كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

كأنَّه قال : كشدق البعير إذ كان كلهُ بعيرٍ أعلم .
والشعراء يشبِّهون الضربة بشِدْق البعير ولذلك قال الشاعر : ( كمْ ضربةٍ لَكَ تحكِي فَاقُراسِيَةٍ ** من المَصاعبِ في أشداقِهِ شَنَعُ ) وقال الكميت : مَشافِرَ قَرْحَى أكلْنَ البريرَا ( ولأنتَ أطيشُ حينَ تغْدُو سادراً ** حذر الطعان مِنَ القدوحِ الأقرَح ) يعني الذبَّان لأَنَه أقرح ولأنّه أبداً يحكُّ بإحدى ذراعيْه على

الأخرى كأنّه يقدح بعودَي مَرْخٍ وعفَار أو عرجون أو غير ذلك مما يقدح به .
أخذ الشعراء بعضهم معاني بعض ولا يعلم في الأرض شاعر تَقَدَّمَ في تشبيهٍ مُصيبٍ تامّ وفي معنًى غريبٍ عجيب أو في معنًى شريف كريم أو في بديعِ مُخترع إلاّ وكلُّ مَنْ جاءَ من الشُعَراءِ منْ بَعدِه أو معه إنْ هو لم يعدُ على لفظه فيسرقَ بعضه أو يدعِيَه بأسْره فإنّه لا يَدعُ أن يستعينَ بالمعنى ويجعَلَ نفسه شريكاً )
فيه كالمعنى الذي تتنازعُه الشعراءُ فتختلف ألفاظهم وأعاريضُ أشعارهِمْ ولايكونُ أحدٌ منهم أحقَّ بذلك المعنى من صاحبه أو لعلّه أن يجحد أنّه سمع بذلك المعنى قَطُّ وقال إنَّه خطرَ على بالي من غير سماع كما خطَر على بال الأوَّل هذا إذا قرَّعُوه به إلاَّ ما كان من عنترة في صفةِ الذباب فإنه وصفَه فأجاد صفته فتحامى معناهُ جميعُ الشعراء

فلم يعرضْ له أحدٌ منهم ولقد عَرضَ له بعضُ المحدَثين ممن كان يحسِّنُ القَول فبلغ من استكراهه لذلك المعنى ومن اضطرابه فيه أنّه صار دليلاً على سوء طبعه في الشعر قال عنترة : ( جادَتْ عليها كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ ** فَتَركْنَ كلَّ حَدِيقةٍ كالدِّرْهم ) ( غَرداً يُحكُّ ذِراعَه بذِرَاعهِ ** فِعْلَ المكبِّ على الزِّنَادِ الأجذم ) قال : يريد فعل الأقْطعِ المكبِّ على الزِّناد والأجذم : المقطوع اليدين فوصف الذّباب إذا كان واقعاً ثمَّ حكّ إحدى يديه بالأخرى فشبَّهَهُ عند ذلك برجلٍ مقطوع اليدين يقدَحُ بعودين ومتى سقط الذُّبابُ فهو يفعل ذلك .
ولم أسمع في هذا المعنى بشعر أرضاه غير شِعر عنترة .
قولٌ في حديث وقد كان عندنا في بني العدوية شيخٌ منهم مُنْكر شديد العارضة فيهِ توضيع فسمعني أقول : قد جاء في الحديث : إنَّ تحْتَ جَناح

الذُّباب اليمين شفاءً وتحت جَناحه الأيسر سمّاً فإذا سقط في إنَاءٍ أو في شرابٍ أو في مَرَق فاغمسوه فيه فإنه يرفَعُ عند ذلك الجناح الذي تحتَه الشفاء ويحطُّ الجناح الذي تحته السمّ فقال : بأبي أنتَ وأمي هذا يجمع العداوةَ والمَكيدة .
قصّة لتميمي مع أناس من الأزد وقدكان عندنا أُنَاسٌ من الأزد ومعهم ابن حزن وابن حزن هذا عَدَوِيٌّ من آل عموج وكان يتعصّب لأصحابه من بني تميم وكانوا على نبيذ فسقط ذبابٌ في قدَح بعضهم فقال له الآخر : غطِّ التميمي ثمَّ سقط آخر في قدَح بعضهم فقال الباقون : غطِّ التميميّ فلمَّا كان في الثالثة قال ابن حزن : غطِّه فإنْ كان تميمياً رسَبَ وإن كان أزْديّا طفاً فقال صاحب المنزل : ما يسرُّني أنَّه كان نقصكم حرفاً وإنما عَنى أنَّ أزْدَ عُمان مَلاَّحون .

( ضروب الذِّبَّان ) والذِّبَّان ضروبٌ سِوى ما ذكرَناه من الفَراش والنَّحل والزَّنابير فمنها الشَّعْراء وقال الراجز : ذبّان شَعْرَاء وبيت ماذلِ وللكلاب ذبابٌ على حِدَة يَتَخَلّق منها ولا يُريدُ سِواها ومنها ذبّان الكلأ والرياض وكلّ نوعٍ منها يألفُ ما خلقَ منه قال أبو النَّجْم : ( مستَأسِد ذبَّانه في غَيْطلِ ** يقُلن للرَّائدِ أعشَبْت انزل )

شعر ومثل في طنين الذباب
والعربُ تسمّي طَنينَ الذِّبَّانِ والبعوض غناءً وقال الأخطلُ في صفة الثَّور : ( فَرداً تغنِّيه ذبَّان الرِّياض كما ** غَنّى الغواةُ بِصَنْجٍ عِند أسْوارِ ) وقالَ حَضْرميُّ بن عامرٍ في طنين الذباب : ( ما زال إهداءُ القَصائدِ بينَنَا ** شَتْمَ الصَّديقِ وكثْرَةَ الألقاب ) ويقال : ما قولي هذا عندك إلاّ طنينُ ذُباب .
سفاد الذباب وأعمارها
وللذُّباب وقتٌ تهيج فيهِ للسِّفاد مع قصر أعمارها وفي الحديث : أنَّ عُمْرَ الذباب أربعون يوماً ولها أيضاً وقت هَيْجٍ في أكْلِ النّاس

وعضّهم وشُربِ دمائهم وإنما يعرض هذا الذِّبَّان في البيوت عند قرب أيَّامها فإنّ هلاكها يكون بعد ذلك وشيكاً والذِّبَّان في وقتٍ من الأوقات من حتوف الإبل والدوابِّ .

علة شدة عض الذباب
والذُّباب والبَعوض من
ذوات الخراطيم
ولذلك اشتدَّ عضُّها وقويتْ على خرْق الجلود الغلاظ وقال الراجز في وصف البعوضة : ( مثل السُّفاةِ دائم طنينُها ** ركِّبَ في خرطومها سِكِّينُها ) ( ذوات الخراطيم ) وقالوا : ذوات الخراطيم من كلِّ شيء أقوى عضّاً ونَاباً وفكّاً كالذيب والخنزير والكلب وأمّا الفيل فإنّ خرطومَه هو أنفه كما أنَّ لكلِّ شيءٍ من الحيوان أنفاً وهو يده ومنه يُغَنِّي وفيه يجري الصَّوت كما يُجري الزَّامرُ الصَّوتَ في القصَبةِ بالنّفخ ومتى تضاغَطَ الهواءُ صوَّتَ علَى قدْر الضّغْطِ أو على قدر الثّقب .

أمثال من الشعر في الذباب
والذباب : اسم الواحد والذّبّان : اسم الجماعة وإذا أرادوا التَّصغير والتقليلَ ضربوا بالذبَّان المثل قال الشاعر : ( رأيتُ الخبزَ عزَّ لدَيكَ حتَّى ** حَسبتُ الخُبْزَ في جوِّ السَّحابِ ) ( وما روّحْتنا لتذُبَّ عنا ** ولكنْ خِفْتَ مَرْزِية الذُّباب ) وقال آخر : ( لما رأيت القصْر أُغْلِقَ بابهُ ** وتعلَّقت هَمدان بالأسباب ) ( أيقنتُ أنّ إمَارة ابن مضارب ** لم يبق منها قِيسُ أيْرِ ذبابِ )

قال بعضهم : لم يذهب إلى مقدار أيْره وإنما ذهب إلى مثل قول ابن أحمر : ( ما كنت عنْ قومي بمهتضم ** لو أنَّ معصيّاً له أمرُ ) ( كلفّتني مُخَّ البَعوضِ فقدْ ** أقصرت لا نُجْحٌ ولا عُذْرُ ) قال : وليس شيٌ مما يطير يلَغُ في الدّم وإنما يلغ في الدماء من السِّباع ذواتُ الأربع وأمّا الطّير فإنَّها تشربُ حَسواً أو عبَّة بعد عَبّة ونُغبةً بعد نغبة وسباع الطّير قليلة الشُّرب للماء والأُسد كذلك قال أبو زُبَيد الطائي : ( تذبُّ عنهُ كفٌّ بها رَمقٌ ** طيراً عكوفاً كزُوَّرِ العُرُسِ )

( إذا ونى ونْيَة دَلَفنَ له ** فهنَّ مِنْ والغٍ ومُنْتَهِسِ )
قال : والطّير لا تلغ وإنما يلغَ الذباب وجعله من الطّير وهو وإن كان يطير فليس ذلك من أسمائه فإذ قد جاز أن يستعير له اسم الطائر جاز أن يستعير للطير ولْغ السِّباع فيجعَل حسْوها ولْغاً وقال الشاعر : ( سراع إلى ولْغ الدماءِ رماحهم ** وفي الحرب والهيجاء أُسْدٌ ضراغِمُ )

خصلتان محمودتان في الذباب
قال وفي الذباب خصلتان من الخصال المحمودة .
أمَّا إحداهما : فقُرب الحيلة لصرف أذاها ودفع مكروهها فمن أراد إخراجها من البيت فليس بينَهُ وبين أن يكونَ البيتُ على المقدارِ الأوّلِ من الضِّياء والكِنِّ بعد إخراجها مع السَّلامة من التأذي بالذبان إلاّ أن يُغلقَ البابُ فإنَّهُنَّ يتبادرن إلى الخروج ويتسابَقْنَ في طَلبِ الضوء والهرَب من الظلمة فإذا أُرخي السِّترُ وفتحَ البابُ عاد الضَّوءُ وسلِمَ أهلُه من مكروهِ الذباب فإنْ كان في الباب شقّ وإلاّ جَافى المغلقُ أحدَ البابَين عن صاحبه

ولم يطبقه عليه إطباقاً وربّما خرجْن من الفتْح الذي يكون بين أسفل الباب والعتبة والحيلةُ في إخراجها والسَّلامةِ من أذاها يسيرة وليس كذلك البعوض لأنَّ البعوض إنما يشتدُّ أذاه ويقوى سلطانُه ويشتدُّ كَلَبه في الظلمةِ كما يقوَى سلُطان الذبان في الضياء وليس يمكنُ النّاسَ أنْ يُدخلوا منازلَهم من الضِّياء ما يمنعُ عمَلَ البعوض لأنَّ ذلك لا يكون إلاّ بإدخال الشَّمسِ والبعوض لا يكون إلاّ في الصيَّف وشمسُ الصيُّفِ لا صبْرَ عليها وليس في الأرضِ ضياءٌ انفصلَ من الشمس إلاّ ومَعه نصيبهُ من الحَرِّ وقد يفارق الحرُّ الضياء في بعضِ المواضع والضِّياءُ لا يفارِقُ الحَرَّ في مكانٍ من الأماكن .
فإمكان الحِيلة في الذباب يسير وفي البَعوض عسير .
والفضيلة الأخرى : أنه لولا أن الذّبابة تأكل البَعُوضة و تطلبها وتلتمسها على وجوهِ حيطان البيوت وفي الزوايا لما كان لأَهلها فيها قَرار .

الحكمة في الذباب
وذكَر محمد بن الجهم فيما خبَّرني عَنْه بعضُ الثقات أنه قال لهم ذاتَ يوم : هل تعْرفُون الحِكمة التي استفَدْناها في الذُّباب قالوا : لا .


قال : بلى إنّها تأكل البعوض وتصيده وتلقطه وتفنيه : وذلك أنّي كنت أرِيد القائلة فأمرْت بإخراج الذُّباب وطَرْحِ السِّترِ وإغلاقِ الباب قبلَ ذلك بساعة فإذا خرجن حصل في البيت البعوضُ في سلطان البعوض وموضِعِ قوَّته فكنتُ أدخلُ إلى القائلة فيأكلني البعوض أكلاً شديداً فأتيتُ ذات يومٍ المنزِلَ في وقت القائلة فإذا ذلك البيتُ مفتوحٌ والسِّترُ مرفوع وقد كان الغلمان أغفلوا ذلك في يومهم فلما اضطجعَتُ للقائلة لم أجد من البعوض شيئاً وقد كان غضبي اشتدَّ على الغِلمان فنمتُ في عافية فما كان من الغد عادُوا إلى إغلاق الباب وإخراجِ الذّباب فدخلتُ ألتمسُ القائلة فإذا البعوضُ كثير ثم أغفلوا إغلاق البابِ يوماً آخر فلما رأيته مفتوحاً شتمتُهُمْ فلمَّا صرتُ إلى القائلة لم أجدْ بعوضةً واحدةً فقلت في نفسي عند ذلك : أراني قد نمتُ في يَوْمَي الإغْفَالِ وَالتَّضْييع وامتَنعَ منِّي النَّومُ في أيَّام التحفُّظ والاحتراس فِلمَ لا أجرِّبُ ترْك إغلاق الباب في يومي هذا فإن نمتُ

ثلاثة أيام لا ألقى من البَعوضِ أذًى مع فتح الباب علمتُ أنَّ الصّواب في الجمع بين الذِّبان وبين البعوض فإنَّ الذِّبّان هي التي تُفنيه وأنَّ صلاحَ أمرنا في تقريبِ ما كُنَّا نباعد ففعلتُ ذلك فإذا الأمر قد تمّ فصرنا إذا أردْنا إخراجَ الذِّبّانِ أخرجْناها بأيسرِ فهاتان خَصْلتان من مناقب الذِّبّان .
طبّ القوابل والعجائز وكان محمد بن الجهم يقول : لا تتهاونوا بكثيرٍ ممّا تروْن من علاج القوابل والعجائز فإنّ كثيراً من ذلك إنما وقع إليهنَّ من قدماء الأطباء كالذّبان يُلقى في الإثمِد ويسحق معه فيزيد ذلك في نور البصر ونفاذ النظر وفي تشديد مراكز شعر الأشفار في حافَات الجُفون

نفع دوام النظر إلى الخضرة وقلتُ له مرَّة : قيل لماسَرجَويه : ما بالُ الأكَرَة وسُكَّان البساتين مع أكلهم الكرَّاث والتمر وشروبهم ماء السّواقي على المالح أقلَّ النَّاس خُفْشاناً وعمياناً وعُمْشاناً وعوراً قال : إني فكّرت في ذلك فلم أجد له علّةً إلاّ طولَ وقوع أبصارِهِمْ على الخُضْرة .
من لا يتقزَّز من الذّبّان والزنابير والدّود )
قال ابن الجهم : ومن أهل السُّفالة ناسٌ يأكلون الذّبان وهُمْ لا يرمدون وليس لذلك أكلوه وإنما هُمْ كأَهل خُراسان الذي يأكلون فراخ الزَّنابير والزَّنابير ذِبان وأصحاب الجبن الرَّطب يأخذون الجبنة التي قد نَغِلت دوداً فينكتها أَحَدُهم حتَّى يخرُج ما فيها من الدُّود في راحَتِه ثم يقمَحُها كما يقمَحُ السَّويق وكان الفرزدق يقول : ليت أنَّهمْ دفعوا إليَّ

نصيبي من الذبان ضَرْبة واحدة دعوتان طريفتان لأحد القصاص وقال ثُمامة : تساقط الذبّان في مَرق بعض القصَّاص وعلى وجْهه فقال : كثرَّ اللّهُ بكنّ القبور وحكى ثمامة عن هذا القاصِّ أنه سمعه بَعَبَّادان يقول في قصَصِه : اللّهمَّ مُنَّ علينا بالشهادةِ وعلى جميع المسلمين . ( قصّة في عمر الذُّباب ) وقال لي المكِّيُّ مرَّة : إنما عمر الذبّان أربعونَ يوماً قلت : هكذا جاء في الأثر وكنّا يومئذ بواسط في أيَّام العسكر وليس بَعْدَ أرض

الهنْد أكثرُ ذبَاباً من واسط ولربّما رأيتَ الحائط وكَأنَّ عليهِ مِسْحاً شديدَ السَّواد من كثرة ما عليه من الذبّان فقلت للمكّيِّ : أحسب الذبَّان يموت في كل أربعين يوماً وإن شئت ففي أكثرَ وإن شئت ففي أَقلَّ ونحنُ كما ترى ندوسُها بأَرجلنا ونحن ها هنا مقيمون من أكثر من أربعين يوماً بل منذ أشهر وأشهر وما رأينا ذباباً واحداً ميّتاً فلو كان الأمر على ذلك لرأينا الموتى كما رأينا الأحياء قال : إنَّ الذّبابة إذا أرادتْ أن تموت ذهبتْ إلى بعض الخرِبات قلت : فإنَّا قد دخلنا كلَّ خَرِبةٍ في الدُّنْيا مَا رأينَا فيها قط ذباباً ميّتاً .
للمَكِي وكان المكّيّ طيّباً طيّب الحُجَج ظَرِيفَ الحِيَل عجيبَ العلل وكان يدَّعي كلَّ شيءٍ على غاية الإحكام ولم يُحْكِمْ شيئاً قطُّ لا من

الجليل ولا من الدَّقيق وإذْ قد جرى ذِكره فسأحدِّثك ببعضِ أحاديِثه وأخبرك عن بعض علله لِتَلَهَّى بها ساعةً ثم نعودَ إلى بقية ذكر الذِّبَّان .
نوادر للمكي ادّعى هذا المكّيُّ البَصَرَ بالبراذين ونظرَ إلى برذون واقف قد ألقى صاحبه في فيه اللِّجام فرأى فأس اللِّجام وأين بلغَ منه فقال لي : العجب كيف لا يذْرَعُه القيء وأنا لو أدخلت إصبعي الصغرى في حلقي لما بَقِيَ في جوفي شيءٌ ُ إلاَّ خرج قلت : الآنَ علمتُ أنَّك تُبْصر ثمَّ مكث البرذَون ساعةً يلوكُ لجامه فأقبل عليَّ فقال لي : كيف لا يبرُدُ أسنانَه قلت : إنما يكون علم هذا )
عند البصراءِ مثلِك ثمّ رأى البرذَونَ كلَّما لاك اللِّجام والحديدة سال لعابُه على الأرض فأقبل علَيَّ وقال : لولا أنَّ البِرذَون أََفسَدُ الخلق عقلاً لكان ذهنُه قد صفا قلت له : قد كنت أَشك في بَصرك بالدَّوابّ فأمّا بعْدَ هذا فلستُ أَشكُّ فيه .


وقلت له مرّة ونحن في طريق بغداد : مَا بالُ الفرسَخ في هذه الطريق يكون فرسخين والفرسخ يكون أَقلَّ من مقدار نصفِ فرسخ ففكّر طويلاً ثمَّ قال : كان كِسرى يُقْطِعُ للنّاس الفراسخ فإذا صانَعَ صاحبَ القطيعة زادوه وإذا لم يصانع نقصوه .
وقلت له مَرَّة : علمتُ أنّ الشاري حدّثني أنَّ المخلوع بعث إلى المأمون بجرابٍ فيه سمسم كأَنّه يخبِرُ أنَّ عندَّه من الجند بعددِ ذلك الحبّ وأنّ المأمون بعث إليه بديكٍ أعورَ يريد أنَّ طاهر بن الحسين يقتُلُ هؤلاءِ كلَّهم كما يلقط الدِّيك الحبَّ قال : فإنَّ هذا الحديث أنا ولَّدته ولكن انظرْ كيفَ سار في الآفق وأحاديثه وأعاجيبه كثيرة .

( معارف في الذّباب ) ثمَّ رجع بنا القول إلى صلة كلامِنا في الإخبار عن الذّبّان .
فأمَّا سكَّان بلاد الهند فإنّهم لايطبُخون قدراً ولا يعملون حَلْوَى ولا يكادون يأكلون إلاَّ ليلاً لِما يتهافت من الذِّبّان في طعامهم وهذا يدلُ على عفَنِ التُّربة ولَخَن الهواء .
وللذِّبّانِ يعاسيبُ وجُحْلانٌ ولكن ليس لها قائدٌ ولا أمير ولو كانت هذه الأصناف التي يحرسُ بعضها بعضاً وتتَّخذ رئيساً يدبِّرها ويحوطها إنما أخرج ذلك منها العقْلُ دونَ الطّبع وكالشيء يخصُّ به البعض دون الكلّ لكان الذرُّ وَالنَّمْلُ أَحقَّ بذلك من الكراكيِّ والغرانيق والثِّيران ولكَان الفيلُ أحقَّ به من البعير لأنه ليس للذّرِّ قَائدٌ ولا حارس ولا يعسوبٌ يجمعها ويحميها بعض

وكلُّ قائدٍ فهو يعسوبُ ذلك الجنسِ المَقُود وهذا الاسم مستعارٌ من فحل النَّحل وأمير العَسَّالات وقال الشاعر وهو يعني الثَّور : ( كما ضُربَ اليعسوبُ إذ عاف باقِرٌ ** وما ذنْبُه إذ عافتِ الماءَ باقِرُ ) وكما قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في صلاح الزَّمان وفساده : فإذا كان ذلك ضَربَ يعسوبُ الدِّين بذَنَبِه . )
وعلى ذلك المعنى قال حين مَرَّ بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد قتيلاً يوم الجمل : لهفي عليك يَعْسُوبَ قريش جدعْتَ أنْفِي وشفَيْتَ نفسي .
قالوا : وعلى هذا المعنى قيل : يعسوب الطُّفاوة .


أقذر الحيوان وزعم بعض الحكماء أنَّه لا ينبغي أن يكون في الأرض شيءٌ من الأشياء أنتنُ من العَذِرة فكذلك لا شيء أقذَرُ من الذِّبان والقمل وأمَّا العَذرة فلولا أنَّها كذلك لكان الإنسان مع طول رُؤيتِه لَها وكثرِة شمِّه لها من نفسه في كلِّ يوم صباحاً ومساء لقد كان ينبغي أن يكونَ قد ذهَب تقذُّرُهُ له على الأيَّام أو تمَحَّق أو دخله النَّقص فثباتُها ستين عاماً وأكْثَرَ وَأقلّ على مقدار واحد من النتن في أنفِ الرَّجل ومنهم من وجدناه بعد مائة عام كذلك وقد رأينا المِران والعاداتِ وصنيعَها في الطَّبائع وكيف تهوِّن الشديدَ وتقلّل الكثير فلولا أنَّا فوق كلِّ شيءٍ من النَّتْنِ لَما ثبَتَتْ هذا الثَّباتَ ولعرض لها ما يعرِض لسائر النَّتْنِ وبَعْد فلو كان إنَّما يشَمُّ شيئاً خرجَ من جوفِ غيره ولم

يخرجْ من جوفِ نفسه لكان ذلك أشْبَه فإذ قد ثبت في أنفه على هذا المقْدار وهو منه دونَ غيره وحتَّى صار يجدُه أنْتن من رَجيع جميع الأجناس فليس ذلك إلاّ لما قد خُصّ به من المكروه .
وكذلك القول في القمل الذي إنَّمَا يُخْلق من عَرَق الإنسان ومن رائحته ووسَخِ جلده وبخار بدنه وكذلك الذِّبَّان المخالطة لهُمْ في جميع الحالات والملابسَةُ لهم دُونَ جميع الهوامِّ والهمَج والطّير والبهائمِ والسِّباع حتَّى تكون ألزم من كلِّ ملازم وأقربَ من كلِّ قريب حتى ما يمتنع عليه شيء من بدن الإنسان ولا من ثوبه ولا من طعامِهِ ولا مِن شرَابِهِ حتَّى لزمه لزوماً لم يلزمه شيء قطُّ كلزومه حتى إنّه يسافر السَّفَرَ البعيدَ من مواضع الخِصْب فيقطع البراريَّ والقِفارَ التي ليس فيها ولا بقربها نباتٌ ولا ماءٌ ولا حيوان ثم مع ذلك يتوخَّى عند الحاجة إلى الغائط في تلك البَرّيّة أن يفارق أصحابَه فيتباعد في الأرض وفي صحراء خلْقاء فإذا تبرَّزَ فمتى وقع بصرُه على بِرازِهِ رأى الذِّبّان ساقطاً عليه فقَبْلَ ذلك ما كان يَراه فإن كان الذُّباب شيئاً يتخلَّق له في تلك الساعة فهذه أعجبُ مما رآه ومما أردنا وأكثرَ ممّا قلنا وإن كان قد كان ساقطاً على الصُّخورِ المُلْسِ والبِقاعِ الجُرْدِ في اليوم القائظ وفي الهاجرة

التي تشْوي كلَّ شيء وينتظرُ مجيئه فهذا أعجبُ ممّا قلنا وإن كانت قد تبعته من الأمصار إمَّا طائرةً معه وإمَّا )
ساقطةً عليه فلما تبرَّزَ انتقلتُ عنه إلى بِرازه فهذا تحقيقٌ لقولنا إنّه لايلزم الإنسانَ شيءٌ لزوم الذباب لأنَّ العصافيرَ والخطاطيف والزَّرازير والسَّنانير والكلابَ وكلَّ شيء يألف النّاسَ فهو يقيمُ مع النَّاس فإذا مضى الإنسانُ في سفره فصار كالمستوحش وكالنَّازل بالقفار فكلُّ شيءٍ أهليٍّ يألف النَّاس فإنّما هو مقيمٌ على مثل ما كان من إلفه لهم لا يتبعهم من دورِ النَّاسِ إلى منازل الوحش إلاّ الذِّبَّان .
قال : فإذا كان الإنسانُ يستقذِرُ الذِّبَّان في مَرَقِه وفي طعامه هذا الاستقذار ويستقذِرُ القَمْلَ مع محلِّه من القَرابةَ والنِّسبةِ هذا الاستقذار فمعلومٌ أنَّ ذلك لم يكن إلاّ لما خص به من القذر وإلاّ فبدون هذه القرابة وهذه الملابسَةِ تطيبُ الأنفس عن كثيرٍ من المحبوب .
إلحاح الذُّباب قال : وفي الذّّبّان خُبْرٌ آخَر : وذلك أنّهُنَّ ربَّما تعَوَّدْنَ المبيتَ على خُوصِ فَسيلةٍ وأقلابها من فسائل الدُّور أو شجرةٍ أو كِلَّةٍ أوْ

بابٍ أو سقفِ بيت فيُطْرَدْن إذا اجتمعن لوقتهنَّ عند المساء ليلتين أو ثلاث ليال فيتفَرقْنَ أو يهجُرْن ذلك المكان في المُستَقْبَلِ وَإنْ كانَ ذلك المكانُ قريباً وهو لهنَّ معرَّض ثمَّ لا يدعْنَ أن يلتمِِسْنَ مبيتاً غيرَه ولا يعرض لهنَّ من اللَّجاجِ في مثل ذلك مثلُ الذي يعرِض لهنّ من كثرة الرُّجوعِ إلى العينين والأنف بعدَ الذَّّبِّ والطّرْد وبعدَ الاجتهادِ في ذلك .
أذى الذباب ونحوها وقال محمَّد بن حرب : ينبغي أن يكونَ الذِّبّانُ سُمّاً نَاقِعاً لأنِّ كُلَّ شيءٍ يشتدُّ أذاه باللّمس من غيره فهو بالمداخلة والملابسة أجْدُرُ أن يؤذيَ وهذه الأفاعي والثعابينُ والجرَّارات قد تمسُّ جلودَها ناسٌ فلا تضرُّهم إلاّ بأن تلابسَ إبرةُ العقربِ ونَابُ الأفعى الدَّم ونحن قد نجد الرَّجُلَ يدخُل في خَرْق أنفِه ذبَابٌ فيجولُ في أوله من غير أنْ يجاوزَ ما حاذى

روثَة أنفه وأرنبَته فيخرجه الإِنسانُ من جوفِ أنفه بالنّفخِ وشدَّة النَّفَس ولم يكن له هنالك لُبْثٌ ولا كان منه عضّ وليس إلا ما مسَّ بقوائِمه وأطراف جناحيه فيقع في ذلك المكان من أنْفه من الدَّغدغة والأُكال والحكَّة ما لا يصنع الخَرْدَل وبَصَلُ النَّرجِس ولبنُ التِّين فليس يكون ذلك منه إلاَّ وفي طبعه من مضادَّةِ طباع الإنسان ما لا يبلغه مضادَّة شيءٍ وإن أفرط .
قال : وليس الشّأن في أنّه لم ينخُس ولم يجرح ولم يَخِزْ ولم يَعُضَّ ولم يغمز ولم يخدش وإنَّما هو

4

الأصوات المكروهة
وقد نجدُ الإنسانَ يغتَمُّ بِتَنَقُّضِ الفتيلة وصوْتِها عندَ قربِ انطفاء النار أوْ لبعض البلَل يكون قد خالط الفتيلة ولا يكون الصَّوت بالشَّديد ولكنَّ الاغتمامَ به والتكَرُّه له ويكونُ في مقدارِ ما يعتريه من أشدِّ الأصوات ومنْ ذلك المكروهُ الذي يدخلُ عَلَى الإنسان من غَطيط النَّائِم وليست تلكَ الكراهةُ لعلَّةِ الشِّدّةِ والصَّلابة ولكن من قِبَلِ الصُّورَةِ والمقدار وإنْ لم يكن من قبل الجنس وكذلك صوتُ احتكاك الآجُرِّ الجديدِ بعضِه ببعض وكذلك شجر الآجَام عَلَى الأجراف فإنَّ النّفسَ تكرهُه كما تكرهُ صوتَ الصَّاعقة ولو كان عَلَى ثِقَةٍ من السَّلامة من الاحتراق لَمَا احتفَل بالصَّاعقةِ ذلك الاحتفالَ ولعلَّ ذلك الصَّوت وحدَه ألاّ يقتله .
فأَمَّا الذي نشاهدُ اليومَ الأمْرَ عليه فإنّه متى قرُب منه قتله ولعلَّ ذلك إنَّما هو لأنَّ الشّي إذا اشتدّ صَدْمُه فَسَخَ القوَّة

أو لعلَّ الهواء الذي فيه الإنسانُ والمحيط به أن يحمَى ويستحيلَ ناراً للذي قَدْ شارك ذلك الصَّوتَ من النّار وهم لم يجدوا الصَّوتَ شديداً جدّاً إلاَّ مَا خالَطَ منه النّار .
ما يقتاتُ بالذُّباب وقال ابن حرب : الذِّبّان قوتُ خلْقٍ كثيرٍ من خلق اللّه عزّ وجلّ وهو قوتُ الفراريج والخفافيش والعنكبوت والخُلْد وضروبٍ كثيرةٍ من الهَمَج همجِ الطير وحشرات السّباع فأَمّا الطّير والسُّودَانِيَّات والحَصَانيّات والشاهْمُرْكات وغير ذلك من أصنافِ الطّير وأمّا الضِّباع فإنّها تأْكل الجيف وتدع في أفواهها فُضُولاً وتفتَحُ أفواهَها

للذِّبَّان فإذا احتشَتْ ضمَّت عليها فهذه إنّما تصيد الذِّبَّانَ بنوعٍ واحدٍ وهو الاختطافُ والاختلاس وإعجالها عن الوثوب إذا تلقّطته بأطراف المناقير أو كبعض ما ذكرنا من إطباق الفم عليها .
فأمَّا الصَّيدُ الذي ليس للكلب ولا لعَنَاق الأرض ولا للفهد ولا لشيءٍ من ذوات الأربع مثلُه في الحِذْق والخَتْل والمداراة وفي صواب الوثْبةِ وفي التسدُّدِ وسرعة الخطف فليس مثل الذي يقال له الليث وهو الصّنف المعروفُ من العناكب بصيد الذِّبّان فإنَّك تجدُه إذا عاين الذِّبَّان ساقطاً كيف يَلْطأ بالأرضِ وكيف يسكِّن جميعَ جوارحِه للوثْبة وكيفَ يؤخِّر ذلك إلى وقت الغِرَّة وكيف يريها أنّه عنها لاهٍ فإنّك ترى من ذلك شيئاً لم تر مثله من فهد قطُّ وإن كان الفهدُ موصوفاً منعوتاً .


واعلم أنّه قد ينبغي ألاَّ يكونَ في الأرض شيءٌ أصيَدُ منه لأنّه لا يطير ولا يصيدُ إلاّ ما يطير ويصيدُ طائِراً شديدَ الحذر ثم َّ يصيد صيَّاداً لأن الذّباب يصيد البعوض وخديعتك للخدَّاع وزعم الجرداني أنّ الوزغَ تخْتِلُ الذّبانَ وتصيدُها صيداً حسناً شبيهاً بصيد اللَّيث .
قال : والزُّنبور حريصٌ على صيدِ الذّبَّان ولكنه لا يطمع فيها إلاّ أن تكون ساقطةً على خَرْءٍ دونَ كلِّ تمر وعسل لشدَّة عجبها بالخُرْء وتَشاغلها به فعند ذلك يطمَعُ فيه الزنبور ويصيده وزعم الجرداني وتابعه كيسان : أنّ الفهدَ إنما أخَذ ذلِكَ عن اللَّيث ومتى رآه الفهدُ يصيد الذّبّانَ حتى تَعلَّم منه فظننت أنَّهما قلَّدَا في ذلك بعض مَنْ إذا مَدَحَ شيئاً أسرف فيه .

4

تقليد الحيوان للحيوان وتعلمه منه
ويزعمون أنّ السّبع الصَّيُودَ إذا كان مع سبعٍ هو أصْيَدُ منه تعلَّمَ منهُ وأخَذَ عنه وهذا لم أحقّه فأمّا الذي لا أشكُّ فيه فأنَّ الطائرَ الحَسَنَ الصَّوتِ الملحِّنَ إذا كان مع نوائح الطَّيرِ ومغنِّياتها فكان بقربِ الطَّائرِ من شِكله وهو أحذق منه وأكرز وأمهر جاوبَه وحكاه وتعلَّم منه أو صنَع شيئاً يقوم مقامَ التعلُّم . ) 4
تعليم البراذين والطير
والبِرذَونُ يُراض فيعرِفُ ما يراد منه فيعين على نفسه وربَّما استأجروا للطّيرِ رجُلاً يعلِّمها فأمّا الذي رأيتُه أنا في البلابل فقد رأيتُ رجُلاً يُدْعَى لها فيطارِحُها من شكل أصواتها .
وفي الطّير ما يخترع الأصواتَ واللُّحون التي لم يُسمع بمثلها قطُّ من المؤلِّف للحونِ من النَّاس فإنّه ربَّما أنشأ لحناً لَمْ يمرّ على أسماع المغنِّين قطُّ .


وأكثرُ ما يجدون ذلك من الطَّير في القماريِّ وفي السُّودَانيات ثمَّ في الكرارِزة وهي تأْكل الذِّبّان أكلاً ذريعاً . 4 ( اللّجوج من الحيوان ) ويقال إن اللَّجاح في ثلاثةٍ أجناسٍ من بينِ جميع الحيوان : الخنفساء والذُّباب والدُّودة الحمراء فإنّها في إبَّانِ ذلك ترومُ الصُّعودَ إلى السَّقف وتمرُّ على الحائط الأملس شيئاً قليلاً فتسقطُ وتعود ثمَّ لا تزال تزداد شيئاً ثمَّ تسقط إلى أن تمضيَ إلى باطن السَّقف فربما سقطت ولَمْ يبق عليها إلاَّ مقدارُ إصبع ثمَّ تعود .
والخنفساء تُقْبِلُ قِبَل الإنسانِ فيدفعُها فتبعُد بقدر تلك الطَّردة والدَّفعة ثمَّ تعود أيضاً فيصنع بها أشدَّ من تلك ثمَّ تعود حتَّى ربما كان ذلك سبباً لغضبه ويكون غضَبُه سبباً لقتلها . 4

لجاج الخنفساء واعتقاد المفاليس فيها

وما زالوا كذلك وما زالت كذلك حتَّى سقط إلى المفالِيس أنَّ الخنافسَ تجلب الرِّزق وأنّ دنوَّها دليلٌ على رزق حاضر : من صِلَةٍ أو جائزة أو ربحٍ أو هديَّةٍ أو حظّ فصارت الخنافسُ إنْ دخلَتْ في قمُصهم ثمَّ نفذَتْ إلى سَراويلاتهم لَمْ يقولوا لها قليلاً ولا كثيراً وأكثرُ ما عندهم اليومَ الدَّفعُ لها ببعض الرِّفق ويظنُّ بعضهم أنّه إذا دافعها فعادَتْ ثمّ دافعها فعادت ثمّ دافعها فعادت أنّ ذلك كلما كان أكثرَ كان حظُّه من المال الذي يؤمِّله عند مجيئها أجزَل .
فانظر أيّة واقيةٍ وأيَّة حافِظة وأيُّ حارسٍ وأيُّ حصنٍ أنشأه لها هذا القول وأيُّ حظٍّ كان لها حينَ صدَّقوا بهذا الخبر هذا التصديق والطَّمعُ هو الذي أثارَ هذا الأمْرَ مِن مدافِنه والفقر هو الذي اجتذب هذا الطَّمع واجتلبه ولكن الويل لها إنْ ألَّحتْ على غَنِيٍّ عالِمٍ وخاصَّة إن كان مع جِدَتِه وعلمِه حديداً عَجُولا .


اعتقاد العامة في أمير الذّبَّان وقد كانوا يقتلون الذبابَ الكبير الشديد الطنين الملحَّ في ذلك الجهيرَ الصوت الذي تسميه العوامُّ : أمير الذِّبَّان فكانوا يحتالون في صرفه وطرده وقتله إذا أكربَهمْ بكثرةِ طنينه وزَجَله وهِماهِمه فإنّه لا يفتر فلمَّا سقط إليهم أنّه مبشّرٌ بقدومِ غائبٍ وبُرء سقيم صاروا إذا دخل المنزلَ وأوسَعَهُم شَرّاً لم يَهجْه أحدٌ منهم .
وإذا أرادَ اللّه عزّ وجلّ أن يُنْسِئَ في أجلِ شيءٍ من الحيوان هيَّأ لذلك سبباً كما أنّه إذا أراد ثمَّ رجَع بنا القولُ إلى إلحاح الذّبَّان .

عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب كان لنا بالبَصرة قاض يقال له عبدُ اللّه بنُ سوَّار لم يَرَ النَّاسُ حاكماً قطُّ ولا زِمِّيتاً ولا رَكيناً ولا وقوراً حليماً ضبط من نفسه وملَك من حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك كان يصلّي الغداةَ في منزله وهو قريب الدَّار من مسجده فيأْتي مجلسَه فيحتبي ولا يتَّكئ فلا يزالُ منتصباً ولا يتحرَّك له عضوٌ ولا يلتفت ولا يحلُّ حُبْوَته ولا يحوِّل رِجلاً عن رجل ولا يَعتمد على أحد شِقَّيه حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ أو صخرةٌ منصوبة فلا يزال كذلك حتّى يقوم إلى صلاة الظهر ثمّ يعودُ إلى مجلسهِ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر ثمَّ يرجع لمجلسه فلا يزال كذلك حَتى يقوم لصلاة المغرب ثمَّ رُبما عاد إلى محلِّه بل كثيراً ما كان يكون ذلكَ إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق ثمَّ يُصلِّي العشاء الأخيرة وينصَرف فالحق يقال : لَمْ يُقمْ

في طول تلك المدَّةِ والوِلايةِ مَرَّةً واحدةً إلى الوضوء ولا احتاجَ إليه ولا شرِبَ ماءً ولا غيرَه من الشّراب كذلك كان شأْنُه في طوال الأيام وفي قصارها وفي صيفها وفي شتائها وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه ولا يُشيرُ برأسِه وليس إلاّ أن يتكلم ثمَّ يوجز ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة فبينا هو كذلك ذاتَ يوم وأصحابه حواليه وفي السِّماطين بينَ يديه إذْ سقَطَ على أنفِه ذَبَابٌ فأطال المكث ثمَّ تحوّل إلى مُؤْقِ عينه فرام الصَّبر في سقوطه عَلَى المؤق وعلى عضِّه ونفاذِ خرطومه كما رَام من الصبر عَلى سقوطه عَلَى أنفِه من غير أن يحرِّك أرنبَته أو يغضِّنَ وجهَهُ أو يذبّ بإصبعه فلمّا طال ذلك عليهِ من الذبَاب وشغَله وأوجعَه وأحرَقهُ وقصدَ إلى مكان لا يحتمل التّغافُلَ أطبَق جفنَهُ الأعْلى عَلَى جفنِه الأسفلِ فلم ينهض فدعاه ذلك إلى أن وَالى بينَ الإطباقِ والفتْح فتنحَّى ريثما سكنَ جفنُهُ ثمَّ عاد إلى مؤقِه بأشدَّ من مرَّته الأولى فَغَمَسَ خرطومهُ في مكان كان قد أوهاهُ )
قبلَ ذلك فكان احتماله له

أضعف وعجزُه عن الصَّبر في الثانية أقوى فحرَّك أجفانَهُ وزاد في شدَّة الحركة وفي فتح العين وفي تتابُع الفتْح والإطباق فتنحَّى عنهُ بقدْرِ ما سكَنَتْ حركَتهُ ثمَّ عاد إلى موضِعِه فما زالَ يلحُّ عليه حتى استفرغَ صبْرَه وبَلغَ مجهُوده فلم يجدْ بُدّاً من أن يذبَّ عن عينيهِ بيده ففعل وعيون القوم إليه ترمُقه وكأنّهم لا يَرَوْنَه فتنَحَّى عنه بقدْر ما رَدَّ يدَه وسكَنتْ حركته ثمَّ عاد إلى موضعه ثمَّ ألجأه إلى أن ذبَّ عن وجْهه بطَرَف كمه ثم ألجَأه إلى أنْ تابَعَ بين ذلك وعلم أنَّ فِعلَه كلّه بعين مَنْ حَضَره من أُمنائه وجلسائه فلمَّا نظروا إليه قال : أشهد أنَّ الذّباب ألَحُّ من الخنفساء وأزهى من الغراب وأستَغفر اللّه فما أكثر مَن أعجبَتْه نفسُه فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يعرِّفه من ضعْفِه ما كان عنهُ مستوراً وقد علمت أنِّي عند الناس مِنْ أزْمَتِ الناس فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خلْقِه ثمَّ تلا قولَهُ تعالى : وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ

وكان بيِّن اللِّسان قليلَ فضولِ الكلام وكان مَهيباً في أصحابه وكان أحدَ مَنْ لم يَطْعَنْ عليهِ في نفسه ولا في تعريض أصحابِه للمَنَالة .
قصَّة في إلحاح الذباب فأمَّا الذي أصابني أنَا من الذِّبَّان فإنِّي خَرَجتُ أمشي في المبارك أريد دَيْرَ الربيع ولم أقدِرْ علَى دابَّةٍ فمررتُ في عشْبٍ أَشِبٍ ونباتٍ ملتفٍّ كثيرِ الذِّبَّان فسقط ذباب من تلك الذّبّان عَلَى أنفي فطردته فتحولّ إلى عيني فطردْتُه فعاد إلى مُوقِ عيني فزدتُ في تحريكِ يديَّ فتنحَّى عني بقدْر شدّة حركتي وذبِّي عن عيني ولِذِبّان الكلإ والغِياضِ والرِّياض وقْعٌ ليس لغيرها ثمَّ عادَ إليَّ فَعُدْتُ عليهِ ثمّ عَاد إليّ فعدتُ بأشدّ من ذلك فلما عاد استعملتُ كمِّي فَذَبَبْت بِهِ عن وجهي ثمّ عاد وأنَا في ذلك أحثُّ السَّير أؤمِّل بسرعتي انقطاعَهُ عنِّي فلما عَاد نزعتُ طَيْلَسانِي من عُنُقي فذببت بهِ عَنِّي بَدَلَ كُمِّي فلما

عاوَدَ ولم أجدْ له حيلةً استعملتُ العدْوَ فعدوْت منه شوطاً تَامَّاً لم أتكلفْ مثلَه مذْ كنتُ صبيّاً فتلقّاني الأندلسيُّ فقال لي : ما لك يا أبا عثمان هل مِنْ حادثة قلت : نعم أكبر الحوادث أريد أن أخرجَ من موضعٍ للذِّبَّان عَلَيَّ فيه سلطانٌ فضحك حتى جلس وانقطع عني وما صدّقتُ بانقطاعه عنّي حتَّى تباعد جدّاً .
ذبّان العساكر وزعم بعضُ النَّاسِ أنَّهنَّ يتبعن العساكرَ ويسقُطْنَ على المتاع وعلى جِلاَلِ الدّوابّ وأعجاز البراذِينِ التي عليها أسبابها حتى تؤدِّيَ إلى المنزل الآخر .
وقال المكِّيُّ : يتبعوننا ليُؤْذونا ثمَّ لا يركبون إلاّ أعناقَنا ودوابَّنا .


تخلّق الذُّباب ويقول بعضهم : بل إنما يتخلَّق من تلك العُفوناتِ والأبخرةِ والأنفاس فإذا ذهبت فنيت مع ذهابها ويزعمون أنّهم يعرفون ذلك بكثرتها في الجنائبِ وبقلّتها في الشمائِل .
قالوا : وربَّما سددْنا فمَ الآنيةِ التي فيها الشَّرابُ بالصِّمَامةِ فإذا نزعْناها وجدنا هناك ذباباً صغاراً .
وقال ذو الرّمّة : ( وأيقنَّ أنّ القنع صارت نِطافه ** فَرَاشاً وأنّ البَقْلَ ذَاوٍ ويابسُ ) القِنْع : الموضع الذي يجتمع فيه نقران الماء والفراش : الماء الرقيق الذي يبقى في أسفل الحِياض .
وأخبرني رجلٌ من ثقيف من أصحاب النّبيذ أنّهم رُبَّما فلقوا السَّفرجلة أيامَ السَّفرجل للنَّقْل والأكل وليس هناك من صغار الذّبَّان شيءٌ البتّة

ولا يُعدِمُهمْ أنْ يَرَوا على مَقاطعِ السَّفرجلِ ذُباباً صغاراً وربَّما رصدوها وتأمَّلوها فيجدونَها تعظم حتّى تلحق بالكبار في السَّاعة
حياة الذُّباب بعد موته قال : وفي الذِّبان طبع كطبع الجِعلان فهو طبعٌ غريب عجيب ولولا أنّ العِيانَ قهَرَ أهلَهُ لكانوا خلقاءَ أن يدفعوا الخبرَ عنهُ فإِنَّ الجُعَلَ إذا دُفِنَ في الوردِ ماتَ في العين وفِنيت حركاتُه كلُّها وعاد جامداً تارزاً ولم يفصِل الناظِرُ إليه بينَه وبين الجُعَلِ الميِّت ما أقام على تأمله فإذا أعيد إلى الروث عادت إليه حركة الحياةِ من ساعته .
وجرَّبتُ أنا مثلَ ذلك في الخنفساء فوجدتُ الأمر فيها قريباً من صِفَةِ الجعَل ولم يبلغْ كلَّ ذلك إلاَّ لقَرابةِ ما بينَ الخنفساء والجُعَل .
ودخلت يوماً على ابن أبي كريمة وإذا هو قد أخْرَجَ إجَّانَة كان فيها ماءٌ من غسالةِ أوساخ الثياب وإذا ذِبَّان كثيرةٌ قد تساقطْنَ فيه من اللَّيل فَمَوَّتْن هكذا كُنَّ في رأي العين فَغَبَرْنَ كذلك

عَشِيَّتَهُنَّ وليلتهنّ والغَدَ إلى انتصاف النهار حتّى انتفخْنَ وعفِنَّ واسترخين وإذا ابن أبي كريمة قد أعدّ آجُرّةً جديدة وفُتاتَ آجُرٍّ جديد وإذا هو يأخذ الخَمس منهنّ والستّ ثمّ يضعهُنّ عَلَى ظهر الآجرَّة الجديدة ويذرُّ عليهنَّ من دقاق ذلك الآجرِّ الجدِيدِ المدقوق بقدْر ما يغمُرها فلا تلبث أن يراها قدْ تحرَّكتْ ثمَّ مشت ثمَّ طارت إلاَّ أنّه طَيَرَانٌ ضعيفٌ .
ابن أبي كريمة وعود الحياة إلى غلامه وكان ابنُ أبي كريمة يقول : لا واللّه لا دفنْتَ ميِّتاً أبداً حَتّى يَنْتُنَ قلت : وكيف ذاك قال : إنّ غلامي هذا نُصيراً ماتَ فأخّرْتُ دفنه لبعْضِ الأمْر فقدِم أخوه تلك اللّيْلَة فقال : ما أظنُّ أخي ماتَ ثمَّ أخذ فتيلتين ضخمتين فروّاهما دهْناً ثمَّ أشعل فيها النّارَ ثمَّ أطفأهما وقرَّبهما إلى منخريه فلم يلبَثْ أنْ تحرَّك وها هو ذا قد تراه قلت له : إن أصحاب الحروب والذين يغسلون الموتى والأطباء عندَهم في هذا دَلالاتٌ وعلامات فلا تحمل عَلَى نفسك في واحدٍ من أولئك أَلاَّ تستُره بالدفن حتى يَجيف .


والمجوس يقرّبون الميِّت منْ أنف الكلب ويستدلون بذلك عَلَى أمره فعلمت أنّ الذي عايَنّاه من الذّبَّان قد زادَ في عزْمِه .
النُّعَر والنُّعَر : ضربٌ من الذِّبان والواحدةُ نعَرة وربما دخلتْ في أنف البعيرِ أو السَّبع فيزمُّ بأنفِه للذي يلقى من المكروه بسببه فالعَرَبُ تشبّه ذا الكِبْر من الرجال إذا صعّر خده وزَمّ أنفه بذلك البعير في تلك الحال فيقال عند ذلك : فلان في أنفه نعرة وفي أنفِه خُنْزوانةٌ وقال عمر : واللّه لا أقلعُ عنه أو أطيِّرَ نُعرَته .
ومنها القَمَع وهو ضربٌ من ذبّان الكلأ وقال أوس : وذلك مما يكون في الصيفِ وفي الحرِّ .


أذى الذّبّان للدوابّ والذّبان جنْد من جند اللّه شديدُ الأذى وربَّما كانَ أضرّ من الدَّبْر في بَعضِ الزمان وربما أتت عَلَى القافلة بما فيها وذلك أنّها تغشى الدوابّ حتّى تضربَ بأنفسها الأرض وهي في المفاوز وتسقط فيهلك أهل القافلة لأنهم لا يخرجون من تلك المفاوز على دوابهمْ وكذلك تُضْرب الرِّعاء بإبلهم والجمالون بجمالهم عن تلك الناحية ولا يسْلُكُها صاحبُ دابَّة ويقول بعضُهم لبعض : بادِرُوا قبْلَ حركَةِ الذِّبان وقبل أنْ تتحرك ذّبان الرِّياضِ والكلأ .
والزّنابير لا تكادُ تدْمي إذا لسعت بأذنابها والذِّبَّان تغمس خراطيمها في جوفِ لحوم الدوابّ وتخرِق الجلودَ الغلاظ حتى تنزفَ الدَّمَ نزفاً ولها مع شدّة الوقعِ سمومٌ وكذلك البَعوضة ذاتُ سمّ ولو زِيدَ في بَدَن البعوضة وزِيدَ في حرْقة لسْعها إلى أن يصيرَ بَدَنها كبدن الجرَّارة فإنها أصغر العقارب لما قام له شيءٌ ولكان أعظمَ بليَّةً من الجَرَّارة

النصيبية أضعافاً كثيرة وربَّما رأيت الحمار وكأنّه مُمَغَّر أو معصفر وإنَّهُمْ مع ذلك ليجلِّلون حمُرَهم ويُبَرقِعونها وما يَدَعون موضعاً إلاَّ ستروه بجهدهم فربَّما رأيتَ الحمير وعليها الرِّجال فيما بين عَبْدَسي والمذارِ بأيديهم المناخس والمذابُّ وقد ضربت بأنفسها الأرضَ واستسلمت للموت وربّما رأيت صاحبَ وليس لجلد البقرة والحمار والبعير عندَه خطر ولقدْ رأيتُ ذُباباً سقط على سالفة حِمار كانَ تحتي فضرب بأُذنيه وحرَّك رأسه بكلِّ

جهده وأنا أتأَمَّله وما يقلع عنه فعَمَدْتُ بالسَّوطِ لأنحِّيَه به فنزا عنه ورأيت مع نزْوِهِ عنه الدَّمَ وقد انفجر كأَنَّهُ كان يشرب الدَّمَ وقد سدَّ المخرج بفيه فلمَّا نحَّاه طلع .
ونيم الذّباب وتزعمُ العامَّةُ أنَّ الذّبَّان يخْرَأ عَلَى ما شاء قالوا : لأنَّا نراه يخرأ عَلَى الشيء الأسود أبيضَ وعلى الأبيضِ أسود .
ويقال قد ونمَ الذُّباب في معنى خرئ الإنسان وعرَّ الطائر وصام النَّعام وذَرَق الحمام قال الشاعر : ( وقَدْ وَنَمَ الذُّبابُ عليه حتَّى ** كأَنَّ وَنِيمَه نقطُ المِدَادِ ) وليس طولُ كُوْمِ البعير إذا ركب النَّاقةَ والخنزير إذا ركب الخنزيرة بأطولَ ساعةً من لُبْثِ ذكورةِ الذبّان عَلَى ظهور الإناثِ عندَ السِّفاد .


تخلق الذُّباب والذّباب من الخلْق الذي يكونُ مَرّةً من السِّفاد والوِلاد ومرّةً من تعفُّن الأجسام والفَسادِ الحادث والباقلاءُ إذا عتَقَ شيئاً في الأنبار استحال كلُّه ذُباباً فربَّما أغفلوه في تلك الأنْبار فيعودون إلى الأنبارِ وقد تطاير من الكُوَى والخروقِ فلا يجدون في الأنبار إلاّ القشور .
والذّباب الذي يخلق من الباقلاء يكون دوداً ثمَّ يعود ذباباً وما أكثر ما ترى الباقلاء مثقّباً في داخله شيءٌ كأَنَّه مسحوق إذا كان اللّه قد خلق منه الذّبَّان وصيَّره وما أكثر ما تجده فيه تامَّ الخلق ولو تمّ جناحاه لقد كان طار .


حديث شيخ عن تخلق الذّباب وحدّثني بعض أصحابِنا عن شيخٍ من أهل الخُريبة قال : كنت أحبُّ الباقلاء وأردت إمَّا البَصرة وإما بغداد ذهب عنِّي حفظه فصرتُ في سفينةٍ حِمْلها باقلاء فقلت في نفسي : هذا واللّه من الحظِّ وسعادة الجَدِّ ومن التَّوفيق والتسديد ولقد أربع من وَقَعَ له مثل هذا الذي قد وقع لي : أجلسُ في هذه السفينة على هذا الباقلاء فآكلُ منه نِيّاً ومطبوخاً ومقلوّاً وأرضُّ بعضَه وأطحنُه وأجْعله مرقاً وإداماً وهو يغْذو غذاءً صالحاً ويُسْمِنُ ويزيد في الباه فابتدأت فيما أمَّلته ودفعْنا السَّفينة فأَنكَرْتُ كثرة الذّبَّان فلما كان الغدُ جاء منه ما لم أقدْر معه على الأكلِ والشربِ وذهبت القائلة وذهب الحَديث وشُغِلت بالذَّبِّ على أنهنَّ لم يكنَّ يبرحْنَ بالذَّبّ وكنَّ

أكثَرَ من أنْ أكونَ أقوى عليهنَّ لأنِّي كنتُ لا أطردُ مائَةً حتى يخلفهَا مائَة مكانها وهُنَّ في أولِ ما يخرجْنَ من الباقلاء كأَنَّ بهنّ زَمَانَةً فلما كانَ طيرانهنَّ أسوأ كان أسوأ لحالي )
فقلت للملاح : ويلك أيُّ شيءٍ معك حتى صار الذبان يتبعك قدْ واللّهِ أكلَتْ وشربَتْ قال : أوَ ليس تعرف القصة قلت : لا واللّه قال : هي واللّه من هذه الباقلاء ولولا هذه البليّة لجاءنَا من الرُّكاب كما يجيئون إلى جميع أصحاب الحمولات وما ظننته إلاّ ممن قد اغتفر هذا للين الكِراء وحبِّ التفرُّد بالسفينة فسأَلتُهُ أنْ يقربني إلى بعض الفُرَض حتى أكتريَ من هناك إلى حيث أريد فقال لي : أتحبُّ أنْ أزوِّدَك منه قلت : ما أحبُّ أنْ ألتقيَ أنا والباقلاء في طريقٍ أبَداً . من كره الباقلاء ولذلك كان أبو شمر لا يأكل الباقلاء وكان أخذ ذلك عن معلِّمه معَمَّر أبي الأشعث وكذلك كان عبد اللّه بن مسلمة بن محارب والوكيعيُّ ومُعمَّر وأبو الحسن المدائني برهةً من دهرهم .


وكان يقول : لولا أنَّ الباقلاء عفِن فاسدُ الطّبعِ رديءٌ يخثِّر الدَّمَ ويغلّظُه ويورث السّوداءَ وكلَّ بلاء لما ولّدَ الذِّبان والذّبان أقذرُ ما طار ومشَى وكان يقول : كلُّ شيءٍ ينبت منكوساً فهو رديءٌ للذِّهن كالباقلاء والباذنجان .
وكان يزعم أنّ رجلاً هرب من غرمائه فَدَخل في غابةِ باقلاء فتستَّر عنهم بها فأَراد بعضُهم إخرَاجه والدخول فيها لطلبهِ فقال : أحكمهُمْ وأعلمهم كفاكم له بموضعه شرّاً .
وكان يقول : سمعت ناساً من أَهل التجْربةِ يحلفون باللّه : إنَّه ما أقام أحدٌ أربَعين يوماً في مِنبت باقلاءَ وخرج منه إلاّ وقد أسقمهُ سُقْماً لا يزايلُ جِسمَه .
وزعم أنّ الذي منع أصحاب الأدْهان والتربيةِ بالسمسم منْ أن يربُّوا السُّماسِم بنَوْر الباقلاء الذي يعرفونَ من فسادِ طبعهِ وأنَّه غير

مأمون على الدِّماغ وعلى الخيشوم والصِّماخ ويزعمون أنّ عمله الذي عمله هو القصد إلى الأذهان بالفساد .
وكان يزعم أنَّ كلَّ شيءٍ يكون رديئاً للعصب فإنَّه يكون رديئاً للذِّهن وأن البصل إنما كان يفسد الذهن إذْ كان رديّاً للعصب وأنْ البَلاذُرَ إنما صار يُصلح العقلَ ويورثُ الحفظ لأنَّه صالح للعَصَب .
وكان يقول : سواءٌ عليّ أكلت الذّبان أو أكلت شيئاً لا يولِّد إلاَّ الذِّبانَ وهو لا يولِّده إلاَّ هُوَ والشيءُ لا يلد الشيءَ إلاّ وهو أولى الأشياءِ بهِ وأقربها إلى طبعهِ وكذلك جميع الأرحام وفيما ينتج أرحام الأَرض وأرحام الحيوان وأرحام الأَشجار وأرحام الثِّمَار فيما يتولَّد منها وفيها .

4

حديث أبي سيف حول حلاوة الخرء

وبينما أنا جَالسٌ يوماً في المسجِد مع فِتيانٍ من المسجديِّين مما يلي أبواب بني سليم وأنَا يومئذٍ حَدث السّنّ إذْ أقْبَلَ أبو سَيف الممرور وكان لا يؤْذي أحداً وكان كثير الظَّرْفِ من قومٍ سَراة حتى وقف علينا ونحن نرى في وجهه أثر الجِدِّ ثمّ قال مجتهداً : واللّه الذي لا إله إلاّ هو إن الخرْءَ لحلو ثمَّ واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنَّ الخرء لحلو ثم واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّ الخرء لحلو يميناً بَاتَّةً يسألني اللّهُ عنها يوم القيامة فقلت له : أشهد أنَّك لا تأكله ولا تذوقُه فمن أين علمت ذلك فإن كنْتَ علمت أمراً فعلَّمنَا مما علمَكَ اللّه قال : رأيت الذّبَّان يَسقط على النّبِيذ الحلو ولا يسقط على الحازِر ويقع على العسل ولا يقع على الخلّ وأراه عَلَى الخُرء أكثرَ منه على التَّمْر أفتريدون حُجَّةً أبين من

هذه فقلت : يا أبا سَيْفٍ بهذا وشبهه يُعرفُ فضْلُ الشَّيخِ عَلَى الشاب . 4 ( تخلق بعض الحيوان من غَيرِ ذكر وأنثى ) ثُمَّ رَجَعَ بنا القول إلى ذِكر خلق الذِّبان من الباقلاء وقد أنكر ناسٌ من العوامِّ وأشْباهِ العوامِّ أن يكونَ شيءٌ من الخلق كانَ من غير ذكرٍ وأنثى وهذا جهلٌ بشأن العالَم وبأقسام الحيوان وهم يظنُّون أنَّ على الدِّين من الإقرار بهدا القول مضرَّةً وليس الأمر كما قالوا وكلُّ قولٍ يكذِّبُه العِيان فهو أفحش خطأ وأسخَفُ مذهباً وأدلُّ على معاندةٍ شديدة أو غفْلة مفْرطة .
وإنْ ذهب الذَّاهبُ إلى أن يقيس ذلك على مجازِ ظاهر الرَّأي

دونَ القطْعِ على غيب حقائق العِلل فأجْرَاه في كلِّ شيء قال قَوْلاً يدفعه العِيانُ أيضاً مع إنكار الدِّين له .
وقد علمنا أنَّ الإنسانَ يأكُلُ الطّعامَ ويشرَبُ الشَّرابَ وليس فيهما حيَّةٌ ولا دودةٌ فيُخْلق منها في جوفِه ألوان من الحَيَّات وأشكالٌ من الدِّيدان من غير ذَكرٍ ولا أنثى ولكن لابدَّ لذلك الوِلادِ واللِّقاحِ من أنْ يكون عن تناكح طِباع وملاقاة أشياءَ تشبه بطباعها الأرحامَ وأشياءَ تشبه في طبائعها ملقِّحات الأرحام . 4

استطراد لغوي بشواهد من الشعر
وقد قال الشاعر : ( فاسْتَنْكَحَ اللَّيْلَ البهيمَ فَأُلْقِحَت ** عن هَيْجِه واستُنْتِجَت أحلاما ) وقال الآخر : ( وإذا الأمُور تناكَحَتْ ** فالجود أكرمُها نِتاجا )


وقال ذو الرُّمَّة : ( وإنِّي لمِدلاجٌ إذا ما تناكَحَتْ ** مَعَ اللَّيلِ أحلامُ الهِدَانِ المثقَّلِ ) ( لَلْبَدْر طِفلٌ في حِضَان الهوا ** مُسْتَزْلِقٌ من رَحِم الشّمْسِ ) وقال دُكينٌ الرَّاجز أو أبو محمد الفقعسيِّ : ( وقد تعللتُ ذميل العنْسِ ** بالسَّوطِ في ديمومةٍ كالتُّرسِ ) إذا عَرَّجَ اللَّيلَ بروجُ الشَّمس وقال أمية بن أبي الصَّلت : ( والأرضُ نوَّخها الإلهُ طَرُوقةً ** للماء حتَّى كلُّ زَنْدٍ مُسْفَدُ )

( والأرضُ مَعقِلنَا وكانتْ أمَّنا ** فيها مقابِرُنَا وفيها نولد ) وذكر أميَّة الأرْضَ فقال : ( والطُّوط نزْرعُه فيها فنَلبَسهُ ** والصُّوف نجتزُّه ما أردف الوَبَرُ ) ( هي القرارُ فما نبْغي بهَا بدلاً ** ما أرحَمَ الأرضَ إلاَّ أَنَّنا كُفُرُ ) ( وطَعنَةُ اللّهِ في الأعداءِ نافذةٌ ** تُعيِي الأطِبَّاءَ لا تَثْوَى لها السُّبُرُ ) ثمَّ رجع إليها فقال : ( مِنها خُلِقْنَا وكانَتْ أُمّنا خُلِقَتْ ** ونحنُ أبناؤها لو أنَّنَا شُكُرُ )

ما تستنكره العامة من القول وتقول العرب : الشمسُ أرحمُ بنا فإذا سمع السامعُ منهم أنَّ جالينوسَ قال : عليكم بالبَقْلةِ الرحيمة السِّلق استشنعه السامع وإذا سمع قولَ العرب : الشمسُ أرحم بنا وقولَ أميّة : ما أَرْحَمَ الأرضَ إلا أنَّنا كُفُرُ لم يستشنعه وهما سواء . فإذا سمع أهل الكتاب يقولون : إنَّ عيسى ابن مريم أخَذَ في يده اليمنى غُرْفَةً وفي اليسرى كِسرَةَ خبز ثم قال : هذا أبي للماءِ وهذه أمِّي لكسرة الخبز استشنعه فإذا سمعَ قولَ أميَّة : ( والأرضُ نَوَّخَهَا الإله طَرُوقَةً ** للماءِ حتَّى كل زَنْد مُسفَدُ ) لم يستشنعه والأصل في ذلك أنّ الزّنَادِقَةَ أصحابُ ألفاظٍ في كتبهمْ وأصحابُ تهويل لأنَّهم حينَ عدِمُوا المعانيَ ولم يكن عندهم فيها طائل مالُوا إلى تكلُّف ما هو أخْضَرُ وأيسرُ وأوجَزُ كثيراً .

4 ( حُظْوة طوائف من الألفاظ لدى طوائف من الناس ) )
ولكلِّ قَوْمٍ ألفاظٌ حظِيتْ عِنْدَهم وكذلك كلُّ بليغٍ في الأرض وصاحِب كلامٍ منثور وكلُّ شاعِرٍ في الأرض وصاحِبِ كلامٍ موزون فلا بد من أن يكون قد لهجَ وألف ألفاظاً بأعيانها ليديرَها في كلامه وإن كان واسعَ العلمِ غزيرَ المعاني كثيرَ اللَّفظ . .
فصار حظُّ الزَّنَادِقَةِ من الألفاظ التي سبقتْ إلى قلوبهم واتَّصلت بطبائعهم وجَرتْ على ألسنتهم التناكحَ والنتائِج والمِزاج والنُّور والظلمة والدفَّاع والمنَّاع والساتر والغَامر والمنحلّ والبُطلان والوِجْدان والأَثير والصِّدِّيق وعمود السبح وأشكالاً من هذا الكلام فَصَارَ وإن كان غريباً

مرفوضاً مهجوراً عنْد أهلِ ملَّتنا ودعوَتِنا وكذلك هو عِنْدَ عوامِّنا وجمهُورنا ولا يستعملهُ إلاّ الخَواصُّ وإلاَّ المتكلِّمون . 4

اختيار الألفاظ وصوغ الكلام
وأنا أقولُ في هذا قَوْلاً وأرجو أن يكون مرضياً ولم أقلْ أرجو لأني أعلمُ فيه خللاً ولكنّي أخذتُ بآدابِ وجوهِ أهلِ دعوتي وملَّتي ولغتي وجزيرتي وجيرتي وهم العرب وذلك أنّه قيل لصُحَارٍ العبديّ : الرجل يقول لصاحِبه عنْدَ تذكيره أياديَه وإحْسانه : أما نحنُ فإنّا نرجو أن نكونَ قدْ بلغْنا من أداءِ ما يجبُ علينا مبلغاً مُرضِياً وهُوَ يعلم أنّه قَدْ وفّاه حَقّه الواجبَ وتفضّل عليه بما لا يجب قال صُحار : كانوا يستحبُّون أن يَدَعُوا للقول متنفَّساً وأن يتركوا فيه فضلاً وأن يتجافَوا عن حَقٍّ إن أرادوه لم يُمنَعوا منه .
فلذلك قلت أرجو فافهَمْ فَهّمَكَ اللّه تعالى .


فإنَّ رأيي في هذا الضّربِ من هذا اللفظ أنْ أكونَ ما دمتُ في المعاني التي هي عبارتها والعادَة فيها أن ألفِظ بالشّيء العتيد الموجود وأدَعَ التكلّفَ لِما عسى ألاَّ يسلس ولا يسهلَ إلاَّ بعد الرِّياضة الطويلة .
وأرى أنْ ألفِظ بألفاظِ المتكلمين ما دُمتُ خائضاً في صناعة الكلام مع خواصِّ أهل الكلام فإن ذلك أفهمُ لهمْ عني وأخفُّ لمؤنتهمْ عليّ .
ولكل صناعةٍ ألفاطٌ قد حَصلت لأهلها بَعدَ امتحان سواها فلم تَلزَق بصِناعتهم إلاَّ بَعدَ أن كانَتْ مُشاكَلاً بينها وبين تلك الصناعة .
وقبيحٌ بالمتكلم أنْ يفتقر إلى ألفاظِ المتكلِّمين في خُطبةٍ أو رسالة أو في مخاطبةِ العوام والتجار أو في مخاطبةِ أهله وعبْدِهِ وأمته أو في حديثه إذا تحدثَ أو خبره إذا أخبر . )


وكذلك فإنّه من الخطأ أن يجلِبَ ألفاظ الأعرابِ وألفاظ العوامّ وهو في صناعة الكلام داخل ولكلِّ مقامٍ مقال ولكلِّ صناعة شكل . 4

خلق بعض الحيوان من غير ذكر وأنثى
ثم رجع بنا القول إلى ما يحدث اللّه عزَّ وجلَّ من خلْقه من غير ذكرٍ ولا أنثى فقلنا : إنّه لابدَّ في ذلك من تلاقي أمرينِ يقومانِ مقامَ الذّكر والأنثى ومقامَ الأرضِ والمطر وقد تقرب الطّبائعُ من الطبائع وإن لم تتحوَّلْ في جميع معانيها كالنطفة والدَّم وكاللّبنِ والدَّم .
وقد قال صاحبُ المنطقِ : أقول بقولٍ عامٍّ : لابدَّ لجميع الحيوان من دم أو من شيء يشاكل الدَّم ونحن قد نجد الجيفَ يخلق منها الدِّيدان وكذلك العذرة ولذلك المجوسيُّ كلما تبرَّز ذرَّ على بُرازه شيئاً من التراب لئلا يخلق منها

دِيدان والمجوسيُّ لا يتغوَّط في الآبار والبلاليع لأنّه بزعمه يُكرم بطنَ الأرض عن ذلك ويزعم أنّ الأرضَ أحَدُ الأركان التي بُنِيَت العوالمُ الخمسةُ عليها بزعمهم : أبرسارس وأبرمارس وأبردس وكارس وحريرة أمنة وبعضهم يجعل العوالم ستة ويزيد أسرس ولذلك لا يدفنون موتاهم ولا يحفرون لهم القبور ويضعونهم في النّواويس وضْعاً .
قالوا : ولو استطعنا أنْ نخرج تلك الجيف من ظهور الأرضين وأجواف الأحراز كما أخرجْناها من بطون الأرَضين لفعلنا وهم يسمُّون يوم القيامة روزرستهار كأنّه يوم تقوم الجيف فمن بُغضهم لأبْدَان الموتى سمَّوها بأسمج أسمائهم .
قالوا : وعلى هذا المثال أعظمْنا النّار والماء وليسا بأحقَّ بالتعظيم من الأرض .


وبعد فنحن ننزِع الصِّمامة من رؤوس الآنية التي يكونُ فيها بعضُ الشراب فنَجد هنالك من الفراش ما لم يكن عن ذكر ولا أنثى وإنما ذلك لاستحالة بعضِ أجزاءِ الهواء وذلك الشراب إذا ( وأبصَرْنَ أن القِنْعَ صارتْ نِطافُهُ ** فَرَاشاً وأنَّ البَقلَ ذاوٍ ويابِسُ ) وكذلك كلُّ ما تخلق من جُمَّارِ النَّخلة وفيها من ضروب الخلََق والطَّير وأشباه الطير وأشباه بناتِ وَردان وَالذي يسمَّى بالفارسية فاذو وكالسُّوس والقوادح والأرَضة وَبَنَاتِ وَرْدان اللاتي يخلقْن من الأَجذاع والخشب والحشوش وقد نجد الأزَج الذي يكبس فيه اليخُّ بخراسان كيف يستحيل كله ضفادِعَ وما الضِّفدع بأدَلّ عَلَى اللّه من الفَراش .


وإنما يستحيل ذلك الثَّلجُ إذا انفتح فيه كقدْر منخر الثَّور حتَّى تدْخُله الرِّيح التي هي اللاقحة كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لوَاقِحَ ) فجعلها لاقحةً ولم يجعلها ملقحة . )
ونجد وسْط الدَّهناء وهي أوسع من الدوِّ ومن الصَّمَّان وعلى ظهر مسجد الجامع في غبِّ المطر من الضَّفادِع ما لا يُحصى عددُه وليس أنَّ ذلك كان عن ذكرٍ وأنثى ولكنَّ اللّهَ خَلقها تلك الساعةَ من طِباع تلك التُّربَةِ وذلك المطر وذلك الهواءِ المحيطِ بهما وتلك الرِّيح المتحرِّكةِ وإنْ زعموا أن تلك الضَّفادعَ كانت في السَّحاب فالذي أقرُّوا به أعجبُ من الذي أنكروه وإنما تقيم الضَّفادعُ وتتربّى وتتوالَدُ في مناقع المياه في أرض تلاقي ماءً والسَّحابُ لا يوصف بهذه الصفة قد نجد الماء يزيد في دِجْلةَ والفُراتِ فتنزُّ البطون والحفائر التي تليها من الأَرض فيُخْلق من ذلك الماءِ السَّمكُ الكثير ولم يكن في تلك الحفائر الحدث ولا في بحر تلك ولم نجد أهلَ القاطول يشكُّون في أنَّ الفأر تخلَّق من أرضهم وأنّهُمْ ربَّما أبصروا الفأرَة من قبل أن يتم خلْقُها فنسبوا بأجمعهم خلق الفأرِ إلى الذكر والأنثى وإلى بعض المياه والتُّرَبِ والأجواء والزمان كما قالوا في السمك والضَّفادعِ والعقارب .

4

ضعف اطراد القياس والرأي في الأمور الطبيعية
فإن قاس ذلك قائس فقال : ليسَ بين الذِّبَّان وبنات وردان وبين الزَّنَابير فرق ولا بين الزَّنابير والدّبْر والخنافس فرق ولا بين الزّرازير والخفافيش ولا بين العصافير والزّرازير فرق فإذا فرغوا من خشاش الأرض صاروا إلى بغاثها ثم إلى أحرارها ثم إلى الطواويس والتدّارجِ والزمامج حتى يصعدوا إلى الناسِ قيل لهم : ليس ذلك كذلك وينبغي لكم بَدِيّاً أن تعرفوا الطّبيعة والعادة والطبيعة الغريبة من الطبيعة العامّية والممكن من المُمْتَنِعِ وََأنّ المُمْكِنَ على ضربَين : فمنه الذي لا يزال يكون ومنه الذي لا يكاد يكون وما علة الكثرة والقلة وتعرفوا أنّ الممتنع أيضاً عَلَى ضربينَ : فمنه ما يكُون لعلة موضوعة يجوز دفعها وما كان منه لعلة لا يجوز دفعها وفصلَ ما بين العلة التي لا يجوز دفعُها وهي عَلَى كل حالٍ علة وبين الامتناع الذي لا علة له إلاَّ عينُ الشيء وجنسُه .


وينبغي أنْ تعرفوا فَرْقَ ما بين المحال والممتنع وما يستحيل كونه من اللّه عزّ وجلّ وما يستحيل كونه من الخلق .
وإذا عرفتم الجواهرَ وحظوظها من القوى فعند ذلك فتعاطَوا الإنكارَ والإقرار وإلاَّ فكونوا في سبيل المتعلم أو في سبيل من آثَر الرَّاحة ساعةً عَلَى ما يورِث كدُّ التعلُّم من راحة الأبد قد يكون أن يجيءَ علَى جهة التوليد شيءٌ يبعُد في الوهم مَجيئه ويمتنع شيءٌ هو أقرب في الوهم )
من غيره لأنّ حقائق الأمور ومغيَّبات الأشياء لا تُردُّ إلى ظاهر الرَّأي وإنما يردُّ إلى الرَّأي ما دخل في باب الحَزم والإضاعَة وما هو أصوَبُ وأقربُ إلى نَيل الحاجة وليس عندَ الرَّأي علْمٌ بالنُّجْح والإكداء كنحو مجيء الزُّجَاج من الرَّمل وامتناع الشّبَهِ والزئبق من أن يتحوَّل في طبع الذّهب والفضّة والزئبق أشبهُ بالفضّة المايعة من الرَّمل بالزجاج الفرعونيّ والشَّبه الدمشقي بالذهب الإبريز أشبه من الرَّمل بِفِلق الزجاج النقيِّ الخالص الصافي .


ومن العجب أنّ الزُّجاج وهو مولَّد قد يجري مع الذهب في كثيرِ مفاخِر الذّهب إذْ كان لا يغيِّر طبَعَهُ ماءٌ ولا أرض والفضّة التي ليسَتْ بمولدة إذا دفنت زماناً غير طويلٍ استحالتْ أرضاً فأمَّا الحديد فإنّّه في ذلك سريعٌ غير بطيءٌ .
وقد زعمَ ناسٌ أنّ الفرقَ الذي بينهما إنما هو أنّ كلَّ شيءٍ له في العالم أصلٌ وخميرةٌ لم يكن كالشيء الذي يكتسب ويجتَلب ويلفَّق ويلزّق وأن الذّهب لا يخلو من أن يكون ركناً من الأركان قائماً منذ كان الهواء والماء والنار والأرض فإن كان كذلك فهو أبعد شيءٍ من أن يولِّد النّاسُ مثله وإن كان الذّهب إنما حدث في عمق الأرض بأن يصادف من الأرض جَوْهَراً ومن الهواءِ الذي في خلالها جوهراً ومن الماءِ الملابِس لها جوهراً وَمن النار المحصورة فيها جوهراً مع مقدار من طول مُرور الزمان ومقدار من مُقَابلات البروج فإِن كان الذَّهب إنما هو نتيجة هذه الجواهِرِ عَلَى هذه الأسباب فواجب ألاَّ يكون الذهب أبداً إلاّ كذلك .


