كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ


شعر هزليّ في الديك ( هَتَفَتْ أمُّ حُصَينٍ ** ثمَّ قالت : مَن يَنِيك ) ( فَتحتْ فَرْجاً رَحِيباً ** مِثلَ صَحراء العَتيكْ ) ( فيه وَزٌّ فيه بَطٌّ ** فيه دُرّاجٌ ودِيكْ ) حديث صاحب الأهواز عن العرب قال : وممَّا فيه ذِكْرُ الدَجَاج وليس من شِكْل ما بنَينا كلامَنا عليه ولكنَّهُ يُكتَب لما فيه من العجب قال : قال الهامَرز قال صاحب الأهواز : ما رأينا قوماً أعجب من العَرَب أتيتُ الأحنفَ بنَ قيسٍ فكلََّمته في حاجةٍ لي إلى ابن زياد وكنتُ قد ظلمت في الخَراج فكلَّمَه )
فأحسَنَ إليّ وحطّ عنِّي فأهدَيْتُ إليه هدايا كثيرةً فغَضِب وقال : إنَّا لا نأخُذُ على مَعُونتِنا أجراً فلمَّا كنتُ في بعضِ الطريق سقطتْ من ردائي دَجاجةٌ فلحقني رجلٌ منهم فقال : هذهِ سقطتْ من ردائك فأمرتُ له

بدِرْهَمٍ ثمَّ لحِقني بالأُبُلَّة فقال : أنا صاحبُ الدَّجاَجة فأمرْتُ لَهُ بدراهم ثمَّ لحقني بالأهواز فقال : أنا صاحب الدَّجاجة فقلت له : إن رأيتَ زادي بعد هذا كلِّه قد سقط فلا تُعْلمِني وهُوَ لك .
جرو البطحاء قال صاحب الكلب : كان يقال لأبي العاصي بن الربيع بن عبد العُزَّى بن عبد شمس وهو زوج المورياني أسطورة البازي والديك قال صاحب الديك لصاحب الكلب : وسنضرب لك المثلَ الذي ضَرَبه المورِيانيُّ للدِّيك والبازي : وذلك أنَّ خلاَّد بن يزيدَ الأرقط

قال : بينما أبو أيُّوب المورِيانيُّ جالسٌ في أمْره ونهيه إذ أتاه رسولُ أبي جعفرٍ فانْتُقِع لونه وطارت عصافيرُ رأسِه وأَذِن بيومِ بأسه وذعِر ذعراً نقَضَ حُبْوته واستطار فؤاده ثمَّ عاد طلقَ الوجْه فتعجَّبنا من حالَيه وقلْنا لَهُ : إنَّك لطيفُ الخاصَّة قريبُ المنزلة فلمَ ذهب بك الذُّعُر واستفرَغك الوَجل فقال : سأَضرب لكم مثلاً مِنْ أمثال الناس . زعموا أنَّ البازيَ قالَ للديك : ما في الأرض شيءٌ أقلُّ وفاءً منك قالَ : وكيف قالَ : أخذَكَ أهلكَ بيضةً فحضَنُوك ثمَّ خرجتَ على أيديهم فأطعمُوكَ عَلَى أكفِّهم ونشأتَ بينهم حتَّى إذا كبرتَ صرتَ لا يدنو منك أحدٌ إلاَّ طرتَ هاهنا وهاهنا وضَجِجْتَ وَصِحت وأُخِذتُ أنا من الجبال مسنّا فعلَّموني وألَّفوني ثمَّ يخلَّى عَنِّي فآخذُ صيدي

في الهواء فأَجيءُ بِهِ إلى صاحبي فقال له الدِّيك : إنَّك لو رأيتَ من البُزاة في سَفافيدهم مثلَ ما رأيتُ من الدُّيُوك لكنتَ أنفَرَ منِّي ولكنَّكم أنتمْ لو علمتم ما أعلَم لم تتعجَّبوا من خوُفي مع ما ترونَ من تمكُّنِ حالي .
استجادة الخيل والكلاب قال صاحب الكلب : ذكر محمَّد بن سلاَّمٍ عن سعيد بن صَخْر قال : أرسل مسلمَ بن عمرو ابن عَمٍّ لَهُ إلى الشَّام ومِصر يشتري لَهُ خيلاً فقال له : لا علم لي بالخيل وكان صاحبَ قنْص قال : ألستَ صاحبَ كلاب قال : بلى قال فَانْظرْ كلَّ شيءٍ تستحسنه في الكلب فَاستعمله في الفَرَس فقدِم بخيلٍ لم يكنْ في العرَب مثلُها . )


حاجة اَلديك إلى الدجاجة قال محمَّد بن سلاّم : استأْذنَ رجلٌ عَلَى امرأةٍ فقالت له : مَاله من حاجةٍ قالت الجارية : يريدُ أن يذكر حاجة قالت : لعلها حاجة الدِّيك إلى الدَّجَاجَة .
هرب الكميت من السجن متنكراً بثياب زوجه محمَّد بن سلاّم عن سَلاّم أبي المنذر قَالَ : حبس خالدُ بن عبد اللّه الكميتَ بن زَيْد وكانت امرأتُه تختلف إليه في ثيابٍ وهَيئة حتَّى عرَفها البوَّابُونَ فلبسَ يَوْماً ثيابَها وخرج عليهم فسمَّى في شِعره البوَّابين النَّوابحَ وسمَّى خالداً المُشْليِ :

( خرجت خروجَ القِدْحِ قدحِ ابنِ مُقْبِلٍ ** على الرَّغْم من تِلْكَ النَّوابحِ والمشليِ ) ( عليَّ ثِيابُ الغانِياتِ وتحتَها ** صَرِيمةُ عَزْمٍ أشْبَهَتْ سَلَّة النَّصْل . ) فتيا الحسن في استبدال البيض قال : وأخبرنا خَشْرَم قال : سمعتُ فلاناً البقَّالَ يسأل الحسنَ قَالَ : إنّ الصبيان يأتُونَني ببيضَتين مكسورتين يأْخذون منِّي صحيحةً واحدة قال : ليس به بأْس أرحام الكلاب محمّد بن سلاّم عن بعض أشياخه قال : قال مُصعَب بن الزُّبير على منبر مسجد البصرة لبعض بني أبي بكْره : إنما كانت أمُّكم مثلَ الكلبة ينزُو عليها الأَعفر والأسودَ والأبقَع فتؤدي إلى كلِّ كلب شِبْهَه

هذا في هذا الموضع هِجاء وأصحابُ الكلاب يرون هذا من باب النَّجابة وأنَّ ذلك من صِحّة طِباع الأرحام حين لا تختلط النُّطَف فتجيء جوارح الأولاد مختلفة مختلطة .
من وصية عثمان الخياط للشطار وقال صاحب الكلب : في وصّية عثمانَ الخيَّاطِ للشُّطَّار اللُّصوص : إيَّاكم إيّاكم وحبَّ النِّساء وسماعَ ضربِ العود وشربَ الزَّبيب المطبوخ وعليكم باتِّخاذ الغِلْمان فإنَّ غلامَك هذا أنفعُ لك من أخيك وأعونُ لك مِنْ ابنِ عمّك وعليكم بنَبيذ التَّمر وضرب الطُّنْبور وما كان عليه السلف واجعلوا النّقل باقلاّء وإن قدَتم على الفُستقِ والرَّيحان شاهَسْفَرَم

وَان قدرتم على الياسمين ودَعوا لُبس العمائم وعليكم بالقِناع والقَلَنْسوة كُفْر والخف شِرك واجعل لهوَك الحَمَامَ وهارِش الكلابَ وإِيَّاك والكباشَ واللَّعِب بالصُّقورة والشَّواهين وإيَّاكم والفهودَ فلما انتهى إلى الديك قال : والدِّيكَ فإنَّ لَهُ صبراً ونجدة وَرَوَغانا وتدبيراً وإعمالاً للسِّلاح وهو )
يبهر بهر الشُّجاع .
ثم قال : وعليكم بالنَّرد ودعوا الشِّطْرَنج لأهلها ولا تلعبوا في النَّرْد إلا بالطويلتين والودَعُ رأس مالٍ كبير وأوَّل منافعه الحذق باللَّقْف . ثمَّ حدَّثَهم بحديث يزيد بن مسعود القَيسيّ .
كراهية الكلب الأسود البهيم وقال صاحب الديك : ذكر محمَّد بن سلاَّم عن يحيى بن النضر عن أبي أميّة عبد الكريم المعلِّم قال : كان الحسنُ بن إبراهيم يكرَهُ صيدََ الكلبِ الأسودِ البهيم .
قصيدة ابن أبي كريمة في الكلب والفهد وأنشد صاحبُ الكلب قولَ أحمد بن زياد بن أبي كريمة في صفة صَيْدِ الكلب قصيدة طويلة أوّلُهَا :

( وغِبَّ غمامٍ مَزَّقتْ عن سمائه ** شاميَّةُ حصَّاءُ جُون السَّحائبِ ) ( مُواجِهِ طَلق لم يردِّد جَهامَه ** تذاؤُب أرْواح الصَّبا والجنائب ) ( بعْثتُ وأثوابُ الدُّجى قد تقلَّصَتْ ** لغرَّة مشهور من الصبُّح ثاقب ) ( قد لاح ناعِي الليل حتَّى كأنَّه ** لسَاري الدُّجَى في الفجر قنديلَ راهب ) ( تَجْنِيبِ غضْفٍ كالقِداحِ لطيفةٍ ** مُشرَّطةٍ آذانها بالمخالبِ )

( تخالُ سِياطاً في صلاها مَنُوطَةً ** طوال الهوادي كالقداح الشوازب ) ( إذا افتَرَشَتْ خَبتاً أثارتْ بمتْنِه ** عجاجاً وبالكَذَّان نارُ الحَباحِب ) ( يفوتُ خُطاها الطّرْفَ سبقاً كأنّها ** سهامُ مُغال أو رُجومُ الكواكب ) ( طِرادُ الهَوادي لاحَها كلّ شَتْوَةٍ ** بطامسة الأرجاءِ مَرْتِ المسارب ) ( تكادُ من الأَحراج تنسَلُّ كُلَّما ** رأتْ شَبَحاً لولا اعتراضُ المناكب ) ( تسُو ف وتُوفى كلَّ نَشْزٍ وفَدفدٍ ** مرابِضَ أبناءِ النِّفاق الأرانبِ ) ( كأنّ بها ذعراً يُطِير قُلوبَها ** أنينُ المَكَاكي أو صريرُ الجنادبِ )

( تديرُ عيوناً رُكِّبت في بَراطِلٍ ** كجْمر الغَضى خُزْراً ذِرَابُ الأنائب ) ( إذا مَا استُحِثّتْ لم يُجِنّ طَريدَها ** لهنَّ ضَراءٌ أو مجارِي المَذَانبِ ) ( وإن باصها صَلْتاً مدَى الطّرفِ أمسكَتْ ** عليه بدُون الجُهد سُبلَ المذاهب ) ( تكادُ تَفَرَّى الأُهبُ عنها إذا انتحت ** لنبّأة شَخْتِ الجِرْم عاري الرَّواجبِ )

( كأنّ غصون الخيزرانِ مُتُونُها ** إذا هي جَالت في طِرادِ الثَّعالب ) ( كواشرُ عن أنيابهنَّ كوالحٌ ** مُذَلّقة الآذان شوس الحواجب ) ثم وصف الفهود : ( بذلك أبغي الصّيدَ طوراً وتارة ** بمُخْطَفَةِ الأكْفالِ رُحْبِ التَّرائب ) ( مرقّقَة الأَذنابِ نُمْرٍ ظهورُها ** مخطّطةِ الآمَاق غُلبِ الغَواربِ ) ( مُدَنّرةٍ وُرْقٍ كأنّ عيونها ** حَواجِلُ تستَذْمى متونَ الرّواكب )

( إذا قلَّبتها في الفِجاج حسبتها ** سَنا ضَرَمٍ في ظُلمةِ اللَّيل ثاقبِ ) ( مُوَلّعة فطح الجِباهِ عوابسٍ ** تخالُ على أشداقِها خطَّ كاتبِ ) ( نَواصِب آذان لِطَافٍ كأنّها ** مَداهنَ للإجْراسِ من كلِّ جانبِ ) ( ذوات أشافٍ رُكِّبت في أكُفِّها ** نَوَافِذَ في صُمِّ الصُّخورِ نَواشِبِ ) ( ذِراب بلا ترهيفِ قَينٍ كأَنّها ** تعقربُ أصداغِ المِلاح الكواعِب ) ( فوارسُ مَالم تلق حَرْباً ورَجْلةٌ ** إذا آنسَتْ بالبِيد شُهبَ الكتائب )

( ترَوٍّ وَتَسْكِينٌ يَكُونُ دَريئةً ** لهنَّ بِذي الأَسْرابِ في كلِّ لاحِب ) ( تضاءَلُ حتّى لا تكادُ تُبِينُها ** عُيُونٌ لدى الصرَّات غير كواذبِ ) ( حراصٌ يَفوت البرقَ أمكثُ جَريِها ** ضِراءٌ مِبَلاّت بطول التَّجارب ) ( تُوَسِّد أجْيادَ الفَرَائِس أذرعاً ** مرَمّلةً تحكى عناق الحَبائب )

قال دِعْبلٌ الشاعر : أقمنا عند سهل بن هارونَ فلم نبرحْ حتّى كدنَا نموتُ من الجوع فلما اضطررناه قال : ياغلام ويْلَك غدِّنا قال : فأُتِينا بقَصعةٍ فيها مرقٌ فيهِ لحمُ ديك عاسٍ هرم ليس قبلَها ولا بعدَها غيرُها لا تحزُّ فيه السكين ولا تؤثِّر فيه الأضراس فاطّلع في القصعة وقلَّب بصرَه فيها ثمّ أخذ قِطْعةَ خبزٍ يابس فقلَّب جميع مَافي القَصعة حتَّى فقد الرأس من الدِّيك وحده فبقي مطرِقاً ساعَةً ثمَّ رفع رأسه إلى الغلام فقال : أين الرَّأس فقال : رميتُ به قال : ولم رميت به قال : لم أظنّك تأكله قال : ولأَيِّ شيءٍ ظَننتَ أنِّي لا آكلُه فواللّه إنِّي لأَمقتُ مَن يرمي برجليهِ فكيف من يرمي برأسه ثم قال لَهُ : لو لم

أكرهْ مَا صنَعتَ إلاّ للطِّيَرةِ والفأل لكَرهْتُه الرأس رئيسٌ وفيهِ الحواسُّ ومنه يصدَح الديك ولولا صوتُه ما أرِيدَ وفِيهِ فَرقُه الذي يُتبرّك به وعَينُهُ التي يضرب بها المثل يقال : شرابٌ كعين الديك ودِمَاغُه عجيب لوجَع الكلية ولم أرَ عَظماً قَطُّ )
أهشَّ تحت الأسنانِ من عَظْم رأسِهِ فهَلاّ إذْ ظننتَ أنِّي لا آكلُه ظننتَ أنّ العِيال يأْكُلُونه وإنْ كانَ بلَغَ من نُبْلِك أنّك لا تأْكلُه فإنّ عِنْدَنا من يأْكُلُه أوَ ما علمتَ أنّه خيرٌ من طَرَف الجَناحِ ومن السَّاق والعنق انظرْ أين هو قال : واللّه ما أدري أينَ رميتُ بِهِ قال : لكنِّي أدري أنّك رمَيت بِهِ في بطنك واللّهُ حَسيبك .

الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة
استنشاط القارئ ببعض الهزل
وإن كنَّا قد أمَلْلناك بالجِدِّ وبالاحتجاجاتِ الصحيحة والمرَوَّجة لتكثَّر الخواطر وتشحَذَ العقول فإنّا سننشِّطكَ ببعض البَطالات وبذكر العلل الظَّريفة والاحتجاجاتِ الغريبة فربَّ شعرٍ يبلُغُ بفَرْطِ غباوةِ صاحبه من السرور والضحك والاستطراف ما لا يبلغه حشدُ أحرِّ النوادر وأجمَعِ المعاني .


وأنا أستظِرفُ أمرَين استظرافاً شديداً : أحدهما استماعُ حديثِ الأعراب والأمرُ الآخَر احتجاجُ متنازِعَينِ في الكلام وهما لا يحسنانِ منه شيئاً فإنَّهما يُثيرانِ من غَريبِ الطِّيب ما يُضحِك كلَّ ثَكْلانَ وإن تشدَّد وكلَّ غضبانَ وإن أحرقَه لَهِيبُ الغضَب ولو أنَّ ذلك لا يحلّ لكان في باب اللَّهو والضَّحِك والسُّرورِ والبَطالة والتشاغُل ما يجوز في كلِّ فن .
وسنذكر من هذا الشكل عِللاً ونُورِدُ عليك من احتجاجات الأغبياءِ حُجَجاً فإنْ كنتَ ممَّن يستعمِل الملالةَ وتَعْجَل إليه السآمة كان هذا البابُ تنشيطاً لقلْبك وجَماماً لقوَّتك ولنبتدِئ النَّظرَ في باب الحمام وقد ذهب عنك الكَلالُ وحدَثَ النشاط .
وإن كنْتَ صاحبَ علمٍ وجِدٍّ وكنت ممرَّناً موقَّحاً وكنتَ إلفَ تفكيرٍ وتنقيرٍ ودراسةِ كتُب وحِلفَ تبيُّن وكان ذلك عادة لك لم يضِرْكَ مكانه من الكِتاب وتخَطِّيه إلى ما هو أولى بك

ضرورة التنويع في التأليف وعلى أنِّي قد عزمتُ واللّهُ الموفِّق أنِّي أوشِّح هذا الكتابَ وأفصِّلُ أبوابَه بنوادِرَ من ضُروبِ الشِّعر وضروبِ الأحاديث ليخرج قارئُ هذا الكتاب من باب إلى باب ومن شكل إلى شكل فإنِّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المطْرِبَة والأغانيَّ الحسنة والأوتارَ الفَصيحة إذا )
طال ذلك عليها وما ذلك إلاَّ في طريق الراحة التي إذا طالت أورثت الغفلة .
وإذا كانت الأَوائلُ قد سارتْ في صغارِ الكتب هذه السِّيرةَ كان هذا التَّدبيرُ لِمَا طالَ وكثُر أصلَحَ وما غايتنا مِن ذلك كلِّه إلاَّ أن تَستَفيدُوا خيراً .
وقال أبو الدَّرداء : إنِّي لأُجمُّ نفسي ببَعْض الباطل كراهةَ أنْ أحمِل عليها من الحق ما يملُّها .
فمن الاحتجاجات الطيِّبة ومن العِلل الملهية ما حدَّثني به ابن المديني قال : تحوَّل أبو عبد اللّه الكرْخيُّ اللِّحيانيُّ إلى

الحَرْبيَّة فادَّعى أنَّه فقيه وظنَّ أنَّ ذلك يجوزُ له لمكانِ لحيته وسَمْته قال : فألقى على باب داره البواريّ وجلس وجلس إليه بعضُ الجيران فأتاه رجلٌ فقال : يا أبا عبدِ اللّهِ رجلٌ أدخل إصبَعَه في أنفه فخرَج عليها دمٌ أيَّ شيءٍ يصنع قال : يحتجم قال : قعدتَ طبيباً أو قعدتَ فقيهاً

جواب أبي عبد الله المروزي
ّ ) وحدَّثني شمعون الطبيب قال : كنت يوما عند ذي اليَمينين طاهرِ بن الحسين فدخل عليه أبو عبد اللّه المروَزِيّ فقال طاهر : يا أبا عبدِ اللّه

مذْ كمْ دخلتَ العراق قال : منذ عِشرين سنةً وأنا صائم منذ ثلاثين سنة قال : يا أبا عبدِ اللّه سألناك عن مسألةٍ فأجبتَنا عن مسألتين

جواب شيخ كندي
وحدَّثني أبو الجهجاه قال : ادَّعى شيخٌ عندنا أنَّه من كندة قبلَ أن ينظرَ في شيءٍ من نسبِ كِنْدة فقلت له يوماً وهو عندي : ممن أنت يا أبا فلان قال : من كندة قلت : من أيِّهم أنت قال : ليس هذا موضعَ هذا الكلام عافاك اللّه .
ودخلتُ على خَتَن أبي بكر بن بريرة وكان شيخاً ينتحل قول الإباضيَّة فسمعتُه يقول : العجبُ ممن يأخذه النَّومُ وهو لا يزعم أنَّ الاستطاعة مع الفعْل قلت : ما الدليل على ذلك قال : الأشعار الصحيحة قلت : مثل ماذا قال : مثل قوله :

مَا إنْ يقَعْنَ الأَرْضَ إلاّ وفقا ومثل قوله : يَهوِين شتَّى ويقعن وفقا ومثل قولهم في المثل : وقَعَا كعِكْمَيْ عَير .
وكقوله أيضاً : ( مِكرّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدْبرٍ معاً ** كَجُلمودِ صَخْر حَطَّه السَّيلُ من علِ ) وكقوله : ( أكفُّ يدي عن أنْ تمسَّ أكفهم ** إذا نحنُ أهوَينا وحاجتنا مَعَا ) ثم أقبل عليَّ فقال : أما في هذا مقنع قلت : بلى وفي دون هذا

جواب هشام بن الحكم
وذكر محمَّدُ بنُ سلاَّم عن أبانِ بنِ عثمانَ قال : قال رجلٌ من أهل الكوفة لهشامِ ابن الحكم : أتُرَى اللّهَ عزَّ وجلّ في عدْله وفضلِه كلَّفنا ما لا نطيقُ ثمَّ يعذِّبُنا قال : قدْ واللّه فعل وكنَّا لا نستطيع أنْ نتكلَّم به .
سؤال ممرور لأبي يوسف القاضي
وحدَّثني محمّد بن الصباح قال : بينا أبو يوسفَ القاضي يسيرُ بظَهْر الكوفة وذلك بعدَ أن كتبَ كتابَ الحِيَل إذ عرضَ له ممرورٌ عندنا أطيب الخلْق فقال له : يا أبا يوسف قد أحسنتَ في كتاب الحيل وقد بقيتْ عليكَ مسائلُ في الفِطن فإنْ أذِنت لي سألتك عنها قال : قد أذنتُ لكَ فَسَلْ قال : أخبرْني عن الحِرِ كافرٌ هو أو مؤمن فقال أبو يوسف : دينُ الحرِ دينُ المرأة ودينُ صاحبةِ الحِر : إن كانت كافرةً فهو كافر وإن كانت مؤمنةً فهو مؤمن قال : ما صنعت

شيئاً قال : فقل أنت إذَنْ إذْ لم ترض بقولي فقال : الحِرُ كافر قال : وكيف علمت ذلك قال لأنَّ المرأةَ إذا ركعَتْ أو سجَدَتْ استدبر الحِرُ القِبلة واستقبلت هي القبلة ولو كان دينُه دينَ المرأة لصنع كما تصنع هذه واحدةٌ يا أبا يوسف قال : صدقت .
قال : فتأذن لي في أخرى قال : نعم قال : أخبرني عنك إذا أتيتَ صحراءَ فهجمْتَ على بَول وخِراء كيف تعرف أبولُ امرأةٍ هو أم بول رجل قال : واللّه ما أدري قال أجل واللّه ما تدري قال : أفتعرف أنت ذاك قال : نعم إذا رأيت البول قد سال على الخِراء وبين يديه فهو بولُ امرأة وخِراء امرأة وإذا رأيت البولَ بعيداً من الخِراء فهو بول رجل وخِراء رجل قال : صدقت .
قال : وحكى لي جوابَ مسائلَ فنسيت منها مسألة فعاودته فإذا هو لا يحفظها .

جواب الحجاج العبسي
وحدَّثني أيُّوب الأعورُ قال قائل للحجاج العبْسي : ما بال شعر الاسْتِ إذا نبتَ أسرع والتفّ قال : لقربه من السَّماد والماء هطِلٌ عليه .
جواب نوفل عريف الكناسين
وحدَّثني محمَّد بن حسَّان قال : وقفتُ على نوفلٍ عَريفِ الكنَّاسين وإذا مُوسْوَس قد وقف عليه وعندَه كلُّ كنَّاس بالكَرْخ فقال له الموسوَس : ما بال بنتِ وردان تدعُ قعرَ البئر وفيه كُرُّ خِراء وهو لها مُسْلمٌ وعليها موفر وتجيء تطلب اللُّطاخة التي في است أحدنا وهو قاعدٌ على المَقْعَدة فتلْزم نفسها الكُلفةَ الغليظة وتتعرَّض للقتل وإنَّما هذا الذي في أستاهنا قيراط من ذلك الدرهم وقد دفعنا إليها الدِّرهم وافياً وافراً قال : فضحك القوم فحرَّك نوفلٌ رأسَه ثم قال : أتضحكون قدْ واللّهِ سأل الرجل فأجيبوا وأمَّا أنا فقد واللّه فكَّرت فيها منذ ستِّينَ سَنَةً ولكنَّكم لا تنظرون في شيءٍ من أمر صناعتكم لا جَرَمَ أنَّكم لا ترتَفِعُون أبداً قال له الموسوَس : قلْ يرحمُك اللّه فأنتَ زعيمُ القوم فقال نوفل : قد علمنا أنَّ الرُّطَب

أطْيبُ من التَّمر والحديثَ أطرف من العتيق والشيءَ من مَعْدنِه أطيَب والفاكهةَ من أشجارِها أطرف قال : فغضب شريكَه مسبِّح الكنَّاس ثم قال : واللّه لقد وبَّختنا وهوَّلتَ علينا حتى ظنَنَّا أنَّك ستُجيب بجوابٍ لا يحسنُه أحد ما الأمرُ عندَنَا وعند أصحابنا هكذا قال : فقال لنا الموسوس : ما الجواب عافاكم اللّه فإنِّي ما نمتُ البارحةَ من الفِكرَة في هذه المسألة قال مسبِّح : لو أنَّ لرجلٍ ألفَ جاريةٍ حسناء ثم عتَقْنَ عندَه لبردَت شهوتُه عنهنَّ وفترت ثمَّ إن رأى واحدةً دون أخسِّهن في الحسْن صبا إليها وماتَ من شهوتها فبنت وردانَ تستظرف تلك اللطاخة وقد ملَّت الأولى وبعضُ الناسِ

الفطيرُ أحبُّ إليهم من الخمير وأيضاً إنّ الكثيرَ يمنَع الشَّهوة ويورث الصُّدود قال : فقال الموسوس واستحسَنَ جوابَ مسبِّح بعد أن كان لا يرى جواباً إلاّ جواب نوفل : لا تعرفُ مِقدارَ العالمِ حتَّى تجلسَ إلى غيره أنتم أعلم أهل هذه المدَرة ولقد سألتُ علماءَها عنهُ منذُ عشرينَ سنةً فما تخلّصَ أحدٌ منهم إلى مثلِ ما تخلّصْتم إليه وقدْ واللّه أنَمْتم عيني وطابَ بكم عيشي وقد علمنا أنّ كلّ شيءٍ يُسْتَلبُ استلاباً أنَّه ألذ وأطيب ولذلك صارَ الدَّبيبُ إلى الغِلمان ونيكهم على جهة القهر ألذ وأطيب وكلُّ شيءٍ يصيبهُ الرَّجل فهو أعزُّ عليه من المال الذي يرثه أو يوهب له . )
علة الحجاج بن يوسف قال : وحدَّثني أبانُ بن عثمانَ قال : قال الحجَّاجُ بنَ يوسفَ : واللّهِ لَطَاعتي أوجَبُ مِنْ طاعةِ اللّه لأنَّ اللّه تعالى يقول : فاتَّقُوا اللّه مَا استَطَعْتُم

فجَعَلَ فيِهَا مَثنَوِيَّةً وقال : وَاسْمعُوا وَأطِيعُوا ولم يَجْعَلْ فيها مثنَويَّة ولو قلتُ لرجل : ادخل مِن هذا الباب فلم يدخل لَحَلَّ لي دمُه .

احتجاج مدني وكوفي
قال : وأخبرني محمَّد بن سليمانَ بنِ عبد اللّه النوفليُّ قال : قال رجلٌ من أهل الكوفة لرجل من أهل المدينة : نحن أشدُّ حبَّاً لِرَسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آلِه مِنْكُم يا أهلَ المدينة فقال المدنيّ : فما بَلَغَ مِنْ حُبِّكَ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله قال : ودِدت أنِّي وَقيتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنَّه لم يكنْ وصَلَ إليه يومَ أُحُدٍ ولا في غيره من الأيَّام شيءٌ من المكروه يكرهه إلا كان بي دونَه فقال المدنيُّ : أفَعِنْدَكَ غيرُ هذا قال : وما يكون غيرُ هذا قال : ودِدْتُ أنَّ أبا طالبٍ كانَ آمَنَ فسُرَّ به النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وأنِّي كافر

وحدَّثني أبانُ بنُ عثمان قال : قال ابنُ أبي ليلى : إنّي لأُسَايرُ رجلاً من وُجوهِ أهل الشّاً م إذْ مرَّ بحمَّالٍ معَه رُمَّان فتناولَ منه رُمَّانَة فجَعَلها في كُمِّه فَعَجِبْتُ من ذلك ثمَّ رجعت إلى نفسي وكذَّبت بصرى حتَّى مرَّ بسائِلٍ فقير فأخرجها فناوَله إيَّاها قال : فعلمتُ أنِّي رأيتُها فقلتُ له : رأيتُك قَد فعلتَ عجباً قال : وما هو قلت : رأيتُك أخذْتَ رُمَّانَةً مِنْ حَمَّال وأعطيتها سائلاً قال : وإنَّك ممَّن يقول هذا القولَ أما علِمتَ أنِّي أَخَذْتُها وكانت سيِّئَةً وأعطيتها فكانت عشْرَ حَسَنَاتٍ قال : فقال ابن أبي ليلى : أمَا علِمتَ أنَكَ أخذْتَها فكانتْ سيِّئةً وأعطيتَها فلم تُقْبَلَ منك

جهل الأعراب بالنحو
وقال الربيع : قلت لأعرابيٍّ : أتَهْمِزُ إسرائيل قال : إنِّي إذاً لَرَجُلُ سَوْء قلت : أتجُرُّ فِلَسطين قال : إنِّي إذاً لَقَوِيّ .
احتجاج رجل من أهل الجاهلية
قال : وحدَّثنا حمَّادُ بنُ سلَمَة قال : كان رجلٌ في الجاهليَّة معَه مِحْجَنٌ يتناوَلُ به مَتاعَ الحاجِّ سَرِقة فإذا قيل له : سرقت قال : لمْ أسرِق إنَّما سَرَق مِحْجني قال : فقال حماد : لو كانَ هذا
الأعمش وجليسه
قال : وحدّثني محمَّد بن القاسم قال : قال الأعمشُ لجليسٍ له : أما تَشتَهي بنانيَّ زُرْقَ العُيونِ نَقِيَّة البطونِ سُودَ الظُّهور وأرغفةً

حارَّةً ليِّنة وخَلاًّ حاذقاً قال : بلى قال : فانهض بنا قال الرَّجل : فنَهضْتُ مَعه ودخل منزِلَه قل : فأومَأَ إلَيّ : أنْ خُذْ تِلك السَّلَّة قال : فكشَفها فإذا برغيفين يابسين وسُكُرَّجة كامَخِ شِبِثٍ قال : فجعل يأكل قال : فقال لي تَعال كُلْ فقلت : وأينَ السمك قال : ما عندي سمك إنما قلت لك : تشتهي . ( رأيٌ حفص بن غياث في فقه أبي حنيفة ) قال : وسُئل حفْصُ بن غِياث عن فِقه أبي حنيفة قال : كانَ أجهَلَ النَّاسِ بما يكون وأعرفَهم بما لا يكون .

علة خشنام بن هند
وأما علة خُشْنَامَ بن هند فإنَّ خشنام بن هِندٍ كان شيخاً من الغاليةِ وكان ممَّن إذا أراد أنْ يسمِّيَ أبا بكر وعُمرَ قال : الجبْتُ والطَّاغوت ومُنْكر ونكير وأُفٌّ وتُفٌّ وكُسَير وعُوَير وكان لا يَزال يُدخِل دارَه حمارَ كسَّاح ويضربه مائَةَ عصاً على أنَّ أبا بكر وعمرَ في جوفه ولم أر قَطُّ أشدَّ احترافاً منه وكان مع ذلك نبيذِيّاً وصاحبَ حمَام ويُشبه في القَدِّ والخَرْط شُيوخَ الحربيَّة وكان من بني غُبَر من صميمهم وكان له بُنَيٌّ يتبعه فكان يزنِّي أمَّه عند كلِّ حقٍّ وباطل وعِنْدَ كلِّ جِدٍّ وهَزْل قلت له يوماً ونحن

عند بني رِبْعِيّ : ويْحَكَ بأيِّ شيءٍ تستحلُّ أنْ تقذِفَ أُمَّه بالزِّنَا فقال : لو كانَ عليَّ في ذلك حَرَجٌ لما قذَفْتَها : فِلمَ تزوَّجتَ امرأةً ليس في قذْفِها حرج قال : إنِّي قد احتَلتُ حِيلةً حتَّى حلَّ لي من أجلها ما كان يحرم قلت : وما تلك الحيلة قال : أنا رجلٌ حديدٌ وهذا غلامٌ عارم وقد كنت طلَّقت أمَّه فكنتُ إذا افتريتُ عليها أثمت فقلت في نفسي إن أرَغتها وخدَعتُها حتَّى أنيكَها مَرَّةً واحدةً حلّ لي بعدَ ذلك افترائي عليها بل لا يكونُ قولي حينئذٍ فِرْية وعلِمتُ أنَّ زَنْيَةً واحدةً لا تَعدِل عشرة آلافِ فِرْية فأنا اليَوْمَ أصدُقُ ولستُ أكْذِب والصَّادِقُ مأجور إني واللّهِ ما أشكُّ أَنَّ اللّهَ إذا علم أنِّي لم أزْنِ بها تلك المرَّة إلاَّ مِن خوف الإثم إذا قذفتها أنَّهُ سيجعَلُ تلك الزَّنيةَ له طاعة فقلت : أنتَ الآن على يقين أنّ زناكَ طاعةٌ للّه تعالى قال : نعم .

حجة الشيخ الإباضي في كراهية الشيعة
قال الشَّيخُ الإباضي وقد ذهب عني اسمُه وكنيتُه وهو خَتن أبي بكر بن بَرِيرة وجرى يوماً شيءٌ من ذِكرِ التشيُّع والشِّيعة فأنكر ذلك واشتدَّ غضبُه عليهم فتوهَّمْتُ أنَّ ذلك إنَّما اعتراه للإباضيّة التي فيه وقلت : وما عليَّ إن سأَلته فإنَّه يُقال : إنَّ السائل لا يعْدمُه أنْ يسمَعَ في الجواب حُجَّةً أو حِيلةً أو مُلحة فقلتُ : وما أنكَرت من التشيُّع ومن ذكر الشِّيعة قال : أنكرتُ منه مكان الشِّين التي في أوّل الكلمة لأني لم أجد الشِّين في أوَّل كلمةٍ قطُّ إلاَّ وهي مسخوطة مثل : شؤم وشرٍّ وشيطان وشغب وشحّ وشمال وشجَن وشيب وشين وشراسة وشَنَج وشَكّ وشوكة وَشَبث وشرك وشارب وشطير وشطور وشِعرة وشاني

وشتْم وشتيم وشِيطَرْج وشنعة وشَناعة وشأمة وشوصة وشتر وشجوب وشَجَّة وشطون وشاطن وشنّ وشلَل وشِيص وشاطر وشاطرة وشاحب .
قلت له : ما سمعتُ متكلِّماً قطُّ يقول هذا ولا يبلُغه ولا يقومُ لهؤلاء القَوم قائمةٌ بعد هذا .

حيلة أبي كعب القاص
قال : وتعشَّى أبو كعبٍ القاصُّ بطفشيل كثير اللّوبِيا وأكثَر مِنه وشِرب نبيذَ تمر وغَلَّس إلى بعض المساجد ليقصَّ على أهله إذ انفتل الإمامُ من الصلاة فصادف زحاماً كثيراً ومسْجِداً مَستوراً بالبَواريِّ من البَرْدِ والرِّيح والمَطر وإذا محرابٌ غائِرٌ في الحائط وإذا الإمامُ شيخٌ ضعيف فلمَّا صلّى استدْبرَ المحرابَ وجلسَ في زاويَة منه يسبِّح وقام أبو كعبٍ فَجَعل ظهْرَه إلى وجه الإمام وَوجهه إلى وُجوه القوم وطبَّق وجه المحراب بجِسمه وَفَروته وعمامته وكسائِه وَلم يكن بين فَقحته وَبين أنف الإمامِ كبيرُ شيء وَقصّ وتحرَّك بطنُه فأَرَاد أنْ يتفرَّج بفَسوةٍ وَخاف أنْ تصير ضراطاً فقال في قَصصه : قولوا جميعاً : لا إله إلاّ اللّه وارفَعوا بها أصواتكم وفَسا فَسوةً في المحراب فدارت فيه وَجَثَمت على أنف الشيخ وَاحتملها ثمَّ كدَّه بطنُه فاحتاج إلى أخرى فقال : قولوا : لا إله إلاَّ اللّه وَارفعوا بها أصواتكم فأَرسل فَسوةً أخرى فلم تُخْطِئْ أنْفَ الشيخ

واختَنقَتْ في المحراب فخمَّر الشَّيخُ أنفَه فصار لا يدري ما يصنع إنْ هو تنفَّس قتلَتْه الرائحة وإنْ هو لم يتنفَّس مات كَرْباً فما زَالَ يُدارِي ذلك وأبو كعب يقصُّ فلم يلبَثْ أبو كعبٍ أن احتاجَ إلى أخرى وكلما طالَ لُبْثُه تولَّد في بَطْنِهِ من النَّفخ على حَسَب ذلك فقال : قولوا جميعاً : لا إله إلا اللّه وارفَعوا بها أصواتكم فقال الشيخ مِنَ المحراب وأطْلَعَ رأسَه وقال : لا تقولوا لا )
تقولوا قد قَتلني إنَّما يريد أن يفسوَ ثم جذب إليه ثوبَ أبي كعبٍ وقال : جئت إلى ها هنا لتفسوَ أو تقصّ فقال : جئنا لنقص فإذا نزلت بليَّةٌ فلا بدَّ لنا ولكم من الصَّبر فضحك الناسُ واختَلَط المجلس .
جواب أبي كعب القاصّ وأبو كعبٍ هذا هو الذي كان يقصُّ في مسجد عتَّابٍ كلَّ أربعا فاحتَبسَ عليهم في بعض الأَيام وطال انتظارُهم له فبينما هُمْ كذلك إذ جاء رسوله فقال : يقول لكم أبو كعب : انصرفوا فإنِّي قد أصبحْت اليوم مخموراً

علة عبد العزيز وأمّا علة عبدِ العزيز بشكست فإنَّ عبدَ العزيز كان له مالٌ وكان إذا جاءَ وقتُ الزَّكاة وجاء القَوّادُ بغلامٍ مؤاجَر قال : يا غلام ألك أمٌّ ألك خالات فيقول الغلام : نعم فيقول : خُذْ هذه العشرة الدراهم أو خُذْ هذه الدَّنانير مِن زكاةِ مالي فادفَعْها إليهنَّ وإنْ شئتَ أن تُبْركني بعد ذلك على جهة المكارمة فافعل وإنْ شئتَ أنْ تنْصَرِف فانصرف فيقول ذلك وهو واثقٌ أنَّ الغُلامَ لا يمنَعُه بعد أخْذ الدراهم وهو يعلم أنه لن يبلغ مِن صلاحِ طباع المؤاجَرين أن يؤدُّوا الأمانات فَغَبر بذلك ثلاثين سنة وليس له زكاةٌ إلاّ عند أمَّهات المؤاجَرين وأخَوَاتهم وخالاتهم .

احتجاج كوفي للتسمية بمحمد
وحدثني محمَّد بن عبَّاد بن كاسب قال : قال لي الفضل بن مروان شيخ من طِيَاب الكوفيِّين وأغْبيائهم : إنْ وُلِدَ لك مائَةُ ذكرٍ فسمهم كلَّهم محمداً وكنِّهم بمحمد فإنّك سترى فيهم البركة أوَ تَدْري لأيِّ شيءٍ كثر مالي قلت : لا واللّه ما أدري قال : إنَّما كثر مالي لأنِّي سمَّيتُ نَفْسي فيما بيني وبَيْنَ اللّهِ محمداً وإذا كان اسمي عندَ اللّه محمداً فما أُبالي ما قال الناس
جواب أحمد بن رباح الجوهري
وشبه هذا الحديث قول المرْوَزي : قلت : لأحمد بن رياح الجوهري اشتريتَ كساءً أبيضَ طبَريّاً بِأَربعمِائَةِ درهم وهو عند الناس فيما ترى عيونهم قُومَسيّ يساوي مائَةَ درهَمٍ قال : علم اللّه أنَّه طبريٌّ فما عليَّ ممَّا قال الناس

احتجاج حارس يكنى أبا خزيمة
وكان عندنا حارسٌ يكنى أبا خُزيمة فقلت يوماً وقد خطَر على بالي : كيفَ اكتنَى هذا العِلْجُ الأَلْكَنُ بأبي خزيمة ثمّ رأيتُه فقلت له : خبِّرني عنك أكان أبوك يسمَّى خزيمة قال : لا قلت : فجدُّك أو عمك أو خالك قال : لا قلت : فلك ابنُ يسمَّى خزيمة قال : لا قلت : فكان لك مولّى يسمى خزيمة قال : لا قلت : فكان في قريتك رجلٌ صالح أو فقيهً يسمى خزيمة قال : لا قلت : فلم اكتنيت بأبي خزيمة وأنتَ عِلجٌ ألْكَن وأنتَ فقيرٌ وأنت حارس قال : هكذا اشتهيت قلت : فلأَيِ شيءٍ اشتَهيتَ هذه الكنيةَ من بينِ جميع الكنى قال : ما يُدريني
جواب الزيادي
ِّ ) وحدثني مَسْعَدةُ بن طارق قلت للزيادِيِّ ومررتُ به وهو جالسٌ في يوم غِمق حارٍّ ومِدٍ على باب داره في شروع نهر

الجُوبار بأردية وإذا ذلك البحر يبخر في أنفه قال فقلت له بعتَ دارك وحظَّكَ مِن دارِ جدِّك زيادٍ بن أبي سفيان وتركتَ مجلِسَك في ساباط غَيث وإشرافَك على رَحبة بني هاشم ومجلسَك في الأبواب التي تلي رَحبة بني سليم وجلستَ على هذا النَّهر في مثل هذا اليوم ورضِيت بهِ جاراً قال نلتُ أطولَ آمالي في قرب هولاء البَزّازين قلت له لو كنت بقُرْبِ المقابر فقلت نزلت هذا الموضع للاتِّعاظ به والاعتبار كان ذلك وجهاً ولو كنتَ بقُرْب الحدَّادين فقلت لأتَذَكَّرَ بهذه النِّيران والكِيران نار جهنَّم كان ذلك قولاً ولو كنت اشتريت داراً بقرب العطَّارين فاعتَلَلت بطَلَبِ رائحةِ الطِّيب كان ذلك وجهاً

فأمّاً قُرْبُ البَزَّازِين فقط فهذا ما لا أعرفه أفَلَكَ فيهم دارُ غَلَّةٍ أو هلْ لك عليهم دُيُونٌ حالَّةٌ أو هلْ لك فيهم أو عِندَهم غِلمانٌ يؤدُّون الضَّريبة أو هلْ لك معَهم شِرْكة مُضارَبةٍ قال : لا قلت : فما ترجو إذاً من قربهم فلم يكن عنده إلاّ : نلت آمالي بقُرب البزَازين .
حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامة بن أشْرس قال : كان رجلٌ ممرور يقوم كلَّ يوم فيأتي دالِيةً لقوم ولا يزالُ يَمْشي مع رجال الدالية على ذلك الجذع ذاهباً وجائياً في شدَّة الحرِّ والبرد حتَّى إذا أمسى نزل إليهم وتوضَّأَ وصلَّى وقال : اللّهُمَّ اجعلْ لنا مِنْ هذا فَرجاً ومَخْرجاً ثمَّ انصرف إلى بيته فكان كذلك حتّى مات .
بين أعمى وقائده وحدَّثني المكّيّ قال : كان رجلٌ يقود أعْمَى بِكراء وكان الأعمى ربَّما عَثَرَ العَثَرَةَ ونُكِب النّكبة فيقول : اللَّهمَّ أبْدِل

لي بِه قائداً خيراً منه قال : فقال القائد : اللَّهُمَّ أبْدِلْ لي بهِ أعَمى خيراً لي منه حماقة ممرور وحدثني يزيدُ مولى إسحاقَ بن عيسى قال كُنّا في منزل صاحب لنا إذْ خرج واحدٌ من جماعتنا ليَقِيلَ في البيت الآخر فلم يلبث إلاّ ساعةً حتى سمِعناه يصيح : أوْهِ أوه قال : فنهَضْنا بأجمعنا إليه فَزعين فقلنا له : ما لك وإذا هو نائم على شقِّهِ الأيسر وهو قَابضٌ على خصيته بيده فقلت له : لم صحت قال : إذا غمزت خُصْيتي اشتكيتها وإذا اشتكيتُها صحت قال : )
فقلنا له : لا تَغْمِزْها بعدُ حتى لا تشتكي قال : نعم إن شاء اللّه تعالى .
حماقة مولاة عيسى بن علي قال يزيد : وكانت لعيسى بن عليٍّ مَولاةٌ عجوزٌ خُرَاسانيةٌ تصرُخ بالليل من ضَرَبان ضرس لها فكانت قد أرَّقت الأميرَ إسحاق فقلت له : إنَّها مع ذلك لا تَدَع أكْلَ التمر قال : فبعث إليها بالغداة فقال لها : أتأكلين التَّمر بالنَّهار وتَصِيحينَ باللَّيلِ فقالت : إذا اشتهيتُ أكلت وإذا أوجَعني صِحت .


