كتاب : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر
المؤلف : أبي الفتح ضياء الدين نصرالله بن محمد بن عبدالكريم الموصلي

بسم الله الرحمن الرحيم
نسأل الله ربنا أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله وأن يعلمنا من البيان ما يقصر عنه مزية الفضل وأصله وحكمة الخطاب وفضله ونرغب إليه أن يوفقنا للصلاة على نبينا ومولانا محمد رسوله الذي هو أفصح من نطق بالضاد ونسخ هديه شريعة كل هاد وعلى آله وصحبه الذي منهم من سبق وبدر ومنهم من صابر وصبر ومنهم من آوى ونصر
وبعد فإن علم البيان لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام وأدلة الأحكام وقد ألف الناس فيه كتبا وجلبوا ذهبا وحطبا وما من تأليف إلا وقد تصفحت شينه وسينه وعلمت غثه وسمينه فلم أجد ما ينتفع به في ذلك إلا كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي وكتاب سر الفصاحة لأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي غير أن كتاب الموازنة أجمع أصولا وأجدى

محصولا وكتاب سر الفصاحة وإن نبه فيه على نكت منيرة فإنه قد أكثر مما قل به مقدار كتابه من ذكر الأصوات والحروف والكلام عليها ومن الكلام على اللفظة المفردة وصفاتها مما لا حاجة إلى أكثره ومن الكلام في مواضع شذ عنه الصواب فيها وسيرد بيان ذلك كله في مواضع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
على أن كلا الكتابين قد أهملا من هذا العلم أبوابا ولربما ذكرا في بعض المواضع قشورا وتركا لبابا وكنت عثرت على ضروب كثيرة منه في غضون القرآن الكريم ولم أجد أحدا ممن تقدمني تعرض لذكر شيء منها وهي إذا عدت كانت في هذا العلم بمقدار شطره وإذا نظر إلى فوائدها وجدت محتوية عليه بأسره وقد أوردتها ههنا وشفعتها بضروب أخر مدونه في الكتب المتقدمة بعد أن حذفت منها ما حذفته وأضفت إليها ما أضفته وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متبعة وكل ذلك يظهر عند الوقوف على كتابي هذا وعلى غيره من الكتب
وقد بنيته على مقدمة ومقالتين
فالمقدمة تشتمل على أصول علم البيان
ولا أدعي فيما ألفته من ذلك فضيلة الإحسان ولا السلامة من سلق اللسان فإن الفاضل من تعد سقطاته وتحصى غلطاته
( ويُسِيءُ بالإِحْسَانِ ظَنًّا لا كَمَنْ ... هُوَ بِابْنِهِ وَبِشِعْرِهِ مَقْتُونُ )

وإذا تركت الهوى قلت إن هذا الكتاب بديع في إغرابه وليس له صاحب في الكتب فيقال إنه من أخدانه أو من أترابه مفرد بين أصحابه ومع هذا فإني أتيت بظاهر هذا العلم دون خافيه وحمت حول حماه ولم أقع فيه إذ الغرض إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصع وتخلب العقول فتخدع وذلك شيء تحيل عليه الخواطر لا تنطق به الدفاتر
واعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم وهذا الكتاب وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذا وإذا سألت عما ينتفع به في فنه قيل لك هذا فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعا وأهدى بصرا وسمعا وهما يريانك الخبر عيانا ويجعلان عسرك من القول إمكانا وكل جارحة منك قلبا ولسانا فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك واستنبط بإدمانك ما أخطاك وما مثلي فيما مهدته لك من هذه الطريق إلا كمن طبع سيفا ووضعه في يمينك لتقاتل به وليس عليه أن يخلق لك قلبا فإن حمل النصال غير مباشرة القتال
( وَإِنَّمَا يَبْلُغُ الإِنْسَانُ غَايَتَهُ ... مَا كُلُّ مَاشِيَةٍ بِالرَّحْلِ شِمْلاَلُ )
ولنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول أما مقدمة الكتاب فإنها تشتمل على عشرة فصول

الفصل الأول
في موضوع علم البيان
موضوع كل علم هو الشيء الذي يسأل فيه عن أحواله التي تعرض لذاته فموضوع الفقه هو أفعال المكلفين والفقيه يسأل عن أحوالها التي تعرض لها من الفرض والنفل والحلال والحرام والندب والمباح وغير ذلك وموضوع الطب هو بدن الإنسان والطبيب يسأل عن أحواله التي تعرض له من صحته وسقمه وموضوع الحساب هو الأعداد والحاسب يسأل عن أحوالها التي تعرض لها من الضرب والقسمة والنسبة وغير ذلك وموضوع النحو هو الألفاظ والمعاني والنحوي يسأل عن أحوالهما في الدلالة من جهة الأوضاع اللغوية وكذلك يجري الحكم في كل علم من العلوم وبهذا الضابط انفرد كل علم برأسه ولم يختلط بغيره وعلى هذا فموضوع علم البيان هو الفصاحة والبلاغة وصاحبه يسأل عن أحوالهما اللفظية والمعنوية وهو والنحوي يشتركان في أن النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي وتلك دلالة عامة وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة وهي دلالة خاصة والمراد بها أن يكون على هيئة مخصوصة من الحسن وذلك أمر وراء النحو والإعراب ألا ترى أن النحوي يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور ويعلم مواقع إعرابه ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة ومن ههنا غلط مفسرو الأشعار في اقتصارهم على شرح المعنى وما فيها من الكلمات اللغوية وتبيين مواضع الإعراب منها دون شرح ما تضمنته من أسرار الفصاحة والبلاغة

الفصل الثاني
في آلات علم البيان وأدواته
اعلم أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى آلات كثيرة وقد قيل ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم حتى قيل كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه فيقول فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول فلان الكاتب وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن
وملاك هذا كله الطبع فإنه إذا لم يكن ثم طبع فإنه لا تغني تلك الآلات شيئا ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد والحديدة التي يقدح بها ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار لا تفيد تلك الحديدة شيئا
وكثيرا ما رأينا وسمعنا من غرائب الطباع في تعلم العلوم حتى إن بعض الناس يكون له نفاذ في تعلم علم مشكل المسلك صعب المأخذ فإذا كلف تعلم ما هو دونه من سهل العلوم نكص على عقبيه ولم يكن له فيه نفاذ
وأغرب من ذلك أن صاحب الطبع في المنظوم يجيد في المديح دون الهجاء أو في الهجاء دون المديح أو يجيد في المراثي دون التهاني أو في التهاني دون المراثي وكذلك صاحب الطبع في المنثور هذا ابن الحريري صاحب المقامات قد كان على ما ظهر عنه من تنميق المقامات واحدا في فنه فلما حضر ببغداد ووقف على مقاماته قيل هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة ويحسن أثره فيه فأحضر وكلف كتابة كتاب فأفحم ولم يجر لسانه في طويلة ولا قصيرة فقال فيه بعضهم

( شَيْخُ لَنَا مِنْ رَبِيعَةِ الْفَرَسِ ... يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ مِنَ الْهَوَسِ )
( أنْطَقَهُ اللَّهُ بِالمِشَانِ وَقَدْ ... أَلْجَمَهُ في بَغْدَادَ بالْخَرَسِ )
وهذا مما يعجب منه
وسئلت عن ذلك فقلت لا عجب لأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص
وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له لأن المعاني تتجدد فيها بتجدد حوادث الأيام وهي متجددة على عدد الأنفاس ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المفلق عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور وسعي مذكور ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجما لأنه إذا كتب في كل يوم كتابا واحدا اجتمع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها وإذا نخلت وغربلت واختير الأجود منها إذ تكون كلها جيدة فيخلص منها النصف وهو خمسة أجزاء والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رقاعا في مواضع عدة فجاء بها منحطة عن كلامه في حكاية المقامات لا بل جاء بالغث البارد الذي لا نسبة له إلى باقي كلامه فيها وله أيضا كتابة أشياء خارجة عن المقامات وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائل هذه لما بينهما من التفاوت البعيد
وبلغني عن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب النحوي رحمه الله أنه كان يقول ابن الحريري رجل مقامات أي أنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها وإن أتى بغيرها لا يقول شيئا
فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور ومن أجل ذلك قيل شيئان لا نهاية لهما البيان والجمال
وعلى هذا فإذا ركب الله تعالى في الإنسان طبعا قابلا لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات

النوع الأول معرفة علم العربية من النحو والتصريف
النوع الثاني معرفة ما يحتاج إليه من اللغة وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب ولا المستكره المعيب
النوع الثالث معرفة أمثال العرب وأيامهم ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضا
النوع الرابع الاطلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنثورة والتحفظ للكثير منه
النوع الخامس معرفة الأحكام السلطانية الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك
النوع السادس حفظ القرآن الكريم والتدرب باستعماله وإدراجه في مطاوي كلامه
النوع السابع حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال
النوع الثامن وهو مختص بالناظم دون الناثر وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر
ولنذكر بعد ذلك فائدة كل نوع من هذه الأنواع ليعلم أن معرفته مما تمس الحاجة إليه فنقول
النوع الأول أما علم النحو فإنه في علم البيان من المنظوم والمنثور بمنزلة أبجد في تعليم الخط وهو أول ما ينبغي إتقان معرفته لكل أحد ينطق باللسان العربي ليأمن معرة اللحن ومع هذا فإنه وإن احتيج إليه في بعض الكلام دون بعض لضرورة الإفهام فإن الواضع لم يخص منه شيئا بالوضع بل جعل الوضع عاما وإلا فإذا نظرنا إلى ضرورته وأقسامه المدونة وجدنا أكثرها غير محتاج إليه في إفهام المعاني ألا ترى أنك لو أمرت رجلا بالقيام فقلت له قوم بإثبات الواو ولم

تجزم لما اختل من فهم ذلك شيء وكذلك الشرط لو قلت إن تقوم أقوم ولم تجزم لكان المعنى مفهوما والفضلات كلها تجري هذا المجرى كالحال والتمييز والاستثناء فإذا قلت جاء زيد راكب وما في السماء قدر راحة سحاب وقام القوم إلا زيد فلزمت السكون في ذلك كله ولم تبين إعرابا لما توقف الفهم على نصب الراكب والسحاب ولا على نصب زيد وهكذا يقال في المجرورات وفي المفعول فيه والمفعول له والمفعول معه وفي المبتدإ والخبر وغير ذلك من أقسام أخر لا حاجة إلى ذكرها
لكن قد خرج عن هذه الأمثلة ما لا يفهم إلا بقيود تقيده وإنما يقع ذلك في الذي تدل صيغته الواحدة على معان مختلفة ولنضرب لذلك مثالا يوضحه فنقول
اعلم أن من أقسام الفاعل والمفعول ما لا يفهم إلا بعلامة كتقديم المفعول على الفاعل فإنه إذا لم يكن ثم علامة تبين أحدهما من الآخر وإلا أشكل الأمر كقولك ضرب زيد عمرو ويكون زيد هو المضروب فإنك إذا لم تنصب زيدا وترفع عمرا وإلا لا يفهم ما أردت وعلى هذا ورد قوله تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء )
وكذلك لو قال قائل ما أحسن زيد ولم يبين الإعراب في ذلك لما علمنا غرضه منه إذ يحتمل أن يريد به التعجب من حسنه أو يريد به الاستفهام عن أي شيء منه أحسن ويحتمل أن يريد به الإخبار بنفي الإحسان عنه ولو بين الإعراب في ذلك فقال ما أحسن زيدا وما أحسن زيد وما أحسن زيد علمنا غرضه وفهمنا مغزى كلامه لانفراد كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة بما يعرف به من الإعراب فوجب حينئذ بذلك معرفة النحو إذ كان ضابطا لمعاني الكلام حافظا لها من الاختلاف
وأول من تكلم في النحو أبو الأسود الدؤلي وسبب ذلك أنه دخل على ابنة له بالبصرة فقالت له يا أبت ما أشد الحر متعجبة ورفعت أشد فظنها مستفهمة فقال شهر ناجر فقالت يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب

ويوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل فقال له وما ذاك فأخبره خبر ابنته فقال هلم صحيفة ثم أملى عليه الكلام لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ثم رسم له رسوما فنقلها النحويون في كتبهم
وقيل إن أبا الأسود دخل على زياد ابن أبيه بالبصرة فقال إني أرى العرب قد خالطت العجم وتغيرت ألسنتها أفتأذن لي أن أصنع ما يقيمون به كلامهم فقال لا فقام من عنده ودخل عليه رجل فقال أيها الأمير مات أبانا وخلف بنون فقال زياد مات أبانا وخلف بنون مه ردوا علي أبا الأسود
فردوه فقال له اصنع ما كنت نهيتك عنه فوضع شيئا
ثم جاء بعده ميمون الأقران فزاد عليه ثم جاء بعده عنبسة بن معدان المهري فزاد عليه ثم جاء بعده عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء فزادا عليه ثم جاء بعدهما الخليل بن أحمد الأزدي وتتابع الناس واختلف البصريون والكوفيون في بعض ذلك
فهذا ما بلغني من أمر النحو في أول وضعه وكذلك العلوم كلها يوضع منها في مبادي أمرها شيء يسير ثم يزاد بالتدريج إلى أن يستكمل آخرا
فإن قيل أما علم النحو فمسلم إليك أنه تجب معرفته لكن التصريف لا حاجة إليه لأن التصريف إنما هو معرفة أصل الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها وهذا لا يضر جهله ولا تنفع معرفته ولنضرب لذلك مثالا كيف اتفق فنقول إذا قال القائل رأيت سرداحا لا يلزمه أن يعرف الألف في هذه الكلمة زائدة هي أم أصليه لأن العرب لم تنطق بها إلا كذلك ولو قالت سرداحا بغير ألف لما جاز لأحد أن يزيد الألف فيها من عنده فيقول سرداحا فعلم بهذا أنه إنما ينطق الألفاظ

كما سمعت عن العرب من غير زيادة فيها ولا نقص وليس يلزم بعد ذلك أن يعلم أصلها ولا زيادتها لأن ذلك أمر خارج تقتضيه صناعة تأليف الكلام
فالجواب عن ذلك أنا نقول اعلم أنا لم نجعل معرفة التصريف كمعرفة النحو لأن الكاتب أو الشاعر إذا كان عارفا بالمعاني مختارا لها قادرا على الألفاظ مجيدا فيها ولم يكن عارفا بعلم النحو فإنه يفسد ما يصوغه من الكلام ويختل عليه ما يقصده من المعاني كما أريناك في ذلك المثال المتقدم وأما التصريف فإنه إذا لم يكن عارفا به لم تفسد عليه معاني كلامه وإنما تفسد عليه الأوضاع وإن كانت المعاني صحيحة وسيأتي بيان ذلك في تحرير الجواب فنقول أما قولك إن التصريف لا حاجة إليه واستدلالك بما ذكرته من المثال المضروب فإن ذلك لا يستمر لك الكلام فيه ألا ترى أنك مثلت كلامك في لفظة سرداح وقلت إنه لا يحتاج إلى معرفة الألف زائدة هي أم أصلية لأنها إنما نقلت عن العرب على ما هي عليه من غير زيادة ولا نقص وهذا لا يطرد إلا فيما هذا سبيله من نقل الألفاظ على هيئتها من غير تصرف فيها بحال فأما إذا أريد تصغيرها أو جمعها والنسبة إليها فإنه إذا لم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها يضل حينئذ عن السبيل وينشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن ألا ترى أنه إذا قيل للنحوي وكان جاهلا بعلم التصريف كيف تصغير لفظة اضطراب فإنه يقول ضطيرب ولا يلام على جهله بذلك لأن الذي تقتضيه صناعة النحو قد أتى به وذلك أن النحاة يقولون إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف وفيها حرف زائد أو لم يكن حذفته نحو قولهم في منطلق مطيلق وفي جحمرش جحيمر

فلفظة منطلق على خمسة أحرف وفيها حرفان زائدان هما الميم والنون إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى فلذلك لم تحذف وحذفت النون وأما لفظة جحمرش فخماسية لا زيادة فيها وحذف منها حرف أيضا ولم يعلم النحوي أن علماء النحو إنما قالوا ذلك مهلا اتكالا منهم على تحقيقه من علم الصرف لأنه لا يلزمهم أن يقولوا في كتب النحو أكثر مما قالوا وليس عليهم أن يذكروا في باب من أبواب النحو شيئا من التصريف لأن كلا من النحو والتصريف علم منفرد برأسه غير أن أحدهما مرتبط بالآخر ومحتاج إليه
وإنما قلت إن النحوي إذا سئل عن تصغير لفظة اضطراب يقول ضطيرب لأنه لا يخلو إما أن يحذف من لفظة اضطراب الألف أو الضاد أو الطاء أو الراء أو الباء وهذه الحروف المذكورة غير الألف ليست من حروف الزيادة فلا تحذف بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الذي ليس بزائد فلذلك قلنا إن النحوي يصغر لفظة اضطراب على ضطيرب فيحذف الألف التي هي حرف زائد دون غيرها مما ليس من حروف الزيادة وأما أن يعلم أن الطاء في اضطراب مبدلة من تاء وأنه إذا أريد تصغيرها تعاد إلى الأصل الذي كانت عليه وهو التاء فيقال ضتيرب فإن هذا لا يعلمه إلا التصريفي وتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف معرفة ذلك كتكليفه علم ما لا يعلمه فثبت بما ذكرناه أنه يحتاج إلى علم التصريف لئلا يغلط في مثل هذا
ومن العجب أن يقال إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف ألم تعلم أن نافع ابن أبي نعيم وهو من أكبر القراء السبعة قدرا وأفخمهم شأنا قال في معايش معائش بالهمز ولم يعلم الأصل في ذلك فأوخذ عليه وعيب من أجله ومن

جملة من عابه أبو عثمان المازني فقال في كتابه في التصريف إن نافعا لم يدر ما العربية وكثيرا ما يقع أولوا العلم في مثل هذه المواضع فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا اطلاع لهم عليها وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا وهذه لفظة معايش لا يجوز همزها بإجماع من علماء العربية لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف ويكون بعدها حرف واحد ولا تكون عينا نحو سفائن وفي هذا الموضع غلط نافع رحمة الله عليه لأنه لا شك اعتقد أن معيشة بوزن فعيلة وجمع فعيلة هو على فعائل ولم ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة وذلك لأن أصل هذه الكلمة من عاش التي أصلها عيش على وزن فعل ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء نحو يعيش ثم تنقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش ثم يبني من يعيش مفعول فيقال معيوش به كما يقال مسيور به ثم يخفف ذلك بحذف الواو فيقال معيش به كما يقال مسير به ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة
ومع هذا فلا ينبغي لصاحب هذه الصناعة من النظم والنثر أن يهمل من علم العربية ما يخفى عليه بإهماله اللحن الخفي فإن اللحن الظاهر قد كثرت مفاوضات الناس فيه حتى صار يعلمه غير النحوي ولا شك أن قلة المبالاة بالأمر واستشعار القدرة عليه توقع صاحبه فيما لا يشعر أنه وقع فيه فيجهل بما يكون عالما به
ألا ترى أن أبا نواس كان معدودا في طبقات العلماء مع تقدمه في طبقات الشعراء وقد غلط فيما لا يغلط مثله فيه فقال في صفة الخمر
( كَأَنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ فَوَاقِعِها ... حَصبَاءُ دُرٍّ عَلَى أَرْضٍ مِنَ الذَّهَبِ )

وهذا لا يخفى على مثل أبي نواس فإنه من ظواهر علم العربية وليس من غوامضه في شيء لأنه أمر نقلي يحمل ناقله فيه على النقل من غير تصرف وقول أبي نواس صغرى وكبرى غير جائز فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها وإنما يجوز حذفها من فعلى التي لا أفعل لها نحو حبلى إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة وههنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته
وقد غلط أبو تمام في قوله
( بِالْقَائِمِ الثَّامِنِ المُسْتَخْلَفِ اطأدَتْ ... قَوَاعِدُ المُلْكِ مُمْتَدًّا لَهَا الطُّولُ )
ألا ترى أنه قال اطأدت والصواب اتطدت لأن التاء تبدل من الواو في موضعين أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع لأنك إذا بنيت افتعل من الوعد قلت اتعد ومثله ما ورد في هذا البيت فإنه من وطد يطد كما يقال وعد يعد فإذا بني منه افتعل قيل اتطد ولا يقال اطأد وأما غير المقيس فقولهم في وجاه تجاه وقالوا تكلان وأصله الواو لأنه من وكل يكل فأبدلت الواو تاء للاستسحان فهذه الأمثلة قد أشرت إليها ليعلم مكان الفائدة في أمثالها وتتوقى
على أني لم أجد أحدا من الشعراء المفلقين سلم من مثل ذلك فإما أن يكون لحن لحنا يدل على جهله مواقع الإعراب وإما أن يكون أخطأ في تصريف الكلمة ولا أعني بالشعراء من هو قريب عهد بزماننا بل أعني بالشعراء من تقدم زمانه كالمتنبي ومن كان قبله كالبحتري ومن تقدمه كأبي تمام ومن سبقه كأبي نواس والمعصوم من عصمه الله تعالى

على أن المخطئ في التصريف أندر وقوعا من المخطئ في النحو لأنه قلما يقع له كلمة يحتاج فيه استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها وأما النحو فإنه يقع الخطأ فيه كثيرا حتى إنه ليشذ في ظاهره في بعض الأحوال فكيف خافيه كقول أبي نواس في الأمين محمد رحمه الله
( يَا خَيْرَ مَنْ كَانَ وَمَنْ يَكُونُ ... إِلاَّ النَّبِيٌّ الطَّاهِرُ المَيْمُونُ )
فرفع في الاستثناء من الموجب وهذا من ظواهر النحو وليس من خافيه في شيء وكذلك قال أبو الطيب المتنبي
( أَرَأَيْتَ هِمَّةَ نَاقَتِي فِي نَاقَةٍ ... نَقَلَتْ يَدَاً سُرُحاً وَخُفًّا مُجْمَرا )
( تَرَكَتْ دُخَانَ الرَّمْثِ فِي أوْطَانِهَا ... طَلَباً لِقَوْمٍ يُوقِدُونَ الْعَنْبَرَا )
( وَتَكَرَّمَتْ رُكَبَاتُهَا عَنْ مَبْرَكٍ ... تَقَعَانِ فِيْهِ وَلَيْسَ مِسْكاً أذْفَرَا )
فجمع في حال التثنية لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان فقال ركبات وهذا من أظهر ظواهر النحو وقد خفي على مثل المتنبي

ومع هذا فينبغي لك أن تعلم أن الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة ولكنه يقدح في الجاهل به نفسه لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه وهم الناطقون باللغة فوجب اتباعهم والدليل على ذلك أن الشاعر لم ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة ولهذا لم يكن اللحن قادحا في حسن الكلام لأنه إذا قيل جاء زيد راكب إن لم يكن حسنا إلا بأن يقال جاء راكبا بالنصب لكان النحو شرطا في حسن الكلام وليس كذلك
فتبين بهذا أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته وإنما الغرض أمر وراء ذلك وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من الكلام المنثور
وأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب لكن الشاعر ربما احتاج إليه لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف وإلى فك إدغام من أجل إقامة الميزان الشعري
النوع الثاني وهو قولنا إنه يحتاج إلى معرفة اللغة مما تداول استعماله فسيرد بيانه عند ذكر اللفظة الواحدة والكلام على جيدها ورديئها في المقالة المختصة بالصناعة اللفظية
ويفتقر أيضا مؤلف الكلام إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر ليجد إذا ضاق به موضع في كلامه بإيراد بعض الألفاظ سعة في العدول عنه إلى غيره مما هو في معناه وهذه الأسماء تسمى المترادفة وهي اتحاد المسمى واختلاف أسمائه كقولنا الخمر والراح والمدام فإن المسمى بهذه الأسماء شيء واحد وأسماؤه كثيرة
وكذلك يحتاج إلى معرفة الأسماء المشتركة ليستعين بها على استعمال التجنيس في كلامه وهي اتحاد الاسم واختلاف المسميات كالعين فإنها تطلق على العين الناظرة وعلى ينبوع الماء وعلى المطر وغيره إلا أن المشتركة تفتقر

في الاستعمال إلى قرينة تخصصها كي لا تكون مبهمة لأنا إذا قلنا عين ثم سكتنا وقع ذلك على محتملات كثيرة من العين الناظرة والعين النابعة والمطر وغيره مما هو موضوع بإزاء هذا الاسم وإذا قرنا إليه قرينة تخصه زال ذلك الإبهام بأن نقول عين حسناء أو عين نضاخة أو ملثة أو غير ذلك
وهذا موضع للعلماء فيه مجاذبات جدلية
فمنهم من ينكر أن يكون اللفظ المشترك حقيقة في المعنيين جميعا ويقول إن ذلك يخل بفائدة وضع اللغة لأن اللغة إنما هي وضع الألفاظ في دلالتها على المعاني أي وضع الأسماء على المسميات لتكون منبئة عنها عند إطلاق اللفظ والاشتراك لا بيان فيه وإنما هو ضد البيان لكن طريق البيان أن يجعل أحد المعنيين في اللفظ المشترك حقيقة والآخر مجازا فإذا قلنا هذه كلمة وأطلقنا القول فهم منه اللفظة الواحدة وإذا قيدنا اللفظ فقلنا هذه كلمة شاعرة فهم من القصيدة المقصدة من الشعر وهي مجموع كلمات كثيرة ولو أطلقنا من غير تقييد وأردنا القصيدة من الشعر لما فهم مرادنا ألبتة
هذا خلاصة ما ذهب إليه من ينكر وقوع اللفظ المشترك في المعنيين حقيقة وفي ذلك ما فيه وسأبين ما يدخله من الخلل فأقول في الجواب عن ذلك ما استخرجته بفكري ولم يكن لأحد فيه قول من قبلي
وهو أما قولك إن فائدة وضع اللغة إنما هو البيان عند إطلاق اللفظ واللفظ المشترك يخل بهذه الفائدة فهذا غير مسلم بل فائدة وضع اللغة هو البيان والتحسين
أما البيان فقد وفى به الأسماء المتباينة التي هي كل اسم واحد دل على

مسمى واحد فإذا أطلق اللفظ في هذه الأسماء كان بينا مفهوما لا يحتاج إلى قرينة ولو لم يضع الواضع من الأسماء شيئا غيرها لكان كافيا في البيان
وأما التحسين فإن الواضع لهذه اللغة العربية التي هي أحسن اللغات نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة فيما يصوغونه من نظم ونثر ورأي أن من مهمات ذلك التجنيس ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة التي هي كل اسم واحد دل على مسميين فصاعدا فوضعها من أجل ذلك وهذا الموضع يتجاذبه جانبان يترجح أحدهما على الآخر وبيانه أن التحسين يقضي بوضع الأسماء المشتركة ووضعها يذهب بفائدة البيان عند إطلاق اللفظ وعلى هذا فإن وضعها الواضع ذهب بفائدة البيان وإن لم يضع ذهب بفائدة التحسين لكنه إن وضع استدرك ما ذهب من فائدة البيان بالقرينة وإن لم يضع لم يستدرك ما ذهب من فائدة التحسين فترجح حينئذ جانب الوضع فوضع
فإن قيل فلم لا تنسب الأسماء المشتركة إلى اختلاف القبائل لا إلى واضع واحد
قلت في الجواب هذا تعسف لا حاجة إليه وهو مدفوع من وجهين أحدهما ما قدمت القول فيه من الترجيح الذي سوغ للواضع أن يضع
الآخر أنا نرى أنه قد ورد من الجموع ما يقع على مسميين اثنين كقولهم كعاب جمع كعب الذي هو كعب الرجل وجمع كعبة وهي البنية المعروفة وإذا أطلقنا اللفظ فقلنا كعاب من غير قرينة لا يدرى ما المراد بذلك أكعب الرجل أم البنية المعروفة وكذلك ورد واحد وجمع على وزن واحد كقولهم راح اسم للخمر وراح جمع راحة وهي الكف وكقولهم عقاب وهو الجزاء على الذنب وجمع عقبة أيضا وفي اللغة من هذا شيء كثير وهو بالإجماع من علماء العربية أنه لم يجر فيه خلاف بين القبائل فاتضح بهذا أن الأسماء المشتركة من واضع واحد

فإن قلت إن الواضع إنما وضع المفرد من الألفاظ والجمع وضعه غيره
قلت في الجواب إن الذي وضع المفرد هو الذي وضع الجمع لأن من قواعد وضع اللغة أن يوضع المفرد والجمع والمذكر والمؤنث والمصغر والمكبر والمصادر وأسماء الفاعلين وما جرى هذا المجرى وإذا أخل بشيء من ذلك كان قد أخل بقاعدة من قواعد وضع اللغة ثم لو سلمت إليك أن واضع الجمع غير واضع المفرد لكان ذلك قدحا في الواضع الثاني إذ جاء بالإبهام عند إطلاق اللفظ لأنه جمع كعبة التي هي البنية وكعب الرجل على كعاب وهذا لفظ مشترك مبهم عند الإطلاق ولا فرق بين أن يضعه الواضع الأول أو واضع ثان فإن الإبهام حاصل منه
وكان فاوضني بعض الفقهاء في قوله تعالى في سورة البقرة ( صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ) وقال إن لون البقرة كان أسود والأصفر هو الأسود فأنكرت عليه هذا القول فأخذ يجادل مجادلة غير عارف ويعزو ذلك إلى تفسير النقاش وتفسير البلاذري فقلت له اعلم أن هذا الاسم الذي هو الأصفر لا يخلو في دلالته على الأسود من وجهين إما أنه من الأسماء المتباينة التي يدل كل اسم منها على مسمى واحد كالإنسان والأسد والفرس وغير ذلك وإما أنه من الأسماء المشتركة التي يدل الاسم منها على مسميين فصاعدا ولا يجوز أن يكون من الأسماء المتباينة لأنا نراه متجاذبا بين لونين أحدهما هذا اللون الزعفراني الشكل والآخر اللون المظلم الشكل وعلى هذا فإنه يكون من الأسماء المشتركة وإذا كان من الأسماء المشتركة فلا بد له من قرينة تخصصه باللون الزعفراني دون اللون المظلم لأن الله تعالى قال ( صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا ) والفاقع من صفات اللون الزعفراني خاصة لأنه قد ورد للألوان صفات متعددة لكل لون منها صفة فقيل أبيض يقق وأسود حالك وأحمر قان وأصفر فاقع ولم يقل أسود فاقع ولا أصفر حالك فعلم حينئذ أن لون البقرة لم يكن أسود وإنما كان أصفر فلما تحقق عند ذلك الفقيه ما أشرت إليه أذعن بالتسليم
وأما النوع الثالث فهو معرفة أمثال العرب وأيامهم ومعرفة الوقائع التي

وردت في حوادث خاصة بأقوام وقولي هذا لا يقتضي كل الأمثال الواردة عنهم فإن منها ما لا يحسن استعماله كما أن من ألفاظهم أيضا ما لا يحسن استعماله وكنت جردت من كتاب الأمثال للميداني أوراقا خفيفة تشتمل على الحسن من الأمثال الذي يدخل في باب الاستعمال وسبيل المتصدي لهذا الفن أن يسلك ما سلكته وليعلم أن الحاجة إليها شديدة وذلك أن العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها وحوادث اقتضتها فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يعرف بها الشيء وليس في كلامهم أوجز منها ولا أشد اختصارا
وسبب ذلك ما أذكره لك لتكون من معرفته على يقين فأقول قد جاء عن العرب من جملة أمثاله إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر وهو مثل يضرب للأمر الظاهر المشهور والأصل فيه كما قال المفضل بن محمد أنه بلغنا أن بين ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر فقالت طائفة تطلع الشمس والقمر يرى وقالت طائفة يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس فتراضوا برجل جعلوه حكما فقال واحد منهم إن قومي يبغون علي فقال الحكم إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر
فذهبت مثلا ومن المعلوم أن قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به والأسباب التي قيل من أجلها لا يعطي من المعنى ما قد أعطاه المثل وذلك أن المثل له مقدمات وأسباب قد عرفت وصارت مشهورة بين الناس معلومة عندهم وحيث كان الأمر كذلك جاز إيراد هذه اللفظات في التعبير عن المعنى المراد ولولا تلك المقدمات المعلومة والأسباب المعروفة لما فهم من قول القائل إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر ما ذكرناه من المعنى المقصود بل ما كان يفهم من هذا القول معنى مفيد لأن البغي هو الظلم والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحدا فكان يصير معنى المثل إن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر وهذا كلام مختل المعنى ليس بمستقيم فلما كانت الأمثال كالرموز والإشارات التي يلوح بها على المعاني تلويحا

صارت من أوجز الكلام وأكثره اختصارا ومن أجل ذلك قيل في حد المثل إنه القول الوجيز المرسل ليعمل عليه وحيث هي بهذه المثابة فلا ينبغي الإخلال بمعرفتها
وأما أيام العرب فإنها تتنوع وتتشعب فمنها أيام فخار ومنها أيام محاربة ومنها أيام منافرة ومنها غير ذلك ولا يخلو الناظم والناثر من الانتصاب لوصف يوم يمر به في بعض الأحوال شبيها بيوم من تلك الأيام ومماثلا له فإذا جاء بذكر بعض تلك الأيام المناسبة لمراده الموافقة له وقاس عليه يومه فإنه يكون في غاية الحسن والرونق هذا لا خفاء به
وأما الوقائع التي وردت في حوادث خاصة بأقوام فإنها كالأمثال في الاستشهاد بها وسأبين لك نبذة منها حتى تعلم مقدار الفائدة بها
فمن ذلك أنه ورد عن النبي حديث بيعة الحديبية تحت الشجرة وكان أرسل عثمان رضي الله عنه إلى مكة في حاجة عرضت له ولم يحضر البيعة فضرب رسول الله بيده الشمال على اليمين وقال ( هذه عن عثمان وشمالي خير من يمينه )
وقد استعملت أنا هذا في جملة كتاب فقلت ولا يعد البر برا حتى يلحق الغيث بالحصور ويصل من لم يصله بجزاء ولا شكور فزنة الغائب بالشاهد من كرم الإحسان ولهذا نابت شمال رسول الله عن يمين عثمان
ومن ذلك أنه ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استدعى أبا موسى الأشعري ومن يليه من العمال وكان منهم الربيع بن زياد الحارثي فمضى إلى يرفأ مولى عمر وسأله عما يروج عنده وينفق عليه فأشار إلى خشونة العيش فمضى ولبس جبة صوف وعمامة دسماء وخفا مطابقا وحضر بين يديه في جملة

العمال فصوب عمر نظره وصعده فلم يقع إلا عليه فأدناه وسأله عن حاله ثم أوصى أبا موسى الأشعري به
وقد استعملت أنا هذا في جملة تقليد لبعض الملوك من ديوان الخلافة فقلت
وإذا استعنت بأحد على عملك فاضرب عليه بالأرصاد ولا ترض بما عرفته من مبدأ حاله فإن الأحوال تتنقل تنقل الأجساد وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب بالربيع بن زياد
فانظر كيف فعلت في هاتين القصتين وكيف أوردتهما في الغرض الذي قصدته وامض أنت على هذا النهج فإنه من محاسن هذه الصنعة
وعرض علي كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني رحمه الله عن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله إلى ديوان الخلافة ببغداد في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وضمنه ما أبلاه في خدمة الدولة من فتح الديار المصرية ومحو الدولة العلوية وإقامة الدعوى العباسية وشرح فيه ما قاساه في الفتح من الأهوال ولما تأملته وجدته كتابا حسنا قد وفى فيه الخطابة حقها إلا أنه أخل بشيء واحد وهو أن مصر لم تفتح إلا بعد أن قصدت من الشام ثلاث مرات وكان الفتح في المرة الثالثة وهذا له نظير في فتح النبي مكة فإنه قصدها عام الحديبية ثم سار إليها في عمرة القضاء ثم سار إليها عام الفتح ففتحها
وقد سألني بعض الإخوان أن أنشئ في ذلك كتابا إلى ديوان الخلافة معارضا للكتاب الذي أنشأه عبد الرحيم بن علي رحمه الله فأجبته إلى سؤاله وعددت مساعي صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله فقلت
ومن جملتها ما فعله الخادم في الدولة المصرية وقد قام بها منبر وسرير وقالت منا أمير ومنكم أمير فرد الدعوة العباسية إلى معادها وأذكر المنابر ما نسيته بها من زهو أعوادها وكانت أخرجت منها إخراج النبي من قريته وقذف

