فقيل إنما يخترن الخضرة من الألوان ليصح تشبيههن بالأغصان
وهذا معنى غريب وربما يكون قد سبقت إليه إلا أنه لم يبلغني بل ابتدعته ابتداعا
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن منازلة بلد فذكرت القتال بالمنجنيق وهو فنزلنا بمرأى منه ومسمع واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع ونصبت المنجنيقات فأنشأت سحبا صعبة القياد مختصة بالربا دون الوهاد فلم تزل تقذف بالسور بوبل من جلمودها وتفجؤه برعودها قبل بروقها وبروق السحب قبل رعودها حتى غادرت الحزن منه سهلا والعامر بلقعا مخلى

وفي هذا معنيان غريبان أحدهما أن هذه السحب تخص الربا دون الوهاد والآخر أن رعودها قبل بروقها وكل ذلك يتفطن له بالمشاهدة
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب فقلت إذا تخلق المرء بخلق البأس والندى لم يخف عرضه دنسا كما أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل نجسا
وهذا المعنى مبتدع لي وهو مستخرج من الحديث النبوي في قوله ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا )
ومن ذلك ما ذكرته في وصف مفازة فقلت مفازة لا توطأ بأجفان ساهر ولا تقتل باقتحام خابر ولولا مسير الهلال من فوقها لما عرفت تمثال حافر
ومن ذلك ما ذكرته في كتاب أصف فيه نزول العدو على حصار بلد من بلاد المكتوب عنه وكان ذلك في زمن الشتاء فسقط على العدو ثلج كثير صار به محصورا فقلت وقد عاجله قتال البروق قبل البوارق وأحاط به الثلج فصار خنادق تحول بينه وبين الخنادق والشتاء قد لقي عسكره من البرد بعسكره والسماء قد قابلته بأغبر وجهها لا بأخضره والأرض كأنها قرصة النقي وعسى أن تكون أرض محشره
والمعنى المخترع من هذا الكلام قولي والأرض كأنها قرصة النقي وعسى أن تكون أرض محشره وهو مستخرج من الحديث النبوي في قوله ( إنكم تحشرون على أرض بيضاء كقرصة النقي ) يريد الخبزة البيضاء ولما كان الثلج على الأرض مماثلا لذلك ومشابها له استنبطت أنا له هذا المعنى المخترع فجاء كما تراه وهو من المعاني التي يدل عليها شاهد الحل
وأحسن من هذا كله ما كتبته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة ببغداد فقلت ودولته هي الضاحكة وإن كان نسبها إلى العباس وهي خير دولة أخرجت للزمن كما أن رعاياها خير أمة أخرجت للناس ولم يجعل شعارها من لون الشباب

إلا تفاؤلا بأنها لا تهرم وأنها لا تزال محبوة من أبكار السعادة بالحب الذي لا يسلى والوصل الذي لا يصرم وهذا معنى استنبطه الخادم للدولة وشعارها وهو مما لم تخط به الأقلام في خطها ولا أجالته الخواطر في أفكارها
وغرابة هذا المعنى ظاهرة ولم يأت بها أحد قبلي
وبلغني من المعاني المخترعة أن عبد الملك بن مروان بنى بابا من أبواب المسجد الأقصى بالبيت المقدس وبنى الحجاج بابا إلى جانبه فجاءت صاعقة فأحرقت الباب الذي بناه عبد الملك فتطير لذلك وشق عليه فبلغ ذلك الحجاج فكتب إليه كتابا بلغني كذا وكذا فليهن أمير المؤمنين أن الله تقبل منه وما مثلي ومثله إلا كابني آدم إذا قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر فلما وقف عبد الملك على كتابه سري عنه
وهذا معنى غريب استخرجه الحجاج من القرآن الكريم وهو من المعاني المناسبة لما ذكرت فيه ويكفي الحجاج في فطانة الفكرة أن يكون عنده استعداد لاستخراج مثل ذلك
وأما المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فإنها أصعب مثالا مما يستخرج بشاهد الحال ولأمر ما كان لأبكارها سر لا يهجم عل مكامنه إلا جنان الشهم ولا يفوز بمحاسنه إلا من دق فهمه حتى جل عن دقة الفهم وللهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب البواتر أيسر من الهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب الخواطر وما ذلك مما يلقيه إليك الأستاذ وليس يقوم به إلا الفذ ولا أقول الأفذاذ وأين الذي ينشئ فيحسن فيها الإنشاء ويبرز فيها صورا يركبها كيف يشاء ومن نظر إلى هذا الموضع حق النظر وأخذ فيه بالعين دون الأثر علم أنه مقام يزلق بمعارف الأفهام فكيف بواقف الأقدام وليست المعاني فيه إلا كالأرواح ولا الألفاظ إلا كالأجسام فمن شاء أن يخلق خلقا من الكلام فليأت به على صورة الأناسي لا على صورة الأنعام فإن من القول الغانية التي هي أحسن من الغانية ومنه البهيمة التي لا تشبه إلا بالسانية
فمما جاء في هذا الباب قول أبي نواس

( شَرَابُكَ فِي السَّرابِ إذَا عَطِشْنَا ... وَخُبْزُكَ عِنْدَ مُنْقَطَعِ التَّرَابِ )
( وَمَا رَوَّحْتَنَا لِتَذُبَّ عَنَّا ... وَلِكنْ خِفْتَ مَرْزَئَةَ الذبَابِ )
فالبيت الثاني من هذين البيتين هو المشار إليه بأنه معنى مبتدع ويحكى عن الرشيد هارون رحمه الله أنه قال لم يهج باد ولا حاضر بمثل هذا الهجاء
ومن هذا الباب قول مسلم بن الوليد
( تَنَالُ بِالرِّفْقِ مَا تَعْيَا الرِّجَالُ بِهِ ... كَالْمَوْتِ مُسْتَعْجلاً يأتِي عَلَى مَهْلِ )
ومن هذا الباب قول علي بن جبلة
( تَكَفَّلَ سَاكِنَ الدُّنْيَا حُمَيْدٌ ... فَقَدْ أَضْحَتْ لَهُ الدُّنْيَا عِيَالاَ )
( كَأَنَّ أبَاهُ آدَمَ كَانَ أوْصَى ... إِلَيْهِ أَنْ يَعُولَهُمُ فَعَالاً )
وهذا معنى دندن حوله الشعراء وفاز علي بن جبل بالإفصاح عنه
وقد قيل إن أبا تمام أكثر الشعراء المتأخرين ابتداعا للمعاني وقد عدت معانيه المبتدعة فوجدت ما يزيد على عشرين معنى
وأهل هذه الصناعة يكبرون ذلك وما هذا من مثل أبي تمام بكبير فإني أنا عددت معاني المبتدعة التي وردت في مكاتباتي فوجدتها أكثر من هذه العدة وهي مما لا أنازع فيه ولا أدافع عنه فأما ما ورد لأبي تمام فمن ذلك قوله

( يأَيُّهَا الْمَلِكُ النَّائِي بِرُؤْيَتِهِ ... وَجُودُهُ لِمُراعِي جُودِهِ كَثَبُ )
( لَيْسَ الْحِجَابُ بِمُقْصٍ عَنْكَ لِي أمَلاً ... إنَّ السَّمَاءَ تُرَجَّي حِينَ تَحْتَجِبُ )
وكذلك قوله
( رَأَِيْنَا الْجُودَ فِيكَ وَمَا عَرَضْنَا ... لِسَجْلٍ مِنْهُ بَعْدُ وَلاَ ذَنُوبِ )
( وَلكِنْ دَارَةُ الْقَمَرِ اسْتَتَمَّتْ ... فَدَلَّتْنَا عَلَى مَطَر قَرِيبِ )
وكذلك قوله في الهجاء
( وَأَنْتَ تُدِيرُ قُطْبَ رَحاً عَلِيَّا ... وَلَمْ نَرَ لِلرَّحَا الْعَلْيَاءِ قُطْبَا )
( تَرىَ ظفراً بكُلّ صِرَاع قَرْنٍ ... إذَا مَا كُنْتَ أَسْفَلَ مِنْهُ جَنْبَا )
وكذلك قوله
( وَإذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ ... طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ )
( لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِيما جَاوَرَتْ ... مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ )
وكذلك قوله
( لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَرُوداً في النَّدَى وَالْبَأسِ )

( فاللهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقلَّ لِنُورِهِ ... مَثَلاً مِنَ الْمِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ )
وكذلك قوله
( لاَ تُنْكِرِي عَطَلَ الْكَرِيمِ مِنَ الْغِنَى ... فَالسَّيْلُ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي )
وكذلك له في الشيب
( شُعْلَةٌ فِي الْمَغَارِقِ اسْتَوْدَعَتْنِي ... فِي صَمِيمِ الْفُؤَادِ ثُكْلاً صَميمَا )
( يَسْتَثِيرُ الْهُمُومَ مَا اكْتَنَّ مِنْهَا ... صُعُداً وَهْيَ تَسْتثِيرُ الْهُمُومَا )
فالبيت الثاني من المعاني المخترعة وقد تفقه فيه فجعله مسألة من مسائل الدور وهذا من إغراب أبي تمام المعروف
وهذا القدر كاف من جملة معانيه فإنا لم نستقصها ههنا
ومن هذا الباب قول ابن الرومي

