كتاب : العمدة في محاسن الشعر وآدابه
المؤلف : ابن رشيق القيرواني

عشار وإله لاقت عشارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أن علا كنفي أضاخ
فقال التوأم:
وهت أعجاز ريقه فحارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يترك بذات السر ظبياً
وقال التوأم:
ولم يترك بجهلتها حمارا
فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك الحرس أي: العصر من يماتنه أي: يقاومه ويطاوله آلى ألا ينازع الشعر أحداً آخر الدهر، وروى ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء، ولو نظر بين الكلامين لوجد التوأم أشعر في شعرهما هذا؛ لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما أراد، والتوأم محكوم عليه بأول البيت، مضطر في القافية التي عليها مدارهما جميعاً، ومن ههنا والله أعلم عرف امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف، ونازع أيضاً علقمة بن عبدة فكان من غلبة علقمة عليه ما كان..
وأما جرير فهجاه شاعر يقال له: البردخت، فقال: ما اسمه؟ قيل له: البردخت، فقال: وما معنى البردخت؟ قالوا له: الفارغ، فقال: إذاً والله لا أشغله بنفسي أبداً، وسالمه، هذا وهو جرير الذي غلب شياطين الشعراء، وسكن شقاشق الفحول..
وأما عقبة بن رؤبة بن العجاج فإنه أنشد عقبة بن سلم بحضرة بشار أرجوزة، فقال: كيف ترى يا أبا معاذ؟ فأثنى بشار كما يجب لمثله أن يفعل، وأظهر الاستحسان، فلم يعرف له عقبة حقه، ولا شكر له فعله، بل قال له: هذا طراز لا تحسنه، فقال له بشار: ألمثلي يقال هذا الكلام؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك ومن جدك، ثم غدا على عقبة بن سلم بأرجوزته التي أولها:
يا طلل الحي بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي
فضح بها ابن رؤبة فضيحة ظاهرة كان غنياً عنها..
وكان في البحتري إعجاب شديد، إذ أنشد يقول: ما لكم لا تعجبون؟ أما حسن ما تسمعون؟ فأنشد المتوكل يوماً قصيدته التي أولها:
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم؟
وأبو العباس الصيمري حاضر، فلما رأى إعجابه قام حذاءه فقال:
من أي سلح تلتقم؟ ... وبأي كف تلتطم؟
ذقن الوليد البحتري ... أبي عبادة في الرحم
فولى البحتري وهو غضبان، فقال: وعلمت أنك تنهزم فضحك المتوكل حتى فحص برجليه، وأعطى الصيمري جائزة سنية.

باب عمل الشعر وشحذ القريحة
لا بد للشاعر وإن كان فحلاً، حاذقاً، مبرزاً، مقدماً من فترة تعرض له في بعض الأوقات: إما لشغل يسير، أو موت قريحة، أو نبو طبع في تلك الساعة أو ذلك الحين. وقد كان الفرزدق وهو فحل مضر في زمانه يقول: تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من عمل بيت من الشعر. فإذا تمادى ذلك على الشاعر قيل: أصفى وأفصى، كما يقال: أفصت الدجاجة إذا انقطع بيضها، وكذلك يقال له: أجبل، كما يقال لحافر البئر إذا بلغ جبلاً تحت الأرض لا يعمل فيه شيء: أجبل، ومثل أجبل: أكدى، إلا أنهم خصوا به العطاء، وذلك أن يصادف حافر البئر كدية فلا يزيد شيئاً على ما حفر، ويقال: أفحم الشاعر على أفعل، قالوا: وهو من فحم الصبي إذا انقطع صوته من شدة البكاء، فإن ساء لفظه وفسدت معانيه قيل له: أهتر فهو مهتر. وقد قيل في الذبياني: إنه إنما كان شعره نظيفاً من العيوب لأنه قاله كبيراً، ومات عن قرب، ولم يهتر.. وأكثر ما جاء الإهتار في صفة الكبير الذي يختلط كلامه وقولهم في شعر النابغة إنه قاله وهو كبير يدل على أنه بهذا سمي نابغة كما عند أكثر الناس، لا لقوله:
فقد نبغت لنا منهم شئون.
كما تقدم من قول بعضهم. ويقال: أخلى الشاعر، كما يقال أخلى الرامي، إذا لم يصب معنى.
حكي عن البحتري أنه قال: فاوضت ابن الجهم علياً في الشعر، وذكر أشجع السلمي فقال: إنه كان يخلى، فلم أفهمها عنه، وأنفت أن أسأله عنها، فلما انصرفت فكرت فيها، ونظرت في شعر أشجع، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع.
ثم إن للناس فيما بعد ضروباً مختلفة: يستدعون بها الشعر، فتشحذ القرائح وتنبه الخواطر، وتلين عريكة الكلام، وتسهل طريق المعنى: كل امرئ على تركيب طبعه، واطراد عادته، وسيأتي ذلك في أقاويل العلماء بما أرجو أن تكون فيه هداية إن شاء الله تعالى.
قال بكر بن النطاح الحنفي:

الشعر مثل عين الماء: إن تركتها اندفنت، وإن استهتنتها هتنت، وليس مراد بكر أن تستهتن بالعمل وحده؛ لأنا نجد الشاعر تكل قريحته مع كثرة العمل مراراً، وتنزف مادته، وتنفد معانيه، فإذا أجم طبعه أياماً وربما زماناً طويلاً ثم صنع الشعر جاء بكل آبدة، وانهمر في كل قافية شاردة، وانفتح له من المعاني والألفاظ ما لو رامه من قبل لاستغلق عليه، وأبهم دونه، لكن بالمذاكرة مرة؛ فإنها تقدح زناد الخاطر، وتفجر عيون المعاني، وتوقظ أبصار الفطنة، وبمطالعة الأشعار كرة؛ فإنها تبعث الجد، وتولد الشهوة.
وسئل ذو الرمة: كيف تعمل إذا انقفل دونك الشعر؟ فقال: كيف ينقفل دوني وعندي مفتاحه؟ قيل له: وعنه سألناك، ما هو؟ قال: الخلوة بذكر الأحباب، فهذا لأنه عاشق، ولعمري إنه إذا انفتح للشعر نسيب القصيدة فقد ولج من الباب، ووضع رجله في الركاب، على أن ذا الرمة لم يكن كثير المدح والهجاء، وإنما كان واصف أطلال، ونادب أظعان، وهو الذي أخرجه من طبقة الفحول.
وقيل لكثير: كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة؛ والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلى أحسنه.
وقال الأصمعي: ما استدعي شارد بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخالي وقيل: الحالي، يعني الرياض وحدثني بعض أصحابنا من أهل المهدية وقد مررنا بموضع بها يعرف بالكدية هو أشرفها أرضاً وهواء قال: جئت هذا الموضع مرة فإذا عبد الكريم على سطح برج هنالك قد كشف الدنيا، فقلت: أبا محمد؟ قال: نعم، قلت: ما تصنع ههنا؟ قال: ألقح خاطري، وأجلو ناظري، قلت: فهل نتج لك شيء؟ قال: ما تقر به عيني وعينك إن شاء الله تعالى، وأنشدني شعراً يدخل مسام القلوب رقة، قلت: هذا اختبار منك اخترعته، قال: بل برأي الأصمعي.
وقالوا: كان جرير إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلاً: يشعل سراجه ويعتزل، وربما على السطح وحده فاضطجع وغطى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه. يحكي أنه صنع ذلك في قصيدته التي أخزى بها بني نمير، وقد تقدم ذكرها.
وروى أن الفرزدق كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خالياً منفرداً وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية، فيعطيه الكلام قياده. حكى ذلك عن نفسه في قصيدته الفائية:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف
وذكر أن فتى من الأنصار بحضرة كثير أو غيره فاخره بأبيات حسان بن ثابت:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فأنظره سنة فمضى حنقاً، وطالت ليلته ولم يصنع شيئاً، فلما كان قرب الصباح أتى جبلاً بالمدينة يقال له ذباب، فنادى: أخاكم يا بني لبني، صاحبكم، صاحبكم، صاحبكم، وتوسد ذراع ناقته، فانثالت عليه القوافي انثيالاً، وجاء بالقصيدة بكرة وقد أعجزت الشعراء وبهرتهم طولاً وحسناً وجودة.
وقيل لأبي نواس: كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر؟ قال أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفساً بين الصاحي والسكران صنعت وقد داخلني النشاط وهزتني الأريحية.
قال ابن قتيبة: وللشاعر أوقات يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه: منها أول الليل قبل تغشي الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير، ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل المترسل.
وحكى عن أبي تمام وقد سأله البحتري عن أوقات صنعة الشعر قريب من هذا لا أحفظه نصاً، ولا أشك أن ابن قتيبة به اقتدى، إن كان مما رواه.

ومما يجمع الفكرة من طريق الفلسفة استلقاء الرجل على ظهره، وعلى كل حال فليس يفتح مقفل بحار الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم؛ لكون النفس مجتمعة لم يتفرق حسها في أسباب اللهو أو المعيشة أو غير ذلك مما يعييها، وإذ هي مستريحة جديدة كأنما أنشئت نشأة أخرى؛ ولأن السحر ألطف، وأرق نسيماً هواءً، وأعدل ميزاناً بين الليل والنهار، وإنما لم يكن العشي كالسحر وهو عديله في التوسط بين طرفي الليل والنهار لدخول الظلمة فيه على الضياء بضد دخول الضياء في السحر على الظلمة، ولأن النفس فيه كالة مريضة من تعب النهار وتصرفها فيه، ومحتاجة إلى قوتها من النوم متشوقة نحوه؛ فالسحر أحسن لمن أراد أن يصنع، وأما لمن أراد الحفظ والدراسة وما أشبه ذلك فالليل، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: " إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا " وهذا الكلام الذي لا مطعن فيه، ولا اعتراض عليه، وعلى قراءة من قرأ وطاء يكون معناه أثقل على فاعله، وإذا كان كذلك كان أكثر أجراً، فهذا يشهد لنا أن العمل أول الليل يصعب؛ لأن النوم يغلب والجسم يكل.
وكان أبو تمام يكره نفسه على العمل حتى يظهر ذلك في شعره.. حكى ذلك عنه بعض أصحابه، قال: استأذنت عليه وكان لا يستتر عني فأذن لي فدخلت فإذا هو في بيت مصهرج قد غسل بالماء، يتقلب يميناً وشمالاً، فقلت: لقد بلغ بك الحر مبلغاً شديداً، قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة ثم قام كأنما أطلق من عقال، قال: الآن وردت، ثم استمد وكتب شيئاً لا أعرفه، ثم قال: أتدري ما كنت فيه مذ الآن؟ قلت: كلا، قال: قول أبي نواس: كالدهر في شراسة وليان أردت معناه فشمس علي حتى أمكن الله منه فصنعت.
شرست، بل لنت، بل قانيت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهل والجبل
ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنم هذا البيت بما كان داخل البيت؛ لأن الكلفة فيه ظاهرة، والتعمل بين، على أن مثل حكاية أبي تمام وأشد منها قد وقعت لمن لا يتهم، وهو جرير: صنع الفرزدق شعراً يقول فيه:
فإني أنا الموت الذي هو ذاهب ... بنفسك، فانظر كيف أنت محاوله
وحلف بالطلاق أن جريراً لا يغلبه فيه، فكان جرير يتمرغ في الرمضاء ويقول:
أنا أبو حزرة، حتى قال:
أنا الدهر يفنى الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله
وكان أبو تمام ينصب القافية للبيت؛ ليعلق الأعجاز بالصدور، وذلك هو التصدير في الشعر، ولا يأتي به كثيراً إلا شاعر متصنع كحبيب ونظرائه، والصواب أن لا يصنع الشاعر بيتاً لا يعرف قافيته، غير أني لا أجد ذلك في طبعي جملة، ولا أقدر عليه، بل أصنع القسيم الأول على ما أريده، ثم ألتمس في نفسي ما يليق به من القوافي بعد ذلك، فأبني عليه القسيم الثاني: أفعل ذلك فيه كما يفعل من يبني البيت كله على القافية، ولم أر ذلك بمخل علي، ولا يزيحني عن مرادي، ولا يغير علي شيئاً من لفظ القسيم الأول، إلا في الندرة التي لا يعتد بها أو على جهة التنقيح المفرط.
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحه كالمتعجب من شعره، فقال: كيف تقول الشعر؟ قال: أنظر في ذلك ثم أقول، قال: فعليك بالمشركين ولم يكن أعد شيئاً، فأنشد أبياتاً منها:
فخبروني، أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر؟؟
فعرف الكراهية في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، لما جعل قومه أثمان العباء، فقال:
نجالد الناس عن عرض ونأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور
وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن عزوا، وإن كثروا
ينتهي إلى أن يقول في النبي صلى الله عليه وسلم:
فثبت الله ما أعطاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: " وإياك فثبت الله يا بن رواحة " .

ومن الشعراء من يسبق إليه بيت واثنان، وخاطره في غيرهما: يجب أن يكونا بعد ذلك بأبيات، أو قبله بأبيات، وذلك لقوة طبعه، وانبعاث مادته، ومنهم من ينصب قافية بعينها لبيت بعينه من الشعر مثل أن تكون ثالثة أو رابعة أو نحو ذلك لا يعدو بها ذلك الموضع إلا انحل عنه نظم أبياته، وذلك عيب في الصنعة شديد، ونقص بين؛ لأنه أعني الشاعر يصير محصوراً على شيء واحد بعينه، مضيقاً عليه، وداخلاً تحت حكم القافية.
وكانوا يقولون: ليكن الشعر تحت حكمك، ولا تكن تحت حكمه.
ومنهم من إذا أخذ في صنعة الشعر كتب من القوافي ما يصلح لذلك الوزن الذي هو فيه، ثم أخذ مستعملها، وشريفها، ومساعد معانيه، وما وافقها، وأطرح ما سوى ذلك، إلا أنه لا بد أن يجمعها ليكرر فيها نظره، ويعيد عليها تخيره في حين العمل، هذا الذي عليه حذاق القوم.
ومن الشعراء من إذا جاءه البيت عفواً أثبته، ثم رجع إليه فنقحه، وصفاه من كدره، وذلك أسرع له، وأخف عليه، وأصح لنظره، وأرخى لباله..
وآخر لا يثبت البيت إلا بعد إحكامه في نفسه، وتثقيفه من جميع جهاته، وذلك أشرف للهمة، وأدل على القدرة، وأظهر للكلفة، وأبعد من السرقة.
وسألت شيخاً من شيوخ هذه الصناعة فقلت: ما يعين على الشعر؟ قال: زهرة البستان، وراحة الحمام.
وقيل: إن الطعام الطيب، والشراب الطيب، وسماع الغناء، ما يرق الطبع، ويصفي المزاج، ويعين على الشعر.
ولما أرادت قريش معارضة القرآن عكف فصحاؤهم الذين تعاطوا ذلك على لباب البر وسلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة إلى أن بلغوا مجهودهم. فلما سمعوا قول الله عز وجل " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم الظالمين " يئسوا مما طمعوا فيه، وعلموا أنه ليس بكلام مخلوق.
وقيل: مقود الشعر الغناء به، وذكر عن أبي الطيب أن متشرفاً تشرف عليه وهو يصنع قصيدته التي أولها:
جللاً كما بي فليك التبريح.
وهو يتغنى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى منها.
وقال بعضهم: من أراد أن يقول الشعر فليعشق فإنه يرق، وليرو فإنه يدل، وليطمع فإنه يصنع. وقالوا: الحيلة لكلال القريحة انتظار الحمام، وتصيد ساعات النشاط، وهذا عندي أنجع الأقوال، وبه أقول، وإليه أذهب..
وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا القلوب ولا تهملوها، وخير الفكر ما كان في عقب الحمام، ومن أكره بصره عشي، واشحذوا القلوب بالذاكرة ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا منحتم ببعض الاستغلاق، فإن من أدمن قرع الباب وصل.
وقال الخليع: من لم يأت شعره من الوحدة فليس بشاعر، قالوا: يريد الخلوة، وربما أراد الغربة، كما قال ديك الجن: ما أصفى شاعر مغترب قط.
ومما لا يسع تركه في هذا الموضع صحيفة كتبها بشر بن المعتمر، ذكر فيها البلاغة، ودل على مظان الكلام والفصاحة، يقول فيها:

خذ من نفسك ساعة فراغك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قلبك تلك الساعة أكرم جوهراً، وأشرف حساً، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمجاهدة، وبالتكلف والمعاندة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، أو خفيفاً على اللسان سهلاً كما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه. وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أسوأ حالاً منك من قبل أن تلتمس إظهارهما، وترهن نفسك في ملابستهما وقضاء حقهما، وكن في إحدى ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً: إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما للعامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف مع الصواب وإحراز المنفعة، ومع موافقة الحال، ومع ما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك في نفسك على أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء؛ فأنت البليغ التام. فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصل إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها؛ فلا تكرهها على اغتصاب مكانها، والنزول في غير أوطانها؛ فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد؛ فإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا محكماً لشأنك، بصيراً بما عليك ولك؛ عابك من أنت أقل منه عيباً، ورأى من هو دونك أنه فوقك. فإن أنت ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع؛ فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك؛ فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت في الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل، ومن غير طول إهمال؛ فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك؛ فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما شاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في صفات، وإلا أن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة.
وقال بعض أهل الأدب: حسب الشاعر عوناً على صناعته أن يجمع خاطره، بعد أن يخلي قلبه من فضول الأشغال، ويدع الامتلاء من الطعام والشراب، ثم يأخذ فيما يريده. وأفضل ما استعان به الشاعر فضل غنى أو فرط طمع. والفقر آفة الشعر، وإنما ذلك لأن الشاعر إذا صنع القصيدة وهو في غنى وسعة نقحها وأنعم النظر فيها على مهل، فإذا كان مع ذلك طمع قوي انبعاثها من ينبوعها، وجاءت الرغبة بها في نهايتها محكمة، وإذا كان فقيراً مضطراً رضي بعفو كلامه، وأخذ ما أمكنه من نتيجة خاطره، ولم يتسع في بلوغ مراده ولا بلوغ مجهود نيته؛ لما يحفزه من الحاجة والضرورة، فجاء دون عادته في سائر أشعاره وربما قصر عمن هو دونه بكثير، ومنهم من تحمي الحاجة خاطره، وتبعث قريحته؛ فيجود، فإذا أوسع أنف، وصعب عليه عمل الأبيات اليسيرة فضلاً عن الكثيرة، وللعادة في هذه الأشياء فعل عظيم، وهي طبيعة خامسة كما قيل فيها.

باب في المقاطع والمطالع
اختلف أهل المعرفة في المقاطع والمطالع: فقال بعضهم: هي الفصول والوصول بعينها، فالمقاطع: أواخر الفصول، والمطالع: أوائل الوصول، وهذا القول هو الظاهر من فحوى الكلام، والفصل: آخر جزء من القسيم الأول كما قدمت، وهي العروض أيضاً، والوصل: أول جزء يليه من القسيم الثاني.
وقال غيرهم:

المقاطع: منقطع الأبيات، وهي القوافي، والمطالع: أوائل الأبيات وقال قدامة بن جعفر في بعض تآليفه وقد ذكر الترصيع: هو أن يتوخى تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجع، أو شبيه به، أو من جنس واحد في التصريف، فأشار بهذه العبارة إلى أن المقاطع أواخر أجزاء البيت كما ترى.. وقد نجد من الشعر المرصع ما يكون سجعه في غير مقاطع الأجزاء، نحو قول أم معدان الأعرابية في مرثية لها:
فعل الجميل وتفريج الجليل وإع ... طاء الجزيل الذي لم يعطه أحد
فالسجع في هذا البيت اللام المطردة في ثلاثة أمكنة منه، وآخر الأجزاء التي هي المقاطع على شريطة الياء التي قبل اللام، اللهم إلا أن يجعل السجع هو الياء الملتزمة فحينئذ، على أنا لا نعلم حرف السجع يكون إلا متأخراً في مثل هذا المكان، ومثل هذا في أنواع الأعاريض كثير.
ومن الناس من يزعم أن المطلع والمقطع أول القصيدة وآخرها، وليس ذلك بشيء؛ لأنا نجد في كلام جهابذة النقاد إذا وصفوا قصيدة قالوا: حسنة المقاطع، جيدة المطالع، ولا يقولون المقطع والمطلع، وفي هذا دليل واضح؛ لأن القصيدة إنما لها أول واحد، وآخر واحد، ولا يكون لها أوائل وأواخر، إلا على ما قدمت من ذكر الأبيات والأقسمة وانتهائها.
وسألت الشيخ أبا عبد الله محمد بن إبراهيم بن السمين عن هذا، فقال: المقاطع أواخر الأبيات، والمطالع أوائلها، قال: ومعنى قولهم حسن المقاطع جيد المطالع أن يكون مقطع البيت وهو القافية متمكناً غير قلق ولا متعلق بغيره، فهذا هو حسنه، والمطلع وهو أول البيت جودته أن يكون دالاً على ما بعده كالتصدير وما شاكله.
وروى الجاحظ أن شبيب بن شيبة كان يقول: الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه، وأنا موكل بتفضيل جودة المقطع وبمدح صاحبه، وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت أو القصيدة، وحكاية الجاحظ هذه تدل على أن المقطع آخر البيت أو القصيدة، وهو بالبيت أليق؛ لذكر حظ القافية.
وحكى أيضاً عن صديق له أنه قال للعتابي: ما البلاغة؟ فقال: كل كلام أفهمك صاحبه حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ، قال: قلت: قد عرفت الإعادة والحبسة، وما الاستعانة؟ قال: أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلامه: يا هناه اسمع مني، واستمع إلي، وافهم، وألست تفهم؟ هذا كله عي وفساد.
قال صاحب الكتاب: وهذا القول من العتابي يدل على أن المقاطع أواخر الفصول. ومثله ما حكاه الجاحظ أيضاً عن المأمون أنه قال لسعيد بن سلم: والله إنك لتصغي لحديثي، وتقف عند مقاطع كلامي. وإذا جعل المقطع والمطلع مصدرين بمعنى القطع والطلوع كانت الطاء واللام مفتوحتين، وإذا أريد موضع القطع والطلوع كسرت اللام خاصة، وهو مسموع على غير قياس.

باب المبدأ والخروج والنهاية
قيل لبعض الحذاق بصناعة الشعر: لقد طار اسمك واشتهر، فقال: لأنني أقللت الحز، وطبقت المفصل، وأصبت مقاتل الكلام، وقرطست نكت الأغراض بحسن الفواتح والخواتم ولطف الخروج إلى المدح والهجاء، وقد صدق، لأن حسن الافتتاح داعية الانشراح، ومطية النجاح، ولطافة الخروج إلى المديح، سبب ارتياح الممدوح، وخاتمة الكلام أبقى في السمع، وألصق بالنفس؛ لقرب العهد بها؛ فإن حسنت حسن، وإن قبحت قبح، والأعمال بخواتيمها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد، فإن الشعر قفل أوله مفتاحه، وينبغي للشاعر أن يجود ابتداء شعره؛ فإنه أول ما يقرع السمع، وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة، وليجتنب " ألا " و " خليلي " و " قد " فلا يستكثر منها في ابتدائه؛ فإنها من علامات الضعف والتكلان، إلا للقدماء الذين جروا على عرق، وعملوا على شاكلة، وليجعله حلواً سهلاً، وفخماً جزلاً، فقد اختار الناس كثيراً من الابتداءات أذكر منها ههنا ما أمكن ليستدل به، نحو قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
وهو عندهم أفضل ابتداء صنعه شاعر؛ لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد، وقوله:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي.
ومثله قول القطامي واسمه عمير بن شييم التغلبي :
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل.
وكقول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب

وقوله:
كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً ... وهمين هماً مستكناً وظاهراً
وهذا بعض ما اختير للقدماء.. ومما اختير لهم في الرثاء قول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
ومما اختير للمحدثين قول بشار بن برد:
أبي طلل بالجزع أن يتكلما.
وهو عندهم أفضل ابتداء صنعه محدث، وقول أبي نواس:
لمن دمن تزداد طيب نسيم ... على طول ما أقوت وحسن رسوم
وقوله:
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكى عليك طويل
وقوله:
أعطتك ريحانها العقار ... وحان من ليلنا انسفار
وقوله:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراءٌ ... وداوني بالتي كانت هي الداء
وما أشبه ذلك مما لو تقصيته لطال وكثر..
وليرغب عن التعقيد في الابتداء؛ فإنه أول العي، ودليل الفهة، فقد حكى أن دعبل بن علي الخزاعي ورد حمص فقصد دار عبد السلام بن رغبان ديك الجن، فكتم نفسه عنه خوفاً من قوارصه ومشارته، فقال: ما له يستتر وهو أشعر الجن والإنس؟ أليس هو الذي يقول؟:
بها غير معذول فداو خمارها ... وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
ونل من عظيم الردف كل عظيمة ... إذا ذكرت خاف الحفيظان نارها
فظهر إليه، واعتذر له، وأحسن نزله، ثم تناشدا فأنشد ديك الجن ابتداء قصيدة:
كأنها ما كأنه خلل ال ... خلة وقف الهلوك إذ بغما
فقال له دعبل: أمسك، فوالله ما ظننتك تتم البيت إلا وقد غشي عليك، أو تشكيت فكيك، ولكأنك في جهنم تخاطب الزبانية، أو قد تخبطك الشيطان من المس، وإنما أراد الديك أن يهول عليه، ويقرع سمعه، عسى أن يروعه ويردعه، فسمع منه ما كره أن يسمعه، ولعمري ما ظلمه دعبل، ولقد أبعد مسافة الكلام، وخالف العادة، وهذا بيت قبيح من جهات: منها إضمار ما لم يذكر قبل، ولا جرت العادة بمثله فيعذر، ولا كثر استعماله فيشتهر، مع إحالة تشبيه على تشبيه، وثقل تجانسه الذي هو حشو فارغ، ولو طرح من البيت لكان أحزم، واستدعى قافيته لا لشيء إلا لفساد المعنى واستحالة التشبيه، ما الذي يريد ب " بغامه " في تشبيهه الوقف وهو السوار ولم كان وقف الهلوك خاصة؟ ومعنى البيت أن عشيقته كأنها في جيدها وعينها الغزال الذي كأنه بين نبات الخلة سوار الجارية الحسنة المشي المتهالكة فيه وقيل: الهلوك البغي الفاجرة فما هذا كله؟ وأي شيء تحته؟ ومثله قول محمد بن عبد الملك الزيات يصف ناقته أول قصيدة مدح بها الحسن بن سهل:
كأنها حين تناءى خطوها ... أخنس مطوى الشوى يرعى القلل
فالعيب الأول في مخالفة العادة لازم له، ومع ذلك قوله " حين تناءى خطوها " مقصر بها، وهو يقدر أن يقول " حين تدانى خطوها " وخالف جميع الشعراء بذلك؛ لأنهم إنما يصفون الناقة بالظليم والحمار والثور بعد الكلال غلواً في الوصف ومبالغة، هذا هو الجيد، فإن لم يفعلوا لم يذكروا أنها بذلت جهدها، واستفرغت جميع ما عندها، بل يدعون التأويل محتملاً للزيادة، ثم قال " يرعى القلل " والثور لا يرعى قلل الجبال، وإنما ذلك الوعل؛ فإنه لا يسهل، والثور في السهول والدماث ومواضع الرمال، إلا أن يريد قلل النبات أي أعاليه، فربما أن تكون القلل نبتاً بعينه أو مكاناً فقد يمكن، وما سمعت بهما.
ومن الشعراء من يقطع المصراع الثاني من الأول إذا ابتدأ شعراً، وأكثر ما يقع ذلك في النسيب، كأنه يدل بذلك على وله وشدة حال، كقول أبي الطيب:
جللاً كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشا الأغن الشيح؟
فهذا اعتذار من اعتذر له، ولو وقع مثل هذا في الرثاء والتفجع لكان موضعه أيضاً، وكذلك عند العظائم من الأمور والنوازل الشديدة.
وليحترس مما تناله فيه بادرة، أو يقع عليه مطعن؛ فإن أبا تمام امتدح أبا دلف بحضرة من كان يكرهه، فافتتح ينشد قصيدته المشهورة: على مثلها من أربع وملاعب وكانت فيه حبسة شديدة فقال الرجل: " لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " فدهش أبو تمام حتى تبين ذلك عليه، على أنه غير مأخوذ بما قيل، ولا هو مما يدخل عليه عيباً، ولا يلزمه ذنباً على الحقيقة، إلا أن الحوطة والتحفظ من خجلة البادرة أفضل وأهيب، والتفريط أرذل وأخذل.

ودخل جرير على عبد الملك بن مروان فابتدأ ينشده: أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ فقال له عبد الملك: " بل فؤادك يا بن الفاعلة " كأنه استثقل هذه المواجهة وإلا فقد علم أن الشاعر إنما خاطب نفسه.
ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب قوله لكافور أول لقائه مبتدئاً، وإن كان إنما يخاطب نفسه لا كافوراً:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
فالعيب من باب التأدب للملوك، وحسن السياسة لازم لأبي الطيب في هذا الابتداء، لا سيما وهذا النوع أعني جودة الابتداء من أجل محاسن أبي الطيب، وأشرف مآثر شعره إذا ذكر الشعر.
ودخل ذو الرمة على عبد الملك بن مروان، فاستنشده شيئاً من شعره، فأنشده قصيدته: ما بال عينك منها الماء ينسكب وكانت بعين عبد الملك ريشة وهي تدمع أبداً، فتوهم أنه خاطبه أو عرض به، فقال: وما سؤالك عن هذا يا جاهل؟!! فمقته وأمر بإخراجه.
وكذلك فعل ابنه هشام بأبي النجم وقد أنشده في أرجوزة:
والشمس قد كادت ولما تفعل ... كأنها في الأفق عين الأحول
وكان هشام أحول، فأمر به فحجب عنه مدة، وقد كان قبل ذلك من خاصته: يسمر عنده، ويمازحه.
وإنما يؤتى الشاعر في هذه الأشياء؛ إما من غفلة في الطبع وغلظ، أو من استغراق في الصنعة وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب.
والفطن الحاذق يختار للأوقات ما يشاكلها، وينظر في أحوال المخاطبين؛ فيقصد محابهم، ويميل إلى شهواتهم وإن خالفت شهوته، ويتفقد ما يكرهون سماعه فيجتنب ذكره.. ألا ترى أن بعض الملوك قال لأحد الشعراء وقد أورد بيتاً ذكر فيه: " لو خلد أحد بكرم لكنت مخلداً بكرمك " وقال كلاما نحو هذا، فقال الملك: إن الموت حق، وإن لنا منه نصيباً، غير أن الملوك تكره ذكر ما ينكد عيشها، وينغص لذتها، فلا تأتنا بشيء مما نكره ذكره..
ومن المشهور أن النعمان بن المنذر رأى شجرة ظليلة ملتفة الأغصان، في مرج حسن كثير الشقائق، وكان معجباً بها، وإليه أضيفت " شقائق النعمان " فنزل وأمر بالطعام والشراب فأحضر، وجلس للذته، فقال له عدي بن زيد العبادي وكان كاتبه: أتعرف أبيت اللعن ما تقول هذه الشجرة؟ فقال: وما تقول؟ قال: تقول:
رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
عطف الدهر عليهم فتووا ... وكذاك الدهر حال بعد حال
من رآنا فليوطن نفسه ... إنما الدنيا على قرب زوال
كأنه قصد موعظته، فتنغص عليه ما كان فيه، وأمر بالطعام والشراب فرفعا من بين يديه، وارتحل من فوره، ولم ينتفع بنفسه بقية يومه وليلته، وكانا جميعاً نصرانيين؛ فهذا شأن الملوك قديماً وحديثاً.
ومن هذه الجهة أكثر الناس من الدعاء لهم بطول العمر، حتى بلغوا بهم ما لا يمكن، فقالوا: عش أبداً، واسلم مدى الدهر، وابق بقاء الزمان، ودم مدة الأيام.
واعترض النقاد في ذلك واختلفوا بحسب ما ينتحل كل واحد منهم في قول أبي نواس للأمين:
يا أمين الله عش أبدأ ... دم على الأيام والزمن
أنت تبقى والفناء لنا ... فإذا أفنيتنا فكن
وفي كثير من مثله. وإذا خرج الكلام عن حد الإمكان فإنما يراد به بلوغ الغاية لا غير ذلك. ومن قبيح ما وقع لأبي نواس الذي أساء فيه أدبه، وخالف فيه مذهبه؛ أن بعض بني برمك بنى داراً استفرغ فيها مجهوده، وانتقل اليها، فصنع أبو نواس في ذلك الحين أو قريباً منه قصيدة يمدحه بها يقول أولها:
أربع البلى، إن الخشوع لباد ... عليك، وإني لم أخنك ودادي
وختمها أو كاد بقوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغادي
فتطير منها البرمكي، واشمأز حتى كلح وظهرت الوجمة عليه، ثم قال: نعيت إلينا أنفسنا يا أبا نواس، فما كانت إلا مديدة حتى أوقع بهم الرشيد وصحت الطيرة.. وزعم قوم أن أبا نواس قصد التشاؤم لهم لشيء كان في نفسه من جعفر، ولا أظن ذلك صحيحاً؛ لأن القصيدة من جيد شعره الذي لا أشك أنه يحتفل له، اللهم إلا أن يصنع ذلك حيلة منه، وستراً على ما قصد إليه بذلك.

