كتاب : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر
المؤلف : أبي الفتح ضياء الدين نصرالله بن محمد بن عبدالكريم الموصلي

فإن قيل وكذلك أيضا إذا لم تقدر أداة التشبيه في الاستعارة استحال المعنى لأنا إذا قلنا عجل القضيب وأبطأ الدعص فما لم نقدر فيه أداة التشبيه وإلا استحال المعنى
قلت في الجواب عن ذلك تقدير أداة التشبيه لا بد منه في الموضعين لكن يحسن إظهارها في التشبيه دون الاستعارة وجملة الأمر أنا نرى أداة التشبيه بحسن إظهارها في موضع دون موضع فعلمنا أن الموضع الذي يحسن إظهارها فيه غير الموضع الذي لا يحسن إظهارها فيه فسمينا المواضع الذي يحسن إظهارها فيه تشبيها مضمر الأداء والذي لا يحسن إظهارها فيه استعارة وإنما فعلنا ذلك لأن تسمية ما يحسن إظهار أداة التشبيه فيه بالتشبيه أليق وتسمية ما لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيه بالاستعارة أليق فإذا قلنا زيد أسد حسن إظهار أداة التشبيه فيه بأن نقول زيد كالأسد وإذا قلنا كما قال الشاعر
( فَرْعَاءُ إِنْ نَهَضَتْ لِحَاجَتِهَا ... عَجِلَ الْقَضِيبُ وَأَبْطَأَ الدِّعْصُ )
لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيه على ما تقدم من ذكر ذلك أولا
فإن قيل إذا أجزت إضمار أداة التشبيه وقدرت إظهارها في قولك زيد أسد أي كالأسد فنحن نضمر أيضا المستعار له ونقدر إظهاره فإنه لما قال الشاعر عجل القضيب وأبطأ الدعص أضمر المستعار له وهو القد والردف وإذا أظهر قيل عجل قد كالقضيب وأبطأ ردف كالدعص ولا فرق بين الإضمارين فكما يسعك إضمار أداة التشبيه في قولك زيد أسد فكذلك يسعنا نحن إضمار المستعار له في قول الشاعر
فالجواب عن ذلك أني أقول نحن في هذا المقام واقفون مع الاستحسان لا مع الجواز ولو تأملت ما أوردته في أول كلامي بالعين الصحيحة لما أوردت علي هذا الاعتراض ههنا فإني قلت التشبيه المضمر الأداة يحسن إظهار أداء التشبيه فيه والاستعارة لا يحسن إظهار أداة التشبيه فيها ولو قلت يجوز أو لا يجوز لورد علي هذا الاعتراض الذي ذكرته وقد علم وتحقق أن من الواجب في حكم

الفصاحة والبلاغة ألا يظهر المستعار له وإذا أظهر ذهب ما على الكلام من الحسن والرونق ألا ترى أنا إذا أوردنا هذا البيت الذي هو
( فأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ ... وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ )
وجد عليه من الحسن والرونق ما لا خفاء به وهو من باب الاستعارة فإذا أظهرنا المستعار له صرنا إلى كلام غث وذاك أنا نقول فأمطرت دمعا كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خدا كالورد وعضت على أنامل مخضوبة كالعناب بأسنان كالبردد وفرق بين هذين الكلامين للمتأمل واسع
( فَرْعَاءُ إنْ نَهَضَتْ لِحَاجَتِها ... عجِلَ الْقَضِيبُ وَأَبْطَأَ الدِّعْصُ )
فإن هذا البيت لا خفاء بما عليه من الحسن وإذا ظهر فيه المستعار له زال ذلك الحسن عنه لا بل تبدل بضده وليس كذلك التشبيه المضمر الأداة فإنا إذا أظهرنا أداة التشبيه وأضمرناها كان ذلك سواء إذ لا فرق بين قولنا زيد أسد وبين قولنا زيد كالأسد وهذا لا يخفى على جاهل بعلم الفصاحة والبلاغة فضلا عن عالم والمعول عليه في تأليف الكلام من المنثور والمنظوم إنما هو حسنه وطلاوته فإذا ذهب ذلك عنه فليس بشيء ونحن في الذي نورده في هذا الكتاب واقفون مع الحسن لا مع الجواز
ثم لو تنزلنا معك أيها المعترض عن درجة الحسن إلى درجة الجواز لما استقام لك ما ذكرته وذاك إن إضمار إداة التشبيه ظاهر في قولنا يد أسد أي كالأسد وهو مضمر واحد وأما قول الشاعر فرعاء إن نهضت لحاجتها فإنه لا يضمر فيه أداة التشبيه إلا بعد أن يظهر المستعار له وحينئذ يكون فيه إضماران أحدهما المستعار له والآخر أداة التشبيه وإضمار واحد أيسر من إضمارين أحدهما معلق على الآخر وإذا كان الأكر كذلك فالفرق بين الاستعارة والتشبيه هو ما قدمت القول فيه من أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له

فتأمل ما أشرت إليه وتدبره حتى تعلم أني ذكرت ما لم يذكره أحد غيري على هذا الوجه
وإنما سمي هذا القسم من الكلام استعارة لأن الأصل في الاستعارة المجازية مأخوذ من العارية الحقيقية التي هي ضرب من المعاملة وهي أن يستعير بعض الناس من بعض شيئا من الأشياء ولا يقع ذلك إلا من شخصين بينهما سبب معرفة ما يقتضي استعارة أحدهما من الآخر شيئا وإذا لم يكن بينهما سبب معرفة بوجه من الوجوه فلا يستعير أحدهما من الآخر شيئا إذ لا يعرفه حتى يستعير منه وهذا الحكم جار في استعارة الألفاظ بعضها من بعض فالمشاركة بين اللفظين في نقل المعنى من أحدهما إلى الآخر كالمعرفة بين الشخصين في نقل الشيء المستعار من أحدهما إلى الآخر
واعلم أنه قد ورد من الكلام ما يجوز حمله على الاستعارة وعلى التشبيه المضمر الأداة معا باختلاف القرينة وذاك أن يرد الكلام محمولا على ضمير من تقدم ذكره فينتقل عن ذلك إلى غيره ويرتجل ارتجالا
فمما جاء منه قول البحتري
( إِذَا سَفَرَتْ أَضَاءَتْ شَمْسَ دَجْنٍ ... وَمَالَتْ في التَّعَطُّفِ غُصْنَ بَانِ )
فلما قال أضاءت شمس دجن بنصب الشمس كان ذلك محمولا على الضمير في قوله أضاءت كأنه قال أضاءت هي وهذا تشبيه لأن المشبه مذكور وهو الضمير في أضاءت الذي نابت عنه التاء ويجوز حمله على الاستعارة بأن يقال أضاءت شمس دجن برفع الشمس ولا يعود الضمير حينئذ إلى من تقدم ذكره وإنما يكون الكلام مرتجلا ويكون البيت
( إِذَا سَفَرَتْ أَضَاءَتْ شَمْسُ دَجْنٍ ... وَمَالَ في التَّعَطُّفِ غُصْنُ بَانِ )

وهذا الموضع فيه دقة غموض وحرف التشبيه يحسن في الأول دون الثاني
وأما القسم الذي يكون العدول فيه عن الحقيقة إلى المجاز لغير مشاركة بين المنقول والمنقول إليه فذلك لا يكون إلا لطلب التوسع في الكلام وهو سبب صالح إذ التوسع في الكلام مطلوب
وهو ضربان أحدهما يرد على وجه الإضافة واستعماله قبيح لبعد ما بين المضاف والمضاف إليه وذاك لأنه يلتحق بالتشبيه المضمر الأداة وإذا ورد التشبيه ولا مناسبة بين المشبه والمشبه به كان ذلك قبيحا ولا يستعمل هذا الضرب من التوسع إلا جاهل بأسرار الفصاحة والبلاغة أو ساه غافل يذهب به خاطره إلى استعمال ما لا يجوز ولا يحسن كقول أبي نواس
( بُحَّ صَوْتُ المَالِ مِمَّا ... مِنْكَ يَشْكُو وَيَصِيحُ )
فقوله بح صوت المال من الكلام النازل بالمرة ومراده من ذلك أن المال يتظلم من إهانتك إياه بالتمزيق فالمعنى حسن والتعبير عنه قبيح وما أحسن ما قال مسلم بن الوليد في هذا المعنى
( تَظلَّمَ المَالُ والأَعْدَاءُ مِنْ يَدِهِ ... لا زَالَ لِلْمَالِ وَالأَعْداءٍ ظلامَاً )
وكذلك ورد قول أبي نواس أيضا

( مَا لِرجْلِ المَالِ أَمْسَتْ ... تَشْتَكِي مِنْكَ الكَلاَلاَ )
فإضافة الرجل إلى المال أقبح من إضافة الصوت
ومن هذا الضرب قول أبي تمام
( وَكَمْ أَحَرَزَتْ مِنْكُمُ عَلَى قُبْحِ قَدِّها ... صُرُوفُ النوَى مِنْ مُرْهَفٍ حَسَنِ الْقَدِّ )
فإضافة القد إلى النوى من التشبيه البعيد البعيد وإنما أوقعه فيه المماثلة بين القد والقد وهذا أدب الرجل في تتبع المماثلة تارة والتجنيس أخرى حتى إنه ليخرج إلى بناء يعاب به أقبح عيب وأفحشه
وكذلك ورد قول
( بَلَوْنَاكَ أَمَّا كَعْبُ عِرْضِكَ فِي الْعُلاَ ... فَعَالٍ وَأَمَّا خَدُّ مَالِكَ أسْفَلُ )

فقوله كعب عرضك وخذ مالك مما يستقبح ويستنكر ومراده من ذلك أن عرضك مصون ومالك مبتذل إلا أنه عبر عنه أقبح تعبير وأبو تمام يقع في مثل ذلك كثيرا
وأما الضرب الآخر من التوسع فإنه يرد على غير وجه الإضافة وهو حسن لا عيب فيه وقد ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) فنسبة القول إلى السماء والأرض من باب التوسع لأنهما جماد والنطق إنما هو للإنسان لا للجماد ولا مشاركة ههنا بني المنقول والمنقول إليه
وكذلك قوله تعالى ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين )
وعليه ورد قول النبي فإنه نظر إلى أحد يوما فقال ( هذا جبل يحبنا ونحبه ) فإضافة المحبة إلى الجبل من باب التوسع إذ لا مشاركة بينه وبين الجبل الذي هو جماد
وعلى هذا ورد مخاطبة الطلول ومساءلة الأحجار كقول أبي تمام
( أَميْدَانَ لَهْوِي مَنْ أتَاحَ لَكَ الْبِلَى ... فَأَصْبَحْتَ مَيْدَانَ الصَّبَا وَالْجِنَائِبِ )
وكقول أبي الطيب المتنبي
( إِثْلِثْ فإِنَّا أيُّهَا الطَّلَلُ ... نَبْكِي وَتُرْزِمُ تَحْتَنَا الإٍبِلُ )

فأبو تمام سائل ربوعا عافية وأحجارا دارسة ولا وجه لها ههنا إلا مساءلة الأهل كالذي في قوله تعالى ( واسئل القرية ) أي أهل القرية وكل هذا توسع في العبارة إذ لا مشاركة بين رسوم الديار وبين فهم السؤال والجواب وكذلك قال أبو الطيب المتنبي في أمره الطلل بأن يكون ثالثا لهما أي الركب والإبل وهذا واضح لا نزاع فيه
فإذا قد تبين وتحقق ما أشرت إليه من هذا الموضع فالمجاز لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة إما توسع أو تشبيه أو استعارة وإذا حققنا النظر في الاستعارة والتشبيه وجدناهما أمرا قياسيا في حمل فرع على أصل لمناسبة بينهما وإن كانا يفترقان بحدهما وحقيقتهما
فأما حد الاستعارة فقيل إنه نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما وهذا الحد فاسد لأن التشبيه يشارك الاستعارة فيه ألا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد أي كأنه أسد وهذا نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما لأنا نقلنا حقيقة الأسد إلى زيد فصار مجازا وإنما نقلناه لمشاركة بين زيد وبين الأسد في وصف الشجاعة
والذي عندي من ذلك أن يقال حد الاستعارة نقل المعنى من لفظ إلى لفظ المشاركة بينهما مع طي ذكر المنقول إليه لأنه إذا احترز فيه هذا الاحتراز اختص الاستعارة وكان حدا لها دون التشبيه وطريقة أنك تريد تشبيه الشيء بالشيء مظهرا ومضمرا وتجيء إلى المشبه فتعيره اسم المشبه به وتجريه عليه مثال ذلك أن تقول رأيت أسدا وهذا كالبيت الشعر المقدم ذكره وهو
( فَرْعَاءُ إنْ نَهَضَتْ لِحَاجَتْها ... عَجِلَ الْقَضِيبُ وَأَبْطَأَ الدِّعْصُ )
فإن هذا الشاعر أراد تشبيه القد بالقضيب والردف بالدعص الذي هو كثيب الرمل فترك ذكر التشبيه مظهرا ومضمرا وجاء إلى المشبه وهو القد والردف فأعاره المشبه به وهو القضيب والدعص وأجراه عليه
إلا أن هذا الموضع لا بد له من قرينة تفهم من فحوى اللفظ لأنه إذا قال

القائل رأيت أسدا وهو يريد رجلا شجاعا فإن هذا القول لا يفهم منه ما أراد وإنما يفهم منه أنه أراد الحيوان المعروف بالأسد لكن إذا اقترن بقوله هذا قرينة تدل على أنه أراد رجلا شجاعا اختص الكلام بما أراد ألا ترى إلى قول الشاعر عجل القضيب وأبطأ الدعص فإنه دل عليه من نفس لأن قوله فرعاء إن نهضت دليل على أن المراد هو القد والردف لأن القضيب والدعص لا يكونان لامرأة فرعاء تنهض لحاجتها وكذلك كل ما يجيء على هذا الأسلوب لأن المستعار له وهو المنقول إليه مطوي الذكر
وكنت تصفحت كتاب الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني فوجدته قد ذكر في المجاز شيئا يتطرق إليه النظر وذلك أنه قال لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة وهي الاتساع والتشبيه والتوكيد فإن عدمت الثلاثة كانت الحقيقة ألبتة
فمن ذلك قوله تعالى ( فأدخلناه في رحمتنا ) فهذا مجاز وفيه الثلاثة المذكورة أما الاتساع فهو أنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسما وهو الرحمة وأما التشبيه فإنه شبه الرحمة وإن لم يصح دخولها بما يصح دخوله وأما التوكيد فهو أنه أخبر عما لا يدرك بالحاسة بما يدرك بالحاسة تعاليا بالمخبر عنه وتفخيما له إذا صير بمنزلة ما يشاهد ويعاين
هذا مجموع قول أبي الفتح رحمه الله من غير زيادة ولا نقص
والنظر يتطرق إليه من ثلاثة أوجه
الأول أنه جعل وجود هذه المعاني الثلاثة سببا لوجود المجاز بل وجود واحد منها سببا لوجوده ألا ترى أنه إذا وجد التشبيه وحده كان ذلك مجازا وإذا وجد الاتساع وحده كان ذلك مجازا ثم إن كان وجود هذه المعاني الثلاثة سببا

لوجود المجاز كان عدم واحد منها سببا لعدمه ألا ترى أنا إذا قلنا لا يوجد الإنسان إلا بأن يكون حيوانا ناطقا فالحيوانية والنطق سبب لوجود الإنسان وإذا عدم واحد منهما بطل أن يكون إنسانا وكذلك كل صفات تكون متقدمة لوجود الشيء فإن وجودها بوجوده وعدم واحد منها يوجب عدمه
وأما الوجه الثاني فإنه ذكر التوكيد والتشبيه وكلاهما شيء واحد على الوجه الذي ذكره لأنه لما شبهت الرحمة وهي معنى لا يدرك بالبصر بمكان يدخل وهو صورة تدرك بالبصر دخل تحته التوكيد الذي هو إخبار عما لا يدرك بالحاسة بما قد يدرك بالحاسة على أن التوكيد ههنا على وجه ما أورده في تمثيله لا أعلم ما الذي أراد به لأنه لا يؤتى به في اللغة العربية إلا لمعنيين أحدهما أنه يرد أبدا فيما استقري بألفاظ محصورة نحو نفسه وعينه وكله وما أضيف إليها مما استقري وهو مذكور في كتب النحاة وقد كفيت مؤنته الآخر أنه يريد على وجه التكرير نحو قام زيد قام زيد كرر اللفظ في ذلك تحقيقا للمعنى المقصود أي توكيدا والذي ذكره أبو الفتح رحمه الله تعالى لا يدل على أن المراد به أحد هذين المعنيين المشار إليهما ولا شك أنه أراد به المبالغة والمغالاة في إبراز المعنى الموهوم إلى الصورة المشاهدة فعبر عن ذلك بالتوكيد ولا مشاحة له في تعبيره وإذا أراد به ذلك فهو والتشبيه سواء على ما ذكره ولا حاجة إلى ذكر التوكيد مع ذكر التشبيه
وأما الوجه الثالث فإنه قال أما الاتساع فهو أنه زاد في أسماء الجهات والمحال كذا وكذا وهذا القول مضطرب شديد الاضطراب لأنه ينبغي على قياسه أن يكون جناح الذل في قوله تعالى ( واخفض لهما جناح الذل ) زيادة في أسماء الطيور وذلك أنه زاد في أسماء الطيور اسما هو الذل وهكذا يجري الحكم في الأقوال الشعرية كقول أبي تمام

( لَبِسْتُ سِوَاهُ أقْوَاماً فكَانُوا ... كَمَا أَغْنَى التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ )
فزاد في أسماء اللباس اسما هو الآدمي وهذا مما يضحك منك نعوذ بالله من الخطل والاتساع في المجال لا يقال فيه كذا وإنما يقال هو أن تجرى صفة من الصفات على موصوف ليس أهلا لأن تجرى عليه لبعد ما بينه وبينهما كقول أبي الطيب المتنبي
( إثْلِثْ فَإِنَّا أَيُّهَا الطَّلَلُ ... نَبْكِي وَتُرْزِمُ تَحْتَنا الإِبِلُ )
فإنه أجرى الكلام على ذلك وإنما يستعمل طلبا للاتساع في أساليب الكلام لا لمناسبة بين الصفة والموصوف إذ لو كان لمناسبة لما كان ذلك اتساعا وإنما كان ضربا من القياس في حمل الشيء على ما يناسبه ويشاكله وحينئذ يكون ذلك تشبيها أو استعارة على ما أشرت إليه من قبل
وكنت اطلعت في كتاب من مصنفات أبي حامد الغزالي رحمه الله ألفه في أصول الفقه ووجدته قد ذكر الحقيقة والمجاز وقسم المجاز إلى أربعة عشر

قسما وتلك الأربعة عشر ترجع إلى الثلاثة التي أشرت إليها وهي التوسع والتشبيه والاستعارة ولا تخرج عنها والتقسيم لا يصح في شيء من الأشياء إلا إذا اختص كل قسم من الأقسام بصفة لا يختص بها غيره وإلا كان التقسيم لغوا لا فائدة فيه
وسأورد ما ذكره وأبين فساده
فالقسم الأول من الأقسام التي ذكرها هو ما جعل للشيء بسبب المشاركة في خاصة كقولهم للشجاع أسد وللبليد حمار وهذا القسم داخل في الاستعارة إن ذكر المنقول وحده مثل أن يقول القائل رأيت أسدا ومراده رجلا شجاعا أو رأيت حمارا ومراده رجلا بليدا وداخل في التشبيه المضمر الأداة إن ذكر المنقول والمنقول إليه معا كقول القائل زيد أسد أي كالأسد أو حمار أي كالحمار
القسم الثاني تسمية الشيء باسم ما يئول إليه كقوله تعالى ( إني أراني أعصر خمرا ) وإنما كان يعصر عنبا وهذا القسم داخل في القسم الأول لصفة المشابهة بين المنقول والمنقول إليه وهو من باب الاستعارة لا بل أوغل في المشابهة من ذلك لأن الخمر من العنب وليس الأسد من الرجل ولا الرجل من الأسد
القسم الثالث تسمية الشيء باسم فرعه كقول الشاعر
( وَمَا الْعَيْشُ إلاَّ نَوْمَهٌ وَتَشَرُّقٌ ... وَتَمْرٌ عَلَى رَأْسِ النَّخِيلِ وَماءُ )

فسمي الرطب تمرا وهذا القسم والقسم الذي قبله سواء لأن هناك سمى العنب خمرا وههنا سمى الرطب تمرا فالعنب أصل والخمر فرع وكذلك الرطب أصل والتمر فرع وكلا هذين القسمين داخل في القسم الأول
وهب أن الغزالي لم يحقق أمر المجاز وانقسامه إلى تلك الأقسام الثلاثة التي أشرت إليها ألم ينظر إلى هذين القسمين اللذين هما العنب والخمر والرطب والتمر ويعلم أنهما شيء واحد لا فرق بينهما
القسم الرابع تسمية الشيء باسم أصله كقولهم للآدمي مضغة وهذا ضد القسم الذي قبله لأن ذاك جعل الأصل فيه فرعا وهذا جعل الفرع فيه أصلا وهو داخل في القسم الأول أيضا
القسم الخامس تسمية الشيء بدواعيه كتسميتهم الاعتقاد قولا نحو قولهم هذا يقول بقول الشافعي رحمه الله أي يعتقد اعتقاده وهذا القسم داخل في القسم الأول لأن بين القول وبين الاعتقاد مناسبة كالمناسبة بين السبب والمسبب والباطن والظاهر
القسم السادس تسمية الشيء باسم مكانه كقولهم للمطر سماء لأنه ينزل منها وهذا القسم داخل في الأول لصفة المناسبة بين المنقول والمنقول إليه وهو النزول من عال وكل ما علاك فأظلك فهو سماء على أن الأغلب على ظني أن هذا القسم من الأسماء المشتركة وتسمية المطر بالسماء حقيقة فيه وليس من المجاز في شيء
القسم السابع تسمية الشيء باسم مجاوره كقولهم للمزادة راوية وإنما الراوية الجمل الذي يحملها وهذا القسم من باب التوسع لا من باب التشبيه ولا من باب الاستعارة لأن على قياسه ينبغي أن يسمى الجمل زاملة لأنه يحملها
القسم الثامن تسمية الشيء باسم جزئه كقولك لمن تبغضه أبعد الله وجهه عني وإنما تريد سائر جثته وهذا القسم داخل في القسم الأول وهو شبيه بتسمية الشيء باسم فرعه

القسم التاسع تسمية الشيء باسم ضده وكقولهم للأسود والأبيض جون وهذا القسم ليس من المجاز في شيء البتة وإنما هو حقيقة في هذين المسميين معا لأنه من الأسماء المشتركة كقولهم شمت السيف إذا سللته وشمته إذا أغمدته فدل الشيم على الضدين معا بالوضع الحقيقي وفي اللغة من هذا شي كثير فكيف يجعل هذا القسم من المجاز
ولا شك أن الغزالي نظر إلى أن الضدين لا يجتمعان في محل واحد فقاس الاسم على الذات وظن أن الذاتين لا يجتمعان في اسم واحد كما أنهما لا يجتمعان في محل واحد
فإن قيل لا نسلم أن اللفظ المشترك حقيقة بالوضع في المعنيين معا لأن ذلك يخل بفائدة الوضع الذي هو البيان وإنما هو حقيقة في أحد معنييه مجاز في الآخر
فالجواب عن ذلك أن هذا الموضع تقدم الكلام عليه في الفصل الثاني من مقدمة الكتاب وهو الفصل الذي يشمل على آلات علم البيان وأدواته فليؤخذ من هناك فإني قد أشبعت القول فيه إشباعا لا مزيد عليه
القسم العاشر تسمية الشيء بفعله كتسمية الخمر مسكرا وهذا القسم داخل في القسم الأول وأي مشاركة أقرب من هذه المشاركة فإن الإسكار صفة لازمة للخمر وليست الشجاعة صفة لازمة لزيد لأنه يمكن أن يكون زيد ولا شجاعة ولا يمكن أن يكون خمرا ولا إسكار ألا ترى أنها لم تسم خمرا إلا لإسكارها فإنها تخمر العقل أي تستره
القسم الحادي عشر تسمية الشيء بكله كقولك في جواب ما فعل زيد القيام والقيام جنس يتناول جميع أنواعه وهذا القسم لا ينبغي أن يوصل بأقسام المجاز لأن القيام لزيد حقيقة
فإن قيل إن القيام يشمل جميع أنواع القيام من الماضي والحاضر والمستقبل

قلت وهذا من أقرب أقسام المجاز مناسبة لأنه إقامة للمصدر مقام الفعل الماضي والمصدر أصل الفعل وعلى هذا فإن هذا داخل في القسم الأول
القسم الثاني عشر الزيادة في الكلام لغير فائدة كقوله تعالى ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) فما ههنا زائدة لا معنى لها أي فبرحمة من الله لنت لهم وهذا القول لا أراه صوابا وفيه نظر من وجهين أحدهما أن هذا القسم ليس من المجاز لأن المجاز هو دلالة اللفظ على غير ما وضع له في أصل اللغة وهذا غير موجود في الآية وإنما هي دالة على الوضع اللغوي المنطوق به في أصل اللغة والوجه الآخر أني لو سلمت أن ذلك من المجاز لأنكرت أن لفظة ما زائدة لا معنى لها ولكنها وردت تفخيما لأمر النعمة التي لان بها رسول الله له وهي محض الفصاحة ولو عرى الكلام منها لما كانت له تلك الفخامة وقد ورد مثلها في كلام العرب كالذي يحكى عن الزباء وذاك أن الوضاح الذي هو جذيمة الأبرش تزوجها والحكاية في ذلك مشهورة فلما دخل عليها كشفت له عن فرجها وقد ضفرت الشعر من فوق ضفيرتين وقالت أذات عرس ترى أما إنه ليس ذلك من عوز المواس ولا من قلة الأواس ولكنه شيمة ما أناس فمعنى الكلام ولكنه شيمة أناس وإنما جاءت لفظة ما ههنا تفخيما لشأن صاحب تلك الشيمة وتعظيما لأمره ولو أسقطت لما كان للكلام ههنا هذه الفخامة والجزالة ولا يعرف ذلك إلا أهله من علماء الفصاحة والبلاغة وأما الغزالي رحمه الله تعالى فإنه معذور عندي في ألا يعرف ذلك لأنه ليس فنه ومن ذهب إلى أن في القرآن لفظا زائدا لا معنى له فإما أن يكون جاهلا بهذا القول وإما أن يكون متسمحا في دينه واعتقاده وقول النحاة إن ما في هذه الآية زائدة فإنما يعنون به أنها لا تمنع ما قبلها عن العمل كما يسمونها في موضع آخر كافة أي أنها تكف الحرف العامل عن عمله كقولك إنما زيد قائم فما قد كفت إن عن العمل في زيد وفي الآية لم تمنع عن العمل ألا ترى أنها لم تمنع الباء عن العمل في خفض الرحمة

القسم الثالث عشر تسمية الشيء بحكمه كقوله تعالى ( وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ) فسمي النكاح هبة وهذا القسم داخل في القسم الأول لأن النكاح هو تمكين الزوج من الوطء على عوض على هيئة مخصوصة والهبة تمكينه من الشيء الموهوب على غير عوض فشاركت الهبة النكاح في نفس التمكين من الوطء وإن اختلفا في الصورة
القسم الرابع عشر النقصان الذي لا يبطل به المعنى كحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قال الله تعالى ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا ) أي شخصا بريئا وكحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه قال الله تعالى ( واسئل القرية ) أي أهل القرية وهذا القسم داخل في القسم الأول أما حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه فلأن الصفة لازمة للموصوف وأما حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فلأنه دل بالمسكون على الساكن وتلك مقارنة قريبة
فهذه أقسام المجاز التي ذكرها الغزالي رحمه الله تعالى وقد بينت فساد التقسيم فيها وأنها ترجع إلى ثلاثة أقسام هي التوسع والتشبيه والاستعارة
وحيث انتهى بي الكلام إلى ههنا وفرغت مما أردت تحقيقه وبينت ما أردت بيانه فإني أتبع ذلك بضرب الأمثلة للاستعارة التي يستفيد بها المتعلم ما لا يستفيده بذكر الحد والحقيقة
فمما جاء من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى في أول سورة إبراهيم صلوات الله عليه ( آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) فالظلمات والنور استعارة للكفر والإيمان أو للضلال والهدى والمستعار له مطوي الذكر كأنه قال لتخرج الناس من الكفر الذي هو كالظلمة إلى الإيمان الذي هو كالنور
وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة أيضا ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) والقراءة برفع لتزول منه

الجبال ليست من باب الاستعارة ولكنها في نصب تزول واللام لام كي والجبال ههنا استعارة طوى فيها ذكر المستعار له وهو أمر رسول الله وما جاء به من الآيات والمعجزات أي أنهم مكروا مكرهم لكي تزول منه هذه الآيات والمعجزات التي هي ثباتها واستقرارها كالجبال
وعلى هذا ورد قوله تعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فاستعار الأودية للفنون والأغراض من المعاني الشعرية التي يقصدونها وإنما خص الأدوية بالاستعارة ولم يستعر الطرق والمسالك أو ما جرى مجراها لأن الشعر تستخرج بالفكرة والروية والفكرة والروية فيهما خفاء وغموض فكان استعارة الأودية لها أشبه وأليق
والاستعارة في القرآن قليلة لكن التشبيه المضمر الأداة كثير وكذلك هي في فصيح الكلام من الرسائل والخطب والأشعار لأن طي المستعار له لا يتيسر في كل كلام وأما التشبيه المضمر الأداة فكثير سهل لمكان إظهار المشبه والمشبه به معا
ومما ورد من الاستعارة في الأخبار النبوية قول النبي ( لا تستضيئوا بنار المشركين ) فاستعار النار للرأي والمشورة أي لا تهتدوا برأي المشركين ولا تأخذوا بمشورتهم
وروي عنه أنه دخل يوما مصلاه فرأى أناسا كأنهم يكثرون فقال ( أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى ) وهاذم اللذات أراد به الموت وهو مطوي الذكر
وبلغني عن العرب أنهم يقولون عند رؤية الهلال لا مرحبا باللجين مقرب أجل ومحل وهذا من باب الاستعارة في طي ذكر المستعار له
وكذلك بلغني عن الحجاج بن يوسف أنه خطب خطبة عند قدومه العراق في أول ولايته إياه والخطبة مشهورة من جملتها أنه قال إن أمير المؤمنين نثل كنانته وعجمها عودا عودا فرآني أصلبها نجارا وأقومها عودا وأنفذها نصلا فقوله نثل

كنانته وعجمها عودا عودا يريد أنه عرض رجاله واختبرهم واحدا واحدا جد اختباره فرآني أشدهم وأمضاهم وهذا من الاستعارة الحسنة الفائقة
وقد جاءني من الاستعارة في رسائلي ما أذكر شيئا منه ولو مثالا واحدا وذلك أنه سألني بعض الأصدقاء أن أصف له غلامين تركيين كان يهواهما وكان أحدهما يلبس قباء أحمر والآخر قباء أسود فقلت إذا تشعبت أسباب الهوى كانت لسره أظهر وأضحت أمراضه خطرا كلها ولا يقال في أحدها هذا أخطر وقد هويت بدرين على غصنين ولا طاقة للقلب بهوى واحد فكيف إذا حمل هوى اثنين ومما شجاني أنهما يتلونان في أسباغ الثياب كما يتلونان في فنون التجرم والعتاب وقد استجدا الآن زيا لا مزيد على حسنهما في حسنه فهذا يخرج في ثوب من حمرة خده وهذا في ثوب من سواد جفنه وما أدري من دلهما على هذا العجيب غير أنه ليس على فتنة المحب أهدى من حبيب
وهذا الفصل بجملته مما تواصفه الناس وأغروا بحفظه
وأما ما ورد من ذلك شعرا فكقول مسكين الدارمي من شعراء الحماسة
( لِحَافِي لِحَافُ الضَّيْفِ وَالْبَيْتُ بَيْتُهُ ... وَلَمْ يُلْهِنِي عَنْهُ غَزَالٌ مُقَنَّعُ )
( أُحَدِّثُهُ إِنَّ الْحَدِيثَ مِنَ الْقِرَى ... وَتَعَلَمُ نَفْسِي أَنَّهُ سَوْفَ يَهْجَعُ )
فالغزال المقنع هذا استعارة للمرأة الحسناء
وكذا ورد قول رجل من بني يسار في كتاب الحماسة أيضا

( أَقُولُ لِنَفْسِي حِينَ خَوَّدَ رَأْلُهَا ... رُوَيْدَكِ لَمَّا تُشْفِقِي حِينَ مُشْفَقِ )
( رُوَيْدَكِ حَتَّى تَنْظُرِي عَمَّ تَنْجَلِي ... عَمَايَةُ هذَا الْعَارِضِ المُتَأَلِّقِ )
فالعارض المتألق استعارة للحرب أو الذي أطل بمكروهه كالبارق المتألق
ويحكى أن امرأة وقفت لعبد الملك بن مروان وهو سائر إلى قتال مصعب بن الزبير فقالت يا أمير المؤمنين فقال رويدك حتى تنظري عم تنجلي وأنشد البيت
ومن هذا الباب قول عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن
( لَمَّا نَظَرْتِ إِلَيَّ عَنْ حَدَقِ المَهَا ... وَبَسَمْتِ عَنْ مُتَفَتِّحِ النُّوَّارِ )
( وَعَقَدْتِ بَيْنَ قَضِيبِ بَانٍ أَهْيَفٍ ... وَكثِيب رَمْلٍ عُقْدَةَ الزُّنَّارِ )
( عَفَّرْتُ خَدِّي في الثَّرَى لَكِ طَائِعاً ... وَعَزَمْتُ فِيكِ عَلَى دُخُولِ النَّارِ )
وهذه الأبيات لا تجد لها في الحسن شريكا ولأن يسمى قائلها شحرورا أولى من أن يسمى ديكا
وكذلك ورد قوله
( لاَ وَمَكَانِ الصَّلِيبِ فِي النَّحْرِ مِنْكَ ... وَمَجْرَى الزُّنَّارِ فِي الْخَصْرِ )
( وَالْخَالِ فِي الْخَدِّ إِذْ أشْبَهَهُ ... وَرْدَةُ مِسْكٍ عَلَى ثَرَى تِبْرِ )

