كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

الجزء الأول
خطبة الكتاب
( بِسم اللَّه الرَّحمن الرحيم )
وبه ثقتي
جَنَّبَك اللّهُ الشُّبْهةَ وَعصَمك من الحَيرة وجَعلَ بينك وبين المعرفة نسباً وبين الصدق سَبَباً وحبَّب إليك التثبُّت وزيَّن في عينك الإنصاف وأذاقك حلاوة التقوى وأشعرَ قلبكِ عِزَّ الحقّ وأودَعَ صدرَك بَرْدَ اليقين وطرد عنك ذلَّ اليأس وعرَّفك ما في الباطل من الذلَّة وما في الجهل من القِلَّة ولعمري لقد كان غيرُ هذا الدعاء أصوبَ في أمرك وأدلَّ عَلَى مقدارِ وزنك وعلى الحال التي وضعْتَ نفسك فيها ووسَمْت عرضَك بها ورضيتها لدينِك حظًّا ولمروءتك شِكلاً فقد انتهى إليَّ مَيلُكَ على أبي إسحاق وحَملُك عليه وطعنُك على مَعْبَدٍ وتنقّصك له في الذي كان جَرَى بينَهما في مساوي الديكِ ومحاسِنِه وفي ذكرِ منافع الكلب ومضارِّه والذي خرجَا إليه من استقصاءِ ذلك وجمْعِه ومن تتبُّعِه ونظمِه ومن الموازَنَة بينَهما والْحُكم فيهما ثم عبتَني بكتاب حيل اللصوص وكتاب غِشّ الصناعات وعبتَني بكتاب المُلَح والطُّرَف وما حَرَّ من النوادر وبَرُد وما عاد بارده حارًّا لفَرْط برده حتى

أمتَعَ بأكثر من إمتاع الحارّ وعبتني بكتاب احتجاجات البخلاء ومناقضَتِهم للسُّمَحاء والقولِ في الفرق بين الصدق إذا كان ضارّاً في العاجل والكذب إذا كان نافعاً في الآجِل ولِمَ جُعل الصدقُ أبداً محموداً والكذبُ أبداً مذموماً والفرق بين الغَيرة وإضاعة الحُرْمة وبين الإفراط في الحميّة والأنَفَة وبين التقصير في حفظ حقِّ الحرمة وقلَّة الاكتراثِ لِسوء القالَة وهل الغيرة اكتساب وعادة أم بعض ما يعرض من جهة الديانة ولبعض التزيُّد فيه والتحسن به أو يكون ذلك في طباع الحريّة وحقيقة الجوهريَّة ما كانت العقولُ سليمة والآفات منفيَّة والأخلاطُ معتدلة وعبتَني بكتاب الصُّرَحاء والهُجَناء ومفاخرة السُّودان والحمران وموازنة ما بين حقِّ الجئولة والعمومة وعبتَني بكتاب الزرع والنخل والزيتون والأعناب وأقسام فضول الصناعات ومراتب التجارات وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء وفرقِ ما بين الذكور والإناث وفي أيِّ موضع يَغلبن ويفضُلْن وفي أي موضع يكنَّ المغلوباتِ والمفضولات ونصيب أيِّهما في الولد أوفَر وفي أيِّ موضع يكون حقُّهنّ أوجب وأيَّ عملٍ هو بهنَّ أليق وأيّ صناعةٍ هنَّ فيها أبلغ )
وعبتَني بكتاب القحطانيَّة وكتاب العدنانيَّة في الردّ على

القحطانية وزعمتَ أنّي تجاوزتُ الحميَّة إلى حدِّ العصبيَّة وأنِّي لم أصل إلى تفضيل العدنانيَّة إلا بِتنقُّص القحطانيّة وعبتَني بكتاب العرب والموالي وزعمت أنِّي بَخَسْت المواليَ حقوقَهم كما أنِّي أعطيتُ العربَ ما ليس لهم وعبتَني بكتاب العرب والعجم وزعمت أنّ القولَ في فرقِ ما بين العرب والعجم هو القولُ في فرقِ ما بين الموالي والعرب ونسبتَني إلى التكرار والترداد وإلى التكثير والجهل بما في المُعَاد من الخَطَل وحَمْلِ الناسِ المؤن وعبتَني بكتاب الأصنام وبذكر اعتلالات الهند لها وسبب عبادة العرب إيّاها وكيف اختلفا في جهة العِلَّة مع اتّفاقهما على جملة الديانة وكيف صار عُبَّاد البِدَدَة والمتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة والأصنام المنجورة أشدَّ الديّانين إلْفاً لما دانوا به وشغفاً بِمَا تعبَّدوا له وأظهَرَهم جِدّاً وأشدَّهم على من خالفهم ضِغناً وبما دانو ضِنّاً وما الفرق بين البُدِّ والوثَن وما الفَرق بين الوثَن والصنم وما الفرق بين

الدُّمية والجثَّة ولِمَ صوَّروا في محاريبهم وبيوت عباداتهم صُوَرَ عظمائهم ورجالِ دعوتهم ولم تأنَّقوا في التصوير وتجوَّدوا في إقامة التركيب وبالغوا في التحسين والتفخيم وكيف كانت أوَّليَّة تلك العبادات وكيف اقترفت تلك النِّحل ومن أيّ شكل كانت خُدَع تلك السدنة وكيف لم يزالوا أكثرَ الأصنافِ عدداً وكيف شمل ذلك المذهب الأجناسَ المختلفة وعبتني بكتاب المعادن والقولِ في جواهرِ الأرض وفي اختلاف أجناس الفِلِزِّ والإخبار عن ذائبها وجامدها ومخلوقها ومصنوعها وكيف يسرع الانقلاب إلى بعضها ويُبطئ عن بعضها وكيف صار بعض الألوان يَصبُغ ولا ينصبغ وبعضها يَنْصبِغُ ولا يصْبَغُ وبعضها يصبغُ وينصبغ وما القولُ في الإكسير والتلطيف وعبتَني بكتاب فرق ما بين هاشمٍ وعبد شمس وكتاب فرق ما بين الجنّ والإنس وفرق ما بين الملائكة والجنّ وكيف القولُ في معرفة الهدهد واستطاعة العفريت وفي الذي كان عنده عِلْمٌ من الكتاب وما ذلك العلم وما تأويل قولهم : كان عنده اسم اللّه الأعظم

وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضات وما القولُ في الأرزاق والإنفاقات وكيف أسباب التثمير والترقيح وكيفَ يجتلب التجار الحُرَفاء وكيف الاحتيال للودائع وكيف التسبُّب إلى الوصايا وما الذي يوجب لهم حسن التعديل ويصرف إليهم باب حسن الظن وكيف ذكرنا غشَّ الصناعات والتجارات وكيف التسبُّب إلى تعرف ما قد ستروا وكشف ما موَّهوا وكيف الاحتراس منه والسلامة من أهله وعبتني برسائلي وبكلّ ما كتبت به إلى إخواني وخُلَطائي من مَزْح وجِدٍّ ومن إفصاح وتعريض ومن )
تغافُل وتوقيف ومن هجاء لا يزال مِيسَمه باقياً ومديح لا يزال أثرُه نامياً ومن مُلَح تُضحِك ومواعظَ تُبكي .
وعبتَني برسائلي الهاشميّات واحتجاجي فيها واستقصائي معانيَها وتصويري لها في أحسَن صورة وإظهاري لها في أتمِّ حلية وزعمتَ أنّي قد خرجتُ بذلك من حدِّ المعتزلة إلى حد الزيديّة ومن حدّ الاعتدال في التشيُّع والاقتصاد فيه إلى حدِّ السرف والإفراط فيه وزعمتَ أنّ مقالة الزيدية خطبة مقالةِ الرافضَة وأنّ مقالة الرافضة خطبة مقالة الغاليَة وزعمتَ أنّ في أصل القضيّة والذي جَرَتْ عليه العادة أن كلَّ كبير فأوّلهُ صغير وأنَّ كلَّ كثير فإنما هو قليل جُمع مِنْ قليل وأنشدت قول الراجز :

( قد يَلحَق الصغيرُ بالجليل ** وإنما القَرْمُ من الأَفِيل ) ( وسُحُقُ النخلِ ** من الفَسيل ) وأنشدت قول الشاعر : ( ربّ كبير هاجَه صغيرٌ ** وفي البُحور تَغرَق البحورَُ ) وقلت : وقال يزيدُ بن الحكم : ( فاعلم بني فإنه ** بالعلم ينتفع العلم ) ( إن الأمور دقيقها ** مما يهيج له العظيم ) وقلتَ : وقال الآخر : ( صار جداً ما مزحت به ** رب جدٍ ساقه اللعب ) وأنشدت قول الآخر : ( قد يبعث الأمر الكبير صغيرة ** حتى تظل له الدماء تصبب ) وقالت كَبْشة بنت مَعْدِ يكَرِب :

( جدعتم بعبد الله آنف قومه ** بني مازن أن سب راعي المحزم ) وقال الآخر : ( أية نار قدح القادح ** وأي جدٍ بلغ المازح ) وتقول العرب : العَصَا من العُصَيَّة ولا تلد الحيَّةَ إلا حَيَّةٌ .
وعبتَ كتابي في خلْق القرآن كما عبت كتابي في الردِّ على المشبّهة وعِبْتَ كتابي في القول في )
أصول الفتيا والأحكام كما عبتَ كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن وغريب تأليفه وبديعِ تركيبه وعبتَ معارضَتي للزيدِيَّة وتفضيلي الاعتزالَ على كلِّ نِحْلة كما عبتَ كتابي في الوعد والوعيد وكتابي على النصارى واليهود ثمَّ عبتَ جملةَ كتبي في المعرفة والتمست تهجينَها بكلِّ حيلة وصغَّرت من شأنها وحطَطت من قدرها واعترضت على ناسخيها والمنتفعين بها فعبتَ كتاب الجوابات وكتاب المسائل وكتابَ أصحابِ الإلهام وكتابَ الحجَّة في تَثبيت النبوّة وكتاب الأخبار ثمّ عبتَ إنكاري بصيرةَ غنام المرتدِّ وبصيرةَ كلِّ جاحد وملحد وتفريقي بين اعتراض الغُمْر وبين استبصار المحقّ وعبتَ

كتابَ الردِّ على الجَهْمِيّة في الإدراك وفي قولهم في الجَهْالات وكتاب الفرقِ ما بينَ النبيّ والمتنبي والفرق ما بينَ الحِيَل والمخاريق وبينَ الحقائقِ الظاهرة والأعلام الباهِرة ثمّ قصدتَ إلى كتابي هذا بالتصغير لقدره والتهجين لنظمه والاعتراض على لفظه والتحقير لمعانيه فزَرَيت على نحْتِهِ وسَبكه كما زَرَيت على معناهُ ولفظِه ثمّ طعنتَ في الغرض الذي إليه نزعْنا والغاية التي إليها قَصَدنا على أنّه كتابٌ معناه أنبَهُ من اسمِهِ وحقيقتهُ آنَقُ من لفظه وهو كتابٌ يحتاجُ إليه المتوسِّط العامي كما يحتاجُ إليه العالم الخاصي ويحتاج إليه الرَّيِّض كما يحتاج إليه الحاذق : أما الرّيض فللتعلُّم والدرْبة وللترتيب والرياضة وللتمرينِ وتمْكين العادة إذْ كان جليلُه يتقدم دقيقه وإذا كانت مقدِّماته مرتبةً وطبقاتُ معانيه منزّلة وأما الحاذقُ فلكفايةِ المُؤنة لأن كلَّ من التقط كتاباً جامعاً وباباً من أمَّهات العلم مجموعاً كان له غُنْمه وعلى مؤلّفه غُرمُه وكان له نفعُه وعلى صاحِبهِ كَدُّه معَ تعرُّضِهِ لمطاعِن البُغَاةِ ولاعتراض المنافِسِين ومع عرْضِهِ عقلَه المكدودَ على العقولِ الفارغة ومعانيه على الجهابِذة وتحكيمه فيه المتأوِّلين والحسَدَة ومتى ظَفِر بمثله صاحبُ علم أو هجمَ عليه طالبُ فقه وهو وادعٌ رافِه ونَشِيط جَامٌّ

ومؤلِّفه مُتعَبٌ مكدود فقد كُفي مَؤُونَة جمعه وخزنِه وطلبِه وتتبُّعِه وأغناه ذلك عن طول التفكير واستفادِ العمر وفلِّ الحدِّ وأدرَك أقصى حاجتِه وهو مجتمعُ القُوَّة وعلى أنّ له عند ذلك أن يجعَلَ هُجومه عليه من التوفيق وظفَره به باباً من التسديد .
وهذا كتابٌ تستوي فيه رغبةُ الأُمم وتتشابَه فيه العُرْبُ والعَجَم لأنه وإن كانَ عَرَبيًّا أعرابياً وإسلاميًّا جماعيًّا فقد أخَذَ من طُرَفِ الفلسفة وجمع بين معرفةِ السماعِ وعلْم التجرِبة وأشرَكَ بين علمِ الكتاب والسنة وبينَ وِجْدان الحاسَّة وإحساس الغريزة ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيُوخ ويشتهيه الفاتِكُ كما يشتهيه الناسك ويشتهيه اللاعبُ ذو اللَّهو كما يشتهيه المجدّ ذو )
الحَزْم ويشتهيه الغُفْلُ كما يشتهيه الأريب ويشتهيه الغبيُّ كما يشتهيه الفَطِن .
وعبتَني بحكاية قولِ العثْمانِيَّة والضِّرَارية وأنت تسمعني أقول في أوَّل كتابي : وقالت العثمانية والضراريَّة كما سمعتَني أقول : قالت الرافضة والزيدية فحكمتَ عليَّ بالنصْب لحكايتي قول العثمانية فهلاَّ حكمتَ عليّ بالتشيُّع لحكايتي قول الرافضة وهلا كنتُ عندَك من الغالِية لحكايتي حجج الغالية كما كنتُ عندك من الناصِبة لحكايتي قولَ الناصِبة وقد حكينا في كتابنا قولَ الإباضيَّة والصُّفْرية كما حكينا قولَ الأزارقة والزيدية وعلى

هذه الأركان الأربعة بُنِيَت الخارجية وكلُّ اسمٍ سواها فإنما هو فرعٌ ونتيجةٌ واشتقاقٌ منها ومحمولٌ عليها وإلاَّ كنَّا عندَك من الخارجية كما صرنا عندَك من الضِّرَاريَّة والناصِبَة فكيف رضيتَ بأن تكون أسرع من الشيعة أسرع إلى إعراض الناس من الخارجية اللهم إلا أن تكون وجدتَ حكايتي عن العثمانيَّة والضِّراريَّة أشبعَ وأجمعَ وأتَمَّ وأحكم وأجود صنعة وأبعد غاية ورأيتني قد وهَّنت حقَّ أوليائك بقدر ما قوَّيتُ باطل أعدائك ولو كان ذلك كذلك لكان شاهدك من الكتاب حاضراً وبرهانك على ما ادعيت واضحا .
وعبتَني بكتاب العباسية فهلاَّ عبتَني بحكايِة مقالِة مَن أبى وجوبَ الإمامة ومَنْ يرى الامتناع من طاعة الأئمة الذين زعموا أنّ تَركَ النَّاس سُدًى بلا قيِّم أردُّ عليهم وهملاً بلا راع أربحُ لهم وأجدَرُ أنْ يجمع لهم ذلك بين سلامَةِ العاجل وغنيمة الآجل وأنَّ تركَهم نَشَراً لا نظامَ لهم أبعد من المَفاسِد وأجمعُ لهم عَلَى المراشد بل ليس ذلك بك ولكنَّه بهرَك ما سمعتَ وملأَ صدرَك الذي قرأت وأبعَلك وأبْطَرَك فلم تتّجه للحجّة وهي لك معرضة ولم تعرف المقاتل وهي لك بادية ولم تَعرِف بابَ المخرج إذ جهلتَ بابَ المدخَل ولم تعرِف المصادر إذ جهلتَ الموارد .
رأيتَ أنَّ سبَّ الأولياء أشفى لدائك وأبلغَ في شفاء سَقَمك ورأيتَ أن إرسالَ اللسان أحضَرُ لَذَّةً وأبعدُ من النَّصَب ومن إطالة الفكرة ومن الاختلاف إلى أرباب هذه الصناعة .


ولو كنتَ فطِنت لعجْزك ووصَلْتَ نقصَك بتمامِ غيرِك واستكفيْتَ من هو موقوفٌ على كفايةِ مثلك وحَبيسٌ على تقويم أشباهك كان ذلك أزينَ في العاجِل وأحقَّ بالمثُوبة في الآجل وكنتَ إنْ أخطأَتك الغنيمةُ لم تُخْطِك السلامة وقد سَلِم عليك المخالفُ بقدر ما ابتُلي به منكَ الموافِق وعلى أنَّه لم يُبتَل منك إلا بقْدرِ ما ألزمَته من مُؤنةِ تثقيفك والتشاغُلِ بتقويمك وهل هَلْ يَضُرُّ السَّحابَ نَبْاحُ الكلابِ وإلاّ كما قال الشاعر : ) ( هل يَضُرُّ البحرَ أمسى زَاخِراً ** أَنْ رَمَى فيهِ غُلامٌ بَحجَرَْ ) وهل حالُنا في ذلك إلاّ كما قال الشاعر : ( ما ضرَّ تغلِبَ وائلٍ أهجَوْتَها ** أم بُلْتَ حَيْثُ تَنَاطَحَ البَحْرَانِ ) وكما قال حسَّانُ بنُ ثابت : ( ما أُباِلي أنَبَّ بالحَزْنِ تَيسٌ ** أم لَحَانِي بظهْرِ غَيْبٍ لَئِيمَُ ) وما أشكُّ أنَّكَ قد جعلت طول إعراضنَا عنك مَطِيَّةً لك ووجَّهتَ حِلمَنا عنك إلى الخوف منك وقد قال زُفَر بنُ الحارث لبعضِ مَنْ لم ير حقَّ الصفح فجعل العفْوَ سبباً إلى سوء القول :

( فإنْ عدتَ وَاللّهِ الذي فوقَ عَرْشِه ** مَنَحْتُك مسنون الغِرَارَينِ أزْرَقا ) ( فإنّ دواءَ الجهل أن تُضْرَبَ الطُّلَى ** وأن يُغْمس العِرِّيضُ حتى يغرّقا ) وقال الأوّل : ( وضغَائنٍ دَاوَيتُها بضغائنٍ ** حتَّى شَفَيتُ وبالحُقُودِ حُقُودا ) وقال الآخر : ( وما نَفى عنك قوماً أنت خائفُهم ** كَمِثل وَقمك جُهَّالاً بجُهّالِ ) فإنّا وإن لم يكن عندنا سِنَان زُفَرَ بنِ الحارث ولا معارضةُ هؤلاء الشرَّ بالشرّ والجهلَ بالجهل والحِقد بالحِقد فإن عندي ما قال المسعوديَُّ : ( فمُسَّا تراب الأرض منه خُلقتُما ** وفيه المعادُ والمصيرُ إلى الحشر ) ( ولا تأنفا أن تَرْجِعا فتسلِّما ** فما كسى الأفواه شَرًّا من الكِبْرِ )

( فلو شئتُ أدْلى فيكما غير واحد ** علانيةً أو قالَ عندي في السِّرِّ ) ( فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنْهَ عنكُما ** ضَحِكْتُ له كيما يَلجَّ ويَسْتَشْرِي ) وقال النَّمِر بن تَولَب : ( جزَى اللّهُ عنِّي جَمرَةَ ابنة نوفلٍ ** جَزَاءَ مُغِلٍّ بالأمانةِ كاذِب ) ( بما خَبَّرَتْ عنِّي الوُشاةَ ليكذِبوا ** عليَّ وقد أوليتُها في النوائِب ) يقول : أخرجتْ خَبرَها فخرج إلى من أحبُّ أن يعابَ عندها ولو شئتَ أن نعارضَك لعارضناك في القول بما هو أقبحُ أثراً وأبقى وَسْماً وأصدقُ قِيلاً وأعدلُ شاهداً وليس كلُّ مَن تَرَكَ المعارضَةَ فقد صفح كما أنَّه ليس من عَارضَ فقد انتصرَ )
وقد قال الشاعر قولاً إن فهمتَه فقد كفَيتَنا مئونةَ المُعارضَة وكفيتَ نفسَك لزوم العارِ وهو قوله : ( فاخشَ سُكُوتي إذ أنا منصت ** فيكَ لمسموعِ خَنَا القائلِ ) ( فالسامعُ الذمِّ شريكٌ لهُ ** ومُطِعمُ المأكولِ كالآكِل )

( مقالةُ السُّوء إلى أهلها ** أسرَعُ من مُنْحَدر سائلِ ) ( ومن دَعا الناسَ إلى ذمِّه ** ذمُّوه بالحقِّ وبالباطل ) ( فلا تَهِجْ إنْ كنتَ ذا إربَةٍ ** حرْبَ أخي التجرِبة العاقل ) ( فإنَّ ذا العَقل إذا هِجْتَه ** هجتَ به ذا خَيَلٍ خابل ) ( تُبْصرُ في عاجلِ شدَّاته ** عليك غِبَّ الضرَر الآجلِ ) وقد يقال : إنّ العفوَ يُفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم وقد قال الشاعر : ( والعَفو عندَ لبيبِ القومِ موعِظةٌ ** وبعضهُ لسَفيهِ القومِ تدريبُ ) فإنْ كنَّا أسأنا في هذا التقريع والتوقيفِ فالذي لم يأخُذ فينا بحُكم القرآن ولا بأدَب الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يَفزَع إلى ما في الفِطَن الصحيحة وإلى ما توجبهُ المقاييسُ المطَّرِدةُ والأمثالُ المضرُوبة والأشعار السائرة أولَى بالإساءَة وأحقُّ باللائمة

أخذ البريء بذنب المذنب
قال اللّه عزَّ وجل : وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ ُ وِزْرَ أُخْرَى وقد قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام : لا يَجْنِ يمِينُكَ عَلَى شِمَالك وهذا حكمُ اللّه تعالى وآدابُ رسوله والذي أُنْزِلَ به الكتابُ ودلَّ عليه من حُجَج العقول .
فأمَّا ما قالوا في المثل المضروب رَمَتْنيِ بِدَائهَا وانسَلَّتْ وأمّا قولُ الشعراءِ وذمُّ الخطباءِ لِمنْ أخَذَ إنساناً بذنْب غيره وما ضَرَبُوا في ذلك من الأمثال كقول النابغة حيث يقول في شعره : ( وكَلَّفْتَنِي ذَنْبَ امْرِئٍ وترَكْتَ ** كذِي العُرِّ يُكوَى غيرُه وهو رَاتِع )

وكانوا إذا أصاب إبلَهُم العُرّ كَوَوُا السليمَ ليدفعَه عن السقيم فأسقمُوا الصحيحَ من غير أن يُبْرِئوا السقيم .
وكانوا إذا كثُرتْ إبلُ أحدِهم فَبَلَغَت الألف فقئوا عَينَ الفحْل فإنْ زادَت الإبلُ على الألف فقئوا العينَ الأخرى وذلك المفقَّأُ والمعمَّى اللذان سمعتَ في أشعارهم .
قال الفرزدق : ( غلبتك بالمفقئ والمعنَّى ** وبيتِ المُحْتَبِي والخافقاتِ ) وكانوا يزعمون أن المفقأ يطرد عنها العين والسواف والغارة فقال الأوّل : ( فقأت لها عَيْنَ الفَحِيل عِيَافَةً ** وفيهنّ رَعْلاَءُ المسامِع والحامي )

الرعلاء : التي تشق أذنها وتترك مدلاة ، لكرمها وكانوا يقولون في موضع الكَفَّارة والأمْنِيَّة كقول الرجل : إذا بلغَتْ إبلي كذا وكذا وكذلك غنَمي ذَبحْتُ عند الأوثان كذا وكذا عتيرة والعتيرة من نُسُك الرَّجبيّة والجمع عتائر والعتائر من الظباء فإذا بلغتْ إبلُ أحدِهم أو غنمُه ذلك العددَ استعملَ التأويلَ وقال : إنَّما قلتُ إنِّي أذبحُ كذا وكذا شاة والظباء شاء كما أنّ الغنم شاء فيجعل ذلك القربانَ شاءً كلَّه ممَّا يَصِيد من الظباء فلذلك يقول الحارثُ ابن حِلِّزةََ اليشكُريُّ : ( عَنَتاً باطلاً وظُلْماً كما تُع ** تَرُ عَنْ حَجْرَةِ الرَّبِيضِ الظِّباءَُ ) بعد أن قال : ( أمْ عَلينا جُناحُ كِنْدَةَ أن يَغ ** نَمَ غَازِيُهمُ ومِنَّا الجزاءُ ) وكانوا إذا أورَدُوا البقرَ فلم تشرَبُ إمَّا لكَدر الماء أَو لقلَّةِ العطَش ضربوا الثورَ ليقتَحِم الماء لأنَّ البقرَ تَتْبَعه كما تتْبع الشَّوْلُ الفحل وكما تتبع أتُنُ الوحش الحِمار فقال في ذلك عَوْفُ بن )
الخَرِع : ( تمنَّتْ طيِّئٌ جَهْلاً وجُبْناً ** وقد خالَيتُهم فأَبَوْا خلائي ) ( هَجَوْني أنْ هَجَوْتُ جِبَال سَلمى ** كضَرْب الثَّورِ للبقرِ الظِّماء ) وقال في ذلك أَنَس بن مُدْرِكة في قتله سُلَيك بنَ السُّلَكَة : ( أنِفْتُ لِلْمَرء ِإذْ نِيكتْ حَلِيلتُه ** وأن يُشَدَّ على وجعائها الثَّفَرُ )

وقال الهَيَّبان الفهميّ : ( كما ضُرِبَ الْيَعْسُوب أَنْ عافَ باقِرٌ ** وما ذَنْبُهُ أن عافَتِ الماءَ باقرُ ) ولمّا كان الثورُ أميرَ البقر وهي تطيعُه كطاعة إناث النحل لليعسوب سمَّاه باسم أمير النحْلِ .
وكانوا يزعمون أنَّ الجنَّ هي التي تصُدُّ الثِّيرانِ عن الماء حتى تُمْسِكَ البقرُ عن الشرب حتى تهلِك وقال في ذلك الأعشى : ( فإنِّي وما كلَّفتُموني وربِّكم ** لأعلَمُ مَنْ أمْسَى أعقَّ وأَحربا ) ( لَكالثَّور والجنّيُّ يَضرِبُ ظَهرَه ** وما ذنْبُه أن عافَتِ الماءَ مَشرَبا ) ( وما ذنْبُه أَنْ عافَتِ الماءَ باقِرٌ ** وما إن تَعَافُ الماءَ إلاَّ ليُضْرَبا ) كأنّه قال : إذا كان يُضْرَب أبداً لأنها عافت الماء فكأنَّها إنما عافَتِ الماءَ ليُضْرب وقال يحيي بن منصور الذُّهليّ في ذلك : ( لكالثَّور والجنيّ يَضْرِبُ وَجْهَه ** وما ذَنْبه إن كانَتِ الجِنُّ ظالِمه ) وقال نَهْشلُ بنُ حَرِّيٍّ : ( أتُتْرَكُ عارضٌ وبنو عَدِيٍّ ** وتَغْرَمَ دارِمٌ وهُم بَرَاءُ ) ( وكيف تكلّفُ الشِّعرَى سُهيلاً ** وبينَهما الكواكبُ والسَّماء )

وقال أبو نُوَيرة بن الحصين حين أخذه الحكم بن أيُّوب بذَنْب العَطَرَّق : ( أبا يُوسُفٍ لو كنتَ تَعلَمُ طاعَتي ** ونُصْحِي إذنْ ما بِعتَني بالمحلَّق ) ( ولا ساقَ سَرّاق العِرَافة صالحٌ ** بَنِيَّ ولا كُلِّفْتُ ذَنْبَ العطرق ) وقال خِداش بن زُهير حين أُخذ بدماء بني محارب : ( أُكلّفُ قَتْلَى مَعْشر لستُ مِنهمُ ** ولا دارُهُمْ داري ولا نصرُهُم نَصْرِي ) ( أُكلَّفُ قَتلَى العِيصِ عِيصِ شُواحِط ** وذلك أمرٌ لم تُثَفّ لَهُ قِدْرِي )
وقال الآخر : ( إذا عَرَكت عِجْلٌ بنا ذنْبَ طيِّءٍ ** عَرَكْنا بتَيمِ اللاتِ ذنبَ بَني عِجْلِ ) ولما وَجَد اليهودِيُّ أخا حنبض الضبابيّ في منزله فخصَاه فمات وأخذَ حنبض بني عَبْس بجنايَة اليهوديّ قال قيس بن زُهَيْر : أتأخذُنا بذنْبِ غيرِنا وتسألنا العَقلَ والقاتلُ يهوديٌّ من أهل تيماء فقال : واللّه أنْ لو قتلَتْه الريح لودَيْتُمُوه فقال قيس لبني عَبس : الموتُ في بني ذُبيانَ خَيْرٌ من الحَياةِ في بَني عامر ثم أنشأ يقول : ( أكلَّفُ ذا الخُصْيَيْن إن كان ظَالماً ** وإن كنتُ مظلوماً وإن كنتُ شاطنا )

( خصاه امرؤ من آل تيماء طائر ** ولا يعدم الإنسي والجن كائنا ) ( فَهَلاَّ بني ذُبيانَ أمُّكَ هَابِلٌ ** رَهَنْتَ بفَيفِ الرِّيحِ إن كُنْتَ رَاهِنا ) ( إذا قلتَُ قد أفلتُّ من شَرِّ حنبض ** أتاني بأُخْرَى شرّه مُتَباطِنا ) ( فقد جَعَلَتْ أكبادُنا تجتويكُمُ ** كما تجتَوِي سوقُ العِضاهِ الكرازِنا ) قتل لقمان بن عاد لنسائه وابنته ولما قَتَل لُقمان بنُ عادٍ ابنَته وهي صُحْر أختُ لُقَيم قال حين قَتَلها : ألَسْتِ امرأة وذلك أنّه قد كان تزوج عِدَّةَ نساء كلُّهنَّ خُنَّهُ في أنفُسهنّ فلمَّا قَتَلَ أُخراهنَّ ونزل من الجبل كان أوَّلَ من تلقّاه صُحْر ابنته فوثَبَ عليها فقتلها وقال : وأنت أيضاً امرأة وكان قد ابْتُلِي بأنَّ أختَه كانت مُحْمِقة وكذلك كان زوجُها فقالتْ لإحدَى نساءِ لُقْمان : هذه ليلةُ طُهْرِي وهي ليلتُك فدَعيني أنامُ في مَضجَعِك فإنَّ لقمانَ رجلٌ مُنْجِب

فعسَى أن يقَع عليَّ فأُنْجِبَ فوَقَعَ على أُختِه فَحَمَلَتْ بِلُقَيْم فهو قولُ النَّمِرِ بن تَولَب : ( لُقيمُ بنُ لُقمانَ من أُختِهِ ** فكانَ ابنَ أُختٍ لهُ وابنَما ) ( ليالِيَ حمّق فاستحصنَتْ ** عليه فَغُرَّ بها مُظْلِما ) ( فأحبَلَهَا رَجلٌ مُحكِمٌ ** فجاءت به رجلاً مُحْكِمَا ) فضربت العربُ في ذلك المثلَ بقتل لقمان ابنتَه صُحراً فقال خُفافُ بن نَدْبةَ في ذلك : وقال في ذلك ابن أُذَيْنَة : ( أتجمَع تَهيَاماً بليلَى إذا نأَتْ ** وهِجْرانَها ظُلماً كما ظُلِمَتْ صُحْرَُ ) وقال الحارثُ بن عُبَاد : ( قَرِّبا مربطَ النعامةِ مِنِّي ** لَقِحَتْ حربُ وائلٍ عَنْ حِيالِ ) ( لم أكنْ من جُنَاتِها عَلِمَ الل ** هُ وإنِّي بحَرِّها اليومَ صالِي ) وقال الشاعر وأظنُّه ابنَ المقفَّع :

( فلا تَلُمِ المرءَ في شأنِهِ ** فربَّ ملومٍ ولَمْ يُذْنِبَِ ) وقال آخر : ( لعلَّ لَهُ عُذْراً وأَنتَ تَلُومُ ** وكم لائمٍ قد لاَمَ وهْوَ مُليم ) حديث سنمَّار وقال بعض العرب في قتل بعضِ الملوك لِسِنمَّار الرومي فإنه لما علا الخَوَرْنَق ورأى بُنْياناً لم يرَ مثله ورأى في ذلك المستشرف وخاف إن هو استبقاه أن يموت فيبني مثلَ ذلك البنيانَ لرجُلٍ آخرَ من الملوك رمَى به من فوق القصر فقال في ذلك الكلبيّ في شيءٍ كان بينَه وبين بعضِ الملوك : ( سِوَى رَصِّه البنيانَ سَبعين حِجَّةً ** يُعَلَّى عليه بالقرَامِيدِ والسَّكْبِ ) ( فلما رأى البُنْيانَ تمَّ سُحُوقَه ** وآضَ كمِثْلِ الطَّوْدِ ذِي الباذِخ الصَّعْبِ ) ( وظنَّ سِنِمّارٌ به كُلَّ حبوة ** وفازَ لَدَيْهِ بالمودَّةِ والقُرب )

( قال اقذِفُوا بالعِلْجِ مِنْ رأسِ شاهقٍ ** فذاكَ لعَمْرَ اللّهِ مِنْ أعظَمِ الخَطْب ) وجاء المسلمونَ يروي خَلَفٌ عن سلف وتابعٌ عن سابِق وآخَرُ عنْ أوّل أنَّهمْ لم يختلِفُوا في عيبِ قول زِياد : لآخُذَنَّ الوَلِيَّ بالوَلِيِّ والسَّمِي بالسَّمِيِّ والجارَ بالجارِ ولم يختلفُوا في لَعْن شاعِرهم حيث يقول : ( إذا أُخِذَ البَريءُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ** تجَنَّبَ ما يُحاذِرُه السقيمُ ) قال : وقِيل لِعَمْرو بن عُبَيد : إنّ فلاناً لما قدَّم رجلاً ليُضْرَبَ عُنُقه فقيل له : إنَّه مجنون فقال : لولا أنَّ المجنونَ يَلِدُ عاقلاً لخلَّيت سبيلَه قال : فقال عَمْرو : ما خَلَقَ اللّهُ النَّارَ إلاّ بالحق ولمّا قالت التغلَبِيَّةُ للجَحَّافِ في وَقْعَة البِشْر : فضَّ اللّهُ فاكَ وأعماك وأطالَ سُهادَك وأَقَلَّ رُقادَك فوَاللّه إنْ قَتَلْتَ إلاّ نساءً أعالِيهنَّ ثُدِيٌّ وأسافِلُهُنَّ دُمًى فقال لِمنْ حَولَه : لولا أن تَلِدَ هذِه مثلَها لخَلَّيتُ سَبيلَها فبلغ ذلك الحسنَ فقال : أمَّا الجَحَّاف فجَذْوةٌ من نارِ جهنَّم .
قال : وذمَّ رجلٌ عند الأحنَفِ بنِ قيس الكَمْأةَ بالسَّمْنِ فقال عند ذلك الأحنَف : رُبَّ مَلومٍ لا فبِهذهِ السيرةِ سرتَ فينا . )
وما أحسنَ ما قال سعيدُ بنُ عبدِ الرحمن : ( وإنّ امرأ أمْسَى وأصْبَحَ سالماً ** مِنَ النَّاس إلاَّ ما جَنَى لَسَعيدُ )

عناية العلماء بالملح والفكاهات وقلتَ : وما بالُ أهلِ العلمِ والنظرِ وأصحابِ الفكرِ والعِبَر وأربابِ النِّحَلِ والعلماءِ وأهلِ البصر بمخارجِ المِلَل وورثَةِ الأنبياء وأعوانِ الخلفاء يكتُبُون كتبَ الظُّرَفاءِ والمُلَحَاء وكُتب الفُرَّاغِ والخُلَعاء وكتبَ الملاهي والفُكَاهات وكتبَ أصحابِ الخُصوماتِ وكتبَ أصحابِ المِراءِ وكتبَ أصحاب العصبيَّةِ وحَمِيَّةِ الجاهليّة ألأَنَّهُمْ لا يحاسِبون أنفسهم ولا يُوازِنون بينَ ما عليهم ولهم ولا يخَافُون تصفُّحَ العلماءِ ولا لائمة الأرَبَاءِ وشنف الأَكْفَاء ومَشْنأة الجُلَساء فهلاّ أمسكتَ يَرْحَمُكَ اللّه عَنْ عَيْبِها والطَّعْنِ عليها وعن المَشُورَةِ والموعِظة وعن تخويفِ ما في سوء العاقبةِ إلى أنْ تبلغَ حالَ العلماء ومراتبَ الأَكْفاء فأمَّا كتابُنا هذا فسنذكرُ جُمْلَة المذاهب فيه وسَنَأتِي بعد ذلك على التفسير ولَعلَّ رأيَك عند ذلك أنْ يتحوَّل وقولَك أن يتبدل فتُثْبِتَ أو تكونَ قد أخذتَ من التوقُّفِ بنصيب إن شاء اللّه .

أقسام الكائنات

وأقولِ : إنّ العالَم بما فيه من الأجسام على ثلاثة أنحاء : متَّفق ومختلف ومتضادٌّ وكلُّها في جملةِ القول جمادٌ ونامٍ وكان حقيقةُ القولِ في الأجسام من هذه القِسْمة أن يقال : نامٍ وغيرُ نام ولو أنَّ الحكماءَ وضعُوا لكلِّ ما ليس بنامٍ اسماً كما وضعُوا للنامي اسماً لاتبّعنا أَثرَهُمْ وإنما ننتهي إلى حيثُ انتهوا وما أكثَرَ ما تكونُ دلالةُ قولِهمْ جماد كدَلاَلةِ قولهم مَوَات وقد يَفتَرِقان في مواضِعَ بعضَ الافتراق وإذا أخرجت من العالَمِ الأفلاكَ والبروجَ والنجومَ والشمسَ والقمر وجدتَها غيرَ نامية ولم تجدْهم يسمُّون شيئاً منها بجَماد ولا مَوات وليس لأنَّها تتحرَّكُ من تِلقاءِ أنفُسِها لم تُسَمَّ مواتاً ولا جماداً وناسٌ يجعلونها مدبِّرة غير مدبَّرة ويجعلونها مسخِّرة غير مسَخَّرَّة ويجعلونها أحْيَا من الحيوان إذْ كان الحيوانُ إنَّمَا يَحْيا بإحيائها لَه وبِما تُعطيه وتُعِيره وإنما هذا منهم رأي والأُمَمُ في هذا كلِّه على خلافِهم ونحنُ في هذا الموضعِ إنَّما نعبِّر عن لُغَتنا وليس في لُغتنا إلاّ ما ذكرنا .
والناسُ يسمُّون الأرضَ جماداً وربّما يَجعلونها مَوَاتاً إذا كانتْ لم

تُنْبِتْ قديماً وهي مَوَات الأرض وذلك كقولهم : مَنْ أحيَا أَرضاً مواتاً فهي له . )
وهم لا يجعلون الماء والنارَ والهواءَ جماداً ولا مَوَاتاً ولا يسمُّونَها حيواناً ما دامت كذلك وإن كانت لا تضاف إلى النَّماء والحسّ .
والأرضُ هي أحدُ الأركانِ الأربعة التي هي الماءُ والأرضُ والهواءُ والنار والاسمانِ لا يتعاوَرَانِ عندَهم إلاّ الأرض .

تقسيم النامي
ثمَّ النامِي على قسمين : حيوان ونبات والحيوانُ على أربعة أقسام : شيءٌ يمشي وشيء يطير وشيء يسْبَحُ وشيءٌ يَنْسَاح إلاّ أنّ كلَّ طائرٍ يمشي وليس الذي يَمشي ولا يَطِير يسمى طائراً والنوعُ الذي يَمشي على أربعةِ أقسام : ناس وبهائم وسباع وحشرات على أنّ الحشَرَاتِ راجعةٌ في المعنى إلى مشاكلةِ طباع البهائمِ والسباع إلاّ أنّنا في هذا كلِّه نتبع الأسماءَ القائمة المعروفة البائنات بأنفُسِها المتميِّزاتِ عند سامعيها مِنْ أهلِ هذه اللغةِ وأصحاب هذا اللسان وإنَّما نُفْرِد ما أفْرَدوا ونَجْمَع ما جَمَعوا .

تقسيم الطير
والطيرُ كلٌّ سَبُعٍ وبَهيمة وهَمَج والسباعُ من الطير على ضَربَيْن : فمنها العِتاقُ والأحرارُ والجوارحَ ومنها البغاث وهو كلُّ ما عظمَ من الطير : سبعاً كان أو بهيمة إذا لم يكنْ من ذواتِ السلاحِ والمخالبِ المعقَّفة كالنُّسورِ والرَّخَم والغِربان وما أشبهها مِنْ لئامِ السباع ثم الخَشَاش وهو ما لطُف جِرمُه وصَغُر شخصه وكان عديمَ السلاح ولا يكون كالزُّرَّقِ واليُؤيُؤ والباذنجان .
فأما الهَمَج فليس من الطير ولكنَّه ممَّا يطير والهمَجَ فيما يطيرُ كالحشراتِ فيما يمشي والحيّاتُ من الحشرات وأيُّ سبع أَدخَلُ في معنى السَّبُعيَّة مِنَ الأفاعي والثعابِين ولكن ليس ذلك من أسمائها وإن كانتْ من ذوات الأنيابِ وأكَّالة اللُّحوم وأعداِء الإنسِ وجَميعِ البهائم ولذلك تأكلُها الأوعَال والخَنازيرُ والقَنافِذُ والعِقبان والشاهْمُرك والسنانير وغير ذلك من البهائم والسباع فَمنْ جَعَلَ الحيَّاتِ سِباعاً وسمَّاها بذلك عندَ بعضِ القولِ والسببِ فقدْ أصابَ ومن جَعلَ ذلك لها كالاسمِ الذي هو العلامةُ

كالكَلْبِ والذئب والأسَد فقد أخطأ .
ومن سِباعِ الطيرِ شكلٌ يكون سِلاحُه المخالبَ كالعُقابِ وما أشبهها وشيءٌ يكونُ سِلاحُه المناقيرَ كالنُّسُورِ والرَّخَمِ والغِرْبان وإنَّما جعلْناها سباعاً لأنّها أكَّالةُ لحوم . )
ومِنْ بهائم الطير ما يكون سلاحُه المناقيرَ كالكَرَاكِيِّ وما أشبهها ومنه ما يكونُ سلاحُه الأسنانَ كالبُومِ والوَطْوَاطِ وما أشبهها ومنه ما يكون سلاحُه الصياصي كالدِّيَكَة ومنه ما يكون سلاحه السَّلْح كالحُباري والثعلب أيضاً كذلك .
والسَّبع من الطير : ما أكل اللحمَ خالصاً والبهيمةُ : ما أكلت الحبَّ خالصاً وفي الفنِّ الذي والمشتَرَك عندهم كالعصفور فإنَّه ليس بذي مِخْلَبٍ معقَّف ولا مِنْسَر وهو يلقط الحبَّ وهو مع هذا يصيد النَّمْل إذا طار ويَصِيد الجرادَ ويأْكُلُ اللحم ولا يَزُقُّ فِرَاخَه كما تزقُّ الحمامُ بل يُلْقِمها كما تُلْقِمُ السباعُ من الطير فراخَها وأشباهُ العصافيرِ من المشترَك كثيرٌ وسنذكُر ذلكَ في موضِعه إن شاء اللّه تعالى .


