كتاب : العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف : ابن رشيق القيرواني

فكأني وما أزين منها ... قعدي يزين التحكيما
كل عن حمله السلاح إلى الحر ... ب فأوصى المطيق أن لا يقيما
القعدية: فرقة من الخوارج ترى الخروج وتأمر به، وتقعد عنه.
وقوله أيضاً:
بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذاً لاصطفاني دون كل نديم
وهذا المعنى أيضاً لم يتناوله أحد قبله.
وكذلك قوله:
قد قلت للعباس معتذراً ... من ضعف شكريه ومعترفاً:
أنت امرؤ جللتني نعماً ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
فإليك مني اليوم تقدمة ... تلقاك بالتصريح منكشفاً
لا تسدين إلي عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
وقال أيضاً في صفة النساء الخمارات، ويروي لابن المعتز:
وتحت زنانير شددن عقودها ... زنانير أعكان معاقدها السرر
فهذا تشبيه ما علمت أنه سبق إليه.
وقال أيضاً:
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى؟
لو تفرعت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت مخلا
ومعاني أبي نواس واختراعاته كثيرة.
وأكثر المولدين معاني وتوليدا فيما ذكره العلماء أبو تمام، غير أن القاسم بن مهرويه قد زعم أن جميع ما لأبي تمام من المعاني ثلاثه: أحدها قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
والثاني قوله:
بني مالك، قد نبهت خامل الثرى ... قبور لكم مستشرقات المعالم
غوامض قيد الكلف من متناول ... وفيها علاً لا يرتقي بالسلالم
والثالث قوله:
يأبى على التصريد إلا نائلاً ... إن لم يكن محضاً قراحاً يمذق
نزراً كما استكرهت عائر نفحة ... من فأرة المسك التي لم تفتق
وأنا أقول: إن أكثر الشعراء اختراعاً ابن الرومي، وسيأتي برهان ذلك في الكتاب الذي شرطت تأليفه إن شاء الله سبحانه.. ولا بد ها ههنا من نبذ يسيرة أشغل بها الموضع: منها قوله:
عيني لعينك حين تنظر مقتل ... لكن لحظتك سهم حتف مرسل
ومن العجائب أن معنى واحداً ... هو منك سهم وهو مني مقتل
وقوله في عتاب:
توددت حتى لم أدع متودداً ... وأفنيت أقلامي عتاباً مرددا
كأني أستدعي بك ابن حنية ... إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا
وقوله في أبيات يتغزل فيها، وإن كان قد كرر المعنى:
نظرت فأقصدت الفؤاد بلحظها ... ثم انثنت عنه فظل يهيم
فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
وقوله ولم أسمع أحسن منه في معناه:
وما يعتريها آفة بشرية ... من النوم إلا أنها تتبختر
وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منورة باتت تراح وتمطر
كذلك أنفاس الرياض بسحرة ... تطيب، وأنفاس الورى تتغير

باب في أغاليط الشعراء والرواة
ولا بد أن يؤتى على الشاعر المفلق، والعالم المتقن؛ لما بني عليه الإنسان من النقص والتقصير، وخير ما في ذلك أن يرجع المرء إلى الحق إذا سمعه، ولا يتمادى على الباطل لجاجة وانفة من الخطأ؛ فإن تماديه زيادة في الخطأ الذي أنف منه.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جعفر النحوي، عن أبي علي الآمدي، عن علي بن سليمان الأخفش، عن محمد بن يزيد المبرد، قال: تلاحى مسلم بن الوليد وأبو نواس، فقال مسلم: ما أعلم بيتاً لك يخلو عن سقط، فقال أبو نواس: اذكر شيئاً من ذلك، فقال: بل أنشد أنت أي بيت شئت، فأنشد أبو نواس:
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا ... وأمله ديك الصباح صياحا
فقال مسلم: قف عند هذا، لم أمله ديك الصباح، وهو يبشره بالصبوح، وهو الذي يرتاح إليه؟ فقال أبو نواس: فأنشدني أنت، فأنشده:
عاصى الشباب فراح غير مفند ... وأقام بين عزيمه وتجلد
فقال أبو نواس:

ناقضت، ذكرت أنه راح، والرواح لا يكون إلا بالانتقال من مكان إلى مكان، ثم قلت وأقام فجعلته منتقلاً مقيماً في حال، هذا متناقض.
قال أبو العباس: وكلا البيتين صحيح، ولكن من طلب غيباً وجده ومن طلب له مخرجاً لم يفته.
قال الأصمعي: وأخطأ زهير في قوله كأحمر عاد ولا أدري لم خطأه وقد سمع قول الله عز وجل: " وأنه أهلك عاداً الأولى " فهل قال هذا إلا وثم عاد أخرى؟ وهي هلكت بالنمل من ولد قحطان. قال قيس بن سعد بن عبادة: سراويل عادي نمته ثمود وكان يقال لثمود عاد الصغرى.
وخطأ الشماخ في قوله في وصف ناقته: رحى حيزومها كرحى الطحين ظنه يصفها بالكبر، وهو عيب لا محالة، وإنما وصفها بالصلابة لا غير. وأخذ ابن بشر الآمدي على البحتري قوله:
هجرتنا يقظى وكادت على مذ ... هبها في الصدود تهجر وسنى
قال: هذا غلط؛ لأن خيالها يتمثل له في كل أحوالها، يقظى كانت أو وسنى أو ميتة، والجيد قوله:
أرد دونك يقظاناً ويأذن لي ... عليك سكر الكرى إن جئت وسنانا
وأنا أقول: إن مراده أنها لشدة هجرها له ونحوها عليه لا تراه في المنام إلا مهجوراً، ولا تراه جملة، فالمعنى حينئذ صحيح لا فساد فيه، ولا غلط، ولعل الرواية وكادت وهذا موجود في كلام الناس اليوم، ومثله يقولون: " فلان لا يرى لي مناماً صالحاً " وليس بين بيتي البحتري تناسب من جهة المعنى جملة واحدة؛ لأنه أولاً يحكي عنها، وثانياً يحكي عن نفسه، بلى إن في اللفظ اشتراكاً ظاهراً.
وفي كتاب عبد الكريم من المأخوذ على أبي تمام قوله:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
قال: فيه غلط من أجل أنه نفى عن النساء لين القنا، وإنما قيل للرماح ذوابل للينها وتثنيها، فنفى ذلك أبو تمام عن قدود النساء التي من أكمل أوصافها اللين والتثني والانعطاف.
قلت أنا: أما أبو تمام فقوله الصواب؛ لأنهم يقولون رمح ذابل إذا كان شديد الكعوب صلباً، وهو الذي تعرف العرب، ومنه قولهم: " ذبلت شفتاه " إذا يبستا من الكرب أو العطش أو نحوهما، فأما كلام المعترض فغير معروف إلا عند المولدين؛ فإنهم يقولون: " نوارة ذابلة " وليسوا بقدوة؛ على أن كلامهم راجع إلى ما قلناه، إنما ذلك لقلة المائية وابتداء اليبس، وإنما نقل عبد الكريم كلام ابن بشر الآمدي.
قال الأصمعي: قرأت على أبي محرز خلف بن حيان الأحمر شعر جرير، فلما بلغت إلى قوله:
وليل كإبهام الحباري محبب ... إلي هواه غالب لي باطله
رزقنا به الصيد الغرير ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله
فيا لك يوماً خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله
قال خلف: ويحه، ما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقلت: هكذا قرأته على أبي عمرو بن العلاء، قال: صدقت، وكذا قال جرير، وكان قليل التنقيح لألفاظه، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع، قلت: فكيف يجب أن يكون قال: الأجود أن يكون " خيره دون شره " فاروه كذلك، وقد كانت الرواة قديماً تصلح أشعار الأوائل، فقلت: والله لا أرويه إلا كذا.
قلت أنا: أما هذا الإصلاح فمليح الظاهر، غير أنه خلاف الظاهر، وذلك أن الشاعر أراد أنه كان ليلة في وصال، ثم فارق حبيبه نهاراً، وذلك هو الشر الذي ذكر، والرواية جعله لم يفارق فغير عليه المعنى، إلا أن تكون الرواية ويوم كإبهام الحبارى فحينئذ.. على أن دون تحتمل ما قصد، وتحتمل معنى قبل؛ فهي لفظة مشتركة، وتكون أيضاً بمعنى بعد؛ لأنها من الأضداد، ولكن في غير هذا الموضع. وخطأ الأصمعي بشامة بن الغدير في قوله يصف راحلته:
وصدر لها مهيع كالحليف ... تخال بأن عليه شليلا
لأن من صفة النجائب قلة الوبر وخطأ أيضاً كعب بن زهير في قوله يصف راحلته: فعم مقيدها ضخم مقلدها لأن النجائب دقيقات المذابح.
ونبه أو الفضل بن العميد على البحتري في بيت كسره، وهو قوله:
لماذا تتبع النفس شيئاً ... جعل الله الفردوس منه جزاء
قال ننشده: جعل الله الخلد منه جزاء ليستقيم، حكى ذلك الصاحب بن عباد.. وأنشد له أيضاً:
أبا غالب بالجود تذكر واجبي ... إذا ما غني الباخلين نسيه

وزعم أنه لحن، ولست أرى به بأساً، هذا الشاعر أسكن الياء لما يقتضيه بناء القافية، فإذا أسكن الياء وما قبلها مكسور لم تكن الهاء إلا مكسورة إتباعاً لما قبلها، لا سيما وهي طرف، وقد فعلوا مثل هذا في وسط الكلمة.. وقال رؤبة: كأن أيديهن بالقاع القرق ولم يقل أيديهن بالضم استثقالاً، وأيضاً فكأنه أعني البحتري نوى الوقوف، ثم جر القافية كعادتهم في تحريك الساكن أبداً إلى الجر.
وأنشد الصاحب بن عباد قال: أنشدني علي بن المنجم، قال: أنشدني أبو الغوث لأبيه:
وأحق الأيام بالأنس أن يؤ ... ثر فيه يوم المهرجان الكبير
وأنا أقول: إن أبا الغوث جاء من قبله الخذلان في هذه الرواية، فويل للآباء من أبناء السوء، ودع المثل القديم، ولا أظن البحتري قال إلا:
وأحق الأيام بالأنس أن تؤ ... ثره فيه يوم المهرجان الكبير
وأخذ الأحمر على المفضل روايته في قول امرئ القيس: نمس بأعراف الجياد أكفنا وما هو إلا نمش أي: نمسح، والمشوش المنديل.
وكذلك قول المفضل:
إذا ألم خيالها طرقت ... عيني فماء شجونها سجم
وإنما هو طرفت بالفاء.
وأخذ عليه الأصمعي في قول أوس: تصمت بالماء تولباً جذعا وإنما هو جدعاً بدال مكسورة غير معجمة، ولأمر ما قال ذو الرمة لموسى بن عمرو: اكتب شعري، فالكتاب أعجب إلي من الحفظ؛ لأن الأعرابي ينسى الكلمة قد تعب في طلبها ليلة، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام.
قال الأخطل: أخطأ الفرزدق حيث قال:
أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال
لولا عطية لاجتدعت أنوفكم ... من بين ألأم اوجه وسبال
كيف يكون وهب له وهو يهجوهم هذا الهجاء؟ فانبرى له فتى من بني تميم فقال: وأنت الذي قلت في سويد بن منجوف:
فما جذع سوء خرق السوس بطنه ... لما حملته وائل بمطيق
أردت هجاءه فزعمت أن وائلاً تعصب به الحاجات، وقدر سويد لا يبلغ ذلك عندهم، فأعطيته الكثير، ومنعته القليل، وأردت أن تهجو حاتم بن النعمان الباهلي، وأن تصغر شأنه، وتضع من قدره؛ فقلت:
وسود حاتماً أن ليس فيها ... إذا ما أوقد النيران نار
فأعطيته السؤدد من قيس الجزيرة، ومنعته ما لا يضر منعه؛ وأردت أن تمدح سماكاً الأسدي فقلت:
نعم المجير سماك من بني أسد ... بالطف إذ قتلت جيرانها مضر
قد كنت أحسبه قينا وأنبؤه ... فالآن طير عن أثوابه الشرر
فانصرف الأخطل خجلاً.
قال الحسن لعلي بن زيد: أرأيت قول الشاعر:
لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيلة
مدحه أم هجاه؟ قال: مدحه وهجا قومه، فقال الحسن: ما مدح من هجي قومه.
وقال من اعتذر للنابغة في قوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأي عنك واسع
إنما قدم الليل في كلامه لأنه أهول، ولأنه أول، ولأن أكثر أعمالهم إنما كانت فيه؛ لشدة حر بلدهم، فصار ذلك عندهم متعارفاً.
وكذلك اعترفوا لزهير في قوله يصف الضفادع:
يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغمر والغرقا
فقال: لم يرد أنها تخاف الغرق على الحقيقة، ولكنها عادة من هرب من الحيوان من الماء، فكأنه مبالغة في التشبيه، كما قال الله عز وجل: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وقال: " وبلغت القلوب الحناجر " والقول فيهما محمول على كاد هكذا الحذاق من المفسرين، مع أنا نجد الأماكن البعيدة القعر من البحار لا تقربها دابة، خوفاً على نفسها من الهلكة، فكأنه أراد المبالغة في كثرة ماء هذه الشربات، وإنما اقتدى فيه بقول أوس بن حجر:
فباكرن جونا للعلاجيم فوقه ... مجالس غرقى لا يحلا ناهله
وعند القاضي الجرجاني من غلط أبي النواس في الوزن قوله:
رأيت كل من كان أحمقاً معتوهاً ... في ذا الزمان صار المقدم الوجيها
يارب نذل وضيع نوهته تنويها ... هجوته لكيما أزيده تشويهاً

ولم يقل أبو نواس فيما علمت إلا رب وضيع نذل وهذا أفرط في التعصب والحمية على أبي نواس وغيره لمن لا يجري في حلبتهم ولا يشق غبارهم.