وللشعراء مذاهب في افتتاح القصائد بالنسيب؛ لما فيه من عطف القلوب، واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل، والميل إلى اللهو والنساء، وإن ذلك استدراج إلى ما بعده.
ومقاصد الناس تختلف: فطريق أهل البادية ذكر الرحيل والانتقال، وتوقع البين، والإشفاق منه، وصفة الطلول والحمول، والتشوق بحنين الإبل ولمع البروق ومر النسيم، وذكر المياه التي يلتقون عليها والرياض التي يحلون بها من خزامى، وأقحوان، وبهار، وحنوة، وظيان، وعرار، وما أشبهها من زهر البرية الذي تعرفه العرب. وتنبته الصحاري والجبال وما يلوح لهم من النيران في الناحية التي بها أحبابهم، ولا يعدون النساء إذا تغزلوا ونسبوا، فإذا وقع مثل قول طرفة:
وفي الحي أحوى ينفض المردشادن ... مظاهر سمطى لؤلؤ وزبرجد
فإنما هو كناية بالغزل عن المرأة.
وأهل الحاضرة يأتي أكثر تغزلهم في ذكر الصدود، والهجران، والواشين، والرقباء، ومنعة الحرس والأبواب، وفي ذكر الشراب والندامى، والورد والنسرين والنيلوفر، وما شاكل ذلك من النواوير البلدية، والرياحين البستانية، وفي تشبيه التفاح والتحية به، ودس الكتب، وما شاكل ذلك مما هم به منفردون.. وقد ذكروا الغلمان تصريحاً، ويذكرون النساء أيضاً: منهم من سلك في ذلك مسلك الشعراء اقتداء بهم، واتباعاً لما ألفته طباع الناس معهم، كما يذكر أحدهم الإبل، ويصف المفاوز على العادة المعتادة، ولعله لم يركب جملاً قط، ولا رأى ما وراء الجبانة، ومنهم من يكون قوله في النساء اعتقاداً منه، وإن ذكر فجرياً على عادة المحدثين وسلوكاً لطريقتهم؛ لئلا يخرج عن سلك أصحابه، ويدخل في غير سلكه وبابه، أو كناية بالشخص عن الشخص لرقته، أو حب رشاقته.. وهذا مما لا يطلب عليه شاهد لكثرته، إلا أني أتلمح في هذا المكان بقول أبي نواس:
علي عين وأذن من مذكرة ... موصولة بهوى اللوطي والغزل
كلاهما نحوها سام بهمته ... على اختلافهما في موضع العمل
والعادة أن يذكر الشاعر ما قطع من المفاوز، وما أنضى من الركاب، وما تجشم من هول الليل وسهره، وطول النهار وهجيره، وقلة الماء وغؤوره، ثم يخرج إلى مدح المقصود؛ ليوجب عليه حق القصد، وذمام القاصد، ويستحق منه المكافأة.
وكانوا قديماً أصحاب خيام: ينتقلون من موضع إلى آخر؛ فلذلك أول ما تبدأ أشعارهم بذكر الديار، فتلك ديارهم، وليست كأبنية الحاضرة؛ فلا معنى لذكر الحضري الديار إلا مجازاً؛ لأن الحاضرة لا تنسفها الرياح، ولا يمحوها المطر، إلا أن يكون ذلك بعد زمان طويل لا يمكن أن يعيشه أحد من أهل الجيل، وأحسب ما استعمله المولدون المحدثون ما ناسب قول علي بن العباس الرومي:
سقى الله قصراً بالرصافة شاقني ... بأعلاه قصري الدلال رصافي
أشار بقنيان من الدر قمعت ... يواقيت حمراً فاستباح عفافي
وكانت دوابهم الإبل لكثرتها، وعدم غيرها، ولصبرها على التعب وقلة الماء والعلف فلهذا أيضاً حضوها بالذكر دون غيرها ولم يكن أحدهم يرضى بالكذب فيصف ما ليس عنده كما يفعل المحدثون؛ ألا ترى أن امرأ القيس لما كان ملكاً كيف ذكر خيل البريد والفرانق يعني البريد على أنه لم يستغن عن ذكر الإبل للعادة التي جرت على ألسنتهم، فقال يصف رحيله إلى قيصر ملك الروم:
إذا قلت روحنا أرن فرانق ... على جلعد واهي الأباجل أبترا
على كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السري بالليل من خيل بربرا
إذا زعته من جانبيه كليهما ... مشى الهيدبي في دفه ثم فرفرا
أقب كسرحان الغضا متمطر ... ترى الماء من أعطافه قد تحدرا
وكانت الخيل البربرية تهلب أذنابها كالبغال؛ لتدخل مداخلها في خدمة البريد، وليعلم أنها للملك. وقال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشية ... فأرعى فزارة لا هناك المرتع
لما كان الذي راحت به البغال أميراً يذكر رحيله وقد عزل.
وقال ابن ميادة في ابن هبيرة لما كان أميراً أيضاً:
جاءت به معتجراً ببرده ... سفواء تردى بنسيج وحده
تقدح قيس كلها بزنده

إلا أن منهم من خالف هذا كله فوصف أنه قصد الممدوح راجلاً: إما إخباراً بالصدق، وإما تعاطي صعلكة ورجلة..
قال أبو نواس للفضل بن يحيى بن خالد:
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تعرف حنيناً على طلاً ... ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
فذكر أن قلائصهم التي امتطوها إليه نعالهم، فأخرجه كما ترى مخرج اللغز، وأتبعه أبو الطيب فقال:
لا ناقتي تحمل الرديف، ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومثفرها ... زمامها، والشسوع مقودها
وقال كرة أخرى في مثل ذلك يتشكى:
وحبيت من خوص الركاب بأسود ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
وقال أيضاً يتصعلك ويتفقر:
ومهمه جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
بصارمي مرتد، بمخبرتي ... مجتزئ؛ بالظلام مشتمل
ولو شاء قائل أن يقول: إن أبا نواس لم يرد ما ذهب إليه أبو الطيب، لكن أراد أنه معه في بلدة واحدة قصده في حاجته محتذياً نعليه؛ لكان ذلك أظهر وجهاً، ما لم يكن الحضرمي من الجلود مخصوصاً به المسافر دون الحاضر، وظاهر الكلام أن مقصد الشاعرين واحد.
وقد ذكر أبو الطيب الخيل أيضاً في كثير من شعره، وكان يؤثرها على الإبل؛ لما يقوم في نفسه من التهيب بذكر الخيل، وتعاطي الشجاعة، فقال يذكر قدومه إلى مصر على خوف من سيف الدولة:
ويوم كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب
له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدني عنانه ... فيطغى، وأرخيه مراراً فيلعب
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثل حين أركب
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضاءها فالحسن عنك مغيب
وليس في زماننا هذا ولا من شرط بلدنا خاصة شيء من هذا كله، إلا ما لا يعد قلة؛ فالواجب اجتنابه، إلا ما كان حقيقة، لا سيما إذا كان المادح من سكان بلد الممدوح: يراه في أكثر أوقاته، فما أقبح ذكر الناقة والفلاة حينئذ!.
وقد قلت أنا وإن لم أدخل في جملة من تقدم، ولا بلغت خطته من قصيدة اعتذرت بها إلى مولانا خلد الله أيامه من طول غيبة غبتها عن الديوان:
إليك يخاض البحر فعماً كأنه ... بأمواجه جيش إلى البر زاحف
ويبعث خلف النجح كل منيفة ... تريك يداها كيف تطوى التنائف
من الموجفات اللاء يقذفن بالحصى ... ويرمى بهن المهمه المتقاذف
يطير اللغام الجعد عنها كأنه ... من القطن أو ثلج الشتاء ندائف
وقد نازعت فضل الزمام ابن نكبة ... هو السيف لا ما أخلصته المشارف
فكيف تراني لو أعنت على الغنى ... بجد، وإني للغنى لمشارف
وقد قرب الله المسافة بيننا ... وأنجزني الوعد الزمان المساوف
ولولا شقائي لم أغب عنك ساعة ... ولا رام صرفي عن جنابك صارف
ولكنني أخطأت رشدي فلم أصب ... وقد يخطئ الرشد الفتى وهو عارف
فذكرت قرب المسافة بيني وبينه حوطة وإخباراً أن خوض البحر وجوب الفلاة من صفة غيري من القصاد والغرباء والمنتجعين من الأمصار.
ومن قصيدة صنعتها بديهة بالمهدية ساعة وصول إليه أدام الله عزه عن اقتراح بعض شعراء وقتنا هذا:
وذيال له رجل طحون ... لما نزلت به، ويد زجوج
يطير بأربع لا عيب فيها ... لظهران الصفا منها عجيج
خرجت به عن الأوهام سبقا ... وقل له عن الوهم الخروج
إلى الملك المعز أبي تميم ... أمر بمن سواه فلا أعيج
ومن أخرى في معنى التفقر والرحلة:
وماء بعيد الغور كالنجم في الدجى ... وردت طروقاً أو وردت مهجرا

على قدم أخت الجناح وأخمص ... يخال حصى المعزاء جمراً مسعرا
فريداً من الأصحاب صلتاً من الكسا ... كما أسلم الغمد الحسام المذكرا
ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطاً من النسيب، بل يهجم على ما يريده مكافحة، ويتناوله مصافحة، وذلك عندهم هو: الوثب، والبتر، والقطع، والكسع، والاقتضاب، كل ذلك يقال.. والقصيدة إذا كانت على تلك الحال بتراء كالخطبة البتراء والقطعاء، وهي التي لا يبتدئ فيها بحمد الله عز وجل على عادتهم في الخطب. قال أبو الطيب:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعراً متيم؟
فأنكر النسيب، وزعموا أن أول من فتح هذا الباب وفتق هذا المعنى أبو نواس بقوله:
لا تبك ليلى، ولا تطرب إلى هند ... واشرب على الورد من حمراء كالورد
وقوله وهو عند الحاتمي فيما روى عن بعض أشياخه أفضل ابتداء صنعه شاعر من القدماء والمحدثين:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
ولما سجنه الخليفة على اشتهاره بالخمر، وأخذ عليه أن لا يذكرها في شعره قال:
أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا ... فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى نعت الطلول مسلط ... تضيق ذراعي أن أرد له أمرا
فسمعاً أمير المؤمنين وطاعة ... وإن كنت قد جشمتني مركباً وعرا
فجاهر بأن وصفه الأطلال والقفر إنما هو من خشية الإمام، وإلا فهو عنده فراغ وجهل، وكان شعوبي اللسان، فما أدري ما وراء ذلك، وإن في اللسان وكثرة ولعه بالشيء لشاهداً عدلاً لا ترد شهادته. وقد قال أبو تمام:
لسان المرء من خدم الفؤاد.
ومن عيوب هذا الباب أن يكون النسيب كثيراً والمدح قليلاً، كما يصنع بعض أهل زماننا هذا، وسنبين وجه الحكم والصواب من هذا في باب المدح إن شاء الله تعالى.
ومن الشعراء من لا يجيد الابتداء، ولا يتكلف له، ثم يجيد باقي القصيدة وأكثرهم فعلاً لذلك البحتري: كان يصنع الابتداء سهلاً، ويأتي به عفواً، وكلما تمادى قوي كلامه، وله من جيد الابتداء كثير؛ لكثرة شعره، والغالب عليه ما قدمت، غير أن القاضي الجرجاني فضله بجودة الاستهلال وهو الابتداء على أبي تمام وأبي الطيب، وفضلهما عليه بالخروج والخاتمة، ولست أرى لذلك وجهاً، إلا كثرة شعره كما قدمت؛ فإنه لو حاسبهما ابتداء جيداً بابتداء مالأربى عليهما وقصرا عن عذره.. فأما الحاتمي فإنه يغض من أبي عبادة غضاً شديداً، ويجور عليه جوراً بيناً لا يقبل منه ولا يسلم إليه.
وكان أبو تمام فخم الابتداء، له روعة، وعليه أبهة، كقوله:
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
وقوله:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
وقوله:
أصغى إلى البين مغتراً فلا جرما
وقوله:
يا ربع لو ربعوا على ابن هموم
والغالب عليه نحت اللفظ، وجهارة الابتداء..
وكان أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي يفضل ابتداءات البحتري جداً، وهو الذي وضع كتاب الموازنة والترجيح بين الطائيين، ونوه فيه بالبحتري أعظم تنويه.. ومن جيد ابتداءاته قوله:
عارضننا أصلاً فقلنا الربرب ... حتى أضاء الأقحوان الأشنب
وقوله:
ما على الركب من وقوف الركاب ... في مغاني الصبا ورسم التصابي؟؟
وقوله:
ضمان على عينيك أني لا أسلو
وقوله:
ترى عنده علم بشجوى وأدمعي ... وأني متى أسمع بذكراه أجزع؟
وأما الخروج فهو عندهم شبيه بالاستطراد، وليس به؛ لأن الخروج إنما هو أن تخرج من نسيب إلى مدح أو غيره بلطف تحيل، ثم تتمادى فيما خرجت إليه كقول حبيب في المدح:
صب الفراق علينا، صب من كثب ... عليه إسحاق يوم الروع منتقما
سيف الإمام الذي سمته هيبته ... لما تخرم أهل الأرض مخترما
ثم تمادى في المدح إلى آخر القصيدة.
وكقول أبي عبادة البحتري:
سيقت رباك بكل نوء عاجل ... من وبله حقاً لها معلوما
ولو أنني أعطيت فيهن المنى ... لقيتهن بكف إبراهيما

وأكثر الناس استعمالاً لهذا الفن أبو الطيب؛ فإنه ما يكاد يفلت له، ولا يشذ عنه، حتى ربما قبح سقوطه فيه، نحو قوله:
ها فانظري أو فظني بي تري حرقاً ... من لم يذق طرفاً منها فقد وألا
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
فقد تمنى أن يكون له الأمير قواداً، وليس هذا من قول أبي نواس:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ... هوانا؛ لعل الفضل يجمع بيننا
في شيء؛ لأن أبا نواس قال " يجمع بيننا " ثم اتبع ذلك ذكر المال والسخاء به، فقال:
أمير رأيت المال في نعمائه ... مهيناً ذليل النفس بالضيم موقنا
فكأنه أشار إلى أن جمعه بينهما بالمال خاصة: يفضل عليه، ويجزل عطيته، فيتزوجها أو يتسرى بها، وأبو الطيب قال: " يشفع " والشفاعة رغبة وسؤال، ثم أتبع بيته بما هو مقو لمعناه في القيادة فقال:
أيقنت أن سعيداً طالب بدمي ... لما بصرت به بالرمح معتقلا
فدل على أنه يشفع، فإن أجيب إلى مساعدة أبي الطيب فذاك، وإلا رجع إلى القهر..
والذي يشاكل قول أبي نواس قوله:
أحب التي في البدر منها مشابه ... وأشكو إلى من لا يصاب له شكل
فلفظة الشكوى تحمل عنه كما حملن عن أبي نواس ومما سقط فيه وإن كان مليح المظهر قوله يخاطب امرأة نسب بها:
لو أن فناخسر صبحكم ... وبرزت وحدك عاقه الغزل
وتفرقت عنه كتائبه ... إن الملاح خوادع قتل
ما كنت فاعلة وضيفكم ... ملك الملوك وشأنك البخل
أتمنعين قرى فتفتضحي ... أم تبذلين له الذي يسل
بل لا يحل بحيث حل به ... بخل ولا جور ولا وجل
فحتم على فناخسرو بأن الغزل يعوقه، ولأن كتائبه تتفرق عنه، وجعله يسأل هذه المرأة، وتشكك هل تمنعه أم تبذل له، ثم أوجب أن البخل لا يحل بحيث حل؛ فأوقعه تحت الزنى أو قارب ذلك، ولعل هذا كان اقتراحاً من فناخسرو؛ وإلا فما يجب أن يقابل من هو ملك الملوك بمثل هذا، وما أسرع ما انحط أبو الطيب: بينا هو يسأل الأمير أن يشفع له إلى عشيقته صار يشفع للأمير عندها..
والاستطراد: أن يبني الشاعر كلاماً كثيراً على لفظة من غير ذلك النوع، يقطع عليها الكلام، وهي مراده دون جميع ما تقدم، ويعود إلى كلامه الأول، وكأنما عثر بتلك اللفظة عن غير قصد ولا اعتقاد نية، وجل ما يأتي تشبيهاً، وسيرد عليك في بابه مبيناً إن شاء الله تعالى..
ومن الناس من يسمي الخروج تخلصاً وتوسلاً، وينشدون أبياتاً منها:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأس ولو كان من جرم
ولو أن جرماً أطعموا شحم جفرة ... لبانوا بطاناً يضرطون من الشحم
وأولى الشعر أن يسمى تخلصاً ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى، ثم عاد إلى الأول وأخذ في غيره. ثم رجع إلى ما كان فيه. كقول النابغة الذبياني آخر قصيدة اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر:
وكفكفت مني عبرة فرددتها ... إلى النحر منها مستهل ودامع
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع؟!!
ثم تخلص إلى الاعتذار فقال:
ولكن هما دون ذلك شاغل ... مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
وعيد أبي قابوس في غير كنهه ... أتاني ودوني راكس فالضواجع
ثم وصف حاله عندما سمع من ذلك فقال:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد في ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طوراً، وطوراً تراجع
فوصف الحية والسليم الذي شبه به نفسه ما شاء، ثم تخلص إلى الاعتذار الذي كان فيه فقال:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
ويروى وخبرت خير الناس أنك لمتني ثم اطرد له ما شاء من تخلص إلى تخلص، حتى انقضت القصيدة وهو مع ما أشرت إليه غير خاف إن شاء الله تعالى.

وقد يقع من هذا النوع شيء يعترض في وسط النسيب من مدح من يريد الشاعر مدحه بتلك القصيدة، ثم يعود بعد ذلك إلى ما كان فيه من النسيب، ثم يرجع إلى المدح، كما فعل أبو تمام وإن أتى بمدحه الذي تمادى فيه منقطعاً، وذلك قوله في وسط النسيب من قصيدة له مشهورة:
ظلمتك ظالمة البريء ظلوم ... والظلم من ذي قدرة مذموم
زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ... منها طلول باللوى ورسوم
لا، والذي هو عالم أن النوى ... أجل وأن أبا الحسين كريم
ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على ألف سواك تحوم
ثم قال بعد ذلك:
لمحمد بن الهيثم بن شبابة ... مجد إلى جنب السماك مقيم
ويسمى هذا النوع الإلمام.
وكانت العرب لا تذهب هذا المذهب في الخروج إلى المدح، بل يقولون عند فراغهم من نعت الإبل وذكر القفار وما هم بسبيله: دع ذا و عد عن ذا ويأخذون فيما يريدون أو يأتون بأن المشددة ابتداء للكلام الذي يقصدونه، فإذا لم يكن خروج الشاعر إلى المدح متصلاً بما قبله ولا منفصلاً بقوله دع ذا و عد عن ذا ونحو ذلك سمي طفراً وانقطاعاً.. وكان البحتري كثيراً ما يأتي به نحو قوله:
لولا الرجاء لمت من ألم الهوى ... لكن قلبي بالرجاء موكل
إن الرعية لم تزل في سيرة ... عمرية مذ ساسها المتوكل
ولربما قالوا بعد صفة الناقة والمفازة " إلى فلان قصدت " و " حتى نزلت بفناء فلان " وما شاكل ذلك.
وأما الانتهاء فهو قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكماً: لا تمكن الزيادة عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه، وإذا كان أول الشعر مفتاحاً له وجب أن يكون الآخر قفلاً عليه.
وقد أربى أبو الطيب على كل شاعر في جودة فصول هذا الباب الثلاثة، إلا أنه ربما عقد أوائل الأشعار ثقة بنفسه، وإعراباً عن الناس، كقوله أول قصيدة:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعد والدمع أشفاه ساجمه
فإن هذا يحتاج الأصمعي إلى أن يفسر معناه.
ويقع له في الخروج ما كان تركه أولى به، وأشعر له، وإنما أدخله فيه حب الإغراب في باب التوليد، حتى جاء بالغث البارد، والبشع المتكلف، نحو قوله:
أحبك أو يقولوا جر نمل ... ثبيراً، وابن إبراهيم ريعا
فهذا من البشاعة والشناعة بحيث لا يخفى على أحد، وما أظنه سرق هذا المعنى الشريف إلا من كذبة كذبها أبو العباس الصيمري عن لسان رجل زعم أنه قال: رأيت رجلاً نام ويده غمرة فجره النمل ثلاثة فراسخ، فقد جعل أبو الطيب مكان الرجل جبلاً، وإن أعلمنا الإغراق في مراده ولفظه.. قال:
أعز مكان في الدنا سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب
وبحر أبو المسك الخضم الذي له ... على كل بحرٍ زخرة وعباب
يريد وخير بحر أبو المسك، وهذه غاية التصنع والتكلف.
ومن العرب من يختم القصيدة فيقطعها والنفس بها متعلقة، وفيها راغبة مشتهية، ويبقى الكلام مبتوراً كأنه لم يتعمد جعله خاتمة: كل ذلك رغبة في أخذ العفو، وإسقاط الكلفة، ألا ترى معلقة امرئ القيس كيف ختمها بقوله يصف السيل عن شدة المطر:
كأن السباع فيه غرقى غدية ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
فلم يجعل لها قاعدة كما فعل غيره من أصحاب المعلقات، وهي أفضلها.
وقد كره الحذاق من الشعراء ختم القصيدة بالدعاء لأنه من عمل أهل الضعف، إلا للملوك؛ فإنهم يشتهون ذلك كما قدمت، ما لم يكن من جنس قول أبي الطيب يذكر الخيل لسيف الدولة:
فلا هجمت بها إلا على ظفرٍ ... ولا وصلت بها إلا إلى أمل
فإن هذا شبيه ما ذكر عن بغيض: كان يصابح الأمير فيقول: لا صبح الله الأمير بعافية، ويسكت ثم يقول: إلا مساه بأكثر منها، ويماسيه فيقول: لا مسى الله الأمير بنعمة، ويسكت ثم يقول: إلا وصبحه بأتم منها، أو نحو هذا، فلا يدعو له حتى يدعو عليه؛ ومثل هذا قبيح، لا سيما عن مثل أبي الطيب.

باب البلاغة
تكلم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كم دون لسانك من حجاب؟ فقال: شفتاي، وأسناني، فقال له:

" إن الله يكره الانبعاق في الكلام، فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته " .
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال: " في اللسان " يريد البيان.
وقال أصحاب المنطق: حد الإنسان: الحي الناطق؛ فمن كان في المنطق أعلى رتبة كان بالإنسانية أولى.
وقالوا: الروح عماد الجسم، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم.
وسئل بعض البلغاء: ما البلاغة؟ فقال: قليل يفهم، وكثير لا يسأم.
وقال آخر: البلاغة إجاعة اللفظ، وإشباع المعنى.
وسئل آخر فقال: معان كثيرة، في ألفاظ قليلة.
وقيل لأحدهم ما البلاغة؟ فقال: إصابة المعنى وحسن الإيجاز.
وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ فقال: أسهلهم لفظاً، وأحسنهم بديهيةً..
وسأل الحجاج ابن القبعثري: ما أوجز الكلام؟ فقال: ألا تبطئ، ولا تخطئ، وكذلك قال صحار العبدي لمعاوية بن أبي سفيان.
وقال خلف الأحمر: البلاغة كلمة تكشف عن البقية.
وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل.
وكتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً، وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عياً.
وأنشد المبرد في صفة خطيب:
طبيب بداء فنون الكلا ... م لم يعي يوماً ولم يهذر
فإن هو أطنب في خطبة ... قضى للمطيل على المنزر
وإن هو أوجز في خطبة ... قضى للمقل على المكثر
قال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني: أصل البلاغة الطبع، ولها مع ذلك آلات تعين عليها، وتوصل للقوة فيها، وتكون ميزاناً لها، وفاصلة بينها وبين غيرها، وهي ثمانية أضرب: الإيجاز، والاستعارة، والتشبيه، والبيان، والنظم، والتصرف، والمشاكلة، والمثل، وسيرد كل واحد منها بمكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ فقال: من اقتصر على الإيجاز، وتنكب الفضول.
وسئل ابن المقفع: ما البلاغة؟ فقال: اسم لمعان تجري في وجوه عدة كثيرة: فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون جواباً، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون خطباً، ومنها ما يكون رسائل؛ فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة.
قال صاحب الكتاب: فهذا ابن المقفع جعل من السكوت بلاغة رغبة في الإيجاز وقال بعض الكلبيين:
واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا
وقلت أنا في مثل ذلك:
وأخرق أكال للحم صديقه ... وليس لجاري ريقه بمسيغ
سكت له ضناً بعرضي فلم أحب ... ورب جواب في السكوت بليغ
وقلت أيضاً ولم أذكر بلاغة:
أيها الموحي إلينا ... نفثة الصل الصموت
ما سكتنا عنك عياً ... رب نطق في السكوت
لك بيت في البيوت ... مثل بيت العنكبوت
إن يهن وهناً ففيه ... حيلتا سكنى وقوت
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ فقال: إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع، ولذلك سميت بلاغة.
وقال آخر: البلاغة أن تفهم المخاطب بقدر فهمه، من غير تعب عليك.
وقال آخر: البلاغة معرفة الفصل من الوصل.
وقيل: البلاغة حسن العبارة، مع صحة الدلالة.
وقيل: البلاغة أن يكون أول كلامك يدل على آخره، وآخره يرتبط بأوله.
وقيل: البلاغة القوة على البيان، مع حسن النظام.
ومن قول السيد أبي الحسن أدام الله عزه في صفة كاتب بالبلاغة وحسن الخط:
فضل الأنام بفضل علم واسعٍ ... وعلا مقالهم بفصل المنطق
وحكى لنا وشي الرياض وقد وشت ... أقلامه بالنقش بطن المهرق
فبلغ ما أراد من الوصف في اختصار وقلة تكلف. ونحو ذلك قوله أيضاً:
إذا مشقت يمناك في الطرس أسطراً ... حكيت بها وشي الملاء المعضد
يروق مجيد الخط حسن حروفها ... ويعجب منها بالمقال المسدد

وهذا الشعر كالأول في الجزء وإصابة المفصل، وإن أبا الحسن لكما قال سميه أبو الطيب خاتم الشعراء:
عليم بأسرار الديانات واللغى ... له خطرات تفضح الناس والكتبا
بلى كما قال ولي نعمته، وشاكر منته:
إني لأعجب كيف يحسن عقده ... شعر من الأشعار مع إحسانه
ما ذاك إلا أنه در النهى ... يفد التجار به على دهقانه
أستغفر الله لا أجحد أبا الطيب حقه، ولا أنكر فضله، وقد قال:
ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز
ثم نرجع إلى وصف البلاغة، بعد ما أفضينا ووشحنا هذا الباب من ذكر السيد، فنقول: وقالوا: البلاغة ضد العي، والعي: العجز عن البيان.
وقيل: لا يكون الكلام يستوجب اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك.
وسأل عامر بن الظرب العدواني حمامة بن رافع الدوسي بين يدي بعض ملوك حمير فقال: من أبلغ الناس؟ قال: من حلى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحريز.
قيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ قال: حسن الاستعارة.
وقال الخليل: البلاغة ما قرب طرفاه، وبعد منتهاه.
وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟ قال: إصابة المعنى، والقصد إلى الحجة وقيل لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ قال: الجزالة، والإطالة، وهذا مذهب جماعة من الناس جلة، وبه كان ابن العميد يقول في منثوره.
وقيل لبعض الجلة: ما البلاغة؟ فقال: تقصير الطويل، وتطويل القصير، يعني بذلك القدرة على الكلام.
وقال أبو العيناء: من اجتزأ بالقليل عن الكثير، وقرب البعيد إذا شاء، وبعد القريب، وأخفى الظاهر، وأظهر الخفي.
وقال البحتري يمدح محمد بن عبد الملك الزيات حين استوزر، ويصف بلاغته:
ومعاون لو فضلتها القوافي ... هجنت شعر جرولٍ ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... ووتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد
والبيت الأول من هذه القطعة يشهد بفضل الشعر على النثر.
وحكى الجاحظ عن الإمام إبراهيم بن محمد قوله: كفى من حظ البلاغة ألا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع. ثم قال الجاحظ: أما أنا فأستحسن هذا القول جداً.
ومن كلام ابن المعتز: البلاغة بلوغ المعنى، ولما يطل سفر الكلام.
وقال ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية، ودلالة قليل على كثير.
وقال بعض المحدثين: البلاغة إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
ومن كلام أبي منصور عبد الملك بن إسماعيل الثعالبي، قال: قال بعضهم: البلاغة ما صعب على التعاطي وسهل على الفطنة. وقال: خير الكلام ما قل ودل، وجل ولم يمل. وقال: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقل مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه. قال: وقيل: البليغ من يجتني من الألفاظ نوارها، ومن المعاني ثمارهاً.
وهذا الذي حكاه الثعالبي مما يدلك على حذق أبي الطيب في قوله لابن العميد:
قطف الرجال القول قبل نباته ... وقطفت أنت القول لما نورا
وكان يمكنه أن يقول لما أثمر لكن ذهب إلى ما قدمت، وإن ما اقتدى بقول أبي تمام:
ويجف نوار الكلام، وقلما ... يلفى بقاء الغرس بعد الماء
وكان بعضهم يقول: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق في غير أهل البادية نقص، والخروج مما بنى عليه الكلام إسهاب.
وقال العتابي: قيم الكلام العقل، وزينته الصواب، وحليته الإعراب، ورائضة اللسان، وجسمه القريحة، وروحه المعاني..
وقال عبد الله بن محمد بن جميل المعروف بالباحث: البلاغة الفهم والإفهام وكشف المعاني بالكلام، ومعرفة الإعراب، والاتساع في اللفظ، والسداد في النظم، والمعرفة بالقصد، والبيان في الأداء وصواب الإشارة، وإيضاح الدلالة، والمعرفة بالقول، والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار، وإمضاء العزم على حكومة الاختيار.
قال:

وكل هذه الأبواب محتاج بعضها إلى بعض، كحاجة بعض أعضاء البدن إلى بعض، لا غنى لفضيلة أحدها عن الآخر؛ فمن أحاط معرفة بهذه الخصال فقد كمل كل كمال، ومن شذ عنه بعضها لم يبعد من النقص بما اجتمع فيه منها.
قال: والبلاغة تخير اللفظ في حسن الإهام.
وسئل الكندي عن البلاغة، فقال: ركنها اللفظ، وهو على ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع تعرفة وتتكلم به، ونوع تعرفة ولا تتكلم به، وهو أحمدها.
ومن كتاب عبد الكريم قالوا: حسن البلاغة أن يصور الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق.
قال: ومنهم من يعيب ذلك المعنى، ويعده إسهابا، وآخره يعده نفاقاً.
قال: ومر غيلان بن خرشة الضبي مع عبد الله بن عامر بنهر أم عبد الله الذي يشق البصرة فقال عبد الله بن عامر: ما أصلح هذا النهر لأهل هذا المصر!! فقال غيلان: أجل والله أيها الأمير: يتعلم فيه العوم صبيانهم. ويكون لسقياهم، ومسيل مياههم، ويأتيهم بميرتهم.. قال: ثم مر غيلان يساير زياد على ذلك النهر وقد كان عادي ابن عامر. فقال له: ما أضر هذا النهر لأهل هذا المصر!! فقال غيلان: أجل والله أيها الأمير: تندى منه دورهم، ويغرق فيه صبيانهم، ومن أجله يكثر بعوضهم؛ فكره الناس من البيان مثل هذا، انقضى كلام عبد كريم.
والذي أراه أنا أن هذا النوع من البيان غير معيب بأنه نفاق؛ لأنه لم يجعل الباطل حقاً على الحقيقة، ولا الحق باطل، وإن ما وصف محاسن شيء مرة، ثم وصف مساويه مرة أخرى: كما فعل عمرو بن الأهتم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله عن الزبرقان بن بدر، فأثنى خيراً فقال: مانع بحوزته، مطاع في أنديته ويروى في أذينه فلم يرض الزبرقان بذلك، وقال: أما إنه قد علم أكثر مما قال، ولكن حسدني لشرفي وفي روايةٍ أخرى حسدني مكاني منك، يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه عمرو شراً، وقال: أما لئن قال ما قال لقد علمته ضيق الصدر، زمر المروة، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى، ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبت عليه في الأولى، وقد صدقت في الآخرة، ولكن أرضاني فقلت بالرضا، وأسخطني فقلت بالسخط، فقال رسول الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً قال أبو عبيد القاسم بن سلام: وكأن المعنى والله أعلم أنه يبلغ من بيانه أن يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله، ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنه سحر السامعين بذلك.
وقال الجاحظ: العربي يعاف البذاء، ويهجو به غيره، فإذا ابتلى به فخر به، ولكنه لا يفخر به لنفسه من جهة ما هجا به صاحبه.
ودخل أبو العيناء على المتوكل، فقال له: بلغني عنك بذاء، قال: إن يكن البذاء صفة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد زكي الله وذم فقال: " نعم العبد إنه أواب " وقال: " هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم " فذمه حتى قذفه، وأما أن أكون كالعقرب التي تلسع النبي والذمى فقد أعاد الله عبدك من ذلك، وقد قال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً ... ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع وألفما؟
قال الجاحظ: قال ثمامة بن أشرس: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون اللفظ يحيط بمعناك، ويخبر عن مغزاك، ويخرجه من الشركة، ولا يستعين عليه بالكثرة، والذي لا بد منه أن يكون سليماً من التكلف، بعيداً من الصنعة، برياً من التعقيد، غنياً عن التأويل قال الجاحظ: وهذا هو تأويل قول الأصمعي: البليغ من طبق المفصل، وأغناك عن المفسر.
قال أبو عبيدة: البليغ: البلغ، بفتح الباء، وقال غيره: البلغ: الذي يبلغ ما يريد من قول وفعل، والبلغ: الذي لا يبالي ما قال وما قيل فيه، كذلك قال أبو زيد، وحكى ابن دريد كلام بلغ وبليغ، وقال ابن الأعرابي: يقال بلغ وبلغ، ولا شك أن ابن الأعرابي قال: إنما هو في الأهوج الذي لا يبالي حيث وقع من القول.
وقد تكرر في هذا الباب من أقاويل العلماء مالم يخف عني، ولا غفلته، لكن اغتفرت ذلك لاختلاف العبارات، ومدار هذا الباب كله على أن بلاغة وضع الكلام موضعه من طول أو إيجاز، مع حسن العبارة، ومن جيد ما حفظته قول بعضهم:

البلاغة شد الكلام معانيه وإن قصر، وحسن التأليف وإن طال.