وليس كلُّ ما طار بجَناحينِ فهو من الطير قد يطير الجِعْلاَن والجَحْلُِ واليَعاسِيبُ والذّبابُ والزَّنابِيرُ والجَرادُ والنمْل والفَراشُ والبَعوضُ والأرضَة والنحلُ وغيرُ ذلك ولا يسمَّى بالطير وقد يقال ذلك لها عند بعض الذكرِ والسبب وقد يسمُّون الدجاجَ طيراً ولا يسمُّون بذلك الجراد والجرادُ أَطْيَر والمثلُ المضروبُ به أشهر والملائكةُ تطِيرُ ولها أجنحةٌ وليستْ من الطير وجَعفر بن أبي طالب ذو جناحين يَطير بهما في الجنَّة حيثُ شاء وليس جعفرٌ من الطير .
واسم طائرٍ يقَع على ثلاثة أشياء : صورة وطبيعة وجَناح وليس بالريشِ والقَوادِمِ والأباهِرِ والخوافي يسمَّى طائراً ولا بعدمه يسْقط ذلك عنه ألا ترى أنَّ الخفَّاشَ والوَطواطَ من الطير وإن كانا أمْرَطَينِ ليس لهما رِيشٌ ولا زَغَبٌ ولا شَكِيرُ ولا قَصَب وهما مشهورانِ بالحمل والولادة وبالرَّضاع وبظهور حَجْم الآذان وبكثرة الأسنان والنعامة ذاتُ ريشٍ ومِنقارِ وبَيضٍ وجَناحين وليست من الطير .
وليس أيضاً كلُّ عائمٍ سمكة وإن كان مناسباً للسمك في كثير من معانيه ألا تَرَى أنّ في الماء كَلْبَ الماء وعنْزَ الماء وخِنزيرَ الماء وفيه الرِّقُّ والسُّلَحْفاة وفيه الضِّفْدَع وفيه السرطان والبَيْنيبُ

والتِّمساح والدُّخس والدُّلْفين واللَّخْمُ والبُنْبُك وغيرُ ذلك من الأصناف والكَوسَج والد اللُّخْم وليس للكوسج أبٌ يُعرَف وعامَّةُ ذا يَعيش في الماء ويبيت خارجاً من الماء ويبيض في الشطِّ ويَبِيضُ بيضاً له صُفْرَةٌ وقَيْضٌ وغِرْقِئٌ وهو مع ذلك ممّا يكون في الماء مع السمك .

تقسيم الحيوان إلى فصيح وأعجم
ثمَّ لا يخرج الحيوان بعد ذلك في لغة العرب من فصيح وأعجم كذلك يقال في الجملة كما يقال الصامت لما لا يَصْنَع صمتاً قطُّ ولا يجوز عليه خلافه والناطق لِمَا لَمْ يتكلَّمْ قطُّ فيحملون ما يرغو ويَثغو ويَنهَق ويَصْهِل ويَشْحَج ويَخُور ويَبْغَم ويَعوِي ويَنبَح ويَزْقُو ويَضْغُو ويَهْدِر ويَصْفِر ويُصَوْصِي ويُقَوْقِي ويَنْعَبُ ويَزْأَر ويَنْزِبُ ويكِشُّ ويَعِجُّ على نطقِ الإنسان إذا جمع بعضه على بعض ولذلك أشباهٌ كالذكور والإناث إذا اجتمعا وكالعِيرِ التي تسمَّى لَطِيمة

وكالظُّعُن فإنَّ هذه الأشياءَ إذا وجد بعضُها إلى بعض أو أَخَذ بعضُها من بعض سُمِّيَتْ بأنبَه النوعَين ذِكْراً وبأقواهما والفصيحُ هو الإنسان والأعجم كلُّ ذي صوتٍ لا يفهَمُ إرادتَه إلاّ ما كان من جنسه ولعمري إنا نفهم عَن الفَرس والحمارِ والكلبِ والسِّنَّور والبعير كثيراً من إرادته وحوائجه وقصوره كما نفهم إرادةَ الصبيِّ في مَهْده ونعلم وهو من جليل العلم أنّ بكاءَه يدلُّ على خلافِ ما يدُلُّ عليه ضَحِكُه وحَمْحَمَةُ الفرَس عند رؤية المخلاة على خلاف ما يدلُّ عليه حَمحمتُه عند رؤية الحِجْر ودُعاء الهِرَّةِ الهرَّ خلافُ دعائها لولدها وهذا كثير .
والإنسانُ فصيح وإنْ عبَّرَ عن نفسِه بالفارسيّة أو بالهنديّة أو بالروميّة وليس العربيُّ أسوأ فهماً لِطَمْطَمَةِِ الروميِّ من الرومي لبيانِ لسان العربيّ فكلُّ إنسانٍ من هذا الوجه يقال له فصيح فإذا قالوا : فصيح وأعجَم فهذا هو التأويل في قولهم أعجم وإذا قالوا العرب والعجم ولم يلفظوا بفصيح وأعجم فليس هذا المعنى يريدون إنَّما يَعنُون أنَّه لا يتكلَّم بالعربيَّة وأنَّ العربَ لا تفهم عنه وقال كُثَيِّر : ( فبُورِك ما أعطَى ابنُ لَيلَى بِنِيَّةٍ ** وصامتُ ما أعطَى ابنُ ليلى وناطقُه )

ويقال جاء بما صَأى وصمت فالصامت مثل الذهب والفضّة وقوله صأى يعني الحيوانَ كلَّه ومعناه نطق وسكَت فالصامت في كلّ شيءٍ سِوَى الحيوان .
ووجدْنا كونَ العالَم بما فيه حكمةً ووجدْنا الحِكمَة على ضربَين : شيءٌ جُعِلَ حكمةً وهو لا يَعقِل الحكمةَ ولا عاقبةَ الحِكمة وشيءٌ جُعِل حكمةً وهو يَعْقِل الحكمة وعاقبةَ الحكمة فاستوى بذاكَ الشيء العاقلُ وغير العاقل في جهةِ الدَّلالةِ على أَنَّهُ حكمة واختلفا من جهةِ أَنَّ أحدهما دَليلٌ لاَ يَسْتَدِلّ والآخر دليل يستدل فكلُّ مُسْتَدِلٍّ دليل وليس كلُّ دليل مستدلاً فشارك كل حيوانٍ سوى الإنسان جميعَ الجمادِ في الدَّلالة وفي عدم الاستدلال واجْتَمَع للإنسان أَنْ كان )
دليلاً مستَدِلاًّ ثُمَّ جُعِل للمستدِلِّ سببٌ يدلُّ به على وجوهِ استدلاله ووُجوهِ ما نتج له الاستدلال وسمَّوا ذلك بياناً .

وسائل البيان
وجُعِل البيانُ على أربعة أقسام : لفظ وخطّ وعَقْد وإشارة

وجُعِل بيانُ الدليل الذي لا يستدِلُّ تَمْكِينَهُ المستدِلَّ من نفسه واقتيادَه كلَّ من فكَّر فيه إلى معرفةِ ما استُخْزِنَ من البرهان وَحُشِيَ من الدَّلاَلة وأُودِع مِن عَجيب الحكمة فالأجسامُ الخُرْسُ الصامتة ناطقةٌ مِن جهة الدَّلالة ومُعْرِبةٌ من جهة صحَّة الشهادة على أنَّ الذي فيها من التدبير والحِكمة مخبرٌ لمن استخبَرَه وناطقٌ لِمَن استنطقه كما خبَّر الهُزَالُ وكُسُوف اللونِ عن سُوءِ الحال وكما ينطق ( فعاجُوا فأثنَوا بالذي أَنْتَ أَهلُه ** ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائب ) وقال آخر : ( مَتى تَكُ في عدوٍّ أو صديقٍ ** تُخَبِّرْكَ العيونُ عن القلوبِ ) وقد قال العُكْليُّ في صِدق شمِّ الذّئب وفي شدّةِ حسِّه واسترواحه : ( يَستخبِر ُالريحَ إذا لم يَسْمَعِ ** بمثل مقراعِ الصَّفا الموقَّع ) وقال عنترة هو يصف نَعِيبَ غُراب : ( حَرِقُ الجَنَاحِ كأنَّ لَحْييْ رأسه ** جَلَمانِ بالأخبار هَشٌّ مُولَع )

وقال الفضل بن عيسى بن أبان في قصصه : سَل الأَرْضَ فقلْ : مَنْ شقَّ أنهارَكِ وغَرَسَ أشجارَكِ وجَنَى ثِمارَكِ فإنْ لم تُجبكَ حِواراً أجابتْكَ اعتباراً .
فموضوعُ الجسم ونَصْبته دليلٌ على ما فيه وداعيةٌ إليه ومنبهة عليه فالجمادُ الأبكمُ الأخرسُ من هذا الوجه قد شارَكَ في البيان الإنسانَ الحيَّ الناطق فمَنْ جَعَل أقسام البيانِ خمسة فقد ذهَبَ أيضاً مذهباً له جوازٌ في اللّغة وشاهدٌ في العقل فهذا أحدُ قِسمَي الحكمة وأحَدُ مَعْنَيَيْ ما استخرنها اللّه تعالى من الوديعة .
والقسمة الأُخرى ما أودَع صدور صنوفِ سائر الحيوان مِنْ ضُرُوبِ المعارف وفَطَرها عليه من غريب الهداياتِ وسخَّر حناجِرَها لَهُ من ضروبِ النَّغَم الموزونة والأَصواتِ الملحنة والمخارِجِ الشجِيَّة والأغاني المطربة فقد يقال إنَّ جميعَ أصواتها معدَّلة وموزونة موقَّعة ثمَّ )
الذي سهَّل لها من الرفق العجيبِ في الصنعة مما ذلَّله اللّه تعالى لمناقيرها وأكُفِّها وكيف فَتَحَ لها من باب المعرفةِ على قدر ما هَيَّأَ لها من الآلة وكيفَ أَعطَى كثيراً مِنها مِنَ الحسِّ اللطيفِ والصنْعةِ البديعة من غير تأديبٍ وتثقيف ومن غير تقويمٍ وتلقين ومن غير تدريج وتمرين فبَلَغَتْ بِعَفوها وبمقدار قوى فِطرتها من البَديهةِ

والارتجال ومن الابتداءِ والاقتضاب ما لا يَقْدرُ عليه حُذّاقُ رجالِ الرأي وفلاسفةُ علماءِ البشر بِيَدٍ ولا آلة بل لا يبلغ ذلك من الناسِ أكملُهُمْ خصالا وأَتمُّهُمْ خلالاً لا مِنْ جهة الاقتضاب والارتجال ولا من جِهة التعسُّف والاقتدار ولا من جهة التقدُّم فيه والتأنِّي فيه والتأتِّي له والترتيبِ لمقدِّماته وتمكين الأسباب المُعِينةِ عليه فصار جهد الإنسان الثاقبِ الحسِّ الجامِعِ القُوى المتصرِّفِ في الوجوه المقدَّم في الأُمور يَعجِز عن عَفْوِ كَثيرٍ منها وهو ينظرُ إلى ضروب ما يجيء منها كما أعطيت العنكبوتُ وكما أعطِيَت السُّرْفَة وكما عُلِّم النحْل بل وعُرِّفَ التُّنَوِّطُ مِن بديعِ المعرفة ومِن غَرِيبِ الصنعة في غير ذلك مِن أصناف الخلق ثم لم يوجب لهم العجز في أَنْفُسِهِمْ في أكثر ذلك إلاّ بما قوي عليه الهَمَجُ والْخشَاشُ وصِغارُ الحشرات ثم جعل الإنسان ذا العقلِ والتمكينِ والاستطاعة والتصريف وذا التكلُّفِ والتجرِبَة وذا التأنِّي والمنافَسَة وصاحبَ الفهْمِ والمسابَقَة والمتبصِّرَ شأنَ العاقبة متى أحسَنَ شيئاً كان كلُّ شيءٍ دونَه في الغُمُوض عليه أَسهلَ وَجَعَل سائِرَ الحيوانِ وإن كان يحسنُ أحدُها ما لا يحسنُ أحذَقُ الناس متى أحسنَ شيئاً عجيباً لم يمكنْهُ أن يُحسِن ما هو أقربُ منه في الظنّ وأسهلُ منه في الرأي بل لا يحسِنُ ما هو أقرب منه في الحقيقة فلا الإنسانُ جَعَلَ

نفسه كذلك ولا شيءٌ من الحيوان اختارَ ذلك فأحسَنَتْ هذه الأجناسُ بلا تعلُّم ما يمتَنِع على الإنسان وإن تعلَّم فصار لا يحاوله إذْ كان لاَ يطمع فيه ولا يحسُدُها إذا لا يؤمِّل اللَّحَاقَ بها ثمّ جعل تعالى وعزَّ هاتين الحكمتين بإزاء عُيونِ الناظِرين وتُجَاهَ أسماعِ المعتَبرِين ثمَّ حثَّ على التفكير والاعتبار وعلى الاتّعاظ والازدِجار وعلى التعرُّفِ والتبَيُّنِ وعلى التوقُّفِ والتذَكُّر فَجَعَلَها مذكّرةً منبِّهة وجَعَلَ الفِطر تُنْشِئ الخَواطرَ وتجُولُ بأهلها في المذاهب ذَلِكَ اللّهُ رَبُّ العالَمِينَ . فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ . ( مزج الهزل بالجدّ في الكتاب ) وهذا كتابُ موعظةٍ وتعريفٍ وتفقُّهٍ وتنبيه وأراكَ قد عِبتَه قبل أن تقفَ على حُدودِه وتتفكَّرَ في فصوله وتَعتبِرَ آخَره بأوله ومَصَادِرَه بموارده وقد غلّطَك فيه بعضُ ما رأيتَ في أثنائه من )
مزحٍ لا تعرف معناه ومن بَطالةٍ لم تطّلِعْ على غَورها ولم تدرِ لم اجتُلِبت ولا لأََيِّ علِّة تُكُلِّفت وأيّ شيءٍ أُرِيغَ بها ولأيِّ جِدٍّ احتُمِل ذلك الهزل ولأيِّ رياضةٍ تُجُشِّمتْ تلك البَطالة ولم تَدْرِ أَنَّ المزاحَ جِدٌّ إذا اجتُلِب ليكون علَّةً للجِدِّ وَأَنَّ البَطالة وَقارٌ ورَزانة إذا تُكُلِّفت لتلك العافية ولمَّا قال الخليلُ بن أحمد : لا يصل أحدٌ من علم النحو إلى ما يحتاجُ إليه

حتَّى يتعلَّم ما لا يحتاج إليه قال أَبو شمر : إذا كان لا يُتوصَّل إلى ما يحتاج إليه إلاّ بما لا يحتاج إليه فقد صار ما لا يُحتاج إليه يُحتاج إليه وذلك مثل كتابنا هذا لأنّه إن حَمَلْنَا جميعَ من يتكلَّف قراءة هذا الكتابِ على مُرِّ الحق وصُعوبة الجِدّ وثِقل المؤونة وحِلية الوقار لم يصبر عليه مع طوله إلاّ من تجرَّدَ للعلم وفهم معناه وذاق من ثمرته واستشعر قلبه من عزِّه ونال سروره على حسب ما يُورث الطولُ من الكَدّ والكثرةُ من السآمة وما أكثر مَن يُقَاد إلى حظِّه بالسواجير وبالسوق العنيف وبالإخافة الشديدة .

مدح الكتب
ثم لم أرَكَ رضِيتَ بالطعن على كلِّ كتاب لي بعينه حتَّى تجاوزتَ ذلك إلى أَنْ عبت وضْعَ الكتبِ كيفما دارت بها الحالُ وكيفَ تصرفَتْ بها الوجوه وقد كنتُ أعجَب من عيبك البعضَ بلا علم حتَّى عِبتَ الكلَّ بلا علْم ثم تجاوزْت ذلك إلى التشنيع ثم تجاوزتَ ذلك إلى نصب الحربِ فعبتَ الكِتَابَ ونعم الذخر والعُقدة هو ونعم الجليس والعُدَّة ونعم النشرة والنزهة ونعم المشتغل والحرفة ونعم الأنيس لساعة الوحدة ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة ونعم القرين والدخِيل ونعم الوزير والنزيل والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً وَظَرْفٌ حُشِي ظَرْفاً وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً

إِنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل وإن شئت كان أعيا من باقِل وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ وبزاجرٍ مُغرٍ وبناسكٍ فاتِك وبناطقٍ أخرسَ وبباردِ حارّ وفي البارد الحارِّ يقولُ الحسنُ بن هانئ : ( قُلْ لزُهير إذا انتَحى وشدا ** أَقْليِلْ أَوَ أَكْثِر فَأَنْتَ مِهْذَارُ ) ( سَخُنْتَ مِنْ شِدِّةِ البُرُودَةِ ح ** تَّى صِرْتَ عِنْدِي كَأَنَّكَ النارُ ) ( لاَ يَعجَبِ السامعُون مِنْ صِفَتِي ** كذلك الثلجُ بارِدٌ حارُ ) ومَنْ لكَ بطبيب أَعرابيّ وَمَنْ لَكَ برُوميٍّ هِنْدِيّ وبفارسي يُونَانيّ وبقَدِيمٍ مولَّد وبميِّتٍ ممتَّع ) وَمَنْ لَكَ بشيءٍ يَجْمَعُ لَكَ الأَوَّلَ والآخِر والناقص والوافر والخفيَّ والظاهر والشاهدََ والغائبَ وبعد : فمتى رأيتَ بستاناً يُحمَل في رُدْن ورَوضةً تُقَلُّ

في حِجْرٍ وناطقاً ينطِق عن الموتَى ويُترجمُ عن الأحياء وَمَنْ لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومِك ولا ينطق إلاّ بما تهوَى آمَنُ مِنَ الأرض وأكتمُ للسرِّ من صاحب السرِّ وأحفَظُ للوديعةِ من أرباب الوديعة وأحفَظ لما استُحْفِظَ من الآدميِّين ومن الأعْرَابِ المعرِبين بل مِنَ الصِّبيانِ قبلَ اعتراضِ الاشتغال ومن العُميانِ قبلَ التمتُّع بتمييز الأشخاص حينَ العنايةُ تامَّةٌ لم تنقص والأذهانُ فارغةٌ لم تنقَسِم والإرادَةُ وافرةٌ لم تتشعَّب والطِّينَةُ ليِّنة فهي أقبلُ ما تكون للطبائعِ والقضيبُ رطبٌ فهو أقربُ ما يكون من العُلوق حينَ هذه الخصالُ لم يَخْلُق جديدُها ولم يُوهَنْ غَرْبُهَا ولم تتفرَّق قُواها وكانت كما قال الشاعر : ( أتانِي هواها قبل أَنْ أَعرِفَ الهَوى ** فصادف قلباً خالياً فتمكّنا ) وقال عَبْدة بن الطَّبِيب : ( لا تأمَنوا قوماً يَشِبُّ صبيُّهم ** بَيْنَ القوابِلِ بالعَدَاوةِ يُنْشَعُ ) ومن كلامهم : التعلُّمُ في الصِّغَر كالنقشِ في الحجر وقد قال جِرَانُ العَودِ : ( تُركْنَ برجلة الروحاء حتَّى ** تنكّرتِ الديارُ على البَصيرِ ) ( كَوَحْيٍ في الحِجارةِ أو وُشُومٍ ** بأَيْدِي الرُّومِ بَاقِيَةِ النَّؤُور ) ( وإنّ مَن أدَّبته في الصِّبَى ** كالعُود يُسْقَى الماءَ في غَرْسِهِ )

( حَتَّى تُرَاهُ مُورِقاً ناضِراً ** بعدَ الذي قد كان في يُبْسِهِ ) وقال آخر : ( يُقَوِّمُ مِنْ مَيلِ الغُلامِ المؤدِّبُ ** ولا يَنْفَعُ التأديبُ والرأسُ أشيَبُ ) وقال آخر : ( وَتَلُومُ عِرْسَكَ بَعْدَ ما هَرِمَتْ ** وَمِنَ العَنَاءِ رِياضَةُ الهَرمِ ) وقد قالَ ذو الرُّمَّةِ لعيسى بن عمر : اكتبْ شِعري فالكتابُ أحبُّ إليَّ من الحفظ لأنّ الأعرابيَّ ينسى الكلمةَ وقد سهر في طلبها ليلَته فيضَعُ في موضعها كلمةً في وزنها ثم يُنشِدها الناسَ والكتاب لا يَنْسَى ولا يُبدِّلُ كلاماً بكلام .
وعبتَ الكتابَ ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ ولا خَليطاً أنصفَ ولا رفيقاً أطوعَ ولا معلِّماً أخضعَ ولا )
صاحباً أظهرَ كفايةً ولا أقلَّ جِنَايَةً ولا أقلَّ إمْلالاً وإبراماً ولا أحفَلَ أخلاقاً ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً ولا أقلَّ غِيبةً ولا أبعدَ من عَضِيهة ولا أكثرَ أعجوبةً وتصرُّفاً ولا أقلّ

َ تصلُّفاً وتكلُّفاً ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ ولا أتْرَك لشَغَب ولا أزهَدَ في جدالٍ ولا أكفَّ عن قتالٍ من كتاب ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاةً ولا أعجَل مكافأة ولا أحضَرَ مَعُونةً ولا أخفَّ مؤونة ولا شجرةً أطولَ عمراً ولا أجمعَ أمراً ولا أطيَبَ ثمرةً ولا أقرَبَ مُجتَنى ولا أسرَعَ إدراكاً ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ من كتاب ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه ورُخْص ثمنه وإمكانِ وُجوده يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة ومن آثارِ العقولِ الصحيحة ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة ومِنَ الحِكَم الرفيعة والمذاهب القوِيمة والتجارِبِ الحكيمة ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية والبلادِ المتنازِحة والأمثالِ السائرة والأمم البائدة ما يجمَعُ لك الكتابُ قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) فَوَصَفَ نَفْسَهُ تبارك وتعالى بأنْ علَّمَ بالقَلم كما وصف نفسَه بالكرَم واعتدَّ بذلك في نِعَمه العِظام وفي أيادِيه الجِسام وقد قالوا : القَلَمُ أحدُ اللسانَين وقالوا : كلُّ مَنْ عَرَف النِّعمةَ في بَيان اللسانِ كان بفضل النِّعمة في بيانِ القلم أعرَف ثمَّ جَعَلَ هذا الأمرَ قرآناً ثمَّ جعلَه في أوَّل التنزيل ومستَفْتَح الكتاب .

كون الاجتماع ضروريا
ً ) ثمَّ اعلمْ رحِمَك اللّه تعالى أَنّ حاجةَ بعض الناس إلى بعضٍ صفةٌ لازمةٌ في طبائِعهم وخِلقةٌ قائِمةٌ في جواهِرِهم وثابتةٌ لا تُزَايلُهم ومُحيطةٌ بجماعَتِهم ومشتملةٌ على أدناهم وأقصاهم وحاجَتُهُمْ إلى ما غاب عنهم

ممَّا يُعِيشُهم ويُحْييهم ويُمسِك بأرْماقِهم ويُصلِحُ بالهم وَيجْمَع شملَهم وإلى التعاوُنِ في دَرْكِ ذلك والتوازُرِ عليه كَحَاجَتِهم إلى التعاون على معرفة ما يضرُّهم والتوازرِ على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تَغِبْ عنهم فحاجَةُ الغائِبِ مَوصُولةٌ بحاجةِ الشاهد لاحتياج الأدنَى إلى معرِفة الأقصى واحتياج الأقصى إلى معرفَةِ الأدنى معانٍ متضمّنةٌ وأسبابٌ متَّصلة وحبالٌ منعقدة وجعل حاجتنَا إلى معرفة أخبارِ مَنْ كان قبلَنا كحاجةِ من كان قبلنا إلى أخبار مَنْ كان قبلهم وحاجةِ من يَكُونُ بعدَنا إلى أخبارِنا ولذلك تقدَّمت في كتب اللّه البشارات بالرُّسل ولم يسخِّر لهم جميعَ خلْقه إلاّ وهم يحتاجُون إلى الارتفاق بجميع خلْقه وجعلَ الحاجَةَ حاجَتَين : إحداهما قِوامٌ وقُوت والأخرى لذّةٌ وإمتاع وازديادٌ في الآلة وفي كلِّ ما أجذَلَ النفوس وجمع لهم العَتاد وذلكَ المقدارُ مِنْ جميع الصِّنْفَين وفقٌ لكثرةِ حاجاتهم وشَهوَاتهم وعلى قدْر اتّساعِ معرفتهم وبُعْدِ غَوْرهم وعلى قَدْرِ احتمال طبع البشريَّة وفِطرةِ الإنسانيَّة ثم لم يقطعِ الزيادةَ إلا لعجْزِ خلقِهم عن احتمالها ولم يجز أن يفرق بينهم وبين العجْز إلاّ بعدَم الأعيان إذ كان العجزُ صفةً من صفاتِ الخلق ونعتاً من نُعوتِ العبيد .
لم يخلق اللّه تعالى أحداً يستطيعُ بلوغَ حاجتِه بنفسه دونَ الاستعانة

ببعضِ من سخَّرَ له فأدناهم مسخَّرٌ لأقصاهم وأجلُّهم ميسَّر لأدقِّهم وعلى ذلك أحوَجَ الملوكَ إلى السُّوقة في بابٍ وأحوَجَ السُّوقَةَ إلى الملوك في باب وكذلك الغنيُّ والفقير والعبدُ وسيِّدُه ثُمَّ جَعلَ اللّه تعالى كلَّ شيءٍ للإنسان خَوَلاً وفي يَدِه مُذَلّلاً مُيَسَّراً إمّا بالاحتِيالِ له والتلطُّفِ في إراغَتِه واستِمالتِه وإمّا بالصَّوْلةِ عليه والفتكِ به وإمّا أَنْ يأْتِيَهُ سهواً ورهواً على أَنَّ الإنسانَ لولا حاجَتُهُ إليها لما احتالَ لها ولا صَالَ عليها إلاّ أَنّ الحاجةَ تفتَرِق في الجنس والجهةِ والجِبِلَّة وفي الحظِّ والتقدير .
ثمَّ تعبَّدَ الإنسانَ بالتفكُّرِ فيها والنظرِ في أُمورِها والاعتبار بما يَرَى ووَصَل بينَ عُقولهم وَبيْنَ معرفةِ تلك الحكَم الشريفة وتلك الحاجاتِ اللازمة بالنظرِ والتفكير وبالتنقيب والتنْقير والتثبت والتوقُّف ووَصَلَ معارفَهم بموَاقعِ حاجاتِهم إليها وتشاعُرِهم بمواضع الحكم فيها بالبيانِ )
عنها .

البيان ضروري للاجتماع
وهو البيانُ الذي جعلَه اللّه تعالى سبباً فيما بينَهم ومعبِّراً عن حقائق حاجاتهم ومعرِّفاً لمواضع سدِّ الخَلَّة ورفْع الشبهة ومداواةِ الحَيرة ولأنّ أكثرَ الناسِ عن الناس أفهمُ منهم عن الأَشباحِ الماثلة والأجسامِ الجامدة والأجرامِ الساكنة التي لا يُتَعَرَّفُ ما فيها من دَقائق الحكمةِ

وكُنوزِ الآداب وينابيعِ العلمِ إلاّ بالعقلِ الثاقب اللطيف وبالنظرِ التامِّ النافذ وبالأداةِ الكاملة وبالأسبابِ الوافرة والصبرِ على مكروه الفكر والاحتراسِ من وُجوه الخُدَع والتحفُّظِ مِن دواعي الهوى ولأنَّ الشِّكلَ أفهَمُ عن شِكله وأسكَنُ إليه وأصَبُّ به وذلك موجودٌ في أجناسِ البهائم وضُروبِ السباع والصبيُّ عن الصبيِّ أفهمُ له وله آلفُ وإليه أنزَع وكذلك العالِمُ والعالم والجاهل والجاهل وقال اللّه عزّ وجلّ لنبيِّه عليه الصلاة والسلام : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً لأَنَّ الإنسان عن الإنسان أفهم وطباعَه بطِباعه آنس وعلى قدْر ذلك يكونُ موقعُ ما يسمع منه .
ثمَّ لم يرضَ لهم من البنيان بصِنفٍ واحد بل جَمع ذلك ولم يفرِّق وكثَّر ولم يقلِّل وأظهَرَ ولم يُخْفِ وجعَل آلة البيانِ التي بها يتعارَفُون معانِيَهُم والتَّرْجُمانَ الذي إليه يرجِعون عند اختلافِهم في أربعة أشياء وفي خَصْلةٍ خامسة وإن نقصت عن بلوغ هذه الأربعة في جهاتها فقد تُبدَّل بجنسها الذي وَضِعت له وصُرفتْ إليه وهذه الخصال هي : اللفظ والخطّ والإشارة والعَقْد والخَصلة الخامسة ما أوجَدَ من صحَّة الدَّلالةِ وصدقِ الشهادة ووُضوحِ البرهان في الأَجْرَامِ الجامدة والصامتة والساكنة التي لا تَتَبيَّن ولا تحسُّ ولا تَفهَم ولا تتحرَّك إلاّ بداخلٍ يدخل عليها أو عندَ مُمْسِكٍ خلِّي عنها بعد أََنْ كان تقييده لها .
ثمَّ قسّم الأقسامَ ورتَّب المحسوسات وحصَّل الموجوداتِ فجعل اللفظَ للسامع وجعل الإشارةَ للناظر وأشرَك الناظرَ واللامس في معرفة

العَقْد إلاّ بما فضّل اللّه به نصيبَ الناظرِ في ذلك على قدْرِ نصيبِ اللامس وجَعَلَ الخطّ دليلاً على ما غابَ من حوائجه عنه وسبباً موصولاً بينه وبين أعوانه وجعله خازناً لما لا يأمَن نسيانَه ممَّا قد أحصاه وحفِظه وأتقنه وجَمعه وتكلف الإحاطة به ولم يجعل للشامِّ والذائق نصيباً .

خطوط الهند
ولولا خطوطُ الهِندِ لضاع من الحساب الكثيرُ والبسيط ولبطلت مَعرِفةُ التضاعيف ولَعدِموا الإحاطة بالباورات وباورات الباورات ولو أدرَكوا ذلك لَما أدرَكُوه إلاّ بعد أَنْ تغلُظَ المؤونة وتنتَقِضَ المُنّةُ ولصارُوا في حال مَعْجَزَةٍ وحسور وإلى حالِ مَضيعَةٍ وكَلالِ حدّ مع التشاغُلِ بأمورٍ لولا فقدُ هذه الدَّلالةِ لكان أربحَ لهم وأرَدَّ عليهم أن يُصرَف ذلك الشغلُ في أبوابِ منافع الدين والدنيا .
نفع الحساب
ونفع الحساب معلوم والخَلَّةُ في موضعِ فقدِه معروفة قال اللّه تعالى : الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ثم قال : الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بحُسْبَانٍ وبالبَيَانِ عَرَفَ الناسُ القرآنَ وقال اللّه تبارَكَ وتعالى :

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ فأجْرَى الحسابَ مُجرَى البيان بالقرآن وبحُسْبان منازلِ القمر عَرَفنا حالاتِ المدِّ والجزْر وكيف تكونُ الزيادةُ في الأهِلَّة وأنصافِ الشهور وكيف يكونُ النقصانُ في خلال ذلك وكيف تلك المراتبُ وتلك الأقدار .

فضل الكتابة
ولولا الكتبُ المدوَّنَة والأخبار المخلَّدة والحكم المخطوطة التي تُحصِّنُ الحسابَ وغيرَ الحساب لبَطَل أكثر العلم ولغلَب سُلطانُ النِّسيانِ سلطانَ الذكْر ولَمَا كان للناس مفزعٌ إلى موضعِ استذكار ولو تمَّ ذلك لحُرِمْنا أكثرَ النفع إذ كنَّا قد علمْنا أنَّ مقدار حفْظ الناسِ لعواجل حاجاتهم وأوائلها لا يَبلغ من ذلك مبلغاً مذكوراً ولا يُغْنِي فيه غَنَاء محموداً ولو كُلِّفَ عامّةُ مَن يطلب العلمَ ويصطَنِع الكتب ألاّ يزال حافظاً لفِهرست كتبه لأَعجزه ذلك ولكُلِّفَ شططاً ولَشَغله ذلك عن كثيرٍ ممّا هو أولى به وفهمُك لمعاني كلامِ الناس ينقطع قبل انقطاعِ فهْمِ عين الصوتِ مجرَّداً وأَبعَدُ فهمِك لصوتِ صاحبك ومُعامِلك والمعاوِنِ لك ما كان صياحاً صرفاً وصوتاً مصمَتاً ونداءً خالصاً ولا يكون ذلك إلاّ وهو بعيدٌ من المفاهمة وعُطْلٌ من الدَّلالة فجعل اللفظ

لأقرَب الحاجاتِ والصوتَ لأنفَسَ من ذلك قليلاً والكتابُ للنازح من الحاجاتِ فأمّا الإشارة فأقربُ المفهومِ منها : رَفْعُ الحواجبِ وكسرُ الأجفان وليُّ الشِّفاهِ وتحريك الأعناق وقبْض جلدةِ الوجه وأبعدُها أن تلوى بثوبٍ على مقطع جبل تُجاهَ عينِ الناظر ثمَّ ينقطع عملُها ويدرُس أثرها ويموت ذكرها ويصير بعدُ كلُّ شيءٍ فضَل عن انتهاء مدَى الصوت ومنتهى الطرف إلى الحاجة وإلى التفاهم بالخطوطِ والكتب فأيُّ نفع أعظمُ وأيُّ مِرْفَقٍ أعوَنُ من الخطِّ والحالُ فيه كما ذكرنا وليس للعَقْد حظُّ الإشارةِ في بُعد الغاية .

فضل القلم
فلذلك وضع اللّه عزّ وجلّ القلم في المكان الرفيع ونوَّه بذِكره في المنْصِب الشريف حين قال ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ فأقسَمَ بالقَلَم كما أقسمَ بما يُخَطُّ بالقلم إذ كان اللسانُ لا يتعاطى شأوَه ولا يشُقُّ غبارَه ولا يجري في حلبته ولا يتكلف بُعْدَ غايتِه لكنْ لما أَنْ كانت حاجات الناسِ بالحَضْرة أكثرَ مِنْ حاجاتهم في سائِر الأماكن وكانت الحاجَةُ إلى بيانِ اللسانِ حاجةً دائِمة واكدة وراهِنةً ثابِتة وكانت الحاجةُ إلى بَيانِ القلم أمراً يكونُ في الغَيبة وعند النائبة إلاَّ ما خُصَّت به الدواوين فإِنّ لسانَ القلم هناك أبسَطُ وأثرَهُ أعَمُّ فلذلك

قدَّموا اللسانَ على القلم . ض اليد فاللسانُ الآنَ إنَّما هو في منافع اليدِ والمرافق التي فيها والحاجاتِ التي تبلُغها فمن ذلك حظُّها وقِسْطُها من منافع الإشارة ثم نَصِيبُها في تقويم القلم ثم حَظُّها في التصوير ثم حَظُّها في الصناعات ثم حَظُّها في العَقْد ثم حَظُّها في الدَّفْع عن النفس ثمَّ حَظُّها في إيصال الطعام والشراب إِلى الفم ثم التوضُّؤ والامتساح ثم انتقادِ الدنانيرِ والدراهمِ ولُبسِ الثِّياب وفي الدفع عن النفس وَأََصْنَافِ الرَّمْي وأصنافِ الضرْب وأصناف الطعْن ثم النَّقْرِ بالعُود وتحريكِ الوتر ولولا ذلك لبَطَل الضرْبُ كلُّه أو عامَّتُه وكيف لا يكون ذلك كذلك ولها ضَرْبُ الطبْل والدُّفّ وتحريكُ الصفَّاقَتين وتحريك مخارِق خروق المزامير وما في ذلك من الإطلاق والحبس ولو لم يكنْ في اليدِ إلاَّ إمساكُ العِنان والزِّمام والخِطام لكانَ من أعظمِ الحظوظ وقد اضطرَبوا في الحكْم بين العَقْد والإشارة ولولا أنّ مغْزانا في هذا الكتابِ سوى هذا الباب لقد كانَ هذا ممَّا أُحِبُّ أن يعرفَه إخوانُنَا

وخلطاؤنا فلا ينبغي لنا أيضاً أن نأخذ في هذا الباب من الكلام إلاّ بعدَ الفَراغ ممَّا هو أولى بنا منه إذ كنتَ لم تنازِعني ولم تَعِبْ كتبي من طريقِ فضل ما بين العَقْد والإشارة ولا في تمييز ما بين اللفظ وبينهما وإنَّما قَصَدْنا بكلامنا إلى الإخبار عن فضيلة الكتاب .
والكتابُ هو الذي يؤدِّي إلى الناس كتبَ الدين وحسابَ الدواوين مع خفَّة نقلِه وصِغَر حجمه صامتٌ ما أسكتَّه وبليغ ما استنطقته ومَن لك بمسامر لا يبتديك في حالِ شُغْلك ويدعُوك في أوقاتِ نشاطِك ولا يُحوِجك إلى التجمُّل له والتذمُّم منه ومَن لكَ بزائرٍ إن شئتَ جعل زيارتَه غِبّاً وورُوده خِمْساً وإن شئت لَزِمَك لزومَ ظلِّك وكان منك مكانَ بعضِك . )
والقلمُ مكتفٍ بنفْسه لا يحتاج إلى ما عندَ غيرِه ولا بدَّ لبيان اللسانِ من أمور : منها إشارة اليد ولولا الإشارةُ لَمَا فهموا عنك خاصَّ الخاصِّ إذا كان أخصُّ الخاصِّ قد يدخل في باب العامّ إلاّ أنّه أدنى طبقاته وليس يكتفي خاصُّ الخاصّ باللفظ عمَّا أدّاه كما اكتفى عامُّ العامّ والطبقاتُ التي بينه وبين أخصِّ الخاصّ .
والكتابُ هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يغْريك

والرفيق الذي لا يملُّكَ والمستَمِيح الذي لا يستَريثُك والجارُ الذي لا يَسْتَبْطِيك والصاحبُ الذي لا يريد استخراجَ ما عندَك بالملَق ولا يعامِلُك بالمَكر ولا يخدَعك بالنِّفاق ولا يحتالُ لك بالكَذِب والكتابُ هو الذي إنْ نظرتَ فيه أطالَ إمتَاعَك وشحَذَ طباعَك وبسَط لسانَك وجوَّدَ بَنانك وفخَّم ألفاظَك وبجَّح نفسَك وَعمَّر صدرك ومنحكَ تعظيمَ العوامِّ وصَداقَةَ الملوك وعَرفتَ به في شهر ما لا تعرفُه من أفواهِ الرجال في دهْر مع السلامةِ من الغُرم ومن كدِّ الطلب ومن الوقوفِ بباب المكتِسب بالتعليم ومِن الجُلوس بين يَديْ مَن أنت أفضلُ منه خُلُقاً وأكرمُ منه عِرْقاً ومع السلامةِ من مجالَسَة الْبُغَضاء ومقارنةِ الأغبياء .
والكتابُ هو الذي يُطِيعُك بالليل كطاعته بالنهار ويطيعُك في السفر كطاعته في الحضر ولا يعتلُّ بنومٍ ولا يعتَرِيه كَلالُ السهرِ وهو المعلِّمُ الذي إن افتقرتَ إليه لم يُخْفِرْك وإن قطعتَ عنه المادَّة لم يقطعْ عنك الفائدة وإن عُزِلتَ لم يَدعْ طاعتَك وإن هبَّتْ ريحُ أعادِيك لم ينقلبْ عليك ومتى كنتَ منه متعلِّقاً بسبب أو معتصماً بأدنى حبْل كان لك فيه غنًى من غيره ولم تَضْطَرَّك معه وحشةُ الوَحدةِ إلى جليس السوء ولو لم يكن مِن فضْله عليك وإحسانِه إليك إلاّ منعُه لكَ من الجلوس على بابك والنظرِ إلى المارَّةِ بك مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوقِ التي تَلزَم ومن فُضولِ

النظَر ومن عادةِ الخوض فيما لا يعنيك ومِن ملابسةِ صغارِ الناس وحضورِ ألفاظهم الساقطة ومعانيهم الفاسِدة وأخلاقهم الرديَّة وجَهالاتهم المذمومة لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمةُ وإحرازُ الأصل مع استفادةِ الفرع ولو لم يكن في ذلك إلاّ أنّه يشغَلُك عن سُخْف المُنَى وعن اعتياد الراحة وعن اللعب وكلِّ ما أشبهَ اللعب لقد كان على صاحبه أسبَغَ النعمةَ وأعظَمَ المِنَّة .
وقد علمنا أنَّ أفضلَ ما يقطع به الفُرَّاغ نهارَهم وأصحابُ الفُكاهات ساعاتِ ليلِهم الكتاب وهو الشيء الذي لا يرى لهم فيه مع النيل أثرٌ في ازدِياد تجربةٍ ولا عقلٍ ولا مروءة ولا في صونِ )
عرض ولا في إصلاحِ دِين ولا في تثمير مال ولا في رَبِّ صنيعة ولا في ابتداء إنعام .
أقوال لبعض العلماء في فضل الكتاب وقال أبو عبيدة قال المهلَّب لبنِيه في وصيَّتِه : يا بَنيَّ لا تقوموا في الأسواقِ إلاّ على زَرَّادٍ أَو وَرَّاق .
وحدَّثني صديقٌ لي قال : قرأتُ على شيخٍ شاميٍّ كتاباً فيه مِن مآثر غطفان فقال : ذهبَت المكارمُ إلاّ من الكتب .
وسمعتُ الحسن اللؤلؤي يقول : غَبَرتُ أربعين عاماً ما قِلْتُ

ولا بِتُّ ولا اتكأت إلاّ والكتابُ موضوعٌ على صدري .
وقال ابن الجهْم : إذا غشِيَني النعاس في غير وقتِ نوم وبئس الشيءُ النومُ الفاضِلُ عن الحاجة قال : فإذا اعتراني ذلك تناولتُ كتاباً من كتب الحِكَم فأجدُ اهتزازي للفوائِد والأريحيَّة التي تعتريني عند الظفَر ببعض الحاجة والذي يغشَى قلْبي من سرور الاستبانة وعزِّ التبيين أشدَّ إيقاظاً مِن نَهيق الحمير وهَدَّةِ الهدْم .
وقال ابن الجهم : إذا استحسنتُ الكتابَ واستجدتُه ورجوتُ منه الفائدة ورأيتُ ذلك فيه فلو تراني وأنا ساعةً بعدَ ساعةٍ أنظرُ كم بقي من ورقِهِ مخافَةَ استنفاده وانقطاعِ المادَّة من قَلْبِه وإن كان المصحفُ عظيمَ الحجم كثير الورق كثير العدد فقد تَمَّ عيشي وكَمُلَ سروري .
وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال : لولا طولُه وكثرةُ ورقه

لنسختُه فقال ابن الجهم : لكنِّي ما رغّبني فيه إِلاّ الذي زهّدك فيه وما قرأتُ قطُّ كتاباً كبيراً فأخْلاني من فائدة وما أُحصِي كم قرأتُ من صغارِ الكتب فخرجتُ منها كما دخلت .
وقال العتبي ذاتَ يومٍ لابن الجهم : ألا تتعجَّبُ من فلانٍ نَظَر في كتابِ الإقليدس مع جارية سَلْمَويه في يومٍ واحد وساعة واحدة فقد فرغتِ الجاريةُ من الكتابِ وهو بعدُ لم يُحكِم مقالةً واحدة على أنَّه حُرٌّ مخيَّر وتلك أمَةٌ مقصورة وهو أحرصُ على قراءةِ الكتاب مِن سَلْمَوَيهِ على تعليمِ جارية قال ابن الجهم : قد كنت أظنُّ أنّه لم يفهم منه شكلاً واحداً وأُرَاك تزعم أنّه قد فرغ من مقالة قال العتبي : وكيف ظننتَ به هذا الظنَّ وهو رجلٌ ذو لسانٍ وأدب قال : لأنِّي سمعتُه يقول لابنِه : كم أنفقتَ على كتابِ كذا قال : أنفقت عليه كذا قال : إنَّما رَغّبَني في العلم أنّي ظننتُ أنّي أنفق عليه قليلاً وأكتسِب كثيراً فأمّا إذا صرتُ أنفِق الكثيرََ وليس في يدي إلاّ )
المواعيدُ فإنِّي لا أريد العلمَ بشيء .