فيقال لهؤلاء : أرأيتم الفأرة التي خُلِقَتْ من صُلْب جُرَذِ ورحم فأرة وزعمتم أنَّها فأرة على مقابلة من الأمور السَّماويّة والهوائيَّة والأرضية وكانت نتيجة هذه الخصال مع استيفَاء هذِه الصِّفات ألَسْنا قَدْ وجدنا فأرة أخرى تهيَّأ لها من أرحام الأرَضِين ومن حَضانة الهواء ومن تلقيح الماء ومن مُقابلات السماويَّات والهوائيّات فالزَّمان أصَارَ جميع ذلك سبباً لفأرة أخرى مثلها وكذلك كلُّ ما عددناه فمن أين يستحيل أن يخلط الإنسانُ بينَ مائيَّة طبيعية ومائيَّة جوهَر إمَّا من طريق التبعيد والتقريب ومن طريق الظُّنون والتجريب أوْ من طريق أنْ يقع ذلك اتفاقاً كما صنع النَّاطف الساقط من يد الأجير في مُذَاب الصُّفر حتى أعطاه ذلك اللّون وجلَب ذلك النَّفع ثم إنَّ

الرِّجالَ دبرْته وزادَتْ ونقَصَتْ حتى صارَ شََبَهَاً ذهبياً هذا مع النّوشاذر المولّد فلو قلتم : إنَّ ذلك قائمُ الجوازِ في العقل مطّرد في الرَّأي غير مستحيل في النَّظر ولكنَّا وجدْنا العالَم بما فيه من النَّاس منذ كانا فإنَّ النَّاس يلتمسون هذا وينتصبون له ويَكلَفون به فلو كان )
هذا الأمرُ يجيءُ من وجه الجمع والتوليد والتركيب والتجريب أوْ من وجه الاتفاق لقد كان ينبغي أنْ يكونَ ذلك قد ظهر من ألوفِ سنينَ وأُلوف إذْ كان هذا المقدارُ أقلَّ ما تؤرِّخ به الأمم ولكان هذا مقبولاً غيرَ مردود وعلى أنَّه لم يتبيّنْ لنا منه أنَّه يستحيل أنْ يكون الذَّهبُ إلاَّ من حيث وجد وليس قُربُ كونِ الشيء في الوهم بموجب لكونهِ ولا بعدُه في الوهْم بموجبٍ لامتناعه .
ولو أنَّ قائِلاً قال : إنَّ هذا الأَمرَ إذ قد يحتاج إلى أنْ تتهيّأ له طباع الأَرض وطباع الماء وطباع الهواءِ وطباع النار ومقادير حركات

الفلك ومقدارٌ من طول الزمان فمتى لم تجتمعْ هذه الخصالُ وتكمُلْ هذه الأُمور لم يتمَّ خلق الذَّهب وكذلك قد يستقيم أنْ يكون قد تهيأ لواحدٍ أن يجمع بين مائتي شكل من الجواهِرِ فمزجها على مقاديرَ وطبخَها على مقادير وأغبّها مقداراً من الزمان وقابلت مقداراً من حركات الأجرام السماويَّة وصادفت العالم بما فيه على هيئة وكان بعضُ ما جرى على يده اتفاقاً وبعضه قصداً فلما اجتمعت جاء منها ذهبٌ فوقَعَ ذلك في خمسة آلاف سنة مرّة ثمَّ أراد صاحبُه المعاوَدَة فلم يقدِرْ على أمثال مقادير طبائع تلك الجواهِرِ ولم يضبط مقاديرَ ما كان قصَدَ إليه في تلك المرَّة وأخطأ ما كان وقَعَ له اتِّفاقاً ولم يقابل من الفلك مثلَ تلك الحركات ولا من العالم مثل تلك الهيئة فلم يُعَدْ له ذلك .
فإن قال لنا هذا القَول قائل وقال : بَيِّنُوا لي موضع إحالته ولا تحتجُّوا بتباعد اجتماع الأُمور به فإنَّا نقر لكم بتباعدها هل كان عندنا في ذلك قولٌ مقنع والدَّليل الذي تَثْلج به الصُّدور وهل عندنا في استطاعة النَّاس أن يولّدوا مثل ذلك إلاَّ بأن يُعرَض هذا القول على العقول

السليمة والأفهام التّامَّة وتردَّه إلى الرسُل والكتب فإذا وجدنا هذه الأمور كلها نَافيَة له كانَ ذلك عندنا هُوَ المقنع وليس الشأن فيما يظهر اللِّسانُ من الشكّ فيه والتّجويز له ولكن ليردَّه إلى العقل فإنّه سيَجده منكراً ونافياً له إذا كان العقل سليماً من آفة المرض ومن آفة التخبيل . 4

ضروب التخبيل
والتخبيل ضروب : تخبيلٌ من المِرَار وتخبيل من الشّيطان وتخبيل آخر كالرجل يعمِد إلى قَلبٍ رَطْبٍ لم يتوقّح وذهن لم يستمِرَّ فَيَحْمِله على الدقيق وهُو بَعْدُ لا يفي بالجليل ويتخطّى المقدِّمات متسكعاً بلا أمَارة فرجع حسيراً بلا يقين وغَبَر زَمَانَاً لا يعرف إلاّ الشكوك

والخواطر الفاسدة التي متى لاقت القلبَ على هذه الهيئة كانت ثمرتها الحيرة والقلبُ الذي يفسُد في يومٍ )
قولهم : نبيذٌ يُمنع جانبه ثم رجع بنا القول إلى ذكر الذِّبَّان .
قيل لِعَلُّويه كلبِ المطبخ : أيُّ شيءٍ معنى قولهم : هذا نبيذٌ يمنع جانِبَه قال : يريدُون أن الذّبَّان لا يدنو منه وكان الرّقاشي حاضراً فأنشدَ قول ابن عبدل : ( عَشَّشَ الْعَنكَبُوت في قَعْرِ دَنِّي ** إنَّ ذا مِنْ رَزِيِّتي لَعَظِيمْ ) ( لَيتني قد غَمَرْتُ دَني حتَّى ** أُبْصِرَ العَنْكبُوتَ فيهِ يَعُومْ ) ( غرقًا لا يُغيِثه الدَّهْر إلاَّ ** زَبَدٌ فوقَ رأسِه مركومْ )

( مخرجًا كفَّه ينادي ذُبابًا ** أن أغثْني فإنَّني مَغْمومْ ) ( قال : دَعْني فََلَنْ أُطِيقَ دُنُوًّا ** من شَرابٍ يشَمُّهُ المزكومْ ) قال : والذِّبَّان يضرَب به المثلُ في القَذَر وفي استطابة النَّتْن فإِذا عَجزَ الذُّبابُ عن شمِّ شيءٍ فهو الذي لا يكون أنتنُ منه .
ولذلك حينَ رمى ابنُ عبدلِ محمَّدَ بن حَسَّان بنِ سعْد بالبخر قال : ( وما يدنُو إلى فيهِ ذبابٌ ** ولو طُلِيَتْ مَشافِرُه بقَنْد ) ( يَرَيْنَ حلاوةً ويخفْنَ مَوتاً ** وَشِيكاً إنْ هَمَمْنَ له بوِرْد ) ويقال لكلِّ أبخر : أبو ذبَّان وكانت فيما زعموا كنيةَ عبدِ الملك بن مروان وأنشدوا قولَ أبي حُزابةَ :

( أمسى أبو ذبّانَ مخلوعَ الرَّسَنْ ** خَلْعَ عِنانِ قَارحٍ مِنَ الحُصُنْ ) وقد صفَت بَيْعَتنا لابن حسن

شعر فيه هجاء بالذباب
قال رجل يهجو هلالَ بن عبد الملك الهُنَائيَّ : ( ألا مَن يَشْتري منِّي هِلالاً ** مَوَدَّتَه وخُلَّتَه بفَلْسِ ) ( وأَبرأ للذي يبتاعُ مِنِّي ** هلالاً مِن خصالٍ فيه خَمْسِ ) ( فمنهنَّ النغانِغُ والمكاوي ** وآثارُ الجروحِ وأكْلُ ضرْسِ ) ( ومن أخْذِ الذباب بإصبعَيهِ ** وإن كانَ الذُّبابُ برأسِ جَعْسِ )

القول في آية قالوا : وضرب اللّه عزَّ وجلَّ لضعفِ النَّاسِ وعجزهم مثلاً فقال : يا أَيُّها النَّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمعُوا لَهُ إنَّ الذِين تَدْعون مِنْ دُونِ اللّه لنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه وَإنْ يسْلبْهمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يسْتنْقِذوه منْه ضَعُفَ الطّالِبُ والمطْلُوبُ . فقال بَعضُ النَّاس : قَدْ سَوّى بين الذّبّان والنّاسِ في العجْز : وقالوا : فقدْ يولِّد النَّاس من التَّعفين الفَراش وغيرَ الفُراش وهذا خلقٌ على قوله : وإذْ تَخْلُقُ من الطِّينَ كَهَيْئَةِ الطّيْر وعلى قوله : أَحْسَنُ الخَالِقِينَ وعلى قول الشاعر : ( وأرَاكَ تفْري مَا خلَقْتَ وبَعْ ** ض الْقومِ يخلُقُ ثمَّ لا يُفرِي ) قيل لهم : إنما أراد الاختراع ولم يرد التَّقدير .


قول في شعر وأمّا قول ابن ميَّادة : ( ألا لا نُبالي أنْ تُخنِدفَ خِندفٌ ** ولسْنا نُبالي أن يَطنّ ذُبابها ) فإنَّما جعل الذُّباب هاهنا مثلاً وقد وضعَه في غير موضع تحقير له وموضع تصغير وهو مثل قوله : ( بني أسَدٍ كونُوا لمن قد علمتُم ** مَوَاليَ ذلَّتْ للهَوَانِ رِقابُها ) ( فلو حاربتْنا الجنُّ لم نرفع العصَا ** عن الجنِّ حتَّى لا تَهرَّ كلابُها ) وليس يريد تحقير الكلاب .
ويقال : هو ذباب العين وذباب السَّيف ويقال تلك أرضٌ مَذَبَّة أي كثيرة الذُّباب .

وقال أبو الشمقمق في هجائه لبعض من ابتلى به : ( أسَمج النَّاس جميعاً كلِّهم ** كذُبَابٍ ساقطٍ في مَرَقهْ ) ويقال إن اللبن إذا ضرب بالكندس ونضح به بيت لم يَدْخله ذبَّان . )
أبو حكيم وثمامة بن أشرس وسمعت أبا حكيم الكيمائي وهو يقول لثمامة بنِ أشرس : قلنا لكم إنَّنا ندلكم على الإكسير فاستثقلتم الغُرْم وأردتم الغُنم بلا غرم وقلنا لكم : دَعُونا نصنع هذه الجسور صنعةً لا تنتقض أبداً فأبيتم وقُلنا لكم : ما ترجُون من هذه المسنّيات التي تهدمها المُدود وتخرِّبها المراديّ نحنُ نعمل لكم مسنّياتٍ بنصف هذه المؤُونِة فتبقى لكم

أبداً ثم قولوا للمُدود أن تجتهد جهدَها وللمَرَاديِّ أنْ تبلغ غايتها فأبيتم وقولوا لي : الذُّباب ما ترجون منها وما تشتهون من البَعُوض وما رغْبَتُكمْ في الجرجسِ لمَ لا تَدَعُوني أخرجها من بيوتكم بالمؤُونَة اليسيرة وهو يقول هذَا القولَ وأصحابُنا يضحكون وابن سافري جالسٌ يسْمع .
فلما نزلنا أخذ بيده ومضى به إلى منزله فغدَّاه وكساه وسَقاه ثمَّ قال له : أحببتُ أنْ تخرج البَعُوضَ من داري فأمَّا الذُّباب فإني أحتمله قال : ولم تحتمل الأذى وقد أتاك اللّهُ بالفَرج قال : فافعلْ قال : لا بدَّ لي من أن أخلط أدوية وأشتري أدوية قال : فكم تريد قال : أُريد شيئاً يسيراً قال : وكم ذاك قال : خمسون ديناراً قال : ويحك خمسون يقال لها يسير قال :

أنت ليسَ تشتهي الرَّاحة من قذَر الذِّبَّان ولسع البعوض ثمَّ لبس نعليه وقام على رجليه فقال له : اقعد قال : إنْ قعدْتُ قبل أن آخذَها ثمَّ اشتريت دواءً بمائَة دينار لم تنتفعْ به فإنِّي لست أدَخِّنَ هذه الدُّخْنة إلاَّ للذين إذا أمرتهم بإخراجهنَّ أخرَجُوهن ولا أكتمكَ ما أُريدُ إنِّي لست أقصد إلاَّ إلى العُمَّار فما هو إلاّ أنْ سمع بِذكر العُمَّار حتى ذهب عقله ودعا له بالكيس وذهب ليزن الدنَّانير فقال له : لا تشقَّ على نفسك هاتها بلا وزنٍ عدداً وإنَّما خاف أن تحدث حادثَةٌ أو يقع شغل فتفوت فعدَّها وهو زَمِعٌ فغلط بعشرة دنانير فلما انصرف وزنها وعدَّها فوَجدَ دَنانيره تنقص فبكَرَ عليه يقتضيه الفَضْل فضحك أبو حكيم حتَّى كاد يموت ثُمَّ قال :

تسألني عن الفرع وقد استُهلك الأصل ولم يزل يختلف إليه ويدافعُه حتَّى قال له ثمامة : ويلك أمجنونٌ أنت قد ذهب المالُ والسُّخرية مستورة فإن نافرْتَه فضَحْتَ نفسَك وربحتَ عداوة شيطانٍ هو واللّهِ أضَرُّ عليك من عُمَّارِ بيتِك الذي ليسَ يخرجون عنك الذبابَ والبعوض بلا كُلفة مع حقِّ الجوار قال : هم سكَّاني وجيرَاني قالوا : لو كان سمع منك أبو حكيم هذه الكلمة لكانت الخمسون ديناراً مائَةَ دينار ( شعر في أصوات الذُّباب وغنائِها ) ) ( وتسمَعُ للذِّبابِ إذا تغنَّى ** كتَغريد الحمامِ على الغُصون ) وقال آخر : ( حُوّ مسَارِبُهُ ** تَغنّى في غَياطِله ذبابُه )

وقال أبو النجم : ( أنفٌ ترى ذبَابها تعَلّله ** من زَهَرِ الرَّوْضِ الذي يكَلِّلُهْ ) وقال أيضاً : ( والشيخ تهديه إلى طحمائه ** فالرَّوضُ قد نوَّر في عَزَّائه ) ( مختلفَ الألوان في أَسمائه ** نَوْراً تخال الشَّمْسَ في حمرائه ) ( مكلَّلاً بالوردِ من صفرائه ** يجاوب المكَّاءَ من مُكَّائِه ) ( صوتُ ذبابِ العُشْبِ في دَرْمائه ** يَدْعو كأنَّ العَقْبَ مِنْ دُعائه ) صوتُ مُغَنٍّ مَدَّ في غِنائه وقال الشمَّاخ : ( يكلفها ألاَّ تخفِّضَ صَوْتها ** أَهازيجُ ذِبَّانٍ عَلَى عُودِ عَوْسَجِ ) ( بعيدُ مَدَى التطريبِ أوَّلُ صَوْتِه ** سَحيلٌ وأَعلاهُ نشيجُ المحشْرج )

المغنيات من الحيوان والأجناس التي توصف بالغنِاء أجناسُ الحمام والبعوض وأصنف الذّبّان من الدَّبْر والنَّحلِ والشَّعْراء والقمَع والنُّعَر وليس لذِبَّان الكلب غِنَاء ولا لما يخرُجُ من الباقلاء قال الشاعر : ( تذبّ عنها بأَثيثٍ ذَائلِ ** ذِبَّان شَعْرَاءَ وَصيفٍ ماذِلِ ) ( ألوان الذِّبَّان ) وذِبَّان الشَّعْرَاء حُمر قال : والذِّبَّان التي تُهْلِكُ الإبلَ زُرق .
قال الشاعِرُ : ( تربَّعَتْ والدَّهرُ ذو تصفُّق ** حَاليةً بذي سَبيبٍ مونِق ) ( إلاَّ منَ أصواتِ الذّباب الأزرق ** أو من نقانق الفَلا المنقْنقِ )

والذّبَّان الذي يسقط على الدواب صُفر .
وقال أرطأة بن سُهَيَّة لزُميل بن أمِّ دينار : ( أزميل إنِّي إن أكن لك جازياً ** أَعكِرْ عليكَ وإن ترُحْ لا تسْبقِ ) ( إنِّي امروٌ تجد الرِّجال عدَاوتي ** وجْدَ الرِّكاب مَن الذُّبابِ الأزْرق ) وإذا مرَّ بك الشّّعر الذي يصلح للمثل وللحفظ فَلاَ تنْسَ حظَّك من حِفظه . ( فهذا أوَانُ العِرْض جُنّ ذُبَابُهُ ** زنابيرُه والأزرقُ المتلمِّسُ ) وبه سمِّي المتلمِّس .


وقال ابن ميّادة : ( بعَنْتَريسٍ كأنَّ الدَّبْرَ يلسَعُها ** إذا تغرَّدَ حادٍ خلفَها طَرب ) ( ما يسمَّى بالذِّبان ) والدّليل على أنَّ أجناسَ النَّحل والدَّبْر كلّها ذِبَّان ما حدث به عبَّاد بن صُهيب وإسماعيل المكّي عن الأعمش عن عطيَّة بن سعيد العَوْفي قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كلُّ ذُبابٍ في النارِ إلاَّ النَّحلة .
وقال سليمان : سمعت مجاهداً يكرهُ قتل النَّحل وإحراقَ العِظام يعني في الغزو .
وحدثنا عَنْبسة قال : حدّثنا حنْظلة السّدُوسيُّ قال : أنبأنا أنسُ بن مالك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : عمر الذّبابِ أربعون يوماً والذَُّبَاب في النار .


بحث كلاميّ في عذاب الحيوان والأطفال وقد اختلف النَّاس في تأويل قوله : والذباب في النار وقال قوم : الذّباب خلقٌ خُلق للنّار كما خلق اللّه تعالى نَاساً كثيراً للنَّار وخلق أطفالاً للنَّار فهؤلاء قومٌ خلعوا عُذرَهم فصار أحدهم إذا قال : ذلك عَدْلٌ من اللّه عزَّ وجلّ فقد بلغ أقصى العذر ورأى أنَّه إذا أضاف إليه عذاب الأطفال فقد مجَّده ولو وجد سبيلاً إلى أَنْ يقول إنَّ ذلك ظُلم لقاله ولو وجد سبيلاً إلى أن يزعم أنْ اللّه تعالى يخبر عن شيءٍ أنّه يكون وهو لا يكون ثم يقول إلاّ أنّ ذلك صدق لقاله إلاّ أنّه يخاف السَّيف عند هذه ولا يخاف السَّيف عند تلك وإن كانت تلكَ أعظم في الفِريةِ من هذه .
وبعض يزعم أنَّ اللّه عزَ وجلَّ إنَّما عذّبَ أطفال المشركين ليغمَّ بهم آباءهم ثمَّ قال المتعاقِلون منهم : بل عذّبهم لأنّه هكذا شاء ولأنَّ هذا له فليت شعري أيحتسب بهذا القول في باب التمجيد للّه تعالى لأنّ

كل من فعل ما يقدر عليه فهو محمود وكل من لم يخف سوط أمير فأتى قبيحاً فالذي يحسن ذلك القبيحَ أنّ صاحبَه كان في موضع أمن أو لأنّه آمنٌ يمتنع من مطالبة السلطان فكيف وكون الكذب والظُّلم والعبث واللهو والبُخْل كلِّه محال ممّن لا يحتاج إليه ولا تدعوه إليه الدواعي .
وزعم أبو إسحاقَ أنّ الطّاعات إذا استوَتْ استوى أهلُها في الثَّواب وأنّ المعاصي إذا استوتْ استوى أهلُها في العقاب وإذا لم يكن منهم طاعةٌ ولا معصية استوَوْا في التفضُّل .
وزعم أنّ أَطفالَ المشركين والمسلمين كلَّهم في الجنّة وزعم أنّه ليس بينَ الأطفال ولا بينَ البهائم والمجانين فرق ولا بين السِّباع في ذلك وبين البهائم فرق . )


وكان يقول : إنّ هذه الأبدان السبُعيّة والبهيمية لا تدخل الجنّة ولكنَّ اللّه عزَّ وجلّ ينقُل تلك الأرواح خالصةً من تلك الآفات فيركِّبها في أيِّ الصُّور أَحَبَّ .
وكان أبو كلدة ومَعْمَر وأبو الهُذَيل وصحصح يكرهون هذا الجواب ويقولون : سواءٌ عند خواصِّنا وعوامِّنا أَقلنا : إنَّ أَرواحَ كلابنا تصير إلى الجنّة أم قلنا : إِن كلابَنا تدخل الجنّة ومتى ما اتَّصل كلامُنا بذكر الكلب على أيِّ وجهٍ كان فكأَنّا عِنْدَهم قد زعمنا أنّ الجَنّة فيها كلاب ولكنّا نزعم أنّ جميع ما خلَق اللّه تعالى مِنَ السِّباع والبهائم والحشرات والهمج فهو قبيح المنظرة مؤلم أَو حسن المَنظرة مُلِذّ فما كان كالخيل والظباء والطواويس والتّدَارجِ فإنَّ تلك في الجنّة ويَلذُّ أُولياءُ اللّه عزَ وجل بمنَاظرها وما كان منها قبيحاً في الدُّنيا مؤلِمَ النظَر

جعله اللّه عذاباً إلى عذاب أعدائه في النّار فإذا جاء في الأثر : أنَّ الذّباب في النّار وغير ذلك من الخلق فإنَّما يراد به هذا المعنى .
وذهب بعضهم إلى أنها تكون في النَّار وتلَذُّ ذلك كما أنَ خَزَنَةَ جهنَّم والذين يتولَّون من الملائكة التَّعذيبَ يلذُّون موضعَهم من النار .
وذهب بعضهم إلى أنَّ اللّه تعالى يطبَعهُم على استلذاذ النَّار والعيشِ فيها كما طبع ديدان الثَلج والخلِّ على العيش في أماكنها .
وذهب آخرون إلى أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ يحدث لأبدانهما علَّةً لا تصل النّار إليها وتنعم قلوبهما وأبدانهما من وجه آخر كيف شاء وقالوا : وقد وجدنْا النّاسَ يحتالون لأنفسهم في الدُّنيا حِيلاً حتى يدخُل أحدُهم بَعضَ الأتاتين بذلك الطلاء ولا تضرُّه النار وهو في معظمها وموضع الجاحم منها ففضْلُ ما بينَ قدرةِ اللّه وقدرة عباده أكثر من فضل ما بينَ حَرّ نار الدُّنيا والآخرة .


وذهب بعضهم إلى أنّ سبيلها فيها كسبيل نار إبراهيم فإنّه لما قُذِفَ فيها بَعَثَ اللّه عزّ وجلّ مَلَكاً يقال له ملك الظلِّ فكان يحدِّثُه ويُؤنْسه فلم تصل النار إلى أذاه مع قرْبه من طباع ذلك الملَك .
وكيفَمَا دار الأمرُ في هذه الجَوَابات فإن أخسَّها وأشنَعها أحسَنُ مِن قولِ مَنْ زَعمَ أنّ اللّه تعالى يُعَذِّب بنار جهنَّمَ من لم يسخطه ولا يعقِلُ كيف يكون السخط ومن العَجَب أنَّ بعَضُهم يزعمُ أن اللّه تعالى إنما عذّبه ليغمَّ أباهُ وإنما يفعل ذلك من لا يقدر على أن يُوصِلَ إلى هم ضعف الاغتمام وضعفَ الألم الذي ينالهم بسبب أبنائهم فأمّا مَن يقدِرُ على إيصال ذلك المقدارِ إلى من )
يستحقه فكيف يوصله ويصرفه إلى من لا يستحقّه َ وكيف يصرفُه عمَّن أسخطه إلى من لم يُسْخطه هذا وقَد سمعوا قولَ اللّه عزّ وجلَّ : ( يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَاب يًومِئذٍ بِبَنِيهِ وصَاحِبَتهِ وأخِيه وَفصيلتِهِ التَّي تُؤْوِيهِ وَمَنْ في الأََرْضِ جَميِعاً ثمَّ يُنْجيهِ كلاّ إنَّها لظَى نَزََّاعةً للِشَّوَى ) وكيف يقولُ هذا القَوْلَ مَنْ يتلو القرآن ثمَّ رجع بنا القولُ إلى الذبّانِ وأصنافِ الذّبَّان .

جهل الذبان وما قيل فيها من الشعر
والذّبَّان أجهلُ الخلْق لأنَّها تغْشَى النَّارَ من ذات أنفُسها حتى تحترق وقال الشاعر : ( خَتَمْت الفُؤَادَ عَلَى حُبِّها ** كذاكَ الصّحيفة بالخاتم ) ( هوتْ بي إلى حبها نظرةٌ ** هُوِيَّ الْفَرَاشِةِ للجاحم ) وقال آخر : ( كأنَّ مَشافِرَ النَّجدَاتِ منها ** إذا ما مسَّها قَمَعُ الذُّبابِ ) ( بأيدي مأتم متساعداتٍ ** نعالُ السَّبْتِ أو عَذَبَ الثِّياب ) نقد بيت من الشعر وقال بعض الشعراء يهجو حارثَة بن بدر الغُدَانيَّ :

وزعم ناسٌ أنّه قال : يُروِيهِ ما يُرْوِي الذُّبابَ فينتشي سُكْراً وتُشْبعُه كُراعُ الأرنب قالوا : لا يجوز أنْ يقول : يرويه ما يروي الذباب ويوارِيه جَناحُ الجندب ثم يقول : ويشبعه كراع الأرنب .
وإنما ذكر كُراعَ الأرنب لأنّ يد الأرنب قصيرة ولذلك تسرع في الصُّعود ولا يلحقها مِن الكلاب إلاَّ كلُّ قصير اليد وذلك محمودٌ من الكلب والفرس تُوصَف بقصر الذِّراع . ( قصة في الهرب من الذّباب ) وحدّثني الحسنُ بن إبراهيم العلويُّ قال : مررتُ بخالي وإذا هو وحده يضْحك فأنكرتُ ضحكه لأنِّي رأيتُه وحده وأنكرته لأنَّه كان رجلاً زمِّيتاً رَكِيناً قليلَ الضَحِك فسألته عن ذلك فقال : أتاني فلانٌ

يعني شيخًاً مدينياً وهو مذعور فقلتُ له : ما وراءك فقال : أنا واللّهِ هاربٌ من بيتي قلت ولمَ قال : في بيتي ذبابٌ أزرق كلما دخلتُ ثَارَ في وجهي وطار حولي وطنَّ عند أذني فإذا وجد مني غفلةً لم يُخطئ موقَ عيني هذا واللّهِ دأبُه ودأبي دهراً معه قلت له : إنّ شبه الذباب بالذباب كشبه الغراب بالغراب فلعلَّ الذي آذاك اليومَ أن يكونَ غيرَ الذي آذاك أمسِ ولعلَّ الذي آذاك آمسِ غيرُ الذي آذاك أوَّل من أمسِ فقال : أعتقُ ما أملك إن لَمْ أكن أعرفه بعينه منذُ خمس عشرة سنة فهذا هو الذي أضحكني .

قصة في سفاد الذباب
وقال الخليلُ بن يحيى : قد رأيت الخنزير يركَبُ الخنزيرة عامَّة نهارِه ورأيتُ الجمل يركبُ الناقة ساعةً من نهاره وكنت قبل ذلك أغبط

العصفور والعصم فإنَّ الذّكرَ وإنْ كان سريعَ النُّزول عن ظهر الأنثى فإنّه لسُرعةِ العودة ولكثرةِ العدد كأنّه في معنى الخنزير والجمل وحتّى رأيت الذُّبابَ وفطنت له فإذا هو يركب الذُّبابة عامَّة نهارِه فقال له محمد بن عمر البكراوي : ليس ذلك هو السّفاد قال : أمَّا الذي رأت العينانِ فهذا حكُمه فإن كنتَ تريد أنْ تطيب نفْسُك بإنكار ما تعرفُ ممّا قسَم اللّّه عزّ وجلّ بين خلقه من فضول اللّذَّة فدونك . .
سفاد الورل ويزعمون أنّ للوَرل في ذلك ما ليس عند غيره .

( قصَّة آكل الذّبّان ) وأنشدَ ابن داحة في مجلس أبي عبيدة قولَ السَّيِّد الحميريِّ : كانوا يَرون وفي الأمور عجائبٌ يأتي بهنّ تصرُّفُ الأزْمانِ ( أنّ الخِلافَة في ذؤابةِ هاشمٍ ** فيهم تصير وهَيْبَةَ السُّلطانِ ) وكان ابن داحة رافضيًاً وكان أبو عبيدة خارجيّاً صُفرْياً فقال له : ما معناه في قوله : آكل الذّبّان فقال : لأنّه كان يذبُّ عن عطر ابن جُدْعان قال : ومتى احتاج العطّارون إلى المذابّ قال : غلطت إنَّما كان يذبُ عن حَيْسة ابن جدعان قال : فابن جُدعان وهشامُ

بن المغيرة كان يُحاسُ لأحدهما الحَيْسةُ على عدَّة أنطاع فكان يأكلُ منها الراكبُ والقائمُ والقاعدُ فأين كانت تقعُ مِذَبّةُ أبي قُحافَةَ من هذا الجبل قال : كان يذبُّ عنها ويدورُ حوالَيها فضحكوا منه فهجر مجلسهم سنةً . ( تحقير شأن الذُّبابة ) قال : وفي باب

تحقير شأن الذبابة
وتصغير قدرها يقول الرسول : لو كانت الدُّنيا تُساوي عند اللّه تعالى جَناحَ ذبابةٍ ما أعطى الكافَر منها شيئاً .

أعجوبة في ذبان البصرة
وعندنا بالبصرة في الذبّان أعجوبة لو كانت بالشّاماتِ أو بمصر لأدخلوها في باب الطِّلّسْم وذلك أنّ التَّمْر يكونُ مصبوباً في بيادر التمر في شقّ البساتين فلا ترى على شيءٍ منها ذُبَابَةً لا في اللّيل ولا في النّهار ولا في البَرْدَين ولا في أنصاف النهار نعم وتكون هناك المعاصر ولأصحاب المعاصر ظلال ومن شأن الذُّباب الفِرارُ من الشّمس إلى الظِّلّ وإنَّما تلك المعاصر بين تمرة ورُطَبَة ودِبْس وثجير ثمَّ لاتكاد ترََى في تلك الظّلال والمعاصر في انتصاف النهار ولا في وقت طلب الذِّبَّان الكِنَّ إلاَّ دونَ ما تَراه في المنزل الموصوف بقلّة الذِّبَّان .
وهذا شيء يكون موجوداً في جميع الشّقِّ الذي فيه البساتين فإن تحوَّل شيء من تمر تلك الناحية إلى جميع ما يقابلها في نواحي البصرة غشيَه من الذّبان ما عسى ألاّ يكونَ بأرض الهند أكثرُ منه

وليس بين جزيرة نهر دُبَيس وبين موضع الذبّان إلاّ فيض البصرة ولا بين ما يكون من ذلك بنهر أذرب وبين موضع الذبّان ممّا يقابله إلاّ سيحان وهو ذلك التمر وتلك المعصرة ولا تكون تلك المسافة إلاّ مائة ذراع أو أزيَدَ شيئاً أو أنْقصَ شيئاً .
نوم عجيب لضُروبٍ من الحيوان وأعجوبة أُخرى وهي عندي أعجبُ من كلِّ شيءٍ صدَّرنا به جملة القَوْل في الذباب فمن العجب أن يكون بعض الحيوان لا ينامُ كالصافر والتُنَوِّط فإنَّهما إذا كان اللّيلُ فإن أحدهما يتدلَّى من غصن الشّجرة ويضمُّ عليه رجليه وينكِّس رأسه ثمَّ لا يزال يصيحُ حتَّى يبرُقَ النُور والآخرُ لا يزالُ يتنقَّل في زوايا بيته ولا يأخذه القرار خوفاً على نفسه فلا يزال كذلك وقد نتفَ قبلَ ذلك ممَّا على ظهور

الأشجار مما يشبه الليف فنفشَه ثمَّ فتلَ منه حبلاً ثمَّ عمِلَ منه كَهَيئةِ القفَّة ثمَّ جعله مُدلًّى بذلك الحبل وعقَدَه بطَرَف غًُصنٍ من تلك الأغصان إلاَّ أنَّ ذلك بترصيعٍ ونسْج ومُدَاخلَةٍ عجيبة ثمَّ يتَّخذ عشَّه فيه ويأوي إليه مخافة على نفسه .
والأعرابُ يزعمون أنَّ الذِّئبَ شديدُ الاحتراس وأنَّه يُرواح بينَ عينَيه فتكونُ واحدة مطبقة نائمة وتكون الأخرى مفتوحة حارسةً ولا يشكُّون أنّ الأرنب تنام مفتوحة العينين .
وأمَّا الدَّجاج والكلاب فإنما تعزُب عقولهما في النَّوم ثمَّ ترجع إليهما بمقدار رجوع الأنْفاس فأمَّا الدَّجاج فإنها تفْعَل ذلك من الجبن وأمَّا الكلب فإنَّه يفعل ذلك من شدّة الاحتراس .
وجاؤوا كلهم يخبرون أن الغرانيق والكراكيّ لا تنامُ أبداً إلاّ في أبعدِ المواضعِ من النَّاس وأحْرَزِها ) مِن صغار سباع الأرض كالثعلب وابن آوى وأنها لا تنام حتى تقلِّد أمرَها رئيساً وقائداً وحافظاً وحارساً وأن الرئيس إذا أعيا رفَعَ إحدى رجليه ليكون أيقَظَ له .


سلطان النوم وسلطان النَّوم معروف وإن الرَّجل ممن يغزو في البحر ليعتصمُ بالشِّراع وبالعود وبغير ذلك وهو يعلم أن النَّومَ متى خالطَ عينَيه استرخَتْ يدُه ومتى استرختْ يدُه بايَنَهُ الشيءُ الذي كان يركبه ويَستَعْصم به وأنه متى بايَنه لم يقدرْ عليه ومَتى عجز عن اللّحاق به فقد عطب ثمّ هو في ذلك لا يخلو إذا سَهِر ليلة أو ليلتين من أنْ يغلِبه النَّومُ ويقهرَه وإمَّا أنْ يحتاج إليه الحاجة التي يريه الرأي الخوّان وفسادُ العقْلِ المغمُور بالعِلَّة الحادثة أنّه قد يمكن أنْ يُغفيَ وينتبهَ في أسرع الأَوقات وقبلَ أنْ تَسترخِيَ يدُهُ كلَّ الاسترخاء وقبلَ أن تبايِنه الخشَبةُ إن كانتْ خشبة .

العجيبة في نوم الذبان
وليس في جميع ما رأينا وروَينا في ضروبِ نومِ الحيوان أعجبُ من نوم الذِّبّان وذلك أنَّها ربما جعلت مأْواها بالليل دَرْونْد الباب وقد غشَّوه ببطانَةِ ساجٍ أملسَ كأنَّه صَفاةٌ فإِذا كان اللَّيلُ لزقت به وجعلت قوائمها مما يليه وعلّقت أبدانها إلى الهواء فإن كانت لا تنام البتَّةَ ولايخالُطُها عُزوب المعرفة فهذا أعجب : أنْ تكونَ أمّةٌ من أمم الحيوانِ لا تعرف النَّومَ ولا تحتاج إليه وإن كانت تنام ويعزب عنها ما يعزُب عن جميع الحيوان سوى ما ذكرنا فما تخلو من أن تكون قابضةً على مواضع قوائمها ممسكة بها أو تكون مرسلة لها مخلّية عنها فإنْ كانت مرسِلةً لها فكيف لم تسقطْ وهي أثقلُ من الهواء وإن كانت ممسكة لها فكيف يجامع التشدُّد والتثبيت النَّوم .


بعض ما يعتري النائم ونحن نرى كلَّ من كان في يده كيس أوْ دِرهمْاً و حبلٌ أو عصا فإنّه متى خالط عينَيْه النَّوم استرخَتْ يده وانفتحت أصابعُه ولذلك يتثاءب المحتال للعبْد الذي في يده عِنان دابّةِ مولاه ويتناوم له وهو جالس لأنَّ من عادةِ الإنسان إذا لم يكن بحضرتِه من يشغله ورأى إنساناً قَبالَتَه ينودُُ أو يَنْعس أن يتثاءب وينعَس مثله فمتى استرخَتْ يدُه أو قبضته عن طَرَف العِنان وقد خامَرهُ سُكْرُ النَّوم ومتى صار إلى هذه الحال ركب المحتال الدَّابَّة ومرّ بها .

الغربان
اللهم جنبنا التكلُّف وأعِذْنَا مِن الخطَأ واحْمِنا العُجْبَ بما يكون منه والثِّقة بما عندنا واجعلْنا من المحسنين .


نذكر على اسم اللّه جُمَلَ القولِ في الغِربان والإخبار عنها وعن غريبِ ما أُودِعَتْ من الدّلالة واستُخْزِنت من عجيب الهداية .
وقد كُنَّا قدَّمنا ما تقول العربُ في شأنِ منادَمِة الغُراب والدِّيكَ وصداقتِه له وكيف رهنه عند الخمََّار وكيف خاسَ به وسخِرَ منه وخدعه وكيف خرج سالماً غيرَ غارم وغانماً غيرَ خائب وكيف ضربت به العربُ الأمثالَ وقالت فيه الأشعار وأدخلتْه في الاشتقاقِ لزجْرها عند عيافتها وقِيافتها وكيف كان السبب في ذلك .
ذكر الغراب في القرآن فهذا إلى ما حكى اللّهُ عزَّ وجلَّ من خبر ابنَيْ آدمَ حينَ قرَّبا قرباناً فحسَدَ الذي لم يُتقبَّلْ منه المتقبل منه فقال عندما همَّ به مِن قتلِه وعند إمساكِه عنه والتَّخليةِ بينَه وبين ما اختارَ لنفسه : إنِّي أُريدُ أنّ تَبُوءَ بِإثْمي وإثمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أصْحَاب النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالمِينَ ثُم قال : فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخيِهِ فَقَتَلَهُ فَأصْبَحَ مِنَ الخاسِريِنَ

فَبَعَثَ اللّهُ غُراباً يَبْحثُ في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْءَةَ أخِيهِ حتّى قال القائل وهو أحد ابني آدم ما قال : فلولا أنّ للغُراب فضيلةً وأموراً محمودةً وآلةً وسبباً ليس لغيره من جميع الطّير لما وضعه اللّهُ تعالى في موضعِ تأديبِ الناس ولما جعله الواعِظ والمذَكِّرَ بذلك وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ : فبعَث اللهُ غَراباً يَبْحَث في الأرضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُواري سَوْءَةَ أخِيهِ فأخْبر أنّه مبعوثٌ وأنه هو اختاره لذلك مِنْ بين جميع الطّير .
قال صاحب الدِّيك : جعلت الدَّليلَ على سوء حاله وسقوطِهِ الدَّليلَ على حُسنِ حاله وارتفاعِ مكانه وكلما كان ذلك المقرَّعُ به أسفَلَ كانت الموعظة في ذلك أبلغَ ألا تَرَاهُ يقول : يا وَيْلَتَي أعَجَزْت أنْ أكونَ مثْلَ هذا الْغُرَابِ فأُوَارِي سَوْءَةَ أخي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ .
ولو كان في موضعِ الغُرابِ رجلٌ صالحٌ أو إنسانٌ عاقلٌ لما حَسُن به أن يقولَ : يا ويْلتى أعجَزت أنْ أكون مثلَ هذا العاقِل الفاضل الكريمِ الشَّريف وإذا كان دوناً وَحقيراً فقال : أعجزتُ وأنا إنسانٌ أن أُحسِنَ ما يحسنه هذا الطائر ثمّ طائِرٌ من شِرار الطير وإذا أراهُ ذلك

في طائرِ أسودَ )
محترقٍ قبيحِ الشَّمائِلِ رديء المَشْيَة ليس من بهائم الطير المحمودة ولا من سباعها الشريفة وهو بَعْدُ طائرٌ يتنكَّد به ويتطيَّر منه آكلُ جيف رديءُ الصيّد وكلما كان أجهلَ وأنْذل كان وأمّا قوله : فَأَصْبَحَ مِنَ النّادمِينَ فلم يكنْ به على جهة الإخبار أنّه كانَ قَتَلهُ ليلاً وإنما هو كقوله : وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئذ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحرِّفاً لِقتال أوْ مُتحيِّزاً إلى فئةٍ فقدْ باء بِغضبِ مِنَ اللّهِ ولو كان المعنى وقع على ظاهر اللَّفظ دونَ المستعمل في الكلامِ من عادات الناس كان من فرَّ من الزَّحفِ ليلاً لم يلزمْه وَعيد وإنما وقع الكلامُ على ما عليه الأغلبُ من ساعاتِ أعمال الناس وذلك هو النّهارُ دون اللّيل .
وعلى ذلك المعنى قال صالح بن عبد الرحمن حين دفعوا إليه جوَّاباً الخارجيَّ ليقتله وقالوا : إن قتله برئت الخوارجُ منه وإن ترك قتْله فقد

أبدى لنا صفحته فتأوّل صالحُ عند ذلك تأويلاً مستنكراً : وذلك أنّه قال : قد نجِدُ التّقِيَّة تسيغ الكفر والكفر باللسان أعظم من القتل والقذْفِ بالجارحة فإذا جازت التقِيَّة في الأعظم كانت في الأصغر أجوز فلما رأى هذا التأويل يطّرد له ووجد على حال بصيرته ناقصة وأحسّ بأنّه إنما التمس عُذْراً ولزّق الحجّة تلزيقاً فلمَّا عزمَ على قتل جوّاب وهو عنده واحدُ الصُّفرية في النُّسك والفضل قال : إني يومَ أقتُل جَوّاباً على هذا الضّربِ من التأويل لحريصٌ على الحياة ولو كان حين قال إني يوم أقتل جوَّاباً إنما عنى النهارَ دون اللَّيل كان عند نفسه إذا قتلهُ تلك القتلة ليلاً لم يأثم به وهذا أيضاً كقوله تعالى : ولا تَقُولنَّ لشيْءٍ إنِّى فاعِلٌ ذلك غَداً إلا أن يشاء اللّهُ .
ولو كان هذا المعنى إنما يقع على ظاهر اللفظ دونَ المستعمَلِ بين الناس لكان إذا قال من أوّل الليل : إني فاعِلٌ ذلك غداً في السَّحر أو مع الفجر أو قال الغداة : إني فاعِلٌ يومي كلّه وليلتي كلها لم يكنْ عليه حِنث ولم يكن مخالفاً إذا لم يستثن وكان إذن لا يكون مخالفاً إلاّ فيما وقع عليهِ

اسمُ غد فأمّا كلُّ ما خالفَ ذلك في اللَّفظ فلا وليس التّأويل كذلك لأنَّه جلَّ وعلا إنما ألزمَ عبدهَ أن يقول : إن شاء اللّه ليَتَّقى عَادَةِ التألِّي ولئلا يكونَ كلامُه ولفظُه يشبه لفظ المستبدِّ والمستغْني وعلى أن يكون عِنْد ذلك ذاكرَ اللّه لأنه عبدٌ مدبَّرٌ ومقلَّب ميَّسر ومصرَّفٌ مسخَّر .
وإذا كان المعنى فيه والغايَةُ التي جرى إليها اللفظ إنما هو على ما وصفنا فليس بين أن يقول أفعَلُ ذلك بعْدَ طرْفَةٍ وبين أن يقولَ أفعَلُ ذلك بَعْدَ سنةٍ فرقٌ .
وأمَّا قوله : فَأَصْبحَ مِنَ النّادمِيِن فليس أنّه كان هنالك ناسُ قتلوا إخوتَهُمْ ونَدموا فصارَ هذا )
القاتلُ واحداً منهم وإنما ذلك على قوله لآدم وحَوّاء عليهما السلام : ولا تقْرَبا هذهِ الشَّجرَةَ فتكونا مِنَ الظَّالِمينَ على معنى أن كلّ من صنع صنيعكما فهو ظالم .

الاستثناء في الحلف
وعجبت من ناسٍ ينكرون قولنا في الأستثناء وقد سمعوا اللّه عزَّ وجلَّ يقولُ : إنّا بَلَوْنَاهُمْ كما بَلوْنا أصْحَابَ الجَنَّةِ إذْ أقْسَموا ليَصْرِمُنَّها مُصْبِحينَ ولا

يَسْتَثْنون فطافَ عليْها طائفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائُمونَ فأصْبَحَتْ كالصّرِيمِ مع قوله عزَّ وجلَّ : ولا تَقُولنَّ لِشيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلك غداً إلاّ أنْ يشاءَ اللّه .