( كُلُّ امْرِئٍ مَدَحَ امَرَأً لِنَوَالِهِ ... وَأَطَالَ فِيهِ فَقَدْ أَسَاءَ هِجَاءَهُ )
( لَوْ لَمْ يُقْدِّرْ فيهِ بُعْدَ الْمُسْتَقَى ... عِنْدَ الْوُرُودِ لَمَا أطَالَ رِشَاءَهُ )
وكذلك قوله
( عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادً ... فَلاَ تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ )
( فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ ... يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أوِ الشَّرَابِ )
وكذلك قوله
( لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا ... يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ )
( وَإِلاّ فما يُبْكِيهِ مِنْهَا وَإِنَّهُ ... لأوْسَعُ مِمَّا كَانَ فِيهِ وَأرْغَدُ )
( إِذَا أبْصَرَ الدُّنْيَا اسْتَهَلَّ كَأَنَّهُ ... بِمَا هُوَ لاَقٍ مِنْ أذَاهَا يُهَدَّدُ )

وكذلك قوله
( رَدَدْتَ عَلَيَّ مَدْحِي بَعْدَ مَطْلٍ ... وَقَدْ دَنَسْتَ مَلْبَسَهُ الْجَدِيدَا )
( وقُلْتُ امْدَحْ بِهِ مَنْ شِئْتَ غَيْرِي ... وَمَنْ ذَا يَقْبَلُ الْمَدْح الرّدِيدَا )
( وَهَلْ لِلْحَيِّ فِي أَكْفَانِ مَيْتٍ ... لَبُوسٌ بَعْدَمَا امْتَلأَتْ صَدِيدَا )
وقد ورد لأبي الطيب المتنبي من ذلك كقوله
( أَجِزْنِي إِذَا أُنْشِدْتَ مَدْحاً فَإِنَّمَا ... بِشِعْرِي أَتَاكَ الْمَادِحُونَ مُرَدَّدَا )
( وَدَعْ كُلّ صَوْتٍ بَعْدَ صَوْتِي فَإِنَّنِي ... أنَا الصَائِحُ الْمَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصَّدَى )
فالبيت الأول قد توارد على معناه الشعراء قديما وحديثا لكن البيت الثاني في التمثيل الذي مثله ليس لأحد إلا له
وكذلك قوله
( بِهَجْرِ سُيُوفِكَ أغْمَادَهَا ... تَمَنَّى الطُّلَى أَنْ تَكُونَ الْغُمُودَا )
( إِلَى الْهَامِ تَصدُرُ عَنْ مِثْلِهِ ... تَرَى صَدَراً عَنْ وُرُودٍ وُرُودَا )

وكذلك قوله في بدر بن عمار يهنيه ببرئه من مرض
( قُصِدْتَ مِنْ شَرْقِهَا وَمَغْرِبِهَا ... حَتَّى اشْتَكَتْكَ الرِّكَابُ وَالسُّبُلُ )
( لَمْ تُبْقِ إِلاَّ قَلِيلَ عَافِيةٍ ... قَدْ وَفَدَتْ تَجْتَدِيكَها الْعِلَلُ )
وقد وقفت على ما شاء الله من أشعار الفحول من الشعراء قديما وحديثا فلم أجد لأحد منهم في ذكر المرض ما يعد معنى مخترعا لا بل لم أجد من أقوالهم شيئا مرضيا ما عدا المتنبي فإنه ذكر المرض في عدة مواضع من شعره فأجاد وهذا البيت الثاني من هذين البيتين معنى مخترع له وقد أحسن فيه كل الإحسان
ومما ابتدعه بإجماع قوله في مدح عضد الدولة في قصيدته النونية التي مطلعها
( مَغَانِي الشِّعْبِ طيباً في المَغَانِي ... )
قال عند ذكره
( فَعَاشَا عِيْشَةَ الْقَمَرَيْنِ يُحْيَا ... بَضَوْئِهِمَا وَلاَ يَتَحَاسَدَانِ )
( وَلاَ مَلَكَا سِوَى مُلْكِ الأَعَادِي ... وَلاَ وَرِثَا سِوَى مَنْ يَقْتُلاَنِ )
( وَكَانَ ابْنَا عَدُوٍّ كَاثَراهُ ... لَهُ يَاءَيْ حُرُوفِ أُنَيْسِيَانِ )
أي جعل الله ابني عدو كاثراه يعني ابني عضد الدولة كياءي حروف تصغير إنسان فإن ذلك زيادة وهو نقص في المقدار إلا أن سبك هذا البيت قد شوهه وأذهب طلاوة المعنى المندرج تحته

ومن معانيه المبتدعة قوله
( فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ )
وأحسن من ذلك قوله
( صَدَمْتَهُمْ بِخَمِيسٍ أنْتَ غُرَّتُهُ ... وَسَمْهَرِيَّتُهُ فِي وَجْهِهِ غَمَمُ )
( فَكَانَ أثْبَتَ مَا فِيهِمْ جُسُومُهُمُ ... يَسْقُطْنَ حَوْلَكَ وَالأًرْوَاحُ تَنْهَزِمُ )
وهذا من أعاجيب أبي الطيب التي برز فيها على الشعراء
ومن الإحسان في هذا الباب قول بعضهم
( وَقَدْ أشُقُّ الْحِجَابَ الصَّعْبَ مَأْرَبُهُ ... دُونِي وَآبَى وَلُوجاً فِيهِ إِنْ طُرِقَا )
( كالطَّيْفِ يَأبَى دُخُولَ الْجَفْنِ مُنْفَتِحَاً ... وَلَيْسَ يَدْخُلُهُ إِلاَّ إِذَا انْطَبَقَا )
ورأيت ابن حمدون البغدادي صاحب كتاب التذكرة قد أورد هذين البيتين في كتابه وقال قد أغرب هذا الشاعر ولكنه خلط وجرى على عادة الشعراء لأن

الطيف لا يدخل الجفن وإنما يتخيل إلى النفس وهذا كلام من لم يطعم من شجره الفصاحة والبلاغة وليس مثله عندي إلا كما يحكى عن ملك الروم إذ أنشد عنده بيت المتنبي الذي هو
( كأنَّ الْعِيسَ كَانَتْ فَوْقَ جَفْنِي ... مُنَاخَاةً فَلَمَّا ثُرْنَ سَالاَ )
فسأل عن المعنى ففسر له فقال ما سمعت بأعذب من هذا الشاعر أرأيت من أناخ الجمل على عينه لا يهلكه
ومن محاسن هذا القسم قول بعضهم
( تَخَيَّرَهُ اللهُ مِنْ آدَمٍ ... فَمَا زَالَ مُنْحَدِراً يَرْتَقِي )
وكذلك قول الآخر
( بِأَبِي غَزَالٌ غَازَلْتْهُ مُقْلَتِي ... بَيْنَ الْغُوَيْرِ وَبَيْنَ شَطَّيْ بَارِقِ )
( عَاطَيْتُهُ وَاللَّيْلُ يَسْحَبُ ذَيْلَهُ ... صَهْبَاءَ كَالْمِسْكِ الْفَتِيقِ لِنَاشِقِ )
( وَضَمَمْتُهُ ضَمَّ الْكَمِيِّ لِسَيْفِهِ ... وَذُؤَابَتَاهُ حَمَائِلٌ فِي عَاتِقِي )
( حتَّى إِذَا مَالَتْ بِهِ سِنَةُ الْكَرَى ... زَحْزَحْتُهُ شَيْئاً وَكَانَ مُعَانِقِي )
( أبْعَدْتُهُ عَنْ أضْلُعٍ تَشْتَاقُهُ ... كَيْ لاَ يَنَامَ عَلَى وَسَادٍ خَافِقِ )
وهذا من الحسن والملاحة بالمكان الأقصى ولقد خفت معانيه على القلوب حتى كادت ترقص رقصا والبيت الأخير منه هو الموصوف بالإبداع وبه وبأمثاله أقرت الأبصار بفضل الأسماع
ومن هذا الضرب قول بعض المصريين يهجو إنسانا يقال له ابن طليل احترقت داره

( انْظُرْ إِلَى الأَيَّامِ كَيْفَ تَسُوقُنَا ... طَوْعاً إِلَى الإِقْرَارِ بِالأَقْدَارِ )
( مَا أَوْقَدَ ابْنُ طُلَيْلُ قَطُّ بِدَارِهِ ... نَاراً وَكَانَ هَلاَكُهَا بِالنَّارِ )
وكذلك ورد قول ابن قلاقس من شعراء مصر
( زِدْ رِفْعَةً إنْ قِيلَ أنْغضَ ... وَانْخَفِضْ إِنْ قِيلَ أثْرَى )
( كَالغُصْنِ يَدْنُو مَا اكْتَسَى ... ثَمَراً وَيَنْأَى مَا تَعَرَّى )
وهذا من المعاني الدقيقة
ومن هذا الأسلوب قول الشاعر المعروف بالحافظ في تشبيه البهار وهو
( عُيُونُ تِبْرٍ كَأَنَّما سَرَقَتْ ... سَوَادَ أحْدَاقِهَا مِنَ الْغَسَقِ )
( فَإِنْ دَجَا لَيْلُهَا بِظُلْمَتِهِ ... ضَمَمْنَ مِنْ خَوْفِهَا عَلَى السَّرَقِ )
وهذا تشبيه بديع لم يسمع بمثله وهو من اللطافة على ما لا خفاء به
ومن هذا القسم قول بعض المتأخرين من أهل زماننا
( لاَ تَضَعْ مِنْ عَظِيمِ قَدْرٍ وَإِنْ كُنْتَ ... مُشَاراً إِلَيْهِ بِالتَّعْظِيمِ )
( فَالشَّرِيْفُ الْعَظِيمُ يَنْقُصُ قَدْراً ... بِالتَّعَدِّي عَلَى الشَّرِيفِ الْعَظِيمِ )
( وَلَعُ الْخَمْرِ بِالْعُقُولِ رَمَى الْخَمْر ... بِتَنْجِيسِها وَبِالتَّحْرِيمِ )
ومن غريب ما سمعته في هذا الباب قول بعض الشعراء المغاربة يرثي قتيلا
( غَدَرَتْ بِهِ زُرْقُ الأَسِنَّةِ بَعْدَمَا ... قَدْ كُنَّ طَوْعَ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ )
( فَلْيَحْذَرِ الْبَدْرُ المُنِيرُ نُجُومَهُ ... إذْ بانَ غَدْرُ مِثَالِهَا بِمِثَالِهِ )
وكذلك جاء قول بعض المغاربة في الخمر وكاساتها
( ثَقُلَتْ زُجَاجَاتٌ أَتَتْنَا فُرَّغاً ... حَتَّى إذَا مُلِئَتْ بِصَرْفِ الرَّاحِ )
( خَفَّتْ فَكَادَتْ أنْ تَطِيرَ بِمَا حَوَتْ ... وَكَذَا الْجُسُومُ تَخِفُّ بالأرْوَاحِ )