باب الإيجاز
الإيجاز عند الرماني على ضربين: مطابق لفظه لمعناه: لا يزيد عليه، ولا ينقص عنه، كقولك: " سل أهل القرية " ، ومنه ما فيه حذف للاستغناء عنه في ذلك الموضع، كقول الله عز وجل: " واسأل القرية " وعبر عن الإيجاز بأن قال: هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف، ونعم ما قال، إلا أن هذا الباب متسع جداً، ولكل نوع منه تسمية سماها أهل هذه الصناعة..
فأما الضرب الأول مما ذكر أبو الحسن فهم يسمونه المساواة. ومن بعض ما أنشدوا في ذلك قول الشاعر:
يا أيها المتحلي غير شيمته ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة، فانظر بمن تثق
فهذا شعر لا يزيد لفظه على معناه، ولا معناه على لفظه شيئاً.. ومثله قول أبى العتاهية ورواه بعضهم للحطيئة، وهذا شرف عظيم لأبي العتاهية إن كان الشعر له، ولا أشك فيه:
الحمد لله إني في جوار فتى ... حامي الحقيقة نفاع وضرار
لا يرفع الطرف إلا عند مكرمة ... من الحياء، ولا يغضي على عار
وأنشد عبد الكريم في اعتدال الوزن:
إنما الذلفاء همي ... فليدعني من يلوم
أحسن الناس جميعاً ... حين تمشي وتقوم
أصل الحبل لترضى ... وهي للحبل صروم
ثم قال: عندهم أنه ليس في هذا الشعر فضلة عن إقامة الوزن، وهذه الأبيات وأشكالها داخلة في باب حسن النظم عند غير عبد الكريم.
والضرب الثاني مما ذكر الرماني وهو قول الله عز وجل " واسأل القرية " يسمونه الاكتفاء، وهو داخل في باب المجاز؛ وفي الشعر القديم والمحدث منه كثير، يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب: من ذلك قول الله عز وجل: " ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى " كأنه قال: لكان هذا القرآن. ومثله قولهم: لو رأيت علياً بين الصفين، أي: لرأيت أمرا عظيماً، وإنما كان هذا معدوداً من أنواع البلاغة لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب، وكل معلوم فهو هين؛ لكونه محصوراً، وقال امرؤ القيس:
فلو أنها نفس تموت سوية ... ولكنها نفس تساقط أنفساً
كأنه قال: لهان الأمر، ولكنها نفس تموت موتات، ونحو هذا، ومن الحذف قول الله عز وجل: " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " أي: فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟. ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم قوله للمهاجرين وقد شكروا عنده الأنصار: " أليس قد عرفتم ذلك لهم؟ " قالوا: بلى، قال: " فإن ذلك " يريد فإن ذلك مكافأة لهم. وروى أبو عبيدة أن سفيان الثوري قال: جاء رجل من قريش إلى عمر بن عبد العزيز يكلمه في حاجة له، فجعل يحث بقرابته، فقال عمر: " فإن ذلك " ثم ذكر حاجته، فقال: " لعل ذلك " ..
وقال الطرماح يوماً للفرزدق: يا أبا فراس، أنت القائل:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
أعز مما ذا وأطول مما ذا؟ وأذن المؤذن، فقال له الفرزدق: يا لكع ألا تسمع ما يقول المؤذن " الله أكبر " أكبر مما ذا أعظم مما ذا؟؟ فانقطع الطرماح انقطاعاً فاضحاً وزعم بعض العلماء أن معنى قول الفرزدق عزيز طويل، ولكنه بناه على أفعل مثل أبيض وأحمر وما شاكلها، فجعله لازماً لما في ذلك من الفخامة في اللفظ والاستظهار في المعنى.
ومن الإيجاز قول الأعرابي في صفة الذئب:
أطلس يخفي شخصه غباره ... في شدقه شفرته وناره
فقوله في الشفرة والنار إيجاز مليح.
وقال آخر في صفة سهم صادر: غادر داء ونجا صحيحاً وقال آخر في صفة ناقة: خرقاء إلا أنها صناع وقال أبو نواس يصف جنين ناقة مخدجاً: ميت النسا حي الشعر وقال ابن المعتز يصف بازياً: مبارك إذا رأى فقد رزق ومن الإيجاز البديع قول الله عز وجل: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، واستوت على الجودي، وقيل: بعداً للقوم الظالمين " وقله تعالى: " خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين " فكل كلمة من هذه الكلمات في مقام كلام كثير، وهي على ماترى من الإحكام والإيجاز، ومثل ذلك قوله تعالى:

" يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو، فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون " وقوله تعالى: " وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها " وقوله: " إن تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس " وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع " وقال: " كفى بالسلامة داء " ومثل هذا كثير في كلامه صلى الله عليه وسلم، ومن أولى منه بالفصاحة وأحق بالإيجاز؟ وقد فقال: " أعطيت جوامع الكلم " فأما قوله عليه الصلاة والسلام: " كفى بالسيف شا " يريد " شاهداً فقد حكاه قوم من أصحاب الكتب: أحدهم عبد الكريم، والذي أرى أن هذا ليس مما ذكروا في شيء؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قطع الكلمة وأمسك عن تمامها لئلا تصير حكماً، ودليل ذلك أنه قال: " لولا أن يتتابع فيه الغيران والسكران " فهذا وجه الكلمة والله أعلم، لا كما قال علقمة بن عبدة:
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم
يريد " بسبائب الكتان " فحذف اضطراراً؛ لأن الوزن لا يستقيم له إلا بعد الحذف، وكذلك قول لبيد: درس المنا بمتالع قأبان يريد " المنازل " فحذف للضرورة أيضاً، و رسول الله صلى الله عليه وسلم غير متكلف ولا مضطر. فأما سائر العرب فالحذف في كلامهم كثير؛ لحب الاستخفاف، وتارة للضرورة، وسيرد عليك في باب الرخص، إن شاء الله تعالى.

باب البيان
قال أبو الحسن الرماني في البيان: هو إحضار المعنى للنفس بسرعة إدراك، وقيل ذلك لئلا يلتبس بالدلالة؛ لأنها إحضار المعنى للنفس وإن كان بإبطاء.
وقال: البيان: الكشف عن المعنى حتى تدركه النفس من غير عقلة، وإنما قيل ذلك لأنه قد يأتي التعقيد في الكلام الذي يدل، ولا يستحق اسم البيان.
قال صاحب الكتاب: وقد مر بي في باب البلاغة قول غيلان بن خرشة في صفة نهر أم عبد الله مادحاً وذاماً، وهو من جيد البيان عندهم، وكذلك قول عمرو بن الأهتم في الزبرقان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً " وقال مثل ذلك للعلاء بن الحصين وقد سأله: هل تروي من الشعر شيئاً؟ فأنشد:
حي ذوى الأضغان تسب عقولهم ... تحيتك الحسنى وقد يرقع النعل
فإن دحسوا بالكره فاعف تكرما ... وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكماً " وروى " لحكمة " .
ومن البيان الموجز الذي لا يقرن به شيء من الكلام قول الله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " وقوله في الإعراب عن صفته: " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد " فبين تعالى أنه واحد لا ثاني معه، وأنه صمد لا جوف له وقيل: الصمد السيد الذي يصمد إليه في الأمور كلها، ولا يعدل عنه، وقيل: العالي المرتفع وأنه غير والد ولا مولود، وأنه لا شبه له ولا مثل وقيل: إن الكفو ههنا الصاحبة تعالى الله وإنما نزلت هذه السورة لما سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: صف لنا ربك وانسبه فقد وصف نفسه في التوراة ونسبها، فأكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: لو سألتموني أن أصف لكم الشمس لم أقدر على ذلك، فبينما هو كذلك إذ هبط عليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد " قل هو الله أحد " السورة.
ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم قوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم " و " المرء كثير بأخيه " فهذا كلام في نهاية البيان والإيجاز.
وقال أبو بكر رضي الله عنه في بعض مقاماته: " وليت أموركم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " فقد بلغ بهذه الألفاظ الموجزة غاية البيان.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض خطبه: " أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه " وروى ذلك المبرد عن العتبي، وذكر الأخفش عن علي بن سليمان هذه الخطبة فقال: الصحيح عندي أنها لأبي بكر..

ومن كلام عمر رضي الله عنه: " كفى بالمرء غياً أن تكون فيه خلة من ثلاث: أن يعيب شيئاً ثم يأتي مثله، أو يبدو له من أخيه ما يخفى عليه من نفسه، أو يؤذي جليسه فيما لا يعنيه " .
وكتب عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب رحمة الله عليهما لما أحيط به " أما بعد فإنه قد جاوز الماء الزبى، وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر بي قدره، وطمع في من لا يدفع عن نفسه.
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق "
البيت الذي قد تضمنته الرسالة من شعر الممزق العبدي، يقوله لعمرو بن هند في قصيدة مشهورة، وبه سمي الممزق، واسمه شاس بن نهار.
وخاطب عثمان علياً يعاتبه وهو مطرق، فقال له: ما بالك لا تقول؟ فقال علي: إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب، قال المبرد: تأويل ذلك: إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي، فلدغك عتابي، وعقدي ألا أفعل وإن كنت عاتباً إلا ما تحب.
وهذا قليل من كثير يستدل به عليه، ولو تقصيت ما وقع من ألفاظ التابعين، وما تقدمت به شعراء الجاهلية والإسلام؛ لأفنيت العمر دون ذلك، وقد استفرغ أبو عثمان الجاحظ وهو علامة وقته الجهد وصنع كتاباً لا يبلغ جودة وفضلاً، ثم ما ادعى إحاطة بهذا الفن لكثرته وأن كلام الناس لا يحيط به إلا الله عز وجل.

باب النظم
قال أبو عثمان الجاحظ: أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً؛ فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان.
وإذا كان الكلام على هذا الأسلوب الذي ذكره الجاحظ لذ سماعه، وخف محتمله، وقرب فهمه، وعذب النطق به، وحلي في فم سامعه، فإذا كان متنافراً متبايناً عسر حفظه، وثقل على اللسان النطق به، ومجته المسامع فلم يستقر فيها منه شيء.
وأنشد الجاحظ قال: أنشدني أبو العاصي قال: أنشدني خلف:
وبعض قريض القوم أبناء علةٍ ... يكد لسان الناطق المتحفظ
وأنشد عنه أبي البيداء الرياحي:
وشعرٍ كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل
واستحسن أن يكون البيت بأسره كأنه لفظة واحدة لخفته وسهولته، واللفظة كأنها حرف واحد، وأنشد قول الثقفي:
من كان ذ عضدٍ يدرك ظلامة ... إن الذليل الذي ليست له عضد
تنبو يداه إذا ما قل ناصره ... ويأنف الضيم إن أثرى له عدد
والناس مختلفو الرأي في مزاوجة الألفاظ: منهم من يجعل الكلمة وأختها، وأكثر ما يقع ذلك في ألفاظ الكتاب، وبه كان يقول البحتري في أكثر أشعاره، من ذلك قوله:
تطيب بمسراها البلاد إذا سرت ... فيفغم رياها ويصفو نسيمها
ففي القسيم الآخر تناسب ظاهر.. وكذلك قوله:
ضاق صدري بما أج ... ن وقلبي بما أجد
وقوله أيضاً في مدح المتوكل:
لقد اصطفى رب السما ... ء له الخلائق والشيم
ومنهم من يقابل لفظتين بلفظتين، ويقع في الكلام حينئذ تفرقة وقلة تكلف: فمن المتناسب قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بعض كلامه " أين من سعى واجتهد، وجمع وعدد، وزخرف ونجد، وبنى وشيد " فأتبع كل لفظة ما يشاكلها، وقرنها بما يشبهها. ومن الفرق المنفصل قول امرئ القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبإ الزق الروي، ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وكان قد ورد على سيف الدولة رجل بغدادي يعرف بالمنتخب، ولا يكاد يسلم منه أحد من القدماء والمحدثين، ولا يذكر شعر بحضرته إلا عابه، وظهر على صاحبه بالحجة الواضحة، فأنشد يوماً هذين البيتين، فقال: قد خالف فيهما وأفسد، لو قال:
كأني لم أركب جواداً، ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبإ الزق الروي للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
لكان قد جمع بين الشيء وشكله؛ فذكر الجواد والكر في بيت، وذكر النساء والخمر في بيت، فالتبس الأمر بين يدي سيف الدولة، وسلموا له ما قال، فقال رجل ممن حضر: ولا كرامة لهذا الرأي، والله أصدق منك حيث يقول:

" إن لا ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " فأتى بالجوع مع العري ولم يأت به مع الظمأ، فسر سيف الدولة، وأجازه بصلة حسنة.
قال صاحب الكتاب: قول امرئ القيس أصوب، ومعناه أعر وأغرب؛ لأن اللذة التي ذكرها إنما هي الصيد، هكذا قال العلماء، ثم حكى عن شبابه وغشيانه النساء: فجمع في البيت معنيين، ولو نظمه على ما قال المعترض لنقص فائدة عظيمة، وفضيلة شريفة تدل على السلطان، وكذلك البيت الثاني: لو نظمه على ما قال لكان ذكر اللذة حشواً لا فائدة فيه؛ لأن الزق لا يسبأ إلا للذة، فإن جعل الفتوة كما جعلناها فيما تقدم الصيد قلنا: في ذكر الزق الروي كفاية ولكن امرأ القيس وصف نفسه بالفتوة والشجاعة بعد أن وصفها بالتملك والرفاهة.
وأما احتجاج الآخر بقول الله عز وجل فليس من هذا في شيء؛ لأنه أجرى الخطاب على مستعمل العادة، وفيه مع ذلك تناسب؛ لأن العادة أن يقال: جائع عريان، ولم يستعمل في هذا الموضع عطشان ولا ظمآن، وقوله تعالى: " تظمأ " و " تضحى " متناسب؛ لأن الضاحي هو الذي لا يستره شيء عن الشمس، والظمأ من شأن من كانت هذه حاله.
وقال الجاحظ: في القرآن معان لا تكاد تفترق، من مثل: الصلاة والزكاة، والخوف والجوع، والجنة والنار، والرغبة والرهبة، والمهاجرين والأنصار، والجن والإنس، والسمع والبصر.
ومن الشعراء من يضع كل لفظة موضعها لا يعدوه؛ فيكون كلامه ظاهراً غير مشكل، وسهلاً غير متكلف، ومنهم من يقدم ويؤخر: إما لضرورة وزن، أو قافية وهو أعذر، وإما ليدل على أنه يعلم تصريف الكلام، ويقدر على تعقيده، وهذا هو العي بعينه، وكذلك استعمال الغرائب والشذوذ التي يقل مثلها في الكلام، فقد عيب على من لا تعلق به التهمة نحو قول الفرزدق:
على حالة لو أن في البحر حاتماً ... على جوده ما جاد بالماء حاتم
فخفض حاتماً على البدل من الهاء التي في " جوده " حتى رأى قوم من العلماء أن الإقواء في هذا الموضع خير من سلامة الإعراب مع الكلفة، وكذلك قوله:
نفلق هاماً لم تنله أكفنا ... بأسيافنا هام الملوك القماقم
أراد: نفلق بأسيافنا هام الملوك القماقم، ثم نبه وقرر فقال: هاماً لم تنله أكفنا، يريد أي قوم لم نملكهم ونقهرهم، وهذا عند الصدور المذكورين بالعلم تكلف وتعمل، لا تعرفه العرب المطبوعون، وكذلك:
إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس تنالها الأوعالا
نصب الأوعال بطالت، ويروي " عزت " . وأكثر شعر أبي الطيب من هذه العلامة، ومما لا بأس به قول الخنساء:
فنعم الفتى في غداة الهياج ... إذا ما الرماح نجيعاً روينا
فقدمت " نجيعاً " على " روينا " مبادرة للخبر بالري من أي شيء هو، وكذلك قول أبي السفاح بكير بن معدان اليربوعي:
نهنهته عنك فلم ينهه ... بالسيف إلا جلدات وجاع
أراد نهنهته عنك بالسيف، أو أراد فلم ينهه إلا جلدات وجاع بالسيف، وكلاهما فيه تقديم وتأخير.
ورأيت من علماء بلدنا من لا يحكم للشاعر بالتقدم، ولا يقضى له بالعلم، إلا أن يكون في شعره التقديم والتأخير، وأنا أستثقل ذلك من جهة ما قدمت، وأكثر ما تجده في أشعار النحويين.
ومن الشعر ما تتقارب حروفه أو تتكرر فتثقل على اللسان، نحو قول ابن بشر:
لم يضرها والحمد لله شيء ... وانثنت نحو عزف نفس ذهول
فإن القسيم الآخر من هذا البيت ثقيل؛ لقرب الحاء من العين، وقرب الزاي من السين.
وقال آخر:
وقبر حرب في مكان قفرٍ ... وليس قرب قبر حرب قبر
فتكررت الألفاظ، وترددت الحروف، حتى صار ألقية يختبر به الناس، ولا يقدر أحد أن ينشده ثلاث مرات إلا عثر لسشانه فيه وغلط.
وقال كعب بن زهير:
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
فجمع بين الضاد والذال والظاء، وهي متقاربة متشاكلة.
ومن حسن النظم أن يكون الكلام غير مثبج، والتثبيج: جنس من المعاظلة ترد في بابها إن شاء الله تعالى.

ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله ولا إلى ما نعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد، ولم أستحن الأول على أن فيه بعداً وتنافراً، إلا أنه إن كان كذلك فهو الذي كرهت من التثبيح.

باب المخترع والبديع
المخترع من الشعر هو: ما لم يسبق إليه قائله، ولا عمل أحد من الشعراء قبله نظيره أو ما يقرب منه، كقول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال
فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه، فلم ينازعه أحد إياه، وقوله:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
وله اختراعات كثيرة يضيق عنها الموضع، وهو أول الناس اختراعاً في الشعر، وأكثرهم توليداً.
ومن الاختراع قول طرفة:
ولولا ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضاذي الطخية المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنةٍ تحت الطراف المعمد
وقوله يصف السفينة في جريها:
يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفائل باليد
وله أيضاً اختراعات أكثرها من هذه القصيدة. وقال نابغة بني ذبيان:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
وقوله أيضاً من الاختراعات:
لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ ... عبد الإله صرورةٍ متعبد
لرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشداً وإن لم يرشد
وما زالت الشعراء تخترع إلى عصرنا هذا وتولد، غير أن ذلك قليل في الوقت والتوليد: أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه، أو يزيد فيه زيادة؛ فلذلك يسمى التوليد، وليس باختراع؛ لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضاً سرقة إذا كان ليس آخذاً على وجهه، مثال ذلك قول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال
فقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة،، وقيل: وضاح اليمن:
فاسقط علينا كسقوط النوى ... ليلة لا ناهٍ ولا زاجر
فولد معنى مليحاً اقتدى فيه بمعنى امرئ القيس دون أن يشركه في شيء من لفظه، أو ينحو نحوه إلا في المحصول، وهو لطف الوصول إلى حاجته في خفية.
وأما الذي فيه زيادة فكقول جرير يصف الخيل:
يخرجن من مستطير النقع داميةً ... كأن آذانها أطراف أقلام
فقال عدي بن الرقاع يصف قرن الغزال:
تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
فولد بعد ذكر القلم إصابته مداد الدواة بما يقتضيه المعنى؛ إذ كان القرن أسود. وقال العماني الراجز بين يدي الرشيد يصف الفرس:
تخال أذنيه إذا تشوفا ... قادمةً أو قلما محرفا
فولد ذكر التحريف في القلم، وهو زيادة صفة.
ومن التوليد قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان:
لكل قبيلة ثبج وصلب ... وأنت الرأس أول كل هاد
فقال نصيب لمولاه عمر بن عبد العزيز:
فأنت رأس قريش وابن سيدها ... والرأس فيه يكون السمع والبصر
فولد هذا الشرح وإن كان مجملاً في قول أمية بن أبي الصلت... ثم أتى علي بن جبلة فقال يمدح حميد بن الحميد:
فالناس جسم، وإمام الهدى ... رأس، وأنت العين في الرأس
فأوقع ذكر العين على مشبه معين، ولم يفعل نصيب كذلك، لكن أتى بالسمع والبصر على جهة التعظيم؛ لأن من ولد عمر ولي عهد، ففي قول علي بن جبلة زيادة.. وجاء ابن الرومي فقال:
عين الأمير هي الوزي ... ر، وأنت ناظرها البصير
فرتب أيضاً ترتيباً فيه زيادة، فهذا مجرى القول في التوليد.
وأكثر المولدين اختراعاً وتوليداً فيما يقول الحذاق أبو تمام، وابن الرومي.

والفرق بين الاختراع والإبداع وإن كان معناهما في العربية واحداً أن الاختراع: خلق المعاني التي لم يسبق إليها، والإتيان بما لم يكن منها قط، والإبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستظرف، والذي لم تجر العادة بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع وإن كثر وتكرر، فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ؛ فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع فقد استولى على الأمد، وحاز قصب السبق.
واشتقاق الاختراع من التليين يقال: " بيت خرع " إذا كان ليناً، والخروع فعول منه، فكأن الشاعر سهل طريقة هذا المعنى ولينه حتى أبرزه.
وأما البديع فهو الجديد، وأصله في الحبال، وذلك أن يفتل جديداً ليس من قوى حبل نقضت ثم فتلت فتلاً آخر. وأنشدوا للشماخ بن ضرار:
أطار عقيقه عنه نسالا ... وأدمج دمج ذي شطر بديع
والبديع ضروب كثيرة، وأنواع مختلفة، أنا أذكر منها ما وسعته القدرة وساعدت فيه الفكرة، إن شاء الله تعالى، على أن ابن المعتز وهو من جمع البديع، وألف فيه كتاباً لم يعده إلا خمسة أبواب: الاستعارة أولها، ثم التجنيس، ثم المطابقة، ثم رد الأعجاز على الصدور، ثم المذهب الكلامي، وعد ما سوى هذه الخمسة أنواع محاسن، وأباح أن يسميها من شاء ذلك بديعاً، وخالفه من بعده في أشياء منها يقع التنبيه عليها والاختيار فيها حيثما وقعت من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.

باب المجاز
العرب كثيراً ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها؛ فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات.
ومعنى المجاز طريق القول ومأخذه، وهو مصدر جزت مجازاً كما تقول " قمت مقاماً " ، وقلت مقالاً " حكى ذلك الحاتمي، ومن كلام عبد الله بن مسلم بن قتيبة في المجاز قال: لو كان المجاز كذباً لكان أكثر كلامنا باطلاً؛ لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السعر، ونقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا، والفعل لم يكن وإنما يكون، وتقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شيء، وقال في قول الله عز وجل: " فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه " لو قلنا لمنكر هذا كيف تقول في جدار رأيته على شفا انهيار؟ لم يجد بداً من أن يقول: يهم أن ينقض، أو يكاد، أو يقارب، فإن فعل فقد جعله فاعلاً، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من ألسنة العجم إلا بمثل هذه الألفاظ.
والمجاز في كثير من الكلام أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعاً في القلوب والأسماع، وما عدا الحقائق من جميع الألفاظ ثم لم يكن محالاً محضاً فهو مجاز؛ لاحتماله وجوه التأويل، فصار التشبيه والاستعارة وغيرهما من محاسن الكلام داخلة تحت المجاز، إلا أنهم خصوا به أعني اسم المجاز باباً بعينه؛ وذلك أن يسمى الشيء باسم ما قاربه أو كان منه سبب، كما قال جرير ابن عطية:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
أراد المطر لقربه من السماء، ويجوز أن تريد بالسماء السحاب؛ لأن كل ما أظلك فهو سماء، وقال " سقط " يريد سقوط المطر الذي فيه، وقال " رعيناه " والمطر لا يرعى، ولكن أراد النبت الذي يكون عنه؛ فهذا كله مجاز، وكذلك قول العتابي:
يا ليلة لي بجوارين ساهرةً ... حتى تكلم في الصبح العصافير
فجعل الليلة ساهرة على المجاز، وإنما يسهر فيها، وجعل للعصافير كلاماً، ولا كلام لها على الحقيقة. ومثله قول الله عز وجل إخباراً عن سليمان صلى الله على سيدنا محمد وعليه: " يا أيها الناس علمنا منطق الطير " وإنما الحيوان الناطق الإنس والجن والملائكة، فأما الطير فلا، ولكنه مجاز مليح واتساع، وهذا أكثر من أن يحصره أحد، ومثله في كتاب الله عز وجل كثير، من ذلك قوله تعالى: " واسأل القرية " ومثله " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " يعني حبه، ومنه: " فتبارك الله أحسن الخالقين " وهو الخالق حقاً وغيره خالق مجازاً، وقوله: والله خير الماكرين وإنما سمي ذلك مكراً لكونه مجازاة عن مكر، وكذلك قوله: " فبشرهم بعذاب أليم " والعذاب لا يبشر به، وإنما هو أنه مكان البشارة.
ومن أناشيد هذا الباب قول الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
وقال يعقوب بن السكيت: العرب تقول:

بأرض بني فلان شجر قد صاح؛ إذا طال، وأنشدوا للعجاج: كالكرم إذ نادى من الكافور قال ابن قتيبة: لما تبين الشجر بطوله ودل على نفسه جعله كأنه صائح؛ لأن الصائح يدل على نفسه بصوته. وأنشد غيره قول سويد بن كراع في نحو هذا:
رعى غير مذعور بهن، وراقه ... لعاع تهاداه الدكادك واعد
يقال: نبات واعد، إذا أقبل كأنه قد وعد بالتمام، وكذلك إذا نور أيضاً قيل: قد وعد. ومن المجاز عندهم قول الشاعر وغيره: فعلت ذاك والزمان غر، والزمان غلام، وما أشبه ذلك، وهو يريد نفسه ليس الزمان، ولا أرى ذلك مستقيماً بل عندي الصواب ونفس الاستعارة أن يبقى الكلام على ظاهره مجازاً؛ لأنا نجد في هذا النوع ما لا ينساغ فيه التأويل، كقول بعضهم:
سألتني عن أناس هلكوا ... شرب الدهر عليهم وأكل
فليس معناه شربت وأكلت عليهم؛ لأنه إنما يعني بعد العهد لا السلو وقلة الوفاء. وقال أبو الطيب:
أفنت مودتها الليالي بعدنا ... ومشى عليها الدهر وهو مقيد
فإنما أراد الدهر حقيقة. وقال الصنوبري:
كان عيشي بهم أنيقاً فولى ... وزماني فيهم غلاماً فشاخا
فليس مراده كنت فيهم غلاماً فشخت، ولكل موضع ما يليق به من الكلام ويصح فيه من المعنى.
وأما كون التشبيه داخلاً تحت المجاز فلأن المتشابهين في أكثر الأشياء إنما يتشابهان بالمقاربة على المسامحة والإصلاح، لا على الحقيقة، وهذا يبين في بابه إن شاء الله تعالى.
وكذلك الكناية في مثل قوله عز وجل إخبارا عن عيسى ومريم عليهما السلام: " كانا يأكلان الطعام " كناية عما يكون عنه من حاجة الإنسان، وقوله تعالى حكاية عن آدم وحواء صلى الله عليهما: " فلما تغشاها " كناية عن الجماع، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " العين وكاء السه " وقوله لحادٍ كان يحدو به " إياك والقوارير " كناية عن النساء لضعف عزائمهن، إلى أكثر من هذا.

باب الاستعارة
الاستعارة أفضل المجاز، وأول أبواب البديع، وليس في حلي الشعر أعجب منها، وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها، ونزلت موضعها، والناس مختلفون فيها: منهم من يستعير للشيء ما ليس منه ولا إليه، كقول لبيد:
وغداة ريح قد وزعت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فاستعار للفجر ملاءة، وأخرج لفظة مخرج التشبيه.. وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى أن لأحد مثل هذه العبارة، ويقول: ألا ترى كيف صير له ملاءة، ولا ملاءة له، إنما استعار له هذه اللفظة؟ وبعض المتعقبين يرى ما كان من نوع بيت ذي الرمة ناقص الاستعارة؛ إذ كان محمولاً على التشبيه، ويفضل عليه ما كان من نوع بيت لبيد، وهذا عندي خطأ؛ لأنهم إنما يستحسنون الاستعارة القريبة، وعلى ذلك مضى جلة العلماء، وبه أتت النصوص عنهم، وإذا استعير للشيء ما يقرب منه ويليق به كان أولى مما ليس منه في شيء، ولو كان البعيد أحسن استعارة من القريب لما استهجنوا قول أبي نواس:
بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح
فأي شيء أبعد استعارة من صوت المال؟ فكيف حتى بح من الشكوى والصياح مع ما أن له صوتاً حين يوزن أو يوضع؟ ولم يرده أبو نواس فيما أقدر؛ لأن معناه لا يتركب على لفظه إلا بعيداً، وكذلك قول بشار:
وجدت رقاب الوصل أسياف هجرها ... وقدت لرجل البين نعلين من خدي
فما أهجن " رجل البين " وأقبح استعارتها!! ولو كانت الفصاحة بأسرها فيها، وكذلك " رقاب الوصل: ولا مثل قول ابن المعتز وهو أنقد النقاد:
كل وقت يبول زب السحاب
فهذا أردأ من كل رديء، وأمقت من كل مقيت.
قال القاضي الجرجاني: الاستعارة ما اكتفى فيها بالاسم المستعار عن الأصلي، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها بقرب التشبيه، ومناسبة المستعار للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر.
وقال قوم آخرون منهم أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع: خير الاستعارة ما بعد، وعلم في أول وهلة أنه مستعار، فلم يدخله لبس، وعاب على أبي الطيب قوله:
وقد مدت الخيل العتاق عيونها ... إلى وقت تبديل الركاب من النعل
إذ كانت الخيل لها عيون في الحقيقة، ورجح عليه قول أبي تمام:

ساس الأمور سياسة ابن تجارب ... رمقته عين الملك وهو جنين
إذ كان الملك لا عين له في الحقيقة.
وقال أبو الفتح عثمان بن جني: الاستعارة لا تكون إلا للمبالغة، وإلا فهي حقيقة، قاله في شرح بيت أبي الطيب:
فتىً يملأ الأفعال رأياً وحكمةً ... وبادرةً أحيان يرضى ويغضب
وكلام ابن جني أيضاً حسن في موضعه؛ لأن الشيء إذا أعطى وصف نفسه لم يسم استعارة، فإذا أعطى وصف غيره سمي استعارة، إلا أنه لا يجب للشاعر أن يبعد الاستعارة جداً حتى ينافر، ولا يقربها كثيراً حتى يحقق، ولكن خير الأمور أوساطها.. قال كثير يمدح عمر بن عبد العزيز واستعار حتى حقق:
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها ... وأبدت لك الدنيا بكف ومعصم
وترمق أحياناً بعينٍ مريضةٍ ... وتبسم عن مثل الجمان المنظم
وحسبك أنه وصف العين التي استعار بالمرض، وشبه المبسم بالجمان، وهذا إفراط غير جيد ههنا.
قال أبو الحسن الرماني: الاستعارة استعمال العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة، وذكر قول الحجاج " إني أرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها " .
وقد يأتي القدماء من الاستعارات بأشياء يتجنبها المحدثون، ويستهجنونها، ويعافون أمثالها ظرفاً ولطافة، وإن لم تكن فاسدة ولا مستحيلة؛ فمنها قول امرئ القيس:
وهر تصيد قلوب الرجال ... وأفلت منها ابن عمرو حجر
فكان لفظة هر استعارة الصيد معها مضحكة هجينة، ولو أن أباه حجراً من فارات بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف، وأين هذه الاستعارة من استعارة زهير حين قال يمدح:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
لا على أن امرأ القيس أتى بالخطأ على جبهته، ولكن للكلام قرائن تحسنه، وقرائن تقبحه، كذكر الصيد في هذين البيتين.
ولعل معترضاً يقول: العرب لا تعرف إلا الحقائق، ولا تلتفت إلى كلام السفلة، فقد قدمت هذا في أول كلامي، وعرفت أنه لا يلزم، ولكن يرغب عنه في الواجب، ألا ترى أن بعض الوزراء وقيل: بل هو المأمون غير المسلحة واستهجنها لما فيها فقال: قولوا المصلحة، وليس ذلك لعلة إلا موافقة كلام السفلة.
وقال الرماني: الاستعارة الحسنة ما أوجب بلاغة، ببيان لا تنوب منابه الحقيقة، كقول امرئ القيس: قيد الأوابد واسترذل قول بعض المولدين: اسفري لي النقاب يا ضرة الشمس بأن قال: أتراه ظن أن الضرة لا تكون إلا حسنة؟! وإلا فأي وجه لاختياره هذه الاستعارة.
ومثل قول امرئ القيس المتقدم ذكره في القبح قول مسلم بن الوليد:
وليلةٍ خلست للعين من سنةٍ ... هتكت فيها الصبا عن بيضة الحجل
فاستعار للحجل يعني الكلل بيضة، كما استعارها امرؤ القيس للخدر في قوله: وبيضة خدر لا يرام خباؤها وكلاهما يعني المرأة، فاتفق لمسلم سوء الاشتراك في اللفظ؛ لأن بيضة الحجل من الطير تشاركها، وهي لعمري حسنة المنظر كما عرفت.. وقال في موضع آخر:
رمت السلو وناجاني الضمير به ... فاستعطفتني على بيضاتها الحجل
فما الذي أعجبه من هذه الاستعارة قبحها الله!!؟ ولو قال " الكلل " لتخلص وأبدع فكان تبعاً لامرئ القيس في جودة هذه الاستعارة..
وقال حبيب على بصره بهذا النوع: والله مفتاح باب المعقل الأشب فجعل الله تعالى اسمه مفتاحاً، وأي طائل في هذه الاستعارة مع ما فيها من البشاعة والشناعة!!؟ وإن كنا نعلم أنما أراد أمر الله وقضاءه.
واعترض بعض الناس على قول أبي تمام:
وللجود باب في الأنام ولم تزل ... مذ كنت مفتاحاً لذاك الباب
بحضرة بعض أصحابنا، وقال: أتى إلى ممدوحه فجعله مفتاحاً، فهلا قال كما قال ابن الرومي:
قبل أنامله فلسن أناملا ... لكنهن مفاتح الأرزاق
فقال له الآخر: عجبت منك تعيب أن يجعل ممدوحه مفتاحاً وقد جعل ربه كذلك، وأنشد البيت المتقدم عجزه.
وقال في ممدوح ذكر أنه يعطيه مرة ويشفع له أخرى إلى أن يعطيه:
فإذا ما أردت كنت رشاء ... وإذا ما أردت كنت قليبا
فجعله مرة حبلاً ومرة بئراً.. وقال الآخر هو أبو تمام:
ضاحي المحيا للهجير وللقنا ... تحت العجاج تخاله محراثا

فلعنة الله على المحراث ههنا، ما أقبحه وأركه!!! وأين هذا كله من قوله المليح البديع:
أو ما رأت بردى من نسج الصبا ... ورأت خضاب الله وهو خضابي
وإن كان إنما أخذه من قول الله عز وجل: " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة " قالوا: يريد الختان، وقيل: الفطرة.
والاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتداراً ودالة، ليس ضرورة؛ لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فإنما استعاروا مجازاً واتساعاً. ألا ترى أن للشيء عندهم أسماء كثيرة وهو يستعيرون له مع ذلك؟ على أنا نجد أيضا اللفظة الواحدة يعبر بها عن معان كثيرة، نحو " العين " التي تكون جارحة، وتكون الماء، وتكون الميزان، وتكون المطر الدائم الغزير، وتكون نفس الشيء وذاته، وتكون الدينار، وما أشبه ذلك كثير، وليس هذا من ضيق اللفظ عليهم، ولكنه مع الرغبة في الاختصار، والثقة بفهم بعضهم عن بعض. ألا ترى أن كل واحد من هذه التي ذكرنا له اسم غير العين أو أسماء كثيرة؟ ومما اختاره ابن الأعرابي وغيره قول أرطاة بن سهية:
فقلت لها يا أم بيضاء إنني ... هريق شبابي واستشن أديمي
فقال هريق شبابي لما في الشباب من الرونق والطراوة التي هي كالماء، ثم قال استشن أديمي لأن الشن هو القربة اليابسة؛ فكأن أديمه صار شناً لما هريق ماء شبابه؛ فصحت له الاستعارة من كل وجه ولم تبعد.
ومثل ذلك في الجودة ما اختاره ثعلب وفضله جماعة مما قبله، وهو قول طفيل الغنوي:
فوضعت رحلي فوق ناجية ... يقتات شحم سنامها الرحل
فجعل شحم سنامها قوتاً للرحل، وهذه استعارة كما تراها كأنها الحقيقة لتمكنها وقربها، وقد تناولها جماعة منهم كلثوم بن عمرو العتابي: قال في قصيدة يعتذر فيها إلى الرشيد:
ومن فوق أكوار المهاري لبانة ... أحل لها أكل الذرى والغوارب
ثم أتى أبو تمام وعول على العتابي وزاد المعنى زيادة لطيفة بينة فقال:
وقد أكلوا منها الغوارب بالسرى ... فصاحت لها أشباحهم كالغوارب
وكان ابن المعتز يفضل ذا الرمة كثيراً، ويقدمه بحسن الاستعارة والتشبيه، لا سيما بقوله:
فلما رأيت الليل والشمس حية ... حياة الذي يقضي حشاشه نازع
لأن قوله والشمس حية من بديع الكلام والاستعارة، وباقي البيت من عجيب التشبيه. واختار الحاتمي في باب الاستعارة في وصف سحائب وأظنه لابن ميادة، واسمه الرماح بن أبرد من بني مرة، وميادة أمه:
إذا ما هبطنا القاع قد مات بقله ... بكينا به حتى يعيش هشيم
ورواه قوم لأبي كبير، وابن ميادة أولى به وأشبه.
والاستعارة كثيرة في كتاب الله عز وجل وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم: من ذلك قوله تعالى: " لما طغى الماء " وقوله: " فلما سكت عن موسى الغضب " وقوله: " وسمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ " ، فالشهيق والغيظ استعارتان، وقوله تعالى: " يا أرض ابلغي ماءك " وكثير من هذا لو تقصى لطال جداً. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الدنيا حلوة خضرة " وقوله لحالب حلب ناقة: " دع داعي اللبن " يعني بقية من اللبن في الحلب، وقوله: " تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة " . قال أبو عبيد: يريد أنها منها خلقهم، ومنها معادهم وهي بعد الموت: كفاتهم وقوله: " رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي " فغسل الحوبة استعارة مليحة.
ومن أناشيد هذا الباب وهو فيما زعم ابن وكيع استعارة وقعت قول امرئ القيس يصف الليل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فاستعار لليل سدولاً يرخيها، وهو الستور، وصلباً يتمطى به، وأعجازاً يردفها، وكلكلاً ينوء به، وقال حسان بن ثابت يذكر قتلة عثمان رحمة الله عليه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
فالاستعارة قوله عنوان السجود به وقد أخذه من قول الله تعالى: " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " وقال جميل العذري:
أكلما بان حي لا تلائمهم ... ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا
علقتني بهوى منهم، فقد جعلت ... من الفراق حصاة القلب تنصدع

البديع " حصاة القلب " . ومن كلام المولدين قول أبي التواس:
بصحن خد لم يغض ماؤه ... ولم تخضعه أعين الناس
البديع كل البديع عجز البيت. وقال أيضاً:
فإذا بدا اقتادت محاسنه ... قسراً إليه أعنة الحدق
البديع " أعنة الحدق " وقوله: " اقتادت " . وقال أبو الطيب:
ضممت جناحيهم على القلب ضمة ... تموت الخوافي تحتها والقوادم
أراد بالجناحين ميمنة العسكر وميسرته، وبالقلب موضع الملك، والخوافي والقوادم السيوف والرماح، وهذا تصنيع بديع، كله حسن الاستعارات.. وقال:
صدمتهم بخميس أنت غرته ... وسمهريته في وجهه شمم
وهذا كالأول جودة.. وقال السري والموصلي:
يشق جيوب الورد في شجراته ... نسيم متى ينظر إلى الماء يبرد
فالبديع قوله: " متى ينظر " .