حكاية ثمامة عن ممرور وحدثني ثمامةُ قال : مَررتُ في غبّ مطرٍ والأرضُ نَدِيَّة والسَّماءُ متغيِّمة والرِّيح شَمالٌ وإذا شَيخٌ أصْفَرُ كأَنَّه جَرَادَة قدْ جلسَ على قارعة الطَّريق وحَجّامٌ زِنجيٌّ يَحْجُمُهُ وقد وضع على كاهِله وأخْدَعَيْه مَحاجِم كل مِحْجَمةٍ كأنَّها قَعْب وقدْ مَصَّ دَمَهُ حتَّى كادَ أنْ يَستَفْرِغَه قال : فوقَفتُ عليه فقلت : يا شيخُ لِمَ تَحْتَجِم في هذا البرد قال لمكانِ هذا الصُّفار الذي بي .
صنيع ممرور وحدثني ثمامة قال : حدَّثَني سعيد بن مسلم قال : كُنا بخُراسانَ في منزل بعض الدَّهاقين ونحن شَبابٌ وفينا شيخ قال : فأتَانا رَبُّ المنزل بدُهن طيبٍ فدَهَنَ بعضُنا رأسَه وبعضنا لحيته وبعضُنا مَسَح

شارِبه وبعضُنا مَسَح يديه وأمَرَّهُما على وجهه وبعضُنا أخَذَ بطَرَف إصبعه فأدخَلَ في أنفه ومَسَح به شارِبَه فَعَمَد الشيخُ إلى بقيَّةِ الدُّهن فصبَّها في أذنه فقلنا له : ويحك خالفت أصحابكَ كُلَّهُم هل رأيْتَ أحداً إذا أَتَوْهُ بِدُهن طِيبٍ صبَّه في أذنه قال : فإنّه مع هذا يضرُّني أمْر عيصٍ سيّد بني تميم وحدَّثني مَسْعَدَةُ بنُ طارقٍ الذَّرَّاع قال : واللّهِ إنَّا لَوُقُوفٌ على حدودِ دار فلان للقِسمة ونحنُ في خصومةٍ إذْ أقْبَل عِيصٌ سيِّدُ بني تميمٍ وموسرهم والذي يصلِّي على جنائزهم فلمَّا رأيناهُ مقبِلاً إلينا أمسَكْنا عن الكلام فأقبل علينا فقال : حدِّثوني عن هذه الدَّار هَلْ ضمَّ منها بعضها إلى بعض أحد قال مسعدة : فأنا مُنْذُ ستين سنة

أفكِّرُ في كلامه ما أدري ما عَنَى به قال : وقال لي مرّة : ما من شر من ذين قلت : ولم ذاك قال : من جرا يتعلقون .
وحدّثني الخليلُ بنُ يحيى السَّلُوليُّ قال : نازَع التميميُّ بعضَ بني عمِّه في حائطٍ فبَعَث إلينا لنَشهد )
على شَهادتِه فأتاه جماعةٌ منهم الحميريُّ والزهريُّ والزِّياديُّ والبكراوي فلمّا صِرْنا إليه وقف بنا على الحائط وقال : أُشْهِدُكم جميعاً أنَّ نِصفَ هذا الحائط لي .
جواب ممرور قال : وقدِم ابنُ عمٍّ له إلى عمر بن حبيب وادَّعَى عليه ألفَ دِرهم فقال ابنُ عمِّه : ما أعرِفُ ممَّا قالَ قليلاً ولا كثيراً ولا له عليّ شيء قال : أصلحك اللّه تعالى فاكتُبْ بإنكاره قال : فقال عمر : ( أمنية أبي عتاب الجرَّار ) قال : وقلت لأبي عتّاب الجرَّار : ألا تَرَى عبدَ العزيزِ الغَزَّال وما يتكلم به في قَصَصه قال : وأيُّ شيء قاله قلت : قال : ليت اللّه تعالى

لم يَكُن خلقَني وأنا السَّاعة أعور قالَ أبو عتّاب : وقد قصَّرَ في القول وأساءَ في التمني ولكنِّي أقول : ليتَ اللّه تعالى لم يكُنْ خلقني وأنا الساعة أعمى مقطُوعُ اليدين والرجلين . ( تعزية طريفة لأبي عتَّاب الجرار ) ودخل أبو عتّاب على عمرو بن هدَّاب وقد كُفَّ بَصُره والناس يُعزُّونُه فمثَلَ بينَ يديه وكان كالجمل المحجُوم وله صوتٌ جهير فقال : يا أبا أسيد لا يسوءنَّك ذَهابُهما فلو رأيت ثوابَهما في مِيزانِك تمنّيتَ أنّ اللّه تعالى قد قَطَع يديك ورجليك ودَقَّ ظَهْرَك وأدْمى ضِلْعَكَ .

داود بن المعتمر وبعض النساء
وبينما داودُ بن المعْتَمر الصُّبَيريّ جالسٌ معي إذ مرت به امرأةٌ جميلة لها قَوَامٌ وحُسْن وعينان عجيبتان وعليها ثيابٌ بيض فنهَضَ دَاودُ

فلم أشُكّ أنّه قام ليَتْبَعها فبعثْتُ غلامي ليَعرف ذلك فلمّا رجع قلت له : قد علمت أنّك إنما قُمتَ لتكلِّمها فليس ينفعُكَ إلا الصِّدق ولا ينْجِيك منِّي الجُحود وإنما غايتي أنْ أعرف كيفَ ابتَدأتَ القول وأي شيءٍ قلتَ لها وعلمت أنَّه سيأتي بآبدة وكان مليّاً بالأوابد قال : ابتدأتُ القول بأنْ قلتُ لها : لولا ما رأيتُ عليكِ من سيماء الخَيْر لمْ أتبَعْك قال : فضَحِكتْ حتى استنَدَتْ إلى الحائط ثمَّ قالت : إنما يمنع مِثلَكَ مِن اتِّباعِ مِثلي والطَّمَع فيها ما يَرَى من سِيماء الخير فأمَّا إذْ قد صار سيماءُ الخير هو الدي يُطمِعُ في النساء فإنا للّهِ وإنا إليه راجعون .
وتبع داودُ بنُ المعتمر امرأة فلم يزلْ يُطريها حتى أجابت ودَلَّها على المنزل الذي يمكنها فيه ما يريد فتقدمت الفاجرة وعرض له

رجلٌ فشغَلَهُ وجاء إلى المنزل وقد قضى القَوْمُ حوائِجهُمْ وأخَذَتْ حاجتها فلم تنتظره فلما أتاهُمْ ولم يَرَها قالَ : أين هي قالوا : واللّه قد فَرَغْنا وذَهَبَت قال : فأيَّ طريقٍ أخَذَتْ قالوا : لا واللّه ما ندري قال فإنْ عَدَوْتُ في إثْرِها حتَّى أقُومَ على مجامع الطُرق أتُرَوْني ألحقها قالوا : لا واللّهِ ما تَلحقها قال : فقد فاتَتِ الآن قالوا : نعم قال : فعسى أن يكون خيراً فلم أسمَعْ قطُّ بإنسانٍ يشكُّ أنَّ السَّلامة من الذنوب خير غيره . ( قول أبي لقمان الممرور في الجزء الذي لا يتجزَّأ ) وسأل بعضُ أصحابنا أبا لُقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزَّأ : ما هو قال : الجزء الذي لا يتجزأ هو عليُّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له أبو العيناء محمد :

أفليس في الأرض جزءٌ لا يتجزأ غيرُه قال : بلى حَمزةُ جزءٌ لا يتجزأ وجَعَفرٌ جزء لا يتجزأ قال فما تقول في العباس قال : جزء لا يتجزأ قال : فما تقول في أبي بكر وعمر قال : أبو بكر يتجزأ وعمر يتجزأ قال : فما تقول في عثمان قال : يتجزَّأ مَرَّتين والزُّبير يتجزَّأ مرَّتين قال : فأيَّ شيءٍ تقولُ في معاوية قال : لا يتجزأ ولا لا يتجزأ .
فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الإمام جزْءاً لا يتجزأ إلى أيِّ شيءٍ ذهب فلم نقع عليه إلاّ أن يكون كان أبو لقمان إذا سمع المتكلِّمين يذكرون الجُزْءَ الذي لا يتجزَّأ هاله ذلك وكبُر في صدره وتوهَّمَ أنَّه البابُ الأكبرُ مِن عِلم الفلسفة وأن الشيءَ إذا عظُم خَطَرُه سموه بالجزء الذي لا يتجزأ .
وقد تسخَّفْنا في هذه الأحاديث واستجزْنا ذلك بما تقدَّم من العُذر وسنَذْكر قَبْلَ ذِكرِنا القول في الحمام جملاً من غُرَرٍ ونَوَادِرَ وأشْعَارٍ ونُتفٍ وفقَرٍ مِن قصائِدَ قصار وشوارِدَ وأبياتٍ لنُعطِيَ قارئ الكِتاب من كلِّ نوعٍ تَذْهَبُ إليه النُّفوسُ نصيباً إن شاء اللّه .

تناسب الألفاظ مع الأغراض
ولكلِّ ضربٍ من الحديث ضَرْبٌ من اللفظ ولكلِّ نوعٍ مِن المعاني نوعٌ من الأسماء : فالسَّخيفُ للسخيف والخَفِيفُ للخفيف والجَزلُ للجَزل والإفصاحُ في مَوضع الإفصاح والكِنايةُ في موضع الكناية والاسترسال في موضع الاسترسال .
وإذا كان مَوْضِعُ الحديثِ على أنَّهُ مُضْحِكٌ ومُلْهٍ وداخِلٌ في باب المزَاح والطِّيب فاستعْمَلتَ فيه الإعراب انقَلَبَ عن جِهَتِه وإنْ كان في لفظه سُخْف وأبْدَلْتَ السَّخافَة بالجَزالة صارَ الحديثُ الذي وَضِع على أنْ يُسرَّ النُّفوسَ يُكْرُ بها ويَأْخُذُ بِأَكظامها .

الوقار المتكلف
وبعض الناسِ إذا انتهى إلى ذِكرِ الحِرِ والأير والنيك ارتَدَع وأظهر التقَزُّز واستَعْمَلَ بابَ التَّوَرُّع وأكثَرُ مَنْ تجده كذلك فإنَّما هو رجلٌ ليس مَعَه من العَفافِ والكَرَم والنُّبْل والوَقار إلاَّ بقَدْرِ هذا الشَّكل من التَّصنع ولم يُكْشَفْ قطُّ صاحِبُ رياءٍ ونِفاقٍ إلاَّ عن لؤمٍ مُسْتَعْمَل ونذالةٍ متمكِّنة . ( تسمُّح بعض الأئمة في ذكر ألفاظ ) وقد كان لهم في عبدِ اللّه بن عباسٍ مَقْنَع حينَ سَمِعه بعضُ الناس يُنشد في المسجد الحرام : ( سقط : بيت الشعر ) ( وهنا ** إن تصدق الطير تنك لميسا )

فقيل له في ذلك فقال : إنَّما الرَّفَتُ ما كان عند النساء .
وقال الضَّحَّاك : لو كان ذلك القولُ رَفَثاً لكان قطْعُ لسانِه أحبُّ إليه مِن أن يَقُولَ هُجْراً قال شَبيبُ بن يزيد الشيباني لَيْلَةَ بَيَّتَ عتَّابَ بنَ ورَقاء : مَنْ يَنِكِ الْعَيْرَ يَنِكْ نَيَّاكا وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي اللّه عنه حينَ دخَلَ على بعض الأمراء فقال له : مَن في هذه البيوت فلما قيل له : عقائلُ من عقائل

العرب قال عليٌّ : مَنْ يَطُلْ أَيْرُ أَبِيهِ يَنْتَطق به .
فعَلَى عليٍّ رضي اللّه تعالى عنه يعوَّل في تنزيه اللفظ وتشريف المعاني .
وقال أبو بكر رضي اللّه عنه حين قال بُدَيل بنُ ورقاء للنبيّ صلى الله عليه وسلم : جئتَنا بعجرائك وسودانك ولو قد مَسَّ هؤلاء وخْزُ السِّلاحِ لَقَدْ أسْلَمُوك فقال أبو بكر رضي اللّه عنه : عَضِضْتَ ببَظْر اللاَّت .


وقد روَوْا مرفوعاً قوله : مَنْ يُعْذِرُني من ابن أمّ سباع مُقطِّعَة البُظور . ) ( لكلِّ مقام مقال ) ولو كان ذلك الموضعُ موضعَ كناية هي المستعملة وبعد فلو لم يكن لهذه الألفاظِ مواضعُ استعملها أهلُ هذه اللُّغة وكان الرأيُ ألاَّ يُلفَظَ بها لم يَكُنْ لأوَّل كونها معنًى إلاّ على وجه الخطأ ولكان في الحزْم والصَّوْنِ لهذه اللُّغة أنْ تُرْفَعَ هذه الأسماء منها .
وقد أصاب كلَّ الصَّوابِ الذي قال : لِكُلِّ مَقَامٍ مَقال .

صورة من الوقار المتكلف
ولقد دخل علينا فتًى حَدَثْ كان قَدْ وقَعَ إلى أصحاب عبد الواحد بن زيد ونحنُ عند مُوسى بن عِمْران فدارَ الحديثُ إلى أن قال الفتى : أفطرتُ البارحةَ على رغيفٍ وزيتونة ونصف أو زيتونَة وثلث أو زيتونَة وثُلْثَي زيتونة أو ما أشبه ذلك بل أقول : أكلت زيتونَة وما علم اللّه من

أخرى فقال موسى : إنّ مِن الورع ما يُبغِصُه اللّه علمَ اللّه وأظُنُّ ورَعَكَ هذا من ذلك الورع .
وكان العُتْبي ربّما قال : فقال لي المأمون كذا وكذا حينَ صارَ التَّجْمُ على قِمَّة الرأس أو حينَ جازَنِي شيئاً أو قبل أن يوازيَ هامتي هكذا هو عندي وفي أغلَبِ ظنِّي وأكرَهُ أنْ أجزِمَ على شيءٍ وهُوَ كما قلت إن شاء اللّه تعالى وقريباً ممّا نقلت فيتوقف في الوقتِ الذي ليسَ من الحديث في شيء وذلك الحديث إن كان مَعَ طلوعِ الشمسِ لم يَزِدْه ذلك خيراً وإن كان مَعَ غرُوبها لم ينقُصه ذلك شيئاً هذا ولعلَّ الحديثَ في نفسه لم يكُنْ قَطُّ ولم يَصلْ هو في تلك الليلة البتّة وهو مع ذلك زعم أنّه دخَل على أصحابِ الكَهف فَعَرف عََدَدَهم وكانت عليهم ثيابٌ سَبَنيّة وكلبهم مُمَعّط الجلد وقد قال اللّه عزَّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم : لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً .

بعض نوادر الشعر
وسنذكرُ من نوادرِ الشِّعر جملةً فإن نشطت لحِفظِها فاحفَظها فإنَّها من أشعار المذاكرة قال الثَّقفي : ( مَنْ كَانَ ذَا عَضُدٍ يُدرِكْ ظُلامَتهُ ** إن الذَّليلَ الَّذِي لَيْسَت لَهُ عضُد ) ( تَنْبُو يَدَاهُ إذَا مَا قلَّ نَاصرُهُ ** ويَأنف الضَّيمَ إنْ أثْرى لَهُ عَدَدُ ) وقال أبو قيس بن الأسلت :

( بزُّ امرئٍ مُسْتَبْسِلٍ حَاذرٍ ** للدَّهر جِلْدٍ غيرِ مِجْزَاعِ ) ( الكيْسُ والقُوَّةُ خيْرٌ مِنْ ال ** إشْفَاقِ والفهةِ والهَاعِ ) وقال عَبْدَهُ بنُ الطَّبيب : ( رَبٌّ حَبَانَا بأمْوَالٍ مُخَوَّلةٍ ** وكلُّ شيءٍ حَبَاهُ اللّهُ تَخويِلُ ) وكان عمرُ بنُ الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه يردِّد هذا النصف الآخِرَ ويَعجَبُ مِنْ جَودَة ما قَسم .


وقال المتلمِّس : ( وأعْلَمُ علْمَ حَقِّ غَيْرَ ظَنٍّ ** وتَقْوَى اللّهِ مِنْ خيْرِ العَتَاد ) ( لَحِفْظُ المال أيسر من بُغاهُ ** وضربٍ في البِلادِ بِغَيْرِ زَادِ ) ( وإصْلاَحُ القَليلِ يزيدُ فيه ** ولا يَبْقَى الكثيرُ مَعَ الفَسادِ ) وقال آخر : ( وحِفْظكَ مَالاً قَدْ عُنيتَ بجمعهِ ** أَشَدُّ من الجمْع الذي أَنت طالبُه ) وقال حُميد بن ثَور الهِلاليّ : ( أتشْغَلُ عنَّا يَابْنَ عمِّ فلن ترى أخا ** البخل إلاَّ سوف يعتلُّ بالشغل ) وقال ابن أحمر : ( هذا الثناء وأَجْدِرْ أنْ أصاحبه ** وقد يدوِّم رِيقَ الطامِعِ الأملُ )

وقال ابن مقبل : ( هَلِ الدَّهرُ إلاَّ تَارَتَان فمِنهما ** أموت وأُخْرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ ) وقال عمرو بن هند : ) ( وإن الذي ينْهاكمُ عن طلابِها ** يُناغي نِساءَ الحيِّ في طُرَّةِ البُردِ ) ( يُعَلَّلُ والأيَّامُ تنقُصُ عُمْرَه ** كما تنقص النِّيران من طرف الزَّند )

وقال أُمَيَّة إن كان قالها : ( رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوس مِنَ الأمْ ** رِ لهُ فَرْجَة كَحَلِّ العِقَال ) شعر في الغزل وقال آخر : ( رَمَتْنِي وَسِتْرُ اللّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَهَا ** عَشِيَّة آرَام الكِناسِ رَمِيمُ ) ألاَ رُبَّ يومٍ لَوْ رَمَتْنِي رَمَيْتُهَا ولكِنَّ عَهْدِي بالنِّضَالِ قدِيمُ رَمِيمُ الَّتِي قالتْ لَجارَات بَيْتِهَا ضَمِنْت لَكُمْ أَنْ لاَ يَزَالُ يَهيمُ وقال آخر : ( لم أَعْطُهَا بِيَدِي إذْ بِتُّ أرْشُفهَا ** إلاَّ تطاوَلَ غُصْنُ الجيدِ للجِيدِ )

( كما تَطَاعَمَ في خَضْرَاءَ نَاعِمَةٍ ** مطوَّقَانِ أصَاخَا بعد تغريدِ ) فإنْ سَمِعتَ بهلُكٍ للبَخيلِ فقُلْ بُعداً وسُحْقاً له مِنْ هَالكٍ مُودِي وقال أبو الأسود الدؤلي : ( المرءُ يَسْعَى ثمَّ يُدْرِكُ مَجْدُهُ ** حَتَّى يُزَيَّنَ بالَّذِي لم يَفْعلِ ) ( وتَرَى الشقيَّ إذا تكامَلَ غَيُّه ** يُرْمى ويقْذَفُ بالَّذِي لم يعْمَلِ ) ( رئيسُ حروب لا يزال ربيئةً ** مشيحٌ على محقوقف الصُّلب مُلْبَدِ ) ( صَبور على رزء المصائب حافظٌ ** من اليوم أعقاب الأحاديث في غدِ ) ( وهَوَّن وجدي أنني لم أقلْ له ** كذَبتَ ولم أبخَلْ بما ملكتْ يدي )

وقال سعيدُ بن عبد الرحمن : ( وإنَّ امرأً يُمسي ويُصْبِحُ سَالِماً ** مِنَ النَّاس إلاَّ ما جنَى لَسَعِيدُ ) وقال أكثمُ بنُ صيفيّ : ( نُربَّى ويَهْلِك آباؤنَا ** وبَيْنَا نُرَبِّي بَنِينَا فَنِينَا ) وقَال بعضُ المحدَثين : ( فالآنَ أَسْمحْتُ للخطوبِ فَلاَ ** يُلْفَى فُؤادِي مِنْ حَادِثٍ يَجِبُ ) ( قَلَّبني الدَّهرُ في قوالبه ** وكُلُّ شيءٍ ليومِه سَبَبُ ) وقال آخر : ( ألاَ يا موتُ لم أَرَ مِنْكَ بُدّاً ** أَبيتَ فما تَحِيفُ ولا تُحَابي ) ( كأنَّكَ قَدْ هجمت على مَشيبي ** كما هَجَمَ المشيب عَلَى شبابي )

وقال آخر : ( يا نفس خوضي بحَارَ الْعِلْمِ أو غُوصي ** فالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَعْمومٍ ومَخْصوصِ ) ( لا شيء في هذه الدنيا يُحاط به ** إلاَّ إحَاطَةَ مَنقوص بمنقوصِ ) شعر في التشبيه وأنشدنا للأحيمر : ( بأقَبَّ منْطَلِقِ اللَّبانِ كأنَّه ** سِيدٌ تَنَصَّل من حُجور سَعالي ) وقال الآخر : ( أراقب لمحاً من سهيلٍ كأنَّه ** إذَا ما بَدَا مِنْ دُجْية اللَّيل يطرفُ ) وقالوا : قال خلفٌ الأحمر : لم أَرَ أجمَعَ مِن بيتٍ لامرئ القيس وهو قوله :

( أفادَ وجَادَ وسَاد وزَادَ ** وقاد وذاد وعادَ وأفضل ) ولا أجمعَ مِنْ قوله : ( لهُ أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وسَاقَا نَعَامَةٍ ** وإرخاءُ سِرْحَانِ وتَقْرِيبُ تَتْفُل ) وقالوا : ولم نر في التشبيه كقوله حينَ شبّه شيئين بشيئين في حالَتين مختلفين في بيتٍ واحدٍ وهو قوله : ( كأن قلوبَ الطَّيرِ رَطْباً ويَابساً ** لدَى وكْرهَا العُنَّابُ وَ الحَشَفُ البَالي )
قطعة من أشعار النساء وسنذكرُ قِطعة من أشعارِ النساء قالتْ أعرابيَّة : ( رَأَتْ نِضْوَ أَسْفارٍ أُميمَةُ شاحباً ** على نِضْوِ أسفارٍ فجنَّ جُنُونها ) ( فقالتْ مِن أيِّ الناس أنتَ ومَنْ تَكُنْ ** فإنَّكَ مَوْلى فِرْقَةٍ لا تَزينُها )

وقالت امرأة من خثعم : ( فإنْ تسألوني مَنْ أُحِبُّ فإنَّني ** أُحِبُّ وبَيتِ اللّه كَعْبَ بْنَ طارقِ ) ( أحبُّ الفتى الجَعْدَ السَّلولِيَّ ناضلا ** على النَّاس مُعتاداً لضَرْبِ المَفارقِ ) وقالت أخرى : ( وما أحسَنَ الدُّنيا وفي الدَّارِ خالد ** وأَقَبحَها لمَّا تَجَهزَ غادِيا ) وقالتْ أُمُّ فَروة الغطَفانيَّة : ( فما ماءُ مزْنٍ أيُّ ماءٍ تقولهُ ** تَحدَّرَ مِنْ غُرٍّ طِوَالَ الذَّوَائب ) ( نَفَى نَسَمُ الرِّيحِ القَذَا عنْ متونِه ** فما إنْ بِهِ عَيبٌ يكونُ لعائبِ ) ( بأطْيبَ مِمَّن يقصُرُ الطَّرْفَ دُونَه ** تُقى اللّهِ واستحياءُ بعْضِ العَواقب )

وقال بعضُ العُشاقِ : ( وأنتِ الَّتي كلَّفتِنِي دَلَجَ السُّرَى ** وجُونُ القَطَا بالجَلْهَتَينِ جُثومُ ) ( وأنتِ الّتي أَوْرَثتِ قَلبي حَرارةً ** وقرّحتِ قَرحَ القَلب وهو كليم ) ( وأنتِ التي أسخطت قومي فكلُّهُمْ ** بَعِيدُ الرِّضَا دَانِي الصُّدُودِ كَظِيمُ ) فقالت المعشوقة : ( وأنتَ الَّذِي أخْلَفْتَني ما وَعَدْتَني ** وأشمتَّ بي مَنْ كان فِيكَ يَلومُ ) ( وأبرَزتَني للنَّاسِ حتَّى تركْتَني ** لَهُمْ غَرَضاً أُرْمى وأنتَ سَليمُ ) ( فلوْ أَنَّ قَوْلاً يكلِمُ الجسْمَ قد بَدَا ** بجلْدِيَ مِنْ قَوْل الوُشاة كُلومُ ) وقال آخر : ( شهدْتُ وبَيتِ اللّهِ أنَّكِ غادةٌ ** رَدَاحٌ وأَنَّ الوجهَ مِنكِ عَتيقُ ) ( وأنَّكِ لا تجزينني بموَدَّةٍ ** ولا أنا للهجْرانِ مِنكِ مُطيقُ )

فأجابته : ( شَهدْت وبيتِ اللّهِ أنَّكَ بارِدُ ال ** ثَّنَايا وأنَّ الخصْرَ مِنكَ رَقيقُ )
شعر مختار وقال آخر : ( اللّه يعلم يا مغيرة أنني ** قد دُستها دَوس الحصان الهيكل ) ( فأخذتها أخْذَ المقصِّب شاتَهُ ** عَجلانَ يَشويها لقومٍ نُزَّلِ ) وقال كعبُ بنُ سعدٍ الغَنَوي : ( وحَدَّثتماني أنَّما الموتُ بالقُرَى ** فكَيفَ وهاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ )

( وماءُ سماءٍ كانَ غيرَ مَجمَّةٍ ** ببَرّيّةٍ تجْرِي عَلَيهِ جنوب ) ( ومنزلة في دارِ صدقِ وغِبطةٍ ** وما اقْتالَ في حُكْمٍ عليَّ طَبيبُ ) وقال دُرَيد بن الصِّمَّة ( رئيسُ حُروبٍ لا يزَالُ رَبِيئَةً ** مشيح على مُحْقوقفِ الصُّلبِ مُلْبدِ ) ( صبورٌ على رُزء المصائبِ حافظٌ ** مِنَ اليَومِ أعقابَ الأحاديثِ في غَدِ ) ( وهَوَّنَ وَجدي أنني لم أقلْ لَهُ ** كَذَبْتَ ولم أبْخَلْ بما مَلَكَت يَدي ) قطع من البديع وقطعةٌ من البَديع قوله :

( يتبعْن منهن جُلالاً أتلعا ** أدمك في ماء المهاوي مُنْقَعَا ) وقال الراجزُ في البديع المحمود : ( قد كنت إذْ حبلُ صِباك مُدْمَش ** وإذْ أهاضيبُ الشبابِ تَبْغَشُ ) ومن هذا البديع المستَحْسَن منه قولُ حُجْر بن خالد بن مرثد : ( سمعتُ بِفِعْلِ الفاعلين فلم أَجدْ ** كفِعْلِ أبي قابوسَ حَزْماً ونائلا ) ( يُساقُ الغَمامُ الغُرُّ من كلِّ بلدةٍ ** إليك فأضحى حَوْلَ بيتِك نَازِلا )

( فأصبحَ منه كلُّ وادٍ حللتَه ** وإن كان قد َخوَّى المرابيعُ سائلا ) ( فإن أنتَ تَهْلِك يَهْلِك الباعُ والنَّدَا ** وتُضْحِي قلوصُ الحمد جَرْباء حائِلا ) ( فلا ملكٌ ما يبلغَنَّك سَعْيُهُ ** ولا سُوقةٌ ما يَمْدَحَنَّك باطلا ) ( صدق الظَّنِّ وجَودة الفِراسة ) قال أوس بن حجر : ( الألمعيُّ الذي يظنُّ بك الظ ** نّ كأَنْ قَدْ رأى وقد سمعا ) وقال عمر بن الخطَّاب : إنك لا تَنْتَفعُ بعقل الرَّجل حتّى تعرفَ صدقَ فطنته .

وقال أوس بن حجر : ( مليحٌ نَجيحٌ أخو مَأْزِقِ ** نِقابٌ يُحدَّث بالغَائبِ ) وقال أبو الفضَّة قاتِل أحمرَ بن شميط : ( فإلاَّ يَأتِكُمْ خَبَرٌ يَقِينٌ ** فإنَّ الظَّنّ يَنْقُصُ أوْ يزيدُ ) وقيل لأبي الهذيل : إنَّك إذا راوَغْت واعتلَلْتَ وأنتَ تكلِّم النظام وقمت فأحْسَنُ حالاتِك أنْ يشكَّ النَّاسُ فيكَ وفيهِ قال : خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد وقال كُثَيِّرٌ في عبدِ الملك : ( رَأيتُ أبا الوَليد غَدَاةَ جَمعٍ ** به شَيبٌ وما فَقَدَ الشَّبَابَا ) ( فقلتُ لَهُ ولا أعيا جَواباً : ** إذا شابتْ لِدَاتُ المَرْءِ شَابَا ) ( ولكنْ تَحتَ ذاكَ الشيبِ حزمٌ ** إذا ما قال أمْرَضَ أو أصابا ) وليس في جَودة الظَّنِّ بيتُ شعرٍ أحسن مِنْ بيتِ بلعاء بنِ قيس :

( وأبغى صواب الظن أعلم أنه ** إذا طاش ظن المرء طاشت مقادره ) وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوهُ .
وقال ابن أبي ربيعةَ في الظَّنِّ : ( ودَعاني إلى الرَّشادِ فؤادٌ ** كان للغَيِّ مَرَّةً قَدْ دَعاني ) ( وتَقَلَّبتُ في الفِراشِ ولا تَع ** لَمُ إلاَّ الظُّنُونَ أيْنَ مَكانِي )

من مختار الشعر
وقال ابنُ أبي ربيعة في غير هذا الباب : ( وخِلٍّ كنتُ عَينَ النُّصْحِ منْهُ ** إذا نَظَرَتْ ومستَمعاً مطيعا ) ( أطافَ بغيَّةٍ فَنَهيتُ عنها ** وقُلْتُ لَهُ أَرَى أمراً شَنيعَا ) ( أَرَدْتُ رَشادَه جَهْدي فلما ** أبَى وعَصى أَتَيناها جَميعَا ) وقال معَقِّر بن حمار البارقي : )

( الشِّعرُ لبُّ المرْءِ يَعْرِضه ** والقَوْلُ مِثلُ مَوَاقِعِ النَّبْلِ ) ( منها المقصِّر عَن رَمِيَّتِه ** ونَوَافذٌ يذهَبنَ بالخَصل ) ( أبياتٌ للمحدَثينَ حِسانٌ ) وأبياتٌ للمحْدَثين حِسَان قال العَتَّابيّ : ( وَكَمْ نِعمةٍ آتاكها اللّهُ جَزْلَةً ** مُبرَّأَةً مِنْ كُلِّ خُلْقٍ يَذِيمُها ) ( فَسلطتَ أَخلاقاً عليها ذمِيمةً ** تَعَاوَرنها حَتَّى تَفَرَّى أدِيمها ) ( وكنتَ امرأً لو شِئتَ أنْ تَبْلُغَ المدَى ** بَلَغت بأدنى نِعمَة تَسْتَدِيمُها ) ( ولكنْ فِطامُ النَّفْسِ أعسر محمَلاً ** مِنَ الصَّخرَةِ الصّمَّاء حِين ترُومُها )

وقال أيضاً : ( وكنتُ امرأً هَيَّابَةً تَسْتَفِزّني ** رضاعي بأدنى ضجْعَةٍ أستلينُها ) ( أُوافي أميرَ المؤمنين بِهمَّةٍ ** تَوَقَّلُ في نَيلِ المَعالي فنُونُها ) ( رَعى أُمَّةَ الإسلامِ فهو إمامُها ** وأدَّى إليها الحقَّ فهو أمينُها ) ( ويَستَنتج العقماء حتَّى كأنما ** تَغَلْغَلَ في حيثُ استَقَرَّ جنينُها ) ( وما كل مَوصوفٍ لَهُ يَهتَدِي ** ولا كل مَن أَمَّ الصُّوَى يَسْتَبِينُها ) ( مُقيمٌ بمستنِّ العُلا حيثُ تَلتَقي ** طوارفُ أبكارِ الخُطُوبِ وعُونُها ) وقال الحسن بن هانئ : ( قُولاَ لهارُون إمامِ الهدَى ** عندَ احتِفالِ المجلِسِ الحاشد ) ( نَصيحةُ الفَضْلِ وإشفاقُهُ ** أخلَى لَهُ وجهَكَ مِن حَاسد ) ( بصادِق الطاعةِ ديَّانِها ** وواحد الغائب والشاهد )

( أنتَ على ما بِكَ مِنْ قُدْرَةٍ ** ما أنتَ مِثلَ الفَضْل بالواجِدِ ) ( وليس على اللّه بمستنكر ** أنْ يَجْمَعَ العالَمَ في واحد ) وقال عَديُّ بن الرِّقاعِ العاملي : ( وقَصيدةٍ قَدْ بِتُّ أجْمعُ بَيْنَها ** حتَّى أُقَوِّمَ مَيْلهَا وسنادها ) ( نظَرَ المثقِّف في كُعُوب قَناتِه ** حتَّى يُقيمَ ثِقافُهُ مُنآدها ) ( وعَلِمْتُ حتَّى لَسْتُ أسْأَلُ عالِما ** عَنْ حَرْف وَاحدة لكيْ أزْدَادَهَا ) ( صَلَّى الإلهُ عَلَى امْرئٍ ودَّعته ** وأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَزَادَها )

شعر لبنت عدي بن الرقاع
قال : واجتمع ناسٌ من الشُّعَرَاء ببابِ عَديِّ بن الرقاعِ يُريدون مُماتَنَتَهُ ومُساجَلَتَه فخَرجَت إليهمْ بِنْتٌ له صغيرة فقالت : ( تجَمَّعْتُم منْ كُلِّ أَوْبٍ ومَنزل ** عَلى وَاحدٍ لا زلْتُمُ قِرْنَ واحد )

شعر لعبد الرحمن الأنصاري وهو صغير وقال عبدُ الرحمن بن حسّان الأنصاري وهو صغير : ( اللّه يَعْلَمُ أنِّي كُنْت مُشْتَغِلاً ** في دَارِ حَسَّانَ أَصْطَادُ اليَعَاسِيبَا ) وقال لأبيه وهو صبيٌّ ورجع إليه وهو يبكي ويقول : لسعني طائر قال : فصفه لي يا بنيّ قال وكان الذي لَسعه زنبوراً .

شعر سهل بن هارون وهو صغير
وقال سَهْلُ بن هارون وهو يختلف إلى الكُتَّابِ لجارٍ لهم : ( نُبِّيت بَغْلك مبْطوناً فقلت له ** فهل تَماثَل أو نأتيه عُوَّادا ) وقال طرفة وهو صبيٌّ صغير : ( يا لَكِ مِنْ قُبَّرةٍ بمَعْمَرِ ** خلا لكِ الجَوُّ فبِيضي واصفِرِي ) وقال بعض الشعراء : ( إذا ما ماتَ مَيْتٌ مِن تَميمٍ ** فسَرَّكَ أن يَعيش فجِئْ بزادِ )

( بخبزٍ أو بِلَحْمٍ أوْ بِسَمْنٍ ** أو الشَّيءْ الملفَّفِ في البِجَادِ ) ( تراه يَطوف بالآفاق حِرْصاً ** ليأكُلَ رأسَ لُقمْان بنِ عادِ ) وقال الأصمعي : الشيء الملفَّف في البِجاد : الوَطْب .
وقال أعرابيٌّ : أَلاَ بَكَرَتْ تَلْحَى قتَيْلَةُ بَعْدَما بدا في سَوادِ الرَّأس أبيض واضحُ ( لتُدرِك بالإمْساك والمَنْع ثَرْوةً ** مِنَ المال أفنتْها السّنونَ الجَوائحُ ) ( فقلت لها : لا تعذُليني فإنما ** بذِكْر النَّدَى تَبْكِي عَلَيَّ النوائح ) وقال بَشَّارٌ أبياتاً تجوز في المذاكرة في باب المنى وفي باب الحزم وفي باب المشورة وناسٌ يجعلونها للجعجاع الأزدي وناسٌ يَجعلونها لغيره وهي قوله :

( إذا بَلَغَ الرَّأيُ المَشَورَة فاستَعِنْ ** برَأْيِ نَصيحٍ أو نَصيحةِ حازِم ) ( ولا تحْسَبِ الشّورى عَلَيْكَ غَضاضَةً ** مَكَانُ الخَوافي رافِدٌ للقَوادم ) ( وأدْنِ مِنَ القُرْبى المقرِّبَ نَفْسَه ** ولا تُشْهِدِ الشّورَى امرأً غَيْرَ كاتِم ) ( وما خيْرُ كَفٍّ أمسَك الغلُّ أُخْتَهَا ** ومَا خيْرُ نَصْلٍ لَمْ يُؤيَدْ بِقائمِ ) ( فإنّك لا تَسْتطرِدُ الهَمَّ بِالمَنى ** ولا تَبْلُغُ العَليَا بغَيْرِ المَكارِمِ ) وقال بعض الأنصار : ( وبَعْضُ خلائقِ الأقوامِ دَاءٌ ** كَداءِ الشيْخ ليسَ له شفاءُُ ) ( وبَعْضُ القَوْل ليس لَهُ عِناجٌ ** كمخْض الماء ليس لَهُ إتاءُ ) وقال تأبَط شَرّاً إنْ كان قاَلها :

( شامِسٌ في القُرِّ حتَّى إذا مَا ** ذَكَت الشِّعْرى فَبَردٌ وظِلُّ ) ( ولَهُ طَعْمَانِ : أَرْيٌ وشَري ّ ** وكِلاَ الطِّعمَين قدْ ذَاقَ كُلُّ ) ( مُسْبِلٌ في الحَيِّ أحْوَى رِفَلُّ ** وإذا يغْدو فسِمْعٌ أزَلُّ ) ( مُطرِقٌ يَرشَحُ سُمًّا كما ** أَطرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السمّ صِلُّ ) ( خَبَرٌ مَا نابَنَا مُصمَئِلُّ ** جَلّ حتَى دقّ فيه الأجَلُّ )

( كُلُّ ماضٍ قَد تَرَدَّى بِماض ** كَسَنَا البَرقِ إذا ما يُسَلُّ ) ( فَاسقِنيها يا سَوَاد بنَ عَمرو ** إنَّ جِسمي بَعدَ خالي لخلُّ ) وقال سلامَة بنُ جَندَل : ( سأَجزيك بالوُدِّ الذي كان بينَنا ** أصَعْصَعُ إِنِّي سَوف أَجزِيكَ صَعْصَعا ) ( سأُهْدِي وإن كنا بتثليثَ مِدْحةً ** إليك وإن حلَّت بُيُوتك لَعلعا ) ( فإنْ يَك محموداً أبوك فإنَّنا ** وجدناك مَحمُود الخَلائقِ أروَعا ) ( فإن شئتَ أهدينَا ثناءً ومدحةً ** وإن شئت أهدينَا لَكُم مائةً معا ) فقال صعصَعة بن محمود بن بشر بن عمرو بن مرثد : الثَّناء والمدحة

أحبُ إلينا وكان أحمر بن جندل أسيراً في يده فخلَّى سبيلَه من غير فداء .
وقال أوسُ بن حَجَر في هذا الشّكل من الشّعر وهو يقع في باب الشّكر والحمد : ( لَعَمرُك مَا ملَّت ثَوَاءَ ثَويِّها ** حَليمَةُ إذْ ألْقى مراسيَ مُقعَدِ ) ( وَلَكِنْ تَلقت باليدَينِ ضَمانتي ** وَحَلَّ بفَلجٍ فالقنافذ عُوَّدي ) ( ولم تُلههَا تِلك التَّكَاليفُ إنّها ** كما شِئتَ مِنْ أُكرُومَةٍ وتَخَرُّدِ ) ( سأجزيكِ أو يَجزِيكِ عني مثَوِّبٌ ** وحَسْبُك أن يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحمَدِي )

وقال أبو يعقوب الأعور : ( فلم أجْزهِ إلاَّ الموَدَّة جاهداً ** وَحَسْبُك مِنّي أن أوَدَ وأجهدا )

من شعر الإيجاز
وأبيات تضافُ إلى الإيجاز وحَذْف الفضول قال بعضهم ووصف كِلاَباً في حالِ شَدِّها وعَدْوِها وفي سُرعةِ رفعِ قوائمها ووضعها فقال : كأنَّما تَرْفَعُ ما لَمْ يُوضَعِ ووصف آخرُ ناقة بالنشاط والقوَّة فقال : خرقَاءُ إلاَّ أنها صَنَاعِ وقال الآخر : الليلُ أخفى والنْهارُ أفضَحُ ووصف الآخر قَوْساً فقال :

وقال الآخر : ( وَمَهْمَهٍ فِيهِ السَرَابُ يَسْبَحُ ** كَأَنَما دليلُه مطوَّح ) ( يَدْأَبُ فِيهِ القَوْمُ حتّى يَطْلَحُوا ** كأنَّما بَاتُوا بِحَيْثُ أصْبَحُوا ) ومثل هذا البيت الأخير قوله : ( وكأنَّما بَدْرٌ وَصِيلُ كُتيفة ** وكأنّما مِنْ عاقِلٍ أرْمَامُ ) ومثله : ( تجاوَزْتُ حُمْرَانَ في ليلةٍ ** وقُلتُ قُسَاسٍ من الحَرْمَلِ ) ومن الباب الأوّلِ قوله : ( عادَني الهمُّ فاعتلجْ ** كُلُّ هَمٍ ّ إلى فَرَجْ ) وهذا الشِّعر لجُعَيفران الموَسْوَس .
وقال الآخَر :