باب ذكر منازل القمر
ولما رأيت العرب وهم أعلم الناس بهذه المنازل وأنوائها؛ لأنها سقف بيوتهم، وسبب معايشهم وانتجاعهم غلطوا فيها فقال أحدهم: من الأنجم العزل والرامحة.. وقال امرؤ القيس.
إذا ما الثريا في السماء تعرضت فأتى بتعرض الجوزاء، ورأيت كل من عني بالنجوم من المحدثين واستوفى جميع المنازل مخطئاً، لا شك في خلافه؛ لأنه إنما يصف نجوم ليلة سهرها، والنجوم كلها لا تظهر في ليلة واحدة، ولذلك قلت أنا احتياطاً في الليل من نسيب قصيدة مدحت بها السيد أبا الحسن أدام الله عزه:
قد طال حتى خلته ... من كل ناحية وسط
وتكررت فيه المنا ... زل منه لا مني الغلط
وجب أن أذكر هذه المنازل وأنواءها، واختلاف الناس فيها، وعولت في ذلك على ما ذكره أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، مجتهداً فيما استطعت من البيان والاختصار، إن شاء الله تعالى.
السنة أربعة أجزاء، لكل جزء منها سبعة أنواء، لكل نوء ثلاثة عشر يوماً، إلا نوء الجبهة فإنه أربعة عشر يوماً، زيد فيه يوم لتكمل السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وهو المقدار الذي تقطع الشمس فيه بروج الفلك الاثنى عشر، لكل برج منزلتان وثلث منزلة، وكلما نزلت الشمس منزلة من هذه المنازل سترته؛ لأنها تستر ثلاثين درجة: خمسة عشر من خلفها، ومثلها من أمامها، فإذا انتقلت عنها ظهرت، هكذا قال الزجاجي.
وإذا اتفق أن تطلع منزلة من هذه المنازل بالغداة ويغرب رقيبه فذلك النوء لا يتفق لكل منزلة إلا مرة واحدة في السنة، وهو مأخوذ من ناء ينوء إذا نهض متثاقلاً، والعرب تجعل النوء للغارب؛ لأنه ينهض للغروب متثاقلاً، وعلى ذلك أكثر أشعارها، وتفسير بعض العلماء في قوله تعالى: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة " أي: تميل بهم الأرض، وهذا التفسير أوجه من قول من جعل الكلمة من المقلوب، قال: وبعضهم يجعله للطالع، وهذا هو مذهب المنجمين؛ لأن الطالع له التاثير والقوة، والغارب ساقط لا قوة له ولا تأثير. قال المبرد: النوء على الحقيقة للطالع من الكوكبين، لا الغارب، وهذه المنازل كلها يطلع بها الفلك من المشرق، ويغرب في المغرب، كل يوم وليلة، وتلك دورة من دوراته.
الربع الأول من السنة، وابتداؤه من سبعة عشر يوماً من آذار، وبعضهم يجعله في عشرين يوماً منه، فيستوي حينئذ الليل والنهار منه، ويطلع مع الغداة فرع الدلو الأسفل، وهو المؤخر، ويسقط العواء، وإليها ينسب النوء، وهي تمد وتقصر وصفتها خمسة كواكب كأنها ألف معطوفة الذنب إلى اليسار، وبذلك سميت، وتقول العرب: عويت الشيء، إذا عطفته، وقال آخرون: بل هي كأنها خمسة أكلب تعوي خلف الأسد، قال ابن دريد: هي دبر الأسد، والعواء في كلامهم الدبر.
النوء الثاني: السماك، وهما سماكان: أحدهما السماك الأعزل، نجم وفاد، شبهوه بالأعزل من الرجال، وهو الذي لا سلاح معه، وهو منزل القمر، والآخر: كوكب تقدمه آخر، شبهوه بالرمح، وهما ساقا الأسد، وسمي سماكاً لعلوه، ولا يقال لغيره إذا علا سماك، هكذا قال سيبويه مما حكى الزجاجي عن أبي إسحاق الزجاج، غير أنه قال في الأعزل: وقيل إنما سمي أعزل لأن القمر لا ينزل به.
وأنا أقول: القول الآخر خلاف ما عليه جميع الناس، ورؤية العين تدركه على غير ما يزعم الزاعم.
النوء الثالث: الغفر، وهو ثلاثة كواكب غير زهر، وبذلك سميت، من قولك: غفرت الشيء، إذا غطيته، ومنه سميت الغفارة التي تلبس، وقيل: إنما سمي غفراً من الغفرة، وهي الشعر الذي طرف ذنب الأسد، وقال أبو عبيدة: الغفر كل شعر صغير دون الكثير، وكذلك هو في الريش، وقال قوم: هو من النكس في المرض، يقال: أغفر المريض، إذا نكس، كأن النكس غطاء العافية.
النوء الرابع: الزبانان، كوكبان مفترقان، وهما قرنا العقرب، وقيل: يداها، وسميا زبانين لبعد كل واحد منهما عن صاحبه، من قولهم: زبنت كذا، إذا دفعته لتبعده عن نفسك، ومنه اشتقاق الزبانية؛ لأنهم يدفعون أهل النار إليها.
النوء الخامس: الإكليل، ثلاثة كواكب على رأس العقرب، وبذلك سميت إكليلاً.

النوء السادس: القلب، كوكب أحمر وقاد: جعلوه للعقرب قلباً، على معنى التشبيه.
النوء السابع: الشولة، كوكبان أحدهما أخفى من الآخر، وهما ذنبا العقرب، وذنب العقرب شائل أبداً، فشبه به، هذا قول بعضهم، وبعضهم يجعل الشولة الإبرة التي في ذنب العقرب، وهم أهل الحجاز، وهو أصح على مذهب من زعم أنهما كوكبان فقط.
الربع الثاني: الصيف، أول أنوائه " النعائم " وهي ثمانية كواكب نيرة: أربعة منها في المجرة تسمى الواردة، وأربعة خارجة منها تسمى الصادرة، وشبهت بالخشبات التي تكون على البئر يعلق بها البكرة والدلاء.
الثاني من الصيف " البلدة " وهي فرجة لطيفة لا شيء فيها، لكن بجوارها كواكب تسمى القلادة، وإنما قيل لتلك الفرجة البلدة تشبيها بالفرحة التي بين الحاجبين، إذا لم يكونا مقرونين، يقال منه: رجل أبلد، ويقال: بل شبهت بالبلدة، وهي باطن الراحة كلها، وقيل: باطن ما بين السبابة والإبهام.
الثالث منه " سعد الذابح " وهما نجمان صغيران: أحدهما مرتفع في الشمال معه كوكب آخر يقال هو شاته التي تذبح، والآخر هابط في الجنوب.
الرابع منه " سعد بلع " وهما كوكبان صغيران مستويان في المجرة، شبها بفم مفتوح، يريد أن يبتلع شيئاً، وقيل: إنما قيل بلع كأنه بلع شاته، وبلع غير مصروف؛ لأنه معدول من بالع، مثل زفر وقثم، وسعد مضاف إليه.
الخامس منه " سعد السعود " وهما كوكبان: أحدهما أنور من الآخر، سمي بذلك لأن وقت طلوعه ابتداء كمال الزرع وما يعيش به الحيوان من النبات.
السادس منه " سعد الأخبية " وهما كوكبان عن شمال الخباء، والأخبية أربعة كواكب: واحد منها في وسطها يسمى الخباء؛ لأنها على صورة الخباء، وزعم ابن قتيبة أنه سمي بذلك لطلوعه وقت انتشار الحيات والهوام، وخروج ما كان مختبئاً.
السابع: فرع الدلو الأعلى، وهو المقدم، وبعضهم يسميه العرقوة العليا تشبيهاً بعرقوة الدلو، وهما كوكبان مفترقان نيران، وقيل له " دلو " لأنه تأتي فيه الأمطار العظيمة، ويقال: بل سميا بذلك لأنهما مثل صليب الدلو الذي يفرغ منه الماء.
الربع الثالث: الخريف، أول أنوائه " فرع الدلو الأسفل " وصورته كوكبان مضيئان بينهما بعد صالح يتتبعان العرقوة العليا.
ثم الحوت، وهو كوكب أزهر نير في وسط السمكة.
ثم الشرطان، وهما مفترقان مع الشمال، منهما كوكب دونه في القدر، وسميا شرطين لأن سقوطهما علامة ابتداء المطر واتصاله، وكل من جعل لنفسه علامة فقد شرطها، ومنه سمي الشرط؛ لأن لهم علامة عرفوا بها.
ثم البطين: وهو ثلاثة كواكب طمس خفيات، وهو بطن الحمل، إلا أنه قد صغر.
ثم الثريا، ثم الثريا، وهو النجم، وصورتها ستة كواكب متقاربة حتى كادت تتلاصق، وأكثر الناس يجعلها سبعة، وقد جاء الشعر بالقولين جميعاً، سميت بهذا لأن مطرها عنه تكون الثروة وكثرة العدد والغنى، وهي تصغير ثروي، ولم ينطق بها إلا مصغرة.
ثم الدبران، كوكب وقاد على أثر نجوم تسمى القلاص، وقيل له " دبران " لأنه دبر الثريا، أي: جاء خلفها، ويقال له أيضاً " الراعي " و " التالي " و " التابع " و " الحادي " على التشبيه.
ثم الهقعة، سميت بهذا تشبيها بالدائرة التي تكون عند عقب الفارس في جنب الفرس، وصورتها ثلاثة أنجم صغار متقاربة كآثار رءوس أصابع ثلاث في ثرى إذا جمعت الوسطى والسبابة والإبهام، وهي رأس الجوزاء.
الرابع: الشتاء، وهو آخر أرباع السنة، وأول أنوائه " الهنعة " سميت بذلك لأنها كوكبان مقترنان كل واحد منهما منعطف على صاحبه، من قولك: هنعه، إذا عطف بعضه على بعض، واقترانهما في المجرة بين الجوزاء والذراع المقبوضة.
ثم الذراعان، وهي ذراع الأسد المبسوطة والمقبوضة: كوكبان نيران بينهما كواكب صغار تسمى الأظفار.
ثم النثرة، وهي لطخة لطيفة بين كوكبين، وهي عندهم ما بين فم الأسد وأنفه، ومن الإنسان فرجة ما بين الشاربين حيال وترة الأنف، وقيل: إنما سميت نثرة لأنها كقطعة سحاب نثرت.
ثم الطرف، عينا الأسد، وهما كوكبان صغيران بينهما نحو قامة في مرأى العين.
ثم الجبهة، أربعة كواكب معوجة، في اليماني منها بريق، وهي جبهة الأسد عندهم.
ثم الزبرة، نجمان يرى أحدهما أكبر من الآخر، ويقال لهما " الخرتان " كأنهما نفذا إلى جوف الأسد، والعيان يبطل ذلك، كما قال الزجاجي.

ثم الصرفة، كوكب وقاد عنده كواكب طمس، سمى بذلك لانصراف البرد لسقوطه.
فهذه عدة المنازل وصفاتها، وإنما أضيفت إلى القمر دون الشمس، وحظهما فيه واحد؛ لظهورها معه، وتسمى نجوم الأخذ، كأن الأرض تأخذ عنها بركات المطر، وقيل: لأخذ الشمس والقمر سمتهما في سيرها.

باب في معرفة الأماكن والبلدان
قال أبو عبيدة: الحجاز هو ما بين الجحفة وجبل طيء، وإنما سمي حجازاً لأنه حجز ما بين نجد والغور، وحكى ابن قتيبة عن الرياشي عن الأصمعي: إذا خلفت حجراً مصعداً فقد أنجدت، فلا تزال منجداً حتى تنحدر من ثنايا ذات عرق، فإذا فعلت فقد أتهمت إلى البحر، فإذا عرضت لك الحرار وأنت منجد فتلك الحجاز، وإذا تصوبت من ثنايا العرج واستقبلك المرخ والأراك فقد أتهمت، وسمي حجازاً لأنه حجز ما بين نجد وتهامة، فأما محمد بن عبد الله الأسدي فقال: حد الحجاز الأول بطن نخلة وظهر جدة، والحد الثاني مما يلي الشام شغبى وبدا، والحد الثالث مما يلي تهامة بدر والسقيا ورهاط وعكاظ، والحد الرابع ساية وودان، ثم تنحدر إلى الحد الأول بطن نخل.
وأما بطن الجزيرة فإنها ما بين دجلة والفرات والموصل، والسودان: سواد البصرة والأهواز ودست ميسان وفارس، وسواد الكوفة كسكر إلى الزاب وحلوان إلى القادسية.
وجزيرة العرب قال أبو عبيدة: هي في الطول ما بين حفير أبي موسى إلى أقصى اليمين، وفي العرض مل بين يبرين إلى السماوة.
وقال الأصمعي: هي ما بين نجران والعذيب، حكاه ابن قتيبة عن الرياشي، قال: وحكى عنه أبو عبيدة أنها في الطول من أقصى عدن إلى ريف العراق، وفي العرض من جدة وما والاها من طراز البحر إلى طراز الشام.
وقيل: سمي العراق تشبيهاً بعراق المزادة، وهو موضع الخرز المستطيل في أسفلها، وقال بعضهم: هو جمع عرق؛ لاشتباك عروق النخل والشجر في تلك الأرض، وقيل: إن اسمه بالفارسية إيران شهر أي: أسفل الأرض، فعربت.
وأما الشام واليمن فمن اليد اليمنى واليد الشؤمى، وهي الشمال؛ لأن الذي يستقبل الشمس تكون اليمن عن يمينه والشام عن شماله، ويقال شأم بالهمز والتخفيف، ومنهم من جعل الشام جمع شامة، وهي النكتة تكون في الجسم سوداء أو نحو ذلك، وكذلك في الأرض.
قال ذو الرمة:
وإن لم تكوني غير شام بقفرة ... تجر بها الأذيال صيفية كدر
باب من الزجر والعيافة
وعنهما يكون الفأل والطيرة، وبين الطيرة والفأل فرقان عند أهل النظر والمعرفة والحقائق؛ وذلك أن الفأل تقوية للعزيمة، وتحضيض على البغية، وإطماع في النية؛ والطيرة تكسر النية، وتصد عن الوجهة، وتثنى العزيمة، وفي ذلك ما يعطل الإحالة على المقادير.
وقد تفاءل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عن الطيرة في قوله: " لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر " وقد تقدم ذكرها، وقيل في الهامة: إنها هده المعرفة.
والطيرة من أحد شيئين: مشتقة إما من الطيران، كأن الذي يرى ما يكره أو يسمع يطير، كما قال بعضهم:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
وإما من الطير، وهو الأصل والمختار من الوجهين، هكذا ذكر الزجاجي.
وكانت العرب تزجر الطير والوحش؛ فمن قال بالقول الأول احتج بأن الوحش يطير بها، وزجرت مع الطير، ومن قال بالقول الثاني قال: إنما الأصل في الطير، ثم صار في الوحش، وقد يجوز أن يغلب أحد الشيئين على الآخر فيذكر دونه ويرادان جميعاً.
أنشد الجاحظ:
ما يعيف اليوم في الطير دوح ... من غراب البين أو تيسٍ برح
قال: فجعل التيس من الطير؛ إذ قدم ذكر الطير وجعله من الطير في معنى التطير، والعرب تتطير بأشياء كثيرة: منها العطاس، وسبب تطيرهم منه دابة يقال له العاطوس يكرهونها، والغراب أعظم ما يتطيرون به، والقول فيه أكثر من أن يطلب عليه شاهد، ويسمونه حاتماً؛ لأنه يحتم عندهم بالفراق، ويسمونه الأعور على جهة التطير بذلك؛ إذ كان أصح الطير بصراً، ويقال: سمي أعور لقولهم: " عورات الرجل عن حاجته " إذا رددته عنها، وقد اعتذر أبو الشيص للغراب وتطير بالإبل وإن كان غيره سبقه إلى المعنى فقال:
الناس يلحون غرا ... ب البين لما جهلوا
وما على ظهر غرا ... ب البين تطوى الرحل