( وَحَاجِبٍ مُذْ خَطَّهُ قَلَمُ الْحُسْنِ ... بِحِبْرِ الْبَهَاءِ لاَ الْحِبْرِ )
( وَأقْحُوَانٍ بِفِيكَ مُنْتَظِمٍ ... عَلَى شَبيهٍ مِنْ رَائِقِ الْخَمْرِ )
فالبيت الرابع هو المخصوص بالاستعارة والمستعار له هو الثغر والريق
ومما ورد لأبي تمام في هذا المعنى قوله
( لَمَّا غَدَا مُظْلِمَ الأَحْشَاءِ مِنْ أَشَرِ ... أسْكَنْتَ جَانِحَتيْهِ كَوْكَباً يَقِدُ )
فالكواكب استعارة للرمح
وكذلك ورد قوله في الاعتذار
( أسرى طريداً لِلْحَيَاءِ مِنَ الَّتِي ... زَعَمُوا وَلَيْسَ لِرَهْبَةٍ بِطَرِيدِ )
( وَغَدَا تَبَيَّنُ مَا بَرَاءَةَ سَاحَتِي ... لَوْ قَدْ نَفَضْتَ تَهَائِمِي وَنُجُودِي )
والتهائم والنجود هما استعارة مما استعاره من باطن أمره وظاهره
وكذلك ورد قوله
( كَمْ أَحْرَزْتَ قُضُبُ الْهِنْدِيِّ مُصْلَتةً ... تَهْتَزُّ مِنْ قُضُبٍ تَهْتَزُّ في كُثُبِ )
فالقضب والكثب استعارة للقدود والأرداف

وكذلك ورد في هذه القصيدة أيضا عند ذكر ملك الروم وانهزامه لما فتحت مدينة عمورية فقال
( إنْ يَعْدُ مِنْ حَرِّهَا عَدْوَ الظَّلِيمِ فَقَدْ ... أوْسَعْتَ جَاحِمَهَا مِنْ كَثْرَةِ الحَطَبِ )
فالحطب استعارة للقتلى
وقبل هذا البيت ما يدل عليه لأنه قال
( أحْذَى قَرَابِيْنَهُ صِرْفَ الرَّدَى وَمَضَى ... يحْتَثُّ أنْجَى مَطَايَاهُ مِنَ الهَرَب )
( مُوَكَّلاً بِيَفَاعِ الأَرْضِ يُشْرفُها ... مِنْ خِفَّةِ الْخَوْفِ لاَ مِنْ خِفَّةِ الطَّرَبِ )
( إن يعد من حرها عدو الظليم . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت
وأحسن من هذا كله قوله
( تُطِلُّ الطُلولُ الدَّمْعَ في كُلِّ مَنْزِلٍ ... وَتَمْثُلُ بِالصَّبْرِ الدِّيَارُ المَوَاثِلُ )
( دَوَارِسُ لَمْ يَجْفُ الرَّبيعُ رُبُوعَهَا ... وَلاَ مَرَّ في أَغفَالِهَا وَهْوَ غَافِلُ )
( يُعَفِّينَ مِنْ زَادِ الْعُفَاةِ إِذَا انْتَحَى ... عَلَى الْحَيِّ صِرْفُ الأَزْمَةِ الْمُتَحَامِلُ )
فقوله زاد العفاة استعارة طوى فيها ذكر المستعار له وهو أهل الديار كأنه قال يعفين من قوم زاد العفاة
وله في الغزل من الاستعارة ما بلغ به غاية اللطافة والرقة وذلك في قصيدته التي مطلعها
( إِنَّ عَهْداً لَوْ تَعْلَمَانِ ذَمِيمَا ... )

فقال
( قَدْ مَرَرْنَا بِالدَّارِ وَهْيَ خَلاَءٌ ... فَبَكَيْنَا طُلولَها وَالرُّسُومَا )
( وَسَأَلْنَا رُبُوعَهَا فَانْصَرَفْنَا ... بِسَقَامٍ وَمَا سَأَلْنَا حَكِيمَاً )
( كُنْتُ أَرْعَى النُّجُومَ حَتَّى إِذَا ما ... فَارَقُونِي أمْسَيْتُ أَرْعَى النُّجُومَا )
والبيت الثالث هو المخصوص بالاستعارة
وعلى هذا المنهاج ورد قول البحتري
( وَأَغَرَّ في الزَّمَنِ الْبَهِيمِ مُحَجَّلِ ... قَدْ رُحْتُ مِنْهُ عَلَى أَغَرَّ مُحَجَّلِ )
والأغر المحجل الأول هو الممدوح والأغر المحجل الثاني هو الفرس الذي أعطاه إياه
وكذلك ورد قوله
( وَصاعِقَةٍ في كَفِّهِ تَنْكَفِي بِهَا ... عَلَى أرْؤُسِ الأَعْدَاءِ خَمْسُ سَحَائِبِ )
وهذا من النمط العالي إلي شغلت براعة معناه وحسن سبكه عن النظر إلى استعارته والمراد بالسحائب الخمس الأصابع
وكذلك ورد في أبيات الحماسة

( دَكَّ طَوْدَ الْكُفْرِ دَكًّا ... صَاعِقٌ مِنْ وَقْعِ سَيْفِكْ )
( أَرْسَلْتْهُ خَمْسُ سُحْبٍ ... نَشَأَتْ مِنْ بَحْرِ كَفِّكْ )
وكذلك ورد قوله في أبيات يصف فيها السيف
( حَمَلَتْ حَمَائِلُهُ الْقَدِيمَةُ بَقْلَةً ... مِنْ عَهْدِ عِادٍ غَضةً لَمْ تَذْبُلِ )
وهذا من الحسن على ما يشهد لنفسه كأنه قال حملت حمائله سيفا أخضر الحديد كالبقلة
وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي
( في الْخَدِّ إنْ عَزَمَ الْخَلِيطُ رَحِيلاَ ... مَطَرٌ تَزِيدُ بِهِ الْخُدُودُ مُحُولاَ )
وكذلك ورد قوله
( يمد يديه في المفاضة ضيغم ... )
وأحسن من هذا قوله في قصيدته التي مطلعها
( عُقْبَى الْيَمِينِ عَلَى عُقْبَى الْوَغَى نَدَمُ ... )

( وَأَصْبَحَتْ بِقُرَى هِنزِيطَ جائِلَةُ ... تَرْعَى الظُّبَى في خَصِيبٍ نَبْتُهُ اللِّمَم )
( فَمَا تَرَكْنَ بِهَا خُلْداً لَهُ بَصَرٌ ... تَحْتَ التُّرَابِ وَلاَ بازاً لَهُ قَدَمُ )
( وَلاَ هِزَبْراُ لَهُ مِنْ دِرْعهِ لِبَدٌ ... وَلاَ مَهَاةً لَهَا مِنْ شِبْهِهَا حَشَمُ )
وهذا من المليح النادر فالخلد استعارة لمن اختفى تحت التراب خائفا والباز استعارة لمن طار هاربا والهزبر والمهاة استعارتان للرجال المقاتلة والنساء من السبايا
ومن هذا الباب قوله
( كُلُّ جَرِيحٍ تُرْجَى سَلاَمَتُهُ ... إِلاَّ جَرِيحاً دَهَتْهُ عَيْنَاهَا )
( تَبُلُّ خَدَّيَّ كُلَّمَّا ابْتَسَمَتْ ... مِنْ مَطَرٍ بَرْقُهُ ثَنَايَاهَا )

والبيت الثاني من الأبيات الحسان التي تتواصف وقد حسن الاستعارة التي فيه أنه جاء ذكر المطر مع البرق
وبلغني عن أبي الفتح بن جني رحمه الله أنه شرح ذلك في كتابه الموسوم بالمفسر الذي ألفه في شرح شعر أبي الطيب فقال إنها كانت تبزق في وجهه فظن أن أبا الطيب أراد أنها كانت تبسم فيخرج الريق من فمها ويقع على وجهه فشبهه بالمطر وما كنت أظن أن أحدا من الناس يذهب وهمه وخاطره حيث ذهب وهم هذا الرجل وخاطره وإذا كان هذا قول إمام من أئمة العربية تشد إليه الرحال فما يقال في غيره لكن فن الفصاحة والبلاغة غير فن النحو والإعراب
وكذلك ورد قول الشريف الرضي
( إِذَا أَنْتَ أَفْنَيْتَ الْعَرَانِينَ وَالذُّرَى ... رَمَتْكَ اللَّيَالِي مِنْ يَدِ الْخَامِلِ الْغَمْرِ )
( وَهَبْكَ اتقَيْتَ السَّهْمَ مِنْ حَيْثُ يُتَّقَى ... فَمَنْ لِيَدٍ تَرْمِيكَ مِنْ حَيْثُ لاَ تَدْرِي )
فالعرانين والذرى هما عظماء الناس وأشرافهم كأنه قال إذا أفنيت عظماء الناس رميت من يد الخامل
وإذا قد بينت أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له فإنها لا تجيء إلا ملائمة مناسبة ولا يوجد فيها مباينة ولا تباعد لأنها لا تذكر مطوية إلا لبيان المناسبة بين المستعار منه والمستعار له ولو طويت ولم يكن هناك مناسبة بين المستعار منه والمستعار له لعسر فهمه ولم يبن المراد منها

ورأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي رحمه الله تعالى قد خلط الاستعارة بالتشبيه المضمر الأداة ولم يفرق بينهما وتأسى في ذلك بغيره من علماء البيان كأبي هلال العسكري والغانمي وأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي على أن أبا القاسم بن بشر الآمدي كان أثبت القوم قدما في فن الفصاحة والبلاغة وكتابه المسمى ب الموازنة بين شعر الطائيين يشهد له بذلك وما أعلم كيف خفي عليه الفرق بين الاستعارة والتشبيه المضمر الأداة
ومما أورده ابن سنان في كتابه الموسوم ب سر الفصاحة قول امرئ القيس في صفة الليل
( فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ ... وَأَرْدَفَ أَعْجَازاً وَنَاءَ بِكَلْكَلِ )
وهذا البيت من التشبيه المضمر الأداة لأن المستعار له مذكور وهو الليل وعلى الخطأ في خلطه بالاستعارة فإن ابن سنان أخطأ في الرد على الآمدي ولم يوفق للصواب وأنا أتكلم على ما ذكره ولا أضايقه في الاستعارة والتشبيه بل أنزل معه على ما رآه من أنه استعارة ثم أبين فساد ما ذهب إليه
وذاك أن الآمدي قال في كتاب الموازنة إن امرأ القيس وصف أحوال

الليل الطويل فذكر امتداد وسطه وتثاقل صدره وترادف أعجازه فلما جعل له وسطا ممتدا وصدرا ثقيلا وأعجازا رادفة لوسطه استعار له اسم الصلب وجعله متمطيا من أجل امتداده واسم الكلكل وجعله نائيا لتثاقله واسم العجز من أجل نهوضه
فقال ابن سنان الخفاجي معترضا عليه إن هذا الذي ذكره الآمدي ليس بمرضي غاية الرضا وإن بيت امرئ القيس ليس من الاستعارة الجيدة ولا الرديئة بل هو وسط فإن الآمدي قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل لليل وسطا ممتدا استعار له اسم الصلب وجعله متمطيا من أجل امتداده وحيث جعل له آخرا وأولا استعار له عجزا وكلكلا وهذا كله إنما يحسن بعضه مع بعض فذكر الصلب إنما يحسن من أجل العجز والوسط والتمطي من أجل الصلب والكلكل لمجموع ذلك وهذه استعارة مبنية على استعارة أخرى
هذا حكاية كلامه في الاعتراض على الآمدي
وفيه نظر من وجهين

الأول أنه قال هذا بيت من الاستعارة الوسطى التي ليست بجيدة ولا رديئة ثم جعلها استعارة مبنية على استعارة أخرى وعنده أن الاستعارة المبنية على الاستعارة من أبعد الاستعارات وذاك أنه قسم الاستعارة إلى قسمين قريب مختار وبعيد مطرح فالقريب المختار ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوي وشبه واضح والبعيد المطرح إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل أو لأنه استعارة مبنية على استعارة أخرى فيضعف لذلك هذا ما ذكره ابن سنان الخفاجي في تقسيم الاستعارة وإذا كانت الاستعارة المبنية على استعارة أخرى عنده بعيدة مطرحة فكيف جعلها وسطا هذا تناقض في القول
الوجه الثاني أنه لم يأخذ على الآمدي في موضع الأخذ لأنه لم يختر إلا ما حسن اختياره وذاك أن حد الاستعارة على ما رآه الآمدي وابن سنان هو نقل المعنى من لفظ إلى لفظ بسبب مشاركة بينهما وإن كان المذهب الصحيح في حد الاستعارة غير ذلك على ما تقدم الكلام عليه ولكني في هذا الموضع أنزل معهما على ما رأياه حتى يتوجه الكلام على الحكم بينهما في بيت امرئ القيس وإذا حددنا الاستعارة بهذا الحد فبه يفرق على رأي ابن سنان بين الاستعارة المرضية والاستعارة المطرحة فإذا وجدنا استعارة في كلام ما عرضناها على هذا الحد فما وجدنا فيه مناسبة بين المنقول عنه والمنقول إليه حكمنا له بالجودة وما لم نجد فيه تلك المناسبة حكمنا عليه بالرداءة وبيت امرئ القيس من الاستعارات المرضية لأنه لو لم يكن لليل صدر أعني أولا ولم يكن له وسط وآخر لما حسنت هذه الاستعارة ولما كان الأمر كذلك استعار لوسطه صلبا وجعله متمطيا واستعار لصدره المتثاقل أعني أوله كلكلا وجعله نائيا واستعار لآخره عجزا وجعله رادفا لوسطه وكل ذلك من الاستعارة المناسبة
وأما قول ابن سنان الخفاجي إن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى بعيدة مطرحة فإن في هذا القول نظرا وذاك أنه قد ثبت لنا أصل نقيس عليه في الفرق بين الاستعارة المرضية والمطرحة كما أريناك ولا يمنع ذلك من أن تجيء استعارة مبنية على استعارة أخرى وتوجد فيها المناسبة المطلوبة في الاستعارة المرضية فإنه قد ورد في القرآن الكريم ما هو من هذا الجنس وهو قوله تعالى ( وضرب الله

مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ) فهذه ثلاث استعارات ينبني بعضها على بعض فالأولى استعارة القرية للأهل والثانية استعارة الذوق للباس والثالثة استعارة اللباس للجوع والخوف وهذه الاستعارات الثلاث من التناسب على ما لا خفاء به فكيف يذم ابن سنان الخفاجي الاستعارة المبنية على استعارة أخرى وما أقول إن ذلك شذ عنه إلا لأنه لم ينظر إلى الأصل المقيس عليه وهو التناسب بين المنقول عنه والمنقول إليه بل نظر إلى التقسيم الذي هو قسمه في القرب أو البعد ورأى أن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى تكون بعيدة فحكم عليها بالاطراح وإذا كان الأصل إنما هو التناسب فلا فرق بين أن يوجد في استعارة واحدة أو في استعارة مبنية على استعارة ولهذا أشباه ونظائر في غير الاستعارة ألا ترى أن المنطقي في المقدمة والنتيجة كل إنسان حيوان وكل حيوان نام فكل إنسان نام وكذلك يقول المهندس في الأشكال الهندسية إذا كان خط أب مثل خط بج وخط بج مثل خط جد فخط أب مثل خط جد وهكذا أقول أنا في الاستعارة إذا كانت الاستعارة الأولى مناسبة ثم بنى عليها استعارة ثانية وكانت أيضا مناسبة فالجميع متناسب وهذا أمر برهاني لا يتصور إنكاره
وهذا الشكل الذي أوردته ههنا هو اعتراض على ما ذكره ابن سنان الخفاجي في الاستعارة فلا تظن أني موافقة في الأصل وإنما وافقته قصدا لتبيين وجه الخطأ في كلامه وكيف يسوغ لي موافقته وقد ثبت عندي بالدليل أن الاستعارة لا تكون إلا بحيث يطوى ذكر المستعار له
وفيما قدمته من الكلام كفاية

النوع الثاني في التشبيه
وجدت علماء البيان قد فرقوا بين التشبيه والتمثيل وجعلوا لهذا بابا مفردا ولهذا بابا مفردا وهما شيء واحد لا فرق بينهما في أصل الوضع يقال شبهت هذا الشيء بهذا الشيء كما يقال مثلته به وما أعلم كيف خفي ذلك على أولئك العلماء مع ظهوره ووضوحه
وكنت قدمت القول في باب الاستعارة على الفرق بين التشبيه وبينها ولا حاجة إلى إعادته ههنا مرة ثانية
والتشبيه ينقسم قسمين مظهر ومضمر وفي المضمر إشكال في تقدير أداة التشبيه فيه في بضع المواضع
وهو ينقسم أقساما خمسة فالأول يقع موقع المبتدأ والخبر مفردين والثاني يقع موقع المبتدأ المفرد وخبره جملة مركبة من مضاف ومضاف إليه والثالث يقع موقع المبتدأ والخبر جملتين والرابع يرد على وجه الفعل والفاعل والخامس يرد على وجه المثل المضروب
وهذان القسمان الأخيران هما أشكل الأقسام في تقدير أداة التشبيه
أما الأول فكقولنا زيد أسد فهذا مبتدأ وخبره وإذا قدرت أداة التشبيه فيه كان ذلك ببديهة النظر على الفور فقيل زيد كالأسد
وأما القسم الثاني والثالث فإنهما متوسطان في تقدير أداة التشبيه فيهما فالثاني كقول النبي ( الكمأة جدري الأرض ) وهذا يتنوع نوعين فإذا كان المضاف إليه معرفة كهذا الخبر النبوي لا يحتاج في تقدير أداة التشبيه إلى تقديم المضاف إليه بل إن شئنا قدمناه وإن شئنا أخرناه فقلنا الكمأة للأرض كالجدري أو الكمأة كالجدري للأرض وإذا كان المضاف إليه نكرة فلا بد من تقديمه عند تقدير أداة التشبيه

فمن ذلك قول البحتري
( غَمَامُ سَمَاحٍ لاَ يَغِبُّ لَهُ حَياً ... وَمِسْعَرُ حَرْبٍ لاَ يَضِيعُ لَهُ وِتْرُ )
فإذا قدرنا أداة التشبيه ههنا قلنا سماح كالغمام ولا يقدر إلا هكذا والمبتدأ في هذا البيت محذوف وهو الإشارة إلى الممدوح كأنه قال هو غمام سماح
ومن هذا النوع ما يشكل تقدير أداة التشبيه فيه على غير العارف بهذا الفن كقول أبي تمام
( أَيُّ مَرْعَى عَيْنٍ وَوَادِي نَسِيبِ ... لَحَبَتْهُ الأَيَّامُ فِي مَلْحُوبِ )
ومراد أبي تمام أن يصف هذا المكان بأنه كان حسنا ثم زال عنه حسنه فقال إن العين كانت تلتذ بالنظر إليه كالتذاذ السائمة بالمرعى فإنه كان يشبب به في الأشعار لحسنه وطيبه وإذا قدرنا أداة التشبيه ههنا قلنا كأنه كان للعين مرعى وللنسيب منزلا ومألفا
وإذا جاء شيء من الأبيات الشعرية على هذا الأسلوب أو ما جرى مجراه فإنه يحتاج إلى عارف بوضع أداة التشبيه فيه

وأما الثالث فكقول النبي ( وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ) كأنه قال كلام الألسنة كحصائد المناجل
وهذا القسم لا يكون المشبه به مذكورا فيه بل تذكر صفته ألا ترى أن المنجل لم يذكر ههنا وإنما ذكرت صفته وهي الحصد وكل ما يجيء من هذا القسم فإنه لا يرد إلا كذلك
وأما القسم الرابع والخامس اللذان هما أشكل الأقسام المذكورة في تقدير أداة التشبيه فيهما فإنهما لا يتفطن لهما أنهما تشبيه
فمما جاء من القسم الرابع قوله تعالى ( والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم ) وتقديره أداة التشبيه في هذا الموضع أن يقال هم في إيمانهم كالمتبوئ دارا أي أنهم قد اتخذوا الإيمان مسكنا يسكنونه يصف بذلك تمكنهم منه
وعلى هذا ورد قول أبي تمام
( نَطَقَتْ مُقْلَةُ الْفَتَى الْمَلْهُوفِ ... فَتَشَكَّتْ بِفَيْضِ دَمْعٍ ذَرُوفِ )
وإذا أردنا أن نقدر أداة التشبيه ههنا قلنا دمع العين كنطق اللسان الباكية كأنما تنطق بما في الضمير

وأما ما جاء من القسم الخامس فكقول الفرزدق يهجو جريرا
( مَا ضَرَّ تَغْلِبَ وَائِلٍ أهَجَوْتَهَا ... أمْ بُلْتُ حَيْثُ تَنَاطَحَ الْبَحْرَانِ )
فشبه هجاء جرير تغلب وائل ببوله في مجمع البحرين فكما أن البول في مجمع البحرين لا يؤثر شيئا فكذلك هجاؤك هؤلاء القوم لا يؤثر شيئا وهذا البيت من الأبيات الذي أقر له الناس بالحسن
وكذلك ورد قوله أيضا
( قَوَارِصُ تَأْتِينِي وَتَحْتِقرُونَهَا ... وَقَدْ يَمْلأُ الْقطْرُ الإِنَاءَ فَيُفْعَمُ )
فإنه شبه القوارص التي تأتيه محتقرة بالقطر الذي يملأ الإناء على صغر مقداره يشير بذلك إلي أن الكثرة تجعل الصغير من الأمر كبيرا
وهذا الموضع يشكل على كثير من علماء البيان ويخلطونه بالاستعارة كقول البحتري في التعزية بولد

( تَعَزَّ فَإنَّ السَّيْفَ يَمْضِ وَإنْ وَهَتْ ... حَمَائِلُهُ عَنْهُ وَخَلاَّهُ قَائِمُهُ )
وهذا ليس من التشبيه وإنما هو استعارة لأن المستعار له مطوي الذكر وهو المعزى كأنه قال تعز فإنك كالسيف الذي يمضي وإن وهت حمائله وخلاه قائمه
فإن قيل إنك قدمت القول في باب الاستعارة بأن التشبيه المضمر الأداة يحسن تقدير أداة التشبيه فيه والاستعارة لا يحسن تقدير أداة التشبيه فيها وجعلت ذلك هو الفرق بين التشبيه المضمر الأداة بين الاستعارة وقررت ذلك تقريرا طويلا عريضا ثم نراك قد نقضته ههنا بقولك إن من التشبيه المضمر الأداء ما يشكل تقدير أداة التشبيه قيه وإنه يحتاج في تقديرها إلي نظر كهذين البيتين المذكورين للفرزدق وما يجري مجراهما
فالجواب عن ذلك أني أقول هذا الذي ذكرته لا ينقص علي شيئا مما قدمت القول فيه في باب الاستعارة لأني قلت إن التشبيه المضمر الأداة يحسن تقدير الأداة فيه أي لا يتغير بتقديرها فيه عن صفته التي اتصف بها من فصاحة وبلاغة وليس كذلك الاستعارة فإنها إذا قدرت أداة التشبيه فيها تغيرت عن صفتها التي أتصفت بها من فصاحة وبلاغة وأما الذي ورد ههنا من بيتي الفرزدق وما يجري مجراهما من التشبيه المضمر الأداة فإن أداة التشبيه لا تتقدر فيه وهو علي حالته من النظم حتى تتبين هل تغيرت صفته التي اتصف بها من فصاحة وبلاغة أم لا وإنما تتقدر أداة التشبيه فيه على وجه آخر وهذا لا ينقض ما أشرت إليه في باب الاستعارة
وإذا ثبتت هذه الأقسام الأربعة فأقول إن التشبيه المضمر أبلغ من التشبيه المظهر وأوجز أما كونه أبلغ فلجعل المشبه مشبها به من غير واسطة أداة فيكون هو إياه فإنك إذا قلت زيد أسد كنت قد جعلته أسدا من غير إظهار أداة التشبيه

وأما كونه أوجز فلحذف أداة التشبيه منه وعلى هذا فإن القسمين من المظهر والمضمر كليهما في فضيلة البيان سواء فإن الغرض المقصود من قولنا زيد أسد أن يتبين حال زيد في اتصافه بشهامة النفس وقوة البطش وجراءة الإقدام وغير ذلك مما يجري مجراه إلا أنا لم نجد شيئا ندل به عليه سوى أن جعلناه شبيها بالأسد حيث كانت هذه الصفات مختصة به فصار ما قصدناه من هذا القول أكشف وأبين من أن لو قلنا زيد شهم شجاع قوي البطش جريء الجنان وأشباه ذلك لما قد عرف وعهد من اجتماع هذه الصفات في المشبه أعني الأسد وأما زيد الذي هو المشبه فليس معروفا بها وإن كانت موجودة فيه
وكلا هذين القسمين أيضا يختص بفضيلة الإيجاز وإن كان المضمر أوجز من المضمر لأن قولنا زيد أسد أو كالأسد يسد مسد قولنا زيد من حاله كيت وكيت وهو من الشجاعة والشدة على كذا وكذا مما يطول ذكره
فالتشبيه إذا يجمع صفات ثلاثة هي المبالغة والبيان والإيجاز كما أريتك إلا أنه من بين أنواع علم البيان مستوعر الذهب وهو مقتل من مقاتل البلاغة وسبب ذلك أن حمل الشيء على الشيء بالمماثلة إما صورة وإما معنى يعز صوابه وتعمر الإجادة فيه وقلما أكثر منه أحد إلا عثر كما فعل ابن المعتز من أدباء العواق وابن وكيع من أدباء مصر فإنهما أكثرا من ذلك لا سيما في وصف الرياض والأشجار والأزهار والثمار لا جرم أنهما أتيا بالغث البارد الذي لا يثبت على محك الصواب فعليك أن تتوقى ما أشرت إليه
وأما فائدة التشبيه من الكلام فهي أنك إذا مثلت الشيء بالشيء فإنما تقصد به إثبات الخيال في النفس بصورة المشبه به أو بمعناه وذلك أوكد في طرفي الترغيب فيه أو التنفير عنه ألا ترى أنك إذا شبهت صورة بصورة هي أحسن منها كان ذلك مثبتا في النفس خيالا حسنا يدعو إلى الترغيب فيها وكذلك إذا شبهتها بصورة شيء أقبح منها كان ذلك مثبتا في النفس خيالا قبيحا يدعو إلى التنفير عنها وهذا لا نزاع فيه

ولنضرب له مثالا يوضحه فنقول قد ورد عن ابن الرومي في مدح العسل وذمه بيت من الشعر وهو
( تَقُولُ هذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ )
ألا ترى كيف مدح وذم الشيء الواحد بتصريف التشبيه المجازي المضمر الأداة الذي خيل به إلى السامع خيالا يحسن الشيء عنده تارة ويقبحه أخرى ولولا التوصل بطريق التشبيه على هذا الوجه لما أمكنه ذلك وهذا المثال كاف فيما أردناه
واعلم أن محاسن التشبيه أن يجيء مصدريا كقولنا أقدم إقدام الأسد وفاض فيض البحر وهو أحسن ما استعمل في باب التشبيه كقول أبي نواس في وصف الخمر
( وَإذَا مَا مَزَجُوهَا ... وَثَبَتْ وَثْبَ الْجَرَادِ )
( وَإذَا مَا شَرِبُوهَا ... أَخَذَتْ أَخْذَ الرُّقَادِ )
وقيل إن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم ومن ههنا غلط بعض الكتاب من أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبها له فقال هامة عليها من الغمامة عمامة وأنملة خضبها الأصيل فكان الهلال منها قلامة وهذا الكتاب حفظ شيئا وغابت عنه أشياء فإنه أخطأ في قوله أنملة وأي مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل وأصاب في المناسبة بين ذكر الأنملة والقلامة وتشبهها بالهلال

فإن قيل إن هذا الكاتب تأسى فيما ذكره بكلام الله تعالى حيث قال ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ) فمثل نوره بطاقة فيها ذبالة وقال الله تعالى ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) فمثل الهلال بأصل عذق النخلة
فالجواب عن ذلك أني أقول أما تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح فإن هذا مثال ضربه للنبي ويدل عليه أنه قال ( توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ) وإذا نظرت إلى هذا الموضع وجدته تشبيها لطيفا عجيبا وذاك أن قلب النبي وما ألقى فيه من النور وما هو عليه من الصفة الشفافة كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءتها ويما الشجرة المباركة التي لا شرقية ولا غربية فإنها عبارة عن ذات النبي لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل إلى الشرق ولا إلى الغرب وأما زيت هذه الزجاجة فإنه مضيء من غير أن تمسه نار والمراد بذلك أن فطرته فطرة صافية من الأكدار منيرة من قبل مصافحة الأنوار فهذا هو المراد بالتشبيه الذي ورد في هذه الآية
وأما الآية الأخرى فإنه شبه الهلال فيها بالعرجون القديم وذلك في هيئة نحوله واستدارته لا في مقداره فإن مقدار الهلال عظيم ولا نسبة للعرجون إليه لكنه في مرأى النظر كالعرجون هيئة لا مقدارا
وأما هذا الكاتب فإن تشبيهه ليس على هذا النسق لأنه شبه صورة الحصن بأنملة في المقدار لا في هيئة والشكل وهذا غير حسن ولا مناسب وإنما ألقاه فيه أنه قصد الهلال والقلامة مع ذكر الأنملة فأخطأ من جهة وأصاب من جهة لكن خطؤه غطى على صوابه
والقول السديد في بلاغة التشبيه هو ما أذكره وهو أن إطلاق من أطلق قوله في أن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الأصغر بالأكبر غير سديد فإن هذا قول غير حاصر للغرض المقصود لأن التشبيه يأتي تارة في معرض المدح وتارة في معرض الذم وتارة في غير معرض مدح ولا ذم وإنما يأتي قصدا للإبانة والإيضاح ولا يكون تشبيه أصغر بأكبر كما ذهب إليه من ذهب بل القول الجامع في ذلك أن

يقال إن التشبيه لا يعمد إليه إلا لضرب من المبالغة فإما أن يكون مدحا أو ذما أو بيانا وإيضاحا ولا يخرج عن هذه المعاني الثلاثة وإذا كان الأمر كذلك فلا بد فيه من تقدير لفظة أفعل فإن لم تقدر فيه لفظة أفعل فليس بتشبيه بليغ ألا ترى أنا نقول في التشبيه المضمر الأداة زيد أسد فقد شبهنا زيدا بأسد الذي هو أشجع منه فإن لم يكن المشبه به في هذا المقام أشجع من زيد الذي هو المشبه وإلا كان التشبيه ناقصا إذ لا مبالغة فيه
وأما التشبيه المظهر الأداة فكقوله تعالى ( وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام ) وهذا تشبيه كبير بما هو أكبر منه لأن خلق السفن البحرية كبير وخلق الجبال أكبر منه وكذلك إذا شبه شيء حسن بشيء حسن فإنه إذا لم يشبه بما هو أحسن منه فليس بوارد على طريق البلاغة وإن شبه قبيح بقبيح وهكذا ينبغي أن يكون المشبه به أقبح وإن قصد البيان والإيضاح فينبغي أن يكون المشبه به أبين وأوضح فتقدير لفظة أفعل لا بد منه فيما يقصد به بلاغة التشبيه وإلا كان التشبيه ناقصا فاعلم ذلك وقس عليه
واعلم أنه لا يخلو تشبيه الشيئين أحدهما بالآخر من أربعة أقسام إما تشبيه معنى بمعنى كالذي تقدم ذكره من قولنا زيد كالأسد وإما تشبيه صورة بصورة كقوله تعالى ( وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهم بيض مكنون ) وإما تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) وهذا القسم أبلغ الأقسام الأربعة لتمثيله المعاني الموهومة بالصور المشاهدة وإما تشبيه صورة بمعنى كقول أبي تمام
( وَفَتَكْتَ بِالْمَالِ الْجَزِيلِ وَبِالْعِدَا ... فَتْكَ الصَّبَابَةِ بِالْمُحِبِّ الْمُغْرَمِ )
فشبه فتكه بالمال وبالعدا وذلك صورة مرئية بفتك الصبابة وهو فتك معنوي وهذا القسم ألطف الأقسام الأربعة لأنه نقل صورة إلى غير صورة

وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة المشار إليها لا يخلو التشبيه فيه من أربعة أقسام أيضا إما تشبيه مفرد بمفرد وإما تشبيه مركب بمركب وإما تشبيه مفرد بمركب وإما تشبيه مركب بمفرد
والمراد بقولنا مفرد ومركب أن المفرد يكون تشبيه شيء واحد بشيء واحد والمركب تشبيه شيئين اثنين وكذلك المفرد بالمركب والمركب بالمفرد فإن أحدهما يكون تشبيه شيء واحد بشيئين والآخر يكون تشبيه شيئين بشيء واحد ولست أعني بقولي تشبيه شيئين بشيئين أنه لا يكون إلا كذلك بل أردت تشبيه شيئين بشيئين فما فوقهما كقول بعضهم في الخمر
( وَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّ حَامِلَ كأسهَا ... إذْ قَامَ يَجْلُوهَا عَلَى النُّدَمَاءِ )
( شَمْسُ الضٌّحَى رَقَصَتْ فَنَقَّطَ وَجْهَها ... بَدْرُ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْجَوْزَاءِ )
فشبه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فإنه شبه الساقي بالبدر وشبه الخمر بالشمس وشبه الحبب الذي فوقها بالكواكب
وإذا بينت أن التشبيه ينقسم إلى تلك الأقسام الأربعة فإني أقول إن التشبيه المضمر الأداة قد قدمت القول في أنه ينقسم إلى خمسة أقسام فالقسم الأول لا يرد إلا في تشبيه مفرد بمفرد والقسم الثاني لا يرد إلا في تشبيه مفرد بمركب والقسم الثالث لا يرد إلا في تشبه مركب بمركب والقسم الرابع والخامس لا يردان إلا في تشبيه مركب بمركب ألا ترى أنا إذا قلنا في القسم الأول زيد أسد كان ذلك تشبيه مفرد بمفرد وإذا قلنا في القسم الثاني ما مثلناه به من الخبر النبوي وهو الكمأة جدري الأرض كان ذلك تشبيه مفرد بمركب وكذلك بيت البحتري وبيت أبي تمام المشار إليهما فيما تقدم وإذا قلنا في القسم الثالث ما أشرنا إليه من الخبر النبوي أيضا الذي هو وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم كان ذلك تشبيه مركب بمركب وإذا قلنا في القسم الرابع والخامس ما مثلنا به من بيتي الفرزدق والبحتري كان ذلك تشبيه مركب بمركب وإذا كان الأمر كذلك وجاءك شيء من التشبيه المضمر الأداة وهو من القسم الأول فاعلم أنه تشبيه مفرد بمفرد بمركب وإذا جاءك شيء من القسم الثالث