باب التمثيل
ومن ضروب الاستعارة التمثيل، وهو الممائلة عند بعضهم، وذلك أن تمثل شيئاً بشيء فيه إشارة، نحو قول امرؤ القيس وهو أول من ابتكره، ولم يأت أملح منه:
وما ذرفت عيناك إلا لتقذحي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
فمثل عينيها بسهمي الميسر يعني المعلى، وله سبعة أنصباء، والرقيب، وله ثلاثة أنصباء فصار جميع أعشار قلبه للسهمين الذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور؛ فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل.
وقال حريث بن زيد الخيل:
أبانا بقتلانا من القوم عصبة ... كراماً، ولم نأكل بهم حشف النخل
فمثل خساس الناس بحشف النخل، ويجوز أن يريد أخذ الدية فيكون حينئذ حذقاً أو إشارة.. وقال الأخطل لنابغة بني جعدة:
لقد جاز أبو ليلى بقحم ... ومنتكث عن التقريب وان
إذا هبط الخبار كبا لفيه ... وخر على الجحافل والجران
وإنما عيره بالكبر، وإنما هو شاب حديث السن.. وقال بعض الرواة: إنما تهاجيا في مسابقة فرسين، وهو غلط عند الحذاق.
ومن التمثيل أيضاً قوله:
فنحن أخ لم تلق في الناس مثلنا ... أخاً حين شاب الدهر وابيض حاجبه
ومعنى التمثيل اختصار قولك مثل كذا وكذا كذا وكذا...
وقال أبو خراش في قصيدة رثى بها زهير بن عجردة، وقد قتله جميل بن معمر يوم حنين مأسوراً:
فليس كعهد الدار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
يقول: نحن من عهد الإسلام في مثل السلاسل، وإلا فكنا نقتل قاتله، وهو من قول الله عز وجل في بني إسرائيل " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " يريد بذلك الفرائض المانعة لهم من أشياء رخص فيها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى نحو ذلك ذهب عمرو بن معدي كرب حين خفقه عمر رضي الله عنه بالدرة، فقال له: الحمى أضرعتني لك، يعني الدين، وإن كان مثل قديماً إنما هو الحمى أضرعتني للنوم.
ومن جيد التمثيل قول ضباعة بنت قرط ترثي زوجها هشام بن المغيرة المخزومي:
إن أبا عثمان لم أنسه ... وإن صمتاً عن بكاه لحوب
تفاقدوا من معشر! ما لهم ... أي ذنوب صوبوا في القليب؟
ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في التمثيل قوله: " الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة " وقوله: " ظهر المؤمن مشجبه، وخزانته بطنه، وراحلته رجله، وذخيرته ربه " وقوله: " المؤمن في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، ونعم الصهر القبر " .
ومن مليح أناشيد التمثيل قول ابن مقبل:
إني أقيد بالمأثور راحلتي ... ولا أبالي وإن كنا على سفر
فقوله أقيد بالمأثور تمثيل بديع، والمأثور هو السيف الذي فيه أثر، وهو الفرند، وقوله ولا أبالي حشو مليح، أفاد مبالغة عجيبة، وقوله إن كنا على سفر زيادة في المبالغة، وهذا النوع يسمى إيغالاً، وبعضهم يسميه التبليغ، وهو يرد في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ومما اختاره عبد الكريم وقدمه قول ابن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان!!؟
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني

يعني الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وكانت نهاية في الحسن والكمال، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وكان غاية في القبح والدمامة. فمثل بينهما وبين سمييهما، ولم يرد إلا بعد ما بينهما وتفاوته خاصة، لا أن سهيلاً اليماني قبيح ولا دميم، ولا أدري هل هذا الرأي موافق لرأي عبد الكريم أم لا؟ وحسبك أن الشاعر لم ينكر إلا التقاءهما.
وقال أبو الطيب وذكر نزاراً:
فأقرحت المقاود ذفرييها ... وصعر خدها هذا العذار
ووصف رمحاً فقال، وهو مليح متمكن جداً:
يغادر كل ملتفت إليه ... ولبته لثعلبه وجار
وقال يخاطب سيف الدولة:
بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار
بها من قطعها ألم ونقص ... وفيها من جلالتها افتخار
والتمثيل والاستعارة من التشبيه، إلا أنهما بغير أداته، وعلى غير أسلوبه، والمثل المضروب في الشعر نحو قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
راجع إلى ما ذكرته؛ لأن معناه ستبدي لك الأيام كما أبدت لغيرك ويأتيك بالأخبار من لم تزود كما جرت عادة الزمان.. وتسمية المثل دالة على ما قلته؛ لأن المثل والمثل والشبيه والنظير، وقيل: إنما سمي مثلاً لأنه مائل لخاطر الإنسان أبداً، يتأسى به، ويعظ ويأمر ويزجر، والماثل: الشاخص المنتصب، من قولهم " طلل ماثل " أي: شاخص، فإذا قيل " رسم مائل " فهو الدارس، والماثل من الأضداد.. وقال مجاهد في قول الله عز وجل " وقد خلت من قبلهم المثلات " : هي الأمثال. وقال قتادة: هي العقوبات. وقال قوم: إنما معنى المثل المثال الذي يحذى عليه، كأنه جعله مقياساً لغيره، وهو راجع إلى ما قدمت. وقال بعضهم: في المثل ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وقد يكون المثل بمعنى الصفة، من ذلك قول الله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي: صفة الجنة، وقوله: " وله المثل الأعلى في السموات والأرض " أي: الصفة العليا، وهي قولنا " لا إله إلا الله " وقوله تعالى: " ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه " أي: صفتهم.

باب المثل السائر
المثل السائر في كلام العرب كثير نظماً ونثراً، وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه، وقولهم " مثل شرود وشارد " أي سائر لا يرد كالجمل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد. وزعم قوم أن الشرود ما لم يكن له نظير كالشاذ والنادر، فأما قول أبي تمام وكان إمام الصنعة ورئيسها:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
حين عيب عليه قوله في ابن المعتصم:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
فإنه يشهد للقول الأول؛ لأن المثل بعمرو وحاتم مضروب قديماً، وليس بمثل لا نظير له كما زعم الآخر.
وقد تأتي الأمثال الطوال محكمة إذا تولاها الفصحاء من الناس، فأما ما كان منها في القرآن فقد ضمن الإعجاز، قال الله عز وجل: " كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت " وقال: " ومثله كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث " وقال: " كمثل الحمار يحمل أسفاراً " فهذه أمثال قصار.. وقال: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " ومن الأمثال الطوال قوله تعالى: " ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط " الآية " وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون " الآية " ومريم ابنة عمران " الآية، وقال: " فمثله كمثل صفوانٍ عليه تراب " الآية، وقال: " والذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " الآية، ثم قال: " أو كظلمات في بحر لجى " الآية.. ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الأمثال قوله: " كل الصيد في جوف الفرا " قاله لأبي سفيان بن حرب حين أسلم، وقوله: " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تميلها الريح مرة هكذا ومرة هكذا، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية على الأرض حتى يكون انجعافها مرة " وقوله حين ذكر الدنيا وزينتها فقال: " وإن مما تنبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم " وقوله: " وإياكم وخضر الدمن " قيل: وما خضراء الدمن؟ قال:

" المرأة الحسناء في المنبت السوء " والأناشيد في هذا الباب كثيرة: فمنها ما فيه مثل واحد، ومنها ما فيه مثلان، ومنها ما فيه ثلاثة أمثال، ومنها ما فيه أربعة أمثال، وهو قليل جداً، وكل نوع من هذه الأنواع فيه احتياج واستغناء.
والمثل إنما وزن في الشعر ليكود أشرد له، وأخف للنطق به، فمتى لم يتزن كان الإتيان به قريباً من تركه.. وقد حكى الحاتمي أشياء لا أدري كيف وجهها، وزعم أن حماداً الراوية سئل: بأي شيء فضل النابغة؟ فقال: إن النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت به، مثل قوله:
حلفت فلم أتلاك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله ليس وراء الله للمرء مذهب بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله أي الرجال المهذب؟ ولا أعرف كيف يحمل حماد هذا ربع بيت وفيه زيادة سببين وهما أربعة أحرف؟ إلا أن يريد التقريب، فهذا من الاحتياج الذي ذكرته؛ لأنه لا يتمثل به على أنه شعر إلا احتاج إلى ما قبله واستغنى ما قبله عنه، ألا ترى أنه لو قال ولست بمستبق أخاً لا تلمه أنه يكون مثلاً كافياً، ثم لا يتعلق قوله على شعث بشيء من المثل الثاني وإن بقي موزوناً، فإذا رده على الصدر تعلق به وبقي المثل الثاني مكسوراً.
ومثله قول القطامي، واسمه عمير بن شييم التغلبي:
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل
فقوله ولأم المخطئ الهبل مثل، إلا أنه غير موزون حتى يتصل بقوله ما يشتهي وذلك من تمام المثل الأول الذي في صدر البيت، وهذا كله احتياج ومما لا احتياج فيه قول امرئ القيس:
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
ففي كل قسيم من هذين مثل قائم بنفسه، غير محتاج إلى صاحبه..
وكذلك قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقال عبيد بن الأبرص الأسدي:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
ومما فيه مثل واحد قول عنترة العبسي:
نبئت عمراً غير شاكر نعمتي ... والكفر مخبثة لنفس المنعم
فجاء بالمثل غير محتاج إلى ما قبله.. وقال أبو ذؤيب:
تركوا هوي وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا، ولكل جنب مصرع
فإن بدأت بالقسيم الثاني كان مثلاً سائراً، وإن أسقطت جزأ منه بقي المثل سائراً غير موزون، إلا أن يكون في المرفوع من الأمثال مصمت يأتي في البيت بأسره كقول الأول:
وإنك لن ترى طرداً لحر ... كإلصاق به طرف الهوان
وقول أبي نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
ومما فيه ثلاثة أمثال قول زهير:
وفي الحلم إذعان، وفي العفو دربة، ... وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق
فأتى بكل مثل في ربع بيت، ثم جعل الربع الآخر زيادة في شرح معنى ما قبله. وكذلك قول النابغة الذبياني:
الرفق يمن، والأناة سلامة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا
فجاء بثلاثة أمثال إلا أنها مداخلة لم تسلم سلامة ما قبلها من كلام زهير.
وقال ابن عبد القدوس:
كل آت لا بد آت، وذو الجه ... ل معنى، والغم والحزن فضل
فأتى بثلاثة أمثال مداخلة الوزن أيضاً، وكان قول ضابئ بن الحارث:
وفي الشك تفريط، وفي الحزم قوة، ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب
أحسن تعديلاً في القسمة؛ لأن شطره الأول مشتمل على مثلين، وشطره الثاني مشتمل على مثل قائم بنفسه. وقال عبد الله بن المعتز:
والعيش هر، والموت مر ... مستكره، والمنى ضلال
والحرص ذل، والبخل فقد ... وآفة النائل المطال
ففي البيت الأول ثلاثة أمثال في أحدها احتياج، وفي البيت الثاني ثلاثة أمثال لا احتاج فيها على حذو ما أتى به ضابئ، ولم أر بيتاً فيه أربعة أمثال كل واحد منها قائم بنفسه إلا قليلاً، أنشد الأصمعي:
فالهم فضل، وطول العيش منقطع، ... والرزق آتٍ، وروح الله منتظر
وقال أبو الطيب وحكم عليه الوزن أيضاً:
والمرء يأمل، والحياة شهية، ... والشيب أوقر، والشبيبة أنزق
فأتى بمثلين في كل قسيم، وصنعت أنا:

كل إلى أجلٍ، والدهر ذو دول ... والحرص مخيبة، والرزق مقسوم
وأقل من ذلك ما كان فيه خمسة أمثال، ولا أعرف منه في حفظي إلا بيتاً واحداً للقزاز السناط في بسط قصيدة مدح بها الأمير تميم بن المعز معد، وهو قوله:
خاطر تفد، وارتد تجد، واكرم تسد ... وانقد تقد، واصغر تعد الأكبرا
وأما ما فيه ستة فإني صنعت:
خذ العفو، وأب الضيم، واجتنب الأذى ... وأغض تسد، وارفق تنل، واسخ تحمد
ومن الأمثال أيضاً كلمات سارت على وجه الدهر: كقولهم " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " يضرب مثلاً للذي رؤيته دون السماع به، وفي كل ما جرى هذا المجرى، وكذلك قولهم: " على أهلها جنت براقش " يضرب مثلاً للرجل يهلك قومه بسببه. وأما قولهم في تفسير ما يقع في الشعر من جنس قول الحطيئة: شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا هو مثل؛ فإنما ذلك مجاز، أرادوا التمثيل.
وهذه الأشياء في الشعر إنما هي نبذ تستحسن، ونكت تستظرف، مع القلة، وفي الندرة، فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة، فلا يجب للشعر أن يكون مثلاً كله وحكمة كشعر صالح بن عبد القدوس؛ فقد قعد به عن أصحابه وهو يقدمهم في الصناعة لإكثاره من ذلك، وما نص عليه العلماء في كتبهم، وكذلك لا يجب أن يكون استعارة وبديعاً كشعر أبي تمام؛ فقد رأيت ما صنع به ابن المعتز، وكيف قال فيه ابن قتيبة، وما ألف عليه المتعقبون كالجرجاني وأبي القاسم بن بشر الآمدي وغيرهما، وإنما هرب الحذاق عن هذه الأشياء؛ لما تدعو إليه من التكلف لا سيما إن كان في الطبع أيسر شيء من الضعف والتخلف. وأشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه؛ لما يحتاج إليه من شاهد العقل واقتضاء العيان. ولا ينبغي للشعر أن يكون أيضاً خالياً مغسولاً من هذه الحلي فارغاً ككثير من شعر أشجع وأشباهه من هؤلاء المطبوعين جملة، مع أنه لا بد لكل شاعر من طريقة تغلب عليه فينقاد إليها طبعه، ويسهل عليه تناولها: كأبي نواس في الخمر، وأبي تمام في التصنيع، والبحتري في الطيف، وابن المعتز في التشبيه، وديك الجن في المراثي، والصنوبري في ذكر النور والطير، وأبي الطيب في الأمثال وذم الزمان وأهله. وأما ابن الرومي فأولى الناس باسم شاعر؛ لكثرة اختراعه، وحسن افتتانه، وقد غلب عليه الهجاء حتى شهر به؛ فصار يقال: أهجى من ابن الرومي، ومن أكثر من شيء عرف به، وليس هجاء ابن الرومي بأجود من مدحه ولا أكثر. ولكن قليل الشر كثير.

باب التشبيه
التشبيه: صفة الشيء بما قاربه وشاكله، ومن جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته؛ لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه، ألا ترى أن قولهم " خذ كالورد " إنما أرادوا حمرة أوراق الورد وطراوتها، لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه، وكذلك قولهم " فلان كالبحر، أو كالليث " إنما يريدون كالبحر سماحة وعلماً، وكالليث شجاعة وقرما، وليس يريدون ملوحة البحر وزعوقته، ولا شتامة الليث وزهوقته؛ فوقوع التشبيه إنما هو أبداً على الأعراض لا على الجواهر؛ لأن الجواهر في الأصل كلها واحد، اختلفت أنواعها أو اتفقت؛ فقد يشبهون الشيء بسميه ونظيره من غير جنسه، كقولهم " عين كعين المهاة، وجيد كجيد الريم " فاسم العين واقع على هذه الجارحة من الإنسان والمهاة، واسم الجيد واقع على هذا العضو من الإنسان والريم، والكاف للمقاربة، وإنما يريدون أن هذه العين لكثرة سوادها قاربت أن تكون سوداء كلها كعين المهاة، وأن هذا الجيد لانتصابه وطوله كجيد الريم، ألا ترى أن الأصمعي سئل عن الحور فقال: أن تكون العين سوداء كلها كعيون الظباء والبقر، ولا حور في الإنسان، هذا أحد أقوال الأصمعي في الحور، ويدلك على أن التشبيه إنما هو هو بالمقاربة كما قلنا.
والتشبيه والاستعارة جميعاً يخرجان الأغمض إلى الأوضح، ويقربان البعيد، كما شرط الرماني في كتابه، وهما عنده في باب الاختصار.
قال: واعلم أن التشبيه على ضربين: تشبيه حسن، وتشبيه قبيح، فالتشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض إلى الأوضح فيفيد بياناً، والتشبيه القبيح ما كان على خلاف ذلك، قال:

وشرح ذلك أن ما تقع عليه الحاسة أوضح في الجملة مما لا تقع عليه الحاسة، والمشاهد أوضح من الغائب؛ فالأول في العقل أوضح من الثاني، والثالث أوضح من الرابع، وما يدركه الإنسان من نفسه أوضح مما يعرفه من غيره، والقريب أوضح من البعيد في الجملة، وما قد ألف أوضح مما يؤلف، ثم عاب على بعض شعراء عصره:
صدغه ضد خده مثل ما الوع ... د إذا ما اعتبرت ضد الوعيد
من قبل أنه شبه الأوضح بالأغمض، وما تقع عليه الحاسة بما لا تقع عليه، وكذلك قوله:
له غرة كلون وصالٍ ... فوقها طرة كلون صدود
وقال في موضع آخر: التشبيه على ضربين والأصل واحد: فأحدهما التقدير، والآخر التحقيق؛ فالذي يأتي على التقدير التشبيه من وجه واحد دون وجه، والذي يأتي على التحقيق التشبيه على الإطلاق، وهو التشبيه بالنفس، مثل تشبيه الغراب بالغراب، وحجر الذهب بحجر الذهب إذا كان مثله سواء، وحمرة شقائق بحمرة الشقائق.
قال صاحب الكتاب: أما ما شرط في التشبيه فهو الحق الذي لا يدفع، لا أنه قد حمل على الشاعر فيما أخذ عليه؛ إذ كان قصد الشاعر أن يشبه ما يقوم في النفس دليله بأكثر مما هو عليه في الحقيقة، كأنه أراد المبالغة، ولعله يقول أو يقول المحتج له: معرفة النفس والمعقول أعظم من إدراك الحاسة، لا سيما قد جاء مثل هذا القرآن وفي الشعر الفصيح: قال الله عز وجل: " طلعها رءوس الشياطين " فقال قوم: إن شجرة الزقوم وهي أيضاً الأستن لها صورة منكرة وثمرة قبيحة يقال لها: رؤوس الشياطين، وقال قوم: الشياطين الحيات في غير هذا المكان، والأجود الأعرف أنه شبه بما لا يشك أنه منكر قبيح؛ لما جعل الله عز وجل في قلوب الإنس من بشاعة صور الجن والشياطين، وإن لم يروها عياناً، فخوفنا تعالى بما أعد للعقوبة، وشبهه بما نخاف أن نراه، وقال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فشبه نصال النبل بأنياب الأغوال لما في النفس منها. وعلى هذا التأويل قال أبو تمام وفيه عكس:
وأحسن من نور يفتحه الندى ... بياض العطايا في سواد المطالب
وقال أعرابي قديم:
يزملون حديث الضغن بينهم ... والضغن أسود أو في وجهه كلف
فوصفه بما يتصور ويقوم في النفس، كأنه يقول: لو كان صورة لكان هكذا، وقال بعض المولدين:
وتدبر عيناً في صحيفة فضة ... كسواد يأس في بياض رجاء
فاليأس على الحقيقة غير أسود؛ لأنه لا يدرك بالعيان، لكن صورته في المعقول وتمثيله كذلك مجازاً، والرجاء أيضاً على هذا التقدير في البياض.
وقد يقول المحتج الأول: إن هذا داخل في باب الاستطراد، كأن الشاعر لم يقصد الإخبار عن الغرة والطرة وشبههما، لكن عن الوصال والصدود، وعكس التشبيه ثقة بأن ما أشبه شيئاً من جهة فقد أشبهه الآخر من تلك الجهة.
فأما قول ابن المعتز يصف شرب حمار:
وأقبل نحو الماء يشتل صفوه ... كما أغمدت أيدي الصياقل منصلا
فإنه بديع، يشبه فيه انسياب الماء في شدقيه إلى حلقه بمنصل يغمد، وهذا تشبيه مليح يدرك بالحس، ويتمثل في المعقول، وكرر هذا التشبيه فقال يذكر إبل سفر:
وأغمدن في الأعناق أسياف لجةٍ ... مصقلةً تفرى بهن المفاوز
وزعم قدامة أن أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما، حتى يدنى بهما إلى حال الاتحاد، وأنشد في ذلك وهو عنده أفضل التشبيه كافةً:
له أيطلا ظبي، وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل
وهذا تشبيه أعضاء بأعضاء هي هي بعينها، وأفعال بأفعال هي هي أيضاً بعينها، إلا أنها من حيوان مختلف كما قدمت، والأمر كما قال في قرب التشبيه، إلا أن فضل الشاعر فيه غير كبير حينئذ؛ لأنه كتشبيه نفس الشيء المشبه الذي ذكره الرماني في تشبيه الحقيقة، وإنما حسن التشبيه أن يقرب بين البعيدين حتى تصير بينهما مناسبة واشتراك، كما قال الأشجعي:
كأن أزيز الكير إرزام شخبها ... إذا امتاحها في محلب الحي ماتح

فشبه ضرع العنز بالسكير، وصوت الحلب بأزيزه، فقرب بين الأشياء البعيدة بتشبيهه حتى تناسبت، ولو كان الوجه ما قال قدامة لكان الصواب أن يشبه الأشجعي ضرع عنزة بضرع بقرة، أو خلف ناقة؛ لأنه إنما أراد كبره وكثرة ما فيه من اللبن، وكان يعدل عن ذكر الكير وأزيزه الذي دل به على أعظم ما يكون من صفة كبر الضرع وكثرة لبنه.
وسبيل التشبيه إذ كانت فائدته إنما هي تقريب المشبه من فهم السامع، وإيضاحه له أن تشبه الأدون بالأعلى إذا أردت مدحه، وتشبه الأعلى بالأدون إذا أردت ذمه، فتقول في المدح: تراب كالمسك، وحصى كالياقوت، وما أشبه ذلك، فإذا أردت الذم قلت: مسك كالسك أو التراب، وياقوت كالزجاج أو كالحصى؛ لأن المراد في التشبيه ما قدمته من تقريب الصفة وإفهام السامع، وإن كان ما شابه الشيء من جهة فقد شابهه الآخر منها، إلا أن المتعارف وموضوع التشبيه ما ذكرت.
وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها أو كأن وما شاكلها كلها شيء بشيء في بيت واحد، إلى أن صنع امرؤ القيس في صفة عقاب:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
فشبه شيئين بشيئين في بيت واحد، واتبعه الشعراء في ذلك؛ فقال لبيد ابن ربيعة:
وجلا السيول عن الضلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
فشبه الطلول بالزبر والسيول بالأقلام، بل زاد فشبه جلاء هذه عن هذه بتجديد تلك لتلك. وحكى عن بشار أنه قال: ما قر بي القرار مذ سمعت قول امرئ القيس كأن قلوب الطير رطباً ويابساً حتى صنعت:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
فإن كان مراده الترتيب فصدق، ولم يقع بعد بيت امرئ القيس في ترتيبه كبيته، وإن كان المراد تشبيهين في بيت فقد قال الطرماح في صفة ثور وحشي:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
وهذا نهاية في الجودة. وأما قول من قال في بيت الحارث بن حلزة:
وحسبت وقع سيوفنا برءوسهم ... وقع السحابة بالطراف المشرج
إن فيه تشبيهين من جهة الكثرة والحس أو السرعة والحس؛ فمحتمل، إلا أن الشاعر لم يصرح إلا بالوقع خاصة، يريد بذلك الحس وحده ظاهر الأمر ولذلك خص الطراف؛ لكونه من الأدم، فصوت القطر عليه أشد منه على غيره من سائر البيوت. وقال بشار أيضاً:
خلقنا سماء فوقهم بنجومها ... سيوفاً ونقعاً يقبض الطرف أقسما
وقال فشبه شيئين مختلفين بشيئين من جنس واحد:
من كل مشتهرٍ في كف مشتهرٍ ... كأن غرته والسيف نجمان
وربما شبهوا شيئاً بشيئين كقول القطامي:
فهن كالحلل الموشى ظاهرها ... أو كالكتاب الذي قد مسه البلل
وربما شبهوا بثلاثة أشياء كما قال البحتري:
كأنما يبسم عن لؤلؤٍ ... منظم، أو بردٍ، أو أقاح
فقول الشاعر " أو " زيادة تشبيه وإن لم يصح من جميع المشبه بها إلا شيء واحد من جهة الحكم في " أو " . ومن الناس من يرويه:
كأنما يبسم عن لؤلؤٍ ... أو فضة، أو بردٍ، أو أقاح
وهي زعموا رواية أكثر أهل الأندلس والمغرب؛ فيكون حينئذ الثغر مشبهاً بأربعة أشياء، وقد تقدم أبو تمام فقال:
وثناياك إنها إغريض ... ولآل توم وبرق وميض
فشبهها بثلاثة أشياء حقيقة؛ لأن حكم الواو غير حكم " أو " لا سيما وقد أتى التشبيه بغير كاف ولا شيء من أخوتها، فجاء كأنه إيجاب وتحقيق.
وكثر تشبيههم شيئين بشيئين حتى لم يصر عجباً، وقد جاءوا بتشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء في بيت واحد: بالكاف؛ وبغير كاف؛ فقال مرقش:
النشر مسك، والوجوه دنا ... نير، وأطراف الأكف عنم
وقال ابن الرومي:
كأن تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد
وقال أيضاً ويدخل في باب قول مرقش:
إن أقبلت فالبدر لاح، وإن مشت ... فالغصن ماد، وإن رنت فالريم
وقال ابن المعتز:
بدر وليل وغصن ... وجه وشعر وقد
خمر ودر وورد ... ريق وثغر وخد
وقال صاحب الكتاب:
كأن ثناياه أقاحٍ، وخده ... شقيق، وعينيه بقية نرجس
وقال أيضاً على جهة التفسير:

بكؤوس حكين من شف قلبي ... شفة لم تذق وثغراً وريقا
يريد حافة الكأس والحباب والخمر.
ثم أتوا بتشبيه أربعة بأربعة: بالكاف أيضاً، وبغير كاف، فقال امرؤ القيس وهو أول من فتح هذا الباب:
له أيطلا ظبي، وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل
فجاء بتشبيه إضافة كما ترى حتى جعله تحقيقاً لولا مفهوم الخطاب.
بدت قمراً، ومالت خوط بان، ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
فجاء بالتشبيه على إسقاط الكاف. وقال أيضاً:
ترنو إلي بعين الظبي مجهشةً ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم
فشبه في القسيم الأول عينها بعين الظبي، وشبه في القسيم الآخر ثلاثة بثلاثة، وقد تقدم أبو نواس فقال:
يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
وهذا مليح جداً. سئل ابن مناذر: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:
يا قمراً أبصرت في مأتمٍ ... يندب شجواً بين أتراب
يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
هذا أشعر الجن والأنس. وقد جاء بالشعر على سجيته أعني أبا نواس وشاهد ذلك ظاهر في لفظه، وإلا فهو قادر أن يجعل مكان الدر الطل حتى يتناسب الكلام، لكنه لم يكن يؤثر التصنيع ولا يراه فضيلة؛ لما فيه من الكلفة ومن الناس من يرويه كذلك، ومنهم من يرويه فيذري الدر من جفنة ومما شبه أربعة بأربعة مع الكاف قول ابن حاجب وهو عبد العزيز وزير القادر بالله أبي العباس النعمان :
ثغر وخد ونهد واختضاب يدٍ ... كالطلع والورد والرمان والبلح
وقال صاحب الكتاب:
بفرع ووجه وقدٍ وردفٍ ... كليلٍ وبدرٍ وغصنٍ وحقفٍ
ومما وقع فيه تشبيه خمسة بخمسة قول أبي الفرج الوأواء، وأتى به بغير آلة تشبيه:
فأسبلت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد
وقال أبو الفتح البستي شاعر مصر في وقتنا هذا يصف شمعة:
قد شابهتني في لونٍ وفي قضفٍ ... وفي احتراق وفي دمع وفي سهر
فقوله قد شابهتني أظهر مقدرة من المجيء بالكاف؛ لأنهم إنما استصعبوا ذلك مع الكاف وأخوتها من جهة ضيق الكلام بها، فهذا الذي أتى به البستي أشد ضيقاً، ألا ترى أنه لو قال: " كأنها أنا " لكان هو الصواب ويكون قد أتى بكأن وضميرين بعدها فضلاً عن الكاف.
ومنهم من يأتي بالتشبيه الواحد بغير كاف كقول امرئ القيس:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً على حال
وقوله أيضاً:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفضل
يريد كسمو حباب الماء، وكتعرض أثناء الوشاح.
وأبدع من هذا عندهم وأغرب قول المنخل اليشكري:
دافعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
وإنما براعته عندهم لما لم يكن قبله فعل من لفظه.
ومن مليح التشبيه قول أبي كبير الهذلي:
فالطعن شغشغة، والضرب هيقعة ... ضرب المعول تحت الديمة العضدا
وللقسي أزاميل وغمغمة ... حس الجنوب تسوق الماء والبردا
فالأول من نوع بيتي امرئ القيس، والثاني من نوع بيت المنخل، وأنا أستحسن هذين البيتين جداً.
وقد يقع التشبيه بين الضدين والمختلفين: كقولك " العسل في حلاوته كالصبر في مرارته، أو كالخل في حموضته " .
قال أبو الحسن الرماني: وهذا الضرب من التشبيه لا يقال إلا بتقييد وتفسير ومن هذا النوع الذي ذكره الرماني قول ابن المهدي للمأمون يعتذر:
لئن جحدتك معروفاً مننت به ... إني لفي اللؤم أحظى منك بالكرم
وكذلك قول أبي نواس:
أصبح الحسن منك يا أحسن الأم ... ة يحكي سماجة ابن حبيش
يريد أن هذا غاية كما أن ذاك غاية.
قال الجرجاني: التشبيه والتمثيل يقع مرة بالصورة والصفة، وأخرى بالحالة والطريقة، اعتذر بذلك عن قول أبي الطيب:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
إنه إنما أراد وقوفاً خارجاً عن المتعارف. وأنشد:
رب نيل أمد من نفس العا ... شق طولاً قطعته بانتحاب