ولا إذا صاح غرا ... ب في الديار احتملوا
ما فرق الأحباب بع ... د الله إلا الإبل
وما غراب البين إ ... لا ناقة أو جمل
هكذا رويته، وبعضهم يجعل الشعر ما قرب الأحباب وبعده والناس يلحون.. بواو مكان الهمزة يعطف بها.
وقال آخر فملح وظرف:
زعموا بأن مطيهم عون النوى ... والمؤذنات بفرقة الأحباب
لو أنها حتفي لما أبغضتها ... ولهابهم سبب من الأسباب
ويتطيرون بالصرد، ومن أسمائه الأخيل، والأخطب، ويقال: الأخيل الشقراق، ويقال: بل طائر يشبهه، والولق أيضاً الصرد، قال زبان بن منظور الفزاري في حديث له كان مع نابغة بني ذبيان وقد تطير من جرادة سقطت عليه فرجع من الغزو ومضى زبان فظفر وغنم:
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير، وهي الثبور
بل شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا، وباطله كثير
يقولها في أبيات لا أقف على جملتها.
وقال شاعر قديم لزبان أيضاً:
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم
لا، والتشاؤم بالعطا ... س ولا التيامن بالمقاسم
ولقد عدوت وكنت لا ... أعدو على واق وحاتم
وإذا الأشائم كالأيا ... من، والأيامن كالأشائم
قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم
ويتشاءمون بالثور الأعضب، وهو المكسور القرن.
وقال الكميت ينفي الطير ويدفعها عن نفسه:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر صحيح القرن أم مر أعضب
والبيت الأول من هذين يشبه بيت الأعشى الذي أنشده الجاحظ.
ومن أمثال العرب " فلان كبارح الأروى " وفيه قولان: أحدهما أن الأروى يتشاءم بها، فإذا كانت بارحاً فقد عظم الأمر، والآخر أنها إنما تكون في قرون الجبال، ولا تكاد تكون سانحة ولا بارحة.
وفي السانح والبارح اختلاف: قال عمرو بن العلاء: سأل يونس رؤبة عن السانح والبارح، فقال: السانح ما ولاك ميامنه، والبارح ما ولاك مياسره، قال ابن دريد: السانح يتيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح، ويخالفهم أهل العالية فيتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح.
قال الشاعر الهذلي يذكر امرأته:
زجرت لها طير السنيح فإن يكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
قال: والسانح: الذي يلقاك وميامنه عن ميامنك، والبارح الذي يلقاك وشمائله عن شمائلك، والجابه والناطح: اللذان يستقبلانك، والقعيد: الذي يأتيك من ورائك.
قال صاحب الكتاب: الكارس الذي ينزل عليك من الجبل، حكاه الثعالبي، قال أبو جعفر النحاس: السنيح عند أهل الحجاز: ما أتى عن اليمين إلى اليسار، والبارح عندهم: ما أتى من اليسار إلى اليمين، وهم يتشاءمون بالسانح، ويتيمنون بالبارح، وأهل نجد بالضد من ذلك، والسانح عندهم هو البارح عند أهل الحجاز.
وقال المبرد: السانح: ما أراك مياسره فأمكن الصائد، والبارح: ما أراك ميامنه فلم يمكن الصائد إلا أن ينحرف له.
وقد يتطيرون من البازي والغراب وأشياء كثيرة من جهة التسمية، ويتيمن بها آخرون.
ومن مليح ما رأيت في الزجر والعيافة، قال الصولي: كان لأبي نواس إخوان لا يفارقهم، فاجتمعوا يوماً في موضع أخفوه عنه، ووجهوا إليه برسول معه ظهر قرطاس لم يكتبوا فيه شيئاً، وحزموه بزير وختموه بقار، وتقدموا إلى رسولهم أن يرمى بالكتاب من وراء الباب، فرمى به، فلما رآه استعلم خبرهم فعلم أنه من فعلهم وتعرف موضعهم وأتاهم فأنشدهم:
زجرت كتابكم لما أتاني ... كزجر سولنح الطير الجواري
نظرت إليه مخزوماً بزير ... على ظهر، ومختوماً بقار
فقلت: الزير ملهية ومله ... وقلت: القار من دن العقار
وقلت: الظهر أهيف ذو جمال ... تركب صدغه فوق العذار
فجئت إليكم طرباً وشوقاً ... فما أخطأت دراكم بداري
فكيف ترونني وترون زجري ... ألست من الفلاسفة الكبار؟!

باب ذكر المعاظلة والتثبيج

العظال في القوافي: التضمين، حكاه الخليل بن أحمد، وزعم قدامة أن المعاظلة سوء الاستعارة، وهو عندهم مشتق من التداخل والتراكب، ومنه تعاظلت الجراد والكلاب وأنشد قدامة بيت أوس بن حجر:
وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبا جدعا
لأنه قد أساء الاستعارة عنده؛ لجعله الطفل تولبا، وهو ولد الحمار.
وأما التثبيج فهو طول الكلام واضطرابه، ولا يقال " كلام مثبج حتى يكون هكذا، ويقال: رجل مثبج الخلق، إذا كان طويلاً في اضطراب، والتثبيج عند الصولي في الخط ألا يكون بيناً، وكذلك هو الكلام.
وزعم قوم أن المعاظلة تداخل الحروف وتراكبها، كما عيب على كعب بن زهير قوله:
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
وعاب ابن العميد حبيباً لقوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي، ومتى ما لمته لمته وحدي
بالتكرير في أمدحه أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء في كلمة، وهما معاً من حروف الحلق، وقال: هو خارج عن حد الاعتدال، نافر كل النفار، حكى ذلك عنه الصاحب بن عباد.
وزعم آخرون أنها تركيب الشيء في غير موضعه، كقول الكميت بن زيد:
وقد رأينا بها حوراً منعمة ... بيضاً تكمل فيها الدل والشنب
وهذا البيت مما عابه عليه نصيب.
ومثله عندي قول أبي الطيب:
يحل المسك عن غدائرها الري ... ح ويفتر عن شنيب برود

باب الوحشي المتكلف والركيك المستضعف
الوحشي من الكلام: ما نفر عنه السمع، والمتكلف: ما بعد عن الطبع، والركيك: ما ضعفت بنيته، وقلت فائدته، واشتقاقه من الركة، وهي المطر الضعيف، وقيل: من الرك، وهو الماء القليل على وجه الأرض.
وأنشد النحاس
تهادى كعوم الرك يقطعه الحيا ... بأبطح سهل حين تمشي تأودا
وفلان ركيك أي: ضعيف العقل، ويقال للوحشي أيضاً: حوشي، كأنه منسوب إلى الحوش، وهي بقايا إبل وبار بأرض قد غلبت عليها الجن فعمرتها ونفت عنها الإنس، لا يطؤها إنسي إلا خبلوه.
قال رؤبة: جرت رجالاً من بلاد الحوش وإذا كانت اللفظة خشنة مستغربة: لا يعلمها إلا العالم المبرز، والأعرابي القح؛ فتلك وحشية، وكذلك إن وقعت غير موقعها، وأتى بها مع ما ينافرها، ولا يلائم شكلها.
وكان أبو تمام يأتي بالوحشي الخشن كثيراً ويتكلف.
وكذلك أبو الطيب كان يأتي بالمستغرب ليدل على معرفته، نحو قوله: كل آخائه كرام بني الدنيا ولكنه كريم كرام وهذا مع غرابته وتكلفه غير محمول على ضرورة يكون فيها عذر؛ لأن قوله كل إخوانه يقوم مقامه بلا بغاضة.
ومن التكلف قول إبراهيم بن سيار للفضل بن الربيع، ويروى أيضاً لإبراهيم بن شبابة:
هبني ظلمت وما ظلمت بل ظلم ... ت أقر كي يزداد طولك طولا
إن كان جرمي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بجرمي عفوك المأمولا
فتبارك الله كأنهما لم يخرجا من ينبوع واحد.
قال إبراهيم بن المهدي لعبد الله بن صاعد كاتبه: إياك وتتبع الوحشي من الكلام طمعاً في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر، عليك بما سهل مع تجنبك ألفاظ السفل.
وقال أبو تمام يمدح الحسن بن وهب بالبلاغة:
لم يتبع شنع اللغات، ولا مشى ... رسف المقيد في طريق المنطق
ينشق في ظلم المعاني إن دجت ... منه تباشير الكلام المفلق
وقال علي بن بسام:
ولا خير في اللفظ الكريه استماعه ... ولا في قبيح اللحن والقصد أزين
قال علي بن عيسى الرماني: أسباب الإشكال ثلاثة: التغيير عن الأغلب كالتقديم والتأخير وما أشبهه، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك، وكل ذلك اجتمع في بيت الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
فالتغيير على الأغلب سوء الترتيب؛ لأن التقدير " وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمه أبوه " يريد بالمملك هشام بن عبد الملك، والممدوح هو إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك؛ وأما سلوك الطريق الأبعد فقوله " أبو أمه أبوه " وكان يجزئه أن يقول " خاله " وأما المشترك فقوله " حي يقاربه " لأنها لفظة " حي " تشترك فيها القبيلة والحي من سائر الحيوان المتصف بالحياة، قال:

وإذا تفقدت أبيات المعاني لا تخرج عن هذه الأسباب الثلاثة.
وحكى الصولي قال: أنشدني بعض الكتاب عن أحمد بن يحيى ثعلب قول البحتري للحسين بن وهب:
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبه
فاللفظ يقرب فهمه من بعده ... منا، ويبعد نيله في قربه
حكم سحائبها خلال بنانه ... هطالة، وقليبها في قلبه
كالروض مؤتلفاً بحمرة نوره ... وبياض زهرته وخضرة عشبه
وكأنها والسمع معقود بها ... وجه الحبيب بدا لعين محبه
واستعادها أبو العباس حتى فهمها، ثم قال: لو سمع الأوائل هذا الشعر لما فضلوا عليه شعراً.

باب الإحالة والتغيير
وهذه لمح أتيت بها تدل من عرفها على رداءتها، وتدعو إلى كراهتها واجتنابها، وقد وقعت في أشعار الجلة من المتقدمين، والتمس لهم فيها العذر لأنهم أرباب اللغة وأصحاب اللسان، وليس المولد الحضري منهم في شيء فمن الإحالة قول ابن مقبل:
أما الأداة ففينا ضمر صنع ... جود حواجز بالألباد واللجم
ونسج داود من بيض مضاعفة ... من عهد عاد، وبعد الحي من إرم
فكيف يكون نسج داود من عهد عاد؟ اللهم إلا أن يريد فينا ضمر صنع من عهد عاد؛ فذلك له على سبيل المبالغة، مع أن الإحالة لم تفارقه، وكم بين قيس عيلان وبين عاد، فضلاً عن بني العجلان؟! وقال عبد الرحمن بن حسان:
وإن مال الضجيع بها فدعص ... من الكثبان ملتبد مهيل
قالوا: وكيف يكون ملتبداً مهيلاً؟ هذا مستحيل متناقض، والذي عندي فيه أنه صواب؛ لأنه إنما أراد بالتباده صلابة ملمس العجيزة، وأنها غير مسترخية وجعله مهيلاً لارتعاده واضطرابه من العظم، كما قال ابن مقبل:
يمشين هيل النقا سالت جوانبه ... ينهال طوراً، وينهاه الثرى حينا
فقد جعله مرة ينهال، ومرة ينهاه الثرى والتثني الذي فيه..
وقال جميل في التغيير:
لا حسنها حسن، ولا كدلالها ... دل، ولا كوقارها توقير
فحذف كاف التشبيه فصار المعنى كأنه ليس حسنها حسناً، وقد يغيرون اللفظ كما قال النابغة: ونسج سليم كل قضاء ذائل وهذا أسهل من قول الآخر: من نسج داود أبي سلام وهذا كثير يخرج منه في هذا الموضع ما ذكرت.
98 - باب الرخص في الشعر وأذكر هنا ما يجوز للشاعر استعماله إذا اضطر إليه، على أنه لا خير في الضرورة، على أن بعضها أسهل من بعض، ومنها ما يسمع عن العرب ولا يعمل به؛ لأنهم أتوا به على جبلتهم، والمولد المحدث قد عرف أنه عيب، ودخوله في العيب يلزمه إياه.
فمن ذلك قصر الممدود على مذاهب أهل البصرة والكوفة جميعاً، وله على ما أجاز الكوفيون وصل ألف القطع، وهو قبيح.. قال حاتم طيء:
أبوه أبي، والأمهات أمهاتنا ... فأنعم فداك اليوم أهلي ومعشري
قال بعضهم: إنما الرواية والأم من أمهاتها وله تخفيف المشدد في القافية، وأما في حشو البيت فمكروه جداً، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وربما حذفوا النون الساكنة.. كما قال:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
وأن يحذف للألف واللام أو الإضافة ما يحذف للتنوين مثل قول خفاف:
كنواح ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثثين عصف الإثمد
وأن يحذف حرفاً من الكلمة كقول العجاج: قواطناً مكة من ورق الحمي وحرفين كقول علقمة بن عبدة: مفدم بسبا الكتان ملثوم يريد بسبائب الكتان، وأن يحذف من المكنى في الوصل ما يحذف منه في الوقف.. كقول الشاعر: سأجعل عينيه لنفسه مقنعاً وأقبح منه أن يحذف من المكنى المنفصل كقول الآخر:
فبيناه يشري رحله قال قائل: ... لمن جمل رخو الملاط نجيب؟
وأقبح من ذلك أن يحذف الألف من ضمير المؤنث.. أنشد قطرب:
أما تقول به شاة فيأكلها ... أو أن تبيعه في بعض الأراكيب
أراد " تبيعها " فحذف الألف، قال: ولا يجوز استعمال هذا للمحدث لشذوذه وقبحه، ويجوز له حذف الياء والواو من المضمر المذكر لكثرته واطراده، وللشاعر ان يحذف اسم " ليت " إذا كان مضمراً.. أنشد المفضل لعدي بن زيد:

فليت دفعت الهم عني ساعة ... فبتنا على ما خيلت ناعمي بال
يريد " ليتك " وله حذف الفاء من " افتعلته " من التقوى وما تصرف منها، أنشد المفضل لخداش بن زهير:
تقوه أيها الفتيان؛ إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا
وأنشد أبو زيد الأنصاري:
إن المنية بالفتيان ذاهبة ... وإن تقوها بأرماح وأدراع
وحذف الفاء من جواب الجزاء كما قال:
يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع
قال سيبويه: تقديره إنك إن يصرع أخوك فتصرع.
ومثله أيضاً:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان
يريد " فالله يشكرها " وهذا أبين من الأول، وحذف النون من تثنية " الذي " وجمعه.
قال الأخطل:
أبني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا
وأنشد سيبويه:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
أراد " الذين " وعلى هذا قال أبو الطيب:
ألست من القوم الذي من رماحهم ... نداهم، ومن قتلاهم مهجة البخل
ويجوز أن يكون جعل " الذي " للجماعة والواحد كما جعل " من " وقد حكى ذلك الزجاجي.
قال ابن قتيبة في قول الله عز وجل: " كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " : إن " الذي " ههنا يعني الذين، والله أعلم.
وحذف الياء من " الذي " فمنهم من يسكن الذال بعد الحذف، ومنهم من يدعها مكسورة على لفظها، أنشد البصريون والكوفيون جميعاً:
فظلت في شر من اللذ كيدا ... كمن تزبى زبية فاصطيدا
ويروى كالذ تزبي زبية فاصطيدا فجمع بين اللغتين. ونظير هذا حذف الياء من " التي " وإسكان التاء، وأنشدوا:
فقل للت تلومك: إن نفسي ... أراها لا تعوذ بالتميم
وحذف الياء والتاء من " اللواتي " أنشد الزجاجي:
جمعتها من أينق غزار ... من اللوا شرفن بالصرار
وحذف الموصول وترك الصلة. كما قال يزيد بن مفرغ:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
أراد " وهذا الذي تحملين " فحذف.
وحذف اسم " إن " ولكن " كما قال:
ولكن من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزل
فحذف الهاء من لكنه لأنه جازى بمن، ولو أعمل فيها لكن لم يجز أن يجازي بها.
ومثله قول الآخر:
إن من يدخل الكنيسة يوماً ... يلق فيها جآذراً وظباء
أراد إنه. ويبدلون من الحروف السالمة حروف المد و اللين، و أنشدوا:
لها أشارير من لحم تثمره ... من الثعالي ووخز من أرانيها
أراد " من الثعالب " " ومن أرانبها " ويلينون الهمزة، وذلك كثير جداً جائز في المنثور والفصيح، وله حذف ألف الاستفهام، كما قال الأخطل:
كذبتك عينيك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا
وهذا رديء في المنثور جداً.
ونقصان الجموع عن أوزانها لضرورة القافية كما قال رؤبة: حتى إذا بلت حلاقيم الحلق يريد " الحلوق " وترك صرف ما ينصرف؛ لأنه يحذف منه التنوين وهو يستحقه، وهو غير جائز عند البصريين، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال عباس بن مرداس يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وعلى هذا المذهب قال أبو نواس:
عباس عباس إذا احتدم الوغا ... والفضل فضل والربيع ربيع
ويروى إذا حضر الوغا والفراء يرى ترك الصرف لعلة واحدة، وهي التعريف، والبصريون يخالفونه في ذلك ويأبونه.
ومن أقبح الحذف حذف حركة الإعراب للضرورة، وأنشدوا لامرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
ومثله للفرزدق:
رحت وفي رجليك ما فيهما ... وقد بداهمك من المئزر
وزعم قوم أن الرواية الصحيحة في قول امرئ القيس اليوم أسقى وبذلك كان المبرد يقول، وقال الآخرون: بل خاطب نفسه كما يخاطب غيره، فقال: فاليوم فاشرب، وفي بيت الفرزدق وقد بدا ذاك من المئزر كناية عن الهن، وهذا مما يسمع ويحكى، ولا يقاس عليه البتة.
هذا صدر جيد مما علمته يجوز للشاعر من الحذف والنقصان.

والذي يجوز من الزيادات أنا ذاكر منه أيضاً ما وسعته قدرتي، إن شاء الله تعالى: فمن ذلك صرف ما لا ينصرف، وإجراء المعتل مجرى الصحيح؛ فيعرب في حال الرفع والخفض، تقول: هذا القاضي، ومررت بالقاضي، وزيد يقضي ويغزو، ولا يجوز في المنثور من الكلام، وعلى هذا قول قيس بن زهير:
ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد
كأنه يقول في الرفع يأتيك بضم الياء، فلما جزمها أسكنها.
ومنهم من يبدل من الياء همزة، وهو القليل، فيقول: القاضئ، والغازئ، وأنشد:
يا دار سلمى بدكاديك البرق ... سقياً وإن هيجت شوق المشتئق
همزة الياء، وليس أصلها الهمزة.
وله إظهار التضعيف كقوله: يشكو الوجى من أظلل وأظلل وإنما هو الأظل وهو باطن خف البعير.
وتثقيل المخفف في وصل الكلام على نية من يقف على التثقيل، وأنشدوا:
ببازل وجناء أو عيهل ... كأن مهواها على الكلكل
موقع كفي راهب يصلي
فثقل العيهل وهي السريعة، والكلكل في صلة الشعر، وهما مخففتان وله إدخال النون الخفيفة أو الثقيلة في الواجب، وإنما تدخل فيما ليس بواجب، نحو الأمر والنهي والاستفهام. قال القطامي:
وهم الرجال، وكل ذلك منهم ... يحزن في رحب وفي متضيق
وأنشدوا لآخر، وهو جذيمة الأبرش:
ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات
وله إدخال الفاء في جواب الواجب، والنصب بها على إضمار أن. قال طرفة:
لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
فنصب بالفاء على الجواب.
وقال آخر:
سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا
وقطع ألف الوصل لأنه زيادة حركة، والجزم بحرف وحرفين، وأكثر من ذلك، وقد مضى فيما تقدم من هذا الكتاب.
وزيادة حرف في المجموع نحو قول الشاعر:
تنفى يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف
فزاد ياء في الدراهم وياء في الصياريف إن لم تكن الرواية تختلف، على أن الدراهم لا يضطر فيها إلى زيادة الياء؛ إذ كان الوزن يقوم دونها، وإن قيل في بعض اللغات درهام.
وله على مذاهب الكوفيين خاصة مد القصور، وقد ألزم ابن ولادٍ البصريين مده على مذهب سيبويه في امتناع الحركة ويجوز التقديم والتأخير، كما قال العجير السلولي:
وما ذاك إن كان ابن عمي ولا أخي ... ولكن متى ما أملك الضر أنفع
بالرفع، أراد ولكن أنفع متى ما أملك الضر، ولا أدري ما الفرق بين هذا وبين إن يصرع أخوك تصرع حيث فرقوا بينهما غير أنا نسلم لهم كما سلم من هو أثقب منا حساً وأذكى خاطراً وقال عمرو بن قميثة:
لما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
وهذه أشياء من القرآن وقعت فيه بلاغة وإحكاماً لا تصرفاً وضرورة، وإذا وقع مثلها في الشعر لم ينسب إلى قائله عجز ولا تقصير، كما يظن من لا علم له ولا تفتيش عنده: من ذلك أن يذكر شيئين ثم يخبر عن أحدهما دون صاحبه اتساعاً، كما قال الله عز وجل: " وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها " . أو يجعل الفعل لأحدهما ويشرك الآخر معه، أو يذكر شيئاً فيقرن به ما يقار به ويناسبه ولم يذكره، كقوله تعالى في أول سورة الرحمن: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقد ذكر الإنسان قبل هذه الآية دون الجان، وذكر الجان بعدها.
وقال المثقب العبدي:
فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني
فقال أيهما قبل أن يذكر الشر؛ لأن كلامه يقتضي ذلك.
وأن يحذف جواب القسم وغيره، نحو قوله عز وجل: " ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم " وقوله: " والنازعات غرقاً " إلى قوله: " يوم ترجف الراجفة " فلم يأت بجواب؛ لدلالة الكلام عليه، وقال عز وجل: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم " أراد لعذبكم أو نحوه ومن هذا قول امرئ القيس:
ولو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
وقد تقدم ذكره.
ومن ذلك إضمار ما لم يذكر كقوله جل اسمه: " حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس، وقوله: " فأثرن نفعاً " ولم يجر للوادي ذكر

وقال حاتم طيئ:
أماوي، ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر؟
يعني النفس، وأنشد ابن قتيبة عن الفراء:
إذا نهى السفيه جرى إليه ... وخالف، والسفيه إلى خلاف
يعني جرى إلى السفه وحذف لا من الكلام وأنت تريدها، كقوله تعالى: " كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم " وزيادة لا في الكلام كقوله سبحانه " وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " فزاد لا لأنهم لا يؤمنون، هذا قول ابن قتيبة، وقال جل اسمه: " ما منعك أن لا تسجد " أي: ما منعك أن تسجد، قال: وإنما تزاد لا في الكلام لإباء أو جحد، وقال: " لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله " أي: ليعلم.
وقال أبو النجم: فما ألوم النجم أن لا تسهرا يريد أن تسهرا.
وحذف المنادى كقوله تعالى: " ألا يا اسجدوا لله " كأنه قال: " ألا يا هؤلاء اسجدوا لله " وقال ذو الرمة في مثل ذلك:
ألا يا سلمى يا دار مي على البلى ... ولا أزال منهلاً بجرعائك القطر
وأن يخاطب الواحد بخطاب الاثنين والجماعة، أو يخبر عنه، كقوله تعالى: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " وإنما كان رجلاً واحداً، وقوله " ألقيا في جهنم " وإنما يخاطب مالكاً خازن النار، وقيل: بل أراد ألق ألق، فثنى الفعل، وقوله: " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " فخاطب الاثنين بخطاب الواحد، وقوله: " فقد صغت قلوبكما وقوله: " وألقى الألواح " وهما لوحان فيما زعم المفسرون، حكاه ابن قتيبة؛ وأن يصف الجماعة بصفة الواحد كقوله: " إن كنتم جنباً " .
ومن غرائب هذا الباب أن يأتي المفعول بلفظ الفاعل، كقوله تعالى: " لا عاصم اليوم من أمر الله " أي: لا معصوم، وكذلك قوله: " من ماء دافق " أي: مدفوق، وقوله: " في عيشة راضية " أي: مرضي بها، وقوله: " وجعلنا آية النهار مبصرة " أي: مبصر فيها، وأن يأتي الفاعل بلفظ المفعول به كقوله تعالى: " إنه كان وعده مأتيا " أي آتياً.
وقد جاء الخصوص في معنى العموم في قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء " وجاء العموم بمعنى الخصوص في قوله: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً " ومن الحمل على المعنى قوله تعالى: " وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم " كأنه قيل: من زينه؟ فقيل: شركاؤهم.
والحمل على المعنى في الشعر كثير، ومن أنواعه التذكير والتأنيث، ولا يجوز أن تؤنث مذكراً على الحقيقة من الحيوان، ولا أن تذكر مؤنثاً.
قال ابن أبو ربيعة المخزومي:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فأنث الشخوص على المعنى. وكل جمع مكسر جائز تأنيثه وإن كان واحده مذكراً حقيقياً.
ومما أنث من المذكر حملا على اللفظ قول الشاعر، أنشده الكسائي:
أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة، ذاك الكمال
ومثل هذا في الشعر كثير وموجود.