السماع والكتابة

فالإنسان لا يعلمُ حتى يكثُرَ سماعُه ولا بُدَّ من أن تكون كتبُه أكثرَ من سَمَاعِه ولا يعلمُ ولا يجمع العلم ولا يُخْتَلَف إليه حتى يكون الإنفاقُ عليه من ماله ألذَّ عندَه من الإنفاق من مال عدوِّه ومَن لم تكن نفقتُه التي تخرج في الكتب ألذَّ عنده مِن إنفاق عُشَّاق القيان والمستهتَرين بالبنيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضِيّاً وليس يَنتفِع بإنفاقِه حتَّى يؤثِر اتِّخاذَ الكتبِ إيثارَ الأعرابي فرسَه باللبن على عياله وحتَّى يؤَمِّل في العلم ما يؤَمِّل الأعرابي في فرسه حرص الزنادقة على تحسين كتبهم . وقال إبراهيم بن السِّنديّ مرة : ودِدْتُ أنَّ الزنادقة لم يكونوا حرصاء على المغالاة بالورق النقيِّ الأبيض وعلى تخيُّر الحبرِ الأسودِ المشرِق البرَّاق وعلى استجادةِ الخطِّ والإرغاب لمن يخطّ فإنِّي لم أَرَ كورَق كتبِهم ورقاً ولا كالخطوط التي فيها خطّاً وإذا غرِمتُ مالاً عظيماً مع حبِّي للمال وبُغْضِ الْغُرْم كان سخاءُ النفس بالإنفاق على الكتب دليلاً على تعظيمِ العلمِ

وتعظيمُ العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامَة من سُكْر الآفات قلت لإبراهيم : إنّ إنفاقَ الزنادقةِ على تحصيل الكتب كإنفاق النصارى على البِيَع ولو كانت كتبُ الزنادقةِ كتبَ حكمٍ وكتبَ فلسفة وكتبَ مقاييسَ وسُنَنٍ وتبيُّنٍ وتبيين أو لو كانت كتُبهم كتباً تُعرِّف الناسَ أبوابَ الصِّناعات أو سُبُلَ التكسُّب والتجارات أو كتبَ ارتفاقاتٍ ورياضاتٍ أو بعض ما يتعاطاه الناسُ من الفطن والآداب وإنْ كان ذلك لا يقرِّب من غِنًى ولا يُبْعِد من مأثَم لكانوا ممَّن قد يجوز أن يُظَنَّ بهم تعظيمُ البيان والرغبةُ في التبيُّن ولكنَّهم ذهبوا فيها مذهبَ الدِّيانة وعلى طريقِ تعظيم المِلّة فإنّما إنفاقهم في ذلك كإنفاق المجوس على بيت النار وكإنفاقِ النصارَى على صُلْبان الذهب أو كإنفاق الهند على سَدَنةِ البِدَدَة ولو كانوا أرادوا العلمَ لكان العلمُ لهم مُعرضاً وكتبُ الحكمة لهم مبذولةً والطرقُ إليها سهْلةً معروفة فما بالُهُم لا يصنعون ذلك إلاّ بكتُب دياناتهم كما يزخرفُ النصارى بيوتَ عباداتهم ولو كان هذا المعنى مستحسَناً عند المسلمين أو كانوا يرون أنّ ذلك داعيةٌ إلى العبادة وباعثةٌ على الخٌ شوع لبلَغُوا في ذلك بعَفْوهم ما لا تبلُغُه النصارى بغاية الجَهْد .
مسجد دمشق وقد رأيتُ مسجِدَ دِمَشْق حين استجاز هذا السبيل ملِكٌ من ملوكها ومَنْ رآه فقد علم أنّ )
أحداً لا يرومه وأنَّ الرومَ لا تسخوا أنفُسهم

به فلمَّا قام عمرُ بنُ عبد العزيز جَلَّله بالجِلال وغَطَّاه بالكرابيس وطبَخَ سلاسلَ القناديلِ حتَّى ذهب عنها ذلك التلألؤُ والبريق وذهب إلى أنّ ذلك الصنيعَ مجانِبٌ لسنَّة الإسلام وأنَّ ذلك الحُسنَ الرائعَ والمحاسنَ الدِّقاق مَذهَلةٌ للقلوب وَمشغَلةٌ دونَ الخشوع وأنّ البالَ لا يكون مجتمِعاً وهناك شيء يفرِّقه ويعترض عليه .
والذي يدلُّ على ما قلنا أنّه ليس في كتبهم مثلٌ سائر ولا خبرٌ طَريف ولا صنعةُ أدبٍ ولا حكمةٌ غرِيبة ولا فلسفةٌ ولا مسألةٌ كلاميَّة ولا تعريفُ صِناعة ولا استخراجُ آلة ولا تعليمُ فِلاحةٍ ولا تدبير حرب ولا مقارَعة عن دِين ولا مناضَلة عن نِحْلة وجُلُّ ما فيها ذِكر النور والظلمة وتناكُحُ الشياطين وتسافُدُ العفاريت وذكر الصنديد والتهويل بعمود السنخ والإخبار عن شقلون وعن الهامة والهمامة وكلُّه هَذْرٌ وعِيٌّ وخُرافة وسُخْريَة وتكذُّب لا ترى فيه موعظةً حسنة ولا حديثاً مُونِقاً ولا تدبيرَ مَعاشٍ ولا سياسةَ عامة ولا ترتيبَ خاصَّة فأيُّ كتابٍ أجهلُ وأيُّ تدبيرٍ أفسدُ من كتابٍ

يوجِب على الناس الإطاعة والبخوع بالديانة لا على جهة الاستبصار والمحبَّة وليس فيه صلاحُ مَعاشٍ ولا تصحيحُ دين والناسُ لا يحبُّون إلا ديناً أو دنيا : فأمَّا الدّنيا فإقامةُ سوقها وإحضار نفعها وأما الدِّين فأقلُّ ما يُطمع في استجابة العامة واستمالة الخاصَّة أنْ يصوَّر في صورةٍ مغلِّطة ويموَّهَ تمويهَ الدِّينارِ الْبَهْرَج والدرهمِ الزائف الذي لا يغلط فيه الكثير ويعرفُ حقيقته القليل فليس إنفاقُهم عليها من حيثُ ظننت وكلُّ دين يكون أظهر اختلافاً وأكثرَ فساداً يحتاج من الترقيع والتمويه ومن الاحتشاد له والتغليظ فيه إلى أكثر وقد علمْنا أنَّ النصرانيَّةَ أشدُّ انتشاراً من اليهوديَّة تعبداً فعلى حسب ذلك يكون تزيُّدُهم في توكِيده واحتفالُهم في إظهار تعليمه .
وقال بعضهم : كنتُ عندَ بعضِ العلماء فكنتُ أكتب عنه بعضاً وأدَعُ بعضاً فقال لي : اكتبْ كلَّ ما تسمعُ فإن أخسَّ ما تسمعُ خيرٌ من مكانه أبيض .


وقال الخليل بن أحمد : تكثَّرْ من العلم لتعرِف وتقلّلْ منه لتحفَظ .
وقال أبو إسحاق : القليل والكثير للكتب والقليلُ وحدَه للصدر .
وأنشد قول ابن يَسِير : ( أما لو أعِي كلَّ ما أسمَع ** وأحفَظُ من ذاكَ ما أجمعُ ) ( ولم أستَفِدْ غَيْرَ ما قد جمع ** ت لَقِيلَ هو العالِم المِصقَع ) ( ولكنَّ نفسي إلى كلّ نو ** عٍ من العلم تسمعُه تنزِعُ ) ( فلا أنا أحفظُ ما قد جَمع ** تُ ولا أنا مِن جَمعه أشبعُ ) ( وأَحصَر بالعِيِّ في مجلسي ** وعِلميَ في الكُتْبِ مستودَعُ ) ( فمن يكُ في علمِه هكذا ** يكنْ دهرَهُ القهقَرَى يرجِعُ ) ( إذا لم تكنْ حافظاً واعياً ** فجمعُك للكتبِ لا ينفع ) التخصص بضروب من العلم وقال أبو إسحاق : كلَّفَ ابنُ يسيرٍ الكتبَ ما ليس عليها إن الكتبَ لا تحيي الموتَى ولا تحوِّل الأحمقَ عاقلاً ولا البليد ذكِيّاً ولكنَّ الطبيعةَ إذا كان فيها أدنى قَبُول فالكتبُ تشحَذُ وتَفتِق وتُرهِف وتَشفي ومن أرادَ أن يعلمَ كلَّ شيء فينبغي لأهلهِ أن يداووه

فإنّ ذلك إنما تصوَّرَ له بشيءٍ اعتراه فَمنْ كان ذكيّاً حافظاً فليقصِد إلى شيئين وإلى ثلاثة أشياء ولا ينزِع عن الدرس والمطارَحَة ولا يدعُ أن يمرَّ على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدَر عليه من سائر الأصناف فيكون عالماً بخواصّ ويكون غيرَ غفلٍ من سائرِ ما يجري فيه الناسُ ويخوضون فيه ومن كان مع الدرس لا يحفظ شيئاً إلاَّ نسيَ ما هو أكثرُ منه فهو من الحفظ من أفواه الرجال أبعد .

جمع الكتب وفضلها
وحدَّثني موسى بنُ يحيى قال : ما كان في خِزانةِ كتبِ يحيى وفي بيت مدارسه كتابُ إلاّ وله ثلاثُ نسخ .
وقال أبو عمرو بنُ العلاء : ما دخلتُ على رجل قطُّ ولا مررتُ ببابه فرأيتُه ينظرُ في دفترٍ وجليسُه فارغُ اليد إلاّ اعتقدتُ أنَّه أفضلُ منه وأعقل .
وقال أبو عمرو بن العلاء : قِيل لنا يوماً : إنّ في دار فلانٍ ناساً قد اجتمعوا على سَوءة وهم جُلوسٌ على خميرة لهم وعندهم طُنبُورٌ فتسوَّرنا عليهمْ في جماعةٍ من رجالِ الحيِّ فإذا فتىً جالسٌ في وسط

الدار وأصحابُه حوله وإذا همْ بِيضُ اللِّحَى وإذا هو يقرأ عليهم دفتراً فيه شعر فقال الذي سعى بهم : السَّوءة في ذلك البيت وإنْ دخلتموه عثَرتم عليها فقلت : واللّه لا أكشفُ فتىً أصحابُه شيوخ وفي يده دفترُ علم ولو كان في ثوبه دمُ يحيى بنِ زكريَّاء وأنشد رجلٌ يُونُسَ النحويَّ : ( استودَعَ العلمَ قرطاساً فضيّعَه ** فَبِئْسَ مستودَعُ العلمِ القراطيسُ ) قال فقال يونس : قاتَلَه اللّه ما أشدَّ ضَنانَتَه بالعلم وأحسنَ صِيانته له إنَّ علمَك مِن روحِك ومالَكَ مِن بدنك فضعْه منكَ بمكان الرُّوح وضعْ مالَكَ بمكان البدن .
وقيل لابن داحة وأخرجَ كتابَ أبي الشمقمق وإذا هو في جلود كوفيَّة ودَفَّتَين طائفيّتَين بخطٍّ عجيب فقيل له : لقد أُضيع من تجوَّدَ بشعر أبي الشمَقْمق فقال : لا جرم واللّه إنَّ العلمَ ليُعطيكم على حسابِ ما تعطونه ولو استطعتُ أن أودِعَه سُويداءَ قلبي أو أجعلَه محفوظاً على ناظري لفعلت .
ولقد دخلت على إسحاق بن سليمان في إمْرته فرأيتُ السِّماطَين والرجالَ مُثُولاً كأَنَّ على رؤوسهم الطير ورأيتُ فِرْشَتَه وبِزَّته ثم دخلتُ عليه وهو معزول وإذا هو في بيتِ كتبِه وحوالَيه الأسفاطُ والرُّقوق والقماطِرُ والدفاتِر والمَساطر والمحابر فما رأيتُه قطُّ أفخمَ ولا أنبلَ ولا أهيبَ

ولا أجزَل منهُ في ذلك اليوم لأنَّه جمعَ مع المهابَة المحبَّة ومع الفَخامة الحَلاوة ومع السُّؤدَد الحِكْمة .
وقال ابن داحة : كان عبدُ اللّه بنُ عبدِ العزيز بنِ عبد اللّهِ بن عمر بن الخطَّاب لا يجالِسُ الناسَ وينزلُ مَقْبُرَةً من المقابر وكان لا يكادُ يُرى إلاَّ وفي يده كتابٌ يقرؤه فسُئِل عن ذلك وعن نزولِه )
المقبُرة فقال : لم أرَ أَوْعظَ من قبر ولا أمنَع من كتاب ولا أسلَمَ من الوَحدة فقيل له : قد جاء في الوَحدة ما جاء فقال : ما أفسَدَها للجاهِل وأصلحها للعاقل .

منفعة الخط
وضروبٌ من الخُطوطِ بعد ذلك تدلُّ على قدرِ منفَعَة الخطِّ . قال اللّه تبارَك وتعالى كِرَاماً كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون وقال اللّه عزّ وجلَّ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ . مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ . بأَيْدِي سَفَرَةٍ وقال فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه وقال وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وقال اقْرَأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً .
ولو لم تكتب أعمالُهم لكانت محفوظةً لا يدخلُ ذلك الحفظَ نِسيانٌ ولكنَّه تعالى وعزَّ علم أنّ

وخط آخر وهو خطُّ الحازي والعرَّاف والزَّاجِر . وكان فيهم حليس الخطَّاط الأسديّ ولذلك قال شاعرهم في هجائهم : ( فأنتم عضاريط الخَمِيسِ إذا غزَوْا ** غَناؤكم تِلْكَ الأخاطيطُ في التُّرْبِ ) وخُطوطٌ أخَر تكون مستراحاً للأَسيرِ والمهموم والمفكِّر كما يعتري المفكر من قَرْع السنِّ والغضبانَ من تصفيقِ اليد وتجحيظ العين . وقال تأبَّطَ شَرَّاً : ( لتَقْرَعَنَّ عَلَيَّ السنَّ مِنْ نَدَمٍ ** إذا تذكَّرتِ يوماً بعضَ أخلاقي ) وفي خطِّ الحزينِ في الأرض يقول ذو الرُّمَّة : ( عَشِيَّةَ ما لِي حِيلةٌ غيرَ أَنَّنِي ** بِلَقْطِ الْحَصَى والخطّ في الدارِ مُولَعُ ) ( أخطُّ وأَمحو الخطَّ ثم أُعِيدُه ** بكفِّيَ والغِرْبانُ في الدارِ وُقَّعُ ) وذكر النابغةُ صنيعَ النساءِ وفزَعَهنَّ إلى ذلك إذا سُبِين واغتربن وفكّرن فقال :

( ويخْططْنَ بالِعيدانِ في كلِّ منزلٍ ** ويَخبَأنَ رُمَّانَ الثُّدِي النواهدِ ) وقد يفزع إلى ذلك الخَجِلُ والمتعلِّل كما يفزع إليه المهمومُ وهو قولُ القاسم ابن أمية بن أبي الصَّلْت : ( لا ينقرون الأرضَ عند سُؤالهِم ** لتلمُّسِ العِلاَّتِ بالعِيدانِ ) وقال الحارث بن الكِنْديّ وذكرَ رجلاً سأله حاجةً فاعتراه العبثُ بأسنانه فقال : ( وآضَ بكَفِّهِ يحتَكُّ ضِرساً ** يُرِينَا أنَّهُ وَجِعٌ بضِرْسِ ) وربما اعتَرى هؤلاء عدُّ الحصى إذا كانوا في موضعِ حصى ولم يكونوا في موضع تراب وهو )
قول امرئ القيس : ( ظلِلْتُ رِدَائِي فوقَ رَأسِيَ قاعداً ** أعدُّ الحصَى ما تَنْقَضِي حَسَراتِي ) وقال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلْت : ( نَهَراً جَارِياً وبيتاً عِليّاً ** يعتري المعتَفين فضلُ ندَاكا ) ( في تراخ من المكارمِ جَزْلٍ ** لم تعلِّلهمُ بلَقْطِ حَصاكَا ) وقال الآخر وهو يصِف امرأةً قُتِل زوجُها فهي محزونة تلقط الحصى : ( وبيضاءَ مكسال كأنَّ وشاحَها ** على أمِّ أحوى المُقْلَتَين خَذُولِ )

( عَقَلت لها منْ زوجَها عَدَدَ الحصى ** مع الصُّبح أو في جُنحِ كلِّ أصيلِ ) يقول : لم أُعْطِِهَا عقْلاً عن زوجها ولم أُورثها إلاّ الهمَّ الذي دعاها إلى لقط الحصى يخبر أنَّه لمنِعَتِه لا يُوصَل منه إلى عقلٍ ولا قَوَد .
ومّما قالوا في الخطّ ما أنشدنا هشامُ بن محمد بن السائب الكلبي قال : قال المقنَّع الكنديُّ في قصيدةٍ له مدح فيها الوليدَ بنَ يزيد : ( كالخطِّ في كُتُبِ الغلام أجادَه ** بِمداده وأسَدَّ من أقلامهِ ) ( قلمٌ كخُرطوم الحمامةِ مائلٌ ** مُستَحفِظٌ للعلم من علاّمِه ) ( يَسم الحروفَ إذا يشاءُ بناءَها ** لبيانِها بالنَّقْط من أرسامهِ ) ( مِن صُوفةٍ نَفث المداد سُخامه ** حتى تغيَّرَ لونُها بسُخامِه ) ( يَحْفَى فيُقْصَمُ من شَعيرة أنفِه ** كقُلاَمة الأُظْفُورِ من قلاّمِه ) ( وبأنفه شَقٌّ تلاءَم فاستَوى ** سُقِيَ المدادَ فزاد في تَلآمِه ) ( مُسْتعجِمٌ وهو الفصِيحُ بكلِّ ما ** نطق اللسانُ به على استعجامِه )

( وله تراجِمةٌ بألسنةٍ لهمْ ** تبيانُ ما يَتلُونَ من تَرجَامِه ) ( ما خطَّ من شيء به كتّابه ** ما إن يبوحُ به على استكتامِه ) ( وهجاؤه قاف ولام بعدها ** ميم معلَّقةٌ بأسفلِ لامِه ) ثم قال : ( قالتْ لجارتها الغزَيِّلُ إذ رأت ** وجهَ المقنَّع من وراءِ لِثامِه ) ( كم من بُويزِل عامِها مهرّية ** سُرُحِ اليدينِ ومن بُويزِل عامِه ) ( وَهَبَ الوليدُ برَحْلها وزمامها ** وكذاكَ ذاكَ برَحلِهِ وزِمامه ) ( وقويرحٍ عتد أُعِدَّ لِنِيِّهِ ** لبن اللَّقُوحِ فعادَ مِلءَ حِزامِهِ ) ( وهبَ الوليدُ بسَرْجها ولجامها ** وكذاك ذاك بسَرجه ولِجَامه ) ( أهدَى المقنّع للوَليدِ قصيدةً ** كالسيفِ أُرهِف حدُّه بحُسامه ) ( وله المآثرُ في قريشٍ كلِّها ** وله الخِلافةُ بعد موتِ هشامِه ) وقال الحسن بن جَماعةَ الجُذامِيُّ في الخطِّ :

( إليكَ بِسِرِّي بَاتَ يُرقِلُ عالمٌ ** أصمُّ الصدى مُحرورِفُ السِّنِّ طائعُ ) ( بَصيرٌ بما يُوحَى إليه وما لَهُ ** لسانٌ ولا أُذْنٌ بها هُوَ سامعُ ) ( كأَنَّ ضميرَ القلبِ باح بِسرِّه ** لديه إذا ما حَثْحَثَتْهُ الأصابعُ ) ( له رِيقةٌ من غير فرثٍ تمدُّه ** ولا مِنْ ضُلوعٍ صفَّقتها الأضالِعُ ) وقال الطائيُّ يمدح محمَّدَ بن عبدِ الملك الزَّيات : ( وما برِحتْ صُوراً إليكَ نوازعاً ** أعنَّتُها مُذْ راسلَتك الرسائل ) ( لكَ القلمُ الأعلى الذي بشباته ** يُصَابُ من الأمرِ الكُلَى والمفاصلُ ) ( لُعابُ الأفاعي القاتلاتِ لُعابُه ** وأَرْيُ الجَنَى اشتارَتْه أى دٍ عَواسِلُ ) ( له رِيقَةٌ طلٌّ ولكنَّ وقعَها ** بآثارِها في الشرقِ والغرب وابلُ ) ( فصيحٌ إذا استنطقْتَه وهو راكبٌ ** وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجِلُ ) ( إذا ما امتطى الخمسَ اللِّطَافَ وأُفرغت ** عليه شِعابُ الفكرِ وهي حَوافِلُ ) ( أطاعَتْه أطرافُ القَنا وتقوَّضَتْ ** لنَجواه تقويضَ الخيامِ الجَحافلُ ) ( إذا استغزر الذهن الجلِيّ وأقبلتْ ** أعاِليه في القِرطاس وهي أسافلُ )

( وقد رفدته الخِنْصَران وسدَّدت ** ثلاثَ نواحِيه الثلاثُ الأنامِلُ ) ( رأيتَ جليلاً شأنُهُ وهو مُرْهَفٌ ** ضنى وسميناً خَطْبُه وهو ناحلُ ) ( أرى ابنَ أبي مروانَ أمَّا لِقاؤُه ** فدانٍ وأمَّا الحكمُ فيه فعادلُ ) وقد ذكر البُحتُريُّ في كلمةٍ له بعض كهولِ العسكر ومن أَنبَل أبناء كتّابهم الجِلّة فقال : ( وإذا دجَتْ أقلامُه ثم انتحَتْ ** برقَت مصابيحُ الدُّجَى في كتبه )

الكتابات القديمة
وكانوا يجعلون الكتاب حفراً في الصخور ونقشاً في الحجارة وخلقة مُرَكَّبةً في البُنْيان فربَّما كان الكتابُ هو الناتئ وربّما كان الكتابُ هو الحفر إذا كان تاريخاً لأمر جَسيم أو عهداً لأمرٍ عظيم أو مَوعظةً يُرتَجى نفعُها أو إحياءَ شرفٍ يريدون تخليد ذكره أو تطويل مدته كما كتبوا على قُبَّةُ غُمْدَان وعلى باب القَيرُوان

وعلى باب سَمَرْقَند وعلى عمود مأرِب وعلى ركن المشقَّر وعلى الأبلَق الْفَرْد وعلى باب الرُّها يعمِدُون إلى الأماكن المشهورة والمواضع المذكورة فيضعون الخطَّ في أبعدِ المواضع من الدُّثور وأمنَعِها من الدروس وأجدرَ أَنْ يراها من مرَّ بها ولا تُنسى على وجه الدهر .

فضل الكتابة وتسجيل المعاهدات والمحالفات
وأقول : لولا الخطوطُ لبطَلت العهودُ والشروطُ والسِّجِلاَّتُ والصِّكاك وكلُّ إقطاعٍ وكلُّ إنفاق وكلُّ أمان وكلّ عهدٍ وعَقْدٍ وكلُّ جِوارٍ وحِلف ولتعظيمِ ذلك والثقة به والاستنادِ إليه كانوا يَدْعُونَ في الجاهليَّةِ مَنْ يكتبُ لهم ذكرَ الحِلْف والهُدْنة تعظيماً للأمر وتبعيداً من النسيان ولذلك قال الحارثُ بن حِلِّزة في شأنِ بكرٍ وتغلب : ( واذكرُوا حِلْفَ ذِي المَجَاز وما قُ ** دِّمَ فيه العهودُ والكفلاءُ )

( حَذَرَ الجَورِ والتَّعدِّي وهلْ يَنْ ** قُض ما في المَهارِقِ الأهواءُ ) والمهارق ليس يراد بها الصُّحُفُ والكتب ولا يقال للكتب مَهارقُ حتَّى تكونَ كتبَ دينٍ أو كتبَ عهودٍ ومِيثاقٍ وأمان .

الرقوم والخطوط
وليس بين الرُّقومِ والخطوط فَرق ولولا الرقوم لهلكَ أصحابُ البَزِّ والغُزول وأصحابُ الساجِ وعامَّةِ المتاجر وليسَ بينَ الوُسومِ التي تكون على الحافر كلِّه والخفِّ كلِّه والظِّلفِ كلِّه وبين الرقومِ فرق ولا بينَ العقودِ والرقوم فرق ولا بين الخطوط والرقوم كلُّها فرق وكلُّها خطوط وكلها كتابٌ أو في معنى الخطِّ والكتاب ولا بين الحروف المجموعةِ والمصورَّةِ من الصوت المقطَّع في الهواء ومن الحروف المجموعة المصوّرة من السواد في القرطاس فرق واللسان : يصنَع في جَوبة الفمِ وهوائه الذي في جوفِ الفم وفي خارجه وفي لَهاته وباطنِ أسنانه مثلَ ما يصنع القلمُ في المدادِ واللِّيقة والهواءِ والقرطاسِ وكلُّها صورٌ وعلاماتٌ وخَلْقٌ مواثل ودَلالات فيعرف منها ما كانَ في تلك الصُّوَر لكثرةِ تَردادها على الأسماع ويعرف منها ما كان مصوَّراً من تلك الألوان لطول تكرارها على الأبصار كما استدلُّوا بالضَّحك على السرور وبالبكاء على الألم وعلى مثل ذلكَ عرفوا معاني الصوتِ وضروبَ صورِ الإشارات وصورِ جميع الهيئات

وكما عرف المجنون لقَبه والكلبَ اسمَه وعلى مثل ذلك فهم الصبيُّ الزجرَ والإغراء ووعى المجنون الوعيد والتهدُّد وبمثل ذلك اشتدّ حُضْرُ الدابّة مع رفع الصوت حتّى إذا رأى سائسَه حمحم وإذا رأى الحمامُ القيِّمَ عليه انحطَّ للقطِ الحبّ قبل أن يُلِقيَ له ما يلقطه ولولا الوسومُ ونُقُوش الخواتم لدخل على الأموالِ الخللُ الكثير وعلى خزائنِ الناس الضررُ الشديد .

الخط والحضارة
وليس في الأرض أمّةٌ بها طِرْق أَوْ لها مُسْكَة ولا جيلٌ لهم قبضٌ وبسْط إلاّ ولهم خطّ فأمّا أصحاب الملك والمملكة والسلطانِ والجِباية والدِّيانة والعبادة فهناك الكتابُ المتقَن والحساب المحكَم ولا يخرج الخطُّ من الجزْم والمسنَد المنمنم والسمون كيف كان قال ذلك الهيثمُ بن عدي وابن الكلبي .
تخليد الأمم لمآثرها قال : فكلُّ أمّةٍ تعتمدُ في استبقاءِ مآثرها وتحصين مناقبها على ضربٍ من الضروب وشكل من الأشكال .

سقط تخليد العرب لمآثرها

وكانت العربُ في جاهليَّتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى وكان ذلك هو ديوانها وعلى أنّ الشعرَ يُفيد فضيلةَ البيانِ على الشاعر الراغب والمادح وفضيلةَ المأثُرة على السيِّد المرغوبِ إليه والممدوحِ به وذهبت العجَم عَلَى أن تقيِّد مآثرَها بالبُنيان فبنوا مثلَ كرد بيداد وبنى أرْدشير بيضاء إصطَخْر وبيضاء المدائن والحَضْر والمدن والحصون والقناطر والجسور والنواويس قال : ثمَّ إنّ العربَ أحبَّتْ أن تشارك العجمَ في البناءِ وتنفرد بالشعر فبنوا غُمدان وكعبةَ نَجْران وقصرَ مارد وقصر مأرب وقصر شعوب والأبلق الفرد وفيه وفي مارد قالوا تمرَّدَ مارِدٌ وعزَّ الأبلق وغيرَ ذلك من البُنيان قال : ولذلك لم تكن الفرسُ تبيح شريفَ البُنيان كما لا تبيح شريف الأسماء إلاّ لأهل البيوتات كصنيعهم في النواويس والحمَّامات والقِباب الخضر والشُّرَف على حيطان الدار وكالعَقْد على الدِّهليز وما أشبهَ ذلكَ فقال بعض من

حضر : كُتُبُ الحكماءِ وَما دَوَّنت العلماءُ من صنوف البلاغات والصِّناعات والآداب والأرفاق من القرون السابقة والأمم الخالية ومن له بقيَّة ومن لا بقيّة له أبقى ذكراً وأرفعُ قدراً وأكثر ردّاً لأنَّ الحكمةَ أنفعُ لمن ورثها من جهة الانتفاع بها وأحسنُ في الأحدوثة لمن أحبَّ الذكر الجميل .
طمس الملوك والأمراء آثار من قبلهم والكتبُ بذلك أولى من بُنيان الحجارة وحِيطان المدَر لأنَّ من شأن الملوك أن يطمِسوا على آثار مَن قبلَهمُ وأن يُميتوا ذكرَ أعدائهم فقد هدَموا بذلك السبب أكثرَ المدنِ وأكثرَ الحصون كذلك كانوا أيَّامَ العجَم وأيَّامَ الجاهليّة وعلى ذلك همْ في أيّام الإسلام كما هدم عُثمانُ صومعةَ غُمدان وكما هدمَ الآطامَ التي كانت بالمدينة وكما هدم زيادٌ كلَّ قصر ومصنَع كان لابن عامر وكما هدم أصحابُنا بناءَ مدن الشامات لبني مروان .

تاريخ الشعر العربي
وأما الشعرُ فحديثُ الميلاد صغير السنِّ أوّلُ من نَهَجَ سبيلَه وسهَّل الطريقَ إليه : امرؤ القيس بن حُجْر ومُهَلْهِل بنُ ربيعة وكُتُبُ أرِسطاطاليسَ ومعلِّمِه أفلاطون ثم بَطْلَيموس وديمقراطس وفلان وفلان قبلَ بدِءِ الشعر بالدهور قبلَ الدهور والأحقاب قبلَ الأحقاب .
ويدلُّ على حداثةِ الشعر قولُ امرئ القيس بن حُجْر : ( إنَّ بني عوفٍ ابتَنَوا حسناً ** ضيّعه الدُّخلُلُون إذ غَدَرُوا ) ( أدَّوا إلى جارهم خفارته ** ولم يَضِعْ بالمَغيب مَنْ نَصَرُوا ) ( لا حِمْيَريٌّ وفى ولا عُدَسٌ ** ولا است عَيرٍ يحكها الثَّفر ) فانظُرْ كم كان عمرُ زُرارةَ وكم كان بين موت زُرارة ومولدِ النبي عليه الصلاة والسلام فإذا استظهرنا الشعرَ وجدنا له إلى أن جاء اللّه بالإسلام خمسين ومائةَ عام وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام .
قال : وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب وعلى من تكلَّم بلسان

العرب . والشعر لا يُستطاع أن يترجَم ولا يجوز عليه النقل ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب لا كالكلامِ المنثور والكلامُ المنثور المبتدأُ على ذلك أحسنُ وأوقعُ من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر .
قال : وجميع الأمم يحتاجون إلى الحكم في الدين والحكم في الصناعات وإلى كلِّ ما أقام لهم المعاشَ وبوَّب لهم أبوابَ الفِطَن وعرَّفهم وجوهَ المرَافق حديثُهم كقديمهِم وأسودُهم كأحمرِهم وبعيدُهم كقريبهم والحاجة إلى ذلك شاملَة لهم .

صعوبة ترجمة الشعر العربي
وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند وتُرجمتْ حكم اليونانيّة وحُوِّلت آدابُ الفرس فبعضها ازدادَ حُسناً وبعضها ما انتقص شيئاً ولو حوّلت حكمة العرب لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفِطَنهم وحِكمَهم وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة ومن قَرن إلى قرن ومِن لسانٍ إلى لسان حتى انتهت إلينا وكنَّا آخرَ مَنْ ورِثها ونظَر فيها فقد صحَّ أَنَّ الكتبَ أبلغُ في تقييدِ المآثِر من البُنيان والشعر .
ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له : إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ على خصائِص معانيه وحقائق مذاهِبه

ودقائق اختصاراته وخفيَّاتِ حدوده ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها ويؤدِّيَ الأمانة فيها ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجَرِيّ وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها والإخبار عنها على حقِّها وصدقها إلاّ أَنْ يكونَ في العلم بمعانيها واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها وتأويلاتِ مخارجِها ومثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق وابن ناعمة وابن قُرَّة وابن فِهريز وثيفيل وابن وهيلي وابن المقفَّع مثلَ أرِسطاطاليس ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون

قيمة الترجمة
ولا بدَّ للتَّرجُمانَ من أن يكون بيانهُ في نفس الترجمة في وزْن علمه في نفسِ المعرفة وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغاية ومتى وجدناه أيضاً قد تكلّم بلسانين علمنا أنَّه قد أدخلَ الضيمَ عليهما لأنَّ كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذُ منها وتعترضُ عليها وكيف يكونُ تمكُّنُ اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكُّنِه إذا انفرد بالواحدة وإنَّما له قوَّةٌ واحدة فَإنْ تكلّمَ

بلغةٍ واحدة استُفْرِغَتْ تلك القوَّةُ عليهما وكذلك إنْ تكلَّم بأكثرَ مِنْ لغتين وعلى حساب ذلك تكون الترجمةُ لجميع اللغات وكلَّما كانَ البابُ من العلم أعسرَ وأضيق والعلماءُ به أقلَّ كان أشدَّ على المترجِم وأجدرَ أن يخطئ فيه ولن تجد البتَّةَ مترجماً يفِي بواحدٍ من هؤلاء العلماء .

ترجمة كتب الدين
هذا قولُنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون فكيف لو كانت هذه الكتب كتبَ دينٍ وإخبار عن اللّه عزَّ وجلَّ بما يجوز عليه ممَّا لا يجوز عليه حتى َّ يريد أنْ يتكلَّم على تصحيح المعاني في الطبائع ويكون ذلك معقوداً بالتوحيد ويتكلَّمَ في وجِوه الإخبار واحتمالاته للوُجوه ويكونَ ذلك متضمِّناً بما يجوز على اللّه تعالى ممَّا لا يجوز وبما يجوزُ على الناس مما لا يجوز وحتَّى يعلمَ مستقرَّ العامِّ والخاصّ والمقابلاتِ التي تَلقَى الأخبارَ العامِّيةَ المخرَج فيجعلَها خاصيَّة وحتى يعرفَ من الخبر ما يخصُّه الخبر الذي هو أثر ممََّا يخصُّه الخبر الذي هو قرآن وما يخصُّه العقل مما تخصُّه العادة أو الحال الرادَّةُ له عن العموم وحتَّى يعرفَ ما يكونُ من الخبر صِدقاً أو كذبا وما لا يجوز أن يسمَّى بصدقٍ ولا كذب وحتَّى يعرفَ اسم الصدق والكذب وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع وعند فقد أيِّ معنًى ينقلب ذلك الاسم وكذلك معرفة المُحالِ من الصحيح وأيّ شيءٍ تأويلُ المحال وهل يسمَّى المحال كذباً أم لا يجوز ذلك وأيّ القولين أفحشُ : المُحال أم الكذب وفي أيِّ موضع يكون المحالُ أفْظَع والكذب أشنع وحتَّى يعرف المثلَ والبديع والوحي

والكناية وفصْل ما بين الخطَلِ والهَذْر والمقصورِ والمبسوط والاختصار وحتَّى يعرف أبنيةَ الكلام وعاداتِ القوم وأسبابَ تفاهمهِم والذي ذكرنا قليلٌ من كثير ومتى لم يعرفْ ذلك المترجم أخطأَ في تأويل كلامِ الدين والخطأُ في الدين أضرُّ من الخطأَ في الرياضة والصناعة والفلسفةِ والكَيْمِياء وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم . )
وإذا كان المترجِم الذي قد تَرجَم لا يكمل لذلك أخطأ على قدْرِ نقصانه من الكمال وما عِلْمُ المترجِم بالدليل عن شبه الدليل وما علْمه بالأخبار النجوميّة وما علمه بالحدود الخفيّة وما علمه بإصلاح سقطات الكلام وأسقاط الناسخين للكتب وما علمُه ببعض الخطرفة لبعض المقدَّمات وقد علمنا أنَّ المقدَّمات لا بدَّ أنْ تكون اضطراريّة ولا بدَّ أن تكون مرتَّبةً وكالخيط الممدود وابنُ البِطريق وابن قرّة لا يفهمان هذا موصوفاً منزَّلاً ومرتَّباً مفصَّلاً من معلِّمٍ رفيقٍ ومن حاذقٍ طَبٍّ فكيف بكتابٍ قد تداولتْه اللغاتُ واختلافُ الأقلام وأجناسُ خطوطِ المِلل والأمم ولو كان الحاذقُ بلسان اليونانيِّين يرمي إلى الحاذق بلسان العربيّة ثم كان العربيُّ مقصِّراً عن مقدار بلاغة اليونانيّ لم يجد المعنى والناقل التقصير ولم يَجِد اليونانيُّ الذي لم يرضَ بمقدار بلاغته في لسان العربيّة بُدّاً من الاغتفار والتجاوز ثمّ يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين وذلك أن نسختَه لا يَعدَمها الخطأ ثمَّ ينسخُ له من تلك النسخة

مَن يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة ثمّ لا ينقص منه ثم يعارِض بذلك مَن يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله إذا كان ليس من طاقته إصلاحُ السَّقَط الذي لا يجدُه في نسخته .

مشقة تصحيح الكتب
ولربَّما أراد مؤلِّف الكتاب أن يصلِح تصحيفاً أو كلمةً ساقطة فيكون إنشاء عشرِ ورقاتِ من حرِّ اللفظ وشريفِ المعاني أيسَرَ عليه من إتمام ذلك النقص حتى يردَّه إلى موضعه من اتِّصال الكلام فكيف يُطيق ذلك المعرض المستأجَر والحكيمُ نفسهُ قد أعجزه هذا الباب وأعجب من ذلك أنَّه يأخذ بأمرَين : قد أصلحَ الفاسدَ وزاد الصالحَ صَلاحاً ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخةً لإنسان آخَرَ فيسير فيه الورَّاقُ الثاني سيرَةَ الوَرَّاقَ الأوَّل ولا يزال الكتابُ تتداوله الأيدي الجانية والأعْرَاض المفسِدة حتَّى يصير غَلَطاً صِرفاً وكذِباً مصَمتاً فما ظنُّكم بكتابٍ تتعاقبه المترجمون بالإفساد وتتعاوره الخُطَّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله كتابٍ متقادِم الميلاد دُهْرِيّ الصنعة .
بين أنصار الكتب وأنصار الشعر
قالوا : فكيف تكون هذه الكتبُ أنفعَ لأهلها من الشعر المقفَّى قال الآخر : إذا كان الأمرُ على ما قلتم والشأنُ على ما نزَّلتم أليس

معلوماً أَنَّ شيئاً هذه بقيَّتُهُ وفضلتُه وسُؤرهُ وصُبَابته وهذا مظهرُ حاله على شدَّة الضيم وثبات قوته على ذلك الفسادِ وتداوُلِ النقص حريٌّ بالتعظيم وحقيقٌ بالتفضيلِ على البنيان والتقديمِ على شعرٍ إن هو حُوِّل تهافَتَ ونفعُه مقصورُ على أهله وهو يُعدُّ من الأدب المقصور وليسَ بالمبسوط ومن المنافع الاصطلاحيَّة وليست بحقيقة بيِّنة وكلُّ شيءٍ في العالم من الصناعات والأرفاق والآلات فهي موجودات في هذه الكتب دونَ الأشعار وهاهنا كتبٌ هي بينَنَا وبينكم مثل كتاب أُقليدِس ومثل كتاب جالينوس ومثل المجسْطي مّما تولاّه الحَجّاج وكتبٌ كثيرةٌ لا تحصى فيها بلاغٌ للناس وإن كانت مختلفة ومنقوصة مظلومة ومغَيَّرة فالباقي كافٍ شاف والغائب منها كان تكميلاً لتسلُّط الطبائع الكاملة .
فأما فضيلة الشعر فعلى ما حكينا ومنتهى نفعِه إلى حيث انتهى بنا القول .