تسمية الغراب ابن دأية
والعربُ تسمِّي الغرابَ ابن دأية لأنَّه إذا وجد دَبَرَةً في ظهر البعير أو في عنقه قرحة سقط عليها ونقرهُ وأكله حتَّى يبلغ الدَّايات قال الشاعر : ( نَجِيبة قرْمٍ شادَها القَتُّ والنَّوى ** بيثربَ حتى نَيُّها متظاهر ) ( فقلتُ لها سيري فما بكِ عِلّة ** سنامكِ ملمومٌ ونابُكِ فاطِرُ ) ( فمِثْلكِ أو خيراً ترَكْتُ رذِيّة ** تقلِّب عينيها إذا مرّ طائر )

ومثله قول الرَّاعي : ( فلو كنت معذوراً بنصْرِك طيّرت ** صقورِيََ غِرْبان البَعيرِ المقيدِ ) هذا البيت لعنترة في قصيدة له ضرب ذلك مثلاً للبعير المقيّد ذي الدّبَر إذا وقعت عليه الغِرْبان .
وإذا كان بظهر البعير دَبَرَةٌ غرزوا في سنامه إمّا قوادمَ ريش أسود وإمّا خرَقاً سُوداً لتفزع الغِرْبانُ منْهُ ولا تسقط عليه قال الشاعِرُ وهو ذو الخِرَق الطُّهوي : ( لما رَأتْ إبلي حطت حمولتها ** هَزْلى عجافاً عليها الرِّيشُ والخِرَقُ )

( قالتْ ألا تبتغي عيشاً نعيشُ به ** عمَّا نلاقي فشرُّ العيشة الرَّنَقُ ) الرَّنَق بالرّاء المهملة وبالنون هو الكدِرُ غير الصافي وقال آخر : ( كأنَّها ريشةٌ في غاربٍ جرزٍ ** في حيثما صرفته الرِّيح ينصرف ) جَرَز : عظيم قال رؤبة : )
عن جَرَزٍ منه وجوزٍ عارِ غرز الريش وجوز عاره وقد توضع الرّيش في أسنمتها وتغرز فيها لغير ذلك وذلك أنَّ الملوك كانت تجعل الرّيش علامة لحباء الملك تحميها بذلك وتشرِّف صاحبها .


قال الشاعر : ( يهبُ الهِجانَ بريشها ورِعائها ** كاللّيلِ قبلَ صَباحهِ المتبلجِ ) وللرِّيش مكان آخر : وهو أنّ الملوك إذا جاءتها الخرائطُ بالظَّفَر غرزتْ فيها قوادمَ ريشٍ سُود

غربان الإبل
وقال الشاعر : ( سأرفَعُ قولاً للحُصين ومالكٍ ** تطيرُ به الغِربان شَطْرَ المواسم )

( وتروى به الهيمُ الظماءُ ويطَّبي ** بأمْثالِهِ الغازينَ سَجْعُ الحمائمِ ) يعني غِرْبان الليل وأمّا قوله : وتروى به الهيمُ الظِّماء فمثل قول الماتحِ : ( علِقت يا حارث عِندَ الوِرْدِ ** بجاذل لا رَفِلِ التَّرَدِّي ) ولا عَييٍّ بابتناء المجْدِ شعر في تعرض الغربان للإبل

شعر في تعرض الغربان للابل وقالوا في البعير إذا كان عليه حِملٌْ من تمر أو حبٍّ فتقَدَّم الإبلَ بفضل قُوَّته ونشاطه فعرض ما عليه للغربان قال الرَّاجز : ( قد قلتُ قولاً للغرابِ إذْ حَجَلْ ** عليكَ بالقود المسانيف الأُوَل ) تَغَدَّ ما شئت على غير عَجَلْ ( يقدُمُها كلُّ علاة مذعان ** حمراءَ من مُعَرِّضاتِ الغِرْبانْ )

أمثال في الغراب
ويقال : أصحُّ بدناً مِنْ غراب و أبصَرُ مِنْ غُراب و أصفى عيناً من غراب .
وقال ابن ميّادة : ( ألا طرقَتنا أُمُّ أوسٍ ودونها ** حِرَاجٌ من الظلّماء يعشى غُرابُها ) ( فبتْنا كأنّا بَيْننا لطميّةٌ ** من المِسْكِ أو دارِيَّةٌ وعيابُها ) يقول : إذا كان الغراب لا يبصر في حِراج الظلماءِ وواحد الحِراج حَرَجة وهي هاهنا مثَلٌ حيث جعل كلَّ شيءٍ التفَّ وكثفَ من الظلام حِراجاً وإنّما الحِراجُ من السِّدْرِ وأشباه السّدر .
يقول : فإذا لم يبصرْ فيها الغرابُ مع حدَّةِ بصره وصفاء مُقْلته فما ظنُّك بغيره وقال أبو الطمحان القيْنيُّ : ( إذا شاء راعيها استقى مِنْ وقيعةٍ ** كعين الغراب صَفْوُها لم يكدّرِ )

استطراد لغوي والوقيعة : المكان الصلب الذي يُمسك الماء والجمع الوقائع .
استطراد لغوي ( إذا ما استبالوا الخيل كانت أكفهم ** وقائع للأبْوالِ والماءُ أبرَدُ ) يقول : كانوا في فلاةٍ فاستبالوا الخيل في أكفهم فشربوا أبوالها من العطش .
ويقال شهد الوقيقة والوقْْعَة بمعنًى واحد قال الشاعرُ : ( لعمري لقد أبقتْ وقِيعةُ راهطٍ ** على زفَرٍ داءً من الشَّرِّ باقيا ) وقال زُفَر بنُ الحارث : ( لعمري لقد أبقتْ وقيعة راهطٍ ** لِمرْوان صدْعاً بيننا متنائيا )

وقال الأخطل : ( لقد أوقع الجحّافُ بالبشْرِ وقْعَةً ** إلى الله منها المشتكى والمعوَّل )

أمثال من الشعر والنثر في الغراب
وفي صحّة بدن الغراب يقول الآخر : ( إنّ مُعاذَ بن مسلِمٍ رجُلٌ ** قدْ ضَجَّ مِنْ طُولِ عُمْرِهِ الأبد ) ( قَدْ شاب رأسُ الزَّمانِ واكتهل الدّهْ ** ر وأثْوابُ عُمْرهِ جُدُدُ ) ( يا نَسْر لقْمانَ كمْ تعيش وكم ** تَسْحَبُ ذيل الحياة يا لُبَد )

( سقط : بيت الشعر ) ( قد أصبحت دار آدم خربت ** وأنت فيها كأنك الوتد ) ( تسألُ غِربانَها إذا حَجَلتْ ** كيف يكونُ الصُّدَاعُ والرَّمَدُ ) ويقال : أرضٌ لا يطير غرابها قال النَّابغة : وَلِرَهْطِ حرّابٍ وقدٍّ سَوْرَةٌ في المجد ليس غرابُها بمُطارِ جعله مثلاً يعني أنّ هذه الأرض تبلغ من خِصبها أنَّه إذا دخلها الغراب لم يخرُج منها لأنّ كلّ شيءٍ يريدهُ فيها .
وفي زهوِ الغُراب يقول حسَّان في بعضِ قريش : ( إنّ الفرافِصة بن الأحْوصِ عِنده ** شجَنٌ لأمِّك مِن بناتِ عُقاب ) ( أجمَعْتَ أنَّك أنت ألأمُ مَنْ مشى ** في فحش مُومِسةٍ وزهْوِ غرابِ )

ويقال : وجد فلان تمْرَة الغُراب كأنّه يتّبع عندهم أطيب التمر ويقال : إنّه لأَحْذَرُ مِنْ غراب و : أشد سواداً من غراب وقد مدحوا بسَوادِ الغراب قال عنترة : ( فيها اثنتان وأرْبَعُون حلوبَة ** سُوداً كخافيةِ الغرابِ الأسحمِ ) وقال أبو دؤاد : ( تنفي الحصى صُعُداً شِرْقِيَّ مَنْسِمِها ** نَفْيَ الغُرابِ بأعلى أنفه الغَرَدا ) ( يَحُجُّ مأْمومةً في قعْرها لَجَفٌ ** فاستُ الطبيب ِقذاها كالمغاريدِ ) وقد ذكرنا شدَّة منقاره وحدَّة بصره في غير هذا المكان .


شعر في مديح السواد وقالوا في مديح السواد قال امرؤ القيس : ( العينٌ قادحة واليدُّ سابحة ** والأُذْن مصْغِيةٌ واللَّونُ غِربيبُ ) وفي السَّواد يقول ربيِّعة أبُو ذؤابٍ الأسدي قاتل عتيبة بن الحارث بن شهاب : ) ( إن المودة والهوادة بيننا ** خلقٌ كسحقِ الْيُمْنَةِ المنجابِ ) ( إلاَّ بجيشٍ لا يكتُّ عديدُه ** سُودِ الجلود من الحديدِ غضابِ )

شعر ومثل في شيب الغراب وفي المثل : لا يكون ذلك حتّى يشيبَ الغُراب وقال العرْجيُّ : ( لا يحولُ الفؤادُ عنه بوُدٍّ ** أبداً أو يحولَ لون الغرابِ ) وقال ساعدة بن جُؤَيّة : ( شاب الغراب ولا فؤادك تارك ** عَهْدَ الغَضوبِ ولا عتابُكَ يُعتِبُ ) معاوية وأبو هوذة الباهلي ومما يذكر للغراب ما حدّث به أبو الحسن عن أبي سليم أنَّ معاوية قال لأبي هوذة بن شمّاس الباهليِّ : لقد هممت أن أحمِلَ جمْعاً من باهلة في سفينةٍ ثم أغرقهم فقال أبو هوْذة : إذنْ لا ترضى باهلةُ بعِدّتِهِمْ من بني أمية قال : اسكت أيُّها الغرابُ الأبقع وكان به برص

فقال أبو هوذة : إنَّ الغراب الأبقع ربَّما درج إلى الرَّخمةِ حتى ينقر دِماغها ويقلع عينيها فقال يزيد بن معاوية : ألا تقتله يا أمير المؤمنين فقال : مَهْ ونهض معاوية ثمَّ وجهه بعدُ في سرِيَّة فقتل فقال معاوية ليزيد : هذا أخفى وأصوب .
شعرفي نقر الغراب العيون وقال آخر في نقْر الغراب العُيونَ : ( أتوعد أسرتي وتركتَ حُجْراً ** يُرِيغُ سوادَ عينيهِ الغُرابُ ) ( ولو لاقيت عِلباءَ بن جَحْشٍ ** رضيتَ من الغنيمةِ بالإيابِ ) وقال أبو حيَّة في أنّ الغراب يسمُّونه الأعور تطيُّراً منه : ( وإذا تُحَلُّ قتودها بتنوفةٍ ** مَرَّت تليح من الغُرابِ الأعورِ ) لأنها تخاف من الغربان لما تعلمُ من وقوعها على الدَّبر

شعر فيه مدح لون الغراب ( غرابٌ كانَ أسْودَ حالكيّاً ** ألا سَقْياً لذلك مِنْ غُرابِ ) وقال أبو حيَّة : ( زمانَ عَلَيََّ غرابٌ غدافٌ ** فطيَّرهُ الدَّهْرُ عني فطارا ) ( فلا يُبعدِ اللّه ذاك الغُدافَ ** وإن كان لا هو إلاّ ادّكارا ) ( فأصبح موضعهُ بائضاً ** مُحيطاً خِطاماً مُحيطاً عذارا ) وقال أبو حيّة في غير ذلك وهو مما يُعدّ للغراب : ( كأنّ عصيم الوَرْس منهنَّ جاسدٌ ** بما سال من غربانهنَّ من الخطْر )

4

استطراد لغوي
والغراب ضروب ويقع هذا الاسم في أماكن فالغراب حدُّ السكين والفأسِ يقال فأْسٌ حديدة الغراب وقال الشّماخ : ( فأنحى عليها ذات حدٍّ غرابها ** عدُوٌّ لأوْساطِ العِضاهِ مُشارِزُ ) المشارزة : المعاداة والمخاشنة .
والغراب : حدُّ الورك ورأسه الذي يلي الظهر ويبْدأ من مؤخَّر الرِّدف والجمعُ غِربان قال ذو ( وقَرَّبْنَ بالزُّرقِ الحمائل بعدَ ما ** تَقَوَّب من غِربان أوراكها الخطْرُ ) تقوَّب : تقشر ما على أوراكها من سلْحِها وبولها من ضربها بأذنابها .

غراب البين
وكلّ غراب فقد يقال له غراب البين إذا أرادوا به الشؤم أمّا غراب البين نفسه فإنَّه غرابٌ صغير وإنِّما قيل لكلِّ غراب غراب البين لسقوطها في مواضعِ منازلهم إذا بانوا عنها قال أبو خولة الرِّياحيّ : ( فليس بيربوعٍ إلى العقْل فاقَةٌ ** ولا دَنس يسودُّ منه ثيابُها ) ( فكيف بنوكي مالك إن كفرتم ** لهم هذه أم كيف بعدُ خِطابها ) ( مَشَائم ليسُوا مُصلحين عشيرةً ** ولا ناعبٍ إلاّ ببينِ غرابها ) 4 ( الوليد بن عقبة وعبد اللّه بن الزبير ) ومن الدَّليل على أنّ الغرابَ من شرارِ الطَّير ما رواه أبو الحسن قال : كان ابنُ الزبير يقعد مع معاوية على سريره فلا يقدر معاوية أن يمتنع

منه فقال ذات يومٍ : أما أحدٌ يكفيني ابن الزبير فقال الوليد بن عقبة : أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين فسبق فقعد في مقعده على السرير وجاء ابن ( تسمّى أباناً بعد ما كان نافعاً ** وَقَدْ كان ذَكْوانٌ تكنّى أبا عمرِو ) فانحدرَ الوليدُ حتى صار معه ثم قال : ( ولولا حُرَّة مهَدَتْ عليْكمْ ** صفِيَّةُ ما عُدِدْتم في النَّفيرِ ) ( ولا عُرفَ الزبيرُ ولا أبوه ** ولا جلس الزبير على السرير ) ( وددْنا أنَّ أمّكم غراب ** فكنتم شرَّ طيرٍ في الطيور )

القواطع والأوابد
قال أبو زيد : إذا كان الشتاء قطعت إلينا الغربان أي جاءت بلادنا فهي قواطعُ إلينا فإذا كان الصيف فهي رواجع والطير التي تقيم بأرض شتاءها وصيفها أبداً فهي الأوابد والأوابد أيضاً

هي الدواهي يقال جاءنا بآبدة ومنها أوابد الوحْش ومنها أوابد الأشعار والأوابد أيضاً : الإبل إذا توحَّش منها شيءٌ فلم يُقدرَ عليه إلا بعقْر وأنشد أبو زيد في الأوابد : ( ومَنْهل وَرَدْته التقاطا ** طامٍ فلمْ ألْقَ به فُرَّاطا ) إلاَّ القطا أوابداً غطاطا

صوت الغراب
ويقال نغق الغراب ينغِق نغيقاً بغين معجمة ونعت ينعب نعيباً بعين غير معجمة فإذا مرّت عليه السِّنون الكثيرة وغلظ صوته قيل شحَج يشحج شحيجاً وقال ذو الرُّمَّة : ( ومُسْتَشْحجاتٍ بالفراقِ كأنّها ** مثاكيلُ من صُيّابةِ النُّوب نُوَّح ) والنُّوبة توصف بالجزع .


أثر البادية في رجال الروم والسند وأصحاب الإبل يرغبون في اتخاذ النوبة والبربر والرُّوم للإبل يرون أنهم يصلحون على معايشها وتصلح على قيامهم عليها .
ومن العجب أنَّ رجال الرُّوم تصلح في البدو مع الإبل ودخول الإبل بلاد الروم هو هلاكها فأمّا السند فإنَّ السِّنديَّ صاحب الخرْبة إذا صار إلى البدو وهو طفل خرج أفصحَ من أبي مَهْديّة ومن أبي مطرف الغنويّ ولهم طبيعة في الصَّرْفِ لا ترى بالبصرة صيْرَفِيّاً إلا وصاحب كيسه سِنْديٌّ .


نبوغ أهل السند واشترى محمّد بن السّكن أبا رَوْح فرَجاً السِّندي فكسب له المال العظيم فقلَّ صيدلانيٌّ عندنا إلاّ وله غلامُ سنديٌّ فبلغوا أيضاً في البَرْبهار والمعرفة بالعقاقير وفي صحّة المعاملة وللسِّندِ في الطبخ طبيعة ما أكثر ما ينجبون فيه .
وقد كان يحيى بن خالد أراد أن يحوِّل إجراء الخيل عن صبيان الحبشان والنُّوبة إلى صبيان السند فلم يفلحوا فيه وأراد تحويل رجال السّند إلى موضع الفرَّاشين من الرُّوم فلم يفلحوا فيه )
وفي السِّند حلوق جياد وكذلك بنات السنِّد .


استطراد لغوي والغراب يسمّى أيضاً حاتماً وقال عوف بن الخرِع : ( ولكنّما أهْجُو صفيّ بن ثابت ** مَثَبَّجةً لاقت من الطَّيرِ حاتما ) وقال المرقِّش من بني سدُوس : ( ولقد غَدوتُ وكنتُ لا ** أغدُو على واق وحاتم ) ( فإذا الأشائمُ كالأيا ** مِنِ والأيامِنُ كالأشائِمْ ) ( وكذاك لا خيرٌ ولا ** شرٌّ على أحدٍ بدائِمْ )

وأنشد لخُثيم بن عَديٍّ : ( وليس بهيّابٍ إذا شدّ رحْله ** يقولُ عدانيِ اليوم واق وحاتمُ ) ( ولكنّه يمضي على ذاك مُقدماً ** إذا صَدَّ عنْ تلك الهناتِ الخُثارِمُ ) والخثارم : هو المتطيِّر من الرِّجال وأما قوله : واق وحاتمُ فحاتم هو الغراب والواقي هو الصَّرد كأَنَّه يرى أنّ الزَّجْر بالغراب إذا اشتقَّ من اسمه الغَرْبة والاغتراب والغريب فإنَّ ذلك حتم ويشتق من الصُّرَد التصريد والصَّرَد وهو البرد ويدلك على ذلك قوله : ( دعا صَردٌ يوماً على غصْنِ شوْحَطٍ ** وصاح بذاتِ البيْنِ منها غرابُها ) ( فقلتُ : أتصريدٌ وشحطٌ وغرْبة ** فهذا لعمري نأيُها واغتِرابُها )

فاشتقّ التَّصْريدَ من الصُّرَدِ والْغُرْبةَ مِنَ الْغُرابِ والشَّحْطَ من الشَّوْحطِ .
ويقال أُغرب الرّجُل : إذا اشتدَّ مرضه فهو مُغْرَب .
قال : والعنقاء المغْرِب العقاب لأنها تجيء من مكان بعيد .
أصل التطير في اللغة قال : وأصل التطيُّر إنما كان من الطّير ومن جهة الطير إذا مرَّ بارحاً أوْ سانحاً أو رآه يتفلى وينتَتِف حتى صاروا إذا عاينوا الأعورَ من النّاس أو البهائم أو الأعضب أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيَّروا عندها كما تطيَّروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال فكان زجر الطّير هو الأصل ومنه اشتقوا التطيّر ثمَّ استعملوا ذلك في كلِّ شيء .
والغراب لسواده إن كان أسود ولاختلاف لونه إن كان أبقع ولأنّه غريب يقطع إليهم ولأنّه لا )
يوجد في موضع خيامهم

يتقمَّم إلاَّ عند مباينتهم لمساكنهم ومزايلتهم لدورهم ولأنّه ليس شيءٌ من الطير أشدَّ على ذوات الدَّبر من إبلهم من الغربان ولأنه حديدُ البصر فقالوا عند خوفهم من عينه الأعور كما قالوا : غراب لاغترابه وغربته وغراب البين لأنَّه عند بينونتهم يوجد في دُورهم .
ويسمُّونه ابن داية لأنّه ينقب عن الدَّبر حتَّى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل بها من خرزات الصُّلبِ وفقار الظهر . ( مراعاة التفاؤُل في التسمية ) وللطَّيَرة سمَّت العرب المنهوش بالسَّليم والبرّيّة بالمفازة وكنوا الأعمى أبا بصير والأسود أبا البيضاء وسمّوا الغراب بحاتم إذ كان يحتم الزّجر به على الأمور فصار تطيُّرهم من القعيد والنَّطيح ومن جرد الجراد ومن أن الجرادة ذاتُ ألوان وجميعِ ذلك دون التَّطيُّرِ بالغراب

4 ( ضروب من الطِّيَرة ) ولإيمان العرب بباب الطِّيرة والفأل عقَدُوا الرَّتائم وعشَّروا إذا دخلوا القرى تعشير الحمار 4

قاعدة في الطيرة
ويَدُلُّ على أنهم يشتقُون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون قولُ سَوّار ابن المضرّب : ( تغنّى الطائران ببينِ ليلى ** على غصنين من غَرْبِ وبانِ )

( فكان البانُ أن بانتْ سُليمى ** وفي الغَرْب اغترابٌ غيرُ دانِ ) فاشتقَّ كما ترى الاغتراب من الغَرْب والبينُونة من البان .
وقال جران العود : ( جرى يوم رُحْنا بالجمال نُزِفُّها ** عُقابٌ وشَحَّاج من البين يَبْرحُ ) ( فأمَّا العُقاب فهي منها عقوبة ** وأمّا الغُراب فالغريب المطوَّحُ ) فلم يجد في العُقاب إلاّ العقوبة وجعل الشَّحاجَ هو الغراب البارح وصاحب البين واشتقَّ منه الغريب المطوّح .
ورأى السَّمهريُّ غراباً على بانةٍ ينتف ريشه فلم يجد في البان إلاّ البينونة ووجد في الغراب جميع معاني المكروه فقال : ( رأيتُ غراباً واقعاً فوق بانةٍ ** يُنتِّف أعلى ريشهِ ويُطايرُهْ )

( سقط : بيت الشعر ) ( فقلت ، ولو أنى أشاء زجرته ** بنفسي للنهدى : هل أنت زاجره ) ( فقال : غرابُ باغتراب من النَّوى ** وبالبان بينٌ من حبيب تعاشرُه ) فذكر الغراب بأكثر ممَّا ذُكر به غيرُه ثمَّ ذكر بعدُ شأنَ الريش وتطايره وقال الأعشى : ( ما تَعِيف اليومَ في الطيرِ الرَّوَحْ ** مِنْ غرابِ البين أو تيسٍ بَرَحْ ) فجعل التَّيس من الطّير إذ تقدم ذكر الطير وجعله من الطير في معنى التطيُّر .
وقال النَّابغة : ( زَعَمَ البوارِحُ أنَّ رِحْلتنا غَداً ** وبذاك خبّرنا الغرابُ الأسْودُ ) وقال عنترة : ( ظَعَنَ الذين فراقَهُمْ أتوقَّعُ ** وجرى بِبَيْنِهِم الغُرابُ الأبقعُ ) ( حَرِقُ الجناحِ كأنَّ لَحْيَي رأسِه ** جَلمانِ بالأخبارِ هَشٌّ مُولَعُ )

( فزَجرتُه ألاّ يُفرِّخَ بيضُه ** أبداً ويُصْبِحَ خائفاً يتفجَّعُ ) ( إنَّ الذين نَعَبَ لي بفراقِهمْ ** هم أسهرُوا ليلى التِّمامَ فأوْجَعُوا ) فقال : وجرى ببينهم الغراب لأنّه غريب ولأنه غراب البين ولأنّه أبقع ثم قال : حَرِق الجناح تطيراً أيضاً من ذلك ثمَّ جعل لَحَيَيْ رأسهِ جِلمَين والجلَم يقطع وجعله بالأخبار هشَّاً مُولعاً وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم .
قال : فالغراب أكثر من جميع ما يُتطيَّرُ به في باب الشؤم ألا تراهم كلما ذكروا ممَّا يتطيرون منه شيئاً ذكروا الغراب معه .
وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره ثم إذا ذكروا كلّ واحدٍ من هذا الباب لا يمكنهم أنْ يتطيروا منه إلاّ من وجهٍ واحد والغراب كثير المعاني في هذا الباب فهو المقدَّم في الشؤم


دفاع صاحب الغراب قال صاحبُ الغراب : الغرابُ وغير الغراب في ذلك سواءٌ والأعرابيُّ إن شاء اشتقَّ من الكلمة وتَوهَّمَ فيها الخيرَ وإن شاء اشتقَّ منها الشرّ وكلُّ كلمة تحتملُ وجوها .
ولذلك قال الشاعر : ( نظرتُ وأصحابي ببطن طويلع ** ضُحَيّاً وقد أفْضى إلى اللَّبَبِ الحَبْلُ ) ( إلى ظبيةٍ تعطو سيالاً تَصورُه ** يجاذبها الأفنان ذو جُدد طفل ) ( فقلتُ وعِفت : الحبلُ حبلُ وصالها ** تجذَّذ من سلماك وانصرم الحبْل ) ( وقلت : سيال قَدْ تسلَّت مودَّتي ** تصورُ غُصُوناً صار جثمانها يعلو )

( وعفت الغريرَ الطِّفل طفلاً أتت به ** فقلت لأصحابي : مضيُّكم جَهل ) ( رُجوعِيَ حَزْمٌ وامترائيَ ضِلّةٌ ** كذلك كان الزَّجْرُ يَصْدُقني قبْلُ ) ( بَشَّر الظَّبيُ والغُرابُ بُسعْدى ** مرحباً بالذي يقول الغرابُ ) وقال آخر : ( بَدا إذ قصَدْنا عَامِدينَ لأرضنا ** سنيحٌ فقال القَوْم : مرَّ سنيحُ ) ( وهابَ رجالٌ أن يقولوا وجمْجموا ** فقلت لهم : جار إليَّ ربيحُ ) ( عقابٌ بإعقاب من الدار بَعْدَ ما ** مضت نيَّةٌ لا تسْتطاعُ طرُوحُ ) ( وقالوا : دمٌ دامت مودّة بيننا ** وعاد لنا غض الشباب صريحُ ) ( وقال صحابي : هُدهُدٌ فوق بانة ** هدًى وبيانٌ في الطريق يلوحُ ) ( وقالوا : حمامات فحُمَّ لقاؤُها ** وطلحٌ فنيلت والمطيُّ طليحُ )

قالوا : فهو إذا شاء جعل الحمام من الحِمام والحميم والحمى وإن شاء قال : وقالوا حماماتٌ فحمَّ لقاؤها وإذا شاء اشتق البين من البان وإذا شاءَ اشتقَّ منه البيان .
وقال آخر : ( وقالوا : عقابٌ قلتُ عُقْبى من الهوى ** دنتْ بعد هَجْرٍ منهمُ ونزوحُ ) ( وقالوا : حمامات فحُمَّ لقاؤُها ** وعاد لنا حُلوُ الشّبابِ رَبيحُ ) ( وقالوا : تغنَّى هدهدٌ فوقَ بانة ** فقلت : هُدًى نغدو به ونَرُوحُ ) ولو شاء الأعرابيّ أن يقول إذا رأى سوادَ الغراب : سواد سودد وسواد الإنسان : شخصه )
وسواد العراق : سعف نخله والأسودان : الماء والتمر وأشباه ذلك لقاله .
قال : وهؤلاء بأعيانهم الذين يصرِّفون الزَّجر كيف شاؤوا وإذا لم يجدوا من وقوع شيءٍ بعد الزَّجر بُدّاً هم الذين إذا بدا لهم في ذلك بداء أنكروا الطِّيَرةَ والزَّجْر البتّة .
تطير النابغة وما قيل فيه من الشعر

وقد زعم الأصمعي أنَّ النَّابغةَ خرج مع زَبَّان بن سيّار يريدان الغزو فبينما هما يريدان الرحلة إذ نظر النَّابغةُ وإذا على ثوبه جرادةٌ تجرد ذاتُ ألوان فتطيَّر وقال : غيري الذي خرج في هذا الوجه فلما رجع زبّان من تلك الغزوة سالماً غانماً قال : ( تخبَّر طيْرَهُ فيها زيادٌ ** لتخْبِرَه وما فيها خبيرُ ) ( أقام كأنَّ لقْمان بن عادٍ ** أشار له بحكْمته مُشيرُ ) ( تعلَّمْ أنَّه لا طير إلاّ ** على متطيرٍ وهو الثُّبور ) ( بلى شيءٌْ يوافق بعض شيءٍ ** أحايينا وباطله كثيرُ ) فزعم كما ترى زَبّان وهو من دهاة العرب وساداتهم أنّ الذي يجدونه إنَّما هو شيءٌ من ( تعلَّمْ أنَّه لا طيْرَ إلا ** على متطيِّر وهو الثُّبُور )

وهذا لا ينقض الأول من قوله : أمّا واحدة فإنه إنْ جعل ذلك من طريق العقاب للمتطير لم ينقضْ قوله في الاتفاق وإن ذهب إلى أنّ مثل ذلك قد يكون ولا يشعر به اللاّهي عن ذلك والذي لا يؤمن بالطيرة فإنّ المتوقِّع فهو في بلاء مادام متوقعاً وإن وافق بعضُ المكروه جعله من ذلك .
تطير ابن الزبير ويقال إنَّ ابن الزبير لما خرج مع أهله من المدينة إلى مكّة سمع بعض إخوته ينشد : ( وكلُّ بني أُمٍّ سَيُمْسُون ليلةً ** ولم يَبْقَ من أعْيانِهمْ غيْرُ واحدِ ) فقال لأخيه : ما دعاك إلى هذا قال : أما إني ما أردته قال : ذلك أشدُّ له .
وهذا منه إيمان شديد بالطيرة كما ترى بعض من أنكر الطيرة

وممن كان لا يرى الطيرة شيئاً المرقش من بني سدوس حيث قال : ( إني غدوت وكنت لا ** أغدو على واق وحاتمْ ) ( فإذا الأشائمُ كالأيا ** من والأيامِنُ كالأشائمْ ) ( فكذاك لا خير ولا ** شرٌّ على أحد بدائمْ ) ( ومن تعرَّض للغِرْبان يزْجُرها ** على سلامتهِ لا بدَّ مشؤوم ) وممن كان ينكر الطيرة ويوصي بذلك الحارث بن حلزة وهو قوله قال أبو عبيدة : أنشدنيها أبو عمرو وليست إلا هذه الأبيات وسائر القصيدة مصنوع مولد وهو قوله : ( يا أيها المزمِعُ ثم انثنى ** لا يثْنِكَ الحازِي ولا الشاحِجُ )

( ولا قعيد أغضبٌ قرْنُهُ ** هاجَ له من مَرْبَعٍ هائِجُ ) ( بينا الفتى يَسعى وَيُسْعى له ** تَاحَ له من أمْره خالِجُ ) ( يتركُ ما رَقَّح من عيشه ** يعيثُ فيه همَجٌ هامِجُ ) ( لا تكسع الشّول بأغبارها ** إنك لا تَدْري من الناتجُ ) وقال الأصمعي : قال سَلْم بن قتيبة : أضللت ناقة لي عشراء وأنا بالبدو فخرجت في طلبها فتلقاني رجلٌ بوجهه شينٌ من حَرْق النار ثم تلقَّاني رَجُلٌ آخذ بخطام بعيره وإذا هو ينشد : ( فلئِنْ بغيت لها البغا ** ة فما البغاة بواجدينا )

ثم من بعد هذا كلّه سألت عنها بعض من لقيتُه فقال لي : التمسْها عند تلك النار فأتيتهم فإذا همّ قد نتجوها حُواراً وقد أوقدُوا لها ناراً فأخذْت بخطامها وانصرفتُ .
عدم إيمان النَّظَّام بالطيرة وأخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن سيَّارِ النَّظَّام قال : جعْت حتَّى أكلت الطين وما صِرت إلى ذلك حتَّى قلبت قلبي أتذَّكر : هلْ بها رجلٌ أصيبُ عنده غداءً أو عشاء قما قدرت عليه وكان علي جُبَّةٌ وقميصان فنزعتُ القميص الأسفل فبعته بدريهمات وقصدْتُ إلى فُرْضَة الأهواز أريد قصبةَ الأهواز وما أعرف بها أحداً وما كان ذلك إلاّ شيئاً أخرجه الضَّجر وبعض التعرُّض فوافيتُ الفرضةَ فلم أصبْ فيها سفينة فتطيَّرتُ من ذلك ثم إني رأيت سفينةً في صدرها خَرْق ٌ وهشم فتطيرتُ من ذلك أيضاً وإذا فيها حمولة فقلت للملاح : تحملني قال : نعم قلت : ما اسمك قال : داوداذ وهو بالفارسية الشّيطان فتطيرت من

ذلك ثم ركبت معه تصكّ الشمال وجْهي وتُثير بالليل الصَّقيعَ على رأسي فلما قربنا من الفرصة صِحْت : يا حمّال معي لحافٌ لي سَمل ومضْربة خلق وبعضُ ما لا بُدَّ لمثلي منه فكان أول حمّال أجابني أعور فقلت لبقّار كان واقفاً : بكم تكري ثورك هذا إلى الخان فلما أدناه من متاعي إذا الثَّور أعضبُ القرن فازددتُ طيرة إلى طيرة فقلت في نفسي : الرُّجوع أسلم لي ثم ذكرت حاجتي إلى أكل الطين فقلت : ومن لي بالموت فلما صرتُ في الخان وأنا جالس فيه ومتاعي بين يديَّ وأنا أقول : إن أنا خلفته في الخان وليس عنده من يحفظه فُشّ البابُ وسرق وإن جلست أحفظُه لم يكن لمجيئي إلى الأهوازِ وَجْه فبينا أنا جالس إذ سمعت قرْع الباب قلت : من هذا عافاك الله تعالى قال : رجلٌ يريدك قلت : ومن أنا قال : أنت إبراهيم فقلت : ومن إبراهيم قال : إبراهيم النَّظَّام قلت : هذا خَنّاق أو عدوٌّ أو رسولُ سلطان ثم إني تحاملتُ وفتحتُ البابَ فقال : أرسلني إليك إبراهيم بن عبد العزيز ويقول : نحن وإن كُنّا اختلفنا في بعض المقالة فإنَّا قد نرجِع بعد ذلك إلى حقوقِ الإخلاق والحرِّيَّة وقد رأيتك حين مررت بي

على حال كرهتها منك وما عرفتك حتى خبّرني عنك بعضُ من كان معي وقال : ينبغي أن يكون قد نزعتْ بك حاجة فإن شئت فأقِمْ بمكانك شهراً أوشهرين فعسى أن نبعث إليك ببعضِ ما يكفيك زمناً من دهرك وإن اشتهيت الرُّجوع فهذه ثلاثون مثقالاً فخذها وانصرف وأنت أحقُّ من عَذرَ .
قال : فهجم واللّه عليَّ أمرٌ كاد ينقضني أما واحِدَةً : فأنِّي لم أكنْ ملكتُ قبل ذلك ثلاثين ديناراً في جميع دهري والثّانية : أنّه لم يطلع مقامي وغيبتي عن وطني وعن أصحابي الذين هم على )
حال أشكل بي وأفهم عنِّي والثّالثة : ما بيّن لي من أنَّ الطيرة باطل وذلك أنّه قد تتابع عليّ منها ضروبٌ والواحدة منها كانت عنْدهُمْ مُعطبة .
قال : وعلى مثل ذلك الاشتقاقِ يعملُ الذين يعبِّرون الرُّؤيا .
عجيبة الغربان بالبصرة وبالبصرة من شأن الغِرْبان ضروبٌ من العجب لو كان ذلك بمصر أو ببعض الشامات : لكان عندهم من أجودِ الطِّلَّسم وذلك أنّ

الغربان تقطع إلينا في الخريف فترى النَّخْلَ وبعضها مصرومة وعلى كلِّ نخلة عدَد ٌ كثيرٌ من الغربان وليس منها شيءٌ يقرب نخلةً واحدةً من النّخل الذي لم يُصرم ولو لم يبق عليها إلا عذقٌ واحد وإنّما أوكار جميع الطير المصوِّت في أقلاب تلك النّخل والغراب أطيرُ وأقوى منها ثم لا يجترئ أن يسقط على نخلة منها بعد أن يكون قد بقي عليها عِذْق واحدٌ .

منقار الغراب
ومنقار الغراب معْوَل وهو شديدُ النَّقْر وإنّه ليصِلُ إلى الكمأة المنْدفِنة في الأرض بنقْرة واحِدة حتى يشخصها ولهو أبصرُ بمواضع الكمأة من أعرابيٍّ يطلبها في منبتِ الإجردِّ والقِصيص في يومٍ له شمس حارَّة وإن الأعرابيّ ليحتاجُ إلى أن يرى ما فوقها من الأرض فيه بَعْضُ الانتفاخِ والانصدَاع وما يحتاجُ الغرَاب إلى دليل وقال أبو دُؤادٍ الإياديّ : ( تَنْفي الحصى صُعُداً شرقِي منْسمها ** نَفْي الغراب بأعلى أنْفهِ الغَرَدا )

ولو أنّ الله عزَّ وجلّ أذن للغراب أن يسقط على النخلة وعليها الثّمرة لذهبت وفي ذلك الوقت لو أنّ إنساناً نقر العِذْق نقرةً واحدَةً لانتثر عامَّة ما فيه ولهلكتْ غلاّتُ الناس ولكنّك ترى منها على كلّ نخلة مصرومةِ الغِربانَ الكثيرة ولا ترى على التي تليها غراباً واحداً حتى إذا صرموا ما عليها تسابقن إلى ما سقط من التمر في جوف الليف وأصول الكرَب لتستخرجه كما يستخرج المنْتَاخُ الشّوك .

حوار في نفور الغربان من النخل
فإن قال قائل : إنما أشباح تلك الأعذاق المدلاّةِ كالخِرَق السُّود التي تُفزع الطير أنْ يقع على البزُور وكالقودام السُّودِ تغرزُ في أسنمةِ ذوات الدبَرِ من الإبل لكيلا تسقط عليها الغربان فكأنها إذا رأت سواد الأعذاق فزعت كما يفزع الطير من الخِرَق السُّود .


قال الآخر : قد نجدُ جميع الطير الذمي يفزع بالخِرَق السُّود فلا يسقط على البزور يقع كله على النخل وعليه الحمل وهل لعامّة الطيَّر وكور إلا في أقلابِ النّخل ذوات الحمل .
قال الآخر : يشبه أن تكون الغربان قطعتْ إلينا من مواضع ليس فيها نَخْلٌ ولا أعذاق وهذا الطير الذي يفزع بالخِرَقِ السُّود إنَّما خُلقتْ ونشأت في المواضع التي لم تزل ترى فيها النَّخيل والأعذاق ولا نعرف لذلك علة سوى هذا .
قال الآخر : وكيف يكون الشأن كذلك ومن الغِربان غربانٌ أوابدُ بالعِراق فلا تبرَحُ تعَشِّش في رؤوس النَّخل وتبيض وتفْرخُ إلاَّ أنَّها لا تقرب النَّخلة التي يكون عليها الحمل .
والدّليل عَلَى أنها تعشش في نخل البصرة وفي رؤوس أشجار البادية قولُ الأصمعيِّ : ( ومن زردَك مثل مكن الضِّبابِ ** يُناوح عيدانَه السيمكان ) ( ومن شكر فيه عُشُّ الغرابِ ** ومن جيسرانٍ وبنْداذجان )

وقال أبو محمد الفقعسيُّ وهو يصف فحل هَجْمة : ( يتبعُها عَدَبَّسٌ جُرائضُ ** أكلفُ مربدٌّ هصورٌ هائضُ ) بحيثُ يعتش الغرابُ البائضُ

ما يتفائل به من الطير والنبات
والعامَّة تتطيَّرُ من الغراب إذا صاح صيحة واحدة فإذا ثنَّى تفاءلتْ به .
والبوم عند أهل الرَّيِّ وأهل مَرْوٍ يُتفاءل بهِ وأهل البصرة يتطيرون منه والعربيُّ يتطيرُ من الخلاف والفارسي يتفاءل إليه لأنَّ اسمه بالفارسية باذامك أي يبقى وبالعربية خلاف والخلاف غيرُ الوفاق .
والريحان يُتفاءل به لأنه مشتقٌّ من الرَّوح ويتطيرَّ منه لأن طعمه مُرٌّ وإن كان في العين والأنف مقبولاً .


وقال شاعرٌ من المحدثين : ( أهدى له أحبابُه أُتْرُجَّةً ** فبكى وأشفق مِنْ عيافة زاجرِ ) ( متطيِّراً ممّا أتاه فطعمه ** لونان باطنه خلافُ الظّاهرِ ) والفرس تحبُّ الآس وتكره الورد لأن الورد لا يدومُ والآس دائم .
قال : وإذا صاح الغرابُ مرتين فهو شرٌّ وإذا صاح ثلاث مرّاتِ فهو خير على قدر عدد الحروف .