الشيطان على حقها بباطله وعلى صدقها بغويته ثم طوتها الليالي طي السجل للكتاب وكثر عليها مرور الدهر حتى نسي لها عدد السنين والحساب ولم يعدها إلى وطنها حتى تغربت لها الأرواح عن أوطانها وسهرت لها أجفان السيوف سهر العيون عن أجفانها وتطاردت الآراء في تسهيل أمرها قبل مطاردة أقرانها وحتى تقدمتها غربات ثلاث كلها ذوات غروب وكل خطب من خطوبها ذو خطوب إلى أن تمخض ليلها عن صبحه وأصبحت في الإسلام كعام حديبيته وعمرة قضائه وعام فتحه وفي ذكر أخبارها ما يطبع الأسنة في رءوس الأقلام ويرهب سامعها ولم ينله شيء من مكروهها سوى الكلام ويومها للدولة هو اليوم الذي أرخ فيه معاد نصرها وميعاد بشرها فإذا عدت لياليها السالفة كانت كسائر الليالي وهذه ليلة قدرها
فهذا فصل من فصول الكتاب فانظر كيف ماثلت بين الفتح المصري وفتح مكة وذكرت أيضا حديث الحباب بن المنذر الأنصاري حيث قال بعد وفاة النبي منا أمير ومنكم أمير وذلك لما حضر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم في سقيفة بني ساعدة والقصة مشهورة فقال الحباب بن المنذر منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر رضي الله عنه بل نحن الأمراء وأنتم الوزراء وهذا الذي ذكرته هو نكتة هذا الفتح التي عليها المعول ومركزه الذي عليه يدور وعجبت من عبد الرحيم بن علي البيساني مع تقدمه في فن الكتابة كيف فاته أن يأتي به في الكتاب الذي كتبه
وكذلك وجدت لابن زياد البغدادي كتابا كتبه إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف المقدم ذكره في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وضمنه فصولا تشتمل على أمور أنكرت عليه من ديوان الخلافة فمن تلك الأمور التي أنكرت عليه أنه تلقب بالملك الناصر وذلك اللقب هو لأمير المؤمنين خاصة فإنه الإمام الناصر

لدين الله فلما وقفت على ذلك الكتاب وجدته كتابا حسنا قد أجاد فيه كل الإجادة ولم أجد فيه مغمزا إلا في هذا الفصل الذي يتضمن حديث اللقب فإنه لم يأت بكلام يناسب باقي الفصول المذكورة بل أتى فيه بكلام فيه غثاثة كقوله ما يستصلحه المولى فهو على عبده حرام وشيئا من هذا النسق وكان الأليق والأحسن أن يحتج بحجة فيها روح ويذكر كلاما فيه ذلاقة ورشاقة
وحضر عندي في بعض الأيام بعض إخواني وجرى حديث ذلك فسألني عما كان ينبغي أن يكتب في هذا الفصل فذكرت ما عندي وهو قد علم أن للأنبياء والخلفاء خصائص يختصون بها على حكم الانفراد وليس لأحد من الناس أن يشاركهم فيها مشاركة الأنداد وقد أجرى رسول الله ذلك في أشياء نص عليها بحكمه ومن جملتها أنه نهى غيره أن يجتمع بين كنيته وبين اسمه وهذا مسوغ لأمير المؤمنين أن يختص بأمر يكون به مشهورا وعلى غيره محظورا وقد وسم نفسه بسمة نزلت عليه من السماء وتميزت به من بين المسميات والأسماء ثم استمرت عليها الأيام حتى خوطب بها من الحاضر والباد ورفعها الخطباء على المنابر في أيام الجمع ومواسم الأعياد وقد شاركته أنت فيها غير مراقب لمزية التعظيم ولا فارق بين فسحة التحليل وحرج التحريم والشرع والأدب يحكمان عليك بأن تلقى ما فرط منك بالمتاب ولا تحوج فيه إلى التقريع الذي هو أشد العتاب ومثلك من عرف الحق فأمسكه بيده ونسخ إغفال أمسه باستئناف التيقظ في غده والله قد رفع المؤاخذة عمن أتى الشيء خطأ لا عمدا وقبل التوبة ممن أخذ على نفسه بالإخلاص عهدا
فانظر أيها المتأمل كيف جئت بالخبر النبوي وجعلته شاهدا على هذا الموضع ولا يمكن أن يحتج في مثل ذلك إلا بمثل هذا الاحتجاج وما أعلم كيف شذ عن ابن زياد أن يأتي به مع أنه كان كاتبا مفلقا أرتضي كتابته ولم أجد في متأخري العراقيين من يماثله في هذا الفن

وأما النوع الرابع وهو الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور فإن في ذلك فوائد جمة لأنه يعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم ويعرف به مقاصد كل فريق منهم وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك فإن هذه الأشياء مما تشحذ القريحة وتذكي الفطنة وإذا كان صاحب هذه الصناعة عارفا بها تصير المعاني التي ذكرت وتعب في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد ويترك ما أراد وأيضا فإنه إذا كان مطلعا على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه ومن المعلوم أن خواطر الناس وإن كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها لا يكون عاليا على بعض أو منحطا عنه إلا بشيء يسير وكثيرا ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالمعاني حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ ثم يأتي الآخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينهما من غير علم منه بما جاء به الأول وهذا الذي يسميه أرباب هذه الصناعة وقوع الحافر على الحافر وسيأتي لذلك باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى
وأما النوع الخامس وهو معرفة الأحكام السلطانية من الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك فإنما أوجبنا معرفتها والإحاطة بها لما يحتاج إليه الكاتب في تقليدات الملوك والأمراء والقضاة والمحتسبين ومن يجري مجراهم وأيضا فإنه قد يحدث في الإمامة حادث في بعض الأوقات بأن يموت الإمام القائم بأمر المسلمين ثم يتولى من بعده من لم تكمل فيه شرائط الإمامة أو يكون كامل الشرائط غير أن الإمام الذي كان قبله عهد بها إلى آخر غيره وهو ناقص الشرائط أو يكون قد تنازع الإمامة اثنان أو يكون أرباب الحل والعقد قد اختاروا إماما وهم غير كاملي الشرائط التي تجب أن توجد فيهم أو يكون أمر غير ما ذكرناه فتختلف الأطراف في ذلك وينتصب ملك من الملوك له عناية بالإمام الذي قد قام للمسلمين فيأمر كاتبه أن يكتب كتابا في أمره إلى الأطراف المخالفة له وإذا لم يكن الكاتب عند ذلك عارفا بالحكم في هذه الحوادث واختلاف أقوال العلماء فيها وما هو رخصة في ذلك وما ليس برخصة لا يكتب كتابا ينتفع به ولسنا نعني بهذا القول أن يكون الكتاب مقصورا على فقه محض فقط لأنا لو أردنا ذلك لما

كنا نحتاج فيه إلى كتب كتاب بلاغي بل كنا نقتصر على إرسال مصنف من مصنفات الفقه عوضا عن الكتاب وإنما قصدنا أن يكون الكاتب الذي يكتب في هذا المعنى مشتملا على الترغيب والترهيب والمسامحة في موضع والمحاقة في موضع مشحونا ذلك بالنكت الشرعية المبرزة في قوالب البلاغة والفصاحة كما فعل الكاتب الصابي في الكتاب الذي كتبه عن عز الدولة بختيار بن معز الدولة ابن بويه إلى الإمام الطائع لما خلع المطيع فإنه من محاسن الكتب التي تكتب في هذا الفن
وأما النوع السادس وهو حفظ القرآن الكريم فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفا بذلك لأن فيه فوائد كثيرة منها أنه يضمن كلامه بالآيات في أماكنها اللائقة بها ومواضعها المناسبة لها ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرونق ومنها أنه إذا عرف مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودعة في تأليف القرآن اتخذه بحرا يستخرج منه الدرر والجواهر ويودعها مطاوي كلامه كما فعلته أنا فيما أنشأته من المكاتبات وكفى بالقرآن الكريم وحده آلة وأداة في استعمال أفانين الكلام فعليك أيها المتوشح لهذه الصناعة بحفظه والفحص عن سره وغامض رموزه وإشاراته فإنه تجارة لن تبور ومنبع لا يغور وكنز يرجع إليه وذخر يعول عليه
وأما النوع السابع وهو حفظ الأخبار النبوية مما يحتاج إلى استعماله فإن الأمر في ذلك يجري مجرى القرآن الكريم وقد تقدم القول عليه فاعرفه
وأما النوع الثامن وهو ما يختص بالناظم دون الناثر وذلك معرفة العروض وما يجوز فيه من الزحاف وما لا يجوز فإن الشاعر محتاج إليه ولسنا نوجب عليه المعرفة بذلك لينظم بعلمه فإن النظم مبني على الذوق ولو نظم بتقطيع الأفاعيل لجاء شعره متكلفا غير مرضي وإنما أريد للشاعر معرفة العروض لأن الذوق قد ينبو

عن بعض الزحافات ويكون ذلك جائزا في العروض وقد ورد للعرب مثله فإذا كان الشاعر غير عالم به لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وما لا يجوز وكذلك أيضا يحتاج الشاعر إلى العلم بالقوافي والحركات ليعلم الروي والردف وما يصح من ذلك وما لا يصح
فإذا أكمل صاحب هذه الصناعة معرفة هذه الآلات وكان ذا طبع مجيب وقريحة مواتية فعليه بالنظر في كتابنا هذا والتصفح لما أودعناه من حقائق علم البيان ونبهنا عليه من أصول ذلك وفروعه على أن الذي ذكرناه من هذه الآلات الثمان هو كالأصل لما يحتاج إليه الخطيب والشاعر ومعرفته ضرورية لا بد منها وههنا أشياء أخر هي كالتوابع والروادف
وبالجملة فإن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فن من الفنون حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء والمشاطة عند جلوة العروس وإلى ما يقوله المنادي في السوق على السلعة فما ظنك بما فوق هذا والسبب في ذلك أنه مؤهل لأن يهيم في كل واد فيحتاج أن يتعلق بكل فن

الفصل الثالث
في الحكم على المعاني
وفائدة هذا الفصل الإحاطة بأساليب المعاني على اختلافها وتباينها وصاحب هذه الصناعة مفتقر إلى هذا الفصل والذي يليه بخلاف غيرهما من هذه الفصول المذكورة لا سيما مفسري الأشعار فإنهم به أعنى
واعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهره لفظه ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى ( وثيابك فطهر ) فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس وهذا لابد له من دليل لأنه عدول عن ظاهر اللفظ وكذلك ورد عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال إذا أردت أن تصلي فادخل بيتك وأغلق بابك فالظاهر من هذا هو البيت والباب ومن تأول ذهب إلى أنه أراد أنك تجمع عليك هم قلبك وتمنع أن يخطر به سوى أمر الصلاة فعبر عن القلب بالبيت وعن منع الخواطر التي تخطر له بإغلاق الباب وهذا يحتاج إلى دليل لأنه عدول عن ظاهر اللفظ فالمعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف إذ باب التأويل غير محصور والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجها ضعيفا من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه على غيره من الوجود القوية فإن السيف بضاربه
( إِنَّ السُّيُوفَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ ... كَقُلُوبِهِنَّ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ )
( تَلْقَى الْحُسَامَ عَلَى جَرَاءَةِ حَدِّهِ ... مِثْلَ الْجَبَانِ بِكَفِّ كُلِّ جَبَانِ )
وذهب بعضهم في الفرق بين التفسير والتأويل إلى شيء غير مرضي فقال التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة كتفسير الصراط بالطريق والتأويل إظهار باطن

اللفظ كقوله تعالى ( إن ربك لبالمرصاد ) فتفسيره من الرصد يقال رصدته إذا رقبته وتأويله تحذير العباد من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره والذي عندي في ذلك أنه أصاب في الآخر ولم يصب في الأول لأن قوله التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة لا مستند لجوازه بل التفسير يطلق على بيان وضع اللفظ حقيقة ومجازا لأنه من الفسر وهو الكشف كتفسير الرصد في الآية المشار إليها بالرقبة وتفسيره بالتحذير من تعدي حدود الله ومخالفة أوامره
وأما التأويل فإنه أحد قسمي التفسير وذاك أنه رجوع عن ظاهر اللفظ وهو مشتق من الأول وهو الرجوع يقال آل يؤل إذا رجع وعلى هذا فإن التأويل خاص و التفسير عام فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويلا ولهذا يقال تفسير القرآن ومن تفسيره ظاهر وباطن وهذا الفصل الذي نحن بصدد ذكره ههنا يرجع أكثره إلى التأويل لأنه أدق
ولا يخلو تأويل المعنى من ثلاثة أقسام إما أن يفهم منه شيء واحد لا يحتمل غيره وإما أن يفهم منه الشيء وغيره وتلك الغيرية إما أن تكون ضدا أو لا تكون ضدا وليس لنا قسم رابع
فالأول يقع عليه أكثر الأشعار ولا يجري في الدقة واللطافة مجرى القسمين الآخرين
وأما القسم الثاني فإنه قليل الوقوع جدا وهو من أظرف التأويلات المعنوية لأن دلالة اللفظ على المعنى وضده أغرب من دلالته على المعنى وغيره مما ليس بضده فمما جاء منه قول النبي ( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ) فهذا الحديث يستخرج منه معنيان ضدان أحدهما أن المسجد الحرام أفضل من مسجد رسول الله والآخر أن مسجد رسول الله أفضل من المسجد الحرام أي أن صلاة واحدة فيه لا تفضل ألف صلاة في المسجد الحرام بل تفضل ما دونها بخلاف المساجد الباقية فإن ألف صلاة فيها تقصر عن صلاة واحدة فيه

وكذلك جاء قول النبي أيضا ( من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) وهذا يشتمل على معنيين ضدين أحدهما أن المراد به إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فافعل ما شئت والآخر أن المراد به إذا لم يكن لك حياء يزعك عن فعل ما يستحى منه فافعل ما شئت وهذان معنيان ضدان أحدهما مدح والآخر ذم
ومثله ورد في الحديث النبوي أيضا وذلك أنه ذكر شريح الحضرمي عند النبي فقال ( لا يتوسد القرآن ) وهذا يحتمل مدحا وذما أما المدح فالمراد به أنه لا ينام الليل عن القرآن فيكون القرآن متوسدا معه لم يتهجد به وأما الذم فالمراد به أنه لا يحفظ من القرآن شيئا فإذا نام لم يتوسد معه القرآن وهذان التأويلان من الأضداد
وكثيرا ما يرد أمثال ذلك في الأحاديث النبوية
ويجري على هذا النهج من الشعر قول أبي الطيب في قصيدة يمدح بها كافورا
( وأظْلَمُ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ حَاسِداً ... لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ )
وهذا البيت يستخرج منه معنيان ضدان أحدهما أن المنعم عليه يحسد المنعم والآخر أن المنعم يحسد المنعم عليه
وكذلك ورد قوله أيضا من قصيدة يمدحه
( فإِنْ نِلْتُ مَا أمَّلْتُ مِنْكَ فَرُبَّمَا ... شَرِبْتُ بِمَاءٍ يُعْجِزُ الطَّيْرَ وِرْدُهُ )
فإن هذا البيت يحتمل مدحا وذما وإذا أخذ بمفرده من غير نظر إلى ما قبله فإنه يكون بالذم أولى منه بالمدح لأنه يتضمن وصف نواله بالبعد والشذوذ وصدر البيت مفتتح بإن الشرطية وقد أجيب بلفظة رب التي معناها التقليل أي لست من

نوالك على يقين فإن نلته فربما وصلت إلى مورد لا يصل إليه الطير لبعده وإذا نظر إلى ما قبل هذا البيت دل على المدح خاصة لارتباطه بالمعنى الذي قبله
وكثيرا ما كان يقصد المتنبي هذا القسم في شعره كقوله من قصيدة أولها
( عَدُوُّكَ مَذْمُومٌ بِكُل لِسَانِ ... وَلَوْ كَانَ مِنْ أعْدَائِكَ الْقَمَرَانِ )
( ولِلَّهِ سِرٌّ فِي عُلاَكَ وَإِنَّما ... كَلاَمُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ الْهَذَيَانِ )
ثم قال
( فَمَا لَكَ تُعْنَى بِالأَسِنَّةِ وَالقَنَا ... وَجَدُّكَ طَعَّانٌ بِغَيْرِ سِنَانِ )
فإن هذا بالذم أشبه منه بالمدح لأنه يقول لم تبلغ ما بلغته بسعيك واهتمامك بل بجد وسعادة وهذا لا فضل فيه لأن السعادة تنال الخامل والجاهد ومن لا يستحقها وأكثر ما كان المتنبي يستعمل هذا القسم في قصائده الكافوريات
وحكى أبو الفتح بن جني قال قرأت على أبي الطيب ديوانه إلى أن وصلت إلى قصيدته التي أولها
( أُغالِبُ فِيكَ الشَّوْقُ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ ... )
فأتيت منها على هذا البيت وهو
( وَمَا طَرَبِي لَمَّا رَأَيْتُكَ بِدْعَةً ... لَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَرَاكَ فَأَطْرَبُ )
فقلت له يا أبا الطيب لم تزد على أن جعلته أبا رنة فضحك لقولي
وهذا القسم من الكلام يسمى الموجة أي له وجهان وهو مما يدل على براعة الشاعر وحسن تأتيه
وأما القسم الثالث فإنه يكون أكثر وقوعا من القسم الثاني و هو واسطة بين طرفين لأن القسم الأول كثير الوقوع والقسم الثاني قليل الوقوع وهذا القسم الثالث وسط بينهما

فمما جاء منه قوله تعالى ( ولا تقتلوا أنفسكم ) فإن هذا له وجهان من التأويل أحدهما القتل الحقيقي الذي هو معروف والآخر هو القتل المجازي وهو الإكباب على المعاصي فإن الإنسان إذا أكب على المعاصي قتل نفسه في الآخرة
ومن ذلك ما ورد في قصة إبراهيم وذبح ولده عليهما السلام فقال الله تعالى حكاية عنه ( وقال إنِي ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين ) فقوله تعالى ( وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين ) قد يكون بشارة بنبوته بعد البشارة بميلاده وقد يكون استئنافا بذكره بعد ذكر إسمعيل عليه السلام وذبحه والتأويل متجاذب بين هذين الأمرين ولا دليل على الاختصاص بأحدهما ولم يرد في القرآن ما يدل على أن الذبيح إسمعيل ولا إسحاق عليهما السلام وكذلك لم يرد في الأخبار التي صحت عن رسول الله
وأما ما يروي عنه أنه قال ( أنا ابن الذبيحين ) فخارج عن الأخبار الصحيحة وفي التوراة أن إسحاق عليه السلام هو الذبيح
ومن ذلك قول النبي لأزواجه ( أطولكن يدا أسرعكن لحوقا بي ) فلما مات صلوات الله عليه جعلن يطاولن بين أيديهن حتى ينظرن أيتهن أطول يدا ثم كانت زينب أسرعهن لحوقا به وكانت كثيرة الصدقة فعلمن حينئذ أنه لم يرد الجارحة وإنما أراد الصدقة فهذا القول يدل على المعنيين المشار إليهما
ومن ذلك ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال خدمت

رسول الله عشر سنين فلم يقل لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته وهذا القول يحتمل وجهين من التأويل أحدهما وصف رسول الله بالصبر على خلق من يصحبه والآخر أنه وصف نفسه بالفطنة والذكاء فيما يقصده من الأعمال كأنه متفطن لما في نفس رسول الله فيفعله من غير حاجة إلى استئذانه
ومن ذلك ما ورد في الأدعية النبوية فإنه دعا على رجل من المشركين فقال ( اللهم اقطع أثره ) وهذا يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل الأول أنه دعا عليه بالزمانة لأنه إذا زمن لا يستطيع أن يمشي على الأرض فينقطع حينئذ أثره الوجه الثاني أنه دعا عليه بأن لا يكون له نسل من بعده ولا عقب الوجه الثالث أنه دعا عليه بأن لا يكون له أثر من الآثار مطلقا وهو أن لا يفعل فعلا يبقى أثره من بعده كائنا ما كان من عقب أو بناء أو غراس أو غير ذلك
وظفرت الحرورية برجل فقالوا له ابرأ من علي وعثمان فقال أنا من علي ومن عثمان أبرأ فهذا يدل على معنيين أحدهما أنه بريء من عثمان وحده والآخر أنه بريء منهما جميعا والرجل لم يرد إلا الوجه الأول
ومن ذلك ما يحكي عن عبد المسيح بن بقيلة لما نزل بهم خالد بن الوليد على الحيرة وذاك أنه خرج إليه عبد المسيح بن بقيلة فلما مثل بين يديه قال انعم صباحا أيها الملك فقال له خالد قد أغنانا الله عن تحيتك هذه بسلام عليكم ثم قال له من أين أقصي أثرك قال من ظهر أبي قال فمن أين خرجت قالت من بطن أمي قال فعلام أنت قال على الأرض قال ففيم أنت قال في ثيابي قال ابن كم أنت قال ابن رجل واحد قال خالد ما رأيت كاليوم قط أنا أسأله عن الشيء وهو ينحو في غيره وهذا من توجيه الكلام على نمط حسن وهو يصلح أن يكون جوابا لخالد عما سأل ويصلح أن يكون جوابا لغيره مما ذكره عبد المسيح بن بقيلة
وقد ورد في التوراة أن لا يؤكل الجدي بلبن أمه وهذا يحتمل التحريم في

وجهين أحدهما ما دل عليه ظاهر لفظه وهو تحريم لحم الجدي بلبن أمه خاصة وإذا أكل بلبن غير لبن أمه جاز ذلك ولم يكن حراما وهذا لا يأخذ به أحد من اليهود والوجه الآخر وهو الذي يؤخذ به عند اليهود جميعهم أن أكل اللحم باللبن حرام كائنا ما كان من اللحوم إلا طائفة منهم يسمون القرائين فإنهم تأولوا فأكلوا لحم الطير باللبن وقالوا إنما حرم اللحم بالبن من اللحوم ذوات الألبان والطير من ذوات البيض لا من ذوات الألبان
ومما يجري على هذا النهج ما يحكى عن أفلاطون أنه قال ترك الدواء دواء فذهب بعض الأطباء أنه أراد إن لطف المزاج وانتهى إلى غاية لا يحتمل الدواء فتركه حينئذ والإضراب عنه دواء وذهب آخرون إلى أنه أراد بالترك الوضع أي وضع الدواء على الداء دواء يشير بذلك إلى حذق الطبيب في أوقات علاجه
ومثله في الشعر قول الفرزدق
( إِذَا جَعْفَرٌ مَرَّتْ عَلَى هَضْبَةِ الْحِمَى ... فَقَدْ أَخْزَتِ الأَحْيَاءَ مِنْهَا قُبُورُهَا )
وهذا يدل على معنيين أحدهما ذم الأحياء والآخر ذم الأموات أما ذم الأحياء فهو أنهم خذلوا الأموات يريد أنهم تلاقوا في قتالهم وقوما آخرين ففر الأحياء عنهم وأسلموهم أو أنهم استنجدوهم فلم ينجدوهم وأما ذم الأموات فهو أن لهم مخازي وفضائح توجب عارا وشنارا فهم يعيرون بها الأحياء ويلصقونها بهم
وعلى هذا ورد قول أبي تمام
( بالشِّعْرِ طُولٌ إِذَا اصْطَكَّتْ قَصَائِدُهُ ... فِي مَعْشَرٍ وَبِهِ عَنْ مَعْشَرٍ قِصَرُ )
فهذا البيت يحتمل تأولين أحدهما أن الشعر يتسع مجاله بمدحك ويضيق بمدح غيرك يريد بذلك أن مآثره كثيرة ومآثر غيره قليلة و الآخر أن الشعر يكون ذا فخر ونباهة بمدحك وذا خمول بمدح غيرك فلفظة الطول يفهم منها ضد القصر ويفهم منها الفخر من قولنا طال فلان على فلان أي فخر عليه

ومما ينتظم بهذا السلك قول أبي كبير الهذلي
( عَجِبْتُ لِسَعْيِ الدَّهْرِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... فَلَمَّا انْقَضَى مَا بَيْنَنَا سَكَنَ الدَّهْرُ )
وهذا يحتمل وجهين من التأويل أحدهما أنه أراد بسعي الدهر سرعة تقضي الأوقات مدة الوصال فلما انقضى الوصل عاد الدهر إلى حالته في السكون والبطء والآخر أنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائم والوشايات فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل سكنوا وتركوا السعاية وهذا من باب وضع المضاف إليه مكان المضاف كقوله تعالى ( واسأل القرية ) أي أهل القرية
ومن الدقيق المعنى في هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة من جملة قصيدته التي أولها
( أوْهِ بَدِيلٌ مِنْ قَوْلَتِي وَاهَا ... )
فقال
( لَوْ فَطِنَتْ خَيْلُهُ لِنَائِلِهِ ... لَمْ يُرْضِهَا أَنْ تَرَاهُ يَرْضَاهَا )
وهذا يستنبط منه معنيان غيران أحدهما أن خيله لو علمت مقدار عطاياه لأن عطاياه أنفس منها والآخر أن خيله لو علمت أنه يهبها من جملة عطاياه لما رضيت ذلك إذ تكره خروجها عن ملكه وهذان الوجهان أنا ذكرتهما وإنما المذكور منهما أحدهما
وهذا الذي أشرت إليه من الكلام على المعاني وتأويلاتها كاف لمن عنده ذوق وله قوة على حملها على أشباهها ونظائرها

الفصل الرابع
في الترجيح بين المعاني
وهذا الفصل هو ميزان الخواطر الذي يوزن به نقد درهمها ودينارها بل المحك الذي يعلم منه مقدار عيارها ولا يزن به إلا ذو فكرة متقدة ولمحة منتقذة فليس كل من حمل ميزانا سمي صرافا ولا كل من وزن به سمي عرافا والفرق بين هذا الترجيح الفقهي أن هناك يرجح بين دليلي الخصمين في حكم شرعي وههنا يرجح بين جانبي فصاحة وبلاغة في ألفاظ ومعان خطابية وبيان ذلك أن صاحب الترجيح الفقهي يرجع بين خبر التواتر مثلا وبين خبر الآحاد أو بين المسند والمرسل أو ما جرى هذا المجرى وهذا لا يعرض إليه صاحب علم البيان لأنه ليس من شأنه ولكن الذي هو من شأنه أن يرجح بين حقيقة ومجاز أو بين حقيقتين أو بين مجازين ويكون ناظرا في ذلك كله إلى الصناعة الخطابية ولربما اتفق هو وصاحب الترجيح الفقهي في بعض المواضع كالترجيح بين عام وخاص أو ما شابه ذلك
وكنا قد قدمنا القول في الحكم على المعاني وانقسامها ولنبين في هذا الفصل مواضع الترجيح بين وجوه تأويلاتها فنقول
أما القسم الأول من المعاني فلا تعلق للترجيح به إذا ما دل عليه ظاهر لفظه ولا يحتمل إلا وجها واحدا فليس من هذا الباب في شيء والترجيح إنما يقع بين معنيين يدل عليهما لفظ واحد
ولا يخلو الترجيح بينهما من ثلاثة أقسام إما أن يكون اللفظ حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر أو حقيقة فيهما جميعا أو مجازا فيهما جميعا وليس لنا قسم رابع والترجيح بين الحقيقتين أو بين المجازين يحتاج إلى نظر وأما الترجيح بين

الحقيقة والمجاز فإنه يعلم ببديهة النظر لمكان الاختلاف بينهما والشيئان المختلفان يظهر الفرق بينهما بخلاف ما يظهر بين الشيئين المشتبهين
فمثال الحقيقة والمجاز قوله تعالى ( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ) فالجلود ههنا تفسر حقيقة ومجازا أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقا وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة وهذا هو الجانب البلاغي الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه وقد يسأل ههنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز عن غير الجانب البلاغي ويقال ما بيان هذا الترجيح فيقال طريقة لفظ الجلود عام فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقا أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال خاصة ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة شهادة باطلة إذ هي شهادة غير شاهد والشهادة غير شاهد والشهادة هنا يراد بها الإقرار فتقول اليد أنا فعلت كذا وكذا وتقول الرجل أنا مشيت إلى كذا وكذا وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرة بأعمالها فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح وإذا أريد به الجوارح فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض فإن أريد به الكل دخل تحته السمع والبصر ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة وإن أريد به البعض فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح لأمرين أحدهما أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهده على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج فكان حمل الجلد عليه أولى ليستكمل ذكر الجميع الآخر أنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج فكني عند بالجلد لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته
فإن قيل إن تخصيص السمع والبصر بالذكر من باب التفصيل كقوله تعالى ( فاكهة ونخل ورمان ) والنخل والرمان من الفاكهة
قلت في الجواب هذا القول عليك لا لك لأن النخل والرمان إنما ذكر التفضيل لهما في الشكل أو في الطعم والفضيلة ههنا في ذكر الشهادة إنما هي

تعظيم لأمر المعصية وغير السمع والبصر أعظم في المعصية لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة أو في سماع صوت مزمار أو وتر أو ما جرى هذا المجرى ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم وكلتا المعصيتين لا حد فيهما وأما المعاصي التي توجد من غير السمع والبصر فأعظم لأن معصية اليد توجب القطع ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم وهذا أعظم فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة
وأما مثال المعنيين إذا كانا حقيقيين فقول النبي ( التمسوا الرزق في خبايا الأرض ) والخبايا جمع خبيئة وهو كل ما يخبأ كائنا ما كان وهذا يدل على معنيين حقيقيين أحدهما الكنوز المخبوأة في بطون الأرض والآخر الحرث والغراس وجانب الحرث والغراس أرجح لأن مواضع الكنوز لا تعلم حتى تلتمس والنبي لا يأمر بذلك لأنه شيء مجهول غير معلوم فبقي المراد بخبايا الأرض ما يحرث ويغرس
وكذلك ورد قوله ( إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال ) وهذا الحديث مرخص في ترك صلاة الجماعة بسبب المطر وله تأويلان أحدهما أنه أراد نعال الأرض وهو ما غلظ منها والآخر أنه أراد الأحذية والوجه هو الثاني لظهوره في الدلالة على المعنى وأكثر العلماء عليه ولو كان المراد به غلظ من الأرض لخرج عن هذا الحكم كل بلد تكون أرضه سهلة لا غلظ فيها
وأما مثال المعنيين المجازيين فقول أبي تمام
( قَدْ بَلَوْنَا أَبَا سَعِيدٍ حَدِيثاً ... وَبَلَوْنَا أَبَا سَعِيدٍ قَدِيمَا )
( وَوَرَدْنَاهُ سَاحِلاً وَقَلِيباً ... وَرَعَيْنَاهُ بَارِضاً وَجَمِيما )

( فَعَلِمْنَا أن لَيْسَ إلاَّ بشِقِّ النَّفْسِ ... صَارَ الْكَرِيمُ يُدْعَى كَرِيمَا )
فالساحل والقليب يستخرج منهما تأويلان مجازيان أحدهما أنه أراد بهما الكثير والقليل بالنسبة إلى الساحل والقليب والآخر أنه أراد بهما السبب وغير السبب فإن الساحل لا يحتاج في ورده إلى سبب والقليب يحتاج في ورده إلى سبب وكلا هذين المعنيين مجاز فإن حقيقة الساحل والقليب غيرهما والوجه هو الثاني لأنه أدل على بلاغه القائل ومدح المقول فيه أما بلاغة القائل فالسلامة من هجنة التكرير بالمخالفة بين صدر البيت وعجزه فإن عجزه يدل على القليل والكثير لأن البارض هو أول النبت حين يبدو فإذا كثر وتكاثف سمي جميما فكأنه قال أخذنا منه تبرعا ومسألة وقليلا وكثيرا وأما مدح المقول فيه فلتعداد حالاته الأربع في تبرعه وسؤاله وإكثاره وإقلاله وما في معاناة هذه الأحوال من المشاق
فهذا ما يتعلق بالترجيح البلاغي بين الحقيقة والحقيقة وبين المجاز والمجاز وبين الحقيقة والمجاز
وههنا ترجيح آخر لا يتعلق بما أشرنا إليه إذ هو خارج عما تقتضيه المعاني الخطابية من جهة الفصاحة أو البلاغة وذلك أن يرجح بين معنيين أحدهما تام والآخر مقدر أو يكون أحدهما مناسبا لمعنى تقدمه أو تأخر عنه والآخر غير مناسب أو بأن ينظر في الترجيح بينهما إلى شيء خارج عن اللفظ فمثال المعنيين المشار إليهما أن المعنى التام هو الذي يدل عليه لفظه ولا يتعداه وأما المقدر فهو الذي لا يدل عليه لفظه بل يستدل عليه بقرينة أخرى وتلك القرينة قد تكون من توابعه وقد لا تكون

فمما جاء من ذلك قول النبي ( في سائمة الغنم زكاة ) فهذا اللفظ يستخرج منه معنيان أحدهما تام والآخر مقدر فالتام دلالته على وجوب الزكاة في السائمة لا غير والمقدر دلالته على سقوط الزكاة عن المعلوفة إلا أنه ليس مفهوما من نفس اللفظ بل من قرينة أخرى هي كالتابعة له وهي أنه لما خصت السائمة بالذكر دون المعلوفة علم من مفهوم ذلك أن المعلوفة لا زكاة فيها وللفقهاء في ذلك مجاذبات جدلية يطول الكلام فيها وليس هذا موضعها والذي يترجح عندي هو القول بفحوى المعنى المقدر وهو الذي يسميه الفقهاء مفهوم الخطاب
وله في الشعر أشباه ونظائر
فمما ورد من ذلك شعرا قول جزء بن كليب الفقعسي من شعراء الحماسة وقد خطب إليه ابن كوز ابنته فرده
( تَبَغَّى ابْنُ كُوزٍ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا ... لِيَسْتَادَ مِنَّا أنْ سَنَوْنَا لَيَالِيَا )
( فَلاَ تَطْلُبِنْهَا يَا ابْنَ كُوزٍ فَإنّهُ ... غَذَا النَّاسُ مُذْ قَامَ النَّبِيُّ الْجَوَارِيَا )

وهذا البيت الثاني يشتمل على المعنيين التام والمقدر أما التام فإن ابن كوز سأل أبا هذه الجارية أن يزوجه إياها في سنة والسنة الجدب فرده وقال قد غذا الناس البنات مذ قام النبي وأنا أيضا أغذو هذه ولولا ذلك لوأدتها كما كانت الجاهلية تفعل وفيه وجه آخر وهو أنهم كانوا يئدون البنات قبل الإسلام فلما جاء النبي نهى عن ذلك فقوله ( غذا الناس مذ قام النبي الجواريا ) أي في النساء كثرة فتزوج بعضهن وخل ابنتي وهذان المعنيان هما اللذان دل عليهما ظاهر اللفظ وأما المعنى المقدر الذي يعلم من مفهوم الكلام فإنه يقول إن النبي أمر بإحياء البنات ونهى عن الوأد ولو أنكحتكها لكنت قد وأدتها إذ لا فرق بين إنكاحك إياها وبين وأدها وهذا ذم للمخاطب وهو معنى دقيق ومجيء المعاني المستخرجة من المفهومة قليل من الشعر
وأما ما يستدل عليه بقرينة ليست من توابعه فإن ذلك أدق من الأول وألطف مأخذا
فمما ورد منه قول النبي ( من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ) فهذا يستخرج منه المعنيان المشار إليهما فالتام منهما يدل على أنه من جعل قاضيا فقد عرض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين وأما المقدر فإنه يدل على أنه من جعل قاضيا فقد أمر بمفارقة هواه وهذا لا يدل عليه اللفظ بنفسه بل يستدل عليه بقرينة أخرى ولكنها ليست من توابعه ووجه ذلك أن لفظ الحديث عام يشمل القضاة على الإطلاق ولا يخلو إما أن يراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا ولا يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة لأنه ليس كل قاض معذبا في الآخرة بل المعذب منهم قضاة السوء فوضح بهذا أن المراد بالحديث عذاب الدنيا وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون العذاب صورة أو معنى ولا يجوز أن يكون صورة لأنا نرى الإنسان إذا جعل قاضيا لا يذبح ولا يناله شيء من ذلك فبقي أن يكون المراد به عذابا معنويا وهو الذبح المجازي غير الحقيقي وفحوى ذلك أن نفس الإنسان مركبة على حب هواها فإذا جعل قاضيا فقد أمر بترك ما جبل على حبه من الامتناع عن الرشوة والحكم لصديقه على عدوه ورفع