( لم أقْضِ من صحْبةِ زَيدٍ أرَبي ** فتًى إذا نبّهْتَه لم يَغْضَبِ ) ( أبيضُ بَسّامٌ وإن لم يعجب ** ولا يضن بالمتاعِ المحقَب ) ( مُوَكَّلُ النَّفس بِحِفْظِ الغُيّب ** أقصى رفِيقيه له كالأقْرَب ) ( وقدْ تعَلّلتُ ذَمِيلَ العَنْس ** بالسّوْط في دَيْمومةٍ كالتّرْس ) إذْ عَرَّج اللّيلَ بروجَ الشَّمسِ وقال دُكَينٌ أيضاً : بمَوطنٍ يُنْبِطُ فيه المحتسي بالمشْرَفِيّات نِطافَ الأنْفُسِ

وقال الراجز : ( طاَلَ عليهنَّ تكاليف السّرَى ** والنّصُّ في حِينِ الهَجِيرِ والضّحى ) ( حَتَى عُجاهُنَّ فما تحت العُجى ** رَوَاعِفٌ يَخْضِبْنَ مُبْيَضَّ الحَصى ) في هذه الأرجوزة يقول : وضَحِكَ المزن بها ثمَّ بكى ومن الإيجاز المحذوف قولُ الراجز ووصف سَهمه حينَ رَمى عَيراً كيف نَفَذَ سهمه وكيفَ صرَعه وهو قوله : حتَى نجَا مِنْ جوفه وما نجا ( شعر في الاتِعاظ والزهد ) ( أنت وهَبْتَ الفِتيَةَ السَلاهِبْ ** وهَجْمةً يَحارُ فيها الطَالِبْ )

( وغنَما مِثلَ الجَرَادِ السّارِبْ ** متاعَ أيَامٍ وكُلٌّ ذَاهِبْ ) ومثله قولُ المسعوديّ : ( أخلِفْ وأنْطفْ كلُّ شي ** ءٍ زعزعتْه الريحُ ذاهبْ ) وقال القُدار وكان سيّد عَنَزة في الجاهلية : ( أهلَكْت مُهْرِيَ في الرِّهان لجَاجةً ** ومن اللّجَاجة ما يَضُرُّ وَيَنفَعُ ) قال : وسمعت عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ينشد وكان فصيحاً : ( إذا أنت لم تنفع فضرَّ فإنَما ** يُرَجَى الفتى كيما يضرَّ وينفعا ) وقال الأخطل : ( شُمْسُ العَداوةِ حتَّى يُستفادُ لهم ** وأعظمُ النّاس أحلاماً إذا قدروا )


وقال حارثة بن بدر : ( طربتُ بفاثور وما كدت أطربُ ** سَفاهاً وقَدْ جَرَّبْتُ فيمَن يجرِّب ) ( وجرّبتُ ماذا العَيْشُ إلاَّ تِعلّةٌ ** وما الدَّهر إلاّ مَنْجَنَونُ يقلّب ) ( وما اليومُ إلاَّ مِثلُ أمْس الذي مضى ** ومثلُ غدِ الجائي وكلٌّ سيَذْهب ) ( إذا الهمُّ أمسَى وَهو داءٌ فأَلْقِه ** ولَسْتَ بمُمْضِيهِ وأنتَ تعادِله ) ( فلا تُنْزِلَنْ أمْرَ الشدِيدِة بامرئٍ ** إذا رامَ أمراً عَوَّقَتْهُ عَواذِله ) ( وَقُل للفؤِاد إن نَزا بِك نزوَةً ** مِنَ الرَّوع أفْرخْ أكثَرُ الرَّوع باطِلُه ) ( شعر في الغَزْوِ ) وقال الحارثُ بن يزيد وهو جدُّ الأحَيمِر السَّعديِّ وهو يقع في باب الغزْو وتمدُّحهم ببعد المغْزى : ( لا لا أعُقُّ ولا أحو ** ب ولا أُغير عَلَى مُضرْ ) ( لَكنَّما غزوي إذا ** ضَجَّ المَطيُّ منَ الدَّبَرْ ) وقال ابن محفّض المازنيُّ :

( إن تَك دِرْعي يَوْمَ صَحرَاءِ كُليةٍ ** أُصِيبت فما ذَاكُمْ عَلَيَّ بِعارِ ) ( ألم تك منْ أسْلابكمْ قبل ذاكمُ ** عَلَى وَقَبَى يومًا ويَوْمَ سَفارِ ) ( فتلك سرابيل ابن داودَ بيننا ** عواريُّ والأيام وغير قصارِ ) ( ونحن طرَدنا الحيَّ بَكْرَ بنَ وائلٍ ** إلى سَنَةٍ مثلِ الشِّهاب وَنَارِ ) ( ومُومٍ وطاعون وحُمّى وحًصْبةٍ ** وذي لِبَدٍ يَغشى المهَجْهِجَ ضاري )

وقال آخر : ( خُذُوا العَقْلََ إن أعطاكُم القَوْم عَقْلَكُمْ ** وكونوا كَمَنْ سِيمَ الهَوَانَ فأَرتعا ) ( ولا تُكثروا فيها الضِجاجَ فإنَه ** محَا السّيف ما قالَ ابنُ دَارةَ أجْمَعا ) وقال أبو ليلى : ( كأَن قطاتها كُردُوسُ فَحل ** مقلّصة على ساقَيْ ظليمِ )

شعر في السيادة
وقال أبو سلمى : ( لابدَّ للسُّودد من أرماحِ ** ومِنْ سفِيهٍ دائمِ النُّباحِ )


ومنْ عَديدٍ يُتَّقى بالرّاحِ وقال الهذلي : ( وإنَّ سيادة الأقوام فاعْلَمْ ** لها صعْداءُ مَطلبها طويل ) وقال حارثة بن بدر وأنشده سفيان بنُ عُيينة : ( خلَت الدِّيارُ فَسُدْتُ غيْرَ مُسَوَّد ** ومِنَ الشَّقاء تفرّدي بالسُّوددِ ) وقال أبو نخيلة : ( وإنَّ بقَوْمٍ سَوَّدوك لَفَاقَةً ** إلى سَيِّدٍ لوْ يظفَرُون بسيِّدِ ) وقال إياس بن قتادة في الأحنف بن قيس : ( وإنَّ مِنَ السّادات مَن لو أطعْتَه ** دَعَاك إلى نارٍ يَفُورُ سَعيرها ) وقال حُميضة بن حذيفة : ( أيظلمهم قسراً فتبّاً لسَعيهِ ** وكل مطاعٍ لا أبالكَ يَظلِمُ )

وقال آخر : ( فأصبحتَ بعد الحلم في الحيِّ ظالما ** تخَمَّطُ فيهم والمسوَّدُ يَظْلِمُ ) وكان أنس بن مدركة الخثعمي يقول : ( عزمت على إقامةِ ذي صباحٍ ** لأمرِ ما يسوَّدُ مَنْ يسودُ ) وقال الآخر : ( كما قال الحمار لسهم رامٍ ** لقد جَمَّعْتَ من شيء لأمر ) وقال أبو حيّة : ( إذا قُلْنَ كلاَّ قال والنَّقْع ساطعٌ ** بلى وهو واهٍ بالجراءِ أباجِلُه ) ( إني رأيت أبا العوراء مرتفقاً ** بشطّ دجلة يشري التمر والسمكا ) ( كشدَّة الخيل تبقى عند مذودها ** والموت أعلم إذ قفَّى بمن تركا ) ( هذه مساعيك في آثار سادتنا ** ومن تكن أنت ساعيه فقد هلكا )

وقال شتيم بن خويلد أحد بني غراب بن فزارة : ( وقلت لسيِّدِنا يا حليمُ ** إنَّك لَمْ تأْسُ أَسْواً رَفِيقَا ) ( أعَنتَ عديّاً على شَأوها ** تُعادي فَريقاً وتُبقي فريقَا ) ( زَحرتَ بها ليلةً كلَّها ** فجئتَ بها مؤْيِداً خَنْفَقِيقَا ) وقال ابن ميادة : ( أتيتُ ابن قشراءِ العِجانِ فلم أجدْ ** لدى بَابهِ إذناً يسيراً ولا نُزْلا ) ( وإنَّ الَّذي ولاّك أمْر جماعةٍ ** لأنقَصُ من يَمْشي على قَدَم عَقلا )

شعر في المجد والسيادة
وقال آخر : ( ورِثنَا المجْد عن آباءِ صِدقٍ ** أسأْنَا في ديارِهِمُ الصَّنيعا )

( سقط : بيت الشعر ) ( إذا المجد الرفيع تعاورته ** بناة السوء أوشك أن يضيعا ) وقال الآخر : ( إذا المرءُ أثْرَى ثمَّ قال لقومِه ** أنَا السَّيِّدُ المُفْضَى إليه المعمَّمُ ) ( ولم يعْطِهمْ خيراً أبَوْا أنْ يَسُودَهُم ** وهانَ عليهمْ رَغْمُهُ وهو أظْلم ) وقال الآخر : ( تركتُ لبحرٍ دِرهَميه ولمَ يَكُنْ ** ليَدفَع عَنّي خَلَّتي دِرْهمَا بحرِ ) ( فقلتُ لبحرٍ خذْهُما واصطَرِفهُما ** وأَنفقْهما في غيرِ حمدٍ ولا أجرِ ) ( أتمنَعُ سُؤال العشيرةِ بعدَ مَا ** تسمَّيتَ بحراً وأكنيت أبا الغَمر ) وقال الهذليُّ : ( وكنت إذا ما الدّهرُ أحدَث نَكبة ** أقولُ شَوًى ما لَم يُصِبنَ صمِيمي ) وقال آخر في غير هذا الباب : ( سقى اللّه أرضاً يَعْلَمُ الضَّبُّ أَنَّها ** بعيدٌ من الأدواء طَيِبَةُ البَقْلِ ) ( بنى بيته في رأس نَشْزٍ وكُدْيةٍ ** وكلُّ امرئٍ في حِرفَةِ العَيْش ذُو عَقْل )

أبو الحارث جمين والبرذون
وحدّثني المكيُّ قال : نظر أبو الحارث جُمَّين إلى برذون يُستقى عليه ماءٌ فقال : المرء حيث يضع نفسه هذا لو قد همجلج لم يبتل بما ترى ( بين العقل والحَظ ) وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي : ( وما لُبُّ اللَّبيب بغير حظٍّ ** بأغنى في المعيشةِ من فَتيل ) ( رأَيت الحَظَّ يستُر كلَّ عَيْب ** وَهَيْهَاتَ الحُظوظ من العقول )

( هجو الخَلْف ) وقال الآخر : ( ذهبَ الَّذين أُحبُّهم سلَفاً ** وبَقِيت كالمقْهور في خَلْفِ ) ( من كلِّ مَطوِيٍّ على حَنَقٍ ** مُتَضَجِّع يُكْفَى ولا يَكفِي ) ( عبد العَين ) وقال آخر : ( ومَوْلى كَعَبْدِ العَيْن أمَّا لِقاؤه ** فيُرضى وأمّا غَيبُه فظَنُونُ ) ويقال للمرائي ولمن إذا رأى صاحبَه تحرّك له وأرَاه الخدْمة والسرعة في طاعته فإذا غابَ عنه وعن عينه خالف ذلك : إنَّما هو عَبْدُ عَين .


وقال اللّهُ عزَّ وجلّ : وَمِنْ أهْلِ الكِتَابِ مَن إنْ تَأمَنْه بِقِنطارٍ يُؤَدِّه إلَيْكَ وَمنْهُم مَنْ إنْ تأْمَنْهُ بدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّه إلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائماً .

من إيجاز القرآن
وقد ذكرنا أبياتاً تُضاف إلى الإيجاز وقِلَّة الفُضول ولي كتابٌ جَمَعْتُ فيه آياً من القرآن لتَعرِفَ بها فصل ما بينَ الإيجاز والحَذْف وبين الزّوائد والفُضول والاستعارات فإذا قرأْتها رأيت فضلها في الإيجاز والجَمْعِ للمعاني الكثيرةِ بالألفاظ القليلة على الَّذي كتبتُهُ لك في بابِ الإيجازِ وترك الفضول فمنها قوله حينَ وصفَ خمرَ أهلِ الجنّة : لاَ يُصَدَّعُون عَنْها وَلاَ يُنْزِفون وهاتان الكلمتان قد جَمَعتا جميعَ عُيوبِ خمرِ أهلِ الدُّنيا .
وقولُه عزّ وجل حينَ ذكر فاكهة أّهلِ الجنّة فقال : لاَ مَقْطُوعةٍ وَلاَ مَمْنُوعةٍ . جمع بهاتين الكلمتين جميعَ تلك المعاني .
وهذا كثيرٌ قد دَللتك عليه فإنْ أردته فموضعه مشهور .
وقال أعرابي من بني أسد : ( يقُولون ثَمِّر ما استَطَعت وإنما ** لِوَارِثِه ما ثَمَّرَ المَالَ كاسبُه ) ( فكلْهُ وأطعمْهُ وَخالِسهُ وَارِثاً ** شحيحاً ودهراً تَعْتَريكَ نوائبُهْ )
شعر في الهجاء
)


وقال رجلٌ من بني عَبْس : ( أبلغ قُراداً لقد حَكَّمتُمُ رجلاً ** لا يَعرِفُ النَّصْفَ بل قد جاوَزَ النَّصَفا ) ( كان امرأً ثائراً والحقُّ يَغْلِبُه ** فجانَبَ السَّهْلَ سَهْلَ الحقِّ واعتسفا ) ( وذاكمُ أنَّ ذُلَّ الجار حالَفَكُم ** وأنّ أنفَكُمُ لا يعرِفُ الأنَفا ) ( إنَّ المحكَّمَ ما لَمْ يَرْتَقِبْ حَسَباً ** أوْ يَرْهَبِ السَّيف أو حدَّ القَنا جنَفَا ) ( مَن لاذ بالسَّيفِ لاقى قَرضَه عجبا ** موتاً على عَجَلٍ أو عاش مُنْتَصِفَا ) ( بِيعُوا الحياة بها إذ سام طالبُها ** إمَّا رَواحاً وإما مِتَةً أنَفا )

( ليس امرؤٌ خالداً والموتُ يطلبُه ** هاتيك أجْسادُ عادٍ أصبحتْ جِيفَا ) ( أبِلغْ لَديك أبا كعب مغَلْغَلة ** أنَّ الذي بيننا قد مات أو دنِفا ) ( إنِّي لأعلَمُ ظَهْرَ الضِّغن أعْدِله ** عَنِّي وَأعْلَمُ أَنِّي آكُلُ الكتفا )

شعرحكمى
ّ ) وقال أسقفُّ نجْران : منَعَ البقَاءَ تصرُّفُ الشمسِ وطُلوعُها منْ حيْثُ لا تُمسي وطُلوعُها بَيضاءَ صافِيَةً وغروبُها صَفْراءَ كالوَرْس اليوم أَعلم ما يجيءُ بِهِ ومضى بفَصْل قضائه أَمْس

وقال عبيدُ بن الأبرص : ( وكُلُّ ذي غَيْبةٍ يَؤوبُ ** وغائِبُ الموْتِ لا يَؤوبُ ) ( مَنْ يَسْألِ النَّاسَ يَحْرِمُوه ** وسائلُ اللّهِ لا يَخيبُ ) ( وعاقرٌ مثلُ ذاتِ رحْمٍ ** وغانمٌ مثْلُ مَنْ يَخِيبُ ) ( أَفْلحْ بما شئْتَ فقَدْ يُبْلَغُ بالضَّ ** عْف وقَدْ يُخدَعُ الأريبُ ) ( المرءُ مَا عاش في تَكْذيبِ ** طُولُ الحَياةِ لَهُ تَعذِيبُ ) وقال آخر : ( وَجَعلَتْ أوْصابُها تعتادُها ** فَهْيَ زُروعٌ قد دنا حَصَادها )

مرثية في محمد المخلوع
وقال بنت عيسى بن جعفر وكان مُمْلَكَةً لمحمدٍ المخلوع حينَ قتل : )

( أبْكيِك لا للنَّعيم والأنس ** بَلْ للِمعَالي والرُّمحِ والفَرَسِ ) ( أبكي على فارسٍ فُجعْتُ به ** أرْملَني قَبْلَ لَيْلةِ العرسُ )

من نعت النساء
وقال سَلْمٌ الخاسر : ( تبدَّتْ فقلتُ الشَّمسُ عِنْدَ طلُوعِها ** بجيدٍ نقيِّ الّلونِ من أَثر الوَرْس ) ( فلما كَرَرْت الطّرفَ قلت لصَاحِبي ** على مِريْةٍ : ما هاهُنا مطلع الشمس )

شعر رثاء
وقال الآخر : ( كفى حَزَناً بدَفنِكَ ثُمَّ أَنِّي ** نَفَضْتُ تُرابَ قبَرِك عَنْ يَدَيَّا ) ( وكانت في حياتكَ لي عظاتٌ ** وأنتَ اليوْم أوعظُ منْك حَيّا ) قال مزاحمٌ العقيليّ : ( يزين سنا الماويِّ كلَّ عشيّةٍ ** على غَفَلاَت الزَّينِ والمتجَمَّلِ ) ( وجوهٌ لوَ انَّ المدْلجِينَ اعتشوْا بها ** صَدَعْنَ الدُّجى حتَّى ترى اللَّيْل ينْجَلي ) وقال الشَّمَردَل : ( إذا جَرى المسْكُ يَنْدى في مفارِقِهِمْ ** راحُوا كأنهمُ مَرْضى من الكَرَم )

( يشبَّهونَ ملوكاً من تجلّتهم ** وطولِ أنضية الأعناق والأُمم ) النضيُّ : السَّهم الذي لم يُرَش يعني أن أعناقهم مُلسٌ مستوية والأمم : القامات .
وقال القتَّال الكلابيّ : ( يا لَيتَني والمُنى لَيست بنافعةٍ ** لمالكٍ أو لحِصْنٍ أو لسَيَّارِ ) ( طوال أنضيَة الأعناق لم يجدوا ** ريحَ الإماء إذا راحت بأزفار ) ( لم يرْضَعوا الدَّهر إلا ثدَْيَ واضِحةٍ ** لواضِحِ الوَجْهِ يَحمِي باحَةَ الدَّارِ ) وقال آخر : ( إذا كان عَقْلٌ قلتُمُ إنَّ عَقْلَنَا ** إلى الشَّاء لم تْحلُلْ عَلينا الأباعِرُ ) ( وإنَّ امرأً بعدِي يُبادل وُدَّكُمْ ** بُودِّ بني ذبيان مولى لخاسِرُ )

( سقط : بيت الشعر ) ( أولئك قوم لا يهان هديهم ** إذا صرحت كحل وهبت أعاصر ) ( مَذاليق بالخَيل العِتاق إذا عَدَوا ** بأيديهمُ خطِّيَّة وبَواتِرُ )
وقال أبو الطَّمَحَان القَينيّ في المعنى الذي ذكرنا : ( كم فيهمُ مِنْ سَيِّدٍ وابنِ سَيِّد ** وَفيٍّ بعَقْدِ الجَارِ حِينَ يُفارقُه ) ( يكاد الغَمام الغُرُّ يُرْعِدُ أنْ رَأى ** وُجُوهَ بَني لأمٍ ويَنْهَلُّ بارقُه ) وقال لَقِيطُ بن زرارة : ( وإنِّي مِنَ القَوْْمِ الذين عَرَفْتمُ ** إذا مات منْهُمْ سَيِّدٌ قامَ صاحبُه ) ( نجومُ سماءٍ كُلما غار كوْكَبٌ ** بَدَا كَوْكَبٌ تأوي إليه كواكبُه ) ( أضاءَتْ لهمْ أحسابهُمْ ووُجُوههُم ** دُجَى اللّيلِ حتَّى نَظَّمَ الجزعَ ثاقِبه ) وقال بعض التميميِّين يمدَح عوفَ بنَ القَعْقاع بنِ مَعْبَدِ بن زرارة : ( بحقِّ امرئ سرو عتيبة خاله ** وأنت لَقعقاعٌ وعمُّك حاجبُ ) ( دراري نجوم كلما انقض َّ كوكبٌ ** بدا كوكب ترفضُّ عنه الكواكبُ )

وقال طفَيلٌ الغَنَويُّ : ( وكانَ هُريمٌ مِن سِنانٍ خَلِيفةً ** وعمرو ومن أسماءَ لَّما تَغَيّبُوا ) ( نجومُ ظلام كلما غاب كوكبٌ ** بَدَا ساطِعاً في حِنْدِس اللّى لِ كوْكب ) ( بقيَّة أقمارٍ من الغُرِّ لو خَبتْ ** لَظلَّت مَعَدُّ في الدُّجى تَتكَسَّعُ ) ( إذا قمرٌ منهم تَغَوَّرَ أو خَبا ** بدَا قَمرٌ في جانب الليل يَلْمَعُ ) وقال بعضُ غنِيٍّ وهو يمدح جمَاعة إخوة أنشدنيها أبو قطَن الذي يقال له شهيد الكَرَم : ( حَبِّر ثَناءَ بني عمرٍ و فإنَّهمُ ** أُولو فُضولٍ وأنْفالٍ وأخطارِ ) إنْ يُسْأَلوا الخَيْرَ يُعطوهُ وَإنْ جُهِدُوا فالجهْدُ يُخْرج منْهُمْ طِيبَ أخبار

وإنْ تَودَّدْتَهم لانُوا وإن شُهِموا كشفْتَ أذمَار حربٍ غَيرَ أغمارِ مَن تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقَيتُ سَيِّدَهُمْ مِثْلُ النُّجوم التي يسري بها السَّاري وقال رجلٌ ْ من بني نهشل : ( إنِّي لمِنْ مَعْشر أفْنَى أوائلَهُمْ ** قيلُ الكُماةِ ألا أَينَ المحامُونا ) ( لو كانَ في الألف منَّا واحدٌ فدَعَوْا ** مَنْ فارسٌ خالَهُمْ إيّاهُ يَعنُونا ) ( وليسَ يَذْهَبُ مِنّا سَيِّدٌ أبَداً ** إلاَّ افتلَيْنا غُلاماً سَيِّداً فِينا ) وفي المعنى الأوّل يقول النّابغة الذُّبيانيّ : ) ( وذاكَ لأنَّ اللّهَ أعطاك سُورَةً ** ترَى كُلَّ مُلْكِ دُونها يَتَذَبْذَبُ ) ( بأنَّك شمسٌ والملوك كواكب ** إذا طَلَعتَ لم يَبْدُ منهنّ كَوكَبُ ) ( وأتيتُ حَيّاً في الحروب محلُّهم ** والجيشُ باسم أبيهمُ يُستَهزَمُ ) وفي ذلك يقول الفرزدق : ( لتَبْك وكيعاً خيلُ ليلٍ مُغيرةٌ ** تَساَقى السِّمامَ بالرُّدَيْنِيَّة السُّمْرِ )

( لقوا مثلَهم فاستهزَموهمْ بدعوةٍ ** دعَوْها وكيعاً والرِّماحُ بهم تجري ) وأما قول الشاعر : تخامل المحتد أو هزام فإنَّما ذَهبَ إلى أنَّ الدَّعوة إذا قام بها خامل الذِّكر والنسب فلا يحسُده من أكفائه أحدٌ وأما إذا قام بها مذكورٌ بيُمن النَّقيبة وبالظَّفَر المتتابع فذلك أجود ما يكون وأقرَبُ إلى تمام الأمر .
وقال الفرزدق : ( تَصرَّم منّي وُدّ بكرِ بنِ وَائلٍ ** وما كان وُدِّي عَنْهُمُ يتصرَّمُ ) ( قوارصُ تأتِيني ويحتقرونها ** وقَدْ يَملأ القَطْرُ الأناءَ فَيُفْعَمُ ) وقال الفرزدق : ( وقالتْ أُراه واحداً لا أخَا لَهُ ** يؤمِّله في الوَارِثينَ الأباعدُ )

( لعلَّكِ يوماً أن ترَيْني كأنَّما ** بَنيَّ حَوَاليَّ الأسُودُ الحوارِدُ ) وقال الفرزدق أيضاً : ( فإنْ كان سيفٌ خان أو قَدَرٌ أتى ** لميقاتِ يومٍ حَتْفُه غير شاهد ) ( فسَيْفُ بني عَبْسٍ وقد ضَرَبُوا بِهِ ** نبا بيدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالدِ ) ( كذاك سُيوفُ الهِنْدِ تنْبُو ظُباتُها ** ويقْطَعْن أحياناً مَنَاطَ القَلائدِ )

خير قصار القصائد وإنْ أحببتَ أن تروِي مِن قِصار القصائدِ شِعراً لم يُسمَع بمثله فالتَمِسْ ذلك في قصار قصائدِ الفَرَزدق فإنك لم تَرَ شاعراً قطُّ يجمَعُ التَّجويدَ في القِصار والطِّوال غَيْرَ .
وقد قيل للكُميت : إنْ النَّاسَ يزْعمون أنّك لا تقدِر على القصار قال : مَنْ قال الطِّوال فهو على القِصار أقدر . )
هذا الكلام يَخْرج في ظاهر الرَّأي والظَّن ولم نجدْ ذلك عند التَّحصيل على ما قال .

جواب عقيل بن علفه وجرير
وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة : لم لا تُطيل الهجاء قال : يَكفيِك مِنَ القِلادة مَا أحَاط بالعُنق .
وقيل لجرير : إلى كَمْ تهجُو النَّاس قال : إنِّي لا أبتدي ولكنِّي أعتدي .
وقيل له : لم لا تقصِّر قال : إن الجماحَ يمنع الأذى .
قال عبيد بن الأبرص : ( نبِّئتُ أنَّ بَني جَدِيلةَ أوْعَبُوا ** نُفَراءَ من سَلْمى لنا وتَكَتَّبُوا )

( ولقد جَرى لهمُ فلم يتعيَّفوا ** تيسٌ قَعيدٌ كالهِرَاوةِ أعضَبُ ) ( وأبو الفِراخ على خشاش هشيمةٍ ** متنكِّبٌ إبط الشَّمائل ينْعَبُ ) ( فتجاوزوا ذَاكُمْ إلينا كلَّه ** عَدْواً وَقرْطبةً فلما قرَّبوا ) ( طُعِنوا بمُرَّان الوَشيجِ فما تَرى ** خلفَ الأسِنّةِ غَيْرَ عِرْقِ يشْخَبُ ) ( وتَبَدَّلوا اليَعْبوبَ بَعدَ إلههِمْ ** صَنَماً ففِرُّوا يا جَدِيلَ وأعذِبوا )

وقال آخر : ( ألم تَرَ حَسّان بنَ مَيسرة الذي ** بِجُوْخَى إلى جيرانِه كيفَ يَصنَعُ ) ( مَتَارِيبُ ما تنفكُّ منهم عِصابة ** إليه سِراعاً يحصُدُون ويزْرَعُ )

شعر في قوله يريد أن يعربه فيعجمه
وبابٌ آخر مثلُ قوله : يريد أن يُعرِبَه فيُعجمَهُ كأنَّ مَنْ يحفَظها يُضيِعها

وقال آخر : أهوجُ لا يَنفَعُهُ التثَّقيفُ وقال بعض المحدَثين في هذا المعنى : ( إذا حَاوَلوا أن يَشْعَبُوها رَأيتَها ** مَعَ الشَّعْب لا تزْدَادُ إلا تَدَاعِيَا ) وقال صَالِحُ بنُ عبدِ القُدُّوس : ( والشيخُ لا يَتْرُكَ أخلاقَهُ ** حَتَّى يُوارَى في ثَرَى رَمْسِهِ ) ( إذا ارْعَوَى عادَ إلى جَهلِهِ ** كَذِي الضَّنا عادَ إلى نُكْسِه ) ومثل هذا قوله : ( وتَروضُ عِرْسكَ بَعْدَ ما هَرِمتْ ** وَمِنَ العَناءِ رِياضةُ الهرِمِ ) وقال حُسيل بن عُرْفُطة : ( لِيَهْنيكَ بُغْضٌ في الصَّدِيق وَظِنة ** وتحديثُك الشَّيء الذي أنت كاذِبُهْ ) ( وأنكَ مَشْنوءٌ إلى كلِّ صاحبٍ ** قَلاك ومثلُ الشَّرِّ يُكْرَهُ جانبُهْ )

( وأنَّك مِهْداءُ الخَنا نَطِفُ النثَا ** شَدِيدُ السِّبَاب رافع الصوتِ غالبُهْ )
كلمة للزِّبرقان وقال الأصمعي : قال الزِّبرقَان بنُ بدر : خَصْلَتان كبيرتان فِي امرئ السَّوء : شِدَّة السِّباب وكثرة اللِّطام .
تمجيد الأقارب وقال خالد بن نَضْلة : ( لَعَمْري لَرَهْطُ المَرءِ خَيْرٌ بَقِيةً ** عليَه ولو عالَوْا به كلَّ مَركبِ ) ( منَ الجانِبِ الأقصَى وإنْ كان ذا نَدى ** كثيرٍ ولا يُنْبِيك مثلُ المجرِّبِ ) ( إذا كنْتَ في قومٍ عِداً لستَ مِنْهُمُ ** فكلْ مَا عُلِفْتَ مِنْ خَبيثٍ وَطَيِّبِ ) ( فإنْ تَلتَبِسْ بي خَيلُ دُودَان لا أَرِمْ ** وإن كنتُ ذا ذَنْب وإن غَيْرَ مُذْنِبِ )

4 ( بكل وادٍ بنو سعد ) قال : ولمَّا تأذَّى الأضبط بنُ قريع في بني سعد تحوَّلَ عنهمْ إلى آخَرينَ فآذَوه فقال : بكلِِّ وادٍ بنو سعد .
مقطَّعات شتَّى ( ألا ليسَ زَينَ الرَّحلِ قِطْعٌ وَنُمْرُق ** ولكنَّ زَينَ الرَّحْلِ يا ميَّ راكبُه ) وقال أعرابيٌّ : ( فما وجْدُ مِلواحٍ مِنَ الهيمِ خلِّئتْ ** عن الماء حتَّى جَوْفها يَتَصَلْصَلُ ) ( تحومُ وتَغْشَاها العِصيُّ وحَوْلها ** أقاَطيعُ أنعامٍ تُعَلُّ وتُنْهَلُ ) ( بأكثرَ مِنِّي غُلَّةً وتعطُّفاً ** إلى الورد إلاَّ أنَني أتَجَمّلُ )

وقال خالدُ بن عَلْقَمَةَ ابنُ الطَّيفان في عيب أخْذِ العَقْل والرِّضا بشيءٍ دونَ الدَّم فقال : ( وإنَّ الَّذي أصبحْتُمُ تَحلُبُونَه ** دَمٌ غَيْرَ أنّ اللَّونَ لَيسَ بأحْمَرَا ) ( فلا تُوعِدُوا أولادَ حَيَّانَ بَعْدَما ** رَضِيتُمْ وزوّجتم سَيَالة مِسْهَرَا ) ( وأعجَبَ قِردٍ يقصم القمل حَالقاً ** إذا عبّ في البَقِيةِ بَرْبَرَا ) ( إذا سكَبُوا في القَعبِ من ذي إنائهم ** رأوا لَونَه في القَعبِ وَرداً وأشقرا )

الغضب والجنون
في المواضع التي يكون فيها محمودا
ً ) قال الأشهبُ بن رُمَيلة :

( هرّ المَقادَة من لا يستقيِد ُلها ** واعصَوْصَب السَّيرُ وارتدّ المساكينُ ) ( مِنْ كلِّ أشعثَ قدْ مالَتْ عِمامَتهُ ** كأنَّهُ مِنْ ضِرارِ الضَّيم مجْنُون ) وقال في شبيهِ ذلك أبو الغول الطُّهَويُّ : فَدَتْ نفسي وما مَلَكَتْ يَميني مَعاشِرَ صُدِّقتْ فيهم ظُنُوني مَعاشِرَ لا يملُّون المنايا إذا دَارتْ رَحَى الحربِ الطَّحون ولا يجزُون مِن خير بشر ولا يَجْزُون من غِلَظٍ بِلِينِ ولا تَبلى بَسَالتُهُمْ وإنْ هُمْ صَلُوا بالحَرْبِ حيناً بعدَ حين

هُمُ أحمَواْ حِمَى الوَقَبَى بضَرْبٍ يُؤَلِّف بينَ أشْتَاتِ المَنُونِ فنَكَّبَ عنهمُ دَرْءَ الأعادِي وَدَاوَوْا بالجُنُونِ من الجنونِ وقال ابن الطَّثريَّة : ( أو لاختطبتُ فإني قد هممت به ** بالسّيف إن خطيب السَّيفِ مَجْنُونُ ) وقالَ آخر : ( حمراءُ تامِكة السَّنامِ كأنَّها ** جَمَلٌ بِهَودجِ أهْلِهِ مَظْعُون ) ( جادَتْ بها يَومَ الوَداعِ يَمينه ** كِلْتاَ يَدَيْ عَمْرو الغَدَاةَ يَمينُ ) ( ما إنْ يجود بمثْلها في مثلِه ** إلاَّ كَرِيمُ الخِيمِ أو مجْنُونُ )

وفي هذا المعنى يقول حسَّان أو ابنُه عبدُ الرحمن بن حسَّان : ( إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأسْ ** ودَ ما لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنونَا ) ( إنْ يكُنْ غَثَّ مِنْ رَقاشِ حَدِيثٌ ** فبِما نأكُلُ الحديثَ سَمِينا ) وفي شبيهٍ بذلك قول الشَّنْفَرَى : ( فدَقَّتْ وجلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلتْ ** فول جُنَّ إنْسانٌ مِنَ الحُسْنِ جُنّتِ ) وقال القُطاميُّ حين وصف إفراط ناقَتِه في المرَح والنَّشاط : ( يَتْبَعْن ساميةَ العَينَينِ تحسَبُها ** مَجْنُونَةً أو تُرَى ما لا تَرَى الإبلُ )
وقال ابنُ أحَمرَ في معنى التشبيه والاشتقاق : ( بِهَجْلٍ من قَساً ذَفرِ الخُزَامى ** تداعى الجِرْبِياءُ به الحنينا )

( سقط : بيت الشعر ) ( تفقأ فوقه القلع السواري ** وجن الحازباز به جنونا ) وفي مثل ذلك يقول الأعشى : ( وإذا الغيثُ صوبُه وَضَع القِدْ ** حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ ) ( لم يزِدْهُمْ سَفاهةً نشْوةُ الخم ** رِ ولا اللَّهوُ فيهمُ والسِّباقُ ) وقال آخر في باب المزاح والبَطالة مما أنشَدَنيه أبو الأصبغ بن رِبعيّ : ( أتَوني بمجنونٍ يَسِيلُ لُعَابُه ** وما صاحبي إلاَّ الصَّحِيحُ المسلَّمُ ) وأنشدني ابراهيم بن هانئ وعبد الرحمن بن منصور : ( جنونك مجنون ولست بواحدٍ ** طبيباً يداوي من جنون جنون )

إبراهيم بن هانئ والشعر
وكان إبراهيم بن هانئ لا يقيم شعراً ولا أدري كيف أقَامَ هذا البيت .
وكان يدَّعى بحضرة أبي إسحاق علمَ الحِسابِ والكلامِ والهندسةِ واللحون وأنه يقول الشعر فقال أبو إسحاق : نحن لم نمتحِنك في هذه الأمور فلك أن تدّعِيهَا عندنا كيف صرْتَ تدّعي قول الشعر وأنتَ إذا رويتَه لغيرك كسرته قال : فإنّي هكذا طبِعتُ أن أقيمه إذا قلت وأكسره إذا أنشدت قال أبو إسحاق : ما بعدَ هذا الكلام كلام .
وقلت لأعرابيّ أيّما أشدُّ غلمةً : المرأة أو الرجل فأنشد : ( فوَاللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لَسائِلُ ** أَألأيرُ أدنَى للفجور أو الحِرُ ) ( وقد جاءَ هذا مُرخِياً من عِنانه ** وأقبلَ هذا فاتحاً فاه يهدرُ )

مقطعات شتى
وأنشد بعضهم : ( أصبَح الشَّيبُ في المفارِقِ شاعا ** واكتَسى الرأسُ من بياض قناعا ) ( ثم وَلَّى الشَّبابُ إلاَّ سقليلاً ** ثم يأبَى القليلُ إلاَّ نزاعا ) وأنشد محمد بن يسير : ( قامتْ تُخاصرني لِقُبَّتِها ** خَوْدٌ تَأَطَّرُ ناعِمٌ بِكْرُ ) ( كلٌّ يَرَى أنَّ الشَّبابَ له ** في كل مبلغ لَذَّةٍ عُذْرُ ) وقال الآخرُ في خلاف ذلك أنشدنيه محمد بن هشام السِّدري : ( فلا تعذُراني في الإساءةِ إنَّه ** أشرُّ الرِّجال مَنْ يسيءُ فيُعذَرُ )

وقال ابن فسوة : ( إلى مَعْشَر لا يَخصِفُونَ نِعالَهم ** ولا يلبَسُون السِّبْتَ ما لم يُحضَّر ) وقال الطِّرِمَّاحُ بنُ حكيم وهو أبو نفْر : ( لقد زادني حُبّاً لنَفسيَ أنَّني ** بَغيضٌ إلى كلّ امرئٍ غَيْرِ طائل ) ( إذا ما رآني قطَّعَ الطَّرْفَ بَيْنه ** وَبَيْنيَ فِعْلَ العارِفِ المتجاهِلِ ) ( ملأتُ عليه الأرض حتّى كأنّها ** من الضِّيقِ في عَينْيَهِ كِفَّةُ حابل )

وقال آخر : ( إذا أبصرتَني أعْرَضْتَ عَنِّي ** كأنَّ الشَّمْسَ مِنْ قِبَلي تَدُورُ ) وقال الخُرَيمي وَذَكر عماه : ( أصغي إلى قائدي ليخبرني ** إذا التقينا عمن يحييني ) ( أريدُ أن أعدِلَ السَّلامَ وأنْ ** أَفصِلَ بَيْنَ الشَّرِيفِ والدُّونِ ) ( اسمَعُ ما لا أرَى فأكره أنْ ** أُخطِئ والسَّمْعُ غيرُ مَأمُونِ ) ( لِلّه عيني التي فجعْتُ بها ** لو أنّ دَهراً بها يَواتيني ) ( لو كنْتُ خيِّرتُ ما أخَذْتُ بها ** تَعْميِرَ نُوحٍ في مُلْكِ قارُون ) وقال بعضُ القدَماء : ( يُؤَمِّل أنْ يُعَمَّرَ عُمْرَ نُوحٍ ** وأمرُ اللّهِ يحدثُ كلَّ لَيْلَه )


وقال ابن عبَّاسٍ بعد ما ذهب بصره : ( إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُما ** ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نورُ ) ( قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي دَخلٍ ** وفي فمي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ ) وقال حسَّان يذكرُ بيانَ ابن عبَّاس : ( إذا قال لم يَترك مقالاً ولم يقفْ ** لِعِيٍّ ولم يَثنِ اللَّسانَ على هُجْرِ ) ( يصرِّف بالقولِ اللسانَ إذا انتحى ** وينظر في أعطافه نظرَ الصَّقْر )

شعر في الخصب والجدب
وقال بعضُ الأعراب يذْكُرُ الخِصْب والجَدْب : ( مُطِرْنا فلمّا أنْ رَوِينَاً تهادَرَتْ ** شَقاشِقُ فيها رائبٌ وحَليِبُ )

( ورابت رجالاً مِنْ رجال ظُلامةً ** وعُدَّتّْ ذُحولٌ بينهم وذنوبُ ) ( ونُصّتْ رِكابٌ للصِّبا فَتَرَوَّحَتْ ** لهنَّ بما هاج الحبيبَ خبيبُ ) ( وطَنَّ فناءُ الحيِّ حتَّى كأنَّه ** رَحى مَنْهَلٍ مِنْ كَرِّهِنّ نحيب ) ( فلو قَدْ تَوَلَّى النَّبتُ وامتيرَت القُرى ** وحَنَّتْ رِكابُ الحيِّ حِينَ تثوب ) ( وصاَرَ غَبُوقَ الخَود وهي كريمةٌ ** على أهلها ذو جُدَّتينِ مَشُوب ) ( وصار الَّذي في أنْفِه خُنزوانَةٌ ** ينادَى إلى هادي الرَّحى فيجيبُ ) ( أولئك أيَّامٌ تُبَيِّنُ ما الفَتَى ** أكابٍ سُكَيْتٌ أمٌْ أشمُّ نجيبُ )

شعر لأنس بن إياس وقال : ولما وَلِي حارثَة بنُ بَدْرٍ سُرَّق كتب إليه أنَسُ بن أبي إياسٍ الدُّيلي : ( أحارِ بنَ بَدْرٍ قَد وَلِيتَ وِلايةً ** فكُنْ جُرَذاً فيها تَخُونُ وتَسْرِقُ ) ( وباهِ تميماً بالغِنى إنَّ للِغِنى ** لساناً به المرءُ الهَيُوبَةُ يَنْطِقُ ) ( ولا تحقِرَنْ يا حارِ شيئاً ملكته ** فَحظُّك من ملك العراقَين سُرَّق ) ( فإنَّ جميعَ النَّاسِ إمَّا مُكذَّبٌ ** يَقُول بَما يَهوَى وإمَّا مصَدَّقُ ) ( يقولون أقوالاً ولا يَعرِفُونها ** ولو قيل هاتُوا حقِّقوا لم يحقِّقوا ) وقال بعض الأعراب : ( فلمَّا رَأَينا القوم ثاروا بَجَمْعهِمْ ** رَعيْنَا الحديثَ وهو فِيهمْ مُضَيَّعُ ) ( وأدْرَكَنَا من عِزِّ قَيسٍ حفيظةٌ ** ولاخيْرَ فيمن لا يضرّ وينْفَعُ )

نصيحة رجل لبعض السلاطين
ويقال إنَّ رجلاً قال لبعض السَّلاطين : الدُّنيا بما فيها حديث فإن استَطَعتَ أنْ تكونَ مِن أحسَنِها حديثاً فافعَلْ .
وقال حُذَيفة بنُ بدرٍ لصاحبه يوم جَفْر الهباءة حينَ أعطاهُمْ بلسانه ما أعْطى : إيَّاك والكلامَ المأثور .
وأنشد الأصمعي : ( كلُّ يومٍ كأنَّه يومُ أضْحى ** عِنْدَ عبد العَزيزِ أو يومُ فِطرِ ) وقال : وذكر لي بعضُ البَغداديِّين أنَّه سمع مدَنِيّاً مرَّ ببابِ الفَضْلِ بن يحيى وعلى بابه جماعةٌ من الشعراء فقال : ( ما لَقِينا مِنْ جُودِ فضلِ بنِ يَحيى ** تَرَكَ النَّاسَ كُلَّهُمْ شُعَرَاءَ )

وقال الأصمعي : قال لي خَلَفٌ الأحمر : الفارسيُّ إذا تظرّف تساكت والنَّبطيُّ إذا تظرَّف أكثر الكلام .
وقال الأصمعيُّ : قالَ رجلٌ لأعرابيٍّ : كيف فلانٌ فيكم قالَ : مرزوقٌ أحمق قالَ : هذا الرَّجلُ الكامل .
قال : وقال أعرابيٌّ لرجل : كيف فلانٌ فيكم قاَل : غَنيٌّ حَظِيٌّ قال : هذا من أهل الجَنَّة الأصمعيُّ قال : أخبرني جَوسق قال : كان يقال بالبدو : إذا ظَهَرَ البَياضُ قَلَّ السَّواد وإذا ظَهَرَ السَّواد قَلَّ البَياض قال الأصمعيُّ : يعني بالسَّواد التَّمر وبالبياضِ اللَّبن والأقِط يقول : إذا كانت السَّنَةُ مجدِبة كثُرَ التَّمْرُ وقَلَّ اللَّبن والأقِط وقال : إذا كان العام خصيباً ظهر في صدقةِ الفِطر البياض يعني الإقِط وإذا كان جَدِبياً ظهر السَّواد يعني التّمر .
وتقول الفُرس : إذا زَخَرت الأودية بالماء كثُر التَّمر وإذا اشتدَّت الرِّى اح كثر الحبُ .