وهذا معنى مبتدع أشهد أنه يفعل بالعقول فعل الخمر سكرا ويروق كما رقت لطفا ويفوح كما فاحت نشرا
وكذلك ورد قول ابن حمديس الصقلي
( يَا سَالِباً قَمَرَ السَّماءِ جَمَالَهُ ... أَلْبَسْتَنِي لِلْحُزْنِ ثَوْبَ سَمَائِهِ )
( أَضْرَمْتَ قَلْبِي فَارْتَمى بِشَرَارَةٍ ... وَقَعَتْ بِخَدِّكَ فَانْطَفَتْ مِنْ مَائِهِ )
وهذا المعنى دقيق جدا
وقد سمعت في الخال ما شاء الله أن أسمع فلم أجد مثل هذا
وقد جاءني في الكلام المنثور من هذا الضرب شيء وسأذكر ههنا منه نبذة
فمن ذلك ما ذكرته في وصف صورة مليحة فقلت ألبس من الحسن أنضر لباس وخلق من طينة غير طينة الناس وكما زاد حسنا فكذلك ازداد طيبا واتفقت فيه الأهواء حتى صار إلى كل قلب حبيبا فلو صافح الورد لتعطرت أوراقه أو مر على النيلوفر ليلا لتفتحت أحداقه
والمعنى الغريب ههنا أن الشمس إذا طلعت على النيلوفر تفتح أوراقه وإذا غربت عنه انضم ثم إني سمعت هذا في شعر الفرس لبعض شعرائهم فحصل عندي منه تعجب
ومن ذلك ما ذكرته في ذم الشيب فقلت الشيب إعدام للإيسار وظلام للأنوار وهو الموت الأول الذي يصلى نارا من الهم أشد وقودا من النار ولئن قال قوم إنه جلالة فإنهم دقو به وما جلوا وأفتوا في وصفه بغير علم فضلوا وأضلوا وما أراه إلا محراثا للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا ومن عجيب شأنه أنه المملول الذي يشفق من بعده والخلق الذي يكره نزع برده ولما فقد الشباب كان عنه عوضا ولا عوض عنه في فقده
والمعنى المخترع ههنا في قولي وما أراه إلا محراثا للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا وهو مستنبط من الحديث النبوي وذاك أن النبي رأى

آلة الحرث فقال ( ما دخلت هذه دار قول إلا ذلوا ) فأخذت أنا هذا ونقلته إلى الشيب فجاء كما تراه في أعلى درجات الحسن وذلك لما بينه وبين الشيب من المناسبة الشبيهة لأن الشيب يفعل في البدن ما يفعله المحراث في الأرض وإذا نزل بالإنسان أحدث عنه ذلا
ومن هذا الباب ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الناس أعبث به فقلت وإذا كتبت مثالبه في كتاب اجتمع عليه بنات وردان وحرم على أن أبدأ فيه بالبسملة لأنها من القرآن
وهذا معنى لطيف في غاية اللطافة وهو مخترع لي
وكذلك كتبت إلى بعض الناس كتابا من هذا الجنس أهزل معه فقلت في فصل منه ما أذكره وهو ينبغي له أن يشكرني على وسمه بهجائي دون امتداحي فإني لم أسمه إلا لتحرم به الأضحية في يوم الأضاحي ولا شك أن سيدنا معدود في جملة الأنعام غير أنه من ذوات القرون والقرن عدوه عند الخصام
وهذا معنى ابتدعته ابتداعا ولم أسمعه لأحد من قبلي
ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب يتضمن هزيمة الكفار وذلك فصل منه فقلت وكانت الوقعة يوم الأحد منتصف شهر كذا وكذا وهذا هو اليوم الذي تخيره الكفار من أيام الأسبوع ونصبوه موسما لشرع كفرهم المشروع فحصل ارتيابهم به إذ تضمن للإسلام مزيدا وقالوا هذا يوم قد أسلم فلا نجعله لنا عيدا وقد أفصح لهم لسانه لو كانوا يعلمون بأن الدين عند الله هو الإسلام وأن أولياءه هم المسلمون
وهذا معنى انفردت بابتداعه ولم يأت به أحد ممن تقدمني
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة ببغداد وهو في وصف القلم فقلت وقلم الديوان العزيز هو الذي يخفض ويرفع ويعطي ويمنع وهو المطاع لجدع أنفه وسواد لباسه وقد ورد الأمر بطاعة الحبشي الأجدع ومن أحسن صفاته أن شعاره من شعار مولاه فهو يخلع على عبيده من الكرامة ما يخلع

في هذه الأوصاف معان حسنة لطيفة ومنها معنى غريب لم أسبق إليه وهو قولي إنه المطاع لجدع أنفه وسواد لباسه وقد ورد الأمر بطاعة الحبشي الأجدع فإن هذا مما ابتكرته وهو مستخرج من الحديث النبوي في ذكر الطاعة والجماعة فقال ( أطع ولو عبدا حبشيا مجدعا ما أقام عليك كتاب الله ) فاستخرجت أنا للقلم معنى من ذلك وهو أن القلم يجدع ويقمص لباس السواد فصار حبشيا أجدع وهذا كما فعل أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في قصيدته السينية فإنه استخرج المعنى المخترع من القرآن الكريم وأنا استخرجت المعنى من الخبر النبوي كما أريتك وهذا المعنى المشار إليه في وصف القلم أوردته بعبارة أخرى على وجه آخر ونبهت عليه في كتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم وهذا كتاب ألفته في صناعة حل الشعر وغيره
وبعد هذا فسأقول لك في هذا الموضع قولا لم يقله أحد غيري وهو أن المعاني المبتدعة شبيهة بمسائل الحساب المجهول من الجبر والمقابلة فكما أنك إذا وردت عليك مسألة من المجهولات تأخذها وتقلبها ظهرا لبطن وتنظر إلى أوائلها وأواخرها وتعتبر أطرافها وأوساطها وعند ذلك تخرج بك الفكرة إلى معلوم فكذلك إذا ورد عليك معنى من المعاني ينبغي لك أن تنظر فيه كنظرك في المجهولات الحسابية إلا أن هذا لا يقع في كل معنى فإن أكثر المعاني قد طرق وسبق إليه والإبداع إنما يقع في معنى غريب لم يطرق ولا يكون ذلك إلا في أمر غريب لم يأت مثله وحينئذ إذا كتب فيه كتاب أو نظم فيه شعر فإن الكاتب والشاعر يعثران على مظنة الإبداع فيه وقد لابست ذلك في مواضع كثيرة وسأورد ههنا ما يحذى حذوه لمن استطاع إليه سبيلا
ومن ذلك ما كتبته عن نفسي إلى بعض ملوك الشام وأهديت إليه رطبا وهو خلد الله دولة مولانا وعمر لها مجدا وجنانا وخولها السعادة عطاء حسابا وأنشأ الليالي لخدمتها عربا أترابا وأبقى شبيهتها بقاء لا يستحدث معه خضابا ولا جعل لها في محاسن الدولة السابقة أشباها ولا أضرابا وألقى البأس بين أعدائها وحسادها حتى يبعث لهم في الأرض غرابا إذا أراد العبيد أن يهدوا لمواليهم قصرت بهم يد وجودهم وعلموا أن كل ما عندهم من عندهم لكن في الأشياء