فهذا والله هو النقد العجيب الذي غفل الناس عنه، بل عموا وصموا. والبيت لمحمد بن عبد الملك الزيات، ويروي لماني الموسوس. ومثله قول أبي تمام:
ومسافة كمسافة الهجر ارتقى ... في صدر باقي الحب والبرحاء
وأنشد الرماني لذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفريت ... مسوم في سواد الليل منقضب
ثم قال: قد اجتمع الثور والكوكب في السرعة إلا أن انقضاض الكوكب أسرع، واستدل بهذا على جودة التشبيه.
وأنا أرى أن فيه دركاً على الشاعر، وإغفالاً من الشيخ المفسر، وذلك أن الثور مطلوب، والكوكب طالب، فشبهه به في السرعة والبياض، ولو شبهه بالعفريت وشبه الكلب وراءه بالكوكب لكان أحسن وأوضح، لكنه لم يتمكن له المعنى الذي أراده من فوت الثور الذي شبه به راحلته؛ وأما ما أغفله الشيخ فإن الشاعر إنما رغب في تشبيه الثور بالكوكب، واحتمل عكس التشبيه: بأن جعل المطلوب طالباً لبياضه فإن الثور لهق لا محالة؛ وأما السرعة التي زعم فإن العفريت لو وصفه به وشبهه بسرعته لما كان مقصراً، ولا متوسطاً، بل فوق ذلك.
ومن التشبيهات عقم لم يسبق أصحابها إليها، ولا تعدى أحد بعدهم عليها، واشتقاقها فيما ذكر من الريح العقيم، وهي التي لا تلقح شجرة ولا تنتج ثمرة، نحو قول عنترة العبسي يصف ذباب الروض:
وخلا الذباب بها فليس بارحٍ ... غرداً كفعل الشارب المترنم
هزجاً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
وقوله أيضاً في صفة الغراب:
خرق الجناح كأن لحي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع
وقال الحطيئة يصف لغام ناقته:
ترى بين لحييها إذا ما ترغمت ... لغاماً كبيت العنكبوت الممدد
وقال الشماخ يصف آثار ريش نعامة:
كأنما منثني أقماع ما مرطت ... من العفاء بليتيها الثآليل
وقول عدي بن الرقاع يصف قرن ظبي:
تزجي أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
وقول الراعي يصف جعد الرأس:
جدلاً أسك كأن فروة رأسه ... بذرت فأنبت جانباها فلفلا
وقول بشر بن أبي خازم يصف عروق الأرطى وقد كشفها ثور:
يثير ويبدي عن عروقٍ كأنها ... أعنة خراز تخط وتنشر
وقول الطرماح في صفة الظليم:
مجتاب شملة برجد لسراته ... قدداً، وأسلم ما سواه البرجد
وقول ذي الرمة في صفة الليل:
وليل كجلباب العروس قطعته ... بأربعةٍ والشخص في العين واحد
وقول مضرس بن ربعي في صفة رأس النعامة:
سكاء عارية الأخادع رأسها ... مثل المدق وأنفها كالمسرد
وقال النابغة في صفة النسور:
تراهن خلف القوم خزراً عيونها ... جلوس الشيوخ في ثياب المرانب
وهذا التشبيه عندهم عقيم، إلا أني أقول: إنه من قول طرفة يصف عقاباً:
وعجزاء دفت بالجناح كأنها ... مع الصبح شيخ في بجاد مقنع
وينظر أيضاً إلى قول امرئ القيس قبله:
كأن ثبيراً في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي في تشبيه رأس القطاة:
تقلب للإصغاء رأساً كأنها ... يتيمة جوز أغبرتها المكاسر
وفي الشعر من هذا صدر جيد، وفي القرآن تشبيه كثير كقوله تعالى: " والقمر قدرناها منازل حتى عاد كالعرجون القديم " وقوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيمة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً " وقوله: " إذا غشيهم موج كالظلل " وقوله: " كأنهم جراد منتشر " ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم: " الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية " وقال: " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " وكثير من هذا يطول تقصيه.
وقد أتت القدماء بتشبيهات رغب المولدون إلا القليل عن مثلها استبشاعاً لها، وإن كانت بديعة في ذاتها، مثل قول امرئ القيس:
وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل
فالبنانة لا محالة شبيهة بالأسروعة، وهي دودة تكون في الرمل، وتسمى جماعتها بنات النقا، وإياها عنى ذو الرمة بقوله:
خراعيب أمثال كأن بنانها ... بنات النقا تخفى مراراً وتظهر

فهي كأحسن البنان: ليناً، وبياضاً، وطولاً، واستواءً، ودقة، وحمرة رأس، كأنه ظفر قد أصابه الحناء، وربما كان رأسها أسود، إلا أن نفس الحضري المولد إذا سمعت قول أبي نواس في صفة الكأس:
تعاطيكها كف كأن بنانها إذا اعترضتها العين صف مداري
أو قول علي بن العباس الرومي:
سقى الله قصراً بالرصافة شاقني ... بأعلاه قصري الدلال رصافي
أشار بقضبان من الدر قمعت ... يواقيت حمراً فاستباح عفافي
وقول عبد الله بن المعتز:
أشرن على خوف بأغصان فضة ... مقومة أثمارهن عقيق
كان ذلك أحب إليها من تشبيه البنان بالدود في بيت امرئ القيس، وإن كان تشبيهه أشد إصابة. وفي قول الطائي أبي تمام:
بسطت إليك بنانة أسروعا ... تصف الفراق ومقلة ينبوعا
وقرب هذا عنده وهو مدح من قول حسان في الهجو:
وأمك سوداء نوبية ... كأن أناملها الحنظب
إذ كانا جميعاً من خشاش الأرض. فأما قول امرئ القيس أو مساويك إسحل فجار مجرى غيره من تشبيهاتهم؛ لأنهم يصفونها بالعنم والأقلام وما أشبه ذلك، والبنان قريب الشبه من أعواد المساويك: في القدر، والاستواء، والإملاس، إلا أن الأول على كراهته أشبه بها، والإسحل: شجر المخيطا.
وقد استبشع قوم قول الآخر يصف روضاً
كان شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روين من الدماء
فهذا وإن كان تشبيهاً مصيباً فإن فيه بشاعة ذكر الدماء، ولو قال من العصفر مثلاً أو ما شاكله لكان أوقع في النفس وأقرب إلى الأنس.
وكذلك صفتهم الخمر في حبابها بسلخ الشجاع وما جرى هذا المجرى من التشبيه، فإنه وإن كان مصيباً لعين الشبه فإنه غير طيب في النفس، ولا مستقر على القلب، ومن ذلك قول أبي عون الكاتب:
تلاعبها كف المزاج محبة ... لها، وليجري ذات بينهما الأنس
فتزبد من تيه عليها كأنها ... غريرة خدر قد تخبطها المس
فلو أن في هذا كل بديع لكان مقيتاً بشعاً، ومن ذا يطيب له أن يشرب شيئاً يشبه بزبد المصروع وقد تخبطه الشيطان من المس؟! وكأني أرى بعض من لا يحسن إلا الاعتراض بلا حجة قد نعى على هذا المذهب، وقال: رد على امرئ القيس، ولم أفعل، ولكني بينت أن طريق العرب القدماء كثير من الشعر قد خولفت إلى ما هو أليق بالوقت وأشكل بأهله. وقد عاب الأصمعي بين يدي الرشيد قول النابغة:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العود
على أنه تشبيه لا يلحق، ولا يشق غبار صاحبه، ولم يجد فيه المطعن إلا بذكر السقيم؛ فإنه رغب عن تشبيه المحبوبة به، وفضل عليه قول عدي بن الرقاع العاملي:
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وأجرى الناس هذا المجرى قول صريع الغواني على أنه لم يقع لأحد مثله، وهو:
فلطت بأيديها ثمار نحورها ... كأيدي الأسارى أثقلتها الجوامع
فهذا تشبيه مصيب جداً، إلا أنهم عابوه بما بينت، وإنما أشار إلى قول النابغة:
ويخططن بالعيدان في كل منزل ... ويخبأن رمان الثدي النواهد
ومثله قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة:
وترفع الصوت أحياناً وتخفضه ... كما يطن ذباب الروضة الغرد
فأي قينة تحب أن تشبه بالذباب؟ وقد سرق بيت عنترة وقلبه فأفسده.

باب الإشارة
والأشارة من غرائب الشعر وملحه، وبلاغة عجيبة، تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملاً ومعناه بعيد من ظاهر لفظه؛ فمن ذلك قول زهير:
فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء
فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه، هذا عند قدامة أفضل بيت في الإشارة.. وقول الآخر:
جعلت يدي وشاحاً له ... وبعض الفوارس لا يعتنق
وهذا النوع من الشعر هو الوحي عندهم.. وأنشد الحاتمي عن علي بن هارون عن أبيه، عن حماد، عن أبيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
جعلنا السيف بين الخد منه ... وبين سواد لمته عذارا

فأشار إلى هيئة الضربة التي أصابه بها دون ذكرها إشارة لطيفة دلت على كيفيتها، وإنما وصف أنهم ضربوا عنقه، ويروي بين الجيد ومثله قول الآخر:
ويوم يبيل النساء الدماء ... جعلت رداءك فيه خمارا
يريد بالرداء الحسام كما قال متمم بن نويرة:
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
وقوله إنه جعله خماراً أي قنعت به الفرسان، وأشار بقوله يبيل النساء الدماء إلى وضع الحوامل من شدة الفزع.
ومما جاء في الإشارة على معنى التشبيه قول الراجز يصف لبناً ممذوقاً وجاء بمذق هل رأيت الذئب قط فإنما أشار إلى تشبيه لونه؛ لأن الماء غلب عليه فصار كلون الذئب.
ومن أنواع الإشارة التفخيم فكقول الله تعالى: " القارعة ما القارعة " وقد قال كعب بن سعد الغنوي:
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب
وأما الإيماء فكقول الله عز وجل: " فغشيهم من اليم ما غشيهم " فأومأ إليه وترك التفسير معه.. وقال كثير:
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح
فقوله وخلفت ما خلفت إيماء مليح.. ومثله قول ابن ذريح:
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ... بها زفرة تعتادني هي ما هيا
ومن أنواع التعريض: كقول كعب بن زهير لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
فعرض بعمر بن الخطاب وقيل: بأبي بكر رضي الله عنهما، وقيل: برسول الله صلى الله عليه وسلم تعريض مدح، ثم قال:
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
فقيل: إنه عرض في هذا البيت بالأنصار، فغضبت الأنصار، وقال المهاجرون: لم تمدحنا إذ ذممتهم، حتى صرح بمدحهم في أبيات يقول فيها:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار
ومن مليح التعريض قول أيمن بن خريم الأسدي لبشر بن مروان يمدحه ويعرض بكلف كان بوجه أخيه عبد العزيز حين نفاه من مصر على يدي نصيب الشاعر مولاه:
كأن التاج تاج بني هرقل ... جلوه لأعظم الأعياد عيداً
يصافح خد بشر حين يمسي ... إذا الظلماء باشرت الخدودا
فهذا من خفي التعريض؛ لأنه أوهم السامع أنه إنما أراد المبالغة بذكر الظلماء لا سيما وقد قال حين يمسي وإنما أراد الكلف، هكذا حكت الرواة.
ومن أفضل التعريض مما يجل عن جميع الكلام قول الله عز وجل: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " أي: الذي كان يقال له هذا أو يقوله، وهو أبو جهل؛ لأنه قال: ما بين جبليها يعني مكة أعز مني ولا أكرم، وقيل: بل ذلك على معنى الاستهزاء به.
ومن أنواعها التلويح، كقول المجنون قيس بن معاذ العامري:
لقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا
فلوح بالصحة والكتمان ثم بالسقم والاشتهار تلويحاً عجيباً، وإياه قصد أبو الطيب بعد أن قلبه ظهراً لبطن فقال:
كتمت حبك حتى منك تكرمة ... ثم استوى فيك إسراري وإعلاني
لأنه زاد حتى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني
إلا أنه أخفاه وعقده كما ترى، حتى صار أحجية يتلاقاها الناس.
ومن أجود ما وقع في هذا النوع قول النابغة يصف طول الليل:
تقاعس حتى قلت: ليس بمنقضً ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب
" الذي يرعى النجوم " يريد به الصبح، أقامه مقام الراعي الذي يغدو فيذهب بالإبل والماشية؛ فيكون حينئذ تلويحه هذا عجباً في الجودة، وأما من قال: إن الذي يرعى النجوم إنما هو الشاعر الذي شكا السهر وطول الليل؛ فليس على شيء. وزعم قوم أم الآيب لا يكون إلا بالليل خاصة، ذكره عبد الكريم.
ومن أنواع الإشارات الكناية والتمثيل، كما قال ابن مقبل وكان جافياً في الدين: يبكي أهل الجاهلية وهو مسلم، فقيل له مرة في ذلك فقال:
وما لي لا أبكي الديار وأهلها ... وقد رادها رواد عك وحميرا
وجاء قطا الأحباب من كل جانب ... فوقع في أعطاننا ثم طيرا
فكنى عما أحدثه الإسلام ومثل كما ترى.

ومن أنواعها الرمز: كقول أحد القدماء يصف امرأة قتل زوجها وسبيت:
عقلت لها من زوجها عدد الحصى ... مع الصبح أو مع جنح كل أصيل
يريد أني لم أعطها عقلاً ولا قوداً بزوجها، إلا الهم الذي يدعوها إلى عد الحصى، وأصله من قول امرئ القيس:
ظللت ردائي فوق رأسي قاعداً ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
ومن مليح الرمز قول أبي نواس يصف كؤوساً ممزوجة فيها صور منقوشة:
قرارتها كسرى، وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
يقول: إن خد الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكؤوس إلى التراقي والنحور، وزبد الماء فيها مزاجاً، فانتهى الشراب إلى فوق رءوسها، ويجوز أن يكون انتهاء الحباب إلى ذلك الموضع لما مزجت فأزبدت، والأول أملح، وفائدته معرفة حدها صرفاً من معرفة حدها ممزوجة، وهذا عندهم مما سبق إليه أبو نواس، وأرى والله أعلم إنما تحلق على المعنى من قول امرئ القيس:
فلما استطابوا صب في الصحن نصفه ... ووافى بماء غير طرقٍ ولا كدر
ويروي " ووافوا وإياه أردت، ويروى " استظلوا " من الظل مكان " استطابوا " جعل الماء والشراب قسمين لقوة الشراب، فتسلق الحسن عليه، وأخفاه بما شغل به الكلام من ذكر الصورة المنقوشة في الكؤوس، إلا أنها سرقة ظريفة مليحة، ولم يكن أبو نواس يرضى أن يتعلق بمن دون امرئ القيس وأصحابه.
وأصل الرمز الكلام الخفي الذي لا يكاد يفهم، ثم استعمل حتى صار الإشارة وقال الفراء: الرمز بالشفتين خاصة.
ومن الإشارات اللمحة، كقول أبي نواس يصف يوماً مطيراً:
وشمسه حرة مخدرة ... ليس لها في سمائها نور
فقوله " حرة " يدل على ما أراد في باقي البيت؛ إذ كان من شأن الحرة الخفر والحياء، ولذلك جعلها مخدرة، وشأن القيان والمملوكات التبذل والتبرج، وأما زعم من زعم أن قوله " حرة " إنما يريد خلوصها كما تقول: هذا العلق من حر المتاع؛ فخطأ؛ لأن الشاعر قد قال: " ليس لها في سمائها نور " فأي خلوص هناك؟ وكذلك قول حسان ويكون أيضاً تتبيعاً:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يريد أنهم ملوك ذوو حاضرة ومستقر عز، ليسوا أصحاب رحلة وانتجاع.
ومن أخفى الإشارات وأبعدها اللغز، وهو: أن يكون للكلام ظاهر عجب لا يمكن، وباطن ممكن غير عجب، كقول ذي الرمة يصف عين الإنسان:
وأصغر من قعب الوليد ترى به ... بيوتاً مبناة وأودية قفرا
فالباء في به للإلصاق كما تقول " لمسته بيدي " أي: ألصقتها به وجعلتها آلة اللمس، والسامع يتوهمها بمعنى في، وذلك ممتنع لا يكون، والأول حسن غير ممتنع ومثله قول أبي المقدام:
وغلام رأيته صار كلباً ... ثم من بعد ذاك صار غزالا
فقوله صار إنما هو بمعنى عطف وما أشبهه من قول الله عز وجل: " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك " ، ومستقبله يصور، وقد قيل " يصير " وهي لغة قليلة، وليس صار التي هي من أخوات كان مستقبلها يصير فقط ومعناها استقر بعد تحول.
واشتقاق اللغز من ألغز اليربوع ولغز، إذا حفر لنفسه مستقيماً ثم أخذ يمنة ويسرة، يوري بذلك ويعمى على طالبه.
ومن الإشارات اللحن، وهو كلام يعرفه المخاطب بفحواه، وإن كان على غير وجهه، قال الله تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول " وإلى هذا ذهب الحذاق في تفسير قول الشاعر:
منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً، وخير الحديث ما كان لحنا
ويسميه الناس في وقتنا هذا المحاجاة لدلالة الحجا عليه. وذلك نحو قول الشاعر يحذر قومه:
خلوا على الناقة الحمراء أرحلكم ... والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا
أراد " بالناقة الحمراء " الدهناء، و " بالجمل الأصهب " الصمان، " وبالذئاب " الأعداء، يقول: قد اخضرت أقدامهم من المشي في الكلأ والخصب، والناس كلهم إذا شبعوا طلبوا الغزو فصاروا عدواً لكم كما أن بكر بن وائل عدوكم..
ومثل ذلك قول مهلهل لما غدره عبداه وقد كبرت سنه وشق عليهما ما يكلفهما من الغارات وطلب الثارات، فأراد قتله، فقال:

أوصيكما أن ترويا عني بيت شعر، قالا: وما هو؟ قال:
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... لله دركما ودر أبيكما
فلما زعما أنه مات قيل لهما: هل أوصى بشيء؟ قالا: نعم، وأنشدا البيت المتقدم، فقالت ابنته: عليكم بالعبدين فإنما قال أبي:
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... أمسى قتيلاً بالفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكما ... لا يبرح العبدان حتى يقتلا
فاستقروا العبدين أنهما قتلاه، ورويت هذه الحكاية لمرقش.
وسبيل المحاجاة أن تكون كالتعريض والكناية، وكل لغز داخل في الأحاجي، وقد حاجى شيخنا أبو عبد الله بعض تلاميذه فقال له:
أحاجيك عباد كزينب في الورى ... ولم تؤت إلا من حميم وصاحب
فأجابه التلميذ بأن قال:
سأكتم حتى ما تحس مدامعي ... بما انهل من دموع سواكب
فكان معكوس قول أبي عبد الله " عباد كزينب " سرك ذائع، فقال الآخر " سأكتم " فأجابه على الظاهر إجابة حسنة، ومعكوس سأكتم " منك أتيت " فكأنه قابل به قول الشيخ " ولم تؤت إلا من صديق وصاحب " وهذا كله مليح.
ومنها التعمية، وهذا مثل للطير وما شاكله، كقول أبي نواس: واسم عليه خبن للصفا وما أشبهه، وهو معنى مشهور.
ومن الإشارات مصحوبة، وهي عند أكثرهم معيبة كأنها حشو واستعانة على الكلام، نحو قول أبي نواس:
قال إبراهيم بالما ... ل كذا غرباً وشرقا
ولم يأت بها أبو نواس حشواً، ولكن شطارة وعبثاً بالكلام، وإن شئت قلت بياناً وتثقيفاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: " وكيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس، وقد مرجت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا فكانوا هكذا؟ وشبك بين أصابع يديه " ، ولا أحد أفصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبعد كلاماً منه من الحشو والتكلف.
وقالوا: مبلغ الإشارة أبلغ من مبلغ الصوت، فهذا باب تتقدم الإشارة فيه الصوت، وقيل: حسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان، جاء بذلك الرماني نصاً، وقاله الجاحظ من قبل، وأخذ على بعض الشعراء في قوله:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قال: مرحباً ... وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
إذ كان هذا كله مما لا تحمله إشارة خائف مذعور.
ولما أقام معاوية الخطباء لبيعة يزيد قام رجل من ذي الكلاع فقال: هذا أمير المؤمنين، وأشار بيده إلى معاوية، فإن مات فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا، وأشار إلى السيف، ثم قال:
معاوية الخليفة لا تمارى ... فإن يهلك فسائسنا يزيد
فمن غلب الشقاء عليه جهلاً ... تحكم في مفارقه الحديد
وقد جاء أبو نواس بإشارات أخر لم تجر العادة بمثلها، وذلك أن الأمين بن زبيدة قال له مرة: هل تصنع شعراً لا قافية له؟ قال: نعم، وصنع من فوره ارتجالاً:
ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك: " إشارة قبلة "
فأشارت بمعصم ثم قالت ... من بعيد خلاف قولي: " " لا لا "
فتنفست ساعة ثم إني ... قلت للبغل عند ذلك: " " امش "
فتعجب جميع من حضر المجلس من اهتدائه وحسن تأتيه، وأعطاه الأمين صلة شريفة.
ومن إشارات الحذف، نحو قول نعيم بن أوس يخاطب امرأته:
إن شئت أشرفنا جميعاً فدعا ... الله كل جهده فأسمعا
بالخير خيراً وإن شرا فاا ... ولا أريد الشر إلا أن تاا
كذا رواه أبو زيد الأنصاري، وساعده من المتأخرين علي بن سليمان الأخفش، وقال: لأن الرجز يدل عليه، إلا أن رواية النحويين " وإن شراً فا " و " إلا أن تا " قالوا: يريد إن شراً فشر، وإلا أن تشائي.. وأنشدوا:
ثم تنادوا بعد تلك الضوضا ... منهم بهات وهل ويا يا
نادى منادٍ منهم ألاتا ... قالوا جميعاً كلهم بلى فا
وأنشد الفراء: قلت لها قومي فقالت: قا ف يريد قد قمت.
ومن أنواعها التورية كقول علية بنت المهدي في طل الخادم:
أيا سرحة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل

متى يشتفى من ليس يرجى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه دخول؟
فورت بظل عن طل، وقد كانت تجد به، فمنعه الرشيد من دخول القصر، ونهاها عن ذكره، فسمعها مرة تقرأ: " فإن لم يصبها وابل " فما نهى عنه أمير المؤمنين، أي فطل فقال: ولا كل هذا.
وأما التورية في أشعار العرب فإنما هي كناية: بشجرة، أو شاة، أو بيضة، أو ناقة، أو مهرة، أو ما شاكل ذلك كقول المسيب بن علس:
دعا شجر الأرض داعيهم ... لينصره السدر والأثأب
فكنى بالشجر عن الناس، وهم يقولون في لكلام المنثور: جاء فلان بالشوك والشجر، إذا جاء بجيش عظيم.
وكان عمر رضي الله عنه أو غيره من الخلفاء قد حظر على الشعراء ذكر النساء، فقال حميد بن ثور الهلالي:
تجرم أهلوها لأن كنت مشعراً ... جنوناً بها، يا طول هذا التجرم
وما لي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
بلى فاسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقال أيضاً في مثل ذلك:
أبى الله إلا أن سرحة مالكٍ ... على كل أفنان العضاة تروق
فيا طيب رياها، ويا برد ظلها ... إذا حان من شمس النهار شروق
فهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح مسدود علي طريق؟
حمى ظلها شكس الخليقة خائف ... عليها غرام الطائفين شفيق
يريد بذلك بعلها أو ذا محرمها
فلا الظل من برد الضحى مستطيعه ... ولا الفيء منها في العشي نذوق
وقال عنترة العبسي:
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم
وإنما ذكر امرأة أبيه، وكان يهواها، وقيل: بل كانت جاريته؛ فلذلك حرمها على نفسه، وكذلك قوله: والشاة ممكنة لمن هو مرتمي والعرب تجعل المهاة شاة؛ لأنها عندهم ضائنة الظباء، ولذلك يسمونها نعجة، وعلى هذا المتعارف في الكناية جاء قول الله عز وجل في إخباره عن خصم داود عليه السلام: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " كناية بالنعجة عن المرأة، وقال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهوٍ بها غير معجل
كناية بالبيضة عن المرأة.. وروى ابن قتيبة أن رجلاً كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله، إنا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
فما قلص وجدن معقلاتٍ ... قفا سلعٍ بمختلف النجار
يعقلهن جعد شيظمي ... وبئس معقل الذود الظؤار
وإنما كنى بالقلص وهي النوق الشواب عن النساء، وعرض برجل يقال له جعدة كان يخالف إلى المغيبات من النساء، ففهم عمر ما أراد، وجلد جعدة ونفاه.
ومن الكناية اشتقاق الكنية؛ لأنك تكني عن الرجل بالأبوة، فتقول: أبو فلان، باسم ابنه، أو ما تعورف في مثله، أو ما اختار لنفسه؛ تعظيماً له وتفخيماً، وتقول ذلك للصبي على جهة التفاؤل بأن يعيش ويكون له ولد.
قال المبرد وغيره: الكناية على ثلاثة أوجه: هذا الذي ذكرته آنفاً أحدها، والثاني: التعمية والتغطية التي تقدم شرحها، والثالث: الرغبة عن اللفظ الخسيس كقول الله عز وجل: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا " فإنها فيما ذكر كناية عن الفروج. ومثله في القرآن وفي كلام الفصحاء كثير.

باب التتبيع
ومن أنواع الإشارة التتبيع، وقوم يسمونه التجاوز، وهو: أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه، ويذكر ما يتبعه في الصفة وينوب عنه في الدلالة عليه، وأول من أشار إلى ذلك امرؤ القيس يصف امرأة:
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها ... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فقوله " ويضحى فتيت المسك " تتبيع، وقوله " نؤوم الضحى " تتبيع ثان، وقوله " لم تنتطق عن تفضل " تتبيع ثالث، وإنما أراد أن يصفها بالترفه، والنعمة، وقلة الامتهان في الخدمة، وأنها شريفة مكفية المؤونة، فجاء بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.. ونظيره قول الأخطل يصف نساء:
لا يصطلين دخان النار شاتيةً ... إلا بعود يلنجوجٍ على فحم

فذكر أنهن ذوات تملك وشرف حال. وأين من هذا القول النابغة في معناه وقصده:
ليست من السود أعقاباً إذا انصرفت ... ولا تبيع بجنبي نخلة البرما
كأنها إن لم تكن سوداء العقبين بياعة للبرم كانت في نهاية الحسن والشرف والدعة.
وقال النابغة وأراد أن يصف طول العنق وتمام الخلقة فيها فذكر القرط؛ إذ كان مما يتبع وصف العنق، ولم يسبقه إلى ذلك أحد من الشعراء:
إذا ارتعثت خاف الجبان رعاثها ... ومن يتعلق حيث علق يفرق
فجعل رعاثها يخاف ويفرق، وعذره ببعد مسقطه، فتناول هذا المعنى عمر بن أبي ربيعة فأوضحه بقوله:
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها، وإما عبد شمس وهاشم
وتبعه ذو الرمة فزاد المعنى وضوحاً بقوله:
والقرط في حرة الذفرى معلقه ... تباعد الحبل منه فهو يضطرب
وقال طفيل الغنوي يصف فرساً، ويروى لغيره:
هريت قصير عذير اللجام ... أسيل طويل عذار الرسن
فلو ترك الهرت والأسالة لكان من هذا الباب، ولكنه الآن لم يقصد التتبيع، وإنما جاء به كالتوكيد لما قبله، هذه رواية ابن قتيبة، وأما رواية النحاس عن شيوخه عن الأصمعي فإنها:
وأحوى قصير عذار اللجام ... وهو طويل عذار الرسن
وهذا تتبيع لا شك فيه. وأما قول الأخطل:
أسيلة مجرى الدمع، أما وشاحها ... فجار، وأما الحجل منها فما يجري
ففيه التتبيع في ثلاثة مواضع، وهي صفة الخد بالسهولة، وصفة الخصر بالرقة، والساق بالغلط. ومثله قول الأعشى:
صفر الوشاح، وملء الدرع، خرعبة ... إذا تأتي يكاد الخصر ينخزل
فقوله " صفر الوشاح " دال على رقة الخصر، " وملء الدرع " دال على تمام الخلق من طول وسمن وامتلاء صدر وعجيزة، وكل ما وقع من قولهم: طويل النجاد، وكثير الرماد، وما يشاكلهما فهو من هذا الباب. وقالت ليلى الأخيلية:
ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيماً
أرادت أنه يجذب ويتعلق به للحاجات لجوده وسؤدده وكثرة الناس حوله، وقيل: إنما ذلك لعظم مناكبه، وهم يحمدون ذلك.
ومن عجيب ما وقع في هذا الباب من التجاوز قول أوس بن حجر:
حتى يلف نخيلهم وبيوتهم ... لهب كناصية الحصان الأشقر
أراد الحرب التي هي المقصود بالصفة، هكذا الرواية الصحيحة، وبهذا التفسير فسره جلة العلماء وهم الأكثر، وقال آخرون: بل إنما أغراه بإحراق النخل والبيوت ففعل، ولا يكون على هذا الرأي الآخر من هذا الباب.
ومن التجاوز قول رؤبة بن العجاج يصف حوافر الخيل: سوى مساجيهن تقطيط الحقق أراد أن يشبهها بالمساحي فجعلها أنفسها مساحي، يريد العظم.
ومثله قول ابن دريد:
يدير إعليطين في ملمومة ... إلى لموحين بألحاظ اللأى
أراد أن يشبه أذن الفرس بالإعليط وهو وعاء ثمر المرخ فجعل الأذن نفسها إعليطاً، كما فعل رؤبة في المساحي، ومثله كثير.
ومما يدخل في باب التجاوز قول النابغة:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب
وإنما أراد السلوقي مع ما فيه من الجسد وما تحت لابسه زعموا من السرج والفرس، فعدا عن الجميع، وجاء بما يتبعه، ويستغني به عن ذكره، إذ كانت لا تقد السلوقي إلا أن تقد ما فيه، ولا تنتهي إلى الصفاح على ما فسروا من أنه يريد الفارس بأداته إلا بعد أن تأتي على السرج والفرس، على أن من الناس من رد يوقدن على الخيل.. وإلى مثل هذا الإفراط ذهب النمر بن تولب في صفة السيف الذي شبه به نفسه فقال:
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
وروى الحذاق " القينين والهادي " وهو واضح في المعنى.
ومن التتبيع قول زهير:
وملجمنا ما إن ينال قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله
فأشار إلى طول عنقه وقوائمه بذكر تطاول الملجم إشارة عجيبة، وتبعه ابن مقبل فقال:
تمطيت أخليه اللجام فبذني ... وشخصي يسامي شخصه وهو طائله
وإنما تناول زهير هذا المعنى من أبي دؤاد الإيادي، ويروي بن ثعلبة الأسدي حيث يقول:
لا يكاد الطويل يبلغ منه ... حيث يثني على المقص العذار
وأنا أقول:

إن بيت الذبياني في الرعاث مأخوذ من قول عبيد بن الأبرص:
ماطوا الرعاث بنهد لو يزل به ... لاندق دون تلاقي اللبة القرط
وقال ابن دريد وأتى ببديع مليح:
قريب ما بين القطاة والمطا ... بعيد ما بين القذال والصلا
فدل هذا على قصر الظهر وطول العنق..
وقال بعض الشعراء فملح وظرف:
فما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل
أشار إلى كثرة غشيان الضيوف، حتى إن الكلب مما أنس جبن أن ينبح فضلاً عما سوى ذلك، وهزال فصيله دال على أن الألبان مبذولة للضيفان، فقل ما بقي له منها.
وقد قال امرؤ القيس: سمان الكلاب عجاف الفصال فعجف الفصال للعسلة التي قدمت، وسمن الكلاب لكثرة ما ينحرون ويذبحون.
ومن أعجب التتبيع قوله:
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
يقول: أنزلوا نجداً الذي من نباته المرخ أم الغور الذي من نباته العشر؟ وإن الأعراب يعملون خيامهم من نبات الأرض التي ينزلونها، فإذا رحلوا تركوه واستأنفوا غيره من شجر البلد الذي ينزلون به، هكذا شرح العلماء هذا البيت المتقدم، ولا أرى الأعراب تذكر ذلك كثيراً في أشعارها، وإنما يتعاورون ذكر الوتد، اللهم إلا أن تكون الأعمدة وما شاكلها تنتخب وتحمل وإنما المطرح ما جعل فوقها وسد به خصاصها فدفع الحر والبرد فنعم، ولا شك أن هذا هو الصحيح، ويدل عليه قول جرير يذكر منزلاً:
فلا عهد إلا أن تذكر أو ترى ... ثماماً حوالي منصب الخيم باليا
فذكر الثمام مطرحاً، وقال أبو دواد:
عهدت لها منزلاً دائراً ... وآلا على الماء يحملن آلا
فالآل الأول: أعمدة الأخبية، والآل الثاني: الشخص الذي يرتفع عند اشتداد الحر، هكذا فسروه، منهم قدامة، والذي قال الحذاق: يعني أعمدة تحمل أعمدة مثلها ذكره أبو حنيفة، وقوله " على الماء " يعني الماء العد الذي هو المحضر يرجعون إليه بعد تبديهم وانقطاع ماء السماء، وقد أخبرك الشاعر على القول الأول أنهم يحملون أعمدة الأخبية والبيوت.
ومن أحسن ما وقع في هذا الباب من التتبيع قول حسان بن ثابت:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
فقوله " حول قبر أبيهم " تتبيع مليح، أشار به إلى أنهم ملوك مقيمون لا يخافون فينتقلون من مكان إلى مكان، وأنهم في مستقر عز وأرض خصب لا تجدب، أراد الشام، وأن ذلك دأبهم من القدم، فهو حول قبر أبيهم، وهذا كما قال ابن مقبل:
نحن المقيمون لم تبرح ظعائننا ... لا نستجير، ومن يخلل بنا يجر
ومن هذا الباب أيضاً قول عنترة بن شداد العبسي:
بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذي نعال السبت ليس بتوأم
أراد أنه ملك؛ لأن نعال السبت لا يحتذيها عندهم إلا كل شريف، يدلك على ذلك قول عتيبة بن مرداس المعروف بابن فسوة يذكر آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصيدة لام فيها عبد الله بن عباس وشكر الحسن بن علي عليهما السلام وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما:
إلى نفر لا يخصفون نعالهم ... ولا يلبسون السبت ما لم يخصر
ومن التتبيع قول الحطيئة:
لعمرك ما قراد بني كليب ... إذا نزع القراد بمستطاع
وذلك أن الفحل إذا منع الخطام نزعوا من قردانه شيئاً فلذ ذلك، وسكن إليه، ولان لصاحبه حتى يلقى الخطام في رأسه، فزعم الحطيئة أن هؤلاء لا يخدعون عن عزهم وإبائهم فيقدر عليهم.
وأما قول ذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن الحارث:
يا عمرو، إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
فيجوز أن يكون أراد أضربك على الرأس الذي تصيح منه الهامة اسقوني على زعم الأعراب، فيكون من هذا الباب، ويجوز أن يكون مراده أضربك فلا يؤخذ بثأرك وتكون حيث ههنا مثلها في قول زهير: لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم فيخرج عن هذا الباب.. وإلى نحو التأويل الأول قصد أبو الطيب بقوله:
فيا بن الطاعنين بكل لدن ... مواضع يشتكي البطل السعالا
أراد الصدر، أو النحر..
وبيت البحتري في صفة الذئب، ويروى لعمارة بن عقيل:
فأوجرته أخرى فأظللت ريشها ... بحيث يكون اللب والرعب والحقد

خير من بيت أبي الطيب وأجمع للصفة، وقوله " أظللت " بمعنى صبرت ويروى بالضاد.