وقل في أثر الريح في المطر
وحدَّثني محمَّد بن سلام عن شُعيب بن حجر قال : جاء رجلٌ على فرسٍ فوقفَ بماءٍ من مياه العرب فقال : أعندكم الرِّيحُ الَّتي تكُبّ البعير قالوا : لا قال : فتذْرِي الفارس قالوا : لا قال : فكما تكون يكونُ مطرُكم .
وحدَّثني العُتْبيُّ قال : هَجَمْتُ على بطنٍ بينَ جبلين فلم أرَ وادياً أخصبَ منه وإذا رجالٌ يتركَّلون على مَسَاحيهم وإذا وجوهٌ مهَجَّنة وألوان فاسِدة فقلتُ : واديكُمْ أخصبُ وادِ وأنتم لا تشبِهُونَ المخاصيبَ قال : فقال شيخٌ منهم : ليس لنا ريح .

شعر في الخصب
وقال النمر بن تولب : ( كأنَّ حَمدةَ أو عزّتْ لها شَبَها ** في العين يوماً تلاقَينْا بأرمامِ ) ( ميثاءُ جاد عليها وابِلٌ هَطِلٌ ** فأَمْرَعَتْ لاحتيالٍ فَرْطَ أعوامِ ) ( إذا يَجفُّ ثراهَا بلَّها دِيَمٌ ** مِن كوكبٍ بزل بالماء سَجام ) ( لم يَرْعَها أحدُ واربتها زَمناً ** فَأْوٌ مِنَ الأرضِ محفوف بأعلام ) ( تَسْمَعُ للطَّير في حافاتِها زَجلاً ** كأنَّ أصواتَها أصواتُ جُرَّامِ ) ( كأنَّ ريحَ خُزَاماها وحنْوَتها ** باللَّيل ريحُ يَلَنجوجٍ وأهْضام )

قال : فلم يَدَعْ معنًى مِنْ أجلِه يُخصِب الوادي ويعتمُّ نبتُه إلاّ ذكره وصدق النمر .
وقال الأسديُّ في ذِكر الخِصْب ورطوبة الأشجار ولدونة الأغصان وكثرة الماء : ( وَكأنَّ أرْحُلَنا بجوِّ مُحَصَّبٍ ** بِلِوى عُنيزةَ من مَقيل التَّرمُسِ ) ( في حيثُ خالَطَتِ الخُزَامى عَرْفَجاً ** يأتيك قابِسُ أهله لم يُقْبَسِ ) ذهب إلى أنَّه قد بَلغَ من الرُّطوبة في أغصانه وعيدانه أنَّها إذا حُكَّ بعضها ببعضٍ لم يقدح وفي شبيهٍ بذلك يقول الآخر وذهب إلى كثرة الألوان والأزهار والأنوار :

( كانت لنا من غَطفانَ جارَهْ ** كأنها من دَبَل وشاره ) ( والحلْي حلْيِ التِّبر والحِجارَه ** مَدْفَعُ مَيثاءَ إلى قَرَارَهْ ) إيَّاكِ أَعني واسمعي يا جاره وقال بشَّار : ( وحديثٍ كأنَه قِطَعُ الرَّو ** ضِ وفيه الحَمْراء والصَّفراءُ ) ( الفطن وفَهم الرَّطَانات . . ) ( والكنايات والفهْم والإفهام )

حديث المرأة التي طرقها اللصوص
الأصمعي قال : كانت امرأة تنزِل متنحِّية من الحيّ وتحبُّ العُزلة وكان لها غنَمٌ فطرقها اللُّصوص فقالت لأمَتها : اخرُجي مَنْ هاهنا

قالت : هاهنا حَيَّانُ والحُمارِس وعامرٌ والحارثُ ورأسُ عَنْز وَشادن وراعِيا بَهْمنا : فنحْن ما أولئك أي : فنحن أولئك فلما سَمِعُوا ذلك ظنُّوا أنَّ عِندَها بنِيها وقال الأصمعيُّ مرّة : فلما سمِعت حِسَّهم قالت لأمَتها : أَخرجِي سُلُحَ بَنيَّ من هاهن .
قال : وسُلُح جمع سُلاح وحيّان والحمارس : أسماءُ تُيوسٍ لها . ( قصة الممهُورة الشياه والخمر ) قال الأصمعيُّ : تزوَّج رجلٌ امرأةً فساق إليها مهرها ثلاثين شاة وبعثَ بها رسولاً وبعثَ بزِقِّ خَمْر فَعَمَدَ الرَّسولُ فذبح شاةً في الطريق فأكَلها وشَرَب بَعْض الزَّقِّ فلما أتَى المرأة نظرت إلى تسع وعشرين ورأت الزِّقَّ ناقصاً فعلمِت أنَّ الرجل لا يبعثُ إلاَّ بثلاثين وَزِقٍّ مملوءٍ

فقالت للرسول : قل لصاحبك : إن سُحيماً قد رُثم وإن رسولَك جاءَنا في المحاق فلما أتاه الرَّسولُ بالرِّسالة : قال يا عدوَّ اللّه أكلتَ مِنَ الثَلاثينَ شاةً شاةً وشرِبْتَ من رَأسِ الزِّق فاعتَرَف بذلك . ( قصة العنبريّ الأسير ) الأصمعيُّ قال : أخبرني شيخٌ من بني العنبر قال : أسر بَنو شَيبانَ رجلاً من بني العنبر قال : دَعوني حتى أرسل إلى أهلي ليَفدُوني قالوا : على ألاّ تكلّم الرّسولَ إلاَّ بين أيدينا قال : نعم قال : فقال للرسول ائتِ أهلي فقل : إنَّ الشَّجر قد أوْرق وقل : إنَّ النِّساءَ قد اشْتَكت وخرَزَت القِرب ثمَّ قال له : أتعقِلُ قال : نعم قال : إنْ كنت تَعقِلُ فما هذا قال : الليل قال : أراك تعقل انطلق إلى أهلي فقل لهم : عَرُّوا جملي الأصهب واركَبُوا ناقتي الحمراء وسلوا حارثاً عن أمري وكان حارث صديقاً له فذهب الرَّسولُ فأخبَرَهم فدعَوا حارثاً فقصَّ عليه الرَّسولُ القِصة فقال أمّا قوله : إنَّ الشَّجَر قد أورق فقد تسلَّح القوم

وأمّا قوله : إن النساء قد اشتكت ْ وخرَزت القِرَب فيقول : قد اتخذت الشِّكا وخَرزت القِرَبَ للغزو وأما قوله : هذا الليل فإنَّه يقول : أتاكم جَيشٌ مثلُ الليل وأمّا قوله : عرُّوا جملي الأصهْب فيقول : ارتحلوا عن الصَّمَّان وأما قوله : اركَبُوا ناقتي الحمراء فيقول انزِلُوا الدَّهناء .
وكان القوم قد تهيَّؤوا لغَزْوهم فخافوا أن يُنذِرهم فأنذرهم وهم لا يشعرون فجاء القومُ يطلبونهم فلم يِجدُوهم .

قصة العطاردي
وكذلك صنع العُطاردي في شأن شِعب جبلة وهو كرِب بن صفوان وذلك أنه حينَ لم يرجِع لهمْ قَولاً حين سألوه أن يقول ورَمى بصُرَّتين في إحداهما شوك والأخرى تراب فقال قيس بن زهير : هذا رجلٌ مأخوذٌ عليه ألا يتكلَّم وهو ينذِركم عدَداً وشَوْكة .
قال اللّهُ عزَّ وجلَّ : وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكمْ .
شعر في صفة الخيل والجيش

قال أبُو نخيلة : ( لما رأيتُ الدِّينَ ديناً يُؤْفَك ** وأمْسَتِ القُبةُ لا تستمْسِكُ ) ( يُفْتَقُ مِن أعْراضها ويُهتك ** سرت من الباب فَطارَ الدَّكدَكُ ) ( منها الدَّجُوجيُّ ومِنها الأرْمَكُ ** كالّليل إلاَّ أنَّها تَحَرَّكُ ) وقال منَصورٌ النَّمري : وقال آخر : ( كأنَّهم ليلٌ إذا استنفِرُوا ** أو لُجَّةٌ ليس لها ساحلُ )

وقال العجاج : ( كأنَّما زُهاؤه إذا جُهِرْ ** ليلٌ وَرِزٌّ وَغْرِهِ إذا وَغَرْ ) سارٍ سَرَى مِن قِبَل العَيْنِ فجر وفي هذا الباب وليس منه يقول بشَّار : ( كأنَّ مُثارَ النَّقع فوقَ رؤُوسهم ** وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه ) وقال كلثوم بن عمرو : ( تَبني سنابكُهم من فوق أَرؤسهم ** سقفا كواكبه البِيضُ المبَاتيرُ ) وهذا المعنى قد غلب عليه بشّار كما غلب عنترةُ على قوله : ( فتَرَى الذُّبابَ بها يُغَنِّي وَحدَه ** هَزِجاً كفِعْلِ الشَّارب المترنِّم ) ( غَرِداً يُحكُّ ذِرَاعه بذِرَاعه ** فِعل المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجذَم ) فلو أنَّ امرأ القَيس عَرضَ في هذا المعنى لعنترة لافتَضَح .

مقطعات شتى
وقال بعضهم في غير هذا المعنى : ) ( وفلاةٍ كأنَّما اشتْمَل الّلي ** لُ على رَكبِها بأبناءِ حامِ ) ( خضْتُ فيها إلى الخَليفة بالرّ ** قَّةِ بحْرَيْ ظَهيرةٍ وظَلام ) وقال العَرْجيُّ : ( سمّيتني خَلقاً بخَلَّةٍ قدُمَتْ ** ولا جَدِيدَ إذا لم يُلبَس الخَلَقُ ) ( يا أيها المتحلِّي غيْرَ شِيمَته ** ومِنْ خلائقهِ الإقصادُ والمَلَقُ ) ( ارجعْ إلى خِيمِك المعروفِ دَيْدَنُه ** إن التَّخَلقَ يأتي دُونَهُ الخُلُقُ ) وقال آخر : ( أودَى الخِيارُ مِنَ المعاشِرِ كلهمْ ** واستَبَّ بَعْدَك يا كُلَيْبُ المَجْلسُ ) ( وتنازَعوا في كلِّ أمرِ عظيمةٍ ** لو قدْ تكونُ شهدْتهُمْ لم ينْبِسُوا )

وأبياتُ أبي نواسٍ على أنه مولَّد شاطر أشعرَ من شعر مهلهل في إطراق النَّاسِ في مجلِس كليب وهو قوله : ( على خبز إسماعيلَ واقِيَة البُخْلِ ** وقد حلَّ في دَارِ الأمان مِنَ الأكْل ) ( وما خبزُهُ إلاَّ كآوَى يُرى ابنها ** ولم تُرَ آوى في الحزون ولا السََّهْلِ ) ( يحدث عنها النَّاس من غيرِ رُؤيةٍ ** سِوى صُورةٍ ما أن تُمِرُّ ولا تُحْلي ) ( وما خبزُه إلاَّ كليبُ بنُ وائلٍ ** لَياليَ يحمي عزُّه مَنْبتَ البَقْلِ ) ( وإذْ هو لا يستبُّ خَصْمانِ عِندَه ** ولا القولُ مرفوعٌ بِجد ولا هَزْلِ )

( فإنْ خبْزُ إسماعيل حلَّ به الذي ** أصاب كليباً لم يكن ذاك عن بَذْل ) ( ولكنْ قضاءٌ ُ ليس يُسطاعُ دَفْعهُ ** بحيلةِ ذي دَهْيٍ ولا فِكْرِ ذي عقل )

شعر العرب والمولدين
والقضية التي لا أحتشِمُ منها ولا أهابُ الخصومة فيها : أنّ عامّة العرب والأعراب والبدوِ والحضر من سائر العرب أشعر من عامَّة شعراء الأمصار والقُرَى من المولدة والنابتة وليس ذلك بواجبٍ لهم في كلِّ ما قالوه .
وقد رأيت ناساً منه يبهرِجون أشعارَ المولّدين ويستسقِطون مَن رواها ولم أر ذلك قطُّ إلاَّ في راويةٍ للشعرِ غيرِ بصيرٍ بجوهر ما يروى ولو كان له بصرٌ لعرَف موضعَ الجيِّد ممَّن كان . وفي أيِّ زمان كان .


وأنا رأيت أبا عمرو الشيبانيَّ وقد بلغ من استجادته لهذين البيتينِ ونحن في المسجد يوم الجمعة أن كلَّف رجلاً حتى أحضره دواةً وقرطاساً حتَّى كتبهما له وأنا أزعم أنَّ صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ولولا أن أدخِلَ في الحكم بعض الفتك لزعمتَ أنّ ابنَه لا يقول شعراً أبداً وهما قوله : ( لا تحسِبَنَّ الموتَ مَوْتَ البِلَى ** فَإنَّما الموتُ سُؤالُ الرِّجالِ ) ( كلاهما موتٌ ولكِنَّ ذَا ** أفظَعَ من ذاكَ لذلِّ السُّؤال )

القول في المعنى واللفظ
وذهب الشَّيخُ إلى استحسانِ المعنى والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ والبدويُّ والقرَوي والمدنيّ وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن وتخيُّر اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء

وفي صحَّة الطبع وجَودَة السَّبك فإنما الشعر صناعةٌ وضَرْب من النَّسج وجنسٌ من التَّصوير .
وقد قيل للخَليلِ بنِ أحمد : ما لكَ لا تقولُ الشِّعر قال : الذي يجيئُني لا أرضاه والذي أرْضاه لا يجيئني .
فأنا أستحسن هذا الكلام كما أستحسن جوابَ الأعرابيِّ حين قيل له : كيفَ تجِدُك قال :

شعر ابن المقفع
وقيل لابن المقفَّع : ما لك لا تجوزُ البيت والبيتين والثلاثة قال : إنْ جُزْتُها عرَفوا صاحبَها فقال له السائل : وما عليك أنْ تُعرَف بالطِّوال الجياد فعلم أنَّه لم يفهمْ عنه .
الفرق بين المولد والأعرابي ونقول : إن الفَرق بين المولَّد والأعرابي : أنَّ المولَّد يقول بنشاطه وجمع باله الأبياتَ اللاحقَةَ بأشعارِ أهلِ البدو فإذا أَمعنَ انحلَّتْ قُوَّتُه واضطربَ كلامُه .


شعر في تعظيم الأشراف وفي شبيهٍ بمعنى مهلهلٍ وأبي نُوَاس في التَّعظيم والإطراقِ عندَ السّادة يقول الشاعر في بعضِ بني مروان : ( في كفِّه خَيْزَرَانٌ رِيحُه عَبِقٌ ** في كفِّ أرْوَعَ في عِرنينه شَممُ ) ( يغضِي حَياءً ويغضَى مِنْ مَهابتِه ** فما يكلَّم إلاَّ حينَ يبتَسِمُ ) ( إن قال قال بما يَهْوَى جَميعُهمُ ** وإن تكلَّمَ يوماً ساخَتِ الكلِمُ ) ( كَمْ هاتفٍ بك مِن داعٍ وهاتفةٍ ** يَدْعُوكَ يا قثَمَ الخَيْرَاتِ يا قُثَمُ ) ( فتَرَى الساداتِ ماثلة ** لِسليلِ الشَّمس من قَمرهْ ) ( فَهمُ شَتَّى ظُنُونُهمُ ** حَذَرَ المطويِّ من خَبَرِهْ )

وقال إبراهيم بنُ هَرْمَةَ في مديحِ المنصور وهو شبيهٌ بهذا وليس منه : ( له لحظات عنْ حِفافيْ سريره ** إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائلُ ) ( فأمُّ الذي أمَّنْت آمِنة الرَّدَى ** وأمُّ الذي أوعدتَ بالثُّكْل ثاكلُ ) شعر في الحلف والعقد وقال مُهلهلٌ وهو يقع في باب الحلف وُكِّد بعَقْد : ( ملْنا على وائل وأفْلَتَنا ** يَوْماً عديٌّ جُرَيْعَةَ الذَّقَنِ ) ( عتُ عنه الرِّماحَ مجتهداً ** حِفْظاً لِحلفي وحلف ذي يَمن ) ( أذكرُ مِن عهدِنا وعهدهِمُ ** عهداً وَثيقاً بمَنْحَر البُدُن ) ( ما بلَّ بحرٌ كفاً بصوفتها ** وما أنافَ الهضابُ من حَضَنِ ) ( يزيده اللَّيلُ والنَّهارُ معاً ** شَدَّاً خِرَاطَ الجَمُوح في الشَّطَنِ )

شعر في مصرع عمرو بن هند وقال جابر بن حنَيٍّ التغلبيّ : ( فسائل شُرَحبيلاً بنا ومحلّماً ** غداة نكُرُّ الخيْلَ في كلِّ خَنْدَق ) ( لعمرك ما عمرُو بنُ هندٍ وقَدْ دعا ** لتخدمَ ليلى أمَّهُ بموفَّقِ ) ( فقام ابنُ كُلثوم إلى السَّيف مُغْضباً ** فأمسَكَ مِن نَدْمَانِه بالمخنَّقِ ) ( وعممه عمداً على الرَّأس ضَرْبةً ** بذِي شُطَبٍ صافي الحديدة مخْفَق )

شعر في الأقارب وقال المتلمِّس : ( على كلّهم آسَى وللأَصل زلفة ** فزحزح عن الأدنَينَ أن يتصدَّعوا ) ( وقد كان إخواني كريماً جوارُهم ** ولكنَّ أصلَ العُود مِنْ حَيْثُ يُنزعُ ) وقال المتلمس : ( ولو غيرُ أخوالي أرادُوا نقِيضَتي ** جَعلتُ لهم فوقَ العرانِينِ ميسما ) ( وما كنتُ إلاَّ مِثْلَ قاطعِ كفِّهِ ** بكفٍّ لهُ أخْرَى فأَصبح أجْذَما ) ( يداهُ أصابتْ هذِهِ حَتْفَ هذه ** فلم تَجدِ الأخْرَى عليها مُقَدَّما ) ( فأَطرقَ إطراقَ الشجاع ولو يَرَى ** مَساغاً لنابَيهِ الشجاعُ لَصَمَّما ) ( أحارثُ إنا لو تَساطُ دِماؤُنا ** تَزَايَلْنَ حتَّى لا يمَسَّ دَمٌ دما ) قال : وسأَلتُ عن قول عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لأبي مَرْيم الحَنفي : واللّهِ لأَنا أشدُّ )
بغضاً لك من الأرض للدَّم قال :

لأنَّ الدَّم الجاري من كلِّ شيءٍ بيّن لا يغيضُ في الأرض ومتى جفَّ وتجلَّب ففرقته رأيتَ مكانَه أبيض .
إلاَّ إنَّ صاحب المنطقِ قال في كتابه في الحيوان : كذلك الدِّماء إلاَّ دَمَ البعير .
أشعار شتى وقال النَّمِرُ بنُ تولَب : ( إذا كنتَ في سعدٍ وأمُّك منهُمُ ** غريباً فلا تَغْرُرْك أمُّكَ من سَعْد ) وقال : ( وإنَّ ابنَ أُختِ القَومِ مُصغًى إنَاؤه ** إذا لم يُزَاحِمْ خالَهُ بأبٍ جَلْدِ )

وقال آخر : ( تخيَّرَهُ اللّهُ الغداةَ لدِينه ** على عِلْمِهِ واللّه بالعِلْمِ أفْرَسُ ) وقال آخر : ( وما ترَك الهاجون لي في أديمِكم ** مَصَحّاً ولكنّي أرى مُترقّعا ) وقال العِجْلِيّ أو العُكليّ لنوح بن جرير : ( ولقد أرى والمقْتَضى متجوِّزٌ ** يا نوحُ أنَّ أباك لا يُوفِينا ) وقال عمرو بن معد يكرب : ( إذا لم تَسْتَطعْ شيئاً فَدَعْه ** وجاوِزْه إلى مَا تَسْتَطيعُ ) ( وصِلْهُ بالزَّمَاعِ فكُلُّ أمرٍ ** سَمَا لكَ أو سَمَوت لَهُ ولوعُ ) وقال المقنَّع الكِنديُّ : ( وصاحبِ السُّوءِ كالدَّاء العَياء إذا ** مَا ارفَضَّ في الجوفِ يجري هاهُنا وهنا )

( يُنبي ويُخبِر عن عَوْراتِ صاحبِه ** وما رأى عنده من صالحٍ دفنا ) ( كمهْرِ سَوءٍ إذا رفَّعت سَيْرَتَه ** رامَ الجماح وإن خَفَّضته حَرَنَا ) ( إن يَحْيَ ذاك فكنْ منه بمعْزَلةٍ ** أو ماتَ ذاكَ فلا تعْرِفْ لَهُ جَنَنا )

خصال الحرم
فمن خصاله : أنّ الذِّئبَ يصيد الظَّبيَ ويُريغه ويعارضه فإِذا دخَلَ الحرم كفَّ عنه .


ومن خصاله : أنّه لا يسقط على الكعبة حمام إلاّ وهو عليل يُعرف ذلك متى امتُحنَ وتعرِّفتْ حالُه ولا يسقط عليها ما دامَ صحيحاً .
ومن خصاله : أنّه إذا حاذى أعلى الكعبة عَرَقَةٌ من الطّير كاليمام وغيره انفرَقت فِرقتين ولم يعلها طائرٌ منها .
ومن خصاله : أنَّه إذا أصاب المطرُ البابَ الذي من شِقِّ العِراق كان الخِصب والمطرُ في تلك السَّنة في شِقِّ العِراق وإذا أصاب الذي مِن شِقِّ الشَّام كان الخصْب والمطر في تلك السَّنَةِ في شِقِّ الشام وإِذا عمَّ جوانبَ البيتِ كان المطرُ والخِصْبُ عامّاً في سائر البُلدا .
ومن خصال الحرَم : أنَّ حَصَى الجمِار يُرمى بها في ذلك المرمى مُذْ يومَ حَجَّ النَّاسُ البيتَ على طَوَالِ الدَّهرِ ثمَّ كأنَّه على مقدارٍ واحد ولولا موضع الآيةِ والعلامة والأعجوبةِ التي فيها لقد كان ذلك كالجبال هذا مِنْ غير أن تكسَحَه السُّيول ويأخُذَ منه النَّاس .
ومن سُنَّتهم : أنَّ كلَّ مَن علا الكعبةَ من العبيد فهو حرٌّ لا يرون المِلْكَ على من علاها ولا وبمكة رجالٌ من الصُّلحاء لم يدخُلوا الكَعبةَ قطّ .
وكانوا في الجاهليَّة لا يبنُون بيتاً مربّعاً تعظيماً للكعبة والعربُ تسمّّي كلّ بيتٍ مربَّع كعبة ومنه : كعبة نَجران وَكان أوَّلُ مَن بنى بيتاً مربَّعاً حُميد بن زهير أحد بني أسد بن عبد العُزَّى .
ثمَّ البركة والشفاء الذي يجدُه مَن شرب من ماءِ زمزم على وجْه الدهر

وكثرةُ من يُقيم عليه يجدُ فيه الشفاء بعد أنْ لم يدعْ في الأرض حَمَّة إلاَّ أتاها وأقام عندها وشرب منها واستنقع فيها .
هذا مع شأن الفيل والطَّيرِ الأبابيلِ والحِجارة السِّجِّيل وأنَّها لم تزل أمْناً ولَقاحاً لا تؤدِّي إتاوة ولا تَدِين للملوك ولذلك سمِّي البيتَ العتيق لأنَّه لم يَزلْ حُرّاً لم يملِكه أحد .
وقال حرب بن أُميَّة في ذلك : ( أبا مطَر هَلُمَّ إلى صلاحِ ** فَتَكْفِيَكَ النَّدَامى مِنْ قريشِ ) ( فتأمَنَ وَسْطَهُمْ وتَعيِشَ فيهم ** أبا مطر هُدِيتَ لخيْرِ عَيشِ ) ( وتَنْزِلَ بَلْدَةً عزَّت قَدِيماً ** وتأمَنَ أن يَزُروَكَ ربُّ جيشِ )
وقال اللّه عزّ وجلّ : وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً للنَّاسِ وَأَمْناً واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبْراهيم مُصلًّى وقال عزَّ وجلَّ حكايةً عن إبراهيم :

رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِوَادٍ غَيْر ذي زَرْعٍ عنْدَ بَيْتكَ المُحَرَّمِ رَبّنا لِيُقيِمُوا الصّلاة فاَجْعَلْ أَفْئِدَة مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يشكرُونَ .

خصال المدينة
والمدينة هي طَيبة ولطيبها قيل تلفِط خَبَثها وينصعُ طيبُها وفي ريح ترابها وبنّةِ ترْبتها وعَرف ترابها ونسيمِ هوائِها والنعمة التي توجد في سِكَكِها وفي حيطانها دليلٌ على أنَّها جُعلت آيةً حينَ جعلت حرماً .
وكلُّ من خَرجَ من منزِلٍ مطَيّبٍ إلى استنشاق ريح الهواء والتُّرْبة في كل بلدة فإنَّه لابدَّ عند الاستنشاق والتثبُّت مِنْ أنْ يجِدَها منتنةً فذلك على طبقاتٍ من شأنِ البُلدان إلاّ ما كان في مدينة الرّسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فللصَّيَّاح والعِطْر والبَخور

والنضوح من الرائحة الطيبة إذا كان فيها أضعافُ ما يوجد له في غيرِها من البُلدان وإن كان الصَّيّاح أجوَد والعطر أفخرَ والبَخور أثمن . ( بعضُ البلدان الرديئة ) ورُبّت بلدةٍ يستحيل فيها العطرُ وتذهب رائحته كقصبَة الأهواز .
وقد كان الرشيدُ همَّ بالإقامة بأنطاكيَة وكره أهلَها ذلك فقال شيخٌ منهم وصَدَقَهُ : يا أمير المؤمنين ليست من بلادك ولا بلاد مثلك لأنّ الطِّيب الفاخرَ يتغيَّر فيها حتَّى لا يُنْتفعَ منه بكثير شيء والسِّلاَحَ يصدأ فيها ولو كان من قلْعة الهند ومن طبع اليمن ومطرها ربَّما أقام

شهرين ليس فيه سكون فلم يُقِم بها .
ثمّ ذكر المدينة فقال : وإنّ الجُويريةَ السّوداء لَتَجعل في رأسها شيئاً من بَلح وشيئاً من نَصُوحٍ مما لا قيمةَ له لهوانه على أهله فتجد لذلك خُمرةً طيِّبة وطيبَ رائحةٍ لا يعدِلُها بيتُ عَرُوسٍ من ذوي الأقدار حتَّى إنّ النَّوى المنْقع الذي يكونُ عندَ أهل العراق في غاية النَّتْن إذا طال إنقاعه يكونُ عندَهم في غاية الطِّيب واللّه سبحانه وتعالى أعلم .

ذكر الحمام
أجناسه
قال صاحب الحمام : الحمام وحشيٌّ وأهليّ وبيوتيّ وطوراني وكلُّ طائرٍ يعرف بالزِّواج وبحسن الصَّوت والهديل والدُّعاء والترجيع فهو حمام وإن خالفَ بعضهُ بعضاً في بعض الصّوتِ واللّون وفي بعض القدِّ

ولحن الهدِيل وكذلك تختلف أجناس الدَّجاج على مثل ذلك ولا يخرجها ذلك من أن تكون دَجَاجاً : كالدِّيك الهندي والخِلاسيّ والنَّبطِيّ وكالدّجاج السِّنديّ والزنجيّ وغير ذلك وكذلك الإبل : كالعِراب والبُخْتِ والفوالج والبَهْوَنيّات والصَّرْصَرَانيّات والحُوش والنُّجب وغير ذلك من فحول الإبل ولا يخرجها ذلك من أنْ تكون إبلاً .
وما ذاك إلاّ مخالفة الجُرذانِ والفأر والنّمْلِ والذّر وكاختلاف الضّأْنِ والمعْزِ وأجناسِ البقر الأهليّة والبقر الوحشيَّة وكقرابَةِ ما بينهما وبين الجواميس .


وقد تختلف الحيّاتُ والعقاربُ بضروبِ الاختلاف ولا يخرجها ذلك من أن تكونَ عقاربَ وحيّاتٍ وكذلك الكلابُ والغِرْبان .
وحسْبُك بتفاوتِ ما بينَ النّاس : كالزِّنج والصقالبة في الشُّعُور والألوان وكيأجوج ومأجوج وعاد وثمود ومثلُ الكَنْعَانيّين والعمالقة .
فقد تخالف الماعزة الضائنة حتى ّ لا يقع بينهما تسافدٌ ولا تلاقح وهي في ذلك غنمٌ وشاء .
قال : والقُمريُّ حمام والفاخِتةُ حمام والوَرَشان حمام والشِّفْنين حمام وكذلك اليمام واليعقوب وضروبٌ أخرى كلها حمام ومفاخرها التي فيها ترجع إلى الحمام التي لا تُعرف إلاّ بهذا الاسم .
قال : وقد زعم أفْليمون صاحب الفِراسة أنَّ الحمام يتّخَذُ لضرُوب : منها ما يُتخذُ للأنس والنساء والبُيُوتِ ومنا ما يُتّخَدُ للزِّجال والسباق .

والزجال : إرسال الحمام الهوادي

مناقب الحمام
ومن مناقب الحمام حبُّه للناس وأنس الناس به وأنَّك لم تَرَ حيواناً قطُّ أعدلَ موضِعاً ولا أقْصَد مرتبةً من الحمام وأسفل النّاس لا يكون دُون أنْ يتَّخذها وأرفع الناس لا يكون فوقَ أن يتَّخذها وهي شيءٌ يتَّخذه ما بين الحجَّام إلى الملك الهمام .
والحمامُ مع عمومِ شهوةِ النّاس له ليس شيءٌ مما يتّخذونه هُمْ أشدُّ شغفاً به ولا أشدُّ صَبابَةً منهم بالحمام ثمَّ تجد ذلك في الخِصيان كما تجدُه في الفحول وتجده في الصِّبيان كما تجده في الرِّجال وتجدُهُ في الفِتْيان كما تجدُه في الشيوخ وتجده في النساء كما تجده في الرِّجال .
والحمامُ من الطَّير الميامين وليس من الحيوان الذي تظهر له عورة وحجم قضيبٍ كالكلب والحمارِ وأشباه ذلك فيكونَ ذلك مما يكونُ يجب على الرَّجال ألاّ يُدْخِِلوه دورَهم .


كلمة لمثنى في الحمام قال مثنَّى بن زهير : ومن العجب أنّ الحمامَ مُلَقًّى والسَّكْرَان مُوقًّى فأنشده ابن يسير بيت الخُرَيميّ : ( وأعْدَدتُهُ ذُخْراً لكلِّ مُلِمَّة ** وسَهْمُ المنَايا بالذَّخائرِ مُولَعُ ) ومتى رأى إنسان عطشان الدِّيك والدَّجاجة يشربان الماء ورأى ذئباً وكلباً يلطعَان الماء لطْعاً ذهَبَ عطشه من قُبْح حسْو الديك نغْبةً نغْبة ومن لطْع الكلب وإنَّه لَيَرى الحمام وهو يَشرب الماء وهو ريّان فيشتهِي أن يَكَرَعَ في ذلك الماء معه .

( صدق رغبة الحمام في النَّسل ) والدِّيك والكلبُ في طلب السِّّفاد وفي طلب الذَّرْء كما قال أبو الأخزْر الحِمَّانيُ : لاَ مُبْتَغي الضَّنءِ ولاَ بِالْعَازِلِ والحمام أكثر معانيه الذّرْء وطلبُ الولد فإذا علم الذَّكَرُ أنَّه قد أودَع رحمَ الأنثى ما يكون منه الولد تقدَّما في إعداد العشِّ ونقلِ القَصَب وشِقَقِ الخُوص وأشباه ذلك من العِيدان الخوَّارة الدِّقاق حتى يعملا أُفحوصة وينسجاها نسجاً مداخلاً وفي الموضع الذي قد رضياه اتخذاه

واصطنَعاه بقدر جثمان الحمامة ثمّ أشْخَصا لتِلك الأفحوصةِ حُروفاً غيرَ مرتفعة لتحفَطَ البيض وتمنَعَه من التَّدحرج ولتلزمَ كنَفي الجؤجؤ ولتكون رِفداً لصاحبِ الحَضْن وسَداً للبيض ثم َّ يتعاوران ذلك المكان ويتعاقَبان ذلك القرمُوص وتلك الأفحوصة يسخِّنانها ويدَفِّيانها ويطيِّبانها وينفِيان عنها طِباعها الأوّل ويُحدثان لها طبيعةً أخرى مشتقّةً من طبائعهما ومستخرجةً من رائحةِ أبدانهما وقُواهما الفاصِلة منهما لكي تقعَ البيضةُ إذا وقعت في موضعٍ أشبهِ المواضع طباعاً بأرحام الحمام مع الحضانة والوَثارَة لكي لا تنكسر البيضة بيبُس الموضع ولئلا ينكر طِباعُها طباعَ المكان وليكُون على مقدارٍ من البَرْد و السَّخانَة والرَّخاوة والصَّلابَة ثمّ إنْ ضََرَبها المخاضُ وطَرّقت

ببيضتها بَدَرَت إلى الموضع الذي قد أعدّتُه وتحاملتْ إلى المكانِ الذي اتَّخَذتْه وصنعتهُ إلاّ أن يقرِّعها رعدٌ قاصف أو ريحٌ عاصفٌ فإنَّها ربَّما رمَتْ بها دون ِكِنِّها وظل عُشها وبغير موضعها الذي اختارته والرَّعدَ ربما مَرِق عنده البيض وفسد كالمرأة التي تُسقِط من الفَزَع ويموتُ جنينُها من الرَّوع .
عناية الحمام وأنثاه بالبيض وإِذا وضَعت البيضَ في ذلك المكان فلا يزالان يتعاقبان الحضنَ ويتعاورانه حتِّى إذا بلغ ذلك البيضُ مَداه وانتهَتْ أيّامه وتمَّ مِيقاته الذي وظَّفه خالقُه ودبَّره صاحبه انصدع البيْض عن الفرخ فخرجَ

عاري الجِلْد صغيرَ الجَناح قليلَ الحِيلة منسَدَّ الحلقوم فيعينانه على خلاصِه من قيضه وترويحه من ضيق هَوَّته .
عنايتهما بالفراخ وهما يعلمان أن الفرخَينِ لا تتَّسع حلوقهما وحواصِلهُما للغذاء فلا يكون لهما عند ذلك همٌّ إلاَّ أنْ ينفخا في حلوقهما الريح لتتسع الحوصلةُ بعد التحامها وتَنْفَتقَ بعدَ ارتتاقِها ثم يعلمان أنّ الفرخ وإن اتّسعت حَوصلتُه شيئاً أنّه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزقَّ بالطّعم فيُزَقّ عند ذلك باللُّعاب المختلط بقواهما وقوى الطعْم وهمْ يسمُّونَ ذلك اللُّعاب اللِّباء ثم يعلمان أنّ طبع حوصلتِه يرق عن استمراء الغذاء

وهضم الطُّعمِ وأنَّ الحوصلة تحتاجُ إلى دَبْغٍ وتقوية وتحتاج إلى أن يكون لها بعضُ المتانَة والصلابة فيأكلن من شَورَج أصول الحِيطان وهو شيءٌ بينَ المِلح الخالص وبين التُّراب الملح فيزقَّان الفرخ حتِّى إذا علما أنّه قد اندبَغ واشتدّ زقّاه بالحبِّ الذي قد غبَّ في حواصلهما ثم زقَّاه بعد ذلك بالحبِّ الذي هو أقوى وأطرى فلا يزلان يزُقَّانه بالحبِّ والماء على مقدار قُوَّتِه ومبلغ طاقته وهو يطلب ذلك منهما ويبِضُّ نحوهما حتى إذا علما أنّه قد أطاق اللقطَ منَعاه بعضَ المنْع ليحتاج إلى اللقْطِ فيتعوَّده حتى إذا علما أنْ أدَاتَه قد تمَّتْ وأن أسبابَه قد اجتَمَعَتْ وأنَّهما إن فَطماهُ فطْماً مقطوعاً مجذوذاً قوِيَ على اللَّقط وبلغ لنفسِه مُنتِهى حاجتِه ضرباه إذا سألهما الكفاية ونَفَياه متى رجع إليهما

ثمّ تنْزَع عنهما تلك الرحمةُ العجيبة منهما له وينسَيان ذلك العطف المتمكِّنَ عليه ويُذهَلان عن تلك الأثرة له والكدِّ المضني من الغُدُوِّ عليه والرَّواح إليه ثم يبتديان العمل ابتداءً ثانياً على ذلك النظام وعلى تلك المقدّمات .
فسبحان من عرّفهما وألهمهما وهداهما وجعلهما دَلالة لمن استدلّ ومُخِبراً صادقاً لمن استخبر ذلكم اللّه رب العالمين . 4 ( حالات الطُّعم الذي يصير في أجواف الحيوان ) وما أعجب حالاتِ الطُّعْمِ الذي يصير في أجواف الحيوان وكيف تتصرّف به الحالاتُ وتختلف )
في أجناسه الوجوه : فمنها ما يكون مثل زق الحمام لفَرخه والزقُّ في معنى الْقيء أو في معنى التقيؤ وليس بهما وجِرَّة البعير والشاةِ والبقرة في معنى ذلك وليس به والبعير يريد أن

يعود في خَضمه الأوّل واستقصاء طعمه وربَّما كانت الجِرَّةُ رجيعاً والرَّجيع : أن يعود على ما قد أعاد عليه مرَّةً حتَّى ينزِعه من جَوفه ويقلبه عن جهته . ( زَقّ الحمام ) والحمام يُخرجه من حَوصلته ومن مُسْتكَنِّه وقَراره وموضعِ حاجته واستمرائه بالأثَرةِ والبِرِّ إلى حوصلةِ ولده قد ملك ذلك وطابتْ به نفسُه ولم تغْنَثْ عليه نفسه ولم يتَقَذَّر من صنيعه ولم تَخْبُثْ نفسُه ولم تتغيَّر شهوته ولعلَّ لذَّتَه في إخراجه أن تكون كلذّتِه في إدخاله وإنما اللذة في مثل هذا بالمجارِي كنحو ما يعتري مجرَى النُّطفةِ من استلذاذ مرُور النَّطفة فهذا شأن قَلْب الحمام ما في جوفه وإخراجه بعد إدخاله والتمساح يخرجه على أنّه رجعُه ونْجوه الذي لا مخرج له ولا فَرَج له في سواه .


تصرف طبيعة الإنسان والحيوان في الطعام وقد يعتري ذلك الإنسان لِما يعرِض من الدَّاء فلا يعرف إلاّ الأكلَ والقيء ولا يعرف النَّجْوَ إلاّ في الحِين على بعَضِ الشِّدَّةِ وليس ما عرَض بسبب آفةٍ كالذي يخرج على أصل تركيب الطبيعة .
والسِّنَّور والكلبُ على خلاف ذلك كلِّه لأنْهما يُخرجانه بعارضٍ يعرِضُ لهما مِن خُبْث النَّفس ومن الفساد ومن التَّثوير والانقباض ثمَّ يعودان بعد ذلك فيه من ساعتهما مشتهيَين له حريصين عليه .
والإنسان إذا ذَرَعه ذلك لم يكن شيء أبغض إليه منه وربَّما استقاء وتكلّف ذلك لبَعض الأمر وليس التكلف في هذا الباب إلاّ له .
وذوات الكروش كلها تَقْعص بجرّتها فإذا أجادتْ مضْغه أعادته والجِرّة هي الفرْث وأشدُّ من ذلك أنْ تكون رجيعاً فهي تجيدُ مَضغَها وإعادتَها إلى مكانها إلاّ أنَّ ذلك ممّا لا يجوز أفواهها وليس عند الحافِر من ذلك قليلٌ ولا كثير بوجهٍ من الوجوه .


وقد يعتري سباعَ الطير شبيهٌ بالقيء وهو الذي يسمُّونه الزُّمّج وبعضُ السَّمكِ يقيء قيئاً ذريعاً كالبال فإنَّه ربَّما دسَعَ الدَّسعة فتلقى بعض المراكب فيلقَون من ذلك شِدّة والناقة الضجور ربَّما دسعَتْ بِجرَّتها في وجه الذي يرحُلها أو يعالجها فيلقى من ذلك أشدّ الأذى )
ومعلومٌ أَنَّها تفعَلُ ذلك على عمد .
فلذوات الأقدام في ذلك مذهب ولذوات الكُروش من الظِّلف والخفِّ في ذلك مذهب ولذوات الأنياب في ذلك مذهب وللسَّمك والتمساح الذي يشبه السَّمَكَ في ذلك مذهب .
ويزعمون أن جوف التمساح إن هو إلاَّ معاليق فيه وأنه في صورة الجراب مفتوح الفم مسدود الدُّبر ولم أَحقَّ ذلك وما أكثر من لا يعرفُ الحال فيه .
الرجوع إلى طلب النسل عند الحمام ثم رجع بنا القولُ في الحمام بعد أن استغنى ولده عنه وبعد أن نُزِعت الرحمة منه وذلك أنّه يبتدئُ الذَّكرُ الدُّعاء والطرد وتبتدئ الأنثى بالتأتّي

والاستدعاء ثمَّ تزيف وتتشكّل ثمَّ تمكِّن وتمنع وتجيبُ وتصدفُ بوجهها ثم يتعاشقان ويتطاوعان ويحدث لهما من التغزُّل والتفَتُّل ومن السَّوف والقبَل ومن المصِّ والرَّشف ومن التنفُّخِ والتنفُّج ومن الخيلاء والكبرياء ومن إعطاء التقبيل حقه ومن إدخال الفم في الفم وذلك من التطاعُم وهي المطاعَمة وقال الشاعر : ( لم أَعطها بيدي إذ بتُّ أرشُفُها ** إلاَّ تَطاولَ غصنُ الجيد بالجيدِ ) هذا مع إرسالها جناحيها وكفَّيها على الأرض ومع تَدَرعها وتبعُّلها ومع تصاوله وتطاوُله ومع تنفُّجه وتنفُّخِه مع ما يعتريه مع الحِكة والتفلِّي والتنفُّش حتّى تراهُ وقد رمى فيه بمثله .
ثمُّ الذي ترى من كسْحِه بذنبه وارتفاعِه بصدره ومن ضرْبه بجناحِه ومن فرحه ومَرَحِه بعد قَمْطِه والفراغِ من شهوتِه ثمَّ يعتريه ذلك في الوقت الذي يفتر فيه أنكحُ النَّاس .