فاعلم أنه تشبيه مركب بمركب وكذلك إذا جاءك شيء من القسم الرابع والقسم الخامس فإنهما من باب تشبيه المركب بالمركب
ولنرجع إلى ذكر ما أشرنا إليه أولا في تقسيم التشبيه إلى الأربعة الأقسام الأخرى التي هي تشبيه مفرد بمفرد وتشبيه مركب بمركب وتشبه مفرد بمركب وتشبه مركب بمفرد
فالقسم الأول منها كقوله تعالى في المضمر الأداة ( وجعلنا الليل لباسا ) فشبه الليل باللباس
وذاك أنه يستر الناس بعضهم عن بعض لمن أراد هربا من عدو أو ثباتا لعدو أو إخفاء ما لا يحب الإطلاع عليه من أمره وهذا من التشبيهات التي لم يأته بها إلا القرآن الكريم فإن تشبيه الليل باللباس مما اختص به دون غيره من الكلام المنظوم والمنثور
وكذلك قوله تعالى ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) فشبه المرأة باللباس للرجل وشبه الرجل باللباس للمرأة
ومن محاسن التشبيهات قوله تعالى ( نساؤكم حرث لكم ) وهذا يكاد ينقله تناسبه عن درجة المجاز إلى الحقيقة والحرث هو الأرض التي تحرث للزرع وكذلك الرحم يزدرع فيه الولد ازدراعا كما يزدرع البذر في الأرض
ومن هذا الأسلوب قوله تعالى ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) فشبه تبرؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد المسلوخ وذاك أنه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ وكان ذلك أولى من أن لو قيل يخرج لأن السلخ أدل على الالتحام من الإخراج وهذا تشبيه في غاية المناسبة
وكذلك ورد قوله تعالى ( واشتعل الرأس شيبا ) فشبه انتشار الشيب باشتعال النار ولما كان الشيب يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأول بمنزلة النار التي تشتعل في الجسم وتسري فيه حتى تحيله إلى غير حاله الأولى وأحسن من هذا أن يقال إنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار في سرعة

التهابه وتعذر تلافيه وفي عظم الألم في القلب به وأنه لم يبق بعده إلا الخمود فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبه والمشبه به وذلك في الغاية القصوى من التناسب والتلاؤم
وقد ورد في الأمثال الليل جنة الهارب وهذا تشبيه حسن
وكل ذلك من التشبيه المضمر الأداة
ومما ورد منه شعرا قول أبي الطيب المتنبي
( وَإِذَا اهْتَزَّ لِلنَّدَى كَانَ بَحْراً ... وَإِذَا اهْتَزَّ لِلْوَغَى كَانَ نَصْلاً )
( وَإذَا الأَرْضُ أظْلَمَتْ كَانَ شَمْساً ... وَإِذَا الأَرْضُ أمْحَلَتْ كَانَ وَبْلاَ )
فحرف التشبيه ههنا مضمر وتقديره كان كأنه بحر وكان كأنه نصل
وكذلك يقال في البيت الثاني كان كأنه شمس وكان كأنه وبل وهذا تشبيه صورة بصورة وهو حسن في معناه
وكذلك ورد قول أبي نواس وهو في تشبيه الحبب
( فَإِذا مَا اعْتَرَضَتهَ الْعَيْنٌ ... مِنْ حَيْثُ اسْتَدَارَا )
( خِلْتَهُ فِي جَنَبَاتِ الْكأْسِ ... وَاوَاتٍ صِغَارَا )
وهذا تشبيه صورة بصورة أيضا

وقد أبرز هذا المعنى في لباس آخر فقال
( وَإِذَا عَلاَهَا الْمَاءُ ألْبَسَهَا ... حَبَباً شَبِيهَ جَلاَجِلِ الْحِجْلِ )
( حَتَّى إذَا سَكَنَتْ جَوَامِحُهَا ... كَتَبَتْ بِمِثْلِ أكَارِع النَّمْلِ )
ومن هذا قول البحتري
( تَبَسُّمٌ وَقُطُوبٌ فِي نَدًى وَوَغىً ... كَالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ تَحْتَ العَارِضِ الْبَردِ )
وهذا من أحسن التشبيه وأقربه إلا أن فيه إخلالا من جهة الصنعة وهي ترتيب التفسير فإن الأولى أن كان قدم تفسير التبسم على تفسير القطوب بأن كان قال كالبرق والرعد فانظر أيهما المنتمي إلى الفن كيف ذهب على البحتري مثل هذا الموضوع على قربه مع تقدمه في صناعة الشعر وليس في ذلك كبير أمر سوى أن كان قدم ما أخر لا غير وإنما يعذر الشاعر في مثل هذا المقام إذا حكم عليه الوزن والقافية واضطر إلى ترك ما يجب عليه وأما إذا كانت الحال كالتي ذكرها البحتري فحينئذ لا عذر له وسيأتي لذلك باب مفرد في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى وهو باب ترتيب التفسير
وكذلك ورد قول البحتري

( فِي مَعْرَكٍ ضَنْكٍ تَخَالُ بِهِ الْقنَا ... بَيْنَ الضُّلُوعِ إذا انْحَنَيْنَ ضُلُوعَا )
ومن تشبيه المفرد بالمفرد قول أبي الطيب المتنبي
( خَرَجْنَ مِنَ النَّقْعِ فِي عَارِضِ ... وَمِنْ عَرَقِ الرَّكْضِ فِي وَابِلِ )
( فَلَمَّا نَشِفْنَ لَقِينَ السِّيَاط ... بِمِثْلِ صَفَا الْبَلَدِ الْمَاحِلِ )
وقد حوى هذان البيتان قرب التشبيه مع براعة النظم وجزالة اللفظ
وأما القسم الثاني وهو تشبيه المركب بالمركب فمما جاء منه مضمر الأداة ما يروى عن النبي في حديث يرويه معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو حديث طويل يشتمل على فضائل أعمال متعددة ولا حاجة إلى إيراده ههنا على نصه بل نذكر الغرض منه وهو أنه قال له رسول الله ( أمسك عليك هذا ) وأشار إلى لسانه فقال معاذ أو نحن مؤاخذون بما نتكلم به فقال ( ثكلتك أمك

يا معاذ وقل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ) فقوله حصائد ألسنتهم من تشبيه المركب بالمركب فإنه شبه الألسنة وما تمضي فيه من الأحاديث التي يؤاخذ بها بالمناجل التي تحصد النبات من الأرض وهذا تشبيه بليغ عجيب لم يسمع إلا من النبي
ومما ورد منه شعرا قول أبي تمام
( مَعْشَر أصْبَحُوا حَصُونَ الْمَعَالِي ... وَدُرُوعَ الأَحْسَابِ وَالأَعْرَاضِ )
فقوله حصون المعالي من التشبيه المركب وذاك أنه شبههم في منعهم المعالي أن ينالها أحد سواهم بالحصون في منعها من بها وحمايته وكذلك قوله دروع الأحساب
وأما المظهر الأداة فمما جاء منه قوله تعالى ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) فشبهت حال الدنيا في سرعة زوالها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفائه وذهابه حطاما بعدما التف وتكاثف وزين الأرض وذاك تشبيه صورة بصورة وهو من أبدع ما يجيء في بابه
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في وصف حال المنافقين ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) تقديره أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة بمفازة فاستضاء بها ما حوله فاتقى ما يخاف وأمن فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره

فبقي مظلما خائفا وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الإيمان استنار بها واعتز بعزها وأمن على نفسه وماله وولده فإذا مات عاد إلى الخوف وبقي في العذاب والنقمة
ومما ورد منه في الأخبار النبوية قول النبي ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب ولا طعم لها ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر ) وهذا من باب تشبيه المركب بالمركب ألا ترى أن النبي شبه المؤمن القارئ وهو متصف بصفتين هما الإيمان والقراءة بالأترجة وهي ذات وصفين هما الطعم والريح وكذلك يجري الحكم في المؤمن غير القارئ وفي المنافق القارئ والمنافق غير القارئ
وقد جاءني شيء من ذلك أوردته في فصل من كتاب أصف فيه البر والمسير فقلت لم أزل أصل الذميل بالذميل وألف الضحى بالأصيل والأرض كالبحر في سعة صدره والمطايا كالجواري راكدة على ظهره فمكان الركب منها كمكانهم من الأكوار ومسيرهم فيها على كرة لا تستقر بها حركة الأدوار
وأما ما ورد من ذلك شعرا فكقول البحتري
( خُلُقٌ مِنْهُم تْرَدَّدَ فِيهمْ ... وَلِيَتْهُ عِصَابَة عَنْ عِصَابَهْ )

( كالْحُسَامِ الْجَرَازِ يَبْقَى عَلَى الدَّهْرِ ... وَيُفْنَي في كلِّ حِينٍ قِرَابَهْ )
وكذلك ورد قول ابن الرومي
( أَدْرِكْ ثِقَاتَكَ إنَّهُمْ وَقَعُوا ... في نَرْجِسٍ مَعَهُ ابْنَةُ الْعِنَبِ )
( فَهُمُ بِحَالٍ لَوْ بَصُرْتَ بِهَا ... سَبَّحْتَ مِنْ عُجْبٍ وَمِنْ عَجَبِ )
( رَيْحَانُهُمْ ذَهَبٌ عَلَى دُرَرٍ ... وَشَرَابُهُمْ دُرَرٌ عَلَى ذَهَبِ )
وهذا تشبيه صنيع إلا أن تشبيه البحتري أصنع وذلك أن هذا التشبيه صدر عن صورة مشاهدة وذاك إنما استنبطه استنابطا من خاطره وإذا شئت أن تفرق بين صناعة التشبيه فانظر إلى ما أشرت إليه ههنا فإن كان أحد التشبيهين عن صورة مشاهدة والآخر عن صورة غير مشاهدة فاعلم أن الذي هو عن صورة غير مشاهدة أصنع ولعمري إن التشبيهين كليهما لا بد فيهما من صورة تحكي لكن أحدهما شوهدت الصورة فيه فحكيت والآخر استنبطها ألا ترى أن ابن الرومي نظر إلى النرجس وإلى الخمر فشبه وأما البحتري فإنه مدح قوما بأن خلق السماح باق فيهم ينتقل عن الأول إلى الآخر ثم استنبط لذلك تشبيها فأداه فكره إلى السيف وقربه التي تفنى في كل حين وهو باق لا يفنى بفنائها ومن أجل ذلك كان البحتري أصنع في تشبيهه
وسأورد ههنا من كلامي نبذة يسيرة فمن ذلك ما كتبته من جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أذكر فيه نزول العدو الكافر على ثغر عكا في سنة خمس وثمانين وخمسمائة فقلت وأحاط بها العدو إحاطة الشفاه بالثغور ونزل عليها نزول

الظلماء على النور
وهذا من التشبيهات المناسبة ثم لما جئت إلى ذكر قتال المسلمين إياه وإزالته عن جانب الثغر قلت وقد اصطدم من الإسلام والكفر ابنا شمام والتقى من عجاجتهما ظلام وعند ذلك أخذ العدو في التحيز إلى جانب وكان كحاجب على عين فصار كعين في حاجب وإذا تزعزع البناء فقد هوى وإذا قبض من طرق البساط فقد انطوى
وهذا التشبيه في مناسبته كالأول بل أحسن
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت وما شبهت كتابه في وروده وانقباضه إلا بنظر الحبيب في إقباله وإعراضه وكلا الأمرين كالسهم في ألم وقعه وألم نزعه والمشوق من استوت صبابته في حالتي وصله وقطعه وما أزال على وجل من إرسال كتبه وإجمامها واشتباه لمها بإلمامها
ومما جاء من هذا القسم في الشعر قول بكر بن النطاح
( تَرَاهُمُ يَنْظُرُونَ إِلَى الْمَعَالِي ... كَمَا نَظَرَتْ إِلَى الشَّيْبِ الْمِلاَحُ )
( يُحِدُّونَ الْعُيُونَ إِلَيَّ شَذْراً ... كَأَنِّي فِي عُيُونِهمُ السَّمَاحُ )
وهذا بديع في حسنه بليغ في تشبيهه
وعلى هذا النهج ورد قول أبي تمام
( خَلَطَ الشَّجَاعَةَ بِالْحَيَاءِ فَأَصْبَحَا ... كَالْحُسْنِ شِيبَ لِمُغْرَمٍ بدَلاَلِ )
وهذا من غريب ما يأتي في هذا الباب وقد تغالت شيعة أبي تمام في وصف هذا البيت وهو لعمري كذلك
ومن هذا القسم أيضا قوله

( كَمْ نِعْمَةٍ لِلهِ كَانَتْ عِنْدَهُ ... فَكَأَنَّهَا فِي غُرْبَةٍ وَإِسَارِ )
( كُسِيَتْ سَبَائِبُ لُؤْمِهِ فَتَضَاءَلَتْ ... كَتَضَاؤُلِ الْحَسْنَاءِ فِي الأَطْمَارِ )
وكذلك قوله
( صَدَفْتُ عَنْهُ وَلَمْ تَصْدِفْ مَوَاهِبُهُ ... عَنِّي وَعَاوَدَهُ ظَنِّي فَلَمْ يَخِبِ )
( كَالْغَيْثِ إنْ جِئْتَهُ وَافاكَ رَيِّقُهُ ... وَإنْ تَرَحَّلْتَ عَنْهُ لَجَّ في الطَّلَبِ )
وعلى هذا الأسلوب ورد قول علي بن جبلة
( إذا مَا تَرَدَّى لأْمَةَ الْحَرْبِ أرْعِدَتْ ... حَشَا الأَرْضِ وَاسْتَدْمَى الرِّمَاحُ الشَّوَارِعُ )
( وَأسْفَرَ تَحْتَ النَّقْعِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... صَبَاحٌ مَشَى في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ طَالِعُ )
وقد أحسن علي بن جبلة في تشبيهه هذا كل الإحسان
وكمثله في الحسن قوله أيضا في تشبيهه الحبب فوق الخمر
( تَرَى فَوْقَهَا نَمَشاً لِلْمَزَاجِ ... تباذير لاَ يَتَّصِلْنَ اتِّصَالاَ )
( كَوَجْهِ الْعَرُوسِ إِذَا خَطَّطَتْ ... عَلَى كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْهُ خَالاَ )

ومن هذا القسم قول مسلم بن الوليد
( تَلْقَى الْمَنِيَّةَ فِي أَمْثَالِ عُدَّتِهَا ... كَالسَّيْلِ يَقْذِفُ جُلْمُوداً بِجُلْمُودِ )
وعلى هذا الأسلوب ورد قول العباس بن الأحنف
( لاَ جَزَى اللهُ دَمْعَ عَيْنِيَ خَيْراً ... وَجَزَى اللهُ كُلَّ خَيْرٍ لِسَانِي )
( نمَّ دَمْعِي فَلَيْسَ يَكْتُمُ شَيْئاً ... وَوَجَدْتُ اللِّسَانَ ذَا كِتْمَانِ )
( كُنْتُ مِثْلَ الْكِتَابِ أْخْفَاهُ طَيٌّ ... فَاسْتَدلٌّوا عَلَيْهِ بِالْعُنْوانِ )
وهذا من اللطيف البديع
ويروى أن أبا نواس لما دخل مصر مادحا للخصيب جلس يوما في رهط من الأدباء وتذكروا منازه بغداد فأنشد مرتجلا
( ذَكَرَ الْكَرْخَ نَازِحُ الأَوْطَانِ ... فَصَبَا صَبْوَةً وَلاَتَ أَوَانِ )

ثم أتم ذلك قصيدا مدح به الخصيب فلما عاد إلى بغداد دخل عليه العباس ابن الأحنف وقال أنشدني شيئا من شعرك بمصر فأنشده
( ذَكَر الْكَرْخَ نازحُ الأَوْطَانِ ... )
فلما استتم الأبيات قال له لقد ظلمك من ناواك وتخلف عنك من جاراك وحرام على أحد يتفوه بقول الشعر بعدك فقال أبو نواس وأنت أيضا يا أبا الفضل تقول هذا ألست القائل
( لاَ جَزَى اللهُ دَمْعَ عَيْنِيَ خَيْراً ... )
وأنشد الأبيات ثم قال ومن الذي يحسن أن يقول مثل هذا
ومن تشبيه المركب بالمركب قول البحتري
( جِدَةٌ يذُودُ الْبُخْلَ عَنْ أطْرَافِهَا ... كَالْبَحْرِ يَمْنَعُ مِلْحَهُ عَنْ مَائِهِ )
وهذا من محاسن التشبيهات
وكذلك ورد قوله
( وَتَرَاهُ فِي ظُلَمِ الْوَغَى فَتَخَالُهُ ... قَمَراً يَكُرُّ عَلَى الرِّجَالِ بِكَوْكَبِ )
وفي هذا البيت تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فإنه شبه العجاج بالظلمة والممدوح بالقمر والسنان بالكوكب وهذا من الحسن النادر

وكذلك ورد قوله
( يَمشُونَ فِي زَعْفٍ كَأَنَّ مُتُونَهَا ... فِي كُلِّ مَعْرَكَةٍ مُتُونُ نِهَاء )
( بِيضٌ تَسِيلُ عَلَى الْكُمَاةِ نُصُولُهَا ... سَيْلَ السَّرَابِ بِقَفْرةٍ بَيْدَاءِ )
( فَإِذَا الأَسِنَّةُ خَالَطَتْهَا خِلْتَهَا ... فِيها خَيَالَ كَوَاكِبٍ في مَاءٍ )
فالبيتان الأخيران هما اللذان تضمنا تشبيه المركب بالمركب وإنما جئنا بالبيت الأول سياقة إلى معناهما وهو من التشبيه الذي أحسن فيه البحتري وأغرب
ومن هذا الباب ما ورد لبعض الشعراء في وصف الخمر فقال
( كَانَتْ سِرَاجَ أُنَاسٍ يَهْتَدُونَ بِهَا ... فِي سَالِفِ الدَّهْرِ قَبْلَ النَّارِ وَالنُّورِ )
تَهْتَزُّ فِي الْكَأْسِ مِنْ ضَعْفٍ ومِنْ هَرَمٍ ... كَأَنَّهَا قَبَسٌ فِي كَفِّ مَقْرُورِ )
وقد يندر للناظم أو الناثر شيء من كلامه يبلغ الغاية التي لا أمد فوقها وهذان البيتان من هذا القبيل
ومن أغرب ما سمعته في هذا الباب قول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة

( فَتًى عِيشَ في مَعْرُوفِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ... كَمَا كَانَ بَعْدَ السَّيْلِ مَجرْاهُ مَرْتَعَا )
القسم الثالث في تشبيه المفرد بالمركب
فمما ورد منه قوله تعالى ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية )
وكذلك قوله تعالى ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف )
ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب يتضمن استنجادا فقلت وهو إذا استصرخ أصرخ بعزم كالشهاب في رجمه وهم كالقوس الممتلئ بنزع سهمه ويرى أن صريخه لم يخب وأنه إذا لم يجبه بالسيف فكأنه لم يجب فهو مغري جواده وحسامه ومسمع العدو صرير رمحه قبل قعقعة لجامه
وكذلك أيضا ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان أذم الفراق فقلت والفراق شيء لا كالأشياء وصاحبه ميت لا كالأموات وحي لا كالأحياء وما أراه إلى كنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وما يجعل صاحبها في ضحضاح منها إلا تواتر الكتاب التي تقيه بعض الوقاء وتقوم له وإن لم يسق مقام الإسقاء
وأما ما ورد منه في الشعر فكقول أبي نواس

( إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ ... لَهُ عَنْ عَدُو فِي ثِيَابِ صَدِيقِ )
وكذلك قول أبي تمام يصف قصيدا له
( خُذْهَا مُثَقَّفَةَ الْقَوَافِي رَبُّهَا ... لِسَوابِغِ النَّعْمَاءِ غَيْرُ كَنُودِ )
( كَالدُّرِّ وَالْمَرْجَانِ أُلِّفَ نَظْمُهُ ... بالشَّذْرِ فِي عُنُقِ الْفَتَاةِ الرُّودِ )
وكذلك ورد قول البحتري وهو من جملة قصيدته المشهورة التي وصف فيها الفرس والسيف وأولها
( أهْلاً بِذَلِكُمُ الْخَيَالِ الْمُقْبِلِ ... )
فقال فيها من أبيات تضمنت وصف السيف بيتا أجاد في تشبيهه
( وَكَأَنَّمَا سُودُ النِّمالِ وَحُمْرُهَا ... دَبَّتْ بِأيدٍ فِي قُوَاهُ وأرْجُلِ )
فشبه فرند السيف بدبيب النمل سودها وحمرها وذلك من التشبيه الحسن

وأما ما ورد منه مضمر الأداة فكقول النبي وقد سئل عن العزل فقال ( هو الوأد الخفي ) وهذا تشبيه بليغ والوأد هو ما كانت العرب تفعله في دفن البنات أحياء فجعل العزل في الجماع كالوأد إلا أنه خفي وذاك أنهم كانوا يفعلون بالبنات ذلك هربا منهن وهكذا من يعزل في الجماع فإنما يفعل ذلك هربا من الولد
وكذلك قال النبي ( هو الوأدة الصغرى ) وهذا من الحسن إلى غابة تغض لها العيون طرفها ولا ينتهي الوصف إليها فيكون ترك وصفها كوصفها
ومما جاءني من ذلك فصل من جملة كتاب ضمنته وصف القلم فقلت جدع أنفه فصار في الكيد قصيرا وأرهف صدره فصار في المضاء غضبا شهيرا وقمص لباس السواد وهو شعار الخطباء فنطق بفصل الخطاب ونكس رأسه وهي صورة الإذلال فاختال في مشيه من الإعجاب وأوحى إليه بنجوى الخواطر وهو الأصم فأفضى بما سمعه إلى الكتاب
وهذه الأوصاف غريبة جدا ومن أغربها ذكر قصير عند جدع الأنف
وأما القسم الرابع وهو تشبيه المركب بالمفرد فإنه قليل الاستعمال بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة وليس ذلك إلا لعدم النظير بين المشبه والمشبه به وعلى كثرة ما حفظته من الأشعار لم أجد ما أمثل به هذا القسم إلا مثالا واحدا وهو قول أبي تمام في وصف الربيع
( يَا صَاحِبَيَّ تَقَصَّيَا نَظَرَيْكُمَا ... تَرَيَا وُجُوهَ الأَرْضِ كَيْفَ تُصَوَّرُ )
( تَرَيَا نَهَاراً مُشْمِساً قَدْ شَابَهُ ... زَهْرُ الرُّبَا فَكَأَنَّمَا هُوَ مُقْمِرُ )

فشبه النهار المشمس مع الزهر الأبيض بضوء القمر وهو تشبيه حسن واقع في موقعه مع ما فيه من لطف الصنعة
ولربما اعترض في هذا الموضع معترض وقال إنك أوردت هذا القسم من التشبيه وذكرت أنه قليل وليس كذلك فإن تشبيه شيئين بشيء واحد كثير كقول أبي الطيب المتنبي
( تُشْرِقُ أَعْرَاضُهُمْ وَأَوْجُهُهُمْ ... كأَنَّهَا في نُفُوسِهِمْ شِيَمُ )
فشبه إشراق الأعراض والوجوه بإشراق الشيم

الجواب عن ذلك أني أقول هذا البيت المعترض به على ما ذكرته ليس كالذي ذكرته فإن أردت أن يشبه شيئان هما كشيء واحد في الاشتراك بشيء واحد ألا ترى أن نور الشمس من بياض الزهر وهما شيئان مشتركان قد شبها بضوء القمر وأما هذا البيت الذي لأبي الطيب المتنبي فإنه تشبيه شيئين كل واحد منهما مفرد برأسه بشيء واحد لأنه شبه إشراق الأعراض وإشراق الوجوه بإشراق الشيم وهذا غير ما أردته أنا
لكن ينبغي أن تعلم أن تشبيه المركب بالمفرد ينقسم قسمين أحدهما تشبيه شيئين مشتركين بشيء واحد كالذي أوردته لأبي تمام وهو قليل الاستعمال والآخر تشبيه شيئين منفردين بشيء واحد كالذي ذكرته أنت لأبي الطيب المتنبي وهو كثير الاستعمال
وإذا ذكرنا أقسام التشبيه وبينا المحمود منها الذي ينبغي اقتفاء أثره واتباع مذهبه فلنتبعه بضده مما ينبغي اجتنابه والإضراب عنه على أنه قد قدمنا القول بأن حد التشبيه هو أن يثبت للمشبه حكم من أحكام المشبه به فإذا لم يكن بهذه الصفة أو كان بين المشبه والمشبه به بعد فذلك الذي يطرح ولا يستعمل والذي يرد منه مضمر الأداة لا يكون إلا في القسم الواحد من أقسام المجازي وهو التوسع وقد قدمت القول في ذلك في أول باب الاستعارة وضربت له أمثلة منها قول أبي نواس
( مَا لِرِجْلِ المَالِ أمْسَتْ ... تَشْتَكِي مِنْكَ الْكَلاَلاَ )
فجعل للمال رجلا وذلك تشبيه بعيد ولا حاجة إلى إعادة ذلك الكلام ههنا بجملته لكن قد أشرت إليه إشارة خفيفة
ومن أقبح ما سمعته من ذلك قول أبي تمام

( وَتَقَاسَمَ النَّاسُ السَّخاءَ مُجَزَّأً ... وَذَهَبْتَ أَنْتَ بِرَأْسِهِ وَسَنَامِهِ )
( وَتَرَكْتَ لِلنَّاسِ الإِهَابَ وَمَا بَقَى ... مِنْ فَرْثِهِ وَعُروقِهِ وَعِظَامِهِ )
والقبح الفاحش في البيت الثاني فإن غرضه أن يقول ذهب بالأعلى وترك للناس الأدنى أو ذهبت بالجيد وتركت للناس الرديء
وقد عيب عليه قوله
( لاَ تَسْقِني ماءَ المُلاَمِ فإِنَّني ... صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بكائي )
وقيل إنه جعل للملام ماء وذلك تشبيه بعيد وما بهذا التشبيه عندي من بأس بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه بعيد من وجه أما مناسب قربه فهو أن الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختص بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تشبيها حسنا لكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئا ولما كان السمع يتجرع الملام أولا أولا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به وهو تشبيه معنى بصورة وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقرب من وجه فيغفر هذا لهذا ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم

وقد روي وهو رواية ضعيفة أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورة وقال ابعث في هذه شيئا من ماء الملام فأرسل إليه أبو تمام وقال إذا بعثت إلي ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئا من ماء الملام وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين فإنه ليس جعل الجناح للذل كجعل الماء للملام فإن الجناح للذل مناسب وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه وخفضه وألقى نفسه على الأرض وللإنسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه وخفض من يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار تشبيها مناسبا وأما الماء للملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه
وأما التشبيه المضمر الأداة من هذا الباب فقد أوردت له أمثلة يستدل بها على أشباهه وأمثاله فإن لذكر المثال فائدة لا تكون لذكر الحد وحده
فمن ذلك قول بعضهم
( مَلاَ حَاجِبَيْكَ الشَّيْبُ حَتَّى كَأَنَّهُ ... ظِبَاءٌ جَرَتْ مِنْهَا سَنِيحٌ وَبَارِحُ )
وكذلك قول الآخر يصف السهام
( كَسَاهَا رَطِيب الرِّيشِ فَاعْتَدَلَتْ لَهُ ... قَدَاحٌ كَأَعْنَاقِ الظِّبَاءِ الْفَوَارِقِ )
فإنه شبه السهام بأعناق الظباء وذلك من أبعد التشبيهات
وعلى نحو منه قول الفرزدق
( يَمْشُونَ في حَلَقِ الْحَدِيدِ كَمَا مَشَتْ ... جُرْبُ الْجِمَالِ بِهَا الْكُحَيْلُ المُشْعَلُ )
فشبه الرجال في دروع الزرد بالجمال الجرب وهذا من التشبيه البعيد لأنه إن أراد السواد فلا مقاربة بينهما في اللون لأن لون الحديد أبيض ومن أجل ذلك سميت السيوف بالبيض ومع كون هذا التشبيه بعيدا فإنه تشبيه سخيف

ومن التشبيهات الباردة قول أبي الطيب المتنبي
( وَجَرَى عَلَى الْوَرَقِ النَّجِيعُ الْقَانِي ... فَكَأَنَّهُ النَّارَنْجُ في الأَغْصَانِ )
وهذا تشبيه ينكره أهل التجسيم وإذا قسمت التشبيهات بين البعد والبرد حاز طرفي ذلك التقسيم
وأبشع من هذا قول أبي نواس في الخمر
( كَأَنَّ بَرَانِساً رَوَاكِدَ حَوْلَهَا ... وَزُرْق سَنَانِيرٍ تُدِيرُ عُيُونَهَا )
والعجب أنه يقول مثل هذا الغث الذي لا لاءمة بينه وبين ما شبه به ويقرنه بالبديع الذي أحسن فيه وأبدع وهو
( كَأَنَّا حُلُولٌ بَيْنَ أَكْنَافِ رَوْضَةٍ ... إِذَا مَا سَلَبْنَاهَا مَعَ اللَّيْلِ طِينَهَا )
فانظر كيف قرن بين ورده وسعدانه لا بل بين بعره ومرجانه وقد أكثر في تشبيه الخمر فأحسن في موضع وأساء في موضع ومن إساءته قوله أيضا في أبيات لامية

( وإِذَا مَا المَاءُ وَاقَعَهَا ... أَظْهَرَتْ شَكْلاً مِنَ الْغَزَلِ )
( لُؤْلُؤَات يَنْحَدِرْنَ بِهَا ... كَانْحِدَارِ الذَّرِّ مِنْ جَبَلِ )
فشبه الحبب في انحداره بنمل صغار ينحدر من جبل وهذا من البعد على غاية لا يحتاج إلى بيان وإيضاح
واعلم أن من التشبيه ضربا يسمى الطرد والعكس وهو أن يجعل المشبه به مشبها والمشبه مشبها به وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول ولا تجد شيئا من ذلك إلا والغرض به المبالغة
فمما جاء من ذلك قول ذي الرمة
( وَرَمْلٍ كَأَرْدَافِ الْعَذاَرَى قَطَعْتُهُ ... إِذَا أُلْبِسَتْهُ المُظْلِمَاتُ الْحَنَادِسُ )
ألا ترى إلى ذي الرمة كيف جعل الأصل فرعا والفرع أصلا وذاك أن العادة والعرف في هذا أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء وهو مطرد في بابه فعكس ذو الرمة القصة في ذلك فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء وإنما فعل ذلك مبالغة أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء وصار كأنه الأصل حتى شبهت به كثبان الأنقاء

وعلى نحو من هذا جاء قول البحتري
( فِي طَلْعَهِ الْبَدْرِ شَيْءٌ مِنْ مَحَاسِنِهَا ... وَلِلْقَضِيبِ نَصِيبٌ مِنْ تَثَنِّيهَا )
وكذلك ورد قول عبد الله بن المعتز في قصيدته المشهورة التي أولها
( سَقَى المَطيرَةَ ذَاتَ الطَّلِّ وَالشَّجَرِ ... )
فقال في تشبيه الهلال
( وَلاَحَ ضَوْءُ قُمَيْرْ كَادَ يَفْضَحُنَا ... مِثْلُ الْقُلاَمَةِ قَدْ قُدَّتْ مِنَ الظُّفُرِ )
ولما شاع ذلك في كلام العرب واتسع صار كأنه هو الأصل وهو موضع من علم البيان حسن الموقع لطيف المأخذ
وهذا قد ذكره أبو الفتح بن جني في كتاب الخصائص وأورده هكذا مهملا
ولما نظرت أنا في ذلك وأنعمت نظري فيه تبين لي ما أذكره وهو أنه قد تقرر في أصل الفائدة المستنتجة من التشبيه أن يشبه الشيء بما يطلق عليه لفظة أفعل أي يشبه بما هو أبين وأوضح أو بما هو أحسن منه أو أقبح وكذلك يشبه الأقل بالأكثر والأدنى بالأعلى
وهذا الموضع لا ينقض هذه القاعدة لأن الذي قدمناه ذكره مطرد في بابه وعليه مدار الاستعمال وهذا غير مطرد وإنما يحسن في عكس المعنى المتعارف وذاك أن تجعل المشبه به مشبها والمشبهة مشبها به ولا يحسن في غير ذلك مما

ليس بمتعارف ألا ترى أن من العادة والعرف أن تشبه الأعجاز بالكثبان فلما عكس ذو الرمة هذه القضية في شعره جاء حسنا لائقا وكذلك فعل البحتري فإن من العادة والعرف أن يشبه الوجه الحسن بالبدر والقد الحسن بالقضيب فلما عكس البحتري القضية في ذلك جاء أيضا حسنا لائقا ولو شبه ذو الرمة الكثبان بما هو أصغر منها غير الأعجاز لما حسن ذلك وهكذا لو شبه البحتري طلعة البدر بغير طلعة الحسناء والقضيب بغير قدها لما حسن ذلك أيضا وهكذا القول في تشبيه عبد الله بن المعتز صورة الهلال بالقلامة لأن من العادة أن تشبه القلامة بالهلال فلما صار ذلك مشهورا متعارفا حسن عكس القضية فيه

النوع الثالث في التجريد
وهذا اسم كنت سمعته فقال القائل التجريد في الكلام حسن ثم سكت فسألته عن حقيقته فقال كذا سمعت ولم يزد شيئا فأنعمت حينئذ نظري في هذا النوع من الكلام فألقي في روعي أنه ينبغي أن يكون كذا وكذا وكان الذي وقع لي صوابا ثم مضى على ذلك برهة من الزمان ووصل إلى ما ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله تعالى وقد أوردته ههنا وذكرت ما أتيت به من ذات خاطري من زيادة لم يذكرها وستقف أيها المتأمل على كلامه وكلامي
فأما حد التجريد فإنه إخلاص الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك لا المخاطب نفسه لأن أصله في وضع اللغة من جردت السيف إذا نزعته من غمده وجردت فلانا إذا نزعت ثيابه ومن ههنا قال ( لا مد ولا تجريد ) وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمد صاحبه على الأرض وأن تجرد عنه ثيابه وقد نقل هذا المعنى إلى نوع من أنواع علم البيان
وقد تأملته فوجدت له فائدتين إحداهما أبلغ من الأخرى
فالأولى طلب التوسع في الكلام فإنه إذا كان ظاهره خطابا لغيرك وباطنه

خطابا لنفسك فإن ذلك من باب التوسع وأظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات
والفائدة الثانية وهي الأبلغ وذاك أنه يتمكن المخاطب من أجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه إذ يكون مخاطبا بها غيره ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه
وعلى هذا فإن التجريد ينقسم قسمين أحدهما تجريد محض والآخر تجريد غير محض
فالأول وهو المحض أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك وذلك كقول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص في مطلع قصيدة له
( إلاَمَ يَرَاكَ المَجْدُ في زِيِّ شاعِرِ ... وَقَدْ نَحلت شَوْقاً فُرُوعُ المَنَابِرِ )
( كَتَمْتَ بِعَيْبِ الشِّعْر حِلْمَاً وَحِكْمَةً ... بِبَعْضِهِمَا يَنْقَادُ صَعْبُ المَفَاخِرِ )
( أَمَا وَأًبِيكَ الْخَيْرِ إِنَّكَ فَارِسُ الْمَقَالِ ... وَمُحْيِي الدَّارِسَاتِ الَغَوَابِرِ )
( وَإِنَّكَ أَعْيَيْتَ المَسَامِعَ وَالنُّهَى ... بَقَوْلِكَ عَمَّا فِي بُطُونِ الدَّفَاتِرِ )
فهذا من محاسن التجريد ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة وعد ما عده من الفضائل التائهة وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض
وأما ما قصد به التوسع خاصة فكقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة

( حَنَنْتَ إِلِى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ ... مَزَارَكَ مِنْ رَيَّا وَشَعْبَاكُمَا مَعَا )
( فَمَا حَسَنٌ أنْ تَأْتِيَ الأَمْرَ طائِعَاً ... وَتَجْزَعَ أَنْ دَاعِي الصَّبابَةِ أَسْمَعَا )
وقد ورد بعد هذين البيتين ما يدل على أن المراد بالتجريد فيهما التوسع لأنه قال
( وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْحِمَى ثُمَّ أَنْثَنِي ... عَلَى كَبِدِي مِنْ خَشْيَةٍ أنْ تَصَدَّعَا )
( بِنَفْسِي تِلْكَ الأَرْضُ مَا أَطْيَبَ الرُّبَا ... وَمَا أَحْسَنَ المُصْطَافَ وَالمُتَرَبَّعَا )
فانتقل من الخطاب التجريدي إلى خطاب النفس ولو استمر على الحالة الأولى لما قضي عليه بالتوسع وإنما كان يقضي عليه بالتجريد البليغ الذي هو الطرف الآخر ويتأول له بأن عرضه من خطاب غيره أن ينفي عن نفسه سمعة الهوى ومعرة العشق لما في ذلك من الشهرة والغضاضة لكن قد زال هذا التأويل بانتقاله عن التجريد أولا إلى خطاب النفس
وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي
( لاَ خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَلاَ مَالُ ... فَلْيُسْعِدِ النُّطْقَ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ )

( وَاجْزِ الأَمِيرَ الَّذِي نُعْمَاهُ فاجِئَةٌ ... بِغَيْرِ قَوْلٍ وَنُعْمَى الْقَوْمِ أَقْوَالُ )
وهذان البيتان من مطلع قصيدة يمدح بها فاتكا الإخشيدي بمصر وكان وصله بصلة سنية من نفقة وكسوة قبل أن يمدحه ثم مدحه بعد ذلك بهذه القصيدة وهي من غرر شعره وقد بنى مطلعها على المعنى المشار إليه من ابتداء فاتك إياه بالصلة قبل المديح وليس في التجريد المذكور في هذين البيتين ما يدل على وصف النفس ولا على تزكيتها بالمديح كما ورد في الأبيات الرائية المتقدم ذكرها وإنما هو توسع لا غير
وأما القسم الثاني وهو غير المحض فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد لعلاقة أحدهما بالآخر
وبين هذا القسم والذي قبله فرق ظاهر وذاك أولى بأن يسمى تجريدا لأن التجريد لائق به وهذا هو نصف تجريد لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئا وإنما خاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك
فمما جاء منه قول عمرو بن الإطنابة
( أَقُولُ لَهَا وَقَدْ جَشَأَتْ وَجَاشَتْ ... رُوَيْدَكِ تُحْمَدِي أَوْ تسْتَرِيحِي )

وكذلك قول الآخر
( أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً ... إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ )
وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابا لغيرك كالأول وإنما المخاطب هو المخاطب بعينه وليس ثم شيء خارج عنه
وأما الذي ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله فإنه قال إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فيخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره وهو هو بعينه نحو قولهم لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر وهو عينه الأسد والبحر لا أن هناك شيئا منفصلا عنه أو متميزا منه
ثم قال وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره كما قال الأعشى
( وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّهَا الرَّجُلُ ... )
وهو الرجل نفسه لا غيره
هذا خلاصة ما ذكره أبو علي رحمه الله

والذي عندي فيه أنه أصاب في الثاني ولم يصب في الأول لأن الثاني هو التجريد ألا ترى أن الأعشى جرد الخطاب عن نفسه وهو يريدها وأما الأول وهو قوله لئن لقيت فلانا لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر فإن هذا تشبيه مضمر الأداة إذ يحسن تقدير أداء التشبيه فيه وبيان ذلك أنك تقول لئن ليت فلانا لتلقين منه كالأسد ولئن سألته لتسألن منه كالبحر وليس هذا بتجريد لأن حقيقة التجريد غير موجودة فيه وإنما هو تشبيه مضمر الأداة ألا ترى أن المذكور هو كالأسد وهو كالبحر وليس ثم شيء مجرد عنه كما تقدم في الأبيات الشعرية
ويبطل على أبي علي قوله أيضا من وجه آخر وذاك أنه قال إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجردا من الإنسان كأنه غيره وهو هو كالمثال الذي مثله في تشبيهه بالأسد وتشبيهه بالبحر وهذا ينتقض بقولنا لئن رأيت الأسد لترين منه هضبة ولئن لقيته لتلقين منه الموت فإن الصورة التي أوردها في الإنسان وزعم أن العرب تعتقد أن ذلك معنى كامن فيه قد أوردنا مثلها في الأسد فتخصيصه ذلك بالإنسان باطل وكلا الصورتين ليس بتجريد وإنما هو تشبيه مضمر الأداة وقد سبق القول بأن التجريد هو أن تطلق الخطاب على غيرك ولا يكون هو المراد وإنما المراد نفسك وهذا لا يوجد في هذا المثال المضمر الأداة بل المخاطب هو هو لا غيره فلا يطلق عليه إذا اسم التجريد لأنه خارج عن حقيقته ومناف لموضوعه فإذا قال القائل لئن لقيته لتلقين به كالأسد ولئن سألته لتسألن منه كالبحر لم يجرد عن المقول عنه شيئا وإنما شبهه تارة بالأسد في شجاعته وتارة بالبحر في سخائه
وما أعلم كيف ذهب هذا على مثل أبي علي رحمه الله حتى خلطه بالتجريد وأجراه مجراه
وأما قول إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله فأقول وغير العرب أيضا تعتقد ذلك فإن عنى بالمعنى الكامن معنى الإنسانية الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع فما هذا من الشيء الغريب الخفي

الذي علمته العرب خاصة وانفرد باستخراجه أبو علي رحمه الله وإن عنى بالمعنى الكامن ما فيه من الأخلاق كالشجاعة والسخاء في المثال الذي ذكره حتى يشبه بالأسد تارة وبالبحر أخرى فليس الإنسان مختصا بهذا المعنى الكامن دون غيره من الحيوانات بل الأسد فيه من معنى الشجاعة ما ليس في الإنسان ولهذا إذا بولغ في وصف الإنسان بالشجاعة شبه بالأسد وكذلك في بعض الحيوانات من السخاء ما ليس في الإنسان ومن أمثال أكرم من ديك لأنه إذا ظفر بحبة من الحنطه أخذها في منقاره وطاف بها على الدجاج حتى يضعها في منقار واحدة منهن فالأخلاق إذا مشتركة بين الإنسان وبين غيره من الحيوانات غير أن الإنسان يجتمع فيه ما تفرق في كثير منها
وما أعلم ما أراد أبو علي رحمه الله بقوله إن في الإنسان معنى كامنا فيه كأنه حقيقته ومحصوله إلا أن يكون أحد هذين القسمين اللذين أشرت إليهما
على أن القسم الواحد الذي هو خلق الشجاعة والسخاء وغيره من الأخلاق ليس عبارة عن حقيقة الإنسان إذ لا يقال في حده حيوان شجاع ولا سخي بل يقال حيوان ناطق فالنطق الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع هو حقيقة الإنسان فبطل إذا قول أبي علي رحمه الله في تمثيله حقيقة الإنسان بالشجاعة والسخاء
فالخطأ توجه في كلامه من وجهين أحدهما أنه جعل حقيقة الإنسان عبارة عن خلقه والآخر أنه أدخل في التجريد ما ليس منه
وهذا القدر كاف في هذا الموضع فليتأمل

حذف السائر إدخال مركز المستشار

النوع الرابع
في الالتفات
وهذا النوع ما يليه من خلاصة علم البيان التي حولها يدندنِ وإليها تستند البلاغةِ وعنها يعنعنِ وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشمالهِ فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذاِ وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصةِ لأنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغةِ كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائبِ أو من خطاب غائب إلى حاضر أو من فعل ماض إلى مستقبلِ أو من مستقبل إلى ماضِ أو غير ذلك مما يأتي ذكره مفصلاًِ ويسمى أيضاً ( شجاعة العربية ) وإنما سمي بذلك لأن الشجاعة هي الإقدامِ وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيرهِ ويتورد ما لا يتورّده سواهِ وكذلك هذا الالتفات في الكلام فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول في الرجوع من الغيبة إلى الخطابِ ومن الخطاب إلى الغيبة
أعلم أن عامة المنتمين إلى هذا الفن إذا سئلوا عن الانتقال عن الغيبة إلى الخطاب وعن الخطاب إلى الغيبةِ قالوا كذلك كانت عادة العرب في أساليب كلامهاِ وهذا القول هو عكاز العميانِ كما يقالِ ونحن إنما نسأل عن السبب الذي قصدت العرب ذلك من أجله
وقال الزمخشري رحمه الله إن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنما يستعمل للتفنن في الكلامِ والانتقال من أسلوب إلى أسلوبِ تطرية لنشاط السامعِ وإيقاظاً للإصغاء إليه
وليس الأمر كما ذكرهِ لأن الانتقال في الكلام من أسلوب إلى أسلوب إذا لم

يكن إلاّ تطرية لنشاط السامع وإيقاظاً للإصغاء إليهِ فإن ذلك دليل على أنّ السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطاً للاستماعِ وهذا قدح في الكلامِ لا وصف له لأنه لو كان حسناً لما ملِ ولو سلمنا إلى الزمخشري ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك في الكلام المطوّلِ ونحن نرى الأمر بخلاف ذلكِ لأنه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطابِ ومن الخطاب إلى الغيبةِ في مواضع كثيرة من القرآن الكريمِ ويكون مجموع الجانبين مما يبلغ عشرة ألفاظِ أو أقل من ذلكِ ومفهوم قول الزمخشري في الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنما يستعمل قصداً للمخالفة بين المنتقَل عنه والمنتقَل إليهِ لا قصداً لاستعمال الأحسنِ وعلى هذا فإذا وجدنا كلاماً قد استعمل في جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنهِ أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنهِ وكان كلا الطرفين واقعاً في موقعه قلنا هذا ليس بحسن إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوبِ وهذا قول فيه ما فيهِ وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشري مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة
والذي عندي في ذلك أن الانتقال من الخطاب إلى الغيبةِ أو من الغيبة إلى الخطاب لا يكون إلاّ لفائدة اقتضتهِ وتلك لفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوبِ غير أنها لا تُحدُّ بحدٍِّ ولا تُضبَط بضابطِ لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها فإنا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطبِ ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضد الأول قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبةِ فعلمنا حينئذ أن الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرة واحدةِ وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصودِ وذلك المعنى يتشعب شُعباً كثيرة لا تنحصرِ وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه
وسأوضح ذلك في ضرب من الأمثلة الآتي ذكرها
فأما الرجوع من الغيبة إلى الخطاب فكقوله تعالى في سورة الفاتحة ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) هذا رجوع من الغيبة إلى

الخطابِ وبما يختص به هذا الكلام من الفوائد قوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ) بعد قوله ( الحمد لله رب العالمين ) فإنه إنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأن الحمد دون العبادةِ ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبدهِ فلما كانت الحال كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال ( الحمد لله ) ولم يقل ( الحمد لك ) ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال ( إياك نعبد ) فخاطب بالعبادة إصراحاً بها وتقرباً منه عزّ اسمه بالانتهاء إلى محدود منهاِ وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة ِ فقال ( صراط الذين أنعمت عليهم ) فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة ِ ثم قال ( غير المغضوب عليهم ) عطفاً على الأول لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمهِ فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفاً عن ذكر الغاضب فأسند النعمة إليه لفظاًِ وزوى عنه لفظ الغضب تحنناً ولطفاًِ فانظر إلى هذا الموضع وتناسب هذه المعاني الشريفة التي الأقدام لا تكاد تطؤهاِ والأفهام مع قربها صافحة عنهاِ وهذه السورة قد انتقل في أولها من الغيبة إلى الخطاب لتعظيم شأن المخاطبِ ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة لتلك العلة بعينهاِ وهي تعظيم شأن المخاطب أيضاً لأن مخاطبة الرب تبارك وتعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لخطابهِ وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابهِ فانبغى أن يكون صاحب هذا الفن من الفصاحة والبلاغة عالماً بوضع أنواعه في مواضعها على اشتباهها
ومن هذا الضرب قوله تعالى ( وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداًّ ) وإنما قيل ( لقد جئتم ) وهو خطاب للحاضر بعد قوله ( وقالوا ) وهو خطاب للغائب لفائدة حسنةِ وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى والتعرض لسخطهِ وتنبيه لهم على عظم ما قالوهِ كأنه يخاطب قوماً حاضرين بين يديه منكراً عليهم وموبخاً لهم
ومما جاء من الالتفات مراراً على قصر متنهِ وتقارب طرفيهِ قوله تعالى أول سورة بني إسرائيل ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) فقال

أولاً ( سبحان الذي أسرى ) بلفظ الواحدِ ثم قال ( الذي باركنا ) بلفظ الجمعِ ثم قال ( إنه هو السميع البصير ) وهو خطاب غائبِ ولو جاء الكلام على مساق الأول لكان سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصيرِ وهذا جميعه يكون معطوفاً على أسرىِ فلما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة إلىصيغة كان ذلك اتساعاً وتفنناً في أساليب الكلامِ ولمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ
وسأذكر ما سنح لي فيه فأقول لما بدأ الكلام بسبحان ردفه بقوله الذي أسرى إذ لا يجوز أن يقال الذي أسرينا فلما جاء بلفظ الواحد والله تعالى أعظم العظماءِ وهو أولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمعِ استدرك الأول بالثانيفقال ( باركنا ) ثم قال ( لنريه من آياتنا ) فجاء بذلك على نسق ( باركنا ) ثم قال ( إنه هو ) عطفاً على أسرىِ وذلك موضع متوسط الصفة لأن السمع والبصر صفتان يشاركه فيهما غيرهِ وتلك حال متوسطةِ فخرج بهما عن خطاب العظيم في نفسه إلى خطاب نائبِ فانظر إلى هذه الالتفاتات المترادفة في هذه الآية الواحدة التي جاءت لمعانٍ اختصت بهاِ يعرفها من يعرفها ويجهلها من يجهلها
ومما ينخرط في هذا السلك الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفسِ كقوله تعالى ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهنّ سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماءٍ أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم ) وهذا رجوع من الغيبة إلى خطاب النفسِ فإنه قال ( وزينا ) بعد قوله ( ثم استوى ) وقوله ( فقضاهن ) ( وأوحى ) والفائدة في ذلك أن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنياِ وأنها ليست حفظاً ولا رجوماًِ فلما صار الكلام إلى ههنا عدل به عن خطاب الغائب إلى خطاب النفس لأنه مهم من مهمات الاعتقادِ وفيه تكذيب للفرقة المكذبة المعتقدة بطلانهِ وفي خلاف هذا الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الغيبة

حذف

ومما ينخرط في هذا السلك أيضاً الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الجماعةِ كقوله تعالى ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم لأنه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحةِ وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهمِ لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلاّ ما يريد لنفسهِ وقد وضع قوله ( وما لي لا أعبد الذي فطرني ) مكان قوله وما لكم لا تعبدون الذي فطركمِ ألا ترى إلى قوله ( وإليه ترجعون ) ولولا أنه قصد ذلك لقال الذي فطرني وإليه أرجعِ وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال ( إني آمنت بربكم فاسمعون ) فانظر أيها المتأمل إلى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في آيات القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها
وعلى هذا الأسلوب يجري الحكم في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحدِ كقوله تعالى ( حم والكتاب المبين إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إناّ كناّ منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربِّك إنه هو السميع العليم ) ) والفائدة ههنا في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد تخصيص النبي بالذكرِ والإشارة بأن إنزال الكتاب إنما هو إليهِ وإن لم يكن ذلك صريحاًِ لكن مفهوم الكلام يدل عليه
وإذا تأملت مطاوي القرآن الكريم وجدت فيه من هذا وأمثاله أشياء كثيرةِ وإنما اقتصرنا على هذه الأمثلة المختصرة ليقاس عليها ما يجري على أسلوبها
وقد ورد في فصيح الشعر شيء من ذلكِ كقول أبي تمام

( وَرَكْبٍ يُسَاقُونَ الرِّكَابَ زُجَاجَةً ... مِنَ السَّيْرِ لَمْ تَقْصِدْ لَهَا كَفُّ قاطِبِ )
( فَقَدْ أَكَلُوا مِنْهَا الْغَوَارِبَ بالسُّرَى ... وَصَارَتْ لَها أَشْبَاحُهُمْ كَالْغَوَارِبِِ )
( يُصَرِّفُ مَسْرَاهَا جُذَيْلُ مَشارِقٍ ... إذا آبَهُ هَمٌّ عُذَيْقُ مَغَارِبِ )
( يَرَى بِالْكَعَابِ الرودِ طَلْعَةَ ثَائِرٍ ... وَبِالْعِرْمِسِ الوَجْنَاءِ غُرَّةَ آئِبِ )
( كَأَنَّ بها ضِغْناً عَلَى كُلِّ جَانِبٍ ... مِنَ الأَرْضِ أَوْ شَوْقاً إلَى كُلِّ جَانِبِ )
( إِذَا العِيسُ لاقَتْ بِي أَبَا دُلَفٍ فَقَدْ ... تَقَطَّعَ مَا بَيْنِي وبَيْنَ النَّوَائِبِ )
( هُنَالِكَ تَلْقَى الْجُودَ مِنْ حَيْثُ قُطِّعَتْ ... تَمائِمُهُ والمَجْدَ مُرْخَى الذَّوَائِبِ )

ألا ترى أنه قال في الأول ( يصرف مسراها ) مخاطبة للغائبِ ثم قال بعد ذلك ( إذا العيس لاقت بي ) مخاطباً نفسهِ وفي هذا من الفائدة أنه لما صار إلى مشافهة للمدوح والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشراً لها بالبعد عن المكروه والقرب من المحبوبِ ثم جاء بالبيت الذي يليه معدولاً به عن خطاب نفسه إلى خطاب غيرهِ وهو أيضاً خطاب لحاضرِ فقال ( هنالك تلقى الجود ) والفائدة بذلك أنه يخبر غيره بما شهدهِ كأنه يصف له جود الممدوح وما لاقاه منه إشادة بذكرهِ وتنويهاً باسمهِ وحملاً لغيره على قصدهِ وفي صفته جود الممدوح بتلك الصفة الغريبة البليغةِ وهي قوله ( حيث قطعت تمائمه ) ما يقتضي له الرجوع إلى خطاب الحاضرِ والمراد بذلك أن محل الممدوح هو مألف الجود ومنشؤه ووطنهِ وقد يراد به معنى آخرِ وهو أن هذا الجود قد أمن عليه الآفات العارضة لغيره من المن والمطل والاعتذار وغير ذلكِ إذ التمائم لا تقطع إلا عمن أمنت عليه المخاوف
على هذا النهج ورد قول أبي الطيب المتنبي في قصيد يمدح به ابن العميد في النوروزِ ومن عادة الفرس في ذلك اليوم حمل الهدايا إلى ملوكهمِ فقال في آخر القصيد
( كَثُرَ الْفِكْرُ كَيْفَ نُهْدِي كما أَهْدَتْ إِلَى رَبِّهَا المَلِيكِ عِبَادُهْ ... )
( وَالَّذِي عِنْدَنَا مِنَ المَالِ وَالْخَيْلِ فَمِنْهُ هِبَاتُهُ وَقِيَادُهْ ... )
( فَبَعَثْنَا بِأَرْبَعِينَ مِهَاراً ... كُلُّ مُهْرٍ يُدَانُهُ إِنْشَادُهْ )

( عَدَدٌ عِشْتَهُ يَرَى الجِسمُ فِيهِ ... أَرَباً لا يَرَاهُ فِيمَا يُزَادُهْ )
( فَارْتَبِطْهَا فَإِنَّ قَلْباً نَمَاهَا ... مَرْبِطٌ تَسْبِقٌ الْجِيَادَجِيَادُهْ )
وهذا من إحسان أبي الطيب المعروفِ وهو رجوع عن خطاب الغائب إلى الحاضرِ واحتج أبو الطيب عن تخصيص أبياته بالأربعين دون غيرها من العدد بحجة غريبةِ وهي أنه جعلها كعدد السنين التي يرى الإنسان فيها من القوة والشباب وقضاء الأوطار ما لا يراه في الزيادة عليهاِ فاعتذر بألطف اعتذار في أنه لم يزد القصيد على هذه العدةِ وهذا حسن غريب
وأما الرجوع من الخطاب إلى الغيبة فكقوله تعالى ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) فإنه إنما صرف الكلام ههنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدةِ وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهمِ ولو قال حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بهاِ وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبةِ وليس ذلك بخاف عن نقدة الكلام
ومما ينخرط في هذا السلك قوله تعالى ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم كل إلينا راجعون ) الأصل في تقطعوا تقطعتمِ عطفاً على الأولِ إلاّ أنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة

الالتفاتِ كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرينِ ويقبح عندهم ما فعلوهِ ويقول ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالىِ فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاًِ وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهمِ ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو مجازيهم على ما فعلوا ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السّموات والأرض لا إله إلاّ هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) فإنه إنما قال ( فآمنوا بالله ورسوله ) ولم يقل فآمنوا بالله وبي عطفاً على قوله إني رسول الله إليكم لكي تجري عليه الصفات التي أجريت عليهِ وليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وبكلماته كائناً من كان أنا أو غيري إظهاراً للنصفةِ وبعداً من التعصب لنفسهِ فقدر أولاً في صدر الآية إني رسول الله إلى الناسِ ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين الأول منهما إجراء تلك الصفات عليهِ والثاني الخروج من تهمة التعصب لنفسه
القسم الثاني في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمرِ وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر
وهذا القسم كالذي قبله في أنه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى صيغة طلباً للتوسع في أساليب الكلام فقطِ بل لأمر وراء ذلكِ وإنما يقصد إليه تعظيماً لحال من أجري عليه الفعل المستقبلِ وتفخيماً لأمرهِ وبالضد من ذلك فيمن أجري عليه فعل الأمر
فمما جاء منه قوله تعالى ( يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني اشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ) فإنه إنما قال ( اشهد الله واشهدوا ) ولم يقل واشهدكم ليكون موازناً له وبمعناه لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك

صحيح ثابتِ وأما إشهادهم فما هو إلاّ تهاون بهمِ ودلالة على قلة المبالاة بأمرهمِ ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهماِ وجيء به على لفظ الأمرِ كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه اشهد علي أني أحبكِ تهكماً به واستهانة بحاله
وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر إلاّ أنه ليس كالأولِ بل إنما يفعل ذلك توكيداً لما أجري عليه فعل الأمر لمكان العناية بتحقيقهِ كقوله تعالى ( قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين ) الآيةِ وكان تقدير الكلام أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجدِ فعدل عن ذلك إلى فعل الأمر للعناية بتوكيده في نفوسهم فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عبادهِ ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلبِ إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النيةِ ولهذا قال النبي ( الأعمال بالنيات )
واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيانِ أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلكِ وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطلع على أسرارهماِ وفتش عن دفائنهماِ ولا تجد ذلك في كل كلام فإنه من أشكل ضروب علم البيانِ وأدقها فهماًِ وأغمضها طريقاً
القسم الثالث في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبلِ وعن المستقبل بالماضي
فالأول الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك من الإخبار بالفعل الماضيِ وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيهاِ ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدهاِ وليس كذلك الفعل الماضيِ وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه جعلاً بمكانهِ فإنه ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجارِ هذا المجرى

وسأبين ذلك فأقول عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين أحدهما بلاغيِ وهو إخبار عن ماض بمستقبلِ وهو الذي أنا بصدد ذكره في كتابي هذا الذي هو موضوع لتفصيل ضروب الفصاحة والبلاغةِ والآخر غير بلاغيِ وليس إخبار بمستقبل عن ماضِ وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماضِ ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض
فالضرب الأول كقوله تعالى ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلدٍ ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) فإنه إنما قال ( فتثير ) مستقبلاً وما قبله وما بعده ماض لذلك المعنى الذي أشرنا إليهِ وهو حكاية الحبل التي تقع فيها إثارة الريح السحابِ واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرةِ وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصيةِ كحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك
وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه في غزوة بدر فإنه قال لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمةٌ كاملة لا يرى منه إلا عيناهِ وهو يقول أنا أبو ذات الكئوسِ وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينهِ فوقعِ وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقفة فقوله ( فأطعن بها في عينهِ وأطأ برجلي ) معدول به عن لفظ الماضي إلى المستقبل ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئمِ ألا ترى أنه قال أولاً لقيت عبيدةِ بلفظ الماضيِ ثم قال بعد ذلك فأطعن بها في عينهِ ولو عطف كلامه على أوله لقال فطعنت بها في عينه

وعلى هذا ورد قول تأبط شراً
( بِأَبي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِيِ ... بِسَهْبٍ كالصَّحيِفَةِ صَحْصَحَانِ )
( فَأَضْرِبُهَا بِلا دَهَشٍ قَخَرَّتْ ... صَرِيعاً لِليدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ )
فإنه قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغولِ كأنه يبصرهم إياها مشاهدةِ للتعجب من جراءته على ذلك الهولِ ولو قال فضربتها عطفاً على الأول لزالت هذه الفائدة المذكورة
فإن قيل إن الفعل الماضي أيضاً يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل
قلت في الجواب إن التخيل يقع في الفعلين معاًِ ولكنه في أحدهما - وهو المستقبل - أوكد وأشد تخيلاً لأنه يستحضر صورة الفعل حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منهِ ألا ترى أنه لما قال تأبط شراً ( فأضربها ) تخيل السامع أنه مباشر للفعلِ وأنه قائم بإزاء الغولِ وقد رفع سيفه ليضربهاِ وهذا لا يوجد في الفعل الماضيِ لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلاً قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليهِ وهذا لا خلاف فيهِ وهكذا

يجري الحكم في جميع الآيات المذكورةِ وفي الأثر عن الزبير رضي الله عنهِ وفي الأبيات الشعرية
وعليه ورد قوله تعالى أيضاًِ وهو ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) فقال أولاً ( خر من السماء ) بلفظ الماضيِ ثم عطف عليه المستقبل الذي هو ( فتخطفه ) و ( تهوي ) وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح بهِ والفائدة في ذلك ما أشرت إليه فيما تقدمِ وكثيراً ما يراعى أمثال هذا في القرآن
وأما الضرب الثاني - الذي هو مستقبل - فكقوله تعالى ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) فإنه إنما عطف المستقبل على الماضي لأن كفرهم كان ووجدِ ولم يستجدوا بعده كفراً ثانياًِ وصدهم متجدد على الأيام لم يمض كونهِ وإنما هو مستمر يستأنف في كل حينِ وكذلك ورد قوله تعالى ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ) ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي ههنا إلى المستقبل فقال ( فتصبح الأرض مخضرة ) ولم يقل فأصبحت عطفاً على أنزلِ وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمانِ فإنزال الماء مضى وجودهِ واخضرار الأرض باق لم يمضِ وهذا كما تقول أنعم علي فلان فأروح وأغدو شاكراً لهِ ولو قلت فرحت وغدوت شاكراً لهِ لم يقع ذلك الموقع لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى وهذا موضع حسن ينبغي أن يتأمل
وأما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل فهو عكس ما تقدم ذكرهِ وفائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجادهِ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجدِ وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها

والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل واستحضار صورتهِ ليكون السامع كأنه يشاهدهاِ والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد
فمن أمثلة الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل قوله تعالى ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض ) فإنه إنما قال ( ففزع ) بلفظ الماضي بعد قوله ( ينفخ ) وهو مستقبل للإشعار بتحقيق الفزعِ وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به
وكذلك جاء قوله تعالى ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً ) وإنما قيل ( وحشرناهم ) ماضياً بعد ( نسير ) و ( ترى ) وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوالِ كأنه قال وحشرناهم قبل ذلك لأن الحشر هو المهم لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهمِ ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضي
ومما يجري هذا المجرى الإخبار باسم المفعول عن الفعل المستقبلِ وإنما يفعل ذلك لتضمنه معنى الفعل الماضيِ وقد سبق الكلام عليه
فمن ذلك قوله تعالى ( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) فإنه إنما آثر اسم المفعول الذي هو ( مجموع ) على الفعل المستقبل الذي هو يجمع لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليومِ وإنه الموصوف بهذه الصفةِ وإن شئت فوازن بينه وبين قوله تعالى ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ) فإنك تعثر على صحة ما قلت

النوع الخامس
في توكيد الضميرين
إن قيل في هذا الموضع إن الضمائر مذكورة في كتب النحو فأي حاجة إلى ذكرها ههنا ولم نعلم أن النحاة لا يذكرون ما ذكرته ؟
قلت إن هذا يختص بفصاحة وبلاغةِ وأولئك لا يتعرضون إليهِ وإنما يذكرون عدد الضمائرِ وأن المنفصل منها كذاِ والمتصل كذاِ ولا يتجاوزون ذلكِ وأما أنا فإني أوردت في هذا النوع أمراً خارجاً عن الأمر النحويِ وأعني بقولي ( توكيد الضميرين ) أن يؤكد المتصل بالمنفصلِ كقولك إنك أنتِ أو يؤكد المنفصل بمنفصل مثلهِ كقولك أنت أنتِ أو يؤكد المتصل بمتصل مثلهِ كقولك إنك إنك لعالمِ أو إنك إنك لجواد
وإنما يؤتى بمثل هذه الأقوال في معرض المبالغةِ وهو من أسرار علم البيان
ولنقدم في ذلك قولاً يحصره ويجمع أطرافه فنقول
إذا كان المعنى المقصود معلوماً ثابتاً في النفوس فأنت بالخيار في توكيد أحد الضميرين فيه بالآخرِ وإذا كان غير معلومِ وهو مما يشك فيه فالأولى حينئذ أن يؤكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة عليهِ لتقرره وتثبته
فمما جاء من ذلك قوله تعالى ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ) فإن إرادة السحرة الإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلكِ لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله إلى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما نكون ونحن دل ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله أن كان قالوا إما أن تلقي وإما أن نلقي لتكون الجملتان متقابلتينِ فحيث قالوا عن أنفسهم ( وإما أن نكون نحن الملقين ) استدل بهذا القول على رغبتهم في الإلقاء قبله

وأما توكيد المتصل بالمتصل فكقوله تعالى في سورة الكهف ( فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً ) وهذا بخلاف قصة السفينةِ فإنه قال فيها ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً ) والفرق بين الصورتين أنه أكد الضمير في الثانية دون الأولى فقال في الأولى ( الم أقل إنك ) وقال في الثانية ( الم أقل لك إنك ) وإنما جيء بذلك للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة على مرةِ والوسم بعدم الصبرِ وهذا كما لو أتى الإنسان ما نهيته عنه فلمته وعنفتهِ ثم أتى ذلك مرة ثانيةِ أليس أنك تزيد في لومه وتعنيفه ؟ وكذلك فعل ههناِ فإنه قيل في الملامة أولاً ( الم أقل أنك ) ثم قيل ثانيا ( ألم أقل لك إنك ) وهذا موضع يدق عن العثور عليه ببادرة النظر ما لم يعط التأمل فيه حقه
وأما توكيد المتصل بالمنفصل فنحو قوله تعالى ( فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ) فتوكيد الضميرين ههنا في قوله ( إنك أنت الأعلى ) أنفى للخوف من قلب موسىِ وأثبت في نفسه للغلبة والقهرِ ولو قال لا تخف إنك الأعلى أو فأنت الأعلى لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف ما لقوله ( إنك أنت الأعلى )
وفي هذه الكلمات الثلاث وهي قوله ( إنك أنت الأعلى ) ست فوائد
الأولى ( إنّ ) المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدهاِ كقولك زيد قائمِ ثم تقول إنَّ زيداً قائمِ ففي قولك إنَّ زيداً قائم من الإثبات لقيام زيد ما ليس في قولك زيد قائم
الثانية تكرير الضميرِ في قوله ( إنك أنت ) ولو اقتصر على أحد الضميرين لما كان بهذه المكانة في التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره
الثالثة لام التعريف في قوله ( الأعلى ) ولم يقل أعلى ولا عال لأنه لو قال ذلك لكان قد نكرهِ وكان صالحاً لكل واحد من جنسهِ كقولك رجل فإنه يصلح

حذف

أن يقع على كل واحد من الرجالِ وإذا قلت ( الرجل ) فقد خصصته من بين الرجال بالتعريفِ وجعلته علماً فيهمِ وكذلك جاء قوله تعالى ( إنك أنت الأعلى ) أي دون غيرك
الرابعة لفظ أَفعَل الذي من شأنه التفضيلِ ولم يقل العالي
الخامسة إثبات الغلبة له من العلو لأن الغرض من قوله ( الأعلى ) أي الأغلبِ إلاّ أن في الأعلى زيادةِ وهي الغلبة من عال
السادسة الاستئنافِ وهو قوله تعالى ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) ولم يقل لأنك أنت الأعلى لأنه لم يجعل علة انتفاء الخوف عنه كونه عالياًِ إنما نفي الخوف عنه أولاً بقوله ( لا تخف ) ثم استأنف الكلام فقال ( إنك أنت الأعلى ) فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة والاستعلاءِ وأثبت لذلك في نفسه
وربما وقع لبعض الأغمار أن يعترض على ما ذكرناه في توكيد أحد الضميرين بالآخر فيقول لو كان توكيدهما أبلغ من الاقتصار على أحدهما لورد ذلك عند ذكر الله تعالىِ نفسه حيث هو أولى بما هو أبلغ وأوكد من القول وقد رأينا في القرآن الكريم مواضع تختص بذكر الله تعالى وقد ورد فيها أحد الضميرين دون الآخرِ كقوله عز اسمه ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) ولم يقل إنك أنت على كل شيء قديرِ فما الموجب لذلك إن كان توكيد أحد الضميرين بالآخر أبلغ من الاقتصار على أحدهما ؟
الجواب عن ذلك أنا نقول قد قدمنا القول في أول هذا النوع أنه إذا كان المعنى المقصود معلوماً ثابتاً فصاحب الكلام مخير في توكيد أحد الضميرين بالآخر فإن أكد فقد أتى بفضل بيانِ وإن لم يؤكد فلأن ذلك المعنى ثابت لا يفتقر في تقريرهِ إلى زيادة تأكيدِ كهذه الآية المشار إليهاِ وهي قوله تعالى ( قل اللهم مالك الملك ) فإن العلم بأن الله على كل شيء قدير لا يفتقر إلى تأكيد يقررهِ وقد ورد ما يجري مجرى هذه الآية مؤكداًِ كقوله تعالى ( وإذ قال الله يا عيسى

ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ) فوكد في هذه الآية ولم يؤكد في الآية الأخرىِ وقد عرفتك الطريق في ذلكِ وأما إذا كان المعنى المقصود غير معلوم وهو مما لا يشك فيه فالأولى أن يؤكد بالضميرين في الدلالة عليهِ كقوله تعالى ( قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ) فإن موسى لم يكن متيقناً أنه غالب للسحرةِ فلذلك وكد خطابه بالضميرين ليكون أبلغ في تقرير ذلك في نفسه
وأما توكيد المنفصل بمنفصل مثله فكقول أبي تمام
( لا أَنْتَ أَنْتَ ولاَ الدِّياَرُ دِيَارُ ... خَفَّ الْهَوَى وَتوَلَّتِ الأَوْطَارُ )
فقوله ( لا أنت أنت ولا الديار ديار ) من المليح النادر في هذا الموضع لأنه هو هو والديار الديارِ وإنما البواعث التي كانت تبعث على قضاء الأوطار زالتِ فبقي ذلك الرجل وليس هو هو على الحقيقة ولا الديار في عينه من الحسن تلك الديارِ وعلى هذا ورد قول أبي الطيب المتنببي
( قَبِيلٌ أَنْتَ أَنْتَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ... وَجَدُّكَ بِشْرٌ المَلِكُ الْهُمَامُ )
فقوله ( أنت أنت ) من توكيد الضميرين المشار إليهماِ وفائدته المبالغة في مدحهِ ولو مدحه بما شاء الله لما سد مسد قوله ( أنت أنت ) أي أنك المشار إليه بالفضل دون غيركِ وأما قوله ( وأنت منهم ) فخارج عن هذا الباب ! وهو كلام مستأنف لا

يتعلق بتوكيد الضميرينِ كأنه قال أنت الموصوف بكذا وكذاِ وأنت من هذا القبيلِ يريد بذلك مدح قبيله به
وهذا البيت لم أمثل به اختياراً له واستجادةِ وإنما مثلت به ليعلم مكان توكيد المنفصل بالمنفصلِ وإلاً فالبيت ليس من المرضىِ لأن سبكه سبك عار من الحسنِ وفيه تقديم وتأخير
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج أن عمرو بن ربيعة قال لزياد بن الهبولة يا خير الفتيانِ اردد عليّ ما أخذته من إبليِ فردّها عليه وفيها فحلهاِ فنازعه الفحل إلى الإبلِ فصرعه عمروِ فقال له زياد لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتمِ فقال عمرو له لقد أعطيت قليلاًِ وسمتَ جليلاًِ وجررت على نفسك ويلاً طويلاًِ فقوله ( لكنتم أنتم أنتم ) أي انتم الأشداء أو الشجعانِ أو ذوو النجدة والبأسِ أو ما جرى هذا المجرىِ إلاّ أن في ( أنتم ) الثانية تخصيصاً لهم بهذه الصفة دون غيرهمِ كأنه قال لكنتم أنتم الشجعان دون غيركمِ ولو مدحهم بأي شيء مدحهم به من وصف البأس والشدة والشجاعة لما بلغ هذه الكلمةِ أعني ( أنتم ) الثانيةِ وهذا موضع من علم البيان تتكاثر محاسنه فاعرفه

النوع السادس
في عطف المظهر على ضميره والإفصاح به بعده
وهذا إنما يعمد إليه لفائدةِ وهي تعظيم شأن الأمر الذي أظهر عنده الاسم المضمر أولاًِ ومثال ذلك قول القائل ولماّ تلاقينا وبنو تميم أقبلوا نحونا يركضون فرأينا منهم أسوداً ثكلى تسابق الأسنة إلى الورودِ ولا ترتد على أعقابها إذا ارتدت أمثالها من الأسودِ وتناجد بنو تميم علينا بحملةِ فلذنا بالفرارِ واستبقنا إلى تولية الأدبار فإنه إنما قيل ( وتناجد بنو تميم ) مصرحاً باسمهم ولم يقل وتناجدوا كما قيل ( أقبلوا ) للدلالة على التعجب من إقدامهم عند الحملةِ وثباتهم عند الصدمةِ لا سيما وقد أردف ذلك بقوله ( لذنا بالفرارِ واستبقنا إلى تولية الأدبار ) كأنه قال وتناجد أولئك الفرسان المشاهير والكماة المناكيرِ وحملوا علينا حملة واحدة فولينا مدبرين منهزمين
ومما جاء من ذلك قوله تعالى ( أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) ألا ترى كيف صرح باسمه في قوله ( ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) مع إيقاعه مبتدأ في قوله ( كيف يبديء الله الخلق ) وقد كان القياس أن يقول كيف يبديء الله الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة والفائدة في ذلك أنه لما كانت الإعادة عندهم من الأمور العظيمةِ وكان صدر الكلام واقعاً معهم في الإبداءِ وقررهم أن ذلك من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداءِ وإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لا يعجزه الإبداءِ فوجب أن لا تعجزه الإعادة فللدلالة والتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الإعادة أبرز اسمه تعالىِ وأوقعه مبتدأ ثانياً
وعلى هذا ورد قوله تعالى ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء

الكافرين ) ألا ترى أنه قال أولاً ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) فذكر مضمراً تقدم الكلام فيهِ ثم عطف المظهر الذي هو له وهو قوله ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) وكان العطف لو أضمر كما أضمر الأول لقيل ثم أنزل الله سكينته عليكم وأنزل جنوداً لم تروهاِ وفائدة الإظهار ههنا للمعطوف بعد إضماره أولاً التنويه بذكر رسول الله وذكر المؤمنينِ أو لأن الأمر عظيمِ وهو الانتصار بعد الفرارِ فأي الأمرين قدر كان لإظهار المعطوف مناسباًِ وهكذا يكون عطف المظهر على ضميره فإنه يستند إلى فائدة يهم ذكرها فإن لم يكن هناك مثل هذه الفائدة وإلا فلا يحسن الإظهار بعد الإضمار
وكذلك جاء قوله تعالى ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ) فإنه إنما قال ( وقال الذين كفروا ) ولم يقل وقالوا كالذي قبله للدلالة على صدور ذلك عن إنكار عظيمِ وغضب شديدِ وتعجب من كفرهم بليغِ لا سيما وقد انضاف إليه قوله ( وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم ) وما فيه من الإشارة إلى القائلين والمقول فيهِ وما في ذلك من المبادهةِ كأنه قال وقال أولئك الكفرة المتمردون بجزاءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المبين قبل أن يتدبروه إن هذا إلا سحر مبين
وعلى نحو من ذلك ورد قوله تعالى ( ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ) وكان القياس أن يقال وقالوا هذا ساحر كذابِ عطفاً على ( عجبوا ) وإنما أتى باسم الكافرين مظهراً بعد إضماره للإشعار بتعظيم ما اجترءوا عليه من القول في أمر النبي ِ أو لأن هذا القول كان أهم عندهمِ وأرسخ في نفوسهمِ فصرح باسم قائله دلالة على ما كان في أنفسهم منه

النوع السابع
في التفسير بعد الإبهام
اعلم أن هذا النوع لا يعمد إلى استعماله إلا لضرب من المبالغةِ فإذا جيء به في كلام فإنما يفعل ذلك لتفخيم أمر المبهم وإعظامه لأنه هو الذي يطرق السمع أولاً فيذهب بالسامع كل مذهب كقوله تعالى ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ) ففسر ذلك الأمر بقوله ( أن دابر هؤلاء مقطوع ) وفي إبهامه أولاً وتفسيره بعد ذلك تفخيم للأمرِ وتعظيم لشأنهِ فإنه لو قال وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع لما كان بهذه المكانة من الفخامةِ فإن الإبهام أولاً يقع السامع في حيرة وتفكر واستعظام لما قرع سمعهِ وتشوفً إلى معرفته والاطلاع على كنهه
وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى ( قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننّا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم ) ففسر ( ما يوحى ) بقوله ( أن اقذفيه ) وهذا كالأول في إبهامه أولاً وتفسيره ثانياً
ومثال هذا ورد قوله تعالى في سورة أم الكتاب ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) فإنه إنما قال ذلك ولم يقل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لما في الأول من التنبيه والإشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المؤمنين فدل عليه بأبلغ وجهِ كما تقول هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل لأنك تثبت ذكره مجملاً مفصلاًِ فجعلته علماً في الكرم والفضل كأنك قلت من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين جميعاً فعليه بفلان
فإن قيل فما الفرق بين عطف المظهر على ضميره وبين التفسير بعد الإبهام فإن المضمر كالمبهم ؟

فالجواب عن ذلك أني أقول إن كان سؤالك عن فائدتهما فإنهما في الفائدة سواءِ وذلك أنهما إنما يرادان لتعظيم الحالِ والإعلام بفخامة شأنهماِ وإن كان سؤالك عن الفرق بينهما في العبارة فإني أقول المضمر يأتي بعد مظهر تقدم ذكره أولاًِ ثم يعطف المظهر على ضميره أي على ضمير نفسهِ كالمثال الذي ضربناه في بني تميمِ وأما التفسير بعد الإبهام فإن المبهم يقدم أولاًِ وهو أن يذكر شيء يقع عليه محتملات كثيرةِ ثم يفسر بإيقاعه على واحد منهاِ وليس كذلك عطف المظهر على ضميره
ومما جاء من التفسير بعد الإبهام قوله تعالى ( وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) ألا ترى كيف قال ( أهدكم سبيل الرشاد ) فأبهم سبيل الرشاد ولم يبين أي سبيل هوِ ثم فسر ذلك فافتتح كلامه بذم الدنيا وتصغير شأنهاِ ثم ثنّى ذلك بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتهاِ ثم ثلث بذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ليثبط عما يتلفِ وينشط لما يزلفِ كأنه قال سبيل الرشاد هو الإعراض عن الدنياِ والرغبة في الآخرةِ والامتناع من الأعمال السيئة خوف المقابلة عليهاِ والمسارعة إلى الأعمال الصالحة رجاء المجازاة عليها
وكذلك ورد قوله تعالى ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ) فإنه إنما قال ( القواعد من البيت ) ولم يقل قواعد البيت لما في إبهام القواعد أولاً وتبيينها بعد ذلك من تفخيم حال المبين ما ليس في الإضافة
ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى ( وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى ) فإنه لما أراد تفخيم ما أمل فرعون من بلوغه أسباب السموات أبهمها أولاً ثم فسرها ثانياًِ ولأنه لما كان بلوغها أمراً عجيباً أراد أن يورده على نفس متشوفةِ إليه ليعطيه السامع حقه من التعجبِ فأبهمه ليشوف إليه نفس هامانِ ثم أوضحه بعد ذلك

وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) فإنه قال أولاً ( أعظكم بواحدة ) فأبهم الواحدةِ ثم فسرها بقوله ( أن تقوموا لله مثنى وفرادى وأن تتفكروا )
وهذا في القرآن الكريم كثير الاستعمال
وأما الإبهام من غير تفسير فكثير شائع في القرآن الكريم أيضاًِ كقوله تعالى ( وفعلت فعلتك التي فعلت ) وكذلك ورد قوله تعالى ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) أي للطريقة أو الحالة أو الملة التي هي أقومها وأسدهاِ وأي ذلك قدرت لم تجد له مع الإفصاح ذوق البلاغة التي تجده مع الإبهامِ وذلك لذهاب الوهم فيه كل مذهبِ وإيقاعه على محتملات كثيرة
وهذا كقول القائل لو رأيت علياً بين الصفينِ فإنه لو وصفه مهما وصف من نجدة وشجاعة وثبات وإقدام وأطال القول في ذلك لم يكن بمثابة ما يترامى إليه الوهم مع الإبهامِ وهذا للعارف برموز هذه الصناعة وأسرارها
وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى ( فغشيهم من اليم ما غشيهم ) وأبلغ من ذلك قوله تعالى ( والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى ) فإنه قال في تلك الآية ( فغشيهم من اليم ما غشيهم ) فذكر اليمِ وهو البحر فصار الذي غشيهم إنما هو منه خاصةِ وقال في هذه الآية ( فغشّاها ما غشى ) فأبهم الأمر الذي غشّاها بهِ وجعله عاماً وذلك أبلغ لأن السامع يذهب وهمه فيه كل مذهب
وأما ما جاء من ذلك شعراً فكقول البحتري
( بَعِيدُ مَقيِلِ الصَّدْرِ لا يُدْرِكُ الَّتي ... يُحَاوِلُهَا مِنْهُ الأَرِيبُ المُخَادِعُ )

فقول ( التي يحاولها ) من الإبهام المقدم ذكره في الآية
ومما ينتظم بذلك قول الشاعر في أبيات الحماسة
( صَبَا مَا صَبَا حَتّى عَلا الشَّيْبُ رَأْسَهُ ... فَلَمَّا عَلاَهُ قالَ لِلْبَاطِلِ ابْعَدِ )
فقوله ( صبا ما صبا ) من الإبهام الذي لو قدرت ما قدرت في تفسيره لم تجد له من فضيلة البيان ما تجد له مع الإبهام
وعليه ورد قول أبي نواس
( ولَقَدْ نَهَزْتُ مَعَ الْغُوَاةِ بِدَلْوِهِمْ ... وَأَسَمْتُ سَرْحَ اللَّحْظِ حينَ أَسَامُوا )
( وَبَلَغْتُ مَا بَلَغَ امْرُؤٌ بِشَبَابِهِ ... فَإِذَا عُصارَةُ كُلِّ ذاك أَثامُ )
فقوله ( وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ) من هذا النمط المشار إليهِ وهو من المليح النادر
ومما يجري على هذا النهج قول الآخر في وصف الخمر
( مَضَى بِهَا مَا مَضَى مِنْ عَقْلِ شَارِبِهَا ... وَفي الزُّجَاجَةِ بَاقٍ يطْلُبُ الْبَاقِي )

والكلام على هذا البيت كالكلام على البيت الذي قبله
ومثله ورد قول بعض المتأخرين فؤاد فيه ما فيه
وعلى هذا ورد قولي في فصل من تقليد لبعض الوزراءِ فقلت وأنت مؤهل لواحدة متخلق لها غرر الجيادِ وتناديها العلياء بلسان الإحمادِ وتفخر بها سمر الأقلام على سمر الصِّعادِ فابسط يدك لأخذ كتابهاِ واسمع لطيب ذكرها بعد سعيك في طلابهاِ واعلم أن الخُطَّاب إليها كثير لكنها صدت بك عن خُطَّابهاِ ولقد مضى عليها زمن وهي نفور حتى استقادها تأنيسكِ ولم تسبق الأقدار باسمك إلا لتكون سليمانها وهي بلقيسك
وهذا الوزير كان اسمه سليمان فسقت المعنى إليهِ فجاء كما تراه من الحسن واللطافة
أما قولي ( وأنت مؤهل لواحدة ) فإنه من الإبهام من غير تفسيرِ وذلك بخلاف ما ورد في الآية المقدم ذكرها لأن تلك من التفسير بعد الإبهام
ومما ينتظم في هذا السلك الاستثناء العدديِ وهو ضرب من المبالغة لطيف المأخذِ وفائدته أن أول ما يطرق سمع المخاطب ذكر العقد من العددِ فيكثر موقع ذلك عندهِ وهو شبيه بما ذكره من الإبهام أولاً ثم التفسير بعده ثانياًِ وذلك كقول القائل أعطيته مائة إلاّ عشرةِ أو أعطيته ألفاً إلاّ مائةِ فإن ذلك أبلغ من أن لو قال أعطيته تسعينِ أو تسعمائة
وعليه ورد قوله تعالى ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ) ولم يقل تسعمائة وخمسين عاماً لفائدة حسنةِ وهي ذكر ما ابتلي به نوح من أمتهِ وما كابده من طول المصابرة ليكون ذلك تسلية لرسول الله فيما يلقاه من أمتهِ وتثبيتاً لهِ فإن ذكر رأس العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره وما لاقاه من قومه

النوع الثامن
في استعمال العام في النفي والخاص في الإثبات
اعلم أنه إذا كان الشيئان أحدهما خاصاً والآخر عاماً فإن استعمال العام في حالة النفي أبلغ من استعماله في حالة الإثباتِ وكذلك استعمال الخاص في حالة الإثبات أبلغ من استعماله في حالة النفي
ومثال ذلك الإنسانية والحيوانية فإن إثبات الإنسانية يوجب إثبات الحيوانيةِ ولا يوجب نفيها نفي الحيوانيةِ وكذلك نفي الحيوانية يوجب نفي الإنسانيةِ ولا يوجب إثباتها إثبات الإنسانية
ومما ينتظم بذلك الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يكون بينها وبين واحدها تاء التأنيثِ فإنه متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغِ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ
وكذلك يتصل بهذا النوع الصفتان الواردتان على شيء واحد فإنه إذا لزم من وجود إحداهما وجود الأخرى اكتفى بها في الذكرِ ولم يحتج إلى ذكر الأخرى لأنه يجيء ضمناً وتبعاًِ أو أن يبدأ بها في الذكر أولاً ثم تجيء الأخرى بعدهاِ وأما الصفات المتعددة فإنه ينبغي أن يبدأ في الذكر بالأدنى مرتبة ثم بعدها بما هو أعلى منها إلى أن ينتهي إلى آخرهاِ هذا في مقام المدحِ فإن كان في مقام الذم عكست القضية
فالأول - وهو الخاص والعام - نحو قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ) ولم يقل ذهب بضوئهم موازناً لقوله ( فلما أضاءت ) لأن ذكر النور في حالة النفي أبلغِ من حيث إن الضوء فيه الدلالة على النور وزيادةِ فلو قال ذهب الله بضوئهم لكان المعنى يعطي ذهاب تلك الزيادة

وبقاء ما يسمى نوراًِ لأن الإضاءة هي فرط الإنارةِ قال الله تعالى ( هو الذي جعل الشمس ضياء القمر نوراً ) فكل ضوء نورِ وليس كل نور ضوءاًِ فالغرض من قوله تعالى ( ذهب الله بنورهم ) إنما هو إزالة النور عنهم أصلاًِ فهو إذاً أزاله فقد أزال الضوءِ وكذلك أيضاً قوله تعالى ( ذهب الله بنورهم ) ولم يقل أذهب نورهم لأن كل من ذهب بشيء فقد أذهبهِ وليس كل من أذهب شيئاً فقد ذهب بهِ لأن الذهاب بالشيء هو استصحاب له ومضيٌّ بهِ وفي ذلك نوع احتجار بالمذهوب به وإمساك له عن الرجوع إلى حالته والعود إلى مكانهِ وليس كذلك الإذهاب للشيء لزوال معنى الاحتجار عنه
ومما يحمل على ذلك الأوصاف الخاصة إذا وقعت على شيئينِ وكان يلزم من وصف أحدهما الآخرِ ولا يلزم عكس ذلكِ ومثاله قوله تعالى ( سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض ) فإنه إنما خص العرض بالذكر دون الطول للمعنى الذي أشرنا إليهِ والمراد بذلك أنه إذا كان هذا عرضها فكيف يكون طولها ؟
وهذا في حالة الإثبات ولو أريد النفي لكان له أسلوب غير ما ذكرناهِ وهو أنه كان يخص به الطول دون العرض
وأما الأسماء المفردة الواقعة على الجنس فنحو قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ) فإنه إنما قال ( ليس بي ضلالة ) ولم يقل ليس بي ضلال كما قالوا لأن نفي الضلالة أبلغ من نفي الضلال عنهِ كما لو قيل ألك تمر ؟ فقلت في الجواب ما لي تمرةِ وذلك أنفى للتمرِ ولو قلت ( ما لي تمرة ) لما كان يؤدي من المعنى ما أداه القول الأول وفي هذا الموضع دقة تحتاج إلى فضل تمامِ فينبغي لصاحب هذه الصناعة مراعاته والعناية به
فإن قيل لا فرق بين الضلالة والضلالِ وكلاهما مصدر قولنا ضَلَّ يَضِلُّ ضَلالاً وضلَّ يَضِلُّ ضَلالةِ كما يقال لَذَّ يلِذُّ [ لذاذا ] ولذاذة

فالجواب عن ذلك أن الضلالة تكون مصدراً كما قلتِ وتكون عبارة عن المرة الواحدةِ تقول ضل يضل ضلالة أي مرة واحدةِ كما تقول ضرب يضرب ضربةِ وقام يقوم قومةِ وأكل يأكل أكلةِ والمراد بالضلالة في هذه الآية إنما هو عبارة عن المرة الواحدة من الضلال فقد نفي ما فوقها من المرتين والمرار الكثيرة
وأما الصفتان الواردتان على شيء واحد فكقول الأشتر النخعي
( خَلَّفْتُ وَفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلَى ... وَلَقيِتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ )
( إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ )
( خَيْلاً كَأمْثَالِ السَّعَالِي شُزَّباً ... تَعْدُو بِبِيضٍ فِي الْكَرِيهَةِ شُوشِ )
( حَمِيَ الْحَدِيدُ عَلَيْهِمُو فَكَأَنَّهُ ... لَمَعَانُ بَرْقٍ أَوْ شُعَاعُ شُمُوسِ )
ألا ترى أنه رقى في التشبيه من الأدنى إلى الأعلى فقال ( لمعان برق أو شعاع شموس ) ؟ لأن لمعان البرق دون لمعان الشموس

ومما ورد من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى ( ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) فإن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرةِ وعلى القياس المشار إليه أولاً فينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأول ألاّ يغادر كبيرةِ وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرةِ لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة فيقضي القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرةِ غير أن القرآن الكريم أحق أن يتبعِ وأجدر بأن يقاس عليهِ لا على غيرهِ والذي ورد فيه من هذه الآية ناقض لما تقدم ذكره
وكذلك ورد قوله تعالى ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) لأن التأفيف أدنى درجةِ وقد تقدم قولي في أول هذا النوع أنه إذا جاءت صفتان يلزم من وجود إحداهما وجود الأخرى أن يكتفي بذكرها دون الأخرىِ لأن الأخرى تجيء ضمناً وتبعاًِ وأن يبدأ بها في الذكر ثم تجيء الأخرى بعدهاِ وعلى هذا فيقال أولاً فلا تنهرهما ولا تقل لهما أفِ لكن إذا لم يقل لهما أف امتنع أن ينهرهماِ وقد كان هذا هو المذهب عندي حتى وجدت كتاب الله تعالى قد ورد بخلافهِ وحينئذ عدت عما كنت أراه وأقول به
وأما الصفات المتعددة الواردة على شيء واحد فكقول أبي عبادة البحتري في وصف نحول الركاب
( يَتَرَقْرَقْنَ كَالسَّرَابِ قَدْ خُضْنَ غِمَارَاً مِنَ السَّرَابِ الْجَارِي ... )
( كَالْقِسيِّ المُعَطَّفَاتِ بَلِ الأَسْهُم ... مَبْرِيَّةً بَلِ الأَوْتَارِ )
ألا ترى أنه رقى في تشبيه نحولها من الأدنى إلى الأعلى فشبهها أولاً بالقسيِ ثم بالأسهم المبريةِ وتلك أبلغ في النحولِ ثم بالأوتارِ وهي أبلغ في النحول من الأسهمِ وكذلك ينبغي أن يكون الاستعمال في مثل هذا الباب

وقد أغفل كثير من الشعراء ذلكِ فمن جملتهم أبو الطيب المتنبي في قوله
( يَا بَدْرُ يَا بَحْرُ يَا غَمَامَةُ يَا ... لَيْتَ الشَّرَى يَا حِمَامُ يَا رَجُلُ )
وينبغي أن يبدأ فيه بالأدنىِ فالأدنى فإنه إذا فعل ذلك كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منهِ وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منهِ فأما قوله ( يا بدر ) فإنه اسم الممدوحِ والابتداء به أولىِ ثم بعده فيجب أن يقول يا رجلِ يا ليثِ يا غمامةِ يا بحرِ يا حمام لأن الليث أعظم من الرجلِ والبحر أعظم من الغمامةِ والحمام أعظم من البحرِ وهذا مقام مدح فيجب أن يرقى فيه من منزلة إلى منزلة حتى ينتهي إلى المنزلة العليا آخراً ولو كان مقام ذم لعكس القضية
وعلى مثله ورد قول أبي تمام يفتخر
( سَماَ بِيَ أَوْسٌ فِي الْفَخَارِ وَحَاتِمٌ ... وَزَيْدُ الْقَنَا والأَثْرَمَانِ وَرَافَعُ )

( نُجُومٌ طَوَالِعٌ جِبَالٌ فَوَارِعٌ ... غُيُوثٌ هَوَامِعٌ سُيوُلٌ دَوَافِعُ )
فإن السيول دون الغيوثِ والجبال دون النجومِ ولو قدم ما أخر لما اختل النظم بأن قال
( سيول دوافع غيوث هوامع ... جبال فوارع نجوم طوالع )
وهذا عندي أشد ملامة من المتنبيِ لأن المتنبي لا يمكنه تقديم ألفاظ بيته وتأخيرهاِ وأبو تمام متمكن من ذلكِ وما أعلم كيف ذهب عليه هذا الموضع مع معرفته بالمعاني

النوع التاسع
في التقديم والتأخير
وهذا باب طويل عريضِ يشتمل على أسرار دقيقةِ منها ما استخرجته أناِ ومنها ما وجدته في أقوال علماء البيانِ وسأورد ذلك مبيناً
وهو ضربان الأول يختص بدلالة الألفاظ على المعانيِ ولو أخر المقدم أو قدم المؤخر لتغير المعنى والثاني يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلكِ ولو أخر لما تغير المعنى
فأما الضرب الأول فإنه ينقسم إلى قسمين أحدهما يكون التقديم فيه هو الأبلغ والآخر يكون التأخير فيه هو الأبلغ
فأما القسم الذي يكون التقديم فيه هو الأبلغ فكتقديم المفعول على الفعلِ وتقديم الخبر على المبتدأِ وتقديم الظرف أو الحال أو الاستثناء على العامل
فمن ذلك تقديم المفعول على الفعلِ كقولك زيداً ضَرَبتُِ وضَربت زيداً فإن في قولك ( زيداً ضربت ) تخصيصاً به بالضرب دون غيرهِ وذلك بخلاف قولك ( ضرب زيداً ) لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاعه على أي مفعول شئتِ بأن تقول ضربت خالداً أو بكراً أو غيرهماِ وإذا أخرته لزم الاختصاص للمفعول
وكذلك تقديم خبر المبتدأ عليهِ كقولك زيد قائمِ وقائم زيد فقولك ( قائم زيد ) قد أثبت له القيام دون غيرهِ وقولك ( زيد قائم ) أنت بالخيار في إثبات القيام له ونفيه عنه بأن تقول ضاربِ أو جالسِ أو غير ذلك
وهكذا يجري الحكم في تقديم الظرفِ كقولك إن إلي مصير هذا الأمرِ وقولك إن مصير هذا الأمر إلي فإن تقديم الظرف دل على أن مصير الأمر ليس

إلا إليك وذلك بخلاف قولك إن مصير هذا الأمر إلي إذ يحتمل إيقاع الكلام بعد الظرف على غيرك فيقال إلى زيدِ أو عمروِ أوغيرهما
وكذلك يجري الأمر في الحال والاستثناء
وقال علماء البيان - ومنهم الزمخشري رحمه الله - إن تقديم هذه الصورة المذكورة إنما هو للاختصاصِ وليس كذلكِ والذي عندي فيه أن يستعمل على وجهين أحدهما الاختصاصِ والآخر مراعاة نظم الكلامِ وذاك أن يكون نظمه لا يحسن إلا بالتقديمِ وإذا أخر المقدم ذهب ذلك الحسنِ وهذا الوجه أبلغ وأوكد من الاختصاص
فأما الأول الذي هو الاختصاص فنحو قوله ( أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) فإنه إنما قيل ( بل الله فاعبد ) ولم يقل ( بل اعبد الله ) لأنه إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيرهِ ولو قال ( بل اعبد ) لجاز إيقاع الفعل على أي مفعول شاء
وأما الوجه الثاني الذي يختص بنظم الكلام فنحو قوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن التقديم في هذا الموضع قصد به الاختصاصِ وليس كذلك فإنه لم يقدم المفعول فيه على الفعل للاختصاص وإنما قدم لمكان نظم الكلام لأنه لو قال نعبدك ونستعينك لم يكن له من الحسن ما لقوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) فجاء بعد ذلك قوله ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وذلك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النونِ ولو قال نعبدك ونستعينك لذهبت تلك الطلاوةِ وزال ذلك الحسنِ وهذا غير خافٍ على أحد من الناسِ فضلاً عن أرباب علم البيان
وعلى نحو منه ورد قوله تعالى ( فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ) وتقدير الكلام فأوجس موسى في نفسه خيفةِ وإنما قدم

المفعول على الفاعل وفصل بين الفعل والفاعل بالمفعول وبحرف الجر قصداً لتحسين النظمِ وعلى هذا فليس كل تقديم لما مكانه التأخير من باب الاختصاص فبطل إذاً ما ذهب إليه الزمخشري وغيره
ومما ورد من هذا الباب قوله تعالى ( خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ) فإن تقديم الجحيم على التصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على الفعل إلا أنه لم يكن ههنا للاختصاصِ وإنما هو للفضيلة السجعيةِ ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن من أن لو قيل خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم
فإن قيل إنما قدمت الجحيم للاختصاص لأنها نار عظيمةِ ولو أخرت لجاز وقوع الفعل على غيرهاِ كما يقال ضربت زيداًِ وزيداً ضربتِ وقد تقدم الكلام على ذلك
فالجواب عن ذلك أن الدرك الأسفل أعظم من الجحيم فكان ينبغي أن يخص بالذكر دون الجحيمِ على ما ذهب إليهِ لأنه أعظمِ وهذا لا يذهب إليه إلاّ من هو بنجوة عن رموز الفصاحة والبلاغةِ ولفظة الجحيم ههنا في هذه الآية أولى بالاستعمال من غيرها لأنها جاءت ملائمة لنظم الكلامِ ألا ترى أن من أسماء النار السعير ولظى وجهنمِ ولو وضع بعض هذه الأسماء مكان الجحيم لما كان له من الطلاوة والحسن ما للجحيمِ والمقصود بذكر الجحيم إنما هو النار أي صلوه النارِ وهكذا يقال في ( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ) فإنه إن لم يقدم السلسلة على السلك للاختصاصِ وإنما قدمت لمكان نظم الكلامِ ولا شك أن هذا النظم أحسن من أن لو قيل ثم اسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاًِ والكلام على هذا كالكلام على الذي قبلهِ وله في القرآن نظائر كثيرةِ ألا ترى إلى قوله تعالى ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) فقوله ( والقمر قدرناه منازل ) ليس تقديم المفعول فيه على الفعل من باب الاختصاصِ وإنما هو من باب مراعاة نظم الكلام فإنه قال ( الليل نسلخ منه النهار ) ثم قال ( والشمس تجري ) فاقتضى حسن النظم أن يقول ( والقمر

) ليكون الجميع على نسق واحد في النظمِ ولو قال وقدرنا القمر منازل لما كان بتلك الصورة في الحسنِ وعليه ورد قوله تعالى ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) وإنما قدم المفعول لمكان حسن النظم السجعي
وأما تقديم خبر المبتدأ عليه فقد تقدمت صورتهِ كقولك زيد قائمِ وقائم زيد فمما ورد منه في القرآن قوله تعالى ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) فإنه إنما قال ذلك لم يقل وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم لأن في تقديم الخبر الذي هو مانعتهم على المبتدأ الذي هو حصونهم دليلاً على فرط اعتقادهم في حصانتهاِ وزيادة وثوقهم بمنعها إياهمِ وفي تصويب ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالى معها بقصد قاصد ولا تعرض متعرضِ وليس شيء من ذلك في قولك وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله
ومن تقديم خبر المبتدأ قوله تعالى ( قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ) فإنه إنما قدم خبر المبتدأ عليه في قوله ( أراغب أنت ) ولم يقل أأنت راغب لأنه كان أهم عندهمِ وهو به شديد العنايةِ وفي ذلك ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهتهِ وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب عنهاِ وهذا بخلاف ما لو قال أانت راغب عن آلهتي
ومن غامض هذا الموضع قوله تعالى ( واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) فإنه إنما قال ذلك ولم يقل فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأمرين أحدهما تخصيص الأبصار بالشخوص دون غيرها أما الأول فلو قال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لجاز أن يضع موضع شاخصة غيرهِ فيقول حائرةِ أو

مطموسةِ أو غير ذلكِ فلما قدم الضمير اختص الشخوص بالأبصار دون غيرهاِ وأما الثاني فإنه لما أراد أن الشخوص خاص بهم دون غيرهم دل عليه بتقديم الضمير أولاً ثم بصاحبه ثانياًِ كأنه قال فإذا هم شاخصون دون غيرهمِ ولولا أنه أراد هذين الأمرين المشار إليهما لقال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأنه أخصر بحذف الضمير من الكلام
ومن هذا النوع قول النبي وقد سئل عن ماء البحر فقال ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) وتقدير الكلام هو الذي ماؤه طهور وميتته حل لأن الألف واللام ههنا بمعنى الذي
وأما تقديم الظرفِ فإنه إذا كان الكلام مقصوداً به الإثبات فإن تقديمه أولى من تأخيرهِ وفائدته إسناد الكلام الواقع بعده إلى صاحب الظرف دون غيرهِ فإذا أريد بالكلام النفي فيحسن فيه تقديم الظرف وتأخيرهِ وكلا هذين الأمرين له موضع يختص به
فأما تقديمه في النفي فإنه يقصد به تفضيل المنفي عنه على غيره
أما تأخيره فإنه يقصد به النفي أصلاً من غير تفضيل
فأما الأول - وهو تقديم الظرف في الإثبات - فكقولك في الصورة المقدمة إن إلي مصير هذا الأمرِ ولو أخرت الظرف فقلت إن مصير هذا الأمر إلي لم يعط من المعنى ما أعطاه الأولِ وذلك أن الأول دل على أن مصير الأمر ليس إلا إليكِ وذلك بخلاف الثاني إذ يحتمل أن توقع الكلام بعد الظرف على غيرك فيقال إلى زيدِ أو عمروِ أو غيرهماِ وعلى نحو منه جاء قوله تعالى ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) وكذلك جاء قوله تعالى ( يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد ) فإنه إنما قدم الظرفين ههنا في قوله ( له الملك وله الحمد ) ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله لا بغيره
وقد استعمل تقديم الظرف في القرآن كثيراً كقوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) أي تنظر إلى ربها دون غيرهِ فتقديم الظرف ههنا ليس