عداوة الحمار للغراب
ويقال : إنّ بين الغراب والحمار عداوةً كذا قال صاحب المنطق .
وأنشدني بعض النحويِّين : ( عاديتنا لا زلْت في تبابِ ** عداوة الحمار للغراب )

أمثال في الغراب
ويقال : أصحُّ من غراب وأنشد ابن أبي كريمة لبعضهم وهو يهجو صريع الغواني مسلم بن الوليد : ( فما ريحُ السّذاب أشدُّ بُغْضاً ** إلى الحيّاتِ منك إلى الغواني ) وأنشد : ( وأصلب هامةً من ذي حُيُود ** ودُون صداعه حُمّى الغراب ) وزعم لي داهيةٌ من دهاة العرب الحوّائين أنّ الأفاعي وأجناس الأحناش تأتي أصول الشِّيحِ والحرْمل تستظل به وتستريح إليه .
ويقال : أغربُ من غراب وأنشد قول مضرّس بن لقيط : ( كأني وأصحابي وكرِّي عليهمُ ** على كلِّ حال من نشاط ومن سأمْ ) ( غرابٌ من الغِربانِ أيّامَ قرِّةٍ ** رأيْن لحاماً بالعراص على وضمْ )

حديث الطيرة وقد اعترض قومٌ علينا في الحديث الذي جاء في تفرقة ما بين الطيرة والفأل وزعموا أنّه ليس لقوله : كان يعجبه الفألُ الحسن ويكره الطيرة معنى وقالوا : إن كان ليس لقول القائل : يا هالك وأنت باغٍ وجهٌ ولا تحقيق فكذلك إذا قال : يا واجد ليس له تحقيق وليس قوله يا مضلُّ ويا مهلك أحقَّ بأن يكون لا يوجبُ ضلالاً ولا هلاكاً من قوله يا واجد ويا ظافر من ألاّ يكون يوجب ظفراً ولا وجوداً فإمّا أنّ يكونا جميعاً يوجبان وإما أن يكونا جيمعاً لا يوجبان قيل لهم : ليس التأويل ما إليه ذهبتم لو أن النّاس أمَّلوا فائدة اللّه عزَّ وجلَّ ورجوا عائِدته عند كلِّ سبب ضعيف وقويّ لكانوا على خير ولو غلطوا في جهة الرّجاء لكان لهم بنفس ذلك الرّجاء خير ولو أنهم بدل ذلك قطعوا أملهم ورجاءهم من اللّه تعالى لكان ذلك من الشرّ والفأل أن يسمع كلمةً في نفسها مستحسنة ثمَّ إن أحبَّ بعد ذلك أو عند ذلك أنّ يحدث طمعاً فيما عند )
اللّه تعالى كان نفس الطمع خلاف اليأس وإنما خبَّر أنّه كان يعجبه وهذا إخبارٌ عن الفطرة كيف هي وعن الطبيعة إلى أيِّ شيء تتقلب .


وقد قيل لبعض الفقهاء : ما الفأل قال : أن تسمع وأنت مُضِلٌّ : يا واجد وأنت خائف : يا سالم ولم يقل إنَّ الفأل يوجب لنفسه السلامة ولكنّهم يحبُّون له إخراج اليأس وسوء الظن وتوقُّعِ البلاء من قلبه على كل حال وحال الطيرة حال من تلك الحالات ويحبون أن يكون لله راجياً وأن يكون حسن الظن فإن ظنَّ أن ذلك المرجوَّ يُوافقُ بتلك الكلمة ففرح بذلك فلا بأس تطير بعض البصريين وقال الأصمعيُّ : هرب بعض البصريين من بعض الطَّواعين فركب ومضى بأهله نحو سَفَوان ( لن يُسْبَق اللّهُ على حِمار ** ولا على ذي مَيْعَةٍ مَطَّارِ ) ( أو يأتيَ الحينُ على مقدارِ ** قد يصبحُ اللّه أمام السّاري ) فلما سمع ذلك رجع بهم .

معرفة في الغربان
قال : والغربان تسقط في الصحارى تلتمس الطُّعم ولا تزال كذلك فإذا وجبت الشمس نهضت إلى أوكارها معاً و ما أقلّ ما تختلط البُقْع بالسّود المصمتة .
الأنواع الغريبة من الغربان قال : ومنها أجناس كثيرة عظام كأمثال الحداء السُّود ومنها صغارٌ وفي مناقيرها اختلاف في الألوان والصور ومنها غربان تحكي كلّ شيء سمعته حتى إنها في ذلك أعجب من الببغاء وما أكثر ما يتخلّف منها عندنا بالبصرة في الصيف فإذا جاء القيظ قلَّتْ وأكثر المتخلِّفات منها البقع فإذا جاء الخريف رجعت إلى البساتين لتنال مما يسقط من التمر في كرب النّخل وفي الأرض ولا تقرب النَّخلة إذا كان عليها عذق واحد وأكثر هذه الغربان سود ولا تكاد ترى فيهنّ أبقع

قبح فرخ الغراب وقال الأصمعيّ : قال خلف : لم أرَ قطُّ أقبح من فرخ الغراب رأيته مرَّة فإذا هو صغير الجسم عظيم الرأس عظيم المنقار أجرد أسودُ الجلد ساقط النفس متفاوت الأعضاء .
غربان البصرة قال : وبعضُها يقيم عندنا في القيظ فأمَّا في الصَّيف فكثير وأمَّا في الخريف فالدُّهم وأكثر ما تراه في أعالي سطوِحنا في القيظِ والصيف البُقع وأكثر ما تراه في الخريف في النخل وفي الشتاء في البيوت السُّود .
وفي جبل تكريت في تلك الأَيَّام غِرْبانٌ سودٌ كأمثال الحدَاءِ السُّود عظماً .


تسافد الغربان وناس يزعمون أنَّ تسافدَها عَلَى غير تسافد الطير وأنّها تزاقُّ بالمناقير وتلقح من هناك .
نوادر وأشعار نَذْكر شيئاً من نوادر وأشعار وشيئاً من أحاديث من حارِّها وباردها .
قال ابنُ نُجيْمٍ : كان ابن ميّادة يستحسن هذا البيت لأَرطأةَ بن سُهيّة : ( فقلت لها يا أمَّ بيضاءَ إنّه ** هُريقَ شبابي واستَشَنَّ أديمي ) صار شنّاً .

وكان الأصمعي يستحسن قول الطرماح بن حكيم ، في ضفة الظليم : ( مجتاب شْملة بُرجُدٍ لسَرَاتِه ** قَدْراً وأسلم ما سِوَاهُ البَرجُدُ ) ويستحسن قوله في صفة الثَّور : ( يبدوُ وتَضمره البلاد كأنَّه ** سيفٌ علَى شرفٍ يُسلُّ ويُغمدُ ) وكان أبو نُواسٍ يستحسنُ قولَ الطّرماح : ( إذا قُبِضَتْ نفسُ الطّرماح أخلَقَتْ ** عُرى المجدِ واسترخى عنان القصائد ) وقال كثير : ( إذا المال يوجِبْ عليكَ عطاؤُه ** صَنيعَة بِرٍّ أو خِليلٍ توامِقُه ) ( مَنَعْتَ وبعضُ المنْع حزمٌ وقُوَّةٌ ** فلم يفتلتك المالَ إلاّ حقائقه )

وقال سهل بن هارون يمدح يحيى بن خالد : ( عدوُّ تِلادِ المال فيما ينوبه ** منوعٌ إذا ما منعُه كان أحزَمَا ) قال : وكان رِبعيُّ بن الجارود يستحسن قولَه : ( فخير منك من لا خير فيه ** وخير من زيارتك القُعودُ ) وقال الأعشى : ( قد نطعُن العَيْرَ في مكنونِ فائله ** وقد يَشِيطُ على أرماحنا البَطلُ )

وقال العلاء بن الجارود : ( أظهروا للنَّاس نسكاً ** وعلى المنقوش دارُوا ) ( وَلَه صامُوا وصَلَّوا ** ولَهُ حَجُّوا وزارُوا ) ( وله قاموا وقالوا ** وله حلّوا وساروا ) ( لو غدا فوق الثريَّا ** ولهم ريش لطاروا ) وقال الآخر في مثل ذلك : ( شمر ثيابَك واستعدَّ لقابلٍ ** واحككْ جبينك للقضاء بثُومِ ) ( وامشِ الدَّبيبَ إذا مشَيتَ لحاجةٍ ** حتى تصيبَ وديعةً ليتيم ) وقال أبو الحسن : كان يقال : من رقّ وجهُه رقّ عِلمُه .
وقال عمر : تفقَّهوا قبل أن تسودوا .
وقال الأصمعي : وُصلت بالعلم وكسبت بالملح .
ومن الأشعار الطيبة قول الشاعرِ في السمك والخادم : ( مقبل مدبر خفيف ذَفيف ** دسم الثَّوب قد شَوَى سمكاتِ )

( من شبابيط لجةٍ ذات غَمْر ** حُدُب من شُحومها زَهماتِ ) وقال الشاعر : ( إنْ أجزِ علقمَة بن سَيْفِ سعيَهُ ** لا أجزِه ببلاءِ يومٍ واحدِ ) ( لأحَبَّني حُبّ الصبيِّ ورَمَّني ** رَمَّ الهَدِيِّ إلى الغنيّ الواجد ) ( ولقَدْ شفيتُ غليلتي ونقَعتها ** من آل مسعودٍ بماءٍ بارد ) وقال رجل من جرم : ( نبئتُ أخوالي أرادوا عمومتي ** بشنعاء فيها ثاملُ السُّمِّ مُنقَعا ) ( سأركبها فيكم وأُدعى مفرِّقاً ** وإن شئتم من بعدُ كنت مجمِّعا )

وقال يونس بن حبيب : ما أكلت في شتاءٍ شيئاً قطُّ إلاّ وقد برد ولا أكلت في صيفٍ شيئاً إلاّ وقدْ سخن .
وقال أبو عمرو المدينيّ : لو كانت البلايا بالحِصَص ما نالني كما نالني : اختلفت الجاريةُ بالشاة إلى التَّيَّاس اختلافاً كثيراً فرجعت الجارية حاملاً والشاة حائل .
وقال جعفر بن سعيد : الخلافُ موكّل بكلِّ شيء يكون حتى القَذاة في الماء في رأس الكوز فإن أردتَ أن تشرب الماء جاءتْ إلى فيك وإن أردتَ أن تصبَّ من رأسِ الكوزِ لتخرج رَجَعت .
وقال إسماعيل بن غزْوان : بكَرْت اليوم إلى أبي عمران فَلزمتُ الجادَّةَ فاستقبلني واحدٌ فلَزِمَ )
الجادَّة التي أنا عليها فلما غشيني انحرفتُ عنه يَمْنَةً فانحرَفَ معي فعُدتُ إلى سَمْتي فَعاد فَعُدتَ فعاد ثمَّ عُدت فَعاد فلولا أنَّ صاحبَ بِرذون فرَّق بيننا لكان إلى الساعة يكدُّني فَدَخلت على أبي عمران فَدعا بغَدَائه فأهويتُ بلقْمتي إلى

الصِّباغ فأهوى إليه بعضُهم فنحَّيت يدي فنحَّى يده ثمَّ عُدْتُ فَعاد ثمَّ نحيتُ فنحَّى فقلت لأبي عمران : ألا ترى ما نحن فيه قال سأحدِّثك بأعجبَ من هذا أنا منذُ أكثر مِنْ سنة أشفقُ أن يراني ابن أبي عون الخياط فلم يتَّفق لي أن يراني مرَّةً واحدة فلما أن كانَ أمسِ ذكرتُ لأبي الحارث الصُّنع في السلامة من رؤيته فاستقبلني أمسِ أربَعَ مَرَّات . 4

نوادر وبلاغات
وذكر محمّد بن سلام عن محمّد بن القاسم قال : قال جرير : أنّا لا أبتدي ولكنّي أعتدي .
وقال أبو عبيدة : قال الحجّاج : أنا حدِيدٌ حَقود حسود قال : وقال قدَيد بن مَنيع لجُدى ع بن عليٍّ : لَكَ حكم الصبيّ على أهله

وقال أبو إسحاق وذكرَ إنساناً : هو واللّه أترَفُ من رَبيب مَلِك وأخرق من امرأة وأظلم وقال لي أبو عبيدة : ما ينبغي أن يكون كان في الدنيا مثل هذا النَّظام قلت : وكيف قال : مرَّ بي يوماً فقلت : واللّهِ لأمتحننَّه ولأسمعَنَّ كلامه فقلت له : ما عيبُ الزُّجاج قال : يُسرع إليه الكسر ولا يقبل الجبْر من غير أن يكون فكّر أو ارتدع .
قال : وقال جَبَّار بن سُلمى بن مالك وذكر عامر بن الطفيل فقال : كان لا يضلُّ حتّى يضلَّ النَّجم ولا يَعطشُ حَتَّى يعْطَش البَعير ولا يهاب حتَّى يهاب السيل كان واللّه خيرَ ما يكون حينَ لاتظنُّ نفسٌ بنفسٍ خيراً .


وقال ابن الأعرابيّ : قال أعرابي : اللهمَّ لا تُنْزلني ماءَ سَوءٍ فأكونَ امرأ سَوء يقول : يدعوني قلّتُهُ إلى منعه .
وقال محمَّد بن سلام عن حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس : إنّ الأحنف كان يكرَه الصَّلاة في المقصورة فقال له بعضُ القوم : يا أبا بحر لم لا تصلي في المقصورة قال : وأنت لم لاتصلِّي فيها قال : لا أُترك .
وهذا الكلامُ يدل على ضروب من الخير كثيرة .
ودخل عبد اللّه بن الحسن على هشامٍ في ثيابِ سفَرِه فقال : اذكر حوائجك فقالَ عبد اللّه : )
ركابي مُناخةٌ وعَلَيَّ ثيابُ سفري فقال : إنَّك لا تجدني خيراً منِّي لك الساعة .
قال أبو عبيدة : بلغ عمرَ بن عبد العزيز قدومُ عبدِ اللّه بن الحسن فأرسل إليه : إني أخاف عليك طواعينَ الشام وإنَّك لا تُغنِمَ أهلَك خيراً لهم منك فالحقْ بهم فإنّ حوائجهم ستسبقك .
وكان ظاهر ما يكلِّمونَهِ بهٍ ويُرُونه إيَّاه جميلاً مذكوراً وكان معناهم الكراهة لمقامه بالشام وكانوا يرون جمالَهُ ويعرفون بيانَه وكمالهُ فكان ذلك العَملُ من أجودِ التدبير فيه عندَ نفسه .

4

شعر في الزهد والحكمة
وأنشد : ( تُليح من الموتِ الذي هو واقعٌ ** وللموتِ بابٌ أنتَ لابدَّ داخلُه ) وقال آخر : ( أكلكُمُ أقام على عجوزٍ ** عشنْزَرَةٍ مقلَّدةٍ سِخابا ) وقال آخر : ( الموتُ بابٌ وكل الناس داخله ** فليتَ شعريَ بعدَ الباب ما الدَّارُ ) ( لو كنتُ أعلم منْ يدري فيخبرني ** أجنَّة الخُلْدِ مأوانا أم النَّارُ ) وقال آخر : ( اصبرْ لكلِّ مصيبةٍ وتجلّدِ ** واعلمْ بأنَّ المرءَ غيرُ مخلَّدِ ) وقال آخر : ( والشمس تَنْعَى ساكِنَ ال ** دُّنيا ويُسعِدُها القَمَرْ )

( أين الذين عليهمُ ** رَكَمُ الجَنادِلِ والمَدَرْ ) ( أفناهُمُ غَلَس العِشَا ** ءِ يهزُّ أجنحَةَ السَّحَرْ ) ( ما للقلوب رقيقةٌ ** وكأنَّ قلبَك من حجَرْ ) ( ولقلَّما تبْقى وعو ** دُكَ كلَّ يومٍ يُهتَصرْ ) وقال زهير : ( ومن يُوفِ لايُذممْ ومَنْ يُفْضِ قلبه ** إلى مطمئن البرِّ لا يتجمجمِ ) ( ومن يغترب يحسَب عدوًّا صديقه ** ومن لا يكرِّم نفسَه لا يكرّمِ ) ( ومهما تكن ْعندَ امرئ من خليقة ** وإنْ خالها تخْفى على النَّاسِ تُعلمِ ) ( ومن لا يزلْ يسترحلُ النَّاسَ نفسَه ** ولا يُعفِها يومًا من الذّمِّ يندَمِ ) وقال زهير أيضاً : ( يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طُعِنُوا ** ضارب حتَّى إذا ما ضارَبُوا اعتنقا )

وقال : ( سقط بيت الشعر ) ( وجار البيت والرجل المنادى ** أمام الحي عقدهما سواء ) وقال : ( جوارٌ شاهدٌ عدْلٌ عليكم ** وسِيَّانِ الكَفالةُ والتَّلاءُ ) ( فإن الحقَّ مقْطعُهُ ثلاث : ** يَمينٌ أو نِفارٌ أو جِلاءُ ) فتفهَّمْ هذه الأقسام الثلاثة كيف فصّلها هذا الأعرابيّ . ُ وقال أيضاً : ( فلو كان حمد يُخلِدُ النَّاسَ لم تمُتْ ** ولكنَّ حمْدَ المرءِ ليسَ بمُخْلِدِ ) ( ولكنَّ منهُ باقياتٍ وِراثَةً ** فأوْرِثْ بنيك بعضَها وتزوَّدِ ) ( تزوّدْ إلى يوم المماتِ فإنَّه ** وإنْ كرهتْه النَّفسُ آخِرُ معْهَدِ ) وقال الأسديُّ : ( فإني أحبُّ الخُلدَ لو أستطيعُ ** وكالخُلد عندي أن أموت ولم أُلَمْ ) وقال الحادرة : ( فأثنوا علينا لا أبا لأبيكُم ** بإحساننا إنَّ الثَّناءَ هو الخُلد ) وقال الغنوي : ( فإذا بلغتمْ أهلكم فتحدَّثوا ** ومن الحديث مهالك وخُلودُ )

وقال آخر : ( سقط : بيت الشعر ) ( فقتلا بتقتيل وعقرا بعقركم ** جزاء العطاس لا يموت من اتأر ) وقال زهير : ( والإثمُ من شرِّ ما تصولِ به ** والبرُّ كالغَيثِ نبتُه أَمِرُ ) أي كثير ولو شاء أن يقول : والبرُّ كالماءِ نبتُه أمر ُ استقام الشعر ولكن كان لا يكون له معنى وإنّما أراد أن النبات يكون على الغيث أجود ثمَّ قال : ( قد أشهَدُ الشَّاربَ المعذَّلَ لا ** معروفُهُ مُنكَر ولا حصرُ ) ( في فتيةٍ لَيِّني المآزِرِ لا ** ينسَوْنَ أحلامَهم إذا سَكِروا ) ( يشوُون للضَيف والعُفاةِ ويُو ** فون قضاءً إذا هُمُ نَذَروا )

يمدحُ كما ترى أهلَ الجاهلّية بالوفاء بالنُّذور أنشدني حبَّان بن عِتْبان عن أبي عبيدة من الشَّوارد التي لا أربابَ لها قوله : ( إن يغْدِرُوا أو يفجُروا ** أو يبخَلوا لم يحفِلوا ) ( يَغدُوا عليكَ مرجَّلي ** نَ كأنّهُمْ لم يفعَلُوا ) ( كأبي بَراقِشَ كلَّ يو ** مٍ لونَه يتخيَّلُ ) ( أشابَ الصغيرَ وأفنَى الكبي ** رَ كرُّ الغَداةِ ومرُّ العشي ) ( إذا ليلةٌ هرَّمْت يومها ** أتى بعد ذلك يوم فَتي ) ( نروح ونغدُو لحاجاتنا ** وحاجة من عاشَ لا تنقضي ) ( تموت مع المرءِ حاجاتُه ** وتبقى له حاجةٌ ما بقي ) ( إذا قلتَ يَوْمًا لدى مَعْشرٍ ** أرُوني السَّريَّ أرَوْكَ الغني )

( ألم تَرَ لقمان أوصى بني ** هِ وأوصيت عمرًا فنعم الوَصي ) ( وسِرُّك ما كان عندَ امرئٍ ** وسرُّ الثَّلاثةِ غير الخفي ) أنشدني محمَّدُ بن زياد الأعرابيّ : ( ولا تُلبِثُ الأطماعُ من ليس عنده ** من الدِّين شيءٌ أن تميل به النَّفسُ ) ( ولا يُلْبثُ الدَّحْس الإهاب تحوزه ** بجُمْعِك أن ينهاه عن غيرك الترس ) وأنشدني أبو زيدٍ النحويُّ لبعض القدماء : ( وَمهْمَا يكنْ رَيْب المَنُونِ فإنَّني ** أرى قمر اللّيلِ المعذَّرَ كالفتَى ) ( يعودُ ضئيلاً ثم يرجعُ دائباً ** ويعظم حتَّى قيل قد ثاب واستوى ) ( كذلك زَيْدُ المرء ثمَّ انتقاصه ** وتكرارُه في إثره بَعْدَ ما مضى )

( مَيَّز عَنهُ قُنزَعاً من قنْزُعِ ** مَرُّ اللَّيالي أبْطئي وأسرعي ) ( أفناهُ قِيلُ اللّهِ للشَّمْس اطلعي ** ثمَّ إذا واراكِ أُفق فارجعي ) وقال عمرو بن هند : ( وإن الذي ينهاكم عن طلابِها ** يُناغي نِسَاءَ الحيِّ في طرَّة البُرْدِ ) ( يعَلَّلُ والأيَّام تنْقص عمْرَه ** كما تنقُص النِّيرَانُ من طَرفِ الزّندِ ) وقال ابن ميَّادة : ( هل ينطقُ الرَّبع بالعَلياء غيّره ** سافي الرِّياحِ ومستنّ له طُنُب ) وقال أبو العتاهية : أسرَع في نقص امرئ تمامُه وقال : ( ولمرِّ الفناءٍ في كلِّ شيءٍ ** حركاتٌ كأنَّهنّ سكُون ) وقال ابن ميّادة :

( أشاقَك بالقِنعِ الغَداةَ رُسومُ ** دَوارِس أدنى عهدِهنَ قديمُ ) ( يلحْنَ وقد جرَّمْنَ عشرين حِجَّةً ** كما لاح في ظهر البنَان وشُوم ) ( في مرفَقيها إذا ما عُونِقتْ جَمَم ** علَى الضَّجيع وفي أنيابها شنَب ) وقال ابن ميَّادة في جعفر ومحمد ابني سليمانَ وهو يعني أمير المؤمنين المنصور : ( وفى لكما يا ابْني سليمان قاسم ** بِجَدِّ النُّهى إذ يقسِم الخير قاسِمُهْ ) ( فبيتكُما بَيتٌ رفيع بناؤه ** متى يَلق شيئاً مُحْدَثاً فَهو هادمُهْ ) ( لكُمْ كبْشِ صِدق شذَّبَ الشَّولَ عنكم ** وكسَّر قَرْني كلِّ كبشٍ يصادمُهْ )

من يهجى ويذكر بالشؤم
قال دِعبل بن عليّ في صالح الأفقم وكان لا يصحبُ رجلاً إلاَّ ماتَ أو قُتِل أو سقطَتْ منزلته : ( قل للأمينِ أمينِ آل محمَّدٍ ** قول امرئٍ شفقٍ عليه محامِ ) ( إيَّاك أن تُغترَّ عنك صنيعة ** في صالحِ بن عطيَّة الحجّامِ ) ( ليس الصَّنائعُ عندَه بصنائعٍ ** لكنهنَّ طوائلُ الإسلام ) ( اضربْ به نحرَ العدوِّ فإنَّه ** جيشٌ من الطاعون والبِرسامِ ) وقال محمد بن عبد اللّه في محمد بن عائشة : ( للِهلاليّ قتيلٌ ** أبداً في كُلِّ عامِ ) ( قَتَلَ الفضلَ بن سهلِ ** وعليَّ بنَ هشامِ ) ( وعجيفاً آخر القو ** مِ بأكناف الشآمِ )

( وغدا يطلب من يق ** تَل بالسَّيف الحُسامِ ) ( فأعَاذَ اللّهُ منه ** أحمداً خيرَ الأنام ) وقال عيسى بن زينب في الصخري وكان مشؤوماً : ( يا قوم مَنْ كان له والدٌ ** يأكلُ ما جمَّعَ مِنْ وَفْرِ ) ( فإنَّ عندي لابنهِ حيلة ** يموتُ إن أُصْحِبَهُ الصخري ) ( كأنما في كفّه مِبردٌ ** يبرُد ما طال من العُمْر )

شعر في مديح وهجاء
وقال الأعشى : ( فما إنْ على قلبه غَمرةٌ ** وما إن بعظمٍ لهُ من وَهَنْ ) وقال الكميت : ( ولم يقلْ عِنْدَ زَلَّةٍ لهمُ ** كُرُّوا المعاذيرَ إنَّما حَسبُوا ) وقال آخر : ( فلا تعذراني في الإساءةِ إنَّه ** شِرارُ الرِّجال من يسيءُ فيُعذرُ )

وقال كلثوم بن عمر العتَّابي : ( رحل الرَّجاءُ إليك مغتربا ** حُشِدتْ عليه نوائبُ الدَّهْرِ ) ( وجعلت عَتْبكَ عتْب موعظةٍ ** ورجاء عفوك مُنْتَهَى عُذْري ) وقال أعشى بكر : ( قلَّدتك الشِّعر يا سلامة ذا ** الإفضالِ والشَّيءُ حيثُ ما جُعلا ) ( والشِّعر يَسْتَنْزِلُ الكريمَ كما اسْ ** تَنْزَلَ رعْدُ السَّحابةِ السَّبَلا ) ( لو كنت ماءً عِدّاً جممتَ إذا ** ما ورَد القومَ لم تكنْ وشلا ) ( أنجَبَ آباؤه الكرامُ به ** إذْ نجلاهُ فَنِعْمَ ما نَجلا ) ( استأثَر اللّهُ بالبَقاء وبالحَمْ ** دِ ووَلَّى الملامَة الرَّجلا )

وقال الكذَّاب الحِرْمازيُّ لقومه أو لغيرهم : ( لو كنتمُ شاءً لكنتم نقدا ** أو كنتمُ ماءً لكنتم ثَمدا ) أو كنتُم قولاً لكنْتُم فَندا وقال الأعشى في الثياب : ( فعلى مثلها أزورُ بني قي ** س إذا شطَّ بالحبيبِ الفِراقُ ) ( المهينين ما لهم في زمانِ ال ** سّوءِ حتَّى إذا أفاق أفاقوا ) ( وإذا ذو الفضول ضنَّ على المو ** لى وصارتْ لخيمها الأخلاقُ ) ( أخذوا فضْلهُمْ هناكَ وقد تج ** ري على عرِقْها الكرامُ العتاقُ )

( وإذا الغيث صوبُهُ وضع القِدْ ** حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ ) ( لم يزدْهُمْ سفاهةً شُربُ الخمْ ** رِ ولا اللَّهوُ فيهمُ والسِّباقَ ) ( واضعاً في سراةِ نَجْرانَ رَحْلي ** ناعماً غير أنني مُشتاقُ ) ( في مطايَا أربابُهُنَّ عِجَالٌ ** عن ثَواءٍ وهمُّهُنَّ العِراقُ ) ( دَرْمَكٌ ُ غُدوةً لنا ونشيلٌ ُ ** وصَبُوحٌ مباكرٌ واغتباق ) ( وندامى بيضُ الوجوةِ كأنَّ الشَّ ** ربَ مِنْهُمْ مصاعِبٌ أفناقُ ) ( فيهمُ الخِصْبُ والسَّماحةُ والنجْ ** دةُ جَمْعاً والخاطِبُ المسْلاق ) ( وأبيُّون لا يُسامُون ضيْماً ** ومكيثُون والحلومُ وثاق ) ( وترى مجلساً يغصُّ به المح ** رابُ بالقَوْمِ والثِّيابُ رقاقُ )

وقال أيضاً في الثّياب : ( أزور يزيدَ وعبدَ المسيحِ ** وقيساً هُمُ خيرُ أربابها ) ( وكعبة نَجْران حتم علي ** كِ حتّى تُناخِي بأبوابها ) ( إذا الحِبراتُ تلوّتْ بهِم ** وجرُّوا أسافلَ هُدَّابها ) ( أُسَيْلم ذاكمُ لا خفا بمكانه ** لعينٍ تُرَجِّي أو لأذن تَسَمَّعُ ) ( من النَّفرِ البيض الذين إذا انْتَمَوْا ** وهابَ الرِّجال حَلقةَ البابِ قَعْقعوا ) ( جلا الأذفر الأحوى من الْمسك فرقه ** وطيب الدِّهانِ رأسه فهو أنْزَع ) ( إذا النَّفر السُّود اليمانون حاولوا ** له حوك برديْهِ أجادُوا وأوسعوا ) وقال كثيّر : ( يجرِّر سِرْبالاً عليه كأنّه ** سبيُّ هلالٍ لم تفتق شرانقه ) وقال الجعدي :

( أتاني نصرهمْ وَهمُ بَعِيدٌ ** بِلادُهمُ بأرضِ الخيْزُرانِ ) يريد أرض الخصب والأغصانِ اللَّيِّنةِ .
وقال الشاعر : ( في كفِّهِ خَيْزُرانٌ ريحها عبِقٌ ** بكفِّ أرْوَع في عِرنينه شمم ) لأن الملك لا يختصرُ إلاَّ بِعُودِ لدْنٍ ناعِمٍ وقال آخر : ( تجاوبُها أخرى على خيْزُرانةٍ ** يكاد يدنيها من الأرض لينها )

عين الرضا وعين السخط
وقال آخر : وقال المسَيَّبُ بن علس : ( قِصار الهمِّ إلاَّ في صديق ** كأنَّ وِطابَهُمْ مُوشى الضِّبابِ ) ( عين الرضا وعين السخط ) وقال المسيب بن علس : ( تامتْ فؤادك إذ عرضْتَ لها ** حَسَنٌ برأي العين ما تمِقُ ) وقال ابن أبي ربيعة : حسنٌ في كلِّ عينٍ من تودّْ وقال عبد اللّه بن معاوية : ( وعين الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ** ولكنَّ عينَ السُّخط تُبْدي المساويا ) وقال رَوْح أبو همَّام : ( وعينُ السُّخْطِ تبصِرُ كلَّ عيبِ ** وعينُ أخي الرِّضا عن ذاكَ تَعْمى )

شعر وخبر
وقال الفرزدق : ( سؤال امرئٍ لم يُغْفِل العلم صدرُه ** وما السائل الواعي الأحاديث كالعمي ) وقيل لِدَغْفَلٍ : أنَّى لك هذا العلم قال : لسانٌ سَؤُولٌ وقلبٌ عقول وقال النابغة : ( فآبَ مُضلِوهُ بعين جليَّةٍ ** وغُودِرَ بالجوْلانِ حَزْمٌ ونائلُ )

مُضِلوه : دافنوه على حدِّ قوله تعالى : أإذا ضللنا في الأرضِ .
وقال المخبّل : ( أضلَّتْ بنو قيس بنِ سَعْدٍ عميدها ** وفارسها في الدَّهْرِ قيس بن عاصمِ ) قوال زهيرٌ أو غيره في سِنانِ بن أبي حارثة : ( إن الرَّزيَّة لا رزِيَّةَ مثلها ** ما تبتغي غطفانُ يومَ أضَلَّتِ ) ولذلك زعم بعضُ النَّاس أنّ سِنان بن أبي حارثة خَرِفَ فذهب على وجهه فلم يُوجد .

من هام على وجهه فلم يوجد
ويزعمون أنَّ ثلاثة نفرٍ هامُوا على وجُوههم فلم يُوجَدوا : طالب بن أبي طالب وسنان بن أبي حارثة ومرداس بن أبي عامر . ( وإني لأستحْيي أخي أنْ أرى له ** عليَّ من الفضْلِ الذي لا يرى ليا ) وقال امرؤ القيس : ( وهل يَعِمَنْ إلاَّ خليٌّ منَعَّمٌ ** قليلُ الهمومِ ما يبيتُ بأوجالِ ) وقال الأصمعي : هو كقولهم : استراحَ منْ لا عَقْل له .
وقال ابن أبي ربيعة :

( وأعجبها مِنْ عيشها ظِلُّ غرفةٍ ** وريَّانُ مُلْتفُّ الحدائق أخْضَرُ ) ( ووالٍ كفاها كلَّ شيءٍ يَهُمُّها ** فليستْ لشيءٍ آخِرَ اللَّيلِ تسهرُ ) ( مديح الصَّالحين والفُقهاء ) قال ابنُ الخيَّاط يمدح مالك بن أنس : ( يأبى الجوابَ فما يُراجَعُ هَيْبَةً ** والسائلونَ نَواكِسُ الأذْقان ) ( هديُ التقيَّ وعز سلطان التُّقى ** فهو المطاعُ وليس ذا سُلْطانِ ) وقال ابن الخياط في بعضهم : ( فتى لم يجالس مالكاً منْذ أنْ نشا ** ولم يقتبِسْ من علمه فهو جاهلُ ) وقال آخر : ( فأنت باللَّيل ذئبٌ لا حرِيمَ له ** وبالنَّهارِ على سمْتِ ابن سيرين ) وقال الخليل بن أحمد وذكروا عنده الحظَّ والجِدَّ فقال : أمَّا الجِدُّ

فلا أقول فيه شيئاً وأمّا الحظّ فأخزى اللّهُ الحظَّ فإنه يبلِّد الطالبَ إذا اتّكل عليه ويبعد المطلوب إليه من مذمَّةِ الطّالب .
وقال ابن شبرمة : ( لو شئت كنت ككرْز في تعبُّدِه ** أو كابنِ طارق حولَ البيت والحرم ) ( قد حالَ دونَ لذيذِ العيش خوفهما ** وسارعا في طلاب العزِّ والكرمِ ) ( لا دَرَّ دَرُّ خطوبِ الدهرِ إذْ فجعتْ ** بالأصمعيِّ لقدْ أبقتْ لنا أسفا ) ( عش ما بدا لك في الدُّنيا فلست ترى ** في الدَّهر منهُ ولا من عِلْمِهِ خلفا )
وقال الحسنُ بن هانئ في مرثية خلفٍ الأحمر : ( لو كان حيٌّ وائلاً من التَّلف ** لوألتْ شغْواءُ في أعلى الشَّعفْ ) ( أمُّ فُريخٍ أحرزَتْه في لَجف ** مُزَغَّبِ الألغادِ لم يأْكل بكفّْ )

( هاتيك أم عصماءُ في أعلى الشّرف ** تظلُّ في الطُّبَّاق والنَّزْعِ الألفّْ ) ( أودى جماعُ العلم مذ أودى خلف ** قليْذمٌ من العيالم الخسفْ ) وقال يرثيه في كلمةٍ له : ( بتُّ أعزّي الفؤاد عن خلفِ ** وبات دمْعي إلاّ يَفِض يَكِفِ ) ( أنسى الرَّزايا مَيتٌ فجعتُ به ** أضحى رهيناً للتُّربِ في جَدفِ ) ( كان يسنَّى برفْقه غلقُ ال ** أفهامِ في لا خرقِ ولا عُنفِ ) ( يجوبُ عنك التي عشيتَ لها ** حيْران حتّى يشفيك في لُطفِ )

( لا يهمُ الحاء في القراءة بالخا ** ء ولا لامها مع الألف ) ( ولا مضلاًّ سُبْلَ الكلامِ ولا ** يكون إسناده عن الصُّحُفِ ) وقال آخر في ابن شبرُمة : ( إذا سألت الناس أين المكرمهْ ** والعزُّ والجُرثومةُ المقدَّمَهْ ) ( وأين فاروقُ الأمورِ المحكمه ** تتابع النَّاسُ على ابن شُبرُمَهْ )

شعر مختار
وقال ابن عرفطة : ( ليهنيكَ بُغْض للصَّدِيق وظِنَّةٌ ** وتحديثك الشَّيْءَ الذي أنت كاذبُه ) ( وأنَّك مشنوءٌ إلى كلِّ صاحبٍ ** بلاك ومثل الشر يكره جانبُهْ ) ( وإنّك مهداءُ الخنا نَطِف النّثا ** شديد السِّبابِ رافعُ الصّوتِ غالبُه )

وقال النّابغة الجعدي : ( أبى لي البلاءُ وأنِّي امرؤٌ ** إذا ما تبَيَّنت لم أرْتب ) وليس يريد أنّه في حال تبيُّنُه غير مُرتاب وإنَّما يعني أنّ بصيرته لا تتغيّر .
وقال ابنُ الجهم ذات يوم : أنا لا أشكُّ قال له المكيُّ : وأنا لا أكاد أوقن وقال طرفة : ( وتقصيرُ يوم الدَّجنِ والدّجن معجب ** ببهكنةٍ تحت الخباء الممدَّدِ ) ( أرى قبر نحَّامٍ بخيلِ بماله ** كقبْرِ غويٍّ في البطالةِ مُفْسِدِ ) ( لعمرُك إنَّ الموت ما أخطأ الفتى ** لكالطَّولِ المُرْخى وثنْياه باليد ) ( أرى الموت أعداد النُّفوس ولا أرى ** بعيداً غداً ما أقرب اليومَ من غد )

( وظلْم ذوي القربى أشد مضاضة ** على المرْءِ من وقع الحسامِ المهنَّد ) ( وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجرٌ ** إذا خطرَتْ أيدي الرِّجالِ بمشهد )

الجعلان والخنافس
وسنقولُ في هذه المحقرات من حشرات الأرض وفي المذكور من بغاث الطّير وخشاشه مِمَّا يقتات العذِرة ويُوصف باللؤم ويُتَقزَّزُ من لمسه وأكلِ لحمه كالخنفساء والجعل والهداهِدِ والرَّخم فإنَّ هذه الأجناس أطلبُ للعذرة من الخنازير .
فأوَّل ما نَذْكُر من أعاجيبها صداقةُ ما بين الخنافس والعقارب وصداقة ما بين الحيّات والوزَغ وتزعمُ الأعراب أنّ بين ذكورةِ الخنافس وإناث الجعلان تسافداً وأنهما ينتجان خلقاً ينزع إليهما جميعاً .


وأنشد خَشْنامُ الأعور النحويُّ عن سيبويه النَّحويّ عن بعض الأعراب في هِجائهِ عدوّاً له كان شديد السَّواد : ( عاديتنا يا خُنْفساً كامُ جُعلْ ** عداوة الأوعالِ حيَّاتِ الجبَلْ ) ( من كلّ عوْدٍ مُرهَفِ النّابِ عُتُلّْ ** يخْرِقُ إنْ مسّ وإنْ شمّ قَتَلْ ) ويثبت أكل الأوعال للحيّات الشِّعرُ المشهور الذي في أيدي أصحابنا وهو : ( عَلَّ زيداً أن يُلاقي مَرَّةً ** في التماسٍ بعضَ حيَّاتِ الجبلْ ) ( يتوارى في صُدوعٍ مرَّة ** رَبِذُى الخطْفةِ كالقِدحِ المُؤلْ ) ( وترى السمّ على أشداقه ** كشعاع الشّمسِ لاحتْ في طَفَلْ ) ( طرد الأرْوى فما تقربُهُ ** ونفى الحيَّاتِ عن بيضِ الحَجَلْ )

وإنما ذكر الأروى من بين جميع ما يسكن الجبال من أصناف الوحش لأنَّ الأروى من بينها تأكلُ الحيّات للعداوة التي بينها وبين الحيّات .

استطراد لغوي
والأرْوى : إناث الأوعال واحدتها أُرويّة والناس يُسمُّون بناتِهم باسم الجماعة ولا يسمُّون البنت الواحدة باسم الواحدة منها : لا يسمُّون بأرويَّة ويسمُّون بأرْوى وقال شماخ بن ضِرار : ( فما أرْوى وإنْ كرُمتْ علينا ** بأدنى من مُوقَّفةٍ حَرُونِ ) وأنشد أبو زيدٍ في جماعة الأوريّة : ( فما لك من أرْوى تعاديت بالعمى ** ولاقيتِ كلاباً مُطلاًّ وراميا ) يقال : تعادى القومُ وتفاقدوا : إذا مات بعضهم على إثر بعض . )
وقالت في ذلك ضباعةُ بنت قُرْط في مرثية زوجها هشام بن المغيرة :

( سقط : بيت الشعر ) ( إن أبا عثمان لم أنسه ** وإن صمتا عن بكاء لحوب ) ( تفاقَدُوا من معشرٍ ما لهمْ ** أيَّ ذنوب صوّبوا في القليبْ ) ( طلب الحيّات البيض ) وأما قوله : ونفى الحيَّاتِ عنْ بيْضِ الحجل فإنَّ الحيّات تطلبُ بيض كلِّ طائر وفراخه وبيضُ كلِّ طائرٍ مما يبيض على الأرض أحبُّ إليها فما أعرف لذلك عِلَّةً إلا سهولة المطْلب .
والأيائل تأكل الحيَّاتِ والخنازيرُ تأْكل الحيَّاتِ وتعاديها .