القوة التناسلية لدى الحمام
وتلك الخَصلةُ يفُوق بها جميع الحيوان لأنّ الإنسان الذي هو أكثر الخلْق في قوّة الشهوة وفي دوامها في جميع السَّنة وأرغبُ الحيوانِ في التصَنُّع و التغزل والتشكُّل والتفتُّل أفتر ما يكونُ إذا فرغ وَعندَها يركبُه الفُتور ويحبُّ فِراق الزَّوج إلى أن يعودَ إلى نشاطِه وترجِعَ إليه قُوَّتُه .
والحمامُ أنشط ما يكون وأفرح وأقوى ما يكون وأمرح مع الزَّهو والشكل واللهْو والجَذل أبردَ ما يكون الإنسانُ وأفتره وأقطَع ما يكون وأقْصرَه .
هذا وفي الإنسان ضروبٌ من القُوى : أحدها فَضَل الشّهْوةِ والأخرى دوام الشهْوة في جميع الدَّهر والأخرى قوة التصَنُّع والتكلف وأنتَ إذا جمعتَ خِصالَه كلها كانت دونَ قوَّةِ الحمام عندَ فَراغِه من حاجته وهذه فضيلةٌ لا يُنْكِرُها أحدٌ ومَزِيّة لا يجحدها أحد .

البغال ونشاطها
ويقال : إنّ النَّاس لم يَجِدُوا مثلَ نشاط الحمام في وَقت فَتْرَة الإنسان إلاّ ما وجدوه في البغال فإنّ البغال تحمِل أثقالاً عشية فتسيرُ بقيَّة يومها وسوادَ ليلتها وصدرَ نهارِ غَدِها حتّى إذا حطُّوا عن جميع ما كان محمّلاً من أصناف الدوَاب أحمالها لم يكنْ لشيء منها همَّةٌ ولا لِمَنْ رَكِبَها من النّاس إلاّ المَرَاغة والماء والعَلف وللإنسان الاستلقاء ورفعُ الرِّجْلين والغمْز والتأوُّه إلاّ البغال فإنها في وقت إعياء جميعِ الدواب وشدّة كلالها وشَغْلها بأنفسها ممّا مرَّ عليها ليس عليها عملٌ إلاّ أنْ تدْلي أيورَها وتشظَّ وتضرِبَ بها بطونَها وتحُطها وترفعها وفي ذلك الوقت لو رأى المكاري امرأة حسناء لَما انتَشَرَ لها ولا هَمَّ بها ولو كان مُنعظاً ثم اعتراه بعْض ذلك الإعياء لنَسي الإنعاظ .
وهذه خَصْلة تخالف فيها البغالُ جميعَ الحيوانِ وتزعم العَمَلة أنَّها تلتمس بذلك الرَّاحَة وتتداوى به فليس العجبُ إن كان ذلك حقّاً إلاّ في إمكان ذلك لها في ذلك الوقت وذلك لا يكون إلاّ عن شهوة وشَبقٍ مُفرط .


النشاط العجيب لدى الأتراك وشِبهٌ آخرُ وشِكلٌ من ذلك كالذي يُوجدَ عند الأتراك عند بلوغ المنْزِل بعد مسير اللّيل كلِّه وبَعْضِ النَّهار فإن النَّاسَ في ذلك الوقْتِ ليس لهم إلاّ أن يتمددوا ويقيِّدوا دوابّهم والتركي في ذلك الوقت إذا عاين ظبْياً أو بعضَ الصّيد ابْتَدَأ الرَّكْضَ بمثلِ نشَاطه قبلَ أن يسيرَ ذلك السير وذلك وقْتَ يَهمُّ فيه الخارِجيَّ والخَصيَّ أنفسُهمُا فإنَّهما المذكوران بالصَّبرِ على ظَهْر الدّابَّةِ )
فطام البهائم أولادها وليس في الأرض بهيمةٌ تَفطِمُ ولدَها عن اللّبن دَفْعةً واحدةً بل تجِدُ الظّبيةَ أو البقرة أو الأتان أو الناقة إذا ظنت أنّ ولدَها قد أطاق الأكل منَعَتْهُ بعض المنْع ثمّ لا تزل تُنزِّل ذلك المنْع وترتبه وتدرِّجه حتَّى إذا علمتْ أنّ به غنًى عنها إنْ هي فطمته فطاماً لا رجْعَة فيه منَعَتْه كلَّ المنْع .


والعرب تسمِّي هذا التَّدبيرَ من البهائم التَّعفيرَ ولذلك قال لبيد : ( لمعفّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَه ** غُبْسٌ كواسبُ ما يُمَنُّ طعامُها ) وعلى مثل هذه السِّيرة والعادة يكون عملُ الحمامِ في فراخه .

من عجيب أمر الحمام
ومن عجيب أمر الحمام أنّه يقلب بيضه حتى يصير الذي كان منه يَلي الأرض يَلي بدنَ الحمام من بطنه وباطِنِ جَناحهِ حتّى يُعطيَ جميعَ البيضةِ نصيبها من الحضن ومن مَسِّ الأرضِ لعلمها وخَصْلَةٌ أخرى محمودةٌ في الحمام وذلك أنّ البغْل المتولِّد بينَ الحمار والرَّمَكة لا يبقى له نسل والرَّاعِبي المتولّد فيما بينَ الحمام والوَرشان يكثر نسله ويطولُ عمرُ ولدهِ والبُخْتُ والفوالج إنْ ضرَبَ بعضُها بعضاً خرج الولدُ منقوص الخلق لا خير فيه والحمامُ كيفمَا أدَرتَه وكيفما زَاوجْتَ بينَ متّفِقها ومختلفها يكون الولد تامَّ الخلق مأمول الخير

فمن نتاج الحمام إِذا كان مركِباً مشْتركاً ما هو كالرّاعِبي والوَرداني وعلى أنّ للورْداني غرابةَ لون وظرَافَة قَدٍّ للرَّاعِبيِّ فضيلةٌ في عِظم البدنِ والفِراخِ وله من الهديلِ والقَرْقَرَةِ ما ليس لأبويه حتى ِّ صار ذلك سبباً للزِّيادة في ثمنه وعلّةً للحِرْص على اتِّخاذه .
والغنمُ على قسمين : ضأن ومَعز والبقرُ على قسمين : أحدهما الجواميس إلا ما كان من بقرِ الوحْش والظِّلْفُ إذا اختلَفا لم يكنْ بينهما تسافُدٌ ولا تلاقح فهذه فضيلة للحمام في جهة الإنسال والإلقاح واتِّساع الأرحام لأصنافِ القبول وعلى أنَّ بينَ سائر أجناس الحمامِ من الوَرَاشين والقماريّ والفواخت تسافداً وتلاقُحاً .

مما أشبه فيه الحمام الناس
وممَّا أشبّهَ فيه الحمامُ النَّاسَ أنّ ساعاتِ الحضْن أكثُرها على الأنثى وإنّما يحضُن الذّكرُ في صدْر النهار حَضْناً يسيراً والأنثى كالمرأة التي تكفُل

الصبيَّ فتَفْطِمه وتمرِّضه وتتعهده بالتمهيدِ والتَّحريك حتّى إذا ذهب الحضْنُ وانصرم وقتُه وصار البيضُ فِراخاً كالعِيال في البيت يحتاجون إلى الطّعام والشّراب صار أكثرُ ساعات الزَّقِّ على الذَّكر كما كان أكثرُ ساعاتِ الحضنْ على الأنثى .
وممَّا أشبه فيه الحمام النَّاس ما قال مثنَّى بنُ زُهير وهو إمام النّاس في البصرة بالحمام وكان جيِّد الفِراسة حاذقاً بالعلاج عارفاً بتدبير الخارجيِّ إذا ظهرت فيه مَخيلة الخير واسم الخارجيّ عندهم : المجهول وعالماً بتدبير العريِق المنسوب إذا ظهَرتْ فيه علاماتُ الفُسولِة وسوء الهِداية وقديمكن أن يَخلُفَ ابن قُرَشَيَّين وَيَنْدُب ابن خوزِيٍّ من نبطيَّةٍ وإنما فضَلنا نتاج العلْية على نِتاج السِّفلةِ لأنّ نِتاجَ النَّجابة فيهم أكثرُ والسٍّ قوط في أولاد السفلة أعمُّ فليس بواجبٍ أن يكون السفلةُ لا تَلِد إلاّ السفلة والعِلْية لا تَلِد إلاّ العِليةَ وقد يلدِ المجنونُ العاقِلَ والسخيُّ البخيلَ والجميل القبيحَ .


وقد زعم الأصمعي أنّ رجلاً من العرب قال لصاحب له : إذا تَزَوَّجْتَ امرأةً من العَرَب فَانظُرْ إلى أخوالها وأعمامها وإخوتها فإنها لا تخطئ الشبّهَ بواحدٍ منهم وإنْ كان هذا الموًصي والحكيم جعل ذلك حُكماً عامّاً فقد أسرفَ في القول وإن كان ذهبَ إلى التّخويف والزَّجْر وقال مثنّى بنُ زهير : لم أر قطُّ في رجلِ وامرأةٍ إلاّ وقد رأيتُ مثلَه في الذَّكر والأنثى من الحمام : رأيت حمامة لا تريد إلاّ ذكرَها كالمرأة لا تريدُ إلاّ زوجها وسيّدها ورأيتُ حمامةً لا تمنَع شيئاً من الذُّكورة ورأيتُ امرأةً لا تمنع يَدَ لامس ورأيت الحمامةَ لا تزيف إلا بعْدَ طَرْدٍ شديد وشدة طلبٍ ورأيتُها تزِيفَ لأَوَِّل ذَكر يُريدُها ساعةَ يقصِد إليها ورأيتُ من النساء كذلك ورأيت حمامةً لها زوج وهي تمكن ذكراً آخرَ لاتَعْدُوهُ ورأيتُ مثل ذلك من النساء ورأيتُها تزيفُ لغير ذكرِها وذكرُها يراها ورأيتها لا تفعل ذلك إلاّ وذكرها يطيرُ أو يحضُنُ ورأيت الحمامةَ تقمُطُ الحمام الذكور ورأيت الحمامةَ تقمط الحمامة ورأيت أنثى كانت لي لا تقمط إلا الإناث ورأيت أخرى تقمط الإناثَ فقط ولا تدَع أنثى تقمطها .


قال : ورأيت ذكراً يقمُط الذُّكورة وتقمطه ورأيت ذَكراً يقمُطها ولا يدعها تقمطه ورأيت أنثى )
تزيفُ للذُّكورةِ ولا تدع شيئاً منها يقمطها .
قال : ورأيت هذه الأصنافَ كلَّها في السَّحّاقات من المذكَّرات والمؤنثات وفي الرَّجال الحَلَقيِّين واللُّوطيِّين وفي الرجَال من لا يريد النساء وفي النساء من لا يريد الرجال .
قال : وامتنعتْ عليَّ خصلةٌ فو اللّه لقد رأيت من النساء من تزْني أبداً وتساحق أبداً ولا تتزوج أبداً ومن الرجال من يلوط أبداً ويزني أبداً ولا يتزوَّج ورأيت حماماً ذكراً يقمط ما لقي ولا يزاوج ورأيتُ حمامَة تمكِّن كلَّ حمامٍ أرادَها مِنْ ذكرٍ وأنثى وتقمُطُ الذكورةَ والإناثَ ولا تزاوِج ورأيتها تزَاوج ولا تبيض وتبيضُ فيفسدُ بيضُها كالمرأة تتزَوَّج وهي عاقر وكالمرأة تلد وتكون خرقاء ورْهاء ويعرض لها الغلظة والعقوق للأولاد كما يعتري ذلك العُقاب .
وأمَّا أنَا فقد رأيتُ الجفاء للأَولاد شائعاً في اللّواتي حَمَلْن من الحرام ولربَّمَا ولدت من زَوجها فيكون عطفها وتحنُّنها كتحنن العفيفاتِ

السَّتيرات فما هو إلاّ أن تزنيَ أو تَقْحُب فكأَنَّ اللّه لم يضْرِب بينها وبين ذلك الولدِ بشبكة رَحِم وكأنّها لم تَلِدْهُ .
قال مثنَّى بنُ زهير : ورأيتْ ذكراً له أنثيان وقد باضَتا منه وهو يحضُن مع هذه ومع تلك ويزُقُّ مع هذه ومع تلك ورأيت أنثَى تبيض بيضة ورأيت أنثى تبيض في أكثر حالاتها ثلاث بيضات .
وزعم أنّه إنَّما جزَم بذلك فيها ولم يظنه بالذَّكر لأنّها قد كانت قبل ذلك عند ذكرٍ آخر وكانت تبيض كذلك .
ورأيتُ أنا حمامةً في المنزل لم يعرِضَ لها ذَكرٌ إلاّ اشتدّت نحوه بحدَّةٍ ونزقٍ وتسرُّعٍ حتِى تنقر أينَ صادفتْ منهُ حتى يصدّ عنها كالهارب منها وكان زوجها جميلاً في العَين رائعاً وكان لها في المنزل بنون وبنو بنين وبنات وبنات بنات وكان في العَين كأنّه أشبُّ من جميعهنَّ وقد بَلَغ من حظوتِه أني قلَّما رأيتُه أرادَ واحدةً من عرْض تلك الإناثِ فامتنعتْ عليه وقد كن يمتنعن من غيره فبينا أنا ذاتَ يومٍ جالسٌ بحيث أراهنّ إذ رأيتُ تلك الأُنثى قد زافتْ لبعض بنيها فقلت لخادمي :

ما الذي غيَّرها عن ذلك الخلق الكريم فقال : إني رَحّلت زوجها من القاطول فذهب ولهذا شهر فقلت : هذا عذر .
قال مثنّى بنُ زهير : وقد رأيت الحمامة تزاوِج هذا الحمام ثم تتحول منه إلى آخر وَرَأيت ذكراً فَعَلَ مثل ذلك في الإناث ورأيت الذَّكرَ كثيرَ النَّسل قويًاً على القمْط ثمَّ يُصِفي كما يُصْفي )
الرَّجلُ إذا أكثر من النَّسْل والجماع .
ثمَّ عدّد مُثَنًّى أبواباً غيرَ ما حفِظت ممَّا يُصابُ مثلُه في الناس . ( خبرة مثنَّى بن زهير بالحمام ) وزعموا أنّ مثنًّى كان ينظر إلى العاتِق والمخلِف فيظنَ أنّه يجيء من الغاية فلا يكاد ظنهُ يخطئ وكان إذا أظهرَ ابتياع حمامٍ أغلوْه عليه

وقالوا : لم يطلُبْه إلاّ وقد رأى فيه علامةَ المجيء من الغاية وكان يدسُّ في ذلك ففطنوا له وتحفظوا منه فربَّما اشترى نصفَه وثلثه فلا يقصِّر عند الزِّجال من الغاية .
وكان له خصيٌّ يقال له خديج يجري مجراه فكانا إذا تناظرا في شأنِ طاِئرٍ لم تُخلِف فراستهما .

المدة التي يبيض فيها الحمام والدجاج
قال : والحمام تبيض عشرة أشهرِ من السَّنة فإذا صانوه وحفِظوه وأقاموا له الكفاية وأحسنُوا تعهُّدُه باضَ في جميع السَّنة .
قالوا : والدَّجاجة تبيض في كلِّ السَّنة خلا شهرين .
ضروب من الدجاج ومن الدَّجاج ما هو عظيم الجثّة يبيض بيضاً كبيراً وما أقل ما يحضُن ومن الدجاج ما يبيض ستِّين بيضة وأكثرُ الدجاج العظيم الجثَّة يبيضُ أكثرَ من الصغير الجثَّة .


قال : أما الدَّجاج التي نسبت إلى أبي ريانوس الملك فهو طويلُ البدَن ويبيضُ في كلّ يوم وهي صعبة الخلق وتقتل فراريجها .
ومن الدَّجَاج الذي يربَّى في المنازل ما يبيض مرَّتين في اليوم ومن الدجَاج ما إذا باض كثيراً مات سريعاً لذلك العَرض .
قال : والخُطَّاف تبيض مَرَّتين في السّنة وتبني بيَتها في أوثق مكانٍ وأعلاه .
فأمَّا الحمام والفَواخت والأطْرُغلاَّت والحمام البريُّ فإنّها تبيض مرَّتين في السنة والحمامُ الأهليُّ يبيض عشْر مرات وأما القَبَج والدُّرَّاج فهما يبيضان بين العُشب ولا سيما فيما طال شيّاً والتوى .
خروج البيضة وإذا باض الطّيرُ بيضاً لم تخرُج البيضة من حدِّ التحْدِيد والتَّلطيف بل يكون الذي يبدأ بالخروج الجانب الأعظم وكان الظنُّ يسرعُ إلى أنّ الرأس المحدَّد هو الذي يخرج أوّلاً .


قال : وما كان من البيض مستطيلاً محدَّد الأطراف فهو للإناث وما كان مستديراً عريض الأطراف فهو للذّكور .
قال : والبيضة عندَ خروجهِا ليِّنَة القِشْر غير جاسية ولا يابسة ولا جامدة .
بيض الريح والتراب قال : والبيض الذي يتولد من الريح والتُّراب أصغرُ وألطَف وهو في الطِّيب دُونَ الآخر ويكونُ بيضُ الرِّيح من الدجاج والقبج والحمام والطاوس والإوز .
أثر حضن الطائر قال : وحضْن الطائر وجثومه على البَيض صلاَح لبَدن الطائر كما يكون صلاحاً لبدَن البيض ولا كذلك الحضْنُ على الفراخ والفراريج فربما هلك الطائر عن ذلك السبب .


تكوّن بيض الريح وزعم ناسٌ أن بيض الرِّيح إنما تكوَّن منْ سفادٍ متقدِّم وذلك خطأٌ من وجهين : أمّا أحدُهما فأن ذلك قد عُرف من فَرَاريجَ لم يَرينَ ديكاً قط والوجه الآخر : أن بيضَ الريح لم يكن منه فَرُّوج قطّ إلاّ أن يسفَدَ الدجَاجة ديك بعد أن يمضي أيضاً خلْقُ البيض .
معارف شتى في البيض قال : وبيض الصّيف المحضون أسرعْ خروجاً منه في الشتاء ولذلك تحضن الدجاجة البيضةَ في الصّيف خمس عشرة ليلة .
قال : وربَّما عَرَض غيمٌ في الهواء أو رَعْدٌ في وقتِ حضْن الطائر فيفسُدُ البيض وعلى كل حال ففسادُه في الصيف أكثر والموتُ فيها في ذلك الزمان أعمّ وأكثر ما يكون فسادُ البيض في الجَنائب ولذلك كانَ

ابن الجهم لا يطلبُ من نسائه الوَلد إلاّ والرِّيح شمال وهذا عندي تعرُّضٌ للبلاء وتحُّكك بالشرّ واستدعاء للعقوبة .
وقال : وبعضهم يسمِّي بيضَ الرِّيح : البيض الجُنُوبيَّ لأنَّ أصناف الطّيرِ تقْبَلُ الرِّى ح في أجوافها .
وربَّما أفرخ بيضُ الرِّيح بسفادٍ كان ولكنَّ لونَه يكونُ متغيِّراً وإن سفِد الأنثى طائرٌ من غير جنسها غيَّر خلق ذلك المخلوقِ الذي كان من الذّكر المتقدِّم وهو في الديَكةِ أعمَّ .
ويقولون : إنّ البَيض يكون من أربعةِ أشياء : فمِنه مَا يكونُ من التُّراب ومنه ما يكونُ من السفاد ومنه ما يكون من النّسيم إذا وصلَ إلى أرحامهن وفي بعض الزَّمَان ومنْهُ شيءٌ ُ يعتري الحَجَل وما شاكله في الطّبيعة فإنّ الأنثى ربَّما كانَتْ على سُفَالةِ الريح التي تهبُّ من شِقِّ الذكَر في بعض الزمَان فتحتشي من ذلك بيضاً ولم أرهم يشكون أن النَّخلة المُطْلِعَةَ تكون بقربِ الفُحَّال وتحت ريحه فتَلقح بتلك الريح وتكتفي بذلك

قال : وبيضُ أبكارِ الطّير أصغر وكذلك أولادُ النساء إلى أنْ تتسع الأرحَام وتنتفخ الجنوب .

هديل الحمام
ويكون هديل الحمام الفتيِّ ضئيلاً فإذا زقَّ مِرَاراً فَتَحَ الزَّقُّ جلْدَة غَببه وحوصلِته فخرَجَ الصّوتُ أغلظَ وأجهرَ .
حياة البكر وهم لا يثِقون بحياة البكر من النّاسِ كما يثِقون بحياة الثاني ويرون أنّ طبيعَة الشباب والابتداء لا يعطيانه شيئاً إلاّ أخَذه تضايقُ مكانِه من الرّحم ويحبُّون أن تبكّر بجارية وأظُنُّ أن ذلك إنما هو لشدّةِ خوفِهم على الذكر وفي الجملة لا يتيمَّنون بالبكر الذكر فإن كان البكرُ ابنَ بكرٍ تشاءمُوا به فإن كان البكْرُ ابنَ بكرَينِ فهو في الشؤمِ

مثل قيسِ بنِ زهير والبَسوس فإن قيساً كان أزْرق وبكراً ابن بكرين ولا أحفظُ شأن البَسوس حفظاً أجزمُ عليه .

ما يعتري الحمام والإوز بعد السفاد
قال : وأمّا الحمام فإنّه إذا قمط تَنَفّشَ وتكبَّر ونَفَضَ ذَنبه وضَرَبَ بجناحِه وأمّا الإوَزّ فإنّه إذا سفِد أكثر من السباحة اعتراه في الماء من المَرَح مثلُ ما يعتري الحمام في الهواء .


قال : وبيضُ الدجَاج يتمُّ خلقُه في عشْرة أيام وأكثرَ شيئاً وأمَّا بيض الحمام ففي أقلَّ من ذلك .

احتباس بيض الحمامة
والحمامة ربَّما احتبَسَ البيضُ في جوفها بَعْدَ الوقتِ لأمورٍ تَعْرِضُ لها : إمّا لأمر عَرَض لعُشِّها وأفحوصها وإمّا لنتْفِ ريشها وإمَّا لعلَّةِ وجعٍ من أوجاعها وإمّا لصوتِ رعد فإنّ الرَّعدَ إذا اشتَدَّ لم يبقَ طائرٌ على الأرض واقع إلاّ عدَا فَزعاً وإن كان يطيرُ رَمى بنفسه إلى الأرض قال علقمة بن عَبَدَة : ( كأنّهمُ صابتْ عليهمْ سحابةٌ ** صواعقُها لطيرهِنَّ دَبِيبُ )

تقبيل الحمام
قال : وليس التَّقبيلُ إلاّ للحمَام والإنسان ولا يدَعُ ذلك ذكرُ الحمام إلاَّ بعد الهَرَم وكان في أكثرِ الظَّنِّ أنَّه أحوجُ ما يكون إلى ذلك التَّهييجِ به عند الكِبَرِ والضَّعف .
وتزعمُ العوامُّ أنَّ تسافُدَ الغِرْبان هو تطاعُمُها بالمناقير وأنّ إلقاحَها إنَّما يكونُ من ذلك الوجه ولم أرَ العلماء يعرفون هذا .
قال : وإناثُ الحمام إذا تسافَدَت أيضاً قَبَّل بَعْضُهُنَّ بعضاً ويقال إنّها تبيضُ عن ذلك ولكِنْ لا يكون عن ذلك البيضِ فِراخ وإنَّه في سبيل بيض الريح . ( تكوُّن الفرخ في البيضة ) قال : ويَستَبينُ خَلْقُ الفِراخ إذا مضت لها ثلاثةُ أيَّامٍ بليالها وذلك في شَبَاب الدَّجاج وأمَّا في المَسَانِّ منها فهو أكثر وفي ذلك الوقت تُوجد الصُّفرةُ من النَّاحيةِ العُليَا من البَيضة عند الطرَف المحدَّد وحيث يكون أوَّلُ نَقْرِها فَثَمَّ يستبين في بياض البَيضة مثلُ نقطة من دم وهي تختلجُ وتتحرَّك والفرخ إنَّما يُخلق من البَياض ويَغْتذي

الصُّفرة ويتمُّ خَلْقُه لعشرةِ أيّام والرَّأسُ وحْدَهُ البيض العجيب قال : ومن الدَّجاج ما يبيض بيضاً له صُفْرتان في بعض الأحايين خبَّرني بذلك كم شِئتَ من ثقاتِ أصحابِنا .
وقال صاحب المنطق : وقد باضت فيما مضى دَجاجةٌ ثماني عشْرَة بيضةً لكلِ بيضةٍ مُحَّتانِ ثمَّ سخِّنت وحُضنت فخرَجَ من كلِّ بيضة فَرُّوجان ما خلا البيضَ الذي كان فاسداً في الأصل وقد يخرج من البَيضة فَرُّوجان ويكون أحدُهما أعظمَ جثَّةً وكذلك الحمام وما أقَلَّ ما يغادر الحمامُ أن يكون أحدُ الفرْخَيْنِ ذكَراً والآخر أنثى .
معارف في البيض قال : وربَّما باضتْ الحمامةُ وأشباهها من الفَواخِتِ ثَلاث بيضات فأمَّا الأُطرُغلاَّت والفَواخت فإنها تبيض بيضَتينِ وربّما باضتْ ثَلاثَ

بيضات ولكنْ لا يخرُجُ منها أكثرُ من فرخين وربّما كان واحداً فقط .
قال : وبعض الطير لايبيض إلاّ بعدَ مُرُورِ الحَوْلِ عليه كَامَلاً والحمامةُ في أكثر أمْرها يكونُ أحدُ فَرخَيها ذكراً والآخر أنثى وهي تبيضُ أوّلاً البيضةَ التي فيها الذَّكر ثمّ تقيم يوماً وليلةً ثمَّ تبيض الأخرى وتحضُنُ ما بينَ السَّبْعةَ عشَرَ يوماً إلى العشرين على قدْر اختلاَفِ طباع الزَّمان والذي قال : وأمّا جميعُ أجناسِ الطيرِ ممّا يأكل اللّّحمَ فلم يظهْر لنا أنَّه يبيضُ ويُفرخ أكثرَ من مرَّة واحدة مَا خلا الخُطّاف فإنَّه يبيض مرَّتين .
تربية الطيور فراخها والعُقابُ تبيضُ ثلاث بيضات فَيَخْرُج لها فرْخان واختلفوا فقال بعضهم : لأنها لا تحضُن إلاَّ بَيضتين وقال آخرون : قد تحضُنْ وَيخرج

لها ثلاثَةُ أفراخ ولكنَّها ترمي بواحدٍ استثقالاً للتكسُّب على ثَلاثة وقال آخرون : ليس ذلك إلاّ بما يعتريها من الضعفِ عن الصّيد كما يعتري النُّفساء )
من الوهْن والضّعف وقال آخرون : العُقاب طائر سيّء الخلق رديءُ التَّربية وليس يُستعانُ على تربية الأولاد إلاَّ بالصَّبْر وقال آخرون : لا ولكنّها شديدةُ النَّهم والشَّرَهِ وإذا لم تكنْ أمُّ الفِراخِ ذاتَ أثرَةٍ لها ضاعت .
وكذلك قالوا في العَقعقَ عند إضاعتها لفراخها حتى قالوا : أحمقُ من عَقْعَقَ كما قالوا : أحذَر من عقْعقَ .
وقالوا : وأمّا الفَرخ الذي يُخرجه العُقاب فإنّ المكلَّفَةَ وهي طائرٌ يقال لها كاسِر العِظام تقبلُه وتربِّيه .
والعُقاب تحضن ثلاثين يوماً وكذلك كلُّ طائرٍ عظيم الجثَّة مثل الإوزّ وأشباهِ ذلك فأمَّا الوسط

والحدأة تبيضُ بيضتين وربّما باضتْ ثلاث بيضات وخرَج منهن ثلاثة فِراخ .
قالوا : وأما العقبان السُّودُ الألوان فإنَّها تربّي وتحضن .
وجميع الطير المعقَّف المخالب تطردُ فراخها من أعشاشها عندَ قوَّتها على الطَّيران وكذلك سائر الأصنافِ منَ الطيرِ فإنَّها تطردُ الفِراخ ثمَّ لا تعرفُها ما عدا الغداف فإنها لا تزالُ لولدها قابلة ولحالِهِ متفقِّدة .
أجناس العقبان وقال قوم : إن العِقبانَ والبُزاة التَّامّة والجهارْرَانك والسُّمنان

والزَّمامجِ والزَّرارقة إنها كلّها عِقْبان وأمَّا الشّواهينُ والصُّقورةَ واليَوايئ فإنها أجناسٌ أخر .
حضن الطير قال : وقالوا : فراخ البزاة سمينة طَيِّبَةٌ جدّاً وأما الإوزة فإنها التي تحضن دونَ الذكر وأمّا الغِربانُ فعلى الإنَاث الحضن والذكورة تأتي الإنَاث بالطُّعمة .
وأمّا الحجَل فإنَّ الزّوج مِنها يهيّئان للبَيض عُشّى ن وثيقين

مقسومَين عليهما فيحضنُ أحدُهُمَا الذَّكَرَ والآخرَ الأنثى وكذلك هُمَا في التَّربية وكلُّ واحدٍ منهما يعيشُ خمساً وعِشرين سنة ولا تلْقَحُ الأنثى بالبيض ولا يُلِقحُ الذكرُ إلاَّ بعدَ ثلاثِ سنين .
قال : وأمَّا الطّاوس فأوّل ما تبيضُ ثماني بيضات وتبيض أيضاً بيضَ الريح والطاوس يُلقي ريشَه في زَمن الخَريف إذا بدَا أوّلُ ورقِ الشَّجر يسقُطُ وإذا بدأ الشَّجرُ يكتسي ورقاً بدأ الطاوس فاكتسى ريشاً . )


ما ليس له عشٌّ من الطير قال : وما كان من الطّير الثَّقيل الجثَّة فليس يهيئ لبيضهِ عُشاً من أجْل أنَّه لا يُجيد الطَّيرَان ويثقل عليه النهوض ولا يتحَلَّق مثل الدُّرَّاج والقَبَجَ وإنما يبيض على التُراب وفراخ هذه الأجناس كفراريج الدَّجاج وكذلك فراريج البطِّ الصِّيني فإنَّ هذه كلَّها تخرُج من البيض كاسية كاسبة تلقط من ساعتها وتَكفي نفسها .
القبجة قال : وإذا دنا الصَّيّاد من عُشِّ القبجة ولَها فراخٌ مرَّتْ بينَ يدَيهِ مَراً غيرَ مفُيت وأطمعتْه في نفسها ليتبعها فتمرُّ الفراخ في رجوعها إلى موضعِ عُشِّها والفراخ ليسَ معها من الهِداية ما مع

أمّها وعلى أنّ القَبَجَةَ سيِّئة الدَّلالةِ والهداية وكذلك كلُّ طائر يعجَّلُ له الكَيْس والكسْوة ويعجَّل له الكَسْبُ في صغره .
وهذا إنَّما اعتراها لقَرابةِ ما بينَها وبين الدِّيك .
قال : فإذا أمعن الصَّائد خلْفها وقد خرجت الفراخ من موضَعِها طارت وقد نحَّتْه إلى حيثُ لا يَهتدي الرُّجوع منه إلى موضع عشِّها فإذا سقَطَتْ قريباً دعتْها بأصواتٍ لها حتَّى يجتمعْنَ إليها .
قال : وإناثُ القَبَجْ تبيض خَمْسَ عشْرَةَ بيضة إلى ستَّ عشرةَ بيضة قال : والقبج طيرٌ منكرٌ وهي تفرُّ ببَيضها من الذَّكر لأنَّ الأنثى تشتغل بالحضْن عن طاعة الذَّكر في طلب السِّفاد والقَبَج الذَّكَرُ يوصَفُ بالقوّة على السِّفاد كما يوصف الدِّيكُ والحجَلُ والعُصفور .
قال : فإذا شُغِلَت عنه بالحضْن ظلبَ مواضعَ بيضها حتى يفسِدَهُ فلذلك ترتاد الأنثى عشَّها في مَخَابِئَ إذا أحسَّت بوقْتِ البيض .
وثوب الذكورة على الذكورة وإذا قاتل بعضُ ذُكورةِ القَبَج بَعضاً فالمغلوبُ منها مسفودٌ والغالبُ

سافد وهذا العرض يعرِضُ للدِّيكة ولذكور الدَّراريج فإذا دَخَل بين الدِّيَكةِ ديكٌ غريب فمَا أكثَرَ ما تجتمع عليه حتَّى تسفَدَه وسفادُ ذُكورة هذه الأجناسِ إنما يعرض لها لهذه الأسباب فأمَّا ذُكورةُ الحَمير والخَنازيرِ والحمامِ فإنّ ذُكورَها تثِبُ على بعضٍ مِن جهة الشَّهوة . )
وكان عند يعقوبَ بن صباح الأشعثيِّ هِرّان ضخْمان أحدُهُما يكومُ الآخَر متى أرادهُ مِنْ غيرِ إكراهٍ ومِن غيرِ أن يكونَ المسْفودُ يريدُ من السَّافِد مِثلَ ما يريدُ منه السَّافد وهذا البابُ شائعٌ في كثير من الأَجناس إلاَّ أنَّه في هذه الأَجناس أوْجَد . ( صيد البُزاة للحمام ) ثمَّ رجَع بنا القَولُ إلى ذِكر الحمام من غير أن يشاب بذكر غيره .


زعم صاحبُ المنطق أنَّ البُزاةُ عشرة أجناس فمنها ما يضرِب الحمامة والحمامة جاثمة ومنها ما لا يضرب الحمامَ إلاّ وهو يطير ومنها ما لا يضرب الحمام في حال طَيَرَانِهِ ولا في حال جثومهِ ولا يعرض له إلاَّ أنْ يجده في بَعْض الأغْصان أو على بعض الأنشازِ والأشجار فعدَّد أجناسَ صيدِها ثمَّ ذكرَ أنَّ الحمامَ لا يخفى عليه في أوّل ما يرى البازيَ في الهواء أيُّ البُزَاةِ هُو وأَيُّ نوعٍ صًيدُه فيخالف ذلك ولمعرفة الحمامِ بذلك من البازي أشكال : أوَّلَ ذلك أنّ الحمامَ في أوَّلِ نُهوضِه يفصلُ بينَ النَّسر والعُقاب وبينَ الرّخمةِ والبازي وبينَ الغُرابِ والصَّقر فهوَ يَرَى الكرْكيَّ والطَّبرزين ولا يستوحِشُ منهما ويرى الزُّرَّق فيتضاءل فإنْ رأى الشّاهينَ فَقَدْ رأى السّمَّ الذعاف الناقِع .
والنَّعجة ترى الفِيلَ والزَّنْدَبِيلَ والجاموسَ والبعير فلا يهزُّها ذلك وترى السَّبع وهي لم تره قبل ذلك وَعضوُ من أعضاء تلك البهائم أعظمُ

وهي أهولُ في العين وأشنعُ ثمَّ ترى الأسَدَ فتخافه وكذلك البَبْر والنمر فإن رأت الذئب وحده اعتراها منه وحْدَهُ مثلُ ما اعتراها من تلك الأجناسِ لو كانت مجموعةً في مكانٍ واحد وليس ذلك عن تجرِبَةٍ ولا لأنّ منظرَه أشنعُ وأعظم وليسَ في ذلك عِلَّة إلاَّ ما طُبِعت عليه من تمييز الحيوان عندها فليس بمُسْتَنكَرٍ أنْ تَفْصِلَ الحمامة بينَ البازي والبازي كما فصلت بين البازي والكَرْكيِّ .
فإنْ زعمتَ أنَّها تعرف بالمخالب فمِنْقارُ الكرْكيِّ أشنع وأعظم وأَفظع وأطولُ وأعرض فأمَّا طَرَفُ منقار الأبغث فما كانَ كلُّ سنانٍ وإن كان مذرَّباً ليبلغه .

بلاهة الحمام وخرقه
قال صاحب الدِّيك : وكيفَ يكونُ للحمام من المعرفة والفِطنة ما تذكرون وقد جاء في الأثر : كُونُوا بُلْهاً كالحمام .
وقال صاحب الدِّيك : تقول العربُ : أخْرَق مِنْ حمامةٍ وممَّا يدل على ذلك قولُ عَبيدِ بنِ الأبرص : ( عَيُّوا بِأَمْرِهُمُ كما ** عَيَّتْ ببَيْضَتهَا الحَمَامهْ )

فإن كان عَبيدٌ إنما عَنَى حمامةً من حمامكم هذا الذي أنتم بِهِ تفْخَرُونَ فقد أكثرتم في ذكر تدبيرها لمواضعِ بَيضها وإحكامها لصَنعة عشاشها وأفاحيصها .
وإن قلتم : إنَّه إنما عَنَى بعضَ أجناسِ الحَمَام الوحشي والبَرّيّ فقد أخرجتمْ بعضَ الحَمَامِ مِنْ حُسْنِ التَّدْبير وعبيدٌ لم يُخصَّ حماماً دُونَ حمام .

رغبة عثمان في ذبح الحمام
وحدَّث أُسامةُ بن زيد قال : سمعتُ بعضَ أشْياخِنا منذُ زمانٍ يحدِّثُ أنَّ عثمانَ ابنَ عفَّانَ رضي اللّهُ تعالى عنه أراد أنْ يَذْبَحَ الحمَامَ ثمَّ قال : لولا أنّها أُمّةٌ من الأمم لأَمرت بذبحهن ولكنْ قُصُّوهنَّ فدلَّ بقوله : قُصُّوهنّ على أنَّها إنما تُذْبَحُ لرغبة مَنْ يتّخذُهنّ ويَلعبُ بهنَّ من الفِتْيانِ والأَحداثِ والشّطَّار وأصحابِ المراهَنة والقِمار والذين

يتشرَّفون على حُرَم الناس والجيران ويخْتَدِعُون بفراخ الحَمَامِ أولاد النَّاس ويرمون بالجُلاَهِقِ وما أكثر مَنْ قد فقأَ عيناً وهشَمَ أنْفاً وهتَمَ فَماً وهو لا يدري مَا يصنَع ولا يَقِفُ على مقدارِ مَا ركِبَ به القومَ ثم تذهب جِنايتُهُ هدَراً ويعودُ ذلك الدَّمُ مطلولاً بلا عقْل ولا قوَدٍ ولا قِصاص ولا أرْش إذْ كان صاحِبُه مجهولاً .
وعلى شبيهٍ بذلك كان عمرُ رضي اللّه عنه أمر بِذَبْحِ الدِّيَكة وأمرَ النبيُّ صلَّى اللّه عليه وسلَّم بقتْل الكلاب .
قالوا : ففيما ذكرنا دليلٌ على أنَّ أكْلَ لحومِ الكلابِ لم يكنْ مِنْ دينِهم ولا أخْلاقهِمْ ولا مِنْ دواعي شهواتهم ولولا ذلك لما جاء الأثرُ عن النبيِّ صلّى اللّه عليه وسلم وعُمرَ وعُثمانَ رضي اللّه تعالى عنهما بِذَبْح الدِّيكةِ والحَمَامِ وقتْل الكلاب ولولا أنّ الأمرَ على ما قلنا لقالوا : اقتلوا الدُّيوكَ والحَمَامَ كما قال : اقتلوا الكلاب وفي تفريقهم بينها دليلٌ على افتراقِ الحالاَتِ عندَهم .


قال : حدَّثني أسامة بن زيد وإبراهيمُ بنُ أبي يحيى أنَّ عثمان شكَوْا إليه الحَمَامَ وأنّه قال : مَنْ )
أخَذَ منهنَّ شيئاً فهو له وقد علمْنا أنّ اللفظَ وإن كان قد وقَعَ على شِكاية الحَمام فإن المعنى إنَّما هو على شكايةِ أصحاب الحَمام لأنّه ليس في الحَمامِ مَعنىً يدعُو إلى شكايةٍ .
قال : وحدّثنا عُثمان قال : سُئل الحسنُ عن الحَمام الذي يصطاده النَّاس قال : لا تأكلْه فإنّه منْ أموال الناس فجعله مالاً ونَهَى عن أكْله بغير إذنِ أهله وكلُّ ما كان مالاً فيبيعُه حسَنٌ وابتياعُه حسن فكيفَ يجوزُ لشيء هذه صفته أنْ يُذبح إلاَّ أن يكون ذلك على طريق العِقاب والزَّجْرِ لمن اتَّخذَه لما لا يحلّ .
قال : ورووا عن الزُّهري عن سعيدِ بن المسيَّب قال : نَهَى عُثمانُ عن اللعِبِ بالحَمَام وعن رمي ( أمْن حمام مكة وغِزْلانها ) والناس يقولون : آمَنُ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ ومِنْ غِزلان مكة وهذا شَائعٌ على جميع الألسنة لا يردُّ أحدٌ ممن يعرِفُ الأَمثَالَ والشّواهدَ قال عُقيبةُ الأَسديُّ لابن الزُّبير :

( ما زلتَ مذ حِججٍ بمكة محْرماً ** في حيثُ يأمَنُ طائرٌ وحَمامُ ) ( فَلَتَنْهَضَنّ العِيسُ تنفخُ في البُرَا ** يَجْتبْنَ عُرْض مَخارِمِ الأعلامِ ) ( أبنو المغيرةِ مثلُ آلِ خُويلدٍ ** يا لَلرّجال لِخِفّةِ الأحلام ) وقال النابغةُ في الغِزْلان وأمْنِهَا كقول جميع الشُّعراء في الحمام : ( والمؤمن العائذاتِ الطيرَ تمسَحُها ** رُكبانَ مَكّةَ بين الغِيلِ والسَّعَدِ ) ولو أنّ الظِّباء ابتُليْت مِمَّنْ يتَّخِذها بِمثل الذي ابتُليت به الحَمام ثمَّ ركبوا المسلمين في الغِزلان بمثل ما ركبوهم به في الحَمام لساروا في ذَبْحِ الغِزلان كسيرتهم في ذَبْحِ الحمام .
وقالوا : إنّه لَيبلُغُ مَن تعظيم الحَمام لحُرْمة البيتِِ الحرام أنّ أهلَ مكة يشهَدون عن آخرهم أنّهم لم يَرَوْا حَماماً قطُّ سقَطَ على ظهر الكعبة إلاَّ مِنْ

عِلةٍ عَرَضتْ له فإن كانت هذه المعرفة اكتساباً من الحَمام فالحَمامُ فوق جميعِ الطير وكلِّ ذي أربع وإن كان هذا إنَّما كان من طريقِ وقال الشّاعر في أمْن الحمَام : ( لقد علم القبائلُ أنّ بَيْتي ** تفرَّعَ في الذّوائبِ والسَّنامِ ) ( وأنَّا نَحْنُ أولُ من تَبَنَّى ** بمكّتها البيوتَ معَ الحَمام ) وقال كثيِّر أو غيره من بني سهم في أمْن الحَمام : ( لَعَنَ اللّهُ مَنْ يَسُبُّ عليّاً ** وحُسَيْناً مِنْ سُوقَةٍ وإمامِ ) ( أَيُسَبُّ المطيَّبون جدوداً ** والكرامُ الأخوالِ والأعمامِ ) ( يأمن الظبي والحَمامُ ولا يأ ** مَنُ آلُ الرَّسولِ عِنْدَ المَقامِ ) ( رحمةُ اللّهِ والسَّلامُ عليهم ** كلما قامَ قائمٌ بسلامِ )

وذكر شأنَ ابنِ الزبير وشأنَ ابنِ الحنفيَّة فقال : ( ومن يَرَ هذا الشَّيخَ بِالخِيفِ من مِنى ** مِنَ النَّاس يَعْلمْ أنَّهُ غيرُ ظالم ) ( سَمِيُّ النبيِّ المصطفَى وابن عمِّهِ ** وفكَّاكُ أغْلالٍ ونفَّاعُ غارمِ ) ( أبَى فهو لا يشْرِي هُدى بضَلالةٍ ** ولا يتَّقِي في اللّه لوْمَةَ لائمِ ) ( ونحن بحَمْدِ اللّهِ نتلُو كتابَهُ ** حُلولاً بهذا الخَيْفِ خَيفِ المحَارِمِ ) ( بحيثُ الحَمَامُ آمناتٌ سواكنٌ ** وتَلْقَى العدُوَّ كالوَليِّ المسالمِ ) قال صاحب الحَمام : أمَّا العرب والأعرابُ والشُّعَراء فقد أطبقوا على أنّ الحَمَامَة هي التي كانت دليلَ نوحٍ ورائده وهي التي استجعَلَتْ

عليه الطّوْقَ الذي في عنقها وعند ذلك أعطاها اللّه تعالى تلك الحِلْية ومنَحَها تلك الزِّينة بدعاء نوحٍ عليه السلام حينَ رجعتْ إليه ومعها من الكرْم ما مَعها وفي رجليها من الطِّين والحَمْأة ما برجليها فعوِّضتْ من ذلك الطِّين خِضابَ الرِّجلين ومن حُسن الدَّلاَلَةِ والطَّاعةِ طَوْقَ العنق .