باب السرقات وما شاكلها
وهذا باب متسع جداً، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعى السلامة منه، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل، وقد أتى الحاتمي في حلية المحاضرة بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف، والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق، وكلها قريب، وقد استعمل بعضها في مكان بعض، غير أني ذاكرها على ماخيلت فيما بعد.
وقال الجرجاني وهو أصح مذهباً، وأكثر تحقيقاً من كثير ممن نظر في هذا الشأن : ولست تعد من جهابذة الكلام، ولا من نقاد الشعر، حتى تميز بين أصنافه وأقسامه، وتحيط علماً برتبه ومنازله، فتفصل بين السرق والغصب وبين الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه والمبتذل الذي ليس واحد أحق به من الآخر، وبين المختص الذي حازه المبتدي فملكه واجتباه السابق فاقتطعه.
قال عبد الكريم: قالوا:

السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه، وأبعد في أخذه، على أن من الناس من بعد ذهنه إلا عن مثل بيت امرئ القيس وطرفة حين لم يختلفا إلا في القافية؛ فقال أحدهما وتحمل، وقال الآخر وتجلد ومنهم من يحتاج إلى دليل من اللفظ مع المعنى، ويكون الغامض عندهم بمنزلة الظاهر، وهم قليل.
والسرق أيضاً إنما هو في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة التي هي جارية في عاداتهم ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال إنه أخذه من غيره.
قال: واتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل، ولكن المختار له عندي أوسط الحالات.
وقال بعض الحذاق من المتأخرين: من أخذ معنى بلفظه كما هو كان سارقاً، فإن غير بعض اللفظ كان سالخا، فإن غير بعض المعنى ليخفيه أو قلبه عن وجهه كان ذلك دليل حذقه.
وأما ابن وكيع فقد قدم في صدر كتابه على أبي الطيب مقدمة لا يصح لأحد معها شعر إلا الصدر الأول إن سلم ذلك لهم، وسماه كتاب المنصف مثل ما سمي اللديغ سليما، وما أبعد الإنصاف منه.
والاصطراف: أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر فيصرفه إلى نفسه، فإن صرفه إليه على جهة المثل فهو اختلاب واستلحاق، وإن ادعاه جملة فهو انتحال، ولا يقال منتحل إلا لمن ادعى شعراً لغيره وهو يقول الشعر، وأما إن كان لا يقول الشعر فهو مدع غير منتحل، وإن كان الشعر لشاعر أخذ منه غلبة فتلك الإغارة والغصب، وبينهما فرق أذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، فإن أخذه هبة فتلك المرافدة، ويقال: الاسترفاد، فإن كانت السرقة فيما دون البيت فذلك هو الاهتدام، ويسمى أيضاً النسخ، فإن تساوى المعنيان دون اللفظ وخفي الأخذ فذلك النظر والملاحظة، وكذلك إن تضادا ودل أحدهما على الآخر، ومنهم من يجعل هذا الإلمام، فإن حول المعنى من نسيب إلى مديح فذلك الاختلاس، ويسمى أيضاً نقل المعنى، فإن أخذ بنية الكلام فقط فتلك الموازنة، فإن جعل مكان كل لفظة ضدها فذلك هو العكس، فان صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخر وكانا في عصر واحد فتلك المواردة، وإن ألف البيت من أبيات قد ركب بعضها من بعض فذلك هو الالتقاط والتلفيق، وبعضهم يسميه الاجتذاب والتركيب، ومن هذا الباب كشف المعنى والمحدود من الشعر، وسوء الاتباع، وتقصير الآخذ عن المأخوذ منه، وسأورد عليك مما رويته أو تأدى إلى فهمه لكل واحد من هذه الألقاب مثالا يعرفه العالم، ويقتدي به المتعلم، إن شاء الله تعالى.
أما الاصطراف فيقع من الشعر على نوعين: أحدهما: الاجتلاب، وهو الاستلحاق أيضاً كما قدمت، والآخر: الانتحال؛ فأما الاجتلاب فنحو قول النابغة الذبياني:
وصهباء لا تخفي القذى وهو دونها ... تصفق في راووقها حين تقطب
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
فاستلحق البيت الخير فقال:
وإجانة ريا السرور كأنها ... إذا غمست فيها الزجاجة كوكب
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
وربما اجتلب الشاعر البيتين على الشريطة التي قدمت؛ فلا يكون في ذلك باس، كما قال عمرو ذو الطوق:
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراه اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
فاستلحقهما عمرو بن كلثوم؛ فهما في قصيدته، وكان عمرو بن العلاء وغيره لا يرون ذلك عيباً، وقد يصنع المحدثون مثل هذا.
قال زياد الأعجم:
أشم إذا ما جئت للعرف طالباً ... حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
ويروى هذا لأخت يزيد بن الطثرية، فاستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره.
وأما قول جرير للفرزدق وكان يرميه بانتحال شعر أخيه الأخطل بن غالب:
ستعلم من يكون أبوه قيناً ... ومن كانت قصائده اجتلاباً
فإنما وضع الاجتلاب موضع السرق والانتحال لضرورة القافية، هكذا ذكر العلماء من هؤلاء المحدثين، وأما الجمحي فقال: من السرقات ما يأتي على سبيل المثل ليس اجتلاباً، مثل قول أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي:

تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعاد بعد أبوالا.
ثم قاله بعينه النابغة الجعدي لما أتى موضعه، فبنو عامر ترويه للجعدى، والرواة مجمعون أنه لأبي الصلط؛ فقد ذهب الجمحي في الإجتلاب مذهب جرير أنه انتحال ولم أر محدثاً غيره يقول هذا القول.
والانتحال عندهم قول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
فإن الرواة مجمعون على أن البيتين للمعلوط السعدي انتحلهما جرير، وانتحل أيضاً قول طفيل الغنوي:
ولما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
ولذلك قال الفرزدق:
إن تذكروا كرمي بلؤم أبيكم ... وأوابدي تتنحلوا الأشعارا
وكان يتقارضان الهجاء، ويعكس كل واحد منهما المعنى على صاحبه وليس ذلك عيباً في المناقضات، ولما قال الفرزدق في بني ربيع:
تمنت ربيع أن يجيء صغارها ... بخير، وقد أعيا ربيعاً كبارها
أخذه البعيث بعينه في بني كليب رهط جرير فقال الفرزدق:
إذا ما قلت قافية شروداً ... تنحلها ابن حمراء العجان
يعني البعيث؛ وكان ابن سرية.
وأما قول البحتري:
رمتني غواة الشعر من بين مفحم ... ومنتحل ما لم يقله ومدعى
فيشهد لك ما قدمت ذكره؛ لأنه قسمهم ثلاثة أقسام: مفحم قد عجز عن الكلام فصلا عن التحلي بالشعر غير أنه يتبع الشعراء؛ والآخر منتحل لأجود من شعره، والثالث مدع جملة لا يحسن شيئاً.
والإغارة: أن يصنع الشعر بيتاً ويخترع معنى مليحاً فيتناوله من هو أعظم منه ذكراً وأبعد صوتاً، فيروى له دون قائله، كما فعل الفرزدق بجميل وقد سمعه ينشد:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
فقال: متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره.
وقد زعم بعض الرواة أنه قد قال له: تجاف لي عنه، فتجافى جميل عنه، والأول أصح؛ فما كان هكذا فهو إغارة، وقوم يرون أن الإغارة أخذ اللفظ بأسره والمعنى بأسره، والسرق أخذ بعض اللفظ أو بعض المعنى، كان ذلك لمعاصر أو قديم.
وأما الغصب فمثل صنيعه بالشردل اليربوعي، وقد أنشد في محفل:
فما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميم غير حز الحلاقم
فقال الفرزدق: والله لتدعنه أو لتدعن عرضك، فقال: خذه لا بارك الله لك فيه.
وقال ذو الرمة بحضرته: لقد قلت أبياتاً، إن لها لعروضاً وإن لها لمراداً ومعنى بعيداً، قال: وما قلت؟ فقال: قلت:
أحين أعادت بي تميم نسائها ... وجردت تجريد اليماني من الغمد
ومدت بضبعي الرباب ومالك ... وعمرو وسالت من ورائي بنو سعد
ومن آل يربوع زهاء كأنه ... دجى الليل محمود النكاية والرفد
فقال له الفرزدق: إياك وإياها لا تعودن إليها، وأنا أحق بها منك، قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبداً إلا لك وسمعت بعض المشايخ يقول: الاصطراف في شعر الأموات كالإغارة على شعر الأحياء، إنما هو أن يرى الشاعر نفسه أولى بذلك الكلام من قائله.
وأما المرافدة فأن يعين الشاعر صاحبه بالأبيات يهبها له، كما قال جرير لذي الرمة: أنشدني ما قلت لهشام المرئي، فأنشده قصيدته:
نبت عيناك عن طلل بحزوى ... محته الريح وامتنح القطارا
فقال: ألا أعينك؟ قال: بلى بأبي وأمي، قال: قل له:
يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا
يعدون الرباب وآل سعد ... وعمراً ثم حنظلة الخيارا
ويهلك بينها المرئي لغواً ... كما ألغيت في الدية الحوارا
فلقيه الفرزدق، فلما بلغ هذه قال: جيد، أعده، فأعاده، فقال: كلا والله، لقد علكهن من هو أشد لحيين منك، هذا شعر ابن المراغة.
واسترفد هشام المرئي جريراً على ذي الرمة فقال في أبيات:
يماشي عدياً لؤمها ما تجنه ... من الناس ما ماشت عدياً ظلالها

فقل لعدي تستعن بنسائها ... علي فقد أعيا عدياً رجالها
أذا الرم، قد قلدت قومك رمة ... بطيئاً بأيدي العاقلين انحلالها
ويروي بأيدي المطلقين فقال ذو الرمة لما سمعها: يا ويلتنا، هذا والله شعر حنظلي، وغلب هشام على ذي الرمة بعد أن كان ذو الرمة مستعلياً عليه.
وقد استرفد نابغة بني ذبيان زهيراً فأمر ابنه كعباً فرفده.
والشاعر يستوهب البيت والبيتين والثلاثة وأكثر من ذلك، إذا كانت شبيهة بطريقته، ولا يعد ذلك عيباً؛ لأنه يقدر على عمل مثلها، ولا يجوز ذلك إلا للحاذق المبرز.
والاهتدام نحو قول النجاشي:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمت فيها يد الحدثان
فأخذ كثير القسم الأول واهتدم باقي البيت فجاء بالمعنى في غير اللفظ، فقال: ورجل رمى فيها الزمان فشلت وأما النظر والملاحظة فمثل قول مهلهل:
أنبضوا معجس القسي وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا
نظر إليه زهير بقوله:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
وأبو ذؤيب بقوله:
ضروب لهامات الرجال بسيفه ... إذا حن نبع بينهم وشريح
والإلمام: ضرب من النظر، وهو مثل قول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذة وقول أبي الطيب: أأحبه وأحب فيه ملامة البيت، وقد تقدم ذكرهما في التغاير.
وأما الاختلاس فهو قول أبي نواس:
ملك تصور في القلوب مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكان
اختلسه من قول كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وقول عبد الله بن مصعب:
كأنك كنت محتكماً عليهم ... تخير في الأبوة ما تشاء
ويروى كأنك جئت محتكماً عليهم اختلسه من قول أبي نواس:
خليت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائفه ... ثم زادت فضل ما تهب
أردت البيت الأول.
ومن هذا النوع قول امرئ القيس:
إذا ما ركبنا قال ولدان حينا ... تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب
نقله ابن مقبل إلى القدح فقال:
إذا امتحنته من معد عصابة ... عدارية قبل الإفاضة يقدح
نقله ابن المعتز إلى البازي فقال:
قد وثق القوم له بما طلب ... فهو إذا عرى لصيد واضطرب
عروا سكلكينهم من القرب
نقلته أنا إلى قوس البندق فقلت:
طير أبابيل جاءتنا فما برحت ... إلا وأقواسنا الطير الأبابيل
ترميهم بحصى طير مسمومة ... كأن معدنها للرمي سجيل
تعدو على ثقة منا بأطيبها ... فالنار تقدح والطنجير مغسول
والموازنة مثل قول كثير:
تقول مرضنا فما عدتنا ... وكيف يعود مريض مريضا
وازن في القسم الآخر قول نابغة بني تغلب:
بخلنا لبخلك قد تعلمين ... وكيف يعيب بخيلاً بخيلا
والعكس قول ابن أبي قيس، ويروى لأبي حفص البصري:
ذهب الزمان برهط حسان الأولى ... كانت مناقبهم حديث الغابر
وبقيت في خلف يحل ضيوفهم ... منهم بمنزلة اللئيم الغادر
سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر
وقد عاب ابن وكيع هذا النوع بقلة تمييز منه أو غفلة عظيمة.
وأما الموارد فقد ادعاها قوم في بيت امرئ القيس وطرفة، ولا أظن هذا مما يصح؛ لأن طرفة في زمان عمرو بن هند شاب حول العشرين، وكان امرؤ القيس في زمان المنذر الأكبر كهلاً واسمه وشعره أشهر من الشمس؛ فكيف يكون هذا مواردة؟ إلا أنهم ذكروا أن طرفة لم يثبت له البيت، حتى استحلف أنه لم يسمعه قط فحلف، وإذا صح هذا كان مواردة، وإن لم يكونا في عصر، وسئل أبو عمرو بن العلاء: أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ لم يلق واحد منهما صاحبه ولم يسمع شعره؟ قال: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها، وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال: الشعر جادة، وربما وقع الحافر على موضع الحافر.
وألما الالتقاط والتلفيق فمثل قول يزيد بن الطثرية:
إذا ما رآني مقبلاً غض طرفه ... كأن شعاع الشمس دوني مقابله
فأوله من قول جميل:

إذا ما رأوني طالعاً من ثنية ... يقولون: من هذا؟ وقد عرفوني
ووسطه من قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وعجزه من قول عنترة الطائي:
إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من حولي تدور
فأما كشف المعنى فنحو قول امرئ القيس:
نمشي بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
وقال عبدة بن الطبيب بعده:
ثمة قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل
فكشف المعنى وأبرزه.
وأما المجدود من الشعر فنحو قول عنترة العبسي: وكما علمت شمائلي وتكرمي رزق جداً واشتهاراً على قول امرئ القيس:
وشمائلي ما قد علمت، وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي
ومنه أخذ عنترة، والمخترع معروف له فضله، متروك له من درجته، غير أن المتبع إذا تناول معنى فأجاده بأن يختصره إن كان طويلاً، أو يبسطه إن كان كزاً، أو يبينه إن كان غامضاً، أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسافاً، أو رشيق الوزن إن كان جافياً فهو أولى به من مبتدعه، وكذلك إن قلبه أو صرفه عن وجه إلى وجه آخر، فأما إن ساوى المبتدع فله فضيلة حسن الاقتداء لا غيرها، فإن قصر كان ذلك دليلاً على سوء طبعه، وسقوط همته، وضعف قدرته.
فمما أجاد فيه المتبع على المبتدع قول الشماخ:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
فقال أبو النواس:
أقول لناقتي إذا بلغتني ... لقد أصبحت مني باليمين
فلم أجعلك للغربان نحلاً ... ولا قلت " اشرقي بدم الوتين "
وكرره فقال:
وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الحصى ... فلها علينا حرمة وذمام
ومما يتساوى فيه السارق والمسروق منه قول امرئ القيس فلو أنها نفس البيت، وقول عبدة بن الطبيب فما كان قيس البيت.
وسوء الاتباع أن يعمل الشاعر معنى ردياً ولفظاً ردياً مستهجناً ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته، نحو قول أبي تمام:
باشرت أسباب الغنى بمدائح ... ضربت بأبواب الملوك طبولا
فقال أبو الطيب:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
فسرق هذه اللفظة لئلا تفوته.
ومما قصر فيه الآخذ عن المأخوذ منه قول أبي دهبل الجمحي في معنى بيت الشماخ:
يا ناق سيري واشرقي ... بدم إذا جئت المغيره
سيثيبني أخرى سوا ... ك، وتلك لي منه يسيره
فأنت ترى أين بلغت همته؟؟ ومما يعد سرقاً وليس بسرق اشتراك اللفظ المتعارف كقول عنترة:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... عليها الأسد تهتصر اهتصارا
وقول عمرو بن معدي كرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
وقول الخنساء ترثي أخاها صخراً:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... فدارت بين كبشيها رحاها
ومثله:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... ترى فرسانها مثل الأسود
وأمثال هذا كثير.
وكانوا يقضون في السرقات أن الشاعرين إذا ركبا معنى كان أولاهما به أقدمهما موتاً، وأعلاهما سناً، فإن جمعهما عصر واحد كان ملحقاً بأولاهما بالإحسان، وإن كانا في مرتبة واحدة لهما جميعاً، وإنما هذا فيما سوى المختص الذي حازه قائله، واقتطعه صاحبه، ألا ترى أن الأعشى سبق إلى قوله:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
موروثة مجداً، وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فأخذ النابغة فقال:
شعب العلا فيات بين فروجهم ... والمحصنات عوازب الأطهار
وبيت النابغة خير من بيت الأعشى باختصاره، وبما فيه من المناسبة بذكر الشعب بين الفروج وذكره النساء بعد ذلك، وأخذه الناس من بعده، فلم يغلبه على معناه أحد، ولا شاركه فيه، بل جعل مقتدياً تابعاً، وإن كان مقدماً عليه في حياته، وسابقاً له بمماته.
وقال أوس بن حجر:
كأن هراً جنيباً عند غرضتها ... والتف ديك برجليها وخنزير
فلم يقربه أحد، وكذلك سائر المعاني المفردة والتشبيهات العقم تجري هذا المجرى.

وأجل السرقات نظم النثر وحل الشعر، وهذه لمحة منه. قال نادب الإسكندر " حركنا الملك بسكونه " فتناوله أبو العتاهية فقال:
قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا
وقال أرساطاطاليس يندبه: " قد كان هذا الشخص واعظاً بليغاً، وما وعظ بكلامه عظة قط أبلغ من موعظته بسكوته " وقال أبو العتاهية في ذلك:
وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حياً
وقال عيسى عليه السلام: تعملون السيئات وترجون أن تجازوا عليها بمثل ما يجازى به أهل الحسنات، أجل لا يجنى الشوك من العنب.
فقال ابن عبد القدوس:
إذا وترت امرأ فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنباً
وأخذ الكتاب قولهم " قدمت قبلك " من قول الأقرع بن حابس، ويروى لحاتم:
إذا ما أتى يوم يفرق بيننا ... بموت فكن أنت الذي تتاخر
وقولهم " وأتم نعمته عليك " من قول عدي بن الرقاع العاملي:
صلى الإله على امرئ ودعته ... وأتم نعمته عليه وزادها
فما جرى هذا المجرى لم يكن على سارقه جناح عند الحذاق، وفي أقل ما جئت به منه كفاية.

باب الوصف
الشعر إلا أقله راجع إلى باب الوصف، ولا سبيل إلى حصره واستقصائه، وهو مناسب للتشبيه، مشتمل عليه، وليس به؛ لأنه كثيراً ما يأتي في أضعافه، والفرق بين الوصف والتشبيه أن هذا إخبار عن حقيقة الشيء، وأن ذلك مجاز وتمثيل.
وأحسن الوصف ما نعت به الشيء حتى يكاد يمثله عياناً للسامع، كما قال النابغة الجعدي يصف ذئباً افترس جؤذراً:
فبات يذكيه بغير حديدة ... أخو قنص يمسي ويصبح مفطراً
إذا ما رأى منه كراعا تحركت ... أصاب مكان القلب منه وفرفرا
فأنت ترى كيف قام هذا الوصف بنفسه، ومثل الموصوف في قلب سامعه. قال قدامة: الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات، ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم وصفا من أتى في شعره أكثر المعاني التي الموصوف بها مركب فيها، ثم بأظهرها فيه، وأولاها به، حتى يحكيه ويمثله للحس بنعته.
وقال بعض المتأخرين: أبلغ الوصف ما قلب السمع بصراً. واصل الوصف الكشف والإظهار، يقال: قد وصف الثوب الجسم، إذا نم عليه ولم يستره، ومنه قول ابن الرومي:
إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردت شهادتها الأزر
إلا أن من الشعراء والبلغاء من إذا وصف شيئاً بلغ في وصفه، وطلب الغاية القصوى التي لا يعدوها شيء: إن مدحا فمدحا، وإن ذما فذما.
والناس يتفاضلون في الأوصاف، كما يتفاضلون في سائر الأصناف: فمنهم من يجيد وصف شيء ولا يجيد وصف آخر، ومنهم من يجيد الأوصاف كلها وإن غلبت عليه الإجادة في بعضها: كامرئ القيس قديماً، وأبي نواس في عصره، والبحتري وابن الرومي في وقتهما، وابن المعتز، وكشاجم؛ فإن هؤلاء كانوا متصرفين مجيدين الأوصاف، وليس بالمحدث من الحاجة إلى أوصاف الإبل ونعوتها، والقفار ومياهها، وحمر الوحش، والبقر، والظلمان، والوعول؛ ما بالأعراب وأهل البادية؛ لرغبة الناس في الوقت عن تلك الصفات، وعلمهم أن الشاعر إنما يتكلفها تكلفا ليجري على سنن الشعراء قديما، وقد صنع ابن المعتز وأبو النواس قبله ومن شاكلهما في تلك الطرائق ما هو مشهور في أشعارهم: كرائية الحسن في الخصيب، وجيمية ابن المعتز المردفة في الضرب الثاني من الكامل.
والأولى بنا في هذا الوقت صفات الخمر والقيان وما شاكلهما، وما كان مناسباً لهما كالكؤوس والقناني والأباريق، وتفاح التحيات، وباقات الزهر إلى ما لا بد منه من صفات الخدود، والقدود، والنهود، والوجوه، والشعور، والريق، والثغور، والرداف، والخصور، ثم صفات الرياض والبرك والقصور، وما شاكل المولدين؛ فإن ارتفعت البضاعة فصفات الجيوش وما يتصل بها من ذكر الخيل، والسيوف، والرماح، والدروع، والقسي، والنبل، إلى نحو ذلك من ذكر الطبول، والبنود، والمنحرفات، والمنجنيقات، وليس يتسع بنا هذا الموضع لاستقصاء ما في النفس من هذه الأوصاف؛ فحينئذ أدل على مظانها دلالة مجملة، وأذكر مما قل شكله وعز نظيره شواهد وأمثلة يعرف بها المتعلم كيف العمل فيها ومن حيث المسلك إليها، إن شاء الله تعالى.

أما نعات الخيل فامرؤ القيس، وأبو دؤاد، وطفيل الغنوي، والنابغة الجعدي، وأما نعات الإبل فطرفة في معلقته من أفضلهم، وأوس بن حجر، وكعب بن زهير، والشماخ، وأكثر القدماء يجيد وصفها؛ لأنها مراكبهم، ألا ترى رؤبة لما غلط في وصف الفرس كيف قال: أدنني من ذنب البعير، وكان عبيد بن حصين الراعي النميري أوصف الناس للابل، ولذلك سمي راعياً، وأما الحمر الوحشية والقسي فأوصف الناس لها الشماخ، شهد له بذلك الحطيئة والفرزدق، وهذان يجيدان صفات الخيل والقسي أيضاً والنبل، وأما الخمر فمن أوصاف الأعشى والأخطل وأبي نواس وابن المعتز، ولأبي نواس أيضاً وابن المعتز الصيد والطرد، فما شئت من هذه الأوصاف فالتمسها حيث ذكرت، ومن الأوصاف القليلة المثل قول رؤبة يصف الفيل:
أجرد الخصر طويل النابين ... مشرب اللحى صغير الفقمين
عليه أذنان كفضل الثوبين
وقال آخر يصفه، أنشده عبد الكريم:
من يركب الفيل فهذا الفيل ... إن الذي يحمله محمول
على تهاويل لها تهويل ... كالطود إلا أنه يجول
وأذن كأنها منديل
هكذا أنشده، وبين البيتين الأخيرين أبيات كثيرة أسقطتها، وقد أنشدها غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي.
وقال عبد الكريم فجمع ما فرقاه وزاد عليهما:
وأضخم هندي النجار تعده ... ملوك بني ساسان إن رابها أمر
من الورق لا من ضربه الورق ترتعي ... أضاخ ولا من ضربه الخمس والعشر
يجئ كطود جائل فوق أربع ... مضبرة لمت كما لمت الصخر
له فخذان كالكثيبين لبدا ... وصدر كما أوغى من الهضبة الصدر
ووجه به أنف كراووق خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر
وأذن كنصف البرد يسمعه الندا ... خفياً وطرف ينقض الغيب مزور
ونابان شقا لا يريك سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما نثر
له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو غلس الصقر
وصنعت أنا في زرافة أتت في الهدية من مصر إلى مولانا خلد الله ملكه من قصيدة طويلة:
أتتك من كسب الملوك زرافة ... شتى الصفات لكونها أثناء
جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... في خلقها وتنافت الأعضاء
تحتثها بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء
وتمد جيداً في الهواء يزينها ... فكأنه تحت اللواء لواء
حطت مآخرها وأشرف صدرها ... حتى كأن وقوفها إقعاء
وكأن فهر الطيب ما رجمت به ... وجه الثرى لو لمت الأجزاء
وتخيرت دون الملابس حلة ... عيت لصنعة مثلها صنعاء
لوناً كلون الزبل إلا أنه ... حلي وجزع بعضه الجلاء
أو كالسحاب المكفهرة خيطت ... فيه البروق، وميضها إيماء
أو مثل ما صدئت صفائح جوشن ... وجرى على حافاتهن جلاء
نعم التجافيف التي ادرعت به ... من جلدها لو كان فيه وقاء
وصنعت أيضاً:
ومجنونة أبداً لم تكن ... مذللة الظهر للراكب
قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السنام بلا غارب
ملمعة مثل ما لمعت ... بجناء وشي يد الكاعب
كأن الجواري كنفنها ... لخالخ من كل جانب؟
وقال كشاجم يصف اصطرلاباً:
ومستدير كجرم البدر مسطوح ... عن كل رابعة الأشكال مصفوح
صلب يدار على قطب يلينه ... تمثال طرف بشكم الحذق مشبوح
مثل البنان وقد أوفت صفائحه ... على الأقاليم في أقطارها الفيح
كأنما السبعة الأفلاك محدقة ... بالماء والنار والأرضين والريح
تنبيك عن طالع الأبراج هيئته ... بالشمس طوراً وطوراً بالمصابيح
وإن مضت ساعة أو بعض ثانية ... عرفت ذاك بعلم منه مشروح
وإن تعرض في وقت يقدره ... لك التشكك جلاه بتصحيح

مميز في قياسات النجوم لنا ... بين المشائيم منها والمناجيح
له على الظهر عيناً حكمة بهما ... يحوي الضياء ويجنيه من اللوح
وفي الدوائر من أشكاله حكم ... تلقح الفهم منا أي تلقيح
لا يستقل لما فيها بمعرفة ... إلا الحصيف اللطيف الحس والروح
حتى ترى الغيب عنه وهو منغلق ال ... أبواب عمن سواه جد مفتوح
نتيجة الدهر والتفكير صوره ... ذوو العقول الصحيحات المراجيح
وقال أيضاً يصف تحت حساب الهندسة:
وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب
يكثر فيه المحو الإضطراب ... من غير أن يسود الكتاب
حتى يبين الحق والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب
فيه ولا شك ولا ارتياب
وقال يستهدي بركارا:
جد لي ببركارك الذي صنعت ... فيه يدا قينة أعاجيبا
ملأم الشفرتين معتدل ... ماشين من جانب ولا عيبا
شخصان في شكل واحد قدرا ... وركبا في العقول تركيبا
وأشبه شيئين في اشتباههما ... بصاحب لا يمل مصحوبا
أوثق مسماره وغيب عن ... نواظر الناقدين تغييبا
فعين من يجتليه تحسبه ... في قالب الاعتدال مصبوبا
وضم شطريه محكم لهما ... ضم محب إليه محبوبا
يزداد حرصاً عليه مبصره ... ما زاده بالبنان تقليبا
فقوله كلما تأمله ... طوبى لمن كان ذاله طوبى
ذو مقلة بصرته مذهبة ... لم تأله زينة وتذهيبا
ينظر منه إلى الصواب به ... فلا يزال الصواب مطلوبا
لولاه ما صح شكل دائرة ... ولا وجدنا الحساب محسوبا
الحق فيه فإن عدلت إلى ... سواه كان الحساب تقريبا
لو عين إقليدس به بصرت ... خر له بالسجود مكبوبا
فابعثه واجنبه لي بمسطرة ... تلق الهوى بالثناء محبوبا
لا زلت تجدي وتجتدي حكماً ... مستوهباً للصديق موهوبا
وقال في صفة البنكام:
روح من الماء في جسم من الصفر ... مؤتلف بلطيف الحس والنظر
مستعبر لم يغب عن إلفه سكن ... ولم يبت قط من طعن على حذر
له على الظهر أجفان محجرة ... ومقلة دمعها يجري على قدر
تنشأ له حركات في أسافله ... كأنها حركات الماء في الشجر
وفي أعاليه حسبان يفصله ... للناظرين بلا ذهن ولا فكر
إذا بكى دار في أحشائه فلك ... خافي المسير وإن لم يبك لم يدر
مترجم عن مواقيت تخبرنا ... عنها فيوجد فيها صادق الخبر
تقضى به الخمس في وقت الوجوب، وإن ... غطى على الشمس ستر الغيم والمطر
وإن سهرت لأسباب تؤرقني ... عرفت مقدار ما ألقى من السهر
محرر كل ميقات تخيره ... ذوو التخير للأسفار والحضر
ومخرج لك بالإجراء ألطفها ... من النهار وقوس الليل والسحر
نتيجة العلم والأفكار صوره ... يا حبذا بدع الأفكار في الصور
وقال يصف زرمانج آبنوس:
نعم المعين على الآداب والحكم ... صحائف حلك الألوان كالظلم
لا تستمد مدادها غير صبغتها ... فسر ذي اللب منها غير مكتتم
خفت وجفت فلم تدنس لحاملها ... ثوباً ولم يخش منها نبوة القلم
وأمكن المحو فيها الكف فاتسعت ... لما تضمن من نثر ومنتظم
حليتها بلجين وانتخبت لها ... وقاية من ذكي العود لا الأدم
فالكم يعبق منها حين تودعه ... عرفاً تنسم منها أطيب النسم
لو كن ألواح موسى حين يغضبه ... هارون لم يلقها خوفاً من الندم
وله من قصيدة ذكر فيها طاووساً مات له:

رزئته روضةً يروق، ولم ... نسمع بروض يمشي على قدم
جثل الذنابى كأن سندسة ... زرت عليه موشية العلم
متوجاً خلقة حباه بها ... ذو الفطر المعجزات والحكم
كأنه يزدجرد منتصباً ... يبني فيعلى مآثر العجم
يطبق أجفانه ويحسر عن ... فصين يستصبحان في الظلم
أدل بالحسن فاستذال له ... ذيلاً من الكبر غير محتشم
ثم مشى مشية العروس؛ فمن ... مستظرف معجب ومبتسم
فهذا طرف مما شرطته كاف، يرى به المتعلم نهج هذه الطريقة، إن شاء الله تعالى.

باب الشطور وبقية الزحاف
القول في الشطور على أحد وجهين: إما أن يراد بالشطر نصف البيت، وإما أن يراد به القصد، وذلك أنهم إذا ذكروا الشطور فربما أنشدوا أبياتاً كاملة، وليست أقسمة؛ فيكون هذا من قوله تعالى: " فول وجهك شطر المسجد الحرام " وكذلك القسيم أيضاً: يجوز أن يكون نصف البيت، ويجوز أن يكون بمعنى الحظ من الوزن؛ لأن الحظ يقال له قسيم وقسم.
قال جرير:
أتاركة أكل الخزيز مجاشع ... وقد خس إلا في الخزيز قسيمها
يريد حظها. وقالت ابنة المنذر بن ماء السماء:
بعين أباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم
وهذا حين أبدأ بذكر الشطور على مذهب الجوهري لقلة حشوه.
الطويل: مثمن قديم، مسدس محدث، أجزاؤه " فعولن مفاعيلن " ثماني مرات وزحافه: القبض، الثلم، والثرم، الكف، الحذف. ومسدسه أن يحذف منه مفاعيلن الآخرة من كل قسم.
المديد: مثمن محدث، مسدس قديم، مربع قديم،، أجزاؤه " فاعلاتن فاعلن " ثماني مرات وعلى ذلم أتى محدثه، وبيت مربعه السالم:
بؤس للحرب التي ... غادرت قومي سدى
قال: وهذا شعر قديم، إلا أن الخليل لم يذكره. زحافه: الخبن، الكف، الشكل، القصر، الحذف، الصلم.
البسيط: مثمن قديم، مسدس قديم، مربع محدث، أجزاؤه " مستفعلن فاعلن " ثماني مرات ومسدسه " مستفعلن فاعلن مستفعلن " مكررة، قال: وله مسدس آخر يسميه الخليل السريع، وقد نقص منه " فاعلن " الأولى والثالثة وبيته المربع المحدث:
دار عفاها القدم ... بين البلى والعدم
زحافه: الخبن، الطي، الخبل، القطع، الإذالة، التخليع. ومعنى التخليع: قطع " مستفعلن " في العروض والضرب جميعاً.
الوافر: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه " مفاعلتن " ست مرات، ولم يجئ عن العرب في مسدسه بيت صحيح. زحافه: العصب، القطف، النقص، العقل، العضب، القصم، العقص، الجمم.
الكامل: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه متفاعلن " ست مرات، زحافه: الإضمار، الوقص، الخزل، القطع، الخرم، الترفيل، الإذالة.
الهزج: مسدس محدث، مربع قديم، أجزاؤه مفاعيلن " أربع مرات، بيته المسدس المحدث:
ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا ... وإذ صاحت بشط البين غربان
زحافه: الخزم، الكف، القبض، الحزب، الشتر، الحذف.
الرجز: مسدس، مربع، مثلث، مثنى، كله قديم، موحد محدث، أجزاؤه " مستفعلن " ست مرات، زحافه: الخبن، الطي، الخبل، القطع، الفرق، الوقف؛ ومعنى قوله الفرق: أن يفرق الوتد المجموع في حشو مسدسه فيعود مستفعلن مستفعنل بتقديم النون فيكون وزنه مفعولات.
قال: وهو الذي يسميه الخليل المنسرح، ولم يجئ ضربه إلا مطوياً، وفي صدر مربعه، قال: وهو الذي يسميه الخليل المقتضب، وفي ضرب مثناه ومثلثه إلا أنه ساكن اللام؛ لأن آخر البيت لا يكون إلا متحركاً، وذلك هو الوقف.
الرمل: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه " فاعلاتن " ست مرات، زحافه: الخبن، الكف، الشكل، الحذف، القصر، الإسباغ.
الخفيف: مسدس قديم، مربع قديم، أجزاؤه " فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن " مكرر، ومربعه " فاعلاتن مستفعلن " قال: وقد ركب منه مربع آخر، وهو الذي يسميه الخليل مجتثاً، وقد نقص منه " فاعلاتن " الأولى والرابعة. وزحافه: الخبن، الكف، الشكل، الحذف، القطع، التشعيث، الإسباغ، الطي.
المضارع: مربع قديم لا غير، أجزاؤه " مفاعلن فاعلاتن " مكرر، ولم يجئ عن العرب فيه بيت صحيح. زحافه: القبض، الكف، الحذف، الشتر، الخبن.

المتقارب: مثمن قديم، مسدس مربع محدث، أجزاؤه " فعولن " ثماني مرات. زحافه: القبض، الثلم، الثرم، القصر، الحذف، البتر، وبيت مربعه المحدث:
وقفنا هنيه ... بأطلال ميه
المتدارك: مثمن قديم، مسدس محدث، أجزاؤه " فاعلن " ثماني مرات، وبيته السالم من مثمنه:
لم يدع من مضى للذي قد غبر ... فضل علم سوى أخذه بالأثر
وشعر عمرو الجني مخبون. زحافه: الخبن، القطع، الإذالة، الترفيل..
وهذا شرح الألقاب عن أبي زهرة النحوي وغيره. كل ما حذف ثانيه الساكن فهو مخبون، وكل ما حذف رابعه الساكن منه فهو مطوي، وما حذف خامسه الساكن فهو مقبوض، وما حذف سابعه الساكن فهو مكفوف، وما حذف ثانيه ورابعه الساكنان فهو مخبول، وما حذف ثانيه وسابعه الساكنان فهو مشكول، وما حذف ثانيه المتحرك فهو موقوص، وما حذف خامسه المتحرك فهو معقول، وما حذف سابعه المتحرك فهو مكشوف عند الخليل، ولم يعتد به الجوهري، وما حذف رابعة الساكن وأسكن ثانية المتحرك فهو مخزول، وما أسكن ثانية المتحرك فهو مضمر، وما أسكن خامسة المتحرك فهو معصوب، وما أسكن سابعه المتحرك فهو موقوف، وما حذف ساكن سببه وأسكن متحركه فهو مقصور، وإن كان هذا العمل في وتد فهو مقطوع، وكل سبب زيد عليه حرف ساكن ليس من الجزء الذي هو فيه فهو مسبغ، وإن كان ذلك في وتد فهو مذيل؛ فإن زيد على الوتد حرفان فهو مرفل، وكل ما حذف منه وتد مجموع فهو أحذ، فإن حذف وتد مفروق فهو أصلم، وإذا حذف من الجزء سبب وأسكن المتحرك الي يليه فهو مقطوف، وكل وتد مجموع كان في مبتدأ البيت فحذف أول الوتد فهو مخروم، وإن كان ذلك في " فعولن " فهو أثلم، فإن كان فيه مع الخرم قبض فهو أثرم، وإن كان الخرم في " مفاعلتن " فهو أعصب وإن كان مع ذلك عصب فهو أقصم، وإن كان فيه مع الخرم قبض فهو أعفص، وإن كان فيه مع الخرم عقل فهو أجم، وإذا خرمت " مفاعيلن " فهو أخرم وإذا كففته مع ذلك فهو أخرب، وإذا خرمته وقبضته فهو أشتر، وما ذهب منه جزآن من العروض والضرب فهو مجزو، وما يذهب منه شطره فهو مشطور، وما ذهب ثلثاه فهو منهمك، ومل سلم من الزحاف وهو يجوز فيه فهو سالم، وما سلم من الخرم فهو موفور، وما استوفى دائرته فهو تام، وما استوفى أجزاء دائرته وكان في بعض الأجزاء نقص فهو وافٍ، وكل جزء كان في ضرب أو عروض فكان بمنزلة الحشو فهو صحيح، وإن خالف الحشو فهو معتل، ومخالفة الحشو: أن يدخل فيه من النقص والزيادة ما لا يدخل الحشو، أو يمتنع من النقص الذي يدخل الحشو، والمعتدل على أربعة أوجه: ابتداء، وفصل، وغاية، واعتماد. وقد شرحتها فيما تقدم.

باب بيوتات الشعر والمعرقين فيه
منها في الجاهلية بيت أبي سلمى: كان شاعراً واسمه ربيعة، وابنه زهير كان شاعراً، وله خؤولة في الشعر: خاله بشامة بن الغدير، وكان كعب وبجير ابنا زهير شاعرين، وجماعة من أبنائهما.
ومن المخضرمين حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، وهو وأبوه وجده وأبو جده شعراء، وابنه عبد الرحمن شاعر، ذكر ذلك المبرد وبعد هذين بيت النعمان بن بشير، وبنوه: أبان، وبشير، وشبيب، وابنته حميدة، ومن بني بنيه عبد الخالق بن عبد الواحد، وعبد القدوس بن عبد الواحد بن النعمان، وأم النعمان عمرة بنت رواحة شاعرة، وخاله عبد الله بن رواحة أحد شعراء النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن المعرقين في الشعر عن عبد الكريم نهشل بن حرى بن ضمرة بن جابر بن قطن، ستة ليس يتوالى في بني تميم مثلهم شعراً وشرفاً وفعالاً.
وعن ابن قتيبة القاسم بن أمية بن أبي الصلت، وهو القائل:
قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان
وربيعة بن أمية عن غير ابن قتيبة.
ومن بيوتات الشعر في الإسلام بيت جرير: كان هو وأبوه عطية وجده الخطفي شعراء، وكان بنوه وبنو بنيه شعراء.. قال أبو زياد الكلابي: رأيت باليمامة نوحاً وبلالاً ابني جرير وهما يتسايران ولهما جمال وهيئة وقدر عظيم، وأشعر من باليمامة يومئذ حجناء بن نوح بن جرير، وكان عقيل بن بلال شاعراً، وعمارة ابنه شاعراً، أدرك الطائي حبيباً ولقيه المبرد.
ومن المعوقن عقبة بن رؤبة بن العجاج.

ومن البيوتات بيت أبي حفصة: كان مروان شاعراً، وجماعة بيته شعراء يضربون بألسنتهم أنوفهم، حكاه الجاحظ، وكان يحيى جد مروان شاعراً يهاجي اللعين المنقري، وأكثر أهل بيته شعراء رجالاً ونساء.
وبيت أبي عيينة بيت شعر: منهم مجد وبنوه أبو عيينة وعبد الله وداود وعباد بن داود لقبه المخرق لقوله:
أنا المخرق أعراض اللئام كما ... كان الممزق أعراض اللئام أبي
وبيت الرفاشيين منهم عبد الصمد بن الفضل وابناه الفضل والعباس، وأكثرهم شعراء.
وبيت اللاحقيين: كان حمدان شاعراً، وابنه، وأبوه أبان شاعراً، وجده عبد الحميد شاعراً، ولاحق أبو عبد الحميد شاعر، وإليه نسبوا، وهو مولى الرقاشيين، وأكثر أهل هذا البيت شعراء.
وبيت أمية الكاتب ذكرهم دعبل، وهم أمية وإخوته: علي، ومحمد، والعباس وسعيد، ومن أولاد هؤلاء أبو العباس بن أمية وأخواه علي وعبد الله، وابن عمهم محمد بن علي بن أبي أمية.
وبيت رزين بيت شعر، منهم عبد الله شاعر، وابنه الشيص شاعر، واسمه محمد، ومنهم علي شاعر، وابناه دعبل وعلي شاعران.
وبيت حميد بن عبد الحميد. كان حميد شاعراً، وبنوه أهرم وأبو عبد الله وأبو نصر وأبو نهشل شعراء، ذكرهم دعبل.
والفرق بين المعرق وبين ذي البيت أن المعرق من تكرر الأمر فيه وفي أبيه وجده فصاعداً، ولا يكون معرقاً حتى يكون الثالث فما فوقه، وعلى هذا فسر قول أبي الطيب:
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب ... ن العارض الهتن ابن العارض الهتن
قالوا: إنما أراد أنه معرق، وزاد واحداً على الشرط المتعارف، وإنما أخذه أبو الطيب من قول محمد بن عبد الملك الزيات:
ما كان ينذرنا ويؤمن سربنا ... ويجيرنا من شر كل مخيفة
إلا مقام خليفة لخليفة ... لخليفة لخليفة لخليفة
يعني الواثق بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، فصدق وحسن في معناه، ونقص المتنبي بواحد بعد سرقته.
وذو البيت من عم الأمر جميع أهل بيته أو أكثرهم، فهذا فرق بينهما.
ومن الأخوة ومن لم يعرق: لبيد وأخوه لأمه أربد، والشماخ وأخواه جزء ويزيد وهو مزرد وبنو ابن مقبل وهم عشرة أخوة، تميم، وفضالة وحيان: ورفاعة، ووبرة، والمضاء، وأعقد، وعبد الله، وخفاف، وأبو الشمال، وأم تميم ابنة أمية بن أبي الصلت، وفي أولاد أخوته المذكورين آنفاً شعر؛ وقيس بن عمرو النجاشي وأخوه خديج، وعمرو بن أحمر وأخواه سنان وسيار، وغيلان ذو الرمة وإخوته: أوفى، ومسعود، وهشام، وحرقاس، شعراء خمستهم، ومسلم بن الوليد وأخوه سليمان الكفيف، وأشجع السلمي وأخوه أحمد.
وأما الشاعر ابن الشاعر فقط فيقال له الثنيان حكاه عبد الكريم عن غيره، وهو كثير لو أخذنا في ذكرهم لطالت مسافة الباب.