للاختصاص وإنما هو كالذي أشرت إليه في تقديم المفعولِ وإنه لم يقدم للاختصاصِ وإنما قدم من أجل نظم الكلامِ لأن قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) أحسن من أن لو قيل وجوه يومئذ ناضرة ناظرة إلى ربهاِ والفرق بين النظمين ظاهرِ وكذلك قوله تعالى ( والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ) فإن هذا روعي فيه حسن النظمِ لا الاختصاصِ في تقديم الظرفِ وفي القرآن مواضع كثيرة من هذا القبيل يقيسها غير العارف بأسرار الفصاحة على مواضع أخرى وردت للاختصاص وليست كذلكِ فمنها قوله تعالى ( إلى ربك يومئذ المستقر ) وقوله تعالى ( ألا إلى الله تصير الأمور ) و ( له الحكم وإليه ترجعون ) و ( عليه توكلت وإليه أنيب ) فإن هذه جميعها لم تقدم الظروف فيها للاختصاصِ وإنما قدمت لمراعاة الحسن في نظم الكلام فاعرف ذلك
وأما الثاني - وهو تأخير الظرف وتقديمه في النفي - فنحو قوله تعالى ( آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) وقوله تعالى ( لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ) فإنه إنما أخر الظرف في الأول لأن القصد في إيلاء جرف النفي الريب نفي الريب عنهِ وإثبات أنه حق وصدقِ لا باطل وكذبِ كما كان المشركون يدعونهِ ولو أولاه الظرف لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب لا فيهِ كما قصد في قوله تعالى ( لا فيها غول ) فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلاً من غير تفضيلِ وتقديمه يقتضي تفضيل المنفي عنهِ وهو خمر الجنةِ على غيرها من خمور الدنيا أي ليس فيها ما في غيرها من الغول وهذا مثل قولنا لا عيب في الدارِ وقولنا لا فيها عيبِ فالأول نفي للعيب عن الدار فقطِ والثاني تفضيل لها على غيرها أي ليس فيها ما في غيرها من العيبِ فاعرف ذلك فإنه من دقائق هذا الباب
وأما تقديم الحال فكقولك جاء راكباً زيدِ وهذا بخلاف قولك جاء زيد راكباً إذ يحتمل أن يكون ضاحكاً أو ماشياً أو غير ذلك

وأما الاستثناء فجارٍ هذا المجرىِ نحو قولك ما قام إلا زيداً أحدِ أو ما قام أحد إلا زيداًِ والكلام على ذلك كالكلام على ما سبق
أما القسم الثاني فهو أن يقدم ما الأولى به التأخير لأن المعنى يختل بذلك ويضطربِ وهذا هو المعاظلة المعنويةِ وقد قدمنا القول في المقالة الأولى المختصة بالصناعة اللفظية بأن المعاظلة تنقسم قسمين أحدهما لفظيِ والآخر معنويِ وأما اللفظي فذكرناه في بابهِ وأما المعنوي فهذا بابه وموضعهِ وهو كتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على الموصوفِ وتقديم الصلة على الموصولِ وغير ذلك مما يرد بيانه
فمن هذا القسم قول بعضهم
( فَقَدْ والشك بين لي عناء ... بِوَشْكِ فِراقِهِمْ صُرْدٌ يَصِيحُ ) فإنه قدم قوله ( بوشك فراقهم ) وهو معمول ( يصيح ) و ( يصيح ) صفة لصرد على صردِ وذلك قبيح ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال هذا من موضع كذا رجل ورد اليومِ وإنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها فكذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها
ومن هذا النحول قول الآخر
( فأَصْبَحَتْ بَعْدَ خَطَّ بَهْجَتِهَا ... كَأَنَّ قَفْراً رُسُومَهَا قَلَمَا )
فإنه قدم خبر كأن عليها وهو قوله ( خط ) وهذا وأمثاله مما لا يجوز قياس عليهِ والأصل في هذا البيت فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلماً خط رسومهاِ إلا أنه على تلك الحالة الأولى في الشعر مختل مضطرب
والمعاظلة في هذا الباب تتفاوت درجاتها في القبحِ وهذا البيت المشار إليه من أقبحها لأن معانيه قد تداخلت وركب بعضها بعضاً
ومما جرى هذا المجرى قول الفرزدق
( إِلى مَلِكٍ مَا أُمُّهُ مِنْ مُحَارِبٍ ... أَبُوهُ وَلاَ كَانَتْ كُلَيْبٌ تُصَاهِرُهْ )

وهو يريد إلى ملك أبوه ما أمه من محاربِ وهذا أقبح من الأول وأكثر اختلالاً
وكذلك جاء قوله أيضاً
( وَلَيْسَتْ خُرَاسَان الَّتِي كانَ خَالِدٌ ... بِهَا إِذْ كَانَ سَيْفاً أَميِرُهَا ) وحديث هذا البيت ظريفِ وذاك أنه فيما ذكرِ يمدح خالد بن عبد الله القسريِ ويهجو أسداًِ وكان أسد وليها بعد خالدِ وكأنه قال وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفاً إذ كان أسد أميرهاِ وعلى هذا التقدير ففي ( كان ) الثانية ضمير الشأن والحديثِ والجملة بعدها خبر عنهاِ وقد قدم بعض ما إذ مضافة إليه وهو ( أسد ) عليهاِ وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح ما لا خفاء بهِ وأيضاً فإن أسداً أحد جزأي الجملة المفسرة للضميرِ والضمير لا يكون تفسيره إلاّ من بعدهِ ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسيرِ ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول
وعلى هذا النحو ورد قول الفرزدق أيضاً
( وَمَا مِثْلُهُ في النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكاً ... أَبُو أُمِّهِ حَيٌّ أَبُوهُ يُقَارِبُهْ )
ومعنى هذا البيت وما مثله في الناس حي يقارب إلا مملكاً أبو أمه أبوهِ وعلى هذا المثال المصوغ في الشعر قد جاء مشوهاً كما تراه
وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيراًِ كأنه كان يقصد ذلك ويتعمده لأن مثله لا يجيء ألا متكلفاً مقصوداًِ وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيدِ ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا الضرب المشار إليه إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد بهِ ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما

واعلم أن هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة لأن الفصاحة هي الظهور والبيانِ وهذا عار عن هذا الوصف
أما الضرب الثاني الذي يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك فإنه مما لا يحصره حدِ ولا ينتهي إليه شرحِ وقد أشرنا إلى نبذة منه في هذا الكتاب ليستدل بها على أشباهها ونظائرها
فمن ذلك تقديم السبب على المسببِ كقوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فإنه إنما قدم العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلبِ وأسرع لوقوع الإجابة ولو قال إياك نستعين وإياك نعبد لكان جائزاً إلا أنه لا يسد ذلك المسدِ ولا يقع ذلك الموقعِ وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة وعلى نحو منه جاء قوله تعالى ( وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ) فقدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناسِ وإن كانوا أشرف محلاً لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناسِ فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكرِ ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهمِ فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم
ومن هذا الضرب تقديم الأكثر على الأقلِ كقوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) وإنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرتهِ وأن معظم الخلق عليهِ ثم أتى بعده بالمقتصدين لأنهم قليل بالإضافة إليهِ ثم أتى بالسابقين وهم أقل من القليل أعني من المقتصدين فقدم الأكثرِ وبعده الأوسطِ ثم ذكر الأقل آخراًِ ولو عكست القضية المعنى ايضاً واقعاً في موقعه لأنه يكون قد روعي فيه تقديم الأفضل فالأفضل
ولنوضح لك في هذا وأمثاله طريقاً تقتفيهِ فنقول اعلم أنه إذا كان الشيئان كل واحد منهما مختصاً بصفة فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت في الذكرِ كهذه

حذف

الآية فإن السابق بالخيرات مختص بصفة الفضلِ والظالم لنفسه مختص بصفة الكثرةِ فقس على هذا ما يأتيك من أشباهه وأمثاله
ومن هذا الجنس قوله تعالى ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ) فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشي على رجلين إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشيِ ثم ذكر الماشي على رجلين وقدمه على الماشي على أربع لأنه أدل على القدرة أيضاً حيث كثرت آلات المشي في الأربعِ وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب
فإن قيل قد ورد في القرآن الكريم في مواضع منه ما يخالف هذا الذي ذكرتهِ كقوله تعالى في سورة هود ( وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار ) ثم قال ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة ) فقدم أهل النار في الذكر على أهل الجنةِ وهذا مخالف للأصل الذي أصلته في هذا الموضع
فالجواب عن ذلك أن هذا الذي أشرت إليه في سورة هود وما أشبهه له أسرار تحتاج إلى فضل تأمل وإمعان نظرِ حتى تفهم أما هذا الموضع فإنه لما كان الكلام مسوقاً في ذكر التخويف والتحذيرِ وجاء على عقب قصص الأولين وما فعل الله بهم من التعذيب والتدمير كان الأليق أن يوصل الكلام بما يناسبه في المعنىِ وهو ذكر أهل النار فمن أجل ذلك قدموا في الذكر على أهل الجنةِ وإذا رأيت في القرآن شيئاً من هذا القبيل وما يجري مجراه فتأمله وأمعن نظرك فيه حتى يتبين لك مكان الصواب منه
واعلم أنه إذا كان مطلع الكلام في معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين أحدهما أفضل من الآخر وكان المعنى المفضول مناسباً لمطلع الكلامِ فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت لأنك إن قدمت الأفضل فهو في موضعه من التقديمِ وإن قدمت المفضول فلأن مطلع الكلام يناسبهِ وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضاً وارد في موضعه

فمن ذلك قوله تعالى ( وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكو أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير ) فإنه إنما قدم الإناث على الذكور مع تقدمهم عليهن لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه للرحمة السابقة عندهِ ثم عقب ذلك بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولادِ فقدم الإناث لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاءِ لا ما يشاؤه الإنسان فكان ذكر الإناث اللاتي هن من جملة ما لا يشاؤه الإنسان ولا يختاره أهمِ والأهم واجب التقديمِ وليلي الجنس الذي كانت العرب تعده بلاء ذكر البلاءِ ولما أخر ذكر الذكورِ وهم أحقاء بالتقديمِ تدارك ذلك بتعريفه إياهم لأن التعريف تنويه بالذكرِ كأنه قال ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكمِ ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخيرِ وعرف أن تقديم الإناث لم يكن لتقدمهنِ ولكن لمقتض آخرِ فقال ( ذكراناً وإناثاً ) وهذه دقائق لطيفة قل من ينتبه لها أو يعثر على رموزها
ومن هذا الباب قوله تعالى ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ) فإنه إنما قدم الأرض في الذكر على السماءِ ومن حقها التأخيرِ لأنه لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم ووصل ذلك بقوله ( وما يعزب ) لاءم بينهما ليلي المعنى المعنى
فإن قيل قد جاء تقديم الأرض على السماء في الذكر في مواضع كثيرة من القرآن
قلنا إذا جاءت مقدمة في الذكر فلا بد لتقديمها من سبب اقتضاهِ وإن خفي ذلك السببِ وقد يستنبطه بعض العلماء دون بعض

النوع العاشر
في الحروف العاطفة والجارة
وهذا موضع لطيف المؤخذِ دقيق المغزىِ وما رأيت أحداً من علماء هذه الصناعة تعرض إليهِ ولا ذكرهِ وما أقول أنهم لم يعرفوه فإن هذا النوع من الكلام أشهر من أن يخفىِ لأنه مذكور في كتب العربية جميعهاِ ولست أعني بإيراده ههنا ما يذكره النحويون من أن الحروف العاطفة تتبع المعطوف المعطوف عليه في الإعرابِ ولا أن الحروف الجارة تجر ما تدخل عليهِ بل أمراً وراء ذلكِ وإن كان المرجع فيه إلى الأصل النحويِ فأقول
إن أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أن يجر بعلى بفي في حروف الجرِ وفي هذه الأشياء دقائق أذكرها لك
أما حروف العطف فنحو قوله تعالى ( والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين ) فالأول عطفه بالواو التي هي للجمع وتقديم الإطعام على الإسقاء والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسم النظمِ ثم عطف الثاني بالفاء لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهماِ ثم عطف الثالث بثم لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمانِ ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخيِ ولو قال قائل في موضع هذه الآية الذي يطعمني ويسقين ويمرضني ويشفين ويميتني ويحيين لكان للكلام معنى تام إلا أنه لا يكون كمعنى الآية إذ كل شيء منها قد عطف بما يناسبه ويقع موقع السداد منه
ومما جاء من هذا الباب قوله تعالى ( قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ) ألا ترى أنه لما قال ( من نطفة خلقه ) كيف قال ( فقدره ) ولم يقل ثم قدره لأن التقدير لما كان تابعاً للخلقة وملازماً لها عطفه عليها بالفاءِ وذلك بخلاف قوله

حذف

( ثم السبيل يسره ) لأن بين خلقته وتقديره في بطن أمه وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مهلة وزماناً فلذلك عطفه بثمِ وعلى هذا جاء قوله تعالى ( ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ) لأن بين إخراجه من بطن أمه وبين موته تراخياً وفسحةِ وكذلك بين موته ونشوره أيضاًِ ولذلك عطفهما بثمِ ولما لم يكن بين موت الإنسان وإقباره تراخٍ ولا مهلة عطفه بالفاءِ وهذا موضع من علم البيان شريفِ وقلما يتفطن لاستعماله كما ينبغي
ومما جاء من ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة مريم وعيسى عليهما السلام ( فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً ) وفي هذه الآية دليل على أنه حملها به ووضعها إياه كانا متقاربين لأنه عطف الحمل والانتباذ إلى المكان الذي مضت إليه والمخاض الذي هو الطلق بالفاءِ وهي للفورِ ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلةِ ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى ( قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ) فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه منه مدة متراخية عطف ذلك بثمِ وهذا بخلاف قصة مريم عليها السلامِ فإنها عطفت بالفاءِ وقد اختلف الناس في مدة حملها فقيل إنه كان كحمل غيرها من النساءِ وقيل لاِ بل كان مدة ثلاثة أيامِ وقيل أقلِ وقيل أكثرِ وهذه الآية مزيلة للخلاف لأنها دلت صريحاً على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلةِ وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل أخذاً بما دلت عليه الآية
ومما ورد من هذا الأسلوب قوله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر ) ففي الآية المتقدم ذكرها قال ( من نطفة خلقه فقدره ) فعطف التقدير على الخلق بالفاء لأنه تابع لهِ ولم يذكر تفاصيل حال المخلوقِ وفي هذه الآية ذكر تفاصيل حاله في تنقلهِ فبدأ بالخلق الأولِ وهو خلق آدم من طينِ ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو

خلق النسل عطفه بثم لما بينهما التراخيِ وحيث صار إلى التقدير الذي يتبع بعضه بعضاً من غير تراخ عطفه بالفاءِ ولما انتهى إلى جعله ذكراً أو أنثى - وهو آخر الخلق - عطفه بثم
فإن قيل إنه قد عطف المضغة على العلقة في هذه الآية بالفاءِ وفي أخرى بثمِ وهي قوله تعالى ( يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة )
فالجواب عن ذلك
واعلم أن في حروف العطف موضعاً تلتبس [ فيه ] الفاء بالواوِ وهو موضع يحتاج فيه إلى فضل تأملِ وذلك أن فعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاءِ دون الواوِ وقد يجيء من الأفعال ما يلتبس بفعل المطاوعةِ ويعطي ظاهره أنه كذلك إلا أن معناه يكون مخالفاً لمعنى فعل المطاوعة فيعطف حينئذ بالواو لا بالفاءِ كقوله تعالى ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) فقوله ( أغفلنا قلبه ) ههنا بمعنى صادفناه غافلاًِ وليس منقولاً عن غفل حتى يكون معناه صددناه لأنه لو كان كذلك لكان معطوفاً عليه بالفاءِ وقيل فاتبع هواهِ وذلك أنه يكون مطاوعاًِ وفعل المطاوعة لا يعطف إلا بالفاءِ كقولك أعطيته فأخذ أو دعوته فأجابِ ولا تقول أعطيته وأخذِ ولا دعوته وأجابِ كما لا يقال كسرته وانكسر
وكذلك لو كان معنى أغفلنا في الآية صددنا ومنعنا لكان معطوفاً عليه بالفاءِ وكان يقال ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواهِ فلما لم يكن كذلك وكان العطف عليه

حذف

بالواو فطريقة أنه لما قال ( أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) أن يكون معناه وجدناه غافلاً فقد غفل لا محالة فكأنه قال ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه أي لا تطع من فعل كذا وكذا يعدد أفعاله التي توجب ترك طاعتهِ فاعرف ذلك
وأما حروف الجر فإن الصواب يشذ عن وضعها في مواضعهاِ وقد علم أن ( في ) للوعاء و ( على ) للاستعلاءِ كقولهم زيد في الدار وعمرو على الفرسِ لكن إذا أريد استعمال ذلك في غير هذين الموضعين مما يشكل استعماله عدل فيه عن الأولى
فمما ورد منه قوله تعالى ( قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود لمخالفة حرفي الجر ههنا فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاءِ وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجهِ وهذا معنى دقيق قلما يراعى مثله في الكلامِ وكثيراً ما سمعت إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور فيقول له أنت على ضلالك القديم كما أعهدكِ فيأتي بعلى في موضع فيِ وإن كان هذا جائزاًِ إلا أن استعمال ( في ) ههنا أولى لما أشرنا إليهِ ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة يوسف ( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم )
ومن هذا النوع قوله تعالى ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي السبيل سبيل الله وابن السبيل ) فإنه إنما عدل عن اللام إلى ( في ) في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام لأن ( في ) للوعاءِ فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاءِ وأن يجعلوا مظنة لهاِ وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخلصِ وتكرير ( في ) في قوله ( وفي سبيل

الله ) دليل على ترجيحه على الرقاب وعلى الغارمينِ وسياق الكلام أن يقال وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيلِ فلما جيء بفي ثانية وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيهِ وهذه لطائف ودقائق لا توجد إلا في هذا الكلام الشريفِ فاعرفها وقس عليها

النوع الحادي عشر
في الخطاب بالجملة الفعلية والجملة الاسمية والفرق بينهما
ولم أذكر هذا الموضع لأن يجري الأمر فيه على ما يجري مجراه فقطِ بل لأن يقاس عليه مواضع أخرى مما تماثله وتشابههِ ولو كان شبهاً بعيداً
وإنما يعدل عن أحد الخطابين إلى الآخر لضرب التأكيد والمبالغة
فمن ذلك قولنا قام زيد وإن زيداً قائمِ فقولنا ( قام زيد ) معناه الإخبار عن زيد بالقيام وقولنا ( إن زيداً قائم ) معناه الإخبار عن زيد بالقيام أيضاًِ إلا أن في الثاني زيادة ليست في الأولِ وهي توكيده بإن المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدهاِ وإذا زيد في خبرها اللام فقيل إن زيداً لقائم كان ذلك أكثر توكيداً في الإخبار بقيامهِ وهذا مثال ينبني عليه أمثلة كثيرة من غير هذا النوع
فمما جاء من ذلك قوله تعالى ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) فإنهم إنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة بإن المشددة لأنهم في مخاطبة إخوانهم بما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اعتقاد الكفر والبعد من أن ينزلوا عنه على صدق ورغبة ووفور نشاطِ فكان ذلك متقبلا منهم ورائجاً عند إخوانهم وأما الذي خاطبوا به المؤمنينِ فإنما قالوا تكلفاً وإظهاراً للإيمان خوفاً ومداجاةِ وكانوا يعلمون أنهم لو قالوه بأوكد لفظ وأسده لما راج لهم عند المؤمنين إلا رواجاً ظاهراً لا باطناًِ ولأنهم ليس لهم في عقائدهم باعث قوي على النطق في خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به إخوانهم من العبارة المؤكدة فلذلك قالوا في خطاب المؤمنين ( آمنا ) وفي خطاب إخوانهم ( إنا معكم ) وهذه نكت تخفى على من ليس له قدم راسخة في علم الفصاحة والبلاغة

ومما يجري هذا المجرى ورود لام التوكيد في الكلامِ ولا يجيء ذلك إلا لضرب من المبالغةِ وفائدته أنه إذا عبر عن أمر يعز وجوده أو فعل يكثر وقوعه جيء باللام تحقيقاً لذلك
فمما جاء منه قوله تعالى في أول سورة المنافقين ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) فانظر إلى هذه اللامات الثلاثة الواردة في خبر إنِ والأولى وردت في قول المنافقينِ وإنما وردت مؤكدة لأنهم أظهروا من أنفسهم التصديق برسالة النبي ِ وتملقواِ وبالغوا في التملقِ وفي باطنهم خلافهِ وأما ما ورد في الثانية والثالثة فصحيح لا ريب فيهِ واللام في الثانية لتصديق رسالتهِ وفي الثالثة لتكذيب المنافقين فيما كانوا يظهرونه من التصديق الذين هم على خلافه
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام ( قالوا يأبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ) فإنه إنما جيء باللام ههنا لزيادة التوكيد في إظهار المحبة ليوسف عليه السلام والإشفاق عليه ليبلغوا الغرض من أبيهم في السماحة بإرساله معهم
ومن هذا الباب قوله تعالى ( أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أن نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون ) ثم قال ( أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون ) ألا ترى كيف أدخلت اللام في آية المطعوم دون آية المشروب ! وإنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب ملحاً أسهل إمكاناً في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذبِ وكثيراً ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحاً إلى زيادة تأكيدِ فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة زيادة التحقيقِ وأما المطعوم فإن جعله حطاماً من الأشياء الخارجة عن المعتادِ وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديدِ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره وتقريره إيجاده

حذف

ومما يتصل بذلك قوله تعالى ( وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ) فاللام في ( لنحن ) هي اللام المشار إليها
وكذلك ورد قوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ) فإن هذه اللام في قوله ( ليستخلفنهم ) و ( ليمكنن ) و ( ليبدلنهم ) إنما جاءت لتحقيق الأمر وإثباته في نفوس المؤمنين وأنه كائن لا محالة
ومما يجري هذا المجرى في التوكيد لام الابتداء المحققة لما يأتي بعدهاِ كقوله تعالى ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) فاللام في ( ليوسف ) لا الابتداءِ وفائدتها تحقيق مضمون الجملة الواردة بعدها أي أن زيادة حبه إياهما أمر ثابت لا مراء فيه
ومن هذا النوع قول بعضهم
( وَالشَّيْبُ إِنْ يَظْهَرْ فَإِنَّ وَراءهُ ... عُمُراً يَكُونُ خِلالَهُ مُتَنَفَّسُ )
( لَم يَنْتَقِصْ مِنِّي المَشيبُ قُلامَةً ... وَلَمَا بَقى مِنِّي ألَبُّ وَأَكْيَسُ )
فقوله ( ولما بقى مني ) تقديره وما بقي مني وإنما أدخل على ( ما ) هذه اللام قصداً لتأكيد المعنى لأنه موضع يحتاج إلى التأكيدِ ألا ترى أن قوة العمر في الشبابِ ولما أراد هذا الشاعر أن يصف المشيبِ وليس مما يوصف وإنما يذمِ أتى باللام لتؤكد ما قصده من الصفة
وكذلك ورد قول الشاعر من أبيات الحماسة
( إنَّا لَنَصْفَحُ عَنْ مَجَاهِلِ قَوْمِنَا ... وَنُقِيمُ سَالِفَةَ العَدُوِّ الأَصْيَدِ )

( وَمَتَى نَجِدْ يَوْماً فَسَادَ عَشِيرَةٍ ... نُصْلِحْ وَإِنْ نَرَ صَالِحاً لا نُفْسِدِ ) وهذا كثير سائغ في الكلامِ إلا أنه لا يتأتى لمكان العناية بما يعبر به عنهِ ألا ترى إلى قول الشاعر ( إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ) فإنه لما كان الصفح مما يشق على النفس فعله لأنه مقابلة الشر بالخير والإساءة بالإحسان أكده باللامِ تحقيقاً له
فإن عرى الموضع الذي يؤتى فيه بهذه اللام من هذه الفائدة المشار إليها وما يجري مجراهِ فإن ورود اللام فيه لغير سبب اقتضاه
وأكثر ما تستعمل هذه اللام في جواب القسم لتحقيق الأمر المقسم عليهِ وذلك في الإيجابِ دون النفي لأنها لا تستعمل في النفيِ ألا ترى أنه لا يقال والله للاقمتِ وإنما يقال والله لا قمتِ لكن في الإيجاب تستعملِ ويكون استعمالها حسناًِ كقولك والله لأقومِ فإن أضيف إليها النونان الخفيفة والثقيلة كان ذلك أبلغ في التأكيد كقولك والله لأقومنِ وعلى ذلك وردت الآية المتقدم ذكرهاِ وهي قوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ) وإن لم يكن جواباً لقسم فالنون الواردة بعد اللام زيادة في التأكيدِ وهما تأكيدان أحدهما مردف للآخر
وكذلك فاعلم أن النون الثقيلة متصلة بهذا البابِ فإذا استعملت في موضع فإنما يقصد بها التأكيد
فمما جاء منها قول البحتري في معاتبة الفتح بن خاقان

حذف

( هَلْ يَجْلُبَنَّ إِلَيَّ عَطْفَكَ مَوْقِفٌ ... ثَبِتٌ لَدَيْكَ أَقُولُ فِيهِ وَتَسْمَعُ )
( مَا زَالَ لِي مِنْ حُسْنِ رَأْيِكَ مَوْئِلٌ ... آوِي إِلَيْهِ مِنَ الْخُطُوبِ وَمَفْزَعُ )
( فَعَلامَ أَنْكَرْتَ الصَّدِيقَ وَأَقْبَلَتْ ... نَحْوِي جَنَابُ الْكَاشِحينَ تَطَلَّعُ )
( وَأَقَامَ يَطْمَعُ فِي تَهَضُّمِ جَانِبِي ... مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ فِيهِ يَطْمَعُ )
( إِلاَّ يَكُنْ ذَنْبٌ فَعَدْلُكَ وَاسِعٌ ... أَوْ كَانَ لِي ذَنْبٌ فَعَفْوُكَ أَوْسَعُ )
وهذه أبيات حسنة مليحة في بابها يمحى بها حر الصدود ويستمال بها صعر الخدود وإنما ذكرتها بجملتها لمكان حسنها والبيت الأول هو المراد ألا ترى أنه قال ( هل يجلبن إلي عطفك موقف ) فالنون جاءت قصداً للتأكيدِ وهو في هذا المقام متمنِ فأحب أن يؤكد هذه الأمنيةِ وكل ما يجيء من هذا الباب فإنه واقع هذا الموقعِ وإذا استعمل عبثاً لغير فائدة تقتضيه فإنه لا يكون استعماله إلا من جاهل بالأسرار المعنويةِ وأما ما يمثل به النحاة من قول القائل والله لأقومنِ فإنه مثال نحوي يضرب للجوازِ وإلا فإذا قال القائل والله لأقومن وأكدهِ كان ذلك لغواًِ لأنه ليس في قيامه من الأمر العزيز ولا من الأمر العسير ما يحتاج معه إلى التأكيدِ بل لو قال والله لأقومن إليكِ مهدداً لهِ لكان ذلك واقعاً في موقعهِ فافهم هذا وقس عليه

النوع الثاني عشر
في قوة اللفظ لقوة المعنى
هذا النوع قد ذكره أبو الفتح بن جني في كتاب ( الخصائص ) ِ إلا أنه لم يورده كما أوردته أناِ ولا نبه على ما نبهت عليه من النكت التي تضمنتهِ وهذا يظهر بالوقوف على كلامي وكلامهِ فأقول
اعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه فلا بد من أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولاً لأن الألفاظ أدلة على المعانيِ وأمثلة للإبانة عنها فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعانيِ وهذا لا نزاع فيهِ لبيانهِ وهذا النوع لا يستعمل إلا في مقام المبالغة
فمن ذلك قولهم خشن واخشوشنِ فمعنى خشن دون معنى اخشوشن لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو نحو فعل وافعوعلِ وكذلك قولهم أعشب المكانِ فإذا رأوا كثرة العشب قالوا اعشوشب
ومما ينتظم بهذا السلك قدر واقتدرِ فمعنى اقتدر أقوى من معنى قدر قال الله تعالى ( فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ) فمقتدر ههنا أبلغ من قادرِ وإنما عدل إليه للدلالة على تفخيم الأمر وشدة الأخذ الذي لا يصدر إلا عن قوة الغضب أو للدلالة على بسطة القدرةِ فإن المقتدر أبلغ في البسطة من القادرِ وذاك أن مقتدراً اسم فاعل من اقتدرِ وقادر اسم فاعل من قدرِ ولا شك أن افتعل أبلغ من فعل
وعلى هذا ورد قول أبي نواس
( فَعَفَوْتَ عَنِّي عَفْوَ مُقْتَدِرٍ ... حَلَّتْ لَهُ نِقَمٌ فَأَلْفَاهَا )
أي عفوت عني عفو قادر متمكن القدرة لا يرده شيء عن إمضاء قدرته وأمثال هذا كثيرة

وكذلك ورد قوله تعالى في سورة نوح عليه السلام ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ) فإن غفاراً أبلغ في المغفرة من غافرِ لإن فعالاً يدل على كثرة صدور الفعلِ وفاعلاً لا يدل على الكثرة
عليه ورد قوله تعالى ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) فالتواب هو الذي تتكرر منه التوبة مرة على مرةِ وهو فعال وذلك أبلغ من التائب الذي هو فاعلِ فالتائب اسم فاعل من تاب يتوب فهو تائب أي صدرت منه التوبة مرة واحدة فإذا قيل تواب كان صدور التوبة منه مراراً كثيرة
وهذا ما يجري مجراه إنما يعمد إليه لضرب من التوكيدِ ولا يوجد ذلك إلا فيما معنى الفعلية كاسم الفاعل والمفعولِ وكالفعل نفسهِ نحو قوله تعالى ( فكبكبوا فيها هم والغاوون ) فإن معنى كبكبوا من الكبِ وهو القلبِ إلا أنه مكرر المعنىِ وإنما استعمل في الآية دلالة على شدة العقاب لأنه موضع يقتضي ذلك
ولربما نظر بعض الجهال في هذا فقاس عليه زيادة التصغير وقال إنها زيادةِ ولكنها زيادة نقصِ لأنه يزاد في اللفظ حرفِ كقولهم في الثلاثي في رجل رُجَيلِ وفي الرباعي في قنديل قُنَيدِيل فالزيادة وردت ههنا فنقصت من معنى هاتين اللفظتينِ وهذا ليس من الباب الذي نحن بصدد ذكره لأنه عار عن معنى الفعليةِ والزيادة في الألفاظ لا توجب زيادة في المعانيِ إلا إذا تضمنت معنى الفعليةِ لأن الأسماء التي لا معنى للفعل فيها إذا زيدت استحال معناهاِ ألا ترى أنا لو نقلنا لفظة عذب وهي ثلاثيةِ إلى الرباعي عَذَيب فقلنا على وزن جعفر لاستحال معناهاِ ولم يكن لها معنى وكذلك لو نقلنا لفظة عسجدِ وهي رباعية إلى الخماسي فقلنا عَسجَدِدِ على وزن جَحمَرِش لاستحال معناهاِ وهذا بخلاف ما فيه معنى الفعلية كقادر ومقتدر فإن قادراً اسم فاعل قدرِ وهو ثلاثيِ ومقتدراً اسم فاعل اقتدرِ وهو رباعي فلذلك كان معنى القدرة في اقتدر أشد من معنى القدرة في قدرِ وهذا لا نزاع فيه
وهذا الباب بجملته لا يقصد به إلا المبالغة في إيراد المعانيِ وقد يستعمل

حذف

في مقام المبالغة فينعكس المعنى فيه إلى ضدهِ كما جاء لأبي كرَّام التميمي من شعراء الحماسة وهو قوله
( للهِ تَيْمٌ أَيُّ رُمْحِ طِرَادِ ... لاقَى الْحِمَامَ وَأَيُّ نَصْلِ جِلادِ )
( وَمِحَشِّ حَرْبٍ قَدِمٍ مُتَعَرِّضٍ ... لِلْمَوْتِ غَيْرِ مُكَذِّبٍ حَيَّادِ )
فلفظة ( حَيَّاد ) قد وردت ههنا وإنما أوردها هذا الشاعر وقصد بها المبالغة في وصف شجاعة هذا الرجل فانعكس عليه المقصد الذي قصدهِ لأن حياداً من حيد فهو حياد أي وجد منه الحيدودة مراراًِ كما يقال قتَّل فهو قتَّال أي وجد منه القتل مرارا وإذا كان هذا الرجل غير حياد كان حائدا أي وجدت منه الحيدودة مرة واحدةِ وإذا وجدت منه مرة كان ذلك جبناًِ ولم يكن شجاعةِ والأولى أن كان قال غير مكذب حائد
وينبغي أن يعلم أنه إذا وردت لفظة من الألفاظ ويجوز حملها على التضعيف الذي هو طريق المبالغة وحملها على غيره أن ينظر فيها فإن اقتضى حملها على المبالغة فهو الوجه
فمن ذلك قول البحتري في قصيدته التي مطلعها