وحسُبُك ما في أيدي الناس من كتب الحساب والطبّ والمنطق والهندسة ومعرفةِ اللُّحون والفِلاحة والتِّجارة وأبواب الأصباغ والعِطر والأطعمة والآلات وهم أتَوكم بالحكمة وبالمنفعة التي في الحمَّامات وفي الأصطرلابات والقَرِسطونات وآلات معرفة الساعات وصنعة الزجاج والفُسَيفِساء والأسرنج والزنجفور واللازَوَرد والأشربة والأنْبَجَات والأيارجات ولكم )
المينا والنشادر

والشَّبَه وتعليق الحيطان والأساطين وردُّ ما مال منها إلى التقويم ولهم صبُّ الزردج واستخراج النَّشَاسْتَج وتعليق الخَيش واتِّخاذ الجمَّازات وعمل الحَرَّاقات واستخراج شراب الداذِيّ وعمل الدّبابات .

ما ابتدعه الحجاج من السفن والمحامل
وكان الحجَّاجُ أوّلَ مَن أجرى في البحر السفن المقيَّرة المسمَّرة غيرَ المخرَّزة والمدهونة والمسطّحة ( أوَّل خَلْقٍ عَمِلَ المحامِلا ** أخزاَهُ ربِّي عاجلاً وآجِلا ) وقال آخر : ( شَيَّبَ أصداغِي فهُنَّ بيضُ ** مَحَاملٌ لِقدِّها نَقِيضُ ) وقال آخر :

( شيَّب أصداغِي فهن بيَّضُ ** مَحَامِلٌ فيها رجال قبَّضُ ) لو يتكون سنة لم يغرضوا وقال القوم : لولا ما عرَّفوكم من أبواب الحُمْلانات لم تعرفوا صنعة الشَبَه ولولا غَضارُ الصين على وجه الأرض لم تعرفوا الغَضار على أَنَّ الذي عَمِلْتُم ظاهرٌ فيه التوليد منقوصُ المنفعة عن تمام الصِّينيّ وعلى أن الشَّبَهَ لم تستخرجوه وإنَّما ذلك من الأُمور التي وقعت اتّفاقاً لسقوط الناطف من يد الأجير في الصُّفْر الذائب فَخِفتم إفساده فلَمَّا رأيتم ما أعطاه من اللون عَمِلْتم في الزيادة والنقصان وكذلك جميعُ ما تهيَّأ لكم ولستم تخرُجون في ذلك من أحدِ أمرَين : إمَّا أن تكونوا استعملتم الاشتقاق من علمِ ما أورثوكم وإمّا أن يكون ذلك تهيَّأ لكم من طريق الاتِّفاق

الجمازات
وقد علمتم أَنَّ أَوَّل شأن الجَمَّازاتِ أنَّ أُمَّ جعفر أمرت الرحَّالِينَ أن يَزيدُوا في سيرِ النجيبة التي كانت عليها وخافت فوتَ الرشيد فلما حُرِّكت مشَت ضروباً من المشي وصنوفاً من السير فجَمزت في

خلال ذلك ووافقت امرأةً تحسن الاختيار وتفهم الأمور فوجدت لذلك الجمزِ راحةً ومع الراحة لذَّة فأمرتْهم أن يسيروا بها في تلك السِّيرة فما زالوا يقرِّبون ويبعِّدون ويخطئون ويصيبون وهي في كلِّ ذلك تصوِّبهم وتخطئُهم على قدر ما عرفَتْ حتى شَدَوا من معرفة ذلك ما شَدَوا ثمَّ إنّها فرّغتهم لإتمام ذلك حتى تمَّ واستوى وكذلك لا يخلو جميعُ أمركم من أن يكون اتِّفاقاً أو اتِّباعَ أثر . )

الترغيب في اصطناع الكتاب
ثم رجع بنا القولُ إلى الترغيب في اصطناع الكتاب والاحتجاج على مَنْ زَرَى على واضِع الكتب فأقول : إنّ من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومَرَاشدِهم ومضارِّهم ومنافِعهم أن يُحتَمَل ثِقْلُ مؤونتهم في تقويمهم وأن يُتَوَخَّى إرشادُهم وإن جهِلوا فضلَ ما يُسْدَى إليهم فلن يُصانَ العلمُ بمثل بذْله ولن تُستَبقى النعمةُ فيه بمثل نشره على أَنَّ قراءة الكتبِ أبلغُ في إرشادهم من تلاقيهم إذ كان مع التّلاقي يشتدُّ التصنُّع ويكثُر التظالُم وتُفرط العصبيّة وتقوَى الحَمِيَّة وعند المواجَهةِ والمقابلَة يشتدُّ حبُّ الغلَبة وشهوةُ المباهاةِ والرياسة مع الاستحياء من الرجوع والأنفِة من الخضوع وعن جميعِ ذلك تحدُث الضغائن ويظهرُ التباين وإذا كانت القلوبُ على هذه الصِّفِة وعلى هذه

الهيئة امتنعتْ من التعرُّف وعمِيت عن مواضع الدلالة وليست في الكتب عِلَّةٌ تمنَع من دَرْك البُغْية وإصابة الحجَّة لأنَّ المتوحِّد بِدَرْسها والمنفرد بفهم معانيها لا يباهي نفسَه ولا يغالب عقلَه وقد عَدِم مَنْ له يُباهي وَمِنْ أجله يغالب .

الكتاب قد يفضل صاحبه
والكتابُ قد يفضلُ صاحبَه ويتقدَّم مؤلِّفَه ويرجِّح قلمَه على لسانِه بأمور : منها أنّ الكتابَ يُقرأ بكلِّ مكان ويظهرُ ما فيه على كلِّ لسان ويُوجَد مع كلِّ زمان على تفاوتِ ما بينَ الأعصار وتباعُدِ ما بين الأمصار وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب والمنازع في المسألة والجواب ومناقلةُ اللسان وهدايته لا تجوزان مجلسَ صاحبه ومبلغَ صوتِه وقد يذهب الحكيمُ وتبقى كتبُه ويذهب العقلُ ويبقى أثره ولولا ما أودعت لنا الأوائلُ في كتبها وخلَّدت من عجيبِ حكمتها ودوَّنت من أنواعِ سِيَرِها حتَّى شاهدنا بها ما غاب عنَّا وفتحنا بها كلَّ مستغلق كان علينا فجمَعنا إلى قليلنا كثيرَهم وأدركنْا ما لم نكن ندركُه إلاّ بهم لما حَسُنَ حظُّنا من الحكمة ولضعُف سبَبُنَا إلى المعرفة ولو لجأنا إلى قدر قوَّتِنا ومبلغ خواطرِنا ومنتهى تجارِبنا

لما تدركه حواسُّنا وتشاهدهُ نفوسنا لقلَّت المعرفةُ وسَقَطت الهِمّة وارتفعت العزيمة وعاد الرأيُ عقيماً والخاطِر فاسداً ولَكلَّ الحدُّ وتبلَّد العقل .

أفضل الكتب
وأكثرُ مِنْ كتبهم نفعاً وأشرف منها خَطَراً وأحسنُ موقعاً كتُبُ اللّه تعالى فيها الهُدَى والرحمة والإخبارُ عن كلِّ حكمة وتعرِيفُ كلِّ سيِّئةٍ وحسَنة ومازالت كتبُ اللّه تعالى في )
الألواح والصُّحُف والمهارِق والمصاحف وقال اللّه عزَّ وجلَّ المَ ذلكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ وقال : مَا فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ويقال لأهل التَّوراةِ والإنْجيل : أهل الكِتاب .
مواصلة السير في خدمة العلم
وينبغي أن يكونَ سبيلُنا لمَنَْ بعدَنا كسبيلِ مَن كان قبلنا فينا على أنَّا وقد وجدْنا من العبرة أكثرَ ممّا وجدوا كما أنَّ مَن بعدَنا يجدُ من العِبرة أكثرَ ممّا وجدْنا فما ينتظر العالمُ بإظهار ما عندَه وما يمنَع الناصرَ للحقِّ من القيامِ بما يلزمُه وقد أمكن القولُ وصلحَ الدهرُ وخوى نجم التَّقِيَّة

وهَبَّتْ رِيحُ العلماء وكسَدَ العِيُّ والجهل وقامت سوقُ البيان والعلم وليس يجدُ الإنسانُ في كل حينٍ إنساناً يدَرِّبه ومقوِّماً يثقِّفه والصبرُ على إفهام الريِّض شديد وصرفُ النفسِ عن مغالبة العالم أشدُّ منه والمتعلِّم يجدُ في كلِّ مكانٍ الكتابَ عتيداً وبما يحتاج إليه قائماً وما أكثرَ مَن فرَّط في التعليم أيَام خُمولِ ذكره وأيَّام حَداثةِ سنِّه ولولا جِيادُ الكتبِ وحسَنُها ومُبَيَّنُها ومختَصرَها لَمَا تحرَّكت هممُ هؤلاء لطلب العلم ونزعت إلى حبِّ الأدب وأنِفَتْ من حال الجهل وأَن تكون في غِمار الحَشْو ولَدخل على هؤلاء من الخَللِ والمضرَّة ومن الجهل وسوء الحال وما عسى ألا يمكن الإخبارُ عن مقداره إلاّ بالكلام الكثير ولذلك قال عمرُ رضي اللّه تعالى عنه : تفقَّهوا قبلَ أن تسودوا

كتب أبي حنيفة
وقد تجدُ الرجلَ يطلبُ الآثارَ وتأويلَ القرآن ويجالس الفقهاءَ خمسين عاماً وهو لا يُعدُّ فقيهاً ولا يُجعَل قاضياً فما هو إلاّ أن ينظرَ في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة ويحفَظَ كتبَ الشروط في مقدارِ سنةٍ أو سنتين حتى تمرَّ ببابه فتظن أنه من باب بعض العُمَّال وبالحَرَا ألاّ يمرَّ عليه من الأيّام إلاَّ اليسير حتَّى يصير حاكماً على مصرٍ من الأمصار أو بلدٍ من البلدان

وجوب العناية بتنقيح المؤلفات وينبغي لمن كَتبَ كتاباً ألا يكتُبَه إلاّ على أَنَّ النَّاس كلَّهم له أعداء وكلُّهم عالمٌ بالأمور وكلُّهم متفرِّغ له ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفْلاً ولا يرضى بالرأي الفطير فإنَّ لابتداءِ الكتابِ فتنةً وعُجُباً فإذا سكنت الطبيعةُ وهدأت الحركة وتراجَعَتِ الأخلاطٍُ وعادت النفسُ وافرة أعاد النَّظر فيه فَيَتَوَقَّفُ عند فصوله توقُّفَ من يكونُ وزنُ طمَعُه في السلامةَ أنقَصَ من وزَنِ خوفِه من العيب ويتفهَّم معنى قول الشاعر : ) ( إنَّ الحديثَ تَغُرُّ القومَ خلوتُه ** حتَّى يَلِجَّ بهم عِيٌّ وإكثارُ ) ويقفُ عند قولهم في المثل : كلُّ مُجْرٍ في الخَلاءِ يُسَرُّ فيخاف أن يعتريه ما اعترى مَنْ أحرى فرسه وحدَه أو خلا بعلمه عند فقدِ خصومه وأهل المنزلة من أهل صناعته .

تداعي المعاني في التأليف
وليعلم أنَّ صاحبَ القلم يعتريه ما يعتري المؤدِّبَ عند ضربه وعقابه

فما أكثر من يَعزمِ على خمسةِ أسواط فيضرب مائة لأنَّه ابتدأ الضربَ وهو ساكنُ الطباع فأراه السكونُ أنَّ الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرَّك دمُه فأشاع فيه الحرارةَ فزادَ في غضبه فأراه الغضبُ أنّ الرأي في الإكثار وكذلك صاحب القلم فما أكثرَ من يبتدئ الكتابَ وهو يُريد مقدارَ سطرين فيكتب

مقايسة بين الولد والكتاب
واعلم أَنَّ العاقلَ إنْ لم يكن بالمتتبِّع فكثيراً ما يعتريه من ولده أَنْ يحسُنَ في عينه منه المقبَّحُ في عين غيره فليعلمْ أنَّ لفظه أقربُ نسباً منه من ابنه وحركَتَه أمسُّ به رِحْماً من ولده لأَنَّ حركتَه شيءٌ أحدثَه من نفسه وبذاتِهِ ومن عين جوهرِه فَصَلت ومن نفسِه كانت وإنَّما الولدُ كالمخْطَةِ يتمخَّطها والنُّخَامةِ يقذِفها ولا سواءٌ إخراجُك مِنْ جزئك شيئاً لم يكن منك وإظهارُك حركةً لم تكن حتَّى كانت منك ولذلك تجِدُ فتنةَ الرجُل بشِعرِه وفتنتَه بكلامِه وكتبِه فوقَ فتنتِه بجميعِ نعمته .
ما ينبغي أن تكون عليه لغة الكتب
وليس الكتابُ إلى شيءٍ أحوجَ منه إلى إفهام معانيه حَتَّى لا يحتاجُ

السامع لما فيه من الرويَّة ويحتاجُ مِنَ اللفظ إلى مقدارٍ يرتفع به عَنْ ألفاظ السِّفْلَةِ والحَشْو ويحطُّه من غريب الأعراب ووَحْشِيِّ الكلام وليس له أَنْ يهذِّبَه جدّاً وينقِّحَه ويصفِّيه ويروّقه حتى لا ينطِقَ إلاّ بِلُبِّ اللُّبِّ وباللفظ الذي قد حذف فُضُولَه وأسقطَ زوائِده حتِّى عاد خالصاً لا شَوْب فيه فإنَّه إنّْ فعل ذلك لم يُفْهَمْ عنه إلا بأن يجدِّد لهم إفهاماً مِرَاراً وتَكراراً لأنَّ النَّاسَ كلَّهم قد تعوَّدوا المبسوطَ من الكلام وصارت أفهامُهم لا تزيد على عاداتهم إلا بأن يعكس عليها ويؤخذ بها ألا تَرَى أنَّ كتاب المنطق الذي قد وُسم بهذا الاسم لو قرأتَه على جميعِ خطباء الأمصار وبلغاءِ الأعراب لما فهموا أكثرَه وفي كتاب إقليدِسَ كلامٌ يدور وهو عربيٌّ وقد صُفِّي ولو سمِعه بعضُ الخطباء لما فهمه ولا يمكن أن يفهِّمه من يريد تعليمه لأنَّه يحتاج إلى أن يكون قد عرَف جهةَ )
الأمر وتعوَّد اللفظ المنطقيَّ الذي استُخرِج من جميع الكلام .

قول صحار العبدي في الإيجاز
قال معاويةُ بن أبي سفيان رضي اللّه عنهما لصُحَارٍ العبدي :

ما الإيجاز قال : أَن تجيبَ فلا تبطئ وتقولَ فلا تخطئ قال معاوية : أو كذلك تقول قال صحار : أقِلْنِي يا أمير المؤمنين لا تخطئ ولا تبطئ .
فلو أنَّ سائلاً سأَلك عن الإيجاز فقلت : لا تخطئ ولا تبطئ وبحضرتك خالد بنُ صفوان لما عرَفَ بالبديهة وعندَ أَوَّل وهلة أَنَّ قولَك لا تخطئ متضمِّنٌ بالقول وقولَك لا تبطئ متضمِّن بالجواب وهذا حديثٌ كما ترى آثروه ورَضُوه ولو أن قائلاً قال لبعضنا : ما الإيجاز لظننتُ أنّه يقول : الاختصار .
والإيجاز ليس يُعنَى به قلَّةُ عددِ الحروفِ واللفظ وقد يكونُ البابُ من الكلام مَنْ أتى عليه فيما يسع بطن طُومارٍ فقد أوجز وكذلك الإطالة وإنَّمَا ينبغي له أن يحذف بقدرِ ما لا يكون سبباً لإغلاقه ولا يردِّد وهو يَكتفي في الإفهام بشِطره فَما فضَل عن المقدار فهو الخطل .
استغلاق كتب الأخفش وقلتُ لأَبي الحسن الأخفش : أنت أعلمُ الناسِ بالنَّحو فلم لا تجعَلُ

كتبَك مفهومة كلَّها وما بالُنا نفهمُ بعضَها ولا نفهم أكثرها وما بالُك تقدِّم بعضَ العويصِ وتؤخِّر بعض المفهوم قال : أنا رجلٌ لم أضَعْ كتبي هذه للّه وليست هي من كتبِ الدين ولو وضعتُها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلَّت حاجاتُهم إليَّ فيها وإنَّما كانت غايتي المَنَالة فأنا أضعُ بعضَها هذا الوضع المفهومَ لتدعوَهم حلاوةُ ما فهموا إلى التماس فهْم ما لم يفهموا وإنَّما قد كسَبتُ في هذا التدبير إذ كنتُ إلى التكسُّب ذهبت ولكنْ ما بالُ إبراهيم النظَّامِ وفلانٍ وفلان يكتبون الكتبَ للّه بزعْمِهم ثم يأخذُها مثلي في مواقفته وحُسْنِ نظره وشدَّةِ عنايته ولا يفهمُ أكثرَها وأقول : لو أنَّ يوسف السَّمْتيَّ كتب هذه الشروطَ أيَّام جلسَ سَلمان بن ربيعة شهرين للقضاء فلم يتقدَّم إليه رجُلان والقلوب سليمةٌ والحقوقُ على أهِلها موفَّرة لكان ذلك خطلاً ولغواً ولو كتبَ في دهره شروطَ سَلمان لكان ذلك غَرارةً ونقصاً وجهلاً بالسياسةِ وبما

مواضع الإسهاب
ووجدنا الناسَ إذا خطبُوا في صلحٍ بين العشائر أطالوا وإذا أنشدوا

الشعر بين السِّماطين في )
مديح الملوك أطالوا وللإطالة موضعٌ وليس ذلك بخطَل وللإقلال موضعٌ وليس ذلك من عَجْز .
ولولا أنَّي أتّكل على أنَّك لا تملُّ بابَ القولِ في البعير حتَّى تخرجَ إلى الفيل وفي الذَّرَّة حتَّى تخرجَ إلى البعوضة وفي العقربِ حتَّى تخرجَ إلى الحيّةَ وفي الرجل حتَّى تخرجَ إلى المرأة وفي الذِّبان والنحل حتى تخرج إلى الغِرْبان والعِقْبان وفي الكلبِ حتَّى تخرجَ إلى الديك وفي الذئب حتَّى تخرج إلى السبُع وفي الظِّلفِ حتَّى تخرجَ إلى الحافر وفي الحافر حتَّى تخرج إلى الخُفّ وفي الخفِّ حتَّى تخرجَ إلى البُرْثُنِ وفي البرْثُنِ حتَّى تخرج إلى المِخلَب وكذلك القول في الطيرِ وعامَّةِ الأَصناف لَرأيتُ أنَّ جملة الكتاب وإنْ كثُر عددُ ورقِه أَنَّ ذلك ليس مما يُمِلُّ ويُعتَدُّ عليَّ فيه بالإطالة لأنَّه وإن كان كتاباً واحداً فإنَّه كتبٌ كثيرة وكلُّ مُصحَف منها فهو أمٌّ على حِدَة فإن أرادَ قراءةَ الجميع لم يَطل عليه الباب الأوّل حتَّى يهجمَ على الثاني ولا الثاني حتَّى يهجمَ على الثالث فهو أبداً مستفيدٌ ومستَطْرِف وبعضُه يكون جَماماً لبعض ولا يزالُ نشاطُه زائداً ومتى خرج منْ آي القرآن صارَ إلى الأَثر ومتى خرج من أثر صار إلى خبر ثم يخرج من الخبر إلى شعر ومن الشعِر إلى نوادر ومن النوادر إلى حكمٍِ عقليّة ومقاييس سِداد ثم لا يترك هذا البابَ ولعلَّه

أن يكون أثقَلَ والملالُ إليه أسرع حتَّى يفضِيَ به إلى مزحٍ وفكاهة وإلى سُخْفٍ وخُرافة ولست أراه سُخفاً إذ كنتُ إنما استعملتُ سِيرة الحكماءِ وآدابَ العلماء .
مخاطبة العرب وبني إسرائيل في القرآن الكريم ورأينا اللّه تبارك وتعالى إذا خاطب العربَ والأَعْرَابَ أخرجَ الكلامَ مُخْرَجَ الإشارة والوحي والحذف وإذا خَاطَبَ بني إسرائيل أو حكَى عنهم جعلَه مبسوطاً وزاد في الكلام فأصوبُ العمل اتِّباعُ آثار العلماء والاحتذاءُ على مثالِ القدماء والأَخذُ بما عليه الجماعة .
أقوال بعض الشعراء في صفة الكتب قال ابن يسير في صفِة الكتب في كلمةٍ له : ( أقبلْتُ أهرُب لا آلو مُباعدةً ** في الأَرض منهمْ فَلم يُحْصِنِّيَ الهربُ ) ( بقصر أوسٍ فَما والت خنادِقُه ** ولا النواويسُ فالماخورُ فالخَرب ) ( فأَيُّما موئِلٍ منها اعتصمتُ به ** فِمن ورائي حثيثاً منهمُ الطلبُ ) ( لمَّا رأى تُ بأني لستُ معجزَهم ** فوتاً ولا هَرَباً قرَّبت أحتجِبُ )

( فصرتُ في البيت مسروراً بهم جَذِلاً ** جَارَ البراءة لا شكوَى ولاشَغَبُ ) ( هم مُؤْنِسون وأُلاَّف غَنِى تُ بهمْ ** فليس لي في أنيسٍ غيرهم أَرَبُ ) ( لِلّهِ من جَُلَسَاءٍ لا جَليسهمُ ** ولا عشيرهُمُ للسُّوءِ مرتَقِبُ ) ( لا بادراتِ الأَذَى يخشى رفيقُهمُ ** ولا يُلاقِيه منهمْ مَنْطِقٌ ذَربُ ) ( أبقَوا لنَا حِكماً تبقى منافِعُهَا ** أُخْرَى الليالي على الأيَّام وانشعبوا ) ( فأيّما آدبٍ منهم مددتُ يدي ** إليه فهو قريبٌ من يَدِي كَثَبُ ) ( إن شئتُ من مُحكَم الآثارِ يرفعُها ** إلى النبيِّ ثِقَاتٌ خِيرةٌ نُجُبُ ) ( أو شئتُ من عَرَبٍ علماً بأوَّلِهم ** في الجاهليَّة أنبتْني به العرب ) ( أو شئتُ مِنْ سِيَرِ الأَملاكِ مِنْ عَجَمٍ ** تُنْبي وتُخْبرُ كيف الرأيُ والأَدبُ ) ( حتَّى كأنِّيَ قد شاهدتُ عصرَهُمُ ** وقد مضَتْ دونهم من دَهِرِهم حِقَبُ ) ( يا قائلاً قصُرَت في العلم نُهْيَتُهُ ** أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسِبُ ) ( إنَّ الأوائل قد بانوا بعلمهم ** خلافَ قولِك قد بانوا وقدْ ذهبوا )

( ما ماتَ منا امرؤ أبقَى لنا أدباً ** نكون منه إذا ما مات نَكتِسبُ ) وقال أبو وَجْزة وهو يصف صحيفةً كُتب له فيها بِستِّينَ وَسْقاً : ( راحَتْ بِسِتِّين وَسْقاً في حقيبته ** ما حُمِّلَتْ حِمْلَها الأَدنى ولا السِّدَدا ) وقال الراجز : ( تَعَلَّمَنْ أنَّ الدواةَ والقلَمْ ** تَبقى ويُفْنِي حادثُ الدَّهر الغَنَمْ ) يقول : كتابُكَ الذي تكتبُه عليَّ يبقى فتأخذني به وتذهب غنَمي فيما يذهب .
نشر الأخبار في العراق ومَّما يدلُّ على نفع الكتاب أنَّه لولا الكتابُ لم يجُزْ أن يعلمَ أهل الرَّقَّة والموصِل وَبغدادَ وواسط ما كان بالبصرة وما يحدث بالكوفِة

في بياض يوم حتَّى تكون الحادثةُ بالكوفِة غُدوة فتعلمُ بها أهل البصرة قبلَ المساءَ .
وذلك مشهورٌ في الحمام الهدَّى إذا جُعِلت بُرُداً قال اللّه جلّ وعزَّ وذكر سليمانَ وملكه الذي لم يؤت أحداً مثله فقال وَتَفَقَّدَ الطَّيرَ فَقَالَ مَا ليَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ إلى قوله : أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّي بِسلُطَانٍ مُبِينٍ فلمْ يلبثْ أن قال الهُدْهُدُ : جِئْتُكَ مِنْ سَبأ بِنَبَأ يَقِينٍ إنِّي وَجَدْتُ امرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وأوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ قال سليمان : اذْهَبْ بكتابي هذا فَأَلْقِهْ )
إليَهِمْ وقد كان عندَه مَن يبلِّغ الرسالة على تمامها . مِن عِفريت ومِن بعض مَن عنده علمٌ ْ من الكتاب فرأى أنَّ الكتابَ أبهى وأنبَلُ وأكرمُ وأفخمُ من الرسالة عن ظهر لسان وإن أحاطَ بجميعِ ما في الكتاب وقالت مَلكةُ سَبَأ يَا أَيُّها المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إليَّ كِتَابٌ كرِيمٌ فهذا مما يدل استخدام الكتابة في أمور الدين والدنيا وقد يريد بعضُ الجِلَّةِ الكبارِ وبعضُ الأُدباءِ والحكماءِ أن يدعو بعضَ مَن يجري مَجْراه في سلطانٍ أوْ أدبٍ إلى مأدُبةٍ أو نِدام أو خُروج إلى متنزَّه أو بعض ما يشبهُ ذلك فلو شاءَ أن يبلِّغهُ الرسولُ

إرادته ومعناه لأصابَ من يُحسن الأَداء ويصدُق في الإبلاغ فيرى أنَّ الكتاب في ذلك أسرى وأنبَه وأبلغ .
ولو شاءَ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم ألاّ يكتبَ الكتبَ إلى كسرَى وقَيْصَرَ والنَّجَاشيِّ والمقوقِس وإلى ابني الجُلَنْدَى وإلى العباهلة من حمير وإلى هوذَة بن علي وإلى الملوك والعظماء والسادة النجباء لفعل ولوجد المبلِّغَ المعصوم من الخطأ والتبديل ولكنّهُ عليه الصلاة والسلام عِلم أنَّ الكتابَ أشبهُ بتلك الحال وأليق بتلك المراتب وأبلغُ في تعظيم ما حواه الكتاب .
ولو شاء اللّه أن يجعَل البشارات على الأَلسنة بالمرسلين ولم يودعها الكتب لفعل ولكنه تعالى وعزّ علم أن ذلك أتمُّ وأكمل وأجمع وأنبل .
وقد يكتب بعضُ من له مرتبةٌ في سلطان أو ديانة إلى بعض من يشاكله أو يجري مجراه فلا يرضى بالكتاب حتَّى يخزمه ويختمه وربَّما لم يرض بذلك حتى يُعَنْوِنه ويعظمه قال اللّه جلَّ وعز : أمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِماَ في صُحُفِ مُوسَى وإبْراهيمَ الَّذِي وَفَّى فذكر صحف موسى الموجودة نظام التوريث عند فلاسفة اليونانية قالوا : وكانت فلاسفة اليونانية تورث البنات العَين وتورث البنين الدين : وكانت تصل العجز بالكفاية والمؤونة بالكلفة وكانت تقول :

لا تورثوا الابنَ من المال إلاّ ما يكونُ عوناً له على طلب المال واغذُوه بحلاوة العلم واطبَعوه على تعظيم الحكمة ليصير جمْع العلم أغلبَ عليه من جمع المال وليرى أنَّه العُدَّة والعتاد وأنّه أكرم مستفاد .
وكانوا يقولون : لا تورِّثوا الابن من المال إلاّ ما يسد الخلة ويكون له عوناً على درك الفضول إن كان لا بُدَّ من الفضول فإنَّه إن كان فاسداً زادت تلك الفضول في فساده وإن كان صالحاً كان فِيما أورثتموه من العلم وبقّيتم له من الكفاية ما يكسبه الحال فإن الحال أفضل من المال ولأَنَّ )
الماَل لم يَزَلْ تابعاً للحال وقد لا يتبع الحال المال وصاحب الفضول بعرَض فساد وعلى شفا إضَاعة مع تمام الحنكَة واجتماع القوَّة فما ظنُّكم بها مع غرارة الحداثة وسوء الاعتبار وقلة التجربة .
وكانوا يقولون : خير ميراثٍ ما أكسبك الأركان الأَربعة وأحاط بأصول المنفعة وعجَّل لك حلاوة المحبة وبقّى لك الأحدوثة الحسنة وأعطاك عاجل الخير وآجله وظاهره وباطنه .
وليس يجمع ذلك إلاّ كرامُ الكتب النفيسة المشتملة على ينابيع العلم والجامعة لكنوز الأَدب ومعرفِة الصناعات وفوائدِ الأَرفاق وحجج الدين الذي بصحته وعند وضوح برهانه تسكن النفوس وتثلج الصدور ويعود القلب معموراً والعزُّ راسخاً والأَصل فسيحاً .
وهذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه وتداويه وتصلحه وتهذبه وتنفي الخَبَث عنه وتفيدك العلم وتصادق بينك وبين الحجَّة وتعوّدك الأَخذ بالثقة وتجلب الحالَ وتكسب المال .

ورائثة الكتب

وراثة الكتب ووراثة الكتب الشريفة والأَبواب الرفيعة منبهة للمورِّث وكنز عند الوارث إلا أنه كنز لا تجب فيه الزكاة ولا حقُّ السلطان وإذا كانت الكنوز جامدة ينقصها ما أخذ منها كان ذلك الكنز مائعاً يزيده ما أخذ منه ولا يزال بها المورِّث مذكوراً في الحكماء ومنوّهاً باسمه في الأسماء وإماماً متبوعاً وعَلماً منصوباً فلا يزال الوارث محفوظاً ومن أجله محبوباً ممنوعاً ولا تزال تلك المحبَّة ناميةً ما كانت تلك الفوائد قائمة ولن تزال فوائدها موجودةً ما كانت الدار دار حاجة ولن يزال من تعظيمها في القلوب أثر ما كان من فوائدها على الناس أثر وقالوا : من ورَّثته كتاباً وأودعته علماً فقد ورثته ما يُغِل ولا يَستَغِلّ وقد ورثته الضيعة التي لا تحتاج إلى إثارة ولا إلى سقي ولا إلى إسجال بإيغار ولا إلى شرط ولا تحتاج إلى أكّار ولا إلى أن تُثار وليس عليها عُشر ولا للسلطان عليها خَرْج وسوَاء أفدته علماً أو ورثته آلة علم وسواءٌ دفْعُك إليه الكفايةَ أو ما يجلب الكفاية وإنما تجري الأمور وتتصرف الأفعال على قدر الإمكان فمن لم يقدر إلاّ على دفع السبب ولم يجب عليه إحضار المسبَّب فكتُب الآباء تحبيب للأحياء ومحي لذكر الموتى .


وقالوا : ومتى كان الأديب جامعاً بارعاً وكانت مواريثه كتباً بارعة وآداباً جامعة كان الولد أجدر أن يرى التعلُّم حظاً وأجدر أن يسرع التعليمُ إليه ويرى تركه خطأً وأجدرَ أن يجري من )
الأدب على طريق قد أنهج له ومنهاج قد وطئ له وأجدرَ أن يسري إليه عِرقْ مَن نَجله وسقي من غرسه وأجدر أن يجعل بدل الطلب للكسْب النظر في الكتب فلا يأتي عليه من الأيَّام مقدارُ الشغل بجمع الكتب والاختلاف في سماع العلم إلا وقد بلغ بالكفاية وغاية الحاجة وإنَّما تُفسد الكفاية من له تمت آلاته وتوافت إليه أسبابه فأما الحدَث الغرير والمنقوص الفقير .
فخير مواريثه الكفاية إلى أن يبلغ التمام ويكمل للطلب فخير ميراثٍ وُرّث كتبٌ وعلم وخير المورّثين من أورث ما يجمع ولا يفرِّق ويبصِّر ولا يُعمي ويُعطي ولا يأخذ ويجود بالكلِّ دون البعض ويدع لك الكنزَ الذي ليس للسلطان فيه حقّ والرِّكازَ الذي ليس للفقراء فيه نصيب والنِّعمةَ التي ليس للحاسد فيها حيلة ولا للُّصُوصِ فيها رغبة وليس للخصم عليك فيه حجَّة ولا على الجار فيه مَؤونة .
وأما ديمقراط فإنه قال : ينبغي أن يعرف أنه لا بدَّ من أن يكون لكلِّ كتابٍ علمٍ وضعَه أحدٌ من الحكماء ثمانيةُ أوجه : منها الهمَّة والمنفعة والنسبةُ والصحَّةُ والصِّنف والتأليف والإسناد والتدبير فَأَوَّلُها أن

تكون لصاحبه هِمَّة وأن يكون فيما وضع منفعة وأن يكون له نسبة يُنْسَب إليها وأن يكون صحيحاً وأن يكون على صِنف من أصناف الكتب معروفاً به وأن يكون مؤتلفاً من أجزاء خمسة وأن يكون مسنداً إلى وجه من وجوه الحكمة وأن يكون له تدبير موصوف .
فذُكِر أن أبقراط قد جمع هذه الثمانية الأوجه في هذا الكتاب وهو كتابه الذي يسمى أفوريسموا تفسيره كتاب الفصول .
مقاولة في شأن الكلب وقولك : وما بلغَ من قدر الكلب مع لؤم أصله وخُبث طبعه وسقوط قدره ومهانة نفسه ومع قلَّةِ خيره وكثرة شره واجتماع الأمم كلِّها على استسقاطه واستسفاله ومع ضربهم المثل في ذلك كلِّه به ومع حاله التي يعرف بها ومن العجز عن صولة السِّباع واقتدارها وعن تمنُّعها وتشرُّفها وتوحُّشها وقلة إسماحها وعن مسالمة البهائم وموادعتها والتمكين من إقامة مصلحتها والانتفاع بها إذ لم يكن في طبعها دفع السباع عن أنفسها ولا الاحتيال لمعاشها ولا المعرفة بالمواضع الحريزة من المواضع المخُوفة ولأنَّ الكلب ليس بسبع تام ولا بهيمة تامة حتى كأنه من الخلْق المركَّب والطبائع الملفَّقة والأخلاط المجتلبة كالبغل المتلوِّن في أخلاقه الكثير العيوب المتولِّدة )
عن مزاجه .
وشرّ الطبائع ما تجاذبته الأعراق المتضادَّة والأخلاق المتفاوتة والعناصر المتباعدة كالراعبيِّ من الحمام الذي ذهبت عنه هداية الحمام

وشكل هديره وسرعة طيرانه وبطل عنه عمر الورَشان وقوَّة جناحه وشدة عصبه وحسنُ صوته وشَحْو حلقه وشكل لحونه وشدَّة إطرابه واحتماله لوقع البنادق وجرح المخالب وفي الراعبي أنّه مُسرْوَل مثقل وحدث له عِظَمُ بدن وثقل وزن لم يكن لأبيه ولا لأمِّه .
وكذلك البغل خرج من بين حيوانين يلدان حيواناً مثلهما ويعيش نتاجُهما ويبقى بقاءَهما وهو لا يعيش له ولد وليس بعقيم ولا يبقى للبغلة ولد وليست بعاقر فلو كان البغل عقيماً والبغلة عاقراً لكان ذلك أزيدَ في قوتهما وأتمَّ لشدتهما فمع البغل من الشّبق والنَّعظ ما ليس مع أبيه ومع البغلة من السَّوَس وطلب السفاد ما ليس مع أمِّها وذلك كلُّهُ قدح في القوَّة ونقص في البنية وخرج غرموله أعظم من غراميل أعمامه وأخواله فترك شبههما ونزع إلى شيء ليس له في الأرض أصل وخرج أطول عمراً من أبويه وأصبرَ على الأثقال من أبويه .
أو كابن المذكَّرة من النساء والمؤنث من الرجال فإنه يكون أخبث نتاجاً من البغل وأفسد أعراقاً من السِّمع وأكثر عيوباً من العِسبار ومنْ كلّ خلقٍ خلق إذا تركب من ضدّ ومن كل شجرة مُطَعَّمَةٍ بخلاف .
وليس يعترِي مثلُ ذلك الخِلاسيّ من الدجاج ولا الورداني من الحمام .


وكلُّ ضعف دخل على الخلقة وكل رقَّة عرضت للحيوان فعلى قدر جنسه وعلى وزن مقداره وتمكنه يظهر العجزُ والعيب .
وزعم الأصمعيُّ أنَّه لم يسبق الحلبةَ فرسٌ أهضم قط .
وقال محمد بن سلاّم : لم يسبق الحلبة أبلق قط ولا بلقاء .
والهداية في الحمام والقوَّة على بعد الغاية إنما هي للمصْمَتَة من الخضر .
الشيات في الحيوان ضعف ونقص .
وزعموا أنَّ الشِّياتِ كلَّها ضعف ونقص والشِّيَةَ : كلُّ لون دخلِ على لون وقال اللّه جلّ وعزّ : إنَّه يَقُولُ إنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ ولاَ تَسْقِي الحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فيهَا .
ابن المذكرة من المؤنث )
وزعم عثمان بن الحكم أنَّ ابن المذكرة من المؤنث يأخذ أسوأ خصال أبيه وأردأ خصال أمه فتجتمع فيه عظام الدواهي وأعيان المساوي وأنَّه إذا خرج كذلك لم ينجع فيه أدب ولا يَطمع في علاجه طبيب وأنَّه رأى في دور ثقيف فتًى اجتمعتْ فيه هذه الخصال فما كان في الأرض يومٌ إلاَّ وهم يتحدثون عنه بشيءٍ يصغُر في جنْبِه أكبرُ ذنبٍ كان يُنسَب إليه .


وزعمتَ أنَّ الكلب في ذلك كالخنثى والذي هو لا ذكر ولا أنثى أو كالخصي الذي لمَّا قُطع منه ما صار به الذَّكر فحلاً خرجَ من حدِّ كمالِ الذكَر بفقدان الذكَر ولم يكملُ لأن يصير أنثى للغريزة الأصلية وبقيّةِ الجوهريّة .
وزَعَمْتَ أنَّه يصير كالنبيذ الذي يفسده إفراطُ الحرّ فيخرجه من حدِّ الخل ولا يدخلهُ في حدِّ النبيذ .
وقال مرداس بن خذام : ( سَقَينا عِقالاً بالثَّوِيّةِ شَرْبةً ** فمالت بلُبِّ الكاهلِيِّ عِقالِ ) ( فقُلتُ اصطبِحْها يا عِقالُ فإنَّما ** هي الخمرُ خَيَّلْنا لها بِخَيالِ ) ( رَمَيْتُ بأُمِّ الخلِّ حبَّةَ قلبِه ** فلم ينتعش منها ثلاثَ ليالِ ) فجعل الخمر أُمَّ الخلّ قد يتولد عنها وقد يتولّد عن الخل إذ كان خمراً مرة الخمرُ .
وقال سعيد بن وهب : ( فالآن حين بدَتْ بخدِّك لحية ** ذهَبَتْ بملحك مثل كفِّ القابضِ ) ( مثل السلافة عادَ خمرُ عصيرها ** بعدَ اللَّذاذة خَلَّ خمرٍ حامضِ ) ويصير أيضاً كالشعر الوسط والغناء الوسط والنادرة الفاترة التي لم

تخرج من الحرِّ إلى البرد فتضحك السِّن ولم تخرُج من البرد إلى الحر فتضحك السِّن .

ما يعتري الإنسان بعد الخصاء
وكيف ما كان قبل الخصاء
قالوا : كلُّ ذي ريح مُنتِنةٍ وكُلُّ ذي دَفْرٍ وصُنَانٍ كريهِ المشَمَّةِ كالنَّسر وما أشبهه فإنَّه متى خُصي نقص نتنُه وذهبَ صُنانه غيرَ الإنسان فإنَّ الخصيَّ يكون أنتنَ وصنانُه أحدَّ ويعمُّ أيضاً خبْثُ العرقِ سائرَ جسدَه حتى لَتُوجَد لأجسادهمْ رائحةٌ لا تكون لغيرهم فهذا هذا .
وكلُّ شيءٍ من الحيوان يُخصَى فإنَّ عظمَه يدِقُّ فإذا دقَّ عظمُه استرخَى لحمه و تبرَّأ من عظمه وعاد رَخْصاً رطْباً بعد أن كان عَضِلاً صُلباً والإنسان إذا خُصِيَ طال عظمُه وعرُض فخالف أيضاً جميعَ الحيوان من هذا الوجه .
وتعرض للخصيان أيضاً طول أقدامٍ واعوجاج في أصابع اليد والتواءٌ في أصابع الرِّجْل وذلك مِن أوَّلِ طعْنهم في السنِّ وتعرِض لهم سرعة التغيُّر والتبدُّل وانقلاب من حدِّ الرطوبة والبضاضة ومَلاسة الجلد وصفاءِ اللون ورقَّته وكثرةِ الماء وبريقه إلى التكرُّش والكمود

وإلى التقبُّض والتخَدُّد وإلى الهُزال وسوء الحال فهذا الباب يعرِض للخصيان ويعرض أَيضاً لمعالجي النبات من الأكرة مِن أهل الزرع والنخل لأنَّكَ ترى الخصيَّ وكأنَّ السيوفَ تلمع في لونه وكأنَّه مِرْآةٌ صينيَّة وكأنه وَذيلة مجلوَّة وكأنه جُمَّارَة رَطْبة وكأنه قضيبُ فِضَّةٍ قد مسَّهُ ذهب وكأن في وجناته الورد ثم لا يلبثُ كذلك إلا نُسَيْئاتٍ يسيرةً حتى يذهبَ ذلك ذَهاباً لا يعود وإن كان ذا خِصبِ وفي عيش رَغَد وفي فراغ بالٍ وقلَّةِ نصَب .

من طرائف عبد الأعلى القاص
ّ ) وكان من طرائف ما يأتي به عبد الأعلى القاصّ قوله في الخصي وكان لغلبة السلامة عليه يُتوهَّم عليه الغفلة وهو الذي ذكر الفقيرَ مرة في قصصه فقال : الفقير مرقته سُلْقة ورداؤه عِلْقة وجَرْدَقته فِلْقة وسمكته شِلقَة وإزاره خرقة .
قالوا : ثمَّ ذكر الخَصيَّ فقال : إذا قُطِعت خُصيته قَوِيت شَهوته وسخُنت مَعِدته ولانَتْ جِلدتُه وانجردت شَعْرته واتَّسعت فَقْحته وكثُرتْ دمعته .


وقالوا الخصيُّ لا يصلَع كما لا تصلَع المرأة وإذا قطع العضوُ الذي كان به فحلاً تامّاً أخرجه ذلك من أكثرِ معاني الفحول وصفاتهم وإذا أخرجه من ذلك الكمال صيَّره كالبغل الذي ليس هو حماراً ولا فرساً وتصيرُ طباعُه مقسومةً على طباعِ الذكر والأنثى وربما لم يَخْلُص له الخلقُ )
ولم يَصْفُ حتّى يصير كالخلق من أخلاق الرجال أو يلحق بمثله من أخلاق النساء ولكنَّه يقع ممزوجاً مركباً فيخرج إلى أن يكون مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وربما خرجت النتيجة وما يولّده التركيب عن مقدار معاني الأبوين كما يجوزُ عمرُ البغْل عمرَ أبويه وكذلك ما عددنا في صدر هذا الكلام .