عداوة الحمار للغراب
وزعم صاحبُ المنطق أن بين الحمار والغراب عداوة وأنشدني بعضُ النحويِّين : ( عاديتنا لا زِلْتَ في تبابِ ** عَدَاوَة الحمارِ للغُرابِ )

وأنشد ابنُ أبي كريمة لبعض الشُّعراء في صريع الغواني : ( فما ريحُ السَّذابِ أشدَّ بُغْضاً ** إلى الحيَّاتِ منك إلى الغواني )

أمثال
والفساء يُوصف بن ضربان من الخَلْق : الخنفساء والظَّرِبان .
وفي لجاج الخنفساء يقولُ خلفٌ الأحمر : ( لنا صاحبٌ مُولعٌ بالخلافِ ** كثيرُ الخطاءِ قليلُ الصّوابِ ) ( ألجُّ لجاجاً من الخنفساء ** وأزْهى إذا ما مشى منْ غرابِ )
طول ذماء الخنفساء
وقال الرقاشي : ذكرت صبر الخنزير على نفوذ السهام في جنبه فقال لي أعرابيٌّ : الخنفساء أصبر منه ولقد رأيت صبيّاً من صبيانكم البارحة

وأخذ شوكة وجعل في رأسها فتيلةً ثمَّ أوقد نهاراً ثمَّ غرزها في ظهر الخنفساء حتَّى أنفذ الشَّوْكة فغبرْنا ليلتنا وإنَّها لتجولُ في الدّارِ وتُصبِح لنا واللّهِ إنِّي لأظنها كانتْ مُقْرِباً لانتفاخ بطنها .
قال : وقال القنانيُّ : العَوَاساء : الحامل من الخنافس وأنشد : بكْراً عواساءَ تفاسا مُقْرِبا

أعاجيب الجعل
قال : ومن أعاجيب الجعل أنَّه يموت من ريح الورد ويعيش إذا أعيد إلى الرَّوث ويضرب بشدَّة ( مُهَرّت الأشداق عود قد كَمَلْ ** كأنَّما قُمِّص من لِيطِ جُعَلْ ) والجعل يظَلُّ دهراً لا جناحَ له ثم ينبت له جناحان كالنمل الذي يغْبُر دهراً لا جناح له ثم ينْبت له جناحان وذلك عند هَلَكَتِه .
تطورالدعاميص
والدّعاميص قد تغبر حيناً بلا أجنحة ثم تصير فراشاً وبعوضاً وليس كذلك الجراد والذِّبَّان لأنَّ أجنحتها تنبت على مقدار من العمر ومرور من الأيام .


وزعم ثمامة عن يحيى بن خالد : أنَّ البرغوث قد يستحيل بعوضة .

عادة الجعل
والجعل يحرسُ النّى ام فكلما قام منهم قائمٌ فمضى لحاجته تبِعه طمعاً في أنَّه إنَّما يريد الغائط وأنشد بعضهم قول الشاعر : ( يبيتُ في مجلس الأقوامِ يرْبؤُهم ** كأنَّه شرطيٌّ باتَ في حَرَسِ ) وأنشد بعضهم لبعض الأعراب في هجائه رجلاً بالفسولة وبكثرة الأكل وبعظم حَجْم النَّجو : ( حتَّى إذا أضحى تدرَّى واكتحل ** لجارَتيه ثمَّ ولَّى فَنثلْ )

سمى القرنبي والجعل إذ كانا يقتاتان الزِّبل أنُوقين والأنوق : الرَّخمة وهي أحد ما يقتات العذرة وقال الأعشى : ( يا رَخماً قاظ على يَنْخوب ** يُعْجِلُ كفَّ الخارئ المُطيبِ ) المطيب : الذي يستطيب بالحجارة أي يتمسَّح بها وهم يسمُّون بالأنوق كلَّ شيءٍ يقتات النّجْو والزِّبل إلاَّ أنّ ذلك على التشبيه لها بالرّخم في هذا المعنى وحدهُ وقال آخر : ( يا أيهذا النّابحي نَبْحَ القَبَلْ ** يدعُو عليَّ كلما قام يُصَلّ ) ( رافعَ كفَّيهِ كما يفري الجُعلْ ** وقد ملأتُ بطْنه حتى أتل ) غيظاً فأمسى ضغْنُه قد اعتدل والقبل : ما أقبل عليك من الجبل وقوله أتل أي امتلأ عليك غيْظاً فقصّر في مشيِته وقال الجعديّ : ( منعَ الغدر فلم أهممْ به ** وأخُو الغَدْر إذا هَمَّ فعلْ ) ( خشيةُ اللّه وأنِّي رجلٌ ** إنما ذكري كنار بقَبَلْ )

وقال الرَّاجز وهو يهجو بعضهم بالفُسولة وبكثرة الأكل وعِظَم حجْم النَّجْو : باتَ يعشِّي وحْده ألْفي جُعَل ( إذا لاقيتَ جمع بني أبان ** فإني لائمٌ للجعْدِ لاحي ) ( كسوتُ الجعد جَعْد بني أبان ** ردائي بعد عُرْيٍ وافتضاحِ ) ثم شبَّهه بالجعل فقال : ( كأنَّ مؤشر العضديْنِ جَحْلاً ** هُدوجاً بين أقلبةٍ مِلاحِ ) ( تضمن نعمتي فغدا عليها ** بُكوراً أو تهجَّر في الرَّواحِ )
وقال الشمَّاخ : ( وإن يُلقيا شأواً بأرْضٍ هوى له ** مفرّضُ أطراف الذِّراعينِ أفلجِ )

استطراد لغوي والشأو هاهنا : الرَّوث كأنَه كثره حتَّى ألحقه بالشأو الذي يخرج من البئر كما يقول أحدهم إذا أراد أن يُنْقي البئر : أخرِجْ من تلك البئُر شأْواً أو شأْوين يعني من التراب الذي قد سقط فيها وهو شيءٌ كهيئة الزَّبيل الصَّغير .
والشاو : الطِّلْق والشأو : الفَوْت .
والمفرّض الأفلج الذي عنى هو الجعل لأنَّ الجعل في قوائمه تحزيز وفيها تَفْريج .

معرفة في الجعل
وللجعل جناحان لا يكادان يُريانِ إلاَّ عند الطَّيران لشَّدة سوادهما وشبههما بجلده ولشِدّة تمكنهما في ظهره .
قال الشاعر حيثُ عدّد الخَوَنَة وحثَّ الأمير على محاسبتهم : ( واشدُدْ يديك بزيْدٍ إن ظفِرْت به ** واشْفِ الأرامل من دُحروجة الجُعلِ ) والجعل لا يدحرج إلاّ جعراً يابساً أو بعرة .
وقال سعد بن طريف يهجو بلال بن رباح مولى أبي بكر : ( وذاك أسودُ نوبيٌّ له ذفرٌ ** كأنَّه جُعلٌ يمشي بِقِرْواحِ ) وسنذكر شأْنه وشأْن بلالٍ في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى .

أبو الخنافس وأبو العقارب
وكان بالكوفة رجلٌ من ولد عبد الجبّار بن وائل بن حُجْر الحضرميّ يكنى أبا الخنافس راضياً بذلك ولم تكن الكنية لقباً ولا نَبزاً وكان من الفُقهاء وله هيئة ورواءٌ وسألته : هل كان في آبائه من يكنى أبا الخنافس فإن أبا العقارب في آل سلم مولى بني العباس كثيرٌ على اتّباع أثر وكان أبو الخنافس هذا اكتنى به ابتداءً .
وقال لي أبو الفضل العنبريّ : يقولون : الضّبُّ أطول شيءٍ ذماء والخنفساء أطول منه ذماء وذلك أنه يُغرز في ظهرها شوكةٌ ثاقبة وفيها ذبالةٌ تستوقدُ وتُصْبِحُ لأهل الدّار وهي تدِبُّ بها

وتجول وربما كانت في تضاعيف حبل قتٍّ أو في بعض الحشيش والعُشب والخلا فتصيرُ في فم الجمل فيبتلعها من غير أن يضْغم الخنفساء فإذا وصلت إلى جوفه وهي حيَّةٌ جالت فيه فلا تموت حتى تقتله .
فأصحاب الإبل يتعاورون تلك الأواريّ والعلوفاتِ خوفاً من الخنافس .
هجاء جواس لحسَّان بن بحدل وقال جَوّاس بن القعْطل في حسَّان بن بَحْدل : ( هل يُهلكنِّي لا أبالكم ** دَنِسُ الثيابِ كطابخِ القدْرِ ) ( جُعلٌ تمطَّى في عمايته ** زَمِرُ المروءةِ ناقصُ الشَّبْر ) ( لزبابَةٍ سوداء حنظلةٍ ** والعاجز التَّدبير كالوَبْرِ )

فأمَّا الهجاء والمدح ومفاخرة السُّودان و الحمران فإنَّ ذلك كلَّه مجموعٌ في كتاب الهجناء والصُّرحاء .
وقد قدّمنا في صدر هذا الكتاب جملةً في القول في الجعْلانِ وغيرِ ذلك من الأجناس اللئيمة

الهدهد
وأما القول في الهدهد فإنَّ العرب والأعراب كانوا يزعمون أنَّ القنزعة التي على رأسه ثوابٌ من اللّه تعالى على ما كان من بِرِّه لأُمِّه لأنَّ أمَّه لما ماتتْ جعل قبرها على رأسه فهذه القنزعة عوضٌ عن تلك الوَهْدة .
والهدهد طائرٌ مُنتن الريحِ والبدن من جوهره وذاته فربَّ شيءٍ يكونُ مُنتِناً من نفسه من غيرِ عرَض يعرِضُ له كالتيوس والحيّاتِ وغير ذلك من أجناس الحيوان .
فأمَّا الأعراب فيجعلون ذلك النَّتْنَ شيئاً خامره بسبب تلك الجيفةِِ

التي كانت مدفونةً في رأسه وقد قال في ذلك أميَّة أو غيرُه من شعرائهم فأمَّا أميَّة فهو الذي يقول : ( تعَلمْ بأنَّ اللّه ليس كصنُعْهِ ** صنيعٌ ولا يخفى على اللّه مُلحِدُ ) ( وبكلِّ منكرةٍ لهُ مَعْرُوفة ** أخرى على عينٍ بما يتعمَّدُ ) ( جُددٌ وتوشيم ورسمُ علامةٍ ** وخزائنٌ مفتوحة لا تنفدُ ) ( عمن أراد بها وجاب عِيانَه ** لا يستقيم لخالق يتزيَّد ) ( غيم وظلماء وغيث سحابةٍ ** أزْمانَ كفَّنَ واسترادَ الهدهُدُ ) ( مَهداً وطيئاً فاستقلَّ بحمْلهِ ** في الطَّيرِ يحملها ولا يتأوَّد ) ( من أمِّهِ فجُزي بصالحِ حملها ** ولدًا وكلف ظهره ما تفقد ) ( فتراه يدْلحُ ما مشى بجنازةٍ ** فيها وما اختلف الجديد المسند )

معرفة الهدهد بمواضع المياه
ويزعمون أنَّ الهدهد هو الذي كان يدلُّ سليمان عليه السلام على مواضع المياه في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها .
سؤال ومثل في الهدهد
ويروُون أنّ نجْدة الحرُوريَّ أو نافع بن الأزرق قال لابن عباس : إنّك تقول إنَّ الهدهدُ إذا نقر الأرض عرف مسافة ما بينه وبين الماء والهدهُد لا يُبْصر الفخَّ دُوَين التراب حتى إذا نقر التّمْرة انضمّ عليه

الفخُّ فقال : ابنُ عبَّاس إذا جاء القدرُ عمي البصرُ .
ومن أمثالهم : إذا جاء الحينُ غطّى العين .
وابن عباسٍ إن كان قال ذلك فإنّما عنى هدهُد سليمان عليه السلام بعينه فإنَّ القول فيه خلافُ القولِ في سائر الهداهد .
وقد قال الناس في هُدهُد سُليمان وغرابِ نوح وحِمار عُزير وذئبِ أُهبان بن أوس وغير ذلك من هذا الفنّ أقاويل وسنقول في ذلك بجملةٍ من القول في موضعه إن شاء اللّه .

بيت الهدهد
وقد قال صاحبُ المنطق وزعم في كتاب الحيوان أنَّ لكلِّ طائرٍ يعشِّش شكلاً يتخذ عشَّه منه فيختلف ذلك على قدر اختلاف المواضع

وعلى قدر اختلاف صور تلك القراميص والأفاحيص وزعم أنَّ الهدهُد من بينها يطلب الزِّبل حتّى إذا وجده نقل منه كما تنقل الأَرضَةُ من التّراب ويبني منه بيتاً كما تبني الأرضة ويضع جُزءاً على جُزْء فإذا طال مُكثه في ذلك البيت وفيه أيضاً ولد أو في مثله وتربّى ريشه وبدنه بتلك الرائحة فأخلِقْ به أيضاً أن يُورث ابنه النَّتْن الذي عَلِقه كما أورث جدُّهُ أباه وكما أوْرثه أبوه قال : ولذلك يكون منتِناً .
وهذا وجهُ أنْ كان معلوماً أنّه لا يتَّخِذ عشَّه إلاّ من الزِّبل .
فأمَّا ناسٌ كثير فيزعمون أن رُبَّ بدنٍ يكونُ طيب الرَّائحة كفأرة المسك التي ربما كانت في البيوت ومن ذلك ما يكونُ مُنْتِنَ البَدنِ كالذي يحكى عن الحيَّاتِ والأفاعي والثَّعابين ويوجدُ عليه التُّيوس .

اغتيولس
وذكر صاحب المنطق أنَّ الطير الكبير الذي يسمى باليونانية اغتيولس يحكم عُشَّه ويتقنُه ويجعله مستديراً مُداخلاً كأنَّه كرة معمولة وروى أنَّهم يزعمون أنَّ هذا الطائر يجلب الدّارصينيَّ )
من موضعه فيفْرشُ به عشَّه ولا يعشِّش إلاّ في أعالي الشّجَر المرتفعة المواضع قال : وربّما عمد الناسُ إلى سهامٍ يشدُّون عليها رصاصاً ثمَّ يرمون بها أعشتها فيسقط عليهم الدّارصينيُّ فيلتقطونه ويأخذونه .
من زعم البحريين في الطير ويزعمُ البحْريُّون أنَّ طائرين يكونان ببلاد السُّفالة أحدُهما يظهر قبل قُدوم السفن إليهم وقبل أن يُمكِنَ البحرَ من نفسه لخروجهم في متاجرِهم فيقول الطائر : قرب آمَدْ فيعلمون بذلك أنَّ الوقت قدْ دنا وأنْ الإمكان قد قرب .


قالوا : ويجيء بهِ طائرٌ آخر وشكل آخر فيقول : سمارو وذلك في وقت رجوع من قد غاب منهم فيسمُّون هذين الجنسين من الطير : قرب وسمارو كأنَّهم سمَّوهما بقولهما وتقطيع أصواتهما كما سمَّت العربُ ضرباً من الطَّير القطا لأن القطا كذلك تصيح وتقطيع أصواتها قطا وكما سمَّوا الببغاء بتقطيع الصَّوتِ الذي ظهر منه .
فيزعم أهل البحر أنّ ذينك الطائرين لا يطير أحدهما أبداً إلاّ في إناث وأنّ الآخر لا يطير أبداً إلاّ

وفاء الشفنين
وزعم لي بعضُ الأطباء ممن أصدّق خبره أنّ الشِّفنين إذا هلكت أنثاه لم يتزوَّج وإن طال عليه التعزُّب وإن هاج سفد ولم يطلب الزواج .

من عجائب الطير
وحكوا أنَّ عندهم طائرين أحدهما وافي الجناحين وهو لم يطِرْ قطّ والآخر وافي الجناحين ولكنه من لدُنْ ينهض للطَّيرانِ فلا يزالُ يطيرُ ويقتات من الفراش وأشباه الفراش وأنَّه لا يسقط إلاَّ ميِّتاً إلاَّ أنهم ذكروا أنه قصير العمر .
كلام في قول أرسطو ولست أدفع خبر صاحب المنطق عن صاحب الدارصيني وإن كنت لا أعرف الوجه في أنَّ طائراً ينهض من وكره في الجبال أو بفارس أو باليمن فيؤمُّ ويعمد نحو بلاد الدارصيني وهو لم يجاوز موضعه ولا قرب منه وليس يخلو هذا الطائر من أن يكون من الأوابد أو من القواطع وإنْ كان من القواطع فكيف يقطع الصَّحصحان الأملس

وبطون الأوْديةِ وأهضامَ الجبال بالتّدويم في الأجواء وبالمضيِّ على السَّمت لطلب ما لم يرَهُ ولم يشمُّه ولم يذقْه وأخرى فإنّه لا يجلب منه بمنقاره ورجليه ما يصير فِراشاً له ومهاداً إلا بالاختلاف الطويل وبعد فإنّه ليس بالوطيء الوثير ولا هو له بطعام .
فأنا وإن كنت لا أعرفُ العلَّة بعينها فلست أنكر الأمور من هذه الجهة فاذكرْ هذا .

قول أبي الشيص في الهدهد
وقال أبو الشِّيص في الهدهد : ( لا تأمننَّ على سِرِّي وسِرِّكمُ ** غيري وغيْرك أو طيِّ القراطيسِ ) ( أو طائر سأحَلِّيهِ وأنعته ** ما زال صاحبَ تنقير وتدسيسِ )

( سودٍ براثِنه ميلٍ ذوائبُه ** صُفر حمالِقه في الحسنِ مَغمُوس ) ( قد كان همَّ سليمانٌ ليذبحه ** لولا سِعايته في ملك بلقيس ) وقد قدَّمنا في هذا الكتاب في تضاعيفه عدَّة مقطَّعات في أخبار الهدهُد .

الرخم
و يقال : إنّ لئامَ الطير ثلاثة : الغِربانُ والبُوم والرَّخَم
أسطورة الرخم
ويقال : إنّه قيل للرَّخمة : ما أحمقك قالت : وما حُمْقي وأنا أقطعُ في أوّلِ القواطع وأرْجِع في أوَّلِ الرَّواجِع ولا أطير في التَّحسير

ولا أغتر بالشَّكير ولا أسقط على الجفِير .
وقد ذكرْنا تفسير هذا وقال الكميت : ( إذْ قيل يا رَخَمَ انطقي ** في الطَّير إنّك شرُّ طائرْ ) بعض الملوك العجم والجلندي الزدي وقال أبو الحسن المدائني : أمَر بعضُ ملوك العجم الجُلنْدي بنَ عبد العزيز الأزديَّ وكان يقال له في الجاهلية عرجدة فقال له : صِد لي شرَّ الطير واشوه بشرِّ الحطب وأطعِمْه شرَّ الناس فصاد رخمةً وشواها ببَعْر وقرَّبها إلى خوزيّ فقال له الخوزيُّ : أخطأت

في كلِّ شيء أمرك بهِ الملك : ليس الرَّخمةُ شرَّ الطير وليس البعرةُ شرَّ الحطب وليس الخوزيُّ شرّ الناس ولكن اذهب فصِد بومة واشوها بدفلى وأطعمها نبطيّاً ولدَ زِنى ففعل وأتى الملك فأخبره فقال : ليس يُحْتاج

الغراب والرخمة
والغراب يقوَى على الرَّخمة والرخمة أعظم من الغراب وأشدُّ والرَّخمة تلتمس لبيضها المواضعَ البعيدة والأماكنَ الوحشيَّة والجبالَ الشامخة وصُدوعَ الصَّخر فلذلك يقالُ في بيضِ الأنوقِ ما يقال .
ما قيل في بيض الأنوقِ وقال عُتبة بن شمّاس : ( إنَّ أولى بالحقِّ في كلِّ حقٍّ ** ثمَّ أولى أنْ يكون حقيقَا )

( منْ أبوهُ عبد العزيزِ بنُ مروا ** نَ ومنْ كانَ جدُّهُ الفارُوقا ) ( ردَّ أموالنا عليْنا وكانتْ ** في ذُرى شاهقٍ تفُوت الأنوقا ) وطلب رجلٌ من أهل الشام الفريضة من معاوية فجاد له بها فسأل لولدِه فأبى فسأله لعشيرته فقال معاوية : ( طلب الأبْلقَ العقوق فلمّا ** لمْ يجدْهُ أراد بيضَ الأنُوق ) وليس يكون العَقُوق إلاَّ من الإناث فإذا كانت من البُلق كانت بلقاء وإنما هذا كقولهم : زَلَّ في

وقد يرون بيض الأنوق ولكنَّ ذلك قليلاً ما يكون وأقلَّ من القليل لأنَّ بيضها في المواضع الممتنعة وليست فيها منافع فيتعرض في طلبها للمكروة .
وأنا أظنُّ أن معاوية لم يقل كما قالوا : ولكنَّهُ قدم في اللّفظ بيض الأنوق فقال : طلب بيض الأنوق فلما لم يجدْه طلب الأبلق العقوق .
ما يسمَّى بالهدهد وأمَّا قول ابن أحمر : ( يمشي بأوظفةٍ شديدٍ أسْرُها ** شمِّ السنابك لا تقي بالجدجد ) ( إذ صبَّحته طاوياً ذا شِرَّةٍ ** وفؤادُه زجلٌ كعزْفِ الهدهد )

فقد يكون ألاّ يكون عنى بهذا الهدهد لأنَّ ذكورة الحمام وكلَّ شيء غنّى من الطير وهدر ودعا فهو هُدهد ومن روى كعَزْفِ الهدهدِ فليس من هذا في شيء .
وقد قال الشاعر في صفة الحمام : ( وإذا اسْتشرنَ أرنَّ فيها هدهدٌ ** مِثْلُ المداكِ خضبته بجسادِ )
قصة في ميل بعض النساء إلى المال وخطب رجلٌ جميلٌ امرأةً وخطبها معه رجل دميم فتزوجت الدَّميم لماله وتركته فقال :

( سقط : بيت الشعر ) ( ألا يا عباد الله ما تأمرونني ** بأحسن من صلى وأقبحهم بعلا ) ( يدِبُّ على أحشائها كلَّ ليلة ** دبيبَ القَرنْبى بات يقرو نقاً سَهْلا )

ما يطلب العذرة
والأجناس التي تريد العذِرة وتطلبها كثيرة كالخنازير والدَّجاج والكلاب والجراد وغير ذلك ولكنها لا تبلغ مبلغ الجُعل والرّخمة .
بعض ما يأكل الأعراب من الحيوان وقال ابن أبي كريمة : كنتُ عند أبي مالك عمرِو بن كِرْكِرة وعنده أعرابيٌّ فجرى ذكر القرنْبى قال : فقلت له : أتعرف القرنْبى

قال : وما لي لا أعرف القرنبى فو اللّه لربّما لم يكن غدائي إلاّ القرنبى يُحسْحسُ لي قال : فقلت له : إنها دويْبّة تأكل العذرة قال : ودجاجكم تأكل العذرة .
وقال : قال بعض المدنيِّين لبعض الأعراب : أتأكلون الحيّاتِ والعقاربَ والجعْلان والخنافس فقال : نأكل كلَّ شيء إلاّ أمَّ حُبين قال : فقال المدنيّ : لتَهْنِ أمَّ الحبينِ العافية .
قال : وحدثنا ابن جريجٍ عن ابن شهاب عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : من الدوابِّ أربعٌ لا يُقْتلن : النملة والنَّحلة والصُّرَد والهدهُد .

الخفاش
فأوّل ذلك أنَّ الخفّاش طائر وهو مع أنّه طائرٌ من عَرَضِ الطير فإنّه شديد الطَّيران كثير التكفّي في الهواء سريع التقلُّب فيه ولا

يجوز أن يكون طُعمه إلا من البعوض وقوتُه إلا من الفراشِ وأشباه الفراش ثمَّ لا يصيده إلاّ في وقت طيرانه في الهواء وفي وقت سلطانه لأنَّ البعوض إنَّما يتسلط بالليل ولا يجوز أن يبلغ ذلك إلاّ بسرعة اختطافٍ واختلاس وشدّةِ طيران ولين أعطاف وشدّة متن وحسن تأتٍّ ورفقٍ في الصّيد وهو مع ذلك كلِّه ليس بذي ريش وإنما هو لحم وجلد فطيرانه بلا ريش عجب وكلما كان أشدَّ كان أعجب .

من أعاجيب الخفاش
ومن أعاجيبه أنّه لا يطير في ضوءٍ ولا في ظلمة وهو طائر ضعيفُ قُوَى البصرِ قليلُ شعاعِ العين الفاصِلِ من النَّاظر ولذلك لا يظهر في الظُّلمة لأنّها تكون غامرة لضياء بصره غالبةً لمقدار قوى شعاع ناظره ولا يظهر نهاراً لأنَّ بصره لِضعف ناظره يلتمع في شدة بياض النهار ولأنَّ الشيء المتلألئ ضارُّ لعيونِ الموصوفين بحدَّة البصر

ولأن شعاع الشمس بمخالفة مخرج أصوله وذهابه يكون رادعاً لشعاع ناظره ومفرِّقاً له فهو لا يبصر ليلاً ولا نهاراً فلما علم ذلك واحتاج إلى الكسب والطُّعم التمس الوقت الذي لا يكون فيه من الظلام ما يكون غامراً قاهراً وعالياً غالباً ولا من الضِّياء ما يكون مُعْشياً رادعاً ومفرِّقاً قامِعاً فالتمس ذلك في وقت غروب القُرص وبقيّةِ الشّفق لأنّه وقت هيْج البعوض وأشباه البعوض وارتفاعها في الهواء ووقت انتشارها في طلب أرزاقها فالبعوض يخرج للطعم وطعمه دماء الحيوان وتخرج الخفافيش لطلب الطعم فيقع طالبُ رزق على طالب رزق فيصير ذلك هو رزقه وهذا أيضاً مما جعل اللّه في الخفافيش من الأعاجيب .

علاقة الأذن بنتاج الحيوان
ويزعمون أن السُّك الآذان والممسوحة من جميع الحيوان أنها تبيضُ بيضاً وأنّ كلَّ أشرف الآذان فهو يلد ولا يبيض ولا ندْري لم كان الحيوان إذا كان أشرفُ الآذان ولد وإذا كان ممسوحاً باض .
ولآذان الخفافيش حجمٌ ظاهر وشخوص بيِّن وهي وإن كانت من الطير فإنَّ هذا لها وهي تحبل وتلد وتحيض وترضع .
ما يحيض من الحيوان
وقد زعم صاحب المنطق أنَّ ذوات الأربع كلَّها تحيضُ على اختلافٍ في القلَّة والكثرة

والزّمان والحمرة والصفرة والرقّة والغلظ قال : ويبلغ من ضنِّ أنثى الخفافيش بولدها ومن خوفها عليه أنها تحمله تحت جناحها وربّما قبضت عليه بفيها وربّما أرضعته وهي تطير وتقوى من ذلك ويقوى ولدُها على ما لا يقوى عليه الحمام والشَّاهْمرْك وسباع الطير .

معارف في الخفاش
وقال معمرٌ أبو الأشعث : ربَّما أتأمتِ الخفافيشُ فتحمل معها الولدين جميعاً فإنْ عظُما عاقبتْ بينهما .
والخفّاش من الطير وليس له منقار مخروط وله فمٌ فيما بين مناسر السِّباع وأفواه البوم وفيه أسنانٌ حداد صلاب مرصوفة من أطراف الحنك إلى أصول الفك إلاّ ما كان في نفس الخطم وإذا قبضتْ على الفرخ وعضتْ عليه لتطير به عرفت ذَرَب أسنانها فعرفت أي نوعٍ ينبغي أن يكون ذلك العض فتجعله أزْماً

ولا تجعله عضّاً ولا تنْيِيباً ولا ضَغْماً كما تفعل الهرَّة بولدها فإنّها مع ذربِ أنيابها وحدَّة أظفارِها ودِقَّتها لا تخدش لها جلداً إلا أنها تُمْسِكها ضرباً من الإمساك وتأزم عليها ضرباً من الأزم قد عَرفته .
وقد نرى الطَّائر يغوص في الماء نهاره ثم يخرج منه كالشَّعرة سَلَلْتها من العيجن غير مبتلِّ الرِّيش ولا لثقِ الجناحين ولو أنَّ أرفق الناس رِفقاً راهن على أن يغمس طائراً منها في الماء غمسةً واحدة ثمّ خلَّى سِربه ليكون هو الخارج منه لخرج وهو متعجِّن الريش مُفْسد النظم منقوضُ التأليف ولكان أجود ما يكون طيراناً أن يكون كالجادفِ فهذا أيضاً من أعاجيب الخفاش . )

من أعاجيب الخفافيش
ومن أعاجيبها تركها ذرى الجبال وبسيط الفيافي وأقلاب النخل وأعالي الأغصان ودَغل الغياض والرياض وصُدوع الصّخر وجزائر البحر ومجيئها تطلب مساكن الناس وقربهم ثم إذا صارت إلى بيوتهم وقربهم قصدت إلى أرفع مكان وأحصنه وإلى أبعد المواضع من مواضع الاجتياز وأعرض الحوائج .
طول عمر الخفاش
ثمَّ الخفّاشُ بعد ذلك من الحيوان الموصوف بطول العمر حتى يجوز في ذلك العُقابَ والورشان إلى النسر ويجوز حد الفِيَلة والأُسْد وحَميرِ الوحش إلى أعمار الحيّات .


ومن أعاجيب الخفافيش أنّ أبصارها تصلح على طول العمر ولها صبرٌ على طول فقد الطُّعم فيقال إنّ اللواتي يظهرن في القمر من الخفافيش المسنّاتُ المعمَّرات وإنّ أولادهن إذا بلغن لم تقو أبصارهُنَّ على ضياء القمر .
ومن أعاجيبها أنها تضخم وتجسم وتقبل الشّحم على الكبر وعلى السنّ .

القدرة التناسلية لدى بعض الحيوان
وقد زعم صاحبُ المنطق أنَّ الكلاب السلوقيَّة كلما دخلتْ في السنِّ كان أقوى لها على المعاظلة .
وهذا غريبٌ جداً وقد علمنا أنّ الغلام أحدُّ ما يكون وأشبقُ وأنكحُ وأحرصُ عند أوّل بلوغه ثم لا يزالُ كذلك حتى يقطعه الكبر أو إصفاء أو تعرض له آفة .
ولا تزال الجاريةُ من لدُنْ إدراكها وبلوغِها وحركة شهوتها على شبيه بمقدارٍ واحد من ضعف الإرادة وكذلك عامَّتهنَّ فإذا اكتهلن

وبلغت المرأة حدّ النَّصَف فعند ذلك يقوى عليها سلطانُ الشَّهوةِ والحرص على الباهِ فإنما تهيج الكهلة عند سُكون هيج الكهل وعند إدبار شهوته وكلال حدِّه .
وأما قول النساء وأشباه النساء في الخفافيش فإنهم يزعمون أن الخفاش إذا عضَّ الصبي لم ينزع سنه من لحمه حتى يسمع نهيق حمار وحشيٍّ فما أنسى فزعي من سِنِّ الخفاش ووحشتي من قربه إيماناً بذلك القول إلى أن بلغت .
وللنساء وأشباه النساء في هذا وشبهه خرافاتٌ عسى أن نذكر منها شيئاً إذا بلغنا إلى موضعه )
إن شاء اللّه .

ضعف البصر لدى بعض الحيوان
ومن الطير وذوات الأربع ما يكون فاقد البصر بالليل ومنها ما يكون سيّءَ البصر فأمّا قولهم : إنَّهَ الفأرة والسنّور وأشياء أُخر أبصرُ باللَّيل فهذا باطل .


والإنسان رديء البصر باللَّيل والذي لا يبصر منهم باللَّيل تسمّيه الفرْس شبْكُور وتأويلُهُ أنَّهُ أعْمى ليْلٍ وليْسَ لهُ في لُغةِ العربِ اسم أكثَرُ من أنّه يُقالُ لمنْ لا يُبْصِرُ باللَّيل بعينه : هُدَبِد ما سمعتُ إلاّ بهذا فأمّا الأغطش فإنّه السيِّءُ البصر بالليل والنهار جميعا .
وإذا كانت المرأة مُغْرَبَةَ الْعَيْنِ فكانت رديَّة البصر قيل لها : جَهْراء وأنشد الأصمعيُّ في الشاء : ( جهراء لا تألو إذا هي أظهرتْ ** بصراً ولا مِنْ عَيْلةٍ تُغنيني )

وذكروا أنَّ الأجهر الذي لا يبصر في الشمس وقوله لا تألو أي لا تستطيع وقوله : أظهرت صارت في الظهيرة والعَيْلة : الفقر قال : يعني به شاة .
وقال يحيى بن منصور في هجاء بعض آل الصَّعِق : ( يا ليتني والمنى ليستْ بمغْنيةِ ** كيف اقتصاصك من ثأْرِ الأحابيش ) ( أتنكحون مواليهم كما فعلوا ** أمْ تغْمِضون كإغماضِ الخفافيش ) وقال أبو الشمقمق وهو مروان بن محمد : ( أنا بالأهواز محزو ** نٌ وبالبصرة داري ) ( في بني سعدٍ وسعد ** حيث أهلي وقراري ) ( صرت كالخفاش لا أُبْ ** صِرُ في ضوء النهار ) وقال الأخطل التغلبيّ : ( وقد غبرَ العَجْلان حيناً إذا بكى ** على الزّاد ألقته الوليدة في الكسرِ )

( فيصبح كالخُفاش يدلك عينه ** فقُبِّح من وجهٍ لئيمٍ ومن حَجْرِ ) وقالوا : السحاة مقصورة : اسم الخفاش والجمع سحاً كما ترى .
وقالوا في اللُّغز وهم يعنون الخفّاش : ( أبى شعراءُ النَّاس لا يُخبرونني ** وقد ذَهَبُوا في الشِّعر في كلِّ مذهبِ ) ( بجلدةِ إنسان وصُورةِ طائرٍ ** وأظْفارِ يَرْبوعٍ وأنيابِ ثعلب )

النهي عن قتل الضفادع والخفافيش
هشامٌ الدَّسْتوائي قال : حدَّثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال : لا تقتلوا الضَّفادِعَ فإنَّ نقيقَهُنَّ تسبيح ولا تقتلوا الخفَّاش فإنَّه إذا خرب بيت المقْدسِ قال : يا ربِّ سلِّطني على البحر حتّى أغرقهم .


حماد بن سلمة قال : حدّثنا قتادة عن زرارة بن أوفى قال : قال عبد اللّه بن عمر : لا تقتلوا الخفَّاش فإنّه استأذنَ في البحر : أن يأخذ من مائه فيطفئ نار بيت المقدسِ حيث حرق ولا تقتلوا الضَّفادع فإنَّ نقيقها تسبيح .
قال : وحدثنا عثمان بن سعيد القرشي قال : سمعت الحسن يقول : نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قتل الوَطْواطِ وأمر بقتل الأوزاغ .
قال : والخفاش يأتي الرُّمانة وهي على شجرتها فينقب عنها فيأكل كلَّ شيءٍ فيها حتى لا

قال : ولحوم الخفافيش موافقةٌ للشواهين والصُّقورة والبوازي ولكثير من جوارح الطير وهي تسمن عنها وتصحّ أبدانُها عليها ولها في ذلك عملٌ محمودٌ نافعٌ عظيمُ النَّفْع بيِّنُ الأثر واللّه سبحانه وتعالى أعلم .

الجزء الرابع

( بِسم الله الرحمن الرحِيمِ ) وصَلَّى اللَّهُ على سَيِّدنا مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبْهِ وَسلَّمَ نَبدأ في هذا الجزء بعَوْن اللهِ وتأييدِه بالقول في جُمْلة الذّرّة والنملة كما شرطنا به آخِرَ المصحَفِ الثَّالث ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللّه العليِّ العظيم .

خصائص النملة
قد علمنا أنَّ ليس عندَ الذَّرَّةِ غَنَاءُ الفرَسِ في الحرب والدَّفْع عن الحريم ولكنّا إذا أردْنا موضِعَ العجَبِ والتَّعجيب والتَّنْبيه على التدبير ذكرنا الخسيسَ القليلَ والسَّخِيفَ المهِين فأرَيْناكَ ما عنده من الحِسِّ اللطيفِ والتَّقْديرِ الغريب ومِن النظر في العواقب ومشاكلةِ الإنسان ومزاحمَتِه .
والإنسانُ هو الذي سُخِّر له هذا الفَلكُ بما يشتمل عليه .
وقد علمنا أنَّ الذَّرَّةَ تدّخرُ للشتاء في الصَّيف وتتقدَّمُ في حال المُهلةِ ولا تُضِيعُ أوقاتَ إمكانِ الحزم ثم يبلغ من تفقُّدها وحُسْنِ خبرها والنظر في عواقب أمْرها أنَّها تخافُ على الحبوب التي ادَّخَرَتْها للشِّتاءِ

في الصيف أنْ تعفنَ وتُسوِّسَ يقبلها بطن الأرض فتخرِجها إلى ظهرها ثمَّ رّبما كان بل يكون أكثر مَكانُها ندياً وإن خافتْ أن تنبت نَقَرتْ موضع القطْميِر من وسط الحبّة وتعلم أنّها من ذلك الموضع تبتدئُ وتنبتُ وتنقل فهي تفلق الحبّ كلَّه أنصافاً فأمّا إذا كان الحب من حبِّ الكُزْبُرة فلقته أرباعًا لأنَّ أنْصافَ حبِّ الكزبرة ينبت منْ بين جميع الحبوب فهي على هذا الوجه مجاوزةٌ لفِطنةِ جميع الحيوان حتَّى ربَّما كانت في ذلك أحزمَ من كثير من الناس ولها مع لطافة شخْصها وخِفَّة وزنها وفي الشمِّ والاستراوح ما ليس لشيء .
وربّما أكل الإنسانُ الجرادَ أو بعض ما يشبه الجرادَ فتسقط من يدِه الواحدةُ أو صدرُ الواحدة وليس يرى بقُربِه ذَرَّةً ولا له بالذّرِّ عَهْدٌ

في ذلك المنزلِ فلا يلبثُ أن تُقْبِل ذَرَّة قاصدةٌ إلى تلك الجرادة فترومها وتحاول قَلْبها ونقلها وسحبها وجرَّها فإذا أعجزتْها بَعْدََ أن بلغَتْ عُذْرًا مضتْ إلى جُحرِها راجعةً فلا يلبَثُ ذلك الإنسانُ أن يراها قد أقبلتْ وخَلفها صُويحباتُها كالخيطِ الأسودِ الممدوُد حتى يتعاونَّ عليها فيحملنها فأوَّلُ ذلك صِدْق الشَّمَّ لما لا يشَمُّه الإنسان الجائع ثمَّ بُعْدُ الهمَّةِ والجراءةُ على محاولةِ نقل شيءٍ في وزْنِ جسمِها مائةَ مرَّة وأكثر من )
مائةِ مرّة وليسَ شيءُ من الحيوان يقْوى على حملِ ما يكونُ ضعف وزنه مرارًا غيْرَها وعلى أنها لا ترضى بأضعْافِ الأضعافِ إلاّ بعد انقطاعِ الأنفاس فإن قلت : وما علَّمَ الرَّجُلَ أنَّ الَّتي حاولتْ نَقْل الجرادَةِ فعجَزت هي التي أخْبَرَتْ صُوَيحباتِها من الذَّرّ وأنها كانت على مقدَّمتهن قلنا : لِطُول التَّجربة ولأنّا لم نر ذَرَّةً قط حاولَتْ نقل جرادةِ فعجزتْ عنها ثمَّ رأيناها راجعةً إلاّ رأينا معها مثْلَ ذلك وإنْ كنّا لا نَفْصِلُ في العين بينها وبينَ أخواتها فإنَّه ليس يقعُ في القلب غيرُ الذي قلنا وعلى أنَّنا لم نرَ ذَرَّةً قطُّ حملت شيئاً أو مضت إلى جُحرِها فارغةً فتلقاها

ذَرّةٌ إلاّ واقَفَتْها ساعة وخبَّرتْها بشيء فدَلَّ ذلك على أنّها في رجوعها عن الجرادة إنَّما كانت لأشباهها كالرَّائد لا يكذبُ أهْلَهُ ومن العجب أنَّك تُنْكر أنَّها توحي إلى أخْتِها بشيءٍ والقرآنُ قد نطق بما هو أكثرُ من ذلك أضعافاً وقال رُؤْبة بن العجَّاج : ( لو كُنْتُ عُلِّمْتُ كلامَ الحُكْلِ ** عِلْمَ سُلَيْمانَ كلامَ النَّمْلِ ) وقال اللّه عز وجلّ : حَتى إذا أتَوْا على وادي النَّمْلِ قالتْ نَمْلةٌ يا أيُّها النَّمْلُ ادْخُلوا مساكِنَكُمْ لا يحْطِمَنَّكُمْ سُليمانُ وجُنُودُهُ

وَهُمْ لا يَشْعرُونَ فَتبَسَّمَ ضاحِكاً منْ قَولها وقالَ ربِّ أَوْزعْني أنْ أشكُرَ نعْمتك الَّتي أنعمت عليَّ فقد أخبر القرآنُ أنها قد عرَفَتْ سليمان وأثبتتْ عيْنَهُ وأنَّ علْمَ منطقها عندَه وأنها أمرتْ صُويحباتها بما هو أحزَمُ وأسلم ثمَّ أخْبَرَ أنها تعرِفُ الجنودَ من غير الجنود وقد قالت : ( وَهُمْ لا يَشْعُرُون ) ونخَالُك أيها المنكِرُ تبسُّمَهُ بحالهنَّ أنّك لم تعرفْ قَبْلَ ذلك الوقتِ وبَعْدَهُ شيئاً مِنْ هذا الشكل من الكلام ولا تدْبيرًا في هذا المقدار وأمّا ما فوق ذلك فليس لك أن تدَّعيه ولكن ما تُنكِرُ من أمثاله وأشباهه وما دُون ذلك والقرآنُ يدلُّ على أنّ لها بياناً وقولاً ومنطقاً يفصلُ بين المعاني التي هي بسبيلها فلعلها مكلَّفة ومأمورةٌ منهيَّة ومُطيِعةٌ عاصية فأوّل ذلك أن المسألة من مسائل الجهالات وإنّ مَنْ دَخلتْ عليه الشُّبهة من هذا المكانِ لناقصُ الرَّوِيَّة رَديُّ الفكْرة .
وقد علمنا وهم ناس ولهم بذلك فضيلةٌ في الغريزةِ وفي الجنسِ والطَّبيعة وهم ناسٌ إلى أن ينتهوا إلى وقت البلوغ ونزول الفَرْض حتى لو وَردت ذَرّةٌ لشرِبتْ مِنْ أعلاه .