شعر في طوق الحمامة
وفي طوقها يقول الفرزدق : ( فمن يكُ خائفاً لأذاةِِ شِعري ** فقد أَمِنَ الهِجَاءَ بنو حَرَامِ ) ( هم قادُوا سفيهَهُم وخافُوا ** قلائِدَ مِثلَ أطواقِ الحمامِ ) وقال في ذلك بَكْر بن النَّطَّاح :

( إذا شئتُ غنَّتْني بِبَغدَادَ قَيْنَة ** وإن شئتُ غنَّاني الحَمَامُ المطوَّق ) ( لباسي الحسامُ أو إزارٌ مُعصفرٌ ** ودِرْعُ حديدٍ أو قميصٌ مخلَّق ) فذكر الطَّوق ووصَفها بالغِناءِ والإطراب وكذلك قال حُمَيد بن ثَور : ( وليستْ مِنَ اللائي يكونُ حديثَها ** أمَام بيوتِ الحيِّ إنّ وإنَّما ) ثمّ قال : ( وما هاج هذا الشّوقَ إلاَّ حمامةٌ ** دعَتْ ساقَ حُرٍّ تَرْحَةً وتَرَنُّما )

( مطوّقةٌ خطْباء تصدَحَ كلما ** دنَا الصَّيفُ وانجاب الربيعَ فأنجما ) ثمّ قال بعد ذكر الطوق : ( إذا شئتُ غنَّتْنِي بأجزَاعِ بِيشَةٍ ** أو النَّخْلِ مِنْ تَثلِيثَ أو بيلملما ) ( عجبتُ لها أنَّى يكونُ غِناؤها ** فصيحاً ولم تَفْغَرْ بمنْطِقها فمَا ) ( ولم أرَ محزُوناً لهُ مِثلُ صوتِها ** ولا عَرَبيّاً شاقَهُ صوتُ أعجَما ) وقال في ذكر الطّوق وأنّ الحَمامةَ نَوّاحةٌ عبدُ اللّه بن أبي بكر وهو شهيد يوم الطائِف وهو صاحبٌ ابن صاحِب :

( فلم أرَ مثلِي طلّق اليومَ مثلها ** ولا مِثْلها في غير جرمٍ تطَلّقُ ) ( أعاتكُ لا أنْساكِ مَا هبَّتِ الصَّبَا ** وما نَاحَ قُمرِيُّ الحَمامِ المطوَّقُ ) وقال جَهْم بن خَلَف وذكرها بالنَّوح والغناء والطّوْق ودعوةِ نوح وهو قَوُلَهُ : ( وقد شاقني نَوْحُ قُمرِيةٍ ** طرُوبِِ العَشِيِّ هتوفِ الضُّحَى ) ( تَغَنَّتْ عَليهِ بلحنٍ لها ** يُهيِّج للصَّبِّ ما قدْ مَضى ) ( مطوَّقةٍ كُسِبتْ زِينةً ** بدعْوةِ نوحٍ لها إذ دَعَا ) ( فلم أرَ باكِيةً مِثلها ** تبكِّي وَدَمْعَتها لا تُرَى ) ( أضلّتْ فُرَيْخاً فَطَافَتْ لَهُ ** وقد عَلِقتْه حبالُ الرَّدَى ) ( فلما بدا اليأْسُ منهُ بَكَتْ ** عَليهِ وما ذا يردُّ البُكا ) ( وقد صادَهُ ضَرِمٌ مُلْحِمٌ ** خفوقُ الجَناحِ حَثِيثُ النَّجَا )

( حديد المخالِبِ عارِي الوَظِي ** فِ ضارٍ من الوُرْقِ فيه قنا ) ( تَرَى الطّيرَ والوحْش مِن خَوفه ** جوامزَ منه إذا ما اغتدى ) نزاع صاحب الدِّيك في الفخر بالطوق قال صاحب الديك : وأمَّا قوله : ( مطوّقَة كساها اللّه طوقاً ** ولم يخْصُصْ به طيراً سِواهَا ) كيف لم يخصُص بالأطواق غَيْرَ الحَمام والتَّدارِجُ أحقُّ بالأطواق وأحسنُ أطواقاً منها وهي في ذُكورتها أعمّ وعلى أنّه لم يصف بالطّوق الحَمامة التي فاخرتم بها الدِّيك لأنَّ الحَمامة ليست بمطوَّقة وإنما الأطواقُ لذكورة الوارشين وأشباه الوارشين من نوائح الطّير وهواتفِها ومغنِّياتها

( أعاتكَ لا أنساكِ ما هبَّتِ الصَّبَا ** وما ناحَ قُمرَيُّ الحمَامِ المطوَّقُ ) وقال الآخر : ( وقد شاقني نوحَ قمريةٍ ** طروبِ العَشِيِّ هَتُوفِ الضُّحى ) ووصفها فقال : ( مطوَّقةٍ كُسِيت زِينةً ** بدَعوةِ نوحٍ لها إذْ دَعا ) فإن زعمتم أنّ الحَمامَ والقمْرِيَّ واليمامَ والفواخِتَ والدَّبَاسِيَّ والشّفانِينَ والوارشين حمامٌ كلُّه قلنا : إنَّا نزعم أنّ ذكورةَ التَّدَارِجِ وذكورةَ القَبَج وذكورةَ الحجَلِ ديوكٌ كلها فإنْ كان ذلك كذلك فالفخْرُ بالطّوق نحن أولى به .
قال صاحب الحَمام : العرب تسمِّي هذه الأجناسَ كلها حماماً فجمعوها بالاسم العامّ وفرَّقوها بالاسم الخاص ورأينا صُورَها متشابهة وإن كانَ في الأجسامِ بعضُ الاختلافِ وفي الجُثَث بعض الائتلاف وكذلك المناقير ووجدناها تتشابه من طريق الزِّواج ومن طريقْ

الدُّعاء والغناء والنَّوح وكذلك هي في القدودِ وصُورِ الأعناق وقصب الريش وصِيغَة الرُّؤوس والأرجل والسُّوق والبَراثِنِ .
والأجناسُ التي عددتم ليس يجمعها اسمٌ ولا بلدةٌ ولا صورةٌ ولا زِواج وليس بين الدِّيَكة وبينَ )
تلك الذُّكورةِ نسبٌ إلاَّ أنّها من الطَّير الموصوفة بكَثْرةِ السِّفاد وأنَّ فِراخَها وفرارِيجها تخرُج من بيضها كاسية كاسبة والبطُّ طائرٌ مثقل وقد ينبغي أن تجعلوا فرخَ البطَّة فَرُّوجاً والأنثى دجاجةً والذَّكرَ دِيكاً ونحنُ نجد الحَمامَ ونجد الوراشين تتسافد وتتلاقح ويجيء منها الراعبيُّ والوردانيُّ ونجد الفَواخِت والقماريّ تتسافد وتتلاقح مع ما ذكرنا من التشابهُ في تلك الوجوه وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ بعضها مع بعْضٍ كالبُخْتِ والعراب ونتائج ما بينهما وكالبراذين والعِتاق وكلها خيلٌ وتلك كلها إبل وليس بين التَّدارج والقَبَج والحَجَلِ والدَّجاجِ هذه الأمورُ التي ذكرنا .
وعلى أنَّا قد وجدْنا الأطواقَ عامّةً في ذوات الأوضاحِ مِنَ الحَمام لأنَّ فيها من الألوان ولها من الشِّياتِ وأشكالِ وألوان الريش ما ليس لغيرها من الطَّير ولَو احْتجَجْنَا بالتَّسافُدِ دون التَّلاقُح لكان لقائل مقال ولكنَّا وجدنَاهَا تجمع الخَصلتين لأنَّا قدْ نجِدُ سُفهاء

النّاس ومن لا يتقَّذر من الناس والأحداث ومن تشتدُّ غلمته عند احتلامه ويَقِلُّ طرُوقُه وتطول عُزْبته كالمعْزِب من الرِّعاء فإنّ هذه الطَّبَقةَ من النّاس لم يَدَعُوا نَاقَةً ولا بقرَةً ولا شاةً ولا أتاناً ولا رَمَكةً ولا حِجْراً ولا كلبةً إلاَّ وقد وقعوا عليها .
ولَولاَ أَنَّ في نفوس النَّاس وشَهوَاتِهم ما يدعو إلى هذه القاذورة لَما وجدْتَ هذا العَمَلَ شائعاً في أهل هذه الصفة ولَوْ جمعتَهم لجمعتَ أكثرَ من أهلِ بغْدَادَ والبصرة ثم لم يُلقحْ واحد منهم شيئاً ولقد خبَّرني من إخواني من لا أتَّهمُ خَبَرَه أنّ مملوكاً كان لبعض أهل القَطيعة أعني قطيعة الربيع وكان ذلك المملوكُ يَكومُ بغلةً

وأنّها كانت تودق وتتلمّظ وأنّها في بعض تلك الوَقَعاتِ تأخَّرَتْ وهو موعبٌ فيها ذكرَه تطلبُ الزيادة فلم يَزَلْ المملوكُ يتأخّرُ وتتأخّرُ البغْلة حتَّى أسندتْه إلى زاويةٍ مِنْ زَوايا الإصطبل فَاضَّغَطتْه حتّى بَرَدَ فدخل بعضُ من دخل فرآه على تلك الحال فصاح بها فتنحّتْ وخرّ الغلام مَيِّتاً .
وأخبرني صديقٌ لي قال : بلغني عن بِرْذَوْنٍ لزُرْقان المتكَلِّم أنّهُ كان يدربخ للبغال والحَمير والبراذين حتى تكومَه قال : فأقبلت يوماً في ذلك الإصطبل فتناولت المجرفة فَوَضعَتُ رأس عودِ المِجْرَفَة على

مَرَاثِه وإنّه لأكْثَرُ مِنْ ذرَاعٍ ونصف وإنه لخَشِنٌ غليظٌ غير محكوك الرأس ولا ممَلّسهِ فدفعْته حتى بلغ أقصى العود وامتنع من الدُّخول ببدن المِجْرَفة فحلَفَ أنّه ما رآه تأطّرَ ولا انثنى .
قال صاحب الحمام : فهذا فرق ما بيننا وبينكم . )

ما وصف به الحمام من الإسعاد
. . )
وحسن الغناء والنوح
ونَذْكر ما وُصِف به الحمامُ من الإسعاد ومن حُسْن الغُناء والإطراب والنَّوح والشّجَا قال الحسن بن هانئ : ( إذا ثَنَتْه الغصون جلّلني ** فَينانُ مَا في أدِيمه جُوَبُ )

( تبيتُ في مأتمٍ حمائمه ** كما تُرِنُّ الفواقدُ السُّلُبُ ) ( يهبُّ شوقي وشوقهُنَّ معاً ** كأنّما يستخفُّنا طرب ) وقال آخر : ( لقد هَتَفتْ في جُنحِ لَيل حمامةٌ ** على فَنَنٍ وهناً وإنِّي لَنائمُ ) ( فقلتُ اعتذاراً عند ذاك وإنّني ** لنفسي مما قد سَمِعتُ لَلائمُ ) ( كذبتُ وبيتِ اللّهِ لو كنتُ عاشقاً ** لما سَبَقَتْني بالبُكاءِ الحَمَائمُ ) وقال نصيب : ( ولو قَبْلَ مَبْكاها بَكَيتُ صبابَةً ** بسُعدي شَفيت النّفس قبلَ التندُّمِ ) ( ولكنْ بَكَتْ قَبلي فهيَّج لي البُكا ** بُكَاها فقلتُ الفَضلُ للْمُتَقَدِّمِ ) وقال أعرابي : ( عليكِ سَلامُ اللّه قاطعَة القُوى ** على أنَّ قَلبي للفِراق كليمُ )

( سقط : بيت الشعر ) ( قريح بتغريد الحمام إذا بكت ** وإن هب يوما للجنوب نسيم ) وقال المجنونُ أو غيره : ( ولو لم يَهجْني الرائحون لَهاجَني ** حمائمُ ورقٌ في الدِّيار وُقوعُ ) ( تجاوَبْنَ فاستبْكَيْنَ من كان ذا هوى ** نوائحُ لا تجري لهنَّ دُموعُ ) وقال الآخر : ( ألا يا سَيَالاتِ الدَّحائلِ باللِّوى ** عليكنَّ من بَين السَّيالِ سلامُ ) ( أرَى الوَحْشَ آجالاً إليكنَّ بالضحى ** لهنَ إلى أفيائكنَّ بُغامُ )

( وإنِّي لمجلوبٌ لي الشَّوقُ كلما ** تَرَنّمَ في أفنانكنَّ حَمامُ ) وقال عمرُو بن الوليد : ( حال مِنْ دونِ أنْ أحلَّ بهِ النَّأ ** يُ وصَرْفُ النَّوى وحَرْبٌ عقامُ ) ( فتبدَّلْتُ من مَسَاكِنِ قوْمي ** والقصور التي بها الآطام ) ( كلَّ قصرٍ مشَيّدٍ ذي أواسٍ ** تتغنَّى على ذراه الحَمامُ ) وقال آخر : ( ألا يا صَبَا نجدٍ متى هِجْتَ مِن نَجدِ ** فقد هاج لي مَسراكَ وجدًا علَى وَجد ) ( أَأن هَتَفتْ ورقاء في رَوْنقِ الضُّحى ** عَلَى غُصُنٍ غضِّ النَّبات مِن الرَّنْدِ )

( سقط : بيت الشعر ) ( بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ** جليدا وأبديت الذي لم تكن تبدى ) ( وقد زعموا أنّ المحبَّ إذا دنَا ** يُمَلُّ وأنّ النّأي يشفي مِنَ الْوَجْد ) ( بكلٍّ تَدَاوَينْا فلم يَشْفِ ما بنا ** عَلَى أنّ قُربَ الدَّارِ خيرٌ ُ من البُعْد )

أنساب الحمام
وقال صاحب الحَمام : للحمام مجاهيل ومعروفات وخارجيَّات ومنسوبات والذي يشتملُ عليه دواوينُ أصحب الحمام أكثرُ من كتب النَّسب التي تضاف إلى ابن الكلبيِّ والشّرقيِّ بن القطاميِّ وأبي اليقظان وأبي عُبيدة النحويِّ بل إلى دَغْفَلِ ابن حنظلة وابن لسان الحُمَّرَة بل إلى صُحارٍ العبديِّ وإلى أبي السَّطّاح اللّخميّ بل إلى النَّخّار

العذريِّ وصُبح الطائيِّ بل إلى مثْجور بن غيلان الضّبيّ وإلى سَطيح الذئبيّ بل ابن شرِيَّة الجُرْهميِّ وإلى زيد بن الكيِّس النَّمَريّ وإلى كلِّ نسَّابَةٍ راويَةٍ وكلِّ متفنن علاّمة .
ووصف الهذيل المازنيُّ مثنّى بن َ زُهير وحفظه لأنساب الحمام فقال : واللّه لهو أنسَب من سعيد بن المسيّب وقَتادة بن دِعامة للنَّاس بل هو أنسبُ من أبي بكر الصِّدِّيق رضي اللّه عنه لقد دخلت على رجلٍ

أعْرفَ بالأمَّهاتِ المنْجِبات من سُحَيم ابن حفص وأعرفَ بما دخَلها من الهُجْنةِ والإقراف من يُونسَ بنِ حبيب .
قال : وممَّا أشبَهَ فيه الحَمامُ النَّاسَ في الصّور والشَّمائلِ ورقّة الطباع وسُرعة القَبول والانقلاب أنّك إذا كنتَ صاحبَ فِراسةٍ فمرَّ بك رجالٌ بعضُهم كوفيٌّ وبعضهم بَصريٌ وبعضهُم شاميٌ ّ وبعضُم يمانيٌّ لم يَخْفَ عَليك أمُورهم في الصُّوَر والشمائِل والقُدودِ والنَّغم أيّهم بصريٌ ّ وَأيُّهم كوفيّ وأيّهم يمانيٌ ّ وَأيهم مدنيٌّ وكذلك الحمام لا تَرَى صاحبَ حَمامٍ تخفى عليه نسب الحمام وجنسها وبلادُها إذا رآها .

مبلغ ثمن الحمام وغيره
وللحمام من الفضيلة والفخْر أن الحمام الواحدَ يباعُ بخسمائة دينار ولايبلغ ذلك بازٍ ولا شاهينٌ ولا صقرٌ ولا عُقاب ولا طاوس ولا تدْرَجٌ ولا ديكٌ ولا بعيرٌ ولا حمارٌ ولا بغلٌ ولو أردْنَا أن نحقِّقَ الخبرَ بأنَّ برذوناً أو فرَسَاً بيع بخمسمائة دينار لما قدَرْنا عليه إلاّ في حديث السَّمَر .
وأنت إذا أردْتَ أن تتعرَّف مبلغ ثمنِ الحمام الذي جاء من الغايَةِ ثمَّ دخلْتَ بغدادَ والبصرة وجدْت ذلك بلا معاناة وفيه أنَّ الحمام إذا جاء من الغاية بيع الفَرخُ الذَّكرُ من فراخ بعشرين ديناراً أو أكثر وبيعَت الأنثى بعشرة دَنَانير أو أكثر وبيعَت البيضة بخمسة دنانير فيقوم الزَّوج منها في الغَلَّةِ مقام ضيعة وحتى ينهَضَ بمؤْنَة العِيال ويَقضيَ الدَّين وتبنى من غلاّتِه وأثمانِ رقابهِ الدُّورُ الجياد وتبتاع الحوانيتُ المغِلَّة هذا وهي في ذلك الوقتِ مَلْهى عجيبٌ ومنظرٌ أنيق ومعتَبَرٌ لمنْ فكّر ودليلٌ لمن نظرَ .

عناية الناس بالحمام
ومن دخل الحَجَر ورأَى قصُورَها المبنيَّة لها بالشّامات وكيف اختزانُ تلك الغلاَّت وحفْظُ تلك المؤونات ومن شهد أربابَ الحمام وأصحابَ الهُدَّى وما يحتملون فيها من الكُلف الغِلاظِ أيَّامَ الزَّجْل في حملانها على ظهور الرِّجال وقبل ذلك في بُطون السفن وكيف تُفْرَدُ في البيوت وتجمع إذا كان الجمع أمثل وتفرَّقُ إذا كانت التَّفرِقَةُ أمثل وكيف تُنقلُ الإنَاثُ عن ذُكورتِها وكيفَ تنقَلُ الذُّكورَةُ عن إناثها إلى غيرها وكيف يُخافُ عليها الضَّوَى إذا تقاربت أنسابُها وكيف يُخاف على أعراقِها من دخول الخارجيّات فيها وكيف يحتاط في صحَّة طرْقها ونجْلها لأنَّهُ لاَ يُؤْمَن أن يقمُط الأنثى ذكرٌ من

عُرْضِ الحمام فيضربَ في النَّجلِ بنصيبٍ فتعتريه الهُجنة والبيضة عند ذلك تنسب إلى طَرْقها وهم لا يحوطون أرحام نسائهم كما يُحوطون أرحامَ المنْجِبات من إناثِ الحمام ومن شهد أصحاب الحمام عند زَجْلها من الغاية والذين يعلّمون الحمامَ كيف يختارون لصاحب العلامات وكيفَ يتخيَّرُون الثِّقة وموضعَ الصِّدقِ والأمانَةِ والبُعدِ من الكِذَب والرّشوة وكيفَ يتوخّوْن ذا التَّجربَة والمعرفة اللَّطيفة وكيف تسخو أنفسُهمْ بالجعالة الرَّفيعة وكيف يختارون لحملها من رجال الأمانةِ والجَلَدِ والشَّفَقَةِ والبَصَر وحُسْنِ المعرفَةِ لعَلم عند ذلك صاحب الدِّيك والكلب أنَّهما لا يجريان في هذه الحلبةِ ولا يتعاطيان هذه )
الفضيلة .

خصائص الحمام
قال : وللحمام من حسنِ الاهتداءِ وجودةِ الاستدلالِ وثَباتِ الحِفْظِ والذِّكرْ وقوّةِ النِّزاع إلى أربابه والإلف لوطنه ما ليس لشيء

وكفاك اهتداءً ونِزاعاً أن يكون طائرٌ من بهائم الطير يجيء من بَرْغَمَة لا بَلْ من العليق أو من خَرشنة أوْ من الصفصاف لاَ بَلْ من البَغْراس ومن لؤلؤة .
ثمَّ الدَّليلُ على أنَّه يَستدلُّ بالعقلِ والمعرفة والفِكرةِ والعناية أنَّه إنما يجيء من الغاية على تدريج وتَدْرِيبٍ وتنزيل والدليل عَلَى علم أربابه بأنّ تلك المقدَّمات قد نَجَعنَ فيه وعملن في طِباعه أنّهُ إذا بلغ الرَّقَّة غمَّروا بهِ بكَرّةٍ إلى الدَّرب وما فوقَ الدَّرْب من بلاد الرُّوم بل لا يجعلون ذلك

ولو كان الحمام ممَّا يُرسَل باللّيل لكان مِمَّا يستِدلُّ بالنُّجوم لأنّا رأيناه يلزَم بَطنَ الفُرات أو بطنَ دِجلة أو بُطونَ الأوديةِ التي قد مرَّ بها وهو يرى ويُبصِرُ ويفهَمُ انحدار الماء ويعلمُ بَعْدَ طولِ الجَوَلانِ و بَعْدَ الزِّجال إذا هو أشرف علَى الفرات أو دِجلة أنّ طرِيقَه وطريق الماء واحد وأنهُ ينبغي أن ينحدِر مَعهُ .
وما أكثرَ ما يستدلُّ بالجَوَادِّ من الطُّرُق إذا أعيتْهُ بطونُ الأودية فإذا لم يَدْرِ أمُصْعِدٌ أمْ مُنْحَدِرٌ تعَرَّفَ ذلك بالرِّيح ومواضعِ قُرْصِ الشمس في السماء وإنَّما يحتاج إلى ذلك كلِّه إذا لم يكُن وَقَعَ بعد على رسم يعمَلُ عليه فرَّبما كَرّ حين يزجل بهِ يميناً وشِمالاً وجنوباً وشَمالاً وصَباً ودَبُوراً الفرَاسِخَ الكثيرةَ وفوقَ الكثيرة .

( الغُمر والمجرّب من الحمام ) وفي الحمام الغُمْر والمجرّب وهم لا يُخاطِرون بالأغمار لوجهين : أحدهما أن يكون الغُمْر عريفاً فصاحبُه يضنُّ به فهو يريدُ أن يدرِّبه ويمرِّنَه ثمَّ يكلفه بعد الشيء الذي اتّخذه له وبسببه اصطنعه واتخذهُ وإمَّا أن يكونَ الغمْر مجهولاً فهو لا يتعنِّى ويُشقي نفسَه ويتوقَّعُ الهِِدَايَةَ من الأغمار المجاهيل .
وخَصلةٌ أخرى : أنّ المجهولَ إذا رَجَعَ مع الهدَّى المعروفاتِ فحملهُ معها إلى الغاية فجاء سابقاً لم يكنْ له كبير ثمنٍ حتَّى تتلاحق به الأولاد فإِنْ أنْجَبَ فيهنَّ صار أباً مذْكوراً وصار نَسَباً يرجَع إليه وزاد ذلك في ثمنه .


فأمَّا المجرَّب غير الغمر فهو الذي قد عرَّفوه الوُرودَ والتحَصُّب لأنّه متى لم يقدرْ عَلى أن ينقضّ حتَّى يشربَ الماء من بطون الأوديةِ والأنهار والغُدْران ومناقع المياه ولم يتحَصّب بطلب بُزورِ البراري وجاعَ وعطش التمسَ مواضعَ الناس وإذا مرَّ بالقرى والعُمْران سقط وإذا سقط أُخِذ بالبَايْكير

وبالقفَّاعة وبالمِلْقَفِ وبالتَّدْبيق وبالدُّشَاخِ ورمى أيضاً بالجُلاهِق وبغير ذلك من أسبابِ الصَّيد .
والحمام طائرٌ مُلقًّى غير مُوَقًّى وأعداؤه كثير وسباع الطّير تطلُبه أشدّ الطلب وقد يترفّع مع الشّاهين وهو للشاهين أخوَف فالحَمامُ

أطْيرَ منْهُ ومن جميعِ سباعِ الطير ولكِنَّهُ يُذْعرُ فيجهَلُ بابَ المَخْلَص ويعتريه ما يعتري الحمار من الأسدِ إذا رآه والشاةَ إذا رأت الذِّئب والفارة إذا رأت السِّنَّور .

سرعة طيران الحمام
والحمامُ أشدُّ طيراناً من جميع سباع الطير إلاَّ في انقضاض وانحدار فإنَّ تلك تنحطّ انحطاط الصخور و متى التقت أمَّةٌ من سباع الطَّير أوْ جُفالةٌ من بهائم الطير أو طِرْنَ عَلَى عَرَقةٍ وخيطِ ممدود فكلُّهَا يعتريها عند ذلك التَّقصير عما ما كانت عليه إذا طارت في غير جماعة

ولن ترى جماعة طير أكثرَ طيراناً إذا كَثُرْنَ من الحمام فإنّهُنّ كلما التففن وضاق موضعُهنَّ كان أشدّ لطيرانهنَّ وقد ذكر ذلك النَّابغة الذُّبيانيُّ في قوله : ( وَاحْكمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذ نَظَرتْ ** إلى حمامٍ شراعٍ واردِ الثَّمدِ ) ( يحفُّه جانبًا نِيقٍ ويَتْبَعُهُ ** مثلُ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمدِِ ) ( قالت : ألا لَيتما هذا الحمامُ لنا ** إلى حمامَتا ونِصْفُهُ فَقَدِ ) ( فحسَبوه فألفَوه كما حَسَبَتْ ** تِسعًا وتسْعينَ لم تنقُصْ ولم تزِدِ ) ( فكَمَّلت مائةً فيها حمامتُها ** وأسْرَعَتْ حَسْبَةً في ذلك العَدَدِ )

قال الأصمعيُّ : لما أراد مَديحَ الحاسب وسرعة إصابته شدَّدَ الأمرَ وضيَّقه عليه ليكون أحمدَ له إذا أصاب فجعَلَهُ حَزَر طيراً والطّيرُ أخفُّ من غيره ثمَّ جعله حماماً والحمامُ أسرع الطّيرِ وأكثرُها اجتهاداً في السرعة إذا كثر عددهنَّ وذلك أنّه يشتدُّ طيرانُهُ عند المسابقة والمنافسة وقال : يحفّه جانبا نِيقٍ ويتبعه فأراد أنّ الحمام إذا كان في مضيقٍ من الهواء كان أسرَعَ منه إذا

غايات الحمام
وصاحب الحَمام قد كان يدرِّب ويمرِّن ويُنزِل في الزِّجال والغايَة يومئذٍ واسط فكيف يصنَع اليومَ بتعريفه الطَّريق وتعريفهِ الوُرود والتحصُّب مع بُعد الغاية

ما يختار لِلزّجْل من الحَمام والبغداديون يختارون للزِّجال من الغايةِ الإناث والبصريّون يختارون الذُّكور فحجَّة البغداديّين أن الذَّكر إذا سافر وبَعُد عهده بقَمْط الإناث وتاقَتْ نفسُه إلى السِّفاد ورأى أنثاه في طريقه ترك الطَّلبَ إن كان بعُد في الجوَلان أو ترك السَّيرَ إن كان وقع على القَصْد ومالَ إلى الأنثى وفي ذلك الفسادُ كلُّه .
وقال البَصريُّ : الذَّكرُ أحنُّ إلى بيتِه لمكان أنثاه وهو أشدُّ متْناً وأقوى بدَناً وهو أحسنُ اهتداء فَنحنُ لا نَدع تقديمَ الشيء القائم إلى معنًى قد يعرضُ وقد لا يعرض .
نصيحة شدفويه في تربية الحَمام وسمعتُ شدفويه السلائحي من نحو خمسين سنة وهو يقول لعبد السلام بن أبي عمار : اجعل كعبة حمامك في صَحْن دارِك فإنَّ الحَمامَ إذا كان متَى خرج من بيته إلى المعلاة لم يصل إلى معلاتهِ إلاّ بجمع النَّفس والجناحين وبالنهوضِ ومكَابدَةِ الصعود اشتدَّ متْنُه وقويَ

جناحُه ولحمه ومتى أراد بيتَه فاحْتاج إلى أن ينتكس ويجيء منقضّاً كان أقوَى على الارتفاع في الهواءِ بعد أن يروى وقد تعلمون أَنَّ الباطنيِّين أشدّ متناً من الظاهريِّين وأنّ النِّقرِسَ لا يُصِيب الباطِنيَّ في رجله ليس ذلك إلاَّ لأنَّه يصعد إلى العلالي فوق الكَنادِيجِ درجةً بعد درجة وكذلك نزوله فلو درَّبتم الحَمامَ على هذا التّرتيب كانَ أصوب ولا يعجَبُني تَدْريب العاتق وما فوق العاتق إلاّ من الأماكنِ القريبة لأن العاتقَ كالفتاةِ العاتق وكالصبّي الغرير فهو لاَ يَعْدِمُه ضعفُ البدن وقلَّةُ المعرفة وسوء الإلف ولا يُعجبُني أن تتركوا الحمام حتّى

إذا صار في عدد المسانِّ واكتهل وولَدَ البطونَ بَعْدَ البطونِ وأخذ ذلك من قوَّةِ شبابهِ حملتموه على الزَّجْل وعلى التَّمْرين ثمَّ رميتم به أقصى غايةٍ لاَ ولكنَّ التَّدريب مع الشباب وانتهاء الحِدَّةِ وكمال القوَّةِ من قبل أن تأخذ القوّة في النُّقصان فهو يلقَّن بقربه من الحداثة ويُعرَّف بخروجه من حدِّ الحداثة فابتدِِئُوا به التّعليمَ والتمْرينَ في هذه المنزلة الوُسطى .
الوقت الملائم لتمرين فراخ الحمام وهُمْ إذا أرادوا أن يمرِّنوا الفراخَ أخرجُوها وهي جائعة حتى إذا ألقوا إليها الحبَّ أسرعت النزول ولا تُخْرَجُ والرِّيح عاصف فتخرج قبل المغربِ وانتصاف النهار وحُذّاقهم لا يخرجونها مع ذكورة الحمام فإنَّ الذُّكورة يعتريها النَّشاط والطَّيران والتَّباعُدُ ومجاوزة القبيلة فإن طارت الفِراخُ معها سقطتْ على دور الناس فرياضتها شديدة وتحتاج إلى معرفة وعنايَةٍ وإلى صبرٍ ومُطاوَلة لأنّ الذي يُراد منها إذا احتيج إليه بعد هذه المقدّمات كان أيضاً من العجَب العجيب .


حوار يعقوب بن داود مع رجل في اختيار الحمام وحدَّثني بعضُ من أثقُ به أنّ يَعقوبَ بن داود قال لبعض مَنْ دَخَلَ عليه وقد ذهب عنِّي اسمُه ونسيتُه بَعْدَ أَنْ كنْتُ عرفته : أَما تَرَى كيُ أخلَف ظنُّنا وأخطأ رأينُا حتّى عمَّ ذلك ولم يخصّ أما كان في جميع من اصطنعناه واخترناه وتفرَّسَنا فيه الخير وأردنَاه بِه واحدٌ تكفِينا معرفته مؤنَةَ الاحتجاج عنه حتَّى صرْتُ لا أقرّع إلاّ بهم ولاَ أعابُ إلاَّ باختيارهم قال : فقال له رجل إنّ الحمام يُختارُ من جهة النَّسَب ومن جهة الخِلْقة ثم لا يرضى له أربابُه بذلك حتى ترتِّبه وتنزِّلهُ وتُدَرِّجُه ثم تُحمَل الجماعةُ منه بعد ذلك التّرتيب والتَّدْرِيبِ إلى الغاية فيذهبُ الشَّطرُ ويرجعُ الشطر أو شبيهٌ بذلك أو قرِيبٌ من ذلك وأنتَ عَمدْتَ إلى حمامٍ لم تنظرْ في أَنْسابِها ولم تتأمَّلْ مَخيلة الخير في خلْقها ثمَّ لم ترْض حتى ضربْتَ بها بكَرَّةٍ واحدةٍ

إلى الغاية فليس بعَجَبٍ ولا مُنْكَرٍ ألاّ يرجعَ إليكَ واحدٌ منها وإنما كان العَجبُ في الرُّجوع فأمّا في الضّلال فليس في ذلك عجبٌ وعلى أنّه لو رجع منها واحدٌ أو أكثرُ من الواحدِ لكان خطؤك موفّراً عليك ولم ينتقصْهُ خطأُ من أخطأ لأنّه ليس من الصواب أن يجيء طائراً من الغايةِ على غير عِرْقٍ وعلى غير تدريب . ( كرم الحَمام . . ) ( الإلف والأنْس والنِّزاعُ والشّوق ) وذلك يَدُلُّ على ثبات العهد وحفْظِ ما ينبغي أن يُحفَظ وصوْنِ ما ينبغي أن يصان وإنه لخلق صِدْق في بني آدم فكيفَ إذا كان ذلك الخلقُ في بعض الطير . )
وقد قالوا : عمَّرَ اللّه البُلدان بحبِّ الأوطان .
قال ابن الزُّبير : ليس النَّاسُ بشيء مِنْ أقسامهم أقنَعَ منهم بأوطانهم .


وأخبر اللّه عزَّ وجلَّ عن طبائع النَّاس في حبِّ الأوطان فقال : قَالُوا وَمَا لنَا أَلاّ نقَاتِلَ في سَبيلِ اللّه وقدْ أُخْرِجْنَا من دِيَارِنَا وَأَبْنَائنَا وقال : ولَوْ أنّا كَتبْنَا عَلَيْهِمْ أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ما فَعَلوهُ إلاّ قَليلٌ منْهُمْ . ( وكنتُ فيهمْ كممْطُورٍ ببَلْدِتهِ ** فسُرَّ أَنْ جَمَعَ الأوْطَانَ والمطَرَا ) فتجدُهُ يُرْسَل منْ موضعٍ فيجيء ثمَّ يخرج من بيته إلى أضيق موضع وإلى رخام ونقان فيرسل من أبعد من ذلك فيجيء ثم يصنَع به مثلُ ذلك المرار الكثيرة ويزاد في الفراسخ ثم يَكون جزاؤه أن يغمَّر به من الرَّقّة إلى لؤلؤة فيجيء ويستَرَق من منزل

صاحبه فيقصُّ ويَغْبرُ هناك حولاً وأكثَرَ من الحول فحينَ ينبت جناحهُ يحنُّ إلى إلفه وينزع إلى وطنه وإن كان الموضع الثَّاني أنفعَ له وأنعمَ لباله فيَهبُ فضْلَ ما بينهما لموضعِ تربيته وسكنه كالإنسان الذي لو أصاب في غَير بلادِه الرِّيف لم يقعْ ذلك في قلبه وهو يعالجهم على أن يُعطَى عُشْرَ ما هو فيه في وطنه .
ثمَّ ربَّما باعه صاحبهُ فإذا وجد مَخْلَصاً رجع إليه حتَّى ربما فَعَلَ ذلك مِراراً وربَّما طار دَهْرَهُ وجالَ في البلادِ وألفَ الطّيران والتقلُّبَ في الهواء والنَّظَرَ إلى الدنيا فيبدو لصاحبه فيقصُّ جناحَه ويُلقِيه في ديماس فينبت جناحُهُ فلا يَذْهب عنه ولا يتغيَّر له نَعَمْ حَتَّى ربّما جَدَف وهو مقصوصٌ فإمَّا صار إليهِ وإمّا بلغَ عذراً .

قص جناح الحمام
ومتى قصَّ أحد جناحيه كان أعجزَ له عن الطّيران ومتى قصِّهما جميعاً كان أقوى له عليه ولكنهُ لا يبْعِد لأنّه إذا كان مقصوصاً من شِقٍّ واحدٍ اختلفَ خلقه ولم يعْتدل وزنه وصارَ أحدُهما هوائياً والآخرُ أرضياً فإذا قصّ الجناحان جميعاً طار وإن كان مقصوصاً فقد بلغ بذلك التعديل من جناحيه أكثر مما كان يبلغ بهما إذا كان أحدُهما وافياً والآخرُ مبتوراً .
فالكلبُ الذي تَدَّعون له الإلف وثبات العَهد لا يبلغُ هذا وصاحبُ الدِّيك الذي لايفخرُ للدِّيك بشيءٍ من الوفاء والحفاظ والإلف أحقُّ بألاّ يعرِض في هذا الباب .
قال : وقد يكون الإنسان شديدَ الحضْر فإذا قُطِعَتْ إحدى يديه فأراد العَدْو كان خطوهُ أقصر وكان عن ذلك القَصد والسَّننِ أَذهبَ وكانت غاَيةُ مجهوده أقربَ .


حديث نباتَةَ الأقطع وخبّرني كم شئتَ أنّ نباتَة الأَقطع وَكان منْ أَشِدَّاء الفتيان وكانت يدُه قطعت من دُوينِ المنكبِ وكان ذلك في شقِّه الأيسر فكان إذا صار إلى القتالِ وضرَبَ بسيفِه فإن أصاب الضَّريبةَ ثَبَتَ وإن أَخطأ سقطَ لوجههِ إذ لم يكنْ جَناحه الأيسر يُمسكه ويثقّله حتى يعْتَدلَ بَدَنُهُ .
أجنحة الملائكة وقد طعن قومٌ في أجنحة الملائكة وقد قال اللّه تعالى : الحَمْد للّه فاطرِ السَّموَاتِ والأرض جَاعلِ الْمَلاَئكَةِ رُسُلاً أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يشَاءُ . وزعموا أنَّ الجناحين كاليدين وإذا كان الجناح اثنين أو أرْبَعَة كانتْ معتدلة وإذا كانت ثلاَثة

كان صاحبُ الثَّلاثةِ كالجادِفُ من الطَّير الذي أحدُ جناحَيه مقصوص فلا يستطيع الطّى ران لعدم التعديل وإذا كان أحدُ جناحيه وافياً والآخرُ مقصوصاً اختلفَ خَلْقُه وصار بَعْضُه يذهب إلى أسفْلَ والآخر إلى فوق .
وقالوا : إنَّما الجناحُ مثل اليد ووجدنا الأيديَ والأرجل في جميع الحيوان لا تكون إلاَّ أزواجاً فلو جعلتمْ لكُلِّ واحدٍ منهم مائَة جَناحٍ لم نُنْكِرْ ذلك وإن جعلتموها أنقصَ بواحدٍ أو أكثرَ بواحدٍ لم نجوِّزه .
قيل لهم : قد رأينا من ذوات الأربع ما ليسَ له قَرن ورأينا ما له قرْنَان أملسان ورأينا ما له )
قرنان لهما شُعَبٌ في مقاديم القرون ورأينا بعضَها جُمّاً ولأخَواتِها قرون ورأينا منها ما لا يقال لها جُمٌّ لأنَّها ليست لها شكلُ ذواتِ القرون ورأينا لبعض الشاء عِدَّةَ قرون نَابتةٍ في عظم الرَّأس أزواجاً وأفراداً ورأينا قرُونًاً جُوفاً فيها قرون ورأينا قروناً لا قرونَ فيها ورأيناها مُصمََتَة ورأينا بعضَها يتصُل قَرْنُه في كلِّ سنة كما تسلخ الحيَّةُ جلدَها وتنفضُ الأشجارُ ورقها وهي قُرون الأيائلِ وقد زعموا أنَّ للحِمار الهنديِّ قرناً واحداً .


وقد رأينا طائراً شَديدَ الطيران بلا ريشٍ كالخُفاش ورأينا طائراً لايطير وهو وافي الجَناح ورأينا طائراً لا يمشي وهو الزَّرزور ونحن نُؤْمن بأنَّ جعفَراً الطَّيارَ ابنَ أبي طالب له جناحان يطير بهما في الجِنان جُعِلا له عوضاً من يديه اللتين قطعتا على لواء المسلمين في يوم مؤتة وغير ذلك من أعاجيب أصناف الخلق .
فقد يستقيم وهو سهلٌ جائزٌ شائع مفهوم ومعقول قريبٌ غير بعيد أن يكون إِذا وُضع طباع الطائر على هذا الوضع الذي تراه ألاّ يطير إلاّ بالأزواج فإذا وُضع على غير هذا الوَضع وركِّب غيرَ هذا التَّركيب صارت ثلاثة أجنحة وَفُوق تلك الطبيعة ولو كان الوَطواط في وضْعِ أخلاطه وأعضائه وامتزاجاته كسائر الطير لما طار بلا ريش .


الطير الدائم الطيران وقد زعم البَحْريّون أنّهم يعرفون طائراً لم يسقط قطّ وإنما يكون سقوطه من لدُنْ خروجهِ من بيضه إلى أن يتمَّ قصبُ ريشه ثم َّ يطير فليس له رِزق إلاّ من بعوض الهواء وأشباه البَعوض إلاّ أَنَّهُ قصيرُ العمر سريعُ الانحطام .
بقية الحديث في أجنحة الملائكة وليس بمستنكر أن يُمزَج الطائر ويُعْجَن غيرَ عجْنه الأوَّل فيعيش ضعفَ ذلك العُمر وقد يجوز أيضاً أنْ يكونَ موضعُ الجَناح الثالث بين الجَناحين فيكون الثالث للثاني كالثاني للأوّل وتكون كلُّ واحدةٍ من ريشةٍ عاملةً في التي تليها من ذلك الجسم فتستوي في القوى وفي الحِصص .


ولعَلَّ الجَناح الذي أنكره الملحدُ الضَّيِّقُ العَطَن أن يكونَ مركزُ قوادِمِهِ في حاقِّ الصُّلب .
ولعَلَّ ذلك الجناح أن تكون الريشة الأولى منه معينة للجنَاح الأيمن والثانية معينة للجناح الأيسر وهذا مما لايضيقُ عنه الوهم ولا يعجِز عنه الجواز .
فإذا كان ذلك ممكناً في معرفة العبد بما أعاره الربُّ جلّ وعزَّ كان ذلك في قدرة اللّه أجوز )
وما أكثر من يضيقُ صدرُه لقلَّة علمه .

أعضاء المشي لدى الحيوان والإنسان
وقد علموا أنَّ كلّ ذي أربعٍ فإنّه إذا مَشى قدّم إحدِى يديه ولا يجوز أن يستعمل اليَد الأخرى ويقدِّمها بَعْدَ الأولى حَتّى يستعمل الرِّجل المخالفة لتلك اليد : إنْ كانت اليدُ المتقدّمة اليمنى حرَّكَ الرِّجْلِ اليسرى وإذا حَرّك الرجل اليسرى لم يحرِّك الرِّجْل اليمنى وهو أقْرَبُ إليها وأشبه بها حَتَّى يحرِّك اليَدَ اليسرى وهذا كثير .