طلب النسل
وقالوا : وللإنسان قوًى معروفةُ المِقدارِ وشهواتٌ مصروفةٌ في وجوهِ حاجاتِ النفوس مقسومةٌ عليها لا يجوزُ تعطيلُها وتركُ استعمالِها ما كانت النفوسُ قائمةً بطبائعها ومِزاجاتها وحاجاتها وبابُ المنكَح مِن أكبرِها وأقواها وأعمِّها .
ويدخل في باب المنكَح ما في طبائِعهم من طلبِ الولد وهو بابٌ من أبوابهم عظيم فمنهم من يطلبه للكثرة والنُّصرة وللحاجة إلى العدد والقوَّة ولذلك استلاطت العربُ الرجالَ وأغضتْ على نسب المولود

على فراش أبيه وقد أحاط علمُه بأنَّه من الزوج الأوَّل قال الأشهبُ بن رُمَيلة : ( قال الأقاربُ لا تغرُرْكَ كثرتُنا ** وأَغْن نفسَكَ عنَّا أيها الرجُلُ ) ( علَّ بَنِيَّ يشدُّ اللّهُ كثرتَهم ** والنَّبْعُ يَنْبُتُ قُضْباناً فيكتهل ) وقال الآخَر : ( إنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّون ** أَفْلَحَ مَنْ كان لَهُ رِبْعِيُّونْ ) يشكو كما ترى صِغَر البنين وضعف الأسر .
وما أكثر ما يطلب الرجل الوَلدَ نفاسةً بماله على بني عمِّه ولإشفاقِه من أن تليه القضاةُ وترتع فيه الأمناء فيصيرَ مِلكاً للأولياء ويقضيََ به القاضي الذِّمامَ ويصطنع به الرجال .
وربما همَّ الرجلُ بطلب الولد لبقاء الذكْر وللرغبة في العقب أو على جهة طلَبِ الثواب في مباهاة المشركين والزيادةِ في عدد المسلمين أو للكسب والكفاية وللمدافعة والنُّصْرة وللامتناع وبقاء نوع الإنسان ولما طبع اللّه تعالى تعالى بني آدم عليه من حبِّ الذُّرِّيَّةِ وكثرةِ النسل كما طبع

اللّه تعالى الحمام والسنانير على ذلك وإن كان إذا جاءه الولد زاد في هَمِّه ونصبه وفي جُبْنِه وبخْله وقد قال النبي : الْوَلَد مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَجْهَلَةٌ فيحتمل في الولد المُؤَن المعروفة والهموم وذكر أبو الأخزَر الحِمَّاني عَير العانة بخلاف ما عَليه أصحابُ الزِّواج من الحيوان فقال عند ذكر ) سِفاده : لا مُبتَغِي الذرْء ولا بالعازِلِ لأنَّ الإنسانَ من بين الحيوان المُزَاوِج إذا كرِهَ الولدَ عزَل والمزاوج من أصناف الحيوانات إنَّما غايتُها طلبُ الذرْء والولد لذلك سُخِّرت وله هيِّئت لِما أراد اللّه تعالى من إتمامِ حوائِج الإنسانِ والحمارُ لا يطلبُ الولدَ فيكون إفراغه في الأتان لذلك ولا إذا كان لا يريد الولد عزَل كما يعزل الإنسان غير أنّ غايتَه قضاءُ الشهوة فقط ليس يَخْطُر على باله أنَّ ذلك الماءَ يُخلَق منه شيء .
وروى ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال : ليس في البهائم شيء يعمل عمل قوم لوط إلا الحمار .
وعامَّة اكتساب الرجال وإنفاقهم وهمِّهم وتصنُّعهم وتحسينهم لما يملكون إنَّما هو مصروفٌ إلى النساء والأسباب المتعلقة بالنساء ولو لم يكن إلاّ التنمُّص والتطيُّب والتطوُّس والتَعرُّس والتخضُّب

والذي يُعَدُّ لها من الطيب والصِّبغ والحَلْيِ والكِساءِ والفُرُش والآنية لكان في ذلك ما كفى ولو لم يكن له إلاّ الاهتمامُ بحفظها وحراستها وخوفُ العارِ من جنايتها والجناية

قوله في الغرائز وبيان سبب شره الخصي
فإِذا بطل العضوُ الذي من أجله يكون اشتغالُ النفس بالأصناف الكثيرة من اللذَّة والألَم فباضطرارٍ أنْ تعلَمَ أنَّ تلك القوَى لم تَبطل من التركيب ولم تَعدَمْها الخلقة وإنَّما سُدَّ دونَها بسدٍّ وأدخل عليها حجاب فلا بدَّ لها إذا كانت موجودةً من عمل لأنَّ عملَ كلِّ جوهرٍ لا يُعدَم إلاّ بعدم ذاته فإذا صُرِفَتْ من وجهٍ فاضَتْ من وجه ولا سيما إذا جمَّت ونازعتْ ولا بُدَّ إذا زخرت وغَزُرت وطغت وطَمَتْ من أن تفيضَ أو تفتح لنفسها باباً وليس بعد المنكح بابٌ له موقعُ كموقعِ المطعم فاجتمعت تلك القوى التي كانت للمنكَح وما يشتمل عليه باب المنكح إلى القوَّة التي عنده للمطعم فإذا اجتمعت القوَّتان في بابٍ واحد كان أبلغ في حكمِهِ وأبعدَ غايةً في سبيله ولذلك صارَ الخَصيُّ آكَلَ من أخيه لأمِّه وأبيه وعلى قدر الاستمراء يكون هضمه وعلى قدر حاجةِ طبعه وحركة نفسه والحرارةِ المتولّدةِ عن الحرَكة يكونُ

الاستمراء لأن الشهوة من أمتن أبواب الاستمراء والحركة من أعظم أبواب الحرارة .

تفوق رغبة الإناث على الذكور في الطعام
ودوامُ الأكل في الإناثِ أعمُّ منه في الذكور وكذلك الحِجْرُ دون الفَرَس وكذلك الرَّمَكة دونَ البِرذَون وكذلك النعجة دونَ الكبش وكذلك النساءُ في البيوت دونَ الرجال وما أشكُّ أنَّ الرجلَ يأكلُ في المجلسِ الواحِد ما لا تأكل المرأة ولكنَّها تستوفِي ذلك المقدارَ وتُربِي عليه مقطَّعاً غيرَ منظوم وهي بدوامِ ذلك منها يكون حاصلُ طعامِها أكثرَ وهنَّ يُناسِبْن الصبيانَ في هذا الوجه لأنَّ طبعَ الصبيِّ سريعُ الهضم سريعُ الكلَب قصيرُ مدَّةِ الأكل قليلُ مقدارِ الطُّعْم فللمرأةِ كثرةُ معاودتها ثمَّ تَبِينُ بكثرةِ مقدارِ المأكول فيصير للخَصيِّ نصيبان : نصيبُه من شِبْه النساء ثم اجتماعُ قوى شهوتيه في بابٍ واحد أعني شهوةَ المنكَح التي تحولت وشهوةَ المطعم .
قال وقيل لبعض الأعراب : أيُّ شيء آكَلُ قال : بِرْذَونَة رَغُوث .
ولشدَّةِ نَهَمِ الإناثِ صارت اللبؤة أشدَّ عُرَاماً وأنزقَ إذا طلبت الإنسانَ لتأكله وكَذلك صارت إناثُ الأَجناس الصائدة أصيَدَ

كالإناثِ من الكلاب والبُزاةِ وما أشبهَ ذلك وأحرصَ ما تكونَ عندَ ارتضاع جِرائها من أطبائها حتَّى صار ذلك منها سبباً للحرص والنَّهم في ذلك .

صوت الخصي
ويعرض له عند قطع ذلك العضوِ تغيُّرُ الصوت حتى لا يخفى على من سمِعه من غير أن يرى صاحبَه أنَّه خَصِيٌّ وإن كان الذي يخاطبه ويناقله الكلام أخاه أو ابنَ عمِّه أو بعضَ أترابه مِن فُحولة جنسه وهذا المعنى يعرض لخِصيان الصقالِبَة أكثر ممَّا يعرِض للخراسانية وللسودان من السِّنْد والحُبْشان وما أقلَّ مَن تجده ناقصاً عن هذا المقدار إلاّ وله بيضة أو عِرْق فليس يُحتاج في صِحَّةِ تمييزِ ذلك ولا في دقة الحسِّ فيه إلى حِذقٍ بقيافة بل تجد ذلك شائعاً في طباع السِّفلة والغَثْرَاءِ وفي أجناس الصِّبيان والنساء . ( شَعر الخصي ) ومتى خُصي قبلَ الإنباتِ لم يُنْبِتْ وإذا خُصِي بعد استحكام نباتِ الشعر في مواضعه تساقط كله إلاَّ شعرَ العانة فإنه وإن نقَص من غَلظه ومقدارِ عَدده فإنَّ الباقيَ كثير ولا يعرِضُ ذلك لشعر الرأس فإنَّ شعرَ

الرأس والحاجبين وأشفار العينين يكون مع الولادة وإنما يعرض لما يتولد من فضول البدن .
وقد زعم ناسٌ أنَّ حكمَ شعر الرأس خلافُ حكم أشفار العينين وقد ذكرنا ذلك في موضعه من باب القول في الشعر وهذه الخصال من أماكن شَعر النساء والخصيان والفحولة فيه سواء وإنما يعرض لسوى ذلك من الشعر الحادثِ الأصول الزائدِ في النبات ألا ترى أن المرأة لا تصلَعُ فناسبها الخصيُّ من هذا الوجه فإنْ عرضَ له عارضٌ فإنما هو من القرَع لا من جهة النَّزَع والمرأة ربَّما كان في قَصَاص مقاديم شعرِ رأسها ارتفاع وليس ذلك بنزَعٍ ولا جلَح إذا لم يكن ذلك حادثاً يُحدثه الطعنُ في السنّ .
وتكون مقاطعُ شعر رأسه ومنتهى حدود قُصاصه كمقاطع شعر المرأة ومنتهى قُصاصها وليس شعرُها كلما دنا من موضع الملاسَة والانجراد يكون أرقَّ حتى يقلَّ ويضمحلَّ ولكنه ينبُت في مقدارِ ذلك الجلد على نبات واحد ثم ينقطع عند منتهاه انقطاعاً واحداً والمرأة ربَّما كانت سبلاءَ وتكون لها شَعَراتٌ رقيقة زَغَبِيَّةٌ كالعِذار موصولاً بأصداغها ولا يعرض ذلك للخَصي إلا من علة في الخصاء ولا يرى أبداً بعد مقطَع من صُدْغَيه شيءٌ من الشَّعر لا من رقيقه ولا من كثيفه

ذوات اللحى والشوارب
وقد توجد المرأة ذات لحية وقد رأيت ذلك وأكثرُ ما رأيته في عجائِز الدَّهاقين وكذلك الغَبَب والشارب وقد رأيت ذلك أيضاً وهي ليست في رأي العين بخُنْثى بل نَجِدها أنثى تامَّة إلا أن تكون لم تضرِب في ذلك بالسبب الذي يقوَى حتى يظهر في غير ذلك المكان ولا تعرض اللحى للنساء إلا عند ارتفاع الحيض وليس يعرض ذلك للخَصي .
وقد ذكر أهلُ بَغداد أنَّه كان لابنةٍ من بناتِ محمَّدِ بنِ راشدٍ الخنَّاق لحيةٌ وافرة وأنّها دخلت مع نساءٍ متنقِّباتٍ إلى بعض الأعراس لتَرَى العُرس وجَلْوَةَ العَرُوس ففطِنت لها امرأة فصاحت : رجلٌ واللّه وأحال الخدم والنساءُ عليها بالضرب فلم تكن لها حيلةٌ إلا الكشفَ عن فرْجِها فنزَعن عنها وقد كادت تموت .
ويفضل أيضاً الخصيُّ المرأةَ في الانجراد والزَّعَر بأن تجدَ المرأة زَبَّاءَ الذراعين والساقين وتجد رَكَب المرأة في الشعْر كأَنَّه عانَةُ الرجل ويعرض لها الشعر في إبطيها وغير ذلك ولا يعرِض للخصيِّ ما يعرض للديك إذا خُصي : أن يذبُلَ غُضروفُ عُرْفِه ولحيته .
والخصاءُ ينقُص من شدَّة الأسر وينقُض مُبْرَمَ القُوَى ويُرْخِي مَعاقِدَ العَصَب ويقرِّب من الهرَم والبِلى

مشي الخصي
ويعرِض للخصيِّ أن يشتدَّ وقعُ رجله على أرض السَّطح حتى لو تفقَّدتَ وقعَ قدمه وقدَم أخيه الفحل الذي هو أعبلُ منه لوجدتَ لوقْعِه ووطْئه شيئاً لا تجده لصاحبه وكأنَّ العضوَ الذي كان يشدُّ توتير النَّسَا ومَعاقد الوركين ومعاليق العصب لَمَّا بطل وذهب الذي كان يمسكُه
أثر الخصاء في الذكاء
ويعرض له أنَّ أخوين صَقْلَبِيَّيْنِ مِن أمّ وأبٍ لو كان أحدهُما توءمَ أخيه أنَّه متى خُصِيَ أحدُهما خرَج الخَصيُّ منهما أجوَدَ خِدمةً وأفطن لأبواب المعاطاة والمُنَاولةِ وهو لها أتقَنُ وبها أليق وتجده أيضاً أذكى عقلاً عند المخاطبة فيُخصُّ بذلك كلِّه ويبقى أخوه على غثارة فطرته وعلى غباوة غريزته وعلى بلاهة الصَّقْلَبيَّة وعلى سوءِ فهم العجَميّة .
ويدُ الإنسان لا تكون أبداً إلا خرْقاءَ ولا تصير صَناعاً ما لم تكنْ

المعرفةُ ثِقافاً لها واللسان لا يكون أبرأَ ذاهباً في طريق البيان متصرفاً في الألفاظ إلاّ بعد أن تكونَ المعرفةُ متخلِّلَةً به منقّلة له واضعةً له في مواضع حقوقِه وعلى أماكن حظوظِه وهو علَّةٌ له في الأماكن العميقة ومصرِّفةٌ له في المواضع المختلفة .
فأوَّلُ ما صنع الخِصاءُ بالصَّقْلَبِيِّ تزكيةُ عقلهِ وإرهافُ حدِّه وشحْذُ طبعِه وتحريكُ نفسه فلما عرَف كانت حركته تابعةً لمعرفته وقوَّته على قدر ما هيّجه .
فأمَّا نساءُ الصقالبة وصبيانهم فليس إلى تحويل طبائعهم ونقْل خَلْقهم إلى الفطنة الثاقبة وإلى الحرَكَة الموزونة وإلى الخدمة الثابتة الواقعة بالموافقة سبيلٌ وعلى حسَب الجهْل يكون الخُرْق وعلى حسب المعرفة يكون الحِذق وهذا جملةُ القول في نسائهم وعلى أنّهنَّ لا حظوظَ لهنَّ عند الخلوة ولا نفاذَ لهنَّ في صناعة إذ كنَّ قد مُنِعن فهمَ المعاطاة ومعرفةَ المناولة .
والخِصيانُ معَ جودة آلاتهم ووَفَارة طبائعهم في معرفةِ أبوابِ الخِدْمة وفي استواءِ حالهم في باب المعاطاة لم تر أحداً منهم قطُّ نفَذَ في صناعةِ تنُسب إلى بعضِ المشقَّة وتضافُ إلى شيءٍ من الحكمة ممَّا يُعرَف ببُعْد الرَّوِيَّةً والغوصِ بإدامة الفكرة إلا ما ذكرُوا من نَفَاذ ثقف في التحريك للأوتار فإنَّه كانَ في ذلك مقدَّماً وبه مذكوراً

إلاَّ أنَّ الخصيَّ من صباه يُحسِن صنعة الدّابوق ويُجِيد دُعاءَ الحمام الطوُّريِّ وما شئتَ من صغار الصناعات .
وقد زعم البصريُّون أَن حَديجاً الخصيّ خادمَ المُثنّى بن زُهَير كان يُجاري المُثَنّى في البصَر )
بالحمام وفي صحّة الفِراسة وإتقان المعرفة وجودة الرياضة وسنذكُر حالَه في باب القول في الحمام إن شاء اللّه تعالى .
هذا قولهم فيمن خُصي من الصقالبة وملوكُنا لعقول خِصيان خُراسانَ أحمد وهم قليل ولذلك لم نأتِ من أمرهم بشيءٍ مشهور وأمر مذكور .

خصيان السند
وأما السِّند فلم يكن فيهم أيضاً من الخِصيان إلاّ النَّفرُ الذين كان خصاهم موسى بنُ كعب وقد رأيت أنا بعضَهم وزعم لي أنَّه خَصَى أربعةً هو أحدهم ورأيتُ الخِصاء قد جذبَه إلى حبِّ الحمام وعمل التكك والهراش بالديوك وهذا شيءٌ لم يُجْرِ منه على عِرق وإنما قاده إليه قطعُ ذلك العضو .

خصيان الحبشة والنوبة والسودان
فأمَّا الخصيان من الحُبْشان والنُّوبة وأصناف السودان فإنّ الخصاءَ يأخذُ منهم ولا يعطيهم وينقُصهم ولا يزيدهم ويحطُّهم عن مقادير إخوانهم كما يزيد الصقالبةَ عن مقادير إخوتهم لأن الحبشيَّ متى خُصِي سقطَتْ نفسه وثقُلت حركته وذهب نشاطه ولا بدَّ أن يعرض له فساد لأنه متى استُقْصي جِبابُه لم يتماسك بوله وسلُس مخرجه واسترخى الممسك له فإن هم لم يستقصوا جِبابه فإنما يُدخل الرجل منزله مَن له نصفُ ذلك العضو وعلى أنك لا تجد منهم خَصِياً أبداً إلاّ وبِسُرَّتِه بُجْرَةٌ ونفخة شنيعة وذلك عيبٌ شديد وهو ضرب من الفتق مع قُبحِه في العَين وشُنعَته في الذِّكْر وكلُّ ما قَبُح في العين فهو مؤلم وكل ما شنُع في النفس فهو مؤذٍ وما أكثَرَ ما تجد فيهم الألطَع وذلك فاشٍ في باطن شفاههم ومتى كانت الشفاه هُدْلاً وكانت المشافرُ منقلبة كانت أَظهر للَّطَع وهو ضرب من البرص والبياض الذي يعرض لغَرَاميل الخيل وخُصَاها ضربٌ أيضاً من البرص وربما عَرَض مثل ذلك لحشفةِ قضيب المختون إمَّا لَطَبَع الحديد وإمّا لقرب عهده بالإحداد وسقْيِ الماء إِلاّ أنَّ ذلك لا يعدُو مكانه

وكلما عظُمت الحشفةُ انبسَطَ ذلك البياضُ على قدر الزيادة فيها وإنَّما ذلك كالبياض الذي يعرِض من حَرْق النار وتشييطها وكالذي يعرض للصقالِبَة من التَّعالُج بالكيِّ وربَّما اشتدَّ بياضُه حتى يفحُشَ ويُردِيه إلا أنَّه لا يفشو ولا ينتشر إلاّ بقدر ما ينبسط مكانه ويتحوَّل صاحبه رجُلاً بعد أن كان صبيّاً وليس كالذي يعرِض من البلغم ومن المِرَّة وبعضُ البرص )
يذهب حتى كأنه لم يكن وبعضُه لا يذهب ولا يقف بل لا يزال يتفشَّى ويتَّسع حتى ربَّما سلخه ولا يذهب إلاّ بأنْ يذهب به نبي فيكون ذلك علامةً له ومن البهق الأبيض ما يكاد يلحق بالبَرَص ولكن الذي هوَّن أمره الذي ترونَ من كثرَةِ بُرءِ الناس منه .
ثمَّ الخصاءُ يكونُ على ضروبٍ ويكون في ضروب فمن ذلك ما يعرِض بعدَ الكِبَر للأحرار كما يعرض للعبيد وللعرب كما يعرض للعجم كما خَصَى بعضُ عَبَاهلةِ اليمن علقمةَ بنَ سهلٍ الخَصيّ وإنما قيل لعلقمةَ بن عَبَدَةَ الفحلُ حين وقعَ على هذا اسمُ الخصي

وكان عبداً صالحاً وهو كان جَنَبَ الجدِيل وداعراً الفحلين الكريمين إلى عمان وكان من نازليها وهو كان أحدَ الشهودِ على قُدامة بنِ مَظْعونٍ في شرب الخمر وهو الذي قال لعمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : أتَقبَلُ شهادةَ الخصيِّ قال : أما شهادتك فأقبَلُ وهو عَلقمةُ بن سهْلِ بن عمارة فلمَّا سمّوه الخصيّ قالوا لعلقمةَ ابن عَبَدة : الفحل وعلقمةُ الخصيّ الذي يقول : ( فلن يَعْدَمَ الباقون قبراً لجثَّتي ** ولن يعدَم الميراثَ منِّي المواليا ) ( حِراصٌ على ما كنت أجمعُ قَبْلَهم ** هَنِيئاً لهمْ جَمْعِي وما كنتُ والِيا ) ( ودُلِّيتُ في زَوْراءَ ثُمَّتَ أعنَقوا ** لشأنهِمُ قَدْ أَفْرَدُونِي وشَانِيا ) ( فأصبح مالي من طريفٍ وتالدٍ ** لغيري وكانَ المالُ بالأمس ماليا ) وكما عرَض للدَّلال ونَومَةِ الضُّحى مِن خصاءِ عُثمانَ بن حيَّان المرّيّ والي المدينة لهما بكتابِ هشام بن عبد الملك .
أثر تحريف كتاب هشام بن عبد الملك فمِنْ بني مرْوان من يدَّعي أنَّ عاملَ المدينةِ صحَّف لأنه رأى في الكتاب : أَحصِ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ المخنَّثين فقرأها : اخْصِ مَنْ قِبَلَك من

المخنَّثين وذكر الهيثمُ عن الكاتب الذي تولَّى قراءَة ذلك الكتاب أنَّه قال : وكيف يقولون ذلك ولقد كانت الخاء معجمةً بنقطةٍ كأنها سُهيل أو تمْرةُ صيحانية فقال اليقطري : ما وجْهُ كتابِ هشامٍ في إحصاءِ عدَد المخنَّثين وهذا لا معنى له وما كان الكتابُ إلاّ بالخاء المعجمة دون الحاء المهملة .
وذُكِر عن مشايخَ من أهل المدينة أنهم حكَوا عنهما أنهما قالا : الآن صِرنَا نساءً بالحقّ كأَنَّ الأمرَ لو كان إليهما لاختارا أن يكونا امرأتين قال : وذُكِر أنهما خرجا بالخصلتين من الخصاء والتخنيث )
من فُتورِ الكلام ولِين المفاصل والعظام ومن التفكُّك والتثنِّي إلى مقدار لم يرَوا أحداً بلغه لا من مخنَّثات النساء ولا من مؤنَّثي الرجال أبو همام السنوط وكما عرَض لأبي همام السَّنُوط مِن امتلاخِ اللُّخْم مذاكيرَه وخصيَيه أصابَه ذلك في البحر في بعضِ المغازي فسقطت لحيتُه ولقِّب بالسَّنُوط وخَرَج لذلك نَهِماً وشَرِهاً .


وقال ذات يوم : لو كان النخلُ بعضُه لا يحمل إلاَّ الرُّطَب وبعضُه لا يحمل إلاّ التمرَ وبعضُه لا يحملُ إلاّ المجزَّع وبعضُه لا يحمل إلاّ البُسر وبعضُه لا يحمل إلا الخَلاَل وكنَّا متى تناولْنا من الشِّمْراخ بُسْرَةً خلقَ اللّهُ مكانها بُسَرتين لَمَا كان بذلك بأس ثم قال : أستغفرُ اللّه لو كنتُ تمنيَّتُ أن يكونَ بدل نواةِ التمر زُبدة كان أصوَب ومنه ما يعرض من جهة الأوجاع التي تعرِض للمذاكير والخصيتين حتى ربما امتلخَهما طبيبٌ وربَّما قطَع إحداهما وربما سقطتا جميعاً من تلقاءِ أنفسهما

نسل منزوع البيضة اليسرى
والعوامُّ يزعمون أنَّ الولدَ إنّما يكونُ من البيضة اليسرى وقد زعمَ ناسٌ من أهل سليمان بن عليٍّ ومواليهم أنَّ ولدَ داود بن جعفر الخطيب المعتزليِّ إنَّما وُلِد له بعد أن نُزِعت بيضتُه اليُسرى لأمر كانَ عرض له .
والخصيُّ الطيّان الذي كان في مسجد ابن رَغبان وُلِدَ له غلام وكان ليس له إِلاَّ البيضةُ اليُمنى فجاء أشبهَ به من الذُّباب بالذُّباب والغرابِ بالغرابِ ولو أبصَرَه أجهلُ خلقِ اللّه تعالى بِفراسةٍ وأبْعدُهم من قِيافةٍ ومن مخالَطَةِ النخَّاسين أو من مجالسةِ الأَعراب لعِلمَ أنَّه سُلالَتُه

وخلاصته لا يحتاج فيه إلى مجزِّز المُدْلجِيّ ولا إلى ابن كريز الخُزاعي

خصاء الروم
ومن أهل الملل من يَخْصي ابنَه ويقفُه على بيت العبادَة ويجعله سادناً كصنيع الرُّوم إلا أنهم لا يُحدثون في القضيب حدثاً ولا يتعرضون إلا للأنثيين كأنهم إنما كرهوا لأولادهم إحبالَ نسائِهم ورواهبهم فقط فأما قضاءُ الوَطَر وبلوغُ اللذة فقد زعموا أنهم يبلُغون من ذلك مبلغاً لا يبلُغه الفحل كأنهم يزعُمون أنه يستقصي جميعَ ما عِندها ويستَجْلبه لفَرْط قوَّته على المطاولة .
الروم أول من ابتدع الخصاء وكلُّ خصاءٍ في الدنيا فإنما أصلُه من قِبَل الروم ومن العجب أنهم نصارى وهم يدَّعون مِن الرأفة والرحمة ورقَّة القلبِ والكَبِد ما لا يدَّعيه أحد من جميع الأصناف وحسبك بالِخصاء مُثْلةً وحسبك بصنيع الخاصي قسوة ولا جَرَم أنهم بعثوا على أنفسهم من الخِصيان من طَلَب الطوائل وتذكُّر الأحقاد ما لم يظنُّوه عندَهم ولا خافوه من قِبَلِهم

فلا هم ينزِعون ولا الخِصيانُ يَنْكِلون لأنَّ الرِّمايةَ فيهم فاشية وإن كان الخصيُّ أسواراً بلغَ منهم وإن كان جمع معَ الرماية الثَّرْوة واتخذ بطَرَسُوس وأذَنَة الضِّياعَ واصطنعَ الرجال واتخذ العُقَد المُغِلَّة فمضرَّة كلِّ واحدٍ منهم عليهم تَفِي بمَضَرَّةِ قائدٍ ضخم ولم ترَ عَداوةً قطُّ تجوز مقدارَ عداوتهم لهم وهذا يدلُّ على مقدار فرطِ الرغبة في النساء وعلى شهوةٍ شديدةٍ للمباضَعة وعلى أنهم قد عرفوا مقدار ما فقدوا وهذه خصلةٌ كريمة مع طلب المثوبة وحسن الأحدوثة

خصاء الصابئة
فأما الصابئون فإنَّ العابدَ منهم ربَّما خصى نفْسَه فهو في هذا الموضع قد تقدم الروميَّ فيما أظهرَ من حُسْنِ النيَّة وانتحل من الديانةِ والعبادة بخصاء الولد التامِّ وبإدخاله النقصَ على النَّسلِ كما فَعَل ذلك أبو المبارك الصابي وما زال خلفاؤنا وملوكنا يبعثون إليه ويسمعون منه ويَسمَر عندَهم للَّذي يجدونه عنده من الفهم والإفهام وطُرَف الأخبار ونوادر الكتب وكان قد أربى على المائة ولم أسمعْ قطُّ بأغزَلَ منه وإنْ كان يصدُق عن نفسه فما في الأرض أزنى منه

حديث أبي المبارك الصابي حدَّثني محمد بن عباد قال : سمعته يقول وجرى ذكرُ النساء ومحلِّهن من قلوب الرجال حتَّى زعموا أنَّ الرجلَ كلما كانَ عليهن أحرصَ كان ذلك أََدلَّ على تمام الفُحولة فيه وكان أذهبَ له في الناحية التي هي في خلقِته ومعناهُ وطبعهِ إذ كان قد جُعِل رجلاً ولم يُجعل امرأة قال ابن عبّاد فقال لنا : ألستْم تعلمون أنِّي قد أربَيتُ على المائة فينبغي لمن كان كذلك أن يكون وهْنُ الكِبَرِ ونفاذُ الذِّكْرِ وموتْ الشهوة وانقطاعُ ينبُوع النطْفةِ قد أماتَ حنينه إلى النساء وتفكيرَه في الغزَل قال : قلنا : صَدقتَ قال : وينبغي أن يكون مَن عوَّد نفسه تركَهنَّ مُدداً وتخلى عنهن سِنينَ ودهراً أن تكون العادة وتمرينُ الطبيعة وتوطينُ النفسِ قد حطَّ من ثقل منازعة الشهوة ودواعي الباءة وقد علمتمْ أنَّ العادة التي هي الطبيعة الثانية قد تستحكم ببعض عمدِ هَجْرٍ لملامسةِ النساء قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي أن يكونَ مَن لم يذُقْ طعم الخَلوة بهنَّ ولم يجالسهنَّ متبذلات ولم يسمَعْ حديثَهنَّ وخِلاَبتهنَّ للقلوب واستِمالتهن للأهواء ولم يَرَهُنَّ منكشفاتٍ عارياتٍ إذا تقدم له ذلك معَ طولِ التَّرك ألا يكون بقي معه من دواعيهن شيء قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي أن يكون لِمَنْ قد عِلم أنه محبوبٌ وأنَّ سببه إلى خِلاطهنَّ محسوم أن يكون اليأسُ من أمتن أسبابه إلى الزهد

والسلوة وإلى موت الخواطر قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي أن يكونَ من دعاهُ الزُّهدُ في الدنيا وفيما يحتويه النساءُ مع جمالهنَّ وفتنةِ النُّسَّاكِ بهنّ واتخاذِ الأنبياء لهنّ إلى أن خَصَى نفسه ولم يُكْرهُه عليه أبٌ ولا عدوٌّ ولا سَباه سابٍ أن يكون مقدارُ ذلك الزهد هو المقدار الذي يُميت الذِّكْرَ لهنَّ ويُسَرِّي عنه ألم فقد وُجودِهنَّ وينبغي لمن كان في إمكانه أن ينشئ العزم ويختارَ الإرادة التي يصير بها إلى قطع ذلك )
العضوِ الجامع لِكبار اللذَّات وإلى ما فيه من الألم ومع ما فيه من الخطر وإلى ما فيه من الْمُثلة والنَّقصِ الداخل على الخلقة أن تكون الوساوس في هذا الباب لا تعرُوه والدواعي لا تقْروه قال : قلنا : صدقت قال : وينبغي لِمَنْ سَخَتْ نفسه عن السَّكَن وعن الوَلد وعن أن يكون مذكوراً بالعقب الصالح أن يكون قد نسيَ هذا البابَ إن كان قد مرَّ منه على ذُكْرِ هذا وأنتم تعلمونَ أنِّي سَمَلْتُ عيني يومَ خصَيت نفسي فقد نسيتُ كيفية الصُّوَرِ وكيف تَرُوع وجَهِلت المراد منها وكيف تُراد أفما كان مَنْ كان كذلك حَرِيًّا أن تكون نفسُه ساهيةً لاهية مشغولةً بالبابِ الذي أحتمل له هذه المكاره قال : قلنا : صدقت قال : أَو لوْ لم أكنْ هَرِماً ولم يكن هاهنا طولُ اجتنابٍ وكانت الآلة قائمةً أليس في أنِّي لم أذقْ حيواناً منذُ ثمانينَ

سنة ولم تمتلِ عُروقي من الشرابِ مخافةَ الزيادة في الشهوة والنقصانِ من العزم أليسَ في ذلك ما يقطع الدواعي ويُسْكِن الحركة إن هاجت قال : قلنا : صدقت قال : فإنِّي بعدَ جميع ما وصفتُ لكم لأَسْمَعُ نغْمة المرأةِ فأظنُّ مرَّةً أنّ كَبِدي قد ذابت وأظنُّ مرّةً أنها قد انصدعت وأظنُّ مرّةً أنّ عقلي قد اختُلِس وربَّما اضطرب فُؤادِي عند ضحِك إحداهُنّ حتَّى أظنّ أنَّه قد خرجَ من فمي فكيف ألومُ عليهنَّ غيري فإن كان حفظك اللّه تعالى قد صدقَ على نفسه في تلك الحال بعد أن اجتمعت فيه هذه الخصال فما ظنُّك بهذا قبل هذا الوقت بنحو سِتِّين سنة أو سبعين سنةً وما ظنَّك به قبلَ الخصاء بساعة وليس في الاستطاعةِ ولا في صفِة الإمكان أن يحتَجِز عن إرادة النساء ومعِه من الحاجِة إليهنَّ والشهوةِ لهنَّ هذا المقدارُ اللّه تعالى أرحمُ بخلقِه وأعدَلُ على عباده من أن يكلِّفَهم هِجرانَ شيءٍ قد وصلَه بقلوبهم هذا الوصلَ وأكَّدَه هذا التأكيد .
وقد خصى نفسه من الصابئين رجالٌ قد عرَفناهم بأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم وأحاديثهم وفي الذي ذكرنا كفايةٌ إن شاء اللّه تعالى

استئذان عثمان بن مظعون في الخصاء
وقد ذُكرِ أَنَّ عثمانَ بن مَظْعونٍ اسْتَأْذنَ النبي صلى اللّه عليه وسلم في السياحة فقال : سِيَاحَةُ أُمَّتِي الجَمَاعَة واستأْذَنَه في الخصاءِ فقال :

خِصاء أمَّتي الصوم والصوم وِجاء فهذا خِصاءُ الديانة .

خصاء الجلب وقسوته
فأمَّا من خصى الجَلَبَ على جهة التجارة فإنه يَجُبُّ القضيب ويمتلخ الأنثيين إلا أن تقلَّصت إحداهما من فَرْط الفَزَع فتصيرُ إلى موضعِ لا يمكن ردُّها إلا بعلاج طويل فللخاصي عند ذلك ظلمٌ لا يفي به ظُلم وظلم يُربي على كلِّ ظلم لأنّه عندَ ذلك لا يحفِل بفوت المتقلِّص ويقطع ما ظهر له فإن برئ مجبوبَ القضيب أو ذَا بيضةٍ واحدة فقد تركه لا امرأةً ولا رجُلاً ولا خَصِيًّا وهو حينَئذٍ ممَّن تخرُج لحيتُه ومِمَّن لا يدعه الناسُ في دُورهم ومواضعِ الخُصوص من بيوتهم فلا يكونُ مع الخصيان مقرَّباً ومكرَّماً وخَصِيبَ العَيش منعَّماً ولا هو إذا رُمِي به في الفحول كان له ما للفحول من لذَّةِ غِشيان النساء ومِن لذّةِ النسل والتمتُّعِ بشم الأولاد فلم يزَل عندَ الفحولِ مستضعَفاً محتقراً وعند الخِصيان مجرَّحاً مطرحاً فهو أسوأُ حالاً من السَّدِم المعنَّى فلا أعلم قتْلَهُ إذا كان

القتلُ قِتلةً صريحة مُرِيحة إلا أصغَر عند اللّه تعالى وأسهلَ على هذا المظلوم من طول التعذيب واللّه َتعالى بالِمرصاد .

خصاء البهائم
وأمّا خصاءُ البهائم فمنه الوِجاءُ وهو أن يشدَّ عصَبُ مجامع الخُصيةِ من أصل القضيب حتَّى إذا نَدَرت البيضة وجَحَظت الخُصية وجأَها حتى يرضَّها فهي عند ذلك تذبُل وتنخسف وتذوِي وتستَدِقّ حتى تذهبَ قُواها وتنسدَّ المجاري إليها ويسريَ ذلك الفسادُ إلى موضع تربيةِ النُّطْفة فيمنعَها من أن تكثُر أو تعذب أو تخثُر .
ومنها ما يكون بالشدِّ والعصْب وشدَّةِ التحزيق والعَقْدِ بالخيط الشديد الوَتير الشديد الفتل فإذا تركه على ذلك عِمل فيه وحزَّ أَو أََكلَّ ومنعَه من أن يجزيَ إليه الغذاءُ فلا يلبثُ أن ينقطعَ ويسقط .
ومنه الامتلاخ وهو امتلاخ البيضتين فأمَّا خصاءُ الناس فإنّ للخاصي حديدةً مرهَفَةً مُحْماة وهي الحاسمة وهي القاطعة قال أبو زيد : يقال خصَيت الدابة أَخصِيها خِصاءً ووجأتها أجَؤُها وِجاءً ويقال : برئتُ إليك من الخصاء أو الوجاء ولا يقال ذلك إلاّ لما كان قريبَ العهد لم يبرأ منه فإذا برئ لم يُقل له .


وأما الخِصاءُ فهو أنْ يسلَّ الخُصيتين والوجاء أن توجَأ العرقُ والخصيتان على حالهما والمعصوب من التيوس الذي تُعصَب خُصيتاه حتى تسقطا والواحد من الخصيان خَصِيٌّ ومخصيّ ويقال ملست الخصيتَين أملُسهما ملْساً ومَتَنْتُهما أمتنهما متْناً وذلك أن تشقّ عنهما الصَّفَن فتسلَّهُما بعروقهما والصَّفَن : جلدة الخُصيتين .

خصاء البهائم والديكة
والخِصاءُ في أَحداثِ البهائم وفي الغنم خاصةً يدع اللَّحمَ رَخْصاً وندِيًّا عذباً فإنْ خَصَاه بعد الكبر لم يقو خِصاؤُه بعدَ استحكامِ القوَّة على قلْب طباعه وأجود الخِصاء ما كانَ في الصِّغَر وهو يسمَّى بالفارسية ثربخت يُعنى بذلك أنّه خُصِيَ رطباً والخَصيُّ من فحولها أحَملُ للشحم لعدم الهيْج والنَّعْظ وخروج قواه مع ماء الفِحْلة وكثرةُ السِّفاد تورث الضَّعْفَ والهُزالَ في جميعِ الحيوان وقد ذُكِر لمعاوية كثرة الجماع فقال : ما استُهتِرَ به أحدٌ إلاّ رأيت ذلك في مُنَّته
خصاء العرب لفحولة الإبل
وكانت العربُ تَخصِي فُحولَةَ الإبل لئلاَّ يأكلَ بعضُها بعضاً وتستبقي ما كان أجودَ ضِراباً وأكثرَ نَسْلاً وكلَّ ما كان مئناثاً

وكان شابًّا ولم يكن مذكاراً وهم يسمُّون الإذكار المحْقَ الخَفِيّ )
وما كان منها عَيَاياءَ طَبَاقاءَ فمنها ما يجعل السّدِمَ المعنَّى وإذا كان الفحلُ لا يُتَّخذ للضِّراب شدُّوا ثِيلَه شدّاً شديداً وتركوه يهدِر ويُقَبقِب في الهَجْمة ولا يصل إليهنَّ وإن أردنَه فإذا طلبْنَ الفحلَ جِيءَ لهنَّ بفحلٍ قَعْسريٍّ ويقولون : لَقْوَةٌ لاقَتْ قَبيساً والقَبيس من الجِمال : السريع الإلقاح واللَّقوة : السريعة القَبول لماءِ الفحلِ .
وشكت امرأةٌ زوجَها وأخبرتْ عن جهِله بإتيان النساء وعِيِّه وعجْزِه وأنَّه إذا سقط عليها أطَبقَ صدرَه والنساءُ يكرهْنَ وقُوعَ صدورِ الرجال على صدورهنَّ فقالت : زَوْجِي عَيَاياءُ طَباقاء وكلُّ داءٍ لَهُ داءُ وقال الشاعر : ( طَباقَاءُ لم يَشْهدْ خُصوماً ولم يَقُدْ ** رِكاباً إلى أكوارِها حينَ تعكف )

خصاء العرب للخيل
وكانوا يخْصُون الخيل لشبيه بذلك ولعلَّة صهيلها ليلةَ البَيَات وإذا أكمنوا الكُمَناء أوْ كانو هُرَّاباً .


ويزعم من لا علم له أنَّ الخنذيذ في الخيل هو الخصيُّ وكيف يكون ذلك كما قال مع قول خُفَاف بن نَدْبة : وخناذيذ خصيةً وفُحولا وقال بشرُ بنُ أبي خَازم : ( وخنذيذٍ تَرَى الغُرْمُولَ منهُ ** كَطيِّ البُرْدِ يَطويه التِّجَارُ ) وليس هذا أرادَ بِشر وإنَّما أراد زمانَ الغزو والحالَ التي يعتري الخيلَ فيها هذا المعنى كما قال جد الأحيمر : ( لا لا أعقُّ ولا أحُو ** ب ولا أُغِيرُ على مُضَرْ ) ( لكنَّما غزوِي إذا ** ضجَّ المطيُّ من الدَّبَرْ ) وإنَّما فخر بالغزْو في ذلك الزمان .
وأما الخنذيذ فهو الكريم التامُّ وربَّما وصفوا به الرجل وقال كثير :

( على كل خنذيذ الضُّحَى متمطِّر ** وخَيْفانةٍ قد هذَّب الجريُ آلَها ) وقال القطامي : ( على كلِّ خنذيذ السَّراة مُقلِّصٍ ** تخنَّثَ منه لحمُه المتكاوِسُ ) ومن الدليل على أنَّهم ربما جعَلوا الرجلَ إذا ما مدحوه خنذيذاً قولُ بعضِ القيسيين مِن قيس )
بن ثعلَبة : ( دعوتُ بني سعدٍ إليَّ فشمَّرتْ ** خناذيذُ مِن سعدٍ طِوالُ السواعد ) عبد اللّه بن الحارث وعبد الملك بن مروان وقال عبدُ اللّه بن الحارث وكتب بها إلى عبدِ الملكِ بن مرْوان حينَ فارقَ مُصعباً : ( بأيِّ بلاءٍ أم بأيَّةِ عِلَّةٍ ** يُقدَّم قبلي مُسِلمٌ والمهلَّبُ ) ( وَيُدعَى ابنُ منجوفٍ أمامي كأنَّه ** خَصِيٌّ دنا للماءِ من غير مَشْرَبِ ) فقلت ليونس : أقوى فقال : الإقواءُ أحسَنُ من هذا قال : فلمَّا أخذتْه قيسٌ نصبُوه فجَعلوا يرمُونه بالنبل ويقولون : أذاتَ مغازل تَرَى يريدون بيت ابن الحرّ : ( ألم تر قيساً قيسَ عَيلانَ برقعت ** لِحاهَا وباعت نبلها بالمغازل ) فلما أتي مُصعبٌ برأسِه قال لسُويد : يا أبا المِنهال كيف ترى قال : أيُّهَا الأمير هو واللّه الذي أتَى الماءَ من غير مَشْرَب .