باب التجنيس
التجنيس ضروب كثيرة: منها المماثلة، وهي: أن تكون اللفظة واحدة باختلاف المعنى، نحو قول زياد الأعجم، وقيل: الصلتان العبدي يرثي المغيرة ابن المهلب:
فانع المغيرة للمغيرة إذ بدت ... شعواء مشعلة كنبح النابح
فالمغيرة الأولى: رجلن والمغيرة الثانية: الفرس، وهو ثانية الخيل التي تغير.
وقال صاحب الكتاب: قال الله تعالى: " وأسلمت مع سليمان " وقال تعالى: " ثم انصرفوا صرف الله قلوبكم " وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم " سليم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله " وإن كان من غير هذا الباب.. وأنشد سيبويه:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
البلدة الأولى: صدر الناقة، والثانية: المكان من الأرض.
ومثله ما أنشده ثعلب:
وثنية جاوزتها بثينة ... حرف يعارضها ثني أدهم
فالثنية الأولى: عقبة، والثانية: ناقة، والثني الأدهم: الظل، استعار له هذا الاسم.. ويروى " حبيب أدهم " .
ومثله أنشده أبو عمرو بن العلاء: عود على عود على عود خلق وقال: الأول الشيخ، والثاني: الجمل المسن، والثالث: الطريق القويم قد ذلل بكثرة الوطء عليه.
ويجري هذا المجرى قول الأودي:
وأقطع الهوجل مستأنساً ... بهوجل عيرانة عيطموس
أنشده قدامة على أنه طباق، وسائر الناس يخالفونه في هذا المذهب، وقد جاء رد الأخفش علي بن سليمان عليه في ذلك وإنكاره على رأي الخليل و الأصمعي في كتاب حلية المحاضرة للحاتمي.
وعلى القول الأول قال أبو نواس في ابن الربيع:
عباس عباس إذا حضر الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقال أبو تمام:
ليالينا بالرقمتين وأهلنا ... سقى العهد منك العهد والعهد والعهد
فالعهد الأول المسقي: هو الوقت، والعهد الثاني: هو الحفاظ، من قولهم " فلان ماله عهد " والعهد الثالث: الوصية من قولهم " عهد فلان إلى فلان، وعهدت إليه " أي: وصاني وصيته، والعهد الرابع: المطر، وجمعه عهاد، وقيل: أراد مطراً بعد مطر بعد مطر، وفسر ذلك بقوله:
سحاب متى يسحب على النبت ذيله ... فلا رجل ينبو عليه ولا جعد
واستثقل قوم هذا التجنيس، وحق لهم.
ومن مليح هذا النوع قول ابن الرومي:
للسود في السود آثار تركن بها ... لمعاً من البيض تثني أعين البيض
فالسود الأول: الليالي، والسود الآخر: شعرات الرأس واللحية، " و " والبيض الأول: الشيبات، والبيض الآخر: النساء..
وزعم الحاتمي أن أفضل تجنيس وقع لمحدث قول عبد الله بن طاهر:
وإني للثغر المخيف لكاليء ... وللثغر يجري ظلمه لرشوف
فهذا وما شاكله التجنيس المحقق، والجرجاني يسميه المستوفي.
ويقرب منه وليس محضاً قول ابن الرومي:
له نائل ما زال طالب طالب ... ومرتاد مرتاد وخاطب خاطب
أدخل الترديد، والترديد: نوع من المجانسة يفرد له باب إن شاء الله تعالى.
والتجنيس المحقق: ما اتفقت فيه الحروف دون الوزن، رجع إلى الاشتقاق أو لم يرجع، نحو قول أحد بني عبس:
وذلكم أن ذل الجار حالفكم ... وأن أنفسكم لا يعرف الأنفا
فاتفقت الأنف مع الأنف في جميع حرفها دون البناء، ورجعا إلى أصل واحد، هذا عند قدامة أفضل تجنيس وقع، ومثله في الاشتقاق قول جرير والجرجاني يسميه التجنيس المطلق، قال: وهو أشهر أوصافه:
وما زال معقولاً عقال من الندى ... وما زال محبوسا عن الخير حابس
وقال جرير أيضاً، وفيه المضارعة والمماثلة والاشتقاق، وأنشده ابن المعتز:
تقاعس حتى فاته المجد فقعس ... وأعيا بنو أعيا وضل المضلل
وقال خلف بن خليفة الأقطع:
فإن يشغلونا عن أذان فاننا ... شغلنا وليداً عن غناء الولائد
يعني الوليد بن زياد بن عبد الملك. وقال أبو تمام فأحكم المجانسة بالاشتقاق:
بحوافر حفر وصلب صلب ... وأشاعر شعر وخلق أخلق
فجنس بثلاث لفظات. ومثله قول البحتري:
صدق الغراب، لقد رأيت شموسهم ... بالأمس تغرب عن جوانب غرب

ويقرب من هذا النوع قول ذي الرمة واسترجعت هامها الهيم الشعاميم فالهيم والهام قريبان في اللفظ بعيدان في الاشتقاق، وربما جعلهما بعض الناس من أصل واحد، وكذلك قوله:
كأن البرى والعاج عيجت متونها ... على عشر نهى به السيل أبطح
قال ابن المعتز " نهى به السيل " أي: بلغ به إليه فهو أنعم له وأكثر لدونةً.
وأنا أقول: معناه ترك به السيل نهياً، وهو الغدير، وذلك أتم لما أراد ابن المعتز، اللهم إلا أن يكون معناه جعل نهايته هناك فإنه أتم وأجود، أي: لم يجد منصرفاً فأقام. وقال البحتري:
وذكرنيك والذكرى عناء ... مشابه منك بينه الشكول
نسيم الروض في ريح شمالٍ ... وصوب المزن في راح شمول
وقال أبو تمام:
مليتك الأحساب، أي حياة ... وحيا أزمةٍ وحية واد
ويقرب من هذا النوع نوع يسمونه المضارعة، وهو على ضروب كثيرة: منها أن تزيد الحروف وتنقص، نحو قول أبي تمام والجرجاني يسميه التجنيس الناقص : يمدون من أيدٍ عواص عواصم وهما سواء لولا الميم الزائدة. وكذلك قوله قواض قواضب سواء لولا الباء، ومع ذلك فإن الباء والميم أختان. ومثله قول البحتري:
فيا لك من حزم وعزم طواهما ... جديد البلى تحت الصفا والصفائح
ومنها أن تتقدم الحروف وتتأخر، كقول الطائي:
بيض الصفائح لا سود الصحائف، في ... متونهن جلاء الشك والريب
فقوله " الصفائح، لا سود الصحائف " هو الذي أردت. وقال البحتري:
شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحامٍ ملوم قطوعها
ومثله قول أبي الطيب:
ممنعة منعمة رداح ... يكلف لفظها الطير الوقوعا
وحكى ابن دريد أن أعرابياً شتم رجلاً فقال: لمج أمه، فقدم إلى السلطان فقال: إنما قلت: ملج أمه، فدرأ عنه..
قال أبو بكر: لمجها: أتاها، وملجها: رضعها.
وأصل المضارعة أن تتقارب مخارج الحروف، وفي كلام العرب منه كثير غير متكلف، والمحدثون إنما تكلفوه؛ فمن المعجز قول الله عز وجل: " وهم ينهون عنه وينأون عنه " وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل سمعه وهو ينشد على سبيل الافتخار وقيل: بل سأله عن نسبه فقال:
إني امرؤ حميري حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ذلك والله ألأم لجدك، وأضرع لخدك، وأفل لحدك، وأقل لعدك، وأبعد لك عن الله ورسوله " وقوله عليه الصلاة والسلام: " نعوذ بالله من الأيمة والعيمة والغيمة والكزم والقزم " الأيمة: الخلو من النساء، والعيمة: شهوة اللبن، والغيمة: العطش، والكزم: قصر اللبان خلقة أو من بخل، ويقال: الكزم شدة الأكل، والقزم: شهوة اللحم.
وهذا النوع يسميه الرماني المشاكلة، وهي عنده ضروب: هذا أحدها، وهي المشاكلة في اللفظ خاصة، وأما المشاكلة في المعنى فننبه عليها في أماكنها إن شاء الله تعالى..
وقال ابن هرمة:
وأطعن للقرن يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل
وقال أبو تمام:
رب خفضٍ تحت الثرى وغناء ... من عناء ونضرةٍ من شحوب
وأبعد من هذا قليلاً قول ساعدة بن جؤية الهذلي:
رأى شخص مسعود بن بشر بكفه ... حديد حديث بالوقيعة معتد
ومن المضارعة بالتصحيف ونقص الحروف قول بعضهم:
فإن حلوا فليس لهم مقر ... وإن رحلوا فليس لهم مفر
وقال البحتري يمدح المعتز بالله:
ولم يكن المعتز بالله إن سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه
فجاء بتصحيف مستوف. وقال:
ما بعيني هذا الغزال الغرير ... من فتون مستجلب من فتور
وقال غيره وأظنه قابوس بن وشمكير :
إن المكارم في المكا ... ره والغنائم في المغارم
وقال بعض العلماء: ربما أسفر السفر عن الظفر، وتعذر في الوطن قضاء الوطر. وقال آخر: خلف الوعد خلق الوغد. وقال ابن المعتز:
لئن نزهت سمعك عن كلامي ... لقد نزهت في خديك طرفي
له وجه به يصبى ويضني ... ومبتسم به يشقي ويشفي
وقال آخر أيضاً في مثل ذلك، وفيه تغيير كثير بتصحيف:
فمن داع ومن راعٍ ... ومن مطرٍ ومن مطرق

وكل خاشع الطرف ... لديه خاضع المنطق
أعني بالتغيير ضاد " خاضع " ليست مناسبة لشين خاشع فيكون تصحيفاً، وإنما التصحيف فيما تناسب من الخط، ومن هذا قوله " داع " و " راع " لبعد ما بينهما في اللفظ والهجاء.
ومن الإسقاط الذي لا يظهر إلا في الخط قول شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ومن يسر فوق الأرض يطلب غاية ... من المجد نسري فوق جمجمة النسر
ومن يختلف في العالمين نجاره ... فإنا من العلياء نجري على نجر
فياء الوصل في النسر جانست به نسري وصار لقاء النون كسرة الهاء من جمجمة كالتنوين في الهاء، وكذلك صلة نجر جانست به نجري فإذا صرت إلى الخط زالت المجانسة.
وقد أحدث المولدون تجانساً منفصلاً يظهر أيضاً في الخط كقول أبي تمام:
رفدوك في يوم الكلاب وشققوا ... فيه المزاد بجحفل كاللاب
الكاف للتشبيه، واللاب: جمع لابة، وهي الحرة ذات الحجارة السود.. هذا أصح الروايتين، وأما قوله بجحفل كلاب أي كأن به كلباً فليس بشيء، وإنما القول ما قدمناه، وليس بتجانس صحيح على ما شرطه المتقدمون، ولكنه استظرف فأدخل في هذا الباب تملحاً.. وأكثر من يستعمله: الميكالي، وقابوس، وأبو الفتح البستي، وأصحابهم؛ فمن ذلك قوله:
عارضاه بما جنى عارضاه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
فقوله " أو دعاني " إنما هي أو التي للعطف، نسق بها " دعاني " وهو أمر الاثنين من دع على قوله " عارضاه " الذي في أول البيت، وقوله " أودعاني " الذي في القافية فعل ماض من اثنين، تقول في الواحد " أودع يودع " من الوديعة. وقال أيضاً:
وإن أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
وربما صنعوا مثل هذا في القوافي فتأتي كالإيطاء وليس بإبطاء إلا في اللفظ مجازاً، ولا بتجنيس إلا كذلك.. قال عمر بن علي المطوعي:
أمير كله كرم سعدنا ... بأخذ المجد منه واقتباسه
يحاكي النيل حين يسأم نيلاً ... ويحكي باسلاً في وقت باسه
أراد أن يناسب فجاء القافيتان كما نرى في اللفظ، وليس بينهما في الخط إلا مجاورة الحروف، وهذا أسهل معنى لمن حاوله، وأقرب شيء ممن تناوله، من أبواب الفراغ وقلة الفائدة، وهو مما لا شك في تكلفه، وقد أكثر منه هؤلاء الساقة المتعقبون في نثرهم ونظمهم حتى بردوا، بل تدركوا، فأين هذا العمل من قول القائل، وهو أبو فراس:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
وما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول زهتني بل شمائله
ألوي بصبري أصداغ لوين له ... وغل صدري ما تحوي غلائله
فما كان من التجنيس هكذا فهو الجيد المستحسن، وما ظهرت فيه الكلفة فلا فائدة فيه.
وقد يجيئ التجنيس على غير قصد كقول أبي الحسن في مقطعاته التي ترد فيما بعد:
ما ترى الساقي كشمس طلعت ... تحمل المريخ في برج الحمل
فبهذا التجنيس تم المعنى وظهر حسنه؛ إذ كان برج الحمل بيت المريخ وموضع شرف الشمس، فصار بعض الكلام مرتبطاً ببعضه، ومظهراً لخفي محاسنه، وحصل التجنيس فضلة على المعنى؛ لأنه لو قال في موضع الحمل " النطح " أو الكبش " لكان كلاماً مستقيماً؛ فهذا التجنيس كما ترى من غير تكلف ولا قصد، ولكن الأكثر أن يكون التجنيس مقصوداً إليه، مأخوذاً منه ما سامحت فيه القريحة، وأعان عليه الطبع..
وقد يعد قوم من المضارعة ما ناسب اللفظ في الخط فقط، كقوله تعالى: " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " وهي مضارعة بعيدة لا يجب أن يعد مثلها.. واختلف الناس في قول الأعشى:
إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
فقال الجرجاني علي بن عبد العزيز القاضي: هو مجانسة؛ لأن أحدهما رجل، والآخر قبيلة، وقال غيره: بل معناهما واحد، وأنا على خلاف رأي الجرجاني لأن الشاعر قال بني عامر وأضاف بني إليه، ولو قال ساد عامراً يعني القبيلة لكان تجنيساً غير مدفوع. قال الجرجاني: وأراه يعني بيت الأعشى يخالف قول الآخر:
قتلنا به خير الضبيعات كلها ... ضبيعة قيس لا ضبيعة أضحما

لأن كلتيهما قبيلتان، فكأنه جمع بين رجلين متفقي الاسم، انتهى كلامه، وهو يشهد بما قلته في بيت الأعشى إذا حققه من له ميز وتدبير..
وقد ذكروا تجنيساً مضافاً، أنشده جماعة من المتعقبين منهم الجرجاني:
أيا قمر التمام أعنت ظلماً ... علي تطول الليل التمام
فهذا عندهم وما جرى مجراه إذا اتصل كان تجنيساً، وإذا انفصل لم يكن تجنيساً، وإنما كان يتمكن ما أراد لو أن الشاعر ذكر الليل وأضافه فقال " ليل التمام " كما قال " قمر التمام " والرماني سمى هذا النوع مزواجاً، ومثله عنده قول الآخر:
حمتني مياه الوفر منها مواردي ... فلا تحمياني ورد ماء العناقد
ومن المزاوجة عندهم قول الله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم " وقوله: " من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وقوله: " إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم " وكل هذه استعارات ومجاز؛ لأن المراد المجازاة فزاوج بين اللفظين.
وكان الأصمعي يدفع قول العامة " هذا مجانس لهذا " إذا كان من شكله، يقول: ليس بعربي خالص، حكى ذلك ابن جني.. فأما ابن المعتز فقال وهو أول من نحا هذا النحو وجمعه والمجانسة: أن تشبه اللفظة اللفظة في تأليف حروفها على السبيل الذي ألف الأصمعي كتاب الأجناس عليها، قال: والجنس أصل لكل شبء: تتفرع منه أنواعه، وتعود كلها إليه، وكالإنسان وهو جنس وأنواعه عربي ورومي وزنجي، وأشباه ذلك، ولم تكن القدماء تعرف هذا اللقب أعني التجنيس يدلك على ذلك ما حكى عن رؤبة بن العجاج وأبيه، وذلك أنه قال له يوماً: أنا أشعر منك، قال: وكيف تكون أشعر مني وأنا علمتك عطف الرجز؟ قال: وما عطف الرجز؟ قال عاصم يا عاصم لو اعتصم قال: يا أبت، أنا شاعر ابن شاعر، وأنت شاعر ابن معجم، فغلبه، فأنت ترى كيف سماه عطفاً، ولم يسمه تجانساً، اللهم إلا أن يذهب بالعطف إلى معنى الالتفات فنعم.
ومن أناشيد هذا الباب قول الشنفرى واسمه عامر بن عمرو الأزدي:
وبتنا كأن البيت حجر فوقنا ... بريحانة ريحت عشاء وظلت
وقال علي بن محمد بن نصر بن بسام:
فاشرب على الورد من وردية عتقت ... كأنها خد ريم ريم فامتنعا
وقال الفرزدق:
ألم يأته أني تخلل ناقتي ... بنعمان أطراف الأراك النواعم
وحقيقة المجانسة عند الرماني المناسبة بمعنى الأصل، نحو قول أبي تمام: في حده الحد بين الجد واللعب قال: لأن معناهما جميعاً أبلغ، وأما قولك قرب واقترب، والطلوع والمطلع، وما شاكل هذا؛ فهو عنده من تصرف اللفظ، ولا يعده تجنيساً، ومن تصرف المعنى عنده قولك: عين الميزان، وعين الإنسان، وعين الماء، ونحو ذلك.. ومن التصرف في اللفظ والمعنى جميعاً قولك: الضرب والمضاربة والاستضراب، وما أشبه ذلك، كل هذه الأنواع عنده من باب التصرف.
وما أكثر ما يستعمل هذا النوع بعض شعراء وقتنا المذكورين، ويظن أنه قد أتى بشيء من غرائب التجنيس.
وأما قول دعبل في امرأته سلمى:
أحبك حباً لو تضمنه سلمى ... سميك ذاك الشاهق الرأس
فقد جنس من غير جنس؛ لأن قوله سميك دال على مراده.
ومثله قول آخر:
ضيعتي مثل اسمها العا ... م وداري مسترمه
أنشده الرماني.. وقال الآخر، وهو أبو تمام:
إذ لا صدوق ولا كنود اسماهما ... كالمعنيين ولا النوار نوارا
المراد صدر البيت لا عجزه.
وإذا دخل التجنيس نفي عد طباقاً، وكذلك الطباق يصير بالنفي تجنيساً، وسأفرد لهما باباً إن شاء الله تعالى فيما بعد باب الترديد.

باب الترديد
وهو أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى، ثم يردها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه، أو في قسيم منه، وذلك نحو قول زهير:
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندى خلقاً
فعلق يلق بهرم، ثم علقها بالسماحة. وكذلك قوله أيضاً:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
فردد أسباب على ما بينت. ولبعض الحجازيين:
ومن لامني فيهم حبيب وصاحب ... فرد بغيظٍ صاحب وحميم
وقال مجنون بني عامر:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

وقال أبو تمام:
خفت دموعك في إثر القطين لدن ... خفت من الكثب القضبان والكثب
الترديد في خفت ولو جعلت الكثيب ترديداً لجاز.. وقال ابن المعتز:
لو شئت لا شئت خليت السلو له ... وكان لا كان منكم في معافاتي
وقال أيضاً في مثل ذلك:
أتعذلني في يوسفٍ وهو من ترى ... ويوسف أضناني ويوسف يوسف
ولبعضهم وأظنه الصنوبري:
أنت عذري إذا رأوك، ولكن ... كيف عذري إذا رأوك تخون
الترديد في قوله " إذا رأوك " .. وقال أبو الطيب وأحسن ما شاء:
أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا
الترديد في أول البيت، وهذا نوع في أشعار المحدثين أكثر منه في أشعار القدماء جداً.
والعلماء بالشعر مجمعون على تقديم أبي حية النميري وتسليم فضيلة هذا الباب إليه في قوله:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوماً وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
والترديد الذي انفرد فيه بالإحسان عندهم قوله لبسن البلى مما لبسن اللياليا وكذلك قوله إذا ما تقاضى المرء يوماً وليلة ثم قال: تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا لأن الهاء كناية عن المرء، وإن اختلف اللفظ.
ويلحق بهذا قول أبي نواس: لو مسها حجر مسته سراء وقول الحسين بن الضحاك الخليع:
لقد ملأت عيني بغير محاسن ... ملأن فؤادي لوعةً وهموما
لقرب ما بين اللفظتين، وكذلك قول الطائي:
راح إذا ما الراح كان مطيها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء
ردد مطيها ومطايا الشوق. وعلى هذا يحمل قول الجحاف بن حكيم، وقيل: العباس بن مرداس:
تعرض للسيوف بكل ثغر ... وجوهاً لا تعرض للطسام
وحمل قوم قول امرئ القيس فثوباً لبست وثوباً أجر على أنه تكرار لا ترديد فيه، وهذا هو الخطأ البين، وأي ترديد يكون أحسن من هذا؟ وقد أفاد الثاني غير إفادة الأول حسب ما شرطوا.
ومثله قول بعض الأعراب في مدح هارون الرشيد:
جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النغم
ومن أملح ما سمعته قول ابن العميد:
فإن كان مسخوطاً فقل شعر كاتب ... وإن كان مرضياً فقل شعر كاتب
وهو داخل عندي في باب الترديد؛ إذ كان قوله عند السخط شعر كاتب إنما معناه التقصير به، وبسط العذر له؛ إذ ليس الشعر من صناعته كما حكى ابن النحاس أنهم يقولون " نحو كتابي " إذا لم يكن مجوداً، وقوله عند الرضا شعر كاتب إنما معناه التعظيم له، وبلوغ النهاية في الظرف والملاحة؛ لمعرفة الكتاب باختيار الألفاظ وطرق البلاغات، فقد ضاد وطابق في المعنى، وإن كان اللفظ تجنيساً مردداً.
وسمع أبو الطيب باستحسان هذا النوع فجعله نصب عينيه حتى مقته وزهد فيه، ولو لم يكن إلا بقوله:
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيشٍ كلهن قلاقل
فهذه الألفاظ كما قال كلهن قلاقل، ونحو ذلك قوله:
أسد فرائسها الأسود، يقودها ... أسد، تكون له الأسود ثعالبا
فما أدري كيف تخلص من هذه الغابة المملوءة أسوداً؟ ولا أقول إنه بيت شعر، وأين يقع هذا من قول غيره:
فصبح الوصال وليل الشباب ... وصبح المشيب وليل الصدود
تم بحمد الله وتوفيقه الجزء الأول من كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني منه، وأوله " 45 باب التصدير " أعان الله تعالى على إكماله، بمنه وفضله.
بسم الله الرحمن الرحيم

باب التصدير
وهو، أن يرد أعجاز الكلام على صدوره، فيدل بعضه على بعض، ويسهل استخراج قوافي الشعر إذا كان كذلك وتقتضيها الصنعة، ويكسب البيت الذي يكون فيه أبهة، ويكسوه رونقاً وديباجة ويزيده مائية وطلاوة.
وقد قسم هذا الباب عبد الله بن المعتز على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يوافق آخر كلمة من البيت آخر كلمة من النصف الأول، نحو قول الشاعر:
يلفي إذا ما الجيش كان عرمرماً ... في جيش رأي لا يفل عرمرم
الآخر: ما يوافق آخر كلمة من البيت أول كلمة منه، نحو قوله:
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعي الندى بسريع

والثالث: ما وافق آخر كلمة من البيت بعض ما فيه، كقول الآخر:
عزيز بني سليم أقصدته ... سهام الموت وهي له سهام
والتصدير قريب من الترديد، والفرق بينهما أن التصدير مخصوص بالقوافي ترد على الصدور، فلا تجد تصديراً إلا كذلك حيث وقع من كتب المؤلفين، وإن لم يذكروا فيه فرقاً، والترديد يقع في أضعاف البيت، إلا ما ناسب بيت ابن العميد المقدم.
ومن أبيات التصدير قول زهير:
كذلك خيمهم، ولكل قومٍ ... إذا مستهم الضراء خيم
وقال أيضاً في ذلك:
له في الذاهبين أروم صدق ... وكان لكل ذي حسب أروم
وقال أبو الأسود واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي :
وما كل ذي لب بموتيك نصحه ... وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب
فهذا تصدير، وإن كان ظاهره في اللفظ ترديداً للعلة التي ذكرتها.
ومن أناشيدهم في التصدير قول طفيل الغنوي:
محارمك أمنعها من القوم؛ إنني ... أرى جفنة قد ضاع فيها المحارم
وقال جرير وهم يستحسنوه جداً:
سقى الرمل جون مستهل ربابه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
وقال عمرو بن الأحمر:
تغمرت منها بعد ما نفد الصبا ... ولم يروا من ذي حاجة من تغمرا
تغمرت أي: شربت من الغمر، وهو قدح صغير جداً، ضربه مثلاً، أي: تعللت منها بالشيء القليل، وذلك لا يبلغ ما في نفسي منك من المراد.
ومن التصدير نوع سماه عبد الكريم المضادة، وأنشد للفرزدق:
أصدر همومك لا يغلبك واردها ... فكل واردة يوماً لها صدر
وأنشد في التصدير بيت طفيل المتقدم، وبيت جرير، وخص بيت الفرزدق بالمضادة دون أن يجعله تصديراً كما جعله أولاً طباقاً كما يقال في الأضداد إذا وقعت في الشعر، وقد رأيته في إحدى النسخ مع أبيات المطابقة.
ويقاربه من كلام المحدثين قول ابن الرومي:
ريحانهم ذهب على درر ... وشرابهم درر على ذهب
والكتاب يسمون هذا النوع التبديل، حكاه أبو جعفر النحاس.
ومن أناشيد ابن المعتز قول منصور بن الفرج في ذكر الشيب:
يا بياضاً أذرى دموعي حتى ... عاد منها سواد عيني بياضاً
وأنشد لأبي نواس، وهو عندي بعيد من أحكام السمعة التي يدخل بها في هذا الباب، على أنه غاية في ذاته؛ لأن أكثر العادة أن تعاد اللفظة بنفسها:
دقت ورقت مذقة من مائها ... والعيش بين رقيقتين رقيق
وأنشد لمسلم بن الوليد:
تبسم عن مثل الأقاح تبسمت ... له مزنة صيفية فتبسما
وهذا البيت أيضاً ترديد، وأنشد للطائي:
ولم يحفظ مضاع المجد شيء ... من الأشياء كالمال المضاع
فالمولدون أكثر عناية بهذه الأشياء، وأشد طلباً لها من القدماء، وهي في أشعارهم أوجد كما قدمت آنفاً.

باب المطابقة
المطابقة في الكلام: أن يأتلف في معناه ما يضاد في فحواه المطابقة عند جميع الناس: جمعك بين الضدين في الكلام أو بيت الشعر، إلا قدامة ومن اتبعه؛ فإنهم يجعلون اجتماع المعنيين في لفظة واحدة مكررة طباقاً، وقد تقدم الكلام في باب التجانس، وسمى قدامة هذا النوع الذي هو المطابقة عندنا التكافؤ، وليس بطباق عنده إلا ما قدمت ذكره، ولم يسمه التكافؤ أحد غيره وغير النحاس من جميع من علمته.
قال الخليل بن أحمد: طابقت بين الشيئين إذا جمعت بينهما على حذوٍ واحد وألصقتهما.
وذكر الأصمعي للمطابقة في الشعر فقال: أصلها وضع الرجل في موضع اليد في مشي ذوات الأربع، وأنشد لنابغة بن الجعدة:
وخيل يطابقن بالدار عين ... طباق الكلاب يطأن الهراسة
ثم قال: أحسن بيت قيل لزهير في ذلك:
ليث بعثر يصطاد الرجال، إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
حكى ذلك ابن دريد عن أبي حاتم عنه.
وأما علي بن سليمان الأخفش فاختار قول ابن الزبير الأسدي:
رمي الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سموداً
فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سوداً
وهذا من التبديل على مذاهب الكتاب، وأختار أيضاً قول طفيل الغنوي:
بساهم الوجه لم تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مذبول
حكاه الحاتمي عن أبي الفرج على ابن الحسن القرشي..
وقال الرماني:

المطابقة: مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان.
قال صاحب الكتاب: هذا أحسن قول سمعته في المطابقة من غيره، وأجمعه لفائدة، وهو مشتمل على أقوال الفريقين وقدامة جميعاً، وأما قول الخليل إذا جمعت بينهما على حذو واحد ألصقتهما فهو مساواة المقدار من غير زيادة ولا نقصان كما قال الرماني، يشهد بذلك قول لبيد:
تعاورن الحديث وطبقنه ... كما طبقت بالنعل المثالا
ومنه طبقت المفصل أي: أصبته فلم أزد في العضو شيئاً ولم أنقص منه.. وكذلك قول الأصمعي " أصلها من وضع الرجل موضع اليد في مشي ذوات الأربع هو مساواة المقدار أيضاً؛ لأن من ذوات الأربع ما تجاوز رجله موضع يده، ومنها ما يطابق كما قال خلقة، وربما كان طباقها من ثقل تحكله أو شكيمة تمنعها أو شيئاً تتقيه على أنفسها، ولذلك شبه النابغة الجعدي مشي الخيل بوطء الكلاب الهراس، وهو حطام الشوك؛ فهي لا تضع أرجلها إلا حيث رفعت منه أيديها طلباً للسلامة.
وأما قول قدامة في المطابق هو ما اشترك في لفظة واحدة بعينها فإنه أيضاً مساواة لفظٍ للفظ، وهي أعني المساواة على رأي الخليل والأصمعي مساواة معنى لمعنى، وقد يكون المراد أيضاً مطابقة الفظ للمعنى، أي: موافقته، ألا ترى أنهم يقولون: فلان يطابق فلان على كذا إذا وافقه عليه وساعده فيه؛ فيكون مذهب قدامى أن اللفظ وافقت معنى، ثم وافقت بعينها معنى آخر، ويصح هذا أيضاً في قول الخليل في الطباق إنه جمعك بين الشيئين على حذو واحد فيكون الشيئان للمعنيين، والحذو الواحد: اللفظة.
ومن مليح ما رأيته في المطابقة قول كثير بن عبد الرحمن يصف عيناً
وعن نجلاء تدمع في بياض ... إذا دمعت، وتنظر في سواد
قال أيضاً:
ووالله ما قاربت إلا تباعدت ... بصرم، ولا أكثرت إلا أقلت
وقال ابن المعتز، ويروى لابن المعذل:
هواي هوا باطن ظاهر ... قديم حديث لطيف جليل
ولبعض الأعراب:
أمؤثرة الرجال علي ليلى ... ولم أوثر على ليلى النساء
وقال إعرابي: الدراهم مياسم تسم حمداً أو ذماً، فمن حبسها كان لها، ومن أنفقها كانت له ونظم الشاعر هذا الكلام فقال:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
ومن الطباق الحسن قول إعرابي: خرجنا حفاة حين أنتعل كل شيء ظله، وما زادنا إلا التوكل وما مطايانا إلا الأرجل، حتى لحقنا بالقوم.
وقال آخر لصاحبه: إن يسار النفس أفضل من يسار المال، فإن لم ترزق غنياً فلا تحرم تقوى، فرب شبعان من النعم غرثان من الكرم؛ وأعلم أن المؤمن على خير ترحب به الأرض وتستبشر به السماء، ولن يساء إليه في بطنها وقد أحسن على ظهرها.. ولربيعة بن مقروم الضبي:
فدعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل
ومن أفضل كلام البشر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات؛ فو الدي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا دار، إلا الجنة أو النار فهذا هو المعجز الذي لا تكلف فيه ولا مطمع في الإتيان بمثله. وقال الله عز من قائل: وما يستوي الأعمى والبصر، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات وعد ابن المعتز من المطابقة قول الله عز وجل: ولكم في القصاص حياة لأن معناه: القتل أنفة للقتل فصار القتل سبب الحياة، وهذا من أملح الطباق وأخفاه.
ومما استغربه الجرجاني من الطباق واستلطفه قول الطائي:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
لمطابقته بهاتا وتلك، وإحداهما للحاضر وأخرى للغائب، فكانتا في المعنى نقيضتين وبمنزلة الضدين، هذا قوله، وليس عندي بمحقق؛ إنما إحداهما للقريب والأخرى للبعيد المشار إليه، ولكن الرجل أراد التخلص فزل في العبارة.
ومثل هذا عندي في بابه قول أبي الطيب يذكر خيل العدو الزاحف للحرب:
ضربن إلينا بالسياط جهالة ... فلما تعارفنا ضربن بها عنا
فقوله ضربن إلينا مجيء إقدام، وقوله ضربن بها عنا ذهاب فرار، وهما ضدان.
ومن أنواع الطباق قول هدبة بن خشرم:

فإن تقتلونا في الحديد فإننا ... قتلنا أخاكم مطلقاً لم يكبل
فقوله في الحديد ضد قوله مطلقاً لم يكبل وإن لم يأتي على متعارف المضادة، وكذلك قوله:
فإن يك أنفي زال عني جماله ... فما حسبي في الصالحين بأجدع
كأنه قال: وإن يك أنفي أجدع فما حسبي بأجدع.
قال الجرجاني: وقد يخلط من يقصر علمه ويسوء تمييزه بالمطابق ما ليس منه، كقول كعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه:
لقد كان أماً حلمه فمروج ... علينا، وأما جهله فعزيب
لما رأى الحلم والجهل ووجد مروحاً وعزيباً جعلهما في هذه الجملة، ولو ألحقنا ذلك بها لوجب أن يلحق أكثر أصناف التقسيم، ولا تسع الخرق فيه حتى يستغرق أكثر الكلام.
قال صاحب الكتاب: معنى قوله فيما أنكر أن البيت إنما حقه أن يكون في باب المقابلة؛ لمقابلة الشاعر فيه كلمتين بكلمتين تقرباني من مضادتهما، وليستا بضدين على الحقيقة، ولو كانتا ضدين لم يكن ما زاد على لفظتين متضادتين أو مختلفتين إلا مقابلة، فإن لم يكن بين الألفاظ مناسبة البتة إلا الوزن سمى موازنة، وسأذكره في باب المقابلة إن شاء الله، هكذا جرت العادة في هذه التسمية.
وأما قولنا إن الكلمتين غير متفاوتتين فظاهر؛ لأن الحلم ليس ضده في الحقيقة الجهل، وإنما ضده السفه والطيش، وضد الجهل العلم والمعرفة وما شاكلهما، وكذلك المروح ليس ضده العزيب وإنما ضده المغدو به أو المبكر به، وما أشبههما ولما ثقل وزن المروح من هاتين اللفظتين وقل استعماله تسمحت فيهما، وأما العزيب فهو البعيد والغائب، ولا مضادة بينه وبين المروح إلا بعيدةً، كأنه يقول: إن هذا يأتي لوقته وذلك بعيد خفي لا يأتي ولا يعرف، على أنا نجد أبا تمام إمام الصنعة قد قال:
ولقد سلوت لو أن داراً لم تلح ... وحلمت لو أن الهوا لم يجهل
وقال زهير، وزعموا أنه لأوس بن الحجر:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا ... أصبت حليماً أو أصابك جاهل
لما وجده خلافاً له طابق بينها كما يفعل بالضد، وإن كان الخلاف مقصراً عن رتبة الضد في المباعدة، والناس متفقون على أن جميع المخلوقات: مخالف، وموافق، ومضاد، فمتى وقع الخلاف في باب المطابقة فإنما هو على معنى المسامحة وطرح الكلفة والمشقة، وأنشد غير واحد من العلماء لحسين بن مطير:
بسود نواصيها وحمر أكفها ... وصفر تراقيها وبيض خدودها
ورواه ابن الأعرابي في نسق أبيات:
بصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها
وهذه الرواية أدخل في الصنعة، وقال الرماني وغيره: السواد والبياض ضدان، وسائر الألوان يضاد كل واحد منها صاحبه، إلا أن البياض هو ضد السواد على الحقيقة؛ إذ كان كل واحد منهما كلما قوي زاد بعداً من صاحبه، وما بينهما من الألوان كلما قوى زاد قرباً من السواد، فإن ضعف زاد قرباً من البياض، وأيضاً فلأن البياض منصبغ لا يصبغ، والسواد صابغ لا منصبغ، وليس سائر الألوان كذلك؛ لأنها كلها تصبغ ولا تنصبغ، انقضى كلامهم، وهو بين ظاهر لا يخفى على أحد، وإنما أوردته إبطالا لزعم من زعم أن أفضل مطابقة وقعت قول عمرو بن كلثوم:
بأنا نورد الرايات بيضاً ... ونصدرهن حمراً قد روينا
ومن أخف الطباق روحاً، وأقله كلفة، وأرسخه في السمع، وأعقله في القلب؛ قول السيد أبي الحسن في قصيدة:
ألا ليت أياماً مضى لي نعيمها ... تكر علينا بالوصال فننعم
وصفراء تحكي الشمس من عهد قيصر ... يتوق إليها كل من يتكرم
إذا مزجت في الكأس خلت لآلئا ... تنثر في حافاتها وتنظم
جمعنا بها الأشتات من كل لذة ... على أنه لم يغش في ذاك محرم
فطابق بين تنثر وتنظم وبين جمعنا والأشتات أسهل طباقاً وألطفه من غير تعمل ولا استكراه، وأتى في البيت الأول من قوله مضى وتكر بأخفى مطابقة، وأظرف صنعة على مذهب من انتحله.
ومما يغلط فيه الناس كثيراً في هذا الباب الجمال والقبح كقول بعض المحدثين.
وجهه غاية الجمال، ولكن ... فعله غاية لكل قبيح
وليس لضده، وإنما ضده الدمامة، والقبح ضده الحسن. وقال الصولي أبو بكر يصف قلماً:

ناحل الجسم ليس يعرف مذكاً ... ن نعيما، وليس يعرف ضراً
وليس بيهما مضادة. وإنما ضد النعيم البؤس، فأما قول أبي الطيب:
فالسلم تكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء
فإنه داخل في الطباق المحض؛ لأن المراد بالهيجاء الحرب وهي اسم من أسمائها، فكأنه قال الحرب، فأتى بضد السلم حقيقة.