وفي طريقٍ أخرى فقد يقال : إنَّ كلَّ إنسانِ فإنما رُكْبَته في رِِجله وجميعَ ذوات الأربَع فإنَّما رُكبها في أيديها وكلُّ شيء ذي كفِّ وبَنان كالإنسان والقرد والأسد والضَّبّ والدُّب فكفُّه في يده والطَّائر كفّه في رجله .
استعمال الإنسان رجليه فيما يعمله في العادة بيديه وما رأيتُ أحداً ليس له يَدٌ إلاّ وهو يعمل برجليه ما كان يعمل بيديه وما أقف على شيء من عمل الأيدي إلاّ وأنا قد رأيتُ قوماً يتكلّفونه بأرجلهم .
ولقد رأيتُ واحداً منهم راهنَ على أن يُفرِغ برجليه ما في دَسْتيجة نبيذ في قنانيَّ رِطليَّات وفقَّاعِيّات فراهنوه وأزعجني أمرٌ فتركته عند ثقات لا أشك في خبرهم فزعموا أنّه وَفَى وزاد قلت :

قد عرَفتُ قولَكم وفى فما معنى قولكم زاد قالوا : هو أنّه لو صبَّ من رأس الدّستيجة حوالي أفواه القنانيّ كما يعجِز عن ضَبطه جميعُ أصحاب الكمال في الجوارح لما أنكرنا ذلك ولقد فرَّغ ما فيها في جميع القناني فَما ضيّعَ أوقيَّةً واحدة .
قيام بعض الناس بعمل دقيق في الظلام وخبَّرني الحزَاميُّ عن خليل أخيه أنّه متى شاء أن يَدْخُلَ في بيِت ليلاً بلا مصباح ويفرغ قربة في قنانيّ فلا يصبُّ إستاراً واحداً فعله .
ولو حكى لي الحزاميُّ هذا الصَّنيعَ عن رجل وُلِد أعمى أو عمي في صباه كان يعجبني منه أقلُّ فأمّا من تعوّد أن يفعل مثل ذلك وهو يبصر فما أشدَّ عليه أن يفعله وهو مغمَض العينين فإن كان أخوه قد كان يقدر على ذلك إذا غمَّض عينيه فهو عندي عجب وإن كان يبصر في الظلمة فهو قد أشبه في هذا الوجه السِّنّورَ والفأر فإنَّ هذا عندي عجبٌ

آخر وغرائب الدُّنيا كثيرة عند كلّ من كان كلفاً بتَعرافها وكان له في العلم أصلٌ وكان بينه وبين التبَيُّنِ نَسَب . )
اختلاف أحوال الناس عند سماعهم للغرائب وأكثر الناس لا تجدّهم إلاَّ في حالتين : إمّا في حالِ إعراض عن التبيُّن وإهمال للنّفس وإمَّا في حالِ تكذيبٍ وإنكارٍ وتسرّع إلى أصحاب الاعتبار وتتبُّعِ الغرائب والرغبةِ في الفوائد ثمَّ يرى بعضهم أنَّ له بذلك التكذيب فضيلةً وأنّ ذلك بابٌ من التوقِّي وجنسٌ من استعظام الكذب وأنّه لم يكن كذلك إلاَّ من حاقِّ الرَّغبةِ في الصِّدقِ وبئس الشيء عادة الإقرار والقبول والحقُّ الذي أمر اللّه تعالى به ورغب فيه وحثَّ عليه أن ننكر من الخبر ضربين : أحدهما ما تناقَضَ واستحال والآخر ما امْتنع في الطِبيعة وخرج من طاقة الخلقة فإذا خرج الخبرُ من هذين البابين وجرى عليه حكم الجواز فالتدبير في ذلك التثبت

وأن يكون الحقُّ في ذلك هو ضالّتك والصِّدق هو بُغيتك كائناً ما كان وقَع منك بالموافقةِ أم وقع منك بالمكروه ومتى لم تعلم أَنّ ثوابَ الحقِّ وثمرَة الصِّدق أجدى عليك من تلك الموافقةِ لم تقَع على أن تعطِي التثبتَ حَقّه .
قال : وهم يصفون الرَّماد الذي بين الأثافيّ بالحمامةِ ويجعلون الأثافيَّ أظآراً لها للانحناء الذي في أعالي تلك الأحجار ولأنَّها كانت معطّفات عليها وحانيات على أولادها قال ذو الرُّمَّة : ( كأنَّ الحمامَ الوُرْقَ في الدَّارِ جَثَّمت ** على خَرِق بين الأثافي جَوازِلُه ) شبّه الرّماد بالفراخ قبل أن تنهض والجُثوم في الطير مثل الرُّبوض في الغنم وقال الشماخ : ( وإرثِ رَماد كالحمامة ماِثل ** ونُؤْيَينَ في مَظلومَتَيْنِ كُدَاهما )

وقال أبو حيَّة : ( مِنَ العَرَصاتِ غير مَخَدِّ نُؤْيٍ ** كباقي الوحْي خُطَّ على إمام ) وغيرِ خوالدٍ لُوِّحْن حَتى بهنَّ علامةٌ من غير شام ( كأنّ بها حمامَات ثَلاثاً ** مَثَلْنَ ولم يَطِرْنَ مَعَ الحمامِ ) وقال العَرْجي : ( ومَرْبط أفْرَاسٍ وخَيمٌ مُصَرَّعٌ ** وهابٍ كجُثْمانِ الحمامةِ هامِدُ ) وقال البَعِيث : ( وَيَسُفْعْ ثَوَيْنَ العَامَ والعَامَ قبْلَهُ ** وَسَحْق رَمادٍ كالنَّصيف من العصْبِ ) وقالوا في نوح الحمام قال جِران العَود : ( واستقبلوا وادِى اً نوحُ الحمامِ بِهِ ** كأنّه صوتُ أنباطٍ مَثاكيلِ )


وقالوا في ارتفاع مواضعِ بُيوتِها وأعشاشها وقال الأعشى : ( ألم تر أن العِرْض أصبَحَ بطنهُ ** خيلاً وزرعاً نابتاً وفَصافصا ) ( وذا شُرُفات يقصُر الطّرف دونَه ** تَرَى للحمام الورقِ فيه قرامصَا ) وقال عمرو بن الوليد : ( فتبدَّلتُ من مساكنِ قومي ** والقُصور التي بها الآطامُ ) ( كلَّ قصرٍ مشيّدٍ ذي أواسٍ ** تتغنَّى على ذُراه الحمامُ ) والحمام أيضاً ربما سكن أجْوَافَ الرَّكايا ولا يكون ذلك إلاّ لِلْوحشيِّ منها وفي البِير التي لا تُورد قال الشاعر : ( بدلو غير مُكرَبَةٍ أصابتْ ** حَماماً فِي مساكِنِه فَطَارَا ) يقول : استقى بِسُفرِته من هذه البئر ولم يستقِ بدَلوٍ وهذه بئر قد سكنها الحمام لأنّها لا تُورَدُ

وقال جهم بن خلف : ( وقد هاج شوقي أنْ تَغنَّت حمامةٌ ** مطوَّقةٌ ورقاء تصدَحُ في الفجر ) ( تغنَّتْ بلحنٍ فاستجابَت لصوتها ** نَوائحُ بالأصياف في فَنَنِ السِّدْر ) ( إذا فَترَتْ كرَّتْ بلحنٍ شجٍ لها ** يُهَيِّج للصَّبِّ الحزينِ جَوَى الصَّدْرِ ) ( دعتهُنَّ مِطرابُ العشيَّات والضُحى ** بصوتٍ يَهيجُ المستهامَ على الذِّكرِ ) ( فلم أرَ ذا وجد يزيدَ صبابةً ** عليها ولا ثكلِى تُبَكِّي على بِكْرِ ) ( فأسْعَدْنها بالنَّوح حتَّى كأنَّما ** شَرِبنَ سُلافًا من معتَّقة الخَمْرِ ) ( تجاوبْنَ لحنًا في الغُصونِ كأنَّها ** نوائحُ مَيْت يلتدِمْنَ لدى قبرِ ) ( بسُرَّةِ وادٍ من تَبَالة مُونِقٍ ** كسا جانبيه الطّلحُ واعتمَّ بالزَّهْرِ )

استطراد لغوي ويقال : هدر الحمام يهدِر قال : ويقال في الحمام الوحشي من القماريِّ والفواخت والدَّباسي وما أشبه ذلك : قد هدل يهدِل هدِيلاً فإذا طَرَّب قيل غرَّد يغرد تغريداً والتغريد يكون للحمام والإنسان وأصله من الطير .
وأمَّا أصحابنا فيقولون : إنّ الجمل يهدِر ولايكون باللام والحمام يهدل وربّما كان بالراء .
وبعضهم يزعُم أنّ الهديلَ من أسماء الحمام الذَّكر قال الرّاعي واسمه عبيد بن الحصين : ) ( كهداهِدٍ كَسَرَ الرُّماةُ جَناحَه ** يدعُو بقارِعَةِ الطَّرِيق هديلا ) وزعم الأصمعيُّ أنّ قوله : هتوفٌ تبكّي ساقَ حرٍّ إنَّما هو حكاية صوت وحشيِّ الطير من هذه النَّوَّاحات وبعضهم يزعم أنّ ساق حرّ هو الذكر وذهب إلى قول الطِّرمَّاح في تشبيه الرَّماد بالحمام فقال : ( بين أظآرٍ بمظلومةٍ ** كسَراةِ السّاقِ ساقِ الحمامِْ )

صفة فرس وقال آخر يصف فرساً : ( ينْجيه مِنْ مِثْلِ حمام الأغْلاَلْ ** رفعُ يدٍ عَجلَى ورِجل شملاَلْ ) تَظْمَأُ من تحتُ وتُروَي من عالْ الأغلال : جمع غَلَلٍ وهو الماء الذي يجري بين ظهرَي الشّجر قال : والمعنى أنّ الحمام إذا كان يريد الماء فهو أسرعُ لها وقوله : شِملال أيْ خفيفة .
ليس في الأرض جنسٌ يعتريه الأوضاح والشِّيات ويكون فيها المصْمَت والبهيمُ أكثرَ ألواناً و من أصناف التَّحَاسِين ما يكون في الحمام فمنها ما يكون أخضرَ مُصمُّتاً وأحمر مصمتاً وأسودَ

مصمتاً وأبيض مصمتاً وضروباً من ذلك كلها مصمتة إلاّ أنّ الهِدَايَةَ للخُضْرِ النُّمر فإذا ابيضَّ الحمام كالفقيع فمثله من النّاس الصَّقلابيُّ فإن الصَّقلابيَّ فطيرٌ خامٌ لم تُنْضِجْه الأرحام إذ كانت وإن اسودّ الحمامُ فإنما ذلك احتراقٌ ومجاوزة لحدِّ النُّضج ومثلُ سود الحمام من الناس الزِّنج فإن أرحامهم جاوزت حدَّ الإنضاح إلى الإحراق وشيَّطت الشّمس شُعورَهم فتقبَّضت .
والشّعر إذا أدنَيته من النَّار تجعَّد فإنْ زدْتَه تفَلفَل فإن زدتَه احترق .
وكما أنّ عقول سُودانِ النَّاس وحُمرانِهم دونَ عقول السُّمر كذلك بيضُ الحمام وسودُها دونَ الخُضْر في المعرفة والهدايَةِ .


استطراد لغوي وأصل الخضرة إنَّما هو لون الرَّيحان والبقولِ ثم جعلوا بعدُ الحديدَ أخضرَ والسماء خضراء حتّى سمَّوا بذلك الكُحْل واللّيل .
قال الشَّمَّاخ بنُ ضرار : ( ورُحْنَ رَواحاً مًنْ زَرُودَ فنازعت ** زُبالةَ جلباباً من الليل أخضرا )
وقال الرّاجز : ( حتَّى انتضاه الصُّبح من ليلٍ خَضِرْ ** مثل انتضاء البَطَلِ السَّيفَ الذّكَرْ ) نضو هوى بالٍ على نِضَوِ سَفَرْ وقال اللّه عزّ وجلّ : ومنْ دُونِهمَا جَنَّتانِ فَبأيِّ آلاء رَبِّكما تُكَذِّبَان مُدْهَامَّتَانِ قال : ويقال : إن العراقَ إنَّما سمِّي سواداً بلون السَّعَف الذي في النّخل ومائه .
والأسودان : الماء والتمر والأبيضان : الماء واللبن والماء أسودُ إذا كان مع التّمر وأبيض إذا كان مع اللّبن .


ويقولون : سُودُ البطون وحمْر الكُلى ويقولون : سود الأكباد يريدون العداوة وأن الأحقاد قد أحرقت أكبادَهم ويقال للحافر أسود البطن لأَن الحافر لا يكون في بطونها شحم .
ويقولون : نحن بخير ما رأينا سَواد فلان بين أظهرُنا يريدون شخصه وقالوا : بل يريدون ظلَّه .
فأمّا خضْرُ مُحارِب فإنما يريدون السُّود وكذلك : خُضْر غسَّان .
ولذلك قال الشاعِرُ : ( إنّ الخَضارمة الخضْر الذين غدَوْا ** أهْلَ البريصِ ثمانٍ منهمُ الحكمُ ) ومن هذا المعنى قول القرشي في مديح نفسِه :

( وأنا الأَخضَرُ مَنْ يَعْرِفني ** أخضَرُ الجلْدةِ في بَيْتِ العربْ ) وإذا قالوا : فلان أخضر القفا فإنما يعنون به أنّه قد ولدتْه سوداء وإذا قالوا : فلان أخضر البطْن فإنما يريدون أنّه حائك لأَنّ الحائك بطنَه لطول التزاقه بالخشبة التي يطوى عليها الثّوب يسودّ .
وكان سبب عداوة العَروضي لإبراهيم النَّظام أنّه كان يسمِّيه الأَخضرَ البطن والأسَود البطن فكان يكشِفُ بطنَه للناس يريدُ بذلك تكذيبَ أبي إسحاق حتى قال له إسماعيل بن غزْوان : إنَّما يريد أنَّك من أبناء الحاكة فعاداه لذلك .
استطراد لغوي فإذا قيل أخضر النَّواجذ فإنما يريدون أنّه من أهل القُرَى ممّن يأكل الكُرَّاث والبصل .
وإذا قيل للثّور : خاضب فإِنما يريدونَ أنّ البقل قدْ خَضَب أظلافه بالخضرة وإذا قيل للظليم : خاضب فإنما يَريدونَ حمرةَ وظيفيه

فإنهما يَحمرَّان في القيْظ وإذا قيل للرَّجل خاضب فإنَّما )
يريدون الحنَّاء فإذا كان خضابُه بغير الحِنَّاء قالوا : صَبَغ ولا يقال خضب .
ويقولون في شبيهٍ بالباب الأَوَّل : الأحمران : الذهب والزعفران والأبيضان : الماء واللَّبن والأسودان : الماء والتمر .
ويقولون : أهلَكَ النِّساء الأَحمران : الذَّهب والزّعفران وأهلَكَ النَّاسَ الأحامِر : الذهب والزعفران واللَّحم والخمر .
والجديدان : اللَّيل والنهار وهما الملوان .
والعصر : الدَّهر والعصران : صلاة الفَجْر وصلاة العشي والعصران : الغَداة والعَشِيُّ قال ( وأمطُله العَصْرَينِ حَتَّى يملَّني ** ويَرْضى بِنِصْفِ الدَّينِ والأنفُ رَاغِمُ )

ويقال : البائعان بالخيار وإنَّما هو البائع والمشتري فدخل المبتاع في البائع .
وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ دخلت الأمُّ في اسم الأبوَّة كأنهُمْ يَجمعُون على أنْبَهِ الاسميْنِ وكقولهم : ثبِيرَين والبَصرتَين وليس ذلك بالواجب وقَدْ قالوا : سيرَة العُمَرَين وأبو بكْرٍ فوقَ عمر قال الفرزْدَق : ( أخذْنَا بآفاقِ السَّماءِ عليكمُ ** لنا قَمرَاها والنُّجومُ الطَّوالعُ ) وأمَّا قولُ ذي الرُّمَّة : ( وليلٍ كجِلبابِ العَرُوسِ ادَّرعتُه ** بأربْعةٍ والشخْصُ في العَينِ وَاحِدُ ) فإنهُ ليس يريدُ لونَ الجلباب ولكنّهُ يريد سُبوغه .


جواب أعرابيّ قال : وكذلك قول الأعرابيِّ حينَ قيل له : بأيِّ شيء تعرفُ حَملَ شاتِك قال : إذا استفاضَتْ خاصِرتها ودَجت شَعْرَتها فالدَّاجي هاهنا اللابس .
قال الأصمعي ومسعود بن فيد الفزاري : ألا تَرونَه يقول : كان ذلك وثَوبُ الإِسلامِ داجٍ وأما لفظ الأصمعيّ فإنّه قال : كان ذلك منذُ دَجَا الإسلام يعني أنّه أَلبس كلَّ شيء .
ثمَّ رجع بنا القول إلى ذكر شِياتِ الحمام .
وزعموا أنّ الأوضاحَ كلَّها ضعَف قليلها وكثيرها إلاّ أنَّ ذلك بالحِصَص على قدْر الكثرة والقلَّة كذلك هي في جميع الحيوانِ سواءٌ مستقبلُها ومستدْبرها وذلك ليس بالواجِبِ حتى لا يغادر شيئاً البتة لأنَّ الكَلْبةَ السَّلوقيَّةَ البيضاءَ أكرمُ وأصيَدُ وأصبَرُ من السَّوْدَاء . )
والبياضُ في النَّاسِ على ضروب : فالمعيب منه بياضُ المُغْرَب

والأشقَرُ والأحمرُ أقلُّ في الضّعف والفَسادِ إذا كان مشتقّاً من بَياضِ البَهَقِ والبَرَصِ والبَرَشِ والشيب .
والمغْرَبُ عند العرب لا خير فيه البتة والفقيع لا يُنجِب وليس عنده إلاّ حسنُ بياضه عند من اشتهى ذلك .
سوابق الخيل وزعم ابن سلاّم الجَمحيّ أنَّه لم يرَ قطُّ بلقاءَ ولا أبلق جاء سابقاً وقال الأصمعيّ : لم يسبق الحَلْبَة أهضَمُ قطُّ لأنهم يمدحون المُجْفَرَ من الخيل كما قال : ( خِيط على زَفرةٍ فَتَمَّ ولم ** يرجعْ إلى دِقّة وَلاَ هَضَمِ ) ويقولون : إنَّ الفرَس بعُنُقِه وبطْنه .
وخبّرني بعض أصحابنا أنَّه رأى فَرَساً للمأمون بَلقاء سبقتِ الحلبة وهذه نادرةٌ غريبة .

نظلفة الحمام ونفع ذرفه
والحمام طائر ألوفٌ مألوف ومحبَّب موصوفٌ بالنّظافة حتى إنّ ذرْقه لا يعاف ولا نتن له كسُلاَحِ الدَّجاج والدِّيَكة وقد يُعالج بذرْقه صاحبُ الحصاة والفلاّحون يجدون فيه أكثرَ المنافع والخبَّاز يُلقي الشيء منه في الخمير لينتفخَ العجينُ ويعظُمَ الرغيف ثمّ لا يستبينُ ذلك فيه ولذَرْقه غلاّتٌ يعرف ذلك أصحاب الحُجَر وهو يصلُحْ في بَعض وُجوهِ الدَّبْغ . ( الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب ) وقال صاحبُ الدِّيك : الحمامُ طائرٌ لئيمٌ قاسي القلب وإن برَّ بزَعْمِكم ولدَ غيرِه وصنَعَ به كما يصنع بفرخه وذلك أنهما يحضُنان كلَّ بيض ويزُقّان كلَّ فرْخ وما ذاك منهما إلاّ في الفَرْط .
لؤم الحمام فأمَّا لؤمه فمن طرِيق الغَيرة فإنّه يرى بعينه الذّكَرَ الذي هو أضعف منه وهو يطرُدُ أنثاه ويكسَحُ بِذَنَبه حَولها ويتطوَّس لها

ويستميلها وهو يرى ذلك بعَينه ثمَّ لم نر قط ذكراً واثَبَ ذكراً عند مثلِ ذلك .
فإذا قلت : إنّه يشتدُّ عليه ويمنعه إذا جثَمت له وأراد أن يعلوَها فكلُّ ذكر وأنثى هنالك يفعل ذلك وليس ذلك من الذكر الغريب من طريق الغَيرة ولكنّه ضربٌ من البُخْل ومن النّفاسة وإذا لم يكن من ذكَرِها إلاّ مثلُ ما يكون من جميع الحمام عُلم أنّ ذلك منه ليس من طريق الغيرة وأنا رأيت النواهضَ تفعل ذلك وتقطع على الذَّكر بَعْدَ أن يعلُوَ على الأنثى .
قال : وأمَّا ما ذكرتم من أن الحمامَ معطوفٌ على فِراخه ما دامتْ محتاجةً إلى الزّقّ فإذا استغنَت نُزِعت منها الرحمةُ فليس ذلك كما قلتم الحمامُ طائِرٌ ليس له عهد وذلك أنّ الذّكرَ ربما كانت معه الأنثى السِّنينَ ثمَّ تُنقَلُ عنه وتُوارَى عنه شهراً واحداً ثم تظهر له مع زوجٍ أضْعَفَ منه فيراها طولَ دهْره وهي إلى جنب بيتِه وتماريده فكأنه لا يعرفها بعد معرفتها الدَّهرَ الطويل وإنما غابت عنه الأيَّامَ اليسيرةَ فليس يوجَّهُ ذلك الجهلُ الذي يُعامِل به فراخَهُ بعد أن كبِرَت إلاَّ على

الغباوة وسُوءِ الذِّكر وأنّ الفرْخ حين استوى ريشهُ وأشبَهَ غيرَه من الحمام جهِل الفصْل الذي بينهما .
فإن كان يعرف أنثاه وهو يجدُها مع ذكَرٍ ضعيف وهو مسلِّم لذلك وقانعٌ بِهِ وقليلُ الاكتراث به فهو من لؤمِ في أصل الطبيعة .
قسوة الحمام قال : وبابٌ آخر من لؤمه : القسوة وهي ألأمُ اللّؤم وذلك أن الذّكَر ربَّما كان في البيت طائرٌ ذكرٌ قد اشتدَّ ضعفهُ فينقُر رأسَه والآخرُ مستخذٍ له قد أمكَنَه من رأسِهِ خاضعاً له شديدَ الاستسلام لأمره فلا هو يرحمُه لضعْفِه وعجْزِه عنهُ ولا هو يرحَمُه لخضوعه ولا هو يملُّ وليس له عنده وِتر ثمّ ينقُر يافُوخَه حتى ينقُبَ عنهُ ثمَّ لا يزال ينقُر ذلك المكانَ بَعْدَ النّقْب حتى يُخرِجَ دِمَاغَهُ فيموتَ بين يَدَيْه .
فلو كان ممَّا يأكل اللَّحمَ واشتهى الدماغ كان ذلك له عذراً إذ لم يَعْدُ ما طَبَعَ اللّه عليه سِباعَ الطير .
فإذا رأينا من بعض بهائمِ الطيرِ من القَسوةِ ما لا نرى من سِباع الطير لم يكن لنا إلاّ أن نقضيَ عليهِ من اللؤم على حسب مباينته لشكل

البهيمة ويزيد في ذلك على ما في جوارح الطير من السَّبُعِية .
أقوال لصاحب الديك في الحمام وقال صاحب الديك : زعم أبو الأصبغ بن ربعيّ قال : كان رَوحٌ أبو همام صاحِب المعمّى عند مثنَّى ابن زهير فبينما هو يوماً وهو معهُ في السطح إذ جاء جماعةٌ فصعِدوا فلم يلبثْ أن جاء آخرون ثمَّ لم يلبَثْ أن جاء مثلهُمْ فأقبَلَ عليهم فقال : أيُّ شيءٍ جاء بكم وما الذي جَمَعكم اليوم قالوا : هذا اليومُ الذي يرجع فيهِ مَزَاجيلُ الحمامِ من الغايَةِ قال : ثمَّ ماذا قالوا : ثمَّ نَتَمَتَّعُ بالنَّظَر إليها ( التلهِّي بالحمام ) وقال مثنّى بنُ زهير ذاتَ يوم : ما تلَهَّى النّاسُ بشيءٍ مثل الحمام ولا وجدنا شيئاً مما يتخذه النّاس ويُلعَبُ بِهِ ويُلْهَى بِهِ يخرج من أبواب

الهزل إلى أبواب الجِدّ كالحمام وأبو إسحاق حاضر فغاظه ذلك وكظم على غيظه فلمَّا رأى مثَنَّى سكوته عن الردِّ عليه طمِع فيه فقال : يبلغُ واللّهِ مِنْ كرَم الحمامِ ووفائِه وثباتِ عهْدِه وحنينِه إلى أهله أنِّي ربّما قصَصتُ الطَّائر وبعد أنْ طار عِندي دهراً فمتى نبَتَ جَناحُه كنباته الأوَّل لم يَدْعُه سوءُ صنعِي إليه إلى الذَّهاب عنِّي ولربَّما بِعْتُه فيقصُّه المبتاعُ حيناً فما هو إلاَّ أن يجدَ في جَناحِه قوَّةٍ على النُّهوض حتَّى أراه أتاني جادفاً أو غير جادف وربَّما فعلتُ ذلك به مراراً كثيرة كلَّ ذلك لا يزدَادُ إلاَّ وفاء .
قال أبو إسحاق : أمَّا أنت فأراكَ دائباً تحمَده وتذمُّ نَفْسَك ولئنْ كان رجوعُه إليك من الكرمِ إنّ إخراجَك له من اللُّؤم وما يُعجبني من الرِّجال مَنْ يَقْطَعْ نفسَه لصلةِ طائر وينسى ما عليه في جنبِ ما للبهيمة ثم قال : خبِّرني عنْكَ حين تقول : رجَعَ إليَّ مرَّةً بعدَ مرَّة وكلما زهِدْتُ فيه كان فيَّ أرغبَ وكلّما باعدْتُه كان لي أطْلَبَ إليكَ جاء وإليكَ حنَّ أمْ إلى عُشِّه الذي درَج منه وإلى وكْره الذي رُبِّي فيه أرأيت أنْ لو رجَعَ إلَى وكرِه وبيتِه ثمَّ لم يجدْك وألفاك غائباً أو ميِّتاً أكان يرجِعُ إلى موضعه الذي خلّفه وعلى أنّك تتعجَّب من هدايتِه وما لك فيه

مقالٌ غيره فأمَّا شكرُك على إرادته لك فقد تبيَّنَ خَطَاؤك فيه وإنما بقي الآن حسنُ الاهتداء والحنينُ إلى الوطن .

مشابهة هداية الحمام لهداية الرخم
وقد أجمعوا على أنَّ الرَّخَمَ من لئام الطير وبغاثها وليست من عِتاقها وأحْرارها وهي من قواطِع الطّير ومِنْ موضِع مَقْطَعها إلينا ثمَّ مرجِعِها إليه من عندنا أكثَرُ وأطوَل من مقدارِ أبعَدِ غايات حمامكم فإن كانتْ وقتَ خُروجها من أوطانها إلينا خرجتْ تقطَع الصَّحارى والبراريَّ والجزائرَ والغِياضَ والبِحارَ والجبالَ حتّى تصير إلينا في كلِّ عام فإن قلت إنّها ليستْ تخرج إلينا على سمْتٍ ولا على هِدايةٍ ولا دَلالةٍ ولا على أمارةٍ وعَلامة وإنما هَرَبت من الثُّلوج والبرْد الشديد وعلمت أنّها تحتاج إلى الطُّعْم وأنّ الثّلجَ قد ألبَس ذلك العالم فخرجتْ هاربة فلا تزالُ في هربها إلى أن تصادفَ أرضاً خِصْباً دفئاً فتقيم عندَ أدنى ما تجد فما تقولُ فيها عند رجوعها ومعرفِتها بانحسارِ الثلوج عن بلادها أليست قد اهتدت طرِيقَ الرُّجوع ومعلوم عند أهل تلك الأطراف وعند أصحاب التَّجارب

وعند القانص أنّ طَيْرَ كلِّ جهةٍ إذا قَطَعَتْ رَجَعت إلى بلادها وجبالها وأوكارها وإلى غياضها وأعشّتها فتجد هذه الصِّفة في جميع القواطع من الطَّير كرامها كلئامها وبهائمها كسباعها ثمَّ لا يكون اهتداؤها على تمرينٍ وتوطين ولا عن تدريبٍ وتجريبٍ ولم تلقّن بالتّعليم ولم تثبّتْ بالتّدبيرِ والتقويم فالقواطع لأنفسها تصير إلينا ولأنفسها تعودُ إلى أوكارها .
وكذلك الأوابد من الحمام لأنفسها ترجع وإلفُها للوطن إلفٌ مشترَكٌ مقسومٌ على جميع الطّير فقَدْ بَطَلَ جميعُ ما ذكرت .
قواطع السمك ثمّ قال : وأعجبُ من جميعِ قواطعِ الطّيرِ قواطعُ السَّمك كالأسبور والجُوَاف والبَرستُوج فإنَّ هذه الأنواعَ تأتي دِجلَة البصرةِ من

أقصى البحار تستعذبُ الماء في ذلك الإبَّان كأنها تتحمَّضُ بحلاوة الماء وعذوبَتِه بعدَ مُلوحةِ البحر كما تتحمَّض الإبلُ فتتطلب الحَمْضَ وهو ملحٌ بَعْدَ الخُلّة وهو ما حلا وعذب .
طلب الأسد للملح والأُسْدُ إذا أكثَرتْ مِنْ حَسْوِ الدِّماء والدِّماءُ حلوةٌ وأكْلِ اللّحْم واللّحمُ حلو طلبت المِلْحَ لتتملّحَ به وتجعلَه كالحمْض بعْدَ الخُلّة .
والأَسَدُ يخرج للتملُّح فَلاَ يزالُ يسيرُ حتّى يجِدَ مَلاَّحة وربَّما اعتادَ الأَسَدُ مكاناً فيجده ممنوعاً )
فلاَ يزالُ يقْطَعُ الفراسِخَ الكثيرَةَ بَعْدَ ذلك فإذا تملَّح رجع إلى موضعِهِ وغَيْضَتِه وعَرينِه وغابه وعِرِّيسته وإن كان الذي قَطَع خمسين فرسخاً .

مجيء قواطع السمك إلى البصرة
قواطع السمك ونحن بالبصرة نعرف الأَشْهُر التي يقبل إلينا فيها هذه الأَصناف وهي تقبلُ مرَّتين في كلِّ سنة ثمّ نجدُها في إحداهما أسمَنَ الجنس فيقيم كلُّ جنس منها عنْدَنا شهرَين إلى ثَلاَثة أشهُر فإذا مضى ذلك الأَجلُ وانقضتْ عِدّةُ ذلك الجنسِ أقْبل الجنسُ الآخر فهم في جميع أقسام شُهورِ السَّنَةِ من الشتاءِ والربيعِ والصَّيفِ والخريف في نوعٍ من السَّمك غَيرِ النّوع الآخَر إلاَّ أنْ البَرَسْتُوجَ يُقْبِل إلينا قاطعاً من بلاد الزِّنج يستعذب الماء من دِجلةِ البَصْرَةِ يعرفُ ذلك جميعُ الزِّنج والبَحْريّين .


ُبعْدُ بلاد الزِّنج والصِّين عن البصرة وهم يزعمون أنّ الذي بين البصرة والزِّنج أبعَدُ مما بين الصِّين وبينها .
وإنما غلط ناسٌ فزعموا أنّ الصِّين أبعد لأن بحرَ الزِّنج حفرةٌ واحِدة عميقَة واسعة وأمواجها عِظام ولذلك البَحْرِ ريحٌ تهبُّ من عُمانَ إلى جهة الزِّنج شهْرَين وريحٌ تَهُبُّ من بلاد الزِّنج تريدُ جِهَة عُمان شهْرين على مقْدَارٍ واحدٍ فيما بينَ الشِّدَّة واللِّين إلاّ أنّها إلى الشدِّةِ أقْرَب فلما كان البَحْرُ عميقاً والرِّيحُ قَوِيَّةً والأمْواجُ عظيمَة وكان الشِّراعُ لا يحطُّ وكان سيرهم مع الوَتَر ولم يكن مع القَوْس ولا يَعْرفون الخِبَّ والمكلأََّ صارت الأَيّامُ التي تسير فيها السُّفن إلى الزِّنْجِ أقل .


البرستُوج قال : والبَرَسْتوج سَمكٌ يقْطَعُ أمواجَ الماء وَيَسيح إلى البصرة مِنَ الزنْج ثم يَعُودُ ما فَضَلَ عنْ صيدِ الناس إلى بلاده وبحره وذلك أبْعَدُ ممّا بين البصرة إلى العليق المرارَ الكثيرة وهم لا يصيدون من البَحْر فيما بين البَصرة إلى الزنْج من البَرَسْتُوج شيئاً إلاَّ في إبانِ مَجيئها إلينا ورجوعِها عَنَّا وإِلاَّ فالبحر منها فارغٌ خالٍ . فَعامة الطيرِ أعجبُ من حمامكم وعامَّةُ السّمك أعجبُ من الطَّير .

هداية السمك والحمام
والطَّيرُ ذو جناحين يحلِّق في الهواء فله سُرعةُ الدَّرَك وبلوغ الغاية بالطيران وله إدراك العالم بما فيهِ بعلامات وأمارات إذا هو

حلَّق في الهواء وعلا فَوق كل شيء والسَّمكة تسبِّح في غَمْر البَحْر والماء ولا تسبِّح في أعلاه ونسيمُ الهواء الذي يعيشُ بهِ الطيرُ لو دامَ على السمَكِ ساعة وقال أبو العنبر : قال أبو نخيلة الراجز وذَكَرَ السمك : ( تغمُّه النشرَة والنسِيم ** فَلا يزال مُغرَقاً يَعُومُ ) ( في البَحر والبَحْرُ له تخميمُ ** وأمُّهُ الوَالدة الرؤومُ ) تَلهمهُ جهلاً وما يَرِيمُ

يقول : النشرَة والنسيم الذي يُحيي جَميعَ الحيواناتِ إذا طال عليه الخُمُومُ واللَّخَنُ والعَفَن والرُّطوباتُ الغليظة فذلك يغمُّ السَّمَك ويكرُبُه وأمُّه التي ولدته تأكله لأنّ السَّمكَ يأكلُ بعضُه بعضاً وهو في ذلك لاَ يرِيمُ هذا الموضع .
وقال رؤبة : ( والحوت لا يَكفِيه شيءٌ يَلْهَمُه ** يُصبِحُ عَطْشَانَ وفي الماءِ فَمُهْ ) يصف طباعَه واتِّصاله بالماء وأنَّه شديد الحاجةِ إليه وإن كان غَرِقاً فيه أبداً .


شعر في الهجاء وأنشدني محمَّدُ بنُ يسير لبعض المدنيِّين يهجُو رجلاً وهو قوله : ( لو رأى في السَّقفِ فرْجاً ** لنزَا حتَّى يموتَا ) ( أو رآهُ وَسْطَ بحرٍ ** صارَ فيه الدَّهرَ حُوتَا ) شعر في الضفدع وقال الذَّكواني وهو يصف الضِّفْدعَ : ( يُدخل في الأشْدَاق ماءً يَنصُفهّْ ** كَيمَا يَنقَّ والنّقِيقُ يُتْلِفهْ ) قال : يقول : الضِّفدع لا يصوِّت ولا يتهيَّأ له ذلك حتَّى يكون في فيه ماء وإذا أرادَ ذلك أدخل فكه الأسفلَ في الماءِ وترَك الأعلى حتى يبلُغَ الماءُ نِصفَه .


والمثل الذي يَتَمَثّلُ بِهِ النّاس : فلانٌ لا يستطيعُ أن يُجيبَ خُصومَه لأنّ فاهُ مَلآن ماءً وقال شاعرهُمْ : ) ( وما نسيت مكان الآمريكِ بذا ** يا مَنْ هوِيتُ ولكنْ في فمِي ماءُ ) وإنَّما جعلوا ذلك مثلاً حينَ وجَدُوا الإنسانَ إذا كان في فمه ماءٌ على الحقيقة لم يَسْتطع الكلام فهو تأويلُ قولِ الذَّكوانيِّ : يُدخِلُ في الأشداقِ ماءً يَنْصُفُه بفتح الياءِ وضمِّ الصَّاد فإنَّه ذهبَ إلى قول الشاعرِ : ( وكنتُ إذا جاري دَعا لمضُوفةٍ ** أشمِّر حتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي ) المضوفة : الأمر الذي يشفقُ منه .
فإنَّ الظَّنَّ يَنْصُفُ أو يزِيدُ وهذا ليس من الإنصاف الذي هو العَدْل وإنَّما هو من بلوغ نِصْف الساق .


وأمَّا قوله : كَيما ينقَّ والنَّقِيقُ يُتلِفهُ فإنه ذهَبَ إلى قول الشاعِر : ( ضفادِعُ في ظلماء ليل تجاوَبتْ ** فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتهَا حَيَّة البَحْرِ ) معرفة العرب والأعراب بالحيوان وقلَّ معنًى سَمِعناهُ في باب مَعْرفةِ الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتبِ الأطبَّاءِ والمتكلمين إِلاَّ ونحنُ قد وجدناه أو قريباً منهُ في أشعار العَرب والأعراب وَفي معرفةِ أهلِ لغَتنا ومِلّتنا ولولا أنْ يطولَ الكتابُ لذكرتُ ذلك أجمعَ وعلى أنِّي قد تركتُ تفسيرَ أشعارٍ كثيرة وشواهد عديدة مما لا يعرفه إلاَّ الرَّاويةُ النِّحرير مِنْ خوف التطويل .

حمام النساء وحمام الفراخ
وقال أفليمون صاحبُ الفِراسة : اجعل حمامَ النساء المسرْوَلاتِ العِظامَ الحِسانَ ذواتِ الاختيال والتَّبختر والهدير واجعل حمام الفِراخِ ذواتِ الأنساب الشريفة والأعراق الكريمة فإنّ الفراخَ إنَّما تكثُر عن حُسْن التعهُّد ونظافَةِ القرامِيص والبُروج واتَّخِذْ لهنَّ بيتاً محفوراً عَلَى خِلقة الصَّومَعة محفوفاً من أسفله إلى مقدارِ ثُلثَي حيطانِه بالتماريد ولتَكُنْ واسعةً وليكن بينها حَجاز وأجودُ ذلك أن تكونَ تماريدُها محفورةَ في الحائِطِ على ذلك المثال وتعهَّد البُرْج بالكنس والرَّشِّ في زمان الرش وليكن مخرجُهنَّ من كَوٍّ في أعلى

الصَّومعة وليكن مقتصداً في السِّعةِ والضِّيق بقدر ما يدخُل منه ويخرجُ منه الواحد بعد الواحد وإن استطعتَ أن يكونَ البيتُ بقُربِ مزرعةٍ فافعلْ فإنْ أعجزكَ المنسوبُ منها فالتمسْ ذلك بالفِراسةِ التي لا تخطئُ وقلَّما يُخطئُ المتفرِّس .
قال : وليس كلُّ الهُدَّى تَقْوَى على الرّجعة من حيثُ أرسِلتْ لأنَّ منها ما تفضل قوَّتهُ على هِدايته ومنها البطيء وإن كان قويّاً ومنها السَّريع وإن كان ضعيفاً على قدر الحنين والاغترام ولا بدَّ لجميعها من الصَّرامةِ ومن التّعليم أوَّلاً والتَّوطين آخِراً .

انتخاب الحمام
وقال : جِماع الفِرَاسةِ لاَ يَخرج من أربعة أوجه : أوَّلها التقطيع الثاني المجسَّة والثالث الشمائل والرابع الحركة .
فالتقطيع : انتصاب العنق والخِلْقة واستدارةُ الرأس من غير عِظَمٍ ولا صِغَر مع عظم القرطمتين واتِّساع المنخرين وانهرات الشدقين

وهذان مِنْ أعلامِ الكَرَم في الخيل للاسترواحِ وغير ذلك ثمّ حُسنُ خِلْقة العينين وقِصر المنقار في غير دِقّة ثمَّ اتّساعُ الصّدرِ وامتلاءُ الجؤجؤ وطولُ العُنق وإشراف المنكِبين وطول القوادمِ في غير إفراط ولحُوق بَعض الخوافي ببعض وصلابة العَصَبِ في غير انتفاخٍ ولا يُبس واجتماعُ الخلْق في غير الجعودة والكَزَازَةِ وعِظَمُ الفخذين وقِصرَ الساقين والوظِيفَين وافتراق الأصابع وقِصرَ الذَّنب وخِفَّته من غير تَفْنين وتفرُّق ثم تَوَقُّد الحَدَقتين وصفاء اللَّون فهذه أعلامُ الفِراسة في التقطيع .
وأمَّا أعلامُ المجسة فَوثَاقةُ الخلْق وشدَّة اللَّحم ومَتانَة العَصَب وصلاَبةُ القَصَب ولينُ الرِّيش في غيرِ رِقّةٍ وصَلابَة المِنقارِ في غيرِ دقة .
وأمَّا أعلامُ الشمائل فقلَّة الاخْتيال وصفاءُ البصر وثباتُ النَّظَر

وشدّة الحَذر وحسنُ التّلَفت )
وقلَّةَ الرعْدةِ عنْدَ الفزع وخفَّةُ النّهوض إذا طار وَترْكُ المبادرةِ إذا لَقَطَ .
وأمّا أعلام الحركةِ فالطيران في علوٍ ّ ومدُّ العُنق في سموٍّ وقلة الاضطراب في جوِّ السماءِ وضمُّ الجناحين في الهواء وتَدَافُعُ الركض في غير اختلاط وحُسْنُ القَصْد في غيرِ دَوَرَانٍ وشدَّةُ المدِّ في الطيران فإذا أصبتَه جَامعاً لهذه الخصال فهو الطائر الكامل وإلا فبقدر ما فيهِ من

أدواء الحمام وعلاجها
قال : فاعلموا أنَّ الحمامَ من الطيرِ الرقيق الذي تُسرِع إليهِ الآفة وتَعْرُوهُ الأدواءُ وطَبيعَتهُ الحَرارة واليُبْس وأكثرُ أدوائِه الخُنان والكباد والعُطاش والسل والقُمَّل فَهوَ يحتاجُ إلى المكانِ الباردِ

والنَّظيف وإلى الحبوبِ البارِِدَة كالعَدَس والماشِ والشّعير المنخول والقُرْطمُ له بمنزلة اللَّحم للإنسان لما فيه من قوّةِ الدَّسم .
فممَّا يُعالَجُ بِهِ الكبادُ : الزَّعفران والسكر الطبَرْزَد وماء الهِندباء يجعل في سُكرَّجة ثمَّ يُوجر ذلك أو يمجُّ في حلقه مجّاً وهو على الرِّيق .
وممَّا يعالَجُ به الخُنان : أنْ يليَّنَ لسانَه يوماً أو يومين بدُهْن البنفسج ثمَّ بالرَّمادِ والملحِ يُدْلَك بها حتَّى تنسلخ الجلدة العليا التي غشيت لسانَه ثمَّ يطلى بعَسل ودَهنِ ورد حتّى يبرأ .
وممَّا يعالج به السّلّ : أنْ يُطعَم الماشَ المقْشور ويمجَّ في حلْقه من اللَّبن الحليبِ ويُقطَعَ من وظيفَيْهِ عِرقان ظاهران في أسفل ذلك مما يلي المفصل من باطن .