شعر فيه ذكر النمل

( سقط : الصفحة كاملة ) ( عند غيري فالتمس رجلا ** يأكل التنوم والسلعا ) ( ذاك شيء لست آكله ** وأراه ماكلا فظعا ) وقال أبو النجم في مثل ذلك : ( وكان نشاب الريح سنبله ** واخضر نبتا سدره وحرمله ) ( وأبيض إلا قاعه وجذوله ** وأصبح الروض لويا حوصله ) ( واصفر من تلع فليج بقله ** وانحت من حرشاء فلج وخردله )

( سقط : بيتين الشعر ) ( وانشق عن فصح سواء عنطله ** وانتفض البروق سودا فلفله ) ( واختلف النمل قطارا ينقله ** طار عن المهر تسيل ينسله ) استطراد لغوي قال أبو زيد : الحمكة القمْلة وجمعه حَمَك وقد ينقاسُ ذلك في الذَّرّةِ .
قال أبو عبيدة : قرية النمل من التُّراب وهي أيضاً جرُثومة النمل وقال غيره : قرية النمل ذلك التراب والجُحرُ بما فيه من الذرِّ والحبِّ والمازنِ والمازنُ هو البيض وبه سمَّوا مازن .

قال أبو عمرو : الزبال ما حملت النملة بفيها ، وهو قول ابن مقبل : ( كريم النِّجارِ حَمَى ظهره ** فلم يُرْتَزَأ برُكوب زبالا )

شعر في التعذيب بالنمل
وأنشد ابن نُجيمْ : ( هَلكوا بالرُّعافِ والنمل طوْراً ** ثمَّ بالنَّحس والضِّباب الذُّكور ) وقال الأصمعيّ في تسليط الله الذَّرَّ على بعض الأمم : ( لحقوا بالزّهْوَيَين فأمسوا ** لا ترى عُقْرَ دارهم بالمبينِ ) ( سلَّط الله فازرا وعُقيفا ** ن فجازاهُمُ بدارٍ شَطون )

( يتبعُ القارَّ والمسافرَ مِنْهُمْ ** تحت ظلِّ الهدى بذات الغُصون ) فازر وعقيفان : صنفان من الذَّرّ وكذلك ذكروه عن دغفل بن حنظلة الناسب ويقال : إنّ أهل تهامة هلكوا بالرُّعافِ مرتينِ قال : وكان آخِرُ من مات بالرُّعاف من سادة قريش هِشامَ ابن المغيرة .
قال أميّةُ بن أبي الصَّلت في ذلك : ( نُزِعَ الذِّكْرَ في الحياةِ وغنا ** وأراهُ العذاب والتَّدميرا ) ( ذَكَرُ الذَّرِّ إنَّه يفعل الشر ** رَّ وإن الجراد كان ثُبُورا )

النبي سليمان والنملة
وقرأ أبو إسحاق قوله عز وجلَّ : وَحُشِرَ لِسُليمانَ جُنودُهُ مِن الجنِّ والإنسِ والطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعونَ حتَّى إذا أَتَوْا على وادي النَّمْلِ فقال : كان ذلك الوادي معروفاً بوادي النمل فكأنّه كان حِمى وكيف نُنْكِرُ أن يكون حمى والنَّمْلُ ربَّما أجْلتْ أمَّةً من الأُممِ عن بلادهم .
ولقد سألت أهل كسكر فقلت : شَعِيرُكُمْ عَجبٌ وأرْزكُمْ عَجبٌ وسمككم عجب وجِداؤكُمْ عجب وبطُّكم عَجبٌ ودَجاجُكم عجب فلو كانت لكم أعناب فقالوا : كلُّ أرضٍ كثيرة النَّمْلِ لا تصلُح فيها الأعناب ثمَّ قرأ : قالتْ نَمْلَةٌ يا أيها النّمْلُ ادْخُلوا مساكِنكُمْ فجعل تلك الجِحَرةَ مساكن والعربُ تسميها كذلك ثمَّ قال : لا يحْطمنَّكُمْ سُليمانُ وَجنودهُ فجمعتْ من اسمه وعينه

وعرفت الجنُدَ من قائد الجند ثم قالت : وَهُمْ لا يشعْرُونَ فكانوا معذورين وكنتم ملومين وكان أشدَّ عليكم فلذلك قال : فتبسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قوْلِها لما رأى مِنْ بُعْدِ غوْرها وتسديدها ومعرفتها فعند ذلك قال : رَبِّ أوْزعْني أن أشْكُرَ نِعْمتكَ الَّتي أنعمْتَ عليَّ وعلى والديَّ وأنْ أعملَ صالِحاً ترضاهُ وأدْخلني بِرحْمتِكَ في عِبادِكَ الصَّالحينَ قال : ويقال : ألطف من ذَرَّةٍ و : أضْبطُ مِنْ نملة قال : والنملةُ أيضاً : قُرحَةٌ تعرضُ للسَّاق وهي معروفةٌ في جزيرة العرب قال : ويقال : أنْسَبُ مِنْ ذَرّ قول في بيت من الشعر فأمَّا قوْلُهُ : ( لَوْ يَدِبُّ الحوْلِيُّ مِنْ وَلدِ الذَّ ** رِّ عَلَيْها لأنْدَبَتْها الكلومُ )

فإنَّ الحوليَّ منها لا يُعرفُ منْ مَسانِّها وإنما هو كما قال الشاعر : ( تلقّط حَوْلِيّ الحصى في منازلٍ ** من الحيِّ أمْسَتْ بالحبيبَين بلْقعا ) قال : وحوليُّ الحصى : صغارها فشبَّهه بالحوليِّ من ذوات الأربع

أحاديث وآثار في النمل
ابن جُريج عن ابن شهاب عن عُبيد الله بن عبد اللّه بن عتبة عن ابن عباس أنَّ رسول اللهًًِ صلى الله عليه وسلم قال : مِنْ الدَّوابِّ أربَعٌ لا يُقْتَلْنَ : النّملة والنَّحْلة والصُّرَد والهُدهُد وحدَّثنا عبدُ الرحمن بنُ عبدِ الله المسعودي قال : حدّثنا الحسن بن سعد مولى علي بن عبد الرحمن بن عبد اللّه قال : نزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منزلاً فانطلق لحاجته فجاء وقد أوقد رجلٌ على قريَةِ نَمْلٍ إمَّا في شجرةٍ وإمَّا في أرض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ فَعلَ هذا أطْفِئها أطْفئها ويحيى بن أيوب عن أبي زرعة بن جرير قال أنبأنا أبو زرعة

عن أبي هريرة قال : نزل نَبِيٌّ من الأنبياء تحتَ شجرةٍ فعضَّتْه نملةٌ فقام إلى نَمْلٍ كثيرٍ تحتَ شجرةٍ فقتلهُنَّ فقيل له : أفلا نَمْلةً واحدةً .
وعبد اللّه بنُ زيادٍ المدنيُّ قال : أخبرني ابنُ شهابٍ عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : نزَلَ نبيٌّ من الأنبياء تحتَ شَجَرةٍ فقرَصَتْهُ نَمْلَةٌ فأمَرَ بجَهازه فأُخرجَ مِنْ تحتها ثمَّ أمرَ بقَرْيِة النَّمْلِ فأُحرقَتْ فأوْحى اللهُ إليه : أفي أن قَرَصَتْكَ نملةٌ أهلكتَ أُمَّةً من الأممِ يسبِّحون الله تعالى فهلاَّ نمْلةً واحدةً ٍ يحيى بن كثير قال : حدّثنا عمر بن المغيرة بن الحارث الزِّمَّاني عن هشامٍ الدَّسْتوائي قال : إنَّ النَّمْلَ والذَّرَّ إذا كانا في الصَّيفِ كلِّه ينقُلْن الحبَّ فإذا كان الشتاءُ وخِفْنَ أن ينبت فلقْنَه هشام بن حسّان أنّ أهلَ الأحنفِ بن قيس لَقوا من النَّمْلِ أذًى فأمرَ الأحنف بكُرْسيٍ ّ فوُضِع عند جُحْرهنَّ فجلَسَ عليه ثمَّ تشهَّد فقال : لَتَنْتَهُنَّ أوْ لنُحَرِّقنّ عليْكُنَّ أو لنفعلنَّ أوْ لنفعَلنَّ قال : فذهبن

وعوف بن أبي جميلة عن قسامةَ بن زُهير قال : قال أبو موسى الأشعريّ : إنَّ لكلِّ شيء سادةً حتَّى إنَّ للنمل سادة عبد اللّه بن زيادٍ المدنيُّ قال : أنبأنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يقول : خرج نبيٌّ من الأنبياء بالناس يستسقون فإذا هُمْ بنملة رافعة رأسها إلى السماء فقال ذلك النبيُّ : ارجِعُوا فقد استُجيبَ لكم منْ أَجْلِ هذا النَّمْلِ مِسْعَر بن كِدام قال حدّثنا زيد القمِّيُّ عن أبي الصِّدِّيق النَّاجي قال : خرج سليمانُ بنُ داود عليهما الصلاة والسلام يستسقي فرأى نملةً مستلقيةً على ظهرها رافعةً قوائمها إلى السماء وهي تقول :

اللهمَّ إنَّا خلقٌ من خَلْقك ليس بنا غنًى عن )
سقْيك فإمّا أنْ تسقينا وترزُقنا وإمَّا أنْ تُميتنا وتُهلكنا فقال : ارجعوا فقد سُقيتمْ بدعوة غيركم .
تأويل آية وحدثني أبو الجهجاه قال : سأل أبو عمرو المكفوف عن قوله تعالى : ( حتى إذا أَتَوْا على وادِي النّمْلِ قالتْ نَمْلةٌ يا أيُّها النَّملُ ادْخُلُوا مساكِنَكُمْ لا يحْطِمَنَّكُمْ سُليمانُ وجنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرونَ ) فتبسَّم ضاحكاً منْ قَولِهاٍ فقلت له : إن نذيرًا يعجب منه نبيٌّ من الأنبياء ثمَّ يعظمُ خطرهُ حتى يُضحِكه لَعَجيب قال : فقال : ليس التأويل ما ذهبتَ إليه قال : فإنَّه قد يضْحك النبيُّ عليه السلام من الأنبياء مِنْ كلامِ الصبيِّ ومِنْ نادرةٍ غريبة وكلُّ شيءٍ يظهَرُ من غير معدِنه كالنَّادرة تُسمع من المجنون فهو يُضْحِك فتبسُّمُ سُليمانَ عندي على أنّه استظرف ذلك المقدارَ من النّملة فهذا هو التأويل

سادة النمل
وقال أبو الجهجاه : سألتُه عن قول أبي موسى : إنَّ لكلِّ شيءٍ سادةً حتى الذَّرُِّ قال : يقولون : إنّ سادتها اللَّواتي يخرُجْنَ من الجُحْر يرتَدْنَ بجماعتها ويستبقن إلى شمِّ الذي هُو مِنْ طعامهنَّ

تأويل شعر لزهير وقال زهير : ( وقالَ سأقضِي حاجَتي ثمَّ أتَّقي ** عَدُوِّي بألْفٍ مِنْ وَرائي مُلجَّمِ ) ( فشَدَّ ولم تفْزَع بُيُوت كثيرةٌ ** لدى حيثُ ألقَتْ رَحْلها أمُّ قشْعمِ ) قال بعض العلماء : قرية النمل استطراد لغوي قال : ويقال في لسانه حُبْسة : إذا كان في لسانه ثِقَلٌ يمنَعُه من البيان فإذا كان الثِّقلُ الذي في لسانه من قِبَل العُجْمةِ قيل : في لسانه حُكْلة والحُكلُ من الحيوان كلِّه ما لم يكن له صوتٌ يُستَبان باختلاف مخارجه عند حَرَجِه وضجَره وطلبهِ ما يغذُوه أو عندَ هِياجه إذا أراد السِّفاد أو عند وعيدٍ لقتالٍ وغير ذلك من أمره .
رأي الهند في سبب اختلاف كلام الناس وتزعم الهندُ أنّ سبب ماله كثر كلامُ الناس واختلفتْ صُوَرُ ألفاظهم ومخارج كلامهم ومقاديرُ )
أصواتهم في اللِّين والشّدّةِ

وفي المدِّ والقطْع كثرةُ حاجاتهم ولِكثرةِ حاجاتهم كثرتْ خواطرُهم وتصاريفُ ألفاظهم واتّسعتْ على قدْرِ اتِّساع معرفتهم قالوا : فحوائج السَّنانير لا تعدو خمسة أوجه : منها صياحُها إذا ضربت ولذلك صورة وصياحُها إذا دعت أخَواتها وآلافَها ولذلك صورة وصياحُها إذا دعَتْ أولادَها للطُّعْم ولذلك صورة وصياحُها إذا جاعَتْ ولذلك صورة فلما قلَّتْ وجوهُ المعرفةِ ووجوهُ الحاجات قلَّتْ وجوهُ مخارج الأصواتِ وأصواتها تلك فيما بينها هو كلامها وقالوا : ثمَّ من الأشياء ما يكونُ صوتها خفيّاً فلا يفهمه عنها إلا ما كان مِن شكلها ومنها ما يفهم صاحبَه بضروبِ الحركات والإشاراتِ والشمائل وحاجاتها ظاهرةٌ جليَّة وقليلةُ العددِ يسيرة ومعها من المعرفة مالا يقصِّر عن ذلك المقدار ولا يجوزُه ورَاضَةُ الإبل والرِّعاءُ وَرُوَّاضُ الدَّوَابِّ في المُروجِ والسُّوَّاسُ وأصحابُ القنْص بالكلابِ والفهود يعرفون باختلاف الأصواتِ والهيئات والتشوُّف واستحالة البصرِ والاضطراب ضروباً من هذه الأصناف ما لا يعرف مثله من هو أعقلُ منهم إذا لم يكن له مِنْ مُعاينةِ أصنافِ

الحيوان ما لهمْ فالحُكلُ من الحيوان من هذا الشكل وقد ذكرناه مرَّة قال رُؤبة : ( لَوْ أَنَّني عُمِّرْتُ عُمْرَ الحِسْلِ ** أوْ أنَّني أُوتيتُ علمَ الحُكْلِ ) عِلْمَ سُليمانٍ كلامَ النّمل تأويل بيت للعماني وقال أبو العباس محمَّد بن ذُؤيب الفُقيميُّ وهو الذي يقال له العُمانيُّ في بعض قصائده في عبد الملك بن صالح والعُمانيُّ ممن يُعدُّ ممن جمع الرَّجزَ والقصيد كَعُمَرَ بن لجأ وجرير بن الخطفي وأبي النّجم وغيرهم .
قال العُمانيّ : ( ويَعْلم قَوْلَ الحُكْل لو أنَّ ذَرَّة ** تُساودُ أُخرى لم يَفُتْهُ سِوادُها ) يقول : الذَّرُّ الذي لا يُسمع لمناجاته صوت لو كان بينها سِوادٌ لفهمه والسِّواد هو السِّرار قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن مسعود :

أذنكَ حتى أساودك أي تسمع سِوادي وقالت ابنةُ قال أبو كبير الهُذَليُّ : ( ساودت عنها الطَّالبينَ فلمْ أنَمْ ** حتى نَظَرْتُ إلى السِّماكِ الأعزلِ )
وقال النمرُ بنُ تَوْل : ( ولقد شهِدْتُ إذا القداحُ تَوَحَّدَتْ ** وشهدْتُ عند اللَّيل مُوقِدَ نارها ) ( عن ذاتِ أوْليةٍ أساودُ رَبّها ** وكأنَّ لَوْن الملحِ تحت شفارها ) وقد فسَّرنا شأن الحكل وقال التيميُّ الشاعرُ المتكلم وأنشد لنفسه وهو يهجو ناساً من بني تغْلبَ معروفين : ( عُجْم وحُكْلٌ لا تُبِينُ ودِينُها ** عِبادةُ أعلاجٍ عليها البرانسُ )

ففصل بين الحُكْل والعُجْم فجعل العجم مثل ذواتِ الحافر والظِّلف والخفِّ وجعل الحُكْلَ كالذّرِّ والنَّمل والخنافس والأشكال التي ليست تصيحُ من أفواهها فقال لي يومئذ حفصٌ الفَرْدُ : أشهدُ أنّ الذي يقال فيه حقٌّ كان والله نصرانيًّا ثمَّ صار يخبر عن النصارى كما يخبر عن الأعراب بين الأصمعي والمفضَّل وقال الأصمعيّ للمفضَّل لما أنشد المفضَّلُ جعفرَ بن سليمانَ قولَ أوسِ بن حجر : ( وذاتُ هدمٍ عارٍ نواشِرُها ** تُصْمِتُ بالماء تَوْلباً جَدِعا )

فجعل الذَّال معجمة وفتحها وصحَّف وذهب إلى الأجذاع قال الأصمعيّ : إنما هي : تَوْلباً جَدِعا الدَّال مكسورة وفي الجَدِع يقول أبو زُبيد : ( ثُمَّ استقاها فلم يقطع نظائمها ** عن التضبُّبِ لا عَبْلٌ ولا جَدِعُ ) وإنما ذلك كقول ابن حَبْناء الأشجعي : ( وأرْسَلَ مُهْمَلاً جَدِعاً وخُفّاً ** ولا جَدِعُ النَّباتِ ولا جَدِيبُ ) فنفخ المفضَّلُ ورفع بها صوته وتكلَّم وهو يصيح فقال الأصمعي : لو نفخت بالشَّبُّور لم ينفعك تكلَّمْ بكلامِ النَّملِ وأصِبْ

والشَّبُّور : شيء مثل البُوق والكلمة بالفارسية وهو شيءٌ يكون لليهود إذا أراد رأسُ الجالوت أن يحرِّم كلام َرجلٍ منهم نفخُوا عليه بالشَّبُّور .
حريم الكلام لدى اليهود والنصارى وليس تحريمُ الكلام من الحدود القائمة في كتبهم ولكنَّ الجاثَلِيقَ ورأس الجالوتِ لا يمكنُهُما في دار الإسلام حبسٌ ولا ضرْب فليس عندهما إلاّ أنْ يغرِّما المال ويُحرِّما الكلام على أنَّ الجاثليق كثيراً ما يتغافل عن الرَّجلِ العظيمِ القدْر الذي له من السُّلطان ناحيةٌ وكان طيمانو )
رئيس الجاثليق قدْ همَّ بتحريم كلام عَونٍ العباديِّ عندما بلغه من اتخاذ السَّراري فتوعّده وحلف : لئن فعل ليُسْلِمنَّ وكما ترك الأشقيل وميخاييل وتوفيل

سَمْلَ عيْنِ مَنْويل وفي حكمهم أنَّ من أعان المسلمين على الرُّوم يقتل وإن كان ذا رأي سَملوا عينيه ولم يقتلوه فتركوا سُنَّتهم فيه وقد ذكرنا شأنهم في غير ذلك في كتابنا على النَّصَارى فإن أردته فاطلبهْ هنالك معنى بيت لابن أبي ربيعة وقال عمر بن أبي ربيعة : ( لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فوقَ ضاحِي جِلْدِها ** لأَبَانَ مِنْ آثارهنَّ حُدُورُ ) والحَدْر : الورم والأثرُ يكون عن الضَّرْب .

التسمية بالنمل
وقد يسمَّى بِنَمْلة ونُمَيْلة ويكتنون بها وتسمَّوا بذَرٍ ّ واكتنوا بأبي ذرّ ويقال : سيفٌ في مَتْنهِ ذَرٌّ وهو ذَرِّيُّ السَّيف 4
أشعارفي صفة السيف
وقال ابن ضبه : ( سقط بيتين الشعر ) ( وقد أغدو مع الفتيا ** ن بالمنجرد التر ) ( وذى البركة كالتابو ** ت والمحزم كالقر )

( سقط : أربعة أبيات من الشعر ) ( معي قاضبة كالمل ** ح في متنيه كالذر ) ( وقد اعتسر الضرب ** ة تثنى شن الشتر ) وقال الآخر : ( تكاد الريح ترميها صرارا ** وترجف لإن يلثمها خمار ) ( على صفحتيه بعد حين جلائه ** ويرعب قلبها الذر الصغار ) قال أوسُ بنُ حجر في صفة السَّيْفِ : ( كأن مدبَّ النَّمْلِ يتَّبِعُ الرُّبا ** ومَدْرج ذرّ خافَ برْداً فأسْهلاَ )

انتقام عقيل بن علفة ممن خطب إحدى بناته قال : وخطب إلى عقيل بن عُلَّفة بعض بناتهِ رجلٌ من الحُرْقة من جُهينة فأخذه فشَدَّهُ قِماطاً ودهن استه برُبٍّ وقمطهُ وقرَّبه من قرية النَّمل فأكل النملُ حُشْوَةَ بطنهِ .
شعر فيه ذكر النمل وقال ذو الرمة : ( وَقَرْيةِ لا جِنٍّ ولا أَنَسِيّةٍ ** مُداخَلَةٍ أبوابُها بُنِيَتْ شَزْرا ) ( نَزلْنا بها ما نبتغي عندها القِرَى ** ولكنَّها كانت لمنزلنا قَدْرا ) وقال أبو العتاهية : ( أخْبِثْ بدارٍ هَمُّها أشِبٌ ** جثْل الفُرُوعِ كثيرةٌ شُعَبُه ) ( إنَّ استهانتها بمنْ صرعتْ ** لَبِقَدْرِ ما تَعْلو بِهِ رُتَبُه )

( وإذا استوتْ للنَّمل أجنحة ** حتى يطير فقدْ دنا عطبه ) وقال البعيث : ( ومولًى كَبَيْتِ النملِ لاَ خَيْرَ عنده ** لمولاه إلاّ سَعْيه بنميم ) قال : وقد سمعت بعض الأعراب يقول : إنهُ لنمامٌ نمْليٌّ على قولهم : كذبَ عليَّ نَمِلٌ إذا أرادوا أنْ يخبروا أنه نمام وقال حميد بن ثوْر في تهوين قوَّة الذّرّ : ( منعَّمَة لو يُصْبحُ الذَّرُّ ساريًا ** على جِلْدِها بضّتْ مدارجهُ دما ) وقال اللّه عز وجل : فَمَنْ يَعْمَلْ مثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يرَهُ ومنْ يَعْمَلْ مثْقَال ذَرَّةٍ شرًّا يَرَه قال : وقيل لعائشة رضي الله تعالى عنها وقد تصدَّقتْ بحبَّةِ عنب : أتصَدَّقينَ بحبَّةِ عنب قالت : إن فيها لمثاقيل ذَرّ .

( لغز في النّمْل ) وممّا قيل في الشِّعر من اللُّغز : فما ذُو جناحٍ له حافر وليس يضُرُّ ولا ينفعُ يعني النَّمل فزعم أنّ للنَّمل حافرًا وإنَّما يحفْر جُحره وليس يَحفْرِهُ بفمه التعذيب بالنمل وعذّب عُمَرُ بن هُبيرة سعيد بن عمرو الحَرَشيّ بأنواع العذاب فقيل له : إن أردت ألاّ يُفْلِحَ أبداً فمُرْهُمْ أن ينفخُوا في دُبُرِه النّمل ففعلوا فلم يفلح بعدها .

ما يدخر قوته من الحيوان
قالوا : وأجناسٌ من الحيوان تَدَّخرُ وتُشبَّهُ في ذلك بالإنسان ذي العقل والرَّوِيَّة وصاحب النَّظرِ في العواقب والتفكير في الأمور : مثلُ الذّرّ والنّمل والفأر والجرذان والعنكبوت والنّحل إلاّ أنَّ النحل لا يدَّخر من الطعام إلاّ جنساً واحداً وهو العسل . ( أكل الذَّرّ والضباع للنمل ) وزعم اليقطريّ أنّك لو أدخَلْتَ نملةً في جُحر ذرٍّ لأكلتها حتى تأتي على عامّتها وذكر أنَّه قد جرَّب ذلك وقال صاحب المنطق : إنَّ الضِّباع تأكل النمل أكلاً ذريعاً وذلك أن الضِّباع تأتي قريةَ النَّمْلِ في وقتِ اجتماعِ النّمل فتلحَس ذلك النَّملَ بلسانِها بشهوةٍ شديدةٍ وإرادة قويّة .

أكل النمل للأرضة
قالوا : وربّما أفسدت الأرضة على أهل القرى منازلهم وأكلتْ كلَّ شيءٍ لهم ولا تزالُ كذلك حتى يَنْشُوَ في تلك القرى النَّمل

فيسلِّط اللّه ذلك النّملَ على تلك الأرَضة حتى تأتيَ على آخرها وعلى أنَّ النَّمْلَ بعد ذلك سيكونُ له أذى إلاّ أنَّه دونَ الأرضةِ تعدِّياً وما أكثرَ ما يذهَبُ النَّمل أيضاً من تلك القُرى حتى تتمَّ لأهلها السَّلامةُ من النَّوعينِ جميعاً وزعم بعضُهم أنَّ تلك الأرَضَة بأعيانها تستحيل نَمْلاً وليسَ فَناؤُها لأكلِ النَّمْلِ لها ولكنَّ الأرضةَ نفسَها

مثل في النمل
قال : وبِالنَّمْلِ يُضرب المَثل يقال : جاؤوا مِثْلَ النَّمْلِ . والزِّنْج نوعان : أحدهما يفخَر بالعدد وهم يسمَّون النَّمل والآخَر يفخَر بالصَّبرِ وِعظَم الأبدان وهم يسمَّون الكلاب وأحدهما يكبو والآخرُ ينبو فالكلابُ تكْبو والنَّمل تنبو . ( أجنحة النَّمل ) قال : ومن أسبابِ هلاك النّمْلِ نباتُ الأجنحة له وقد قال الشاعرُ :

وإذا استَوَتْ للنّمْلِ أجنحةٌ حتى يَطِيرَ فقَدْ دَنَا عَطبُه وإذا صارَ النَّمل كذلك أخصبَتِ العصافير لأنها تصطادها في حال طيرَانها .

وسيلة لقتل النمل
قالوا : وتُقْتَلُ بأنْ يصبَّ في أفواه بيوتها القَطِران والكِبريتُ الأصفر ويُدَسَّ في أفواهها الشَّعر وقد جرَّبنا ذلك فوجدناه باطلاً انتهى . ( جملة القول في القِرْدِ والخِنزير ) وفي تأويل المَسْخ وكيف كان وكيف يُمسَخُ الناس على خلقتهما دونَ كلِّ شيء وما فيهما من العِبرة والمحنة وفي خصالهما المذمُومة وما فيهما من الأمُورِ المحمودة وما الفَصْل الذي بينهما في النَّقص وفي الفَضْل وفي الذمِّ وفي الحمد .


ما ذكر في القرآن من الحيوان وقد ذكر اللّه عزَّ وجلَّ في القرآن العنكبوتَ والذّرَّ والنَّمْلَ والكلبَ والحِمار والنَّحلَ والهُدهدَ والغُرابَ والذئب والفِيلَ والخيل والبغال والحمير والبقَرَ والبعوضَ والمعز والضأن والبقرة والنعجة والحوت والنُّون فذكر منها أجناساً فجعلها مثلاً في الذِّلَّة والضَّعف وفي الوهْن وفي الْبَذَاءِ والجهل .

هوان شأن القرد والخنزير
وقال اللّه عزَّ وجلَّ : إنَّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فقلَّلهَا كما ترَى وَحقّرها وضرب بها المثل وهو مع ذلك جلَّ وعلا لم يمسخ أحداً من حَشْو أعدائه وعظمائِهم بعوضة . وقال تعالى : يَا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شيئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ إنَّمَا قرَّع الطالب في هذا الموضعِ بإنكاره وضعفه إذ عجز ضعفُه عن ضَعْفِ

مطلوبٍ لا شيءَ أضعَفُ منه وهو الذباب ثمّ مع ذلك لم نجدْه جلَّ وعلا ذَكَرَ أنَّهُ مسخ أحداً ذُباباً . وقال : وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فَدَلَّ بوهْن بيتِه على وهْن خَلْقه فكان هذا القولُ دليلاً على التّصغيرِ والتّقليل وإنما لم يقل : إنِّي مسخْتُ أحداً من أعدائي عنكبوتاً .
وقال تعالى : فَمَثَلَهُ كَمَثَلِ الْكلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ فكان في ذلك دليلٌ على ذمِّ طباعه والإخْبار عن تسَرُّعِهِ وبَذائِه وعن جهله في تدبيره وترْكِهِ وأخْذه ولم يقل إني مسخْتُ أحداً من أعدائِي كلباً . وذكر الذّرَّة فقال : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ فكان ذلك دليلاً على أنَّه من الغايات في الصِّغَر والقِلَّة وفي خِفَّة الوزْن وقلة )
الرجحان ولم يذكُرْ أنّه مسَخَ أحداً مِن أعدائه ذرّة وذكر الحِمار فقال : كَمَثَلِ الحِمار يَحمِلُ أَسْفَاراً فجعله مثلاً في الجهل والغفلة وفي قِلَّةِ المعرفةِ وغِلَظِ الطَّبيعة ولم يقلْ إنِّي مسخْتُ أحداً من أعدائي حماراً وكذلك جميع ما خَلَق وذَكرَ من أصناف الحيوان بالذَّمِّ والحمد .
فأمَّا غير ذلك ممّا ذكر من أصناف الحيوان فإنّه لم يذكرْهُ بذمٍّ ولا نقص بل قد ذكر أكثَرَهنّ بالأمور المحمودة حتَّى صار إلى ذكر

القرد فقال : وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخنَازِيرَ فلمْ يكنْ لهما في قلوبِ النَّاس حال ولو لم يكن جعل لهما في صُدور العامّة والخاصّة من القُبْح والتَّشويه ونذالةِ النَّفس ما لم يجعلْهُ لشيءٍ غيرهما من الحيوان لما خصَّهما اللّه تعالى بذلك وقد علمنْا أنَّ العقربَ أشدُّ عداوةً وأذًى وأفسَدُ وأنَّ الأفعى والثُّعْبانَ وعامَّةَ الأحناش أبغَضُ إليهم وأقتَلُ لهم وأنَّ الأسَدَ أشَدُّ صَوْلةً وأنَّهم عن دفعهم له أعجز وبغضَهم له على حسب قوّته عليهم وعجزِهم عنه وعلى حَسبِ سوءِ أثره فيهم ولم نَرَهُ تعالى مسَخَ أحداً من أعدائه على صورة شيءٍ من هذه الأصناف ولو كان الاستنذالَ والاستثقالَ والاستسقاطَ أراد لكان المسخ على صورة بناتِ وَرْدانَ أولى وأحقّ ولو كان التَّحقيرَ والتَّصْغيرَ أرَادَ لكانت الصُّؤابة والجِرْجِسَة أولى بذلك ولو كان إلى الاستصغار ذهَبَ لكان الذّرُّ والقمْل والذُّبابُ أولى بذلك والدَّليل على قولنا قوله تبارك وتعالى : إنّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجَحِيمِ طَلعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِيِن ولَيْسَ أن النَّاسَ رأوْا شيطاناً قطُّ على صورة ولكنْ لما كان اللّه تعالى قد جعل في طِباع جميع الأمم استقباحَ جميعِ صُور الشَّياطين واستسماجَه وكراهتَهُ وأجرى على ألسنة جميعهم ضرْبَ المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتّنفير وبالإخافة

والتقريع إلى ما قد جعله اللّه في طباع الأوَّلين والآخِرين وعندَ جميعِ الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم وهذا التأويل أشبهُ مِن قولِ مَنْ زعَمَ مِن المفسِّرين أنّ رُؤوسَ الشّياطين نبات نبت باليمن .
وقال اللّه عزّ وجلّ لنبيِّه : قُلْ لاَ أَجِدُ فِيما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَن اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإنّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيم فذكر أنه رِجْسٌ وذكر

الخنزير
وهو أحد المسوخ ولم يذكر في هذه الآية التي أحصى فيها أصنافَ الحرام وأباح ما وراء ذلك القرْدَ . وصار بعضهم إلى تحريمه من جهة الحديث وهو عند كثيرٍ منهم يحتمل المعارَضة . ( الخنزير ) مساوئ الخنزير فلولا أنَّ في الخنزير معنًى متَقَدِّماً سوى المسخ وسِوى ما فيهِ من قبح المنظر وسَماجة التمثيل وقبح الصوت وأكل العَذِرة مع الخلاف الشديد

واللِّواط المفْرط والأخلاقِ السمجة ما ليس في القرد الذي هو شريكه في المسخ لَمَا ذَكَرَه دونه تحريم الخنزير في القرآن دون القرد وقد زعم نَاسٌ أنَّ العربَ لم تَكنْ تأكلُ القُرودَ وكان من تنصَّرَ مِن كبار القبائل وملوكِها يأكلُ الخِنزير فأظهر لذلك تحريمهُ إذ كان هناكَ عالَمٌ من الناس وكثير من الأشراف والوضعاء و الملوكِ والسُّوقة يأكلونُه أشدَّ الأكل ويرغَبون في لحمه أشدّ الرغبة قالوا : ولأنَّ لحم القرد يَنْهَى عن نفسِهِ ويكفي الطبائعَ في الزّجرِ عنهُ غَنَثُه ولحم الخنزير ممّا يُسْتَطابُ ويتواصَف وسَبيلُ لحم القردِ كسَبيلِ لحمِ الكلب بل هو شرٌّ منهُ وأخبَث وقد قال الشاعر للأَسديِّ الذي لِيمَ بِأكل لحمِ الكلب : ( يا فقعسيُّ لِمْ أكَلْتُه لِمهْ ** لو خافَكَ اللّهُ عليهِ حَرَّمهْ ) فما أكَلْتَ لحمهُ ولاَ دَمَهْ وليس يريد بقوله : لو خافك اللّه عليهِ أنّ اللّه يخافُهُ على شيءٍ أو يخافه من شيء ولكنَّهُ لمَّا كانَ الكلبُ عندَهُ مما لا يأكله أحد

وَلاَ يُخَافُ عََلَى أَكْلِهِ إلاّ المضطرُّ جعل بدل قوله : أمِنَ الكلبُ على أكْل لحمه أنَّ اللّه هو الذي لم يخَفْ ذلك فيحرِّمه وهذا ممّا لا تقف الأعرابُ عليه ولا تَتَّبعَ الوهمُ مواضِعَه لأنَّ هذا بابٌ يدخل في باب الدِّين فيما يُعرَف بالنَّظر .
ما قيل في جودة لحوم الكلاب وقد يأكل أجْراءَ الكلاب ناسٌ ويستطيبونها فيما يزعمون ويقولون : إنّ جرو الكلب أسمنُ شيءٍ صغيراً فإذا شبَّ استحال لحمه كأنَّه يشبّه بفرخ الحمام مادام فرخاً وناهضاً إِلى أن يستحكم ويشتدّ ذكر من يأكل السنانير وما أكثر من يأكل السَّنانير والذين يأكلونها صِنفان من الناس : أحدهما الفتى المغرور الذي يقال له أنت مسحور ويقال له : من أكل سِنّوراً أسودَ بهيماً لم يعمَلْ فيه السحر فيأكله لذلك )
فإذا أكله لهذه العلَّة وقد غسل ذلِكَ وعصره أذهب الماءُ زُهُومَته ولمْ يكن ذلك المخدوعُ بمستقذِرٍ ما استطابه ولعلّهُ أيضاً أن يكون عليه ضربٌ من الطَّعام فوق الذي هو فيه فإذا أكله على هذا الشَّرط ودبّر هذا التدبير ولم ينكره عاوده فإذا عاوده صار ذلك ضَراوةً له .


والصِّنف الآخر أصحاب الحمام فما أكثر ما ينصِبُون المصائد للسَّنانير التي يُلقَّوْنَ منها في حمامهم وربَّما صادف غيظ أحدهم وحَنَقُه وَغَضَبُهُ عليه أن يكون السِّنَّور مُفرِطَ السِّمن فيدعُ قتْله ويذبَحُه فإذا فعل ذلك مرَّةً أو مرتين صار ضراوةً عليها وقد يتقَزَّز الرَّجلُ من أكل الضّبِّ والوَرَل والأرنب فما هو إلاَّ أنْ يأكُله مرَّةً لبعضِ التَّجرِبة أو لبعضِ الحاجة حتى صار ذلك سبباً إلى أكلها حتى يصير بهم الحال إلى أن يصيروا أرغبَ فيها من أهلها طيب لحم الجراد وها هنا قومٌ لا يأكلون الجرادَ الأعرابيّ السمين ونحن لا نعرف طعاماً أطيبَ منه والأعراب إنَّما يأكلون الحيَّاتِ على شبيهٍ بهذا الترتيب ولهذه العوارض أكل الأفاعي والحيات وزعم بعضُ الأطبَّاء والفلاسفة أنَّ الحيَّاتِ والأفاعيَ تؤكل نِيئَةً ومطبوخة ومشويَّة وأَنَّهَا تغذُو

رؤبة وأكل الجراذن وزعم أبو زيد أنَّه دخل على رؤبة وعنده جِرذانٌ قد شَوَاهُنّ فإذا هو يأكلهنَّ فأنكر ذلك عليه فقال رؤبة : هُنّ خيرٌ من اليرابيعِ والضِّبابِ وأطيَبُ لأنها عندكم تأكُلُ الخبزَ والتمرَ وأشباهَ ذلك وكفاك بأكل الجرذان ولولا هول الحيَّاتِ في الصُّدور من جهة السُّموم لكانت جهة التقذُّر أسهلَ أمراً من الجرذان أكل الذبان والزنابير وناسٌ من السُّفالة يأكلون الذّبَّان وأهلُ خُراسانَ يُعجَبون باتخاذ البَزْماوَردِ من فِراخ الزَّنابير ويعافون أذنابَ الجرادِ الأعرابيِّ السمين وليسَ بين ريح الجَرادِ إذا كانت مشويَّةً وبينَ ريح العقارِبِ مشْويَّةً فرق والطَّعْمُ تبعٌ للرائِحة : خبيثُها لخبيثها وطيِّبها لطيّبها وقد زعم ناسٌ ممن يأكلون العقاربَ مشويَّة ونيئةً أنها كالجراد السِّمان

وكان الفضلُ بنُ يحيى يوجِّه خدمَهُ في طلب فراخِ الزَّنابير ليأكلها وفراخُها ضربٌ من الذُّبان .
أكل لحوم البراذين )
فأمَّا لحوم البراذين فقد كثُر علينا وفينا حتى أنِسْنا به وزعم بعضهم أنَّه لم يأكلْ أطيبَ من رأسِ بِرْذَونٍ وسُرَّتِه فأمّا السُّرَّةُ والمَعْرَفة فإنهم يزاحِمون بها الجِدَاءَ والدَّجاج ويقدِّمون الأسرامَ أكل السراطين ونحوها ومِن أصحابنا مَن يأكل السراطين أكلاً ذريعاً فأما الرق والكوسج فهو من أعجب طعام البحْريِّين وأهل البَحر يأكلون البلبل فهو اللّحم الذي في جوف الأصداف والأعرابيُّ إذا وجد أسودَ سالخاً رأى فيهِ ما لا يرى صاحب الكسمير في كسميره .