الحجاب بينه وبين الناس والجلوس للحكم في أوقات راحته وغير ذلك من الأشياء المكروهة التي تشق على النفس وتجدد لها ألما مبرحا والذبح هو قطع الحلقوم والألم حاصل به وهو كالذبح الحقيقي بل أشد منه لأن ألم الذبح الحقيقي يكون لحظة واحدة ثم ينقضي ويزول وألم قطع النفس عن هواها يدوم ولا ينقضي وهو أشد العذاب قال الله في عذاب أهل النار ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) وقال في نعيم أهل الجنة ( وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين )
وكثيرا ما رأينا وسمعنا من حمله حب الشيء على إتلاف نفسه في طلبه وركوب الأهوال من أجله فإذا امتنع عنه مع حبه إياه فقد ذبح نفسه أي قطعها عنه كما يقطع الذابح حلق الذبيحة ولهذا قال النبي ( انتقلنا عن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) فسمى جهاد الكفار الجهاد الأصغر وجهاد النفس الجهاد الأكبر فكما أن مجاهدة النفس عن هواها قتال بغير سيف فكذلك قطعها عن هواها ذبح بغير سكين وهذا موضع غامض والترجيح فيه مختص بالوجه الآخر لاشتماله على المعنى المقصود وهو المراد من القضاة على الإطلاق
وأما مثال المعنيين إذا كان أحدهما مناسبا لمعنى تقدمه أو لمعنى تأخر عنه والآخر غير مناسب فالأول هو ما كان مناسبا لمعنى تقدمه كقوله تعالى ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) فالدعاء ههنا يدل على معنيين أحدهما النهي أن يدعى الرسول باسمه فيقال يا محمد كما يدعو بعضهم بعضا بأسمائهم وإنما يقال له يا رسول الله أو يا نبي الله الآخر النهي أن يجعلوا حضورهم عنده إذا دعاهم لأمر من الأمور كحضور بعضهم عند بعض بل يتأدبون معه بأن لا يفارقوا مجلسه إلا بإذنه وهذا الوجه هو المراد لمناسبة معنى الآية التي قبله وهو قوله تعالى ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ) وأما الثاني وهو ما كان مناسبا لمعنى تأخر عنه فكقوله تعالى ( والتين والزيتون وطور سينين ) فالتين والزيتون هما هذا الشجر المعروف وهما اسما جبلين أيضا وتأويلهما بالجبلين أولى

للمناسبة بينهما وبين ما أتى بعدهما من ذكر الجبل الذي هو الطور
وعلى هذا ورد قول الشاعر في أبيات الحماسة
( وَلَوْ كُنْتُ مَوْلَى قَيْسِ عَيْلاَنَ لَمْ تَجِدْ ... عَلَيَّ لإِنْسَانٍ مِنَ النَّاسِ دِرْهَمَا )
وَلكِنَّنِي مَوْلَى قُضَاعَةَ كُلّهَا ... فَلَسْتُ أُبَالِي أَنْ أَدِينَ وَتَغَرَما )
فإذا نظرنا إلى البيت الأول وجدناه يحتمل مدحا وذما أي أنهم كانوا يغنونه بعطائهم أن يدين أو أنه كان يخاف الدين حذر أن لا يقوموا عنه بوفائه لكن البيت الثاني حقق أن الأول ذم وليس بمدح فهذا المعنى لا يتحقق فهمه إلا بآخره
وأما الذي يكون الترجيح فيه بسبب شيء خارج عن مفهوم اللفظ فقوله تعالى ( وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ) فهذا مستنبط منه معنيان أحدهما أن الله يعلم السر والجهر في السموات والأرض وفي ذلك تقديم وتأخير أي يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض والآخر أنه في السموات وأنه يعلم السر والجهر في الأرض من بني آدم لأن الوقف يكون على السموات ثم يستأنف الكلام فيقول يعلم سركم وجهركم في الأرض إلا أن هذا يمنع منه اعتقاد التجسيم وذلك شيء خارج عن مفهوم اللفظ

الفصل الخامس
في جوامع الكلم
قال النبي ( أوتيت جوامع الكلم ) فالكلم جمع كلمة والجوامع جمع جامعة والجامعة اسم فاعلة من جمعت فهي جامعة كما يقال في المذكر جمع فهو جامع والمراد بذلك أنه أولي الكلم الجوامع للمعاني وهو عندي ينقسم قسمين القسم الأول منهما هو ما استخرجته ونبهت عليه ولم يكن لأحد فيه قول سابق وهو أن لنا ألفاظا تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه أخواتها مما يجوز أن يستعمل في مكانها فمن ذلك ما يأتي على حكم المجاز ومنه ما يأتي على حكم الحقيقة
أما ما يأتي على حكم المجاز فقوله يوم حنين ( الآن حمي الوطيس ) وهذا لم يسمع من أحد قبل رسول الله ولو أتينا بمجاز غير ذلك في معناه فقلنا استعرت الحرب لما كان مؤديا من المعنى ما يؤديه حمي الوطيس والفرق بينهما أن الوطيس هو التنور وهو موطن الوقود ومجتمع النار وذلك يخيل إلى السامع أن هناك صورة شبيهة بصورته في حميها وتوقدها وهذا لا يوجد في قولنا استعرت الحرب أو ما جرى مجراه
وكذلك قال ( بعثت في نفس الساعة ) فقوله نفس الساعة من العبارة العجيبة التي لا يقوم غيرها مقامها لأن المراد بذلك أنه بعث والساعة قريبة منه لكن قربها منه لا يدل على ما دل عليه النفس وذاك أن النفس يدل على أن الساعة منه بحيث يحس بها كما يحس الإنسان بنفس من هو إلى جانبه وقد قال في موضع آخر ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى ولو قال بعثت على قرب من الساعة أو والساعة قريبة مني لما دل ذلك على ما دل عليه نفس الساعة وهذا لا يحتاج إلى الإطالة في بيانه لأنه بين واضح
وقد ورد شيء من ذلك في أقوال الشعراء المفلقين ولقد تصفحت الأشعار

قديمها وحديثها وحفظت ما حفظت منها وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوة كنشوة الخمر وطربا كطرب الألحان وكثير من الناظمين والناثرين يمر على ذلك ولا يتفطن له سوى أنه يستحسنه من غير نظر فيما نظرت أنا فيه ويظنه كغيره من الألفاظ المستحسنة
فمما جاء من ذلك قول أبي تمام
( كَمْ صَارٍمٍ عَضْبٍ أنَافَ عَلَى فَتًى ... منْهُمْ لأعْبَاءِ الْوغَى حَمَّالِ )
( سَبَق المشِيبُ إِلَيْهِ حَتَّى ابْتَزَّهُ ... وَطَنَ النّهَى مِنْ مَفْرِقٍ وَقَذَالِ )
فقوله وطن النهى من الكلمات الجامعة وهي عبارة عن الرأس ولا يجاء بمثلها في معناها مما يسد مسدها
وكذلك ورد قول البحتري
( قَلبٌ يُطِلُّ عَلَى أَفْكَارِهِ وَيَدٌ ... تَمْضِي الأُمُورَ وَنَفْسٌ لَهْوُهَا التَّعَبُ )
فقوله قلب يطل على أفكاره من الكلمات الجوامع ومراده بذلك أن قلبه لا تملؤه الأفكار ولا تحيط به وإنما هو عال عليها يصف بذلك عدم احتفاله

بالقوادح وقلة مبالاته بالخطوب التي تحدث أفكارا تستغرق القلوب وهذه عبارة عجيبة لا يؤمن بمثلها مما يسد مسدها
وأما ما يأتي على حكم الحقيقة فكقول ابن الرومي
( سَقَى اللهُ أوْطَاراً لَنَا وَمَآرباً ... تَقَطَّعَ مِنْ أَقْرَانِهَا مَا تَقَطَّعَا )
( لَيَالٍ تُنَسِّينِي اللَّيَالِي حِسَابَهَا ... بلَهْنِية أقْضِي بِهَا الْحَوْلَ أَجْمَعَا )
( سِوَى غِرَّة لاَ أَعْرِفُ الْيَوْمَ بِاسْمِهِ ... وَأعْملُ فِيهِ اللَّهَوَ مَرْأَى وَمَسْمَعَا )
فقوله لا أعرف اليوم باسمه من الكلمات الجامعة أي أني قد شغلت باللذات عن معرفة الليالي والأيام ولو وصف اشتغاله باللذات مهما وصف لم يأت بمثل قوله لا أعرف اليوم باسمه
وأما القسم الثاني من جوامع الكلم فالمراد به الإيجاز الذي يدل به بالألفاظ القليلة على المعاني الكثيرة أي أن ألفاظه جامعة للمعاني المقصودة على إيجازها واختصارها وجل كلامه جار هذا المجرى فلا يحتاج إلى ضرب الأمثلة به وسيأتي في باب الإيجاز منه ما فيه كفاية ومقنع
فإن قيل فما الفرق بين هذين القسمين اللذين ذكرتهما فإنهما في النظر سواء
قلت في الجواب إن الإيجاز هو أن يؤتى بألفاظ دالة على معنى من غير أن تزيد على ذلك المعنى ولا يشترط في تلك الألفاظ أنها لا نظير لها فإنها تكون قد اتصفت بوصف آخر خارج عن وصف الإيجاز وحينئذ يكون إيجازا وزيادة
وأما

هذا القسم الآخر فإنه ألفاظ أفراد في حسنها لا نظير لها فتارة تكون موجزة وتارة لا تكون موجزة وليس الغرض منها الإيجاز وإنما الغرض مكانها من الحسن الذي لا نظير لها فيه ألا ترى إلى قول أبي تمام وطن النهي فإن ذلك عبارة عن الرأس ولا شك أن الرأس أوجز لأن الرأس لفظة واحدة ووطن النهي لفظتان إلا أن وطن النهي أحسن في التعبير عن الرأس من الرأس فبان بهذا أن أحد هذين القسمين غير الآخر

الفصل السادس
في الحكمة التي هي ضالة المؤمن
قال النبي ( الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها إذا وجدها ) والمراد بذلك أن الحكمة قد يستفيدها أهلها من غير أهلها كما يقال رب رمية من غير رام وهذا لا يخص علما واحدا من العلوم بل يقع في كل علم والمطلوب منه ههنا هو ما يخص علم البيان من الفصاحة والبلاغة دون غيره ومذ سمعت هذا الخبر النبوي جعلت كدي في تتبع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم فإنه قد تصدر الأقوال البليغة والحكم والأمثال ممن لا يعلم مقدار ما يقوله فاستفدت بذلك فوائد كثيرة لا أحصرها عددا وأنا أذكر منها طرفا يستدل به على أشباهه ونظائره
فمن ذلك أني سرت في بعض الطرق وفي صحبتي رجل بدوي من الأنباط لا يعتد بقوله فكان يقول غدا ندخل البلد وتشتغل عني وكان الأمر كما قال فدخلت مدينة حلب وشغلت عنه أياما ثم لقيني فقال لي من تروى فترت عظامه وهذا القول من الأقوال البليغة وهي من الحكمة التي هي الضالة المطلوبة عند مؤمني الفصاحة والبلاغة
ثم إني سمعت منه بعد ذلك شيئا يناسب قول الأول فإني سفرت له إلى صاحب في حلب في شيء أخذته منه فاستقله وقال الماء أروى لشدوق النيب وهذا أيضا من الحكمة في بابها
وسافرت مرة أخرى على طريق المناظر وكان في صحبتي رجل بدوي

فسألته عن مسافة ما بين تدمر وأراك فقال إذا خرج سرحاهما تلاقيا فعبر عن قرب المسافة بينهما بأوجز عبارة وأبلغها
ثم سألته ليلة من الليالي عن الصبح لنرتحل من موضعنا فقال قد ظهر الصبح إلا أنه لم يملك الإنسان بصره وهذا القول من الحكمة أيضا
وكان تزوج غلاما من غلماني بدمشق فوقعت المرأة منه بموقع وشغف بها ثم إني سافرت عن دمشق لمهم عرض لي وسافر ذلك الغلام في صحبتي فلما عدنا من السفر شغل بامرأته والمقام عندها فسألته عن حاله فقال إنها قد طالت وحسنت وهي كذا وكذا وأخذ يصفها فقال أخ له كان حاضرا يا مولاي هي تلك لم تزد شيئا وإنما هي في عينه جبار من الجبابرة وهذا القول قد ورد في بعض أبيات الحماسة وهو معدود من أبيات المعاني
( أهَابُكِ إجْلاَلاً وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ ... عَلَيَّ وَلكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا )
فكثيرا ما يصدر مثل هذه الأقوال عن ألسنة الجهال
وسمعت ما يجري هذا المجرى من بعض العبيد الأحابيش الذين لا يستطيعون تقويم صيغ الألفاظ فضلا عما وراء ذلك وذاك أنه رأى صبيا في يده طاقة ريحان فقال هذه طاقة آس تحمل طاقة ريحان فلما سمعت ذلك منه أخذتني هزة التعجب وذكرت شعر أبي نواس الذي تواصفه الناس في هذا المعنى وهو قوله
( وَوَرْدَةٍ جَاءَ بِهَا شَادِنٌ ... في كَفِّهِ الْيُمْنَى فَحَيَّانَا )
( سَبَّحْتُ رَبِّي حِينَ أَبْصَرْتُهَا ... رَيْحَانَة تَحْمِلٌ رَيْحَانَا )
وحضر عندي في بعض الأيام رجل نصراني موسوم بالطب وكان لا يحسن

أن يقول كلمة واحدة وهو أقلف اللسان يسيء العبارة فسألته عن زيارة شخص وهل يتردد إليه أم لا فقال ظلام الليل يهديني إلى باب من أوده وضوء النهار يضل بي عن باب من لا أوده وهذا من ألطف المعاني وأحسنها وهو من الحكمة المطلوبة
وكنت قصدت زيارة بعض الأخوان من الأجناد وهو من الأغتام الأعجام فسألته عن حاله وكان توالت عليه نكبات طالت أيامها وعظمت آلامها فقال لي في الجواب ما معناه إنه لم يبق عندي ارتياع لوقوع نائبة من النوائب وهذا معنى لو أتى به شاعر مفلق أو كاتب بليغ لاستحسن منه غاية الاستحسان
وكنت في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بأرض فلسطين في الجيش الذي كان قبالة العدو الكافر من الفرنج لعنهم الله وتقابل الفريقان على مدينة يافا وكان إلى جانبي ثلاثة فرسان من المسلمين فتعاقدوا على الحملة إلى نحو العدو فلما حملوا صدق منهم اثنان وتلكأ واحد فقيل له في ذلك فقال الموت طعام لا تجشه المعدة فلما سمعت هذه الكلمة استحسنتها وإذا هي صادرة عن رجل من أهل بصرى فدم من الأفدام
ولو أخذت في ذكر ما سمعته من هذا لأطلت وإنما دللت بيسير ما ذكرته على المراد وهو أنه يجب على المتصدي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس

في محاوراتهم فإنه لا يعدم مما يسمعه منهم حكما كثيرة ولو أراد استخراج ذلك بفكره لأعجزه
ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي أولها
( عَلَى مِثْلِهَا مِنْ أَرْبُعٍ وَمَلاَعِبِ ... )
انتهى منها إلى قوله
( يَرَى أقْبَحَ الأَشْيَاءِ أَوبَةَ آمِلٍ ... كَسَتْهُ يَدُ المَأْمُولِ حُلَّةَ خائِبِ )
ثم قال
( وَأَحْسَنُ مِنْ نَوْرٍ يُفَتِّحُهُ الصَّبَا ... )
ووقف عند صدر هذا البيت يردده وإذا سائل يسأل على الباب وهو يقول من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا فقال أبو تمام
( بَيَاضُ العَطايا في سَوَادِ المَطَالِبٍ ... )
فأتم صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل
وسمعت امرأة قد توفي لها ولد وهو بكرها الذي هو أول أولادها فقالت كيف لا أحزن لذهابه وهو أول درهم وقع في الكيس فأخذت أنا هذا المعنى وأودعته كتابا من كتبي في التعازي وهو كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وقد توفي بكره من الأولاد فقلت وهو أول درهم ادخرته في كيس الادخار وأعددته لحوادث الليل والنهار

وبلغني عن الشيخ أبي محمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي وكان إماما في علم العربية وغيره فقيل إنه كان كثيرا ما يقف على حلق القصاص والمشعبذين فإذا أتاه طلبة العلم لا يجدونه في أكثر أوقاته إلا هناك فليم على ذلك وقيل له أنت إمام الناس في العلم وما الذي يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة فقال لو علمتم ما أعلم لما لمتم ولطالما استفدت من هؤلاء الجهال فوائد كثيرة فإنه تجري في ضمن هذيانهم معان غريبة لطيفة ولو أردت أنا وغيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك ولا شك أن هذا الرجل رأى ما رأيته ونظر إلى ما نظرت إليه

الفصل السابع
في الحقيقة والمجاز
وهذا الفصل مهم كبير من مهمات علم البيان لا بل هو علم البيان بأجمعه فإن في تصريف العبارات على الأسلوب المجازي فوائد كثيرة وسيرد بيانها في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وقد نبهنا في هذا الموضع على جملتها دون تفصيلها
فأما الحقيقة فهي اللفظ الدال على موضوعه الأصلي
وأما المجاز فهو ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة وهو مأخوذ من جاز من هذا الموضع إلى هذا الموضع إذا تخطاه إليه فالمجاز إذا اسم للمكان الذي يجاز فيه كالمعاج والمزار وأشباههما وحقيقته هي الانتقال من مكان إلى مكان فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل كقولنا زيد أسد فإن زيدا إنسان والأسد هو هذا الحيوان المعروف وقد جزنا من الإنسانية إلى الأسدية أي عبرنا من هذه إلى هذه لوصلة بينهما وتلك الوصلة هي صفة الشجاعة وقد يكون العبور لغير وصلة وذلك هو الاتساع كقولهم في كتاب كليلة ودمنة قال الأسد وقال الثعلب فإن القول لا وصلة بينه وبين هذين بحال من الأحوال وإنما أجرى عليهما اتساعا محضا لا غير ولهذا مثال في المجاز الحقيقي الذي هو المكان المجاز فيه فإنه لا يخلو إما أن يجاز من سهل إلى سهل أو من وعر إلى وعر أو سهل إلى وعر فالجواز من سهل إلى سهل أو من وعر إلى وعر هو كقولنا زيد أسد فالمشابهة الحاصلة في ذات بينهما كالمشابهة الحاصلة في المكان والجواز من سهل إلى وعر كقولهم قال الأسد وقال

الثعلب فكما أنه لا مشابهة بين القول وبين هذين فكذلك لا مشابهة بين السهل والوعر وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك وإشباع القول في تحقيقه في باب الاستعارة فليؤخذ من هناك
وقد ذهب قوم إلى أن الكلام كله حقيقة لا مجاز فيه وذهب آخرون إلى أنه كله مجاز لا حقيقة فيه وكلا هذين المذهبين فاسد عندي
وسأجيب الخصم عما ادعاه فيهما فأقول
محل النزاع هو أن اللغة كلها حقيقة أو أنها كله مجاز ولا فرق عندي بين قولك إنها كلها حقيقة أو إنها كلها مجاز فإن كلا الطرفين عندي سواء لأن منكرهما غير مسلم لهما وأنا بصدد أن أبين أن في اللغة حقيقة ومجازا والحقيقة اللغوية هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء أي نفسه وعينه فالحقيقة اللفظية إذا هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره
وتقرير ذلك بأن أقول
المخلوقات كلها تفتقر إلى أسماء يستدل بها عليها ليعرف كل منها باسمه من أجل التفاهم بين الناس وهذا يقع ضرورة لا بد منها فالاسم الموضوع بإزاء المسمى هو حقيقة له فإذا نقل إلى غيره صار مجازا ومثال ذلك أنا إذا قلنا شمس أردنا به هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء وهذا الاسم له حقيقة لأنه وضع بإزائه وكذلك إذا قلنا بحر أردنا به هذا الماء العظيم المجتمع الذي طعمه ملح وهذا الاسم له حقيقة لأنه وضع بإزائه فإذا نقلنا الشمس إلى الوجه المليح استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة وكذلك إذا نقلنا البحر إلى الرجل الجواد استعارة كان ذلك له مجازا لا حقيقة
فإن قيل إن الوجه المليح يقال له شمس وهو حقيقة فيه وكذلك البحر يقال للرجل الجواد وهو حقيقة فيه

فالجواب عن ذلك من وجهين أحدهما نظري والآخر وضعي
أما النظري فهو أن الألفاظ إنما جعلت أدلة على إفهام المعاني ولو كان ما ذهبت إليه صحيحا لكان البحر يطلق على هذا الماء العظيم الملح وعلى الرجل الجواد بالاشتراك وكذلك الشمس أيضا فإنها كانت تطلق على هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء وعلى الوجه المليح بالاشتراك وحينئذ فإذا ورد أحد هذين اللفظين مطلقا بغير قرينة تخصصه فلا يفهم المراد به ما هو من أحد المعنيين المشتركين المندرجين تحته ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك فإنا إذا قلنا شمس أو بحر وأطلقنا القول لا يفهم من ذلك وجه مليح ولا رجل جواد وإنما يفهم منه ذلك الكوكب المعلوم وذلك الماء المعلوم لا غير فبطل إذا ما ذهبت إليه بما بيناه وأوضحناه
فإن قلت إن العرف يخالف ما ذهبت إليه فإن من الألفاظ ما إذا أطلق لم يذهب الفهم منه إلا إلى المجاز دون الحقيقة كقولهم الغائط فإن العرب خصص ذلك بقضاء الحاجة دون غيره من المطمئن من الأرض
قلت في الجواب هذا شيء ذهب إليه الفقهاء وليس الأمر كما ذهبوا إليه لأنه إن كان إطلاق اللفظ فيه بين عامة الناس من إسكاف وحداد ونجار وخباز ومن جرى مجراهم فهؤلاء لا يفهمون من الغائط إلا قضاء الحاجة لأنهم لم يعلموا أصل وضع هذه الكلمة وأنها مطمئن من الأرض وأما خاصة الناس الذين يعلمون أصل الوضع فإنهم لا يفهمون عند إطلاق اللفظ إلى الحقيقة لا غير ألا ترى أن هذه اللفظة لما وردت في القرآن الكريم وأريد بها قضاء الحاجة قرنت بألفاظ تدل على ذلك كقوله تعالى ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) فإن قوله ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) دليل على أنه أراد قضاء الحاجة دون المطمئن من الأرض فالكلام في هذا وأمثاله إنما هو مع علم أصل الوضع حقيقة والنقل عنه مجازا وأما الجهال فلا اعتبار بهم ولا اعتداد بأقوالهم
والعجب عندي من الفقهاء الذين دونوا ذلك على ما دونوه وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه

وأما الوجه الوضعي فهو أن المرجع في هذا وما يجري مجراه إلى أصل اللغة التي هي وضع الأسماء على المسميات ولم يوجد فيها أن الوجه المليح يسمى شمسا ولا أن الرجل الجواد يسمى بحرا وإنما أهل الخطابة والشعر توسعوا في الأساليب المعنوية فنقلوا الحقيقة إ لى المجاز ولم يكن ذلك من واضع اللغة في أصل الوضع ولهذا اختص كل منهم بشيء اخترعه في التوسعات المجازية
هذا امرؤ القيس قد اخترع شيئا لم يكن قبله فمن ذلك أنه أول من عبر عن الفرس بقوله قيد الأوابد ولم يسمع ذلك لأحد من قبله
وقد روي عن النبي أنه قال يوم حنين ( الآن حمي الوطيس ) وأراد بذلك شدة الحرب فإن الوطيس في أصل الوضع هو التنور فنقل إلى الحرب استعارة ولم يسمع هذا اللفظ على هذا الوجه من غير النبي
وواضع اللغة ما ذكر شيئا من ذلك فعلمنا حينئذ أن من اللغة حقيقة بوضعه ومجازا بتوسعات أهل الخطابة والشعر
وفي زماننا هذا قد يخترعون أشياء من المجاز على حكم الاستعارة لم تكن من قبل ولو كان هذا موقوفا من جهة واضع اللغة لما اخترعه أحد من بعده ولا زيد فيه ولا نقص منه
وأما الفرق بينه وبين الحقيقة فهو أن الحقيقة جارية على العموم في نظائر ألا ترى أنا إذا قلنا فلان عالم صدق على كل ذي علم بخلاف ( واسأل القرية ) لأنه لا يصح إلا في بعض الجمادات دون بعض إذ المراد أهل القرية

لأنهم ممن يصح السؤال لهم ولا يجوز أن يقال واسأل الحجر والتراب وقد يحسن أن يقال واسأل الربع والطلل
واعلم أن كل مجاز فله حقيقة لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له إذ المجاز هو اسم للموضع الذي ينتقل فيه من مكان إلى مكان فجعل ذلك لنقل الألفاظ من الحقيقة إلى غيرها
وإذا كان كل مجاز لا بد له من حقيقة نقل عنها إلى حالته المجازية فكذلك ليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز فإن من الأسماء ما لا مجاز له كأسماء الأعلام لأنها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات
وكذلك فاعلم أن المجاز أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة التي هي الأصل أولى منه حيث هو فرع عليها وليس الأمر كذلك لأنه قد ثبت وتحقق أن فائدة الكلام الخطابي هو إثبات الغرض المقصود في نفس السامع بالتخييل والتصوير حتى يكاد ينظر إليه عيانا ألا ترى أن حقيقة قولنا زيد أسد هي قولنا زيد شجاع لكن فرق بين القولين في التصوير والتخييل وإثبات الغرض المقصود في نفس السماع لأن قولنا

زيد شجاع لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جريء مقدام فإذا قلنا زيد أسد يخيل عند ذلك صورة الأسد وهيئته وما عنده من البطش والقوة ودق الفرائس وهذا لا نزاع فيه
وأعجب ما في العبارة المجازية أنها تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى إنها ليسمح بها البخيل ويشجع بها الجبان ويحكم بها الطائش المتسرع ويجد المخاطب بها عند سماعها نشوة كنشوة الخمر حتى إذا قطع عنه ذلك الكلام أفاق وندم على ما كان منه من بذل مال أو ترك عقوبة أو إقدام على أمر مهول وهذا هو فحوى السحر الحلال المستغني عن إلقاء العصا والحبال
واعلم أنه إذا ورد عليك كلام يجوز أن يحمل معناه على طريق الحقيقة وعلى طريق المجاز باختلاف لفظه فانظر فإن كان لا مزية لمعناه في حمله على طريق المجاز فلا ينبغي أن يحمل إلا على طريق الحقيقة لأنها هي الأصل والمجاز هو الفرع ولا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلا لفائدة
مثال ذلك قول البحتري
( مَهِيبٌ كَحَدِّ السَّيْفِ لَوْ ضُربَتْ بِهِ ... ذُرَى أَجَإِ ظَلَّت وَأعْلاَمُهَا وُهْدُ )
ويروى أيضا لو ضربت به طلى أجإ جمع طلية وهي العنق فهذا البيت لا يجوز حمله على المجاز لأن الحقيقة أولى به ألا ترى أن الذرى جمع ذروة وهو أعلى الشيء يقال ذروة الجبل أعلاه والطلى جمع طلية وهي العنق والعنق أعلى الجسد ولا فرق بينهما في صفة العلو هنا فلا يعدل إذا إلى المجاز إذ لا مزية له على الحقيقة
وهكذا كل ما يجيء من الكلام الجاري هذا المجرى فإنه إن لم يكن في المجاز زيادة فائدة على الحقيقة لا يعدل إليه

الفصل الثامن
في الفصاحة والبلاغة
اعلم أن هذا باب متعذر على الوالج ومسلك متوعر على الناهج ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل
وغاية ما يقال في هذا الباب إن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي يقال أفصح الصبح إذا ظهر ثم إنهم يقفون عند ذلك ولا يكشفون عن السر فيه
وبهذا القول لا تتبين حقيقة الفصاحة لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات
أحدها أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا
الوجه الآخر أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص فإن اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو فهو إذا فصيح عند هذا وغير فصيح عند هذا وليس كذلك بل الفصيح هو فصيح عند الجميع لا خلاف فيه بحال من الأحوال لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف
الوجه الآخر أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين ينبغي أن يكون فصيحا وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن اللفظ لا وصف قبح
فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل إن اللفظ الفصيح هو الظاهر البين من غير تفصيل

ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة فيها ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه فأقول إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم وإنما كانت مألوفة الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفووا القبيح منها فلم يستعملوه فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن
فإن قيل من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه
قلت في الجواب إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدها من نفسها لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما ويكره صوت الغراب وينفر عنه وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس والألفاظ جارية هذا المجرى فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة والديمة حسنة يستلذها السمع وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع وهذه اللفظات الثلاثة من صفة المطر وهي تدل على معنى واحد ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير ذوق سليم لا جرم

أنه ذم وقدح فيه ولم يلتفت إليه وإن كان عربيا محضا من الجاهلية الأقدمين فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها ولم يعرج على ما خرج عنها
وإذن ثبت أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين وإنما كان ظاهرا بينا لأنه مألوف الاستعمال وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه وحسنه مدرك بالسمع والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف فما استلذه السمع منه فهو الحسن وما كرهه فهو القبيح والحسن هو الموصوف بالفصاحة والقبيح غير موصوف بفصاحة لأنه ضدها لمكان قبحه وقد مثلت ذلك في المثال المتقدم بلفظة المزنة والديمة ولفظة البعاق ولو كانت الفصاحة لأمر يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء ليس منها حسن ومنها قبيح ولما لم يكن كذلك علمنا أنها تخص اللفظ دون المعنى
وليس لقائل ههنا أن يقول لا لفظ إلا بمعنى فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى فإن لم أفصل بينهما وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له والمعنى يجيء فيه ضمنا وتبعا
الوجه الثاني أن وزن فعيل هو اسم فاعل من فعل بفتح الفاء وضم العين نحو كرم فهو كريم وشرف فهو شريف ولطف فهو لطيف وهذا مطرد في بابه وعلى هذا فإن اللفظ الفصيح هو اسم فاعل من فصح فهو فصيح واللفظ هو الفاعل للإبانة عن المعنى فكانت الفصاحة مختصة به
فإن قيل إنك قلت إن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين أي المفهوم ونرى من آيات القرآن ما لا يفهم ما تضمنه من المعنى إلا باستنباط وتفسير وتلك الآيات فصيحة لا محالة وهذا بخلاف ما ذكرته
قلت لأن الآيات التي تستنبط وتحتاج إلى تفسير ليس شيء منها إلا ومفردات ألفاظه كلها ظاهرة واضحة وإنما التفسير يقع في غموض المعنى من جهة التركيب لا من جهة ألفاظه المفردة لأن معنى المفردة يتداخل بالتركيب ويصير له هيئة تخصه وهذا ليس قدحا في فصاحة تلك الألفاظ لأنها إذا اعتبرت لفظة لفظة وجدت كلها فصيحة أي ظاهرة واضحة

وأعجب ما في ذلك أن تكون الألفاظ المفرة التي تركبت منها المركبة واضحة كلها وإذا نظر إليها مع التركيب احتاجت إلى استنباط وتفسير وهذا لا يختص به القرآن وحده بل في الأخبار النبوية والأشعار والخطب والمكاتبات كثير من ذلك
وسأورد ههنا منه شيئا فأقول قد ورد عن النبي أنه قال ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ) وهذا الكلام مفهومة مفردات ألفاظه لأن الصوم والفطر والأضحى مفهوم كله وإذا سمع هذا الخبر من غير فكرة قيل علمنا أن صومنا يوم نصوم وفطرنا يوم نفطر وأضحانا يوم نضحي فما الذي أعلمنا به مما لم نعلمه وإذا أمعن الناظر نظره فيه علم أن معناه يحتاج إلى استنباط والمراد به أن إذا اجتمع الناس على أن أول شهر رمضان يوم كذا ولم يكن ذلك اليوم أوله فإن الصوم صحيح وأوله هو ذلك اليوم الذي اجتمع الناس إليه وكذا يقال في يوم الفطر ويوم الأضحى
ولهذا الخبر المشار إليه أشباه كثيرة تفهم معاني ألفاظها المفردة وإذا تركبت تحتاج في فهمها إلى استنباط
وأما ما ورد من ذلك شعرا فكقول أبي تمام
( وَلِهَتْ فَأَظْلَمَ كُلُّ شَيْءٍ دُونَهَا ... وَأَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ مُظْلِمِ )
فإن الوله والظلمة والإضاءة كل ذلك مفهوم المعنى لكن البيت بجملته يحتاج في فهمه إلى استنباط والمراد به أنها ولهت فأظلم ما بيني وبينها لما نالني من الجزع لولهها كما يقول الجازع أظلمت الأرض علي أي أني صرت كالأعمى الذي لا يبصر وأما قوله وأضاء منها كل شيء مظلم أي وضح لي منها ما كان مستترا عني من حبها إياي

وكذلك ورد قول أبي عبادة البحتري في منهزم
( إِذَا سَارَ سُهْبَاً عَادَ ظُهْراً عَدُوَّهُ ... وَكَانَ الصَّدِيقُ بُكْرَةً ذلِكَ السَّهْبُ )
فإن السير والسهب والظهر والعدو والصديق كل ذلك مفهوم المعنى لكن البيت بمجموعه يحتاج معناه إلى استنباط والمراد أن هذا المنهزم يرى ما بين يديه محبوبا إليه وما خلفه مكروها عنده لأنه يطلب النجاة فيؤثر البعد مما خلفه والقرب مما أمامه فإذا قطع سهبا وخلفه وراءه صار عنده كالعدو وقبل أن يقطعه كان له صديقا أي يطلب لقاءه ويحب الدنو منه
فانظر أيها المتأمل إلى ما ذكرته من هذه الأمثلة حتى يثبت عندك ما أردت بيانه
وأما البلاغة فإن أصلها في وضع اللغة من الوصول والانتهاء يقال بلغت المكان إذا انتهيت إليه ومبلغ الشيء منتهاه وسمي الكلام بليغا من ذلك أي أنه قد بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية
والبلاغة شاملة للألفاظ والمعاني وهي أخص من الفصاحة كالإنسان من الحيوان فكل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنسانا وكذلك يقال كل كلام بليغ فصيح وليس كل كلام فصيح بليغا
ويفرق بينها وبين الفصاحة من وجه آخر غير الخاص والعام وهو أنها لا تكون

إلا في اللفظ والمعنى بشرط التركيب فإن اللفظة الواحدة لا يطلق عليها اسم البلاغة ويطلق عليها اسم الفصاحة إذ يوجد فيها الوصف المختص بالفصاحة وهو الحسن
وأما وصف البلاغة فلا يوجد فيها لخلوها من المعنى المفيد الذي ينتظم كلاما
مسألة تتعلق بهذا الفصل
هل أخذ علم البيان من ضروب الفصاحة والبلاغة بالاستقراء من أشعار العرب أم بالنظر وقضية العقل
الجواب عن ذلك أنا نقول لم يؤخذ علم البيان بالاستقراء فإن العرب الذين ألفوا الشعر والخطب لا يخلو أمرهم من حالين إما أنهم ابتدعوا ما أتوا به من ضروب الفصاحة والبلاغة بالنظر وقضية العقل أو أخذوه بالاستقراء ممن كان قبلهم
فإن كانوا ابتدعوه عند وقوفهم على أسرار اللغة ومعرفة جيدها من رديئها وحسنها من قبيحها فذلك هو الذي أذهب إليه
وإن كانوا أخذوه بالاستقراء ممن كان قبلهم فهذا يتسلسل إلى أول من ابتدعه ولم يستقره فإن كل لغة من اللغات لا تخلو من وصفي الفصاحة والبلاغة المختصين بالألفاظ والمعاني إلا أن للغة العربية مزية على غيرها لما فيها من التوسعات التي لا توجد في لغة أخرى سواها
مسألة أخرى تتعلق بهذا الفصل أيضا
هل علم البيان من الفصاحة والبلاغة جار مجرى علم النحو أم لا
الجواب عن ذلك أنا نقول الفرق بينهما ظاهر وذاك أن أقسام النحو أخذت من واضعها بالتقليد حتى لو عكس القضية فيها لجاز له ذلك ولما كان العقل يأباه ولا ينكره فإنه لو جعل الفاعل منصوبا والمفعول مرفوعا قلد في ذلك كما قلد في رفع الفاعل ونصب المفعول وأما علم البيان من الفصاحة والبلاغة فليس كذلك لأنه استنبط بالنظر وقضية العقل من غير واضع اللغة ولم يفتقر فيه إلى التوقيف

منه بل أخذت ألفاظ ومعان على هيئة مخصوصة وحكم لها العقل بمزية من الحسن لا يشاركها فيها غيرها فإن كل عارف بأسرار الكلام من أي لغة كانت من اللغات يعلم أن إخراج المعاني في ألفاظ حسنة رائقة يلذها السمع ولا ينبو عنها الطبع خير من إخراجها في ألفاظ قبيحة مستكرهة ينبو عنها السمع ولو أراد واضع اللغة خلاف ذلك لما قلدناه
فإن قيل لو أخذت أقسام النحو بالتقليد من واضعها لما أقيمت الأدلة عليها وعلم بقضية النظر أن الفاعل يكون مرفوعا والمفعول منصوبا
فالجواب عن ذلك أنا نقول هذه الأدلة واهية لا تثبت على محك الجدل فإن هؤلاء الذين تصدوا لإقامتها سمعوا عن واضع اللغة رفع الفاعل ونصب المفعول من غير دليل أبداه لهم فاستخرجوا لذلك أدلة وعللا وإلا فمن أين علم هؤلاء أن الحكمة التي دعت الواضع إلى رفع الفاعل ونصب المفعول هي التي ذكروها