باب حكم البسملة قبل الشعر
قال أبو جعفر النحاس: اختلف العلماء في كتب " بسم الله الرحمن الرحيم " أمام الشعر؛ فكره ذلك سعيد بن المسيب والزهري، وأجازه النخعي، وكذا يروي عن ابن العباس، قال: اكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " أمام الشعر وغيره؛ قال أبو جعفر: ورأيت علي بن سليمان يميل إلى هذا، وقال: ينبغي أن يكتب أمام الشعر " بسم الله الرحمن الرحيم " لأنه يجيء بعده " قال فلان " وما أشبه ذلك.. قلت أنا: إنما هذا في الشعر إذا دون، فأما قصيدة رفعها الشاعر إلى ممدوحه فلا يكتب قبلها اسم قائلها، لكن بعدها، وإذا كان الأمر هكذا فلا سبيل إلى كتاب البسملة؛ لأن العذر حينئذ ساقط.
باب أحكام القوافي في الخط
إذا صارت الواو الأصلية والياء الأصلية وصلاً للقافية سقطت في الخط كما تسقط واو الوصل وياؤه، مثل واو يغزو للواحد، ويغزوا للجماعة إذا كانت القافية على الزاي، ألا ترى أنهم أسقطوها في اللفظ فضلاً عن الخط.. قال الراجز: كريمة قدرهم إذا قدر يريد إذا قدروا قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن السمين وقد سألته عن هذا: لا يجوز حذف هذه الواو في أشد ضرورة، للعرب لا للمولدين؛ لأنها علامة جمع وإضمار؛ فحذفها يلتبس بالواحد، قال:

وهذا مذهب سيبويه والبصريين، ومثل واو يغزو وياء يقضي للغائب وتقضي للمؤنثة الغائبة والمذكر المخاطب. وكذلك ياء القاضي والغازي إذا كانا معرفين بالألف واللام، وهذا هو الوجه، فإن كتب بإثبات الواو والياء فعلى باب المسامحة، والأجود أن تكون الواو والياء خارجاً في الغرض، وكذلك ياء الضمير نحو غلامي إذا كانت القافية الميم فالوجه سقوط الياء، فإن كتبت مسامحة ففي الغرض كما قدمت، وقد أسقطها بعضهم في اللفظ. أنشدني أبو عبد الله للأعشى:
ومن شانئ كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن
قال: يريد أنكرني فحذف الياء، فأما ما يكون منوناً نحو قاضٍ، وغاز، أو مجزوماً نحو لم يقض، ولم يغز، فلا يجوز أن يثبت فيهما الياء والواو على المسامحة؛ لأنهما سقطا بالتنوين والعامل.. ومن العرب من يقول هذا الغاز، ومررت بالقاض، بغير ياء، وهذا تقوية لمذهب من حذفها في الخط إذا كانت وصلاً للقافية.
وإن كان في قوافي قصيدة ما يكتب بالياء وما يكتب بالألف كتباً جميعاً بالألف لتستوي القوافي، وتشتبه صورتها في الخط.

باب النسبة إلى الروي
إذا قلت قصيدة فنسبتها إلى ما كان على حرفين قلت هذه قصيدة بائية وحائية، وكذلك أخواتهما، وإن شئت جعلت الهمزة واواً فقلت: ياوية، وكان أبو جعفر الرقاشي ينسب إلى ما كان على حرفين يقول: هذا يبوي، ويتوي، وكذلك أخواتهما، إلا ما ولا فإنه يقول: مووي، ولووي على فعلي، وتقول على هذا القول: قصيدة مووية ولووية، قال ثعلب: ما كان على ثلاثة أحرف الأوسط ياء فليس فيه إلا وجه واحد، تقول: سينت سيناً، وعينت عيناً، إذا كتبت سيناً وعيناً، فيقول على هذا: قصيدة مسينة ومعينة وسينية وعينية، وكذلك قصيدة ميمية، ولا تقول " مؤومة " فإنه خطأ، وتقول في الواو وهي على ثلاثة أحرف الأوسط ألف بالياء لا غير؛ لكثرة الواوات، فتقول: وويت واواً حسنة، وبعضهم يجعل الواو الأولى همزة لاجتماع الواوين فيقول: أويت واواً حسنة، فالقصيدة على هذا واوية ومؤواة وموواة، وقال بعضهم في " ما " و " لا " من بين أخواتهما: مويت ماء حسنة، ولويت لاء حسنة، بالمد؛ لمكان الفتحة من ما ولا.
باب الإنشاد وما ناسبه
ليس بين العرب اختلاف إذا أرادوا الترنم ومد الصوت في الغناء والحداء في إتباع القافية المطلقة، مثلها من حروف المد واللين في حال الرفع والنصب والخفض، كانت مما ينون أو مما لا ينون، فإذا لم يقصدوا ذلك اختلفوا: فمنهم من يصنع كما يصنع في حال الغناء والترنم؛ ليفصل بين الشعر والكلام المنثور، وهم أهل الحجاز، ومنهم من ينون ما ينون وما لا ينون: إذا وصل الإنشاد أتى بنون خفيفة مكان الوصل فجعل ذلك فصلاً بين كل بيتين فينشد قول النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند منوناً إلى آخر القصيدة، لا يبالي بما فيه ألف ولام، ولا مضاف، ولا بفعل ماض، ولا مستقبل، وهم ناس كثير من بني تميم.
ومنهم من يجري القافي مجراها ولو لم تكن قوافي فيقف على المرفوع والمكسور موقوفين ويعوض المنصوب ألفا على كل حال، وهم ناس كثير من قيس وأسد، فينشدون:
لا يبعد الله جيراناً لنا ظعنوا ... لم أدر بعد غداة البين ما صنع
يريد " ما صنعوا " . وكذلك ينشدون:
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محمل
فإذا وصلوا جعلوه كالكلام وتركوا المدة لعلهم أنها في أصل البناء.
قال سيبويه: سمعناهم ينشدون: أقلي اللوم عاذل والعتاب إذا كان منوناً أثبتوا تنوينه ووصلوه كما يفعلون بالكلام المنثور.
ومن العرب من في لغته أن يقف على إشباع الحركة: فتجر الضمة واواً، والكسرة ياء، والفتحة ألفا، فينشد هذا كله موصولاً من غير قصد غناء ولا ترنم.
ومنهم من في لغته أن لا يعوض شيئاً من النصب فهو ينشد هذا كله موقوفاً من غير اعتقاد تقييد، وإذا كان الشعر مقيداً كان تنويه بإزاء إطلاقه، فهو غير جائز؛ لأن الشعر المقيد يكسر بتنوينه كما يكسر بإطلاقه، ما خلا الأوزان التي قدمنا القول أنها من بين ضروب الشعر يجوز إطلاقها وتقييدها.

ويحكى عن رؤبة أنه أنشد قصيدته القافية المقيدة منونة، فرد ذلك الزجاجي وأنكره، وذكر أنه وهم من السامع، وأن الوجه فيه أن من العرب من يزيد بعد كل قافية " إن " الخفيفة المكسورة إعلاماً بانقضاء البيت، فينشد:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ان ... مشتبه الأعلام لماع الخفق ان
يكل وفد الريح من حيث انخرق ان وإذا كان ما قبل حرف الروي ساكناً وكانت لغة منشده الوقوف على المضموم والمكسور بنقل الحركة كما أنشد أعرابي من بني سنبس قول ذي الرمة: ولا زال منهلاً يجرعائك القطر بضم الطاء وإسكان الراء لما وقف حكى ذلك عبد الكريم، وعلى هذا قال الآخر: أنا ابن ماوية إذ جد النفر أراد " النفر " بالخيل.
وأنشد أبو العباس ثعلب:
أرتني حجلاً على ساقها ... فهش الفؤاد لذاك الحجل
فقلت ولم أخف من صاحبي: ... ألا بأبي أصل تلك الرجل
وقال: نقل لاضطرار القافية.
ومما يدخل في شفاعة هذا الباب: الغناء، والحداء، والتغبير، قال الشاعر:
تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ويقولون: فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعراً.
قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجلي أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم
وكذلك يقولون: حدا به، إذا عمل فيه شعراً.
قال المرار الأسدي:
ولو أني حدوت به أرفأنت ... نعامته وأبصر ما يقول
وغناء العرب قديماً على ثلاثة اوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب فغناء الركبان والفتيان، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحداء كله، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض.
وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات، وهو على ست طرائق: الثقيل الأول، وخفيفه، والثقيل الثاني، وخفيفه، والرمل، وخفيفه.
وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار فيطرب، ويستخف الحليم، قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفتحت العراق، وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير.
قال الجاحظ: العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزوناً على غير موزون.
ويقال: إن أول من أخذ في ترجيعه الحداء مضر بن نزار؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول: وايداه، وايداه، وكان أحسن خلق الله جرماً وصوتاً، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالاً لقوله هايدا هايدا يحدون به الإبل، حكى ذلك عبد الكريم في كتابه.
وزعم ناس من مضر أن أول من حدا رجل منهم، كان في إبله أيام الربيع، فأمر غلاماً له ببعض أمر، فاستبطأه، فضر به بالعصا، فجعل ينشد في الإبل ويقول: يايداه، يايداه، فقال له: إلزم إلزم، واستفتح الناس الحداء من ذلك الوقت.
وذكر ابن قتيبة أنهم قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وحكى الزبير بن بكار في حديث يرفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم من بني غفار سمع حاديهم بطريق مكة ليلاً فمال إليهم: إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصا فضرب بها كف غلامه، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، وايداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت، فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداد.
وأما التغبير فهو تهليل أو تردد صوت، بقراءة أو غيرها، حكى ذلك ابن دريد، وحكى أبو إسحاق الزجاجي قال: سألني بعض الرؤساء: لما سمي التغبير تغبيراً؟ قلت: لأنه وضع على أنه يرغب في الغابر أي: الباقي، أي: يرغب في نعيم الجنة وفيما يعمل للآخرة وقال غيره: إنما قيل له تغبير لأنه جعل ما يخرج من الفن بمنزلة الغبار، فعرض الجوابان على أحمد بن يحيى فاستجاد جوابي.
يقال للمراسل في الغناء: المثالي، حكاه غلام ثعلب

باب الجوائز والصلات
قال أبو جعفر النحاس:

أصل الجائزة أن يعطي الرجل ما يحيزه ليذهب إلى وجهه، وكان الرجل إذا ورد ماء قال لقيمه: أجزني أي: أعطني ماء حتى أذهب لوجهتي وأجوز عنك فكثر حتى جعلت الجائزة عطية.
قال الراجز:
يا قيم الماء فدتك نفسي ... أحسن جوازي وأقل حبسي
قال ابن قتيبة: أصل الجائزة والجوائز أن عبد عوف بن أصرم من بني هلال بن عامر بن صعصعة ولي فارس لعبد الله بن عامر، فمر به الأحنف بن قيس في جيشه غازياً إلى خراسان، فوقف لهم على قنطرة الكر فجعل ينسب الرجل فيعطيه على قدر حسبه، فكان يعطيهم مائة مائة، فلما كثروا عليه قال: أجيزوهم، فأجيزوا؛ فهو أول من سن الجوائز.
قال الشاعر:
فدى للأكرمين بني هلال ... على علاتهم عمي وخالي
هم سنوا الجوائز في معد ... فصارت سنة أخرى الليالي
والبدرة: عشرة آلاف درهم، سميت بذلك لوفورها، قال بعضهم: ومنه سمى القمر ليلة أربعة عشرة بدراً لتمامه وامتلائه من النور، ويقال: لمبادرته الشمس، وقيل: بل البدرة جلدة السخلة إذا فطمت والجذع من المعز يملأ مالاً، فسمى المال بدرة باسم الوعاء مجازاً.
والصلة ما أخذه رجل من السلطان أول ما يتصل به، ثم كثر ذلك حتى قيل لهبة الملك صلة.
وهذه أبيات كنت صنعتها للسيد أبي الحسن أدام الله عزه ختمت بها الكتاب لما جاء موضعها:
إن الذي صاغت يدي وفمي ... وجرى لساني فيه أو قلمي
مما عنيت لسبك خالصه ... واخترته من جوهر الكلم
لم أهده إلا لتكسوه ... ذكراً تجدده على القدم
لسنا نزيدك فضل معرفة ... لكنهن مصائد الكرم
فأقبل هدية من أشدت به ... ونسخت عنه آية العدم
لا تحسب الدنيا أبا حسن ... تأتي بمثلك فائق الهمم

أقسام الكتاب
1 2 3 4