المستطرقة ما يهدي وإن كان قدره خفيفا ولولا اختلاف البلاد فيما يوجد بها لما كان شيء من الأشياء طريفا وقد أهدى المملوك من الرطب ما يتجلى في صفة الوارس ويزهى بحسنه حتى كأنه لم يدنس بيد لامس وما سمي رطبا إلا لاشتقاقه من الرطب الذي هو ضد اليابس وقد أثنى رسول الله عليه ثناء جما وفضل شجرته على الشجر بأن سماها أما ولئن عدم عرفا لذيذا فإنه لم يعد منظرا لذيذا ولا طعما وله أوصاف أخرى هي لفضله بمنزلة الشهود فمنها أنه أول غذاء يفطر عليه الصائم وأول غذاء يدخل بطن المولود وأحسن من ذلك أنه معدود من الحلواء وإن كان من ذوات الغراس ولا فرق بينهما سوى أنه من خلق الله وتلك من خلق الناس وإذا أنصف واصفه قال ما من ثمرة إلا وهي عنه قاصرة ولو تفاخرت البلاد بمحاسن ثمارها لقامت أرض العراق به فاخرة وهذا قد سار إلى باب مولانا وهو مجني المنابت سار إلى مجني الكرم وملك الفاكهة وفد على ملك الشيم ولما استقلت به الطريق أنشأ الحسد لغيره من الفواكه أربا وما منها إلا من قال يا ليتني كنت رطبا ولئن كان من الثمرات التي تختلف في الصور والأسماء ويفضل بعضها على بعض ويسقي بشراب واحد من الماء فكذلك تلك الشيم العريقة تتحد في عنصرها وهي مختلفة الوتيرة ومن أفضلها شيمة السماح التي تقبل القليل من عبيدها وتسمح لهم بالعطايا الكثيرة وقد ضرب لها المملوك مثالا فقال هي كجنة بربوة بل ضرب لها ما ضرب للمثل النبوي وهي نخلة بكبوة ولا يختم كتابه بأحسن من هذا القول الذي طاب سمعا وزكا أصلا وفرعا وتصرف في أساليب البلاغة فجاء به وترا وشفعا والسلام
وهذا كتاب غريب في معناه وقد اشتمل على معان كثيرة فمن جملتها أن الرطب مشتق من الرطب الذي هو ضد اليابس ومن جملتها أن النبي سمى النخلة أما فقال ( أمكم النخلة ) ومن جملتها أنه كان يفكر على رطبات فإن لم يجد فتمرات ومن جملتها أنه كان يلوك التمرة ويحنك بها المولود عند ميلاده ولما ولد عبد الله بن الزبير جاءت أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه ووضعته في حجر رسول الله فلاك تمرة ووضعها في فيه ومن جملتها أنه والحلواء شيء واحد إلا أنه من خلق الله وتلك من خلق الإنسان ومن جملتها أن

العباس رضي الله عنه قال يا رسول الله إن قريشا تذاكرت أحسابها فضربوا لك مثالا بنخلة بكبوة وكل هذه المعاني حسنة واردة في موضعها ومن كتب في معنى من المعاني حسنة واردة في موضعها ومن كتب في معنى من المعاني فليكتبه هكذا وإلا فليدع
ومن ذلك رقعة كتبتها إلى بعض حجاب السلطان في حاجة عرضت لي وأرسلت معها هدية من ثياب ودراهم وهي
( مَا مِنْ صَدِيقٍ وَإِنْ صَحَّتْ صَدَاقَتُهُ ... يَوْماً بأنْجَحَ في الْحَاجَاتِ مِنْ طَبَقِ )
( إِذَا تَلَثَّمَ بِالْمِنْدِيلِ مُنْطِلقاً ... لَمْ يَخْشَ نَبْوَةَ بَوَّابٍ وَلاَ غَلَقِ )
الهدية مشتقة من الهدى غير أنها ترف إلى القلب لا إلى الندى وصهارتها أنفع من الصهارة وكلما ترددت كانت بكرا فهي لا تنفك عن البكارة ومن خصائصها أنها تمسك بمعروف أمن من السراح وإذا رامت فتح باب لا تفتقر في علاجه إلى مفتاح وقد قيل إنها الحسناء المتأنقة في عمارة بيتها التي توصف بأن القنديل يضيء بزيتها وقد أرسلتها إلى المولى وهي تتهادى في إعجابها وتدل بكثرة دراهمها وثيابها وتقول أنا الكريمة في قومها الشريفة في أنسابها وأحسن ما فيها أنها جاءت سرا لم تعلم بها اليد اليمنى من اليسرى فخذها يا مولاي واكشف نقابها وأمط عنها جلبابها وقد كانت منك حرة وهي الآن في حيز المملكة ومن السنة في مثلها أن تؤخذ بالناصية ويدعى لها بالبركة والسائر بها فلان وهو في الجهل بها حامل أسفار وناقل لها من دار إلى دار ولربما نطق لسان حالها الذي هو أفصح من نطق اللسان وأذكرت بحاجة مرسلها وحاش فطانة الكريم من النسيان وليس المطلوب إلا فضيلة من الجاه تسفر بين السائل والمسئول وتنقل البعيد إلى درجة القريب والممنوع إلى درجة المبذول فإذا فعل المولى ذلك كان له منة السفارة ومنة الإنعام وإن سمع بأن سعيا واحدا فاز بشكرين اثنين ففي مثل هذا المقام ومن الناس من يقول ليس على جانب السلطان ثقل في صنعه وهل ههنا إلا كلمات تقال والكلام ماعون لا رخصة في منعه ولم يدر أن ملاطفة الخطاب ضرب من الاحتيال وأن نقل الخطوات فيه أثقل من نقل

الجبال وأن صاحب الحاجة يحظى بحلاوة النجاح والحاجب يلقى مرارة السؤال
وهذا يقوله الخادم إيجابا لإحسان المولى الذي هو إحسان شامل ولا يعلمه إلا عالم بفضله ولا يجهله إلا جاهل والله تعالى يجعل الحاجات مغدوقة ببابه حتى لا تنفك في الدنيا من إمداد شكره وفي الآخرة من إمداد ثوابه والسلام
فتأمل أيها الناظر في كتابي هذا إلى ما اشتملت عليه هذه الرقعة من المعاني حتى تعلم كيف تضع يدك فيما تكتبه
ومن ذلك رقعة أخرى كتبتها في هذا المعنى المتقدم ذكره وأرسلت معها هدية من المسك وهي الهدية رسول يخاطب عن مرسله بغير لسان ويدخل على القلوب من غير استئذان وقد قيل أخت السحر في ملاطفة قصدها غير أنها لا تحتاج إلى نفثها ولا إلى عقدها وما من قلب إلا وصورتها تجلي عليه في سرقة ولولا شرف مكانها لما حللت للنبي مع تحريم الصدقة ولها صفات غير هذه كريمة الأخطار حسنة لدى الأسماع والأبصار ومن أحسنها أنها تستجد ودا وتجعل قربا ما كان بعدا
وتقول لنا الإحنة يا نار كوني بردا ولهذا قيل تهادوا تحابوا ولا شك أنها وصلة بين المودات فإذا تواصل الناس تقاربوا وقد أرسل الخادم منها شيئا إذا كتمه ذاع وإذا خزنه ضاع وقد شبه به الجليس الصالح بعدد أسباب الانتفاع ومما زاد مزية على مزيته أنه وشيم المولى توأمان غير أن شيمته تنتمي إلى كرم محتدها وهو ينتمي إلى سرر الغزلان فإذا ورد على مجلسه قيل هذا عطر ورد على جونة عطار وعرف له حق المشاركة فإن أدنى الشرك في الشيم جوار وقد نطق الخبر النبوي بأنه أحد الثلاثة التي لا ترد على من أهداها وإذا نظر إلى محصول بقائها وفائدتها وجد أطولها عمرا وأجداها وهذا يحكم على المولى بقبول ما استرسل الخادم في إرساله وإذا سأل غيره في قبول هديته كفاه نص الخبر مؤنة سؤاله والسلام

وهذه الرقعة أحسن من التي قبلها فمما اشتملت عليه من المعاني قولي
وما من قلب إلا وصورتها تجلى عليه في سرقة ولولا شرف مكانها لما حللت للنبي مع تحريم الصدقه وهذا المعنيان مستخرجان من خبرين نبويين أحدهما أن النبي قال ( جاءني جبريل عليه السلام ومعه سرقة من حرير ) يعني حريرة بيضاء ( وفيها صورة عائشة ) رضي الله تعالى عنها وقال ( هذه زوجتك في الدنيا والآخر ) والخبر الآخر أن النبي قال ( حرمت علي الصدقة وأحلت لي الهدية )
ومما اشتملت عليه أيضا قولي وقد أرسل الخادم منها شيئا إذا كتمه ذاع وإذا خزنه ضاع وهذه مغالطة حسنة لأن المسك إذا كتم ذاعت رائحته وإذا خزن ضاع أي فاح ويقال ضاع الشيء إذا ذهب فالمغالطة ههنا في الجمع بين الضدين
وكذلك قولي وقد شبه الجليس الصالح وهذا مستخرج من الخبر النبوي أيضا وذاك أنه قال ( مثل الجليس الصالح مثل حامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه عرفا طيبا ومثل جليس السوء مثل نافخ الكير إما أن يحرق ثوبك وإما أن تجد منه رائحة كريهة )
ومما اشتملت عليه من المعاني أيضا قولي إنه أحد الثلاثة التي لا ترد على من أهداها وهذا مستخرج من الخبر النبوي أيضا وهو قوله ( ثلاثة لا ترد الطيب والريحان والدهن )
ومن ذلك رقعة كلفني بعض أصدقائي إملاءها عليه وهي رقعة من عاشق إلى معشوق وهي
( وَإِذَا قِيلَ مَنْ نُحِبُّ تَخَطَّاكِ ... لِسَانِي وَأَنْتَ في الْقَلْبِ ذَاكا )
يا من لا أسميه ولا أكنيه وأذكر غيره وهو الذي أعنيه لا تكن ممن أوتي ملكا فلم ينظر في زواله وعرف مكانه من القلوب فجار في إدلاله ولا تغتر بقول