الفصل التاسع
في أركان الكتابة
اعلم أن للكتابة شرائط وأركانا
أما شرائطها فكثيرة وهذا التأليف موضوع لمجموعها وللقسم الآخر من الكلام المنظوم وليس يلزم الكاتب أن يأتي بالجميع في كتاب واحد بل يأتي بكل نوع من أنواعها في موضعه الذي يليق به كما أريناه فيما يأتي من هذا التأليف
وأما الأركان التي لا بد من إيداعها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فخمسة
الأول أن يكون مطلع الكتاب عليه جدة ورشاقة فإن الكاتب من أجاد المطلع والمقطع أو يكون مبنيا على مقصد الكتاب ولهذا باب يسمى باب المبادي والافتتاحات فليحذ حذوه وهذا الركن يشترك فيه الكاتب والشاعر
الركن الثاني أن يكون الدعاء المودع في صدر الكتاب مشتقا من المعنى الذي بني عليه الكتاب
وقد نبهنا على طرف من ذلك في باب يخصه أيضا فليطلب من هناك وهو مما يدل على حذاقة الكاتب وفطانته وكثيرا ما تجده في مكاتباتي التي أنشأتها فإني قصدته فيها وتوخيته بخلاف غيري من الكتاب لأنه ربما يوجد في كتابة غيري قليلا وتجده في كتابتي كثيرا
الركن الثالث أن يكون خروج الكاتب من معنى إلى معنى برابطة لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض ولا تكون مقتضبة ولذلك باب مفرد أيضا يسمى باب التخلص والاقتضاب وهذا الركن أيضا يشترك فيه الكاتب والشاعر
الركن الرابع أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقة بكثرة الاستعمال ولا

أريد بذلك أن تكون ألفاظا غريبة فإن ذلك عيب فاحش بل أريد أن تكون الألفاظ المستعملة مسبوكة سبكا غريبا يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس وهي مما في أيدي الناس وهناك معترك الفصاحة التي تظهر فيه الخواطر براعتها والأقلام شجاعتها كما قال البحتري
( باللَّفْظِ يَقْرُبُ فَهْمَهٌ فِي بُعْدِهِ ... عَنَّا وَيَبْعُدُ نَيْلُهُ فِي قُرْبِهِ )
وهذا الموضع بعيد المنال كثير الإشكال يحتاج إلى لطف ذوق وشهامة خاطر وهو شبيه بالشيء الذي يقال إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم فلفظه هو الذي يستعمل وليس بالذي يستعمل أي أن مفردات ألفاظه هي المستعملة المألوفة ولكن سبكه وتركيبه هو الغريب العجيب
وإذا سموت أيها الكاتب إلى هذه الدرجة واستطعمت طعم هذا الكلام المشار إليه علمت حينئذ أنه كالروح الساكنة في بدنك التي قال الله فيها ( قل الروح من أمر ربي ) وليس كل خاطر براق إلى هذه الدرجة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
ومع هذا فلا تظن أيها الناظر في كاتبي أني أردت بهذا القول إهمال جانب المعاني بحيث يؤتى باللفظ الموصوف بصفات الحسن والملاحة ولا تكون تحته من المعنى ما يماثله ويساويه فإنه إذا كان كذلك كان كصورة حسنة بديعة في حسنها إلا أن صاحبها بليد أبله والمراد أن تكون هذه الألفاظ المشار إليها جسما لمعنى شريف على أن تحصيل المعاني الشريفة على الوجه الذي أشرت إليه أيسر من تحصيل الألفاظ المشار إليها
ويحكى عن المبرد رحمه الله تعالى أنه قال ليس أحد في زماني إلا وهو يسألني عن مشكل من معاني القرآن أو مشكل من معاني الحديث النبوي أو غير

ذلك من مشكلات علم العربية فأنا إمام الناس في زماني هذا وإذا عرضت لي حاجة إلى بعض إخواني وأردت أن أكتب إليه شيئا في أمرها أحجم عن ذلك لأني أرتب المعنى ثم أحاول أن أصوغه بألفاظ مرضية فلا أستطيع ذلك
ولقد صدق في قوله هذا وأنصف غاية الإنصاف
ولقد رأيت كثيرا من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف ويظهر من خاطره المعنى الدقيق ولكنه لا يحسن أن يزاوج بين لفظتين
فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني فإنه لا يمنع الجاهل الذي لا يعرف علما من العلوم أن يكون ذكيا بالفطرة واستخراج المعاني إنما هو بالذكاء لا بتعلم العلم
وبلغني أن قوما ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات وينادون بالسحور ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر وإن لم يكن من بحار الشعر المنقولة عن العرب وسمعت شيئا منه فوجدت فيه معاني حسنة مليحة ومعاني غريبة وإن لم تكن الألفاظ التي صيغت به فصيحة
وهذا الركن أيضا يشترك فيه الكاتب والشاعر
الركن الخامس أن لا يخلو الكتاب من معنى من معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية فإنها معدن الفصاحة والبلاغة وإيراد ذلك على الوجه الذي أشرت إليه في الفصل الذي يلي هذا الفصل من حل معاني القرآن الكريم والأخبار النبوية أحسن من إيراده على وجه التضمين وتوخي ذلك في كل كتاب عسر جدا وأنا انفردت بذلك دون غيري من الكتاب فإني استعملته في كل كتاب حتى إنه ليأتي في الكتاب الواحد في عدة مواضع منه ولقد أنشأت تقليدا لبعض الملوك مما يكتب من ديوان الخلافة ثم إني اعتبرت ما ورد فيه من معاني الآيات والأخبار

النبوية فكان ما يزيد على الخمسين وهذا لا أتكلفه تكلفا وإنما يأتي على حسب ما يقتضيه الموضع الذي يذكر فيه وقد عرفتك أيها الكاتب كيف تستعمل ما تستعمله من ذلك في الفصل الذي يأتي بعد هذا الفصل فخذه من هناك
وهذا الركن يختص بالكاتب دون الشاعر لأن الشاعر لا يلزمه ذلك إذ الشعر أكثره مدائح وأيضا فإنه لا يتمكن من صوغ معاني القرآن والأخبار في المنظوم كما يتمكن منه في المنثور ولربما أمكن ذلك في الشيء اليسير في بعض الأحيان
وإذا استكملت معرفة هذه الأركان الخمسة وأتيت بها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فقد استحققت حينئذ فضيلة التقدم ووجب لك أن تسمي نفسك كاتبا

الفصل العاشر
في الطريق إلى تعلم الكتابة
هذا الفصل هو كنز الكتابة ومنبعها وما رأيت أحدا تكلم فيه بشيء ولما حببت إلي هذه الفضيلة وبلغني الله منها ما بلغني وجدت الطريق ينقسم فيها إلى ثلاث شعب
الأولى أن يتصفح الكاتب كتابة المتقدمين ويطلع على أوضاعهم في استعمال الألفاظ والمعاني ثم يحذو حذوهم وهذه أدنى الطبقات عندي
الثانية أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجيده لنفسه من زيادة حسنة إما في تحسين ألفاظ أو في تحسين معان وهذه هي الطبقة الوسطى وهي أعلى من التي قبلها
الثالثة أن لا يتصفح كتابة المتقدمين ولا يطلع على شيء منها بل يصرف همه إلى حفظ القرآن الكريم وكثير من الأخبار النبوية وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن غلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ ثم يأخذ في الاقتباس من هذه الثلاثة أعني القرآن والأخبار النبوية والأشعار فيقوم ويقع ويخطئ ويصيب ويضل ويهتدي حتى يستقيم على طريقة يفتتحها لنفسه وأخلق بتلك الطريق أن تكون مبتدعة غريبة لا شركة لأحد من المتقدمين فيها وهذه الطريق هي طريق الاجتهاد وصاحبها يعد إماما في فن الكتابة كما يعد الشافعي وأبو حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهم وغيرهم من الأئمة المجتهدين في علم الفقه إلا أنها مستوعرة جدا ولا يستطيعها إلا من رزقه الله تعالى لسانا هجاما وخاطرا رقاما وقد سهلت لك صعابها وذللت محاجها وكنت أشح بإظهار ذلك لما عانيت

في نيله من العناء فإني سلكت إليه كل طريق حتى بلغته آخرا وإنما تكون نفاسة الأشياء لعزة حصولها ومشقة وصولها
( لَيْسَ حُلْواً وُجُودُكَ الشَّيْءَ تَبْغِيهِ ... طِلاَباً حَتَّى يَعِزَّ طِلاَبُهْ )
ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها وأظفرتني بكنوز جواهرها إذ لم يظفر غيري بأحجارها فما وجدت أعون الأشياء عليها إلا حل آيات القرآن الكريم والأخبار النبوية وحل الأبيات الشعرية وقد قصرت هذا الفصل على ذكر وجوهها وتقسيمها وتمهيد الطريق إلى تعليمها فمن وقف على ما ذكرته علم أني لم آت بشيئا فريا وأن الله قد جعل تحت خواطري من بنات الأفكار سريا وهذه الطريق يجهلها كثير من متعاطي هذه الصناعة والذي يعلمها منهم يرضى بالحواشي والأطراف ويقنع من لآلئها بمعرفة ما في الأصداف ولو استخرج منها ما استخرجت واستنتج ما استنتجت لهام بها في كل واد وتزود إلى سلوك طرقها كل زاد
( لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا )
ولا أريد بهذه الطريق أن يكون الكاتب مرتبطا في كتابته بما يستخرجه من القرآن الكريم والأخبار النبوية والشعر بحيث إنه لا ينشئ كتابا إلا من ذلك بل أريد أنه إذا حفظ القرآن الكريم وأكثر من حفظ الأخبار النبوية والأشعار ثم نقب عن ذلك تنقيب مطلع على معانيه مفتش عن دفائنه وقلبه ظهرا لبطن عرف

حينئذ من أين تؤكل الكتف فيما ينشئه من ذات نفسه واستعان بالمحفوظ على الغريزة الطبيعية ألا ترى أن صاحب الاجتهاد من الفقهاء يفتقر إلى معرفة آيات الأحكام وأخبار الأحكام وإلى معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة وإلى معرفة علم العربية وإلى معرفة الفرائض والحساب من المعلوم والمجهول من أجل مسائل الدور والوصايا وغيرها وإلى معرفة إجماع الصحابة فهذه أدوات الاجتهاد فإذا عرفها استخرج بفكرته حينئذ ما يؤديه إليه اجتهاده كما فعل أبو حنيفة والشافعي ومالك وغيرهم من أئمة الاجتهاد وكذلك يجري الحكم في الكتاب إذا أحب الترقي إلى درجة الاجتهاد في الكتابة فإنه يحتاج إلى أشياء كثيرة قد ذكرتها في صدر كتابي هذا إلا أن رأسها وعمودها وذروة سنامها ثلاثة أشياء هي حفظ القرآن الكريم والإكثار من حفظ الأخبار النبوية والأشعار
وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فأول ما أبدأ به على عقب ذلك أن أقول
حل الأبيات الشعرية ينقسم إلى ثلاثة أقسام
الأول منها وهو أدناها مرتبة أن يأخذ الناثر بيتا من الشعر فينثره بلفظه من غير زيادة وهذا عيب فاحش ومثاله كمن أخذ عقدا قد أتقن نظمه وأحسن تأليفه فأوهاه وبدده وكان يقوم عذره في ذلك أن لو نقله عن كونه عقدا إلى صورة أخرى مثله أو أحسن منه وأيضا فإنه إذا نثر الشعر بلفظه كان صاحبه مشهور السرقة فيقال هذا شعر فلان بعينه لكون ألفاظه باقية لم يتغير منها شيء وقد سلك هذا المسلك بعض العراقيين فجاء مستهجنا لا مستحسنا
كقوله في بعض أبيات الحماسة
( وَأَلَدَّ ذِي حَنَقٍ عَلَيَّ كَأَنَّمَا ... تَغْلِي عَدَاوَةُ صَدْرِهِ فِي مِرْجَلِ )
( أرْجَيْتُهُ عَنِّي فأبْصَرَ قَصْدَهُ ... وَكَوَيْتُهُ فَوْقَ النَّوَاظِرِ مِنْ عَلِ )
فقال في نثر هذين البيتين فكم لقي ألد ذي حنق كأنه ينظر إلى الكواكب من عل وتغلي عداوة صدره في مرجل فكواه فوق ناظريه وأكبه لفمه ويديه
فلم يزد هذا الناثر على أن أزال رونق الوزن وطلاوة النظم لا غير

ومن هذا القسم ضرب محمود لا عيب فيه وهو أن يكون البيت من الشعر قد تضمن شيئا لا يمكن تغيير لفظه فحينئذ يعذر ناثره إذا أتى بذلك اللفظ ومثاله قول الشاعر في أول الحماسة
( لَوْ كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلي ... بَنُو اللَّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا )
وقد نثرت ذلك فقلت لست ممن تستبيح إبله بنو اللقيطة ولا الذي إذا هم بأمر كانت الآمال إليه وسيطة ولكني أحمل الهمل وأقرب الأمل وأقول سبق السيف العذل فذكر بني اللقيطة ههنا لا بد منه على حسب ما ذكره الشاعر وكذلك الأمثال السائرة فإنه لا بد من ذكرها على ما جاءت في الشعر
وأما القسم الثاني وهو وسط بين الأول والثالث في المرتبة وهو أن ينثر المعنى المنظوم ببعض ألفاظه ويعزم عن البعض بألفاظ أخر وهناك تظهر الصنعة في المماثلة والمشابهة ومؤاخاة الألفاظ الباقية بالألفاظ المرتجلة فإنه إذا أخذ لفظا لشاعر مجيد قد نقحه وصححه فقرنه بما لا يلائمه كان كمن جمع بين لؤلؤة وحصاة ولا خفاء بما في ذلك من الانتصاب للقدح والاستهداف للطعن
والطريق المسلوك إلى هذا القسم أن تأخذ بعض بيت من الأبيات الشعرية هو أحسن ما فيه ثم تماثله
وسأورد ههنا مثالا واحدا ليكون قدوة للمتعلم فأقول
قد ورد هذا البيت من شعر أبي تمام في وصف قصيدة له
( حَذَّاءَ تَملأ كُلَّ أذْنٍ حِكْمَةً ... وَبَلاَغَةً وَتُدِرُّ كُلّ وَرِيدِ )

فقوله تملأ كل أذن حكمة من الكلام الحسن وهو أحسن ما في البيت فإذا أردت أن تنثر هذا المعنى فلا بد من استعمال لفظه بعينه لأنه في الغاية القصوى من الفصاحة والبلاغة فعليك حينئذ أن تؤاخذه بمثله وهذا عسر جدا وهو عندي أصعب منالا من ناثر الشعر بغير لفظه لأنه مسلك مضيق لما فيه من التعرض لمماثلة ما هو في غاية الحسن والجودة وأما نثر الشعر بغير لفظة فذلك يتصرف فيه ناثره على حسب ما يراه ولا يكون مقيدا فيه بمثال يضطر إلى مؤاخاته
وقد نثرت هذه الكلمات المشار إليها وأتيت بها في جملة كتاب فقلت وكلامي قد عرف بين الناس واشتهر وفاق مسير الشمس والقمر وإذا عوف الكلام صارت المعرفة له علامة وأمن من سرقته إذ لو سرق لدلت عليه الوسامة ومن خصائص صفاته أن يملأ كل أذن حكمة ويجعل فصاحة كل لسان عجمة وإذا جرت نفثاته في الأفهام قالت أهذه بنت فكرة أم بنت كرمة
فانظر كيف فعلت في هذا الموضع فإني لما أخذت تلك الكلمات من البيت الشعري التزمت بأن أؤاخيها بما هو مثلها أو أحسن منها فجئت بهذا الفصل كما تراه وكذلك ينبغي أن يفعل فيما هذا سبيله
وأما القسم الثالث وهو أعلى من القسمين الأولين فهو أن يؤخذ المعنى فيصاغ بألفاظ غير ألفاظه وثم يتبين حذق الصائغ في صياغته ويعلم مقدار تصرفه في صناعته فإن استطاع الزيادة على المعنى فتلك الدرجة العالية وإلا أحسن التصرف وأتقن التأليف ليكون أولى بذلك المعنى من صاحبه الأول
واعلم أن من أبيات الشعر ما يتسع المجال لناثره فيورده بضروب من العبارات وذلك عندي شبيه بالمسائل السيالة في الحساب التي يجاب عنها بعدة من الأجوبة ومن الأبيات ما يضيق فيه المجال حتى يكاد الماهر في هذه الصناعة ألا يخرج عن ذلك اللفظ وإنما يكون هذا لعدم النظير
فأما ما يتسع المجال في نثره فكقول أبي الطيب المتنبي

( لاَ تَعْذِلِ المُشْتَاقَ في أَشْوَاقِهِ ... حَتَّى يَكُونَ حَشَاكَ في أَحْشَائِهِ )
وقد نثرت هذا المعنى فمن ذلك قولي لا تعذل المحب فيما يهواه حتى تطوي القلب على ما طواه ومن ذلك وجه آخر وهو إذا اختلفت العينان في النظر فالعذل ضرب من الهذر
ومن هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي أيضا
( إِنَّ الْقَتِيلَ مُضَرَّجاً بِدمُوعِهِ ... مِثْلُ الْقَتِيلِ مُضَرّجاً بِدِمَائِهِ )
أخذت هذا المعنى فنثرته فمن ذلك قولي القتيل بسيف العيون كالقتيل بسيف المنون غير أن ذلك لا يجرد من غمده ولا يقاد صاحبه بعمده فزدت على المعنى الذي تضمنه البيت وغيرت اللفظ ومن ذلك وجه آخر وهو دمع المحب ودم القتيل متفقان في التشبيه والتمثيل ولا تجد بينهما بونا إلا أنهما يختلفان لونا
وهذا أحسن من الأول
وأما ما يضيق فيه المجال فيعسر على الناثر تبديل ألفاظه فكقول أبي تمام
( تَرَدَّى ثِيَابَ الْمَوْتِ حُمْراً فَمَا أَتَى ... لَهَا اللَّيْلُ إِلاَّ وَهْيَ مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرِ )

وقول أبي الطيب المتنبي
( وكَانَ بِهَا مِثْلُ الْجُنُونِ فَأَصْبَحَتْ ... وَمِنْ جُثَثِ الْقَتْلَى عَلَيْهَا تَمَائِمُ )
وأمثال هذا لا تأتي إلا قليلا وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا قدا كهذين البيتين ألا ترى أن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب من الأحمر والأخضر وجاء ذلك واقعا على المعنى الذي أراده من لون ثياب القتلى وثياب الجنة فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لا يمكن ذلك وبيت أبي الطيب جار هذا المجرى فإنه بناه على واقعة من الوقائع وذاك أن حصنا من حصون سيف الدولة قصده الروم وانتزعوه وأخربوه فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه وجدد بناءه وهزم الروم ونصب من جثث القتلى على السور فنظم المتنبي في هذا قصيدا أوله
( عَلَى قَدْرِ أهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ ... )
فلما انتهى إلى ذكر الحصن جاء بهذا البيت في جملة أبيات فشرح صورة الحال في إزعاج الحصن بالقتال وتعليق القتلى عليه وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم وهذا لا يمكن تبديل لفظه وهو وأمثاله مما يجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه أنه لأنه يتصدى يتصدى لنثره بألفاظه فإن كان عنده قوة تصرف وبسطة عبارة فإنه يأتي به حسنا رائقا
وقد نثرت هذين البيتين أما بيت أبي تمام فإني قلت في نثره لم تكسه المنايا نسج شفارها حتى كسته الجنة نسج شعارها فبدل أحمر ثوبه بأخضره وكأس حمامه بكأس كوثره وهذا من الحسن على غاية يكون كمد حسودها من جملة شهودها وأما بيت أبي الطيب المتنبي فإني قلت في نثره سرى إلى حصن

كذا مستعيدا منه سبية نزعها العدو اختلاسا وأخذها مخادعة لا افتراسا فما نزلها حتى استقادها ولا نزلها حتى استعادها وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم وعلق عليها من رءوس القتلى تمائم
وفي هذا من الحسن ما لا خفاء به فمن شاء أن ينثر شعرا فلينثر هكذا وإلا فليترك
وقد جئت بهذا المعنى على وجه آخر وأبرزته في صورة أخرى وذاك أني أضفت إلى هذا البيت البيت الذي قبله وهو
( بَنَاهَا فَأَعْلَى وَالْقَنَا تَقْرَعُ الْقَنَا ... وَمَوْجُ الْمَنَايَا حَوْلَهَا مُتَلاَطِمُ )
ولما نثرت هذين البيتين قلت في نثرهما ما أذكره وهو
بناها والأسنة في بنائها متخاصمة وأمواج المنايا فوق أيدي البانين متلاطمة وما أحلت الحرب عنها حتى زلزلت أقطارها بركض الجياد وأصيبت بمثل الجنون فعلقت عليها تمائم من الرءوس والأجساد ولا شك أن الحرب تعرد عمن عز جانبه وتقول ألا هكذا فليكسب المجد كاسبه
وهذا أحسن من الأول وأتم معنى
وقد تصرفت في هذا الموضع بزيادة في معناه ونثرته على أسلوب أحسن من هذا الأسلوب فقلت بناها ودون ذلك البناء شوك الأسل وطوفان المنايا الذي لا يقال سآوي منه إلى جبل ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدمت رءوس عن أعناق وكأنما أصيبت بجنون فعلقت القتلى عليها مكان التمائم أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق

وهذا الفصل فيه زيادة على الفصل الذي قبله
وإذا انتهى بنا الكلام إلى ههنا في التنبيه على نثر الشعر وكيفية نثره وذكر ما يسهل منه وما يعسر فلنتبع ذلك بقول كلي في هذا الباب فنقول
من أحب أن يكون كاتبا أو كان عنده طبع مجيب فعليه بحفظ الدواوين ذوات العدد ولا يقنع بالقليل من ذلك ثم يأخذ في نثر الشعر من محفوظاته وطريقه أن يبتدئ فيأخذ قصيدا من القصائد فينثره بيتا بيتا على التوالي ولا يستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه أو بأكثرها فإنه لا يستطيع إلا ذلك وإذا مرنت نفسه وتدرب خاطره ارتفع عن هذه الدرجة وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده ثم يرتفع عن ذلك حتى يكسوه ضروبا من العبارات المختلفة وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لقاح فيستنتج منها معاني غير تلك المعاني وسبيله أن يكثر الإدمان ليلا ونهارا ولا يزال على ذلك مدة طويلة حتى يصير له ملكة فإذا كتب كتابا أو خطب خطبة تدفقت المعاني في أثناء كلامه وجاءت ألفاظه معسولة لا مغسولة وكان عليها حدة حتى تكاد ترقص رقصا وهذا شيء خبرته بالتجربة ولا ينبئك مثل خبير
فإن قيل الكلام قسمان منظوم ومنثور فلم حضضت على حفظ المنظوم وجعلته مادة للمنثور وهلا كان الأمر بالعكس
قلت في الجواب إن الأشعار أكثر والمعاني فيها أغزر وسبب ذلك أن العرب الذين هم أصل الفصاحة جل كلامهم شعر ولا نجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيرا ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم بل المنقول عنهم هو الشعر فأودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى ( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) ثم جاء الطراز الأول من المخضرمين فلم يكن لهم إلا الشعر ثم استمرت الحال على ذلك فكان الشعر هو الأكثر والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر ولهذا صارت المعاني كلها مودعة في الأشعار وحيث كانت بهذه الصورة فكان حثي على حفظها واستعمال معانيها في الخطب والمكاتبات لهذا السبب

وقد نثرت في هذا الموضع أبياتا تكون قدوة للمتعلم
فمن ذلك قولي في فصل من فصول الكلام يتضمن ذكر السيادة وهو الشريف من شرف بنفسه لا بما دفن مع أبيه في رمسه فإن تلك مكارم أتت فتجمل الزمان بمأتاها ثم مات أربابها فدفنت مع موتاها ولو ساد الناس بآبائهم لكانت السيادة للطينة الأولى ولقد خلق الأبناء من الآباء مجبولا وهذا المعنى مأخوذ من قول الشاعر
( وَمَا الْفَخْرُ بالْعَظْمِ الرَّمِيمِ وَإِنَّمَا ... فَخَارُ الَّذِي يَبْغِي الْفَخَارَ بِنَفْسِهِ )
غير أن الفصل الذي ذكرته يتضمن من المعنى زيادة على ما تضمنه هذا البيت
ومن ذلك ما كتبته في فصل من كتاب يتضمن معاتبة أخ لإخوته وتنصله إليهم فقلت جرحوا قلبي وحبهم يذهب بألم الجراحة وطرفوا عيني وهم يزيدون في نظرها ملاحة وإذا صدرت الإساءة عن الأحباب لم يكن وقرها وقرا وأصبحت وهي منسية إذا تجددت الإساءة بالذكرى وما منهم إلا من سيط دمي بدمه ولحمي بلحمه ولو أن الأسماء معارف الأشخاص لكان اسمي واردا على اسمه وكيف أخشن عليهم وقد جبلني الله لهم على اللين أم كيف أذود النفس عنهم وهي مشتقة منهم وآدم بين الماء والطين ومتى أؤمل من شجرتي أغصانا كهذه الأغصان وقد أصيبت جرثومتها بالجداد ولهذا قيل إن الإخوة يتعذر الاعتياض عنهم ولا يتعذر الاعتياض عن الأولاد
آخر هذا الفصل مأخوذ من شعر ابن الرومي وهو قوله
( تَعَزَّيْتَ عَمَّن أثْمَرَتْكَ حَيَاتُهُ ... وَوَشْكُ التَّعَزِّي عَنْ ثِمَارِكَ أجْدَرُ )
( تَعَذَّرَ أن نَعْتَاضَ عَنْ أُمَّهَاتِنا ... وَأَبْنَائِنَا وَالنَّسْلُِ لاَ يَتَعَذَّرُ )
غير أن ابن الرومي ذكر ذلك في تعزية إنسان بابنه فتصرفت أنا في هذا المعنى ونقلته إلى هذا الفصل في تضمنه معاتبه أخ لإخوته

ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن ذم المشيب فقلت والعيش كل العيش في سن الحداثة وما يأتي بعدها فلا يدعى إلا بسن الغثاثة وليس بعد الأربعين من مصيف للذة ولا مربع وهي نهاية القوة الصالحة من الطبائع الأربع فإذا تجاوزها المرء أشفت ثمار عمره على خرصها وصارت زيادته كزيادة التصغير التي هي زيادة تدل على نقصها وأصبح بعد ذلك يدعى أبا بعد أن كان يدعى ابنا وتقمص ثوبا من المشيب لا يجر ثوبه خيلاء ولا يزهى به حسنا وإن قيل إن أحسن الثياب شعار البياض قيل إلا هذا الثوب فإنه مستثنى ويكفيه من الفظاظة أن ينظر الأحباب إليه نظر القتال ولولا أن الخمود بعده لما استعير له لفظة الاشتمال ومن الناس من يدلس لونه بصبغة الخضاب وليس ذلك إلا حدادا على فقد الشباب وهو في فعله هذا كاذب ولا يخفى أنس الصادق من وحشة الكذاب وخداع النفس أن تسلو عن بئره المعطلة وقصره المشيد ويحسن لها الخروج في ثوب مرقع وهي تراه بعين الثوب الجديد
وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي وهو قوله
( رَأَيْتُ خِضَابَ الْمَرْءِ بَعْدَ مَشِيبِهِ ... حِدَاداً عَلَى شَرْخِ الشَّبِيبةِ يُلْبَسُ )
غير أن في هذا الفصل معاني كثيرة لطيفة لا توجد في كلام آخر
ومن ذلك قولي في وصف الجود والسخاء وهذا الفصل يشتمل على معان متعددة فمنها قولي في العطاء وهو شافهتني أسباب الغنى برؤيته حتى كادت تنطق واخضرت أكنان منزلي بعطائه حتى كادت تورق ومن فضيلة بره أنه لا يأتي به على أعين الناس وإذا غرسه عند إنسان رب ذلك الغراس فلا يستكثر ما جادت به سحاب يده ولا يمنعه عطاء يومه عن عطاء غده
وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي نواس
( كَانوا إذَا غَرَسٌوا سَقَوْا وَإِذَا بَنَوْا ... لَمْ يَهْدِمُوا لِبِنَائِهِمْ أسُسَا )
ومن هذا المعنى أيضا قولي وهو أخذ المكارم من سمائها وأرضها وقام بنفلها في الناس وفرضها وتحلى ببعض أسماء الشهور حتى أصبح بعضها حاسدا

لبعضها فالمحرم للعائذ بحرمة وصفر للطامع في سعادة قدمه وربيع لرائد نواله ورجب لأقوال عذاله
وهذا مأخوذ من قول الفرزدق
( يَدَاكَ بَدٌ رَبِيعُ النَّاسِ فِيهَا ... وَفِي الأُخْرَى الشهور من المحرم )
وقد قال الشعراء في ذلك كثيرا إلا أني أنا تصرفت في هذا المعنى تصرفا لم يتصرف فيه أحد غيري
ومن هذا المعنى ما ذكرته في فصل من كتاب وهو ولقد سوى بين أعدائه في البغض وبين أمواله فهذه معنية بوقع نصاله وهذه معنية بصنائع نواله ولو أحب المال لكان أحبه إليه ما يبذله كما أن أحب الناس إليه منح يسأله ومن أحسن ما سنه من الكرم أنه جاد حتى بدل رغب العافين زهدا ورأى الحمد عوضا من الصنيعة فأبى أن يعتاض من صنائعه حمدا
وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي نواس وهو
( لَيْتَ أعْدَائِي كَانُوا ... لأبي إسْحاقَ مَالاَ )
ومن ذلك قولي في وصف القتال وموطن الحرب ووصف الشجاعة والأنجاد وما يتعلق بذلك ويجري معه وهذا الفصل يشتمل على معاني مختلفة
فمن ذلك ما ذكرته في وصف العسكر وهو فسرنا في غمامة من الكتائب تظلها غمامة من الطيور الأشائب فهذه يضمها بحر من حديد وهذه يضمها بر من صعيد وما مرت ببلد إلا أزالت أرضه من سمائه وألبست نهاره ثوب ظلمائه

وبدلت أحراره بعبيده وحرائره بإمائه وكذلك فعلت بمدينة فلانة وقد ضرب الأمن عليها أسوارا وبعد عهدها بالنوائب فلم تدخل لها ديارا فهي تخبر عن بلهنية الخفض ولم ترع عنه بالانتقال ولا رأت السيف وقد ألقى لونه في ذوائب الأطفال فما شعر أهلها إلا وقد رجمها الجيش بكاهله ورماها بوابله قبل طله وطل السحاب قبل وابله وبرزت خيل القوم ولها زي فرسانها وهي مستبقة إلى طرادها كاستباقها إلى ميدانها إلا من تتأود القناة من يده بين لهذمين وتستقل السرج منه ومن جواده بين مطهمين فجرت المغاوير إلى المغاوير وتلاقت الرياح بالأعاصير وكان الطعن بينهم عناقا واللبث وفاقا وسبق ألم الموت ألم الجراح ونفذت غير مخضبة لسرعتها أسنة الرماح وحصل القوم في القبضة وذقوا عقبى النهضة وجيء بالأسرى مقرنين في الأصفاد موقنين أن رءوسهم عواري على تلك الأجساد ولو استطاع رأس أحدهم أن ينكر عنقه لأنكره ولا يود وهو المعظم أن يقال ما أعظمه بل يقال ما أحقره وتصرفت أيدي المسلمين في القتل والنهاب وكان للسيف رقاب وللسبي رقاب
في هذا الفصل معان كثيرة مستحسنة ومنها ما أخذ من شعر المتنبي كقوله
( سَحَابٌ مِنَ العقْبَانِ ترْجُفُ تحتها ... سَحَابٌ إذا اسْتٌسْقَتْ سَقَتْها صَوَارِمُهْ )
وكقوله
( واسْتَعَارَ الْحَدِيدُ لَوْناً وَأَلَقَى ... لَوْنَهُ في ذَوَائِبِ الأَطْفَالِ )

ومن ذلك ما ذكرته في وصف المسلوبين في فصل من جملة كتاب يتضمن البشرى بهزيمة الكفار وهو فسلبوا وعاضتهم الدماء عن اللباس فهم في صورة عار وزيهم زي كاس وما أسرع ما خيط لهم لبساها المحمر غير أنه لم يجب عليهم ولم يزر وما لبسوه حتى لبس الإسلام شعار النصر الباقي على الدهر وهو شعار نسجه السنان الخارق لا الصنع الحاذق ولم يغب عن لابسه إلا ريثما غابت البيض في الطلى والهام وألف الطعن بين ألف الخط واللام
وهذه معان حسنة رائقة ومنها معنى واحد مأخوذ من شعر البحتري وهو
( سُلِبوا وَأَشْرَقَتِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِمُ ... مُحْمَرَّةً فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يُسْلَبُوا )
ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب يتضمن فتحا وهو أصدر هذا الكتاب والفتح غض طري لم تنصل حمرة يومه ولا أغمدت سيوف قومه فسطوره متربة بمثار عجاجه ممتلئة بخط ضربه وإعجام زجاجه
وهذا المعنى ينظر إلى قول أبي تمام
( كتَّبْتَ أوْجُهَهُمْ مَشْقَاً وَنَمْنَمَةً ... ضَرْباً وَطَعْناً يُقاتُ الْهَامَ والصُّلُفا )
( كِتَابَةً ما تَنِي مَقْرُوءَةً أبَداً ... وَمَا خَطَطْتَ بِهَا لاَماً وَلاَ ألِفَا )
إن أن أبا تمام مثل أثار الضرب والطعان في الوجوه بالكتابة وأما مثلت الكتابة

وإعجامه بالضرب والطعن فكأنني عكست المعنى الذي ذكره أبو تمام وهذا مقصد في حل الأبيات الشعرية حسن فإن استخراج المعنى من عكسه أدق من استخراجه من نفسه وقد نبهت على ذلك في مواضع أخر من هذا الباب
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن فتحا من فتوح الكفار وهو وأقبلت أحزاب الكفر وهي معتصمة بصليبها ورفعته على أعواد عالية كهيئة خطيبها ولم تعلم أن الله كتب عليه الهوان بعد تلك الكرامة وأنه ذو شعب أربع والتربيع نحس في حكم النجامة وكيف ترجو بكفرها ظهورا ولها منه معنى الاختفاء وللإسلام معنى السلامة ولما التقى الجمعان اصطفقت يمين وشمال وزحفت جبال إلى جبال وكثرت النفوس على المنايا حتى كادت لا تفي بالآجال وأقدمت الخيل إقدام فرسانها وأظلم النقع فلا تبصر إلا بآذانها ونالت النحور ثأرها من كعوب الرماح واشتكت الأسنة فلا طريق بينها لمهب الرياح واستؤصلت شجرة الكافرين بالقطع لا بالجداد وحال حد السيف دون حديد الأصفاد ونقلوا إلى جهنم يصلونها وبئس المهاد وانقلب المسلمون وقد ملئوا الأغماد نصرا والصحائف أجرا والأيدي وقرا والقلوب جذلا والألسنة شكرا وكان ذلك اليوم في الأيام علما وفي الأقسام قسما ولم يره الزمان منسوبا إليه إلا راجع شبابا بعد أن ناهز هرما
في هذا الفصل شيء من معاني الشعر وذلك من قول أبي الطيب المتنبي

( أتَاهُمْ بأوْسَعَ مِنْ أرْضِهِمْ ... طِوَالَ السَّبِيبَ قِصَارَ الْعُسُبْ )
( تَغِيبُ الشَّوَاهِقُ فِي جَيْشِهِ ... وَتَبْدُو صِغَاراً إِذَا لَمْ تَغِبْ )
( وَلاَ تَعْبُرُ الرِّيحُ فِي جَوِّهِ ... إذَا لَمْ تَخَطَّ الْقَنَا أَوْ تَثِبْ )
ومن قوله أيضا
( فِي جَحْفَلٍ سَتَرَ الْعُيُونَ غُبَارُهُ ... فَكَأَنَّما يُبْصِرْن بِالآذَانِ )
ومن ذلك ما ذكرته في الإنجاد وإجابة الصريخ وهو إذا استصرخ بعزم غذته صحبة الجيش عن لذة العيش فهو يستعذب حر الثغور على برد الثغور ويلهو بالبيض الذكور عن بيض الخدور ولا طيب عنده إلا ريح