وقال أعشَى هَمْدان : ( وأبو بُريذِعةَ الذي حُدِّثْتَهُ ** فينا أذَلُّ مِن الخَصيِّ الدَّيزجِ ) وتعرِض للخصيِّ سُرعة الدَّمعة وذلك مِن عادةِ طبائعِ الصبيان ثم النِّساءِ فإنَّه ليس بعدَ الصبيان أغزَر دَمعةً من النساء وكفاك بالشيوخ الهرمين

أخلاق الخصي
ويعرض للخصيِّ العبثُ واللَّعِبُ بالطير وما أشبهَ ذلك من أخلاق النساء وهو من أخلاق الصبيان أيضاً .
ويعرض له الشَّرَه عندَ الطعام والبخل عليه والشحُّ العامُّ في كلِّ شيء وذلك مِن أخلاق الصِّبيانِ ثم النِّساء .
وقال الشاعر : ( كأنَّ أبا رُومان قيساً إذا غدَا ** خَصِيُّ بَراذينٍ يُقَاد رَهيصُ ) ( له معْدَةٌ لا يشتكي الدهرَ ضَعْفَها ** وحَنجرةٌ بالدورقين قموصُ ) ويعرض للخصيِّ سرعةُ الغضبِ والرضا وذلك من أخلاق الصِّبْيان والنِّساء ويعرض له حبُّ النميمة وضيقُ الصدرُ بما أُودِع من السرّ وذلك من أخلاق الصبيان والنساء ويعرض له دون أخيه لأُمِّه وأبيه ودون ابنِ عمِّه وجميعِ رهطه البصَرُ بالرَّفْع والوضْع والكنسِ والرشِّ والطَّرح والبسْطِ والصبرُ على الخدمة وذلك يعرِض للنساء

ويعرض له الصبرُ على الرُّكوب والقوَّة على كثرةِ الركْض حتَّى يجاوز في ذلك رجالَ الأتراكِ وفرسانَ الخوارِج ومتى دفَع إليه مَولاه دابَّتَه ودخل إلى الصلاة أو ليغتسل في الحمام أو ليعودَ مريضاً لم يترُكْ أن يُجرِيَ تلك الدابَّةَ ذاهباً وجائياً إلى رجوع مولاه إليه .
ويعرض له حبُّ الرمي بالنَّشَّاب لِلَّذي يدور في نفسِه من حبِّ غزو الرُّوم ويعرض له حبُّ أن تَمْلكَه الملوك على أَلاَّ تقيمَ له إلاَّ القوتَ ويكونُ ذلك أحبَّ إليه من أنْ تملكَه السُّوقةُ وإن ألحقتْه بعيشِ الملوك .
ومن العجب أنَّهم مع خروجِهم من شَطْر طبائع الرجال إلى طبائع النساء لا يعرِض لهم التخنيث وقد رأيت غيرَ واحدٍ من الأعرابِ مخنَّثاً متفكِّكاً ومؤنثاً يَسِيلُ سيلاً ورأيتُ عدّةَ مجانينَ مخنَّثين ورأيتُ ذلك في الزَّنج الأقْحاح وقد خبَّرني من رأى كُردِيّاً مخنثاً ولم أَر خَصيّاً قط مخنَّثاً ولا سمعتُ به ولا أدري كيف ذلك ولا أعرف المانعَ منه ولو كان الأمرُ في ذلك إلى ظاهِر الرأي لَقَدْ كان ينبغي لهم أن يكونَ ذلك فيهم عامّاً .
ومما يَزيدني في التعجُّب من هذا الباب كثرةُ ما يعرِض لهم من الحُلاَق مع قلّةِ ما يعرِض لهم من التخنيث مع مفارقتِهم لشطرِ معاني الرجال إلى شبه النساء . )
ويزعم كثير من الشيوخ المعمَّرين وأهل التجرِبة المميِّزين أنّهم اختبروا أعمارَ ضُروبِ الناس فوجدوا طولَ الأعمارِ في الخصيان أعمَّ منه في

مثلِ أعدادهم من جميع أجناس الرجال وأنّهم تفقدوا أعمارَهم وأعمارَ إخوتِهم وبني أعمامهم الذين لم يُخصَوْا فَوجدُوا طول العُمُر في الخِصيان أعمَّ ولم يجدوا في عمومِ طوال العمر فيهم واحداً نادراً كفلانٍ وفلان من الفحول .
وزعموا أنّهم لم يجدوا لطول أعمارِهمْ علّةً إلاَّ عدَمَ النِّكاح وقلّةَ استفراغِ النُّطف لقُوى أصلابهم .
قالوا : وكذلك لم نجدْ فيما يعايشُ الناسَ في دُورهم من الخيل والإبل والحمير والبقر والغنم والكِلابِ والدَّجاج والحمام والدِّيَكة والعصافير أطول أعماراً من البغال .
وكذلك قالوا : وجدْنا أقلّها أعماراً العصافيرَ وليس ذلك إلاَّ لكثْرةِ سفادِ العصافير وقلّةِ سِفادِ البغال .
وجعل هؤلاء القومُ زيادةَ عمر البغلِ على عمرٍ أبويَه دليلاً على أنّ قول الناسِ : لا يعيشُ أحدٌ فوق عمر أبويه خطأ وأولئك إنما عنوا الناسَ دونَ جميع الحيوان

النتاج المركب
وقالوا : قد وجدنا غُرمولَ البغل أطولَ من غرمول الحمار والفرس والبرذون وهؤلاء أعمامُه وأخواله فقد وجدْنا بعض النِّتاجِ المركَّبِ وبعضَ الفروعِ المستخرجة أعظَم من الأصل ووجدنا الحمام الرَّاعبي أعظمَ من الوَرَشان الذي هو أبوه ومِن الحمامة التي هي أمُّه ولَم نجدْه أخذَ من عمر الوَرَشان شيئاً وخرج صَوْتهُ من تقديِر أصواتهما كما خرج شَحِيح البغْل من نهيق الحمار وصهيل الفرَس وخرَج الرَّاعبِي مُسروَلاً

ولم يكن ذلك في أبويه وخرَج مُثْقَلاً سَيِّءَ الهداية وللوَرشَان هداية وإن كان دونَ الحمام وجاءَ أعظمَ جُثّة من أبويه ومقدارُ النّفَس مِن ابتداءِ هَدِيله إلى منقطعه أضعافُ مقدارِ هديل أبويه .
وفَوالجُ البُخْتِ إذا ضرَبت في إناث البُخْت ولم يخرُج الحُوَارُ إلاّ أدَنّ قصيرَ العُنق لا ينال كلأً ولا ماءً إلاَّ بأنْ يُرفعا إليه فيصيرُ لمكانِ نُقْصان خلقه جَزورَ لحم ولا يكون من اليعمَلات ولا من السابقة ولو عالُوه وكفَوه مُؤْنة تكلف المأكولِ والمشروب ثم بلَغَ إلى أن يَصيرَ جملاً يمكنه الضِّراب وكذلك الأنثى التي هي الحائل إلى أن تصيرَ ناقة فلو ألقحها الفحلُ لجاء ولدُها أٍ قصرَ عنقاً من الفيل الذي لو لم يجعل اللّه تعالى له خرطوماً يتناولُ به طعامَه وشرابه لمات جُوعاً )
وهُزالاً وليس كذلك العِرَاب وإذا ضربت الفوالجُ في العراب جاءت هذه الجوامز والبُخْت الكريمة التي تجمع عامَّة خصال العراب وخصالِ البُخت فيكونُ ما يُخرِج التركيبُ من هذين الجنسين أكرمَ وأفخمَ وأنفس وأثمن ومتى ضربت فحولُ العرَاب في إناث البُخْت جاءت هذه الإبل البَهْوَنِيَّة والصَّرصرانية فتخرج أقبح منظراً من أبويها وأشدَّ أسْراً من أبويها وقال الراجز : ولا بهونيٌّ من الأباعرِ

وبعد فإنّ هذه الشِّْهْريَّة الخُراسانية يخرج لها أبدانٌْ فوقَ أبدانِ أمّهاتِها وآبائها من الخيل والبراذين وتأخذ من عِتْق الخيل ومن وثاجة البراذين وليس نِتاجها كنتاج البِرذَونِ خالصاً والفرس خالصاً .
وما أشبهَ قرابةَ الحمارِ بالرَّمكة والحِجْرِ من قرابة الجمل الفالج البُخْتيِّ بقرابةِ القَلوص الأعرابيَّة .

الحمر الوحشية
ويقال إن الحمرَ الوحشيَّة وبخاصّةٍ الأخدريَّة أطولُ الحَمير أعماراً وإنما هي من نِتَاج الأخدَر فرس كانَ لأَرْدَشير بن بابَك صار وحشيّاً فحمَى عِدَّة عاناتٍ فضرب فيها فجاء أولادُه منها أعظمَ من سائر الحمر وأحسنَ وخرجتْ أعمارُها عن أعمارِ الخيل وسائر الحُمُر أعني حمر الوحش فإنَّ أعمارَها تزيد على الأهليَّة مِراراً عدَّة .
عير أبي سيارة ولا يعرفون حماراً وحشيّاً عاشَ أكثر وعُمِّر أطول من عير أبي سيَّارَة عُمَيلة بن أعزل فإنهم لا يشكُّون أنّه دَفَع عليه بأهلِ الموسم أربعين عاماً قال الأصمعيُّ : لم يكن عيراً وإنما كان أتاناً .

لهج ملوك فارس بالصيد
وزعموا وكذلك هو في كتبهم أنَّ ملوكَ فارسَ كانت لهجة بالصيد إلا أنَّ بهرام جور هو المشهور بذلك في العوامّ .
وهم يزعمون أنّ فيروز بن قباذ الملك الفارسيّ ألحَّ في طلب حمار أخدري وقد ذُكر له ووُصف فطاوَله عند طلبه والتماسه وجدَّ في ذلك فلجَّ به عند طلبه الاغترام وأخرجته الحفيظةُ إلى أن آلى ألاَّ يأخذهَ إلا أسراً ولا يطاردَه إلا فرداً فحمل فرَسه عليه فحطََّه في خبَار فجمع جَراميزه وهو على فرسه ووثَب فإذا هو على ظهره فقمَص به فضم فخذيه فحطّم بعض أضلاعه ثم أقبل به إلى معظم الناس وهم وقوف ينظرون إليه وهو راكبه .
قالوا : وكان الملك منهم إذا أخذَ عَيراً أخدريًّا وغيرَ ذلك فإذا وجدَه فتياً وسمَه باسمه وأرَّخ في وسمِه يومَ صيده وخلَّى سبيله وكان كثيراً إذا ما صاده الملكُ الذي يقوم به بعدَه سار فيه مثلَه

الحكمة في تخالف النزعات والميول
ولولا أنَّ ناساً من كلِّ جيل وخصائص من كلِّ أمَّة يلهجون ويَكْلَفون بتعرُّف معاني آخرين لدرستْ ولعلَّ كثيراً من هؤلاء يُزْري على أولئك ويعجِّب الناسَ من تفرُّغهم لما لا يجدي وتركهم التشاغلَ بما يُجْدِي فالذي حبَّب لهذا أن يرصُد عمر حِمار أو وَرَشَانٍ أو حيَّة أو ضبٍّ هو الذي حبَّب إلى الآخر أن يكون صيَّاداً للأفاعي والحيَّات يتتبَّعُها ويطلُبها في كلِّ واد وموضع وجَبَلٍ للترياقات وسخَّرَ هذا ليكون سائسَ الأُسْدِ والفُهود والنُّمُور والببور وترك من تِلقاء نفسِه أن يكونَ راعيَ غنم .
والذي فرَّق هذه الأقسام وسخَّر هذه النفوسَ وصَرف هذه العقول لاستخراجِ هذه العلوم من مدافِنها وهذه المعاني من مخابِيها هو الذي سخَّر بَطْليمُوس مع مُلْكِه وفلاناً وفلاناً للتفرُّغِ للأمور السماويَّة ولِرعايِة النجوم واختلاف مَسير الكواكب وكلٌّ ميسَّرٌ لَمِا خُلِق له لتَتمَّ النعمة ولتكمُل المعرفة وإنما تأبَّى التيسير للمعاصي .
فأمَّا الصناعاتُ فقد تقصُر الأسباب بعضَ الناس على أن يصير حائكاً وتقصرُ بعضَهم على أن يكون صَيْرَفيّاً فهي وإن قصَرتْه على الحِياكِة فلم تقصُرْه على خُلْف المواعيد وعلى إبدال الغُزُول وعلى تشقيق العملِ دونَ الإحكام والصدق وأداءِ الأمانة ولم تقصر الصيرفيَّ على التطفيف في الوزِن والتغليط

في الحساب وعلى دسِّ المموَّه تعالى اللهّّ عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً )
كبيراً .

خضوع النتاج المركب للطبيعة
ولو كان أمرُ النِّتاج وما يحدث بالتراكيب ويخرج من التزاويج إلى تقدير الرأي وما هو أقربُ إلى الظنِّ لكانت الأظْلاف تجري مَجْرى الحوافر والأخفاف ألا ترى أنَّ قرابة الضأن من الماعز كقرابة البخْت من العراب والخيل من الحمير وسبيل نتائج الظِّلْف على خلافِ ذلك لأنَّ التيسَ على شدَّة غُلمته لا يعرض للنعجة إلاّ بالقليل الذي لا يُذكر وكذلك ما يحدث بينهما من الولد كذلك : إمَّا ألاّ يتمّ خَلقُه وإما ألاّ يعيش وكذلك الكبشُ والعنز فضلاً عن أن يكون بينهما نتاج لأنه قد يضرِب الجنس في الجنس الذي لا يُلْقحه ولا يكون اللِّقاح إلا بعد ضراب .
وطلبََ التيسِ للنعجة قليل وأقلُّ من القليل وكذلك الكبش للعنز وأقلُّ من ذلك أنْ تتلاقح ولا يبقى ذلك الولد البتة .
وقد تجاسَرَ ناسٌ على توليدِ أبوابٍ من هذا الشكل فادَّعوا أموراً ولم يحفِلوا بالتقريع والتكذيب عند مسألة البرهان .
زعم في الزرافة
زعموا أنَّ الزرافة خلقٌ مركب من بين الناقة الوحشية وبين البقرة الوحشية

وبين الذِّيخ وهو ذكر الضباع وذلك أنّهم لَّما رأََوا أنَّ اسمها بالفارسية أشتر كاو بلنك وتأويل أشتر بعير وتأويل كاو بقرة وتأويل بلنك الضبع لأن الضباعَ عُرْج كذلك الذكر والأنثى يكون بهما خُمَاع كما عرض للذئِب القزَل وكلُّ ذئبٍ أقزَل وكما أنَّ كلَّ غرابٍ يحجِل كما يحجِل المقيَّد من الناس وكما أنَّ العصفورَ لا يمشي ومشيُه أن يجمَع رجليه أبداً معاً في كلِّ حركةٍ وسكون وقولهم للزرافة أشتر كاو بلنك اسم فارسيٌّ والفُرس تسمِّي الأشياءَ بالاشتقاقات كما تقول للنعامة : اشتر مرغ وكأنَّهم في التقدير قالوا : هو طائر وجمل فلم نجد هذا الاسم أوجبَ أن تكون النعامةُ نِتاجَ ما بين الإبل والطير ولكن القوم لما شبهوها بشيئين متقارِبين سمَّوها بذينك الشيئين وهم يسمون الشيء المرَّ الحلو تَرْش شِيرِين وهو في التفسير حلوٌ حامض فجسَر القومُ فوضعوا لتفسير اسم الزرافة حديثاً وجعلوا الخِلقَةَ ضرْباً من التراكيب فقالوا : قد يعرض الذيخ في تلك البلاد للناقة الوحشية فيسفدها فتلقح بولدٍ يجيء خلقُه ما بين خلْق الناقة والضبع فإن كان أنثى فقد يعرض )
لها الثور الوَحشي فيضربها فيصير الولد زرافة وإن كان ولدُ الناقة ذكراً عرَض للمهاة فألقحها فتلد زرافة فمنهم من حجر البتَّةَ أن تكون الزرافة الأنثى تلقَح من الزرافة الذكر وزعموا أنَّ كلَّ زرافةٍ في الأرض فإنَّما هي

من النِّتاج الذي ركَّبوا وزعموا أَنَّ ذلك مشهورٌ في بلاد الحبَشة وأَقاصي اليمن وقال آخرون : ليس كلُّ خلقٍ مركَّب لا ينسِل ولا يبقَى نجلُه ولا يتلاقَح نسله على ما حكينا من شأن الوَرشان والرَّاعبي وهؤلاء وما أشبههم يُفسدون العلم ويتَّهمون الكتب وتغرّهم كثرةُ أتباعهم مَّمن تجدُه مستهتَراً بسماع الغريب ومُغرَماً بالطرائف والبدائع ولو أُعطُوا مع هذا الاستهتارِ نصيباً من التثبُّتِ وحظًّا من التوقي لسَلِمت الكتبُ من كثير من الفساد .

النتاج المركب في الطيور
وأنا رأَيتُ طائراً له صوتٌ غير حسن فقال لي صاحب الطيور : إنّه من نِتاج ما بين القُمْريِّ والفاختة .
وقنَّاص الطيرِ وَمن يأتي كلَّ أوقة وغيضةٍ في التماس الصيد يزعمون أنَّ أَجناساً من الطير الأوابد والقواطعِ تلتقي على المياه فتتسافد وأنَّهم لا يزالون يرون أَشكالاً لم يروها قطُّ فيقدِّرون أَنَّها من تلاقح تلك المختلفة .

زعم بعض الأعراب في الحرباء
وقال أَبو زيدٍ النحويّ وذكر عّمن لقي من الأعراب أَنَّهم زعموا أَنَّ ذكرَ أمِّ حُبَين هو الحرباء قال : وسمعت أَعرابيًّا من قيسٍ يقول لأمِّ حُبين حُبينة والحُبينة هو اسمها قال : وقيسٌ تسمِّي ذكر العَظاءة العَضْرفوط .
وقال يحيى الأغر : سمعتُ أعرابياً يقول : لا خيرَ في العَظاءَة وإنْ كان ضَبًّا مَكُوناً قال : فإذاً سامُّ أبرَص والوَرَل والوَحَر والضَّبّ والحَلَكاء كلُّها عندَه عَظاءة . ( ولد الثعلب من الهرّة الوحشية ) وزعم يحيى بن نُجَيم أنَّ الثعلب يسفد الهرة الوحشية فيخرج بينهما ولدٌ وأنشد قول حسان بنِ ثابت رضي الله تعالى عنه : ( أبوك أبوك وأنت ابنُه ** فبئس البُنَيُّ وَبئس الأبُ ) ( وأمُّكَ سَوْدَاءُ نُوبيَّة ** كأنَّ أناملها العنظب )

وأنشد أبو عبيدة قولَ عبد الرحمن بن الحكم : ( ألا أبلغْ مُعاوية بنَ حرب ** مُغلغلَةً عن الرجُل اليماني ) ( أتغضبُ أَنْ يقال أَبوك عَفٌّ ** وتَرضى أن يُقال أبوك زَاني ) ( فأشهد أنّ رِحْمَكَ مِن قُرَيشٍ ** كَرِحْم الفيل مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ ) قال كَيسان : ولأي شي قال : كرحم الفيل من ولد الأَتان إنما كان ينبغي أن يقول : كرِحْم الفِيل من الخنزير قال أبو عبيدة : أرادها هو التبعيدَ بعينه وأنت تُريد ما هو أقرب .

زعم بعض المفسرين والإخباريين في حيوان سفينة نوح
وزعم بعض المفسِّرين وأصحابِ الأخبار : أنَّ أهلَ سفينةِ نوحٍ كانُوا تأذَّوا بالفأر فعَطَس الأسدُ عَطْسةً فرمى من مِنْخَريه بزوج سنانير فلذلك السِّنَّوْرُ أشبهُ شيءٍ بالأسدِ وسلَح الفيلُ زوجَ خنازير فلذلك الخنزيرُ أشبهُ شيءٍ بالفيل قال كيسان : فينبغي أن يكون ذلك السِّنَّورُ آدَمَ السنانير وتلك السِّنَّورة حَوَّاءَها قال أبو عبيدة لكيسان : أولم تعلمْ أنت أنّ لكل جنس من

شره سعد القرقرة
ولمَّا رأى أبو قُردُودةَ سعدَ القرقرة أكلَ عند النُّعمان مسلوخاً بعظامه قال : ( بين النعامِ وبينَ الكلبِ مَنْبِتُة ** وفي الذئاب له ظئر وأخْوالُ ) يقول : إنَّ سعداً ضرب في أعراقه نجر النعام الذي يلتهم الجمر ويلتقم الحجارة فيطفئ الجمرَ ويميع الصخْر وضرب في أعراقه نَجْرُ الكلبِ الذي يرضُّ كلَّ عظم ولا يقبِض عليه بكفِّه إلاّ هو واثق بفتّه ولا يسيغه إلاّ وهو على ثقةٍ من استمرائه فأمَّا الذئب فإنَّه لا يروم بفكَّيه شيئاً إلاّ ابتلعَه بغير معاناةٍ عظماً كان أَو غيرَه مصمتاً كان أو أَجْوفَ . )
ولذلك قال الراجز : ( أَطلَس يُخْفِي شخصَه غُبَارُه ** في فمِهِ شَفْرتُه ونارُه ) فأبو قُردُودةَ لم يُردْ أنَّ الذئب والكلب خالاه وأَنَّ النعام نَجَلَه وإنما قال ذلك على المثَل والتشبيه ولم يردْ أَنَّ له ظئراً من الكلاب وخالا من الذئاب .
وشبيهُ ذلك قول أَمير المؤمنين المأمون لبعض الناس : يا نُطَفَ

الخمَّارين ونزائع الظُّؤورة وأشباه الخُؤولة .
وعلى َ شبيهٍ بذلك قال سلم بن قُتَيبة لبعض من ذَكره وهو عند سليمان بن عليٍّ : أيُّها الأمير إنَّ آلَ فلانٍ أعلاجُ خلقِ اللّه وأوباشُه لئامٌ غُدر شرَّابون بأَنْقُع ثمَّ هذا بعدُ في نفْسه نُطفَةُ خَمَّار في رَحِم صَنَّاجة .

زواج الأجناس المتباينة من الناس
وقال لي أبو إسحاق : قال لي أبو العباس وأبو العباس هذا كانَ ختنَ إبراهيمَ على أخته وكانَ رجلاً يَدِين بالنجوم ولا يقرُّ بشيءٍ من الحوادث إلاّ بما يجري على الطباع قال أبو إسحاق : وقال لي مرَّة : أتعرفُ موضِع الحُظْوٍ ة من خَلْوة النساء قُلْتُ : لا واللّه لا أعرفُه قال : بل اعلم أن لا يكونُ الحظُّ إلاَّ في نِتاج شِكلين متباينين فالتقاؤهما هو الأكسير المؤدِّي إلى الخلاص : وهو أن تُزاوِج بين هِنديَّةٍ وخُراسانيٍّ فإنها لا تلد إلاَّ الذهبَ الإبريز ولكن احرُس ولدَها إن كان الولدُ أنثى فاحذَر عليها من شدَّة لِواطِ رجال خراسان وزِناء نساء الهند واعلمْ أن شهوتَها للرجال على قدرِ حُظْوِتها عندَهم واعلمْ أنَّها ستساحق النساءَ على أعراقِ الخراسانيَّة وتزْني بالرجال على أعراق الهند واعلمْ أنّه مّما يزيد في زِناها ومساحَقَتها معرفتُها بالحُظوة عند الزُّناة وبالحظِّ عند السحاقات .


وقالوا في الخلق المركَّب ضُروباً من الحقِّ والباطل ومن الصدق والكذب فمن الباطِل زعُمهم أنَّ الشَّبُّوط ولد الزَّجْر من البُنِّيِّ وأنَّ الشَّبُّوط لا يُخْلَق من الشَّبُّوط وأنَّه كالبغلِ في تركيبِه وإنسالِه ورووا ذلك عن أبي واثلِة إياسِ بنِ معاوية بن قرّة .
وزعموا أنّ أمَّ جعفر بنت جعفر بن المنصور حصَرت في حوضٍ لها ضخمٍ أو بركةٍ كبيرةٍ عدداً كثيراً من الزجر والبُنِّيِّ وأنَّها لم تخِلطْ بهما غيرَهما فمات أكثره وبقيتْ بقيةٌ كانت الصميمَ في القوَّة وفي احتمال تغيُّر المكان فلم تحمل البيضَ حِيناً ثمَّ إنّها حملت بالشبابيط . )

مطر الضفادع والشبابيط
وزعم حُريثٌ أنّه كان بأيذَج فإذا سحابة دهماء طخياء تكاد تمسُّ الأرض وتكاد تمسُّ قِممَ رُؤُوسهم وأنَّهم سمعوا فيها كأصوات المجانيق وكَهدير الفحول في الأشوال ثم إنَّها دفَعَت بأشدِّ مطر رُئي أو سُمِع به حتى استسلموا للغرق ثمَّ اندفعتْ بالضفادع العظام ثم

اندفعت بالشبابيط السِّمان الخِدال فطبخوا واشتَوَوا وملَّحوا وادَّخَروا .

غرور أبي واثلة والخليل بن أحمد
ورووا عن أبي واثلة أنَّه زعمَ أنَّ من الدليلِ على أنَّ الشَّبُّوط كالبغل أنَّ الناسَ لم يجدوا في طولِ ما أكلوا الشبابيطَ في جوفِها بَيْضاً قطُّ فإن كان هذا الخبرُ عن هذا الرجُلِ المَذكُورِ بشدَّة العقل المنعوتِ بثُقُوب الفِراسة ودِقَّةِ الفطنة صحيحاً فما أعظم المصيبةَ علينا فيه وما أخلَقَ الخبَرَ أن يكون صحيحاً وذلك أنِّي سمعتُ له كلاماً كثيراً من تصنيف الحيوان وأقسامِ الأجناس يدلُّ على أنَّ الرجلَ حينَ أحسَنَ في أشياءَ وهَّمه العُجْبُ بنفسِه أنَّه لا يَروم شيئاً فيمتنعُ عليه .
وغرَّه مِن نفسِه الذي غرّ الخليل بنَ أحمدَ حينَ أحسَنَ في النحوِ والعَرُوض فظنَّ أنَّه يُحسِن الكلامَ وتأليف اللُّحون فكتبَ فيهما كتابَين لا يَُشِير بهما ولا يُدلُّ عليهما إلاّ المِرَّةُ المحترِقة ولا يؤدِّي إلى مثل ذلك إلاّ خِذلانٌ من اللّه تعالى فإنّ اللّه عزَّ وجلَّ لا يُعجزه شيء .
بيض الشبوط وتناسله
والشَّبُّوط حفظك اللّه تعالى جِنسٌ كثيرُ الذكور قليلُ الإناث فلا يكون إناثه أيضاً يجمعْن البيض وإذا جمعنَ فلو جمعتَ بيضَ عشرٍ منهنَّ

لَمَا كان كشَطْر بيضِ بُنِّيَّةٍ واحدةٍ وقد رأيتُ بَيْضَ الشَّبُّوط وذقتُه للتعرُّف فوجدته غيرَ طائل ولا مُعجِبٍ وكلُّ صيّادٍ تسأله فهو يُنْبيك أنّ له بيضاً ولكنَّه إذا كانَ يكونُ ضئيلاً قليلاً لأنَّ الشبابيطَ في أصلِ العدد من أقلِّ السمك وكذلك الجنس منه إذا كانت الأنثى منه مِذكاراً .
على أنَّه رُبّ نهرٍ يكونُ أكثرُ سَمكه الشَّبُّوط وذلك قليل كنهر رَامَهُرْمز والشَّبُّوط لا يتربَّى في البحار ولا يسكن إلاّ في الأوديةِ والأنهار ويكره الماءَ الملحَ ويطلبُ الأَعذبَ فالأَعذب ويكون في الماء الجاري ولا يكون في الساكن وسنذكر شأنَه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى .

رد على ما زعموا في الزرافة
ولم يصب أبو واثلة وكذَبوا على أمِّ جعفر فإذا قالوا في الزَّرافةِ ما قالوا فلا تأمَنْهم على ما هو دونَه وإن كان مَن كذَب على الموتى واستشهد الغُيَّبَ أحذقَ فصاحبُ الزرافة قد استعمل بعض هذه الحيلة وصاحب الشَّبُّوط يكذِب على الأحياء ويستشهد الحضور وإن كان الذي دعا إلى القول في الزرافة أنهم جعلوا تركيب اسمه دليلاً على تركيب

الخلق فالجاموس بالفارسية كاوماش وتأويله ضأنيّ بقريّ لأنهم وجدوا فيه مشابهةَالكبش وكثيراً من مشابهة الثور وليس أنّ الكِباشَ ضربت في البقر فجاءت بالجواميس .

رأي الفرس في تقسيم الحيوان
وزعم الفرسُ أنّ الحيوان كلَّه الذي يلد حيواناً مثلَه مَّما يمشي على أربع قوائم لا تخلو أجناسها من المعز والضأن والجواميسُ عندهم ضأن البقر والبُخْت عندهم ضأن الإبل والبَراذين عندهم ضأن الخيل
زعم في الإبل
والناس يقولون في الإبل أقاويلَ عجيبةً : فمنهم مَن يزعمُ أن فيها عِرقاً من سِفاد الجنّ وذهبوا إلى الحديث : أنهم إنما كرهوا الصلاة في أعطان الإبل لأنها خُلِقَتْ من أعناق الشياطين فجعلوا المثل والمجاز على غير جهته وقال ابن ميّادة : ( فلما أتاني ما تقول مُحارِبٌ ** تغنَّتْ شياطين وجُنَّ جنُونُها )

قال الأصمعي المأثور من السيوف الذي يقال : إنّ الجنَّ عمِلته .
وهم يسمُّون الكِبر والخُنزُوانةَ والنَّعَرَة التي تضاف إلى أنف المتكبِّر شيطاناً قال عمر : حتَّى أنزِعَ شيطانَه كما قال : حتى أنزِع النَّعَرة التي في أنفه ويسمُّون الحيَّة إذا كانت داهية منها شيطاناً وهو قولهم : شيطان الحَماطة قال الشاعر : ( تعالج مَثنَى حَضْرميٍّ كأنه ** تَعَمُّجُ شَيْطانٍ بذي خِروعٍ قَفْرِ ) شبَّه الزِّمام بالحيَّة وعلى مثل ذلك قال الشاعر : والحباب : الحية الذكر وكذلك الأيم وقد نُهي عن الصلاةِ عند غيبوبة الشمس وعند طلوع القرص إلى أن يتتامّ ذلك وفي الحديث : إنّها تطلُع بين قَرْنَي شيطان .

ضرورة حذق اللغة للعالم والمتكلم
فللعرب أمثالٌ واشتقاقاتٌ وأبِنية وموضعُ كلام يدُلُّ عندهم على

معانيهم وإرادتهم ولتلك الألفاظ مواضعُ أُخَرُ ولها حينئذ دَلالات أخر فمن لم يعرفْها جَهِل تأْويل الكتابِ والسُّنَّة والشاهد والمثلِ فإذا نظَر في الكلام وفي ضروب من العلم وليس هو من أَهل هذا الشأن هلك وأَهلك .

الإبل الوحشية
وزعم ناسٌ أنَّ من الإبل وحشيًّا وكذلك الخيل وقاسوا ذلك على الحمير والسَّنانير والحمام وغيرِ ذلك فزعموا أنَّ تلك الإبلَ تسكنُ أرض وَبَارِ لأنَّها غيرُ مسكونة ولأنَّ الحيوانَ كلَّما اشتدَّت وحشيَّتهُ كان للخَلاء أطلب قالوا : وربَّما خرجَ الجملُ منها لبعضِ ما يعرِض فيضرب في أدنى هَجْمةٍ من الإبل الأهلية قالوا : فالْمَهْرِيَّةُ من ذلك النِّتاج .
وقال آخرون : هذه الإبلُ الوحشيَّة هي الحُوش وهي التي مِن بقايا إبل وَبَار فلمَّا أهلكهم اللّه تعالى كما أهلك الأمم مثلَ عادٍ وثمودَ والعمالقة وطَسْمٍ وجَدِيسَ وجاسم بقيَتْ إبلُهم في أماكنهم التي لا يَطُورها إنْسيٌّ فإن سقَطَ إلى تلك الجِيزة بعض الخلعاء أَوْ بَعْضُ من أضلَّ الطريق حثَت

الجنُّ في وجهه فإنْ ألحَّ خَبَلته فضرَبَتْ هذه الحوش في العُمَانيّة فجاءَت هذه المَهْرِيَّة وهذه العسجديَّة التي تسمى الذهبيَّة .
وأنشدني سعدان المكفوف عن أبي العميثل قول الراجز : ( ما ذمَّ إبْلِي عَجَمٌ ولا عَرَبْ ** جُلودُها مِثلُ طَواويسِ الذَّهبْ ) وقال الآخر : ( إذا اصطكَّتْ بضيق حَجْرَتاها ** تلاقَى العَسجديَّةُ واللَّطِيمُ ) والعسجد من أسماء الذهب .
قالوا : وإنَّما سُمِّيتْ صاحبةُ يزيد بن الطَّثَريَّة حُوشِيَّةً على هذا المعنى .
وقال رؤبة : جرت رحانا من بلاد الحُوش

رد على ما زعموا من مطر الضفادع والشبابيط
وأما الذي زعم أنَّهم مُطِروا الشَّبوط فإنه لما ظنّ أنَّ الضفادعَ التي تُصابُ بعَقِبِ المطر بحيثُ لا ماءٌ ولا وحلٌ ولا عينٌ ولا شريعة فإنهم ربَّما رأَوها وسط الدَّوِّ والدَّهناء والصَّمَّان ولم يشُكَّ أنَّها كانت في السحاب وعلم أنَّها تكون في الأنهار ومنابع المياه وليس ذلك من الذكر والأنثى قاسَ على ذلك الظنِّ السمك ثم جسَرَ فجعلَ السمك شَبُّوطاً وتلك الضفادعُ إنما هي شيءٌ يُخلَق تلك الساعة من طباع الماء والهواء والزمانِ وتلك التُّرْبة على مقاديرَ ومقابلات وعلى ما أجرى اللّه تعالى عليه نشأة الخلق . )
امتناع التلاقح بين بعض الأجناس المتقاربة
وقد تُعرف القرابةُ التي تكون في رأي العين بين الشكلين من الحيوان فلا يكون بينهما تسافُدٌ ولا تلاقُح كالضأن والمعز وكالفأر والجُرْذان فليس بالعجَب في البقر والجواميس أن تكون كذلك وقد رأينا الخِلاسيَّ من الدجاج والدِّيَكة وهو الذي تخلَّقَ من بين المولَّدات والهِنديَّات وهي تحمل اللحم والشحم .
وزعم لي مسعود بن عثمان أنه أهدى إلى عمرو بن مَسْعَدة دجاجة ووُزنَ فيها سبعة عشرَ رِطلاً بعد طرح الأسقاط وإخراج الحشوة .


ورأينا الخِلاسيَّ من الناس وهو الذي يتخلَّق بين الحبشيِّ والبيضاء والعادةُ من هذا التركيب أنه يخرج أعظمَ من أبوَيه وأقوى من أصلَيه ومثْمِرَيه ورأينا البَيْسَريَّ من الناس وهو الذي يُخلَق من بين البيض والهند لا يخرج ذلك النِّتاجُ على مقدار ضخم الأبوين وقوّتهما ولكنه يجيءُ أَحسنَ وأملح وهم يسمُّونَ الماءَ إذا خالطته الملوحة بيسراً قياساً على هذا التركيب الذي حكَينا عن البيض والهنديات ورأينا الخِلاسيَّ من الكلاب وهو الذي يُخلْق بين السَّلُوقيِّ وكلب الراعي ولا يكون ذلك من الزِّئني والقلطي ومن كلاب الدُّور والحرَّاس وسنقول في السِّمْع والعِسبار وفي غيرِهما من الخَلْقِ المركَّب إن شاء اللّه تعالى .
أطول الناس أعماراً وذكروا أنَّهم وجدوا أطولَ أعمار الناس في ثلاثة مواضع : أوَّلها سَرْوحمير ثم فَرغانة ثم اليمامة وإنّ في الأعراب لأعماراً أطول على أَنَّ لهم في ذلك كِذْباً كثيراً والهندُ تُربي عليهم في هذا المعنى هكذا يقول علماء العرب .


أثر النبيذ في عمر الإنسان وكان عثمانُ ماش ويزال وجذعان يذكرون أنّهم عدُّوا أربعينَ فتًى مِنْ فتيانِ قريش وثقيف أعذارَ عامٍ واحد فأحصَوْا عشرينَ من قريش وعشرين من ثقيف وتوخَّوا المتجاوِرين في المحلَّة والمتقارِبين في الدُّور من الموفَّرين على النبيذ والمقصورين على التنادُم وأنّهم أحصَوا مثلَ ذلك العدد وأشباهَ أولئك في السِّن ممَّن لا يذوق النبيذَ ولا يعرفُ شراباً إلا المَاءَ فذكَرُوا أَنَّهُمْ وجدُوا بعدَ مرورِ دهرٍ عامَّةَ من كان يشرَبُ النبيذَ حيّاً ومن لا يشربه قد مات عامَّتُهم وكانوا قد بلغوا في السنِّ أما عثمان ويزال فكانا من المعمَّرين وقد رأيتهما جميعاً ولم أَسمع هذا منهما )
وسنأتي على هذا البابِ في موضعه من ذكر المعمَّرين ونميِّز الصدقَ فيه من الكذب وما يجوز وما لا يجوز إن شاء اللّه تعالى

بعض ما يعرض للخصيان
وما أَكثر ما يعرض للخصيان البولُ في الفراش وغيرِ ذلك ولا سيّما إذا بات أحدُهم ممتلئاً من النبيذ .
ويعرض لهم أيضاً حبُّ الشراب والإفراط في شهوته وشدَّة النَّهم .
ويعرض لهمْ أيضاً إيثار المخْفِس وحبُّ الصِّرْفِ وذلك أيضاً

مّما يعرض للنساء والإفراط في شهوتهنَّ وشدَّة الهمَّة لهنَّ والغيرة عليهنَّ ويحتلمون ويجنبُون ويغتسلون ويرون الماءَ غَير الرائق ولا الغليظ الذي له ريح طلع الفُحَّال .
ويعرض للخصيِّ شدَّةُ الاستخفاف بمن لم يكن ذا سلطان عظيم أو مال كثيرٍ أو جاهٍ عريض حتَّى ربَّما كان عند مولاه بعضُ من عسى أن يتقدَّم هؤلاء المذكورين الذين يكون الخصيُّ كلِفاً بهم وبتعظيمهم ومُغرَماً بخدمتهم في الأدبِ والحسب وفي بُعْدِ الهمَّة وكرم الشِّيمة فيعمِد عند دخول ذلك الرجل الذي له السلطانُ والجاهُ والمالُ إلى متَّكأ هذا الأديب الكريم والحسيبِ الشريف فينزِعه من تحت مِرْفَقهِ غيرَ محتفل بذلك ولا مكترث لما فيه ويضعُه له من غير أَنْ يكونَ موضع المرافقَ بعيداً أَو كان ذلك ممَّا يفُوت بعضَ الفوت ويفعل ذلك وإن كان يعاشر هذا الأديب الكريم مولاه وهو على يقين أنه لا يرى ذلك الموسَر وصاحبَ الجاهِ أبداً .
أقوال في خصاء الخيل وقد حرَّم بعضهم خِصاءَ الخيل خاصَّة وبعضُهُم زاد على ذلك حتَّى حَرَّم خِصاء البهائم وقال بَعْضُهُمْ : إذا كان الخِصاءُ إنَّمَا اجتلَبه فاعله أَوْ تَكَلّفهُ صاحبُهُ على جهة التماسِ المنفعَة أَو على طريقِ التجارة

فذلك جائز وسبيلُه سبيل المِيسَم فَإنّ المِيسم نار و أَلمه يجوزُ كلَّ ألم وقد رأينا إبلَ الصدَقة موسُومة ووسمَت العربُ الخيلَ وجميعَ أصنافِ النَّعم في الإسلام على مِثل صنيعِها في الجاهليَّة وقد كانت القَصواءُ ناقة النبي صلى اللّه عليه وسلم موسومة وكذلك العضْباءُ .
وقال آخرون : الخِصاء غيرُ شبيه بالميسم لأنَّ في الخصاء من شدَّة الألمِ ومن المُثلة ومن قطْع النَّسْل ومن إدخال النقصِ على الأعضاء والنقصِ لموادِّ القوى ما ليس في الميسم وغيره وهو )
بقطع الأَلية أشبَه والسِّمَةُ إنَّمَا هي لَذْعة والخصاءُ مجاوِزٌ لكلِّ شديدة .
قال القوم : ولا بأسَ بقطع الأَليةِ إذا مَنعت بِثِقلِهَا أو عِظَمها الشاةَ من اللَّحاقِ بالقطيع وخيف عليها من الذئب وقطعُ الألية في جواز العقول أشبهُ من الميسم لأنَّ المِيسمَ ليس للبعير فيه حظٌّ وإنَّما الحظُّ فيه لربِّ المال وقطعُ الأليةِ من شكل الخِتان ومن شكل الْبَطِّ والفصْد ومن جنس الوَجُور والبيطرة ومن جنس اللَّدُود والحِجامة ومن جنس الكيِّ عند الحاجة وقطع الجارحة إذا خِيف عليها الأَكِلَة وسم الإبل

قال الأوَّلون : بل لعمري إنَّ للإبل في السِّمات لأعظمَ المنافع لأنهَّا قد تشْرَب بِسماتها ولا تُذَاد عن الحوض إكراماً لأربابها وقد تضِلُّ فتُؤْوَى وتُصاب في الهُوَاشات فتُردّ .
قالوا : فإنا لا نسألكم إلاّ عن سماتِ الخيل والبغالِ والحمير والغنم وبعدُ فكيف نستجيز أنْ نَعمَّها بالإحراق بالنار لأمَر عسى ألاَّ يحتاج إليه من ألفِ بعيرٍ واحد ثم عسى أَلاَّ يحتاج من جميع ذلك في جميع عمره إلاّ إلى شَرْبةٍ واحدة .
وقال القوم : إنَّمَا المياسم في النَّعَم السائمة كالرُّقوم في ثياب البَزَّاز ومتى ارتفعت الرقومُ ومُنِعت المياسم اختلَطَت الأموال وإذا اختلطت أمكَنَ فيها الظلم والمظلومُ باذلٌ نفسَه دونَ المعيشة والهَضِيمة .
وقالوا : ليس قطعُ الأليةِ كالمجثَّمة وكالشيء المصبور وقد نُهِينا عن إحراق الهوامِّ وقيل لنا : لا تعذِّبوا بعذاب اللّه تعالى والميسمُ نار وقطعُ الأَلية من شكل قَطْعِ العروق وصاحبُ المجثَّمة يقدِر أن يرميَ إن كان به تعلُّم الرماية شيئاً لا يألم ولم يُنْهَ عن تعذيبه فَمَا يَردُّ الشيء المصبور من العذاب مَرَدّاً بوجه من الوجوه القول في نقص بعض أجزاء الحيوان أو نقضها أو إيلامها

وقال آخرون : ليس لك أن تُحدِث في جميع الحيوانِ حدثاً من نقْضٍ أو نقص أو إيلام لأنك لا تملك النشأَة ولا يمكنك التعويض له فإذا أذن لك مالك العين بل مخترعه ومنشئ ذاته

والقادر على تعويضه وهو اللّه عزَّ وجلَّ حلَّ لك من ذلك ما كان لا يحلّ وليس لك في حُجَّة العقل أن تصنعَ بها إلاّ ما كان به مصلحةٌ كعلاج الدَّبَر وكالبيطرة .
وقال آخرون : لنا أن نصنعَ كلَّ ما كان يُصنَع على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبعدَه )
ممّا لم يكن مدفوعاً عندَ بعضهم إلاّ أن يكون نَهْيُ ذلك البعضِ من جماعتهم في طريق الخلافِ والردِّ والمفارقة ولا يكون عندهم قولاً من الأقاويل فإنَّ ذلك في سبيل العلاج بعد أن كان المتكلِّف يَعْرِفُ وجهَ الملام والمذهب في ذلكَ معروف وإن كان خارجاً من ذلك الحدِّ فقد علمنا أنَّه أُبيح من طريق التعبُّد والمحنة كما جعل اللّه تعالى لنا ما أحلَّ ذبحَه من البهائم وكما جعَل لنا أن نقتُل القملَ والبراغيثَ والبعوض وإن لم يكن منها إلاّ مقدارُ الأذى فقط والقتل لا يكون قصاصاً من الأذى ولكن لمَّا أباح لنا خالقُ الشيء والقادر على تعويضه قتلَه كان قتلُه أسوغَ في العقل مع الأذى مِنْ ذبح البهيمة مع السلامة من الأذى .
قال : وليس كل مؤذٍ ولا كل ذي أذى حكم اللّه تعالى فيه بإباحة القتل واللّه عزَّ وجلَّ بمقادير الأمورِ وبحكم المختلف والمتَّفِق والقليلِ من ذلك والكثير أحكَمُ وأعلم .
وقد أمرَ اللّه تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح إسحاق أو إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فأطاع الوالدُ وطاوع الولد .
والجواب الماضي إنما هو قول من قال بالتعويض وهو قول النظَّام وأكثرُ المتكلِّمين يعترِضون عليه فيه .