باب ما اختلط فيه التجنيس بالمطابقة
من ذلك أن يقع في الكلام شيء مما يستعمل للضدين: كقولهم جلل بمعنى صغير، وجلل بمعنى عظيم؛ فإن باطنه مطابقة، وإن كان ظاهره تجنيساً، وكذلك الجون الأبيض، والجون الأسود، وما أشبه ذلك وكذلك إن دخل النفي كما قدمت، قال البحتري:
يقيض لي من حيث لا أعلم الهوى ... ويسري إلي الشوق من حيث أعلم
فهذا مجانس في ظاهره، وهو في باطنه مطابق؛ لأن قوله لا أعلم كقوله أجهل، ومثل ذلك قول الآخر:
لعمري لئن طال الفضيل بن ديسم ... مع الظل ما إن رأيه بطويل
كأنه قال: إن رأيه قصير، وقد جاء في القرآن: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " فأما قول الفرزدق:
لعمري لئن قل الحصى في عديدكم ... بني مهشل ما لؤمكم بقليل
ظاهره تجنيس بالقلة، وباطنه تطبيق بالكثرة؛ إذ كان معنى قل الحصى في عديدكم أنكم كثير، ومعنى ما لؤمكم بقليل أنه كثير أيضاً، فخاف الأول، وقد قال جلهمة بن أد بن مالك وهو طيء لولده في وصية: " ولا تكونوا كالجراد أكل ما وجد وأكله ما وجده " فهذا مجانس الظاهر مطابق الباطن، ومما أنشده ثعلب:
أبى حبي سليمى أن يبيدا ... وأمسى حبلها خلقاً جديدا
الجديد هنا: المجدود وهو المقطوع، مثل قتيل وهزيل بمعنى مقتول ومهزول، كأنه قال مجدوداً، أي: مقطوعاً، فليس بمطابق، وإن كان كذلك في الظاهر عند من لا يميز، فأما المميز فيعلم أنه لا يكون خلقاً جديداً في حال: وقال العتابي يعاتب المأمون وقد حجب عنه وكان به حفياً:
تضرب الناس بالمهندة البي ... ض على غدرهم وتنسى الوفاء
فأتى بالغدر والوفاء، جميعاً، وهما ضدان، فطابق بينهما في الظاهر وباطن كلامه مجانس لأن قوله وتنسى الوفاء كقوله تغدر.
وقال جرير أيضاً:
أتصحو أم فؤادك غير صاح.
فقوله غير صاح نقيض أتصحو لولا استفهام لم تعلم حقيقة محصوله بعد، إلا على مذهب من جعل أم بمعنى بل فكأنه قال لنفسه: بل فؤادك غير صاح، فناقض الصحو، ودخل كلامه في المطابقة.. وقال قيس بن الخطيم، ويروي لعدي:
وإني لأغنى الناس عن متكلف ... يرى الناس ضلالاً وليس بمهتدي
كأنه قال وهو ضال فجانس في الباطن، وإن كان قد طابق في الظاهر. ومن هذا الباب قولك فاعل ومفعول، نحو خالق ومخلوق وطالب ومطلوب هما ضدان في المعنى، وإن تجانسا في اللفظ، وكذلك ما كان اسم الفاعل منه مفعل والمفعول مفعل نحو مكرم ومكرم و معط ومعطى وما جرى هذا المجرى أو زاد عليه في البناء، وأما قولك قضيت واقتضيت فظاهره تجنيس وباطنه طباق، إلا أنه غير محض، وكذلك قولك أخذت وأعطيت؛ لأن الأخذ ضده الترك، والإعطاء ضد المنع، فهذا مما يظنه من لا يحسن طباقاً وليس كما ظن، ولكنه كثر جداً في الكلام، واستعمله الناس، كما تقدم من قولنا في الحلم والجهل والجمال والقبح.
ومما ظاهره تجنيس وباطنه طباق الوعد والوعيد كما قال الشاعر:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وأول ما يعتد به في هذا الباب قول امرئ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
ويروى فإن تكتموا الداء لا نخفه وقوله لا نخفه أي: لنبده من قوله تعالى: أكاد أخفيها فكأن الشاعر قال: إن تدفنوا الداء ندعه دفيناً أو قال: إن تكتموا الداء نكتمه، وكذلك قوله لا نقعد كأنه قال: إن تبعثوا الحرب نبعثها، ومن كلام السيد أبي الحسن:
وأعلم أن المجد شيء مخلد ... وأن الفتي والمال غير مخلد
والبيت من قصيدة شريفة أولها:
صحا القلب عن سعدي وعن أم مسعد ... ولم يشجني نوح الحمام المغرد
باب المقابلة
المقابلة: مواجهة اللفظ بما يستحقه في الحكم، هذا حد ما اتضح عندي

المقابلة: بين التقسيم والطباق، وهي تتصرف في أنواع كثيرة، وأصلها ترتيب الكلام على ما يجب؛ فيعطي أول الكلام ما يليق به أولاً، وآخره ما يليق به آخراً، ويأتي في الموافق بما يوافقه، وفي المخالف بما يخالفه.
وأكثر ما تجئ المقابلة في الأضداد، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة مثال ما أنشده قدامة لبعض الشعراء، وهو:
فيا عجباً كيف اتفقنا؛ فناصح ... وفي، ومطوي على الغل غادر؟
فقابل بين النصح والوفاء بالغل والغدر، وهكذا يجب أن تكون المقابلة الصحيحة، لكن قدامة لم يبال بالتقديم والتأخير في هذا الباب، وأنشد للطرماح:
أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهم التربا
فما صبروا بلأس عند حرب ... ولا أدوا لحسن يدٍ ثوابا
فقدم ذكر الإنعام على المأسورين، وأخر ذكر القتل في البيت الأول؛ وأتى في البيت الثاني بعكس الترتيب، وذلك أنه قدم ذكر الصبر عند بأس الحرب وأخر ذكر الثواب على حسن اليد، اللهم إلا أن يريد بقوله فما صبروا لبأس عند حرب القوم المأسورين إذ لم يقاتلوا حتى يقتلوا دون الأسر وإعطاء اليد؛ فإن المقابلة حينئذ تصح وتترتب على ما شرطنا، وهذه عندهم تسمى مقابلة الاستحقاق، ويقرب منها قول أبي الطيب: وفعله ما تريد الكف والقدم لأن الكف من اليد بمنزلة القدم من الرجل، فبينهما مناسبة وليست مضادة، ولو طلبت المضادة لكان الرأس أو الناصية أولى، كما قال تعالى: " فيؤخذ بالنواصي والأقدام " .
ومن أناشيد المقابلة قول النابغة الجعدي:
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعادية
فقابل يسر بيسوء وصديقه بالأعادي، وهذا جيد؛ ولو كان كل مقابل على وزن مقابله في هذا البيت والبيت الذي أنشده قدامة أولاً لكان أجود..
وقال عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زادي
فقال يبقى بعد ثم قال يفنى قبل فهذا كما أردنا.
وقال الفرزدق:
وأنا لنمضي بالأكف رماحنا ... إذا أرعشت أيديكم بالمعالق
سأل أبو جعفر المنصور أبا دلامة فقال: أي بيت قالته العرب أشعر؟ قال: بيت يلعب به الصبيان، قال: وما هو ذلك؟ قال: قول الشاعر:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وقال يزيد بن محمد المهلبي، يقوله لسليمان بن وهب:
فمن كان للآثام والذل أرضه ... فأرضكم للأجر والعز معقل
وقال في التغزل:
إن تغيبي عني فسقياً ورعياً ... أو تحلي فينا فأهلاً وسهلاً
والمعجز قوله الله تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ولتبتغوا من فضله " فقابل الليل بالسكون، والنهار بابتغاء الفضل، وجعل بعض المفسرين الليل والنهار بمعنى الزمان، والأول أعجب إلى، وقال تعالى: " وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين " .
ومن جيد المقابلة قول بكر بن النطاح الحنفي:
أذكى وأوقد للعداوة والقرى ... نارين نار وغى ونار زناد
وكذلك قوله:
لباسي حسام أو إزار معصفر ... ودرع حديد أو قميص مخلق
إلا أنه لو كان الإزار رداء كان أجود، لا سيما والسيف يسمى رداء، ولكنا هكذا رويناه.
ومن خفي المقابلة والقسمة قول العباس بن الأحنف وأحسن ما شاء:
اليوم مثل الحول حتى أرى ... وجهك، والساعة كالشهر
وهذا مليح؛ لأن الساعة من اليوم كالشهر من الحول جزء من اثني عشر.
وقال محمد بن أحمد العلوي:
لا تؤخر عني الجواب فيومي ... مثل دهر، وساعتي مثل شهر
فلم يصنع شيئاً، وكان يمكنه أن يجعل مكان دهر حولا؛ فتكون قسمة مستوية، ولكنا هكذا رويناه.
ومن جيد ما وقع في المنثور من المقابلة قول بعض الكتاب فإن أهل الرأي والنصح لا يساويهم ذوو الأفن والغش، وليس من يجمع إلى الكفاية الأمانة كمن أضاف إلى العجز الخيانة ومن كلام إبراهيم بن هلال الصابي وأعد لمحسنهم جنة وثواباً، ولمسيئهم ناراً وعقاباً.
وقال أبو الفتح محمود بن حسين كشاجم:
تريك الحسن والإحسان وقفاً ... إذا برزت لنا وإذا تغيب
ومما عابه الجرجاني على ابن المعتز:

بياض في جوانبه احمرارٌ ... كما احمرت من الخجل الخدود
لأن الخدود متوسطة وليست جوانب؛ فهذا من سوء المقابلة، وإن عده الجرجاني غلطاً في التشبيه، وإنما العلة في كونه غلطاً ما ذكرناه..
ومن المأخوذ المعيب عندي قول الكميت يخاطب قضاعة:
رأيتكم من مالك وادعائه ... كرائمة الأولاد من عدم النسل
فوقع تشبيهه على الادعاء والرثمان خاصة، لا على صحة المقابلة في الشبهين؛ لأن هؤلاء فيما زعم يدعون أبا، والرائمة تدعى ولداً، وهما ضدان.
والصواب قول الآخر يهجو كاتباً، أنشده الجاحظ:
حمار في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حرب في زياد
وقال أبو نواس:
أرى الفضل للدنيا وللدين جامعاً ... كما السهم فيه فوق والريش والنصل
فزاد في المقابلة قسماً؛ لأنه قابل اثنين بثلاثة.
وكذلك قول أبي قيس ابن الأسلت:
الحزم والقوة خير من ال ... إدهان والفكة والهاع
فقابل الحزم بالإدهان، والقوة بالفكة وهي الضعف ويروي الفهة وهي العي، وزاد الهاع، وهو الجبن والخفة.
ومما سقط فيه عبد الكريم من جهة المقابلة وإن كان تمثيلاً وتشبيهاً قوله يمدح نزار بن معد صاحب مصر:
إلى ملكٍ بين الملوك وبينه ... مسافة ما بين الكواكب والترب
لأنه لما أتى بالملوك أولاً وبضمير الممدوح وهو الهاء التي في بينه بعد ذلك، ثم أتى بالكواكب وهي جماعة تقابل الملوك وبالترب وهو واحد يقابل الضمير باتحاده؛ أوجب له بهذا الترتيب أن يكون هو الترب، وتكون الملوك هم الكواكب، ولم يرد إلا أن يجعله موضع الكواكب، ويجعلهم موضع الترب، ولكن حكم عليه ما حكم على ابن المعتز الذي إليه انتهى التشبيه وسر صناعة الشعر.. ويدلك على صحة ما طلبته به قول امرئ القيس بن حجر:
كأن القلوب الطير رطباً ويابساً ... لدي وكرها العناب والحشف البالي
قابل الرطب أولا بالعناب مقدماً، وقابل اليابس ثانياً بالحشف تاليا. وكذلك قول الطرماح:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
فقابل يبدو بيسل، وقابل تضمره البلاد بيغمد، على ترتيب، وكذلك كان يجب لهؤلاء أن يصنعوا، وإلا كانوا مخطئين أو مقصرين.
ومن المقابلة ما ليس مخالفاً ولا موافقاً كما شرطوا إلا في الوزن والازدواج فقط، فيسمى حينئذ موازنة نحو قول النابغة:
أخلاق مجد تجلت ما لها خطر ... في البأس والجود بين الحلم والخبر
وعلى هذا الشعر حشا النعمان بن المنذر فم النابغة دراً.
وينضاف إلى هذا النوع قول أبي الطيب:
نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال
فوازن قوله في حياتك بقوله في منامك وليس بضده ولا موافقه، وكذلك صنع في الموازنة بين حبيب وخيال، وإن اختلف حرف اللين فيهما، فإن تقطيعه في العروض واحد.
فأما قول أبي تمام:
فكنت لناشيهم أباً، ولكهلهم ... أخاً، ولذي التقويس والكبرة ابنما
فإنه من أحكم المقابلة وأعدل القسمة.
وقد بنيت في أول هذا الباب أن المقابلة بين التقسيم والطباق؛ فكلما توفر حظها منهما كانت أفضل.
ومن أملح ما رويناه في الموازنة وتعديل الأقسام مما يجب أن نختم به هذا الباب قول ذي الرمة:
أستحدث الركب عن أشياعهم خبراً ... أم راجع القلب من أطرابه طرب؟؟
لأن قوله أستحدث الركب موازن لقوله أم راجع القلب وقوله عن أشياعهم خبراً موازن لقوله من أطرابه طرب وكذلك الركب موازن للقلب وعن موازن لمن، وأشياعهم موازن أطرابه وخبراً موازن لطرب.
وقال السيد أبو الحسن في هذا النوع:
لكفاك أندى من غيوم سواجم ... وعزمك أمضى من حسام مهند
فكل لفظة من القسيم الأول موازنة لأختها من القسيم الآخر موازنة عدلٍ وتحقيق.

باب التقسيم
اختلف الناس في التقسيم: فبعضهم يرى أنه استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به، كقول بشار يصف هزيمة:
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه ... ويدرك من نجى الفرار مثالبه
فراح فريق في الأساري، ومثله ... قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه

فالبيت الأول قسمان: إما الموت، وإما حياة تورث عاراً ومثلبة، والبيت الثاني ثلاثة أقسام: أسير، وقتيل، وهارب؛ فاستقضى جميع الأقسام، ولا يوجد في ذكر الهزيمة زيادة على ما ذكر.
ومثل ذلك قول عمرو بن الأهتم إلا أنه أكثر إيجازاً:
اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير
فجمع الوجوه كلها في مصراع واحد.
ومن التقسيم الجيد قول نصيب:
فقال فريق القوم: لا، وفريقهم: ... نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري
فلم يبق جواب سائل إلا أتى به؛ فاستوفى جميع الأقسام، وزعم قوم أنه أفضل بيت وقع فيه تقسيم.
ومن أناشيد قدامة في هذا الباب قول الشماخ يصف حمار وحش:
متى ما تقع أرساغه مطمئنةً ... على حجر يرفض أو يتدحرج
فلم يبق الشماخ قسماً ثالثاً إلا أن يقول: يغوص في الأرض، وذلك لا يلزم؛ من جهة أن الحافر عند الجرى وسرعة المشي يقذف الحجر إلى وراء، إلا أنه لو أتى به لكان حسناً من أجل قوله مطمئنة.
ومن أشرف المنثور في هذا الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وهل لك يابن آدم بن مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " فلم يبق عليه الصلاة والسلام قسماً رابعاً لو طلب يوجد.. وقال نافع بن خليفة: يا بني، اتقوا الله بطاعته، واتقوا السلطان بحقه، واتقوا الناس بالمعروف فقال رجل منهم: ما بقي شيء من أمر الدين والدنيا إلا وقد أمرتنا به.. وقال أعرابي إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه ضاعت الأمور وكان ثابت البناني يقول: الحمد لله وأستغفر الله فسئل: لم خصهما؟ فقال: لأني بين نعمة وذنب؛ فاحمد الله على النعمة، وأستغفره من الذنوب.. ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت، فقال الحسن: ما ترك البدوي منكم أحداً إلا وقد سأله.
ثم نعود إلى الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
وهبها كشيء لم يكن، أو كنازح ... به الدار، أو من غيبته المقسابر
فلم يبق مما يعبر به عن إنسان مفقود قسماً إلا أتى به في هذا البيت.
وقال آخر، وأحسبه أبا دهبل الجمحي أو طريحاً:
لو قلت للسيل دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج
لارتد، أوساخ، أو لكان له ... في سائر الأرض عنك منعرج
ولا يدع السيل طريقه إلا بأحد هذه الأشياء.
وقال أبو العتاهية:
وعلى من كلفي بكم ... قيد وجامعة وغل
فأتى على جميع ما يتخذ للمأسور أو المجنون ولم يبقى قسماً هذا وأمثاله مما قدمت هو الجيد من التقسيم؛ وأما ما كان في بيتين أو ثلاثة فغير عاجز عنه كثير من الناس.
وزعم الحاتمي أن أصح تقسيم وقع لشاعر قول الأسعر الجعفي يصف فرساً:
أما إذا استقبلته فكأنه ... بازٍ يكفكف أن يطير وقد رأى
أما إذا استدبرته فتسوقه ... ساق قموس الوقع عارية النسا
أما إذا استعرضته متمطراً ... فتقول: هذا مثل سرحان الغضا
واختاره أيضاً قدامة، وليس عندي بأفضل من قول امرئ القيس إلا بشرف الصفات:
إذا أقبلت قلت دباءة ... من الخضر مغموسة في الغدر
وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة ليس فيها أثر
وإن أعرضت قلت سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر
ولو لم يكن إلا تنسيق هذا الكلام بعضه على بعض، وانقطاع ذلك بعضه من بعض، وقد صنعت على ضعف متني وتأخر وقتي:
إذا أقبلت أقعت، وإن أدبرت كبت ... وتعرض طولاً في العناني فتستوي
وكلفت حاجاتي شبيهة طائر ... إذا انتشرت ظلت لها الأرض تنطوي
ومن التقسيم نوع هو هذا الأول إلا أن فيه زيادة تدريجاً وترتيباً فصعب لذلك على متعاطيه وقل جداً.. فأحسنه قول زهير بن أبي سلمى:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
فأتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج، وزاد ممدوحه رتبة، وتقدم به خطوة على أقرانه، ولا أرى في التقسيم عديل هذا البيت، ويليه في باله قول عنتر:

إن يلحق أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضنك أنزل
ويروى وإن يقفوا ومما ينضاف إليهما قول طريح بن إسماعيل الثقفي:
إن يسمع الخير يخفوه، وإن سمعوا ... شراً أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذبوا
وقال الحصين بن الحمام:
دفعناكم بالحلم حتى بطرتم ... وبالكف حتى كان رفع الأصابع
فلما رأينا جهلكم غير منتهي ... وما قد مضى من حلمكم غير راجع
مسنا من الآباء شيئاً، وكلنا ... إلا حسب في قومه غير واضح
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع
كأنه يقول: نحن أكرم منكم أمهات، فهذا هو التدريج في الشعر.
وبعضهم في التقسيم على خلاف ما قدمت: زعم أبو العيناء أن خير تقسيم قول ابن أبي ربيعة:
تهيم إلى نعم؛ فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول، ولا أنت مقصر
ولا قرب نعم إن دنت منك نافع، ... ولا نأيها يسلى، ولا أنت تصبر
واختار قوم آخرون قول الحارثي:
فلا كمدى يفنى، ولا لك رقة، ... ولا عنك إقصار، ولا فيك مطمع
وزعم الفرزدق أن أكمل بيت قالته العرب أو قال: أجمع بيت قول امرئ القيس:
له أيطلا ظبي، وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل
وقال الأعشي يصف فرساً:
سلس مقلده، أسي ... ل خده، مرع جنابه
وقال عمرو بن شأس:
مدمج سابغ الضلوع طويل الش ... خص عبل الشوي ممر الأعالي
وقال أبو دؤاد الإيادي:
بعيد مدى الطرف حاظي البضيغ ... ممر المطا سمهري القصب
هذا وما قبله يسمى جمع الأوصاف، وسماه بعض الحذاق من أهل الصناعة التعقيب العين قبل القاف وأما التقعيب فمكروه في الكلام.
وكان محمد بن موسى المنجم يحب التقسيم في الشعر، وكان معجباً بقول العباس بن الأحنف:
وصالكم صرم وحبكم قلي ... وعطفكم صد وسلمكم حرب
ويقول: أحسن والله فيما قسمحين جعل كل شيء ضده، والله إن هذا التقسيم لأحسن من تقسيمات إقليدس، حكى ذلك الصولي..
ومن مليح التقسيم قول داود بن سلم:
في باعه طول، وفي وجهه ... نور، وفي العرنين منه شمم
فوصف بعض أحواله وقسمها كما فعل الأولون.
ومن أنواع التقسيم التقطيع، أنشد الجرجاني للنابغة الذبياني:
ولله عيناً من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى أو أكثر نافعاً
وأعظم أحلاماً و أكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعاً
وسماه قوم منهم عبد الكريم التفصيل، وأنشد في ذلك:
بيض مفارقنا، تغلي مراجلنا ... ناس بأموالنا آثار أيدينا
وقال البحتري:
قف مشوقاً، أو مسعداً، أو حزيناً ... أو معيناً، أو عاذراً أو عذولاً
فقطع وفصل كما تراه. وقال أبو الطيب:
فيا شوق ما أبقى، ويا لي من النوى، ... ويا دمع ما أجرى، ويا قلب ما أصى
ففصل كما فعل أصحابه وجاء به على تقطيع الوزن، كل لفظتين ربع بيت..
وقال أيضاً:
للسبي ما نكح، والقتل وما ولد، ... والنهب ما جمع، والنار ما زرعوا
وإذا كان تقطيع الأجزاء مسجوعاً أو شبيهاً بالمسجوع فذلك هو الترصيع عند قدامة، وقد فضله وأطنب في وصفه إطناباً عظيماً.. وأنشد أبيات أبي المثلم يرثى صخر الغي:
لو كان للدهر مال عند متلده ... لكان للدهر صخر مال قنيان
آبي الهضيمة، ناب بالعظيمة، مت ... لاف الكريمة لا سقط ولان وان
حامي الحقيقة، نسال الوريقة، مع ... تاق الوسيقة، جلد غير ثنيان
رباء مرقبة، مناع مغلبه ... ركاب سهبلة، قطاع أقران
هباط أودية، حمال ألوية ... شهاد أندية، سرحان فتيان
يعطيك ما لا تكاد النفس تسلمه ... من التلاد وهوب غير منان
وللقدماء من هذا النوع، إلا أنهم لا يكثرون منه كراهة التكلف.. قال أبو دؤاد يصف فرساً، وقيل: بل رجل من الأنصار:
فالعين قادحة، والرجل ضارحة ... واليد سابحة، واللون غربيب

والشد منهمر، والماء منحدر، ... والقصب مضطمر، والمتن ملحوب
وقال الكميت بن زيد في ذلك:
كالناطقات الصادقا ... ت الواسقات من الذخائر
وإلى هذا ذهب أبو الطيب بقوله:
الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلائل غرائبا
وقال توبة بن الحمير، وفيه التقسيم والترصيع:
لطيفات أقدام، نبيلات أسوق ... لفيفات أفخاذ، دقاق خصورها
وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني:
كأنه قمر، أو ضيغم هصر، ... أو حية ذكر، أو عارض هطل
وقال أيضاً:
يورى بزندك، أو يسعى بجندك، أو ... يفرى بحدك، كل غير محدود
ومن كلام أبي تمام، وكان يجيد التصنيع:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي، ... وفاض به ثمدي، وأروى به زندي
وقال أيضاً وأحسن ما شاء:
تدبير معتصم، بالله منتقم، ... لله مرتقب، في الله مرتغب
وقال أيضاً في غير هذا النمط:
عن ثامر ضاف، ونبت قرارة ... واف، ونور كالمراجل خافي
المراجل: ثياب.. وقال كشاجم:
هلال في إضاءته حياء في سماحته شهاب في اتقاده
ومن جيد ما للمحدثين قول ديك الجن:
حر الإهاب وسيمه، بر الإيا ... ب كريمه، محض النصاب صميمه
فأكثر البيت ترصيع كيف ما أدرته..
وكان المذهب الأول وهو المحمود أن يؤتى ببيت من هذا أو بعض بيت، كما قال امرؤ القيس:
وأوتاده ماذية، وعماده ... ردينية، فيها أسنة قعضب
وكما قال امرؤ القيس:
كحلاء في برج، صفراء في نعج، ... كأنها فضة قد مسها ذهب
وأما ما هو شبيه بالمسجوع فقول امرئ القيس:
فتور القيام، تطوع الكلا ... م، تفتر عن ذي غروب أشر
وقوله ألص الضروس، حنى الضلوع فجاء فتور في وزن قطوع، وكذلك الضروس والضلوع، وألص وحنى.
ثم أدخل المولدون في هذا الباب أشياء عدوها تقطيعاً وتقسيماً، وذلك نحو قول أبي العميثل الأعرابي:
فاصدق وعف وجد وأنصف واحتمل ... واصفح ودار وكاف واحلم واشجع
والطف ولن وتأن وارفق واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع
وكقول ديك الجن:
أحل وأمرر، وضر وانفع ولن واخ ... شن ورش وابر وانتدب للمعالي
وقول أبي الطيب:
أقل أنل اقطع احمل على سل أعد ... زد هش بش تفضل ادن سر صل
ثم زاد في هذا وتباغض حتى صنع:
عش ابق أمم سد قد جد مر انه رهفه أسر نل ... غظ ارم صب احم اغز اسب رع زغ دل ائن بل
فهذه رقية العقرب كما قال ابن وكيع، ولا بد من شرحها.. قوله عش ابق دعاء له بالعيش والبقاء، واسم: من السمو، وسد: من السيادة: أي دم هكذا، وقد: من قود الخيل، وجد: من الجود والسماح، أو من الجود وهو المطر الغزير، مرانه: من الأمر والنهي، ره: من الورى تثبت الهاء فيه أظنه في الخط دون اللفظ، على أنه ليس موضع وقف، ولا يجب أن يكتب بلا هاء لئلا يخالف العادة وتقع كلمة على حرف واحد، والورى: داء في الجوف: أي اصنع ذلك بإعدائك وحسادك، فه: من الوفاء، واسر: من سرى الليل، يصفه بالعزم والغارات، ونل: من النيل والإدراك، أي: نل ما تحب، وروى نل أي أعط، من النول، ويقال: نلته إذا أعطيته، وغظ: من غيظ الحسود، ويروي عظ من الوعظ، وارم: من رمي العدو بالمكايد وغيرها، وصب: من صاب المطر والهم، واحم: من حميت المكان، واغز: من الغزو، واسب: من السبي وارع: من الروع، وزع: من وزعت، أي: كففت، ود: من الدية، ول: من الولاية للأمور وقد يكون من المطر الولي، واثن: من الثنى أضداده إذا ردهم، وبل: من الوابل، وهذه غاية المقت والبغاضة وإن كان ولا بد فقوله أيضاً:
دان بعيد، محب مبغض، بهج ... أغر، حلو ممر، لين شرس
ندي أبي غر واف أخو ثقة ... جعد سرى نهٍ ندب رضاً ندس
ند: من الندى، وغر: من غرى به، ونهٍ: من النهى، وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:
أفاد فجاد، وشاد فزاد ... وقاد فذاد، وعاد فأفضل

باب التسهيم
وقدامة يسميه التوشيح.. وقيل:

إن الذي سماه تسهيماً علي بن هارون المنجم، وأما ابن وكيع فسماه المطمع، وهو أنواع: منه ما يشبه المقابلة، وهو الذي اختاره الحاتمي، نحو قول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسم يا عمرو لو نبهاك ... إذاً نبها منك داء عضالا
إذاً نبها ليث عريسةٍ ... مفيتاً مفيداً نفوساً ومالا
خرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
أردت قولها مفتياً نفوساً ومفيداً مالاً فقابلت مفتياً بالنفوس ومفيداً بالمال، وكذلك قولها في البيت الأخير لما ذكرت النهار جعلته شمساً ولما ذكرت الليل جعلته هلالاً لمكان القافية، ولو كانت رائية لجعلته قمراً .
وسر الصنعة في هذا الباب أن يكون معنى البيت مقتفياً قافيته، وشاهداً بها دالاً عليها كالذي اختاره قدامة للراعي، وهو قوله:
وإن وزن الحصى فوزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزيناً
فهذا النوع الثاني هو أجود من الأول للطف موقعه.
والنوع الثالث شبيه بالتصدير، وهو دون صاحبيه، إلا أن قدامة لم يجعل بينهما فرقاً.. وأنشد للعباس بن مرداس:
هم سودوا هجناً وكل قبيلة ... يبين عن أحسابها من يسودها
وقال نصيب الأكبر مولى بني مروان:
وقد أيقنت أن ستبين ليلى ... وتحجب عنك إن نفع اليقين
وإن تأملت قوافي ما هذه سبيله لم تجد له من لطف الموقع ما لقافية الراعي وإنما أختير هذا النوع على ما ناسب المقابلة والتصدير لأن كل واحد منهما مدلول عليه من جهة اللفظ: إما بالترتيب، وإما باشتراك المجانسة، والقافية في بيت الراعي دالة على نفسها بالمعنى وحده، فصار استخراجها أعجب وأغرب، وتمكنها أشد وأوكد.
وقد حكى أن ابن أبي ربيعة جلس إلى ابن عباس رضي الله عنه، فابتدأه ينشده:
تشط غداً دار جيراننا
فقال ابن العباس:
وللدار بعد غد أبعد
فقال له عمر: هكذا صنعت، فأنت ترى كيف طبق المفصل، وأصاب شاكلة الروي، لما كان المعنى يقتضي زيادة البعد كلما طال العهد بأيام الموسم، وأجتنب " أشط " لأنه لا يتزن ولايستعمل، وعدا عن أن يقول " أبرح " وما شاكله رغبة في قرب المأخذ، وسلوكاً لطريق الفصاحة، وأتياناً بالمتعارف المعتاد المتعاهد.
ويحكى عن عدي بن الرقاع أنه أنشد في صفه الظبية وولدها:
تزجى أغن كأن ابنة روقه
فغفل الممدوح عنه، فسكت، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول؟ فقال: يقول:
قلم أصاب من الدواة مدادها
وأقبل عليه الممدوح فأنشد كما قال جرير لم يغادر حرفاً.. وقالت الخنساء:
ببيض الصفاح وسمر الرما ... ح بالبيض ضرباً وبالسمر وخزا
وقالت أيضاً في نحو ذلك:
ونلبس في الحرب نسج الحديد ... ونلبس في السلم خزاً وقزا
وقال حريث بن محفض:
فإن يك طعن بالرديني يطعنوا ... وان يك ضرب بالمهند يضربوا
وقال ابن الدمينة واسمه عبد الله بن عبيد الله أحد بني عامر الخثعمي:
وكوني عل الواشين لداء شغبة ... كما أنا بالواشي ألد شغوب
وكوني إذا مالوا عليك صليبة ... كما أنا إن مالوا علي صليب
فالبيتان جميعاً مسهمان. وقال دعبل:
وإذا عاندنا ذو نخوة ... غضب الروح عليه فعرج
فعلى أيماننا يجري الندى ... وعلى أسيافنا تجري المهج
ليس يجهل أحد بعد معرفة البيت الأول من هذين البيتين قافية الأخر منهما.
ومن جيد التسهيم قول بعضهم:
لو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كل من يعطي المنى بمسدد
فقلت لأيام مضين: ألا ارجعي ... وقلت لأيام أتين: ألا ابعدي
وكذلك قول الآخر وهو مليح:
حبيبي غداً لا شك فيه مودع ... فو الله ما أدري به كيف أصنع
فيا يوم لا أدبرت هل لك محبسٍ ... ويا غد لا أقبلت هل لك مدفع
إذ لم أشيعه تقطعت حسرة ... ووا كبدي إن كنت ممن يشيع

أردت البيت الأخير.. وما أظن هذه التسمية إلا من تسهيم البرود، وهو أن ترى ترتيب الألوان فتعلم إذا أتى أحدها ما يكون بعده. وأما تسميته توشيحاً فمن تعطف أثناء الوشاح بعضها على بعض وجمع طرفيه، ويمكن أن يكون من وشاح اللؤلؤ والخرز، وله فواصل معروفة الأماكن، فلعلهم شبهوا هذا به، ولا شك أن الموشحات من ترسيل البديع وغيره إنما هي من هذا، وبعض الناس يقول: إن التوشيج بالجيم، فإن صح ذلك فإنما يجيء من " وشجت العروق " إذا اشتبكت، فكأن الشاعر شبك بعض الكلام ببعض.. فأما تسميته المطمع فذلك لما فيه من سهولة الظاهر وقلة التكلف، فإذا حوول امتنع وبعد مرامه.