العجاج
ولا عناق إلا أطراف الزجاج ولا أرب له في الرقاد إلا على صهوات الجياد فعسكر قلبه أمضى في الوغى من عسكر ونجدة بأسه تأبى لقاء الأقران في درع أو مغفر
وهذه المعاني مأخوذة من أبيات الحماسة ومن شعر مسلم بن الوليد
ومن ذلك ما ذكرته في وصف المخبر دون المنظر وهو إذا سموت لأمر فكن واحدا في مكانك ولا ترض بكثرة الشركاء فيقال فلان من أقرانك ألم تر إلى الحرباء الذي هو دويبة حقيرة الشأن ضعيفة الأركان فإنه ارتفع في هواه عن الأرض وأنسها إلى السماء وشمسها وقال لا أحب من تفسد الأيام من حسنه ولا من أحد بسمة خله ولا خدنه والهمم ليست منوطة بجهارة المناظر والتعويل على الخبر المستتر في الأفئدة الباطنة لا على الظواهر ومن ههنا قيل إن وضاءة النفوس أنضر من وضاءة الأجساد ورقم الشيم أحسن من رقم الأبراد
وآخر هذا الفصل ينظر إلى قوم سحيم عبد بني الحسحاس
( إنْ كُنْتُ عَبْداً فَنَفْسِي حُرَّةٌ كَرَماً ... أوْ أسْوَدَ اللَّوْنِ إِنِّي أبْيَضُ الْخُلُقِ )
إلا أن الفصل يتضمن معنى غريبا لم يسبقني إليه أحد
ومن ذلك ما ذكرته في الحسد في فصل من كتاب وهو حاسد سيدنا ينظر إلى زهرة دنياه ولا ينظر إلى استحقاقه وهو كالناظر إلى الأطواق الموضوعة في الحيد ولا يدري أن الجيد أحسن من أطواقه ولو قاس الدنيا بالاستحقاق لذهب الحسد من صدره وقال مالي أحسد من لم ينته قدر دنياه إلى معشار قدره
ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب يتضمن الأعذار عن تواتر المكاتبات وهو إذا اعتذر من انقطاع الكتب اعتذار الخادم من اتصالها ولو كانت واردة على

غير ذلك الباب الكريم لخاف من إملالها وقد عد احتمال تثقيلها من جملة الأيادي التي أثقلته وأراد أن يجري معها بسوابق شكره فأعجلته وما أمهلته وهو الآن مرتهن بين قديم وجديد وأصبح كخراش إذ تكاثرت عليه الظباء فلم يدر لكثرتها ما يصيد فإن أمسك سيدنا من أياديه وإلا فليتفضل على الشكر بالإنظار وليعلم أن ذمة وفائه كذمة ديوان المال في الإعسار
هذا فصل في هذا المعنى قلما يؤتى بمثله وفيه معنى واحد من قول الشاعر
( تَكَاثَرَتِ الظِّبَاءُ عَلَى خِرَاشٍ ... فَمَا يَدْرِي خِرَاشٌ مَا يَصِيدُ )
ومن ذلك ما ذكرته في استصلاح مودة فقلت كنت عنده بالمنزلة التي آمن بها ما أجنيه فصرت أخاف ما لم أجنه وكان لا يقبل علي شهادة عينه فأصبح الآن يقبل على شهادة أذنه لكن لم يجعل الله القلوب بين أصبعين من أصابعه إلا ليذهب بها كل واد ومن ههنا كانت تنتقل من وداد إلى قلى ومن قلى إلى وداد ولا شك أن لها بين الحالتين عمرا تنتهي إليه كما تنتهي أعمار الأجساد والصبر خير ما استعمل في جفاء الإخوان والماء إذا جرى في مكان ثم انحرف عنه فلا بد أن يعود إلى ذلك المكان
وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي وهو قوله
( عَهِدْتُكَ لاَ تَعْتَدُّ بِالعَيْنِ شَاهِداً ... عَلَيَّ فَلِمْ أصْبَحْتَ تَعْتَدُّ بِالأُذْنِ )
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الملوك على يد بعض العفاة وهو الشيم الكريمة للإنسان بمنزلة المسك في سرر الغزلان غير أن طيب هذه يعبق بالأنوف وطيب هذه يعبق بالآذان وقد جعل تفاوت المزية بين هذين الطيبين فرقا فأحدهما يبقى دائما ولا يذهب والآخر يذهب ولا يبقى ونصيب مولانا من الطيب الباقي نصيب زكت معادنه وكثرت خزائنه وسارت في الأرض محاسنه ورفعه الله به إلى محل يبعد شأوه على الطالب ولا يرى إلا في لسان شاعر أو لسان خاطب وهو مما استثني من خلق الناس الذي هو من طين لازب

ومن أجل ذلك يرون أشباها ما عداه وما منهم إلا من يقر بفضله ولو كان من حساده أو عداه وقد أصبحوا وهم يقلون لديه حين يكثرون ويقول كل منهم لصاحبه ( أفسحر هذا أَم أَنتم لا تبصرون )
هذا الفصل وإن تضمن شيئا من القرآن الكريم فليس المراد ههنا القرآن الكريم بل منه شيء مأخوذ من الشعر وهو قول المتنبي
( النَّاسُ مَا لَمْ يَرَوْكَ أشبَاهُ ... وَالدَّهْرُ لَفْظٌ وَأَنْتَ مَعْنَاهُ )
ومن ذلك ما ذكر في وصف الخمر وهو الخمر لا تفي لذة إسكارها بتنغيص خمارها فهي خرقاء البيان بذية اللسان وتأنيثها يدلك أنها من ناقصات العقول والأديان وقد عرف منها سنة الجور في أحكامها ولولا ذلك لما استأثرت من الرءوس بجناية أقدامها
وهذا أحسن من قول الشاعر وأغرب وألطف لأنه قال
( ذَكَرَتْ حَقَائِدَها القَديمةَ إذ غَدَت ... وَهْناً تُدَاسُ بأَرْجُلِ العَصّارِ )
( لاَنَتْ لَهُمْ حَتّى انْتَشَوْا فَتَحَكَّمَتْ ... فِيهمْ فَنادَتْ فِيهِمُ بالثَّارِ )
وكذلك قلت في وصفها أيضا وهو مدامة تنفي خواطر الهموم وتسري مسرى الأرواح في الجسوم وتشهد بأن الكرم مستمد من ماء الكروم ويتمثل حببها نجوما إلا أنها مضلة والهداية للنجوم
وبعض هذا مأخوذ من قول أبي نواس
( إِذَا هِيَ حَلَّتْ في اللَّهَاةِ مِنَ الْفَتَى ... دَعا هَمُّهُ مِنْ صَدْرِهِ بِرَحيل )
وما زال الشعراء يتواردون على هذا المعنى حتى سمج لكن الذي ذكرته بعد هذا المعنى من محاسن المعاني في وصفها وكذلك ما ذكرته في وصفها وهو الخمر كالعذراء في نفورها وملازمة خدورها ولهذا تشمئز من نكاح المزاج

وتصخب لمس الماء صخب الأبكار لمس الأزواج ومن شأنها أن تلبس عند الزفاف إكليلا على رأسها وكذلك شأن العرائس عند زفافها إلى أعراسها
وهذه المماثلة بين الخمر وبين البكر على هذا النسق لم يأت بها أحد غيري وإنما وصفت بأنها بكر كقول أبي نواس
( فَقُلْتُ لِشَيْخٍ مِنْهُمُ مُتَكلِّمٍ ... لَهُ دِينُ قِسِّيسٍ وَفِي نُطْقِهِ كُفْرُ )
( أعِنْدَكَ بِكْرٌ مُرّةُ الطَّعْمِ قَرْقَفٌ ... صَنِيعَةُ دِهْقَانٍ تَرَاخى له الْعُمْرُ )
( فَقَالَ عَرُوسٌ كَانَ كِسْرَى رَبِيبَهَا ... مُعَتَّقَةٌ مِنْ دُونِهَا الْبَابُ وَالسِّتْرُ )
ووصف بالنكاح والزواج كقوله أيضا
( وَقَهْوَةٍ كَالْعَقِيقِ صَافِيَةٌ ... يطِيرُ مِنْ كأْسِهَا لَهَا شَرَرُ )
( زَوّجْتُها الماءَ كيْ تَذِلَ لَهُ ... فامْتَعضتْ حِينَ مَسَّهَا الذَّكَرُ )
ومن ذلك ما ذكرته في الحزم وهو لا ينبغي للحازم أن يساور المورد المؤذن بمضيقه وإن أفضى الصدر إلى رحيبه فإن توقي الداء خير من التعرض له مع وجود طبيبه ولندع قول من يقعد على تل السلامة ثم يلبس الكتائب بالكتائب ويقول ليس للعزم إلا تمام الصدور وليس عليه تمام العواقب
بعض هذا مأخوذ من شعر أبي تمام
( ورَكْبٍ كَأَطْرَافِ الأَسِنَّةِ عَرَّسُوا ... عَلَى مِثْلِهَا وَاللَّيْلُ تَسْطُو غَيَاهِبُهْ )
( لأَمْرٍ عَلَيْهِمْ أنْ تَتِمَّ صُدُورُهُ ... وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أنْ تَتِمَّ عَوَاقِبُهْ )
ومن ذلك ما ذكرته في وصفذ الرأي والكيد وهو أخفى على العدو كيده

حتى لم يدع كائدا وأعمى عليه سلوك الطريق حتى ظنه حائدا فسيوفه تسطو على بعدها ولا تقطع إلا وهي في غمدها
وبعض هذا المعنى أخذته من شعر أبي تمام وهو
( سَكَنَ الْكَيْدُ فِيهِمْ إنَّ مِنْ أعْظَمِ ... كَيْدٍ أنْ لاَ يُسَمَّى أَرِيبَاً )
وكذلك قولي في هذا المعنى وهو أخذ بسمع العدو وبصره وسد مطلع ورده وصدره فيداه مغلولة مع أنها مطلقة السراح ومقاتله بادية على أنها شاكية السلاح
وهذا المعنى ينظر إلى المعنى الذي قبله
وكذلك قولي أيضا وهو يبيت برأيه العدو قبل جيشه وتلقاه يطيش قلمه الذي كل الحلم في طيشه فإذا أطلت وجوه الآراء كان رأيه لها صباحا وإذا جهزت الجحافل لحرب كان قلمه لها سلاحا
وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر البحتري
( وَهُوَ المَرْءُ مَا غَزَا بَلَداً بِالرأْيِ ... إِلاَّ كَفَاهُ غَزْوَ الْجُنُودِ )
ومن ذلك ما ذكرته في وصف السير والركاب والخيل والقفار وما يتعلق بها

فمنه ما يتعلق بالسير وهو ركب ظهر الليل يباري مسير شهبه بمسير أشهبه ويستقرب بعد المدى في نيل مطلبه غير أن تلك تفري أديم الغياهب وهذا يفري أديم السباسب
وهذا مأخوذ من قول المتنبي
( يُبَارِي نُجُومَ الْقَذْفِ في كلِّ لَيْلَةٍ ... نُجُومٌ لَهُ مِنْهُنّ وَرْدٌ وَأدْهَمُ )
ومن هذا المعنى أيضا قولي وهو اتخذ الليل ظهرا واستلان خشونة المسرى فلم يزل يقذف صبغة سواده بصبغة جواده حتى بدت في أديم الليل شيات صباحه وشابه الأدهم في غرته وأوضاحه فعند ذلك أخذ أحدهما في رحيله وأخذ الآخر في نزوله
وهذا المعنى ينظر إلى الذي قبله وفيه من شرف الصنعة ما لا خفاء به
ومن ذلك ما ذكرته أيضا في فصل من كتاب وهو سرت وتحتي بنت قفرة لا يذهب السرى بجماحها ولا تستزيد الحادي من مراحها فهي طموح بأثناء الزمام وإذا سارت بين الآكاد قيل هذه واحدة من الآكام ولم تسم جسرة إلا لأنها تقطع عرض الفلاة كما يقطع الجسر عرض الماء ولا سميت حرفا إلا لأنها جاءت لمعنى في العزائم لا لمعنى في الأفعال والأسماء وخلفها جنيب من الخيل يقبل بجذع ويدبر بصخره وينظر من عين جحظة ويسمع بأذن حشره ويجري مع

الريح الزعزع فيذرها وقد ظهر فيها أثر القتره وما قيد خلفها إلا وهو يهتدي بها في المسالك المضلة ويطأ على أثرها فيرقم وجوه البدور بأشكال الأهلة هذا والليل قد ألقى جرانه فلم يبرح والكواكب قد ركدت فيه فلم تسبح وأنا أود لو زاد طوله ولم تظهر غرة أدهمه ولا حجوله فقد قيل إنه أدنى للبعد وأكتم للأسرار ودل عليه القول النبوي بأن الأرض تطوى فيه ما لا تطوى في النهار وما زلت أسير بريدها تنوء به حتى كاد ينضو لون السواد وظهر لون السرحان فأغار على سرح السماء كما يغير السرحان على سرح النقاد فعند ذلك نهلت العين من الكرى نهلة الطائر ولم يكن ذلك على ظهر الأرض المطمئنة وإنما كان على الظهر السائر
في هذا الفصل كل مليحة من المعاني ولو لم يكن في هذا الكتاب سواه لكان كافيا وبعضه مأخوذ من الشعر كقول أبي تمام
( طَمُوحٌ بأَثْنَاءِ الزِّمَامِ كأَنَّما ... يُخالُ بها مِن عَدْوِها طَيْفُ جِنَّةِ )
وكقوله
( بِالشَّذْقَمِيَّاتِ الْعِتَاقِ كأَنَّما ... أشْباحُها بَيْنَ الأَكَامِ أَكام )
ومن ذلك ما ذكرته في النسب في فضل من كتاب وهو لهم نسب لا تدخله لام التعريف وهو موضوع لا يجري على سنن التوقيف فإذا ذكر أوله وقفت من عرفانه على طلل ووجدته مهملا في جملة الهمل وإن قيل إنه من نجوم السماء قلت لكنه لا يخرج عن الثور أو الحمل فما أرهف لوصفه لسان إلا نبا ولا اقتدح له زناد خاطر إلا كبا وهم منه كآوى الذي يرى الناس له ابنا ولا يرون لابنه أبا

وهذا من أغرب ما يؤتى به في ذم النسب وهو من باب توليد المعاني الذي يسمى الكيمياء وبعضه مستولد من قول أبي نواس في هجاء الخصيب
( وَمَا خُبْزُهُ إِلاَّ كآوَى يُرَى ابْنُهُ ... وَلَمْ يُرَ آوَى في حُزُونٍ وَلاَ سَهْلِ )
فأبو نواس ذم خبز الخصيب في عدم رؤيته وأنا نقلت ذلك إلى النسب فجاء ألطف وأحسن وأليق وأدخل في باب الصنعة وإذا حقق النظر فيما ذكره أبو نواس في هذا المعنى لم يوجد مناسبا فإن الخبز في عدم رؤيته لا يحمل على ابن آوى وإنما المناسبة تقع في النسب من أجل ذكر الابن والأب
ومن ذلك ما ذكرته في ذم قوم وهو فصل من كتاب فقلت تركت قوما لم ينقعوا صدى ولم يجروا إلى مدى فأعراضهم نكرة العارف وأموالهم حنظلة الناقف لا تمطر سحبهم على كثرة مائها ولا تزكو الذريعة بأرضهم على نمائها
وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر الشريف الرضي
( تَرَكْتُ أنَاساً لَمْ يَهَشُّوا لِمِنَّةٍ ... وَلَمْ يَنْقَعُوا غُلَّ الظِّماءِ الْخَوَامِسِ )
( عَلَى الْقُرْبِ فيهم إِنَّني غَيْرُ طَامِعٍ ... وَمِنْكَ عَلَى بُعْدِ المَدَى غَيْرُ آيِسِ )

ومن هذا الباب أيضا قولي وهو تركت قوما يسلون الحبيب ويملون القريب ولا يرعون من يرعاهم ولا يدر اللبن على مرعاهم فنوالهم تحايا وأعراضهم ضحايا ومن أحسن صفاتهم أنهم يعاقبون على الظنة ولا يرتاحون لمنة فالذرائع لديهم مدفونة والصنائع غير مسنونة
وبعض هذه المعاني مأخوذ من شعر أبي الطيب المتنبي
( رَأَيْتُكُمْ لاَ يَصُونُ العِرْضَ جَارُكُمُ ... وَلاَ يَدِرُّ عَلَى مَرْعَاكُمُ اللَّبَنُ )
( جَزَاءُ كُلِّ قَرِيبٍ مِنْكُمُ مَلَلٌ ... وَحَظُّ كُلِّ مُحِبٍّ مِنْكُمُ ضَغَنُ )
ومن ذلك ما ذكرته على الحث على الاغتراب وهو لولا التغرب لما ارتقت بنات الأصداف إلى شرف الأعناق ولا ارتقى تراب الأحجار إلى نور الأحداق
وكذلك قولي في هذا المعنى وهو في الانتقال تنويه لخامل الأقدار ولولا ذلك لم يكس الهلال حلة الأبدار والمندل الرطب حطب في أوطانه والمسك دم في سرر غزلانه ولولا فراق السهم وتره لم يحظ بفضل الإصابة ولولا فراق الوشيج منبته لم يتحل بعز السنان ولا شرف الذؤابة
وهذا الفصل فصل من القول في معناه ومما لم ينبش للخواطر ابتناء مبناه فمنه ما هو مأخوذ من الشعر ومنه ما منح به الخاطر على غير مثال وهو يشهد لنفسه
ومن ذلك ما ذكرته في وصف الأيام وهو أيام تعد بأعوام لقصر أعمارها وشهور لا يشعر بأنصافها ولا سرارها فالأوقات بها أصائل والمحاسن فيها

شمائل والمآرب في ساعاتها رياض في خمائل فما أدري أهي خيالات أحلام غرت أم أحاديث أمان مرت
وبعض هذا المعنى مأخوذ من أبيات الحماسة
( شُهُورٌ يَنْقَضِين وَما شَعَرْنَا ... بأنْصَافٍ لَهُنّ وَلاَ سِرَارِ )
ومن ذلك ما ذكرته في وصف الإخوان وهو ليس الصديق من عد سقطات قرينه وجازاه بغثه وسمينه بل الصديق من ماشى أخاه على عرجه واستقام له على عوجه فذلك الذي إن رأى سيئة وطئها بالقدم وإن رأى حسنة رفعها على علم
وبعض هذا المعنى مأخوذ من أبيات الحماسة

( إنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بَهَا فَرَحاً ... عَنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالحٍ دَفَنُوا )
إلا أن الذي ذكرته ضد هذا المعنى وقد يستخرج المعنى من ضده
وهو أحسن مما يستخرج من نفسه
ومن هذا قولي أيضا وهو ليس الصديق من صرى أخلاف وده وغش في صفقة عهده بل الصديق من لا ترد سلعة وده بإقالة ولا عيب ولا تخص محافظة إخائه بشهادة دون غيب فذلك أخي من غير نسب وكنزي من غير نشب
وهذا مأخوذ من الفقه في تصرية ضرع الشاة عند البيع وذلك يوجب الرد
ومما ينتظم بهذا السلك قولي وهو الانتقال عن خلة الوداد كالانتقال عن نسب الميلاد وكما يحرم هذا في نص الحكم المشروع فكذا يحرم هذا في خلق الكرم المطبوع على أن نسب الخلة الذي ينميه القلب إلى القلب أوصل من نسب الرحم الذي ينميه الابن إلى الأب ولهذا كانت مودة سلمان قربى ونسب أبي لهب سبا وتبا
وبعض هذا مأخوذ من شعر أبي نواس وهو
( كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَان لهُ نَسَباً ... وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابنِهِ رَحمُ )
ومن ذلك ما ذكرته في وصف الديار وهو دار كانت مقاصر جنة فأصبحت وهي ملاعب جنة ولقد عميت أخبار قطانها وأنشاز أوطانها حتى شابهت إحداهما في الخفاء الأخرى في العفاء وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام ولا يرفع عنها جلباب ظلام غير أن السحاب بكاهم فجرت بها سوافح دموعه والليل شق عليهم ثوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه

وهذه معان لطيفة جدا وبعضها مأخوذ من شعر الشريف الرضي رحمه الله تعالى
( أَمَرَابِعَ الْغِزْلاَنِ غَيَّرَكِ الْبِلَى ... حَتَّى غَدَوْتِ مَرَاتِعع الْغِزْلاَنِ )
ومما يلتئم بهذا المعنى قولي أيضا وهو دار أصبحت مراتع أذواد بعد أن كانت مناجع رواد فلو تصورت الآمال التي مثلت بفنائها كما تصورت الآثار المماثلة من بنائها لرأيت رسومها مع رسوم القباب
وعلمت كم غار بها من بحر ونضب من سحاب
وهذا معنى حسن له من نفسه مثن وحامد ومن سامعه يمين وشاهد وهو من معاني المستخرجة
ومن ذلك قولي أيضا وهو النقص موكل بكمال النعماء ولذلك كان الوخم مقترنا بالمرعى والماء وقلما ترى ثمرة إلا ومعها زنبور ولا لذة إلا وإلى جانبها شيء محذور
وكذلك قولي أيضا وهو لا يظفر الرجل بمطالبه شفعا ولا تؤتيه من كل جهة نفعا بل يرى مرعى بلا ماء وماء بلا مرعى ولذلك كانت النحلة مع الشهدة والشوكة مع الوردة

وبعض هذه المعاني مأخوذ من قول أبي تمام
( أَرْضٌ بِهَا عُشُبٌ زَاكٍ وَلَيْسَ بِهَا ... مَاءٌ وَأُخْرَى بَهَا مَاءٌ وَلاَ عُشُبُ )
إلا أن في الكلام المنثور زيادة على ما تضمنه الشعر وكأنه ينظر إليه نظرا بعيدا
ومن سبيل المتصدي لهذا الفن أن يأخذ المعنى من الشعر فيجعله مثل الإكسير في صناعة الكيمياء ثم يخرج منه ألوانا مختلفة من جوهر وذهب وفضة كما فعلت في هذا الموضع فإني أخذت معنى هذا البيت من الشعر فاستخرجت منه ما ليس منه وهذا أعلى الدرجات في نثر المعاني الشعرية
وقد بسطت القول في هذا الموضع وكشفت عن دفائنه في الكتاب الذي وسمته ب الوشي المرقوم في حل المنظوم وهو كتاب مفرد في هذا الفن خاصة
ومن هذا الضرب الذي هو الكيمياء في توليد المعاني ما ذكرته في وصف الربيع فقلت فصل الربيع هو أحد ميزاني عامه والمستقيد لسامه من حامه وقد وصف بأنه ميعاد نطق الأطيار وميلاد أجنة الأزهار والذي تستوفي به حولها سلافة العقار فإذا سلت السحب فيه سيوفها كان ذلك للرضا لا للغضب وإذا خلعت على الأرض غلالتها الدكناء لبست منها ديباجة منسوجة بالذهب
وهذا المعنى مستولد من قول أبي تمام في وصف السحاب

( سَلَبَتْه الْجَنُوبُ وَالدِّينُ وَالدُّنْيَا ... وَصَافِي الْحَيَاةِ فِي سَلَبِهْ )
إلا أن في الذي ذكرته معنيين غريبين إذا أمعن الناظر نظره فهمهما
ومن ذلك ما ذكرته في لين القول وإعادته وما يجري مجراه كقولي في فصل من كتاب وهو لم أعد عليه القول لأنه لا يبلغ مدى ميدانه إلا بتحريك سوطه وعنانه بل أخذا بأدب الله في أذكار القرآن واتباعا لسنة نبيه في تثويب الأذان
وبعض هذا مأخوذ من شعر أبي تمام
( لَوْ رَأَيْنَا التَّأْكِيدَ خُطَّةَ عَجْزٍ ... مَا شَفَعْنَا الأَذَانِ بِالتَّثْويبِ )
وكذلك قولي أيضا وهو وقد علم أن لين القول أنجع قبولا وهو من أدب كليم الله إذ بعثه إلى فرعون رسولا ألا ترى أن الحداء يبلغ من المطايا بلطفه ما لا يبلغه السوط على عنفه
وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي تمام

( وَخُذْهُمْ بِالرُّقَى إنَّ الْمَهَارَى ... يُهَيِّجُهَا عَلَى السَّيْرِ الْحُدَاءُ )
ومن ذلك ما ذكرته في ذم الدنيا وهو أنكاد الدنيا مشوبة بالأشياء التي جبلت النفوس على حبها وكل ما تستلذه الأبدان من مأكلها فإنه يضرها من جهة طبها ولهذا يذمم من منفعة الهليلج ومضرة اللوزينج
وأعجب من ذلك أنه لا ينتفع الإنسان بشيء من لذاتها إلا ضره من جهة ثوابه وهو كالذي ينتفع باصطلاء النار وهي محرقة لأثوابه وقد ضرب لذلك مثل من الأمثال وقيل إن كل ما ينفع الكبد مضر بالطحال
وهذا مأخوذ من الأمثال العربية والمولدة
ومن ذلك ما ذكرته في الزهد وهو الناس في الدنيا أبناء الساعة الراهنة وكما أن النفوس ليست فيها بقاطنة فكذلك الأحوال ليست بقاطنة ولهذا كانت المآتم بها كالأعراس يتفرق ندي جمعها فهذه تنسي ما مضى من لذة سرورها وهذه تنسي ما مضى من ألم فجعها ولا شبيه لها على ذلك إلا الأحلام التي يتلاشى خيالها عاجلا وتجعل اليقظة حقها باطلا وما ينبغي حينئذ أن يفرح بها مقبلة ولا يؤسى عليها مدبرة وكل ما تراه العين منها ثم يذهب فكأنها لم تره وغاية مطلوب الإنسان منها أن يمد له في مدة عمره ويملى له في امتداد كثره أما تعميره فيعترضه المشيب الذي هو عدم في وجود وهو أخو الموت في كل شيء إلا في سكنى اللحود فالجوارح التي يدرك بها الشهوات ترى وكل منها قد تحول وأصبح كالطلل الدارس الذي ليس عنده من معول فلا ليلى بليلى ولا النوار بالنوار ولا الأسماع أسماع ولا الأبصار أبصار وأما ماله فإن أمسكه فهو عرضة لوارث يأكله أو

لحادث يستأصله وإن أنفقه كان عليه في الحلال حسابا وفي الحرام عقابا فهذه زهرة الدنيا الناضرة وهذه عقباها الخاسرة
وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر صالح بن عبد القدوس
( وَإِذَا الجنازَةُ وَالْعَرُوسُ تَلاَقَيَا ... أَلْفَيْتَ جَمْعاً كُلّهُ يَتَفَرَّق )
ومن قول أبي العتاهية
( أَنَّمَا أَنْتَ طُولَ عُمْركَ مَا عُمِّرْتَ ... في السِّاعَةِ الَّتي أَنْتَ فيهَا )
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن تعزية وهو كيف يظلم ذلك اللحد وبه من أعمال ساكنة أنوار أم كيف يجدب وبه من فيض يمينه سحاب مدرار أم كيف توحش أقطاره والملائكة داخلة عليه من تلك الأقطار أم كيف يخفيه طول العهد على زواره وطيب ترابه هاد للزوار وما أعلم ما أقوله في هذا الخطب الجليل الذي دق فيه الحزن الجليل وسمحت له النفوس بالفدية على حب الحياة وذلك من الفداء القليل وقد قيل إنه لم يخلق الدمع إلا إنذارا بأن نوائب الزمان ستنوب وقد جعله الله ذخرا للقائها وإنما يذخر السلاح للقاء الحروب والذي ذخرته منه لم يغن عني في هذه النائبة وأي جنة تقوم في وجه سهامها الصائبة لا جرم أني أصبحت بين يديها هدفا للرماء ولم يبق مني إلا ذماء الحشاشة ومن العجب بقاء الذماء
وشيء من هذا الفصل مأخوذ من شعر ابن الرومي
( لَمْ يُخْلَقِ الدَّمْعُ لاِمْرِئٍ عَبَثاً ... اللَّهُ أدْرَى بَلَوْعَةِ الحَزَنِ )
وكذلك ذكرت فصلا في كتاب آخر يتضمن تعزية وهو فيا ويح أيد أسلمته إلى الثرى وما كان يسلمها إلى الإعدام وألبسته ظلمة اللحد وطالما جلا عنها غيابة الظلم والإظلام وغادرته بوحدته مستوحشا وقد كان يؤنسها بنوافل الإنعام ومثله لا يوارى القبر منه إلا صورة يدركها النفاد وتبلى كما يبلى غيرها من الأجساد ولكنه لا يستطيع مواراة الذكر الخالد الذي يذهب بشماتة الحساد ويتمثل في السماء بصورة الكواكب وفي الأرض بصورة الأطواد

وبعض هذا مأخوذ من قول بعض شعراء الحماسة
( فَإِنْ تَدْفِنُوا الْبَكْرِيَّ لاَ تَدْفِنُوا اسْمَهُ ... وَلاَ تَدْفِنُوا مَعْرُوفَهُ فِي الْقَبَائِلِ )
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كلام بالفصاحة وهو فصل من كتاب فقلت وله البيان الذي يغض من نسق الفريد ولا يخلق نضرة لباسه الجديد وهو فوق كلام المجيد ودون القرآن المجيد وإذا اختصروا صفته قيل إنه يستميل سمع الطروب ويستحق وقار القلوب ويتمثل آيات بيضاء من غير ضم إلى الجيوب ويرى في الأرض غير لاغب إذا مس غيره فترة اللغوب ولا تزال الناس في عشق معانيه ضربا واحدا والعاشقون ضروب ولما وقفت عليه قلت سبحان من أعطى سيدنا فلم يبخل وخصه بنبوة البيان إلا أنه لم يرسل ولولا أن الوحي قد سد بابه لقيل هذا كتاب منزل ولقد خار الله لأولي الفصاحة إذ لم يحيوا إلى عصره ولم يبتلوا فيه بداء الحسد الذي يصليهم بتوقد جمره ولئن سلموا من ذلك فما سلمت أقوالهم من أقواله التي محتها محو المداد وقد كانت باقية بعدهم فلما أتى صارت كما صاروا إلى الألحاد
وفي هذا الفصل شيء من المعاني الشعرية كقول البحتري

( مُسْتَمِيلٌ سَمْعَ الطَّرُوبِ المُعَنَّى ... عَنْ أغانِيِّ مَعْبَد وَعَقيدِ )
وقول الشريف الرضي رحمه الله
( عَشِقْتُ وَمَالِي يَعْلَمُ اللَّهُ حَاجَةٌ ... سِوَى نَظَرِي وَالْعَاشِقُونَ ضُرُوبُ )
وفيه أيضا شيء من معاني القرآن الكريم إلا أنها جاءت ضمنا وتبعا وموضعها يأتي بعد الأبيات الشعرية
وكذلك ذكرت فصلا آخر من هذا الأسلوب وهو إن للكلمة طعما يعرف مذاقه من بين الكلام وخفة الأرواح معلومة من بين ثقل الأجسام فلو لم نعرفه بطعمه عرفناه بوسمه والصباح لا يتمارى في إسفاره ولا يفتقر إلى دليل على إشراق أنواره وقد علم أن العرف يعرف بغصنه وأن القول يعرف بلحنه ونفائس هذه العقود لا يبرزها إلا أنفاسه فدررها لفظه وسلوكها قرطاسه
ومن هذا الباب قولي أيضا وهو ألفاظ كخفق البنود أو زأر الأسود ومعان تدل بإرهافها أنها هي السيوف وأن قلوبا نمتها هي العمود فيخالها المتأمل حومة طعان أو حلبة رهان
وبعض هذا مأخوذ من شعر البحتري
( يَقْظَانَ يَنْتَخِبُ الكَلاَمَ كَأَنَّهُ ... جَيْشٌ لَدَيْهِ يُريدُ أنْ يَلْقى بِهِ )

ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان من أهل الكتابة كان اعتدى عليه شخص يدعي الكتابة وليس من أهلها فقلت وقد نيط بسيدنا قلما الخط اللذان ينسب أحدهما إلى المداد وينسب الآخر إلى الصعاد فهو يدير هذا في معركة المقال وهذا في معركة الطراد ولربما صهل أحد قلميه من فوق صفحات الدروج كما تصهل الجياد من تحت أعواد السروج فله احتفال المواطن والمجالس وإليه غناء أصحاب العمائم والقلانس لا كمن لا يجاوز همه طرفي ردائه وإذا نودي لفضيلة قيل إنما يسمع الحي بندائه وكم في الناس من صور لا تجد لمعناها أثرا وإذا رأيتها قلت أرى خالا ولا أرى مطرا وأي جمال عند من ليس له إلا جمال ثيابه وهل ينفع السيف الكهام أن تجعل من الذهب حلية قرابه وكل من هؤلاء ذنب يسعى بغير رأس ولا له هم إلا في عيشة الطاعم الكاس وإذا اعتبر حاله وجد من البهائم وإن كان منسوبا إلى الناس والسيادة ليست في وشي الثياب ولا في طيب الطعام والشراب وإنما هي في شيئين إما شهامة قلم تفرق لها قلوب الغمود أو شهامة رمح تفرق لها قلوب الأسود وكأني بقوم يسمعون هذا وكلهم يمتعض امتعاض المغضب وتتابع نفسه تتابع المتعب ويعترض الشجى في حلقه حتى يغص من غير أن يشرب ولم يزل بالحساد من سيدنا داء يورثهم أرقا ويوسعهم شرقا وكثيرا ما تعرق له جباههم وكذا الميت يندى جبينه عرقا وما أرى لهؤلاء دواء إلا أن يطرحوا عن مناكبهم ثقل المساجلة والحسد إنما يكون ممن يجري مع صاحبه في مضمار المماثلة وكنت أحب أن يقام على الكتابة

محتسب حتى يتفلس منها خلق كثير وتستريح جياد كثيرة من ركوب حمير وفي مثل هذا السوق يظهر أهل الخلابة والنجش وما منهم إلا من هو في الحضيض الأسفل وقد أجلس نفسه قائمة العرش ونار الآلة العمرية تميز خالص النقود من زيفها ولا حيف في هذا المقام على من أسرفت دعواه الكاذبة في حتفها
وبعض هذا الفصل مأخوذ من شعر عبد السلام بن رغبان عرف بديك الجن
( يُزْهَى بِهِ الْقَلَمَانِ إِلاَّ أَنَّ ذَا ... لَدْنُ الْمَجَسِّ وَأَنَّ ذَا بِكُعُوبِ )
( عُودَانِ يَقْضُبُ ذَا الطُّلَى بِلُعَابِهِ ... وَيَجُوبُ ذَا الْمَهَجَاتِ بِالتَّرْكِيبِ )
ويكفيك أيها المتوشح لنثر الشعر أن تنظر إلى هذا الفصل وتتأمل الموضع الذي أخذت معنى هذين البيتين ووضعته فيه فإن فيه غناء ومقنعا
وأما حل آيات القرآن العزيز فليس كنثر المعاني الشعرية لأن ألفاظه ينبغي أن يحافظ عليها لمكان فصاحتها إلا أنه لا ينبغي أن يؤخذ لفظ الآية بجملته فإن ذلك من باب التضمين وإنما يؤخذ بعضه فإما أن يجعل أولا لكلام أو آخرا على حسب ما يقتضيه موضعه وكذلك تفعل بالأخبار النبوية
على أنه قد يؤخذ معنى الآية والخبر فيكسى لفظا غير لفظه وليس لذلك من الحسن ما للقسم الأول للفائدة التي أشرنا إليها
وقد سلكت في ذلك طريقا اخترعتها وكنت أبا ابن عذرتها وعند تأمل ما أوردته منها في هذا الكتاب يظهر للمتأمل صحة دعاوي ولئن كان من تقدمني أتى بشيء من ذلك فإني ركبت فيه جوادا وركب جملا ونال من مورده نهلة واحدة ونلت منه نهلا وعللا ومن آتاه الله في القرآن بصيرة فإنه يسبك ألفاظه ومعانيه في كلامه ويستغني به عن غيره إلا أنه ينبغي أن يكون فيه صواغا يخرج منه ضروب