منع خصاء الإنسان وإباحته
ولا يزال يرحُمك اللّه تعالى بعضُ الملحِدين من المعاندين أو بَعْضُ الموحِّدين من الأغبياء المنقوصين قد طعَن في مِلْكِ الخصيِّ وبيعِه وابتياعه ويذكرون الخصيَّ الذي كان المقوقِس عظيمُ القِبط أهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله مع مارية القِبطيَّة أمِّ إبراهيم عليه السلام قالوا : فقد ملك عليه الصلاة والسلام خَصِياً بعد أن عرَفه وأحاط علمُهُ بأنَّه خصيٌّ وأنتم تزعمون أنَّ الخِصاء حرام وأنَّ من اشترى من الخاصي خَصِيَّاً ثم زاد على قيمته وهو فحل فقد أعان على الخصاء وحثَّ عليه ورغَّب فيه وأنَّه من أفحش الظلم وأشدِّ القسوة وزعمتم أنَّ من فعَل ذلك

فهو شريكُ الخاصي في الإثم وأنََّ حالَه كحال المعروفين بالابتياع من اللصوص وقلتم : وكذلك من شهد القِمار وهِراشَ الكلاب ونِطاحَ الكِباش وقتال الديوك وأصحاب المجارحات وحرب الفئتين الضالَّتين وقلتم : لأنَّ هذه المواضعَ لو لم تحضرها النَّظَّارةُ لما عمِلوا تلك الأعمال ولو فَعلوها ما بَلغوا مقدارَ الشَّطر لغلَبة الرياءِ والسُّمعة على قلوب الناس فكذلك الخاصي والمشتري والمبتاع من المشتري شركاءُ متعاوِنون وخُلَطاءُ مترادفون وإذا كان المبتاع ) يَزيد في السِّلْعةَ لهذه العلَّة والبائع يزيد في السَّوْم لهذا السبب وقد أقررتم بأنَّ النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قَبِل له من المقوقس كما قبل مارية واستخدمه وجرى عليه ملكُه وأمرُه فافهمْ فهّمك اللّه تعالى ما أنا مجيبٌ به في هذه المسألة واللّّه الموفِّقُ وعلى اللّه قَصْدُ السبيل .
أقول : قبلَ كلِّ شيء لا يخلو هذا الحديث الذي رويتموه من أن يكون مرضيَّ الإسناد صحيحَ المخرج أو يكونَ مسخوط الإسناد فاسدَ المخرج فإن كان مسخوطاً فقد بطلت المسألة وإن كان مرضيّاً فقد علمنا أنّه ليس في الحديث أنَّه قَبِله منه بعد أنْ عِلم أنَّه خصيٌّ وعلى أنَّ قبولَ الهديّة خلاف الابتياع لأَنَّ بائعَ الخصيِّ إنَّما يحرُم عليه التماسُ الزيادة وكذلك المبتاع إنَّما يحرم عليه دفعُ الزيادة إذا كان لو سلم إليه بذلك الثمن فحلاً أجملَ منه وأشبَّ وأخدمَ منه لم يزدْه والبائع أيضاً لا يستام بالفحل سَومَه بالخصي وقبول الهديَّة وقبول الهِبَة وسبيلُ البيع والابتياع

لا بأس به إذا كان على ما وصفنا وإنَّما هديَّة الخِصيِّ كهديَّة الثوب والعِطر والدابَّةِ والفاكهة ولأَنَّ الخصيَّ لا يحرم مِلكُه ولا استخدامُه بل لا يحلُّ طرده ونفيُه وعتقُه جائز وجوازُ العِتق يوجب الملك ولو باعه المالك على غير طلبِ الزيادة أو لو تاب من الخِصاء أو استحلَّه مما أتى إليه لَمَاَ حرم على الخاصي نفسِه استخدامه والخصيُّ مالٌ وملك واستخدامه حسَنٌ جميل ولأنَّ خِصاءه إيّاه لا يَعتِقه عليه ولا يُزيل عن ملكه إلا بمثل ما وَجَبَ به مِلكُه .
وأخرى : أنَّ في قَبول هديَّةِ ذلك الملِكِ وتلَّقي كرامِته بالإكرام تدبيراً وحكمة فقد بطلت المسْألة والحمدُ للّه كما هو أهله .
وقد رووا مع ذلك أيضاً : أنَّ زِنباعاً الجُذَاميّ خصى عبداً له وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وربَّما سألوا عن الشيء وليس القولُ فيه يقَع في نسق القول في الخصيّ وفي الخلْق المركَّب ولكنْ إذ قد أجبْنا في مسألةٍ كلاميَّة من مسائل الطعْن في النبوَّة فلا بأسَ أن نُضيف إليها أخرى ولا سيَّما إذا لم تَطُلْ فتَزِيدَ في طُول الكتاب .
وقد لا يزال الطاعنُ يقول : قد علمْنا أنَّ العربَ لم يَسِمُوا حروب أيّام الفِجار بالفجور وقريش خاصّة إلاّ أنّ القتال في البلد الحرام في الشهر الحرام كان عندهم فجوراً وتلك حروبٌ قد شهدها النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم

وعلى آله وهو ابن أربَع عشرَ سنةً وابن أربعَ عشرة سنة يكونُ بالغاً وقال : شَهِدتُ الفِجَارَ فكنْتُ أنبُلُ على عمومتي .
وجوابنا في ذلك : أنَّ بني عامر بن صعصعة طالبوا أهلَ الحرَم من قريشٍ وكنانة بجريرة البرَّاض )
بن قيس في قتله عروة الرحَّال وقد علموا أنَّهم يُطالِبون مَنْ لم يجنِ ومن لم يعاونْ وأنَّ البرَّاض بنَ قيس كان قبل ذلك خليعاً مطروداً فأتوَهمَ إلى حَرَمهم يُلزِمونهم ذنبَ غيرهم فدافعوا عن أنفسِهم وعن أموالهم وعن ذراريهم والفاجر لا يكون المسْعِيَّ عليه ولذلك أشهدَ اللّه تبارك وتعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام ذلك الموقف وبه نُصروا كما نُصرت العربُ على فارسَ يوم ذي قارٍ به عليه الصلاة والسلام وبمخرجه وهذان جوابان واضحان قريبان واللّه الموفِّق للصواب وإليه المرجع والمآب .
ثم رجَعَ بنا القولُ إلى ذكرِ مَحاسِن الخصيّ ومساويه .
الخصيُّ يَنْكِحُ ويتّخذ الجواري ويشتدُّ شغفه بالنساء وشغفُهنَّ به وهو وإن كان مجبوب العضو فإنَّه قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجبُ إليهنَّ وقد يحتلم ويخرجُ منه عند الوطء ماءٌ ولكنَّه قليلٌ متغيِّر الريح رقيقٌ ضعيف وهو يباشِر بمشقّة ثم لا يمنعه من المعاودة الماءُ الذي يخرج منه إذْ كان قليل المقدار لا يخرجه من القوّة إلى الضعف

مثل الذي يعتري من يخرج منه شيء يكون من إنسان وهو أخثرُ وأكثر وأحدُّ ريحاً وأصحُّ جوهراً والخصيُّ يجتمع فيه أُمنيَّةُ المرأة وذلك أنَّها تبغض كلَّ سريعِ الإراقة بطيء الإفاقة كما تَكرهُ كلَّ ثقيل الصدر وخفيف العَجْز والخصيُّ هو السريع الإفاقة البطيء الإراقة المأمونُ الإلقاح فتقيمُ المرأةُ معَه وهي آمنة العار الأكبر فهذا أشدُّ لتوفير لذّتها وشهوتها وإذا ابتذلن الخِيصانَ وحَقَرن العبيد وذهبت الهيبةُ من قلوبهنّ وتعظيمُ البعول والتصنُّع لذوي الأقدار باجتلاب الحياء وتكلّفِ الخجل ظهَر كلُّ شيء في قوى طبائِعهنّ وشَهوَاتهنّ فأمكنَهَا النَّخير والصِياح وأن تكون مرَّةً من فوقُ ومرَّةً من أسفل وسمحت النفسُ بمكنونِها وأظَهرت أقصى ما عنِدها .
وقد تجد في النساء مَنْ تؤْثر النساءَ وتجدُ فيهنَّ من تُؤثر الرجال وتجد فيهنَّ مَنْ تؤْثرُ الخِصيان وتجد فيهنَّ من تجمعُ ولا تفرِّق وتعمُّ ولا تخصُّ وكذلك شأنُ الرجال في الرجال وفي النساء والخصيان فالمرأة تنازِع إلى الخصيِّ لأَنَّ أمرَه أستر وعاقبتهُ أسلم وتحرِص عليه لأنَّه ممنوعٌ منها ولأنَّ ذلك حرام عليها فلها جاذبان : جاذبُ حرصٍ كما يُحْرَص على الممنوع وجاذبُ أَمْنٍ كما يُرغَب في السلامة وقال الأَصمعيّ : قال يونس بن عُبَيد : لو أُخِذْنا بالْجَزَعِ لصَبَرنا قال الشاعر :

( وزادها كَلَفاً بالحبِّ أَنْ منعَتْ ** وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا ) والحرصُ على الممنوعِ بابٌ لا يَقْدِر على الاحتجاز منه والاحتراسِ من خُدَعه إلاَّ كلُّ مبرِّز في )
الفطنة ومتمهِّل في العزيمة طويلِ التجارب فاضِل العقل على قُوَى الشهوات وبئس الشيءُ القرينُ السوء وقالوا : صاحب السُّوءِ قِطعةٌ من النار .
وبابٌ من هذا الشكل فَبِكم أعظُم حاجةٍ إلى أن تعرفوه وتقِفُوا عندَه وهو ما يصنع الخَبَرُ السابق إلى السمع ولا سيَّما إذا صادفَ من السامع قلَّةَ تجرِبة فإنْ قرَن بين قلَّة التجربةِ وقلَّةِ التحفُّظِ دخل ذلك الخبر السابقُ إلى مستقرِّه دُخولاً سهلاً وصادفَ موضعاً وطيئاً وطبيعة قابلة ونفساً ساكنة ومتى صادفَ القلبَ كذلك رسَخَ رسوخاً لا حيلة في إزالته ومتى أُلقِيَ إلى الفِتيان شيءٌ من أمور الفَتيات في وقت الغَرَارةِ وعند غلَبةِ الطبيعة وشَبابِ الشهوَةِ وقلَّة التشاغُل وكذلك متى أُلقِي إلى الفِتيان شيءٌ من أمورهنَّ وأُمُورِ الغِلْمان وهناك سُكْر الشَّباب فكذلك تكون حالهم وإنَّ الشُّطَّار لَيخلُو أحدُهم بالغلام الغَرير فيقول له : لا يكون الغلامُ فتًى أبداً حتَّى يصادِقَ فتًى وإلاّ فهو تِكش والتكش عندهم الذي لم يؤدّبه فتًى ولم يخرِّجه فما الماءُ العذْبُ البارد بأسرعَ في طباع العطشان من كلمته إذا كان للغُلام أدنى هوًى في

الفتوَّة وأدنَى داعيةٍ إلى المنالة وكذلك إذا خلَت العجوز المدربة بالجارية الحَدَثة كيف تخلبها وأنشدنا : ( فأتتْها طَبَّةٌ عالمةٌ ** تخلط الجِدَّ بأصنافِ اللعبْ ) ( ترفعُ الصوتَ إذا لانت لها ** وتَنَاهَى عند سَورات الغَضَب ) وقال الشاعر فيما يشبهُ وقوعَ الْخَبَرِ السابق إلى القلب : ( نقِّلْ فؤادَك حيثُ شئْتَ من الهوى ** ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأَوَّلِ ) ( كم منزلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتَى ** وحنينُه أبداً لأوَّلِ مَنْزِلِ ) وقال مجنون بني عامر : ( أتاني هَواهَا قَبْلَ أنْ أعرِفَ الهوَى ** فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنَا )

أثر التكرار في خلق الإنسان
وبابٌ آخر ممَّا يدعو إلى الفساد وهو طولُ وقوعِ البصرِ على الإنسان الذي في طبعه أدنى قابلٍ وأدنى حركةٍ عند مثله وطولُ التداني وكثرةُ الرؤيةِ هما أصلُ البلاء كما قيل لابنة الخُسّ : لم ولو أنَّ أقبحَ الناسِ وجهاً وأنتنَهم ريحاً وأظهرَهم فقراً وأسقطَهم

نفساً وأوضعَهم حسَباً قال لامرأةٍ قد تمكَّنَ من كلامِها ومكَّنته من سَمْعِها : واللّهِ يا مولاتي وسيِّدتي لقد أسهَرْتِ ليلي وأرَّقْتِ عَيني وشغلْتِنِي عن مُهِمِّ أمري فما أعقِلُ أهلاً ولا مالاً ولا ولداً لنَقَض طِباعَها )
ولفسَخ عَقْدَها ولو كانتْ أبرعَ الخلْقِ جمالاً وأكملَهم كمالاً وأملحهم مِلحاً فإنْ تهيّأَ مع ذلك مِن هذا المتعشِّق أَنْ تدمَع عينهُ احتاجت هذه المرأة أن يكون معها وَرَعُ أمِّ الدرداء ومُعاذة العدويّة ورابعةَ القيسيَّة والشجَّاء الخارجيَّة .

زهد الناس فيما يملكونه ورغبتهم فيما ليس يملكونه
وإنَّمَا قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللّه تعالى عنهُ : اضربُوهنَّ بالعُرْي لأَنَّ الثيابَ هي المدعاةُ إلى الخُروج في الأَعراس والقيامِ في المَناحات والظهورِ في الأعياد ومتَى كثر خروجُها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها ولو كان بعلُها أتمَّ حسناً والذي رأتْ أنقَصَ حسناً لكان ما لا تملكه أطرفَ ممَّا تملكُه ولكان ما لم تنلْه ولم تَستكثر منهُ أشدَّ لها اشتغالاً وأشد لها اجتذاباً ولذلك قال الشاعر : ( ولِلعين مَلْهًى بالتِّلادِ ولم يقُدْ ** هوى النفس شيءٌ كاقتيادِ الطرائف ) وقال سعيد بن مسلم : لأَن يرى حرمتي ألفُ رجل على حالٍ تكشَف

منها وهي لا تراهم أحبُّ إليّ من أن ترى حُرْمتي رجلاً واحداً غيرَ منكشف .
وقال الأوَّل : لا يضرُّك حُسْنُ من لم تعرف لأنَّك إذا أتبعتها بصَرك وقد نقضت طبعك فعلمْتَ أنَّك لا تصل إليها بنفسك ولا بكتابك ولا برسولك كان الذي رأيت منها كالحلم وكما يتصور للمتمنِّي فإذا انقضى ما هو فيهِ مِنَ المنى ورجعت نفسُه إلى مكانها الأوَّل لم يكن عليه من فقدها إلاّ مثلُ فقد ما رآه في النوم أو مثَّلته له الأمانيّ .

عقيل بن علفة وبناته
وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة : لو زوَّجْتَ بناتِك فإنَّ النساءَ لحمٌ على وَضَمٍ إذا لم يكنَّ غانيات قال : كلا إنِّي أُجِيعُهنَّ فلا يأشَرْنَ وأُعْرِيهنَّ فلا يظهرْن فوافقت إحدى كلمتيه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ووافقت الأخرى قول عمر بن الخطاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصَّوْمُ وِجَاء وقال عمر : استعينُوا عليهنّ بالعُرْي وقد جاء في الحديث : وفِّروا أشعارهن فإنَّ ترك الشعر مَجْفَرة

وقد أتينا على هذا الباب في الموضع الذي ذكرنا فيه شأن الغيرة وأوَّلَ الفسادِ وكيف ينبُت وكيف يُحصَد .
وقد رأيتُ غيرَ خَصيٍّ يتلوَّط ويطلب الغلمان في المواضع ويخلو بهم ويأخذهم على جِهة الصداقة ويحمل في ذلك الحديد ويقاتل دون السخول ويتمشى مع الشطَّار . )
وقد كانَ في قطيعةِ الربيعِ خصيٌّ أثيرٌ عندَ مولاه عظيم المنزلة عنده وكان يثِق به في مِلْكِ يمينِه وفي حُرَمه من بنتٍ وزوجَةٍ وأختٍ لا يخصُّ شيئاً دونَ شيء فأشرَفَ ذاتَ يومٍ على مِرْبَدٍ له وفي المِربد غنمٌ صفايا وقد شدَّ يَدي شاةٍ وركبها من مؤخَّرها يكُومُها فلمَّا أبصره بَرِقَ وَبَعِل وسُقِطَ في يديه وهجم عليه أمرٌ لو يكون رآه من خصيٍّ لعدوٍّ لَهُ لَمَا فارقَ ذلك الهولُ أبداً قلبَه فكيف وإنّما عايَن الذي عاين فيمَن كان يخلُفُه في نسائه مِن حُرَمه ومِلْكِ يمينه فبينما الرجلُ وهو واجم حزين وهو ينظر إليه وقد تحرَّق عليه غيظاً إذْ رَفَع الخصيُّ رأسَه فلمَّا أثبَت مولاهُ مَرَّ مُسرِعاً نحوَ باب الدار ليركَبَ رأسَه وكان المولى أقربَ إلى الباب منه فسبقه إليه وكان الموضعُ الذي رآه منه

موضعاً لا يُصعَد إليه فحدَثَ لشقائِهِ أمرٌ لم يجد مولاه معه بُدّاً من صُعودِه فلبثَ الخصيُّ ساعةً ينتفِض من حُمَّى ركِبته ثم فاظ ولم يُمسِ إلاَّ وهو في القبر .
ولفرْط إرادتِهم النساء وبالحسرة التي نالتهم وبالأسف الذي دخلَهم أبغَضُوا الفحولَ بأشدَّ مِنْ تباغُضِ الأعداءِ فيما بينهم حتَّى ليس بين الحاسدِ الباغي وبينَ أصحابِ النِّعَم المتظاهرة ولا بين المَاشي المعنَّى وبين راكب الهِمْلاجِ الفارِه ولا بين ملوكٍ صاروا سُوقةً وبينَ سُوقَةٍ صاروا ملوكاً ولا بينَ بني الأعمام مع وقوع التنافسِ أو وقوعِ الحربِ ولا بين الجِيرانِ والمتشاكلين في الصناعات من الشنف والبغضاء بقدرِ ما يلتحف عليه الخِصيانُ للفحول .
وبُغضُ الخصيِّ للفَحل من شِكل بُغض الحاسِدِ لذِي النعمة وليس مِنْ شكل ما يولِّده التنافسُ وتُلحِقُه الجنايات .

نسك طوائف من الناس
ولرجالِ كلِّ فَنٍّ وضربٍ من الناس ضربٌ من النسك إذْ لا بدَّ لأحدِهم من النزوع ومن تركِ طريقته الأولى : فنسك الخصيِّ غزْو الروم لِمَا أَنْ كانوا هم الذين خَصَوهم ولُزُومُ أَذَنة والرِّباطُ بطَرَسُوسَ وأَشباهِها فظنَّ عند ذلك أهلُ الفِراسة أنَّ سببَ ذلك إنّما كان لأنَّ الرُّوم لِما كانوا هم الذين خَصَوهم كانوا مغتاظين عليهم وكانت

متطلِّبةً إلى التشفِّي منهم فأخرج لهم حبُّ التشفِّي شدَّةَ الاعتزامِ على قتلهم وعلى الإنفاقِ في كلِّ شيء يَبلُغ منهم ونُسكُ الخراسانيِّ أن يُحجَّ : ونسكُ البنوي أن يَدَع الديوان ونسكُ المغنِّي : أن يُكثر التسبيحُ وهو يشربُ النبيذ والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في جماعة ونسك الرافضيِّ : إظهارُ ترْك النبيذ ونسك السَّواديِّ ترْكُ شرب المطبوخ فقط ونسكُ اليهوديِّ : إقامة السبت ونسك )
المتكلِّم : التسرُّع إلى إكفارِ أهل المعاصي وأنْ يرمَي الناسَ بالجبْر أو بالتعطيلِ أو بالزندقة يريد أن يوهم أموراً : منها أنَّ ذلك ليس إلاّ من تعظيمه للدِّين والإغراق فيه ومنها أن يقال : لو كان نَطِفاً أو مرتاباً أو مجتنحاً على بليَّة لما رمى الناسَ ولرضي منهم بالسلامة وما كان ليرميَهم إلاّ للعزِّ الذي في قلبه ولو كان هناك من ذُلِّ الرِّيبة شيء لقطَعَه ذلك عن التعرُّض لهم أو التنبيه على ما عسى إنْ حرَّكهم له أنْ يتحرَّكوا ولم نجدْ في المتكلِّمين أنْطفَ ولا أكثرَ عيوباً ممَّن يرمي خصومَه بالكفر .
الجماز وجارية آل جعفر وكان أبو عبد اللّه الجمَّاز وهو محمد بن عمرو يتعشَّق جاريةً

لآلِ جعفر يقال لها طُغْيان وكان لهم خصِيٌّ يحفظُها إذا أرادتْ بيوتَ المغنِّين وكان الخصيُّ أشدَّ عشقاً لها من الجمَّاز وكان قد حال بينَه وبينَ كلامِها والدنوِّ منها فقال الجماز وكان اسم الخادم سناناً : ( ما للمَقِيتِ سِنانٍ ** ولِلظِّباءِ المِلاحِ ) ( لَبِئْسَ زانٍ خَصِيٌّ ** غازٍ بغير سلاحِ ) وقال فيه أيضاً وفيها : ( نَفْسِي الفداءُ لظبيٍ ** يحبُّني وأُحبُّهْ ) ( َبْهُ أجابَ سِناناً ** يَنيكهُ أين زُبُّه ) وقال أيضاً فيهما : ( ظبيٌ سنانُ شريكي ** فيه فبئسَ الشرِيكُ ) ( ا يَنِيكُ سِنانٌ ** ولا يَدَعْنا ننيكُ ) ما قيل من الشعر في الخصاء وقال الباخَرزيّ يذكرُ محاسِنَ خِصال الخِصيان : ( ونساء لمطمئنِّ مُقيمٍ ** ورجال إن كانت الأسفارُ )

وقال حميد بن ثور يهجو امرأته : ( جُلُبَّانةٌ ورهاء تخصي حمارها ** بفِي من بغَى خيراً إليها الجلامدُ ) وقال مزرِّد بن ضِرار : ( فجاءتْ كخاصي العَيرِ لم تَحْلَ عَاجةً ** ولا جَاجَةٌ منها تلُوحُ على وَشْمِ )
وقال عمرو الخارَكى : ( إذا لامَ على المرد ** نصيحٌ زادَني حرصا ) ( ولا واللّه ما أقْ ** لع ما عمِّرت أو أُخْصى ) ( رَمَاك اللّهُ من أيْرٍ بأفعَى ** ولا عافاكَ من جَهْد البَلاءِ ) ( جَزَاكَ اللّهُ شَرّاً من رفيقٍ ** إذا بلغت بي رَكَبَ النساء ) ( أجُبْناً في الكريهة حين نلقى ** وما تنفكُّ تُنعِظ في الخَلاَءِ ) ( فلا واللّه ما أمسَى رفيقي ** ولولا البولُ عُوجِل بالخصاء )

وقال بعض عبد القيس : ( ما كان قَحذَمٌ ابنُ واهِصَة الْخُصى ** يرجو المناكحَ في بني الجارودِ ) ( ومِن انتكاس الدهرِ أن زُوِّجتَها ** ولكلِّ دهرٍ عَثرةٌ بجُدُود ) ( لو كان منذرُ إذ خطبت إليهم ** حيّاً لكان خَصَاكَ بالمغمود ) وقال أبو عبيدة : حدَّثني أبو الخطاب قال : كان عندنا رجلٌ أحدبُ فسقَط في بئرٍ فذهبت حَدَبته وصار آدَر فقيل له : كيف تجِدك فقال : الذي جاءَ شرٌّ من الَّذِي ذهب .
وأبو الحسن عن بعض رجاله قال : خرج معاويةُ ذاتَ يومٍ يمشي ومَعه خَصِيٌّ له إذ دخلَ على ميسونَ ابنة بحدل وهي أمُّ يزيد فاستترت منه فقال : أتستترين منه وإنَّما هو مثلُ المرأَة قالت : أتُرَى أنَّ المثلة به تُحِلُّ ما حرَّم اللّه تعالى .
ذكر ما جاء في خصاءِ الدوابّ ذكر آدمُ بن سليمان عن الشعبيّ قال : قرأت كتابَ عمر رضي اللّه

تعالى عنه إلى سعد يَنْهَى عن حذْف أذناب الخيل وأعرافها وعن خصائها ويأمره أن يُجْرِيَ من رأس المائتين وهو أربعة فراسخ .
وسُفيان الثَّوري عن عاصم بن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان ينهى عن خِصَاء البهائم ويقول : هل الإنماء إلاّ في الذكور .
وشَريك بن عبد اللّه قال : أخبرني إبراهيم بن المهاجر عن إبراهيم النَّخَعي أنّ عمرَ رضي اللّه تعالى عنه نَهَى عن خصاءِ الخيل .
وسفيان الثوري عن إبراهيم بن المهاجر قال : كتب عمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لبعض )
عماله : لا تُجرِيَنَّ فرساً إلاَّ من المائتين ولا تخْصِينَّ فرساً .
وقال : وسمعتُ نافعاً يقول : كان عبد اللّه بن عمر يكرَه خِصاءَ الذكورِ من الإبل والبقر والغنم .
وعبيد اللّه بن عمر عن نافع : أنَّ ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان يكره الخصاء ويقول : لا تقطعوا ناميةَ خَلْقِ اللّهِ تعالى .
وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن نافع قال : نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أن تُخصَى

ومحمد بن أبي ذئب قال : سألت الزُّهريَّ : هل بخِصاء البهائم بأس قال : أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عُتبة بن مسعود أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهِرين نهى عن صَبْرِ الروح قَالَ الزُّهريُّ : والخِصاءُ صبرٌ شديد .
وأبو جعفَر الرَّازيّ قال : حدَّثنا الرَّبيعُ بن أنس عن أنس بن مالك في قوله تعالى : وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه قال : هو الخِصاء .
وأبو جرير عن قتادة عن عِكرِمة عن ابن عبَّاس نحوه .
أبو بكر الهذليّ قال : سألتُ الحسنَ عن خِصاء الدواب فقال : تسألني عَن هذا لعن اللّه من خَصَى الرجال .
أبو بكر الهذليُّ عن عِكرِمة في قوله تعالى : وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرَنَّ خَلْقَ اللّهِ قال : خصاء الدواب قال : وقال سعيد بن جبير : أخطأ عكرمة هو دين اللّه . نَصر بن طريف قال : حدَّثنا قَتادة عن عِكرمة في قوله تعالى : فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ قال : خصاء البهائم فبلغ مجاهداً فقال : كذَبَ هو دين اللّه .
فمن العجب أن الذي قال عكرمة هو الصواب ولو كان هو الخطأ لما جاز لأحد أن يقول له : كذبت والناسُ لا يضعون هذه الكلمةَ

في موضِع خطأ الرأي ممَّن يُظَنُّ به الاجتهاد وكان ممَّن له أن يقول ولو أنَّ إنساناً سمِع قولَ اللّه تبارك وتعالى : فَلَيُغَيِّرُنََّ خَلْقَ اللّهِ قال : إنَّما يعني الخِصاء لم يقبل ذلك منه لأنَّ اللفظ ليست فيه دلالةٌ على شيءٍ دونَ شيء وإذا كان اللفظُ عامّاً لم يكن لأحدٍ أن يقصِد به إلى شيءٍ بعينه إلاَّ أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مع تلاوةِ الآية أو يكونَ جبريلُ عليهِ السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لأنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يضمر ولا ينوي ولا يخصُّ ولا يعمُّ بالقصد وإنَّما الدلالةُ في بِنيةِ الكلام نفسِه فصورة الكلام هو )
الإرادة وهو القصد وليس بينه وبين اللّه تعالى عملٌ آخر كالذي يكون من الناس تعالى اللّهُ عن قول المشبِّهة علوّاً كبيراً .


أبو جرير عن عمار بن أبي عمار أَنَّ ابنَ عباسٍ قَالَ في قوله تعالى : وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ قَالَ : هو الخصاء .
وأبو جرير عن قَتادة عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ مثله .
أبو داود النَّخَعِيّ عن محمَّدِ بن سعيدٍ عن عبادة بن نسيّ عن إبراهيم بن محيريز قال : كان أحبَّ الخيلِ إلى سَلَفِ المسلمين في عهد عمر وعثمان ومعاوية رضي اللّه تعالى عنهم الخِصْيان فَإنَّها أخفى للكَمينِ والطلائع وأبقَى على الجَهْدِ .
أبو جرير قال : أخبرني ابن جُريج عن عطاء أنَّه لم يَرَ بأساً بخصاء الدواب .
وأبو جرير عن أيُّوبَ عن ابن سيرين أنَّه لم يكن يرى بأساً بالخصاء ويقول : لو تُرِكت الفحولةُ لأكل بعضُها بعضاً .
وعمر ويونس عن الحسن : أنّه لم يكن يرى بأساً بخصاءِ الدواب .
سفيان بن عُيينة عن ابن طاوس عن أبيه : أنّه خَصى بعيراً .
وسفيان بن عيينة عن مالك بن مِغوَل عن عطاء أنه سئل عن خصاء البغل فقال : إذا خفت عِضاضه .

أقوال في النتاج المركب
ولْنَصِلْ هذا الكلام بالكلام الذي قبل هذا في الخلق المَركب وفي تلاقح الأجناس المختلفة زعموا أن العِسبارَ ولد الضبع من الذئب وجمعه عسابر وقال الكميت : ( وتجمَّع المتفرِّقُو ** نَ من الفَراعِل العَسابِرْ ) يرميهم بأنَّهم أخلاطٌ وَمُعَلْهَجُونَ .
السمع ولد الذئب من الضبع وزعموا أنّ السِّمع ولد الذئب من الضبع ويزعمون أنّ السِّمع

كالحيَّةِ لا تعرف العِلَل ولا تموتُ حَتْفَ أنفِها ولا تموت إلاّ بِعَرَض يَعْرِض لها ويَزْعمون أنّه لا يَعدو شيءٌ كعدو السِّمع وأنّه أسرعُ مِنَ الريح والطَّير .
وقال سهم بن حنظلة يصف فرسه : ) ( فاعْصِ العواذل وارْمِ اللَّيلَ في عرضٍ ** بذي شبيبٍ يُقاسِي ليْلَهُ خَبَبَا ) ( كالسِّمع لم يَنقب البَيْطَار سرّته ** ولم يَدِجْه ولم يَغمِز له عَصَبَا ) وقَالَ ابن كُناسة يصف فرساً : ( كالعقاب الطلوب يَضْرِبُها الطّ ** لُّ وقد صَوَّبَتْ على عِسبار ) وقال سؤر الذئب : ( هو سِمْعٌ إذا تمطَّرَ شيئاً ** وعُقابٌ يحثُّها عِسْبارُ ) يقول : إذا اشتدَّ هربُ المطلوبِ الهاربِ من الطالب الجادّ فهو أحث للطالب وإذا صار كذلك صار المطلوبُ حينئذٍ في معنى من يحثٌّ الطلب إذ صار إفراط سرعَتِه سبباً لإفراط طلبِ العُقاب .
وقال تأبط شرّاً أو أبو محرز خلف بن حيَّان الأحمر :

( مُسْبِلٌ بالحيِّ أحوى رِفَلُّ ** وإذا يَعْدُو فسِمْعٌ أَزَلُّ ) وقال الأصمعي : يدير عيني لمظةٍ عِسبارَه وقال في موضع آخر : كأن منها طرفه استعارَه وقال آخر : تَلقى بها السِّمْعَ الأَزَلَّ الأطلَسَا وزعموا أنَّ ولدَ الذئب من الكلبة الدَّيْسَم ورووا لبشَّارِ بنِ بُرْد في دَيْسَمٍ العَنزِيّ أنّه قال : ( أدَيْسَمُ يا ابنَ الذئبِ مِنْ نسلِ زارعٍ ** أَتَرْوِي هِجائِي سادراً غَيْرَ مُقْصِرِ ) وزارع : اسم الكلب يقال للكلاب أولاد زارعٍ .
زعم لأرسطو في النتاج المركب وزعم صاحب المنطق أنّ أصنافاً أُخَرَ من السباع المتزاوِجات المتلاقِحات مع اختلاف الجنس والصورة معرو

فة النتاج مثل الذئاب التي تسفَد الكلابَ في أرض رُومِيَة : قال : وتتولَّد أَيضاً كلابٌ سَلوقيةٌ من ثعالبَ وكلاب قال : وبين الحيوان الذي يسمَّى باليونانيَّة طاغريس وبين الكلب تحدث هذه الكلابُ الهندية قال : وليس يكون ذلك من الولادة الأولى . )
قال أبو عثمان : عن بعض البصريين عن أصحابه قال : وزعموا أنَّ نِتاجَ الأولَى يخرجُ صعباً وحشيّاً لا يلقَّن ولا يؤلَّف .
تلاقح السبع والكلبة وزعم لي بعضهم عن رجلٍ من أهل الكوفة من بني تميم أنَّ الكلبةَ تعرِض لهذا السبع حتَّى تلقَح ثم تعرَض لمثله مراراً حتى يكون جرو البطن الثالث قليلَ الصعوبة يقبلُ التلقين وأنَّهم يأخذون إناثَ الكلاب ويربِطونها في تلك البراريّ فتجيءُ هذه السباعُ وتسفَدُها وليس في الأرض أنثى يُجتَمَع على حبِّ سفادها ولا ذكرٌ يجتمع له من النزوع إلى سفاد الأجناسِ المختلفة أكثرَ في ذلك من الكلب والكلبة .
قال : وإذا رَبَطوا هذه الكلابَ الإناثَ في تلك البراري فإن كانت هذه السباع هائجةً سفِدَتها وإن لم يكن السبع هائجاً فالكلبة مأكولة وقال أبو عدنان :

( أيا باكيَ الأطلالِ في رَسْمِ دمنةٍ ** تَرُودُ بها عينُ المَهَا والجآذرُ ) ( وعاناتُ جَوَّال وهَيْق سَفَنَّجٌ ** وسنداوة فضفاضة وحَضَاجِرُ ) ( وسِمْعٌ خَفِيُّ الرِّزِّ ثِلْبٌ ودَوْبَلٌ ** وثُرْمَلَةٌ تعتادها وعَسابرُ ) وقد سمعنا ما قال صاحبُ المنطق من قبل وما نظنُّ بمثله أن يخلِّد على نفسه في الكتب شهاداتٍ لا يحقِّقُها الامتحان ولا يعرِف صدقَها أشباهُه من العلماء وما عندَنا في معرفةِ ما ادَّعى إلاّ هذا القول .
وأمَّا الذين ذَكروا في أشعارهم السِّمْع والعِسبار فليس في ظاهر كلامهم دليلٌ على ما ادَّعى عليهم النّاسُ من هذا التركيب المختلف فأدَّينا الذي قالوا وأمسكْنا عن الشهادة إذ لم نجد عليها بُرهاناً .
ولاد السعلاة وللنَّاس في هذا الضَّرْب ضروبٌ من الدعوى وعلماءُ السوء يُظهرون تجويزَها وتحقيقَها كالذي يدَّعون من أولاد السَّعَالِي من الناس كما ذكروا عن عمرو بن يربوع وكما يروي أبو زيدٍ النحويُّ عن السِّعلاة

التي أقامت في بني تميم حتى وَلَدت فيهم فلمَّا رأتْ برقاً يلمَعُ من شقِّ بلاد السَّعالِي حنَّت وطارت إليهم فقال شاعرهم : ( رأى بَرْقاً فأوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ ** فَلاَ بِكِ ما أسَالَ وما أغاما )
وأنشدني أن الجنَّ طرقوا بعضَهم فقال : ( أتَوا ناري فَقُلْتُ مَنُونَ أنتمْ ** فقالوا الجِنُّ قلتُ عِموا ظَلامَا ) ( فقلتُ إلى الطَّعام فقال منهم ** زعيمٌ نَحْسُدُ الإنسَ الطَّعاما ) ولم أعِب الرواية وإنَّما عبتُ الإيمانَ بها والتوكيدَ لمعانيها فما أكثَرَ من يَروي هذا الضربَ على التعجُّبِ منه وعلى أن يجعَلَ الرواية له سبباً لتعريفِ النَّاس حقَّ ذلك من باطِلِه وأبو زيدٍ وأشباهُه مأمونون على النَّاس إلاَّ أنَّ كلَّ من لم يكن متكلِّماً حاذقاً وكان عند العلماء قدوةً وإماماً فما أقرَبَ إفسادَه لهم من إفسادِ المتعمِّد لإفسادهم وأنشدوا في تثبيتِ أولاد السعلاة : ( تقول جمع من بُوان ووَتِدْ ** وحَسَنٌ أَنْ كَلَّفَتْنِي مَا أجِد ) ( وَلَمْ تقل جِيء بأبَان ٍ أو أُحُدْ ** أو ولدِ السِّعلاةِ أو جِروِ الأسَدْ ) أو ملكِ الأعجام مأسوراً بقِدّ

وقال آخر : يا قاتَلَ اللّه بَنِي السِّعلاةِ عمراً وقابوساً شِرَارَ الناتِ ما زعموا في جرهم وذكروا أَنَّ جُرهُماً كان من نِتاج ما بين الملائكة وبنات آدم وكان الملَكُ من الملائكة إذا عصى ربَّه في السماء أهبَطَه إلى الأرض في صورة رجل وفي طبيعته كما صنع بهاروت وماروت حين كان من شأنهما وشأنِ الزُّهَرة وهي أناهيد ما كان فلَّما عصى اللّهَ تعالى بعضُ الملائكة وأهبطَه ( لا هُمَّ إنَّ جُرهُماً عِبادُكا ** الناس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا ) ما زعموا في بلقيس وذي القرنين ومن هذا النسل ومن هذا التركيب والنجل كانت بِلْقِيسُ ملكةُ

سَبأ وكذلك كان ذو القرنين كانت أمُّه فيرى آدميَّة وأبوه عبرى من الملائكة ولذلك لما سمِع عمرُ بن الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه رجلاً ينادي : يا ذا القرنين فقال : أفَرَغْتُمْ من أسماءِ الأنبياء فارتفعتم إلى أسماءِ الملائكة .
وروى المختارُ بن أبي عبيد أَنَّ عليّاً كان إذا ذَكَر ذا القرنين قال : ذلك المَلكُ الأمرط .
ما زعموا من تلاقح الجن والإنس وزعموا أنَّ التناكُح والتلاقُح قد يقع بين الجنِّ والإنس لقوله تعالى : وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ) وَالأَوْلاَدِ وذلك أن الجِنِّيَّاتِ إنَّما تعرِض لصَرْع رجالِ الإنس على جهة التعشُّق وطلبِ السِّفاد وكذلك رجال الجنِّ لنساء بني آدم ولولا ذلك لعرض الرِّجالُ للرِّجال والنساءُ للنساء ونساؤهم للرجال والنساء .
ومن زعَم أن الصَّرْعَ من المِرَّة ردَّ قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُون الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ وقال تعالى : لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ فلو كان الجانُّ لا يفتضُّ

الآدَمِيَّاتِ ولم يكنْ ذلك قطُّ وليس ذلك في تركيبِه لَما قال اللّه تعالى هذا القول .
وزعموا أنّ النَّسْنَاسَ تركيبُ ما بين الشِّق والإنسان ويزعمون أنَّ خلقاً من وراء السدِّ تركيبٌ من النَّسْنَاسِ والناس والشقِّ ويأجوج ومَأجوج وذكروا عن الوَاق واق والدوَال باي أنهُمْ نِتاجُ ما بينَ بعض النَّباتِ والحيوان وذكروا أنَّ أمَّةً كانت في الأرض فأمرَ اللّه تعالى الملائكة فأجلوَهم وإيَّاهم عَنَوا بقولهم : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ولذلك قال اللّه عزَّ وجلَّ لآدم وحواء : وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمينَ فهذا يدلُّ على أن ظالماً وظُلماً قد كان في الأرض .
قال الأصمَعيُّ أو خلَفٌ في أرجوزة مشهورة ذكرَ فيها طُوْلَ عمر الحَيَّة : ( أرْقَشُ إنْ أسبَطَ أو تَثَنَّى ** حَسِبْتَ وَرْساً خالَطَ اليَرَنَّا ) ( خالَطَهُ مِنْ هَاهُنَا وَهَنَّا ** إذا تراءَاهُ الحواةُ استَنَّا ) قال : وكان يقال لتلك الأمَّة مهنا .