أكل ديدان الجبن وخَبَّرني كم شِئْتَ من الناس أنَّه رأى أصحابَ الجُبْن الرَّطبِ بالأهوازِ وقراها يأخذون الِقطعةَ الضَّخمةَ من الجبْن الرَّطب وفيها ككواء الزنابير وقد تولَّدَ فيها الدِّيدان فينفضها وسْطَ رَاحتِه ثمَّ يقمَحُها في فيهِ كما يقمَحُ السَّويق والسُّكَّر أو ما هو أطيبُ منه .
ذكربعض أنواع العذاب وقد خبَّر اللّه تعالى عن أصحاب النِّقم وما أنزل اللّهُ من العذاب وما أخذ من الشكل والمقابلات فقال : فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِه فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعلَ رَبُّكَ

بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ وَأرسَلَ عَلَيْهمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ وليس من هذه الأصنافِ شيءٌ أبلغُ في المُثْلة والشُّنْعةِ ممَّن جَعلَ منهم القرَدَة والخنازير فالخنزير يكون أهلياً ووحشياً كالحمير والسَّنانير مما يعايش النَّاس وكلها لا تقبل الآداب وإنَّ الفُهودَ وهي وحشيَّةٌ تقبل كلها كما تقبَلُ البوازِي والشَّواهين والصقورة والزُّرَّق واليُؤيؤ والعُقَاب وعَناق الأرض وجميعُ الجوارحِ الوحشيَّات ثمَّ يفضلُها الفهدُ بخَصْلةٍ غريبة وذلك أنّ كبارَها ومَسانَّها أقبَلُ للآدابِ وإن تقادَمتْ في الوحْش مِنْ أولادها الصغار وإن كانت تقبل الآداب لأنَّ الصغيرَ إذا أُدِّبَ

فبلغ خرج جبينًا مُواكِلاً والمسنَّ الوحشيَّ يخلُص لك كُله حتى يصير أصيدَ وأنفعَ وصغارُ سباعِ الطَّير وكبارُها على خلاف ذلك وإن كان الجميعُ يقبل الأدب والخنزيرُ وإن كان أهليّاً فإنُه لا يقبل الأدبَ على حال حتى كَأَنَّهُ وإن كان بهيمةً في طباع ذئب وذلك أن أعرابيّاً أخذَ جرْوَ ذئبٍ وكان التقطه التقاطاً فقال : أخذْتهُ وهو لا يعرف أبوَيهِ ولا عملَهُما وهو غِرٌّ لم يصِدْ شيئاً فهو إذا رَبَّيناه وألَّفناه أنفعُ لنا مِن الكلب فلمّا شبَّ عدا )
على شاة لهُ فقتلَها وأكل لحمها فقال الأعرابيُّ : أكَلْتَ شُوَيهتي وَرُبيتَ فينَا فَمنْ أَدْرَاكَ أنَّ أباكَ ذيبُ فالذئب وجرو الذئب إذا كانا سبعين وَحْشِيَّيْنِ كانا ثمَّ من أشدِّ الوحْش توحُّشاً وألزمِها للقِفار وأبعَدها من العمران والذِّئب أغدَر من الخنزير والخِنّوص وهما بهيمتان .


ضرر الخنزير وأمَّا ضرره وإفساده فَمَا ظنُّك بشيءٍ يُتَمَنَّى له الأسَد وذلك أن الخنازير إذا كانت بقرب ضِيَاع قومٍ هلَكتْ تلك الضِّياع وفسَدتْ تلك الغلاّت وربَّما طلب الخنزير بعضَ العروقِ المدفونَةِ في الأرض فيخرِّب مائَةَ جريبٍ ونابه ليس يغلبه مِعْول فإذا اشتدَّ عليهم البلاءُ تمنَّوا أن يصير في جَنْبتهم أسد ولربَّما صار في ضياعهم الأسد فلا يَهِيجونَه ولا يؤذونَه ولو ذهب إنسانٌ ليحفر له زُبيةً منعوه أشدَّ المنع إذ كان ربَّمَا حَمَى جانبَهم من الخنازير فقط فما ظنّك بإفسادها وما ظنّك ببهيمةٍ يُتَمَنَّى أن يكون بدلَها أسد ثمَّ مع ذلك إذا اجتمعوا للخنازير بالسِّلاح وبالآلاتِ والأدوات التي تقتل بها فربَّما قتل الرَّجُلَ منهم أو عقرَهُ العقرَ الذي لا يندمِل لأنَّه لا يضرب بنابه شيئاً إلاَّ قطعَه كائناً ما كان فلو قَتلوا في كلِّ يوم منها مائَةً وقتلتْ في كلِّ يومٍ إنساناً واحداً لما كان في ذلك عِوض .

والخنازير تطلب العَذِرَة وليست كالجلاَّلة لأنها تطلب أحَرَّها وأرطبَها وأنتنَها وأقربها عهداً بالخروج فهي في القرى تعرِف أوقاتَ الصُّبحِ والفجْر وَقبلَ ذلك وبعدَه لبُروزِ النَّاس للغائط فيعرف من كان في بيته نائِماً في الأسحار ومع الصُّبح أنَّه قد أسْحَر وأصبح بأصواتها ومرورِها ووقْعِ أرجلها في تلك الغيطان وتلك المتبرَّزَات وبذلك ضربُوا المثلَ ببكور الخنزير كما ضربوا المثل بحذَرِ الغراب ورَوَغان الثَّعلب على أنَّ الثَّعلبَ ليس بأرْوَغَ من الخِنْزير ولا أكَدَّ للفارس ولا أشدَّ إتعاباً لصاحبه .
فأمَّا قُبْحُ وجهِه فلو أنَّ القُبح والإفلاس والغَدْر والكذب تجسَّدت ثمَّ تصوَّرتْ لَمَا زادتْ على قُبح الخنزير وكلّ ذلك بعضُ الأسباب التي مُسخ لها الإنسان خنزيراً وإنَّ القرد لَسَمِجُ الوجْه قبيحٌ كلِّ شيء وكفاك به أنَّه للمثل المضروب ولكنَّهُ في وجهٍ آخَرَ مليحٌ فمِلْحُه يعترض على قُبْحه

فيمازجُه ويُصلِح منه والخنزيرُ أقبح منه لأنَّه ضربٌ مُصمَتٌ بهيم فصار أسمجَ ببعيدٍ .
وثب الذكورة على الذكورة وحدَّثَني بعضُ أهل العلم ممَّن طال ثَواؤه في أرض الجزيرة وكان صاحبَ أخبار وتجربة وكان )
كلفاً يحبِّ التبيّن معترضاً للأُمور يحبُّ أنْ يُفضِيَ إلى حقائقها وتثبيت أعيانها بعللها وتمييز أجناسها وتعرّف مقاديرِ قُواها وتصرُّف أعمالها وتنقُّل حالاتها وكان يعرِفُ للعلم قَدْرَهُ وللبيان فضلهُ قال : ربَّما رأيت الخنزير الذَّكر وقد ألجأه أكثرُ مِن عِشرينَ خنزيراً إلى مَضِيق وإلى زاوية فينزُون عليه واحداً واحداً حتى يبلغ آخرُهم وخبَّرني هذا الرَّجل وغيرهُ من أهل النظر وأصحابِ الفكر أنَّهم رأوا مثلَ ذلك من الحمير وذكروا أنّ ذلك إما تأنيثٌ في طبعه و إمّا أنْ يكون له في أعينها من الاستحسان شبيهٌ بالذي يعتري عيونَ بعضِ الرجال في الغلمان والأحداثِ الشَّبَاب . وقد يكون هذا بين الغَزانِق والكَرَاكيّ والتَّسافُد بين الذَّكر والأنثى والسافد والمسفود إذا كانا من جميع الذكورة كثيرٌ في جميع أصناف

الحيوان إلاّ أنَّه في جميع الخنازير والحمير أفشى معارف في الخنزير وباب آخر ممَّا ذكر صاحب المنطق فزعم أنّ من الخنازير ما له ظِلف واحد وليس لشيء من ذوات الأنياب في نابه من القوَّة والذَّرَب ما للخنزير الذكر وللجمل والفهد والكلب قال : والإنسان يلقي أسنانه وكذلك الحافر والخفّ قال : والخنزير لا يلقي أسنانَه البتّة .
من لم يثغر ويقال : إنّ عبد الصَّمد بنَ عليٍّ لم يُثغر قط وأنَّه دخل قبره بأسنان الصِّبا .


أسنان الذئب والحية وزعم بعضهم أنَّ أسنانَ الذِّئبِ مخلوقَةٌ في الفكّ ممطولةٌ في نفس العظم وذلك ممَّا توصف به أسنان الحيَّة قال الشَّاعرُ : ( مُطِلْنَ في اللّحْيَيْنِ مَطْلاً إلى ** الرَّأسِ وَأَشْدَاقٍ رَحِيباتِ ) والشَّاعِرُ يمدحُ الشيءَ فيشدِّدُ أمرَه ويقوِّي شأنُه وربَّما زاد فيه ولعلَّ الذي قال في الذِّئب ما قال هذا أراد ولا يشكُّون أنّ الضَّبع كذلك .
مرق لحم الحيوان قال وليس يجمُدُ مرق لحم الحيوان السَّمين مثل الخنزير والفرس وأمَّا ما كان كثير الثرب فمرقته


طباع الخنزير قال : والخنزير الذَّكر يقاتِل في زمن الهيْج فلا يدَعُ خنزيراً إلاَّ قتله ويدنو من الشَّجرة ويدلُكُ جلدَه ثمّ يذهب إلى الطين والحمأة فيتلطخ به فإذا تساقط عاد فيه .
قال : وذكورة الخنازير تطرد الذُّكورة عن الإناث وربّما قتل أحدُهما صاحبَه وربّما هلكا جميعاً وكذلك الثِّيرانُ والكِبَاشُ والتُّيوس في أقاطيعها وهي قبل ذلك الزَّمان متسالمة .
ما يعرض لبعض الحيوان عند الهيج والجمل في تلك الحالة لا يدَعُ جملاً ولا إنساناً يدنو من هَجْمَتهِ والجمل خاصَّة يكره قُربَ الفَرَس ويقاتله أبداً . ومثل هذا يعرِض للذِّئبة والذِّئب والأُسد ليس ذلك من صفاتها لأنَّ بعضَها لا يأوي إلى بعضٍ بل ينفرد كلُّ واحدٍ بلبؤته وإذا كان للذِّئبة الأنثى جِرَاء ساءت أخلاقُها وصَعُبت وكذلك إناث الخيل والفيل : يسوء خلقها في ذلك الزَّمان والفَيَّالون يحمونها النَّزْو لأنها إذا نزت جهِلت جهلاً شديداً واعتراها هَيْجٌ لا يُقام له وإذا كان ذلك الزَّمانُ أجادوا عَقْله وأرسلوه في الفِيَلة الوحشيّة فأمَّا الخنزير والكلبُ فإنهما لا يجهلان على النَّاس لمكان الألفة

قال : وزعم بعضُ النَّاس أنَّ إناثَ الخيلِ تمتلئ ريحاً في زمان هيْجها فلا يباعدون الذُّكورة عنها وإذا اعتراها ذلك ركضَتْ ركضاً شديداً ثمَّ لا تأخذ غرباً ولا شرقاً بل تأخذ في الشَّمالِ والجنوب ويعرض مثل هذا العَرَضِ لإناث الخنازير فإذا كان زمَنُ هَياج الخنازير تطأطئ رؤوسها وتحرِّك أذنابهَا تحريكاً متتابعاً وتتغيّر أصواتُها إذا طَلبت السِّفاد وإذا طلبت الخنزيرةُ السِّفادَ بالت بولاً متتابِعاً .
تناسل الخنازير قال : وإِناث الخنازير تحمل أربعةَ أشهرٍ وأكثَرُ ما تحمل عشرون خِنَّوصاً وإذا وضعت أجراءً كثيرَةً لم تَقْوَ على رِضاعها وتربيتها .
قال : وإناث الخنازير تحمل مِنْ نزوةٍ واحدة وربما كان من أكثر وإذا طلبت الذَّكرَ لم تنزع حتى تطاوع وتسامحَ وترخي أذنابها فإذا فعلت ذلك تكتفي بنزْوةٍ واحدة ويُعلَفُ الذَّكَرُ الشَّعيرَ في أوان النَّزْو ويصلُح للأُنثى .
مدد الحمل للحيوان والخنزيرة تضع في أربعة أشهرٍ والشَّاةُ في خمسة والمرأة والبقرةُ في تسعة أشهر والحافر كله في سنة

خصائص الخنزير قال : ومتى قلعت العينُ الواحدة من الخنزير هلك وكثيرٌ من الخنازير تبقى خمسة عشر عاماً والخنزير ينزو إذا تمّ له ثمانية أشهر والأنثى تريد الذَّكر إذا تمَّت لها ستَّة أشهر وفي بعض البلدان ينزو إذا تمّ له أربعة أشهر والخنزيرة إذا تمّت لها ستّة أشهر ولكنَّ أولادهما لا تجيء كما يريدون وأجود النَّزْو أن يكون ذلك منه وهو ابن عشرة أشهر إلى ثلاث سنين وإذا كانت الخنزيرة بكراً ولدت جِراءً ضعافاً وكذلك البكر من كل شيء الحلال .
وقالَ اللّهُ تَبارك وتعالى : كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشكُرُوا للّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ ثمَّ ذكر غيْرَ الطيِّبات فقال : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِه وَالمُنْخَنِقَةُ وَ المَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ على النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ

ثمّ قال : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللّه مَنْ لَعَنَهُ اللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرُّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وقال : يَا أَيّها الّذينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِين .
استطراد لغوى وقوله تعالى : طَيِّبَاتِ تحتمل وجوهاً كثيرة يقولون : هذا ماءٌ طيِّب يريدون العُذوبة وإذا قالوا للبُرِّ والشَّعيرِ والأرز طيِّب فإنما يريدون أنَّه وَسَطٌ وأنّه فوقَ الدُّون ويقولون : فمٌ طيِّب الرِّيح )
وكذلك البُرّ يريدون أنَّه سليم من النّتن ليس أنَّ هناك ريحاً طيبة ولا ريحاً منتنة ويقولون : حلالٌ طيِّب وهذا لا يحل لك ولا يَطيب لك وقد طاب لك أي حل لك كقول : فَانْكِحُوا مَا طَاب لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .


قال طُوَيْسٌ المغنِّي لبعضِ ولد عثمانَ بن عفّان : لقدْ شَهِدْتُ زفاف أمِّك المبارَكَةِ إلى أبيك الطيِّب يريد الطَّهارَة ولو قال : شهدت زفاف أمِّك الطيِّبة إلى أبيك المبارك لم يحسُنْ ذلك لأنَّ قولك طيِّب إنَّمَا يدلّ على قدر ما اتَّصلَ به من الكلام .
وقد قال الشّاعِرُ : والطيِّبون مَعاقِدَ الأُزْرِ وقد يخلو الرَّجلُ بالمرأة فيقول : وجدتها طيِّبة يريد طَيِّبة الكَوْم لذيذةَ نفس الوطء وإذا قالوا : فلان طيِّب الخُلُق فإِنما يريدون الظَّرْفَ والمِلْح وقال اللّهُ عزَّ وجلَّ : حَتَّى إذَا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ يريد ريحاً ليستْ بالضعيفة ولا القويّة .


ويقال : لا يحلُّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاَّ عن طيبِ نفْسٍ منه وقال اللّه عزّ وجلَّ : فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وقال : لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ في مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ وذلك إذْ كانت طيّبة الهواءِ وقال : إنَّاا لّذينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ثم قال : الخَبيثَاتُ لِلْخَبيثِينَ وَالخَبيثُونَ لِلخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .
وفي هذا دليلٌ على أنّ التأويلَ في امرأةِ نوحٍ وامْرأة لوط عليهما السلام على غير ما ذهب إليه كثيرٌ من أصحاب التَّفسير : وذلك أنهم حينَ سمِعوا قولَه عزّ وجلَّ : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنهُمَا فدلَّ ذلك على أنَّه لم يَعْنِ الخيانَةَ في الفرْج وقد يقع اسمُ الخيانة على ضروب : أوّلها المالُ ثمَّ يشتقُّ من الخيانة في المال الغشُّ في النصيحةِ والمشاورةِ وليس لأحدٍ أنْ يوجِّه الخبرَ إذا نزل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحُرَم الرُّسُل على أسمَجِ الوجوه إذا كان للخبر مذهبٌ في السَّلامة أو في القُصُور على أدنى العيوب وقد علمْنا أنّ الخيانةَ لا تتخطَّى إلى الفرج حتّى تبتدئ بالمال وقد

يستقيم أن يكونا من المنافقين فيكون ذلك منهما خيانة عظيمة ولا تكون نساؤهم زواني )
فيلزمهم أسماءٌ قبيحة وقال اللّه عزّ وجلّ : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحيّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً وقال : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وقال : مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلْنُحْييَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وقال تعالى : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ وقال : وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ و مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وقال : وَظَللَّنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَارَزَقْنَاكُمْ فقوله : طيِّب يقعُ في مواضعَ كثيرةٍ وقدْ فصَّلنا بعض ذلك في هذا الباب .
ثم رجع بنا القولُ إلى موضعنا من ذِكر الخنزير ثمَّ قال : قُلْ لاََ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحيمٌ ألاَ تراه قد ذكر أصنافَ ما حرَّم ولم يذكرْها بأكثرَ من التَّحريم فلمّا ذكر الخنزير قال : فَإنَّهُ رِجْسٌ فجعل الخنزير وإنْ كان غير مِيتة أو ذكَرَ الذّابح عليه اسم اللّه أنَّه رِجْسٌ ولا نعلم لهذا الوجه إلاَّ الذي خصّهُ اللّه به من ذكر المسخ فأراد تعظيمَ شأنِ العِقاب ونزولِ الغضَب وكان ذلك القول ليس ممّا يضرّ الخنزير وفيه الزَّجر عن محارمه والتّخويفُ

من مواضع عذابه وإنْ قِيلَ : ينبغي أن يكون مسَخَ صورة القرد فهلاَّ ذكره في التحريم مع أصناف ما حرَّم ثمّ خصَّهُ أيضاً أنَّه من بينها رجس وهو يريد مذهبه وصفته قلنا إنّ العربَ لم تكن تأكلُ القرودَ ولا تلتمسُ صيدَها للأكل وكلُّ مَن تنصَّرَ من ملوك الرُّومِ والحبشَةِ والصِّين وكلّ مَن تمجَّس من مَلكٍ أو سُوقة فإنَّهُمْ كانوا يرون لِلَحْمِ الخنزير فضيلة وأنّ لحومَها ممَّا تقوم إليهِ النفوسُ وكان في طباع الناس من التكرُّه للحوم القِرَدةِ والتقذُّر منها ما يُغني عن ذكرها فذكر الخنزيرَ إذْ كان بينهما هذا الفرق ولو ذكر ذلك وألحقَ القردَ بالخنزير لموضع التحريم لكان ذلك إنما كان على وجه التوكيد لما جعله اللّه تعالى في طبائعهم من التكرُّه والتقذّر ولا غير ذلك .
وقال اللّه عَزَّ وَجَلَّ : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإنَّا لَصَادِقُون .


وجوه التحريم وقد أنبأَك كما ترى عن التّحريم أنّهُ يكون مِنْ وجوه : فمنها ما يكون كالكذب والظلم والغَشم )
والغدْر وهذه أمورٌ لا تحلُّ على وجهٍ من الوجوه ومنها ما يحرم في العقْل مِن ذبح الإنسانِ الطِّفلَ وجعَلَ في العقول التبيُّنَ بِأَنّ خالق الحيوانِ أو المالكَ له والقادرَ على تعويضِهِ يقبح ذلك في السماع على ألسنة رسله وهذا مِمَّا يحرم بعَينِهِ و بذاته لاَ أَنه حرِّم لعلة قد يجوز دفعها والظلم نفسهُ هو الحرام ولم يحرَّم لعلة غير نفسِه .
وهو ما جاء من طريق التعبُّد وما يعرف بالجملة ويعرف بالتفسير .
ومنهُ ما يكون عقاباً ويكون مع أنهُ عِقابٌ امتحاناً واختباراً كنحو ما ذكر من قوله : ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وكنحو أصحاب البقرةِ الذين قيلَ لهُمْ : اذْبَحُوا بَقَرَةً فإنِّي أريد أن أضرِبَ بها القتيل ثم أحْييهما جميعاً ولو اعترضوا مِن جميع البقر بقرة فذبحوها كانوا غيرَ مخالفين فلمّا ذهَبوا مذهب التلكؤ والتعلّل ثم التعرُّض والتعنُّت في طريق التعنّت صار ذلك سبب تغليظ الفرض

وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ : مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَميعاً وقال اللّه تعالى : الَّذِينَ يَتّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يُجِدُونَه مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ومثله : رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا يجوز أن يكونَ إنَّمَا يريدون صَرْف العذاب ويجوز أن يكون إنما يريدون تخفيف الفرائض وقد يجوز أن يكونَ على قول من قال : لا أستطيع النظرَ إلى فلانٍ على معنى الاستقبال .
وبابٌ آخرُ من التّحريم وهو قَوْله : كُلُّ الطّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاة
شعر في الخنزير وقال مروان بن محمد :

وقال آخر : ( نِعْمَ جَارُ الخنزيرةِ المرضِعُ الغَر ** ثَى إذا ما غدا أبُو كلثوم ) ( طاوياً قد أصاب عند صديق ** مِنْ ثريدٍ مُلَبَّدٍ مَأدُوم ) ( ثمّ أنْحَى بجَعْرِهِ حاجبَ الشَّم ْ ** سِ فَأَلْقى كالمِعْلَفِ المهْدُومِ ) جرير والحضرمي وقال أبو الحسن : وفد جريرٌ على هشامٍ فقال الحضرمي : أيُّكُمْ يشتمهُ فقالوا : ما أحدٌ يقْدِمُ عليهِ قال : فأنا أشتمهُ ويرضَى وَيَضْحَك قال : فقام إليهِ فقال : أنت جرير قال : نعم قال : فلا قرّبَ اللّه دارَك ولاَ حيَّا مَزَارك يا كَلْب فجعل جريرٌ ينتفخ ثمَّ قال لهُ : رَضيتَ في شرفك وَفضْلك وَعَفافك أنْ تُهاجِيَ القردَ العاجز يعني الفرزدق فضحك .
فحدَّث صديقٌ لي أبا الصَّلَع السِّنديَّ بهذا الحديث قال : فشِعْري أعجبُ من هذا لأني شتمت البُخَلاءَ فشتمت نفسي بأشدَّ ممّا شتمتهم فقال : وَما هو قال قولي : ( لاَ تَرَى بيتَ هجاءٍ ** أبداً يُسْمَعُ مِنِّي ) ( الهِجَا أَرْفَعُ مِمَّنْ ** قَدْرُهُ يصغُرُ عنِّي )

طريفة قال أبو الحسن : كان واحدٌ يسخَر بالنَّاس ويدَّعي أنَّه يَرقِي من الضِّرس إذا ضربَ على صاحبه فكان إذا أتاه مَن يشتكي ضِرسه قال له إذا رقاه : إيَّاك أنْ تذكر إذا صِرتَ إلى فِراشك القِردَ فإنَّك إنْ ذكرته بَطَلَتِ الرُّقْية فكان إذا آوى إلى فراشه أوَّلَ شيء يخطر على باله ذِكرُ القرد ويبيت على حاله من ذلك الوَجَع فيغدو إلى الذي رقَاه فيقول له : كيف كنت البارحة فيقول : بِتُّ وَجِعاً فيقول : لعلَّك ذكرْت القرد فيقول : نعم فيقول : مِنْ ثَمَّ لم تنتفع بالرُّقية شعر لبعض ظرفاء الكوفيين وقال بعضُ ظُرَفاءِ الكوفيِّين : ( فَإنْ يشْرَبْ أبو فَرُّوخَ أشْرَبْ ** وَإنْ كانت معتَّقَةً عُقَارَا ) ( وإن يأكلْ أبو فرُّوخَ آكُلْ ** وإن كانت خَنانِيصاً صِغار )


قرد يزيد بن معاوية وقال يزيد بن معاوية : ( فَمَنْ مبلِغُ القِردِ الذي سَبقَتْ به ** جِيَادَ أميرِ المؤمنين أَتَانُ ) ( تَعَلَّقْ أبا قَيْسٍ بها إنْ أطعتَنى ** فليس عليها إن هلَكْتَ ضَمَان ) جزع بشار من شعر الحماد وزعم الجرداني أنَّ بشَّاراً الأعمى لم يجزَعْ من هجاءٍ قطُّ كجزَعِه مِن بيتِ حمَّادِ عَجردٍ حيث يقول : ( ويا أقبَحَ مِن قرد ** إذا ما عَمِي القِرْد )

شعر في الهجاء وقال بُشَير بن أبي جَذِيمة العَبْسيّ : ( أتَخْطِرُ لِلأَشْرافِ حِذْيمُ كبرة ** وهل يستعدُّ القِرْدُ للخَطَرَانِ ) ( أبى قِصرُ الأذْنابِ أن يخْطِرُوا بها ** ولُؤْمُ قُرودٍ وَسْط كلِّ مكانِ ) ( لقد سمِنَتْ قِرْدانُكُمْ آلَ حِذْيم ** وأحسابُكم في الحيِّ غيرُ سِمان ) الأصمعيُّ عن أبي الأشهب عن أبي السليل قال : ما أبالي أخنزيراً رأيتُ يُجَرُّ برجله أو مثل عبيد ينادي : يالَ فُلان استطراد لغوي

الأصمعيُّ عن أبي ظبيان قال : الخُوز هم البُناة الذين بنَوا الصَّرح واسمُهم مشتقٌّ من الخنزير ذهب إلى اسمه بالفارسية خوك فجعلت العرب خُوك خُوزاً إلى هذا ذهب .
تناسل المِسخ وقد قال النَّاسُ في المَسْخ بأقاويلَ مختلفة : فمنهم من زعم أنّ المِسخَ لا يتناسل ولا يبقى إلاَّ بقدر ما يكونُ موعظةً وعِبْرة فقطعوا على ذلك الشهادةَ ومنهم مَن زعم أنَّه يبقَى ويتناسل حتى جعل الضَّبَّ والجِرِّيَّ والأرانب والكلاب وغيرَ ذلك من أولادِ تلك الأمم التي مُسِخت في هذه الصُّور وكذلك قولُهم في الحيَّات وقالوا في الوزَغ : إن أباها لمّا صنع في نار إبراهيمَ وبيت المقْدِس ما صنع أصمَّهُ اللّه وأبرصَه فقيل : سامّ أبرص فهذا الذي

نرى هو من ولده حتَّى صار في قتله الأجرُ العظيم ليس على أنّ الذي يقتلُه كالذي يقتل الأُسْدَ والذِّئاب إذا خافها )
على المسلمين وقالوا في سهيلٍ وفي الزُّهَرة وفي هارُوت وماروت وفي قيرى وعيرى أبَوَي ذي القرنين وجُرْهم ما قالوا .
القول في المسخ

فأمَّا القول في نفس المَسْخ فإنَّ النَّاس اختلفوا في ذلك : فأمَّا الدُّهريّة فهم في ذلك صِنفان : فمنهم مَن جَحَد المسْخَ وأقرَّ بالخسْف والرِّيح والطّوفان وجعل الخسْف كالزَّلازل وزعم أنَّه يقِرُّ من القذْف بما كان من البَرَد الكِبَار فأمّا الحجارة فإنَّها لا تجيء من جهة السَّماء وقال : لستُ أجوِّز إلاَّ ما اجتمعتِ عليهِ الأمَّة أنَّه قد يحدث في العالم فأنْكَرَ المسْخَ البتّة .
أثر البيئة وقال الصِّنف الآخَر : لا ننكر أنْ يفسُدَ الهواءُ في ناحِيةٍ من النواحي فيفسدَ ماؤهم وتفسُدَ تُربتهم فيعملَ ذلك في طباعهم على الأيَّام

كما عمل ذلك في طباع الزِّنج وطباع الصَّقالبة وطباع بِلادِ يأجوج ومأجوج وقد رأينا العَرب وكانوا أعراباً حينَ نزلوا خراسانَ كيف انسلخوا من جميع تلك المعاني وترى طباعَ بلاد الترك كيفَ تطبَعُ الإبلَ والدَّوابَّ وجميعَ ماشيتهم : من سبُعٍ وبهيمةٍ على طبائعهم وترَى جرادَ البقولِ والرَّياحِين ودِيدانَها خَضراءَ وتراها في غير الخُضرة على غير ذلك وترى القمْلة في رأس الشابِّ الأسودِ الشَّعر سوداء وتراها في رأس الشَّيخ الأبيضِ الشَّعرِ بيضاءَ وتراها في رأس الأشْمط شمطاءَ وفي لون الجملِ الأورق فإذا كانت في رأس الخَضِيب بالحمرة تراها حمراء فإنْ نَصَلَ خضابه صار فيها شُكْلةٌ من بين بيضٍ وحُمْر وقد نرى حَرَّة بني سُليم وما اشتملت عليه من إنسانٍ وسبع وبهيمةٍ وطائِر وحشرة فتراها كلَّها سوداء

وقد خبَّرَنَا من لا يُحصَى من النَّاس أنّهم قد أدركوا رجالاً من نبَط بَيسان ولهم أذنَابٌ إلاّ تكنْ كأذنَاب التماسيح والأسد والبقر والخيل وإلاَّ كأَذنَاب السَّلاحف والجِرْذان فقد كان لهم عُجوبٌ طِوالٌ كالأذنَاب وربَّما رأينا الملاّح النَّبَطِيَّ في بعض الجعفريّات على وجههِ شبهُ القِرْد وربَّما رأيْنا الرَّجلَ من المغرِب فلا نجد بينهُ وبين المِسخ إلاّ القليل وقد يجوز أن يصادف ذلك الهواء الفاسدُ والماءُ الخبيثُ والتربةُ الرديَّةُ ناساً في صفةِ هؤلاء المغربيِّين والأنباط ويكونون جُهّالاً فلا يرتحلون ضَنَانَةً بمساكنهم وأوطانهم ولا ينتقلون فإذا طال ذلك عليهم زادَ في تلك الشعور وفي تلك الأذناب وفي تلك الألوان الشُّقْر وفي تلك الصُّوَر المناسبةِ للقرود قالوا : ولم نعرفْ ولم يثبُتْ عندنا بالخبر الذي لا يعارَض أنّ الموضع الذي قلب صُوَر )
قومٍ إلى صور الخنازير هو الموضع الذي نقل صُوَر قَوْمٍ إلَى صُوَرِ القرود وقد يجوز أن تكون هذه الصُّورُ انقلبت في مهبِّ الريح الشمالي والأخرى

في مهبِّ الجنوب ويجوز أن يكون ذلك كان في دهرٍ واحد ويجوز أن يكون بينهما دهرٌ ودهور قالوا : فلسْنا ننكر المِسْخ إن كان على هذا الترتيب لأنَّه إن كان على مجرى الطَّبائع وما تدور به الأدوار فليس ذلك بناقضٍ لقولِنا ولا مثْبتٍ لقولكُمْ قال أبو إسحاق : الذي قلتم ليسَ بمُحالٍ ولا يُنْكَر أن يحدُثَ في العالَم برهاناتٌ وذلك المِسخْ كان على مجرى ما أُعطُوا من سائِر الأعاجيب والدَّلائِل والآيات ونحن إنَّما عرفنا ذلك من قِبَلهم ولولا ذلك لكان الذي قلتمْ غيرُ ممتنِع ولو كان ذلك المِسْخُ في هذا الموضع على ما ذكرتم ثمَّ خبر بذلك نبيٌّ أو دَعا بِهِ نبيٌّ لَكان ذلك أعظَمَ الحُجَّة فأما أبو بكر الأصمّ وهشام بن الحكم فإنَّهُما كانا يقولان بالقلْب ويقولان : إنَّه إذا جاز أنْ يقلب اللّهُ خَرْدلةً من غير أن يزيد فيها جسماً وطولاً أو عرضاً جاز أن يقلب ابنَ آدمَ قِرداً من غير أن ينقُص من جسمه طولاً أو عرضاً .


وأمَّا أبو إسحاقَ فقد كان لولا ما صَحَّ عنده من قول الأنبياء وإجماع المسلمين على أنّه قد كان وأنَّه قد كان حُجَّةً وبرهاناً في وقته لكان لا ينكر مذهبهم في هذا الموضع وقوله هذا قولُ جميعِ من قال بالطَّبائع ولم يذهَبْ مذهب جهمٍ وحفصٍ الفَرْدِ .
وقال ابن العنسيّ يذكر القرد : ( فهَلاَّ غَدَاةَ الرَّمْلِ يَا قِرْدَ حِذْيمٍ ** تُؤَامِرُهَا في نَفْسها تَسْتَشِيرُها )
القول في تحريم الخنزير قال : وسأل سائلون في تحريم الخنزير عن مسألةٍ فمنهم من أراد الطّعن ومنهم من أراد الاستفهام ومنهم مَنْ أحبَّ أن يعرف ذلك من جهة الفُتيا إذْ كان قولُه خلافَ قولنا .
قالوا : إنَّمَا قال اللّه : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ فذكر اللَّحمَ دونَ الشّحم ودونَ الرَّأس ودونَ المخِّ ودونَ العصَب

ودون سائرِ أجزائه ولم يذكره كما ذكر المَيْتة بأسرها وَكذلك الدَّم لأنَّ القول وقع على جملتهما فاشتمل على جميع خصالهما بِلفظٍ واحد وهو العموم وليس ذلك في الخنزير لأنّه ذكر اللّحم من بين جميع أجزائه وليس بين ذِكْر اللَّحْم والعظْم فرق ولا بينَ اللَّحْمِ والشَّحم فرق وقد كان ينبغي في قياسكُمْ هذا لو قال : حرِّمت عَلَيْكُمُ الميتَةُ والدَّم وشَحْم الخنزير أن تحرِّموا الشحم وإنَّما ذكر اللَّحم فلِمَ حرّمتم الشحم وما بالُكُمْ تحرِّمونَ الشّحم عند ذكْر غيرِ الشّحم فهلاّ حرَّمتم اللَّحم بالكتاب وحرَّمتم ما سِواه بالخبر الذي لا يُدْفَع فإن بقيَتْ خصلةٌ أو خَصلتانِ ممَّا لم تُصيبوا ذِكْره في كتابٍ منَزَّل وفي أثَرٍ لا يدفع رددتموه إلى جهة العقل قُلنا : إنّ النَّاس عاداتٍ وكلاماً يعرِّف كل شيءٍ بموضعه وإنما ذلك على قدْر استعمالهم له وانتفاعهم به وقد يقول الرجل لوكيله : اشتر لي بهذا الدِّينارِ لحماً أو بهذه الدراهم فيأتيهِ باللّحم فيهِ الشّحم والعظْم والعِرق والعصب والغُضروف والفُؤَاد والطِّحالُ والرِّئة وببعض أسقاط الشاة وحشو البطن والرأس لحمٌ والسَّمك أيضاً لحم وقال اللّه تعالى : هُوَ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيَّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها فَإنْ كانَ الرَّسول ذهب إلى المستعمَل من ذلك وترَكَ بَعْضَ ما يقع عليهِ اسمُ لحم فقد أخذَ بما عَلَيْهِ صاحبه فإذا قال حَرَّمتُ عَلَيْكُمْ لحماً فكأَنّه قال : لحم الشّاة والبقرة

والجزور ولو أنّ رجُلاً قال : أكلت لحما وإَنمَا أكل رأساً أو كبداً أو سمكاً لم يكنْ كاذباً وللنّاس أن يضعُوا كلامَهم حيثُ أحَبُّوا إذا كان لهم مجازٌ إلاَّ في المعامَلات فإنْ قُلت : فما تقول في الجلدِ فَلَيس للخنزير جلد كما أنّه ليس للإنسان جلدٌ إلاّ بقطع ما ظهر لك منه بما تحتَه وإنّما الجلْد ما يُسْلخُ ويُدْحَس فيتبرأ ممَّا كان بِه مُلتزقاً ولم يكن مُلتحماً كفرق ما بين جلد الحَوْصَلة والعِرْقين .
فإنْ سألتَ عن الشَّعر وعن جلد المنْخَنِقة والمَوقُوذةِ والمتردِّيَة والنَّطِيحة وما أكل السَّبُعُ فإنِّي أزعم أنّ جلدهُ لاَ يُدْبَغ وَلاَ يَنْتَفِعُ بِه إلاّ الأساكفة والقول في ذلك أنّ كلَّهُ محرّم وإنما ذلك كقوله تعالى : ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرهُ وكَقَوْله عَزَّ وجَلَّ : وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلاّ أَنْ ) يَشَاءَ اللّهُ والعَربُ تقُول للرَّجُل الصانع نجَّاراً إن كان لاَ يعمل بالمِثْقَبِ والمنشار ونحوه ولاَ يضرب بالمضلع ونحو ذلك وتسميِّه خبَّازا إذا كان يطبخ ويعجن وتسمِّي العِيرَ لطيمة وإن لم يكن فيها ما يحمل العِطْر إلاّ واحد وتقول : هذه ظُعُنُ فُلاَنٍ للهوادج إذا كانت فيها امرأةٌ واحدة ويقال : هولاء بنو فُلان وإن كانت نساؤهم أكثرَ من الرجال

فلما كان اللحم هو العمود الذي إليه يُقْصَد وصار في أعظم الأجزاء قَدْراً دَخَل سائرُ تلك الأجزاءِ في اسمهِ ولو كان الشّحمُ معتزلاً من اللّحم ومفْرَداً في جميع الشِّحام كشحوم الكُلى والثُّروب لم يجزْ ذلك وإذا تكلمَتْ على المفردات لم يكن المخُّ لحماً لا الدِّماغ ولا العظم ولا الشّحم ولا الغُضروف ولا الكروش ولا مَا أَشبه ذلك فلما قال : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزيْرِ وكانت هذه الأشياء المشبَّهة باللَّحم تدخُل في باب العموم في اسم اللحم كان القَوْلُ واقعاً على الجميع .
وقال الشاعر : ( مَنْ يَأْتِنَا صُبحاً يريدُ غَدَاءَنَا ** فالهَامُ مَنْضَجَةٌ لَدَى الشَّحَّامِ ) ( لحمٌ نَضِيجٌ لاَ يُعنِّي طابخاً ** يُؤْتَى به مِنْ قَبْلِ كلِّ طعامِ ) وإذْ قد ذكرْنَا بَعض الكلامِ والمسائل في بعْض الكلام فسنذكر شأْنَ الهدهُد والمسأَلة في ذلك قال اللّه عزَّ وجلَّ : وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبينٍ ثم قال : فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ يعني الهدهُد فقال لسليمان المتَوعد له بالذَّبح عقُوبة لَه والعقوبة لا تكون

إلا على المعصية لبشريٍّ آدَميّ لم تكن عقوبته الذَّبح فدلّ ذلك على أنّ المعصية إنما كانت له ولا تكون المعصيةُ للّه إلاّ ممّن يعرف اللّه أو ممَّن كان يمكنُه أن يعرفَ اللّه تعالى فَتَرَكَ ما يجِبُ عليه من المعرفة وفي قولهِ لسليمان : أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجئْتُكَ مِنْ سَبَأ بنبإٍ يَقِينٍ إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ثمّ قال بعد أنْ عرفَ فصْل ما بين الملوك والسُّوقة وما بين النِّساء والرجال وعرف عِظم عرشِها وكثرةَ ما أوتيت في ملكها قال : وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللّهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ فَعَرَف السُّجُود للشمس وأنْكَرَ المعاصي ثمَّ قال : أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلّه الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يَعْلِنُونَ ويتعجَّب من سجودهم لغير اللّه ثمَّ علمَ أنَّ اللّه يعلم غيبَ السَّمواتِ والأرض ويَعلم السِّرَّ والعلانية ثمَّ قال : اللّهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وهذا يدلُّ على أنّهُ أعْلمُ مِن )
ناسٍ كثيرٍ من المميِّزين المستدلِّين الناظرين .
قال سليمان : سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبينَ ثمَّ قال : اذْهَبْ بكِتَابي هذَا فَأَلْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنهُمْ فَانْطُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ

وَإنَّهُ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُم بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ . وذلك أنَّها قالت : إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ وَإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ ثمَّ قال سليمانُ للهدهد : ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ وقال : يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أن يَأتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَويٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بهِِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إَليْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنيٌّ كرِيم فطعن في جميع ذلك طاعِنون فقال بعضهم : قد ثبتَ أنّ الهدهد يحتمل العقاب والعتاب والتَّكليف والثّواب والوِلاية ودخولَ الجنَّة بالطّاعة ودخولَ النَّار بالمعصية لأنَّ المعرفةَ تُوجِب الأمرَ والنهيَ والأمرَ والنهيَ يوجبان الطاعةَ والمعصية والطاعةَ والمعصية يوجبان الوَلاَية والعَداوة فينبغي للهداهد أنْ يكون فيها العدوُّ والوليُّ والكافر والمسلم والزِّنديق والدَّهريّ .
وإذا

كان حُكْمُ الجنس حُكماً واحداً لزم الجميعَ ذلك وإن كان الهدهدُ لا يبلغ عندَ جميع الناس في المعرفة مبلغَ الذرّة والنملة والقملة والفيلِ والقرد والخنزير والحمام وجميع هذه الأمَمِ تُقَدِّمُهَا عليه في المعرفة فينبغي أن تكونَ هذه الأصنافُ المتقدِّمَةُ عليه في عقول هذه الأمَّة والأنبياء وقد رأينا العلماء يتعجَّبون من خُرافات العَرَب والأعرابِ في الجاهليَّة ومن قولهم في الدِّيك والغراب ويتعجَّبون من الرِّواية في طوق الحمام فإنّ الحمام كان رائدَ نوح على نبينا وعليه السلام وهذا القول الذي تؤمنون به في الهدهد من هذا النوع قُلنا : إنّ اللّه تعالى لم يقل : وتَفَقّدَ الطَّير فقال ما لي لا أرى هدهداً من عُرْض الهداهد فلم يوقع قولَه على الهداهد جُملة ولا على واحدٍ منها غير مقصودٍ إليه ولم يذهب إلى الجنس عامَّة ولكِنَّهُ قالَ : وَتَفَقّدَ الطّيرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الهُدْهُدَ فأدخَلَ في الاسم الألفَ واللام فجعله معرفة فدلَّ بذلك القصد على أنَّه ذلك الهدهدُ بعينه وكذلك غُرابُ نوح وكذلك حمارُ عُزير وكذلك ذِئب أُهبانَ بن أوس فقد )
كانَ لِلّهِ فيه وفيها تدبيرٌ وليجعَل ذلك آيةً لأنبيائه وبرهاناً لرسله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11