المصوغات أو صرافا يتجهبذ في نقوده المختلفة من الذهب المختلف الألوان ولا أقول من الفضة فإنه ليس فيه من الفضة شيء وهو أعلى من ذلك أو يكون فيه تاجرا يديره على يده ويتصرف في أرباحه ويخرج من الأمتعة المجلوبة من مناسجه كل غريبة عجيبة وكل هذا يفهمه من عرف فلزم وحكم بما علم
( وَمَا كُلُّ مَنْ قَالَ الْقَرِيضَ بِشَاعِرٍ ... وَلاَ كُلُّ مَنْ عَانَى الْهَوَى بِمُتَيَّمِ )
واعلم أن المتصدي لحل معاني القرآن يحتاج إلى كثرة الدرس فإنه كلما ديم على درسه ظهر من معانيه ما لم يظهر من قبل وهذا شيء جربته وخبرته فإني كنت آخذ سورة من السور وأتلوها وكلما مر بي معنى أثبته في ورقة مفردة حتى أنتهي إلى آخرها ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبتها واحدا بعد واحد ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة وأفعل مثل ما فعلته أولا وكلما صقلتها التلاوة مرة بعد مرة ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر لي في المرة التي قبلها
وسأورد في هذا الموضع سورة من السور ثم أردفها بآيات أخرى من سور متفرقة حتى يتبين لك أيها المتعلم ما فعلته فتحذو حذوه وقد بدأت بالسورة أولا وهي سورة يوسف عليه السلام لأنها قصة مفردة برأسها وفيها معان كثيرة
فالأول ما ذكرته في دعاء كتاب من الكتب وهو وصل كتاب الحضرة السامية أحسن الله أثرها وأعلى خطرها وقضى من العلياء وطرها وأظهر على يدها آيات المكارم وسورها وأسجد لها كواكب السيادة وشمسها وقمرها
وهذا أول معنى في السورة وقد نقلته عن قصة المنام إلى الدعاء
ثم أبرزت هذا المعنى في صورة أخرى وهو أكرم النعم ما كان فيها ذكرى للعابدين وتقدمه ( إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) فهذه النعمة هي التي تأتي بتيسير العسير وتجلو ظلمة الخطب بالصباح المنير فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير

ثم تصرفت في هذا المعنى فأخرجته في معرض آخر وهو فصل من جملة تقليد يكتب من ديوان الخلافة لبعض الوزراء فقلت وقد علمه أمير المؤمنين فأدنى مجلسه من سمائه وآنسه على وحدة الانفراد بحفل نعمائه وذلك مقام لا تستطيع الجدود أن ترقى إلى رتبته ولا الآمال أن تطوف حول كعبته ولا الشفاه أن تتشرف بتقبيل تربته فليزد إعجابا بما نالته مواطئ أقدامه ولينظر إلى سجود الكواكب له في يقظته لا في منامه
ومن ذلك ما ذكرته في ذم بخيل وهو لم أر كمواهب فلان ملأت أملي بطمع وعودها وفرغت يدي من نيل جودها فلم أحظ إلا بلامع سرابها وكانت كدم القميص في كذابها
ومن ذلك ما ذكرته في تزكية إنسان مما رمي به وهو لم ترم بذنب إلا نابت البراءة له مناب الشهود وجيء من أهلها بشهادة القميص المقدود
ومن ذلك ما ذكرته في عذر الهوى وهو لم يهو حبيبا إلا كان لأهل التقى فيه أسوة ولا ليم من أجله إلا اعتذر عذر امرأة العزيز إلى النسوة
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من جواب كتاب إلى بعض الإخوان وهو إن كان الكلام كما قيل ذكرا والجواب أنثى فجوابي هذا عروس تجلى في حللها المحبرة وعقودها المشذرة وتزهي بما آتاها الله من الحسن الذي ليس بالمجلوب ولا ترضى بتقطيع الأيدي دون تقطيع القلوب وها قد أرسلتها إلى سيدنا حتى يعلم أن نتائج خاطري على الفطرة وأنها معشوقة الصور فكل الناس في هواها بنو عذرة
وفي هذا الفصل معنى الآية والخبر النبوي والبيت من الشعر
ومن ذلك ما ذكرت في تقلب الأيام وهو لقينا أياما ضاحكات وليتها أيام عابسات فكانت كسبع سنبلات خضر وأخر يابسات
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم وهو ليس ممن يرقب عجف الزمان

فيذر الحب في سنبله ولكنه يستأنف الصبر في آخره ويستهلك المال في أوله فلا يبقي من يومه لغده ولا يتهم ربه فيما بيده
ومن ذلك ما ذكرته في حب الرشوة وهو الرشوة تحل عقد القلوب وتهون فراق المحبوب ألا ترى أن رد البضاعة حكم على أخي يوسف بالإضاعة
ومن ذلك ما ذكرته في الاستسلام لحكم الأقدار وهو لا تحترس من جنود الأقدار بالآراء المتعمقة وسواء عندها الباب الواحد والأبواب المتفرقة
ومن ذلك ما ذكرته في تتابع الإساءة وهو لم يزل يرشقني بقوارصه حتى تكاثر النبل واستحكم التبل ولم يكفه الإلقاء في غيابة الجب حتى قال إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل
ومن ذلك ما ذكرته في التوكل وهو إذا طلب أمرا أجمل في المطلوب ووكله إلى الذي بيده مفاتيح الغيوب وتأسى في حاجته منه بالحاجة التي كانت في نفس يعقوب
ومن ذلك ما ذكرته في وصف الكيد وهو لم يأت أمرا إلا أخفى أسباب أواخيه وبدأ فيه بالأوعية قبل وعاء أخيه
وهذه ثلاثة عشر معنى من سورة يوسف عليه السلام
وأما الآيات التي هي من سور متفرقة فأولها ما كتبته في صدر كتاب إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه وهو ورد كتابه عشية يوم كذا فعرض علي عرض الجياد على سليمان وتساوينا في الاشتغال منه ومنها بالاستحسان غير أن الجياد وإن حسنت فإنها لا تبلغ في الحسن مبلغ الكتاب لكن قلت كما قال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ولئن قضي الاشتغال هناك بمسح سوق وأعناق فإنه لم يقض ههنا بمسح سطور ولا أوراق وإنما اشتغلت عن عبادة بعبادة ولو شئت لقلت عن إفادة بإفادة
وهذا مأخوذ من قصة سليمان عليه السلام في سورة ص وهي قوله تعالى ( ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد

فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ) فانظر كيف أخذت هذه القصة وقابلت بينها وبين الكتاب ثم إني تصرفت فيها بالموافقة بينهما تارة والمخالفة بينهما أخرى وهكذا ينبغي أن يفعل فيما هذا سبيله
ومن ذلك ما كتبته عن الملك الأفضل علي بن يوسف إلى الديوان العزيز النبوي ببغداد في فصل من كتاب وهو وقد علم أن المال الذي يختزن كالماء الذي يحتقن فكما أن هذا يأجن بتعطيل الأيدي عن امتياح مشاربه فكذلك يأجن هذا بتعطيل الأيدي عن امتياح مواهبه وأي فرق بين وجوده وعدمه لولا أن تملك به القلوب وتقل به الخطوب ويركب به ظهر العزم الذي ليس بركوب ومن بسط الله يده فيه ثم قبضها بحله فإنه يقف دون الرجال مغمورا ويقعد عن نيل المعالي ملوما محسورا وإذا أدركته منية مضى وكأنه لم يكن شيئا مذكورا ومذ ناط الله بيد الخادم ما ناطه من أمر بلاده لم يدخر منها إلا مربط أشقره ومركز أسمره وما عداهما فإنه مصروف إلى قوة الإسلام في سد ثغوره وتكثير جنوده وإيقاد حرب عدوه بعد خمودها واستباحة جمرها عند وقوده وما يفضل عن ذلك فإنه للناس يشتركون في وشله وغمره والمسلم أخو المسلم يساويه في حقه من بيت المال وإن خالفه في مزية قدره ولا سبيل على الخادم وهو يفعل ما يفعله أن يدلس من هذا المال بتبعة المطلوب أو يلتحق بالقوم الذين يكنزونه فيجزي عليه بكي الجباه والظهور والجنوب ولم يأت به الله على فترة من مثله إلا ليمحو به سيئات الدين ويعيد به الإسلام إلى وطنه بعد أن طال عهده بمفارقة الوطن ولا يكون حسنة من حسنات أمير المؤمنين ترقمها الدنيا في ديوانه وتثقل بها في الآخرة كفة ميزانه
وفي هذا الفصل معنى آيتين إحداهما في سورة هل أتى والأخرى في سورة براءة
ومن ذلك ما كتبته عنه إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب من كتاب يتضمن استعطافه والتنصل إليه وهو من شيمة الأقدار أن تذهب ببصائر ذوي الألباب ويمثل لهم الخطأ في مثال الصواب ولولا ذلك لما زل الحكيم وأعوج

المستقيم والمملوك يقبل اليد الكريمة المولوية الملكية العادلية لا زال عرفها مأمولا وإحسانها عند الله مقبولا وفعلها في المكرمات مبتدعا إذا كان فعل الأيادي مفعولا ونستغيث إلى عفوها الذي يكفي فيه لفظة الاعتذار ولا ينفذ بمواظبة الآصار ولو عرف ذنبه باديا لقرع له سن الندامة وعاد على نفسه بالملامة
ولما كان عجيبا أن يكون مليما وأن يكون مولانا كريما لكنه حمل آصرة الذنب وهو بريء من حملها وخاف أن تكون هذه كأخواتها التي سلفت من قبلها والأمور المتشابهة يقاس البعض منها على البعض والملسوع لا يستطيع أن يرى مجر حبل على الأرض ولم يجترم الملوك الآن جريمة سوى أن فر إلى الاعتصام وألقى بيده إلى أقوام لم يكونوا له بأقوام وإذا ضاق على المرء أقربه كان الأبعد له من ذوي الأرحام
وليس بأول من ذهب هذا المذهب ولا بأول من حمل نفسه على ركوب هذا المركب ولئن قال بعض الناس إنه عجل في اعتصامه وفراره وإنه لو صبر ابتلي بما ابتلي به من قوارص مولانا مرة بعد أخرى ولقد تكاثرت عليه هذه الأقوال المؤنبة حتى ملأت طرفه كحل السهاد وجنبه شوك القتاد وأصبح وهو يرى أنه زلق في خطيئته زلقا وغص بندمه من أجلها شرقا وبدت له سوأته حتى طفق يخصف عليها ورقا ومع هذا فإنه واثق أن حلم مولانا لا يؤتى من الزلل وأن حصاة الذنوب لا تخف بوزن ذلك الجبل وها هو قد جاء نازعا وللنازع العتبى وعاد مستشفعا ولا شفيع أكرم من القربى
ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب
وفي الذي أوردته من هذا الفصل معنى آية من القرآن في سورة الأعراف وهي قوله تعالى ( فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة )
ومن ذلك ما كتبته عن الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان بن مسعود صاحب الموصل إلى الديوان العزيز ببغداد بعد وفاة والده يسأل في التقليد وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة فمما جاء في صدر الكتاب بعد الدعاء قولي وهو إذا توفي ولي من أولياء الدولة فمن السنة أن يعزى بفقده ويستخرج إذنها في سليله

القائم من بعده حتى لا تخلو أرضها من رواسي الجبال ولا سماؤها من مطالع الكواكب التي تجلو ظلمة الليال وقد مضى والد العبد إلى رحمة الله وهو متزود من الطاعة خير زاد غير خائف من إحصاء الرقيب العتيد إذ جعلها له من العتاد وما عليه وقد ثقلت كفة ميزانه ما كان في الكفة الأخرى من السجلات الكثيرة الأعداد ومضمون وصيته التي عهدتها أن نمشي في الطاعة على أثره ونهتدي بالأوامر الشريفة في مورد الأمر ومصدره وقد جعلها العبد نجي فكره إذا قام وإذا قعد وسبحة صلاته إذا ركع وإذا سجد وهو يرى أنه لم يمض والده حتى أبقى للدولة من يثبت قدمه موضع قدمه وعند ذلك يقال إن غصن الشجرة كالشجرة في ثبات أصله وقوة معجمه وهذا مقام لا تمتاز فيه الآباء عن الأبناء وليست المزية لاكتهال السن إنما هي لشبيبة الغناء وقد أوتي يحيى الحكم قبل أن يجري القلم في كتابه وشهد له بالتزكية قبل أن ينتصف في محرابه وكذلك قد أمر رسول الله أسامة على فتاء عمره وشهد أنه خليق بما أسند إليه من أمره والعبد وإن بسط الاستحقاق لسانه فإن الأدب يحكم بانقباضه ويريد أن التفويض إلى إنعام الديوان العزيز أسرع في نجح أغراضه ولا شك أن منتهى الآمال لا يبلغ أدنى تلك المواهب ولو جمعت في صعيد واحد ثم سألت مطالبها لما نقصت خزائن العطايا من تلك المطالب
وهذا الفصل من أول الكتاب وفيه معنى آيتين من سورة مريم عليها السلام أما الأول فقوله تعالى عند ذكر يحيى عليه السلام ( وآتيانه الحكم صبيا ) وأما الثانية فقوله تعالى ( وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ) وفي هذا الفصل أيضا معاني ثلاثة من الأخبار النبوية وليس هذا موضعها وإنما جاءت ضمنا وتبعا
ومن ذلك ما ذكرته في وصف الغبار في الحرب وهو وعقد العجاج شفقا فانعقد وأرانا كيف رفع السماء بغير عمد غير أنها سماء بنيت بسنابك الجياد وزينت بنجوم الصعاد ففيها مما يوعد من المنايا لا ما يوعد من الأرزاق ومنها تقذف شياطين الحرب لا شياطين الاستراق
وهذه المعاني مأخوذة من سورة الرعد وسورة الصافات وسورة الذاريات

ومن ذلك ما ذكرته في وصف طعام وهو فصل من كتاب فقلت طعام لا يمل إذا شينت الأطعمة بمللها وكأنما تولته يد الخلقة ولم تباشره الأيدي بعملها فهو من بقايا المائدة التي نزلت من السماء وقد طاب حتى لا يحتاج من بعده إلى استعمال الماء وما رآه ذو شبع إلا رأى تركه غبنا وود لو زيد إلى بطنه بطنا
وبعض هذا مأخوذ من سورة المائدة
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى ديوان الخلافة وهو قد تكاثرت وسائل الخادم حتى لا يدري ما يجعله لطلابه سفيرا وما منها إلا ما يقال إنه أول وليس فيها ما يجعل أخيرا غير أنه لا يذكر منها إلا ما هو توأم إيمانه والذي لا ينظر الله من ابن آدم إلا إلى مكانه وفي ذلك كاف عن الوسائل التليدة والطريفة وقول لا إله إلا الله لا يعدله شيء من الحسنات المودعة في الصحيفة وقد تجدد الآن للخادم مطلب هو بالنسبة إلى مواهب الديوان العزيز يسير ولو قامت مطالب الناس في صعيد واحد لأعطي كلا منها مرامه ولم يقل ذلك كثير وكتابه هذا سائر إلى تلك المواهب التي يضيق عنها صدر الأرض باتساعه وليس الذي يسأله ممنعا فيحال على النظر إلى الجبل في امتناعه وكما أن عبيد الديوان العزيز أطوار فكذلك مطالبهم أطوار وقد جعل الله الأشياء متفاوتة في مراتبها وكل شيء عنده بمقدار
وهذا الفصل من أحسن ما يكتب في استنجاز مطلوب وفيه معاني ثلاثة أخبار نبوية ومعنى آيتين من القرآن الكريم وليس هذا موضع الأخبار وإنما جاء ضمنا وتبعا فالآية الأولى في سورة الأعراف والآية الثانية في سورة الرعد
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كاتب وهو إذا دجا ليل قلمه وطلعت فيه نجوم كلمه لم يقعد له شيطان بلاغة مقعدا إلا وجد له شهابا مرصدا فأسرارها مصونة عن كل خاطف مطوية عن كل قائف
وهذا المعنى مأخوذ من سورة الجن
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كاتب أيضا فقلت له بنت فكر ما تمخضت

بمعنى إلا أنتجته من غير ما تهمله وأنت به قومها تحمله ولم يعرض على ملأ من البلغاء إلا ألقوا أقلامهم أيهم يستعيره لا أيهم يكفله
وفي هذين السطرين آيتان من القرآن الكريم الأولى في سورة مريم وقصتها وقصة ولدها عليهما السلام وهي قوله تعالى ( فأتت به قومها تحمله ) والثانية في سورة آل عمران في قوله ( إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم )
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن وصف القلم فقلت وقد أوحى الله تعالى على قلمه ما أوحاه إلى النحل غير أنها تأوي إلى المكان الوعر وهو يأوي إلى البيان السهل ومن شأنه أن يجتني من ثمرات ذات أرواح لا ذات أكمام ويخرج من نفثاته شراب مختلف طعمه فيه شفاء للأفهام وأين مما تنبته كثافة الخشب ما تنبته لطافة المعنى ولا تستوي نضارة هذا الثمر وهذا الثمر ولا طيب هذا المجنى وهذا المجنى وقد أرخص الله ما يكثر وجوده فيذهب في لهوات الأفواه وأغلى ما يعز وجوده فيبقى خالدا على ألسنة الرواه وكل هذه الأوصاف لا تصح إلا في قلم سيدنا الذي إذا خلا بخاطره امتلأت بحديثه المحافل وإذا خلا كتابه وجدت الكتب الحالية من قبله وهي عواطل فله حينئذ أن ينظر إلى غيره بعين الاحتقار ولواصفه أن يسهب وهو قائم مقام الاختصار
هذا الفصل غريب عجيب وقد جمع بين الأضداد فمناله بعيد وفهمه قريب وهو مأخوذ من سورة النحل
ومن ذلك ما ذكرته في ذم بخيل وهو له شيمة في الجود لا يشام نائلها وإذا هزها سائلها قال إنها كلمة هو قائلها
وهذا مأخوذ من سورة المؤمنين
ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب وهو وصل كتابه فوقف منه على اللفظ الرخيم والمعنى الذي هو في كل واد يهيم وقال يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ثم أخذ في إعلاء قدره وتنويه ذكره ولم يستفت الملأ في الإذعان لأمره ولا أهدى في قبالته سوى هدية لسانه وصدره لا جرم أنها تقبل ولا ترد

ويعتد بها ولا تعد فإنها مال لا ينفده الإنفاق وجوهر تتحلى به الأخلاق لا الأعناق
وهذا مأخوذ من قصة سليمان عليه السلام في كتابه إلى بلقيس وهي مذكورة في سورة النمل وفي هذا من شرف الصنعة أنه خولف بين معانيه ومعاني ما أتى به القرآن الكريم
ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب يتضمن ذكر معركة حرب بين المسلمين والكفار وهو إذا خطب القلم عن الرمح الذي هو نديده قام محتفلا وأسهب مترويا ومرتجلا حتى يأتي في خطابته بالمعاني الأخائر وأصدق القول ما صدر عن شهادة الضرائر للضرائر وكتابنا هذا يصف معركة احمرت ضبابتها وضاقت بالأسود غابتها فالطعن بها محتضر والموت محتقر والنصر من كلا الفريقين مقتسر وكان الإسلام هناك زجر السنيح وفوز القدح المنيح وليس الذي يرقب المعونة من الله الذي هو رب الميح كمن يرقبها من المسيح ولقد نفذت الرماح في أعداء الله تعالى حتى اعتدلت من جانبي الصدور والظهور وتركت الناجي منهم وهو لا ينظر إلى الصليب إلا نظر الخائف المذعور فليس لهم من بعدها جيش يجمع ولا لواء يرفع وقد كانت بلادهم من قبل مانعة وهي الآن لا تذب عنها ولا تمنع وهذه معركة قلت بها الرقاب المأسورة وكثرت النفوس المقتولة وقربت بها القرابين التي تأكلها النار لا لأنها مقبولة
ومعنى الآية في هذا الفصل مأخوذ من سورة آل عمران إلا أنها تخالفه وذاك أن القربان كان يقبل فتنزل النار تأكله وأجساد هؤلاء الكفار قربان تأكله النار لكنها لا تأكله لأنه مقبول وباقي الفصل يتضمن معنى حسنا رقيقا
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن الشكوى من خلق بعض الإخوان وهو ولقد صبرت على أخلاقه العائثة وعاملته بالخليقة الرائثة وعالجته بضروب المعالجات فلم تنفع فيه رقى الراقية ولا نفث النافثة ولما أعيا علي إصلاحه أخذت بمقالة الخضر لموسى في المرة الثالثة
وهذا مأخوذ من قصة موسى عليه السلام وقصة الخضر في سورة الكهف

ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب وهو تجمعوا في نار الندم يعرضون عليها غدوا وعشيا وصار الأمر الذي كانوا يرجونه مخشيا وأضحوا كأهل النار الذين صاروا أعداء وكانوا شيعا وقال ضعفاؤهم للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا
وهذا مأخوذ من سورة حم المؤمن ومن سورة سبأ
ومن ذلك ما ذكرته في ذم غلام أبله كنت أقاسي من بلهه نكذا فكتبت يوما من الأيام إلى بعض إخواني كتابا وعرضت فيه بذكره فقلت ولقد ملكه النسيان حتى كأنه يقظ في صورة نائم وحتى حقق قول التناسخ في نقل أرواح الأناسي إلى البهائم فما أرسل في حاجة إلا ذهبت عن قلبه يمنة ويسرة ولا طلب منه ما استحفظه إلا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة
وهذا فصل يشتمل على عدة معان منها ما هو مأخوذ من القرآن الكريم من سورة الكهف
ومن ذلك ما ذكرته في تقليد قاض وهو فصل منه فقلت والفضائل ما بقيت موجودة ولم تفقد وهي حية وإن أودى أربابها ولا يموت من لم يولد ومن أكرم ما أوتيه منها فضيلة التقوى التي الكرم من شعارها والعاقبة والحسنى كلاهما من آثارها وما نقول إلا أنه اتخذها حارسا يمنع الخصم من تسور محرابه ويؤمن قلبه من الفتنة الداعية إلى استغفاره ومتابه وقد قرن الله له هذه الفضيلة بالعلم الذي أعلمه بعلامته ووسمه بوسامته وقذف في روعه ما لا يسأل معه عن السفينة وخرقها والغلام وقتله والجدار وإقامته وعلى ما بلغه منه فإنه فيه أحد المنهومين اللذين لا يشبعان وإذا كان لغيره فيه نظر واحد ومسمع فله فيه نظران ومسمعان
وفي هذا الفصل المختصر معاني عدة آيات وخبر من الأخبار النبوية أما الآية الأولى فقوله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وأما الآية الثانية فقوله تعالى ( والعاقبة للتقوى ) وأما الثالثة فقوله تعالى ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب ) وأما الآية الرابعة فقوله تعالى ( فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ) وكذلك إلى آخر القصة وهذا من أحسن ما يأتي في هذا الباب

ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب يتضمن عناية ببعض الفقراء فقلت بعد الابتداء بصدر الكتاب وقد علم منه أنه يعد لطالب فضله فضلا ويرى التبرع بمعروفه فرضا إذا رآه غيره مع المساءلة نفلا وما ذاك إلا لمزية خلق توجد بطيب التربة وشرف الرتبة وأوتي من كنوز الكرم ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة ولهذا خرج على قومه من الأخلاق في زينته وفضل الخلق بطينة غير طينته ومن فضله أنه يسأل عن السائلين ويحتال في استنباط أمل الآملين
ثم مضت على هذا النهج حتى أنهيت الكتاب
والغرض أن تعلم أيها المتعلم كيف تضع يدك في أخذ ما تأخذه من بعض الآية ثم تضيف إليه كلاما من عندك وتجعله مسجوعا كما قد فعلت أنا في هذا الموضع ألا ترى أني أخذت بعض هذه الآية في قصة من سورة القصص وهي قوله تعالى ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناُه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) فهذه الآية أخذت بعضها وأضفت إليه كلاما من عندي حتى جاء كما تراه مسجوعا وكذلك فعلت بالآية الأخرى من هذه السورة أيضا وهي قوله ( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) وهكذا ينبغي لك إذا أردت أن تسلك هذه الطريق وقدرت على سلوكها وهي من محاسن الصناعة البلاغية وليس فوقها من الكلام ما هو أعلى درجة منها لأنها ممزوجة بالقرآن لا على وجه التضمين بل على وجه الانتظام به والله يختص بها من يشاء من عباده
وفيما ذكرته من نثر هذه الآيات كفاية للمتعلم
وأما الأخبار النبوية فكالقرآن العزيز في حل معانيها
فإن قلت إن الأخبار النبوية لا يجري فيها الأمر مجرى القرآن إذ للقرآن له حاصر وضابط وكل آياته تدخل في الاستعمال كما قال بعضهم لو ضاع مني عقال لوجدته في القرآن الكريم وأما الأخبار فليست كذلك لأنها كثيرة لا

تنحصر ولو انحصرت لكان منها ما يدخل في الاستعمال ومنها ما لا يدخل ولا بد من بيان يمكن الإحاطة به والوقوف عنده
قلت في الجواب عن هذا إنك أول ما تحفظه من الأخبار هو كتاب الشهاب فإنه كتاب مختصر وجميع ما فيه يستعمل لأنه يتضمن حكما وآدابا فإذا حفظته وتدربت باستعماله كما أريتك ههنا حصل عندك قوة على التصرف والمعرفة بما يدخل في الاستعمال وما لا يدخله وعند ذلك تتصفح كتاب صحيح البخاري ومسلم والموطأ والترمذي وسنن أبي داود وسنن النسائي وغيرها من كتب الحديث وتأخذ ما يحتاج إليه وأهل مكة أخبر بشعابها والذي تأخذه إن أمكنك حفظه والدرس عليه فهو المراد لأن ما لا تحفظه فلست منه على ثقة وإن كان لك محفوظات كثيرة كالقرآن الكريم ودواوين كثيرة من الشعر وما ورد من الأمثال السائرة وغير ذلك مما أشرنا إليه فعليك بمداومة المطالعة للأخبار والإكثار من استعمالها في كلامك حتى ترقم على خاطرك فتكون إذا احتجت منها إلى شيء وجدته وسهل عليك أن تأتي به ارتجالا فتأمل ما أوردته عليك واعمل به
وكنت جردت من الأخبار النبوية كتابا يشتمل على ثلاثة آلاف خبر كلها تدخل في الاستعمال وما زلت أواظب على مطالعته مدة تزيد على عشر سنين فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة وصار محفوظا لا يشذ عني منه شيء وهذا الذي أوردته ههنا في حل معاني الأخبار هو من هناك
وسأذكر ما دار بيني وبين بعض علماء الأدب في هذا الأسلوب الذي أنا بصدده ههنا وذاك أنه استوعره وأنكره وقال هذا لا يتهيأ إلا في الشيء اليسير من الأخبار النبوية فقلت لا بل يتهيأ في الأكثر منها فقال قد ورد عن النبي أنه اختصم إليه في جنين فقضى على من أسقطه بغرة عبد أو أمة فأين يستعمل هذا فأفكرت فيما ذكره ثم أنشأت هذا الفصل من الكلام وأودعته فيه قد كثر الجهل حتى لا يقال فلان عالم وفلان جاهل وضرب المثل بباقل وكم في هذه الصورة الممثلة من باقل ولو عرف كل إنسان قدره لما مشى بدن إلا تحت رأسه ولا انتصب رأس إلا على بدنه ولكان صاحب العمامة أحق بعمامته وصاحب

الرسن أحق برسنه وكنت سمعت بكاتب من الكتاب كلمه إلى غثاثة وقلمه بغاثة لا يستنسر وأي بطش لبغاثة وإذا وجب الوضوء على غيره بالخارج من السبيلين وجب عليه من سبل ثلاثة هذا وهو يدعي أنه في الفصاحة أمة وحده ومن قس إياد وسحبان وائل عنده وإذا كشف عن خاطره وجد بليدا لا يخرج عن العمه والكمه وإن رام أن يستنتجه في حين من الأحيان قضى عليه بغرة عبد أو أمه وكثيرا ما يتقدم ونقيصته هذه على الأفاضل من العلماء وقد صار الناس إلى زمان يعلو فيه حضيض الأرض على هام السماء
فلما أوردته عليه ظهرت أمارة الحسد على صفحات وجهه وفلتات لسانه مع إعجابه به واستغرابه إياه ثم قال وقد ورد عن النبي هذا الحديث وهو ( لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا تمثال ) فهذا أين يستعمل من المكاتبات
فترويت في قوله ترويا يسيرا ثم قلت هذا يستعمل في كتاب إلى ديوان الخلافة وأمليت عليه الكتاب فجاء هذا الحديث في فصل منه وهو إذا أفاض الخادم في وصف ولائه نكصت همم الأولياء عن مقامه وعلموا أنه أخذ الأمر بزمامه فقد أصبح وليس بقلبه سوء الولاء والإيمان فهذا يظهر أثره في طاعة السر وهذا في طاعة الإعلان وما عداهما فإن دخوله إلى قلبه من الأشياء المحظورة والملائكة لا تدخل بيتا فيه تمثال ولا صورة فليعول الديوان العزيز على سيف من سيوف الله يفري بلا ضارب ويسري بلا حامل ولا يسل إلا بيد حق ولا يغمد إلا في ظهر باطل وليعلم أنه كرشه وعيبته في تضمن الأسرار وأنه أحد سعديه إذا عدت مواقف الأنصار

فلما رأى هذا الفصل بهت له وأعجب منه ثم إني لم أقنع بإيراد ذلك الحديث حتى قرنت به حديثا آخر وهو قول النبي ( الأنصار كرشي وعيبتي )
وحيث عرفتك أيها المتعلم ما تقتدي به في هذا الموضع فقد ذكرت لك أمثلة كثيرة تتدرب بها
فمن ذلك ما ذكرته في دعاء كتاب من الكتب وهو أعاذ الله أيامه من الغير وبين بخطر مجده نقص كل خطر وجعل ذكره زادا لكل ركب وأنسا لكل سمر ومنحه من فضله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وهذا المعنى مأخوذ من الحديث في وصف نعيم الجنة فنقلته إلى الدعاء
ومن ذلك ما ذكرته في وصف الحلم وهو تركته حتى جال في الميدان وامتد في الأشطان ولم أنتصر خوفا من قيام الملك وقعود الشيطان والحليم لا يظهر أثر حلمه إلا عند تلدده والكظيم هو أشد ما يخاف من تبدده
وهذا المعنى أخذته من قصة أبي بكر رضي الله عنه في خصامه فإنه بغي عليه ثلاث مرات وهو ساكت ففي الثالثة انتصر فقال النبي ( كان الملك جالسا إلى جانب أبي بكر يكذب خصمه بما يقول فلما انتصر قام الملك وقعد الشيطان )
ومن ذلك ما ذكرته في النصرة على العدو في موطن القتال وهو أخذنا بسنة رسول الله في النصر الذي نرجوه ونبذنا في وجه العدو كفا من التراب وقلنا شاهت الوجوه فثبت الله ما تزلزل من أقدامنا وأقدم حيزوم فأغنى عن إقدامنا
وهذان المعنيان أحدهما مأخوذ من حديث غزوة حنين وما فعله رسول الله في أخذ قبضة من التراب وألقاها في وجوه الكفار وقوله ( شاهت الوجوه ) والمعنى الآخر مأخوذ من حديث غزوة بدر وذاك أن رجلا من المسلمين لاقى رجلا من الكفار وأراد أن يضربه فخر على الأرض ميتا قبل أن يصل إليه وسمع الرجل المسلم صوتا من فوقه وهو يقول أقدم حيزوم فجاء إلى النبي وأخبره فقال ( ذاك من مدد السماء الثالثة )

ومن ذلك ما ذكرته في ضيق مجال الحرب وهو وضاق الضرب بين الفريقين حتى اتصلت مواقع البيض الذكور وتصافحت الفور بالفور والصدور بالصدور واستظل حينئذ بالسيوف لاشتباك مجالها وتبوئت مقاعد الجنة التي هي تحت ظلالها
وهو مأخوذ من الحديث النبوي وهو قول النبي ( الجنة تحت ظلال السيوف )
ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب أذم فيه الزمان فقلت ولكنها الأيام تبدي لنا من جوهرها كل غريبة وتسوسنا سياسة العبد المجدع الذي كأن رأسه زبيبة وليس للمرء فيما يلقاه من أحداثها نعمى كانت أو بوسى إلا أن يكل الأمور إلى وليها فيقول حاج آدم موسى
وهذا مأخوذ من الخبر النبوي في قوله ( حاج آدم موسى فقال له موسى أنت أخرجت الناس بخطيئتك من الجنة وأشقيتهم فقال له آدم أنت الذي اصطفاك الله تعالى برسالته وكلامه أتلومني على أمر كتبه الله تعالى علي قبل أن يخلقني قال رسول الله ( فحج آدم موسى )
ومن ذلك ما ذكرته في وصف بعض الكتاب وهو فصل من كتاب كتبته إليه فقلت ولقد سردت عليه أحاديث البلاغة فاستغنى عن بسط ردائه وهدي إلى جوامع كلها فاقتدى الناس باهتدائه فإذا اشتبهت عنده مسالك طرقها لم يملكه سلطان الحيرة وإن أغرب في أساليبها لم يقل فيه ما قيل في رواية أبي هريرة
وهذا الفصل من أحسن ما يؤتى به في صناعة نثر المعاني وهو مأخوذ من حديث أبي هريرة قال قلت يا رسول الله أسمع منك أشياء فلا أحفظها فقال ( ابسط رداءك ) فبسطته فحدث حديثا كثيرا فما نسبت شيئا حدثني به وأما رواية أبي هريرة فشك فيها قوم لكثرتها
وقد اجتمع في هذا الفصل معنى الحديث النبوي وغيره ومثل هذا لا يتفطن

له عند الوقوف إلا من تبحر في الوقوف على الأخبار النبوية ومن أجل ذلك جعلته ركنا من أركان الكتاب في الفصل التاسع
ومن ذلك ما ذكرته في ذم بعض البلاد الوخمة فقلت ومن صفاتها أنها مدرة مستوبلة الطينة مجموع لها بين حر مكة ولأواء المدينة إلا أنها لم يأمن حرمها في الخطفة ولا نقلت حماها إلى الجحفة
في هذه الكلمات القصار آية من القرآن الكريم وخبران من الأخبار النبوية فالآية من سورة العنكبوت وهي قوله تعالى ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) وهذا موضع يختص بالأخبار لا بالآيات غير أن الآية جاءت ضمنا وتبعا وأما الخبران فالأول منهما قول النبي ( من صبر على حر مكة ولأواء المدينة ضمنت له على الله الجنة ) وأما الثاني فقوله في دعائه للمدينة ( اللهم حببها إلينا كما حببت إلينا مكة وانقل حماها إلى الجحفة )
فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكلمات حتى تعلم أن عدتها مصوغة من الآية والخبرين سواء بسواء وهذا طريق لو ادعيت الانفراد بسلوكه لما اختلف علي في الاعتراف به اثنان
ومن ذلك ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان جوابا عن كتاب ورد وكان كتابه تأخر عني زمانا طويلا فقلت ولما تأملته ضممته إلي والتزمته ثم استلمته والتثمته وعلمت أن المعارف وإن قدمت أيامها أنساب وشيجة وتأسيت بالخلق النبوي في العجوز التي كانت تأتي في زمن خديجة
وهذا مأخوذ من الخبر المنقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أنها قالت كان رسول الله يذبح الشاة فيعضيها أعضاء ويقسمها في أصدقاء خديجة وكانت تأتيه عجوز فيكرمها ويبسط لها رداءه فسألته عن ذلك فقال ( هذه كانت تأتينا في زمن خديجة وحسن العهد من الإيمان )

ومن ذلك ما ذكرته في وصف الكتاب وهو كل سطر منه روضة غير أنها ليل في صباح وكل معنى منه دمية غير أن ليس على مصورها من جناح
وهذا مأخوذ من الحديث في تحريم الصور
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم وهو فأغنى بجوده إغناء المطر وسما إلى المعالي سمو الشمس وسار في منازلها مسير القمر ونتج من أبكار فضائله ما إذا ادعاه غيره قيل للعاهر الحجر
وهذا المعنى من قول النبي ( الولد للفراش وللعاهر الحجر )
ومن ذلك ما ذكرته في وصف الفصاحة فقلت أفكار الخواطر لا تستولد على انفرادها وغايتها أن يتناكح في استنتاج أولادها وأنا أنكح فكري لفكر نكاح الأنساب ولا أخاف أن أضوي فأميل إلى الاغتراب
وهذا مأخوذ من قول النبي في الأمر بنكاح البعيدة النسب فقال ( غربوا لا تضووا ) يريد بذلك أن الإنسان إذا نكح المرأة القريبة إليه حصل بينهما حياء يمنع من قضاء الشهوة كما ينبغي فيجيء الولد ضاويا أي هزيلا وهذا معنى غريب لي استخرجته من الحديث النبوي
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان جوابا عن كتاب ورد منه يتضمن الشكوى من شخص جرت بينه وبينه مخاصمة فقلت وصل كتابه وهو كتاب من أكثر الشكوى وطلب العدوى ونزل من التظلم بالعدوة الدنيا وأنزل خصمه القصوى والقاضي لا يحكم لأحد الخصمين حتى يحضر صاحبه وإن فقئت عين أحدهما فربما فقئت عين الآخر وهشم جانبه على أنه قد اعترف أن كليهما كان للحم أخيه آكلا وعليه في حال محضره جاهلا وسباب المؤمن معدود من فسوقه وإطراقه عن تورد هذا المقام أولى من طروقه ولولا تغليظ النكير لما