قول المجوس في بدء الخلق وزعم المجوس أنَّ الناسَ من ولد مهنة ومهنينة وأنَّهما تولدا فيما بينَ أرحام الأرَضين ونطفتين ابتدرتا من عينَي ابن هُرمُز حين قتله هرمر وحماقات أصحابِ الاثنَين كثيرةٌ فِي هذا الباب ولولا أنِّي أحببْتُ أن تسمَعَ نوعاً من الكلام ومبلغَ الرأي لتُحدِثَ للّه تعالى شكراً على السلامة عبد الله بن هلال صديق إبليس وختنه وزعم ابن هيثم أنَّه رأى بالكوفة فتًى من ولد عبد اللّه بن هلال الحميري صديق إبليس وخَتَنِهِ وأنَّهم كانوا لا يشكُّون أنَّ إبليسَ جَدُّه من قِبَل أمَّهاتِه وسنقولُ في ذلك بالذي يجبُ إن شاء اللّه تعالى وصِلَة هذا الكلام تجيءُ بعد هذا إن شاء اللّه تعالى .

حوار في الكلب والديك
وقلت : ولو تمَّ للكلب معنى السبع وطباعه لما أَلف الإنسانَ واستوحش من السبع وكرِه الغياض وألِف الدُّور واستوحَشَ من البرارِي وجانب القفار وألِفَ المجالسَ والدِّيار ولو تمَّ له معنى البهيمة

في الطبع والخلق والغذاءِ لما أكل الحيوانَ وكَلِب على النَّاس نعمْ حتَّى رُبَّما كلِب وَوَثَبَ على صاحبِه وكلِبَ على أهله وقد ذكر ذلك طرفةُ فقال : ( كُنْتَ لَنَا والدُّهورَ آوِنةً ** تَقْتُلُ حالَ النَّعِيم بالبُؤُس ) ( ككَلْبِ طَسْمٍ وقد تَرَبَّبه ** يَعُلُّه بالحَليبِ في الغَلَسِ ) ( ظلَّ عليه يوماً يُفَرْفِرُه ** إلاَّ يَلَغ في الدماءِ يَنْتهِسِ ) وقال حاجب بن دينار المازِنيُّ في مثل ذلك : ( كذِي الكلبِ لمَّا أسمَنَ الكَلْبَ رابَهُ ** بإحدى الدَّواهي حينَ فَارَقَه الجهلُ ) وقال عوف بن الأحوص : ( فإنِّي وقيساً كالمسمِّنِ كَلْبَه ** تُخَدِّشُهُ أَنْيَابُه وأظَافِرُه ) وأنشد ابن الأعرابي لبعضهم : ( وهُمْ سَمَّنُوا كلباً ليأكُلَ بعضَهمْ ** ولو ظَفِروا بالحزْمِ مَا سُمِّنَ الكَلْبُ ) وفي المثل : سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْك .


وكان رجلٌ من أهل الشام مع الحجَّاج بن يوسف وكان يحضُر طعامَه فكتب إلى أهله يخبرُهم بما هو فيه من الخِصْب وأنه قد سَمِن فكتبت إليه امرأته : ( أتُهدِي ليَ القِرطَاسَ والخبْزُ حاجَتِي ** وأنتَ على بابِ الأميرِ بَطِينُ ) ( إذا غِبْتَ لم تَذْكُرْ صَدِيقاً وإن تقمْ ** فأنتَ على ما في يَدَيك ضَنِينُ ) ( فأنت ككَلْبِ السَّوْءِ في جُوعِ أهلِه ** فيُهْزَلُ أهلُ الكلب وهو سَمِينُ ) وفي المثل : سمن كلب في جوعِ أهلِه وذلك أنه عند السُّواف يصيب المال والإخداجِ يعرض للنُّوق يأكُلُ الجِيفَ فيسمَن وعلى أنه حارِسٌ مُحتَرَسٌ منه ومؤنسٌ شديد الإيحاش من نفسه وأليفٌ كثير الخيانةِ على إلفِه وإنما اقتنوه على أنْ ينذِرَهم بموضع السارق وتركوا طَرده لينبههُم على مكان المبيِّت وهو أسرقُ من كل سارق وأدومُ جنايةً من ذلك المبيِّت ويدلُّ على أنَّه سروقٌ عندَهم قولُ الشاعر : ) ( أَفِي أَنْ سرَى كلبٌ فبيَّت جُلَّةً ** وجَبْجَبةً للوَطب لَيْلَى تُطلقُ )

فهو سَرَّاق وصاحب بَيات وهو نَبَّاشٌ وآكلُ لحومِ النَّاس أَلا إنَّه يجمعُ سِرقة الليل مع سرقة النّهار ثم لا تجده أبداً يمشي في خِزانةٍ أَو مطبَخ أَو عَرْصةِ دار أو في طريقٍ أَو في بَراريَّ أَو في ظهرِ جَبل أو في بَطْن وادٍ إلاَّ وخطمُه في الأرض يتشمَّم ويستروح وإنْ كانت الأرضُ بيضاءَ حَصَّاءَ ودَوِّيَّةً ملساءَ أو صخرةً خلقاء حرصاً وجشعاً وشرهاً وطمعاً نعم حتَّى لا تجده أيضاً يرى كلباً إلاَّ اشتمَّ استَه ولا يتشمَّم غيرهَا مِنهُ ولا تراه يُرمَى بحجر أيضاً أبداً إلاَّ رجَع إليه فعضَّ عليه لأنَّه لمَّا كان لا يكاد يأكلُ إلاَّ شيئاً رمَوا به إليه صار ينسَى لِفَرْط شرَهِه وغلَبة الجشعِ على طبعه أنَّ الراميَ إنَّما أراد عقْره أو قتلَه فيظنّ لذلك أنَّه إنَّما أراد إطعامه والإحسانَ إليه كذلك يخيِّل إليه فرْطُ النَّهم وتُوهِمُه غلبَةُ الشَّرَه ولكنَّه رَمى بنفسِه على الناس عجزاً ولؤماً وفُسولةً ونقصاً وخافَ السباعَ واستوحش من الصَّحارى .
ولَمَّا سمِعوا بعضَ المفسِّرين يقول في قوله تعالى : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ إنَّ المحروم هو الكلب وسمِعوا في المثل : اصنَعُوا المعروفَ ولو إلى الكلب عَطفُوا عليه واتَّخَذُوه في الدُّور وعلى أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ من سِفْلتهم وأغبيائهم ومن قلَّ تقزُّزُهُ وكثُر جهلُه وردَّ الآثارَ إمَّا جهلاً وإمَّا معانَدة .
وأما الديك فمِن بهائم الطير وبغاثها ومن كلولِها والعِيال على

أربابها وليس مِنْ أحرارها ولا مِنْ عِتاقِها وجوارحها ولا ممَّا يطرِب بصوته ويُشجِي بلحنه كالقَماريِّ والدَّباسيِّ والشَّفَانين والوراشِين والبلابل والفواخت ولا ممَّا يُونِق بمنظره ويمتع الأبصار حسنُه كالطواويس والتَّدارِج ولا مما يعجِب بهدايته ويُعقَد الذمام بإلْفه ونِزاعه وشدةِ أُنسه وحنينه وتُرِيده بإرادته لك وتَعطِف عليهِ لحبِّهِ إياك كالحمام ولا هو أيضاً من ذوات الطيران منها فهو طائرٌ لا يطير وبهيمةٌ لا يَصيد ولا هو أيضاً مما يكون صيداً فيمْتِع من هذه الجهة ويُراد لهذه اللَّذة .
والخُفَّاش أمرَطُ وهو جيِّدُ الطيران والدِّيكُ كاسٍ وهو لا يطير وأيُّ شيءٍ أعجبُ من ذي ريشٍ أرضيٍّ ومن ذي جلدةٍ هوائيّ .
وأجمعُ الخلق لخصال الخير الإنسان وليس الزِّواجُ إلاّ في الإنسان وفي الطير فلو كان الديك من غير الطير ثمَّ كان ممن لا يزاوج لقد كان قد مُنِع هذه الفضيلة وعَدِم هذه المشاكَلَة الغريبة وحُرم هذا السَّببَ الكريم والشِّبْه المحمود فكيف وهو لا يزاوج وهو من الطيرِ الذي ليس الزواجُ )
والإلْف وثباتُ العهْد وطلَبُ الذرء وحبُّ النَّسل والرجوعُ إلى السكن والحنين إلى الوطن إلاَّ له وللإنسان وكلُّ شيء لا يزاوج فإنَّما دخله النقصُ وخسِر هذه الفضيلَة من جهةٍ واحدة وقد دخل الديكَ النقص

مِنْ جهتين ووصف أبو الأخزَر الحِمَّانيُّ الحِمارَ وعَيْر العانةِ خاصَّة فإنَّه أمثلُ في باب المعرفة من الأهْليّ فذكركيف يضرِب في الأُتُن ووصَفَ استبهامَه عن طلب الولد وجهلَه بموْضِع الذَّرْء وأنَّ الولدَ لم يجئ منه عن طلبٍ له ولكن النُّطفة البريئة من الأسقام إذا لاقت الأرحام البريئَة مِن الأسقام حَدَث النِّتاج على الخلقة وعلى ما سوِّيت عليه البِنية وذكر أنّ نزوَه على الأتان من شكل نَزْوه على العير وإنَّما ذلك على قدْر ما يحضُره من الشَّبَق ثمَّ لا يلتفِت إلى دُبرٍ من قُبُل وإلى ما يَلقَحُ من مثلِه ممَّا لا يُلقَحُ فقال : لا مُبْتَغِي الضِّنْءِ ولا بالعازلِ يقول : هو لا يريد الولَد ولا يعزل .
والأشياء التي تألفُ الناسَ ولا تريدُ سِواهم ولا تحنُّ إلى غيرهم كالعصفور والخُطّاف والكلْب والسِّنَّور والدِّيك لا يألَفُ منزِلَه ولا رَبْعه ولا يُنازع إلى دجاجته ولا طَرُوقته ولا يحنُّ إلى ولده بل لم يَدرِ قطُّ أنّ له ولداً ولو دَرَى لكان على دِرايتِهِ دليل فإذ قد وجدناه لبيضِه وفراريجهِ الكائنةِ منه كما نجدُه لما لم يلدْه ولِمَا ليسَ من شَكلهِ ولا يرجِع إلى نسبه فكيف تُعرَف الأمور إلاَّ بهذا وشبهه وهو مع ذلك

أبلَهُ لا يعرِف أهلَ دارِه ومبهوتٌ لا يُثْبِتُ وَجهَ صَاحِبه وهو لم والكلْبُ على ما فيه يعرف صاحبَهُ وهو والسِّنَّور يعرِفان أسماءهما ويألَفَان موضعَهما وإن طُردا رَجعا وإن أُجِيعا صَبَرَا وإن أُهِينا احتملا .
والديك يكون في الدار من لَدُنْ كانَ فَرُّوجاً صغيراً إلى أن صار ديكاً كبيراً وهو إن خرَج من باب الدار أو سقط على حائط من حيطان الجيران أو على موضعٍ من المواضع لم يعرِفْ كيف الرُّجوعُ وإن كان يُرَى منزلُه قريباً وسهل المطلبِ يسيراً ولا يَذكُر ولا يتذَكَّر ولا يهتدي ولا يتصوَّر لَه كيف يكونُ الاهتداء ولو حنَّ لَطَلَبَ ولو احتاج لالتمس ولو كان هذا الخُبْرُ في طباعه لظَهَر ولكنَّهَا طبيعةٌ بلهاءُ مستبهِمة طامحة وذاهلة ثمَّ يسفَدُ الدَّجاجةَ ولا يعرفُها هذا مع شدَّةِ حاجته إليهنَّ وحِرصِه على السِّفاد والحاجةُ تفتِقُ الحِيلَة وتَدُلُّ على المعرفة إلاَّ ما عليه الديك فإنَّه مع حِرصهِ على السِّفاد لا يعرفُ التي يسفَد ولا يقصِد إلى ولدٍ ولا يحضُن بيضاً ولا يعطِفُه رَحِمٌ فهو من ها هنا أحمقُ من الحُبارَى وأعقُّ من الضبِّ )
وقال عثمان بن عفَّان رضي اللّه تعالى عنه : كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتى الحُبَارى فضرَب بها المثلَ كما ترى في المُوقِ والغفْلة وفي الجهل والبَلَه وتقول العرب : أعَقُّ من الضَّبِّ لأنَّه يأكلُ حُسُولَه .
أكل الهرة أولادها

وكرُمَ عند العرَب حظُّ الهِرَّة لقولهم : أَبَرُّ مِنْ هِرَّة وأعقُّ مِنْ ضَبٍّ فوَجَّهوا أكلَ الهرَّةِ أولادَها على شدَّة الحبِّ لها ووجَّهوا أَكْلَ الضبِّ لها على شدَّةِ البغْض لها وليس ينجو مِنْهُ شيءٌ منها إلاّ بشغْلِه بِأَكْل إخْوته عنه وليس يحرُسُها ممَّا يأكلُها إلاَّ ليأكلَها ولذلك قال العَمَلَّسُ بن عَقيل لأبيه عَقيل بن عُلَّفَة : ( أكلْتَ بَنِيك أكْلَ الضَّبِّ حتَّى ** وَجدتَ مَرارةَ الكلأ الوبيل ) ( فلو أنَّ الأُلَى كانوا شهوداً ** منَعْتَ فِناءَ بيتك من بَجيلِ ) وقال أيضاً : ( أكلْت بَنِيك أَكل الضَّبِّ حتَّى ** ترَكت بَنِيك لَيْسَ لَهُمْ عديد ) وشبَّه السّيِّدُ بن محمَّد الحميريُّ عائشةَ رضي اللّه تعالى عنها في نصْبِها الحربَ يوم الجملِ لقتال بنيها بالهرَّةِ حين تأكلُ أولادَها فقال : ( جَاءَتْ معَ الأَشْقَينَ في هَوْدَجٍ ** تُزْجِي إلى البَصْرَةِ أجْنَادَها ) ( كأنَّها في فِعلِها هِرَّةٌ ** تُريدُ أن تأكُلَ أولادَهَا ) رعاية الذئبة لولد الضبع وتقول العرب أيضاً : أحمَقُ مِنْ جَهِيزَة وهي عِرس الذئب لأنَّها تدعُ ولدها وترضع ولد الضبع . ( كَمُرضِعَةٍ أولادَ أُخرَى وضَيَّعَتْ ** بَنِيهَا فلم تَرْقَع بذلك مَرْقَعا )

رعاية الذئب لولد الضبع ويقولون : إنَّ الضبعَ إذا صِيدَت أو قُتلت فإنَّ الذئب يأتي أولادَها باللحم وأنشد الكُميت : ( كما خَامَرَتْ في حِضْنِها أمُّ عامرٍ ** لِذِي الحبل حتى عَال أوسٌ عِيالها ) وأوس هو الذئب وقال في ذلك : ( في كلِّ يومٍ من ذُؤَالَه ** ضِغْثٌ يَزيد على إبَالَه ) ( فلأحْشأنَّك مِشْقَصاً ** أوساً أُويسُ من الهباله )
الأوس : الإعطاء وأويس هو الذئب وقال في ذلك الهذليّ : ( يا ليتَ شعري عنك والأَمْرُ أَمَمْ ** ما فَعَلَ اليومَ أُويسٌ في الغنمْ ) وقال أميَّةُ بن أبي الصّلْت : ( وأبو اليتامى كانَ يُحْسِنُ أوسهم ** وَيُحوطُهم في كلِّ عامٍ جامد ) حمق النعامة ويقولون : أحْمَقُ مِنْ نَعَامة كما يقولون : أَشْرَدُ مِنْ نعامة قالوا ذلك لأنّها تدَعُ الحَضْن على بيضِها ساعةَ الحاجة إلى الطُّعم فإن هي

في خروجِها ذلك رأتْ بيضَ أخرى قد خرجت للطُّعم حضَنت بيضَها ونسِيت بيضَ نفسها ولعلَّ تلك أن تُصادَ فلا ترجعُ إلى بيضها بالعَرَاء حتَّى تهلِك قالوا : ولذلك قال ابن هَرْمة : ( فإنِّي وتَرْكي نَدَى الأَكرَمِينَ ** وقَدْحِي بكَفِّيَ زَنْداً شَحَاحا ) ( كتاركةٍ بيضَها بالعَرَاء ** ومُلبِسةٍ بَيضَ أُخْرَى جناحا ) وقد تحضُن الحمامُ على بيض الدَّجاج وتحضُن الدَّجاجةُ بيضَ الطاوُس فأمَّا أن يَدَعَ بَيضَه ويحضُنَ بيضَ الدَّجاجة أو تَدَعَ الدجاجةُ بيضَها وتحضُن بيضَ الطاوس فلا فأمَّا فَرُّوجُ الدَّجاجة إذا خرج من تحت الحمامة فإنَّهُ يكونُ أكيسَ وأَمَّا الطاوُس الذي يخرج من تحت الدَّجاجة فيكون أقلَّ حسناً وَأَبْغَضَ صوتاً .
الفرخ والفروج وكلُّ بيضةٍ في الأرض فإنَّ اسمَ الذي فيها والذي يخرُج منها فرخ إلاَّ بيضَ الدَّجاج فإنَّه يسمى فرُّوجاً ولا يسمَّى فرخاً إلاَّ أن الشعراء يجعلون الفَرُّوج فَرخاً على التوسُّع في الكلام ويجوِّزون في الشعر أشياءَ لا يجوِّزونها في غير الشعر قال الشاعر : ( لَعَمْرِي لأَصْواتُ المَكَاكيِّ بالضُّحَى ** وسَودٌ تَدَاعى بالعشيِّ نَواعِبُه ) ( أحبُّ إلينا من فِراخِ دَجاجةٍ ** ومِنْ دِيكِ أنباطٍ تَنُوسُ غباغِبُه )

وقال الشماخ بن ضرار ألا مَنْ مُبلغٌ خاقانَ عنِّي تأمَّلْ حِينَ يضربُك الشِّتاءُ ( فتجعل في جنابك من صغير ** ومن شيخٍ أَضرَّ به الفَناءُ ) ( فراخ دَجاجةٍ يَتْبَعْنَ دِيكاً ** يَلُذْنَ به إذا حَمِس الوَغَاء ) فإنْ قلت : وأيُّ شيء بلَغَ من قدْر الكلبِ وفضيلة الديك حتَّى يتفرّغ لذكر محاسِنهما )
ومساويهما والموازنة بينهما والتنوية بذكرهما شيخان من عِلْيةِ المتكلِّمين ومن الجلة المتقدِّمين وعلى أنَّهما متى أبرما هذا الحكمَ وأفصحا بهذه القضيَّة صار بهذا التدبير بهما حظٌّ وحكمة وفضيلة وديانة وقلدَهما كلُّ مَن هو دونَهما وسيعودُ ذلك عذراً لهما إذا رأيتهما يوازيان بين الذِّبَّان وبناتِ وَرْدانَ وبين الخنافس والجِعْلان وبينِ جميع أجناس الهمَج وأصناف الحشراتِ والخشاش حتَّى البعوض والفَراش والديدان والقِردان فإن جاز هذا في الرأي وتمَّ عليه العمل صار هذا الضَّربُ من النظر عِوضاً من النَّظَر في التوحيد وصار هذا الشكلُ من التمييز خَلَفاً من التعديل والتجوير وسقَط القولُ في الوعد والوعيد ونُسي القياسُ والحكم في الاسم وبطَلَ الردُّ على أهلِ الملل والموازنةُ بين جميع النِّحَل والنظرُ في مراشد الناس ومصالحهم وفي منافِعهم ومَرافقهم لأنَّ قلوبَهم لا تتَّسع للجميع وألسنَتهم لا تنطِلق بالكلِّ وإنَّما الرأيُ أن تبدأ من الفتق بالأعظم والأخوف فالأخوف .


وقلتَ : وهذا بابٌ من أبواب الفراغ وشكل من أشكال التطرُّف وطريق من طرق المزاح وسَبيلٌ من سُبُل المضاحك ورجالُ الجدَِّ غير رجالِ الهزْل وقد يحسُن بالشَّبَابِ ويقبُح مثلُه من الشيوخ ولولا التحصيلُ والموازنَة والإبقاء على الأدب والدَّيانة بشدَّة المحاسبة لما قالوا : لكلِّ مقامٍ مقال ولكلِّ زمانٍ رجالٌ ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة ولكلِّ طعامٍ أكلة .
تنوع الملكات وقوتها وضرورة ظهورها قد زعم أناسٌ أنَّ كلِّ إنسانٍ فيه آلةِ لَمِرْفِقٍ من المرافق وأداةٌ لمنفعةٍ من المنافع ولا بدَّ لتلك الطبيعة من حركةٍ وإنْ أبطأَت ولا بدَّ لذلك الكامنِ من ظهور فإنْ أمكَنهُ ذلك بعثَه وإلاَّ سَرَى إليه كما يسري السمُّ في البدن ونمَى كما يَنْمِي العرق كما أنّ البُزور البرّيَّة والحبَّةَ الوحشيَّة الكامنةَ في أرحام الأَرَضين لا بدَّ لها من حركةٍ عندَ زمانِ الحركة ومن التفتُّق والانتشار في إبَّانِ الانتشار وإذا صارت الأمطارُ لتلك الأرحامِ كالنُّطفة وكان بعضُ الأرض كالأُم الغاذية فلا بدَّ لكلِّ ثديٍ قوِيٍّ أن يُظهِر قُوَّتَه كما قال الأوّلُ : ولا بدَّ للمصدور يوماً من النَّفْثْ

وقال : ولا بدَّ من شَكوى إذا لم يكنْ صبرُ ولذلك صارَ طلبُ الحسابِ أخفَّ على بعضهم وطلبُ الطِّبِّ أحبَّ إلى بعضهم وكذلك النِّزاع إلى الهندسة وشغَفُ أهلِ النُّجوم بالنُّجوم وكذلك أى ضاً ربَّما تحرَّك له بعد الكَبرَة )
وصَرف رغبتَه إليه بعد الكهولة على قدر قوَّة العِرق في بدنه وعلى قدْر الشَّواغل له وما يعترضُ عليه فتجد واحداً يَلهج بطلب الغِناء واللحون وآخر يلهج بشهوة القتال حتى يَكْتَتِبَ مع الجُند وآخر يختار أن يكون ورّاقاً وآخر يختارُ طلبَ الملك وتجِدُ حرصَهم على قدر العلل الباطِنة المحرِّكة لهم ثمَّ لا تَدْرِي كيف عرضَ لهذا هذا السّببُ دونَ الآخَرِ إلاَّ بجملة من القول ولا تجدُ المختارَ لبعض هذه الصناعات على بعضٍ يعَلمْ لم اختارَ ذلك في جملةٍ ولا تفسير إذْ كان لم يَجْرِ منه عَلَى عِرْق ولا اختارَه على إرْث .
من سار على غير طبعه وليس العجبُ من رجلٍ في طباعه سببٌ يَصِل بينه وبينَ بعض الأمور ويحرِّكه في بعض الجهات ولكنَّ العجبَ ممَّن يموت مغنِّياً وهو لا طبعَ

له في معرفة الوزن وليس له جِرمٌ حسَن فيكون إن فاته أن يكون معلِّماً ومغنِّيَ خاصَّة أنْ يكون مُطرباً ومُغَنِّيَ عامّة وآخر قد ماتَ أن يُذكرَ بالجود وأن يسخَّى على الطعام وهو أبِخلُ الخلق طبعاً فتراه كلفاً باتِّخاذ الطيِّبات ومستَهتَراً بالتكثير منها ثمّ هو أبداً مفْتَضِحٌ وأبداً منتقض الطباع ظاهرُ الخطأ سيِّئ الجزع عندَ مؤاكلةِ من كان هو الداعيَ له والمرسِلَ إليه والعارفِ مقْدارَ لَقْمِه ونهايةَ أكله فإنْ زعمتم أنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء إنَّما هو رهنٌ بأسبابه وأسيرٌ ُ في أيدي عِلَله عذَرتم جميعَ اللئام وجميع المقصِّرين وجميعَ الفاسقين والضالِّين وإن كان الأمر إلى التمكين دونَ التسخير أفَليس من أعجبِ العجبَ ومن أسوأ التقدير التمثيل بين الدِّيَكة والكِلاب . قَدْ عَرَفنا قولَك وفهمْنا مذهبَك .
فأما قولُك : وما بلَغ من خَطَر الديك وقدر الكلب فإنَّ هذا ونحوَه كلامُ عبدٍ لم يفهم عن ربِّه ولم يَعقِل عن سيِّده إلاَّ بقدْر فهمِ العامَّةِ أو الطبقةِ التي تلي العامَّة كأنَّكَ فهَّمك اللّه تعالى تظنُ أنَّ خَلْقَ الحيَّةِ والعقرَب والتدبيرَ في خلقِ الفَراش والذباب والحكمةَ في خلْق الذئاب والأسدِ وكلِّ مبغَّضٍ إليك أو محقَّر عندك أو مسخَّرٍ لك أو واثبٍ عليك أنَّ التدبير فيه مختلِفٌ أو ناقص وأنَّ الحكمةَ فيه صغيرةٌ أو ممزوجة .


مصلحة الكون في امتزاج الخير بالشر اعلم أنَّ المصلحةَ في أمرٍ ابتداء الدنيا إلى انقضاءِ مُدَّتها امتزاجُ الخير بالشرِّ والضارِّ بالنافع والمكروهِ بالسارِّ والضَّعَةِ بالرِّفعة والكَثرة بالقِلَّة ولو كان الشرُّ صِرْفاً هلَكَ الخلقُ أو كان الخيرُ ) مَحضاً سقَطت المِحْنة وتقطَّعَتْ أسبابُ الفِكرة ومع عَدَم الفِكرةِ يكون عَدَمُ الحكمة ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز ولم يكن للعالِمِ تثبُّتٌ وتوقُّف وتعلُّم ولم يكن علم ولا يُعرف بابُ التبيُّن ولا دفعُ مضرةٍ ولا اجتلابُ منفعة ولا صَبْر على مكروهٍ ولا شكْرٌ على محبوب ولا تفاضُلٌ في بيانٍ ولا تَنَافس في درجةٍ وبطلَت فَرحةُ الظَّفَر وعزُّ الغلبة ولم يكن على ظهرها مُحِقٌّ يجد عزَّ الحق ومُبْطِلٌْ يجد ذِلَّة الباطل وموقنٌ يجد بَرْدَ اليقين وشاكٌّ يجد نقصَ الحَيرةِ وكَرْبَ الوُجوم ولم تكن للنفوس آمالٌ ولم تتشعَّبْهَا الأطماع ومَن لم يعرف كيف الطَّمعُ لم يعرِفِ اليأس ومن جَهِل اليأسَ جهِلَ الأمن وعادت الحالُ من الملائكة الذين هم صفوة الخلق ومن الإنس الذين فيهم الأنبياءُ والأولياءُ إلى حالِ السبُعِ والبهيمة وإلى حال الغباوةِ والبلادة وإلى حال النجوم في السُّخْرة فإنها أنقص من حالِ البهائم في الرَّتْعَةِ ومَنْ هذا الذي يسرُّه أن يكون

الشمسَ والقمرَ والنَّارَ والثلج أو برجاً من البروج أو قطعةً من الغيم أو يكونَ المَجرَّةَ بأسْرها أو مكيالاً من الماء أو مقداراً من الهواء وكلُّ شيءٍ في العالم فإنما هو للإِنسان ولكلِّ مختَبَرٍ ومُختَار ولأهل العقول والاستطاعة ولأهل التبيُّن والرويَّة .
وأين تقَعُ لَذَّة البهيمة بالعَلُوفة ولذَّة السبع بلَطْع الدَّمِ وأكل اللحم مِن سرورِ الظَّفَر بالأعداء ومِنِ انفتاحِ بابِ العلم بعد إدْمان القَرْع وأين ذلك من سرورِ السُّودَد ومن عزِّ الرياسة وأين ذلك من حال النُّبوّةِ والخِلافة ومِن عزِّهِما وساطعِ نورهما وأينَ تقعُ لذَّةُ درْك الحواسِّ الذي هو ملاقاةُ المطعَم والمشرب وملاقاةُ الصوتِ المُطرِبِ واللّونِ المونق والملمسة الليِّنة مِن السرور ولو استَوت الأمور بطَلَ التمييزُ وإذا لم تكن كلفةٌ لم تكن مَثوبة ولو كان ذلك لبطلتْ ثمرةُ التوكُّلِ على اللّه تعالى واليقينِ بأنَّه الوَزَرُ والحافظ والكالئ والدافع وأَنَّ الذي يحاسِبُك أَجْوَدُ الأَجْوَدِين وأرحَمُ الراحمين وأنه الذي يقبلُ اليسيرَ ويَهَبُ الكثير ولا يهلِك عليه إلاّ هالك ولو كان الأمرُ على ما يشتهيه الغَرِير والجاهلُ بعواقبِ الأمور لبطلَ النَّظَرُ وما يشحذ عليه وما يدعو إليه ولتعطَّلت

الأرواحُ من معانيها والعقولُ من ثِمارها ولعَدِمت الأشياءُ حظوظَها وحقوقَها .
فسبْحَان من جعل منافعَها نعمةً ومضارَّها ترجع إلى أعظم المنافع وقسّمها بين مُلِذٍّ ومُؤلم وبين مؤنِسٍ ومُوحش وبين صَغيرٍ حقير وجليل كبير وبين عدوٍّ يرصُدُك وبين عقيلٍ يحرسك وبين مُسَالمٍ يَمْنَعُكَ وبين مُعينٍ يعضُدك وجعَل في الجميع تمامَ المصلحة وباجتماعها تتمُّ النعمة وفي )
بطلانِ واحدٍ منها بُطلانَ الجميع قياساً قائماً وبرهاناً واضحاً فإنّ الجميع إنَّما هو واحدٌ ضُمّ إلى واحدٍ وواحدٌ ضُمَّ إليهما ولأنّ الكلَّ أبعاضٌ ولأنّ كلَّ جُثَّةٍ فمن أجزاء فإذا جوَّزتَ رفْعَ واحدٍ والآخرُ مثلُه في الوزن وله مثلُ علَّتِه وحظِّه ونصيبِه فقد جوَّزْتَ رفعَ الجميع لأنّه ليس الأولُ بأحقَّ من الثاني في الوقت الذي رجوتَ فيه إبطالَ الأوَّل والثاني كذلك والثالث والرابع حتَّى تأتيَ على الكلِّ وتستفرغ الجميع كذلك الأمورُ المضمَّنة والأسباب المقيَّدة ألا ترى أنَّ الجبلَ ليس بأدلَّ على اللّه تعالى مِنْ الحصاة وليس الطاوسُ المستحسنُ بأدَلَّ على اللّه تعالى مِنْ الخِنزير المستقبح والنارُ والثلج وإنْ اختلفا في جِهَة البرودة والسُّخونة فإنَّهما لم يختلفا في جهة البرهان والدَّلالة .
وأظنُّك ممَّن يرى أنَّ الطاوسَ أكرمُ على اللّه تعالى من الغراب وأن

التُّدْرُجَ أعزُّ على اللّه تعالى من الحِدَأةِ وأنّ الغزالَ أحبُّ إلى اللّه تعالى من الذئب فإنَّما هذه أمور فرّقها اللّه تعالى في عيون الناس وميَّزها في طبائع العباد فجعَلَ بعضها بهم أقربَ شبهاً وجعل بعضَها إنسيّاً وجعل بعضَها وحشيّاً وبعضها غاذِياً وبعضها قاتلاً وكذلك الدُّرَّة وَ الخَرَزة والتمرة والجَمرة .
فلا تَذْهَبْ إلى ما تريك العينُ واذهَبْ إلى ما يريك العقل .
الاعتماد على العقل دون الحواس وللأُمور حكمان : حكم ظاهرٌ للحواس وحكم باطنٌ للعقول والعقل هو الحجَّة وقد علمْنا أنَّ خَزَنَة النارِ من الملائكة ليسوا بدون خزَنَةِ الجنَّة وأنَّ ملك الموت ليس بدُونِ ملَكِ السَّحاب وإن أتانا بالغَيث وجلب الحيَاء وجبريلُ الذي يَنْزِل بالعذاب ليسَ بدونِ ميكائيل الذي ينزِل بالرحمة وإنَّما الاختلاف في المطيع والعاصي وفي طبقاتِ ذلك ومواضعه والاختلاف بين أصحابنا أنَّهم إذا استووا في المعاصي استَووا في العقاب وإذا استَووا في الطاعة استووا في الثواب وإذا استووا في عدم الطاعة والمعصية استووا في التفضل هذا هو أصل المقالة والقُطْب الذي تدورُ عليه الرحى .

التين والزيتون
وقد قال اللّه عزّ وجلَّ : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فزعم زَيدُ بنُ أسلم أنَّ التِّين دمشق والزيتون فِلَسطين وللغاليةِ في هذا تأويلٌ أرغبُ بالعِتْرة عنه وذكرِه وقد أخرَجَ اللّه تبارك وتعالى الكلامَ مُخرَجَ القسم وما تُعرَف دِمَشق إلاّ بدِمشق ولا فِلَسطين إلاّ بفلسطين فإن كنتَ إنَّما تقف من ذكرِ )
التين على مقدار طعمِ يابسِه ورَطْبه وعلى الاكتنانِ بورَقِه وأغصانه والوَقود بِعيدانه وأنّه نافعٌ لصاحب السُّلِّ وهو غذاءٌ قويٌّ ويصلُح في مواضعَ من الدواء وفي الأضْمدةِ وأنَّه ليس شيءٌ حلو إلاّ وهو ضارٌّ بالأسنانِ غيره وأنَّه عند أهلِ الكتاب الشَّجرةُ التي أكَلَ منها آدمُ عليه السلام وبورقها ستَرَ السّوءَة عند نزولِ العقوبة وأنّ صاحبَ البواسيرِ يأكله ليُزْلِقَ عنه الثفل ويسهلَ عليه مخرج الزِّبل وتقف من الزيتون على زيتِه والاصطباح به وعلى التأدُّم بهما والوَقود بشجرهما وما أشبه ذلك من أمرهما فقَدْ أسأتَ ظَنّاً بالقرآن وجهِلتَ فضلَ التأويل وليس لهذا المقدارِ عظّمهما اللّه عزّ وجلَّ وأقسَمَ بهما ونوّه بذكرهما .
ولو وقفْتَ على جَناحِ بَعوضةٍ وُقوفَ معتبِر وتأمَّلتَه تأمُّلَ متفكِّر بعد

أن تكونَ ثاقبَ النَّظرِ سليمَ الآلة غوَّاصاً على المعاني لا يعتريك من الخواطر إلاّ على حسب صحَّةِ عقلك ولا من الشواغل إلاّ ما زادَ في نشاطِك لملأت ممَّا تُوجِدك العِبرةُ من غرائب الطوامير الطِّوال والجلود الواسعةِ الكِبار ولرَأَيتَ أنَّ له من كثرة التصرُّف في الأعاجيب ومن تقلُّبه في طبقات الحكمة ولرأَيتَ له من الغزْر والرَّيع ومن الحَلب والدَّرِّ ولتَبجَّسَ عليك من كوامِنِ المعاني ودفائِنها ومن خَفِيَّاتِ الحكم وينابيعِ العلم ما لا يشتدُّ معه تعجّبُك ممَّن وقَفَ على ما في الدِّيك من الخصالِ العجِيبة وفي الكلبِ من الأمور الغريبة ومن أصنافِ المنافع وفنون المرافق وما فيهما من المِحَن الشِّداد ومع ما أودِعا من المعرفة التي مَتى تجلَّت لك تصاغَرَ عندك كَبِيرُ ما تستعظم وقلَّ في عينك كثير ما تستكثر كأنَّك تظنُّ أنَّ شيئاً وإنْ حسُن عندك في ثمنِه ومنظره أنَّ الحكمةَ التي هي في خلْقه إنَّما هي على مقدارِ ثمنه ومنظَره . ( كلمات اللّه ) وقد قال اللّه تعالى : وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ والكلماتُ في هذا الموضع ليس يُريد بها القولَ والكلامَ المؤلَّفَ من الحروف وإنَّما يريد النِّعَم والأعاجيب والصفات وما أشبه ذلك فإنَّ كلاًّ من هذه الفنون

لو وقَف عليه رجلٌ رقيقُ اللسان صافي الذهن صحيحُ الفِكْر تامُّ الأَدَاة لما بَرِح أن تحسره المعاني وتَغْمرَه الحِكَم .
وقد قال المتكلمون والرؤساء والجِلَّةُ العُظماءُ في التمثيل بين الملائكةِ والمؤمنين وفي فرقِ ما بين الجنِّ والإنس وطباعُ الجنِّ أبعدُ من طباع الإنس ومن طباعِ الديك ومن طباع الكلب وإنَّما )
ذهبوا إلى الطاعة والمعصية ويخيَّل إليَّ أنك لو كنت سمعتَهما يمثِّلان ما بين التُّدْرُج والطاوُس لَمَا اشتدَّ تعجُّبُك ونحن نرى أنَّ تمثيلَ ما بينَ خصالِ الذَّرَّة والحمامة والفيل والبعير والثَّعلبِ والذيب أعجَب ولسنا نعني أنَّ للذَّرَّة ما للطاوس من حسنِ ذلك الريش وتلاوينه وتعاريجه ولا أنَّ لها غَناءَ الفرَس في الحرب والدَّفْعِ عن الحريم لكنَّا إذا أردنا مواضعَ التدبير العجيبِ من الخلْق الخسيس والحسِّ اللطيفِ من الشيء السخيف والنَّظرِ في العواقب من الخلق الخارج من حدود الإنس والجنِّ والملائكة لم نذهب إلى ضِخَم البدَن وعِظَم الحجم ولا إلى المنظر الحسَن ولا إلى كثرة الثمن وفي القرد أعاجيبٌ وفي الدُّبِّ أعاجيب وليس فيهما كبير مَرْفِقٍ إلاّ بقدْرِ ما تتكسَّب به أصحاب القردة وإنما قصدنا إلى شيئين يَشِيعُ القولُ فيهما ويكثرُ الاعتبار ممَّا يستخرِج العلماءُ من خفِيّ أمرهما ولو جمعْنا بين الدِّيك وبين بعضِ

ما ذكرت وبين الكلب وبين وقد ذكرتَ أنَّ بعضَ ما دعاك إلى الإنكار عليهما والتعجُّبِ من أمرهما سقوطُ قدرِ الكلب ونذالتُه وبَلَهُ الدِّيكٍ وغباوتُه وأنَّ الكلبَ لا بهيمةٌ تامَّة ولا سبعٌ تامٌّ وما كان ليخرِجَه من شيءٍ من حدود الكلاب إلى حدود الناس مقدارُ ما هو عليه من الأُنس بهم فقد يكون في الشيءِ بعضُ الشبه مِنْ شيء ولا يكون ذلك مُخرِجاً لهما من أحكامِهما وحدودِهما .
تشبيه الإنسان بالقمر والشمس ونحوهما وقد يشبِّه الشعراءُ والعلماءُ والبلغاءُ الإنسانَ بالقمر والشمس والغيثِ والبحر وبالأسد والسيف وبالحيَّة وبالنَّجم ولا يخرجونه بهذه المعاني إلى حدِّ الإنسان وإذا ذمُّوا قالوا : هو الكلب والخنزير وهو القِرد والحمار وهو الثور وهو التَّيس وهو الذيب وهو العقرب وهو الجُعَل وهو القرنْبَى ثم لا يُدخِلون هذه الأشياءَ في حدود الناس ولا أسمائِهم ولا يُخرجون بذلك الإنسانَ إلى هذه الحدودِ وهذه الأسماء وسمَّوا الجاريةَ غزالاً وسمَّوها أيضاً خِشْفاً ومُهْرةً وفاخِتةً وحمامةً وزهرةً وقضيباً وخيزراناً على ذلك المعنى وصنَعوا مثلَ ذلك بالبروج والكواكب فذكَروا الأسدَ والثور والحَمَل والجدي والعقربَ والحُوت وسمَّوها بالقوس والسُّنبلة والميزان وغيرها وقال في ذلك ابن عَسَلة الشيبانيّ :

( فصَحَوتَ والنَّمَريُّ يحسَبُها ** عَمَّ السِّمَاكِ وخَالةَ النَّجْمِ ) ويُروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : نِعْمَتِ العَمة لَكُم النَّخلة خُلقت مِنْ فضلة طينةِ آدم وهذا الكلام صحيحُ المعنى لا يَعيبه إلاّ مَن لا يعرِف مجاز الكلام وليس هذا ممَّا يطَّرِد لنا )
أن نقيسَه وإنَّما نُقدِم على ما أقدَموا ونُحجم عمّا أحجموا وننتهي إلى حيثُ انتهوْا .
ونراهم يسمُّون الرجلَ جملاً ولا يسمُّونه بعيراً ولا يسمُّون المرأةَ ناقة ويسمُّون الرجلَ ثوراً ولا يسمُّون المرأةَ بقرةً ويُسَمُّونَ الرجل حماراً ولا يسمون المرأة أتاناً ويسمُّون المرأة نعجةً ولا يسمُّونها شاة وهم لا يضعون نعجةً اسماً مقطوعاً ولا يجعلون ذلك علامةً مثلَ زيد وعمرو ويسمُّون المرأة عنْزاً .

تسمية الإنسان بالعالم الأصغر
أوَ ما علمتَ أنّ الإنسان الذي خُلقت السمواتُ والأرضُ وَمَا بَينَهما مِن أجْله كما قال عزَّ وجلَّ : سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ إنَّما سَمُّوه العالَم الصغير سليلَ العالَم الكبير لِمَا وجَدوا فيه من جَمع أشكالِ ما في العالم الكبير ووجدْنا له الحواسَّ الخمسَ ووجدُوا فيه المحسوساتِ الخمس ووجدُوه يأكل اللَّحمَ والحبَّ ويجمعُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11