من رأى الحسن للإساءة ماحيا واعلم أن اللاحي يقول كفى بالتذلل لاحيا وكثيرا ما يزول العشق بجنايات الصدود والزيادة في الحد نقصان في المحدود وقد قيل إن الحسن عليه زكاة كزكاة المال وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارة عن الوصال وهذه صدقة تقسم على أربابها ولا ينتظر أن يحول الحول في إيجابها فهي مستمرة على تجدد الأيام والمستحقون لها قسم واحد ولا يقال إنهم ثمانية أقسام وهؤلاء هم المخصوصون بفك الرقاب ورقبة العشق أشد أسرا من رقبة تتحرر بالكتاب فأخرج يا مولاي من هذا الحق الواجب وإلا فتأت لطالب منى ومطالب ولا تقل هذا غريم أكثر عد الليالي في مطله وأعده والواعيد زاد لمثله فهذه سلعة قد عاملتني بها مرة ساخرا ومرة ساحرا ومن الأقوال السائرة أن الغر تجعله التجربة ماهرا ولعمري إن ممارسة الحب تجدد لصاحبه علما وتبصره وإن كان كما يقال أعمى وقد كذب القائل
( عَرِّضَنْ لِلَّذِي تُحِبُّ بِحُبٍّ ... ثًمَّ دَعْهُ يَرُوضُهُ إبْلِيسُ )
فإن كانت الرياضة كما قيل لإبليس فما أراه صنعا في الذي صنع وأراك استعصيت عليه استعصاء القارح وأنت جذع ولا شك أنك تهدم ما يشيده من البناء أو أنك مستثنى في جملة من دخل في حكم الاستثناء وأنا الآن له عائب وعلي عاتب فأين نفثاته التي هي أخدع من الحبائل وأين قوله لآتينهم عن الأيمان والشمائل وأين جنوده المسترقة ما في السماء التي تجري من بني آدم مجرى الدماء وكل هذا قد بطل عندي خبره كما بطل عندي أثره فإن أدركته النخوة بأني أستهزئ بتصديق أفعاله فليحلل معقول حاجتي هذه حتى أعلم أنه قادر على حل عقاله وإلا فليخف رأسه وليمح وسواسه وإن كان له عرش على البحر فليقوض من عرشه وليعلم أن السحر ليس في عقده ونفثه ولكنه في الأصفر ونقشه وها أنا قد بعثت منه ما يجعل العزم محلولا والود مبذولا وما أقول إلا

أني بعثت معشوقا إلى معشوق وكلاهما محله القلب بل القلب من حبهما مخلوق وما أكرمه وهو وسيلة إلى مثله وحسنه من حسنه وإن لم يكن شكله من شكله وما وصف واصف إلا كان ما رآه منه فوق ما رواه ومن أغرب أوصافه وأحسنها أنه لم ير ذو وجهين وجيها سواه لا جرم أنه إذا سفر في أمر تلطف في فتح أبوابه وتناول وعره بسهله وبعده فبدله باقترابه ولو بعثت غيره لخفت ألا يكون في سفارته صادقا أو أنه كان يمضي سفيرا ويعود عاشقا فليس على الحسن أمانة وفي مثله تعذر الخيانة ولا لوم على العقول إذا نسيت هناك عزيمة رشدها ورأت مالا يحتمله كاهل جهدها ومن الذي يقوى درعه على تلك السهام أو يروم النجاة منها وقد حيل بينه وبين المرام وهذا الذي منعني أن أرسل إلا كيسا وكتابا فأحدهما يكون في السفارة والآخر على السر حجابا والسلام إن شاء الله تعالى
وفي هذه الرقعة من المعاني الغريبة ما أذكره فالأول ما ذكرته في قسم الصدقات وفك الرقاب والثاني ما ذكرته في وصف الدينار وهو أنه وجيه ذو وجهين وقال النبي ( ذو الوجهين لا يكون وجيها ) وهذا معنى لم يسبقني أحد إليه وقد وصف الحريري الدينار في مقامه من مقاماته ولم يظفر بهذا المعنى ولا جاء من الأوصاف التي ذكرها بمثله والثالث إني بعثت معشوقا إلى معشوق
ومن ذلك ما كتبته وكان توفيت زوجة بعض الملوك وتوفي معها ولد لها وهو طفل صغير وكان بينهما يومان وتلك المرأة بنت ملك من الملوك أيضا فكتب إليه من الأطراف المجاورة يعزونه وحضر عندي بعض الأدباء ممن يجب أن يكون كاتبا وعرض علي نسخة ما كوتب به ذلك الملك في التعزية بزوجته وولدها فوجدتها كتبا باردة غثة لا تعرب عن الحادثة بل بينها وبينها بعد المشرقين ومن شرط الكتاب أن يكون الكتاب مضمنا فض المعنى المقصود والتعازي مختلفة الأنحاء فتعازي النساء غير تعازي الرجال وهي من مستصعبات فن الكتابة والشعر وتعازي الرجال أيضا تختلف فلا يعزى بالميت على فراشه كما يعزى بالميت قتيلا ولا يعزى بالقتيل كما يعزى بالغريق وهكذا يجري الحكم في

المعاني جمعيها وهذا شيء لا يتنبه له إلا الراسخون في هذا الفن من أرباب النثر والنظم وسألني ذلك الرجل عن هذه التعزية المشار إليها في المرأة وولدها الصغير وقال أحب أن أعلم كيف تكون فأمليت عليه ثلاثة كتب كل كتاب يتضمن معنى لا يتضمنه الكتاب الآخر
فمما جاء منها كتاب أنا ذاكره ههنا وهو أشجى التعازي ما أتبع فيه المفقود بمفقود لا سيما إذا جمع بين سعد الأخبية وسعد السعود وكل منهما يعظم حزنا كما يعظم مكانا وهذا يحسر عن الوجوه خمرا وهذا يلقي عن الرءوس تيجانا ولم يوفهما حقهما من بكي ولا من ندب ولا من شعر ولا من كتب وليت فدى أحدهما بصاحبه فعاش درهما المفدي بالذهب
( وَلَوْ كَانَ خَطْباً وَاحِداً خَفَّ كَلْمُهُ ... وَلكِنَّهُ خَطْبٌ أُعِيدَ عَلى خَطْبِ )
وقد أصدر الخادم كتابه هذا ومن حقه أن يخرج في ثوب من الحداد وأن يتعثر في أذيال كلمه والكتاب عنوان الفؤاد وغاية ما يقول أحسن الله عزاء المجلس السامي الملك الأجل السيد على أن هذا الدعاء قد شهدت الحال بلحنه وكيف يملك قلبه عزاء وقد أوثقه الهم في سجنه وصار له ولدا دون ولده وخدنا دون خدنه لكن يدعى له بامتداد البقاء وأن تعامله الحوادث بعد هذه معاملة الإبقاء ثم نتبع ذلك بطلب الجنة لمن نقلته المنايا عن أرائك الخدور وجعلته في بطون القبور ولمن فاجأت الأيام غصنه فقصفته ولم يعش حتى عرف الدنيا ولا عرفته فواها لهما وقد نزلا بمنزل عديم الإيناس وإن كان مأهولا بأكثر الناس فهو القريب دارا البعيد مزارا الذي حجب من اليأس بأمنع حجاب وذهب عن الوجوه المنعمة لذل التراب فمن كان مسعدا للمجلس فليأخذ بوله الجزع لا بعزيمة الاصطبار وليقل هذا حادث بان فيه تحامل الأقدار وجرت همومه مجرى الخواطر من القلوب والرقاد من الأبصار فالأسوة إلا فيه معدودة من الإحسان والسلوة إلا عنه داخلة في حيز الإمكان والخادم أولى من لقي المجلس فيه بالإسعاد وقام بما يجب من قضاء حق الوداد وفعل ما يفعله القريب الحاضر وإن كان على شقة من البعاد وقد أرسل من ينوب عنه في التعزية وإن لم يكف

فيها المناب وكما رخص العذر في قصر الصلاة فكذلك رخص في الاقتصار على الرسول والكتاب وقد ود لو حضر بنفسه فاستسقى لذلك الضريح سحابا وعقر عنده ركابا وسأل الله له مغفرة وثوابا والسلام
في هذا الكتاب معنى غريب وهو قولي سعد الأخبية كناية عن المرأة وسعد السود كناية عن ولدها لأن سعد الأخبية اسم منزلة من منازل القمر والأخبية جمع خباء ومن شأن المرأة أن تحتجب في الأخبية فهي سعدها وهذا من المعاني الغريبة في مثل هذا المقصد وقد اتفق سعد الأخبية وسعد السعود معا وهذا أيضا غريب
ومن ذلك أني كتبت كتابا عن الملك الأفضل علي بن يوسف إلى أخيه الملك الظاهر غازي بن يوسف صاحب حلب في أمر شخص كان أبوه صاحب مدينة تكريت وتكريت هذه كان يتولاها قديما الأمير أيوب جد الملك الأفضل والملك الظاهر وأولد بها ولده صلاح الدين يوسف أباهما وعلى عقب ولادته انتقل والده عن تكريت هو وعشيرته لأمر طرأ لهم وجاء إلى الموصل ثم إلى الشام وهناك سعدوا وكانت السعادة على يد صلاح الدين يوسف فلما أردت أن أكتب هذا الكتاب علمت أنه مظنة المعاني المبتدعة لأن الأمر المكتوب فيه غريب لم يقع مثله فحينئذ كتبت هذا الكتاب وهو رفع الله شأن مولانا الملك الظاهر ولا زال الدهر فاخرا بمآثر سلطانه ناظما مناقبه في جديه ومحامده في لسانه ناسخا بمساعي دولته ما تقدم من مساعي وآل بويه وألا حمدانه كتاب الخادم هذا وارد من يد الأمير شمس الدين ابن صاحب تكريت وهو أول أرض مس جلد الوالد ترابها ورقمت بها السعادة على جبينه كتابها ومنها ظهر نور البيت الأيوبي مشرقا وأشام إذا خرج معرقا وكفاه بذلك وسيلة يكتنفها الإحسان والإرعاء ويكفي صاحبها أن يقول لا أسقي حتى يصدر الرعاء وقد قرنها بوسيلة قصد الخدمة التي توجب لقاصدها ذماما وتقول له سلاما إذا قال سلاما ثم ثلث هاتين الوسيلتين بكتاب الخادم أخذا بالسنة النبوية في الدعاء وعدده وتفاؤلا بتثليث النجوم فيما يقصده المرء من سعادة مقصده ولا قدح في كرم الكريم إذا استكثر طالبه من الأسباب فإن الله على كره قد استكثر إليه من أعمال الثواب وكتاب