جعل اللسان واليد سواء فيما جرحا ولما أخر الله المغفرة عن الخائضين فيها حتى يصطلحا فكن أنت ممن أطاع تقواه لا هواه واتبع من علم الحق فرآه أو سمعه فرواه واعلم أن تهاجر الأخوين فوق الثلاثة من منهيات الحرام وأن الفائز بالأجر منهما هو البادئ بالسلام ودفع السيئة بالحسنة يجعل العدو وليا حميما وقد جعل الله المتخلق بهذا الخلق صابرا وجعل له حظا عظيما والشيطان إنما يحوم على آثاره مواقع الشنآن ولا يحمد من أعمال بنيه شيئا إلا ما زيل بين الإخوان
في هذا الفصل معاني آيات وأخبار وهذا الموضع مختص بذكر الأخبار دون الآيات فأول المعاني المأخوذة من الأخبار قول النبي ( إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم له فربما أتى خصمه وقد فقئت عيناه ) وأما المعنى الثاني فقوله ( سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر ) وأما المعنى الثالث فقوله ( إن الأعمال تعرض على الله يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا ) وأما المعنى الرابع فقول النبي ( لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) وأما المعنى الخامس فقول النبي ( إذا التقى المتهاجران فأعرض هذا وأعرض هذا فخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) وأما المعنى السادس فقوله ( إن إبليس له عرش على البحر فيبث بنيه في آفاق الأرض فيأتي أحدهم فيقول فعلت كذا وفعلت كذا فيقول ما فعلت شيئا ويأتي أحدهم فيقول زينت بينه وبين أخيه أو بينه وبين زوجته فيقول نعم الولد أنت )
فانظر كم في هذه الأسطر اليسيرة من معنى خبر نبوي هذا سوى ما فيها من معاني الآيات وإذا عددت هذه الكلمات المذكورة في هذه الأسطر وجدتها جميعا منتظمة من الآية والخبر وهذا ما يدلك على الإكثار من المحفوظ واستحضاره عند الحاجة إليه على الفور
ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب وهو جواب عن كتاب يتضمن تهديدا وتخويفا فقلت ورد الكتاب مضمنا من الوعد والوعيد ما آنس نفس المملوك

وأوحشها ونقع ضلوعه وأعطشها وأقام له من الظنون السيئة جنودا تقاتله وتأخذ عليه شعب الأفكار فلا تزاوله وكانت كلماته طوالا وأوراقه ثقالا وما أفلت سطر من سطوره إلا كان الآخر له عقالا ولما استكمل الوقوف عليه ثقلت أطوار الخوف والرجاء من أطواره وعرضت عليه الجنة والنار في قرطاسه كما عرضت على رسول الله في عرض جداره ولولا وثوقه بأناة مولانا لذهبت نفسه فرقا وابتغى في السماء سلما وفي الأرض نفقا لكنه قد توسم في كرمه مخابل الصنع الوسيم وغره منه ما غره من ربه الكريم وعلم أن خلق حلمه يغلب خلق غضبه إذ هذا حادث وذاك قديم
وفي هذا الفصل معنى خبر من الأخبار النبوية وهو أنه كان يخطب فمال بيده إلى الجدار وقال ( عرضت علي الجنة والنار في عرض هذا الجدار فلم أر كاليوم في الخير والشر )
ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب إلى بعض الإخوان وهو الخادم يواصل بالدعاء الذي لا يزال لقلبه زميلا وللسانه رسيلا وإذا رفع أدنته الملائكة قربا إذا تباعدت من غيره ميلا ولا اعتداد بالدعاء إلا إذا صدر عن أكرم مصدر ووجد له فوق السماء مظهرا وإن لم يكن هناك من مظهر ووصف باطنه بأنه الأبيض الناصع الذي هو خير من ظاهر الأشعث الأغبر ولا يعامل الخادم أهل وده إلا بهذه المعاملة ومن خلقه المجازفة في بذل المودة إذا أخذ الناس نسبة المكايلة
في هذا معنى خبرين أحدهما قول النبي ( إنه إذا كذب الكاذب تباعد الملك عنه ميلا لنتن كذبه ) والآخر قوله ( رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره )
ومن هذا الباب ما ذكرته في كتاب يتضمن خطبة مودة فابتدأت الكلام فيه بعد تصدره بالدعاء فقلت لولا العادة لرفع الخادم كتابه هذا أن يسطر في ورقة وليس ذلك إلا لإرساله في خطبة مودة رأى صورتها في سرقة ولما تأملها قال إن يكن ذلك من عند الله يمضه وأبدي لها صفحة الرضا وإن كانت كل مودة لم ترضه وخير المودات ما ليس لها ضرة تشاركها في وسامتها ولا تضاهيها في درجة

كرامتها فتلك التي تزدهي ذا الهمة أبوة وجمالا ولم يغله مهرها ولو بذل فيه نفسا لا مالا وما يظنها الخادم إلا هذه المودة التي خطبها وقد علت أن تكون راغبة ولكن هو الذي أرغبها على أنه لم يترشح لها إلا من هو من أكفائها وليست الكفاءة ههنا إلا ما تبذله الضمائر من صفائها وقد أتاح الله لها كفئا يكثر من إيناسها ويضعها من البر في محلة ناسها ويجعل كل يوم من أيامها عرسا حتى تتصل مواسم أعراسها
ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب والمعنى المأخوذ فيه من الخبر النبوي في موضعين الأول أن النبي قال لعائشة رضي الله عنها ( إن جبريل عليه السلام عرض علي صورتك في سرقة ) والسرقة حريرة بيضاء وقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة فقلت ( إن يكن ذلك من عند الله يمضه ) فأخذت أنا هذا المعنى ونقلته إلى خطبة مودة ولا يأتي في خطبة المودات شيء أحسن منه ولا ألطف ولا أشد مقصدا الخبر النبوي الثاني قول النبي ( إنما تنكح المرأة لأربع لحسبها أو لدينها أو لمالها أو لجمالها ) فقلت أنا فتلك التي تزدهي ذا الهمة أبوة وجمالا أي قد جمعت الحسب والجمال
ومن ذلك ما ذكرته في سبب حب المال وهو بين المال علاقة وكيدة وبين القلوب وهي له بمنزلة المحب وهو لها بمنزلة المحبوب وليس ذلك إلا لأن الله قبض قبضة من جميع الأرض فخلق آدم من تلك القبضة ويوشك حينئذ أن صورة قلبه تكونت من معدن الذهب والفضة ولولا أن يكون منهما عنصرا بدائه لما جعلهما الأطباء دواءه من دائه فلا تستغرب إذن أن تكون على حبهما مطبوعا إذ كان منهما مصنوعا
وهذا المعنى من قول النبي ( إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والحزن والسهل والخبيث والطيب ) غير أني استنبطت أنا حب المال من هذا الحديث وهو معنى غريب لم أسبق إليه
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كلام وهو ليس السحر ما أودع في جف

طلعه بل ما أودع في صوغ معنى أو نظم سجعة ولذلك لبيد في شعره أسحر من لبيد في سحره وكلا صنعهما من الغريب العجيب غير أن ما يستنبط من القلب أعجب مما يدفن في القليب
وهذا المعنى مأخوذ من قصة لبيد بن الأعصم في سحره النبي ومن عرف القصة وصورتها علم ما قد ذكرته في نثر هذه الكلمات البديعة
ومن ذلك ما ذكرته في وصف المنجنيق في جملة كتاب فقلت ونصب المنجنيق فجثم بين يدي السور مناصيا وبسط كفه إليه مواتيا ثم تول عقوبته بعضاه التي تفتك بأحجاره وإذا عصى عليها بلد أخذت في تأديب أسواره فما كان إلا أن استمرت عقوبتها عليه حتى صار قائمه حصيدا وعاصيه مستقيدا وقال ألم يكن نهى عن المد والتجريد فمالي لا أرى إلا مدا وتجريدا وعند ذلك أذعن لفتح الأبواب وتلا قوله تعالى ( لكل أجل كتاب ) وكذلك لم نأت صعبا إلا استسهل ولا حثثنا مطيا إلا استعجل ولطالما وقف غيرها على هذا البلد فشقه طول الانتظار ولم يحظ منه إلا بمساءلة المنصب أحجار الديار
في هذا الفصل معنى خبر من الأخبار النبوية وهو قول النبي في النهي عن ضرب المحدود ( لا مد ولا تجريد ) أي لا يمد على الأرض ولا يجرد عنه ثوبه

ومن ذلك ما ذكرته في صدر كتاب إلى الديوان العزيز النبوي وهو خلد الله دولة الديوان العزيز النبوي ولا زالت أكنافها وادعة وعلياؤها جامعة وجدودها كالنجوم التي ترى في كل حين طالعة وأيامها كالليالي ساكنة ولياليها كالأيام ناصعة وأبوابها كأبواب الجنة التي يقال فيها ثامن وثامنة إذا قيل في أبواب غيرها سابع وسابعة وهذا الدعاء قد استجابه الله قبل أن ترفع إليه يد أو ينطق به ضمير فإذا دعا به الخادم وجد صنع الله قد سبقه أولا وجاء هو في الزمن الأخير فليس له حينئذ إلا أن يدعو لما خوله الديوان العزيز بالدوام وأن يعيذه من النقص من التمام ثم يستهدي ما يؤهل له من الخدم التي يعتدها من لطائف الإحسان وإذا ندب لتكليف أوامرها قال والحمد والشكر يسجدان ولا شك أن درجات الأولياء تتفاوت في الصفات والأسماء فمنها ما يكون ببطن الأرض ومنها ما يرى كالكوكب في أفق السماء ولولا النهي عن تزكية المرء نفسه لادعى الخادم أن له أعلاها وجاء بالأولياء من بعده فقال ( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ) لكنه لا يمن بما يعتده عند الله من ذخره وسر الولاء في هذا المقام أكرم من جهره وليس الذي يمن بصلاته وصيامه كالذي يمن بسر وقر في صدره والله لا ينظر إلى الأعمال وإنما ينظر إلى القلوب وفرق بين المطيع بمحضر الشهادة وبين المطيع بظهر الغيوب ولو اطلع الديوان العزيز على ضمير الخادم في الطاعة لسره وعلم أنه الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبره
في هذا الفصل من الآيات والأخبار عدة مواضع وهذا الموضع مختص بالأخبار فلنذكرها دون الآيات أما الأول منها فقوله النبي ( إنكم ترون أهل الدرجات العلى في الجنة كما ترون المواكب في أفق السماء ) وأما الخبر الثاني فقوله ( ما فضلكم أبو بكر بصلاة ولا صيام ولكن فضلكم بسر وقر في صدره ) وأما الخبر الثالث فقوله ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره )
وفيما أوردته من حل المعاني الشعرية وحل آيات القرآن والأخبار النبوية طريق واضح لمن يقوى على سلوكه والله الموفق للصواب

المقالة الأولى في الصناعة اللفظية
وهي تنقسم إلى قسمين
القسم الأول في اللفظ المفردة
اعلم أنه يحتاج صاحب هذه الصناعة في تأليفه إلى ثلاثة أشياء الأول منها اختيار الألفاظ المفردة وحكم ذلك اللآلئ المبددة فإنا تتخير وتنتقي قبل النظم الثاني نظم كل كلمة مع أختها المشاكلة لها لئلا يجيء الكلام قلقا نافرا عن مواضعه وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كل لؤلؤة منها بأختها المشاكلة لها الثالث الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم فتارة يجعل إكليلا على الرأس وتارة يجعل قلادة في العنق وتارة يجعل شنفا في الأذن ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه
فهذه ثلاثة أشياء لا بد للخطب والشاعر من العناية بها وهي الأصل المعتمد عليه في تأليف الكلام من النظم والنثر فالأول والثاني من هذه الثلاثة المذكورة هما المراد بالفصاحة والثلاثة بجملتها هي المراد بالبلاغة
وهذا الموضع يضل في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم

والنثر فكيف الجهال الذين لم تنفحهم رائحة ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء ولم لم تمسه نار حتى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ فيضعها في موضعها
ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظتين تدلان على معنى واحد وكلاهما حسن في الاستعمال وهما على وزن واحد وعدة واحدة إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه بل يفرق بينهما في مواضع السبك وهذا لا يدركه إلا من دق فهمه وجل نظره
فمن ذلك قوله تعالى ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) وقوله تعالى ( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا ) فاستعمل الجوف في الأولى والبطن في الثانية ولم يستعمل الجوف موضع البطن ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدلالة وهما ثلاثيتان في عدد واحد ووزنهما واحد أيضا فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل
ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) وقوله ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة وإن كانا مختلفين في الوزن ولم يستعمل في القرآن أحدهما في موضع الآخر
وعلى هذا ورد قول الأعرج من أبيات الحماسة
( نَحْنُ بَنُو المَوْتِ إِذَا الْمَوْتُ نَزَلْ ... لاَ عَارَ بالْمَوْت إِذَا حُمَّ الأَجَلْ )
( المَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ الْعَسَلْ ... )

وقال أبو الطيب المتنبي
( إِذَا شِئْتُ حَفَّتْ بي عَلَى كُلِّ سَابحٍ ... رِجَالٌ كأَنَّ الْمَوْتَ في فَمِهَا شُهْدُ )
فهاتان لفظتان هما العسل والشهد وكلاهما حسن مستعمل لا يشك في حسنه واستعماله وقد وردت لفظة العسل في القرآن دون لفظة الشهد لأنها أحسن منها ومع هذا فإن لفظة الشهد وردت في بيت أبي الطيب فجاءت أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج
وكثيرا ما نجد أمثال ذلك في أقوال الشعراء المفلقين وغيرهم ومن بلغاء الكتاب ومصقعي الخطباء
وتحته دقائق ورموز إذا علمت وقيس عليها أشباهها ونظائرها كان صاحب الكلام في النظم والنثر قد انتهى إلى الغاية القصوى في اختيار الألفاظ ووضعها في مواضعها اللائقة بها
واعلم أن تفاوت التفاضل يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها لأن التركيب أعسر وأشق ألا ترى ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملها العرب ومن بعدهم ومع ذلك فإنه يفوق جميع كلامهم ويعلو عليه وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب

وهل تشك أيها المتأمل لكتابنا هذا إذا فكرت في قوله تعالى ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ) أنك لم تجد ما وجدته لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة إلا لأمر يرجع إلى تركيبها وأنه لم يعرض لها هذا الحسن إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وكذلك إلى آخرها فإن ارتبت في ذلك فتأمل هل ترى لفظة منها لو أخذت من مكانها وأفردت من بين أخواتها كانت لابسة من الحسن ما لبسته في موضعها من الآية
ومما يشهد لذلك ويؤيده أنك ترى اللفظة تروقك في كلام ثم تراها في كلام آخر فتكرهها فهذا ينكره من لم يذق طعم الفصاحة ولا عرف أسرار الألفاظ في تركيبها وانفرادها
وسأضرب لك مثالا يشهد بصحة ما ذكرته وهو أنه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر فجاءت في القرآن جزلة متينة وفي الشعر ركيكة ضعيفة فأثر التركيب فيها هذين الوصفين الضدين أما الآية فهي قوله تعالى ( فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا فيستحيي من الحق )
وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب المتنبي
( تَلَذُّ لَهُ الْمُرُوءَةُ وَهْيَ تُؤْذِي ... وَمَنْ يَعْشَقْ يَلَذَ لَهُ الْغَرَامُ )
وهذا البيت من أبيات المعاني الشريفة إلا أن لفظة تؤذي قد جاءت فيه

وفي الآية من القرآن فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها وحسن موقعها في تركيب الآية
فأنصف أيها المتأمل لما ذكرناه واعرضه على طبعك السليم حتى تعلم صحته وهذا موضع غامض يحتاج إلى فضل فكرة وإمعان نظر وما تعرض للتنبيه عليه أحد قبلي وهذه اللفظة التي هي تؤذي إذا جاءت في الكلام فينبغي أن تكون مندرجة مع ما يأتي بعدها متعلقة به كقوله تعالى ( إن ذلكم كان يؤذي النبي ) وقد جاءت في قول المتنبي منقطعة ألا ترى أنه قال ( تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ) ثم قال ( ومن يعشق يلذ له الغرام ... ) فجاء بكلام مستأنف وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي وأضيف إليها كاف الخطاب فأزال ما بها من الضعف والركة وذاك أنه اشتكى النبي فجاءه جبريل عليه السلام ورقاه فقال بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك فانظر إلى السر في استعمال اللفظة الواحدة فإنه لما زيد على هذه اللفظة حرف واحد أصلحها وحسنها ومن ههنا تزاد الهاء في بعض المواضع كقوله تعالى ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابية ) ثم قال ( ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه ) فإن الأصل في هذه الألفاظ كتابي وحسابي ومالي وسلطاني فلما أضيفت الهاء إليها وتسمى هاء السكت أضافت إليها حسنا زائدا على حسنها وكستها لطافة ولباقة
وكذلك ورد في القرآن الكريم ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ) فلفظة لي أيضا مثل لفظة يؤذي وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها وإذا جاءت منقطعة لا تجيء لائقة كقول أبي الطيب أيضا
( تُمْسِي الأَمَانِيُّ صَرْعَى دُونَ مَبْلَغِهِ ... فَمَا يَقُولُ لِشَيْءٍ لَيْتَ ذلِكَ لِي )

وربما وقع بعض الجهال في هذا الموضع فأدخل فيه ما ليس منه كقول أبي الطيب
( مَا أَجْدَرَ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِي ... بأنْ تَقُولَ مَا لَهُ وَمَا لِي )
فإن لفظة لي ههنا قد وردت بعد ما وقبلها ما له ثم قال وما لي فجاء الكلام على نسق واحد ولو جاءت لفظة لي ههنا كما جاءت في البيت الأول لكانت منقطعة عن النظير والشبيه فكان يعلوها الضعف والركة وبين ورودها ههنا وورودها في البيت الأول فرق يحكم فيه الذوق السليم
وههنا من هذا النوع لفظة أخرى قد وردت في آية من القرآن الكريم وفي بيت من شعر الفرزدق فجاءت في القرآن حسنة وفي البيت الشعر غير حسنة وتلك اللفظة هي لفظة القمل أما الآية فقوله تعالى ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ) وأما البيت الشعر فقول الفرزدق
( من عزه احتجرت كليب عنده ... زرباً كأَنَّهُمُ لَدَيْهِ الْقُمَّلُ )
وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون هذا البيت من الشعر لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن الكلام ولم ينقطع الكلام عندها وجاءت في الشعر قافية أي آخرا انقطع الكلام عندها
وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم غصنا منه في بحر عميق لا قرار له

فمن ذلك هذه الآية المشار إليها فإنها قد تضمنت خمسة ألفاظ هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطوفان والجراد والدم فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها لفظة الطوفان والجراد وأخرت لفظة الدم آخرا وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة وينتهي إليه آخرا ثم إن لفظة الدم أحسن من لفظتي الطوفان والجراد وأخف في الاستعمال ومن أجل ذلك جيء بها آخرا ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية
وقد ذكر من تقدمني من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها واختلفوا في ذلك واستحسن أحدهم شيئا فخولف فيه وكذلك استقبح الآخر شيئا فخولف فيه ولو حققوا النظر ووقفوا على السر في اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف في شيء منها وقد أشرت إلى ذلك في الفصل الثامن من مقدمة كتابي هذا الذي يشتمل على ذكر الفصاحة وفي الوقوف عليه والإحاطة به غنى عن غيره لكن لا بد أن نذكر ههنا تفصيلا لما أجملناه هناك لأنا ذكرنا في ذلك الفصل أن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات لأنها مركبة من مخارج الحروف فما استلذه السمع منها فهو الحسن وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح وإذا ثبت ذلك فلا حاجة إلى ما ذكر من تلك الخصائص والهيآت التي أوردها علماء البيان في كتبهم لأنه إذا كان اللفظ لذيذا في السمع كان حسنا وإذا كان حسنا دخلت تلك الخصائص والهيآت في ضمن حسنه
وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك وقال كل الألفاظ حسن والواضع لم يضع إلا حسنا ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب ولا يجاوب بجواب بل يترك وشأنه كما قيل اتركوا الجاهل بجهله ولو ألقى الجعر في رحله وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة

كأنها كلوة وشعر قطط كأنه زبيبة وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خد أسيل وطرف كحيل ومبسم كأنما نظم من أقاح وطرة كأنها ليل على صباح فإذا كان بإنسان من سقم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين هذه الألفاظ وهذه ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام فإن هذا حاسة وهذا حاسة وقياس حاسة على حاسة مناسب
فإن عاند معاند في هذا وقال أغراض الناس مختلفة فيما يختارونه من هذه الأشياء وقد يعشق الإنسان صورة الزنجية التي ذممتها ويفضلها على صورة الرومية التي وصفتها
قلت في الجواب نحن لا نحكم على الشاذ النادر الخارج عن الاعتدال بل نحكم على الكثير الغالب وكذلك إذا رأينا شخصا يحب أكل الفحم مثلا أو أكل الجص والتراب ويختار ذلك على ملاذ الأطعمة فهل نستجيد هذه الشهوة أو نحكم عليه بأنه مريض قد فسدت معدته وهو يختار إلى علاج ومداواة
ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار وصوتا منكرا كصوت حمار وأن لها في الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم
ولا يسبق وهمك أيها المتأمل إلى قول القائل الذي غلب عليه غلظ الطبع وفجاجة الذهن بأن العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا فهذا دليل على أنه حسن بل ينبغي أن تعلم أن الذي نستحسنه نحن في زماننا هذا هو الذي كان عند العرب مستحسنا والذي نستقبحه هو الذي كان عندهم مستقبحا والاستعمال

ليس بدليل على الحسن فإنا نحن نستعمل الآن من الكلام ما ليس بحسن وإنما نستعمله لضرورة فليس استعمال الحسن بممكن في كل الأحوال وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه ومن لم يعرف صناعة النظم والنثر وما يجده صاحبها من الكلمة في صوغ الألفاظ واختيارها فإنه معذور في أن يقول ما قال
( لاَ يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلاَّ مَنْ يُكَابِدُهُ ... وَلاَ الصَّبَابَةَ إِلاَّ مَنْ يُعَانِيهَا )
ومع هذا فإن قول القائل بأن العرب كانت تستعمل من الألفاظ كذا وكذا وهذا دليل على أنه حسن قول فاسد لا يصدر إلا عن جاهل فإن استحسان الألفاظ واستقباحها لا يؤخذ بالتقليد من العرب لأنه شيء ليس للتقليد فيه مجال وإنما هو شيء له خصائص وهيآت وعلامات إذا وجدت علم حسنه من قبحه وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الفصاحة والبلاغة وأما الذي نقلد العرب فيه من الألفاظ فإنما هو الاستشهاد بأشعارها على ما ينقل من لغتها والأخذ بأقوالها في الأوضاع النحوية في رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه وجزم الشرط وأشباه ذلك وما عداه فلا
وحسن الألفاظ وقبحها ليس إضافيا إلى زيد دون عمرو أو إلى عمرو دون زيد لأنه وصف ذووي لا يتغير بالإضافة ألا ترى أن لفظة المزنة مثلا حسنة عند الناس كافة من العرب وغيرهم وهلم جرا لا يختلف أحد في حسنها وكذلك لفظة البعاق فإنها قبيحة عند الناس كافة من العرب وغيرهم فإذا استعملتها العرب لا يكون استعمالهم إياها مخرجا لها عن القبح ولا يلتفت إذن إلى استعمالهم إياها بل يعاب مستعملها ويغلظ له النكير حيث استعملها
وقد ذكر ابن سنان الخفاجي ما يتعلق باللفظة الواحدة من الأوصاف وقسمها إلى عدة أقسام كتباعد مخارج الحروف وأن تكون الكلمة جارية على العرف العربي غير شاذة وأن تكون مصغرة في موضع يعبر به عن شيء لطيف أو خفي أو ما جرى مجراه وألا تكون مبتذلة بين العامة وغير ذلك من الأوصاف

وفي الذي ذكره ما لا حاجة إليه أما تباعد المخارج فإن معظم اللغة العربية دائر عليه لأن الواضع قسمها في وضعة ثلاثة أقسام ثلاثيا ورباعيا وخماسيا والثلاثي من الألفاظ هو الأكثر ولا يوجد فيه ما يكره استعماله إلا الشاذ النادر وأما الرباعي فإنه وسط بين الثلاثي والخماسي في الكثرة عددا واستعمالا وأما الخماسي فإنه الأقل ولا يوحد فيه ما يستعمل إلا الشاذ النادر وعلى هذا التقدير فإن أكثر اللغة مستعمل على غير مكروه ولا تقتضي حكمة هذه اللغة الشريفة التي هي سيدة اللغات إلا ذلك ولهذا أسقط الواضع حروفا كثيرة في تأليف بعضها مع بعض استثقال واستكراه فلم يؤلف بين حروف الحلق كالحاء والخاء والعين وكذلك لم يؤلف بين الجيم والقاف ولا بين اللام والراء ولا بين الزاء والسين وكل هذا دليل على عنايته بتأليف المتباعد المخارج دون المتقارب ومن العجب أنه كان يخل بمثل هذا الأصل الكلي في تحسين اللغة وقد اعتنى بأمور أخرى جزئية كمماثلته بين حركات الفعل في الوجود وبين حركات المصدر في النطق كالغليان والضربان والنقدان والنزوان وغير ذلك مما جرى مجراه فإن حروفه جميعها متحركات وليس فيها حرف ساكن وهي مماثلة لحركات الفعل في الوجود ومن نظر في حكمة وضع هذه اللغة إلى هذه الدقائق التي هي كالأطراف والحواشي فكيف كان يخل بالأصل المعول عليه في تأليف الحروف بعضها إلى بعض على أنه لو أراد الناظم أو الناظر أن يعتبر مخارج الحروف عند استعمال الألفاظ وهل هي متباعدة أو متقاربة لطال الخطب في ذلك وعسر ولما كان الشاعر ينظم قصيدا ولا الكاتب ينشئ كتابا إلا في مدة طويلة تمضي عليها أيام وليال ذوات عدد كثير ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك فإن حاسة السمع هي الحاكمة في هذا المقام بحسن ما يحسن من الألفاظ وقبح ما يقبح
وسأضرب لك في هذا مثالا فأقول إذا سئلت عن لفظة من الألفاظ وقيل لك ما تقول في هذه اللفظة أحسنة هي أم قبيحة فإني لا أراك عند ذلك إلا تفتي بحسنها أو قبحها على الفور ولو كنت لا تفتي بذلك حتى تقول للسائل اصبر إلى

أن أعتبر مخارج حروفها ثم أفتيك بعد ذلك بما فيها من حسن أو قبح لصح لابن سنان ما ذهب إليه من جعل مخارج الحروف المتباعدة شرطا في اختيار الألفاظ وإنما شذ عنه الأصل في ذلك وهو أن الحسن من الألفاظ يكون متباعد المخارج فحسن الألفاظ إذن ليس معلوما من تباعد المخارج وإنما علم قبل العلم بتباعدها وكل هذا راجع إلى حاسة السمع فإذا استحسنت لفظا أو استقبحته وجد ما تستحسنه متباعد المخارج وما تستقبحه متقارب المخارج واستحسانها واستقباحها إنما هو قبل اعتبار المخارج لا بعده
على أن هذه قاعدة قد شذ عنها شواذ كثيرة لأنه قد يجيء في المتقارب المخارج ما هو حسن رائق
ألا ترى أن الجيم والشين والياء مخارج متقاربة وهي من وسط اللسان بينه وبين الحنك وتسمى ثلاثتها الشجرية وإذا تركب منها شيء من الألفاظ جاء حسنا رائقا فإن قيل جيش كانت لفظة محمودة أو قدمت الشين على الجيم فقيل شجي كانت أيضا لفظة محمودة
ومما هو أقرب مخرجا من ذلك الباء والميم والفاء وثلاثتها من الشفة وتسمى الشفهية فإذا نظم منها شيء من الألفاظ كان جميلا حسنا كقولنا فم فهذه اللفظة من حرفين هما الفاء والميم وكقولنا ذقته بفمي وهذه اللفظة مؤلفة من الثلاثة بجملتها وكلاهما حسن لا عيب فيه
وقد ورد من المتباعد المخارج شيء قبيح أيضا ولو كان التباعد سببا للحسن لما كان سببا للقبح إذ هما ضدان لا يجتمعان
فمن ذلك أنه يقال ملع إذا عدا فالميم من الشفة والعين من حروف الحلق واللام من وسط اللسان وكل ذلك متباعد ومع هذا فإن هذه اللفظة مكروهة الاستعمال ينبو عنها الذوق السليم ولا يستعملها من عنده معرفة بفن الفصاحة
وههنا نكتة غريبة وهو أنا إذا عكسنا حروف هذه اللفظة صارت علم وعند

ذلك تكون حسنة لا مزيد على حسنها وما ندري كيف صار القبح حسنا لأنه لم يتغير من مخارجها شيء وذاك أن اللام لم تزل وسطا والميم والعين يكتنفانها من جانبيها ولو كان مخارج الحروف معتبرا في الحسن والقبح لما تغيرت هذه اللفظة في ملع وعلم
فإن قيل إن إخراج الحروف من الحلق إلى الشفة أيسر من إدخالها من الشفة إلى الحلق فإن ذلك انحدار وهذا صعود والانحدار أسهل
فالجواب عن ذلك أني أقول لو استمر لك هذا لصح ما ذهبت إليه لكنا نرى من الألفاظ ما إذا عكسنا حروفه من الشفة إلى الحلق أو من وسط اللسان أو من آخره إلى الحلق لا يتغير كقولنا غلب فإن الغين من حروف الحلق واللام من وسط اللسان والباء من الشفة وإذا عكسنا ذلك صار بلغ وكلاهما حسن مليح وكذلك تقول حلم من الحلم وهو الأناة وإذا عكسنا هذه الكلمة صارت ملح على وزن فعل بفتح الفاء وضم العين وكلاهما أيضا حسن مليح وكذلك تقول عقر ورقع وعرف وفرع وحلف وفلح وقلم وملق وكلم وملك ولو شئت لأوردت من ذلك شيئا كثيرا تضيق عنه هذه الأوراق ولو كان ما ذكرته مطردا لكنا إذا عكسنا هذه الألفاظ صار حسنا قبحا وليس الأمر كذلك
وأما ما ذكره ابن سنان من جريان اللفظة على العرف العربي فليس ذلك مما يوجب لها حسنا ولا قبحا وإنما يقدح في معرفة مستعملها بما ينقله من الألفاظ فكيف يعد ذلك من جملة الأوصاف الحسنة
وأما تصغير اللفظة فيما يعبر به عن شيء لطيف أو خفي أو ما جرى مجراه فهذا مما لا حاجة إلى ذكره فإن المعنى يسوق إليه وليست معاني التصغير من الأشياء الغامضة التي يفتقر إلى التنبيه عليها فإنها مدونة في كتب النحو وما من كتاب نحو إلا والتصغير باب من أبوابه ومع هذا فإن صاحب هذه الصناعة مخير في ذلك إن شاء أن يورده بلفظ التصغير وإن شاء بمعناه كقول بعضهم
( لَوْ كَانَ يَخْفَى عَلَى الرَّحْمنِ خَافِيَةٌ ... مِنْ خَلْقِهِ خَفِيَتْ عَنْهُ بَنُو لَبَدِ )

فهل كان يمكن هذا الشاعر أن يصغر من هؤلاء القوم ويحقر من شأنهم بألفاظ التصغير ويجيء هكذا كما جاء بيته هذا فالوصية به إذن ملغاة لا حاجة إليها
وأما الأوصاف الباقية التي ذكرت فهي التي ينبغي أن ينبه عليها فمنها ألا تكون الكلمة وحشية وقد خفي الوحشي على جماعة من المنتمين إلى صناعة النظم والنثر وظنوه المستقبح من الألفاظ وليس كذلك بل الوحشي ينقسم قسمين أحدهما غريب حسن والآخر غريب قبيح وذلك أنه منسوب إلى اسم الوحش الذي يسكن القفار وليس بأنيس وكذلك الألفاظ التي لم تكن مأنوسة الاستعمال وليس من شرط الوحش أن يكون مستقبحا بل أن يكون نافرا لا يألف الإنس فتارة يكون حسنا وتارة يكون قبيحا وعلى هذا فإن أحد قسمي الوحشي وهو الغريب الحسن يختلف باختلاف النسب والإضافات وأما القسم الآخر من الوحشي الذي هو قبيح فإن الناس في استقباحه سواء ولا يختلف فيه عربي باد ولا قروي متحضر وأحسن الألفاظ ما كان مألوفا متداولا إلا لمكان حسنه وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الفصاحة فإن أرباب الخطابة والشعر نظروا إلى الألفاظ ونقبوا عنها ثم عدلوا إلى الأحسن منها فاستعملوه وتركوا ما سواه وهو أيضا يتفاوت في درجات حسنه فالألفاظ إذن تنقسم ثلاثة أقسام قسمان حسنان وقسم قبيح فالقسمان الحسنان أحدهما ما تداول استعماله الأول والآخر من الزمن القديم إلى زماننا هذا ولا يطلق عليه أنه وحشي والآخر ما تداول استعماله الأول دون الآخر ويختلف في استعماله بالنسبة إلى الزمن وأهله وهذا هو الذي لا يعاب استعماله عند العرب لأنه لم يكن عندهم وحشيا وهو عندنا وحشي وقد تضمن القرآن الكريم منه كلمات معدودة وهي التي تطلق عليها غريب القرآن وكذلك تضمن الحديث النبوي منه شيئا وهو الذي يطلق عليه غريب الحديث
وحضر عندي في بعض الأيام رجل متفلسف فجرى ذكر القرآن الكريم فأخذت في وصفه وذكر ما اشتملت عليه ألفاظه ومعانيه من الفصاحة والبلاغة فقال ذلك الرجل وأي فصاحة هناك وهو يقول ( تلك إذا قسمة ضيزى ) فهل في لفظة ضيزى من الحسن ما يوصف فقلت له اعلم أن لاستعمال الألفاظ

أسرارا لم تقف عليها أنت ولا أئمتك مثل ابن سينا والفارابي ولا من أضلهم مثل أرسطاليس وأفلاطون وهذه اللفظة التي أنكرتها في القرآن وهي لفظة ضيزى فإنها في موضعها لا يسد غيرها مسدها ألا ترى أن السورة كلها التي هي سورة النجم مسجوعة على حرف الياء فقال تعالى ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ) وكذلك إلى آخر السورة فلما ذكر الأصنام وقسمة الأولاد وما كان يزعمه الكفار قال ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى ) فجاءت اللفظة على الحرف المسجوع الذي جاءت السورة جميعها عليه وغيرها لا يسد مسدها في مكانها وإذا نزلنا معك أيها المعاند على ما تريد قلنا إن غير هذه اللفظة أحسن منها ولكنها في هذا الموضع لا ترد ملائمة لأخواتها ولا مناسبة لأنها تكون خارجة عن حرف السورة وسأبين ذلك فأقول إذا جئنا بلفظة في معنى هذه اللفظة قلنا قسمة جائرة أو ظالمة ولا شك أن جائرة أو ظالمة أحسن من ضيزى إلا أنا إذا نظمنا الكلام قلنا ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ظالمة لم يكن النظم كالنظم الأول وصار الكلام كالشيء المعوز الذي يحتاج إلى تمام وهذا لا يخفى على من له ذوق ومعرفة بنظم الكلام فلما سمع ذلك الرجل ما أوردته عليه ربا لسانه في فمه إفحاما ولم يكن عنده في ذلك شيء سوى العناد الذي مستنده تقليد بعض الزنادقة الذين يكفرون تشهيا ويقولون ما يقولونه جهلا وإذا حوققوا عليه ظهر عجزهم وقصورهم
وحيث انتهى القول إلى ههنا فإني أرجع إلى ما كنت بصدد ذكره فأقول
وأما القبيح من الألفاظ الذي يعاب استعماله فلا يسمى وحشيا فقط بل يسمى الوحشي الغليظ وسيأتي ذكره وإذا نظرنا إلى كتاب الله تعالى الذي هو أفصح الكلام وجدناه سهلا سلسا وما تضمنه من الكلمات الغريبة يسير جدا هذا وقد أنزل في زمن العرب العرباء وألفاظه كلها من أسهل الألفاظ وأقربها استعمالا وكفى به قدوة في هذا الباب قال النبي ( ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني ) يريد بذلك فاتحة الكتاب وإذا نظرنا إلى ما اشتملت عليه من الألفاظ وجدناها سهلة قريبة المأخذ يفهمها كل

أحد حتى صبيان المكاتب وعوام السوقة وإن لم يفهموا ما تحتها من أسرار الفصاحة والبلاغة فإن أحسن الكلام ما عرف الخاصة فضله وفهم العامة معناه وهكذا فلتكن الألفاظ المستعملة في سهولة فهمهما وقرب متناولها والمقتدي بألفاظ القرآن يكتفي بها عن غيرها من جميع الألفاظ المنثورة والمنظومة
وأما ما ورد من اللفظ الوحشي في الأخبار النبوية فمن جملة ذلك حديث طهفة بن أبي زهير النهدي وذاك أنه لما قدمت وفود العرب على النبي قام طهفة بن أبي زهير فقال أتيناك يا رسول الله من غوري تهامة على أكوار الميس ترتمي بنا العيس نستجلب الصبير ونستخلب الخبير ونستعضد البرير ونستخيل الرهام ونستخيل الجهام في أرض غائلة