( مُنَى النَّفْسِ في أَسْمَاءَ لَوْ تَسْتَطِيعُهَا ... ) وهي قصيدة مدح بها الخليفة المتوكل رحمه اللهِ وذكر فيها حديث الصلح بين بني تغلب فمما جاء فيها قوله
( رَفَعْتَ بِضَبْعَيْ تَغْلِب ابْنَةِ وَائِلِ ... وَقَدْ يَئِسَتْ أَنْ يَسْتَقِلَّ صَريعُهَا )
( فَكُنْتَ أَمِينَ الله مَوْلَى حَيَاتِهَا ... وَمَوْلاَكَ فَتْحٌ يَوْمَ ذَاكَ شَفِيعُهَا )
( تَأَلَّفْتَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا شَرَّدَتْ بِهِمْ ... حَفَائِظُ أَخْلاقٍ بَطِيءٍ رُجُوعُهَا )
( فَأَبْصَرَ غَاوِيهَا المَحَجَّةَ فَاهْتَدَى ... وأَقْصَرَ غَالِيهَا وَدَاني شُسُوعُهَا )
فقوله ( تألفتهم من بعد ما شردت بهم ) يجوز أن تخفف لفظة ( شردت ) ويجوز أن تثقلِ والثقيل هو الوجه لأنه في مقام الإصلاح بين قوم تنازعوا واختلفواِ وتباينت قلوبهم وآراؤهمِ وكل ما يجيء من الألفاظ على هذا النحو فينبغي أن يجري هذا المجرى
وههنا نكتة لا بد من التنبيه عليهاِ وذلك أن قوة اللفظ لقوة المعنى لا تستقيم إلا في نقل صيغة إلى صيغة أكثر منهاِ كنقل الثلاثي إلى الرباعيِ وإلا فإذا كانت صيغة الرباعي مثلاً موضوعة لمعنى فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة
ألا ترى أنه إذا قيل في الثلاثي قتل ثم نقل إلى الرباعي فقيل قتَّل - بتشديد التاء - فإن الفائدة من هذا النقل هي التكثير أي أن القتل وجد منه كثيراًِ وهذه الصيغة الرباعية بعينها لو وردت من غير نقل لم تكن دالة على التكثيرِ كقوله تعالى ( وكلم الله موسى تكليماً ) فإن كلم على وزن قتَّلِ ولم يرد به التكثيرِ بل أريد به أنه خاطبهِ سواء كان خطابه إياه طويلاً أو قصيراًِ قليلاً أو كثيراًِ وهذه اللفظة رباعيةِ وليس لها ثلاثي نقلت عنه إلى الرباعيِ لكن قد وردت بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر وأقوى فيما دل عليه من المعنى وذاك

حذف

60 - أن تكون كلم من الجرح أي جرَّحِ ولها ثلاثي وهو كلم مخففاً أي جرح فإذا وردت مخففة دلت على الجراحة مرة واحدةِ وإذا وردت مثقلة دلت على التكثير
وكذلك ورد قوله تعالى ( ورتل القرآن ترتيلا ) فإن لفظة ( رتل ) على وزن لفظة قتلِ ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءةِ وإنما المراد بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبرِ وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعيِ وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة المخصوصة من القراءة وعلى هذا فلا يستقيم معنى الكثرة والقوة في اللفظ والمعنى إلا بالنقل من وزن إلى وزن أعلى منهِ فاعرف ذلك
ومن ههنا شذ الصواب عمن شذ عنه في عالم وعليم فإن جمهور علماء العربية يذهبون إلى أن عليماً أبلغ في معنى العلم من عالمِ وقد تأملت ذلك وأنعمت نظري فيهِ فحصل عندي شك في الذي ذهبوا إليهِ والذي أوجب ذلك الشك هو أن عالماً وعليماً على عدة واحدة إذ كل منهما أربعة أحرفِ وليس بينهما زيادة ينقل فيها الأدنى إلى الأعلىِ والذي يوجبه النظر أن يكون الأمر على عكس ما ذكروهِ وذاك أن يكون عالم أبلغ من عليمِ وسببه أن عالماً اسم فاعل من علمِ وهو متعدِ وأن عليماً اسم فاعل من علمِ إلا أنه أشبه وزن الفعل القاصرِ نحو شرف فهو شريفِ وكرم فهو كريمِ وعظم فهو عظيمِ فهذا الوزن لا يكون إلا في الفعل القاصر فلما أشبهه عليم انحط عن رتبة عالم الذي هو متعد ألا ترى أن فعل - بفتح الفاء وكسر العين - يكون متعدياً نحو علم وحمدِ ويكون قاصراً غير متعد نحو عضب وشبعِ وأما فعل - بفتح الفاء وضم العين - فإنه لا يكون إلا قاصراً غير متعدِ ولما كان فعل - بفتح الفاء وكسر العين - متردداً بين المتعدي والقاصرِ وكان فعل - بفتح الفاء وضم العين - قاصراً غير متعد صار القاصر أضعف مما يدور بين المتعدي والقاصرِ وحيث كان الأمر كذلكِ وأشبه وزن المتعدي وزن القاصر حط ذلك من درجتهِ وجعله في الرتبة دون المتعدي الذي ليس بقاصرِ هذا هو الذي أوجب لي التشكيك فيما ذهب إليه غيري من علماء العربية ولربما كان ما ذهبوا إليه لأمر خفي عني ولم أطلع عليه

حذف

النوع الثالث عشر
في عكس الظاهر
وهو نفي الشيء بإثباتهِ وهو من مستطرفات علم البيانِ وذاك أنك تذكر كلاماً يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوفِ وهو نفي للموصوف أصلاً
فمما جاء منه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مجلس رسول الله ( لا تنثى فلتاته ) ُأي لا تذاع سقطاته فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع وليس المراد ذلك بل المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتثنى وهذا من أغرب ما توسعت فيه اللغة العربيةِ وقد ورد في الشعر كقول بعضهم
( وَلا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ ... )
فإن ظاهر المعنى من هذا البيت أنه كان هناك ضب ولكنه غير منحجر وليس كذلك بل المعنى أنه لم يكن هناك ضب أصلاً
وهذا النوع من الكلام قليل الاستعمال وسبب ذلك أن الفهم لا يكاد يأباهِ ولا يقبله إلا بقرينة خارجة عن دلالة لفظة على معناهِ وما كان عارياً عن قرينة فإنه لا يفهم منه ما أراد قائله

وسأوضح ذلك فأقول أما قولنا عن مجلس رسول الله ( لا تنثى فلتاته ) فإن مفهوم هذا اللفظ أنه كان هناك فلتات إلا أنها تطوى ولا تنشرِ وتكتم ولا تذاعِ ولا يفهم منه أنه لم يكن هناك فلتات إلا بقرينة خارجة عن اللفِ وهي أنه قد ثبت في النفوسِ وتقرر عند العقولِ أن مجلس رسول الله منزه عن فلتات تكون بهِ وهو أكرم من ذلك وأوقر فلما قيل ( إنه لا تثنى فلتاته ) فهمنا منه أنه لم يكن هناك فلتات أصلاً وأما قول القائل
( وَلا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنجَحِر ... )
فإنه لا قرينة تخصصه حتى يفهم منه ما فهم من الأولِ بل المفهوم أنه كان هناك ضب ولكنه غير منجحر
ولقد مكثت زماناً أطوف على أقوال الشعراء قصداً للظفر بأمثلة من الشعر جارية هذا المجرى فلم أجد إلا بيتاً لامريء القيس وهو
( عَلَى لاحِبٍ لا يُهتَدَى لِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ الْعَوْدَ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرا )
فقوله ( لا يهتدى لمناره ) أي أن له مناراً إلا أنه لا يهتدي به وليس المراد ذلك بل المراد أنه لا منار له يهتدي به
ولي أنا في هذا بيت من الشعر وهو
( أدْنَيْنَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَنْ يُرَى ... لِذُيُولِهِنَّ عَلَى الطَّرِيقِ غُبَارُ )
وظاهر هذا الكلام أن هؤلاء النساء يمشين هوناً لحيائهن فلا يظهر لذيولهن غبار على

الطريقِ وليس المراد ذلكِ بل المراد أنهن لا يمشين على الطريق أصلاً أي أنهن مخبآت لا يخرجن من بيوتهن فلا يكون إذا لذيولهن على الطريق غبارِ وهذا حسن رائقِ وهو أظهر بياناً من قوله
( وَلا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ ... ) فمن استعمل هذا النوع من الكلام فليستعمله هكذا وإلا فليدع على أن الإكثار من استعماله عسر لأنه لا يظهر المعنى فيه

النوع الرابع عشر
في الاستدراج
وهذا الباب أنا استخرجته من كتاب الله تعالىِ وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال والكلام فيه وإن تضمن بلاغة فليس الغرض ههنا ذكر بلاغته فقطِ بل الغرض ذكر ما تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم وإذا حقق النظر فيه علم أن مدار البلاغة كلها عليه لأنه انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بهاِ والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيراً في خلابهِ لا قصيراً في خطابهِ فإذا لم يتصرف الكاتب في استدراج الخصم إلى إلقاء يدهِ وإلا فليس بكاتب ولا شبيه له إلا صاحب الجدل فكما أن ذاك يتصرف في المغالطات القياسية فكذلك هذا يتصرف في المغالطات الخطابية
وقد ذكرت في هذا النوع ما يتعلم منه سلوك هذه الطريق
فمن ذلك قوله تعالى ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) ألا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطفه فإنه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذباً فكذبه يعود عليه ولا يتعداه أو يكون صادقاً [ وإن يكن صادقاً ] يصبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم له وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك فأقول إنما قال ( يصبكم بعض الذي ) وقد علم أنه نبي صادق وأن كل ما يعدهم به لا بد وأن يصيبهم لا

حذف

بعضه لأنه احتجاج في مقاولة خصوم موسى عليه السلام أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القولِ ويأتيهم من جهة المناصحةِ ليكون أدعى إلى سكونهم إليه فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله وأدخل في تصديقهم إياهِ فقال ( وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ) وهو كلام المنصف في مقابلة غير المشتط وذلك أنه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد بهِ لكنه أردف بقوله ( يصبكم بعض الذي يعدكم ) ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلامِ فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياًِ فضلاً عن أن يتعصب لهِ وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل كأنه برطلهم في صدر الكلام بما يزعمونه لئلا ينفروا منه وكذلك قوله في آخر الآية ( إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) أي هو على الهدى ولو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله للنبوة ولا عضده بالبيناتِ وفي هذا الكلام من خداع الخصم واستدراجه ما لا خفاء بهِ وقد تضمن من اللطائف الدقيقة ما إذا تأملته حق التأمل أعطيته حقه من الوصف
ومما يجري على هذا الأسلوب قوله تعالى ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً ) هذا كلام يهز أعطاف السامعينِ وفيه من الفوائد ما أذكرهِ وهو لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه وينقذه مما كان متورطاً فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل رتب الكلام معه في أحسن نظامِ مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن مستنصحاً في ذلك بنصيحة ربهِ وذاك أنه طلب منه أولاً العلة في خطيئته طلب منبه على تماديه موقظ من غفلته لأن المعبود لو كان حياً مميزاً سميعاً بصيراً مقتدراً على الثواب والعقاب إلا أنه بعض الخلق يستخف عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبيةِ ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيينِ فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصرِ يعني به الصنمِ ثم ثنى على ذلك بدعوته إلى الحق مترفقاً بهِ فلم يسم أباه

بالجهل المطلقِ ولا نفسه بالعلم الفائقِ ولكنه قال إن معي لطائفة من العلم وشيئاً منهِ وذلك علم الدلالة على سلوك الطريقِ فلا تستنكف وهب أني وإياك في مسيرِ وعندي معرفة بهداية الطريق دونكِ فاتبعني أنجك من أن تضلِ ثم ثلث ذلك بتثبيطه عما كان عليه ونهيهِ فقال إن الشيطان الذي استعصى على ربك وهو عدوك وعدو أبيك آدم هو الذي ورطك في هذه الورطةِ وألقاك في هذه الضلالةِ وإنما ألغى إبراهيم عليه السلام ذكر معاداة الشيطان آدم وذريته في نصيحة أبيه لأنه لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص باللهِ وهي عصيانه واستكبارهِ ولم يلتفت إلى ذكر معاداته آدم وذريته ثم ربع ذلك بتخويفه إياه سوء العاقبةِ فلم يصرح بأن العقاب لاحق به ولكنه قال ( إني أخاف أن يمسك عذاب ) فنكر العذاب ملاطفة لأبيهِ وصدر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله ( يا أبت ) توسلاً إليه واستعطافاًِ وهذا بخلاف ما أجابه به أبوهِ فإنه قال ( أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ) فأقبل عليه بفظاظة الكفرِ وغلظ العنادِ فناداه باسمهِ ولم يقابل قوله يا أبت بقوله يا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله ( أراغب أنت ) لأنه كان أهم عندهِ وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من هذا الجنسِ لا سيما في مخاطبات الأنبياء صلوات الله عليهم للكفارِ والرد عليهمِ وفي هذين المثالين المذكورين ههنا كفاية ومقنع
وبلغني حديث تفاوض فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما ومعاوية بن أبي سفيان في أمر ولده يزيدِ وذاك أن معاوية قال للحسين أما أمك فاطمة فإنها خير من أمهِ وبنت رسول الله خير من امرأة من كلبِ وأما حبي يزيد فإني لو أعطيت به مثلك ملء الغوطة لما رضيتِ وأما أبوك وأبوه فإنهما تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك وهذا كلام من معاوية كلما أمررته بفكري عجبت من سداده فضلا عن بلاغته وفصاحته فإن معاوية علم ما لعلي رضي الله عنه من السبق إلى الإسلام والأثر فيهِ وما عنده من فضيلة العلمِ فلم يعرض في المنافرة

شيء من ذلكِ ولم يقل أيضاً إن الله أعطاني الدنيا ونزعها منكم لأن هذا لا فضل فيه إذ الدنيا ينالها البر والفاجرِ وإنما صانع عن ذلك كله بقوله ( إن أباك وأباه تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك ) وهذا قول إيهامي يوهم شبهة من الحقِ وإذا شاء من شاء أن ينافر خصمه ويستدرجه إلى الصمت عن الجواب فليقل هكذا

النوع الخامس عشر
في الإيجاز
وهو حذف زيادات الألفاظ وهو نوع من الكلام شريف لا يتعلق به إلا فرسان البلاغة من سبق إلى غايتها وما صلى وضرب في أعلى درجاتها بالقدح المعلىِ وذلك لعلو مكانهِ وتعذر إمكانه
والنظر فيه إنما هو إلى المعاني لا إلى الألفاظ ولست أعني بذلك أن تهمل الألفاظ بحيث تعرى عن أوصافها الحسنة بل أعني أن مدار النظر في هذا النوع إنما يختص بالمعاني فرب لفظ قليل يدل على معنى كثيرِ ورب لفظ كثير يدل على معنى قليلِ ومثال هذا كالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم بكثرتها ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها ولهذا سمى النبي الفاتحة أم الكتابِ وإذا نظرنا إلى مجموعها وجدناه يسيراً وليست من الكثرة إلى غاية تكون بها أم البقرة وآل عمران وغيرها من السور الطوال فعلمنا حينئذ أن ذلك الأمر يرجع إلى معانيها
والكلام في هذا الموضع يخرج بنا إلى غير ما نحن بصدده لأنه يحتاج فيه إلى ذكر المراد بالقرآن الكريم وما يشتمل عليه سوره وآياته إلى حصر أقسام معانيه لكنا نشير في ذلك إشارة خفيفة فنقول
المراد بالقرآن هو دعوة العباد إلى الله تعالى ولذلك انحصرت سوره وآياته في ستة أقسام ثلاثة منها هي الأصول وثلاثة هي الفروع
أما الأصول فالأول منها تعريف المدعو إليه وهو الله تعالى ويشتمل هذا الأصل على ذكر ذاته وصفاته وأفعاله والأصل الثاني تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إلى الله تعالى ويشتمل هذا الأصل على التبتل بعبادة الله بأفعال القلب وأفعال الجوارح والأصل الثالث تعريف الحال بعد الوصول إلى

حذف

الله تعالى أعني بعد الموت ويشتمل هذا الأصل على تفصيل أحوال الدار الآخرة من الجنة والنار والصراط والميزان والحسابِ وأشباه ذلك فهذه الأصول الثلاثة
وأما الفروع فالأول منها تعريف أحوال المجيبين للدعوةِ ولطائف صنع الله بهم من النصرة والإدالة وتعريف أحوال المخالفين للدعوة والمحادين لها وكيفية صنع الله في التدمير عليهم والتنكير بهمِ والفرع الثاني ذكر مجادلة الخصوم ومحاجتهمِ وحملهم بالمجادلة والمحاجة على طريق الحقِ وهؤلاء هم اليهود والنصارى ومن يجري مجراهم من أرباب الشرائعِ والفلاسفة والملحدة من غير أرباب الشرائع والفرع الثالث تعريف عمارة منازل الطريقِ وكيفية أخذ الزاد والأهبة للاستعدادِ وذاك قياس الشريعة وتبيين الحكمة في أوامرها التي تتعلق بأفعال أهل التكليف
فهذه الأقسام الستة المشار إليها هي التي تدور معاني القرآن عليها ولا تتعداها وههنا تقسيم آخر يطول الخطب فيهِ ولا حاجة إلى ذكره
وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وتأملنا ما فيها من المعاني وجدناها مشتملة على أربعة أقسام من الستة المذكورة ولذلك سماها النبي ( أم الكتاب ) كما أنه قال ( إن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ) وإذا نظرنا في الأقسام الستة وجدنا سورة الإخلاص بمنزلة ثلث القرآنِ وكذلك قال ( آية الكرسي سيدة آي القرآن ) ويروى أنه سأل أبي بن كعب رضي الله عنه فقال ( أي آية معك في كتاب الله أعظم ؟ فقال الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب في صدرهِ وقال ليهنك العلم أبا المنذر ) وكل هذا يرجع إلى المعاني لا إلى الألفاظ فاعرف ذلك وبينه لرموزه وأسراره
واعلم أن جماعة من مدعي علم البيان ذهبوا إلى أن الكلام ينقسم قسمين فمنه ما يحسن فيه الإيجاز كالأشعار والمكاتبات ومنه ما يحسن فيه التطويل كالخطب والتقليدات وكتب الفتوح التي تقرأ في ملأٍ من عوام الناس فإن الكلام إذا طال في مثل ذلك أثر عندهم وأفهمهمِ ولو اقتصر فيه على الإيجاز والإشارة لم

يقع لأكثرهم حتى يقال في ذكر الحرب التقى الجمعانِ وتطاعن الفريقان واشتد القتال وحمي النضال وما جرى هذا المجرى
والمذهب عندي في ذلك ما أذكره وهو أن فهم العامة ليس شرطاً معتبراً في اختيار الكلام لأنه لو كان شرطاً لوجب على قياسه أن يستعمل في الكلام الألفاظ العامية المبتذلة عندهم ليكون ذلك أقرب إلى فهمهم لأن العلة في اختيار تطويل الكلام إذا كانت فهم العامة إياه فكذلك تجعل تلك العلة بعينها في اختيار المبتذل من الكلام فإنه لا خلاف في أن العامة إلى فهمه أقرب من فهم ما يقل ابتذالهم إياهِ وهذا شيء مدفوعِ وأما الذي يجب توخيه واعتماده فهو أن يسلك المذهب القويم في تركيب الألفاظ على المعانيِ بحيث لا تزيد هذه على هذهِ مع الإيضاح والإبانةِ وليس على مستعمل ذلك أن يفهم العامة كلامه فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا يكون ذلك نقصاً في استنارتهِ وإنما النقص في بصر الأعمى حيث لم يستطع النظر إليه
( عَلَيَّ نَحْتُ القَوَافِي مِنْ مَعَادِنِهَا ... وَمَا عَليَّ بِأَنْ لا تَفْهَمَ البَقَرُ )
وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فلنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمنا من الكلام على الإيجازِ وحده وأقسامه ونوضح ذلك إيضاحاً جلياً والله الموفق للصواب
فنقول حد الإيجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه والتطويل هو ضد ذلك وهو أن يدل المعنى بلفظ يكفيك بعضه في الدلالة عليه كقول الهجير السلولي من أبيات الحماسة
( طَلُوعُ الثَّنَايَا بِالْمَطَايَا وَسَابِقٌ ... إلى غَايَةٍ مَنْ يَبْتَدِرْهَا يُقَدَّمِ )

فصدر هذا البيت فيه تطويل لا حاجة إليه وعجزه من محاسن الكلام المتواصفةِ وموضع التطويل من صدره أنه قال ( طلوع الثنايا بالمطايا ) ِ فإن لفظة المطايا فضلة لا حاجة إليهاِ وبيان ذلك أنه لا يخلو الأمر فيها من وجهين إما أن يريد أنه سابق الهمة إلى معالي الأمورِ كما قال الحجاج على المنبر عند وصوله العراق
( أَنَا ابْنُ جَلا وَطَلاَّعُ الثَّنَايَا ... )
أي أنا الرجل المشهور السابق إلى معالي الأمور فإن أراد العجير بقوله ( طلوع الثنايا ) ما أشرت إليه فذكر المطايا يفسد ذلك المعنى لأن معالي الأمور لا يرقى إليها بالمطاياِ وإن أراد الوجه الآخرِ وهو أنه كثير الأسفار فاختصاصه الثنايا بالذكر دون الأرض من المفاوز وغيرها لا فائدة فيهِ وعلى كلا الوجهين فإن ذكر المطايا فضلة لا حاجة إليهِ وهو تطويل بارد غث
فقس على هذا المثال ما يجري مجراه من التطويلات التي إذا أسقطت من الكلام بقي على حاله لم يتغير شيء
وكذلك يجري الأمر في ألفاظ يوصل بها الكلام فتارة تجيء لفائدة وذلك قليلِ وتارة تجيء لغير فائدةِ وذلك كثير وأكثر ما ترد في الأشعار ليوزن بها الأبيات الشعريةِ وذلك نحو قولهم لعمريِ ولعمركِ ونحو أصبح وأمسى وظل وأضحى وباتِ وأشباه ذلكِ ونحو يا صاحبي ويا خليلي وما يجري هذا المجرى
فمما جاء منه قول أبي تمام
( أَقَرُّوا لَعَمْرِي لِحُكْمِ السُّيُوفِ ... وَكَانَتْ أَحَقَّ بِفَضْلِ الْقَضَاءِ )

فإن قوله ( لعمري ) زيادة لا حاجة للمعنى إليهاِ وهو حشو في هذا البيتِ لا فائدة فيه إلا إصلاح الوزن لا غيرِ ألا ترى أنها من باب القسمِ وإنما يرد القسم في موضع يؤكد به المعنى المرادِ إما لأنه مما يشك فيه أو مما يعز وجوده أو ما جرى هذا المجرىِ وهذا البيت الشعري لا يفتقر معناه إلى توكيد قسمي إذ لا شك في أن السيوف حاكمةِ وأن كل أحد يقر لحكمهاِ ويذعن لطاعتها وكذلك قوله أيضاً
( إذَا أَنَا لَمْ أَلُمْ عَثَرَاتِ دَهْرٍ ... بُلِيتُ بِهِ الغَدَاةَ فَمَنْ أَلُومُ )
فقوله ( الغداة ) زيادة لا حاجة للمعنى إليها لأنه يتم بدونها لأن عثرات الدهر لم تنله الغداة ولا العشيِ وإنما نالتهِ ونيلها إياه لابد وأن يقع في زمن من الأزمنة كائناً ما كانِ ولا حاجة إلى تعيينه بالذكر
وعلى هذا ورد قول البحتري
( ماَ أَحْسَنَ الأَيَّامَ إِلا أَنَّهَا ... يَا صَاحِبَيَّ إِذَا مَضَتْ لَمْ تَرْجِعِ )
فقوله ( يا صاحبي ) زيادة لا حاجة بالمعنى إليها إلا أنها وردت لتصحيح الوزن لا غير
وهذه الألفاظ التي ترد في الأبيات الشعرية لتصحيح الوزن لا عيب فيها لأنا لو عبناها على الشعراء لحجرنا عليهم وضيقناِ والوزن يضطر في بعض الأحوال إلى مثل ذلك لكن إذا وردت في الكلام المنثور فإنها إن وردت حشواً ولم ترد لفائدة كانت عيباً

وقد ترد في الأبيات الشعرية ويكون ورودها لفائدة وذلك هو الأحسنِ كقول البحتري
( قَوْمٌ أَهَانُوا الْوَفْرَ حَتَّى أَصْبَحُوا ... أَوْلَى الأَنَامِ بِكُلِّ عِرْضٍ وَافِرِ )
فقوله ( أصبحوا ) بمعنى صاروا أي أنهم صاروا أولى الناس بالأعراض الوافرةِ وهذه اللفظة لم ترد في هذا البيت حشواً كما وردت في بيتي أبي تمام المقدم ذكرهما
وسأزيد هذا الموضع بياناً بمثال أضربه للتطويل حتى يستدل به على أمثاله وأشباههِ والمثال الذي أضربه هو حكاية أوردت بمحضر مني وذاك أنه جلس إلي في بعض الأيام جماعة من الإخوان وأخذوا في مفاوضة الأحاديث وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم فذكر كل من الجماعة شيئاًِ فقال شخص منهم إني كنت بالجزيرة العمرية في زمن الملك فلان وكنت إذ ذاك صبياً صغيراً فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية وصعدنا إلى سطح طاحون لبني فلانِ وأخذنا نلعب على السطح فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون فوطئه بغل منبغال الطاحون فخفنا أن يكون آذاهِ فأسرعنا النزول إليه فوجدناه قد وطئه البغل فختنه ختانة صحيحة حسنة لا يستطيع الصانع الحاذق أن يفعل خيراً منها فقال له شخص من الحاضرين والله إن هذا عي فاحش وتطويل كثير لا حاجة إليه فإنه بصدد أن تذكر أنك كنت صبياً تلعب مع الصبيان على سطح طاحون فوقع صبي منكم إلى أرض الطاحون فوطئه بغل من

الطاحون فختنه ولم يؤذهِ ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحاً في غرابتها وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان وكان زمن الملك فلان فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليهِ والمعنى المقصود يفهم بدونه
فاعلم أيها الناظر في كتابي هذا أن التطويل هو زيادات الألفاظ في الدلالة على المعاني ومهما أمكنك حذف شيء من اللفظ في الدلالة على معنى من المعاني فإن ذلك اللفظ هو التطويل بعينه
وأما الإيجاز فقد عرفتك أنه دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه
وهو ينقسم قسمين أحدهما الإيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه والقسم الآخر ما لا يحذف منه شيء وهو ضربان أحدهما مأساوي لفظه معناه ويسمى التقديرِ والآخر ما زاد معناه على لفظه ويسمى القصر
واعلم أن القسم الأول الذي هو الإيجاز بالحذف يتنبه له من غير كبير كلفة في استخراجه لمكان المحذوف منه
وأما القسم الثاني فإن التنبه له عسر لأنه يحتاج إلى فضل تأملِ وطول فكرة لخفاء ما يستدل عليهِ ولا يستنبط ذلك إلا من رست قدمه في ممارسة علم البيانِ وصار له خليقة وملكةِ ولم أجد أحداً علم هذين القسمين بعلامةِ ولا قيدهما بقيدِ وقد أشرت إلى ذلك فيما يأتي من هذا الباب عند تفصيل أمثلتهما فليؤخذ من هناك
فإن قيل إن هذا التقسيم الذي قسمته في المحذوف وغير المحذوف ليس بصحيح لأن المعاني ليس أجساماً كالألفاظ حتى يصح التقدير بينهماِ ثم لو سلمت جواز التقدير في المساواة لم أسلم جواز الزيادةِ فليس لقائل أن يقول هذا المعنى زائد على هذا اللفظ لأنه إن قال ذلك قيل فمن أين فهمت تلك الزيادة الخارجة عن اللفظِ وقد علم أن الألفاظ إنما وضعت للدلالة على إفهام المعانيِ

فإن قال إنها فهمت من شيء خارج عن اللفظِ قيل له فتلك الزيادة بإزاء ذلك الشيء الخارج عن اللفظِ والباقي مساو للفظِ وإن قال إنها فهمت من اللفظ قيل فكيف تفهم منه وهي زائدة عليه ؟ فإن قال إنها فهمت من تركيبهِ لأن التركيب أمر زائد على اللفظِ قيل الألفاظ تدل بانفرادها على معنىِ وبتركيبها على معنى آخرِ واللفظ المركب يدل على معنى مركبِ واللفظ المفرد يدل على معنى مفردِ وتلك الزيادة إن أريد بها زيادة معنى المركب على المركب فلا يخلو إما أن تكون تلك الزيادة مفهومة من دلالة اللفظ المركب عليهاِ أو من دلالة شيء خارج فإن كانت مفهومة من دلالته عليها لم تكن زائدة عليه إذ لو كانت زائدة عليه لما دل عليها وإن كانت مفهومة من دلالة الشيء الخارج عنه فهي بإزاء ذلك الشيء الخارجِ والباقي مساو للباقي
فالجواب عن ذلك أن نقول هذا الذي ذكره كلام شبيه بالسفسطةِ وهو باطل من وجهين أحدهما أن المعاني إذا كانت لا تزيد على الألفاظ فيلزم من ذلك أن الألفاظ لا تزيد أيضاً على المعاني لأنهما متلازمان على قياسكِ ونحن نرى معنى قد دل عليه بألفاظِ فإذا أسقط من تلك الألفاظ شيء لا ينقص ذلك المعنى بل يبقى على حالهِ والوجه الآخر إن الإيجاز بالحذف أقوى دليلاً على زيادة المعاني على الألفاظ لإنا نرى اللفظ يدل على معنى لم بتضمنهِ وفهم ذلك المعنى ضرورة لا بد منهِ فعلمنا حينئذ أن ذلك المعنى الزائد على اللفظ مفهوم من دلالته عليه
فإن قيل إن المعنى الزائد على اللفظ المحذوف لا بد له من تقدير لفظ آخر يدل عليهِ وتلك الزيادة بإزاء ذلك اللفظ المقدر قلت في الجواب عن ذلك هذا لا ينقص ما ذهبت إليه من زيادة المعنى على اللفظ لأن المعنى ظاهرِ واللفظ الدال عليه مضمرِ وإذا كان مضمراً فلا ينطق بهِ وإذا لم ينطق به فكأنه لم يكن وحينئذ يبقى المعنى موجوداً واللفظ الدال عليه غير موجودِ وكذلك كل ما يعلم من المعاني بمفهوم الخطاب ألا ترى أنك إذا قلت لمن دخل عليك أهلاً وسهلاًِ علم أن الأهل والسهل منصوبان بعامل محذوف تقديره وجدت أهلاً ولقيت سهلاً إلا أن لفظتي وجدت ولقيت

محذوفتانِ والمعنى الذي دلاّ عليه باقِ فصار المعنى حينئذ مفهوماً مع حذفهما فهو إذاً زائد لا محالة وكذلك جميع المحذوفات على اختلافها وتشعب مقاصدهاِ وهذا لا نزاع فيه لبيانه ووضوحه
وقد سنح لي في زيادة المعنى على اللفظ من غير المحذوفات دليل أنا ذاكرهِ وهو أنا نجد من الكلام ما يدل على معنيين وثلاثةِ واللفظ واحدِ والمعاني التي تحته متعددة
فأما الذي يدل على معنيين فالكنايات جميعهاِ كالذي ورد في الحديث عن النبي وعن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا خرجوا من عنده لا يتفرقون إلا عن ذواقِ وهذا يدل على معنيين أحدهما إطعام الطعام أي أنهم لا يخرجون من عنده حتى يطعمواِ الآخر أنهم لا يتفرقون إلا عن استفادة علم وأدب يقوم لأنفسهم مقام الطعام لأجسامهم
وأما الذي يدل على ثلاثة فكقول أبي الطيب المتنبي ( 1 )
( وَأَظْلَمُ أَهْلِ الظُّلْم مَنْ بَاتَ حَاسِداً ... لِمَنْ بَاتَ في نَعْمَائِه يَتَقَلَّبُ )
فهذا يدل على ثلاثة معان الأول أنه يحسد من أنعم عليهِ الثاني ضد الأول الثالث أنه يحسد كل رب نعمة كائناً من كان أي يحسد من بات في نعماء نفسه يتقلب
وهذا وأمثاله من أدل الدليل على زيادة المعنى على اللفظِ وهو شيء استخرجتهِ ولم يكن لأحد فيه قول سابق
وحيث فرغنا من الكلام على هذا الموضع فلنتبعه بذكر أقسام الإيجاز المشار إليها أولاً وما ينصرف إليه فنقول أما الإيجاز بالحذف فإنه عجيب الأمر شبيه

بالسحرِ وذاك أنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكرِ والصمت عن الإفادة أزيد للإفادةِ وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون مبيناً إذا لم تبينِ وهذه جملة تنكرها حتى تخبرِ وتدفعها حتى تنظر
والأصل في المحذوفات جميعها على اختلاف ضروبها أن يكون في الكلام ما يدل على المحذوف فإن لم يكن هناك دليل على المحذوف فإنه لغو من الحديث لا يجوز بوجهِ ولا سببِ ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة أنه متى أظهر صار الكلام إلى شيء غث لا يناسب ما كان عليه أولاً من الطلاوة والحسن وقد يظهر المحذوف بالإعراب كقولنا وسهلاًِ فإن نصب الأهل والسهل يدل على ناصب محذوف وليس لهذا من الحسن ما للذي لا يظهر بالإعرابِ وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنىِ كقولنا فلان يحل ويعقد فإن ذلك لا يظهر المحذوف فيه بالإعراب وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنى أي أنه يحل الأمور ويعقدها والذي يظهر بالإعراب يقع في المفردات من المحذوفات كثيراً والذي لا يظهر بالإعراب يقع في الجمل من المحذوفات كثيراً
وسأذكر في كتابي هذا ما وصل إلي علمه وهو ينقسم قسمين أحدهما حذف الجملِ والآخر حذف المفردات وقد يرد كلام في بعض المواضع ويكون مشتملاً على القسمين معاً
فأما القسم الأول وهو الذي تحذف منه الجمل فإنه ينقسم إلى قسمين أيضاً أحدهما حذف الجمل المفيدة التي تستقل بنفسها كلاماًِ وهذا أحسن المحذوفات جميعهاِ وأدلها على الاختصارِ ولا تكاد تجده في كتاب الله تعالى والقسم الآخر حذف الجمل غير المفيدةِ وقد وردا ههنا مختلطينِ وجملتهما أربعة أضرب
الضرب الأول حذف السؤال المقدرِ ويسمى الاستئنافِ ويأتي على وجهين
الوجه الأول إعادة الأسماء والصفاتِ وهذا يجيء تارة بإعادة اسم من تقدم

الحديث عنهِ كقولك أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسانِ وتارة يجيء بإعادة صفتهِ كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك وهو أحسن من الأول وأبلغ ولانطوائه على بيان الموجب للإحسان وتخصيصه
فمما ورد من ذلك قوله تعالى ( آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) والاستئناف واقع في هذا الكلام على ( أولئك ) لأنه لما قال ( آلم ذلك الكتاب ) إلى قوله ( بالآخرة هم يوقنون ) اتجه لسائل أن يقول ما بال المستقلين بهذهالصفات قد اختصوا بالهدى ؟ فأجيب بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً
الوجه الثاني الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفاتِ وذلك كقوله تعالى ( ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف لأن ذلك من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربهِ وكأن قائلاً قال كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي لوجهه بروحه ؟ فقيل قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول لا إلى المقول له مع كونه معلوماًِ وكذلك قوله تعالى ( يا ليت قومي يعلمون ) مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد
ومن هذا النحو قوله عز و جل ( يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ) والفرق بين إثبات الفاء في سوف كقوله تعالى ( قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ) وبين حذف الفاء ههنا في هذه الآية أن إثباتها وصل ظاهر بحرف موضوع للوصلِ