الخادم على انفراده كاف لحامله ومكثر من حقوق وسائله وقد صدر مخاطبا عن فحوى ضميره فإنما تحق السفارة إذا قعد بكل طالب سعي سفيره وهو مع ذلك خفيفة صفحته وجيزة لمحته وإذا وجد لدى مولانا معولا فليس عليه أن يرد مطولا إذ التعويل على نجح مصدره لا على كثرة أسطره
فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكتاب وأعطه حقه من التأمل حتى ترى ما اشتمل عليه من المعاني وانظر كيف ذكرت الأول ثم الثاني ثم الثالث أما المعنى الأول فإنه يختص بذكر سعادة البيت الأيوبي ومنشئها وأنها ولدت بتكريت وهذا الرجل ينبغي أن يرعى بسببها إذ كان أبوه صاحبها وأما المعنى الثاني فإنه قصد الخدمة الظاهرية وهذا وسيلة ثانية توجب له ذماما وأما المعنى الثالث فإنه حرمة الكتاب الصادر على يده ثم إني مثلت ذلك بالدعاء النبوي وبتثليث النجوم فإن النبي كان إذا دعا دعا ثلاثا وإنما مثلت ذلك بالدعاء لأمرين أحدهما أنه موضع سؤال وضراعة والآخر أن الكتاب وسيلة ثالثة والدعاء ثلاث مرار وأما تثليث النجوم فإن التثليث سعد والتربيع نحس وأحسن المعاني الثلاثة التي تضمنها هذا الكتاب هو الأول والثالث وأما الثاني فإنه متداول فتأمل ما أشرت إليه وإذا شئت أن تكتب كتابا فافعل كما فعلت في هذا الكتاب إن كان الأمر الذي تكتب فيه غريب الوقوع
واعلم أنه قد يقع المعنى المبتدع في غير أمر غريب الوقوع وذلك يكون قليلا بالنسبة إلى الوقائع الغريبة التي هي مظنة المعاني المبتدعة
ومن هذا الباب ما أوردته في جملة رسالة طردية في وصف قسي البندق وحامليها وهو فإذا تناولوها في أيديهم قيل أهلة طالعة من أكف أقمار وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل منايا مسوقة بأيدي أقدار وتلك قسي وضعت للعب لا للنضال ولردى الأطيار لا لردى الرجال وإذا نعتها ناعت قال إنها جمعت بين وصفي اللين والصلابة وصنعت من نوعين غريبين فحازت معنى الغرابة فهي مركبة من حيوان ونبات مؤلفة منهما على بعد الشتات فهذا من سكان البحر وسواحله وهذا من سكان البر ومجاهله ومن صفاتها أنها لا تتمكن من البطش إلا

حين تشد ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد ولها نثار أحكم تصويرها وصحح تدويرها فهي في لونها صندلية الإهاب وكأنما صيغت لقوتها من حجر لا من تراب فإذا قذفتها إلى الأطيار قيل ويصعد من الأرض من جبال فيها من برد ولا يرى حينئذ إلا قتيل ولكن بالمثقل الذي لا يجب في مثله قود فهي كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها منزلة لها من جو السماء على أم رءوسها
هذا الفصل يشتمل على معان غريبة منها قولي إنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشد ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد ومنها قولي ويصعد من الأرض من جبال فيها من برد وكل هذا من المعاني التي تبتدع بالنظر إلى المقصد المكتوب فيه فإن الكاتب إذا أفكر فيما لديه وتأمله وكان قادرا على استخراج المعنى والمناسبة بينه وبين مقصده جاء هكذا كما تراه إلا أن القادر على ذلك من أقدره الله عليه فما كان خاطر بحكيم ولا كل من أوحى إليه بكليم وفي الأقلام هاشم لمن ناوأه ومنها هشيم
وسأنبه في هذا الموضع على طريق يسلك إلى شيء من المعاني المخترعة وهو ما استخرجته وانفردت باستخراجه دون غيري فإن المعاني المخترعة لم يتكلم فيها أحد بالإشارة إلى طريق يسلك فيها لأن ذلك مما لا يمكن ومن ههنا أضرب علماء البيان عنه ولم يتكلموا فيه كما تكلموا في غيره وكيف تتقيد المعاني المخترعة بقيد أو يفتح إليها طريق تسلك وهي تأتي من فيض إلهي بغير تعليم ولهذا اختص بها بعض الناثرين والناظمين دون بعض والذي يخص بها يكون فذا واحدا يوجد في الزمن المتطاول ولما مارست أنا هذا الفن أعني فن الكتاب وقلبته ظهرا لبطن وفتشت عن دفائنه وخباياه وأكثرت من تحصيل مواده والأسباب الموصلة إلى الغاية منه سنح لي في شيء من المعاني المخترعة طريق سلكته وهو يستخرج من كتاب الله تعالى وأحاديث نبيه وقد تقدم لي منه أمثلة في هذا الكتاب وذلك أنه ترد الآية من كتاب الله أو الحديث النبوي والمراد بهما معنى من المعاني فآخذ أنا ذلك وأنقله إلى معنى آخر فيصير مخترعا لي

وسأورد ههنا منه نبذة يسيرة يعلم منها كيف فعلت حتى يسلك إليها في الطريق الذي سلكته
فمن ذلك قصة أصحاب الكهف والرقيم فإني أخذت ذلك ونقلته إلى الإحسان والشكر ألا ترى أن الإحسان يستعار له كهف وكنف وظل وأشباه ذلك والشكر كلمات تقال في التنويه بذكر المحسن وإحسانه والرقيم هو الكتاب المكتوب فهو والشكر متماثلان والذي أتيت به قد أوردته وهو فصل من كتاب إلى بعض المنعمين
الخادم يشكر إحسان المولى الذي ظل عنده مقيما وغدا بمطالبه زعيما وأصبح بتواليه إليه مغرما كما أصبح له غريما ولما تمثل في الاشتمال عليه كهفا صار شكره فيه رقيما
فانظر كيف فعلت فيه في هذا الموضع لتعلم أني قد فتحت لك فيه طريقا تسلكه
وأما الحديث النبوي فإني أخذت قصة قتلى بدر كأبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم ونقلتها إلى القلم وذاك أن النبي وقف على القليب الذي ألقاهم فيه وناداهم بأسمائهم فقال يا عتبة يا شيبة يا أبا جهل يا فلان يا فلان والحديث مشهور فلا حاجة إلى استقصائه والذي أتيت به في وصف القلم هو أني قلت
ولقد مرح القلم في يدي وحق له أن يمرح وأبدع فيما أتى به وكل إناء بالذي فيه ينضح ومن شأنه أن يستقل على أعواد المنبر فلا ينتهي من خطبتها إلى فصلها ويقف على جانب القليب إلا أنه لا ينادي من المعاني أبا جهلها
فالدواة قليب والقلم يقف عليه والمعاني التي ينشئها من باب العلم لا من باب الجهل فتأمل هذه الكلمات التي ذكرتها فإنها لطيفة جدا وهي مخترعة لي

وهذا القدر كاف في طريق التعليم فليحذ حذوه إن أمكن والله الموفق للصواب
وأما الضرب الآخر من المعاني وهو الذي يحتذى فيه على مثال سابق ومنهج مطروق فذلك جل ما يستعمله أرباب هذه الصناعة ولذلك قال عنترة
( هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُترَدَّمِ ... )
إلا أنه لا ينبغي أن يرسخ هذا القول في الأذهان لئلا يؤيس من الترقي إلى درجة الاختراع بل يعول على القول المطمع في ذلك وهو قول أبي تمام
( لاَ زِلْتَ مِنْ شُكْرِيَ في حُلَّةٍ ... لاَبِسُهَا ذُو سَلَبٍ فاخِرِ )
( يَقُولُ مَنْ تَقْرَعُ أسْمَاعَهُ ... كَمْ تَرَكَ الأَوَّلُ لِلآخِرِ )
وعلى الحقيقة فإن في زوايا الأفكار خبايا وفي أبكار الخواطر سبايا لكن قد تقاصرت الهمم ونكصت العزائم وصار قصارى الآخر أن يتبع الأول وليته تبعه ولم يقصر عنه تقصيرا فاحشا
ووقفت على كتاب يقال له مقدمة ابن أفلح البغدادي قد قصرها على تفصيل أقسام علم الفصاحة والبلاغة وللعراقيين بها عناية وهم واصفون لها ومكبون عليها ولما تأملتها وجدتها قشورا لا لب تحتها لأن غاية ما عند الرجل أن يقول وأما الفصاحة فإنها كقول النابغة مثلا أو كقول الأعشى أو غيرهما ثم يذكر بيتا من الشعر أو أبياتا وما بهذا تعرف حقيقة الفصاحة حتى إذا وردت في