وممَّا يعالَجُ بِهِ القُمَّل : أنْ يُطلى أصولُ ريشهِ بالزِّيبَق المحلّلِ بدُهن البنفسَج يفعل بِهِ ذلك مرَّاتِ حتى يسقُطَ قملُه ويُكْنَسَ مكانُهُ الذي يكون فيهِ كنساً نظيفاً .
وقال : اعلم أنَّ الحمامَ والطيرَ كلَّها لا يصلُح التَّغمير بهِ من البعْد وهدايته على قدْر التعليم وعلى قدر التوطين فأوَّل ذلك أن يخرج إلى ظهر سطحٍ يعلو عليه ويُنْصَبَ عليه علَمٌ يعرفُهُ ويكونَ طيرانُه لا يجاوز مَحَلَّتُه وأن يكون عَلَفُه بالغداة والعَشِيِّ يُلقَى له فوقَ ذلك السَّطْح قريباً من علَمِه المنصوبِ له حتَّى يألفَ المكانَ ويتعَّودَ الرُّجوعَ إليه ولكن

ليَنْظُرْ مِنْ أيِّ شيء يتّخذ العلمَ فإنّه لا ينبغي أنْ يكون أسودَ ولا يكون شيئاً تراه من البُعْدِ أسود وكلما كان أعظمَ كان أدلَّ .
ولا ينبغي أن يطيِّره وزوجتَه معاً ولكن يَنْتفُ أحدهُما ويطيِّر الآخر ويُخرَجان إلى السَّطح جميعاً ثمَّ يطيَّر الوافي الجناح فإنّه ينازِع إلى زوجتِه وإذا عرَف المكان ودَارَ ورَجع وألِفَ )
ذلك الموضع ونبتَ ريشُ الآخَرِ صُنع به كذلك .
وأجود من ذلك أن يُخرَجا إلى السَّطْح وهما مقصوصان حتّى يألفا ذلك الموضع ثمَّ يطيَّرَ أحدُهُما قبلَ صاحبه ويُصْنَعَ بالثّاني كما صنع بالأوّل .
وما أشبه قوله هذا بقول ماسرجويه فإنهُ وصفَ في كتابه طباعَ جميعِ الألبان وشُرْبَها للدَّواء فلمّا فرغَ من الصّفة قال : وقد وصفت لك حالَ الألبان في أنفسها ولكن انظُرْ إلى من يسقيك اللَّبن فإنَّكَ بدءاً تحتاجُ إلى تنظيف جوفك وتحتاج إلى مَن يعرفُ مقدارَ عِلَّتك من قدر اللّبن

4

حوار مع نجار
ومثلُ ذلك قول نجَّارٍ كان عندي دعوته لتعليقِ بابٍ ثمينٍ كريم فقلت له : إنّ إحكامَ تعليق الباب شديدٌ ولا يحسنه من مائِة نجَّارٍ نجارٌ واحد وقد يُذْكر بالحذْق في نِجارة السقُوف والقِباب وهو لا يكمُلُ لتعليق بابٍ على تمامِ الاحكام فيه والسقُوف والقِباب عند العامَّة أصعب .
ولهذا أمثال : فمن ذلك أنّ الغلام والجاريةَ يشوِيان الجَدْيَ والحملَ ويحكمان الشيّ وهما لا يُحكمانِ شيَّ جنبٍ ومَن لا عِلْم له يظنُّ أنَّ شيَّ البَعْض أَهونُ من شيَّ الجميع .
فقال لي : قد أحسنتَ حين أعلمْتَني أنّك تُبصِر العمل فإنَّ معرفتي بمعرفتك تمنعني من التشفيق فَعَلَّقه فأحكَمَ تَعليقَه ثمَّ لم يكنْ عندي حَلْقةٌ لوجه الباب إذا أردتُ إصفاقه فقلت له : أكره أن أحبسَك إلى

أن يذهب الغلامُ إلى السوق ويرجع ولكن اثقبْ لي موضعها فلما ثقَبهُ وأخذ حقّه ولاّني ظَهرَه للانصراف والتفت إليَّ فقال : قد جوّدتُ الثَّقب ولكن انظُرْ أيُّ نجارٍ يدُقُّ فيه الزِّرَّة فإنه إن أخطأ بضربة واحدة شقّ الباب والشق عيب فعلمتُ أنّهُ يفهَمُ صِناعتَهُ فهماً تَامّاً . ( قص الْحَمام ونتفه ) وبعض الناس إذا أراد أن يعلِّم زوجاً قصّهُما ولم ينْتِفْهما وبين النَّتفِ والقصِّ بَونٌ بَعيد والقصُّ كثير القصِّ لا يُوجعُ ولا يُقَرِّحُ مَغارِزَ قصب الرِّيش والنَّتْف يُوهن المنكِبين فإذا نُتِفَ الطائرُ مِراراً لم يقْوَ على الغاية ولم يزَلْ واهنَ المنكِبين ومتى أبطأ عليه فنتفهُ وقد جفّت أصولُه وقُربت من الطَّرح كان أهونَ عليهِ وكلما كان النباتُ أطرأ كان أضرَّ

عليه وإنه ليبلغَ من مضرَّته وأنّ الذّكَرَ لا يجيدُ الإلقاحَ والأنثى لا تُجيد القَبول وربّما نتفت الأنثى وقد احتشتْ بيضاً وقد قارَبت أن تبيضَ فتبطئُ بَعْدَ وقتها الأيّامَ ورُبما أضرَّ ذلك بالبيض . ( زجْل الحمام ) قال : وإذا بَلغ الثَّاني مبلغَ الأوَّلِ في استواءِ الرِّيش والاهتداء إلى العَلَم طيِّرا جميعاً ومُنِعا من الاستقرار إلاّ أن يظن بهما الإعياء والكلال ثم يُوَطَّنُ لهما المَرَاجِلُ برّاً وبحْراً من حيث يبصران إذا هما ارتفعا في الهواء السَّمتَ ونفْسَ العَلَم وأقاصيَ ما كانا يريانِه منها عند التَّباعد في الدّورَانِ والجَوَلان فإذا رَجَعا من ذلك المكانِ مَرَّاتٍ زُجِلا من أبعَدَ منه وقد كانوا مَرَّةً يعجبهم أن يزجُلوا من جميع التوطينات ما لم تبعدْ مرّتين مرَّتين فلا يزالان كذلك حتَّى يبلغا الغاية ويكون أحدهما محتبساً إذا أرسل صاحبه ليتذكّرَه فيرجعَ إليه فإنْ خيفَ عليه أن

يكون قد ملَّ زوجتَه عرِضت عليه زوجةٌ أخرى قبل الزَّجل فإذا تسنَّمَها مرَّة حِيلَ بينه وبينها يومَه ذلك ثمَّ عرضوها عليه قبل أنْ يُحمَل فإذا أطاف بها نُحِّيت عنهُ ثمَّ حُمِل إلى الزَّاجل فإنَّ ذلك أسرعَ له .
وقال : اعلموا أنَّ أشدَّ المَزَاجِلِ ما قلَّتْ أعلامُه كالصَّحارى والبِحار .
قال : والطير تختلفُ في الطّباع اختلافاً شديداً : فمنها القويُّ ومنها الضعيف ومنها البطيء ومنها السَّريع ومنها الذَّهولُ ومنها الذَّكورُ ومنها القليل الصَّبرِ على العطش ومنها الصَّبورُ وذلك لا يخفى فيهنَّ عند التَّعليمِ والتَّوطين في سرعة الإجابة والإبطاء فلا تبْعِدَنّ غايَةَ الضَّعيفِ والذَّهولِ والقَليلِ الصَّبر على العطش ولا تزجلنَّ ما كان منشؤه في بلا الحرِّ في بلاد البرد ولا ما كان منشؤه في بلاد البَرْد في بلاد الحرِّ إلاَّ ما كان بعد الاعتياد ولا يصبرُ على طول الطيران في غير هوائِه وأجوائه طائرٌ إلا بطولِ الإقامةِ في ذلك المكان ولا تستوي حاله وحالُ من لا يَعْدُو هَوَاءَه والهَوَاءَ الذي يقرُبُ من طِباع هوائه . )


تعليم الحمام ورود الماء قال : ولا بدَّ أن يُعلَّم الورودَ فإذا أرَدتَ به ذلك فأوْرِدْه العيونَ والغُدْرانَ والأنهارَ ثمَّ حُلْ بينه وبين النَّظِر إلى الماء حتى تكفَّ بصرَه بأصابِعِك عن جهة الماء واتِّساع المورد إلاَّ بقدْر ما كان يشربُ فيه من المساقي ثمَّ أوسِعْ له إذا عَبّ قليلاً بقدر ما لا يَرُوعه ذلك المنْظر وليكن ْمعطَّشاً فإنّه أجدرُ أن يشرَب تفعلُ به ذلك مراراً ثمَّ تفسحُ له المنْظَر أوّلاً أوَّلاً حتَّى لا يُنكِر ما هو فيه فلا تزالُ بِهِ حتَّى يعتادَ الشُّربَ بغَيرِ سترة .
استئناسه واستيحاشه قال : واعلم أنَّ الحمامَ الأهليَّ الذي عايشَ النّاسَ وشَرِب من المساقي ولَقَط في البيوت يختلُّ بالوَحدة ويَستَوحِش بالغُربة .


قال : واعلم أنّ الوحشيَّ يستأنِس والأهلي يستوحش .
قال : واعلم أنّه ينسى التّأديبَ إذا أُهمِلَ كما يتأدَّب بعد الإهمال .
ترتيب الزجْل وإذا زَجَلتَ فلا تُخَطْرف به من نصف الغاية إلى الغاية ولكن رتِّب ذلك فإِنّه ربّما اعتادَ المجيء من ذلك البُعد فمتى أرسلتَه من أقربَ منه تحيَّر وأرادَ أن يبتدئَ أمْرَه ابتداءً وهم اليومَ لا يفعلون ذلك لأنّه إذا بلغ الرَّقّة أو فوقَ ذلك شيئاً فقدْ صار عُقْدَةً وصار له ثمنٌ وغَلّة فهو لا يرى أن يُخاطر بشيءٍ له قدْر ولكنّه إن جاءَ من هِيتَ أُدْرِبَ به لأنّه إن ذهب لم يذهب شيءٌ له ثمن ولا طائرٌ له رياسة

وليس له اسم ولا ذِكر وإن جاء جاء شيء كبير وخطير وقال : لا ترسِل الزَّاقَّ حتى تستأنف به الرِّياضة ولا تَدَعْ ما تُعِدُّه للزِّجال أن يحصن بيضاً ولا يجثم عليه فإنّ ذلك ممّا ينقُضه ويُفَتِّحه ويعظم له رأسَه لأنّه عندَ ذلك يسمَن وتكثُر رطوبتُه فتقذِفُ الحرارة تلك الرُّطوبة الحادَّة العارضةَ إلى رأسه فإِن ثقَبَ البيضَ وزقَّ وحَضن احتجْت إلى تضميره واستئناف سياسِته ولكنْ إنْ بَدَا لكَ أن تستفرخه فانقُلْ بيضَهُ إلى غيره بَعْدَ أن تُعْلِمه بعلامةٍ تعرِفُه بها إذا انصَدَع .


علاج الحمام الفزع وإن أصاب الحمامَ أيضاً فَزَعٌ وذُعْرٌ عن طلب شيءِ من الجوارح له فإيَّاك أن تُعيدَه إلى الزَّجل حتّى ترضمه وتستفرخه فإن ذلك الذُّعْرَ لا يفارقُه ولا يسكن حتى تستأنفَ به التّوطين . )
طريقة استكثار الحمام وإنْ أردتَ أن تستكثرَ من الفِراخ فاعزِلِ الذُّكورةَ عن الإناث شهراً أو نحوَه حتى يصول بعضها على بعض ثم اجمعْ بينها فإنّ بيضها سيكثُر ويقلُّ سَقطهُ ومُرُوقه وكذلك كلُّ أرضٍ أثيرت وكذلك الحِيالُ لما كان من الحيوان حائلاً قال الأعشى : ( مِنْ سَرَاة الهِجَانِ صَلَّبَهَا العُ ** ضُّ ورَعْيُ الحِمَى وطُولُ الحِيَالِ )

وقال الحارث بن عبادٍ وجَعَل ذلك مثلاً : دث أفليمون عن نفع الحمام وقال أفليمون صاحب الفِراسة لصاحبه : وأنا محدِّثك عن نفَع الحمام بحديثٍ يزيدُك رغبة فيها : وذلك أنَّ مَلِكَينِ طلب أحدُهما مُلْكَ صاحبِهِ وكان المطلوبُ أكثرَ مالا وأقلَّ رجالاً وأخصب بلاداً وكانت بينهما مسافةٌ من الأرضِ بعيدة فلما بلغَه ذلك دعا خاصَّته فشاوَرَهُمْ في أمْره وشَكا إليهم خوفَه على مُلكه فقال له بعضهم : دامتْ لك أيُّها الملِكُ السلامةُ ووُقيتَ المكروه إنَّ الذي تاقَتْ له نفسك قد يُحتالُ له باليَسيرِ من الطمع وليسَ مِنْ شأنِ العاقلِ التَّغريرُ وليس بعد المُناجَزَة بقيّة والمناجزُ لا يدري لمن تكون الغَلَبة والتمسُّك بالثقةِ خيرٌ من الإقدام على الغَرر

وقال بعضهم : دامَ لك العزُّ ومُدّ لك في البقاء ليسَ في الذُّلِّ دَرَكٌ ولا في الرِّضا بالضيم بقيَّة فالرَّأيُ اتخاذ الحُصون وإذكاءُ العُيونِ والاستعدادُ للقتال فإنّ الموتَ في عزٍّ خيرٌ من الحياة في ذل .
وقال بعضهم : وُقِيتَ وكُفِيت وأُعطيتَ فَضْلَ المزيد الرَّأيُ طلب المصاهرة له والخِطْبة إليه فإِنّ الصهرَ سببُ أُلفةٍ تقعُ به الحُرْمةُ وتثبت بِهِ المودَّة وَيُحلُّ به صاحبُهُ المحلَّ الأدنى ومنْ حلَّ من صاحبه هذا المحلَّ لم يخلِّه مما عَراه ولم يمتنع من مناوأة من ناواه فالتمس خِلطَتهُ فإنّه ليسَ بَعْدَ الخِلطةِ عداوةٌ ولا مَع الشِّركة مبايَنة .
فقال لهم الملك : كلٌّ قد أشارَ برأيٍ ولكلٍّ مدَّة وأنا ناظِرٌ في قولِكم وباللّه العِصمة وبشكره تتمُّ النعمة وأظهَرَ الخِطبة إلى الملكِ الذي فَوقَه وأرسل رُسلاً وأهدى هدايا وأمَرَهُم بمصانعةِ جميع مَن يَصِل إليه ودسَّ رجالاً من ثقاتِه وأمَرهُم باتِّخاذ الحمام في بلاده وتَوطينِهِنَّ واتخذ أيضاً عندَ نفسه مِثلهنَّ فرفَّعهن من غايَةٍ إلى غاية فجعلَ هؤلاء يرسلون من بلاد صاحبهم وجعل مَن عندَ الملِكِ يرسلون من بلاد

الملك وأمرهمْ بمكاتَبتِه بخبرِ كلِّ يوم وتعليقِ الكتُب في )
أصولِ أجنحة الحمام فصار لا يخفى عليه شيءٌ من أمره وأطمعَه الْملِك في التزويج واستفردَهُ وطاولَه وتَابعَ بين الهدايا ودسَّ لحرسِه رجالاً يلاطفونَهمْ حتى صاروا يبيتون بأبوابه معهم فلمَّا كتبَ أصحابهُ إليه بغِرَّتهم وصل الخبر إليه من يومِه فسار إليه في جندٍ قد انتخبهم حتى إذا كان على ليلةٍ أو بَعْض ليلة أخذ بمجامع الطُّرُق ثم بيَّتَهُمْ ووثَبَ أصحابهُ من داخِل المدينةِ وهو وجنده من خارج ففَتحوا الأبوابَ وقَتَلوا المَلِك وأصبَحَ قد غَلَبَ على تلك المدينة وعلى تلك المملكة فَعظُمَ شأنُه وأعظَمتْه الملوك وذُكِر فيهم بالحزْم والكَيْد .
وإنما كان سبب ذلك كلِّه الحمام .


حديث آخر في نفع الحمام قال : وأحدِّثك عن الحمام أيضاً بحديثٍ آخر في أمر النساء والرِّجال وما يصابُ من اللَّذَّةِ فيهنَّ والصَّواب في معاملتهنَّ قال : وذلك أنَّ رجلاً أتَاني مرَّةً فَشَكا إليَّ حاله في فتاةٍ عُلِّقها فتزَوّجها وكات جاريةٌ غِرّاً حسناء وكانت بكراً ذاتَ عقلٍ وحياء وكانت غَريرةً فيما يحسِن النِّساءُ من استمالةِ أهواء الرِّجال ومِنْ أخْذِها بنصيبها من لذّة النساء فلما دخَلَ بها امتنعتْ عليه ودافعته عن نفسها فَزاولها بكلِّ ضربٍ كان يحسنُهُ من لَطفٍ وأدخل عليها مِن نسائه ونسائها مَنْ ظَنَّ أنَّها تقبَل منهنّ فأعيتْهُن حتى همَّ برفضها مع شدَّة وجْده بها فأتَاني فشكا ذلك إليَّ مرةً فأمرْته أن يُفْرِدها ويخلِّيَها من الناس فلا يَصِلَ إليها أحدٌ وأنْ يضْعفَ لها الكرامة في اللّطفِ والإقامة لما يُصلِحها من مَطعَم ومشرَبٍ ومَلبس وطيبٍ وغير ذلك مما تلهو به امرأةٌ وتُعجَبُ بِهِ وأنْ يجعَلَ خادِمَها أعجميَّةً لا تَفْهَم عنها وهي في ذلك عاقلة ولا تفْهمُها إلاّ

بالإيماء حتى تستوحِشَ إليها وإلى كل من يصل إليها من النَّساء وحتى تشتهيَ أن تجِدَ مَنْ يراجعها الكلام وتشكو إليه وحْشة الوَحْدة وأنْ يَدخِل عليها أزواجاً من الحمام ذوات صورةٍ حسنةٍ وتخَيُّل وهدير فيُصَيِّرَهُنّ في بيتٍ نظيف ويجعل لهنّ في البيت تماريد وبين يدي البيت حجْرة نظيفة ويفتح لها من بيتها باباً فيصْرن نُصْبَ عينها فتلهو بهن وتنظر إليهنَّ ويجعل دخوله عليها في اليوم دَفْعَةً إلى تلك الحمام والتسلّي بهنّ والاستدعاء لهنّ إلى الهدير ساعةً ثم يخرج فإنَّها لا تلبث أنْ تتفكّر في صنيعهنّ إذا رأتْ حالهن فإنَّ الطَّبيعةَ لا تَلبَثُ حتى تحرّكها ويكون أوفقُ المقاعد لها الدنّو منهن وأغلبُ الملاهي عليها النَّظَرَ إليهن لأنَّ الحواس لا تؤدي إلى النَّفس شيئاً من قِبَل السمعِ والبَصر والذوق والشم

والمجسّة إلاّ تحرّك مِنَ العَقْل قي قَبُولِ ذلك أوْ رَدِّه )
والاحتيالِ في إصابته أو دفِعه والكراهية له أو السُّرور به بقدر ما حرّك النَّفسَ منه فإذا رأيتَ الغالبَ عليها الدنوّ منهنّ والتأمُّل لهن فأدخِلْ عليها امرأةً مجرِّبة غَزلة تأنس بها وتفطُنها لصنيعهنَّ وتعجُّبُها منهنّ وتستميل فِكرتها إليهنّ وتَصِف لها موقِعَ اللَّذّة على قدْر ما ترى من تحريك الشّهوة ثمّ أخْرِج المرأة عنها وحاوِل الدُّنو منها فإنْ رأيتَ كراهيَةً أمسكْت وأعدْتَ المرأةَ إليها فإنها لا تلبَث أن تمْكِنَك فإنْ فعلتْ ما تحبُّ وأمكنَتْك بعض الإمكان ولم تَبْلُغ ما تريد فأخبرني بذلك .
قال : وقلتُ له : مُر المرأةَ فلتسألها عن حالها في نفسها وحالِك عندها فلعَلّ فيها طبيعةً من الحياء تَمْنَعُها من الانبساط ولعلَّها غِرٌّ لا يُلتمس ما قِبَلها من الخَرقَ ففعل وأمر المرأة أن تكشفها عن ذات نفسها فشكت إليها الخَرَق فأشارت عليها بالمتابعة وقالت : اعتبري بما تَرينَ من هذا الحمام فقد تَرَين الزّوجين كيفَ يصنعان قالت : قد

تأمَّلت ذلك فعجِبتُ منه ولستُ أحْسِنُه فقالت لها : لا تمنعي يدَهُ ولا تحمِلي على نفسك الهيبة وإنْ وجدتِ من نفسِك شيئاً تدعوكِ إليه لذَّةٌ فاصنَعيه فإِنَّ ذلك يأخُذُ بقلبه ويزيدُ في محبَّتِكِ ويحرِّك ذلك منهُ أكثرَ مما أعطاك فلم يلبثْ أنْ نال حاجتَه وذهبت الحشمة وسقطت المداراة فكان سببُ الصُّنع لهما والخروج من الوَحْشة إلى الأُنس ومن الحال الدَّاعِية إلى مفارقتها إلى الحال الدَّاعية إلى ملازمتها والضَّنِّ بها الحمام .

الخوف على النساء من الحمام
وما أكثرَ مِنَ الرِّجال من ليسَ يمنَعُه من إدخال الحمام إلى نسائه الاَّ هذا الشيء الذي حثَّ عليه صاحبُ الفِراسة وذلك أنَّ تلك الرُّؤيةَ قد تذَكِّر وتشهِّي وتَمْحَن وأكثرُ النِّساء بين ثلاثة أحوال : إمَّا امرأة قد مات زَوجُها فتحريكُ طِباعها خِطار بأمانتها وعَفافِها والمُغيبة

في مثل هذا المعنى والثَّالثة : امرأةٌ قد طال لُبثها مع زوْجها فقد ذهب الاستطراف وماتت الشهوة وإذا رأت ذلك تحرَّك منها كلُّ ساكن وذكَرَتْ ما كانتْ عنه بمندوحة .
والمرأة سليمة الدين والعِرْضِ والقَلب ما لم تَهْجِسْ في صدرها الخواطر ولم تتوهَّمْ حالاتِ اللَّذَّة وتحرُّك الشهوة فأمَّا إذا وقع ذلك فعزْمُها أضعفُ العَزم وعزْمُها على ركوب الهوى أقوى العَزْم .
فأمَّا الأبكارُ الغريرات فهنَّ إلى أن يُؤْخذْن بالقراءة في المصحف ويُحتالَ لهن حتى يصرْنَ إلى حال التشييخ والجبن والكَزَازَة وحتَّى لا يسمعَن من أحاديث البَاهِ والغَزَل قليلاً ولا كثيراً

نادرة لعجوز سندية ولقد ركبتْ عجوزٌ سنديةٌ ظهر بعيرٍ فلما أقبَلَ بها هذا البعيرُ وأدبر وطمَر فمخَضها مَرََّةً مخضَ السقاء وجعلَها مَرَّةً كأنَّها ترْهَزُ فقالت بلسانها وهي سنديّةٌ أعجميَّة أخزَى اللّه هذا الذَّمل فإنَه يذكِّر بالسَّرِّ تريد : أخزى اللّه هذا الجمل فإنه يذكِّر بالشر حدثنا بهذه النادرة محمَّد بن عبَّاد بن كاسب
نادرة لعجوز من الأعراب وحدَّثنا رِبْعيٌّ الأنصاريُّ : أنَّ عجوزاً من الأعرابِ جَلستْ في طريق مكة إلى فتيانٍ يشربون نبيذاً لهم فسقَوْها قَدَحاً فطابت نفسُها

وتبسمت ثمَّ سقَوْها قدحاً آخرَ فاحمرَّ وجهها وضَحِكت فسقَوْها قدَحاً ثالثاً فقالت : خبِّروي عن نسائكم بالعراق أيشرَبْنَ من هذا الشراب فقالوا : نعم فقالت : زَنَيْنَ ورَبِّ الكعبة . 4

عقاب خصي
ّ ) وزعم إبراهيم الأنصاريُّ المعتزليُّ أنَّ عباس بن يزيد بن جريرٍ دخَلَ مقصورة لبعض حَواريه فأبصَرَ حماماً قد قَمط حمامةً ثمَّ كسَحَ بِذنبه ونفَش ريشه فقال : لمن هذا الحمام فقالوا : لفلانٍ خادِمك يعْنونَ خَصِيّاً له فقدّمه فضَرَبَ عنقهُ .
وقد قال الحطيئة لفتيان من بني قُرَيع وقد كانوا ربَّما جلَسُوا بقُربِ خَيْمتهِ فتغَنَّى بعضُهمْ غناء الرّكبان فقال : يا بني قريعْ إيَّايَ والغناءَ فإنّه داعيةُ الزِّنا .


أبو أحمد التمار وصاحب حمام وأما أبو أحمد التمار المتكلم فإنّه شاهدَ صاحبَ حمامٍ في يوم مجيء حَمامِه من واسط وكانت واسط يومئذ الغايَة فرآه كلما أقبلَ طائرٌ من حمامه نعر ورَقَص فقال له : واللّه إني لأرَى منك عجباً أراك تفْرَحُ بأن جاءك حمامٌ من واسط وهو ذلك الذي كان وهو الذي جاء وهو الذي اهتدى وأنتَ لم تجئ ولم تهتَدِ وحين جاءَ من واسط لم يجئ معه بشيءٍ من خبر أبي حمزة ولا بشيءٍ من مقاريض واسط وبزيون واسط ولا جاء معه أيضاً بشيء من خِطْمِيٍّ ولا بشيءٍ من جوز

ولا بشيءٍ من زبيب وقد مرَّ بكسكَرَ فأين كان عن جِدَاء كسكر ودَجاج كسكر وسمك كسكر وصحناة كسكر ورُبيثاء كسكر وشعير كسكر وذهب صحيحاً نشيطاً ورجع مريضاً كسلان وقد غرمت ما غرمت فقل لي : ما وجه فرحك فقال : فرحي أنِّي أرجو أن أبيعه بخمسين ديناراً قال : ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً قال : فلان وفلان فقام ومضى إلى فلان فقال : زعم فلان أنّك تشتري منه حماماً جاءَ من واسِط بخمسين دينْاراً قال : صدق قال : فقل لي لم تشتريه

بخمسين ديناراً قال : لأنّه جاء من واسط قال : فإذا جاء من واسط فِلمَ تشتريه بخمسين ديناراً قال : لأنِّي أبيع الفرخَ منه بثلاَثة دنانير والبيضة بدينارين قال : ومن يشتري منك قال : مثلُ فلان وفلان فأخَذ نَعْله ومضى إلى فلان فقال : زعم فلان )
أنّك تشتْري منه فرخاً من طائرٍ جاءَ من واسط بثلاثة دنانير والبيضةَ بدينارَين قال : صَدَق قال : فقل لي : لِمَ تشتري فرخَة بثلاثة دنانير قال : لأنَّ أباه جاء من واسط قال : ولِمَ تشتريه بثلاثة دنانير إذا جاء أبوه من واسط قال : لأني أرجو أن يجيءَ من واسط قال : وإذا جاء مِن واسط فأيَّ شيء يكون قال : يكون أن أبيعَه بخمسين ديناراً قال : ومَن يشتريه منك بخمسين ديناراً قال : فلان فتركَه ومضى إلى فلانٍ فقال : زعم فلان أنّ فرخاً من فراخه إذا جاء أبُوه من واسط اشتريته أنت منه بخمسين ديناراً قال : صدق قال : ولم تشتريه بخمسين ديناراً قال : لأنَّه جاء من واسط قال : وإذا جاء من واسط لم تشتريه بخمسين ديناراً قال : فأعاد عليه مثل قولِ الأوَّل فقل : لا رزق اللّه من يشتري حماماً جاء من واسط بخمسين ديناراً ولا رزق اللّه إلاَّ مَن لاَ يشتريه بقليل ولا بكثير .


نوادر لأبي أحمد التمار وأبو أحمد هذا هو الذي قال وهو يعظ بعض المسرفين لو أنَّ رجلاً كانت عنده ألفُ ألف دينار ثم أنْفقها كلَّها لذهبت كلها وإنما سمع قول القائل : لو أنَّ رجلاً عنده ألفُ ألفِ دينار وهو القائل في قصَصه : ولقد عظَّمَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حقَّ الجارِ وقال فيه قولاً أستحْيي واللّه من ذكره .
وهو الذي قال لبعضهم : بلغني أنَّ في بستانك أشياءَ تهمّني فأحبُّ أن تَهَبَ لي منه أمراً من أمْرِ اللّه عظيم .
وكان زَجَّالاً قبل أن يكون تماراً .
وزعم سليمان الزجَّال وأخوه ثابت أنّه قبل أن يكون تماراً قال يوماً وذكر الحمام حينَ زَهِد في بيع الحمام وذكَرَ بعضَ الملوك فقال : أمَّا فلان فإنّه لما بلغني أنه يلعبُ بالحمام سقط من عيني .


واللّه سبحانه وتعالى أعلم .
تمَّ القولُ في الحمام والحمد للّه وحدَه . ( أجناس الذِّبَّان ) بسم اللّه وباللّه والحمد للّه ولا حَولَ ولا قُوَّة إلا باللّه وصلَّى اللّه على سيِّدنَا محمَّدٍ النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبِه وسلّم وعلى أبرار عِتْرَتِه الطيِّبينَ الأخيار .
أوصيك أيُّها القارئ المتفهِّم وأيهُا المستمعُ المنصت المصيخ ألاّ تحقِرَ شيئاً أبداً لصغر جثَّته ولا تستصغر قدرَه لقلَّة ثمنٍ .

( دلالة الدقيق من الخلق على اللّه ) ثمّ اعلمْ أنَّ الجبلَ ليس بأدلّ على اللّه من الحصاة ولا الفَلكَ المشتمل على عالَمنا هذا بأدلَّ عَلَى اللّه من بَدَن الإنسان وأنَّ صغيرَ ذلك ودقيقَهُ كعظيمهِ وجليله ولم تفترقِ الأمورُ في حقائقها وإنما افترقَ المفكّرون فيها ومَن أهمَل النَّظر وأغفَلَ مواضع الفَرْق وفَصولَ الحدود .
فمنْ قِبَلِ ترْكِ النَّظر ومن قِبَلِ قطْع النَّظر ومن قِبَل النظر من غير وجه النَّظَرِ ومن قِبَل الإخلال ببعض المقدّمات ومن قِبَل ابتداء النَّظر من جهَة النَّظرِ واستتمام النظر مع انتظام المقدّمات اختلَفوا .
فهذه الخصالُ هِيَ جُمَّاع هذا الباب إلاّ ما لم نذْكرْه من بِاب العجز والنقص فإن الذي امتنع وإنما ذكرنا بَابَ الخطأ والصَّواب والتَّقصير والتكميل فإِياك أن تسيءَ الظَّنّ بشيءٍ من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوُت التركيب ولأنّه مشنوءٌ في العين أو لأنّه قليلُ النّفعِ والرَّدِّ فإنَّ الذي تظُّنُّ أنَّه أقلُّها نفعاً لعله أن يكون أكثرَها ردّاً فإلاَّ يكن ذلك من جهةِ عاجلِ أمرِ الدنيا

كان ذلك في آجل أمر الدين وثوابُ الدين وعقابُهُ باقيان ومنافعُ الدنيا فانية زائلة فلذلك قدِّمت الآخرة على الأولى .
فإذا رأيتَ شيئاً من الحيوان بعيداً من المعاوَنة وجاهلاً بسبب المكانَفَةِ أو كان مما يشتدُّ ضررُه وتشتدُّ الحِراسة منهُ كذوات الأنيابِ من الحيَّات والذئابِ وذواتِ المخالبِ من الأسْدِ والنُّمور وذوات الإبر والشعر من العقارب والدَّبْر فاعلم أنّ مواقع منافعها من جهة الامتحان والبلَوى ومن جهة ما أعد اللّه عزَّ وجلَّ للصابرين ولمن فهم عنه ولمن علم أنَّ الاختِيارَ والاختبَار لا يكونان والدنيا كلُّها شرٌّ صِرْفٌ أو خيرٌ محْض فإنّ ذلك لا يكون إلاَّ بالمزواجة بين المكروهِ والمحبوب والمُؤلم والملِذّ والمحقَّرِ والمعظَّم والمأمُون والمخوفِ فإذا كان الحظُّ الأوَفرُ في الاختبار والاختيار وبهما يُتوسل إلى ولاية اللّه عزّ وجلّ وآبِد كرامته وكان ذلك إنما يكون في )
الدار الممزوجةِ من

الخير والشرِّ والمشتركة والمركّبة بالنّفْع والضر المشوبةِ باليُسْرِ والعسْر فليعلَمْ موضعَ النَّفْع في خلْق العقرب ومكانَ الصُّنْع في خَلْق الحيَّة فلا يحقرنَّ الجِرْجس والفَرَاشَ والذرَّ والذِّبان ولْتقِفْ حتى َّ تتفكَّرَ في الباب الذي رميتُ إليك بجمْلَتِه فإنّك ستكْثِرُ حَمْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ على خلْق الهمجِ والحشرَات وذواتِ السُّمومِ والأنياب كما تحمَده عَلَى خلقِ الأغذيةِ من الماءِ والنَّسيم .
فإنْ أردتَ الزِّراية والتَّحقيرَ والعَداوة والتَّصغير فاصرفْ ذلك كلَّهُ إلى الجنِّ والإنس واحقِرْ منهم كلَّ مَن عمِل عملاً من جهةِ الاختيار يستوجبُ به الاحتقار ويستحقُّ به غايةَ المقْت من وجهٍ والتصغيرَ من وجه .
فإِن أنت أبغضت من جهةِ الطبيعة واسَتثْقَلت من جهة الفِطرة ضربينِ من الحَيَوان : ضرباً يقتلك بسمه وضرباً يقتلك بشدةِ أسْره لم تُلَمْ إلاّ أنّ عليك أنْ تَعَلَمَ أنّ خالقَهما لم يخلقْهما لأذاك وإنما خلقهما لتصبَر عَلَى أذاهما ولأن تنالَ بالصَّبر الدَرجةَ التي يستحيل أنْ تنالها إلاّ بالصَّبر

والصبر لا يكُونَ إلاّ عَلى حَالِّ مكروه فسواءٌ عليك أكان المكروه سبُعاً وثَّاباً أو كان مَرَضاً قاتلاً وعَلَى أنّك لا تدري لعلَّ النزْعَ والعَلَزَ والحشْرَجة أن يكون أشدَّ من لدْغ حيَّة وضَغْمَةِ سبعِ فإلاّ تكُنْ له حُرقةٌ كحرق النار وألمٌ كألم الدّهق فلعلَّ هناك من الكَرْب ما يكون موقعِهُ من النَّفس فوقَ ذلك .
وقد عمنا أنّ النَّاس يُسَمُّون الانتظار لوقع السيف علَى صليف العُنق جهَدْ البلاءِ وليس ذلك الجهد من شكل لذْع النار ولا من شكل ألم الضربِ بالعصا فافهم فهمَكَ اللّه مواقع النفع كما يعرفها أهلُ الحكمة وأصحاب الأحْسَاس الصحيحة .
ولا تَذْهب في الأمورِ مذهَبَ العامّةِ وقد جَعَلَكَ اللّهُ تعَالى من الخاصة فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة لأنّها لم تجعل لِعباً ولم تترَكْ

هَمَلاً واصرِفْ بُغضك إلى مُريدِ ظلمكَ لا يراقِب فِيكَ إلاًّ ولا ذِمَّة ولا مودةً ولا كتاباً ولا سنَّة وكلما زادك اللّه عزَّ وجلَّ نعمة ازدادَ عليك حنَقاً ولكَ بُغْضاً وفِرّ كلَّ الفِرارِ واهرُبْ كلَّ الهرب واحترسْ كلّ الاحتراس ممن لايراقب اللّه عزَّ وجلَّ فإنه لا يخلو من أحد أمرين إمَّا أن يكون لا يعرفُ رَبَّهُ مع ظهور آياتِه ودلالاته وسبوغِ آلائه وتتابُع نَعَمائه ومع برهانات رُسله وبيانِ كتبِهِ وإمَّا أنْ يكونِ بهِ عارفاً وبدينِه موقناً وعليهِ مجترئاً وبحُرماتِه مستخفاً فإن كان بحقِّهِ جاهلاً فهو بحقِّك أجهل وله أنْكَر وإن كان به عارفاً )
وعليه مجترئاً فهو عليك أجرأ ولحقوقك أضيَع ولأياديك أكفر .
فأمَّا خلْق البَعوضةِ والنَّملة والفَرَاشةِ والذَّرَّة والذِّبّان والجِعْلان واليعاسيب والجراد فإياك أن تتهاونَ بشأن هذا الجُنْد وتستخف بالآلة التي في هذا الذَّرْء فَربَّتَ أمة قد أجلاها عن بلادها النملُ ونقلَها

عن مساقِطِ رؤوسها الذَّرُّ وأُهلِكت بالفأر وجُردت بالجَرَادِ وعُذِّبت بالبعوض وأفسَدَ عيشها الذِّبَّان فهي جُندٌ إن أراد اللّه عزَّ وجلَّ أن يهلِك بها قوماً بَعْدَ طُغْيانِهم وتجبُّرهم وعتَوِّهم ليعرفوا أو ليُعرَفَ بهم أنَّ كثيرَ أمرِهم لا يقوم بالقليلِ من أمر اللّه عَزّ وجلّ وفيها بَعْدُ مُعتبرٌ لمن اعتبر وموعظةٌ لمن فكّر وصلاجٌ لمن استبصر وبلوَى ومحْنة وعذابٌ ونِقْمة وحُجَّة صادقة وآيةٌ واضحة وسَبَبٌ إلى الصّبْرِ والفِكْرَةِ وَهما جِمَاع الخيرِ في باب المعْرفة والاستبانة وفي بابِ الأجْر وعِظمِ المثوبة .
وسَنَذْكر جملةً من حال الذَّبّان ثم نقولُ في جملةِ ما يَحضرُنا منْ شَأْنِ الغِرْبانِ والجعلانِ

أمثال في الفراش والذباب
ويقال في موضع الذمِّ والهجاء : ما هُمْ إلاّ فَراشُ نارٍ وَذِبَّانُ طَمَعٍ وَيقال : أطْيَشْ مِنْ فَراشَة وَأزهى مِنْ ذِبّانٍ .


وقال الشاعر : ( كأنَّ بني ذويبة رهْطَ سلمَى ** فَرَاشٌ حول نارٍ يَصْطلينا ) ( يُطَفْنَ بحرِّها ويَقَعْنَ فيها ** ولا يَدْرِينَ ماذا يتَّقينا ) والعرب تجعل الفَراشَ والنَّحلَ والزَّنابيرَ والدَّبْر كلَّها من الذِّبان وأما قولهم : أزهى مِنْ ذُباب فلأَنَ الذُّباب يسقُط على أنفِ الملِكِ الجبَّار وعلى موُقِ عينيه ليأكله ثم يطرده فَلا ينطرد .
والأنف هو النَّخْوة وموضعُ التَّجبُّر .
وكان من شأن البطارقة وقوَّاد الملوك إذا أنفوا من شيء أن ينخُِروا كما ينْخِر الثَّورُ عندَ الذَّبحِ والبِرذونُ عند النَّشاط .


والأنف هو موضعُ الخُنْزُوانة والنُّعَرةِ وإذا تكبَّرت النَّاقَةُ بعد أن تلْقَح فإنهَّا تزمّ بأنفها .
والأصيد : الملك الذي تراه أبداً من كِبْره مائلَ الوجه وشُبِّه بالأسد فقيل أصيد لأنَّ عُنقَ الأسدِ من عظمٍ واحد فهو لا يلتفتُ إلاّّ بكُلِّه فلذلك يقال لِلمُتَكَبِّرِ : إنَّما أنفه في أسلوب ويقال : أرغَمَ اللّه أنفَه وأذلَّ معطِسَه ويقال : ستفعل ذلك وأنفُك راغم والرَّغام : التّراب ولولا كذا )
وكذا لهشَّمت أنفك فإنما يخصُّون بذلك الأنف لأنَّ الكبر إليه يضاف قال الشاعر : ( يا رُبَّ مَنْ يُبْغِضُ أذْوادنا ** رُحن عَلَى بَغْضائه واغتديْن ) ( لو نَبَتَ البَقلُ عَلَى أنفِه ** لرُحْنَ منه أُصُلاً قد أبين )

ويقال بعير مذبوب إذا عرض له ما يدعو الذِّبَّانَ إلى السُّقوط عليه وهم يعرفون الغُدَّة إذا فشَتْ أو أصابَتْ بعيراً بسُقوط الذِّبَّان عليه .

احتيال الجمالين على السلطان
وبسقوط الذّبّان على البعير يحتال الجَمَّال للسُّلطان إذا كان قد تسخَّرَ إبلَهُ وهو لذلك كاره وإذا كان في جماله الجملُ النفيسُ أو الناقةُ الكريمة فإنه يعمِد إلى الخَضْخاض فيصبُّ فيه شيئاً من دِبس ثم يَطْلى به ذلك البعير فإذا وجد الذّبّان رِيحَ الدِّبس تساقَطْنَ عليه فيدَّعي عند ذلك أنَّ به غُدَّة ويجعلُ الشاهدَ له عندَ السُّلطان ما يُوجد عليه من الذِّبان فما أكثر ما يتخلصون بكرائم أموالهم بالحيلِ من أيدي

السلطان ولا يظنُّ ذلك السُّلطانُ إلاّ أنه متى شاء أنْ يبيعَ مائةَ أعرابي بدرهم فَعَل والغدّة عندهُمْ تُعدِي وطباع الإبل أقبلُ شيء للأَدواء التي تُعْدِي فيقول الجمَّال عنْدَ ذلك للسُّلطان : لو لم أخف على الإبل إلاَّ بعيري هذا المغِدّ أن يُعدِيَ لم أبال ولكنِّي أخاف إعداء الغُدَّةِ ومضرَّتها في سائر مالي فلا يزال يستعطِفهُ بذلك ويحتالُ له به حتَّى يخلِّيَ سبيلَه ( نفور الذَّبّان من بعض الأشياء ) ويقال إنَّ الذَّبَّان لا يقْرُبَ قدْراً فيه كمأَة كما لا يَدخُل سامُّ أبْرص بيتاً فيه زعفران . ( الخوف على المكلوب من الذِّبَّان ) ومن أصابه عض الكلب الكَلِبِ حَمَوا وجهَه من سقوط الذِّبان عليه قالوا : وهو أشدُّ عليه من دبيب النِّبر على البعير .

النبر والنِّبْر دويْبَّةٌ إذا دبَّت على البعير تورَّم وربَّمَا كان ذلك سبَبَ هلاكه .
قال الشاعرُ وهو يصف سِمَن إبله وعِظَمَ أبدانها : ( حمر تحقَّنَت النّجيل كأنَّما ** بجلودهِنَّ مَدَارِجُ الأنْبارِ ) مميزات خلقيَّة لبعض الحيوان وليس في الأرض ذبابٌ إلاَّ وهو أقْرَح ولا في الأرض بعيرٌ إلاّ وهو أعْلم كما أنَّه ليس في الأرض ثورٌ إلاّ وهو أفطس .
وفي أنَّ كلَّ بعير أعلمُ يقولُ عنترة : ( وحَليل غانيةٍ تركتُ مجدَّلاً ** تمكو فريصَتُه كشِدْق الأعلَمِ )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11