النطاء غليظة الوطاءة قد نشف المدهن ويبس الجعثن وسقط الأملوج ومات العسلوج وهلك الهدي وفاد الودي برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والفتن وما يحدث الزمن لنا دعوة السلام وشريعة الإسلام ما طمى البحر وقام تعار ولنا نعم همل أغفال ما تبض ببلال

ووقير كثير الرسل قليل الرسل أصابتنا سنية حمراء مؤزلة ليس لها علل ولا نهل فقال رسول الله ( اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها وفرقها وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر وافجر له الثمد وبارك له في المال والولد ومن أقام الصلاة كان مسلما ومن آتى الزكاة كان محسنا ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك لا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة ولا تثتاقل عن الصلاة

وكتب معه كتابا إلى بني نهد من محمد رسول الله إلى بني نهد السلام على من آمن بالله ورسوله لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة ولكم الفارض والفريش وذو العنان الركوب والفلو الضبيس لا يمنع سرحكم ولا يعضد طلحكم ولا يحبس دركم ولا يؤكل أكلكم ما لم تضمروا الإمآق وتأكلوا الرباق من أقر بما في هذا الكتاب فله من رسول الله الوفاء بالعهد والذمة ومن أبى فعليه الربوة

وفصاحة رسول الله لا تقتضي استعمال هذه الألفاظ ولا تكاد توجد في كلامه إلا جوابا لمن يخاطبه بمثلها كهذا الحديث وما جرى مجراه على أنه قد كان في زمنه متداولا بين العرب ولكنه لم يستعمله إلا يسيرا لأنه أعلم بالفصيح والأفصح
وهذا الكلام هو الذي نعده نحن في زماننا وحشيا لعدم الاستعمال فلا تظن أن الوحشي من الألفاظ ما يكرهه سمعك ويثقل عليك النطق به وإنما هو الغريب الذي يقل استعماله فتارة يخف على سمعك ولا تجد به كراهة وتارة يثقل على سمعك وتجد منه الكراهة وذلك في اللفظ عيبان أحدهما أنه غريب الاستعمال والآخر أنه ثقيل على السمع كريه على الذوق وإذا كان اللفظ بهذه الصفة فلا مزيد على فظاظته وغلاظته وهو الذي يسمى الوحشي الغليظ ويسمى أيضا المتوعر وليس وراءه في القبح درجة أخرى ولا يستعمله إلا أجهل الناس ممن لم يخطر بباله معرفة هذا الفن أصلا
فإن قيل فما هذا النوع من الألفاظ
قلت قد ثبت لك أنه ما كرهه سمعك وثقل على لسانك النطق به وسأضرب لك في ذلك مثالا فمنه ما ورد لتأبط شرا في كتاب الحماسة
( يَظَلُّ بِمَوْمَاةِ وَيُمْسِي بِغَيْرِهَا ... جَحِيشاً وَيَعْرَوْرِي ظُهُورَ الْمَسَالِكِ )

فإن لفظة جحيش من الألفاظ المنكرة القبيحة ويا لله العجب أليس أنها بمعنى فريد وفريد لفظة حسنة رائقة ولو وضعت في هذا البيت موضع جحيش لما اختل شيء من وزنه فتأبط شرا ملوم من وجهين في هذا الموضع أحدهما أنه استعمل القبيح والآخر أنه كانت له مندوحة عن استعماله فلم يعدل عنها
ومما هو أقبح منها ما ورد لأبي تمام من قوله
( قَدْ قُلْتُ لَمّا اطْلَخَمَّ الأَمْرُ وَانْبَعَثَتْ ... عَشْوَاءُ تَالِيَةٌ غُبْساً دَهَارِيسَا )
فلفظة اطلخم من الألفاظ المنكرة التي جمعت الوصفين القبيحين في أنها غريبة وأنها غليظة في السمع كريهة على الذوق وكذلك لفظة دهاريس أيضا وعلى هذا ورد قوله من أبيات يصف فرسا من جملتها
( نِعْمَ مَتَاعُ الدُّنْيَا حَبَاكَ بِهِ ... أرْوَعُ لاَ حَيْدَرٌ وَلاَ جِبْسُ )
فلفظة حيدر غليظة وأغلظ منها قول أبي الطيب المتنبي
( جَفَخَتْ وَهُمْ لاَ يَجْفَخُونَ بِهَا بِهِمْ ... شِيَمٌ عَلَى الْحَسَبِ الأَغَرِّ دَلاَئِلُ )

فإن لفظة جفخ مرة الطعم وإذا مرت على السمع أقشعر منها وأبو الطيب في استعمالها كاستعمال تأبط شرا لفظة جحيش فإن تأبط شرا كانت له مندوحة عن استعمال تلك اللفظة كما أشرنا إليها فيما تقدم وكذلك أبو الطيب في استعمال هذه اللفظة التي هي جفخت فإن معناها فخرت والجفخ الفخر يقال جفخ فلان إذا فخر ولو استعمل عوضا عن جفخت فخرت لاستقام وزن البيت وحظي في استعماله بالأحسن وما أعلم كيف يذهب هذا وأمثاله على مثل هؤلاء الفحول من الشعراء
وهذا الذي ذكرته وما يجري مجراه من الألفاظ هو الوحشي اللفظ الغليظ الذي ليس له ما يدانيه في قبحه وكراهته وهذه الأمثلة دليل على ما أوردناه والعرب إذن لا تلام على استعمال الغريب الحسن من الألفاظ وإنما تلام على الغريب القبيح وأما الحضري فإنه يلام على استعمال القسمين معا وهو في أحدهما أشد ملامة من الآخر
على أن هذا الموضع يحتاج إلى قيد آخر وذلك شيء استخرجته أنا دون غيري فإن وجدت الغريب الحسن يسوغ استعماله في الشعر ولا يسوغ في الخطب والمكاتبات وهذا ينكره من يسمعه حتى ينتهي إلى ما أوردته من الأمثلة ولربما أنكره بعد ذلك إما عنادا وإما جهلا لعدم الذوق السليم عنده
فمن ذلك قول الفرزدق
( وَلَوْلاَ حَيَاءٌ زِدْتُ رَأْسَكَ شَجَّةً ... إِذَا سُبِرَتْ ظَلَّتْ جَوَانِبُهَا تَغْلِي )
( شَرَنْبَثَةٌ شَمْطَاءُ مَنْ يَرْتَمِي بِهَا ... تَشِبْهُ وَلَوْ بَيْنَ الخُمَاسِيِّ وَالطِّفْلِ )

فقوله شرنبثة من الألفاظ الغريبة التي يسوغ استعمالها في الشعر وهي ههنا غير مستكرهة إلا أنها لو وردت في كلام منثور من كتاب أو خطبة لعيبت على مستعملها
وكذلك وردت لفظة مشمخر فإن بشرا قد استعملها في أبياته التي يصف فيها لقاءه الأسد فقال
( وَأطْلَقْتُ الْمُهَنِّدَ عَنْ يَمِيني ... فَقَدَّ لَهُ مِنَ الأَضْلاَعِ عَشْرَا )
( فَخَرَّ مُضَرَّجاً بِدَمٍ كَأَنِّي ... هَدَمْتُ بِهِ بِنَاءً مُشْمَخِرَّا )
وعلى هذا ورد قول البحتري في قصيدته التي يصف فيها إيوان كسرى فقال
( مُشَمَخِرٌّ تَعْلُولَهُ شُرُفَاتٌ ... رُفِعَتْ فهي رُءُوسِ رَضْوَى وَقُدْسِ )
فإن لفظة مشمخر لا يحسن استعمالها في الخطب والمكاتبات ولا بأس بها ههنا في الشعر وقد وردت في خطب الشيخ الخطيب ابن نباتة كقوله في خطبة يذكر فيها أهوال يوم القيامة فقال اقمطر وبالها واشمخر نكالها فما طابت ولا ساغت
ومن هذا الأسلوب لفظة الكنهور في وصف السحاب كقول أبي الطيب
( يَا لَيْتَ بَاكيَةً شَجَانِي دَمْعُهَا ... نَظَرَتْ إِلَيْكَ كَمَا نَظَرْتُ فَتَعْذِرَا )

( وَتَرَى الْفَضِيلَةَ لاَ تَرُدُّ فَضِيلَةً ... الشَّمْسَ تَشْرُقُ والسَّحَابَ كَنَهْوَرَا )
فلفظة الكنهور لا تعاب نظما وتعاب نثرا وكذلك يجري الأمر في لفظة العرمس وهي اسم الناقة الشديدة فإن هذه اللفظة يسوغ استعمالها في الشعر ولا يعاب مستعملها كقول أبي الطيب أيضا
( وَمَهمَهٍ جُبْتُهُ عَلَى قَدَمِي ... تَعْجِزُ عَنْهُ الْعَرَامِسُ الذُّلُلُ )
فإنه جمع هذه اللفظة ولا بأس بها ولو استعملت في الكلام المنثور لما طابت ولا ساغت وقد جاءت موحدة في شعر أبي تمام كقوله
( هِيَ الْعَرمسُ الوَجْنَاءُ وابنُ ملمةٍ ... وَجَأْشٌ عَلَى ما يُحْدِثُ الدَّهرُ خافِضُ )
وكذلك ورد قوله أيضا
( يَا مُوضِعَ الشَّدَنِيةِ الوَجْنَاءِ ... )

فإن الشدنية لا تعاب شعرا وتعاب لو وردت في كتاب أو خطبة وهكذا يجري الحكم في أمثال هذه الألفاظ المشار إليها
وعلى هذا فاعلم أن كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنثور من الألفاظ يسوغ استعماله في الكلام المنظوم وليس كل ما يسوغ استعماله في الكلام المنظوم يسوغ استعماله في الكلام المنثور وذلك شيء استنبطته واطلعت عليه لكثرة ممارستي لهذا الفن ولأن الذوق الذي عندي دلني عليه فمن شاء فليقلدني فيه وإلا فليدمن النظر حتى يطلع على ما إطلعت عليه والأذهان في مثل هذا المقام تتفاوت
وقد رأيت جماعة من مدعي هذه الصناعة يعتقدون أن الكلام الفصيح هو الذي يعز فهمه ويبعد متناوله وإذا رأوا كلاما وحشيا غامض الألفاظ يعجبون به ويصفونه بالفصاحة وهو بالضد من ذلك لأن الفصاحة هي الظهور والبيان لا الغموض والخفاء
وسأبين لك ما تعتمد عليه في هذا الموضع فأقول
الألفاظ تنقسم في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة ولكل منهما موضع يحس استعماله فيه
فالجزل منها يستعمل في وصف مواقف الحروب وفي قوارع التهديد والتخويف وأشباه ذلك
وأما الرقيق منها فإنه يستعمل في وصف الأشواق وذكر أيام البعاد وفي استجلاب المودات وملاينات الاستعطاف وأشابه ذلك
ولست أعني بالجزل من الألفاظ أن يكون وحشيا متوعرا عليه عنجهية البداوة بل أعني بالجزل أن يكون متينا على عذوبته في الفم ولذاذته في السمع وكذلك لست أعني بالرقيق أن يكون ركيكا سفسفا وإنما هو اللطيف الرقيق الحاشية الناعم الملمس كقول أبي تمام

( نَاعِمَات الأَطْرَافِ لَوْ أَنَّها تُلْبَسُ أَغْنَتْ عَنِ الملآءِ الرِّقَاقِ ... )
وسأضرب لك مثالا للجزل من الألفاظ والرقيق فأقول
انظر إلى قوارع القرآن عند ذكر الحساب والعذاب والميزان والصراط وعند ذكر الموت ومفارقة الدنيا وما جرى هذا المجرى فإنك لا ترى شيئا من ذلك وحشي الألفاظ ولا متوعرا ثم انظر إلى ذكر الرحمة والرأفة والمغفرة والملاطفات في خطاب الأنبياء وخطاب المنيبين والتائبين من العباد وما جرى هذا المجرى فإنك لا ترى شيئا من ذلك ضعيف الألفاظ ولا سفسفا
فمثال الأول وهو الجزل من الألفاظ قوله تعالى ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جنهم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كملة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهن خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة رمزا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين )

فتأمل هذه الآيات المضمنة ذكر الحشر على تفاصيل أحواله وذكر النار والجنة
وانظر هل فيها لفظة إلا وهي مسهلة مستعذبة على ما بها من الجزالة
وكذلك ورد قوله تعالى ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون )
وأما مثال الثاني وهو الرقيق الألفاظ فقوله تعالى في مخاطبة النبي ( والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ) إلى آخر السورة وكذلك قوله تعالى في ترغيب المسألة ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان )
وهكذا ترى سبيل القرآن الكريم في كلا هذين الحالين من الجزالة والرقة وكذلك كلام العرب الأول في الزمن القديم مما ورد عنها نثرا ويكفي من ذلك كلام قبيصة بن نعيم لما قدم على امرئ القيس في أشياخ بني أسد يسألونه العفو عن دم أبيه فقال إنك في المحل والقدر من المعرفة بتصرف الدهر وما تحدثه أيامه وتنتقل به أحواله بحيث لا تحتاج لا تذكير من واعظ ولا تبصير من مجرب ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك وكرم أصلك في العرب محتد يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن الهفوة ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح

ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها وقد كان الذي كان من الخطب الجليل الذي عمت رزيته نزارا واليمن ولم تخصص بذلك كندة دوننا للشرف البارع الذي كان لحجر ولو كان يفدي هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا بها على مثله ولكنه مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه ولا يلحق أقصاه أدناه فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا وأعلاها في بناء المكرمات صوتا فقدناه إليك بنسعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته فنقول رجل امتحن بها لك عزيز فلم يستل سخيمته إلا بمكنته من الانتقام أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها لم يرددها تسليط الإحن على البرآء وإما أن وادعتنا إلى أن تضع الحوال فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات قال فبكى ساعة ثم رفع رأسه فقال لقد علمت العرب أنه لا كفء لحجر في دم وإني لن أعتاض به جملا ولا ناقة فأكتسب به سبة الأبد وفت العضد وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها ولن أكون لعطبها سببا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقا وفوق الأسنة علقا
( إِذَا جَالَتِ الْحَرْبُ فِي مَأْزِقٍ ... تُصَافِحُ فِيهِ الْمَنَايَا النُّفُوسَا )
أتقيمون أم تنصرفون قالوا بل ننصرف بأسوأ الاختيار وأبلى الاجترار بمكروه وأذية وحرب وبلية ثم نهضوا عنه وقبيصة يتمثل

( لَعَلَّكَ أنْ تَسْتَوخِم الْوِرْدَ إِنْ غَدَتْ ... كَتَائِبُنَا فِي مَأْزِقِ الحرب تمطر )
فقال امرؤ القيس لا والله ولكن أستعذبه فرويدا ينفرج لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير ولقد كان ذكر غير هذا بي أولى إذ كنت نازلا بربعي ولكنك قلت فأوجبت فقال قبيصة ما نتوقع فوق المعاتبة والإعتاب فقال امرؤ القيس هو ذاك
فلتنظر إلى هذا الكلام من الرجلين قبيصة وامرئ القيس حتى يدع المتعمقون تعمقهم في استعمال الوحشي من الألفاظ فإن هذا الكلام قد كان في الزمن القديم قبل الإسلام بما شاء الله وكذلك كلام كل فصيح من العرب مشهور وما عداه فليس بشيء وهذا المشار إليه ههنا هو جزل كلامهم وعلى ما تراه من السلاسة والعذوبة
وإذا تصفحت أشعارهم أيضا وجدت الوحشي من الألفاظ قليلا بالنسبة إلى المسلسل في الفم والسمع ألا ترى إلى هذه الأبيات الواردة للسموأل بن عاديا وهي
( إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللؤْمِ عِرْضُهُ ... فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ )
( وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ )
( تُعَيِّرُنَا أنّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا ... فَقُلْتُ لَهَا إنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ )
( وَمَا ضَرَّنَا أنّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا ... عَزِيزٌ وَجَارُ الأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ )
( يُقَرِّبُ حُبَّ الْمَوْتِ آجَالَنَا لَنَا ... وَتَكْرَهُهُ آجَالُهُمْ فَتَطُولُ )
( وَمَا مَاتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أنْفِهِ ... وَلاَ طُلَّ مِنَّا حَيْثُ كَانَ قَتِيلُ )

عَلَوْنَا إلَى خَيْرِ الظُّهُورِ وَحَطَّنَا ... لِوَقْتٍ إلَى خَيْرِ الْبُطُونِ نُزُولُ )
( فَنَحْنُ كماءِ المُزْنِ ما في نِصَابِنَا ... كَهَامٌ وَلاَ فِينَا يُعدُّ بَخِيلُ )
( إذَا سَيِّدٌ مِنَّا خَلاَ قَامَ سَيِّدٌ ... قَؤُولٌ لِمَا قالَ الْكِرَامُ فَعُولُ )
( وأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ في عَدُوِّنَا ... لها غُرَرٌ مَشْهُورَةٌ وَحُجُولُ )
( وَأَسْيَافُنا في كُلِّ غَرْبٍ وَمَشْرِقٍ ... بِهَا مِنْ قِرَاعِ الدَّارِعِينَ فُلُولُ )
( مُعَوَّدَةٌ ألاَّ يُسَلَّ نِصَالُهَا ... فَتُغْمَدَ حَتَّى يُسْتَباحَ قَبِيلُ )
فإذا نظرنا إلى ما تضمنته من الجزالة خلناها زبرا من الحديد وهي مع ذلك سهلة مستعذبة غير فظة ولا غليظة
وكذلك قد ورد للعرب في جانب الرقة من الأشعار ما يكاد يذوب لرقته كقول عروة بن أذينة
( إنَّ الَّتِي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّهَا ... خُلِقَتْ هَوَاكَ كَمَا خُلِقْتَ هَوًى لَهَا )
( بَيْضَاءُ بَاكَرَهَا النَّعِيمُ فَصَاغَها ... بِلَبَاقَةٍ فَأدَقَّها وَأَجَلَّها )
( حَجَبَتْ تَحِيَّتَها فَقُلْتُ لِصَاحِبي ... مَا كَانَ أَكْثَرَها لَنَا وَأَقَلَّها )
( وَإذَا وَجَدْتُ لها وَسَاوِسَ سَلْوَةٍ ... شَفَعَ الضَّمِيرُ إلى الْفُؤَادِ فَسَلَّها )
وكذلك ورد قول الآخر
( أَقُولُ لِصَاحِبي وَالْعَيسُ تَهْوِي ... بِنَا بَيْنَ المنِيفَةِ فالضِّمَارِ )
( تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ ... فَمَا بَعْدَ الْعَشِيَّةِ مِنْ عَرَارِ )
( أَلاَ يَا حَبَّذَا نَفَحَاتُ نَجْدٍ ... وَرَيَّا رَوْضِهِ غِبَّ الْقِطَارِ )

( وَأَهُلَكَ إِذْ يَحُلُّ الحَيُّ نجْداً ... وَأَنْتَ عَلَى زَمَانِكَ غَيْرُ زَارِ )
( شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعَرْنَا ... بِأنْصَافٍ لَهُنَّ وَلاَ سِرَارِ )
( فأمَّا لَيْلُهُنَّ فَخَيْرُ لَيْلٍ ... وَأَطْيَبُ مَا يَكُونُ مِنَ النَّهَارِ )
ومما ترقص الأسماع له ويرن على صفحات القلوب قول يزيد بن الطثرية في محبوبته من جرم
( بِنَفْسِيَ مَنْ لَوْ مَرَّ بَرْدُ بَنانِهِ ... عَلَى كَبِدِي كانَتْ شِفَاءً أَنَامِلُهْ )
( وَمَنْ هَابَنِي في كلِّ شَيْءٍ وَهِبْتُهُ ... فَلاَ هُوَ يُعْطِينِي وَلاَ أَنَا سَائِلُهْ )
وإذا كان هذا قول ساكن في الفلاة لا يرى إلا شيحة أو قيصومة ولا يأكل إلا ضبا أو يربوعا فما بال قوم سكنوا الحضر ووجدوا رقة العيس يتعاطون وحشي الألفاظ وشظف العبارات ولا يخلد إلى ذلك إلا إما جاهل بأسرار الفصاحة وإما عاجز عن سلوك طريقها فإن كل أحد ممن شدا شيئا من علم الأدب يمكنه أن يأتي بالوحشي من الكلام وذاك أنه يلتقطه من كتب اللغة أو يتلقفه من أربابها وأما الفصيح المتصف بصفة الملاحة فإنه لا يقدر عليه ولو قدر عليه لما علم أين يضع يده في تأليفه وسبكه
فإن مارى في ذلك ممار فلينظر إلى أشعار علماء الأدب ممن كان مشارا إليه حتى يعلم صحة ما ذكرته
هذا ابن دريد قد قيل إنه أشعر علماء الأدب وإذا نظرت إلى شعره وجدته بالنسبة إلى شعر الشعراء المجيدين منحطا مع أن أولئك الشعراء لم يعرفوا من علم الأدب عشر معشار من علمه
هذا العباس بن الأحنف قد كان من أوائل الشعراء المجيدين وشعره كمر نسيم على عذبات أغصان وكلؤلؤات طل على طرر ريحان وليس فيه لفظة واحدة غريبة يحتاج إلى استخراجها من كتب اللغة فمن ذلك قوله
( وَإنِّي لَيُرْضِينِي قَلِيلُ نَوَالِكُمْ ... وَإِنْ كَانَ لاَ أَرْضَى لَكُمْ بِقَلِيلِ )

( بِحُرْمَةِ مَا قَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُم ... مَنَ الْوُدِّ إلاّ عُدْتُمُ بِجَمِيلِ )
وهكذا ورد قوله في فوز الذي التي كان يشبب بها في شعره
( يَا فَوْزُ يَا مُنْيَةَ عَبَّاسِ ... قَلْبي يُفَدِّي قَلْبَكِ الْقَاسِي )
( أَسَأْتُ إِذْ أَحْسَنْتُ ظَنِّي بِكْمْ ... وَالْحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ بالنَّاسِ )
( يُقْلِقُنِي شَوْقِي فَآتِيكُمُ ... وَالْقَلْبُ مَمْلٌوءٌ مِنَ الْيَأسِ )
وهل أعذب من هذه الأبيات وأعلق بالخاطر وأسرى في السمع ولمثلها تخف رواجح الأوزان وعلى مثلها تسهر الأجفان وعن مثلها تتأخر السوابق عند الرهان ولم أجرها بلساني يوما من الأيام إلا ذكرت قول أبي الطيب المتنبي
( إذَا شَاءَ أنْ يَلْهُو بِلِحْيَةِ أحْمَقٍ ... أَرَاهُ غُبَارِي ثُمَّ قَالَ لَهُ الْحَقِ )
ومن ذلك يستطيع أن يسلك هذه الطريق التي هي سهلة وعرة قريبة بعيدة
وهذا أبو العتاهية كان في عزة الدولة العباسية وشعراء العرب إذ ذاك موجودون كثيرا وكانت مدائحه في المهدي بن المنصور وإذا تأملت شعره وجدته كالماء الجاري رقة ألفاظ ولطافة سبك وليس بركيك ولا واه
وكذلك أبو نواس وبهذا قدم على شعراء عصره وناهيك بعصره وما جمعه من فحول الشعراء ويكفي منهم مسلم بن الوليد الذي كان فارس الشعر وله الأسلوب الغريب العجيب غير أنه كان يتعنجه في أكثر ألفاظه
ويحكى أن أبا نواس جلس يوما إلى بعض التجار ببغداد هو وجماعة من الشعراء فاستسقى ماء فلما شرب قال
( عَذُبَ المَاءُ وَطَابَا ... )
ثم قال أجيزوه فأخذ أولئك الشعراء يترددون في إجازته وإذا هم بأبي العتاهية فقال ما شأنكم مجتمعين فقالوا هو كيت وكيت وقد قال أبو نواس
( عَذُبَ المَاءُ وَطَابَا ... )

فقال أبو العتاهية
( حَبَّذَا الْمَاءُ شَرَابَا ... )
فعجبوا بقوله على الفور من غير تلبث
وكل شعر أبي العتاهية كذلك سهل الألفاظ وسأورد منه ههنا شيئا يستدل به على سلاسة طبعه وترويق خاطره
فمن ذلك قصيدته التي يمدح فيها المهدي ويشبب فيها بجاريته عتب
( أَلاَ مَا لِسَيِّدَتِي مَالها ... تُدِلُّ فأحْمِلُ إِدْلاَلها )
( أَلا إنَّ جَارِيَةً لِلإِمَامِ ... قَدْ سَكَنَ الحُسْنُ سِرْبَالَهَا )
( لَقَدْ أتْعَبَ اللهُ قَلْبِي بِهَا ... وَأتْعَبَ فِي اللَّوْمِ عُذَّالَهَا )
( كأَن بِعَيْنِيَّ فِي حَيْثما ... سَلَكْتُ مِنَ الأَرْضِ تَمْثَالَهَا )
فلما وصل إلى المديح قال من جملته
( أَتَتْهُ الْخِلاَفَةُ مُنْقَادَةً ... إلَيْهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا )
( فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلاَّ لَهُ ... وَلَمْ يَكُ يَصْلُحُ إِلاَّ لَهَا )
( وَلَوْ رَامَها أحَدٌ غَيْرُهُ ... لَزُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا )
( وَلَوْ لَمْ تُطِعْهُ نياتُ الْقُلُوبِ ... لَمَا قَبِلَ اللهُ أَعْمَالَهَا )
ويحكى أن بشارا كان شاهدا عند إنشاد أبي العتاهية هذه الأبيات فلما سمع المديح قال انظروا إلى أمير المؤمنين هل طار عن أعواده يريد هل زال عن سريره طربا بهذا المديح ولعمري إن الأمر كما قال بشار وخير القول ما أسكر السامع حتى ينقله عن حالته سواء كان في مديح أو غيره وقد أشرت إلى ذلك فيما يأتي من هذا الكتاب عند ذكر الاستعارة فليؤخذ من هناك
واعلم أن هذه الأبيات المشار إليها ههنا من رقيق الشعر غزلا ومديحا وقد أذعن لمديحها الشعراء من أهل ذلك العصر ومع هذا فإنك تراها من السلاسه

واللطافة على أقصى الغايات وهذا هو الكلام الذي يسمى السهل الممتنع فتراه يطعمك ثم إذا حاولت مماثلته راغ عنك كما يروغ الثعلب وهكذا ينبغي أن يكون من خاض في كتابة أو شعر فإن خير الكلام ما دخل الأذن بغير إذن
وأما البداوة والعنجهية في الألفاظ فتلك أمة قد خلت ومع أنها قد خلت وكانت في زمن العرب العاربة فإنها قد عيبت على مستعملها في ذلك الوقت فكيف الآن وقد غلب على الناس رقة الحضر
وبعد هذا فاعلم أن الألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار والألفاظ الرقيقة تتخيل كأشخاص ذي دماثة ولين أخلاق ولطافة مزاج ولهذا ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم وتأهبوا للطراد وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهم غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي وإذا أنعمت نظرك فيما ذكرته ههنا وجدتني قد دللتك على الطريق وضربت لك أمثالا مناسبة
واعلم أنه يجب على الناظم والناثر أن يجتنبا ما يضيق به مجال الكلام في بعض الحروف كالثاء والذال والخاء والشين والصاد والطاء والظاء والغين فإن في الحروف الباقية مندوحة عن استعمال ما لا يحسن من هذه الأحرف المشار إليها والناظم في ذلك أشد ملامة لأنه يتعرض لأن ينظم قصيدة ذات أبيات متعددة فيأتي في أكثرها بالبشع الكريه الذي يمجه السمع لعدم استعماله كما فعل أبو تمام في قصيدته الثائية التي مطلعها
( قِفْ بالطُّلُولِ الدَّارِسَاتِ عُلاَثَا ... )

وكما فعل أبو الطيب المتنبي في قصيدته الشينية التي مطلعها
( مَبِيتِي مِنْ دِمَشْقَ عَلَى فِرَاشِ ... )
وكما فعل ابن هانئ المغربي في قصيدته الخائية التي مطلعها
( سَرَى وَجَنَاحُ اللَّيْلِ أقْتَمُ أفْتَخُ ... )
والناظم لا يعاب إذا لم ينظم هذه الأحرف في شعره بل يعاب إذا نظمها وجاءت كريهة مستبشعة وأما الناثر فإنه أقرب حالا من الناظم لأن غاية ما يأتي به سجعتان أو ثلاث أو أربع على حرف من هذه الأحرف وما يعدم في ذلك ما يروق إذا كان بهذه العدة اليسيرة فإن كلفت أيها الشاعر أن تنظم شيئا على هذه الحروف فقل هذه الحروف هي مقاتل الفصاحة وعذري واضح في تركها فإن واضع اللغة لم يضع عليها ألفاظا تعذب في الفم ولا تلذ في السمع والذي هو بهذه الصفة منها فإنما هو قليل جدا ولا يصاغ منه إلا مقاطيع أبيات من الشعر وأما القصائد المقصدة فلا تصاغ منه وإن صيغت جاء أكثرها بشعا كريها على أن هذه الحروف متفاوتة في كراهة الاستعمال وأشدها كراهية أربعة أحرف وهي الخاء والصاد والظاء والغين وأما الثاء والذال والشين والطاء فإن الأمر فيهن أقرب حالا وهذا موضع ينبغي لصاحب الصناعة أن ينعم نظره فيه وفيما أشرنا إليه كفاية للمتعلم فليعرفه وليقف عنده

ومن أوصاف الكلمة ألا تكون مبتذلة بين العامة وذلك ينقسم قسمين
الأول ما كان من الألفاظ دالا على معنى وضع له في أصل اللغة فغيرته العامة وجعلته دالا على معنى آخر وهو ضربان
الأول ما يكره ذكره كقول أبي الطيب
( أَذَاقَ الْغَوَانِي حُسْنُهُ مَا أذَقْنَنِي ... وَعَفّ فَجَازَاهُنَّ عَنِّيَ بِالصَّرْمِ )
فإن لفظة الصرم في وضع اللغة هو القطع يقال صرمه إذا قطعه فغيرتها العامة وجعلتها دالة على المحل المخصوص من الحيوان دون غيره فأبدلوا السين صادا ومن أجل ذلك استكره استعمال هذه اللفظة وما جرى مجراها لكن المكروه منها ما يستعمل على صيغة الاسمية كما جاءت في هذا البيت وأما إذا استعملت على صيغة الفعل كقولنا صرمة وصرمته وتصرمه فإنها لا تكون كريهة لأن استعمال العامة لا يدخل في ذلك وهذا الضرب المشار إليه لا يعاب البدوي على استعماله كما يعاب المحتضر لأن البدوي لم تتغير الألفاظ في زمنه ولا تصرفت العامة فيها كما تصرفت في زمن المحتضرة من الشعراء فمن أجل ذلك عيب استعمال لفظة الصرم وما جرى مجراها على الشاعر المحتضر ولم يعب على الشاعر المتبدي ألا ترى إلى قول أبي صخر الهذلي
( قَدْ كَانَ صُرْمٌ فِي الْمَمَاتِ لَنَا ... فَعَجِلْتِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِالصُّرْمِ )

فإن هذا لا يعاب على صخر كما عيب على المتنبي قوله في البيت المقدم ذكره
وقد صنف الشيخ أبو منصور بن أحمد البغدادي المعروف بابن الجواليقي كتابا في هذا الفن ووسمه بإصلاح ما تغلط فيه العامة فمنه ما هذا سبيله وهو الذي أنكره استعماله لكراهته ولأنه مما لم ينقل عن العرب فهذان عيبان
وأما الضرب الثاني وهو أنه وضع في أصل اللغة لمعنى فجعلته العامة دالا على غيره إلا أنه ليس بمستقبح ولا مستكره وذلك كتسميتهم الإنسان ظريفا إذا كان دمث الأخلاق حسن الصورة أو اللباس أو ما هذا سبيله والظرف في أصل اللغة مختص بالنطق فقط
وقد قيل في صفات خلق الإنسان ما أذكره ههنا وهو الصباحة في الوجه الوضاءة في البشرة الجمال في الأنف الحلاوة في العينين الملاحة في الفم الظرف في اللسان الرشاقة في القد اللباقة في الشمائل كمال الحسن في الشعر فالظرف إنما يتعلق بالنطق خاصة فغيرته العامة عن بابه
وممن غلط في هذا الموضع أبو نواس حيث قال
( اخْتَصَمَ الْجُودُ وَالْجَمَالُ ... فَيكَ فَصَارَا إِلَى جِدالِ )
( فَقَالَ هذَا يَمِينُهُ لِي ... لِلْعُرْفِ وَالْبَذْلِ وَالنَّوَالِ )
( وَقَالَ هذَاكَ وَجْهُهُ لِي ... لِلظَّرْفِ وَالحُسْنِ وَالْكَمَالِ )
( فَافْتَرَقا فِيكَ عَنْ تَرَاضٍ ... كِلاَهُمَا صادِقُ المَقَالِ )
وكذلك غلط أبو تمام فقال

( لَكَ هَضْبَةُ الْحِلْمِ الَّتِي لَوْ وَازَنَتْ ... أَجَأً إِذَنْ ثَقُلَتْ وَكَانَ خَفِيفَا )
( وَحَلاَوَةُ الشِّيَمِ الَّتِي لَوْ مَازَجَتْ ... خُلُقَ الزَّمَانِ الْفَدْمِ عادَ ظَرِيفَا )
فأبو نواس غلط ههنا في أنه وصف الوجه بالظرف وهو من صفات النطق وأبو تمام غلط في أنه وصف الخلق بالظرف وهو من صفات النطق أيضا إلا أن هذا غلط لا يوجب في هذه اللفظة قبحا لكنه جهل بمعرفة أصلها في وضع اللغة
القسم الثاني مما ابتذلته العامة وهو الذي لم تغيره عن وصفه وإنما أنكر استعماله لأنه مبتذل بينهم لا لأنه مستقبح ولا لأنه مخالف لما وضع له وفي هذا القسم نظر عندي لأنه إن كان عبارة عما يكثر تداوله بين العامة فإن من الكثير المتداول بينهم ألفاظا فصيحة كالسماء والأرض والنار والماء والحجر والطين وأشباه ذلك وقد نطق بها القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه وجاءت في كلام الفصحاء نظما ونثرا والذي ترجح في نظري أن المراد بالمبتذل من هذا القسم إنما هو الألفاظ السخيفة الضعيفة سواء تداولتها العامة أو الخاصة
فمما جاء منه قول أبي الطيب المتنبي
( وَمَلْمُومَةٌ سَيْفِيَّةٌ رَبَعِيَّةٌ ... يَصِيحُ الحَصَا فِيها صِياحَ اللَّقَالِق )
فإن لفظة اللقالق مبتذلة بين العامة جدا وكذلك قوله

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُوزُ إِلَيْهِمْ ... شُعَرَاءٌ كَأَنَّهَا الْخَازِبَازِ )
وهذا البيت من مضحكات الأشعار وهو من جملة البرسام الذي ذكره في شعره حيث قال
( إِنَّ بَعْضاً مِنَ القَرِيضِ هُرَاءٌ ... لَيْسَ شَيْئاً وَبَعْضَهُ أَحْكَامُ )
( فِيهِ مَا يَجْلُبُ الْبَرَاعَةُ وَالْفَهْمُ وَفِيهَ مَا يَجْلُبُ الْبِرْسَامُ ... )
ومثل هذه الألفاظ إذا وردت في الكلام وضعت من قدره ولو كان معنى شريفا
وهذا القسم من الألفاظ المبتذلة لا يكاد يخلو منه شعر شاعر لكن منهم المقل ومنهم المكثر حتى إن العاربة قد استعملت هذا إلا أنه في أشعارها أقل
فمن ذلك قول النابغة الذبياني في قصيدته التي أولها
( مِنْ آلِ مَيَّةَ رَائِحٌ أوْ مُغْتَدِي ... )
( أَوْ دُمْيَةٍ في مَرْمَرٍ مَرْفُوعَةٍ ... بُنِيَتْ بِآجُرِّ يُشَادُ بِقَرْمَدِ )
فلفظة آجر مبتذلة جدا وإن شئت أن تعلم شيئا من سر الفصاحة التي تضمنها القرآن فانظر إلى هذا الموضع فإنه لما جيء فيه بذكر الآجر لم يذكر بلفظه ولا بلفظ القرمد أيضا ولا بلفظ الطوب الذي هو لغة أهل مصر فإن هذه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5