كلام عرفنا أنه فصيح بما عرفنا من حقيقتها الموجودة فيه وكذلك يقول في غير الفصاحة
ومن أعجب ما وجدته في كتاب أنه قال أما المعاني المبتدعة فليس للعرب منها شيء وإنما اختص بها المحدثون ثم ذكر للمحدثين معاني وقال هذا المعنى لفلان وهو غريب وهذا القول لفلان وهو غريب وتلك الأقوال التي خص قائليها بأنهم ابتدعوها قد سبقوا إليها فإما أن يكون غير عارف بالمعنى الغريب وإما أنه لم يقف على أقوال الناظمين والناثرين ولا تبحر فيها حتى عرف ما قاله المتقدم مما قاله المتأخر وأما قوله إنه ليس للعرب معنى مبتدع وإنما هو للمحدثين فيا ليت شعري من السابق إلى المعاني من تقدم زمانه أم من تأخر زمانه
وأنا أورد ههنا ما يستدل به على بطلان ما ذكره وذاك أنه قد ورد من المعاني أن صور المنازل تمثلت في القلوب فإذا عفت آثارها لم تعف صورها من القلوب وأول من أتى بذلك العرب فقال الحرث بن خالد من أبيات الحماسة
( إِنِّي وَمَا نَحَرُوا غَدَاةَ مِنًى ... عِنْدَ الْجِمَارِ يَؤُدُهَا الْعُقْلُ )
( لَوْ بُدِّلَتْ أَعْلَى مَسَاكِنِهَا ... سِفْلاً وَأَصْبَحَ سِفْلُها يَعْلُو )
( لَعَرَفْتُ مَغْناهَا بِمَا ضَمِنَتْ ... مِنِّي الضُّلُوعُ لأَهْلِهَا قَبْلُ )
ثم جاء المحدثون من بعده فانسحبوا على ذيله وحذوا حذوه فقال أبو تمام

( وَقَفْتُ وَأَحْشَائِي مَنَازِلُ لِلأَسَى ... بِهِ وَهْوَ قَفْرٌ قَدْ تَعَفَّتْ مَنَازِلُهْ )
وقال البحتري
( عَفَتِ الرُّسٌومُ وَمَا عَفَتْ أحْشَاؤُهُ ... مِنْ عَهْدِ شَوْقٍ مَا تَحُولٌ فَتْذْهَبُ )
وقال المتنبي
( لَكِ يَا مَنَازِلُ في الْقُلُوبِ مَنَازِلُ ... أقْفَرْتِ أنْتِ وَهُنَّ مِنْكِ أَوَاهِلُ )
وهذا المعنى قد تداوله الشعراء حتى إنه ما من شاعر إلا ويأتي به في شعره
وكذلك ورد لبعضهم من شعراء الحماسة
( أَنَاخَ اللؤمُ وَسْطَ بَنِي رِيَاحٍ ... مَطِيَّتَهُ وَأَقْسَمَ لاَ يَرِيمُ )
( كَذلِكَ كُلُّ ذِي سَفَرٍ إِذَا مَا ... تَنَاهَى عِنْدَ غَايَتِهِ يُقِيمُ )
وهذان البيتان من أبيات المعاني المبتدعة وعلى أثرهما مشى الشعراء

وكذلك ورد لبعضهم في شعر الحماسة
( تَرَكْتُ ضَأنِي تَوَدُّ الذِّئْبَ رَاعِيَهَا ... وَأَنَّهَا لاَ تَرَانِي آخِرَ الأَبَدِ )
( الذِّئْبُ يَطْرُقُهَا في الدَّهْرِ وَاحِدَةً ... وَكُلَّ يَوْمٍ تَرَانِي مُدْيَةٌ بَيَدِي )
وكذلك ورد قول الآخر
( قَوْمٌ إِذَا مَا جَنَى جانِيهِمُ أَمِنُوا ... لِلٌؤْمِ أَحْسَابِهِمْ أَنْ يُقْتَلُوا قَوَدَا )
وكم للعرب من هذه المعاني التي سبقوا إليها
ومن أدل الدليل على فساد ما ذهب إليه من أن المحدثين هم المختصمون بابتداع المعاني أو أول من بكى على الديار في شعره رجل يقال له ابن حزام وكان هو المبتدي لهذا المعنى أولا وقد ذكره امرؤ القيس في شعره فقال
( عُوجاً عَلَى الطَّلَلِ المُحِيلِ لَعَلَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حزَام )
وقد أجمع نقلة الأشعار أن لامرئ القيس في صفات الفرس أشياء كثيرة لم يسبق إليها ولا قيلت من قبله
ويكفي من هذا كله ما قدمت القول فيه وهو أن العرب السابقون بالشعر وزمانهم هو الأول فكيف يقال إن المتأخرين هم السابقون إلى المعاني وفي هذه الأمثلة التي أوردتها كفاية في نقض ما ذكره ولو قال إن المحدثين أكثر ابتداعا للمعاني وألطف مأخذا وأدق نظرا لكان قوله صوابا لأن المحدثين عظم الملك الإسلامي في زمانهم ورأوا ما لم يره المتقدمون وقد قيل إن اللها تفتح اللها وهو كذلك فإن نفاق السوق جلاب

وقد رأيت جماعة من متخلقي هذه الصناعة يجعلون همهم مقصورا على الألفاظ التي لا حاصل وراءها ولا كبير معنى تحتها وإذا أتى أحده بلفظ مسجوع على أي وجه كان من العثاثة والبرد يعتقد أنه قد أتى بأمر عظيم ولا يشك في أنه صار كاتبا مفلقا وإذا نظر إلى كتاب زماننا وجدوا كذلك فقاتل الله القلم الذي يمشي في أيدي الجهال الأغمار ولا يعلم أنه كجواد يمشي تحت حمار ولو أنه لا يتطاول إليه إلا أهله لبان الفاضل من الناقص على أنه كالرمح الذي إذا اعتقله حامله بين الصفين بان به المقدم من الناكص وقد أصبح اليوم في يد قوم هم أحوج من صبيان الكاتب إلى التعليم وقد قيل إن الجهل بالجهل داء لا ينتهي إليه سقم السقيم وهؤلاء لا ذنب لهم لأنهم لو لم يستخدموا في الدول ويستكتبوا وإلا ما ظهرت جهالتهم وفي أمثال العوام لا تعر الأحمق شيئا فيظنه له وكذلك يجري الأمر مع هؤلاء فإنهم استكتبوا في الدول فظنوا أن الكتابة قد صارت لهم بأمر حق واجب
ومن أعجب الأشياء أني لا أرى إلا طامعا في هذا الفن مدعيا له على خلوه عن تحصيل آلاته وأسبابه ولا أرى أحدا يطمع في فن من الفنون غيره ولا يدعيه هذا وهو بحر لا ساحل له يحتاج صاحبه إلى تحصيل علوم كثيرة حتى ينتهي إليه ويحتوي عليه فسبحان الله فسبحان الله هل يدعى بعض هؤلاء أنه فقيه أو طبيب أو حاسب أو غير ذلك من غير أن يحصل آلات ذلك ويتقن معرفتها
فإذا كان العلم الواحد من هذه العلوم الذي يمكن تحصيله في سنة أو سنتين من الزمان لا يدعيه أحد من هؤلاء فكيف يجيء إلى فن الكتاب وهو ما لا تحصل معرفته إلا في سنين كثيرة فيدعيه وهو جاهل به
ومما رأيته من المدعين لهذا الفن الذين حصلوا منه على القشور وقصروا معرفتهم على الألفاظ المسجوعة الغثة التي لا حاصل وراءها أنهم إذا أنكرت هذه الحال عليهم وقيل لهم إن الكلام المسجوع ليس عبارة عن تواطؤ الفقر على حرف واحد فقط إذ لو كان عبارة عن هذا وحده لأمكن أكثر الناس أن يأتوا به من غير كلفة وإنما هو أمر وراء هذا وله شروط متعددة فإذا سمعوا ذلك أنكروه

لخلوهم عن معرفته ثم لو عرفوه وأتوا به على الوجه الحسن من اختيار الألفاظ المسجوعة لاحتاجوا إلى شرط آخر قد نبهت عليه في باب السجع وإذا أنكر عليهم الاقتصار على الألفاظ المسجوعة وهدوا إلى طريق المعاني يقولون لنا أسوة بالعرب الذين هم أرباب الفصاحة فإنهم إنما اعتنوا بالألفاظ ولم يعتنوا بالمعاني اعتناءكم بها فلم يكفهم جهلهم فيما ارتكبوه حتى ادعوا الأسوة بالعرب فيه فصارت جهالتهم جهالتين
ولنذكر ههنا في الرد عليهم ما إذا تأمله الناظر في كتابنا عرف منه ما يؤنقه ويذهب به الاستحسان كل مذهب فنقول
اعلم أن العرب كما كانت تعتني بالألفاظ فتصلحها وتهذبها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأشرف قدرا في نفوسها فأول ذلك عنايتها بألفاظها لأنها لما كانت عنوان معانيها وطريقها إلى إظهار أغراضها أصلحوها وزينوها وبالغوا في تحسينها ليكون ذلك أوقع لها في النفس وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه وإذا لم يكن مسجوعا لم يأنس به أنسه في حالة السجع فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ورققوا حواشيها وصقلوا أطرافها فلا تظن أن العناية إذا ذاك إنما هي بألفاظ فقط بل هي خدمة منهم للمعاني ونظير ذلك إبراز صورة الحسناء في الحلل الموشية والأثواب المحبرة فإنا قد نجد من المعاني الفاخرة ما يشوه من حسنه بذاذة لفظه وسوء العبارة عنه
فإن قيل إنا نرى من ألفاظ العرب ما قد حسنوه وزخرفوه ولسنا نرى تحته مع ذلك معنى شريفا فمما جاء منه قول بعضهم

( وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ منًى كُلَّ حَاجَةٍ ... وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ )
( أخَذْنَا بأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا ... وَسَالَتْ بأَعْنَاقِ الْمَطِيِّ الأَبَاطِحُ )
ألا ترى إلى حسن هذا اللفظ وصقالته وتدبيج أجزائه ومعناه مع ذلك ليس مدانيا له ولا مقاربا فإنه إنما هو لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل ولهذا نظائر شريفة الألفاظ خسيسة المعاني
فالجواب عن ذلك أنا نقول هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم ينعم النظر فيه ولا رأى ما رآه القوم وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر وعدم معرفته وهو أن في قول هذا الشاعر كل حاجة مما يستفيد منه أهل النسيب والرقة والأهواء والمقة ما لا يستفيد غيرهم ولا يشاركهم فيه من ليس منهم ألا ترى أن حوائج منى أشياء كثيرة فمنها التلاقي ومنها التشاكي ومنها التخلي للاجتماع إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به فكأن الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ له وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت ومسح بالأركان ما هو ماسح أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القرية من الله مجراه أي لم نتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح وأما البيت الثاني فإن فيه أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وفي هذا ما نذكره لتعجب به وبمن عجب منه ووضع من معناه وذلك أنه لو قال أخذنا في أحاديثنا أو نحو ذلك لكان فيه ما يكبره أهل النسيب فإنه قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الإلفين والجذل بجمع شمل المتواصلين ألا ترى إلى قول بعضهم
( وَحَدِيثُهَا يَا سَعْدُ عَنْهَا فَزِدْتَنِي ... جُنُوناً فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ يَا سَعْدُ )
وقول الآخر
( وَحَدِيُثُهَا السِّحْرُ الْحَلاَلُ لَوْ انَّهُ ... لَمْ يَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ المُتَحَرِّزِ )
فإذا كان قدر الحديث عندهم على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله أخذنا

بأطراف الأحاديث فإن في ذلك وحيا خفيا ورمزا حلوا ألا ترى أنه قد يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأطيب وأغزل وأنسب من أن يكون كشفا ومصارحة وجهرا وإن كان الأمر كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدما في نفوسهم من لفظهما وإن عذب ولذ مستمعه نعم في قول الشاعر
( وَسَالَتْ بأَعْنَاقِ المطِيِّ الأَبَاطِحُ ... )
من لطافة المعنى وحسنه ما لا خفاء به وسأنبه على ذلك فأقول إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن إمساك الأزمة فاسترخت عن أيديهم وكذلك شأن من يشره وتغلبه الشهوة في أمر من الأمور ولما كان الأمر كذلك وارتخت الأزمة عن الأيدي أسرعت المطايا في المسير فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته وهذا موضع كريم حسن لا مزيد على حسنه والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى فالعرب إنما تحسن ألفاظها وتزخرفها عناية منها بالمعاني التي تحتها فالألفاظ إذا خدم المعاني والمخدوم لا شك أشرف من الخادم فاعرف ذلك وقس عليه

النوع الأول في الاستعارة
ولنقدم قبل الكلام في هذا الموضع قولا جامعا فنقول اعلم أن للفصاحة والبلاغة أوصافا خاصة وأوصافا عامة فالخاصة كالتجنيس فيما يرجع إلى اللفظ وكالمطابقة فيما يرجع إلى المعنى وأما العامة فكالسجع فيما يرجع إلى اللفظ وكالاستعارة فيما يرجع إلى المعنى وهذا الموضع الذي نحن بصدد ذكره وهو الاستعارة كثير الإشكال غامض الخفاء
وسأورد في كتابي هذا ما استخرجته ولم أسمع فيه قولا لغيري وكنت قدمت القول في الفصل السابع من مقدمة الكتاب فيما يختص بإثبات المجاز والرد

على من ذهب إلى أن الكلام كله حقيقة لا مجاز فيه وأقمت الدليل على ذلك ولا حاجة إلى إعادته ههنا بل الذي أذكره ههنا هو ما يختص بالاستعارة التي هي جزء من المجاز ولم سميت بهذا الاسم وكشفت عن حقيقتها وميزتها عن التشبيه المضمر الأداة والكلام في هذا يحتاج إلى إعادة ذكر المجاز وإدخاله فيه ليتقرر ويتبين
والذي انكشف لي بالنظر الصحيح أن المجاز ينقسم قسمين توسع في الكلام وتشبيه والتشبيه ضربان تشبيه تام وتشبيه محذوف فالتشبيه التام أن يذكر المشبه والمشبه به والتشبيه المحذوف أن يذكر المشبه به ويسمى استعارة وهذا الاسم وضع للفرق بينه وبين التشبيه التام وإلا فكلاهما يجوز أن يطلق عليه اسم التشبيه ويجوز أن يطلق عليه اسم الاستعارة لاشتراكهما في المعنى وأما التوسع فإنه يذكر للتصرف في اللغة لا لفائدة أخرى وإن شئت قلت إن المجاز ينقسم إلى توسع في الكلام وتشبيه واستعارة ولا يخرج عن أحد هذه الأقسام الثلاثة فأيها وجد كان مجازا
فإن قيل إن التوسع شامل لهذه الأقسام الثلاثة لأن الخروج من الحقيقة إلى المجاز اتساع في الاستعمال
قلت في الجواب إن التوسع في الشبيه والاستعارة جاء ضمنا وتبعا وإن لم يكن هو السبب الموجب لاستعمالهما وأما القسم الآخر الذي هو لا تشبيه ولا استعارة فإن النسب في استماله هو طلب التوسع لا غير وبيان ذلك أنه قد ثبت أن المجاز فرع عن الحقيقة وأن الحقيقة هي الأصل وإنما يعدل عن الأصل إلى الفرع لسبب اقتضاه وذلك السبب الذي يعدل فيه عن الحقيقة إلى المجاز إما أن يكون لمشاركة بين المنقول إليه في وصف من الأوصاف وإما أن يكون لغير مشاركة فإن كان لمشاركة فإما أن يذكر المنقول والمنقول إليه معا وإما أن يذكر المنقول إليه دون المنقول فإن ذكر المنقول والمنقول إليه معا كان ذلك تشبيها والتشبيه تشبيهان تشبيه مظهر الأداة كقولها زيد كالأسد وتشبيه مضمر الأداة

كقولنا زيد أسد وهذا التشبيه المضمر الأداة قد خلطه قوم بالاستعارة ولم يفرقوا بينهما وذلك خطأ محض
وسأوضح وجه الخطأ فيه وأحقق القول في الفرق بينهما تحقيقا جليا فأقول أما التشبيه المظهر الأداة فلا حاجة بنا إلى ذكره ههنا لأنه معلوم لا خلاف فيه لكن نذكر التشبيه المضمر الأداة الذي وقع فيه الخلاف فنقول إذا ذكر المنقول والمنقول إليه على أنه تشبيه مضمر الأداة قيل فيه زيد أسد أي كالأسد فأداة التشبيه فيه مضمرة وإذا أظهرت حسن ظهورها ولم تقدح في الكلام الذي أظهرت فيه ولا تزيل عنه فصاحة ولا بلاغة وهذا بخلاف ما إذا ذكر المنقول إليه دون المنقول فإنه لا يحسن فيه ظهور أداة التشبيه ومتى أظهرت أزالت عن ذلك الكلام ما كان متصفا به من جنس فصاحة وبلاغة وهذا هو الاستعارة ولنضرب لك مثالا نوضحه فنقول قد ورد هذا البيت لبعض الشعراء وهو
( فَرْعَاءُ إنْ نَهَضَتْ لِحَاجَتِهَا ... عَجِلَ الْقَضِيبُ وَأَبْطَأَ الدِّعْص )
وهذا قد ذكر فيه المنقول إليه دون المنقول لأن تقديره عجل قد كالقضيب وأبطأ ردف كالدعص وبين إيراده على هذا التقدير وبين إيراده على هيئته في البيت بون بعيد في الحسن والملاحة والفرق إذا أن التشبيه المضمر الأداة بحسن إظهار أداة التشبيه فيه والاستعارة لا يحسن ذلك فيها وعلى هذا فإن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له الذي هو المنقول إليه ويكتفي بذكر المستعار الذي هو المنقول
فإن قيل لا نسلم أن الفرق بين التشبيه وبين الاستعارة ما ذهبت إليه بل الفرق بينهما أن التشبيه إنما يكون بأداته كالكاف وكأن وما جرى مجراها فما لم يظهر فيه أداة التشبيه لا يكون تشبيها وإنما يكون استعارة فإذا قلنا زيد أسد كان ذلك استعارة وإذا قلنا زيد كالأسد كان ذلك تشبيها
قلت في الجواب عن ذلك إذا لم نجعل قولنا يد أسد تشبيها مضمر الأداء استحال المعنى لأن زيدا ليس أسدا وإنما هو كالأسد في شجاعته فأداة التشبيه تقدر ههنا ضرورة كي لا يستحيل المعنى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5