حذف

وحذفها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدرِ كأنهم قالوا فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت فقال سوف تعلمونِ فوصل تارة بالفاءِ وتارة بالاستئناف للتفنن في البلاغةِ وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف وهو قسم من أقسام علم البيان تتكاثر محاسنهِ فاعرفه إن شاء الله تعالى
الضرب الثاني الاكتفاء بالسبب عن المسببِ وبالمسبب عن السبب
فأما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى ( وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر ) كأنه قال وما كنت شاهداً لموسى وما جرى له وعليه ولكنا أوحيناه إليكِ فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترةِ ودل به على المسبب الذي هو الوحيِ على عادة اختصارات القرآن لأن تقدير الكلام ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى موسى إلى عهدك قروناً كثيرة فتطاول على آخرهم - وهو القرن الذي أنت فيهم - العمر أي أمد انقطاع الوحيِ فاندرست العلومِ فوجب إرسالك إليهمِ فأرسلناكِ وعرفناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى فالمحذوف إذاً جملة مفيدةِ وهي جملة مطولة دل السبب فيها على المسبب
وكذلك ورد قوله تعالى عقيب هذه الآية أيضاً ( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ) فإن في هذا الكلام محذوفاً لولاه لما فهمِ لأنه قال ( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ) وهذا لا بد له من محذوف حتى يستقيم نظم الكلامِ وتقديره ولكن عرفناك ذلك وأوحينا إليك رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك فذكر الرحمة التي هي سبب إرساله إلى الناسِ ودل بها على المسبب الذي هو الإرسال
وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فنحو قوله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام ( قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً )

فقوله ( ولنجعله آية للناس ) تعليل معلله محذوف أي وإنما فعلنا ذلك لنجعله آية للناسِ فذكر السبب الذي صدر الفعل من أجلهِ وهو جعله آية للناسِ ودل به على المسبب الذي هو الفعل
ومما ورد من ذلك في الأخبار النبوية قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه والرجل الأنصاري الذي خاصمه في شراح الحرة التي يسقي منها النخلِ فلما حضرا بين يدي رسول الله قال للزيبر ( اسق ثم أرسل الماء إلى جارك ) فغضب الأنصاريِ وقال يا رسول الله أن كان ابن عمتكِ فتلون وجه رسول الله ِ وقال ( اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ) وفي هذا الكلام محذوف تقديره أن كان ابن عمتك حكمت لهِ أو قضيت لهِ أو ما جرى هذا المجرىِ فذكر السبب الذي هو كونه ابن عمتهِ ودل به على المسبب الذي هو الحكم أو القضاء لدلالة الكلام عليه
وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب فكقوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) أي إذا أردت قراءة القرآنِ فاكتفى بالمسبب الذي هو القراءة عن السبب الذي هو الإرادةِ والدليل على ذلك أن الاستعاذة قبل القراءةِ والذي دلت عليه أنها بعد القراءة كقول القائل إذا ضربت زيداً فاجلس فإن الجلوس إنما يكون بعد الضربِ لا قلبهِ وهذا أولى من تأول من ذهب إلى أنه أراد فإذا تعوذت فاقرأِ فإن ذلك قلباً لا ضرورة تدعو إليهِ وأيضاً فليس كل مستعيذ واجبة عليه القراءة
وعلى هذا ورد قوله تعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) والوضوء إنما يكون قبل الصلاة لا عند القيام إليها لأن القيام إليها هو مباشرة لأفعالها من الركوع والسجود والقراءة وغير ذلكِ وهذا إنما يكون بعد الوضوءِ وتأويل الآية إذا أردت القيام إلى الصلاة فاغسلِ فاكتفى بالمسبب عن السبب
وكذلك ورد قول النبي ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ ) أي إذا أراد القيام إلى الصلاة وإنما يعبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة وهو مع القصد إليه موجود فكان منه بسبب وملابسة ظاهرة

ومن ذلك قوله تعالى ( فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ) أي فضرب فانفجرت منهِ فاكتفى بالمسبب الذي هو الانفجار عن السبب الذي هو الضرب
الضرب الثالث وهو الإضمار على شريطة التفسيرِ وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره فيكون الآخر دليلاً على الأول
وهو ينقسم إلى ثلاثة أوجه
الأول أن يأتي على طريق الاستفهامِ فتذكر الجملة الأولى دون الثانيةِ كقوله تعالى ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) تقدير الآية أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبهِ ويدل على المحذوف قوله ( فويل للقاسية قلوبهم )
الوجه الثاني يرد على حد النفي والإثباتِ كقوله تعالى ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) تقديره لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتلِ ويدل على المحذوف قوله ( أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا )
الوجه الثالث أن يرد على غير هذين الوجهين فلا يكون استفهاماً ولا نفياً وإثباتاًِ وذلك كقول أبي تمام
( يَتَجَنَّبُ الآثَامَ ثُمَّ يَخَافُهَا ... فكَأَنَّما حَسَناتُهُ آثَامُ )
وهذا البيت تختلف نسخ ديوانه في إثباته فمنها ما يجيء فيه
( يَتَجَنَّبُ الأَيَّامَ خِيفَةَ غَيِّهَا ... فَكَأَنَّمَا حَسَنَاتُه آثَامُ )

وليس بشيء لأن المعنى لا يصح به وكنت سئلت عن معناه وقيل كيف ينطبق عجز البيت على صدره وإذا تجنب الآثام وخافها فكيف تكون حسناته آثاماً ؟ فأفكرت فيه وأنعمت نظري فسنح لي في القرآن الكريم آية مثله وهي قوله تعالى ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) وفي صدر البيت إضمار فسر في عجزهِ وتقديره أنه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنةِ ثم يخاف تلك الحسنةِ فكأنما حسناته آثامِ وهو على طباق الآية سواء
ومن الإضمار على شريطة التفسير قول أبي نواس
( سَنَّةُ العُشَّاقِ وَاحِدَةٌ ... فَإِذَا أَحْبَبْتَ فَاسْتَكِنِ )
فحذف لفظ الاستكانة من الأولِ وذكره في الثاني أي سنة العشاق واحدةِ وهي الاستكانةِ فإذا أحببت فاستكن ومن الناس من يقول ( فإذا أحببت فاستنن ) وهذا لا معنى لهِ لأنه إذا لم يبين سنة العشاق ما هي فبأي شيء يستن المستن منها لكنه ذكر السنة في صدر البيت من غير بيان ثم بينها في عجزه
الضرب الرابع ما ليس بسبب ولا مسببِ ولا إضمار على شريطة التفسير ولا استئناف
فأما ما حذف فيه من الجمل المفيدةِ فكقوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام ( قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون وقال الملك ائتوني به ) قد حذف من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها فرجع الرسول إليهم فأخبرهم بمقالة يوسفِ فعجبوا لها أو فصدقوه عليها وقال الملك ائتوني بهِ والمحذوف إذا كان كذلك دل عليه الكلام دلالة ظاهرة لأنه إذا ثبتت حاشيتا الكلام وحذف وسطه ظهر المحذوف دلالة الحاشيتين عليه
وكذلك ورد قوله تعالى في هذه السورة أيضاً ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا

استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) قد حذف أيضاً من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها ثم إنهم تجهزوا وساروا إلى مصرِ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه
وقد ورد هذا الضرب في القرآن الكريم كثيراًِ كقوله تعالى في سورة القصص ( وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ) في هذا محذوفِ وهو جواب الاستفهام لأنها لما قالت ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ) احتاج إلى جواب لينتظم بما بعده من رده إلى أمهِ والجواب فقالوا نعمِ فدلتهم على امرأةِ فجيء بها وهي أمه ولم يعلموا بمكانهاِ فأرضعتهِ وهذه الجملة الثانية - أعني قوله تعالى ( فرددناه إلى أمه ) - تدل على المحذوف لأن رده إلى أمه لم يكن إلا بعد رد الجواب على أخته ودلالتها إياهم على امرأة ترضعه ويكفي هذا الموضع وحده لمن يتبصر في مواقع المحذوفات وكيفيتها
ومما يجري على هذا المنهج قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام وقصة الهدهد في إرساله بالكتاب إلى بلقيس ( قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ) وفي هذا محذوفِ تقديره فأخذ الكتاب وذهب بهِ فلما ألقاه إلى المرأة وقرأته قالت يا أيها الملأ
ومن حذف الجمل المفيدة ما يعسر تقدير المحذوف منهِ بخلاف ما تقدمِ ألا ترى أن الآيات المذكورة كلها إذا تأملها المتأمل وجد معانيها متصلة من غير تقدير للمحذوفات التي حذفت منها ثم إذا قدر تلك المحذوفات سهل تقديرها ببديهة النظر والذي أذكره الآن ليس كذلك بل إذا تأمله المتأمل وجده غير متصل المعنىِ وإذا أراد أن يقدر المحذوف عسر عليه
فمما جاء منه قوله تعالى ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من

فواق وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ) فهذا الكلام إذا تأمله المتأمل لم يجده متصل المعنى ولم يتبين له مجيء ذكر داود عليه السلام ردفاً لقوله تعالى ( اصبر على ما يقولون ) وإذا أراد أن يقدر ههنا محذوفاً يوصل به المعنى عسر عليهِ وتقديره يحتمل وجهين أحدهما أنه قال ( اصبر على ما يقولون ) وخوفهم أمر معصية الله وعظمها في عيونهم بذكر قصة داود الذي كان نبياً من الأنبياء وقد آتاه الله ما آتاه من النبوة والملك العظيمِ ثم لما زل زلة قوبل بكذا وكذا فما الظن بكم أنتم مع كفركم ؟ الوجه الآخر أنه قال ( اصبر على ما يقولون ) واحفظ نفسك أن تزل في شيء مما كلفته من مصابرتهم واحتمال أذاهم واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة فلقي من توبيخ الله ما لقي فهذا الكلام كما تراه يحتاج إلى تقدير حتى يتصل بعضه ببعضِ وهو من أغمض ما يأتي من المحذوفاتِ وبه يتنبه على مواضع أخرى غامضة
وأما ما ورد من هذا الضرب في حذف الجمل التي ليست بمفيدة فنحو قوله تعالى ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ) هذا الكلام قد حذف منه جملة دل عليها صدرهِ وهو البشرى بالغلامِ وتقديرها ولما جاءه الغلام ونشأ وترعرع قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوةِ فالجملة المحذوفة ليس من الجمل المفيدة
على هذا النهج ورد قوله تعالى ( ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري

حذف

قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) وقد حذف من هذا الكلام جملةِ إلا أنها غير مفيدةِ وتقديرها فلما رجع موسى ورآهم على تلك الحال من عبادة العجل قال لأخيه هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني
وكذلك ورد قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام من سورة النمل ( قال أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ) وفي هذا محذوف وتقديره فلما جاء به قال نكروا لها عرشها لأن تنكيره لم يكن إلا بعد أن جيء به إليهِ وقد أغنى عن المحذوف صدر الكلام وآخرهِ وكان ذلك دليلاً عليه
ومما ورد على ذلك شعراً قول أبي الطيب المتنبي
( لا أُبْغِضُ الْعِيسَ لَكِنِّي وَقَيْتُ بِهَا ... قَلْبِي مِنَ الْهَمِّ أَوْ جِسْمِي مِنَ السَّقَمِ )
وهذا البيت فيه محذوف تقديره لا أبغض العيس لإنضائي إياها في الأسفارِ ولكني وقيت بها كذا وكذا فالثاني دليل على حذف الأول
وهذا موضع يحتاج في استخراجه واستخراج أمثاله إلى فكرة وتدقيق نظر
ومما يتصل بهذا الضرب حذف ما يجيء بعد أفعل كقولنا ( الله أكبر ) فإن هذا يحتاج إلى تمام أي أكبر من كل كبيرِ أو أكبر من كل شيء يتوهم كبيراًِ أو ما جرى هذا المجرىِ ومثله يرد قولهم زيد أحسن وجهاًِ وأكرم خلقاًِ تقديره أحسن وجهاً من غيرهِ وأكرم خلقاً من غيرهِ أو ما يسد هذا المسد من الكلام

وعليه ورد قول البحتري
( الله أَعْطَاكَ المَحَبَّةَ في الْوَرَى ... وَحَبَاكَ بالْفَضْلِ الَّذِي لا يُنْكَرُ )
( وَلأَنْتَ أَمْلأ في العُيُونِ لَدَيْهِمُ ... وَأَجَلُّ قَدْراً في الصُّدُورِ وَأَكْبَرُ )
أي أنت أملأ في العيون من غيرك
أما القسم الثاني المشتمل على حذف المفردات فإنه يتصرف على أربعة عشر ضرباً
الأول حذف الفاعلِ والاكتفاء في الدلالة عليه بذكر الفعلِ كقول العرب أرسلتِ وهم يريدون جاء المطر ولا يذكرون السماءِ ومنه قول حاتم
( أَمَاوِيَّ ومَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ )
يرد النفس ولم يجر لها ذكرِ
وعلى هذا ورد قوله تعالى ( كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق ) والضمير في ( بلغت ) للنفسِ ولم يجر لها ذكر
وقد نص عثمان بن جني رحمه الله تعالى على عدم الجواز في حذف الفاعلِ وهذه الآية وهذا البيت الشعري وهذه الكلمة الواردة عن العرب على خلاف ما ذهب إليهِ إلا أن حذف الفاعل لا يجوز على الإطلاقِ بل يجوز فيما

هذا سبيله وذاك أنه لا يكون إلا فيما دل الكلام عليهِ ألا ترى أن التي تبلغ التراقي إنما هي النفسِ وذلك عند الموتِ فعلم حينئذ أن النفس هي المرادةِ وإن كان الكلام خالياً عن ذكرهاِ وكذلك قول حاتم ( حشرجت ) فإن الحشرجة إنما تكون عند الموت
وأما قول العرب ( أرسلت ) وهم يريدون أرسلت السماء فإن هذا يقولونه نظراً إلى الحالِ وقد شاع فيما بينهم أن هذه كلمة تقال عند مجيء المطرِ ولم ترد في شيء من أشعارهمِ ولا في كلامهم المنثورِ وإنما يقولها بعضهم لبعض إذا جاء المطرِ فالفرق بينها وبين ( حشرجت ) وبين ( بلغت التراقي ) ظاهرِ وذاك أن ( حشرجت ) و ( بلغت التراقي ) يفهم منها أن النفس التي حشرجتِ وأنها هي التي بلغت التراقيِ وأما ( أرسلت ) فلولا شاهد الحال وإلا لم يجز أن تكون دالة على مجيء المطرِ ولو قيل في معرض الاستسقاء إنا خرجنا نسأل الله فلم نزل حتى أرسلت لفهم من ذلك أن التي أرسلت هي السماءِ ولا بد في الكلام من دليل على المحذوفِ وإلا كان لغواً لا يلتفت إليه
الضرب الثاني حذف الفعل وجوابه اعلم أن حذف الفعل ينقسم قسمين أحدهما يظهر بدلالة المفعول عليهِ كقولهم في المثل أهلك والليلِ فنصب ( أهلك والليل ) يدل على محذوف ناصبِ تقديره الحق أهلك وبادر الليل وهذا مثل يضرب في التحذير وعليه ورد قوله تعالى ( فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها )
ومما ورد منه في الأخبار النبوية أن جابراً تزوج فقال له رسول الله ما تزوجت ؟

حذف

قال ثيباً فقال له ( فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك ) يريد فهلا تزوجت جاريةِ فحذف الفعل لدلالة الكلام عليه
ومما ورد منه شعراً قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته الكافية التي يمتدح بها عضد الدولة أبا شجاع بن بويهِ ومطلعها
( فدًى لَكَ مَنْ يُقَصِّرُ عَن مَدَاكَا ... )
وسأذكر الموضع الذي حذف منه الفعل وجوابه لتعلق الأبيات بعضها ببعضِ وهي من محاسن ما يؤتى به في معنى الوداع ولم يأت لغيره مثلهاِ وهي
( إِذَا التَّوْدِيعُ أَعْرَضَ قَالَ قَلْبي ... عَلَيْكَ الصَّمْتُ لا صَاحَبْتَ فَاكَا )
( وَلَوْلا أَنَّ أَكْثَرَ مَا تَمَنى ... مُعَاوَدَةٌ لَقُلْتُ وَلا مُنَاكَا )
( قَدِ اسْتَشْفَيْتَ مِنْ دَاءٍ بِدَاءٍ ... وَأَقْتَلُ مَا أَعَلَّكَ مَا شَفَاكَا )
( فَأَكْتُمُ ؟ مِنْكَ نَجْوَانَا وَأُخْفِي ... هُمُوماً قَدْ أَطَلْتُ لَهَا الْعِرَاكَا )
( إِذَا عَاصَيْتُهَا كَانَتْ شِدَاداً ... وإِنْ طَاوَعْتُهَا كَانَتْ رِكَاكاَ )
( وَكَمْ دُونَ الثَّوِيَّةِ مِنْ حَزِينٍ ... يَقُولُ لَهُ قُدُومِي ذَا بِذَاكا )
( وَمِنْ عَذْب الرُّضَابِ إِذَا أَنَخْنَا ... يُقَبِّلُ رَحْلَ تُرْوَكَ وَالْوِرَاكَا )
( يُحَرِّمُ أَنْ يَمَسَّ الطِّيبَ بَعْدِي ... وَقَدْ عَبِقَ الْعَبِيرُ بِهِ وَصَاكَا )
( يُحَدِّثُ مُقْلَتَيْهِ النَّوْمُ عَنِّي ... فَلَيْتَ النَّوْمَ حَدّثَ عَنْ نَدَاكَا )
( وَمَا أَرْضَى لِمُقْلَتِهِ بِحُلْمٍ ... إذَا انْتَبَهَتْ تَوَهَّمَهُ ابْتِشَاكَا )

( وَلا إِلا بِأَن يُصْغِي وَأَحْكِي فَلَيْتَكَ لا يُتَيِّمُهُ هَواكا )
فقوله ( ولا مناكا ) فيه محذوف وتقديره ولا صاحبت مناكاِ وكذلك قوله ( ولا إلا بأن يصغي وأحكي ) فإن فيه محذوفاًِ تقديره ولا أرضى إلا بأن يصغي وأحكي
أما القسم الآخر فإنه لا يظهر فيه قسم الفعل لأنه لا يكون هناك منصوب يدل عليهِ وإنما يظهر بالنظر إلى ملاءمة الكلام
فمما جاء منه قوله تعالى ( وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) فقوله ( لقد جئتمونا ) يحتاج إلى إضمار فعل أي فقيل لهم لقد جئتموناِ أو فقلنا لهم
وقد استعمل هذا القرآن الكريم في غير موضع كقوله تعالى ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) فقوله ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) يحتاج إلى تقدير الفعل المضمر
وكذلك ورد قوله تعالى ( ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) فقوله ( وإن جاهداك ) لا بد له من إضمار القول أي وقلنا إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما
ومن هذا الضرب إيقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهماِ كقوله تعالى ( فاجمعوا أمركم وشركاءكم ) وهو لأمركم وحده وإنما المراد أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم لأن معنى أجمعوا من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليهِ وقد قرأ أبي رضي الله عنه ( فاجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم ) وهذا دليل على ما أشرت إليهِ وكذلك هو مثبت في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
ومن حذف الفعل باب يسمى باب إقامة المصدر مقام الفعل وإنما يفعل ذلك لضرب من المبالغة والتوكيدِكقوله تعالى ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) قوله ( فضرب الرقاب ) أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل

حذف

وأقيم المصدر مقامهِ وفي ذلك اختصار مع إعطاء معنى التوكيد المصدري
وأما حذف جواب الفعل فإنه لا يكون في الأمر المحتوم كقوله تعالى ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا ) فجزم يخوضوا ويلعبوا لأنهما جواب أمر ( فذرهم ) وحذف الجواب في هذا لا يدخل في باب الإيجاز لأنا إذا قلنا ذرهم أي اتركهم لا يحتاج ذلك إلى جواب وكذلك ما يجري مجراه وإنما يكون الجواب بالفاء في ماض كقولنا قلت له اذهب فذهب وحينئذ يظهر الجواب المحذوف كقوله تعالى ( ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ) ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية فإن تقديره فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميراًِ فذكر حاشيتي القصة أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولهاِ أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم
ومن هذا الضرب أيضاً قوله تعالى ( قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ) فجواب الأمر من هذا الكلام محذوفِ تقديره فأرسله معهمِ ويدلنا على ذلك ما جاء بعده من قوله ( فلما ذهبوا به ) كما حذف أيضاً في قوله عز و جل ( وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا انبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان ) الآية فجواب الأمر من هذا الموضع محذوف وتقديره فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال له يوسف أيها الصديق وكذلك قوله تعالى ( وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ) الآية ففي هذا الكلام حذف واختصار استغنى عنه بدلالة الحال عليهِ وتقديره فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف فدعا الملك بالنسوة وقال لهن ما خطبكن

حذف

وهكذا ورد قوله تعالى ( ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين ) وقد حذف جواب الأمر ههنا وتقديره فأتوه بهِ فلما كلمهِ وفي سورة يوسف عليه السلام محذوفات كثيرة من أولها إلى آخرها
فانظر أيها المتأمل إلى هذه المحذوفات المذكورة ههنا التي كأنها لم تحذف من هذا الكلام لظهور معناها وبيانهِ ودلالة الحال عليهِ وعلى نحو من ذلك ينبغي أن تكون محذوفات الكلام
الضرب الثالث حذف المفعول به وذلك مما نحن بصدده أخص فإن اللطائف فيه أكثر وأعجب كقولنا فلان يحل ويعقدِ ويبرم وينقض ويضر وينفعِ والأصل في ذلك على إثبات المعنى المقصود في نفسك للشيء على الإطلاق
وعلى هذا جاء قوله تعالى ( وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا )
ومن بديع ذلك قوله عز و جل ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) فإن في هاتين الآيتين قد حذف المفعول به في أربعة أماكن إذ المعنى وجد أمة من الناس يسقون مواشيهمِ وامرأتين تذودان مواشيهما وقالتا لا نسقي مواشينا فسقى لهما مواشيهما لأن الغرض أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن الامرأتين ذود وأنهما قالتا لا يكون منا سقى حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى عليه السلام بعد ذلك سقي فأما كون المسقي غنماً أو إبلاً أو غير ذلك فخارج عن الغرض
وقد ورد في الشعر من هذا النوع قول البعيث بن حريث من أبيات الحماسة

( دَعَانِي يَزيدُ بَعْدَ مَا سَاءَ ظَنُّهُ ... وَعَبْسٌ وَقَدْ كَانَا عَلَى جَدِّ مَنْكَبِ )
( وَقَدْ عَلِمَا أَنَّ العَشِيرَةَ كُلَّهَا ... سِوَى مَحْضَرِي مِنْ حَاضِرِينَ وَغُيَّبِ )
فالمفعول الثاني من ( علما ) محذوف لأن قوله ( أن العشيرة ) في موضع مفعول علما الأول وتقدير الكلام قد علما أن العشيرة سوى محضري من حاضرين وغيب لا غناء عندهم أو سواء حضورهم وغيبتهم أو ما جرى هذا المجرى
ومن هذا الضرب أيضاً حذف المفعول الوارد بعد المشيئة والإرادة كقوله تعالى ( لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ) فمفعول شاء ههنا محذوف وتقديره ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها
وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) ومما جاء على مثال ذلك شعراً قول البحتري
( لَوْ شِئْتَ لَمْ تُفْسِدْ سَمَاحَةَ حَاتِمٍ ... كَرَماً وَلَمْ تَهْدِمْ مَآثِرَ خَالِدِ )
الأصل في ذلك لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه في الثاني
وقد تقدم أن من الواجب في حكم البلاغة ألا تنطق بالمحذوف ولا تظهره إلى اللفظِ ولو أظهرت لصرت إلى كلام غث
ومجيء المشيئة بعد ( لو ) وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء كثير شائع بين البلغاءِ ولقد تكاثر هذا الحذف في ( شاء ) و ( أراد ) حتى إنهم لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كقوله تعالى ( لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء )

على هذا الأسلوب جاء قول الشاعر
( وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكيْتُهُ ... عَلَيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ )
فلو كان على حد قوله تعالى ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) لوجب أن يقول ولو شئت لبكيت دماً ولكنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنه أليق في هذا الموضعِ وسبب ذلك أنه كان بدعاً عجيباً أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً فلما كان مفعول المشيئة مما يستعظم ويستغرب كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر
الضرب الرابع وهو حذف المضاف والمضاف إليهِ وإقامة كل واحد منهما مقام الآخرِ وذلك باب عريض طويل شائع في كلام العربِ وإن كان أبو الحسن الأخفش رحمه الله لا يرى القياس عليه
فأما حذف المضاف فكقوله تعالى ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ) فحذف المضاف إلى يأجوج ومأجوج وهو سدهما كما حذف المضاف إلى القرية في قوله تعالى ( واسئل القرية ) أي أهل القرية
ومن ذلك أيضاً قوله عز و جل ( ولكن البر من اتقى ) أي خصله من اتقى وإن شئت كان تقديره ولكن ذا البر من اتقى والأولى أولى لأن حذف المضاف ضرب من الاتساع والخبر أولى بذلك من المبتدأ لأن الاتساع بحذف الإعجاز أولى منه بحذف الصدور
وقد حذف المضاف مكرراً في قوله تعالى ( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) أي من أثر حافر فرس الرسول وهذا الضرب أكثر اتساعاً من غيره
ومما جاء منه شعراً قول بعضهم من شعراء الحماسة

( إِذَا لاقَيْتِ قَوْمِي فَاسْأَلِيهِمْ ... كَفَى قَوْماً بِصَاحِبِهِمْ خَبِيرَا )
( هَل اعْفُو عَنْ أُصُولِ الْحَقِّ فِيهِمْ ... إِذَا عَسُرَتْ وَأَقْتَطِعُ الصُّدُورَا )
أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن والأوغام أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيرهِ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه
أما حذف المضاف إليه فإنه قليل الاستعمال ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) أي من قبل ذلك ومن بعده
وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه كقوله تعالى ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ) قيل أراد ظهر الأرض فحذف المضاف إليهِ وليس كذلك فإن الهاء والألف قائمة مقام الأرض ألا ترى أن قوله ( ظهرها ) يريد الأرض لأنه ضمير راجع إليها
وكذلك ورد قول جرير
( إِذَا أَخَذَتْ قَيْسٌ عَلَيْكَ وَخِنْدِفٌ ... بِأَقْطَارِهَا لَمْ تَدْرِ مِنْ أَيْنَ تَسْرَحُ )
وهذا لا يسمى إيجازاً وإنما هو تعويض بالضمير عن الضمير
الضرب الخامس وهو حذف الموصوف والصفة وإقامة كل منهما مقام الآخر ولا يكون اطراده في كل موضع وأكثره يجيء في الشعر وإنما كانت كثرته في الشعر دون الكلام المنثور لامتناع القياس في اطراده
فمما جاء منه في الشعر قول البحتري من أبيات في صفة إيوان كسرى فقال في

ذكر التصاوير التي في الإيوان وذلك أن الفرس كانت تحارب الروم فصوروا صورة مدينة أنطاكية في الإيوان وحرب الروم والفرس عليها فمما ذكره في ذلك قوله
( وإِذَا مَا رَأَيْتَ صُورَةَ أَنطاكِيَّةَ ... ارتَعْتَ بَيْنَ رُومٍ وَفُرْسِ )
( وَالمَنَايَا مَوَاثِلٌ وَأَنُوشِرْوان ... يُزْجِي الصُّفُوفَ تَحْتَ الدِّرَفْسِ ) ( 3 )
( في اخْضِرَارٍ مِنَ اللِّبَاسِ عَلَى أَصْفَرَ يَخْتَالُ في صَبِيغَةِ وَرْسِ ... )
فقوله ( على أصفر ) أي على فرس أصفر وهذا مفهوم من قرينة الحال لأنه لما قال ( على أصفر ) علم بذلك أنه أراد فرساً أصفر
والصفة التي تأتي في الكلام على ضربين إما للتأكيد والتخصيص وإما للمدح والذم وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويلِ لا من مقامات الإيجاز والاختصارِ وإذا كان الأمر كذلك لم يلق الحذف به هذا مع ما ينضاف إليه من الالتباس وضد البيان ألا ترى أنك إذا قلت مررت بطويل لم يبن من هذا اللفظ الممرور به إنسان هو أم رمح أم ثوب أم غير ذلك وإذا كان الأمر على هذا فحذف الموصوف إنما هو شيء قام الدليل عليه أو شهدت به الحال وإذا استبهم كان حذفه غير لائق
ومما يؤكد عندك ضعف حذفه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه وذاك أن تكون الصفة جملة نحو مررت برجل قام أبوه ولقيت غلاماً وجهه حسن ألا تراك لو قلت مررت بقام أبوه ولقيت وجهه حسن لم يجز
وقد ورد حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير موضع من القرآن الكريم كقوله تعالى ( وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) فإنه لم يرد أن الناقة كانت

مبصرة ولم تكن عمياء وإنما يريد آية مبصرة فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه
ولقد تأملت حذف الموصوف في مواضع كثيرة فوجدت أكثر وقوعه في النداء وفي المصدر أما النداء فكقولهم يا أيها الظريف تقديره يا أيها الرجل الظريف وعليه ورد قوله تعالى ( يا أيها الساحر ) تقديره يا أيها الرجل الساحرِ وكذلك قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ) تقديره يا أيها القوم الذين آمنواِ وأما المصدر فكقوله تعالى ( ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً ) تقديره ومن تاب وعمل عملاً صالحاً
وقد أقيمت الصفة الشبيهة بالجملة مقام الموصوف المبتدأ في قوله تعالى ( وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ) أي قوم دون ذلك
وأما حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها فإنه أقل وجوداً من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ولا يكاد يقع في الكلام إلا نادراً لمكان استبهامه
فمن ذلك ما حكاه سيبويه رحمه الله من قولهم سير عليه ليل وهو يريدون ليل طويل وإنما حذفت الصفة في هذا الموضع لما دل من الحال عليه وذاك أنه يحسن في كلام القائل لذلك من التطريح والتطويح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله طويل وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته وهو أن يكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول ( كان والله رجلاً ) أي رجلاً فاضلاً أو شجاعاً أو كريماً أو ما جرى هذا المجرى من الصفاتِ وكذلك تقول ( سألناه فوجدناه إنساناً ) أي إنسانا سمحاً أو جواداً أو ما أشبهه فعلى هذا ونحوه تحذف الصفة فأما إن عريت عن الدلالة عليها من اللفظ أو الحال فإن حذفها لا يجوز
وقد تأملت حذفها فوجدته لا يسوغ إلا في صفة تقدمها ما يدل عليها أو تأخر عنها أو فهم ذلك من شيء خارج عنها
أما الصفة التي تقدمها ما يدل عليها فقوله تعالى ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة

غصبا ) فحذف الصفة أي كان يأخذ كل سفينة صحيحة غصباً ويدل على المحذوف قوله ( فأردت أن أعيبها ) فإن عيبه إياها لم يخرجها عن كونها سفينة وإنما المأخوذ هو الصحيح دون المعيب فحذفت الصفة ههنا لأنه تقدمها ما يدل عليها
وأما التي تأخر عنها ما يدل عليها فقول بعض شعراء الحماسة
( كُلُّ امرِيءٍ سَتَئِيمُ مِنْهُ الْعِرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئيِمُ ... )
فإنه أراد كل امريء متزوج إذ دل عليه ما بعده من قوله ( ستئيم منه أو منها يئيم ) إذ لا تئيم هي إلا من زوج ولا يئيم هو إلا من زوجة فجاء بعد الموصوف ما دل عليه ولولا ذلك لما صح معنى البيت إذ ليس كل امريء يئيم من عرس إلا إذا كان متزوجاً
وأما ما يفهم حذف الصفة فيه من شيء خارج عن الكلام فقول النبي ( لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ) فإنه قد علم علم جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد من غير هذا الحديث فعلم حينئذ أن المراد به الفضيلة والكمال وهذا شيء لم يعلم من نفس اللفظِ وإنما علم من شيء خارج عنه
الضرب السادس وهو حذف الشرط وجوابه
فأما حذف الشرط فنحو قوله تعالى ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) فالفاء في قوله تعالى ( فاعبدون ) جواب شرط محذوف لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها في غيرها

ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص
ومن هذا الضرب قوله تعالى ( فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديه ) أي فحلق فعليه فدية
وكذلك قولهم الناس مجزيون بأعمالهم إن خيراً فخيراًِ وإن شراً فشراً أي إن فعل المرء خيراً جزي خيراً وإن فعل شراً جزي شراً
وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى ( ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) تقدير ذلك فأفطر فعدة من أيام أخر ولهذا ذهب داود الظاهري إلى الأخذ بظاهر الآيةِ ولم ينظر إلى حذف الشرط فأوجب القضاء على المريض والمسافر سواء أفطر أم لم يفطر
ومن حذف الشرط قوله تعالى ( يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ) اعلم أن هذه الفاء التي في قول الشاعر ( فقد جئنا خراسانا ) وحقيقتها أنها في جواب شرط محذوف يدل عليه الكلام كأنه قال إن صح ما قلتم إن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلصِ وكذلك هذه الآية يقول إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث أي قد تبين بطلان قولكم
أما حذف جواب الشرط فكقوله تعالى ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) فإن جواب الشرط ههنا محذوف تقديره إن كان القرآن من عند

الله وكفرتم به ألستم ظالمين ويدل على المحذوف قوله تعالى ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين )
الضرب السابع وهو حذف القسم وجوابه
فأما حذف القسم فنحو قولك ( لأفعلن ) أي والله لأفعلنِ أو غير ذلك من الأقسام المحلوف بها
وأما حذف جوابه فكقوله تعالى ( والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ) فجواب القسم ههنا محذوف تقديره ليعذبن أو نحوه ويدل على ذلك ما بعده من قوله ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) إلى قوله ( سوط عذاب )
ومما ينتظم في هذا السلك قوله تعالى ( ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) فإن معناه ق والقرآن المجيد لتبعثن والشاهد على ذلك ما بعده من ذكر البعث في قوله ( أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد )
وقد ورد هذا الضرب في القرآن كثيراً كقوله تعالى في سورة النازعات ( والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ) فجواب القسم ههنا محذوف تقديره لتبعثن أو لتحشرن ويدل على ذلك ما أتى من بعده من ذكر القيامة في قوله ( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ) وكذلك إلى آخر السورة
الضرب الثامن وهو حذف ( لو ) وجوابها وذاك من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها
فأما حذف ( لو ) فكقوله تعالى ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5