باب التفسير
وهو: أن يستوفي الشاعر شرح ما ابتدأ به مجملا، وقل ما يجيء هذا إلا في أكثر من بيت واحد، نحو قول الفرزدق واختاره قدامة:
لقد جئت قوماً لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم
لألفيت منهم معطياً ومطاعناً ... وراء شزراً بالوشيج المقوم
هذا جيد في معناه، إلا أنه غريب مريب؛ لأنه فسر الآخر أولاً والأول آخراً؛ فجاء فيه بعض التقصير والإشكال، على أن من العلماء من يرى أن رد الأقرب على الأقرب والأبعد على الأبعد أصح في الكلام.
وأكثر ما في التفسير عندي السلامة من سوء التضمين لا أنه بعينه ما لم يكن في بيت واحد أو شبيه به كالذي أنشده سيبويه:
خوى على مستويات خمس ... كركرة وثفنات ملس
لأن هذا كالبيت المصرع فهو بيتان من مشطور الرجز ومن التفسير الجيد قول حاتم الطائي، ويروي لعتيبة بن مرداس:
متى ما يجئ يوماً إلى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر
يجد فرساً مثل العنان وصارماً ... حساماً إذا ما هز لم يرض بالهبر
وأسمر خطياً كأن كعوبة ... نوى القسب قد أربى ذراعاً على العشر
فهذا هو التفسير الصحيح السالم من ضرورة التضمين؛ لأنه لم يعلق كلامه بلو كما فعل الفرزدق، ولا بما يقتضي الجواب اقتضاء كلياً؛ فلهذا حسن عندي..
ومثله قول عروة بن الورد:
وإن امرأ يرجو تراثي وإن ما ... يصير له منه غداً لقليل
ومالي مال غير درع ومغفر ... وأبيض من ماء الحديد صقيل
وأشمر خطي القناة مثقف ... وأجرد عريان السراة طويل
هكذا أنشدوه بالإقواء، ويجوز أن يرفع على القطع والإضمار، كأنه قال: هو صقيل، أو قال: ولي أبيض من ماء الحديد، يعني سيفه.
وقال ذو الرمة في التفسير:
وليل كجلباب العروس ادرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد
أحم علافي، وأبيض صارم ... وأعيس مهري، وأروع ماجد
ففسر الأربعة ما هي، ورفع على شرط ما قدمت من الإضماز، كأنه قيل له: ما الأربعة التي شخصها في العين واحد؟ فقال: كذا وكذا وكذا..
ومن التفسير ما يفسر الأكثر فيه بالأقل، وهو من باب الإيجاز والاختصار: وذلك ما أتت فيه الجملة بعد الشرح، نحو قول أبي الطبيب:
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... جالست رسطاليس والإسكندرا
ومللت بحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النضار لمن قرى
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متملكاً متبدياً متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا
نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
فقوله نسقوا لنا نسق الحساب مقدماً وأتى فذلك إذ أتيت تفسير مليح قليل النظير في أشعار الناس..
وتعلقت به في بعض مدح السيد أبي الحسن فقلت:
أتى بعد أهل العلى ... كجملة شيء شرح
وقد أتى به أبو الطيب في بيت واحد فقال:
إذا عد الكرام فتلك عجل ... كما الأنواء حين تعد عام
فهذا الذي كنا نرغب فيه لكون المفسر والمفسر به في بيت واحد.
ونظيره قوله أيضاً:
مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألف إذا ما جمعت واحد فرد
فجاء به أيضاً في بيت واحد.
وكذلك قول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال

ومن قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي:
فأرسلنا ربيئتنا فأوفى ... فقال: ألا أولى خمس رتوع
رباعية وقارحها وجحش ... وثالثة وهادية زموع
ففسر ما هي، وأنثها لغلبة التأنيث على اسم الدواب..
وقال مالك بن خريم، وقيل: حزيم:
فإن يك شاب الرأس منى فأنني ... أبيت على نفسي مناقب أربعا
فواحدة أن لا أبيت بغرة ... إذا ما سوام الحي حولي تضوعا
وثانية أن لا تفزع جارتي ... إذا كان جار القوم فيهم مفزعا
وثالثة أن لا أصمت كلبنا ... إذا نزل الأضياف حرصاً لنودعا
ورابعة أن لا أحجل قدرنا ... على لحمها حين الشتاء لنشبعاً
" أجحل " أستر، أجعلها في حجلة لتخفى عن الجار رغبة أن نشبع، ولكن أبرزها وكتب أحمد بن يوسف وفي رواية النحاس: عمرو بن مسعدة عن المأمون " أما بعد فقد أمر أمير المؤمنين من الإستكثار من المصابيح في شهر رمضان؛ فإن في ذلك أنساً للسابلة، وضياء للمجتهدين، ونفياً لمكامن الريب، وتنزيهاً لبيوت الله عز وجل عن وحشة الظلم " .
ومن جيد التفسير في بيت واحد قول أبي الطيب:
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... ويرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
فإنه قد أحكمه أشد إحكام، وجاء به أحسن مجيء، حتى أربى على البحتري إذ يقول:
بأروع من طيٍ كأن قميصه ... يزر على الشيخين زيد وحاتم
سماحاً وبأساً كالصواعق والحيا ... إذا اجتمعا في العارض المتراكم
وقد رد الكلام جميعاً آخره على أوله..
وأصل هذا المعجز قول الله تعالى: " وهو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً " .
وقال أبو الطيب أيضاً في التفسير المستحسن:
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
ففسر وقابل كل نوع بما يليق به، من غير تقديم ولا تأخير، كالذي وقع أولاً في بيتي الفرزدق..
ومن التفسير قول كشاجم واسمه محمود بن الحسين:
في فمها مسك، ومشمولة ... صرف، ومنظوم من الدر
فالمسك للنكهة والخمر للري ... قة واللؤلؤ للثغر
وهذا من مليح ما وقع للمحدثين.
وقال لقمان لابنه: إياك والكسل والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقاً، وإذا ضجرت لم تصبر على حق.

باب الاستطراد
وهو: أن يرى الشاعر أنه في وصف شيء وهو إنما يريد غيره، فإن قطع أو رجع إلى ما كان فيه فذلك استطراد، وإن تمادى فذلك خروج، وأكثر الناس يسمي الجميع استطراداً، والصواب ما بينته..
وأوضح الاستطراد قول السموأل وهو أول من نطق به حيث يقول:
ونحن أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
واتبعه الناس، فقال الفرزدق وأجاد:
كأن فقاح الأسد حول ابن مسمع ... إذا اجتمعوا أفواه بكر بن وائل
ثن أتى جرير فأربى وزاد بقوله:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
فهجا واحداً واستطرد باثنين..
وقال مخارق بن شهاب المازني يصف معزى:
ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع يتحوب
فوفد ابن قيس هذا على النعمان بن المنذر فقال: كيف المخارق بن شهاب فيكم؟ فقال: سيد شريف حسبك من رجل يمدح تيسه ويهجو ابن عمه.
ومن جيد الاستطراد قول دعبل بن علي الخزاعي، ويروي لبشار بن برد وهو أصح:
خليلي من كلب أعينا أخاكما ... على دهره، إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة؛ إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته في الفرط أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
ويروى في حاجة سد بابه وأنشد البحتري أبو تمام لنفسه في صفة فرس واستطرد يهجو عثمان بن إدريس الشامي:
وسابح هطل التعداء هتان ... على الجراء أمين غير خوان
أظمى الفصوص وما تظمى قوائمه ... فخل عينيك في ظمآن ريان
فلو تراه مشيحاً والحصى زيم ... تحت السنابك من مثنى ووحدان

أيقنت إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان
فقال له: أتدري ما هذا من الشعر؟ قال: لا أدري، قال: هذا الاستطراد، أو قال: المستطرد.
قال الحاتمي: وقد يقع من هذا الاستطراد ما يخرج به من ذم إلى مدح، كقول زهير:
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم
فسمى الخروج استطراداً كما تراه اتساعاً، وأنشد في الخروج بالاستطراد من مدح إلى ذم قول بكر بن النطاح يمدح مالك بن طوق:
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت: قم فجئني بكوكب
فقلت لها: هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب
سلي كل أمر يستقيم طلابه ... ولا تسألي يا در في كل مذهب
فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيى بما رمت مطلبي
فتى شقيت أمواله بعفاته ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب
فهذا مليح: أوله خروجه، وآخره استطراد، وملاحته أن مالكاً من بني تغلب فصار الاستطراد زيادة في مدحه، وزعم قوم أنه يمدح مالك بن علي الخزاعي، ومما استطرد أبو الطيب في هجاء كافور:
يموت به غيظاً على الدهر أهله ... كما مات غيظاً فاتك وشبيب
على أن هذا البيت قد يقع موقع غيره من أبيات هذا الباب؛ إذ ليس القصد فيه مدحاً ولا هجاء للرجلين المذكورين، ولكن التشبيه والحكاية لا غير.
وقيل: أصل الاستطراد أن يريك الفارس أنه فر ليكر، وكذلك الشاعر يريد أنه في شيء لم يقصد إليه فذكره ولم يقصد قصده حقيقة إلا إليه.
ومن الاستطراد نوع يسمى الاندماج، وذلك نحو قول عبيد الله بن طاهر لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر المعتضد:
أبي الدهر من إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا؛ إن المهم المقدم
وحكى أحمد بن يوسف الكاتب أنه دخل على المأمون وفي يده كتاب من عمرو بن مسعدة يردد فيه النظر، فقال: لعلك فكرت في ترديدي النظر في هذا الكتاب، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: إني عجبت من بلاغته واحتياله لمراده " كتبت كتابي إلى أمير المؤمنين أعزه الله ومن قبلي من قواده وأجناده في الطاعة والانقياد على أحسن ما يكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم " ألا ترى يا أحمد إدماجه المسألة في الإخبار، وإعفاءه سلطانه من الإكثار؟ ثم أمر لهم برزق ثمانية أشهر، وهذا النوع أقل في الكلام من الاستطراد المتطرف وأغرب.

باب التفريع
وهو من الاستطراد كالتدريج من التقسيم، وذلك أن يقصد الشاعر وصفاً ما ثم يفرع منه وصفاً آخر يزيد الموصوف توكيداً، نحو قول الكميت:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفى بها الكلب
فوصف شيئاً ثم فرع شيئاً آخر لتشبيه شفاء هذا بشفاء هذا. وقال ابن المعتز:
كلامه أخدع من لحظه ... ووعده أكذب من طيفه
فبينا هو يصف خدع كلامه فرع منه خدع لحظه، ويصف كذب وعده فرع كذب طيفه وقال أيضاً يصف ساقي كأس:
فكأن حمرة لونها من خده ... وكأن طيب نسيمها من نشره
حتى إذا صب المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبته من ثغره
ما زال ينجزني مواعد عينه ... فمه، وأحسب ريقه من خمره
البيتان الأولان من هذه الثلاثة تفريع، والبيت الآخر ليس بتفريع جيد؛ لأن الخمرة نازلة عن رتبة الريق عند العاشق، وحق التفريع أن يكون الآخر من الموصوفين زائداً على الأول درجة: في الحسن إن قصد المدح، وفي القبح إن قصد الذم، وهو نوع خفي إلا على الحاذق البصير بالصنعة.
ومثل بيت ابن المعتز قول البحتري:
وإذا تألق في الندي كلامه ال ... مصقول خلت لسانه من عضبه
لأن حق العضب في باب المدح أن اللسان أمضى منه..
ومن التفريع الجيد قول الصنوبري:
ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئاً، ولا ألفاته من قده
وكأنما أنفاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من جلده
فانظر إليه كيف يزيده رتبة في الجودة كلما فرع.

ووصف ابن شيرزاد جارية كاتبة: فقال كأن خطها أشكال صورتها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها غنج لحظها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قامتها بعض أناملها، وكأن مقطها قلب عاشقها.
وشتان ما بين هذا الوصف وقول الآخر يهجو كاتباً أنشده الصولي في أبيات:
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فنشرها أبداً كريه
وقال كشاجم:
شيخ لنا من مشايخ الكوفه ... نسبته للعليل موصوفه
لو بدل الله قمله غنما ... ما طمع الناس منه في صوفه
ومن لطيف التفريع قول أبي الطيب يصف ليلا:
أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد بها على الدهر الذنوبا
بينا هو يصف كثرة سهره وإدارة لحظه شبهها بكثرة ذنوب الدهر عنده.. وقال فبرد:
ولو نقصت كما قد زدت من شرف ... على الورى لرأوني مثل شانيكا
هذا التفريع الملعون.. وقال محمد بن وهب:
طللان طال عليهما الأمد ... دثراً فلا علم ولا نضد
لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة بعض ما أجد
ومن المستحسن قول الخوارزمي أبي بكر محمد بن العباس:
سمح البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنما ألفاظه من ماله
وكأنما عرماته وسيوفه ... من حدهن خلقن من إقباله
متبسم في الخطب تحسب أنه ... تحت العجاج ملثم بفعاله
وأخبث ما سمعته في هذا الباب قول ابن الرومي يهجو رجلاً:
له سائس ماهر ... يجول على متنه
ويطعن في دبره ... أفانين من طعنه
بأطول من قرنه ... وأغلظ من ذهنه
ومن التفريع أيضاً قول أبي الطيب على غير هذا النظام:
أسير إلى أقطاعه في ثيابه ... على طرفه من داره بحسامه
وما مطرتنيه من البيض والقنا ... وروم العبدي هاطلات غمامه
فهذا تفريع تناوله من قول أبي تمام:
فقالوا: فما أولاك؟ صف بعض نيله ... فقلت لهم: من عنده كل ما عندي
وأصله من قول أبي نواس: فكل خير عندهم من عنده يصف كلب صيد.

باب الالتفات
وهو الاعتراض عند قوم، وسماه آخرون الاستدراك، حكاه قدامه، وسبيله أن يكون الشاعر آخذاً في معنى ثم يعرض له غيره فيعدل عن الأول إلى الثاني فيأتي به، ثم يعود إلى الأول من غير أن يخل في شيء مما يشد الأول، كقول كثير:
لو ان الباخلين، وأنت منهم، ... رأوك تعلموا منك المطالا
فقوله وأنت منهم اعتراض كلام في كلام، قال ذلك ابن المعتز، وجعله باباً على حدته بعد باب الالتفات، وسائر الناس يجمع بينهما.
قال النابغة الذبياني:
ألا زعمت بنو عبس بأني ... ألا كذبوا كبير السن فاني
فقوله ألا كذبوا اعتراض، ورواه آخرون للجعدي ألا زعمت بنو كعب وهو أشبه بالجعدي؛ لأنه أعلى سنا منه؛ فقوله ألا كذبوا اعتراض، وكذلك ما يجري مجراه.
وأنشدوا في الالتفات لبعض العرب:
فظلوا بيوم دع أخاك بمثله ... على مشرع يروي ولما يصرد
فقولك دع أخاك بمثله التفات مليح.
وقال جرير يرثي امرأته أم حزرة:
نعم القرين وكنت علق مضنة ... وارى بنعف بلية الأحجار
فقوله وكنت علق مضنة هو الالتفات.
وقال عوف بن محلم لعبد الله بن طاهر:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله بلغتها التفات، وقد عده جماعة من الناس تتميماً، والالتفات أشكل وأولى بمعناه، ومنزلة الالتفات في وسط البيت كمنزلة الاستطراد في آخر البيت، وإن كان ضده في التحصيل؛ لأن الالتفات تأتي به عفواً وانتهازاً، ولم يكن لك في خلد فتقطع له كلامك، ثم تصله بعد إن شئت، والاستطراد تقصده في نفسك، وأنت تحيد عنه في لفظك حتى تصل به كلامك عند انقطاع آخره، أو تلقيه إلقاء وتعود إلى ما كنت فيه.
وقد جاء الالتفات في آخر البيت نحو قول امرئ القيس:
أبعد الحارث الملك بن عمرو ... له ملك العراق إلى عمان
مجاورةً بني شمجي بن جرم ... هواناً ما أتيح من الهوان
ويمنحها بنو شمجي بن جرمٍ ... معيزهم، حنانك ذا الحنان

فقوله ما أتيح من الهوان وقوله حنانك ذا الحنان الالتفات وحكى عن إسحاق الموصلي أنه قال: قال الأصمعي: أتعرف التفات جرير؟ قلت: وما هو؟ فأنشدني:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة، سقي البشام!
ثم قال: أما تراه مقبلاً على شعره، إذ التفت إلى البشام فدعا له، وأنشد له عبد الله المعتز:
متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام.
وأنشد له أيضاً ابن المعتز:
طرب الحمام بذي الأراك فهاجني ... لا زلت في غللٍ وأيك ناضر
لم يعد ابن المعتز إلا ما كان من هذا النوع، وإلا فهو اعتراض كلام في كلام وقد أحسن ابن المعتز في العبارة عن الالتفات بقوله " هو انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة ومن المخاطبة إلى الإخبار " وتلا قوله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة " .
وأنشد غيره لأبي عطاء السندي يرثي يزيد بن عمر بن هبيرة:
وإنك لا تبعد على متعهدٍ ... بلى كل ما تحت التراب بعيد
وهذا هو الاستدراك، ومثله قول زهير:
حي الديار التي لم يبلها القدم ... بلى، وغيرها الأرواح والديم
وكذلك قول جرير:
غداً باجتماع الحي نقضي لبانة ... فأقسم لا تقضى لبانتنا غداً
وأنشد ابن المعتز في هذا النوع، وهو لبشار:
نبئت فاضح قومه يغتابني ... عند الأمير، وهل علي أمير؟
ومن مليح ما سمعته قول نصيب:
وددت ولم أخلق من الطير أنني ... أعار جناحي طائر فأطير
فقوله ولم أخلق من الطير عجب، ولما سمعت التي قيل فيها هذا البيت تنفست تنفساً شديداً، فصاح ابن أبي عتيق: أوه قد والله أجبته بأحسن من شعره، والله لو سمعك لنعق وطار، فجعله غراباً لسواده.
وأنشد الصولي للعباس بن الأحنف:
وقد كنت أبكي وأنت راضية ... حذار هذا الصدود والغضب
إن تم ذا الهجر يا ظلوم، فلا ... تم، فما في العيش من أرب
وقال: سمعت ثعلباً يقول: ما رأيت أحداً إلا وهو يستحسن هذا الشعر.
ومن المليح أيضاً قول القحيف بن سليمان العقيلي:
أمنكم يا حنيف نعم لعمري ... لحى مخضوبة ودم سجال
يخاطب ابنه.. وقال عدي بن زيد العبادي وهو في حبس النعمان يخاطب ابنه زيداً ويحرضه:
فلو كنت الأسير، ولا تكنه، ... إذاً علمت معد ما أقول

باب الاستثناء
وابن المعتز يسميه توكيد المدح بما يشبه الذم، وذلك نحو قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
فجعل فلول السيف عيباً، وهو أوكد في المدح..
وقال النابغة الجعدي:
فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا
فاستثنى جوده الذي يستأصل ماله، بعد أن وصفه بالكمال. وبهذا الاستثناء ثم وزاد كمالاً وتأكد حسنه..
فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فكأنه لما كان فيه ما يسوء أعاديه لم يطلق عليه أنسه يسر فقط، وذلك زيادة في مدحه، وليس هذا الاستثناء على ما رابه النحويون فتطلبه بحروف الاستثناء المعروفة، وإنما سمي اصطلاحاً وتقريباً، سماه هؤلاء المحدثون نحو الحاتمي وأصحابه ولم يسم حقيقة..
ومن مليح هذا النوع قول أبي هفان وقد تقدم به وجود غاية التجويد:
ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضر بنا، والبأس من كل جانب
فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب
فقوله إن السماح ولبأس أضر بهم ليس بعيب على الحقيقة، ولكن توكيد مدح، والمليح كل المليح قوله " وغير عائب " فهذا الثاني أعجب من الأول وألطف موقعاً.. وقال آخر:
ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام، وأنا لا نخط على النمل
فقصر من جهة قوله غير عرق لمعشر كرام لأن سبيل هذا الباب أن يؤثر فيه بما يظن أنه عيب أو تقصير، وإن كان على التحصيل فخراً وفضلاً، كالفلول في سيوف النابغة الذبياني، وإتلاف المال في شعر الجعدي، وترك الخط على النمل في شعر لآخر وأنهم لا يشفون صاحبها، وهي داء واحدتها النملة، وأما ذكر الكلام فلا وجه له ههنا.

ومن هذا الباب قول ابن الرومي:
ليس له عيب سوى أنه ... لا تقع العين على شبهه
فجعل انفراده في الدنيا بالحسن دون أن يكون له قرين يؤنسه عيباً؛ فهو يزيد توكيد حسنه.
وقال حاتم الطائي:
وما تتشكى جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع أهلها ... إليها ولم تقصر علي ستورها
لما كان في ترك الزيارة إشكال بين مراده.
ومن أصحاب التآليف من يعد في هذا الباب ما ناسب قول الشاعر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
وقال الربيع بن ضبيع الفزاري:
فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي ... وكل امرئ إلا أحاديثه فاني
وليس من هذا الباب عندي، وإنما هو من باب الاحتراس والاحتياط؛ فلو أدخلنا في هذا الباب كل ما وقع فيه استثناء لطال، ولخرجنا فيه عن قصده وغرضه ولكل نوع موضع.

باب التتميم
وهو التمتم أيضاً، وبعضهم يسمي ضرباً منه احتراساً واحتياطاً.
ومعنى التتميم: أن يحاول الشاعر معنى، فلا يدع شيئاً يتم به حسنه إلا أورده وأتى به: إما مبالغة، وإما احتياطاً واحتراساً من التقصير، وينشدون بيت طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
لأن قوله غير مفسدها تتميم للمعنة، واحتراس للديار من الفساد بكثرة المطر. ومثله قول جرير:
فسقاك حيث حللت غير فقيدة ... هزج الرواح وديمة لا تقلع
فقوله غير فقيدة تتميم لما أراد من دنوها وسقياها غير راحلة ولا ميتة إذ كانت العادة أن يدعى للغائب الميت بالسقي؛ فاحترس من ذلك.
وقد عاب قدامة على ذي الرمة قوله:
ألا يا سلمي يا دار مي على البلا ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
فإنه لم يحترس كما احترس طرفة، فرد ذلك عليه بأن الشاعر قدم الدعاء بالسلامة للدار في أول البيت، وهذا هو الصواب.. وقال زهير:
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندى خلقا
قوله على علاته مبالغة وتتميم عجيب.
والأصل في هذا قول الله عز وجل: " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " فقوله " على حبه " هو التتميم والمبالغة في قول من قال إن الهاء ضمير الطعام، وإن كان كناية عن الله تعالى خرج المعنى عن هذا الباب، وقال الله جل اسمه: " من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة " فتمم بقوله وهو مؤمن " ومن أناشيد قدامة والحاتمي وغيرهما قول نافع بن خليفة الغنوي:
رجال إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه عادوا بالسيوف القواضب
قال الحاتمي: فإن المعنى تم بقوله " ويعطوه " وإلا كان ناقصاً.
ويجري مجراه عندي قول عنترة العبسي:
أثني علي كما علمت فإنني ... سهل مخالفتي إذا لم أظلم
فقوله إذا لم أظلم تتميم حسن.
وقال آخر:
فلا تبعدن إلا من السوء؛ إنني ... إليك وإن شطت بك الدار نازع
فاستثناؤه " السوء " تتميم واحتراس جيد.
وقال أبو الطيب بن الوشاء:
لئن كان باقي عيشنا مثل ما مضى ... فللموت إن لم ندخل النار أروح
وقال سراقة البارقي يهجو رهط جرير:
صغار مقاريهم عظام جعورهم ... بطاء عن الداعي، إذا لم يكن أكلا
كأنه قال إذا لم يكن المدعو إليه أكلا.
وقال مريع بن وعوعة الكلابي وقد قتل رجلاً نهشلياً:
وقلت لأصحابي: النجاء؛ فإنما ... مع الصبح إن لم تسبقوا جمع نهشل
ويجري على هذه الأناشيد قول ابن محكان السعدي حين قدم للقتل:
ولست وإن كانت إلي حبيبة ... بباكٍ على الدنيا إذا ما تولت
فاستثنى وإن كانت إلي حبيبة استثناء مليحاً، ونوى التقديم والتأخير؛ فلذلك جاز له أن يأتي بالضمير مقدماً على مظهره، هكذا قال فيه أبو العباس المبرد، ومن التتميم الحسن قول امرئ القيس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفا نين جري غير كز ولا واني
فقوله قبل سؤاله تتميم حسن لقوله " أفانين حرى " وقول أعشى باهلة: وكل أمر سوى الفحشاء فإنه لا يدبرها.
باب المبالغة

وهي ضروب كثيرة. والناس فيها مختلفون: منهم من يؤثرها، ويقول بتفضيلها، ويراها الغاية القصوى في الجودة، وذلك مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان، وهو القائل: أشعر الناس من استجيد كذبه، وضحك من رديئه، هكذا أعرفه، ورأيت بخط جماعة منهم عبد الكريم والباغي من استجيد جيده ومطابقه وضحك من رديئه. وروى قوم من حديث النابغة ومطالبته حسان ابن ثابت بالمبالغة ونسبته إياه إلى التقصير في قوله:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ما هو مشهور عندهم مشهور في كتبهم، ومنهم من يعيبها وينكرها، ويراها عيباً وهجنة في الكلام، قال بعض الحذاق بنقد الشعر: المبالغة ربما أحالت المعنى، ولبسته على السامع؛ فليست لذلك من أحسن الكلام ولا أفخره، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه؛ لأنه ينبغي أن يكون من أهم أغراض الشاعر والمتكلم أيضاً الإبانة والإفصاح، وتقريب المعنى على السامع؛ فإن العرب إنما فضلت بالبيان والفصاحة، وحلا منطقها في الصدور وقبلته النفوس لأساليب حسنة، وإشارات لطيفة، تكسبه بياناً وتصوره في القلوب تصويراً، ولو كان الشعر هو المبالغة لكانت الحاضرة والمحدثون أشعر من القدماء، وقد رأيناهم احتالوا للكلام حتى قربوه من فهم السامع بالاستعارات والمجازات التي استعملوها، وبالتشكك في الشبهين، كما قال ذو الرمة:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا أنت أم أم سالم
فلو أنه قال أنت أم سالم على نفي الشك بل لو قال " أنت أحسن من الظبية " لما حل من القلوب محل التشكك. وكما قال جرير:
فإنك لو رأيت عبيد نسيمٍ ... وتيماً قلت: أيهم العبيد
فلو قال " عبيدهم " أو " خير منهم " لما ظن به الصدق، فاحتال في تقريب المشابهة؛ لأن في قربها لطافة تقع في القلوب وتدعو إلى التصديق.
وكذلك قول أبي النجم يصف عرق الخيل:
كأنه من عرقٍ يسربله ... ككرسف النداف لولا بلله
فإنه لو قال " إنه الكرسف " لم يكن في حسن هذا؛ لأنه يشهد بتقارب الشبهين إلى أن وقع في الشك.. والمبالغة في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر إذا أعياه إيراد معنى حسن بالغ فيشغل الأسماع بما هو محال، ويهول مع ذلك على السامعين، وإنما يقصدها من ليس بمتمكن من محاسن الكلام أن تمكنه، ولا يتعذر عليه، وتنجذب كلما أرادها إليه، انقضى كلامه.
وفيه كفاية وبلاغ، إلا أنه فيما يظهر من فحواه لم يرد إلا ما كان فيه بعد، وليس كل مبالغة كذلك، ألا ترى أن التتميم إذا طلبت حقيقته كان ضرباً من المبالغة وإن ظهر أنه من أنواع الحشو المستحسن، وقد مر ذكره. وكذلك ما ناسب قول ابن المعتز يصف خيلاً:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... وطارت بها أيدٍ سراع وأرجل
وهذا عند جميع الناس من باب الحشو، وهو عندي مبالغة، وكذلك الإيغال، وسيرد في بابه إن شاء الله.
فمن أحسن المبالغة وأغربها عند الحذاق: التقصي، وهو بلوغ الشاعر أقصى ما يمكن من وصف الشيء، كقول عمرو بن الأيهم التغلبي:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث كانا
فتقصى بما يمكن أن يقدر عليه فتعاطاه ووصف به قومه.
ومن أغربها أيضاً ترادف الصفات، وفي ذلك تهويل مع صحة لفظ لا تحيل معنى، كقول الله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجىً يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعضٍ " .
فأما الغلو فهو الذي ينكره من ينكر المبالغة من سائر أنواعها، ويقع فيه الاختلاف لا ما سواه مما بينت، ولو بطلت المبالغة كلها وعيبت لبطل التشبيه وعيبت الاستعارة، إلى كثير من محاسن الكلام: فمن أبيات المبالغة قول امرئ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحر
فوصف فاها بهذه الصفة سحراً عند تغيير الأفواه بعد النوم، فكيف تظنها في أول الليل؟! ومثل ذلك قوله يصف ناراً وإن كان فيه إغراق:
نظرت إليها، والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان، تشب لقفال
يقول: نظرت إلى نار هذه المرأة تشب لقفال والنجوم كأنها مصابيح رهبان، وقد قال:
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال

وبين المكانين بعد أيام، وإنما يرجع القفال إلى الغزو والغارات وجه الصباح؛ فإذا رأوها من مسافة أيام وجه الصباح وقد خمد سناها وكل موقدها فكيف كانت أول الليل؟!! وشبه النجوم بمصابيح الرهبان؛ لأنها في السحر يضعف نورها كما يضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع، لا سيما مصابيح الرهبان؛ لأنهم يكلون من سهر الليل فربما نعسوا ذلك الوقت، وهذا مما أورده شيخنا أبو عبد الله.
وقال أمرؤ القيس يصف فرساً:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
أراد طوله؛ لأن العروس تجر ذيلها إما من الحياء وإما من الخيلاء.
وزعم الجاحظ أن قول غيلان ذي الرمة:
وليل كجلباب العروس ادرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد
أراد به سبوغه لا لونه، وأكثر الناس على خلاف قوله، وأنا أرى أن هذا كقول عوف بن عطية بن الخرع التيمي من تيم الرباب يصف خيلاً:
وجللن دمخاً قناع العرو ... س تدني على حاجبيها الخمار
دمخ جبل بعينه، فأراد أن الخيل كسونه قناعاً من الغبار هذه صفته.
ومن معجز المبالغة قول الله عز وجل: " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " فجعل من يسر القول كمن يجهر به، والمستخفي بالليل كالسارب بالنهار، وكل واحد منهما أشد مبالغة في معناه وأتم صفة.

باب الإيغال
وهو ضرب من المبالغة كما قدمت، إلا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها، والحاتمي وأصحابه يسمونه التبليغ، وهو تفعيل من بلوغ الغاية، وذلك يشهد بصحة ما قلته، ويدل على ما رتبته.
وحكى الحاتمي عن عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني التوزي قال: قلت للأصمعي: من أشعر الناس؟ قال: الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيراً، أو يأتي إلى المعنى الكبير فيجعله خسيساً، أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى، قال: قلت: نحو من؟ قال: نحو الأعشى إذ يقول:
كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فقد تم المثل بقوله: وأوهى قرنه، فلما احتاج إلى القافية قال " الوعل " قال: قلت: وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحط من قنة الجبل على قرنه فلا يضيره، قال: قلت: ثم نحو من؟ قال: نحو ذي الرمة بقوله:
قف العيس في أطلال مية واسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل
فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال " المسلسل " فزاد شيئاً، وقوله:
أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبديد الجمان المفصل
فتمم كلامه، ثم احتاج إلى القافية فقال " المفلل " فزاد شيئاً أيضاً.
وليس بين الناس اختلاف أن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى بقوله يصف الفرس:
إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب
فبالغ في صفته، وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شأوين ويبتل عطفه بالعرق، ثم زاد إيغالاً في صفته بذكر الأثأب، وهو شجر للريح في أضعاف أغصانه حفيف عظيم وشدة صوت، ومثل ذلك قوله:
كأن عيون الطير حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فقوله " لم يثقب " إيغال في التشبيه، وأتبعه زهير فقال:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
فأوغل في التشبيه إيغالاً بتشبيهه ما يتناثر من فتات الأرجوان بحب الفنا الذي لم يحطم؛ لأنه أحمر الظاهر أبيض الباطن، فإذا لم يحطم لم يظهر فيه بياض البتة، وكان خالص الحمرة، وتبعهما الأعشى فقال يصف امرأة:
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
فأوغل بقوله " الوحل " بعد أن قال " الوجى " وكذلك قوله " الوعل " وكان الرشيد كثير العجب بقول صريع الغواني:
إذا ما علت منا ذؤابة شارب ... تمشت به مشى المقيد في الوحل
ويقول: قاتله الله! ما كفاه أن جعله مقيداً حتى جعله في وحل، وأنا اقول: إنه بيت الأعشى بعينه.
ومن الإيغال قول الطرماح العقيلي يصف فرساً بسعة المنخر:
لا يكتم الربو إلا ريث يخرجه ... من منخر كوجار الثعلب الخرب
فكونه كوجار الثعلب غاية في المبالغة، فكيف إذا كان خرابا؟.

أقسام الكتاب
1 2 3 4